المهمات في شرح الروضة والرافعي

الإِسْنَوي

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء الأوَّل مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (1)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

تَقْدِيم الْأُسْتَاذ الدكتور الْعَلامَة الْفَقِيه الأصولي الشَّيْخ/ أَحْمد بن مَنْصُور آل سبالك حفظه الله عُضْو جبهة عُلَمَاء الْأَزْهَر مدير مَرْكَز الْبَحْث العلمي لإحياء الدراسات الإسلامية عميد معهد عُلُوم الْقُرْآن والْحَدِيث للدراسات الإسلامية والعربية

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أمَّا بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. مِمَّا لا يخفي على أحد أن التحقيق من صنعة الكبار الذين يضعون النصوص بين طلاب العلم وأهله في أجود صولة، وأبهى حُلة، لكن مِنْ صغَار طُلَّاب العلم مَنْ لا يُفرق بين التحقيق، وبين الدراسة والتعليق، ممَّا أدَّى بهم إلى الحكم على كثير من الأعمال لاسيما والجيدة منها بأنها لا تَصلح أن تكون تَحقيقًا.

صحيح أن كثيرا من المطبوع يَحتاج إلى طبع من جديد، لكن لا يَمنع ذلك أن في المطبوع أعمالا جيدة كثيرة؛ ولهذا أردت أن أبين لأبنائنا الطلبة ماهية التحقيق، وكيف يكون، وما هي غايته، ونتائجه، وذلك حين حاضرنا في هذا المضمار مُحاضرة في الحرم النبوي الشريف تَحت عنوان: "التحقيق مبادئه وغايته" منذ أكثر من سنتين، ثم جاءت الفرصة لنشر هذه المحاضرة بهذه الصورة، حين أُتيحت لنا فرصة التقدمة لأحد الكتب التي حُققت حديثًا. فلابد أن تعرف أيها القارئ الكريم أن التحقيق هو السبيل لإبراز التراث القديم في أحسن حلة له، ولولاه ما استطاعَ الكم الهائل من طلبة العلم قراءة ما كتبه أسلافهم الكرام، وما استطاع هؤلاء الطلبة أن يستمروا في هذه النهضة العلمية التي نراها الآن. فأولًا تجب الإجابة على هذا السؤال: هل التحقيق في مستوى التأليف؟ وهل يُنظر إليه من الناحية العلمية بِمنظار التقدير والأهمية؟ الحق أن التحقيق جهد علمي مشكور، إذا قصد صاحبه خدمة العلم والإخلاص له، وقد يتطلب التحقيق وقتًا أطول من التأليف، كما أن خدمة الكتاب القديم، وإلباسه اللبوس العلمي الجديد أمر لا يقل بِحال عن التأليف، بل إن عمل التحقيق جهد قومي؛ إذ ينير ثقافة الأمة في الأعصر الغابرة، ويثير المعرفة التي اشتهر بها العلماء المسلمون، وما زالت أنظار العلماء تتلفت نَحو الْمُحققين، وتوليهم الاحترام والتقدير الزائدين، ولاسيما من أخلص في عمله منهم، وأصاب في نتاجه. وفي الحق أن ما وصل إلينا كان تراثًا ضخمًا -وما ضاعَ أو اندثرَ كان أضخم- وخاصة حين تتهيأ الظروف المناسبة لطبع المخطوطات كلها، أو الثمين منها على الأقل، وتتجه الأنظار اليوم إلى إحياء تراثنا العلمي -بعد نشر كثير من التراث الأدبي والتاريخي- في تاريخ الطب والهندسة والبيطرة

والزراعة، فهذا تأكيدٌ على مكانة العرب العلمية في مرحلة سيطروا فيها ثقافيا على عملية الإبداع في العلوم. ولم يكتف العرب بالحفَاظ على تراثهم، بل كان لهم الفضل الكبير في الحفاظ على تراث الأمم الأخرى، الذي نقله المسلمون إلى حضارتهم، وضاعت أصوله لدى تلك الأمم، كتراث الفرس والهنود والإغريق والرومان. على أننا نلقى بين الفينة والفينة خصومًا لِهذا التراث العريق، يستخفون به ويعرقلونَ عملية إحيائه ونشره، ويقفونَ حجر عثرة في طريق طلاب الدراسات العليا الراغبين بتقديم دورهم في هذا المضمار، مدعين أن تذكرة العالم بماضينا العريق نوعٌ من التراجع غير المجدي، وأمر لا يدعو إلى الفخار، بقدر ما يحز في النفس ويدعو إلى الأسى، وإلى ضياع الحاضر والمستقبل في التغني بورقات مهترئة نُسيت عبر الزمان. وما دروا أنهم في عدائهم هذا يفصمون عري الحضارة بين الماضي والحاضر، ويضيعون جذورنا، ويريدون أن يغمضوا عين الشمس التي أشرقت يومًا على الغرب، ويفقدونَ الرابط الفكري الذي تَحلى به المسلمون، واعترف به الغربيون، وأفادوا منه كثيرًا، ولو لم تكن قيمة هذا التراث جليلة لما احتفظت به أرقى مكتبات العالم، ولما تسابقت إلى تملكه أعلى المؤسسات العلمية ثقافة. ونقف اليوم أمام من يشتغلونَ بالمخطوطات وقفة إجلال وتقدير؛ لأنهم وهبوا أحلى ساعات حياتهم بالعيش في رداه الكتبات وبين أروقتها، ينبشون كنوز المسلمين، ويقدمونها للأجيال تنهل منها ما طابَ لها، بعد أن يوجهوا عليها أنوار بصائرهم وبصيراتهم، وكأنَّهم جنود صامتون صامدون، متربصون خلف متاريسهم وداخل خنادقهم. وسنعمد في هذه التقدمة إلى عرض فكرة موجزة مبسطة بعيدة عن

التعقيد المرهق، والإطناب المزهق، مبينين دور التحقيق ومستلزماته، مستفيدين من تجاربنا الخاصة التي حصدناها منذ سنوات في مضمار التحقيق ودراسة المخطوطات وتدريسها، مستعينين بالملاحظات التي استقيناها من العلماء الذين سبقونا في هذا الميدان، وكل قصدنا أن نضع بين أيدي المحققين من طلاب الدراسات العليا وغيرهم من طلاب العلم المشتغلين بهذا الفن جرعة علمية نافعة، تقوتهم حينًا، وتقودهم إلى تذليل باكورة أعمالهم التحقيقية حينًا آخر. ولهذا سنشرع في بيان التحقيق غايته ومنهجه، ليعلم الطالب أن الفارق كبير بين التحقيق وبين الدراسة والتعليق. التحقيق لغةً واصطلاحًا: شاع في العصر الحديث استعمال كلمة "التحقيق" في نشر الكتب وتصحيحها وخدمتها، بتوثيق نصوصها، وتوضيح غامضها، وضبط مشكلها، وتيسير مادتها للقارئين، والكلمة قديمة لغة واصطلاحًا، ولكنها لَم تكن شائعة الاستعمال شيوعها في العصر الحديث. ومعنى التحقيق في اللغة: التأكد من صحة الخبر وصدقه، وحقق الرجل القول صدقه، أو قال هو الحق، وفي اللسان: "وتَحقق عنده الْخَبر أي صح، وحقق قوله وظنه تَحقيقًا أي صدق". أمَّا معناه الاصطلاحي فهو: إثبات المسألة بالدليل، كما يقول الجرجاني في تعريفاته: "التحقيق إثبات المسألة بدليلها"، وكذلك هو عند العلماء، يقول التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون: "التحقيق في عُرف أهل العلم: إثبات المسألة بالدليل"، ويقول ابن المعتز في طبقات الشعراء بعد أن يورد عدة روايات في سبب مقتل صالح بن عبد القدوس: "والله أعلم بتحقيق ذلك".

ويُسمى الْجَاحظ العالم "مُحِقِّا"، ففي رسالة فصل ما بين العداوة والْحَسد: "إنه لَم يخلُ زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلَّا وفيه علماء مُحِقُّون، قرأوا كتب من تقدمهم ودارسوا أهلها". وقال: "واتَّخذهم المعادون للعلماء المحقين عدة"، وما دام التحقيق هو الإثبات بالدليل وتصحيح الأخبار، فإنه صفة من صفات العلماء، ففي الأدب مُحققون وفي النحو والبلاغة وغير ذلك، يقول ابن الأثير كما في الجامع الكبير وهو يعدد ويُسمى جماعة من العلماء ويصفهم بأنَّهم "المحققون": "وأورده جَماعة من العلماء مثل قدامة والْجَاحظ، وأبي هلال العسكري، والغانمي. . في تصانيفهم في باب الاستعارة، ولم يذكروا أن الأصل فيه تشبيه بليغ. . . . وهو الأصلُ المقيس عليه في التشبيه الذي أجمعَ عليه المحققون من علماء البيان"، وكذلك يصفهم ابن أبي الإصبع المصري في بديع القرآن: "المحققون من علماء البيان"، ويصف السيوطي كما في بغية الوعاة أحد الأدباء بأنه: "أحد أفراد أهل الأدب والمحققين به"، ويصف الفيروزآبادي مُحمد بن طلحة النحوي بأنه راسخ في علم العربية وغلب عليه "تَحقيق العربية والقيام عليها"، كما نقل صاحب البُلَغة عنه. والمراد بالتحقيق الاصطلاح المعاصر كما وضحه العلامة عبد السلام هارون في رسالته: "بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يُمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه واسم مؤلفه ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلي الصورة التي تركها مؤلفه"، وتَحقيق المخطوطة كما يرى الدكتور مصطفى جواد في فن تَحقيق النصوص بأنه: "الاجتهاد في جعلها ونشرها مطابقة لِحقيقتها كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث الخط واللفظ والمعنى، وذلك بسلوك الطريقة العلمية الْخَاصة بالتحقيق".

تحقيق العنوان: وأول مهمة تُجابه المحقق هي مدى صحة المخطوطة من حيث نسبتها إلى مؤلفها، ومدى صحة العنوان وانطباقه على موضوع الكتاب، واسم المؤلف ونسبة الكتاب إليه، وكثيرًا ما يَحدث أن مَخطوطًا كتب عليه اسم لا ينطبق على موضوعه، أو مَخطوطًا كتب عليه اسم غير مؤلفه، سواء أحصل ذلك عن جهل وغفلة أم عن قصد خبيث، فإن من الناس من تسول له نفسه بمحو اسم الكتاب واستبداله باسم آخر، واستبدال اسم المؤلف باسم مؤلف آخر، وقد يقع مَخطوط خالٍ من اسم الكتاب واسم المؤلف، فيأتي من يضع له اسمًا بِحسب ما يراه صوابًا. أمَّا بالنسبة لعنوان المخطوط، فقد يَحدث أن تسقط الورقة الأولَى، أو أن عنوان الكتاب ينطمس، إمَّا لرداءة الخط أو أثر الماء والرطوبة وانسياح الحبر، أو بفعل الأرضة أو العثَّة، أو بدافع التزوير، كما سبق، فيحتاج المحقق في هذه الْحَالة إلى الرجوع إلى فهارس المخطوطات لِمعرفة المخطوطات ذوات الموضوع المشابه، ومقارنة نصوصها بنصوص المخطوطة، والرجوع إلى ترجمة المؤلف لِمعرفة كتبه، ومن ثم دراسة أسلوبه في مؤلفاته الأخرى، وقد يَجد نصوصًا من الكتاب مضمنة في كتب أخرى، ولا شك أن معرفة اسم المؤلف تيسر الأمر، وتهدي إلى معرفة مؤلفاته وأسلوبه، وإذا كان انطماس العنوان جزئيًا، فإنه يساعد كذلك في معرفة المخطوط من خلال الكتب التي فيها شبه بما تبقى من العنوان. وإذا كان اسم الكتاب واضحًا واسم الكاتب مفقودًا، فإن الوصول إليه يكون عن طريق معرفة الكتب المشتركة بالعنوان نفسه، ومن ثَم معرفة زمن الكتاب من خلال شيوخ المؤلف وتلامذته، والأحداث التي تدل على الاشخاص، وعلى أزمان الأحداث، ومن الممكن الوصول إلى شخصية المؤلف من خلال المادة العلمية للكتاب، وما فيها من دلالات على

العصر، وكذلك دراسة أساليب المؤلفين، فإن لكل عصر أسلوبه ومصطلحاته وعلومه، ولكل مؤلف أسلوب يُمكن التهدي إلى معرفة صاحبه، بِمقارنة أسلوب الكتاب بالأساليب المشابهة في الموضوعات المشابهة في الكتب الأخرى، وإذا عثر المحقق على طائفة من نصوص الكتاب متضمنة في كتب أخرى، فإن ذلك يسهل الوصول إلى حقيقة المؤلف، مع ملاحظة أن وجود اسم المؤلف لا يَمنع من وقوع التصحيف والتحريف فيه؛ ولابد في كل هذه الأحوال من الرجوع إلى فهارس المكتبات وتراجم المؤلفين للتثبت وقطع الشك باليقين. التحقيق من نسبة الكتاب إلى مؤلفه: وفي حالة كون المخطوط كاملًا، فيه عنوان الكتاب واسم المؤلف، ينبغي التثبت من صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وخاصة بالنسبة للكتب المغمورة التي ليست لها شهرة، فبعض الكتب لا تتناسب مادتها العلمية مع مكانة وعلم مؤلفها، ومن المؤلفين من لم يعرف عنه أنه خاضَ في موضوع بعيد عن اهتماماته، أو أن أسلوب الكتاب لا يوافق أسلوب المؤلف في كتبه الأخرى، وحقِّا إن المؤلف الواحد قد تتفاوت مستويات مؤلفاته باختلاف سني عمره، فإن فترة الشباب يعتريها الضعف، وإن فترة علو السن يتضح فيها النضج والخبرة، ومع اعتبار كل ذلك، فلابد من التثبت والتحقق، فإن هناك مَجموعة من الكتب نسبت إلى مؤلفين معروفين، اتضح بالتحقيق أنها منسوبة إليهم ومَحمولة عليهم، والأمثلة في هذا كثيرة نَجتزيء بذكر بعض منها: من ذلك كتاب باسم "كتاب تنبيه الملوك والمكايد" المنسوب للجاحظ، وفيه حكايات وأخبار حدثت بعد عصر الجاحظ، من ذلك وجود باب فيه بعنوان (نكت من مكايد كافور الإخشيدي)، و (مكيدة توزن بالمتقى لله)، وبين الْجَاحظ (ت 255 هـ)، وكافور (ت 357 هـ)، وبين

الجاحظ والمتقي (ت 357 هـ) عشرات السنين، ومن ذلك نسبة شرح ديوان المتبني لأبي البقاء عبد الله بن الحسن العكبري، ومؤلف الكتاب هو ابن عدلان الموصلي المتوفي سنة (666 هـ)، وجزء من كتاب باسم (اختلاف الفقهاء للشعراني) وهو لأبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي الظفري المتوفي سنة (513 هـ)، ونُسب كتاب (إعراب القرآن) إلى الزجاج (ت 311 هـ)، ورجح المحقق إبراهيم الإبياري نسبته إلى مكي بن أبي طالب القيرواني المتوفي سنة (437 هـ)، ومِمَّا جاء من خطأ في عنوان الكتاب ونسبته إلى غير صاحبه أيضًا كتاب (توجيه إعراب أبيات ملغزة الإعراب) المنسوب للرماني المتوفي سنة (386 هـ) الذي حققه سعيد الأفغاني، ثم اتضح أن عنوان الكتاب هو (شرح الأبيات المشكلة الإعراب) وأن مؤلفه ليس الرماني وإنَّما هو أَبو نصر الحسن بن أسد الفارقي المتوفي سنة (487 هـ). تحقيق متن الكتاب: لقد أوجز العلامة عبد السلام هارون أهم ما يَجب في تَحقيق متن الكتاب في قوله: "أن يؤدي الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلفه كمّا وكيفًا بقدر الإمكان، فليس معنى تَحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نُحِل كلمة صحيحة مَحل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصّا من النصوص إلى قائل وهو مُخطيء في هذه النسبة، فيبدل ذلك الخطأ ويحل مَحله الصواب، أو أن يُخطيء في عبارة خطأ نَحويّا دقيقًا فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عباراته إيجازًا مُخلّا فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال، أو أن يُخطيء المؤلف في ذكر علم من الأعلام فيأتي به المحقق على صوابه". ويقول أيضًا: "ليس تَحقيق المتن تَحسينًا أو تصحيحًا، وإنَّما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على

المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير". ومعنى هذا أن التحقيق أمانة، ويحسن بالمحقق أن يكون حذرًا أمينًا صبورًا، لا يَجترئ على النصوص فيغير أو يُبدل، وأن الجرأة في التحقيق عمل مذموم، ويُمدح المحقق الحذر المشفق المتأني. مهمات المحقق: ونُجمل مهمات المحقق في النقاط الآتية: أولًا: مقابلة النسخ المخطوطة على النسخة الأم، ويُبين في الْهَامش الفروق بعد أن يرمز لكل نسخة برمز خاص. ثانيًا: عند اختلاف الروايات يثبت في المتن ما يُرجِّح أنه صحيح، بعد دراسة المحقق لكل رواية، ويَجعل المصحف والمحرّف والخطأ في الهامش. ثالثًا: عند وجود زيادة في نسخة من النسخ لا توجد في النسخة الأم تضاف الزيادة إلى النسخة الأم، ويُشار إلى ذلك في الحاشية، وذلك إذا تَحقق الناشر أن الزيادة هي من أصل الكتاب وليست من الناسخ، أما إذا كانت الزيادة من الناسخ، أو من أحد العلماء، فيُشار إليها وتثبت في الهامش. رابعًا: إذا وجد المحقق في النص المخطوط نقلًا من مصادر ذكرها المؤلف، يرجع إلى تلك المصادر ويعارض النصوص المنقولة بالأصل المعتمد، ويدون الفروق في الهامش من حيث الزيادة والنقص أو اختلاف اللفظ. خامسًا: إذا اهتدى المحقق إلى مصادر الأصل المخطوط، ردَّ كل نص فيها إلى مصدره للاطمئنان إلى صحة النص وتوثيقه.

سادسًا: يَجوز للمحقق إضافة حرف أو كلمة سقطت من المتن، يتقوم بها النص، على أن يضع ذلك بين عضادتين، وقد سمح الأقدمون بزيادة ما سقط من سند الحديث أو متنه، وبتجديد ما اندرس من كتاب الحديث سابعًا: إذا وُجدَ في المخطوط خرمٌ أضاع نصّا، وكان هذا النص في كتاب آخر مَخطوط أو مطبوع -كأن نقل النص عن مصدره الأول- فيمكن إتمام الخرم، والإشارة إلى ذلك في الحاشية، ويوضع المضاف بين عضادتين، أما إذا لَم يجد المحقق ما خُرم أو ما تُرك بياضًا في مصدر آخر، فيُشير إلى مقدار الخرم أو البياض في الهامش. ثامنًا: من المحققين من يعتمد على عدة نسخ في آن معًا، ولا يعتمد على نسخة واحدة عند وجود نسخ كثيرة، وفي هذه الطريقة حرية للمحقق، وقد يَجوز هذا الأمر بالنسبة للمحقق المتمكن الخبير في معرفة الكتاب، ومؤلف الكتاب ولغته وأسلوبه، ولا يؤمن في هذه الحالة الزلل، والأفضل اعتماد نسخة واحدة ومقابلتها على النسخ الأخرى، وترجيح الرواية الجيدة. تاسعًا: عند وجود قراءة لعالم ما على النسخة المعتمدة، أو النسخ الأخرى وفيها تصحيح يزيد في قيمة الكتاب، تثبت القراءة في الهامش ويُشار إليه، ومن المحققين من يرى إثبات هذه القراءة في المتن والإشارة إليها في الهامش، ولست مع هذا الرأى، لأن الأصل في الكتاب أن يمثل مؤلفه. عاشرًا: كل زيادة في جوانب المخطوط أو طُرَّته من تنبيه أو تفسير أو تعليق، يُشار إليها في الهامش ولا تُضاف إلى المتن.

جمع الأصول وترتيبها: عندما يقع الاختيار على تَحقيق مخَطوط، لابد من البحث عن نسخه في مكتبات العالم واستقصاء كل ما يُمكن اسقصاؤه من فهارس المخطوطات في المكتبات، والمخطوطات العربية منتشرة في مكتبات العالم، شرقية وغربية، وحقًّا إن الباحث لن يستطيع أن يقف على كل ما في المكتبات التي تَحوي الكتب العربية، ولكنه يبذل قصارى جهده في البحث والتنقيب للحصول على كل النسخ المتيسرة، ويعينه على ذلك -بعد النظر في فهارس المكتبات المخطوطة والمطبوعة- بعض الكتب التي تهتم بالمخطوطات والتي منها على سبيل المثال: كتاب بروكلمان "تاريخ الأدب العربي وذيوله"، وقد ترجم إلى العربية من الألمانية، و"تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، و"تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين وقد ترجمت أكثر أجزائه العربية، وكتاب "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" لأغابزرك، و"كتاب الخزانة الشرقية" لحبيب الزيات، هذا عدا الرجوع إلى خزائن الكتب الخاصة المنتشرة في البلاد العربية والإسلامية، ولا يستغني الباحث عن سؤال المكتبيين والمهتمين بالمخطوطات من أساتذة وباحثين ومُحققين، أضف إلى ذلك الكتب المحققة والرسائل الجامعية التي تتضمن فهارسها جَمهرة من المخطوطات. وحين نقف على مواضع النسخ في المكتبات، نسعى إلى نسخها أو تصويرها، فإذا توافرت لدينا كل النسخ، نبدأ بفحصها ودراستها لمعرفة جيدها من التي فيها نقص أو خرم، ويدرس الفاحص الورق للتحقيق من عمر النسخة، وقد تكون بعض النسخ حديثة ولكن أصابها تلف من أثر الرطوبة أو العث أو الأرضة، فيظن العجل المسرع أنها قديمة، وأن البلى ليس دائمًا دليل القدم، فقد تسلم بعض النسخ القديمة من عوادى التلف والبلى، وقد تكون بعض النسخ مزورة بما يكتب عليها من تواريخ قديمة،

وقد تُعَرَّض النسخة لأسباب التلف ليُظن أنها قديمة، كما يفعل بعض تُجار المخطوطات. ويدرس كذلك الخط والمداد لِمعرفة الزمن الذي كتبت فيه، فلكل عصر نمط خاص في الخط، ويُعرف كذلك المداد القديم من الحديث، ويفطن المحقق إلى وحدة الخط واطراده وطريقة رسمه، ويلاحظ ما على النسخ من إجازات وتَمليكات وقراءات، أو تعليقات لبعض العلماء، ومعرفة أزمان هذه الإجازات وتاريخ وفيات العلماء الذين أجازوا أو امتلكوا أو قرأوا وعلقوا، ويفحص مادة الكتاب ونظام فصوله وأبوابه، ليطمئن إلى أن النسخة كاملة لم تسقط منها أوراق في أولها أو وسطها أو آخرها، وملاحظة التعقيبة التي تكون في أسفل الصفحة اليمني، التي تدل على بدء الصفحة التي تليها، ويستدل بتتبع هذه التعقيبة على تَمام الكتاب وعدم اضطراب أوراقه، ويدرس خاتمة الكتاب ليقف على اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وعن أي النسخ نقلت، وبعد هذه الدراسة الفاحصة لكل نسخة، تُرتَّب النسخ حسب أزمانها وصحتها وجودتها، وفق الترتيب الآتى: الأول: أحسن النسخ التي تعتمد للنشر هي نسخة المؤلف التي كتبها بِخطه، وخاصة إذا كانت سالمة من النقص والتلف، وتكون هذه هي النسخة الأم، ويحسن أن تكون هذه النسخة كاملة، فيها عنوان الكتاب، واسم المؤلف، وجَميع مادة الكتاب، على آخر صورة كتبها المؤلف بنفسه، أو أشار بكتابتها أو أملاها أو أجازها، أو فيها ما يفيد اطلاعه عليها إقراره لها. ويَحسن التثبت من أن نسخة المؤلف هي آخر تأليفه له؛ لأن من المؤلفين مَن يعيد تأليف الكتاب أكثر من مرة، وفي كل مرة يُضيف أو يَحذف ويعدل وينقح، فمن المنقول أن كتاب الياقوت لأبي عمر الزاهد

(ت 345 هـ) ظهر في ست صور، كل مرة يزيد فيها عند قراءته عليه، وأن الجاحظ ألَّف كتابه "البيان والتبيين" مرتين "أولَى وثانية، والثانية أصح وأجود" كما في الفهرست، وألَّف ابن درستويه كتاب "الكتاب" مرتين كل واحدة منهما مُختلفة عن الأخرى زيادة ونقصانًا، وأن أبا بكر الزبيدي ألَّف كتابه "لحن العامة" مرتين، وألَّف أَبو عمرو الشيباني كتاب "النوادر الكبير" ثلاث مرات، وألَّف الثعالبي "اليتيمة" مرتين، كانت الثانية أوسع وأشمل من الأولى كما نُقل في يتيمة الدهر وغير ذلك كثير. وعلى المحقق أن يكون فطنًا حذرًا، فقد يَجد في آخر الكتاب عبارة (وكتاب فلان) أي المؤلف، وهي ليست للمؤلف، وإنَّما هي من فعل الناسخ الذي قد ينقل عن نسخة المؤلف، وينقل ما في آخرها من قول المؤلف، وكذلك يَجب أن يفطن إلى تاريخ النسخة، فقد تكون النسخة متأخرة وينقل الناسخ تاريخ النسخة السابقة التي ينسخ عنها، وقد يكون الفرق بين نسخة الأصل والنسخة المنقول عنها قرنًا أو قرونًا، فيحسن هنا أن يحكم المحقق خبرته في الخط والورق والمداد واسم الناسخ الأول والثاني، ليثبت من تاريخ النسخة الصحيح. الثاني: بعد نسخة المؤلف تأتي في المنزلة الثانية النسخة التي قرأها المؤلف، أو أشار بكتابتها، أو أملاها، أو أجازها. الثالث: وتأتي بعد ذلك النسخة التي نقلت عن نسخة المؤلف أو عورضت بها، أو قوبلت عليها. الرابع: ثم النسخة التي كتبت بعصر المؤلف عليها سماعات العلماء، وبعدها التي ليس عليها سماعات العلماء. الخامس: النسخة التي بخط عالم تفضل غيرها وتقدم عليها، وقد كان القدماء يحرصون على اقتناء مثل هذه النسخ وينزلونها منزلة عالية،

ومن طريف ما يُروى في ذلك أن الجاحظ لما قدم من البصرة إلى بغداد قاصدًا محمد بن عبد الملك الزيات في وزارته للمعتصم، أهدي إليه نسخة من كتاب سيبويه، وقبل أن يَحملها إلى مَجلسه أعلم بها بعض موظفي ابن الزيات، فلما دخل عليه قال له: أو ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟ فأجابه الجاحظ: ما ظننت ذاك، ولكنها بخط الفراء، ومقابلة الكسائي، وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، فقال له ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد للكتاب وأغربها، فأحضرها الجاحظ إليه وسُرَّ بها ووقعت منه أجمل موقع، كما نقل شوقي ضيف في كتاب "البحث الأدبي". السادس: أما النسخ التي كتبت بعد عصر المؤلف، فترتب حسب قدمها، تفضل المتقدمة على المتأخرة، والتي كتبها عالم، أو قُرئت على عالم على ما لم يكتبها أو يقرأها أحد العلماء، وقد نَجد نسخة ما أحدث تاريخًا من الأولى، ولكن كاتبها عالم دقيق يُقيم النص، وتبرأ نسخته من الخطأ والوهم والتحريف، وهي أصح متنًا وأكمل مادة، وهنا يَجب تقديم النسخة الأحدث. السابع: هذه النسخة عدا النسخة الأم تُعد أصولًا ثانوية، أمَّا إذا لم توجد نسخة المؤلف، فإن أوثق هذه النسخ وأصحها تعد النسخة الأم، ثم يليها الأقل منها وثوقًا، وقد يَحدث أن تكون هناك نسخة متأخرة صحيحة مضبوطة هي أفضل من أختها المتقدمة التي يعتريها النقص أو التحريف أو التصحيف، وقد نَجد نسخة متأخرة نسخت نسخًا جيدًا عن نسخة المؤلف، أو عن نسخة من عصر المؤلف، وحقّا إن النسخ المتأخرة يعتريها التحريف من أيدي الناسخين، ولكن قد نَجد في المتأخر ما لا نَجده في المتقدم. الثامن: بعض المخطوطات تأتي غفلًا من تاريخ النسخ ولا يعرف

كاتبها أو زمن كتابتها، ويُستعان لمعرفة عصرها من الخط والورق، فإن لكل عصر نوعًا من الخط، وكذلكَ الورق يُمكن معرفة قدمه، والمقصود هنا فحص الأصول المخطوطة وليس المصورة عنها. التاسع: قد يضطر المحقق أن يُحقق الكتاب على أصل مَخطوط واحد، في حالة عدم وجود نسخة مَخطوطة أخرى، أما إذا وجدت نسخة أو نسخ أخرى، فلا يصح ذلك، ويُعد عيبًا ونقصًا كبيرًا، وإذا كانت النسخة وحيدة، فيجب مقابلتها على مُختصرات الكتاب إن وجدت، والأصول المطبوعة، وما وجد من نصوص في ثنايا الكتب المشابهة. العاشر: قد تتوافر من بعض الكتب نسخ كثيرة، وقد تتشابه ثلاث أو أربع نسخ في مَحاسنها أو عيوبها، وتكون قد نسخت عن أصل واحد، وفي مثل هذه الحالة تجعل النسخ المتشابهة مَجموعات أو فئات، ويرمز لكل مَجموعة بحرف، وتتخذ من كل مَجموعة نسخة واحدة تمثلها عند المقابلة وبيان اختلاف القراءة. الحادي عشر: هناك أصول قديمة للكتاب متضمنة فى كتب أخرى للمؤلف نفسه، أو في كتب المؤلفين الآخرين، وتُعد هذه أصولًا ثانوية يُستعان بها في تَحقيق النص، نَجد من ذلك أمثلة كثيرة، منها ما يتضمنه كتاب شرح البلاغة من نصوص كتب أخرى، مثل وقعة صفين لنصر بن مزاحم، ونصوص كثيرة من كتاب المغازي للواقدي، ونصوص من كتاب العثمانية للجاحظ، وقد ضمَّن البغدادي في خزانة الأدب كثيرًا من صغار الكتب النادرة، منها فرحة الأديب للأسود الأعرابي الغندجاني، وكتاب اللصوص للسكري. الثاني عشر: أمَّا النسخ المطبوعة التي لا يُمكن الحصول على الأصل الذي طُبعت عنه، فإن فريقًا من المحققين يتخذها أصولًا ثانوية، وبعضهم

يُهملها ولا يلتفت إليها، والأوفق أن تُتَّخذ أصولًا ثانوية، وخاصة إذا كانت النسخ المعتمدة قليلة، أو كانت النسخة المعتمدة وحيدة، مع ملاحظة أن يكون ناشر المطبوعة من المحققين المتمكنين الثقات من أعلام العرب والمستشرقين المعروفين بالأمانة والعلم والتثبت، أما ما دون ذلك مِمَّا ينشره المتسرعون أو النشرات التجارية فلا يُلتفت إليه. الثالث عشر: قد ترد نسخة بخط المؤلف وهي مسودة الكتاب ولم ترد معها المبيضة، وفي هذه الحال تُعد مسودة المؤلف هي النسخة الأم، أما إذا وجدت المسودة مع المبيضة، فتعتبر المسودة أصلًا ثانويًا يستأنس به لتصحيح القراءة، وتعرف المسودة مما يرد فيها من أثر المحو والتغيير واضطراب الكتابة، وترك البياض، والإضافة بحواشي الكتاب وغير ذلك، وبعض المؤلفين يكتب الكتاب ولا يُجرده من المسودة، من ذلك ما نقل من أن ابن دريد صنف كتاب "أدب الكاتب" على مثال ابن قتيبة ولم يُجرده من المسودة، وقد يُتوفي المؤلف قبل أن يتاح له تبييض كتابه، من ذلك ما نقله الزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين" ذاكرًا كتاب "البارع" لأبي على القالي، قال: "ولا نعلمُ أحدًا من العلماء المتقدمين والمتأخرين ألّف نظيره في الإحاطة والاستيعاب، وتوفي قبل أن ينقحه، فاستخرج بعده من الصكوك"، وكذلك يقال في شرح شمس الدين البرماوي لصحيح البخاري المسمى بـ "اللامع الصبيح"، قال: "ولَم يُبَيّض إلَّا بعد موته" كما نقل القسطلاني في "إرشاد الساري". الرابع عشر: النسخة التي عليها سماع علماء معروفين، أو مُجازة كُتبت عليها إجازات من شيوخ ثقات، تفضل النسخة التي تخلو من الإجازة أو السماع. الإجازة والسماع: كتب في هذا الباب العلامة صلاح الدين المنجد بحثًا بعنوان:

"إجازات السماع في المخطوطات القديمة" ونشر في مَجلة معهد المخطوطات، وهذا إن دلَّ فيدل على اهتمام أهل العلم بهذا الباب. فالإجازة: إثبات المؤلف واعترافه بنسبة الكتاب إليه وإقراره بأنه روي عنه، أي الإذن برواية الحديث لوثاقة المجاز، ووجود الإجازة يعني أن النسخة موثقة، بعد أن تم الإقراء أو السماع، وأن النسخة مطابقة لنسخة المؤلف معنى ومبنى. والإقراء أو القراءة: أن يقرئ الكتاب على المؤلف أو غيره من دون أن يكون هناك شخص آخر يسمع، أو أشخاص يستمعونَ للقراءة. والسماع: رواية الكتاب عن مؤلفه أو بالسند المتصل إليه أو أن يقري الكتاب على المؤلف أو غيره مع وجود من يسمع أو يسمعون، ويلخص المنجد فائدة السماعات وقيمتها بأنها: أولًا: أنموذج من أنموذجات التثبت العلمي الذي كان يتبعه العلماء. ثانيًا: هي وثائق صحيحة تدل على ثقافات العلماء الماضين وما قرأوه أو سمعوه من الكتب. ثالثًا: هي مصدر للتراجم الإسلامية. رابعًا: وهي وسيلة من وسائل معرفة مراكز العلم في البلاد الإسلامية، وحركة تنقل الأفراد من بلدان مُختلفة ونَحوها. خامسًا: وهي دليل على صحة الكتاب وقدمه وضبطه وتاريخه. نموذج من السماعات: جاء في خاتمة مَخطوطة تهذيب الكمال للمزي المتوفي سنة (742 هـ): "سمع هذا الجزء بقراءة الإمام جَمال الدين أبي محمد رافع بن أبي محمد ابن محمد بن شافع السلامي ابنه مُحمد، وعلاء الدين طيبرس بن عبد الله الفاروخي، وأولادي: مُحمد وزينب، وابن أخيهما عمر بن

عبد الرحمن، وأخته خديجة، وأمهما: فاطمة بنت محمد بن عبد الخالق البياني، وبنت خالهم: آسية بنت مُحمد بن إبراهيم بن صديق السلمي، وأخوهما: أحمد حاضرًا في الثالثة، وصح ذلك في يوم الجمعة السابع عشر من جمادي الأولى سنة أربع عشرة وسبعمائة، وكتب مصنفه يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي". عمل المحقق "معالجة النصوص": زيادات النسخ: يفحص المحقق النسخ المخطوطة فحصًا جيدًّا، ويلاحظ الزيادات التي قد توجد في نسخة دون أخرى، وعليه أن يكون فطنًا لِما قد يدخله الناسخون من قراءات العلماء أو تعليقاتهم في الحواشي في صلب النسخة، فإذا تيقن أن هذه الزيادة هي من كلام المؤلف وضعها في مكانها من الكتاب، وأشار إليها في الهامش بأنها من النسخة الفلانية، ولكل نسخة رمزها، وعلى المحقق أن يُميز بين المستدرات التي هي من صحيح الكتاب وبين التعليقات التي يدونها قراء النسخة، فإذا كان الاستدراك للمؤلف نفسه ووضعه في حاشية الكتاب، أدخله المحقق في موضعه من الكتاب وأشار إلى ذلك في الهامش، أما إذا كانت الزيادة من أحد القراء أو العلماء، فيُشير إليها في الهامش، ولا يدخلها في متن الكتاب. وقد تكون في الكتاب إجازة برواية الكتاب عن مؤلفه، أو عن رواية عنه، مع إثبات قائمة سماعات يعترف بها المؤلف أو الراوي، فلهذه الإجازات والسماعات فوائد تاريخية وتوثيقية، يَجب أن يوليها المحقق عناية ويدونها في موضعها، ويذكرها في مقدمة التحقيق. تصحيح الأخطاء: كثيرًا ما تقع أخطاء وتَحريفات وتصحيفات في النسخة المعتمدة، وقد

تكون وحيدة، وقد تكون النسخة متأخرة ومعها نسخ مثلها، فيكثر فيها الوهم والخطأ، وعلى المحقق أن يؤدي النسخة القديمة الأم كما هي، ويُشير إلى ما يظنه خطأ في الهامش، أما في النسخ المتأخرة فله أن يصحح هذه الأخطاء والتصحيفات مستعينًا بالمراجع، وقد يَجد نصف الصواب في نسخة، ونصفه في نسخة ثانية، وعليه أن يبين التصحيحات بعد أن يتوثق منها في الهامش. الزيادة والحذف: مر أن النسخة الأم إذا كانت قديمة تؤدي كما هي دون زيادة أو نقص، أما النسخ الثانوية فكذلك لا يزاد فيها ولا يُحذف إلا ما كان ضروريّا، بعد التثبت والرجوع إلى مراجع التحقيق، وقد أجازَ القدماء أن يلحق بالكتاب ما هو ضروري لإقامة النص، فقد أجاز ابن كثير في "الباعث الحثيث" أن يلحق في نصوص الحديث ما سقط منه أو اندرس من الكتاب، قال: "وإذا سقط من السند أو المتن ما هو معلوم فلا بأس بإلحاقه، وكذلك إذا اندرس بعض الكتاب فلا بأس بتجديده على الصواب". ولا شك أن المراد بالإضافة أو الحذف هو ما كان واضحًا متعينًا، كإضافة (بن) في السند نَحو: "عبد الله مسعود"، وإضافة (على) في "بُني الإسلام خَمس"، وكذلك حذف المتكرر في (بني الإسلام على على خَمس)، وفي كل الأحوال ينبه المحقق في الهامش على الزيادة أو الحذف، ويضع الزيادة بين عضادتين [. . . . .]. أمَّا الزيادة التي يُراد بها توضيح النص وإزالة ما فيه من إبهام، فلا تكون في الأصل وإنَّما مكانها في الهامش، أمَّا التغيير والتبديل فلا يَجوز في النسخة العالية، ويَجوز في النسخ الثانوية إذا تَحقق أن هناك أخطاء

وتحريفات من قبل النساخ، ويتم ذلك بالرجوع إلى مصادر التحقيق، والإشارة إلى كل ذلك في الهامش. مقابلة النسخ: وينبغي الاهتمام بإثبات الفروق التي لها أثر في قراءة النص، حيث يترتب على اختلاف رسم الكلمة تغيير المعنى، ومن المحققين -ومنهم المستشرقين- يُدِّونون كل فرق مهما كان واضحًا بينًا أنه من سهو النساخ من كلمات في نسخة (رما) وفي أخرى (رمى)، و (سقا)، و (سقى)، و (سمآ) و (سماء)، و (مآ) و (ماء)، و (الحرث) و (الحارث)، و (خلد) و (خالد)، و (معاوية) و (معوية)، هذا وغيره مِمَّا يدخل ضمن الرسم الإملائي الذي يغير حسب الرسم الحديث ويُنبِّه عَليه في المقدمة، وكذلك يُقال في بعض الفروق الطفيفة كحروف العطف ومَجيء الفاء مكان الواو أو العكس، أو سقوط نقطة من الذال والتاء والياء، وهو من أثر الخط وإهمال الناسخ، كل ذلك يغير ويُشار إليه جُملة في المقدمة أثناء وصف النسخة. إن المحقق يُقارن بين النسخ ويثبت الاختلافات الواضحة في الْهَامش، وإذا ورد نص فيه أغلاط وآخر يَخلو منه يثبت الصحيح في الأصل، ويُشار إلى النص الآخر المخطوء في الْهَامش، وعلى المحقق حين يرجح نصّا على آخر أن يُبين سبب الترجيح ويُعلل ذلك، ويسوق الأدلة التي تعزز رأيه في ترجيح هذه القراءة أو تلك. الضبط: إذا كانت النسخة الأم مضبوطة بالشكل، أو فيها ضبط جزئي، فينبغي أن يلتزم المحقق بذلك ولا يغيره أو يبدله التزامًا بأمانة أداء النص كما أراده المؤلف، وإذا ورد في بعض الكلمات ضبطان، كأن يكون

الحرف مضمومًا ومكسورًا، فيجب أن يؤدي كما هو، وأمَّا النسخ التي يقل فيها الضبط ويَحتاج المحقق إلى ضبطها، فيضبطها مستأنسًا بطريقة المؤلف في الضبط، كأن يَميل المؤلف إلى ضبط بعض الكلمات التي يَجوز في بعض حروفها الكسر والفتح، أو الفتح والضم، فيتبع طريقة المؤلف في الكلمات التي ضبطها، أما الكلمات التي لم تضبط وليس لها مثيل في كلام المؤلف، فيختار في ضبطها أعلى اللغات، ويدع اللغة النازلة، ومِمَّا يُنَبَّه له، أن يفطن المحقق إلى أن المؤلف قد يضبط الكلمة ضبطًا خاطئًا لينبه بعد ذلك على الخطأ ويصححه، فليس للمحقق أن يصحح ذلك الضبط الخاطيء. ويَجدر أن يتنبه المحقق إلى أن الضبط يَحتاج إلى أن الدقة والحذر، فقد ترد بعض الكلمات لها ضبط يُخالف المألوف، ويُراد بها غير المعنى المتداول، ويَجب هنا معرفة مراد المؤلف في المعنى، فقد ترد عند المؤلف كلمة (الكَهْوَل) بفتح الكاف وسكون الْهَاء وفتح الواو، بمعنى بيت العنكبوت، فيضبطها المحقق (الكُهُول) جَمع كهل مُجاراة للمألوف، وكذلك (العَلْب) بفتح فسكون، بمعنى الوسم والتأثير، فيضبطها (العُلَب) بالضم والفتح جمع عُلبة، بفتح فسكون، بمعنى الوسم والتأثير، فيضبطها (العُلَب) بالضم والفتح جَمع عُلبة، فيفسد بذلك المعنى ويذهب مراد المؤلف. وعلى المحقق أن يشكل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويُشكل الأشعار والأمثال تشكيلًا يزيل عنها الإبهام والوهم، ويشكل الألفاظ التي يلتبس معناها إذا أهمل شكلها، كالمبني للمجهول، والكلمات التي فيها تصغير أو تشديد، أو حروفًا مهملة تلتبس بالمعجمة. ويُضبط كذلك الأعلام الأعجمية المعربة أو المركبة أو الصعبة، وأن يتخذ الْحَذر في ضبط أعلام الأشخاص والقبائل والبلدان، والرجوع في ذلك إلى مصادر

التحقيق، فقد يلتبس المصغر بالمكبر، والمخفف بالمثقل، والمعجم بالمهمل، كعدي وعُدي، وصديق وصدِّيق، وحَبيب وخُبيب، ونَمير ونُمير، وكَثير وكُثَيِّر، وحبير وجُبير، وسليم وسُليم، ومسلم ومسَلّم. ويضبط كذلك الكلمات التي تَحتاج إلى شرح، والتي تلتبس بغيرها، أو تكون صعبة غير مألوفة، أو يكثر الخطأ فيها، أو يشيع استعمال المخطوء فيها، ويضبط وسط الفعل في الماضي والمضارع من الثلاثي لأن أكثره يعتمد على السماع، ويضبط الأفعال التي تلزم البناء للمجهول، مثل: حُمَّ، وجُنَّ، وعُنِىَ، وهُرع، ويضبط كذلك أسماء النبات والحيوان والعقاقير، والكلمات التي تتفق صورتها وتَختلف معانيها باختلاف شكل حركاتها، وفي كل ذلك يرجع إلى مصادر اللغة والمعجمات وتراجم الرجال والطبقات وكُتب البلدان وغيرها، ولا يعتمد فيها على الذاكرة فإن ألفة الكلمة كثيرًا ما تؤدي إلى الْخَطأ. وعلى المحقق أن يصف في المقدمة النص ومقدار ما فيه من شكل، وما أضيفَ إليه. العلامات: قد يُصادف المحقق في المخطوطات القديمة، وفي كتب الحديث خاصة، بعض العلامات والحروف الصغيرة التي توضع فوق بعض الألفاظ ينبغي أن يعرف معناها ويفطن إلى مدلولها، من ذلك: أ) كلمة (صح) توضع فوق اللفظ، ومعناها أن اللفظ على ما هو مثبت صحيح. ب) رأس حرف (ص) مَمدودة، وتُسمى (ضبَّة) أو علامة التمريض، توضع فوق العبارة التي هي صحيحة في نقلها ولكنها خطأ في ذاتها، وتُسمى هذه العلامة أيضًا علامة التضبيب، قال السيوطي في

"تدريب الراوي": "يسمى ذلك ضبَّة لكون الحرف مقفلًا بها لا يتجه لقراءة، كضبَّة الباب يقفل بها". وقد يوضع الحرف (ض) في وسط الكلام إشارة إلى وجود بياض في الأصل المنقول عنه. جـ) إذا ضرب فوق لفظ بِخط، فمعناه أنه مَحذوف، وربما حَوِّق بنصف دائرة فوق الكلام المحذوف. د) كثيرًا ما يَحدث التباس في قراءة الحروف؛ لأن الكتابة لم تكن معجمة (غير منقوطة)، ولذلك دأب بعض العلماء والنساخ منعًا للتصحيف والتحريف، أن يضعوا بعض إشارات على الحروف لئلا يقع التباس فيها، من ذلك: إنهم كانوا يضعون حرف حاء صغيرة فوق حرف الحاء في الكلمة لئلا يقرأ الحرف خاء معجمة، أو يضعون عينًا صغيرة تَحت حرف العين لئلا يقرأ غينًا معجمة، وكذلك يفعلون في حرف الصاد والطاء والدال والراء. وقد يضعونَ ثلاث نقاط تحت حرف السين لئلا تقرأ شينًا؛ لأن نقاط الشين فوق الحرف، وكانوا يضعون هذه النقاط إما صفًا واحدًا أو صفين، وكان بعضهم يعجم الشين بنقطة واحدة فوقها، كما في هَمع الهوامع، وبعضهم كان يكتب سينًا صغيرة (سـ) تَحت السين. ومن الكتَّاب من يضع فوق الحرف المهمل أو تَحته همزة صغيرة (ء)، ومنهم من يضع خطًّا أفقيًّا فوقه (-)، ومنهم من يضع رسمًا أفقيِّا كالهلال (°) ومنهم من يضع علامة شبيهة بالرقم (7)، وفي بعض الكلمات التي تقرأ بالإهمال والإعجام معًا، قد ينقط الحرف من أعلى ومن أسفل معًا وذلك مثل (التسميت) و (التشميت)، أي تشميت العاطس، يضعونَ أحيانًا فوق السين نقطًا ثلاثًا وتَحتها كذلك،

إشارة إلى جواز القراءتين، و (المضمضة) و (المصمصة) تكتب بنقطة فوق الضاد وأخرى تحتها، تَجويزًا لوجهي القراءة. ومِمَّا يُلاحظ في ضبط الحروف كتابة: الهَمزة: وهي صورة رأس عين (عـ) توضع فوق ألف القطع، أو على الواو والياء بدلًا من الألف، أو في موضع ألف قد حذفت صورتها مثل: ماء وسماء، كثيرًا ما تهمل كتابتها في المخطوطات فتلتبس ماء بكلمة (ما)، وسماء بالفعل (سما)، والهمزة المكسورة تكتب أحيانًا تَحت الحرف، وتكتب أحيانًا فوقه. المدة: وهي السحبة التي في آخرها ارتفاع، قد ترد في الكتابة القديمة فيما لم نألفه، نَحو (مآ) التي نكتبها الآن (ماء) بدون مدة. الشدة: وهي رأس الشين تكتب فوق الحرف، وقد تأتي تَحت الحرف إذا كانت مقرونة بالكسرة، وقد تكتب الفتحة فوق الشدة وأحيانًا تَحتها، ويضع المغاربة الضمة تَحت الشدة، وفي الكتابة المغربية تكتب الشدة كالعدد سبعة (7) شديدة التقويس. وتَخفيف الحرف، أي غير مشدد، يرمز إليه أحيانًا بالحرف (خ)، أو بإشارة (خف) إشارة الخفَّة. ومِمَّا يتصل بهذا معرفة الخطوط والتعود على قراءتها، والتنبه إلى كيفيةَ رسم الحروف في كل موضع من الكلمة، وخاصة الخط المغربي، ففيه صعوبة لمن لم يألفه ولم يمارس القراءة فيه، وتتيسر هذه الصعوبة بكثرة القراءة وَالممارسة، فهم يضعونَ نقطة الفاء تَحت الحرف، وينقطون القاف بنقطة واحدة فوق الحرف، ويضعون الفتحة تحت الشدة لا فوقها كما هو في الخطوط المشرقية، ويضعون الكسرة للحرف المشدد تَحت الحرف لا فوقه، ويَميل الكتاب إلى الاستدارة في رسم الحروف، فتتشابه

استدارة الدال والراء، ويتشابه شكل الكاف والظاء، ويبقون الألف التي نَحذفها في كلمات مثل: لكن وهؤلاء وهذا، فيكتبونها (لاكن، وهاؤلاء، وهاذا)، وعلى الرغم من هذه الصعوبات فالخط المغربي جَميل فيه نظام، وأشكال هندسية متناسقة. وقد يستعمل رأس الحرف عين (عـ) إشارة إلى كلمة (لعله كذا)، والحرف (ظ) في الهامش إشارة إلى كلمة (الظاهر)، وتوضع (ك) في بعض الهوامش إشارة إلى (كذا في الأصل). وإذا كان في النص زيادة بعض الكلمات وجدت خطأ، فيُشار إلى الزيادة بخط يوضع فوق الكلام منعطفًا عليه من جانبيه، بهذا الشكل (|-|) وأحيانًا توضع الزيادة بين دائرتين صغيرتين (oo)، أو بين نصفي دائرة (())، وأحيانًا توضع كلمة (لا) أو (من) أو (زائدة) فوق أول كلمة من الزيادة، ثم كلمة (إلى) فوق آخر كلمة منها. أمَّا بالنسبة للأرقام، فقد ترد في بعض المخطوطات القديمة لها شكل خاص يَختلف عما نعهده. الرسم الإملائي: إن الرسم الإملائي في المخطوطات يَختلف عن الرسم الإملائي الحديث، وهو في كثرته مشابه لرسم المصحف، وعلى المحقق أن يستبدل الرسم الحديث بالرسم القديم دفعًا للوهم واللبس، وقد أجاز الأقدمون أنفسهم ذلك كما ذكر في مقدمة "الوافي بالوفيات". وكثير من المخطوطات القديمة ألفاظها مهملة غير معجمة، أو بعضها معجم وبعضها مهمل، فلا يُمكن نشرها اليوم بلا نقط، وكثير من كلمات المخطوطات مُجردة من الحركات والهمزة والتشديد والمدة، فينبغي اليوم أن تضبط بالشكل، وعلى المحقق أن يعني بالرسم وخاصة فيما

يأتى: رسم هَمزة الابتداء، وكثيرًا ما يؤدي عدم رسمها إلى تغيير المعنى، مثل: أعذار، وإعذار، وأعلام وإعلام، وأنباء وإنباء، وأن وإن. وفي المخطوطات تُحذف الهمزة المتطرفة ويرسم قبلها مدة، مثل: سمآ، وعليآ، وابتدآ، وابتلآ، بدلًا من: سماء، وعلياء، وابتداء، وابتلاء. ضرورة وضع نقطتي الياء لئلا تلتبس بالألف المقصورة مثل: أبي وأبي، والهَدي والْهُدي، وعليّ، وعلى، وممَّا يُؤخذ على المصريين إهمالهم النقطتين، وتكاد تَخلو مطابعهم من الياَء المنقوطة. ضرورة الحرص على وضع علامة التشديد في موضعها دائمًا. تثبت الألف الوسطية في الأسماء التي كانت تُحذف ألفها في كثير من أسماء الأعلام مثل: الْحَارث، ومروان، وخالد، وإبراهيم، وإسحاق، وهارون، ومعاوية، وسليمان، وعثمان، فإنهم كانوا يكتبونها: الحرث، ومرون، وخلد، وإبراهيم، وإسحق، وهرون، ومعوية، وسليمن، وعثمن، وكذلك في غير أسماء الأعلام مثل: السماوات والصلاة وثمانية وثلاثين، والملائكة، وسبحانه، كانت تُكتب بِحذف الألف: السموت، والصلوة، وثمنية وثلثين، والملئكة، وسبحنه، ونحو ذلك. همزة (ابن) من القدماء من يَحذفها ومنهم من يثبتها سواء أكانت بين علمين أم لم تكن، ولذلك يَجب الالتزام بالرسم الحديث فتحذف الهمزة، إلَّا إذا جاءت في بداية السطر، أو بين علمين ليس أولهما ابنًا للثاني، وقبل الصفات المادحة مثل: ابن الحافظ، ابن الشيخ، ابن الإمام، أو قبل الأنساب مثل: ابن الدمشقي، ابن الدبيثي، ابن الأثير. من المحققين من أمثال: صلاح الدين المنجد في كتابه "قواعد تَحقيق

المخطوطات" من يرى فصل الأعداد فيثبت، سبع مئة، بدلًا من سبعمئة، أو سبعمائة، وثلاث مئة، بدلًا من ثلثمئة، أو ثلاثمائة، وكذلك إثبات اللف في الألفاظ المحذوفة ألفها مثل: لاكن، بدلًا من لكن، وهاذا بدلًا من هذا، وهاؤلاء بدلًا من هؤلاء، كما يفعل بعض أهل المغرب العربي حيث يثبتون هذه الألف. وعلى المحقق في كل الأحوال أن يُنبه في المقدمة عند وصف المخطوطة إلى الرسم المتبع والطريقة التي اتبعها في تبديله مع أنموذجات منه. المختصرات: وهناك رموز واختصارات لبعض الكلمات أو العبارات جاءت في المخطوطات القديمة، نرى أن تثبت كاملة ولا حاجة إلى هذه الاختصارات الآن إلَّا إذا تكررت كثيرًا، من ذلك الصلاة على النبي والترحم بعد ذكر المتوفي والترضي على الصحابة وألفاظ التحديث والأخبار والأنباء في إسناد الحديث، وهذه أهم المختصرات: تع: تعالى. رحه: رحمه الله. رضه: رضي الله عنه. رضي: رضي الله عنه. أمَّا الصلاة على النبي فيجب أن تكتب كاملة وقد كره الفقهاء اختصارها وقد اختصرها بعض العجم على هذا الشكل: (صلعم، ص م) أي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - و (ع م) أي عليه السلام. إلخ: إلى آخره. اهـ. انتهى.

ثنا: حدثنا. ثنى: حدثني. نا: حدثنا أو أخبرنا. أنا: أخبرنا. أنبا: أنبأنا. ش: الشرح. الشـ: الشارح. ع: موضع (استعمله صاحب القاموس ومن جاء بعده وكذلك المختصرات التالية). ج: جمع. جج: جمع الجمع. ججج: جمع الجمع الجمع. ة: قرية. وفي كتب الحديث جاءت اختصارات لأسماء الكتب الستة وغيرها، وهي: خ: البخاري، م: مسلم، ت: الترمذي، د: أَبو داود، ن: النسائي، ق: القزويني. ولهذه العلامات منزلة كبيرة في تيسير فهم النصوص وتعيين معانيها، فإذا وضعت في مواضعها وضح المعنى. الإشارات وعلامات الترقيم: توضع علامات الترقيم الحديثة في أماكنها من الكلام كالنقطة والفاصلة وعلامة الاستفهام، والتعجب والنقطتين وغيرها، وهذه العلامة مقتبسة

من نظام الطباعة الأوروبي، وكان لهذا أصلٌ في الكتابة العربية، فالنقطة في آخر الفقرة كانت ترسم مُجوفة هكذا (o)، وكان الناسخ يضعها لتفصل بين الأحاديث النبوية، وكان قارئ النسخة على الشيخ، أو معارضها على النسخ، يضع نقطة أخرى مصمتة داخل هذه الدائرة () ليدل بذلك على أنه انتهى من مراجعته إلى هذا الموضع، قال الخطيب البغدادي: كما نقل عنه ابن كثير في الباعث: "وينبغي أن يترك الدائرة غفلًا، فإذا قابلها نقط فيها نقطة"، فيجب وضع النقطة عند انتهاء المعاني في الجمل، وتوضع الفاصلة بين الجمل، ولا تستعمل النقطة مع الفاصلة، وتستعمل علامة الاستفهام عند السؤال وإشارة التعجب في موضعها، وتستعمل النقطتان بعد القول، وتوضع بعد قال الثانية إذا ورد قولان، مثل: (قال أَبو هريرة، قال ابن عباس: )، وتوضع النقاط إذا كان في الأصل خرم كل ثلاث نقاط مكان كلمة ( ... ). الأقوال والرموز: تستعمل الأقواس والخطوط والرموز على الوجه الآتي: - القوسان المزهران لِحصر الآيات القرآنية: {}. - علامة التنصيص وتحصر بينها النصوص المقتبسة وأسماء الكتب إذا وردت في النص: " ". - القوسان يستعملان في إبراز بعض الكلمات وإظهارها، ويحصران كذلك وجه الورقة وظهرها: (). - القوسان المربعان (العضادتان) يحصران ما يضاف من نصوص ثانية نقلت النص أو استشهدت به، وما يُضاف من تكملة أو عناوين جديدة: []. - الخطان القصيران يحصران الجملة المعترضة: --.

- الخطان العموديان المتقابلان يحصران كل زيادة تضاف من نسخة ثانية غير النسخة المعتمدة:// //. - القوسان المكسوران يحصران ما يضيفه الناشر من عنده حرف أو لفظ يقتضيه السياق: < >. ومن المحققين من يستعمل العضادتين في هذا الموضع وهو مصيب. - توضع كلمة (كذا) بين قوسين لما يبهم على المحقق قراءته ويثبت كما ورد، وبعضهم يضع علامة الاستفهام بين قوسين (؟ ) بدلًا من ذلك، والأول أشهر. - يرمز إلى كل نسخة من النسخ المخطوطة بحرف، يؤخذ من اسم صاحبها، أو من اسم المكتبة التي وجدت فيها، أو من اسم البلد الذي فيه المكتبة، كما يرمز إلى فئات المخطوطات بحروف مثل: فئة أ، فئة ب، فئة ج. الحواشي والتعليقات: للمحقق أن يكتب في الحواشي (الهوامش) ما تدعو إليه الضرورة التي تَخدم النص وتوضحه، وتزيل إبهامه، وتثريه بما يترجم لأعلامه، وما يربط فقره وأفكاره من إحالات وإشارات، وبيان للقراءات في النسخ، واختلافها وفروقها، وتوثيق النص بتخريج أشعاره ونصوصه من كتب التراث، وللمحقق طرائق في تنظيم الهوامش، من ذلك: أولًا: يكون الهامش في أسفل الصفحة، ويكتب بحرف مُخالف لِحرف المتن أصغر منه. ثانيًا: يكون اختلاف النسخ في حواشي صلب الكتاب، وتلحق بقية الهوامش بنهاية الكتاب، وحُجة من يفعل هذا، عدم إشغال القارئ بغير نص الكتاب ورأى المؤلف، وهذه هي طريقة أكثر المستشرقين.

ثالثًا: أن تُلحق الحواشي كلها، اختلاف النسخ والتعليقات بنهاية الكتاب. رابعًا: ومنهم من يَجعل الحواشي كلها أسفل الكتاب، اختلاف النسخ أولًا، والتعليقات ثانيًا، ويفصل بينهما خط والأفضل أن يكون الهامش في أسفل الصفحة، بما فيه اختلاف النسخ والتعليقات، اللهم إلَّا إذا كانت تراجم الأعلام كثيرة، فيمكن أن تفرد بملحق في آخر الكتاب وترتب ترتيبًا هجائيّا. ويتضح موقف المحققين من الحواشي والتعليقات في اتجاهات ثلاثة: الأول: فمنهم من يكتفي بذكر اختلاف النسخ فقط، وقلما يخدم النص بتعليق أو بيان أو توضيح، وهذا ما عليه جمهور المستشرقين ومن تابعهم في هذا النهج من العرب والمسلمين. الثاني: ومنهم من يكثر من التعليق والتفسير والشرح والإيضاح والتخريج، وإثقال الحواشي بنصوص ونقول كثيرة، حتى لتصبح الحاشية كتابًا آخر. الثالث: وفريق وسط يرى النمطين السابقين إفراطًا وتفريطًا، يَجعل في الهامش اختلاف النسخ، وبيان الفروق في القراءات، والتعليق، والترجمة للأعلام، والتنبيه على الأوهام، كل ذلك بقدر، بحيث يخدم النص ويوضحه ويثريه بالفوائد دون إثقال، وهذا هو المنهج الذي يرتضيه كثرة المحققين، ونراه صوابًا. إن التعليق مطلوب من المحقق في القضايا الضرورية التي توضح النص وتزيل عنه اللبس والوهم، وتصحح ما فيه من خطأ، ويُمكن أن نوجز النقاط التي يشملها التعليق فيما يأتي: أولا: التعريف بالمغمور والمبهم من أعلام الناس والبلدان، بالقدر

الذي يَخدم النص ويوضحه وييسر الانتفاع به، وعدم التعريف بالمشهورين كأعلام الخلفاء والملوك والأمراء والشعراء والكتاب، ولا ضرر إذا ذكرت سنوات الوفاة. ثانيًا: شرح الألفاظ الصعبة والغريبة التي تحوج إلى الرجوع إلى المعجمات. ثالثًا: توضيح الرموز والمصطلحات التي ترد في النص، مع بيان دلالتها في عصرها. رابعًا: تَخريج الأحاديث النبوية بالرجوع إلى كتب الحديث، مع بيان درجة الحديث من حيث الصحة والسقم، حتى لا تَختلط الأحاديث الموضوعة بالأحاديث الصحيحة، وذلك بالرجوع إلى كتب الحديث وكتب مصطلح الحديث. خامسًا: تَخريج الأشعار بالرجوع إلى دواوين الشعراء، وعند عدم وجود ديوان للشاعر الرجوع إلى كتب المختارات الشعرية ومَجاميع الشعر وكتب الأدب والشواهد. سادسًا: مقارنة النص المعتمد بالنصوص في الموضوعات المشابهة سواء ما كان لاحقًا به أو سابقًا عليه. سابعًا: نقد النص وبيان ما فيه من وهم أو خطأ، والإشارة إلى الصحيح بعد توثيقه بالأدلة الواضحة. التخريج: التخريج: توثيق النص وخدمته وتوضيحه، وذلك بتحديد مواطن النقول وضبطها وتصحيحها وإكمالها وعزو النصوص إلى أصحابها، وتتمة ما يقع في النص من نقص وخلل، أو وهم وخطأ، وتَخريج النص يبين صحته وسلامته، ويدل على مصادر المؤلف ونقوله، والمحدثون هم أشد

العلماء عناية بتخريج الأحاديث وإسنادها، وقد كانت كلمة التخريج، خاصة بالْحَديث النبوي، وقد توسع في استعمالها، وشاعت في العصر الحديث مع شيوع التحقيق وكثرته، ومن المحققين من يعدل عن هذه التسمية إلى تسمية أخرى هي (الرواية)، وينبغي التنبيه إلى أن التخريج يكون بالقدر الذي يَخدم النص وفيه فائدة وتوضيح وتقويم، مع عدم الإسراف بنقل الأخبار والروايات التي ليس لها صلة أو فائدة غير الإطالة والتكثير. والنصوص التي يحرص المحقق على تَخريجها هي: أولًا: الآيات القرآنية: ويرجع فيها إلى القرآن الكريم، ويُستعان لمعرفة السورة ورقم الآية بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي، يذكر اسم السورة ثم رقم الآية، ولا يَجوز ذكرَ رقم السورة فقط دون اسمها كما يفعل المستشرقون، وإذا ورد في النص خطأ في الآية يُصحح الخطأ ويُشار إليه في الهامش، ويرجع للتوثيق إلى القرآن الكريم، ولا يعتمد المحقق على ذاكرته، فكثيرًا ما تخون الذاكرة، أو يَختلط عليه فيحذف حرفًا أو يزيد. ثانيًا: الأحاديث النبوية: تُخَرَّج الأحاديث النبوية بالرجوع إلى صحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك، ويذكر الجزء والصفحة، ويُسمى الباب أيضًا، فإن لم يَجد فيها الحديث، يرجع إلى كتب السنن الأربعة (النسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة)، فإن لَم يَجد فيها الحديث فيرجع إلى كتب المسانيد مثل مسند أحمد، ومسند الدارمي وغيرها، ولأهمية الحديث ومنزلته في الشريعة الإسلامية ينبغي بيان درجة الحديث من الصحة

والضعف، حتى لا تشيع بين الناس الأحاديث الموضوعة، ويُستعان في معرفة مواضع الحديث بالرجوع إلى كتب الفهارس (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي عمله فنسنك ومنسنيج، و (مفتاح كنوز السنة) الذي عمله فنسنك وترجمه محمد فؤاد عبد الباقي، وكذلك كتاب (تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) لمحمد فؤاد عبد الباقي. ثالثًا: الشعر: تَخريج الأشعار والأرجاز بالرجوع إلى الدواوين، فإن لَم يكن للشاعر ديوان، يوجع إلى مَجاميع الشعر وكتب الأدب والنحو والنقد والبلاغة والتاريخ والبلدان، التي تستشهد بالشعر، وينسب الشعر إلى قائله إذا كان غير منسوب، وبين اختلاف الرواية، ويصحح النص وينبه إلى صوابه في الهامش، وإذا كان البيت مكسورًا أقامه، ومن المحققين من يحرص على بيان بحور الشعر، وبعض المحققين يكثر من التخريج بالإضافة إلى وجود الديوان، وفي هذا تكثير وإثقال للهوامش لا نفع فيه. رابعًا: الأمثال: تخرج الأمثال بالرجوع إلى كتب الأمثال، مثل: مَجمع الأمثال للميداني، والمستقصي للزمخشري، والفاخر للمفضل بن سلمة، وجمهرة الأمثال للعسكري، والأمثال للقاسم بن سلام، وأمثال العرب للضبي. خامسًا: المأثورات والنصوص المقتبسة: تخرج النصوص المقتبسة كالخطب والرسائل والوصايا والحِكَم، وهذه النصوص تكشف عن مصادر المؤلف التي نقل عنها، والكتب التي نقلت عن المؤلف أيضًا، وعلى ضوء هذه المصادر يوثق النص ويُصحح، ويبين

ما فيه من زيادة أو نقص أو تغيير، ويرجع في كل ذلك إلى كتب الأدب والأمالي والمجالس، والكتب التي طابعها جَمع الأخبار والحكايات والنوادر والأيام. نقد النص: إن عمل المحقق الأساسي هو ضبط النص وتوضيحه، والتنبيه إلى ما فيه من أغلاط وأوهام، وبيان الصواب من الخطأ، والتنبيه إلى الرأي الضعيف، وبيان الرأي الأقوى، معززًا ذلك بالأدلة والشواهد، وموثقًا رأيه بالمصادر المعتمدة، وهذا العمل الذي فيه ترجيح رأي بالدليل، وتقويم معوج، وتصويب خطأ، هو ما يدخل في باب نقد النص، ولا يقوم بهذا إلا المحقق المتمكن الحذر المدقق، الذي خبر النصوص وعرف دقائقها، بحيث لا يصبح نقد النص مركبًا ذلولًا تجرب فيه الآراء، وتطلق فيه الأحكام دون حجة بينة ودليل دافع، وإلا فليس لأحد أن ينقد نصّا معتمدًا على الذوق والمزاج، والرأي الفطير. والمحقق الجيد هو الذي يحيط بعلوم التراث ولغته وأدبه وله خبرة ومران بنصوصه ودقائقه، وهو الذي يستطيع الحكم على النصوص ونقدها، فيفيد بعمله هذا قارئ الكتاب والباحث والدارس، فيسهل عليهم الفائدة ويوفر لهم الجهد والوقت. تقديم النص: بعد الانتهاء من تحقيق الأصل المخطوط، واستكمال كل أسبابه، وإخراجه من المسودة إلى المبيضة، يكتب المحقق مقدمة يقدم فيها النص وتتضمن الآتي: أولأَ: التعريف بالمؤلف وإلقاء الضوء على عصره بالقدر الذي يتعلق بالمؤلف والكتاب، مع ذكر المصادر والمراجع التي ترجمت له.

ثانيًا: دراسة عن الكتاب وشأنه بين الكتب التي ألفت في موضوعه، والجديد الذي يتميز به الكتاب. ثالثًا: موضوع الكتاب وما ألف فيه قبله وبعده. رابعًا: وصف المخطوط الذي اعتمد عليه في النشر، ويتضمن الوصف النقاط الآتية: الأولى: ما أثبت على الورقة الأولى من اسم الكتاب واسم مؤلفه والتحقق من صحة اسم الكتاب ونسبته إلى مؤلفه. الثانية: تاريخ النسخ واسم الناسخ، ويُشار إلى من ترجم له إذا كان معروفًا. الثالثة: إذا كان الكتاب غفلًا من اسم المؤلف فيحاول المحقق عرفانه من الموضوع، والأسلوب، والأعلام المذكورة، ممن يذكر أنه رآهم أو اجتمعَ بهم، وإذا لَم يكن على الكتاب تاريخ نسخ، فيقدر عمر المخطوط بالخط والورق. الرابعة: عدد ورقات المخطوط وقياسها، وعدد السطور في الورقة وطول كل سطر، وما فيها من هوامش وأبعادها. الخامسة: نوع الخط الذي كتبت النسخة به، وهل كتبت النسخة بخط واحد أو خطين مختلفين. السادسة: الرسم الذي تبعه الناسخ، تذكر أنموذجات من الألفاظ التي سيبدل المحقق رسمها في النص. السابعة: المداد واختلاف ألوانه، فقد يكتب النص بالأسود، والعناوين بالأحمر، وقد تكون فواصل بالأحمر والأزرق، فيُشار إلى ذلك كله. الثامنة: الورق ونوعه.

التاسعة: التعقيبات، أي الكلمات التي تثبت في آخر كل صفحة لتدل على أول كلمة في الصفحة القادمة، وهي تدل على تتابع النص. العاشرة: التعليقات في الهوامش. الحادية عشرة: الإجازات (المناولات، إجازات الإقراء، إجازات السماع) ينوه بها في المقدمة ويثبت نصها في آخر الكتاب. الثانية عشرة: التملكات، أي من ذكر اسمهم من العلماء أو غيرهم الذي تملكوا المخطوطة. الثالثة عشرة: يثبت صورة الورقة الأولى والورقة الأخيرة، أو أى ورقة ثانية من الكتاب، ويُشار في ذيلها إلى موضعها من النص المطبوع، وإذا وجد خط المصنف فمن المستحسن وضع صورة عنه. الرابعة عشرة: إذا كانت النسخ التي اعتمدَ عليها عديدة فتثبت أوصافها. الخامسة عشرة: يعقب وصف النسخ قائمة بالرموز: رموز النسخ، ورموز الأقواس. ويحسن أيضًا أن يذكر المحقق منهجه في التحقيق، والعقبات التي اعترضته، وأية فوائد أخرى يرى أن من المفيد ذكرها، وينبغي أن يذكر بالخير من أعانه في مهمته من الباحثين والمحققين الذين أمدوه بمعلومة أو ساعدوه في الحصول على صورة لِمخطوط، أو غير ذلك. الفهارس: إن صنع الفهارس في الكتب العلمية ضرورة، وهى أكثر ضرورة في كتب التراث وإحيائه، والكتاب المجرد من الفهارس تقل فائدته وتصعب قراءته، والفهارس توفر الوقت والجهد وتيسر الفائدة، وهناك فهارس عامة لكل كتاب، وفهارس خاصة منبثقة من طبيعة الكتاب نفسه، حسب

ما يستوجبه موضوعه، وأهم هذه الفهارس: أولًا: فهرس الآيات القرآنية. ثانيًا: فهرس الأحاديث النبوية. ثالثًا: فهرس الأعمال. رابعًا: فهرس القبائل والأمم والجماعات. خامسًا: فهرس المواضع والبلدان. سادسًا: فهرس الأمثال. سابعًا: فهرس الشعر (القوافي والأرجاز والبحور). ثامنًا: فهرس الكتب الواردة في الكتاب. تاسعًا: فهرس المصطلحات الفنية والألفاظ الحضارية. عاشرًا: فهرس المفردات اللغوية. حادي عشر: فهرس المصادر والمراجع. ثاني عشر: فهرس موضوعات الكتاب. ويُمكن أن يُضاف في الكتب التاريخية فهرس للأحداث والسنين، وفي كتب الخيل فهرس لشيات الخيل وصفاتها، وفهرس لألفاظ البيطرة، وفي كتب اللغة فهرس للألفاظ التي لم ترد في المعاجم. مع ملاحظة أن بعض الناشرين يبالغ في صنع الفهارس، حتى لتطغى على الكتاب نفسه، فتقارب حجمه أو تزيد عليه، أما ترتيب الفهارس، فتقدم الفهارس المهمة التي لها صلة وثيقة بالكتاب، فكتاب في الأدب تقدم فهارس الشعر والمصطلحات الأدبية، وكتاب في البلاغة يقدم فهرس المصطلحات البلاغية، وكتاب في التراجم يقدم فهرس الأعلام، وهكذا ثم تأتي بعد ذلك الفهارس الأخرى مرتبة حسب أهميتها.

ومن الناشرين من يختصر هذه الفهارس جَميعًا في فهرس واحد هو كشاف للكتاب، فهو فهرس للأعلام والقبائل والمواضع والألفاظ الحضارية وغيرها، وقد يكون هذا نافعًا في الرسائل والكتب الصغيرة، أما في الكتب الكبيرة فهو قليل الفائدة ولا يُغني شيئًا. أولويات التحقيق: التراث العربي المخطوط ثروة نفيسة، تُمثل فكر الأمة وتاريخها وحياتها، وهو موزع في مكتبات العالم شرقيها وغربيها، وفي هذا التراث الضخم مَخطوطات قديمة نادرة، يرجع عهدها إلى القرون الهجرية الأولَى، ويرجع الكثير منها إلى زمن التأليف والنضج الفكرى في العصور العباسية في القرون الثالث والرابع والخامس، ويتضاعف عددها في القرون المتأخرة. وحين بدأت الأمة العربية تنهض من سباتها بعد العصر العثماني، التفت فريق من العلماء لأهمية إحياء هذا التراث العزيز، ورأوا أن المستشرقين قد نشطوا في تَحقيق التراث العربي، مستخدمين الطريقة العلمانية في النشر، فكان أول كتاب طبع هو القرآن الكريم، طبع في البندقية سنة (1530 م)، ثم طبع كتاب الكافية في النحو لابن الحاجب (عثمان بن عمرو ت 646 هـ)، طبع في روما سنة (1000 هـ)، (1592 م)، أما أول كتاب يصح أن يُسمى تَحقيقًا فهو كتاب الفلاحة لابن العوام الإشبيلي (ق 6 هـ) حققه جوزيف بانكري وطبع في مدريد سنة (1217 هـ) (1802 م)، ثم حقق جارلس لايل شرح ديوان الحماسة للتبريزي (ت 502 هـ)، وطبع في بون سنة (1828 م)، وحقق وليم رايت كتاب الكامل للمبرد (ت 286 هـ) ونشر في لندن سنة (1860 م)، وحقق وستنفيلد كتاب الاشتقاق لابن دريد (ت 321 هـ)، ونشر في كوتنكن سنة (1853 هـ)، ثم كثر التحقيق بعد ذلك.

فأقبلوا على تَحقيق التراث ونشره، فمن أوائل الكتب التي نشرت وفق تَحقيق علمي جيد: كتاب الإكليل للهمداني (ت 521 هـ)، حققه الأب أنستاس ماري الكرملي، ونشر في بغداد سنة (1931 م)، وكتاب نخب الذخائر في أصول الجواهر لابن الأكفاني (ت 749 هـ)، حققه الكرملي أيضًا، ونشر في بغداد سنة (1939 م)، وكتاب إمتاع الأسماع للمقريزي (ت 845 هـ) حققه الأستاذ محمود شاكر، ونشر في القاهرة سنة (1941 م)، ورسائل الجاحظ حققها طه الحاجري وكراوس ونشرت في مصر سنة (1943 م)، وكتاب الديارات للشبابشتي (ت 388 هـ) حققه كوركيس عواد ونشر ببغداد سنة (1951 م) وغيرها من الكتب التي تعتبر من أوائل التحقيق العربي. ويتساءل الباحثون ماذا نحقق من هذا التراث الضخم، لا شك أن التراث كله عزيز ونفيس، وحقيق بالنشر، ولا يَخلو أي كتاب منه من فائدة، سواء أكانت هذه الفائدة علمية، أم تاريخية، أم لها دلالة على العصر، أم فيها فائدة تدل على صناعة وخبرة من خلال ما يستنبط من الخط والورق والحبر، وحتى في المخطوطات التي يظن فيها ضرر أو سلبيات، ففيها فوائد تستنتج وفيها دلالات على العصر، ولها نفع تاريخي أو اجتماعي، ولكن يبقى السؤال: من أين نبدأ، وأي المخطوطات أولى بالتقدم ولها الأولوية؟ قال فريق من أهل العلم كما نقل صاحب "فتح المغيث": أنه لا حاجة بنشر مَخطوط ما لم يكن فيه جدة وإبداع وابتكار، وقد سبق بعض المتقدمين فنادى بهذا الرأي وهو القاضي ابن العربي، إذ قال في صفة الكتاب الجيد: "إمَّا أن يخترع معنى، أو يبتدع وضعًا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق والتحلي بحلية السَّرَق"، ولا شك أن المخطوطات القديمة التي كتبها علماء القرن الثاني والثالث لها الصدارة،

لقدمها ولأن العلم كان في شبابه، وكان فيه طابع الجدة والابتكار، وكلما تأخر العصر كثر التكرار وغلبت الشروح والمختصرات، ولكن هل هذا حكم عام؟ لا أظن ذلك، فقد يكون للمتأخر فضل على المتقدم بما يفيد من علم الأوائل، ويضيف إلى الخبرات الناضجة والعلم الرصين. إن المخطوطات التي وصلت بخط مؤلفيها، وخاصة إذا كان المؤلف من العلماء المعروفين المتميزين، أو كتبها علماء معروفون، هذه المخطوطات لها مكانة خاصة، وهناك كتب متأخرة حفظت وجمعت معلومات ونصوصًا من كتب قديمة فُقدت أصولها، وقد عرف بعض المؤلفين بتضمين مؤلفاتهم رسائل وكتبًا وأشعارًا كثيرة، من أولئك ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة الذي ضمَّن كتابه كتبًا كثيرة، وكذلك فعل البغدادي في خزانة الأدب، فهذه الكتب لا يقعد بها تأخرها، بل لها الفضلُ في حفظ ما ضاعَ من كتب قيمة قديمة، ولذلك فهي تأتي في أهمية النشر بالمرتبة الثانية بعد كتب الصدر الأول. وهناك كتب لمصنفين تناولت موضوعات سبق إليها الأولون وطرقها غيرهم من المؤلفين، ولكنها تَمتاز عن سابقاتها بحسن العرض وجودة المعنى وبراعة التنسيق، والترتيب، بالإضافة إلى أنها تصحح أخطاء السابقين، وتستدرك عليهم، وتشرح الغامض المستغلق، وتجمع المتفرق، وتتم الناقص، فهذه الكتب تفضل ما سبقها من الموجز أو المخل أو المبهم أو المستغلق، ولهذه الكتب منزلة وتأتي في المرتبة الثالثة في أولويات التحقيق والنشر. وهناك ضربُ رابع ممَّا يَجب أن يولي عناية في التحقيق، تلك الكتب النافعة التي طبعت طباعة رديئة، ولم يرجع ناشروها إلى النسخ المخطوطة، وظهرت ناقصة ومملوءة بالأخطاء والأوهام، وتكون الفائدة منها قاصرة، هذه الكتب إذا توافرت نسخها المخطوطة أهل للعناية

والتحقيق العلمي الجيد، إن نشر هذه الكتب لا يحول دون بذل العناية في تَحقيقها ونشرها مرة أخرى. على أن من المهم أن ننبه إلى أن من الخطأ أن تترك المخطوطات ذات الموضوعات الجيدة النافعة، وينشر ما دونها من موضوعات متأخرة مكررة، ومن الخطأ أيضًا أن يترك كتاب متوافر نسخه وينشر مُختصر أو شرح له. وفي حالات كثيرة يحجم المحققون عن تناول مَخطوطات مهمة بحجة كبر حجمها أو صعوبة خطها، كأن يكون الخط مغربيّا أو أندلسيّا، فإن المران والدربة والأنفة تيسر الصعب وتقرب البعيد. ثقافة المحقق وعُدَّته: ينبغي لِمن يتصدى للتحقيق أن يكون على مستوى علمي وثقافي ولغوي متميز، وخاصة في الموضوع الذي يُحققه، ملمًا بعلومه، عارفًا بمصطلحاته، مطلعًا على كتبه ومصادره، ضليعًا باللغة والنحو، خبيرًا بَالكشف عن المفردات وأنواعها وأزمانها، وبالورق وأنواعه وصناعته، فمن يتول نشر كتاب أدبي يَجب أن يكون ملمًا بقضايا الأدب، وعصوره، ورجاله، وشعرائه، وأساليب الأدباء، قارئًا للشعر، ضابطًا لعروضه، خبيرًا بمصادره، ومن يتول نشر كتاب من كتب التاريخ والأخبار يَحسن أن يكون مطلعًا على العصور التاريخية، عارفًا بأحداثها، متقنًا لتراجم الرجال والقبائل والأنساب، خبيرًا بأسماء المواضع والمدن والمعارك قارئًا لكتب الحضارة مدققًا فيها محيطًا بمصادر التاريخ مَخطوطها ومطبوعها، وكذلك الحال فيمن يتصدى لتحقيق كتاب في الخيل والبيطرة والبيزرة أن يكون خبيرًا بهذه العلوم كثير الاطلاع على كتبها، وهكذا الحال في كل علم وفن، ولكل علم ثقافته وخبرته وأدواته. وعلى هذا فعلى من يعتزم نشر كتاب أن يلم بموضوعه ويدرس الكتب

التي تعالج الموضوع نفسه، أو الموضوعات المشابهة له، حتى تكون له خبرة بهذا العلم، ويستطيع بعدها أن يفهم نصوصه، ويقف على مصطلحاته فيتجنب المزالق والأخطاء التي قد يقع فيها من يظن الخطأ صوابًا، والصواب خطأ. وقبل البدء بالتحقيق ونسخ الأصول، ينبغي قراءة المخطوطة والتمرس بها، والتعود على رسم حروفها، وخط الناسخ، وخاصة الخطوط المغربية والأندلسية، فإن لها رسمًا خاصّا متميزًا، ولكل كاتب طريقة في رسم الحروف والكلمات، فينبغي التعود على طريقة الناسخ ومقارنة الحروف بعضها ببعض وفق مواضعها من الكلمة، ومعرفة كيفية وضع النقط والكلمات المهملة والمعجمة، فكثير من المخطوطات تهمل إعجام بعض الكلمات، حتى في العصور المتأخرة. وينبغي كذلك التمرس بأسلوب المؤلف، وذلك بقراءة المخطوطة مرات حتى يقف على صفات أسلوبه وخصائصه، ولكل مؤلف لوازم لفظية وعبارات تتكرر، وينبغي أيضًا أن يطلع على كتب المؤلف الأخرى، ليزداد خبرة بأسلوبه واهتماماته، وقد يَجد في تلك الكتب نصوصًا متشابهة ونقولًا متكررة، وإشارات تدل على شخصية المؤلف وثقافته. بعد أن يَجمع المحقق كل ما تصل إليه يده من نسخ الكتاب المخطوطة، ويصنفها إلى مراتب، ويقرأها قراءة جيدة متمرسة، ويلم بأسلوب المؤلف وبموضوع الكتاب، يستطيع بعدها أن يمضي في تَحقيق الكتاب على بينة وهدي وبصيرة. لابد للمحقق أن تكون له مكتبة ثرية بالمصادر والمراجع الأساسية، وخاصة المعجمات، وأن تكون بين يديه عند التحقيق، والكتب التي ينبغي أن تكون بين يدى المحقق هي:

أولًا: كتب المؤلف نفسه المخطوط منها والمطبوع. ثانيًا: شروح الكتاب ومُختصراته، يستعين بها في القراءة والمقابلة، والأفضل أن يرجع إلى الأصول المخطوطة لهذه الشروح والمختصرات، ولا يعتمد على المطبوع، إلَّا إذا كان مُحقق المطبوع من المحققين الثقات. ثالثًا: الكتب التي اعتمدت في تأليفها على الكتاب المراد تَحقيقه، فهي تَحتفظ بنقول ونصوص من الكتاب تعين على فهم الأصل وتوضيحه، وقد تسد ما ضاع منه وما سقط. رابعًا: الكتب التي استقى منها المؤلف، فهي كذلك تعين على فهم النص وتوضيحه وتقييمه، وبعض المؤلفين يذكرون المصادر التي انتفعوا بها، أو نقلوا عنها، وبعضهم يعتمد على كتاب أو كتب دون أن يُشير إليها، كما فعل التبريزي في نقله معظم شرحه للحماسة من شرح المرزوقي، وكذلك في شرحه للقصائد العشر، حيث اعتمدَ في شرحه على شرح ابن الأنباري للمعلقات. خامسًا: الكتب المعاصرة للمؤلف التي تعالج الموضوع نفسه، أو موضوعًا قريبًا منه. سادسًا: أن تكون للمحقق خبرة بمصادر التراث يستعين بها على التوثيق والمراجعة والتعليق والتخريج والتفسير والترجمة. ولهذا كله قلنا في مقدمتنا هذه: "إن التحقيق من صنعة الكبار". ولضخامة هذا العمل وأهميته سلك كبار المحققين المعاصرين هذا المنهج من أمثال العلامة محمد حامد الفقي، والعلامة أحمد شاكر، والعلامة عبد السلام هارون، والعلامة محمد أَبو الفضل إبراهيم، وشيخنا العلامة محمد رشاد سالم، وشيخنا العلامة محمود شاكر، وغيرهم من أهل العلم والفضل.

وهذا؛ ونَجد من طلبة العلم من ينحى منحى أولئك الذين سبق ذكرهم ليلحق بركبهم، ويتأسى بهم في النهج الذي رسموه للتحقيق، ومن هؤلاء الطلبة الأخ: أحمد بن علي الدمياطي، سلمه الله وحفظه من كل سوء. فحقق هذا المنهج في تحقيقه لكتاب الرجراجى المسمى: "مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة، وحل مشكلاتها". وها هو -حفظه الله- يُخرج لنا كتابًا آخر للإمام "عبد الرحيم الإسنوي" المسمى بـ (المهمات في شرح الروضة والرافعي) وهو الكتاب الذي نحن بصدد كتابة المقدمة له. فضبط نصه من مخطوطه، وخرج أحاديثه ووثق أصوله، فجزاه الله خيرًا على هذا الجهد الذي كانت نتيجته إخراج سفر في الفقه لم يخرج من قبل، فلو لم يفعل إلا هذا لكفاه فأحسن الله إليه وسدد خطاه ووفقه لِما يُحبه ويرضاه. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلي الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. فجر يوم الأربعاء الرابع من رجب لعام ثمان وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق الثامن عشر من شهر يوليو لعام ألفي وسبعة من الميلاد كتبه أحمد بن منصور آل سبالك حفظه الله

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة المحقق إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد، فقد يسر الله تبارك وتعالى لنا تحقيق كتاب: "السراج على نكت المنهاج" لشهاب الدين ابن النقيب -رحمه الله- في الفقه الشافعي وفي أثناء تحقيقه وقعت على نسخة من "كتاب المهمات في شرح الروضة والرافعي" لعبد الرحيم الأسنوي -رحمه الله تعالى- فدهشني أسلوب الأسنوي وتعليقاته واستدراكاته، مما دفعني إلى جمع نسخه وتحقيقه وإخراجه، وقدر الله سبحانه وتعالى أن قابلت فضيلة الشيخ العلامة محدث الديار المصرية أبي إسحاق الحويني -حفظه الله تعالى- وكان ذلك في عام 1427 هـ، ودار بيني وبين فضيلته حديث مختصر حول بعض ألفاظ النووي واصطلاحاته في "شرح مسلم" وغيره، وقال الشيخ: إن الشيخ الألباني كان يقدم المذهب الشافعي على باقي المذاهب في الجملة، فأخبرته أني أعمل على كتاب "المهمات"، فقال: مهمات الأسنوي؟

قلت: نعم، فقال: هذا الكتاب من أقوى كتب الشافعية، أو كلمة في معناها، مما زاد من اهتمامي بالكتاب وقوى من حرصي على إخراجه. وقابلت بعده فضيلة الشيخ العلامة الفقيه الأصولي الأستاذ الدكتور/ أحمد بن منصور آل سبالك -حفظه الله تعالى- فأخبرته بكتاب "المهمات" هذا، فشجعني -حفظه الله- على إخراجه في أقرب وقت، وعرضت عليه منهجي في التحقيق فأقره -حفظه الله- ثم سألته أن يقدم للكتاب فأكرمنا بالوافقة، فقدم له بتلك المقدمة الثمينة والتي تحدث فيها عن التحقيق ومقوماته في القديم والحديث، فجزاه الله خير الجزاء، ولا يفوتني أنني دفعت للشيخ أبي إسحاق الحويني -حفظه الله- جزئين من الكتاب كي يرشدني بملاحظاته وتعليقاته لكني لم أوفق في تحصيله بعدها وذلك لكثرة أشغاله، وإني كنت قد فرغت من الكتاب، ولم تصلني ملاحظاته فعجلت بإخراج الكتاب رجاء النفع به، وإن كان هناك من ملاحظات أو تنبيهات من شيوخنا الأفاضل أرجو أن أضعها في عين الاعتبار في طبعة قادمة إن شاء الله تعالى. وكان عملي في كتاب "المهمات" أن قمت بنسخ أصله الخطي، وضبط نصه، وتوثيقه، وتخريج آياته، وأحاديثه، وعزو الأقوال إلى مصادرها الأولى ما استطعت، وعمل ترجمة للمؤلف، وفهارس علمية شاملة، ولم أكثر من الحواشي والتعليقات على كتاب "المهمات" ذلك لأن غرضي هو إخراج الكتاب على مراد مؤلفه -رحمه الله- من غير تحريف أو تصحيف، وهناك سبب آخر وهو أني انتهيت من تحقيق كتاب "التعقبات على المهمات" لابن العماد -رحمه الله- وكتاب "مختصر الملمات برد المهمات" لتلميذ علم الدين البلقيني -رحم الله الجميع- فرأيت أنهما قد أتيا على كل ما يحتاج إلى تعليق وتنبيه، فاكتفيت بهما. وفي الختام، أتقدم بخالص الشكر والتقدير لشيخنا العلامة الأستاذ

الدكتور/ أحمد بن منصور آل سبالك، ولشيخنا العلامة المحدث أبي إسحاق الحويني -حفظهما الله تعالى. آمين. وأسأل الله أن ينفع بهذا العمل مؤلفه وقارئه ومحققه وناشره وكل من ساهم في إخراجه، وأن يجعله في ميزان حسناتنا يوم أن نلقاه، آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين. وكتبه أَبو الفضل الدمياطي أحمد بن علي بثغر دمياط حرسه الله

ترجمة الإمام الرافعي

ترجمة الإمام الرافعي اسمه: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن القزويني الإمام الجليل أَبو القاسم الرافعي. مولده: ولد -رحمه الله تعالى- سنة سبع وخمسين وخمسمائة. شيوخه: سمع الحديث من جماعة منهم: أبوه، وأبو حامد عبد الله بن أبي الفتوح بن عثمان العمراني، والخطيب أَبو نصر حامد بن محمود الماوراء النهري، والحافظ أَبو العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمذاني، ومحمد ابن عبد الباقي بن البطي، والإمام أَبو سليمان أحمد بن حسنويه، وغيرهم، وحدث بالإجازة عن أبي زرعة المقدسي وغيره. تلاميذه: روى عنه: ابنه الإمام عزيز الدين محمد، والحافظ زكى المنذري في معجمه، وأبو الثناء محمود الطاوسي. تصانيفه: "الشرح الكبير" المسمى بالعزيز، وقد تورع بعضهم عن إطلاق لفظ العزيز مجردا على غير كتاب الله فقال: الفتح العزيز في شرح الوجيز. و"الشرح الصغير" و"المحرر" و"شرح الشافعي" و"التذنيب" و"الأمالي الشارحة على مفردات الفاتحة" وهو ثلاثون مجلسا أملاها أحاديث بأسانيده عن أشياخه على سورة الفاتحة وتكلم عليها. وله "كتاب الإيجاز في أخطار الحجاز" ذكر أنه أوراق يسيرة ذكر فيها

مباحث وفوائد خطرت له في سفره إلى الحج، وكان الصواب أن يقول: خطرات أو خواطر الحجاز ولعله قال ذلك والخطأ من الناقل. و"كتاب المحمود" في الفقه لم يتمه ذكر لي أنه في غاية البسط، وأنه وصل فيه إلى أثناء الصلاة في ثمان مجلدات. قال السبكي: قلت: وقد أشار إليه الرافعي في "الشرح الكبير" في باب الحيض أظنه عند الكلام في المتحيرة وكفاه بـ"الفتح العزيز" شرفا فلقد علا به عنان السماء مقدارا وما اكتفي فإنه الذي لم يصنف مثله في مذهب من المذاهب ولم يشرق على الأمة كضيائه في ظلام الغياهب. ثناء العلماء عليه: قال السبكي: كان الإمام الرافعي متضلعا من علوم الشريعة تفسيرا وحديثا وأصولا مترفعا على أبناء جنسه في زمانه نقلا وبحثا وإرشادا وتحصيلا، وأما الفقه فهو فيه عمدة المحققين وأستاذ المصنفين كأنما كان الفقه ميتا فأحياه وأنشره وأقام عماده بعدما أماته الجهل فأقبره، كان فيه بدرا يتوارى عنه البدر إذا دارت به دائرته والشمس إذا ضمها أوجها وجوادا لا يلحقه الجواد إذا سلك طرقا ينقل فيها أقوالا ويخرج أوجها فكأنما عناه البحتري بقوله: وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجا فى كتبه باللفظ يقرب فهمه فى بعده ... منا ويبعد نيله فى قربه حكم سحابتها خلال بيانه ... هطالة وقليبها فى قلبه كالروض مؤتلقا بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه وكان -رحمه الله- ورعا زاهدا تقيا نقيا طاهر الذيل مراقبا لله، له السيرة الرضية المرضية والطريقة الزكية والكرامات الباهرة.

وقال ابن الصلاح: أظن أني لم أر في بلاد العجم مثله. قال السبكي: قلت: لا شك في ذلك. وقال النووي: الرافعي من الصالحين المتمكنين له كرامات كثيرة. وقال أَبو عبد الله محمد بن محمد الإسفرايني: هو شيخنا إمام الدين وناصر السنة كان أوحد عصره في العلوم الدينية أصولا وفروعا، مجتهد زمانه في المذهب فريد وقته في التفسير كان له مجلس بقزوين للتفسير ولتسميع الحديث. وفاته: قال السبكي: نقلت من خط الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي نقلت من خط الحافظ علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد البرزالي، نقلت من خط الشيخ الإمام تاج الدين بن الفركاح أن القاضي شمس الدين بن خلكان حدثه أن الإمام الرافعي توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة.

ترجمة الإمام النووي

ترجمة الإمام النووي اسمه ونسبه: هو يحيى بن شرف بن مُرِي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام الحوراني أَبو زكريا محيى الدين الدمشقي الشافعي، فاسمه يحيى، ونسبه ينتهى إلى جده الأعلى حزام. وكنيته: أَبو زكريا، وأما لقبه فهو محيي الدين، وقد اشتهر تلقيبه بذلك في حياته، فلا يكاد يذكر اسمه إلا مقرونًا بلقبه مع أنه كان يكره أن يلقب به. قال اللخمي: وصح أن قال: لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين، وذلك منه على ما نشأ عليه من التواضع، وإلا فهو جدير به لما أحيا الله به من سنن، وأمات به من بدع، وأقام به من معروف، ودفع به من منكر، وما نفع الله به المسلمين من مؤلفات، ولكن يأبى الله إلا أن يظهر هذا اللقب له عرفانًا بحقه، وإشادة بذكره. مولده ونشأته: اتفق المؤرخون على تحديد شهر محرم من عام واحد وثلاثين وستمائة للهجرة لزمن ولادته. ولكن منهم من أراد أن يحدد تحديدًا أدق من ذلك، ولما لم تسعفهم المراجع إلى تحديد اليوم الذي ولد فيه عدلوا إلى تقريبه، وذلك بتحديد أي عقود هذا الشهر كانت ولادته فيه. نشأته: كانت حياة النووي في صباه لم تعرف له صبوة فقد كان كثير الشغف بالقرآن كثير التلاوة له ولا يلهيه عنه شئ. وقال اليونيني واصفًا له: كان كثير التلاوة للقرآن العزيز، والذكر لله تعالى معرضًا عن الدنيا، مقبلًا على الآخرة من حال ترعرعه.

العوامل التي أدت إلى تكون شخصيته: وهي نوعان: الأول: عوامل عادية. الثاني: عوامل دينية. أمَّا عن النوع الأول: وهى العوامل العادية، فهي عوامل تجري على أمثاله من طلاب العلم، غير أنها تختلف من شخص لآخر في التطبيق كاختلافهم في المقاصد، والغايات، وهي: 1 - رحلته لطلب العلم. 2 - حلوله بالمدرسة الرَّواحية. 3 - اجتهاده في طلب العلم. 4 - كثرة دروسه وسماعاته. 5 - قوة حفظه، وكثرة مطالعاته. 6 - جلالة شيوخه، وعنايتهم به. 7 - توفر الكتب لديه. 8 - اشتغاله بالتدريس. وأما النوع الثاني: فهي عوامل غير عادية، وإنما وهبها الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده كما قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة]، ولكن رهن إيتاء الحكمة بتقوى الله ومراقبته حيث قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة]. رحلته لطلب العلم واجتهاده فيه: ذهب به أبوه إلى دمشق لنيل العلم من معينه الصافي، ومورده الشافي، وكان ذلك في عام تسع وأربعين وستمائة، وكان عمره آنذاك تسع عشرة سنة، وهذا على ما ترجمه السخاوي، والسيوطي، والذي يقتضيه الحساب أن يكون عمره حينئذ ثماني عشرة سنة.

فقصد به الجامع الأموي ونزله فلقى فيه خطيب الجامع، وإمامه الشيخ جمال الدين عبد الكافي بن عبد الملك الربعي الدمشقي، فتوجه بالنووي إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء الفزاري المعروف بابن الفركاح. فطفق عندئذ يشمر عن ساعد الجد في طلب العلم فحفظ "التنبيه" في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع "المهذب" حفظًا في باقي السنة على شيخه الكمال بن أحمد. ثم جمع مع أبيه، وأقام بالمدينة شهرًا ونصفًا ومرض أكثر الطريق. فذكر الشيخ أَبو الحسن بن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنى عشر درسًا على مشايخه شرحًا وتصحيحًا: درسين في الوسيط، وثالثا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، وخامسا في صحيح مسلم، ودرس في اللمع لابن جني في النحو، ودرسا في إصلاح المنطق لابن السكِّيت في اللغة، ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه تارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين، وقال النووي عن نفسه فيما يرويه عنه ابن العطار: إنه كان لا يضيع له وقتًا لا في ليل ولا في نهار حتى فى الطريق، وأنه دام ست سنين. ثم أخذ في التصنيف، والإفادة، والنصيحة. زهده وورعه: قد نال الإمام النووي غاية الزهد، ووصل إلى ذروته، فكان فيه رأسًا لا يبارى قد حقق شروطه، وأدرك غايته، وأخرج الدنيا من قلبه جملة. ولم يجعل لنفسه إلا ما تقوم به بنيته ليحقق عبوديته، فلقد عزل في تضييق عيشه في أكله، ولباسه، وجميع أحواله، وقال له عاذله: أخشى عليك مرضًا يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده قال: فقال لي: إن فلانًا صام، وعبد الله تعالى حتى اخضر عظمه. قال عاذله: فعرفت أنه ليس له غرض في

المنام في دارنا، ولا الالتفات إلى ما نحن فيه. ترك النووي جميع ملاذ الدنيا من المأكول إلا ما يأتيه به أبوه من كعك يابس وتين حوراني، ولم يلبس من الثياب إلا المرقعة. ورحم الله اليونيني؛ إذ يقول: والذي أظهره وقدمه على أقرانه، ومن هو أفقه منه كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته، وورعه. وقد كان من ورعه أن كان لا يأكل من فاكهة دمشق بحجة أنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعًا، ولا يجوز المتصرف في ذلك إلا على وجه الغبطة، والمصلحة. ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء، قال: فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. شيوخه: أمَّا المحدثون فمنهم: الشيخ الإمام القاضي الخطيب عماد الدين عبد الكريم بن القاضي جمال الدين عبد الصمد بن محمد المعروف بابن الحرستاني، ومنهم شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري الألوسي الدمشقي الأصل، ثم الحموي الدار والوفاة، الشافعي المذهب، ومنهم الحافظ الزَّين خالد بن يوسف بن سعد بن حسن بن مفرج أَبو البقاء النابلسي. ثم الدمشقي، ومنهم ابن البرهان العدل الصَّدر رضى الدين أَبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمرو ابن مضر بن فارس المضري الواسطي السفار التاجر المعروف بابن البرهان، ومنهم الإمام الزاهد ضياء الدين أَبو إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي، ثم المصري، ثم الدمشقي. وأما شيوخه في الفقه، فمنهم: الإمام كمال الدين أَبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، ومنهم الإمام العلامة مفتي الشام كمال الدين أَبو الفضائل سلَّار بن الحسن بن عمر بن سعيد الأربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي، ومنهم شيخ الإسلام الفقيه أَبو

محمد عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري الشافعي تاج الدين الملقب بالفركاح. ومن مشايخه في الأصول: القاضي أَبو الفتح كمال الدين عمر بن بندار بن عمر التفليسي. ومن مشايخه في اللغة: أَبو العباس جمال الدين أحمد بن سالم المصري النحوي نزيل دمشق، ومنهم العلامة حجة العرب جمال الدين أَبو عبد الله محمد عبد الله بن مالك الطائي الجياني. تلاميذه: تخرج على يديه جماعة من العلماء منهم علاء الدين بن العطار، والحافظ المزي، وابن النقيب، وخطيب داريا أَبو الربيع الهاشمي، وابن أبي الدر. ثناء العلماء عليه: قد أثنى على النووي كثير من أهل العلم، ولكني قد اقتصرت في هذه المقدمة على جمل قليلة مما قيل في حقه، فمنها ثناء الشيخ شمس الدين محمد ابن الفخر عبد الرحمن بن يوسف البعلي بقوله: كان إمامًا بارعًا حافظا متقنًا. أتقن علومًا شتى، وصنف التصانيف الجمة مع شدة الورع، والزهد، وكان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر على الأمراء، والملوك، والناس عامة. وأيضًا ثناء الشيخ قطب الدين موسى اليونيني الحنبلي بقوله: المحدث الزاهد العابد الورع المفتخر في العلوم صاحب التصانيف المفيدة، كان أوحد زمانه في الورع والعبادة والتقلل من الدنيا، والإكباب على الإفادة والتصنيف مع شدة التواضع، وخشونة الملبس، والمأكل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقال عنه الذهبي في "تاريخ الإسلام": مفتي الأمة شيخ الإسلام الحافظ النبيه الزاهد أحد الأعلام علم الأولياء، وقال في تذكرة الحفاظ: الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء صاحب التصانيف المفيدة.

مصنفاته: من مؤلفاته الفقهية: 1 - الأصول والضوابط. وهو مطبوع. 2 - الإيضاح في المناسك. وقد طبع عدة طبعات. 3 - التحقيق ولا يزال مخطوطًا، وله صورة في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية. 4 - دقائق المنهاج. وقد طبع. 5 - روضة الطالبين وعمدة المفتين. 6 - الفتاوى. وقد طبع عدة طبعات. 7 - المجموع. 8 - منهاج الطالبين. ومن الكتب التربوية: 1 - الأذكار. وقد طبع عدة طبعات. 2 - بستان العارفين. 3 - التبيان في آداب حملة القرآن. 4 - الترخيص بالقيام. وقد طبع. 5 - حزب أدعية وأذكار. وقد طبع عدة طبعات. كتب التراجم واللغة: 1 - منتخب طبقات الشافعية. وهو تحت الطبع. 2 - تهذيب الأسماء واللغات. وقد طبع عدة طبعات. 3 - تحرير التنبيه. وهو لا يزال مخطوطا. ومن مؤلفاته في علم الحديث رواية: 1 - الأربعين النووية. وقد طبع عدة طبعات. 2 - خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام.

3 - رياض الصالحين. وقد تم طبعه عدة طبعات. ومن مؤلفاته في علم الحديث دراية: 1 - شرح البخاري وهو من آخر مؤلفاته التي حالت المنية دون إتمامها. 2 - شرح مسلم والمسمى "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج"، وقد أشار إليه في تهذيب الأسماء وفي شرح البخاري وفي بستان العارفين واشتهر هذا الكتاب باسم شرح مسلم، وذكر له بروكلمان إضافة إلى هذا الاسم اسمًا آخر وهو "منهاج المحدثين وسبيل تلبية المحققين"، ولعل هذا اسمه الكامل والباعث له على وضع هذا الشرح العظيم فهو المشاركة في العناية بعلم الحديث الشريف. ومنهجه فيه هو التوسط بين المختصرات والمبسوطات. وقد عمل فيه على بسط المقصود من الحديث إذا تكرر في أول مواضعه مع التنبيه عليه أنه قد تقدم شرحه، وإظهار المشكل ومن معاني الكلمات، وأسماء الرجال، واعتنى فيه بضبط الأعلام، وبالفروع الفقهية. وأما عن كتبه المخطوطة فمنها: - الإيجاز في المناسك. - الإيجاز قطعة من شرح أبي داود. - آداب المفتي والمستفتي. - قطعة من الأحكام. - تحفة طلاب الفضائل. - جامع السنة. - جزء في الاستسقاء. - روح السائل في الفروع. - العمدة في تصحيح التنبيه. - تحفة الوالد وبغية الرائد.

- أجوبة عن أحاديث سئل عنها. - مختصر الترمذي. - مختصر البسملة لأبي شامة. - مختصر صحيح مسلم. - مختصر أسد الغابة لابن الأثير. - نكت المهذب. - نكت التنبيه. - مرآة الزمان في تاريخ الأعيان. - ولا يزال غير هذا الكثير من الكتب المخطوطة التي خلفها لنا هذا الإمام الجليل -رحمه الله-. وفاته: سافر الشيخ عليه رحمه الله فزار بيت المقدس، وعاد إلى نوى، فمرض عند والده فحضرته المنية، ولم يكن حظه من هذه الحياة إلا قليلًا جدًا، فقد انتقل إلى رحمة الله في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة للهجرة، وخرج من الدنيا، وكأنَّه لم يكن من أهلها؛ إذ لم يمتع فيها بشئ معين، ولا غرو في ذلك فهي سجن المؤمن وجنة الكافر.

ترجمة العلامة عبد الرحيم الإسنوي

ترجمة العلامة عبد الرحيم الإسنوي اسمه ونسبه: عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الإمام العلامة منقح الألفاظ محقق المعاني، ذو التصانيف المشهورة المفيدة جمال الدين أَبو محمد القرشي الأموي الإسنوي المصري. مولده: ولد بإسنا في رجب سنة أربع وسبعمائة وقدم القاهرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. شيوخه: الزنكلوني، والسنباطي، والسبكي، وجلال الدين القزويني، والوجيزي وأبو حيان، والقونوي، والتستري. تلاميذه: القاسم بن أحمد المرغيناني، وابن الملقن، وبدر الدين الزركشي، وأحمد بن عبد الرحيم بن الحسين أَبو زرعة العراقي، وتخرج به خلق كثير، وأكثر علماء الديار المصرية طلبته. مناصبه: انتصب للإقراء والإفادة من سنة سبع وعشرين ودرس بالأقبغاوية والملكية والفارسية والفاضلية ودرس التفسير بجامع ابن طولون وولى وكالة بيت المال ثم الحسبة ثم تركها وعزل من الوكالة وتصدى للاشتغال والتصنيف، وصار أحد مشايخ القاهرة المشار إليهم وشرع في التصنيف بعد الثلاثين.

ثناء العلماء عليه: ذكره تلميذه سراج الدين ابن الملقن في "طبقات الفقهاء" وقال: شيخ الشافعية ومفتيهم ومصنفهم ومدرسهم ذو الفنون الأصول والفقه والعربية وغير ذلك. وقال الحافظ ولي الدين أَبو زرعة في وفياته: اشتغل في العلوم حتى صار أوحد زمانه وشيخ الشافعية في أوانه وصنف التصانيف النافعة السائرة كالمهمات، وفي ذلك يقول والدي من أبيات: أبدت مهماته إذ ذاك رتبته ... إن المهمات فيها يعرف الرجل وتخرج به خلق كثير، وأكثر علماء الديار المصرية طلبته وكان حسن الشكل حسن التصنيف لين الجانب كثير الإحسان للطلبة ملازما للإفادة والتصنيف. قال ابن حبيب: إمام يم علمه عجاج وماء فضله ثجاج ولسان قلمه عن المشكلات فجاج، كان بحرا في الفروع والأصول محققا لما يقول من النقول تخرج به الفضلاء وانتفع به العلماء. تصانيفه: "جواهر البحرين في تناقض الحبرين" فرغ منه في سنة خمس وثلاثين، و"التنقيح على التصحيح" فرغ منه في سنة سبع وثلاثين، و"شرح المنهاج" للبيضاوي وهو أحسن شروحه وأنفعها فرغ منه في آخر سنة أربعين، و"الهداية في أوهام الكفاية" فرغ منه سنة ست وأربعين، و"المهمات" فرغ منها سنة ستين، و"التمهيد" فرغ منه سنة ثمان وستن و"طبقات الفقهاء" فرغ منه سنة تسع وستين، و"طراز المحافل في ألغاز المسائل" فرغ منه في سنة سبعين، و"كافي المحتاج في شرح منهاج النووي" في ثلاثة مجلدات، وصل فيه إلى المساقاة وهو شرح

حسن مفيد منقح، وهو أنفع شروح المنهاج، و"الكواكب الدري في تخريج مسائل الفقه على النحو"، و"تصحيح التنبيه"، و"الفتاوى الحموية"، و"اللوامع والبوارق في الجوامع والفوارق"، و"مسودة في الأشباه والنظائر"، و"شرح عروض ابن الحاجب"، وقطعة من "مختصر الشرح الصغير"، قيل: إنه وصل فيه إلى البيع و"شرح التنبيه" كتب منه نحو مجلد، و"كتاب البحر المحيط" كتب منه مجلدا. وفاته: توفي فجأة في جمادي الآخرة سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، ودفن بتربته بقرب مقابر الصوفية. قال الحافظ ابن حجر: رأيت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي كانت جنازته مشهودة تنطق له بالولاية.

فتح العزيز على كتاب الوجيز

فتح العزيز على كتاب الوجيز للإمام أبي القاسم: عبد الكريم بن محمد القزويني الرافعي الشافعي، المتوفي: سنة 623، ثلاث وعشرين وستمائة. وقد تورع بعضهم: عن إطلاق لفظ العزيز مجردا على غير كتاب الله تعالى، فقال: فتح العزيز، وهو: الذي لم يصنف في المذاهب مثله. وله شرح آخر أصغر منه وأخصر. وقد اختصر الشيخ محيي الدين: يحيى بن شرف النووي، المتوفي: سنة 677، سبع وسبعين وستمائة، (كتاب الروضة)، من شرح الرافعي كما ذكر في: تهذيبه. وقد اختصر: الشيخ الإمام: إبراهيم بن عبد الوهاب الزنجاني، المتوفي: سنة 655 (الشرح الكبير) وسماه: (نقاوة فتح العزيز)، فرغ منه: في شعبان سنة 625، خمس وعشرين وستمائة. قال فيه بعد مدح الرافعي: وشرحه لكنه قد بسط فيه الكلام وكاد يفضي بالناظر فيه إلى الملال فأردت اختصاره مع جواب ما أورده من السؤالات والإشارة إلى حل إشكاله. انتهى، وكان بدأ في تصنيفه: في حياة الرافعي. واختصره أيضًا: ابن عقيل: عبد الله بن عبد الرحمن المصري الهاشمي العقيلي. المتوفي: سنة 769، تسع وستين وسبعمائة. وعليه حاشية: مسماة: (بالدر العظيم المنير في شرح إشكال الكبير). لمحمد ابن أحمد المعروف: بابن الربوة. و (نشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير). لجلال الدين السيوطي. المتوفي: سنة 911، إحدى عشرة وتسعمائة.

وصنف: شمس الدين: محمد بن محمد الأسدي القدسي. المتوفى: سنة 808، ثمان وثمانمائة. تعليقه: سماها: (الظهير على فقه الشرح الكبير). في: أربع مجلدات. و (ضوء المصباح المنير لغريب الشرح الكبير). كما مر في: الميم. وخرج: ابن الملقن: عمر بن علي. المتوفي: سنة 804، أربع وثمانمائة. أحاديثه: في كتاب: سماه: (البدر المنير). في: سبع مجلدات. ثم لخصه: في مجلدين. وسماه: (الخلاصة). ثم انتقاه: في جزء. وسماه: (المنتقى). ولخصه: ابن حجر العسقلاني. كما ذكره في تخريج أحاديث: (الهداية). أنه لخص تخريج الأحاديث التي ضمنها (شرح الوجيز للرافعي). وتوفي: سنة 852، اثنتين وخمسين وثمانمائة. وخرج أحاديثه أيضًا. بدر الدين ابن جماعة. المتوفي: سنة 767، سبع وستين وسبعمائة. وبدر الدين: محمد بن عبد الله الزركشي. المتوفي: سنة 794. وشهاب الدين: أحمد بن إسماعيل. المتوفي: سنة 815، خمس عشرة وثمانمائة. خرجه أيضًا.

الروضة في الفروع (روضة الطالبين وعمدة المتقين)

الروضة في الفروع (روضة الطالبين وعمدة المتقين) للإمام محيي الدين أبي زكريا: يحيى بن شرف النووي. المتوفي: سنة 676، ست وسبعين وستمائة. قال في تهذيبه: (وهو الكتاب الذي اختصرته من: شرح (الوجيز) للرافعي. انتهى. واختصره: الشيخ برهان الدين: إبراهيم بن موسى الكركي الشافعي المتوفي: سنة 853، ثلاث وخمسين وثمانمائة. وقد اعتنى عليه جماعة من الشافعية فشرحوه. وكتب عليه. الشيخ زين الدين: عمر بن أبي الحزم الكناني. المتوفي: سنة 738، ثمان وثلاثين وسبعمائة. حاشية. وقد ناقش فيه النووي. فأجابه: تقي الدين: علي بن عبد الله الكافي السبكي. وعليه نكت. لعز الدين: محمد بن أبي بكر المعروف: بابن جماعة. المتوفي: سنة 819، تسع عشرة وثمانمائة. وكتب: جلال الدين: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفي: سنة 911، إحدى عشرة وتسعمائة. الحاشية. المسماة: بأزهار الفضة. وهي الكبري. كتب منها: الحواشي الصغرى. وله: الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع. وله: مختصر الروضة. مع زوائد كثيرة. تسمى: الغنية. ولم يتم، وله: (العذاب المسلسل في تصحيح الخلاف المرسل) في الروضة وقد اختصر الأصل مجردا من الخلاف. وسماه: العنبر. مع ضم زيادات. ثم نظم: الروضة. وسماه: الخلاصة. كتب منها: من الأول إلى الحيض ومن الخراج إلى السرقة. وشرح هذا النظم. وسماه: رفع الخصاصة.

واختصر الروضة. الشيخ: شرف بن عثمان العزي. المتوفي: سنة 799، تسع وتسعين وسبعمائة. (مع زيادات أخذها من المنتقى). وسماه: (المقتصر). واختصره: جمال الدين: محمد بن أحمد الشربشي. المتوفي: سنة 769، تسع وعشرين وسبعمائة. والشيخ: (1/ 930) شمس الدين الحجاري الأنصاري من المتأخرين. واختصره أيضًا: محمد بن عبد المنعم المعروف: بابن السبعين. المتوفي: سنة 741، إحدى وأربعين وسبعمائة. وعلق: برهان الدين: إبراهيم بن أحمد البيجوري. حاشية. وتوفي: سنة خمس وعشرين وثمانمائة. وصنف: الشيخ شهاب الدين: أحمد بن حمدان الأذرعي. (التوسط والفتح بين الروضة والشرح). توفي: سنة 783، ثلاث وثمانين وسبعمائة. واختصره: الشيخ شهاب الدين ابن أرسلان: أحمد بن الحسن الرملي الشافعي. المتوفي: سنة 844، أربع وأربعين وثمانمائة. وصححه: ابن حجر. المتوفي: سنة 852، اثنتين وخمسين وثمانمائة .. في ثلاث مجلدات. واختصره: نجم الدين: عبد الرحمن بن يوسف أَبو القاسم الأصبهاني. المتوفي: سنة 751، إحدى وخمسين وسبعمائة. وعليها حاشية: للشيخ سراج الدين: عبد الرحمن بن عمر بن أرسلان البلقيني، المتوفي: سنة 805، خمس وثمانمائة. ولم يكملها. وجمعها: ولده علم الدين: صالح. المتوفي: سنة 868، ثمان وستين وثمانمائة. ولنجم الدين: سليمان بن عبد القوي الحنبلي. المتوفي: سنة 710،

عشرة وسبعمائة. مختصر الروضة (أيضًا). وشرحها. واختصره: شرف الدين: إسماعيل بن أبي بكر بن المقري. المتوفى: سنة 836، ست وثلاثين وثمانمائة (839). وجرده من الخلاف. وسماه: (الروض). وعليه مهمات: للشيخ جمال الدين: عبد الرحيم بن حسن الإسنوي المتوفي: سنة 772، اثنتن وسبعين وسبعمائة. وقد استدرك عليه: زين الدين: عبد الرحيم بن الحسن العراقي. المتوفي: سنة 806، ست وثمانمائة. وسماه: (مهمات المهمات). ولابن الوكيل: أحمد بن موسى: (مختصر المهمات). وتوفي: سنة 791، إحدى وتسعين وسبعمائة. و (التاج في زوائد الروضة على المنهاج). لنجم الدين: محمد بن عبد الله بن قاضي عجلون. المتوفي: سنة 876، ست وسبعين وثمانمائة. واختصر: الشيخ شمس الدين: محمد بن محمد القيلوبي الشافعي الروضة (اختصارا حسنا): وتوفي: سنة 849، تسع وأربعين وثمانمائة.

المهمات على الروضة فى الفروع

المهمات على الروضة فى الفروع للشيخ جمال الدين: عبد الرحيم بن حسن الإسنوي الشافعى. المتوفي: سنة 772، اثنتين وسبعين وسبعمائة. وعليها تتمات: للشريف عز الدين: حمزة بن أحمد (2/ 1915) الدمشقى الحصنى الشافعى. المتوفي: سنة 874، أربع وسبعين وثمانمائة. وعليها تعقبات: للشيخ الشهاب: أحمد بن العماد الأقفهسى. المتوفي: سنة 808، ثمان وثمانمائة سماه: (التعليق على المهمات). أكثر فيها من تخطئته ونسبه لسوء الفهم وفساد التصور مع قوله: إنه قرأ الأصل على مصنفه. واعتذر عنه بعضهم وقالوا: لو أورد الكلام ساذجا لم يلتفتوا إليه لكون الإسنوي عندهم أجل وأعلم انتهى. واستدرك عليها: زين الدين: عبد الرحيم بن الحسين العراقي الحافظ المتوفي: سنة 806، ست وثمانمائة. وسماه: (مهمات المهمات). وعلق عليها: الشيخ شهاب الدين: أحمد بن حمدان الأذرعي. المتوفي: سنة 783، ثلاث وثمانين وسبعمائة. ولم يكمله. وعليه تعلقات: لأحمد بن عماد. المتوفي: سنة 808. ورتبها: علاء الدين: مغلطاي بن قليج بن عبد الله المصري الحنفي المتوفي: سنة 762، اثنين وستين وسبعمائة. على: أبواب الفقه.

وكتب الشيخ سراج الدين: عمر بن رسلان البلقيني. المتوفي: سنة 805، خمس وثمانمائة. عليها حواش: سماها: (معرفة الملمات برد المهمات). واختصرها: أَبو زرعة: أحمد بن عبد الرحيم العراقي. مع إضافة (حواشي البلقيني). وتوفي: سنة 726، ست وعشرين وسبعمائة. واختصرها: ابن الوكيل: أحمد بن موسى. المتوفي: سنة 791، إحدى وتسعين وسبعمائة. وشرحها: الشيخ شرف الدين: عيسى بن عثمان الغزي. المتوفي: سنة 799، تسع وتسعين وسبعمائة. سماه: (مدينة العلم). واختصرها أيضًا: الشيخ شمس الدين: محمد بن عبد الله الصرخدي. المتوفي: سنة 792، اثنى وتسعين وسبعمائة. والشيخ شهاب الدين: أحمد بن عبد الله الغزي. المتوفي: سنة 822، اثنين وعشرين وثمانمائة. لخصها تلخيصا حسنا. و(تلخيص المهمات). لتقي الدين أبي بكر بن محمد الحصني الشافعي المتوفي: سنة 829، تسع وعشرين وثمانمائة وعلى (المهمات نكت). للقاضي تقي الدين أبي بكر: أحمد بن شهبة الدمشقي. المتوفي: سنة 851، إحدى وخمسين وثمانمائة. و(مهمات المهمات). للشيخ سراج الدين أبي حفص: عمر بن محمد اليمني المعروف:

بالفتى. المتوفي: سنة 887، سبع وثمانين وثمانمائة اختصر فيها (المهمات) اختصارا حسنا اقتصر فيه على ما يتعلق (بالروضة) خاصة مع مباحثات مع الإسنوي واستدراك كثير وله (التبكيتات الواردات على مواضع من المهمات).

صور من المخطوطات

لوحة العنوان من النسخة (أ)

لوحة الأولى من النسخة (أ)

لوحة الأخيرة من النسخة (أ)

لوحة بيانات من النسخة (ب)

لوحة العنوان من النسخة (ب)

اللوحة الأولى من النسخة (ب)

اللوحة الأخيرة من النسخة (ب)

لوحة العنوان من النسخة (ج)

اللوحة الأولى من النسخة (ج)

اللوحة الأخيرة من النسخة (ج)

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلي الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم [مقدمة المؤلف] الحمد لله الذي أفصح لنا من الروامز عما خفى خبره على المخبر فاستعجم، وأوضح من المرامز ما عمى أثره على الأكثر فاستبهم حتى اقترب به العزيز على الناظرين فانقاد عويصه فاستسلم، وأينعت الروضة للقاطفين فطاب ثمرها واستحكم. وصلواته وسلامه على سيدنا محمد أشرف من دعا إلى الله وعلم، وعلى آله وأصحابه وشرف وعظم. وبعد: فإن الإمام الرافعي -رضي الله عنه- وأرضاه وجعل الجنة منقلبه ومثواه لما برع في علم المذهب إلى حد لم يدركه فيه من جاء بعده ولا كثير ممن كان قبله انتدب لتهذيبه وتحبيره وانتصب لتحقيقه وتحريره، فجمع ما تفرق من كلامه، ونزع مقالة جمهور أعلامه فألفها كتبا بل صاغ منها ذهبًا وحرر منها مذهبا فكان طرازها المبرز وأنموذجها المطرز وهو الشرح الكبير للوجيز أبرزه كالإبريز ملقبًا بالعروس مسمى بالعزيز خضعت لرؤيته رؤوس الرؤوس وذلت لعزته نفائس النفوس، وقد مدحته ببيتين في ضمن مدح الإمام الرافعي -رضي الله عنه- وهما: يا من سمى إلى نيل العلى ... ونحى إلى العلم العزيز الرافعي قلد سمي المصطفى ونسيبه ... والزم مطالعة العزيز الرافعي ثم تلاه الشيخ محي الدين النووي -رضي الله عنه- صانعًا أيضًا فيما يؤلفه هذا الصنيع، وسالكًا فيه سبيل هذا المهيع، فكان أنفس ما تأثر منها بركات أنفاسه وتأبر من ثمرات غراسه "روضة الطالبين" غرس فيها أحكام

الشرح المذكور ولقحها وضم إليها فروعًا كانت منشرة فهذبها ونقحها، فلذلك حلى ينبوعها وبسقت فروعها وطاب أصولها ودنت قطوفها، فلما اتصف التصنيفات بما وصفناه وتآلف التأليفات كما شرحناه علق عليهما العاكف والباد ودرس بهما ما أنشأه الأولون أو كان وصار عليهما المعول في الترجيح وبقولهما المعمول في التصحيح، وألقت النبلاء مقاليد الفتوى إليهما، واعتمدت الفضلاء فيما تعم به البلوى عليهم، ووقع منهم الاصطفاء، وحصل بهما لهم الاكتفاء، وانفصل منهما التتبع والاقتفاء. وتلك منقبة قد أطاب الله ذكرها وثناها، وموهبة قد رفع سمكها وبناها، ومن أسر سريرة حسنة ألبسه الله رداءها، لكن وقع في الكتابين المذكورين أنواع كثيرة قاطعة لهذا السبب، مانعة من هذا الأرب، يجب على من تبينت له تبيينها، ويتعين على من تعينت له تعيينها، فإن أكثرها من الزوايا المعتمة المسالك، والغوائل العديمة المشارك، والدسائس الخفية المدارك، لا يهتدي إليها إلا من يسره الله لذلك، وهيأه لما هنالك، فقطع عنه القواطع والعلائق، ودفع عنه الموانع والعوائق، وانتصب للفحص ولازم النظر وألف السهاد وداوم السهر، وأمعن النظر في نصوص الشافعي المتفرقة، وتتبع كتب الأصحاب طبقة بعد طبقة، وعَمَّر بمطالعتها عمره، وعَمَّر بمراجعتها دهره، وأكثر التفتيش والتطلاب، والتردد إلى الباب بعد الباب، وإذا أراد الله تعالى أمرًا هيأ له الأسباب، وقد تيسر لي مع ذلك بحمد الله تعالى من مؤلفات الشافعي والأصحاب -خصوصًا الأقدمين- ما لم يطرق اسمه بالكلية أذن أكثر المكثرين، ولم أعلمه قد اجتمع في مدينتنا عند أحد من العصريين، هذا وهي اليوم أعظم مدن الإسلام، ومجمع العلماء وموطن الأعلام، ومحط رجال أولى المحابر والأقلام، ومورد الملاح والحادي، ومقصد الحاضر والبادى، صانها الله تعالى وحماها وسائر بلاد الإسلام بمنه وكرمه.

وقد كان هذا الإقليم عقب الشافعي بمدة بالنسبة إلى الشافعية كذلك، وكانت الرحلة إليه من الآفاق، فلما استولى عليه العبيديون -المعروفون بالفاطميين- انتدبوا إلى العلماء فقتلوا البعض ونفوا البعض وعوضوهم بعلماء الرفض، واستمر الحال على ذلك قريبًا من ثلاثمائة سنة إلي أن أهلكهم الله تعالى على يد صلاح الدين بن أيوب، فعاد الأمر بحمد الله تعالى كما كان من ظهور هذا الإقليم في ذلك على غيره، ولله الحمد. واعلم أني لم أزل من زمن الطلب إلى الآن قائمًا بدعوة ما غبر من التواليف، ودثر من التصانيف، معتنيًا بإظهار خفاياها، وإبراز زواياها حتى أحياها الدهر وأنشرها، بعد أن أماتها فأقبرها، وحصل منها من المهمات المتعلقة بالكتابين ما أشرت الآن إليه ودللتك آنفًا عليه، فلذلك شرعت ملتمسًا من الله التوفيق، مقتبسًا منه التحقيق، في كشف القناع عن تلك المخدرات المخبآت، وتشنيف الأسماع بتلك المستعذبات المستغربات، نصيحة للمتعلمين، وإرشادًا للحكام والمفتين فإن أحرى [أحوال أحلامهم] (¬1)، وأعلى [أعمال أعلامهم] (¬2)، مطالعتهم لأحد التأليفين ومراجعتهم أحد التصنيفين فيفتون به ويقضون، ويبرمون وينقضون {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (¬3). فجمعت ما حضرني من ذلك ليسير شياعًا، ويثير انتفاعًا، ولا يصير ضياعًا، بل يبقى في التأليف محفوظًا، وبعين العلماء ملحوظًا، وإن كان كثير منه قد اشتهر بحمد الله تعالى من تواليفى وعلى لسان من أخذ مني، أو الآخذين من الآخذين عني، وضممت إليها أنواعًا أخرى لابد منها، ومجموع ذلك عشرون نوعًا: الأول: بيان ما في الكتابين مما خالفاه في موضع آخر، إما في الكتابين ¬

_ (¬1) فى أ: أعلامهم. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) يوسف: 105.

أو أحدهما، وإما من غيرهما من كتبهما، وذلك متوقف على معرفة كتبهما. فأما كتب الرافعي: فمنها: الشرح الذي نتكلم عليه وهو المسمى "بالعزيز"، ومنها: "الشرح الصغير" وهو متأخر عن "العزيز" ولم يلقبه --رحمه الله--، ومنها: "المحرر". ومنها: "التذنيب" وهو مجلد لطيف موضوع للتنبيه على ستة أنواع متعلقة "بالوجيز" للغزالي، وهو يقرب في المعنى من "دقائق المنهاج"، ومنها: "شرح مسند الإمام الشافعي" وهو مجلدان ضخمان، قال في أوله: ابتدأت في إملائه في رجب سنة ثنتي عشرة وستمائة وهو عقب فراغ "الشرح الكبير". ومنها: "الأمالي" وهو مجلد مشتمل على أحاديث مشروحة أملاها في ثلاثين مجلسًا، سماه "الأمالي الشارحة لمفردات الفاتحة"، اصطلح فيه على اصطلاح غريب، فهذه هي الكتب التي وقفنا عليها له. وله كتاب صنفه في طريق الحجاز سماه "الإيجاز في أخطار الحجاز" لم أقف عليه. وكان -رحمه الله- قد شرع قبل "الشرح الكبير" في شرح على "الوجيز" أبسط من المذكور سماه "الشرح المحمود"، وصل فيه إلى أثناء الصلاة ثم عدل عنه إلى ما ذكرناه، وتلك القطعة لم تشتهر، وقد أشار الرافعي إليها في كتاب الحيض من "الشرح الكبير" في مسألة المتحيرة فإنه قال في الكلام على قضائها للصوم: ولو بسطنا القول في جميع ذلك لطال وقد فعلته في غير هذا الكتاب. هذه عبارته. وأما كتب النووي: فمنها ما ذكرناه وهو: "الروضة" وقد وقفت على النسخة التي هي بخطه -رحمه الله- ونقلت منها المواضع المحتملة للتحريف

أو الإسقاط، ومنها: "المنهاج" وقد وقفت عليه بخطه أيضا، ومنها: "المناسك الكبرى والصغرى" و"التبيان في آداب حملة القرآن" ومختصره، و"دقائق المنهاج" و"شرح مسلم" و"الأذكار" و"تهذيب الأسماء واللغات"، و"طبقات الفقهاء" الملخصة من "طبقات ابن الصلاح"، ولم يبيض المصنف هذين التصنيفين بل مات عنهما مسودة، فبيضهما الحافظ جمال الدين المزي، ومنها: "تصحيح التنبيه" فإن صرح فيه بالمسألة المخالفة ذكرتها، وإن لم يصرح بها بل ذكرها صاحب "التنبيه" وأقره هو عليها فلا أذكرها. نعم قد نبهت على ذلك في التصنيف المسمى "بالتنقيح في الاستدراك على التصحيح"، ومنها: نكت على مواضع متفرقة من "التنبيه" في مجلدة ضخمة، وهي من أوائل ما صنف، ولا ينبغي الاعتماد على ما فيها من التصحيحات المخالفة لكتبه المشهورة، ومنها: "المسائل المنثورة" التي وضعها غير مرتبة، فرتبها تلميذه الشيخ علاء الدين بن العطار وزاد عليها أشياء سمعها منه وهي المعروفة "بالفتاوى"، ومنها: "مختصر التذنيب" للإمام الرافعي سماه "المنتخب"، وقد أسقط منه في آخر الفصل السادس أوراقا تزيد على الكراس فلم يختصرها، ومنها: "لغات التنبيه" وهو وإن كان غير موضوع للأحكام، فقد حصل منه شيء مما نحن بصدده، ومنها: "رؤوس المسائل" وتصنيفه في الاستسقاء، وفي استحباب القيام لأهل الفضل ونحوهم، وفي "قسمة الغنائم" وهو مجلد مشتمل على نفائس، وقد اختصره أيضا وهما من أواخر تصانيفه وأمتعها. فهذه هي الكتب التي اتفق له -رحمه الله- إتمامها مما يتعلق بكتابنا هذا، وأما الكتب التي لم يتم فأجلها "شرح المهذب"، وقد وصل فيه إلى أثناء الربا، وقد وقفت على النسخة التي هي بخطه، ومنها: "التحقيق"

وصل فيه إلى أثناء صلاة المسافر، ذكر فيه غالب ما في "شرح المهذب" من الأحكام على سبيل الاختصار، ومنها: "نكت على الوسيط" في نحو مجلدين، وشرح مطول على "التنبيه" وصل فيه إلى الصلاة سماه "تحفة الطالب النبيه"، وشرح على "الوسيط" سماه "التنقيح" وصل فيه إلى كتاب شروط الصلاة وهذه التصانيف الثلاثة رأيتها بخطه، والأخير منها كتاب جليل من أواخر ما صنف جعله مشتملًا على أنواع متعلقة بكلام "الوسيط" ضرورية كافية لمن يريد كثرة المسائل المأخوذة، والمرور على الفقه كله في زمن قليل لتصحيح مسائله، وتوضيح أدلته، وذكر أغاليطه، وحل إشكالاته، وتخريج أحاديثه، وذكر شيء من أحوال الفقهاء المذكورين فيه إلى غير ذلك من الأنواع التي التزمها، ولم يتعرض فيه لفروع غير فروع "الوسيط"، وهي طريقة تيسر معها تدريس "الوسيط" في كل عام مرة، فقد حكى بعض شيوخنا عن بعض شيوخه: أنه كان يدرس "الوسيط" كل سنة، ولا يتعرض لفرع زائد، ويقول: يقبح لمن يتصدى للإفتاء والتدريس أن يكون عهده بباب من أبواب الفقه أكثر من عام، ومنها: "مهمات الأحكام" وهو قريب من "التحقيق" في كثرة الأحكام، إلا أنه لم يذكر فيه خلافًا وقد وصل فيه إلى أثناء طهارة البدن والثوب، ومنها: "الأصول والضوابط" وهو مشتمل على ذكر كثير من قواعد الفقه وضوابطه يذكر العقود اللازمة والجائزة، وما هو تقريب أو تحديد ونحو ذلك والذي ألف منه أوراق قلائل، ومنها: كتاب على "الروضة" كـ"الدقائق على المنهاج" سماه "الإرشادات إلى ما وقع في الروضة من الأسماء والمعاني واللغات" وهو كثير الفوائد وصل فيه إلى أثناء الصلاة وعاقه عن اختتامه واختتام ما قبله انحتام الوفاة. وقد شرع -رحمه الله- في اختصار "التنبيه" فكتب منه ورقة واحدة -رضي الله عنه وأرضاه- وحشرنا وإياه في زمرة المتقين، وينسب إليه تصنيفان ليسا له.

أحدهما: مختصر لطيف يسمى "النهاية في الاختصار للغاية"، والثاني: "أغاليط على الوسيط" مشتملة على خمسين موضعًا بعضها فقهية وبعضها حديثية. وممن نسب هذا إليه ابن الرفعة في "شرح الوسيط" فاحذره، فإنه لبعض الحمويين، ولهذا لم يذكره ابن العطار تلميذه حين عدد تصانيفه واستوعبها. واعلم أن هذا التناقض الواقع في هذه الكتب على أقسام: فمنه ما هو في أصل الحكم، وهو الأكثر. ومنه ما يرجع إلى كيفية الخلاف لكونه قولين أو وجهين، وكون الأصح طريقة القطع أو الخلاف. ومنه أيضًا ما هو على جوابين فقط وهو الأكثر. ومنه ما هو على ثلاثة أجوبة بأن يذكر المسألة في ثلاثة مواضع، ويجيب في كل واحد منها بجواب لا يوافق الآخر. ومن أفحش ما يقع في هذا النوع -أعني ما يقع لهما من الاختلاف أنهما إذا خالفا ما سبق لهما أو يأتي ادعيا أنه لا خلاف في ذلك كما ستراه مبينا إن شاء الله. وقد تأملت وقوع الاختلاف لهما فوجدت سببه غالبًا اتباع ما يقعان عليه في ذلك الموضع من الكتب المخالفة بعضها بعضًا، وذلك بأن يكون الإمام والبغوي مثلًا مختلفين في مسألة، ولكن يذكرها أحدهما في باب، ويذكرها الآخر في باب آخر فيذكران في كل باب ما وقفا عليه مجزومًا به تارة، ومعزوًا إليه أخرى [غير مستحضرين لمخالفة الآخر] (¬1)، ووقوع هذا للشيخ محيى الدين أكثر، وذلك أنه لما تأهل للنظر والتحصيل رأى من المسارعة إلى ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفًا ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلًا وتحصيله تصنيفًا ومن هذا حاله لا يستحضر غالبًا من غير المشهور إلا الموضع الذي يعمل فيه، إلا أنه غرض صحيح وقصد جميل. ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر، فإنه -رحمه الله- دخل دمشق للاشتغال وهو ابن ثمانية عشرة سنة. ومات ولم يستكمل ستًا وأربعين كما تعرفه في ترجمته قريبًا إن شاء الله تعالى. وأما الرافعي فسلك الطريقة الغالبة؛ ولهذا [كان] (¬1) كثير الاستحضار يستحضر غالبًا ما سبق له في المسألة وما يأتيه فيها وهكذا حال ابن الرفعة أيضًا -رضي الله عنهم أجمعين- ونفعنا بهم. وأما المسائل المتحدة مدركًا ومعنى المختلفة تصويرًا وحكمًا فأذكر غالبًا منها ما لا يلوح فرق بينهما، وأما ما يلوح فيه ذلك فلا مدخل له في كتابنا. هذا وقد أفردته بتصنيف جليل كبير القدر والمقدار، مشتمل على حكم وأسرار سميته "مطالع الدقائق في الجوامع والفوارق"، وكذلك ما كان متشابهًا في التصوير اختلف حكمه [أو اتحد] (¬2)، أو استمد من أصل واحد أو أصول مختلفه فلا أشترطه أيضا في هذا الكتاب، وقد أفردته بتصنيف غريب وتأليف عجيب صافي الدليل سميته "تنزيه النواظر في رياض النظائر". النوع الثاني: وهو من أهم الأمور وهو بيان ما يفتي به من أحد [الموضعين أو] (¬3) المواضع المختلفة، وذلك متوقف على إبراز مرجح نقلي، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: تجره. (¬3) سقط من أ، ب.

واعتضاد مذهبي لا لمجرد دعوي رجحانه من جهة الدليل، إذ المذهب نقل، والترجيح المذكور تارة يكون ببيان نص الشافعي في المسألة وهو أعظم الترجيحات مقدارًا وأعلاها منارًا، وتارة بموافقة الأكثرين فإنه يجب الأخذ به، كما صرح به في "الروضة" في أوائل القضاء، وتارة بغير ذلك مما ينشرح به صدرك وتقر به عينك. وأما ما اختلف فيه الإمامان فالترجيح بينهما سهل، وذلك لأن النووي إن خالف معتمدًا على الأحاديث ونحوها كانتقاض الوضوء بأكل لحم الإبل وصوم الولي عن الميت ونحوهما، فالعمل بتصحيح الرافعي قطعًا لأنه مذهب الشافعي ولهذا قال هو في مقدمة "شرح المهذب"، وابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" وغيرهما: ومعنى قولهم: إن المسألة الفلانية مما يفتي فيها على القديم أن من له أهلية الاجتهاد في المذهب يجوز له أن يأخذ، به وأما غير المجتهد فلا يأخذ إلا بالجديد. لأنه مذهب إمامه وإن اعتمد -أعني النووي- على غير ذلك تعين الأخذ بما قاله لأن المعترض بالمنقول لاسيما من عنده ورع لا يقدم على الاعتراض إلا بكتب وزيادة اطلاع، خصوصًا أن الرافعي لم يلتزم في "الشرحين" طريقة المعظم، فإن استند -أعني النووي- إلى منقول لم يوجد فيه الشرط المذكور نبهت عليه. النوع الثالث: بيان ما وقع في الكتابين المذكورين من الأغلاط العجيبة والأوهام الغريبة، وهي للنووي أكثر منه للرافعي، وفي نقل الرافعي عن الإمام بخصوصه أكثر منه في النقل عن غيره، وقد كنت أفكر في سبب ذلك إلى أن ظهر لي بحكاية سمعتها من قاضي القضاة جلال الدين القزويني في درسه بالمدرسة الناصرية في القاهرة نقلًا عن والده، وقد كان -أعني والده- في بلد الرافعي، وممن أخذ عنه على ما ذكر ولده القاضي المذكور، أن "النهاية" التي هي بخط الإمام كانت بقزوين لنسوة ورثنها وكن لا يسمحن بإخراجها وكان الرافعي يأتي إلى مسجد قريب من منزلهن

فيطالع منها وينقل، ثم يضع ذلك بعد ذلك في كتابه، فيحصل الخلل والتعبير من عدم استقراره في موضعه حالة النقل ونظره منها مستوفزا. وقد تأملت غير المنسوب إلى الإمام مما وقع من هذا النوع، فوجدت بعضه لتحريف لفظة وقعت في الأصل المنقول منه، وبعضه لسقوط كلام إما من الأصل أيضا، أو لانتقال النظر عند النقل منه من سطر إلى سطر، أو من لفظة إلى مثلها كما يقع للنساخ كثيرًا، وبعضه للذهول عن أول الكلام أو آخره، وبعضه لسبق القلم أو الذهن، فيريد مثلًا أن يعبر بالأول فيعبر بالثاني ونحو ذلك، وبعضه [لخلل في النسخ الواقعة بأيدى الناس من كتاب الرافعى] (¬1)، وسبب الخلل وقوع غلط للناقل أولًا من المسودة عرف من "الشرح الصغير"، وبعضه من تصرفهما وفكرتهما، وسترى ذلك كله مبينًا إن شاء الله تعالى. ومن غريب ما اتفق للرافعي في هذا النوع أنه قد غلط هو في تغليطه لمن غلط غيره، فإن بعض الأصحاب نقل عن "التلخيص" لابن القاص حكمًا فنسب الإمام الناقل إلى الغلط وقال: إن في "التلخيص" عكسه، ثم إن الرافعي غلط الإمام في هذا التغليط وقال: إنه مذكور فيه كما قاله الناقل عنه أولًا، مع أن الرافعي قد وهم في ذلك كما أوضحته [في موضعه] (¬2). ولعل السبب: أن الرافعي وقعت له النسخة التي وقعت لذلك الناقل، ويلتحق بهذا النوع بيان الانتقاد عليهما في استدلالات واستنباطات ونحو ذلك، ولا أذكر من ذلك إلا ما كان متعينًا لا مندوحة عنه دون ما عنه جواب وإن ضعف. النوع الرابع: بيان المواضع التي خالفا فيها نص الشافعى: بأن ذهلا عن ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من ب.

النص فأجابا بما وجداه لبعض الأصحاب، وهو كثير جدًا فإن الرافعي لم يقف على كتب الإمام الشافعي وإنما ينقل عنها بواسطة غيره، ولهذا يقول: وعن نصه في "الأم" كذا، وعن نصه في "البويطي" كذا، ونحو ذلك، وهذه عبارته في ما ينقله بالوسائط وذلك لشدة ورعه واحترازه. نعم ظفر النووي مع "المختصر" بـ"الأم" و"مختصر البويطي" إلا أنه إنما ينقل عنهما أحيانًا قليلة، ولم يتتبعها كما فعل ابن الرفعة في "المطلب" فإنه تتبع مسائل "الأم" ولم يفته منها إلا القليل، والنووي امتاز على الرافعي بهذا النوع. وقد تيسر لي بحمد الله تعالى ما وقف النووي عليه من هذه النصوص بزيادة "الإملاء" و"الأمالي" و"نهاية الاختصار" للمزني وهو عزيز الوجود، ثم إنني إذا ذكرت النص فأذكره غالبًا بحروفه مبالغا في تعريفه فأذكر كتابه ثم بابه ثم إن اتسع الباب فبعدد أوراقه، فإن وقع الباب الواحد مكررًا -وهو كثير جدًا- عرفته غالبًا بالباب الذي قبله أو بعده، فأقول مثلًا: قال في كتاب الرهن المذكور بعد الإجارة، أو قبل الصداق، إلا أن يكون الباب المكرر من كتاب تكون نسخه مختلفة الترتيب "كمختصر البويطي" فإن تعريفه بما ذكرت لا يفيد، وكثيرًا ما أستغني عن ذلك كله بإضافة النص إلى بعض من نقله، ولا شك أن صاحب "المهذب" متى كان له في المسألة نص وجب على أصحابه الرجوع إليه فيها، فإنهم مع الشافعي كالشافعي ونحوه من المجتهدين مع نصوص الشارع، ولا يسوغ الاجتهاد عند القدرة على النص، وقد رأيت في "تعليق البندنيجى" في كتاب الكتابة في الكلام على أقوال النقاض اعتذارًا عما وقع للأصحاب، فقال: وكثيرًا ما يخالف الأصحاب النص لا عن قصد ولكن لعدم اطلاعهم عليه، هذا كلامه. وقد كان أَبو إسحاق المروزي يذهب إلى أن نية الصوم تبطل بالأكل والشرب ونحوهما من المفطرات بعدها، فلما حج الإصطخرى اجتمع به

وأظهر له نص الشافعي على خلاف ما قاله، فرجع وأشهد على نفسه بالرجوع، والسبب في وقوع المخالفة من الأصحاب لإمامهم أن كتبه -رضي الله عنه- غير مرتبة المسائل، وكثيرًا ما يترجم للباب وتكون غالب مسائله من أبواب أخرى متفرقة، ومثل هذه التصانيف لا ينتفع بها غالبًا من المصنفين إلا من نظرها بعد كمال تصنيفه، فيحضر تصنيفه جميعه بين يديه، ثم ينظر ذلك الكتاب فكلما مر بمسألة أخرج بابها من تصنيفه ونظرها، فلهذا قَلَّ استعمال الأصحاب لها. النوع الخامس: بيان المواضع التي نقلاها عن واحد فقط، وقد خالفه فيه جماعة، وكذلك ما نقله عن متعدد وقد خالفه فيه أكثر من ذلك العدد، ولا شك أن الرافعي لم يلتزم في "الشرحين" تصحيح ما عليه المعظم كما سبق ذكره، ولهذا تختلف عبارته في الترجيح، فتارة يقول: الأصح، [ونحوه من الصيغ التي لا وقفة فيها، وتارة يقول: الأكثرون، وتارة يقول: الأصح] (¬1) عند الأكثرين: وتارة يقول: الأولى، أو الأشبه أو الأقرب أو الأفقه أو الأمثل أو الأحسن أو الأعدل أو الأنسب ونحو ذلك من الألفاظ المشعرة بأنها من قبله وتارة يقول: يشبه أن يكون الأرجح كذا، أو لعل ونحو ذلك مما هو أدون مما سبق، وتارة يحكي خلافًا مرسلًا، وذلك كله لشدة احترازه وورعه. لكنه بالاستقراء لا يخالف منقول الأكثرين متى اطلع عليه، إلا بأن يقول: يشبه أو يحسن ونحو ذلك مما يدل على أنه من جهة البحث، ولا ينقل عن الأكثرين، ويصرح مع ذلك بتصحيح مخالفهم، إلا إذا نقل عنهم بواسطة كما فعل في الكلام على الإبطال بتطويل الركن القصير، وذلك في الحقيقة منازعة للناقل في نقله عن الأكثرين. النوع السادس: بيان المواضع الواردة على حصرهما: بأن يقولا: لا ¬

_ (¬1) سقط من ب.

يستثنى إلا كذا ونحو ذلك، ويكون هناك غيره مما يستثني أيضًا، والغريب أنهما قد يكونان هما المستثنيان في موضع آخر، إلا أن ما كان من هذا النوع ونحوه من الصور النادرة فقد لا أذكره اعتمادًا على ما اشتمل عليه كتابنا المسمى "طراز المحافل في ألغاز المسائل" وهو تأليف بديع وتصنيف صنيع. النوع السابع: بيان المسائل التي أطلقاهما، وهي مقيدة بقيد مذكور في كلام الشافعي أو في كلامهما أو في كلام أحدهما في موضع آخر أو في كلام الأصحاب، فإن الواقف على ذلك الإطلاق ممن لا علم له بالتقييد يغتر بالإطلاق فيقع في الخطأ، ومن أغرب ما وقع لهما في هذا النوع أنهما قد يغتران بالإطلاق فيستدلان به على صورة معينة، مع أن المسألة مقيدة بما يخرج تلك الصورة. النوع الثامن: ذكر ما أهملاه من أقسام المسألة، إما بأن يهملا القسم في أصل التقسيم، أو يذكراه لكن يغفلان عن حكمه. النوع التاسع: ذكر المواضع التي يتبادر منها إلى فهم الواقف عليها خلاف المراد، أو تحتمل أمرين أو أمورا على السواء، فأذكر المراد منها وقد وهم النووي بسبب ذلك في مواضع عدة من "الروضة" فصرح بشئ ومراد الرافعي خلافه، كما علم بعض ذلك من "الشرح الصغير" للرافعي وبعضه من غيره كما ستعرفه. النوع العاشر: ذكر المواضع التي ادعيا عدم الخلاف فيها مع أنه ثابت في شئ من كتب المذهب لم يطلعا عليه، فأعزوه إلى قائله أو أسنده إلى ناقله، وكثيرًا ما يدعي أحدهما عدم الخلاف ويكون هو الحاكي له في موضع آخر، إما من ذلك الكتاب، أو من غيره حتى أنه نفى الخلاف في "الروضة" عن مسألة والخلاف ثابت في تلك المسألة في "المنهاج"، ومن أغرب ما وقع لهما في هذا النوع: أنهما قد يصححان ما ينفيانه، أو أن الشافعي نفسه يكون هو المخالف. الحادي عشر: ذكر المواضع التي ينقلانها عن غيرهما من حكم، أو

خلاف وينكران على الناقل ذلك، مع أن النقل صحيح والإنكار باطل، وأكثر ما وقع ذلك للرافعي مع الغزالي لكونه يذكر شيئًا في "الوجيز" أو غيره من كتبه ولا يجده الرافعي في "النهاية" فيتوهم عدم ثبوته ظنًا منه أن الغزالي لا يحكي شيئًا عن [غيرها] (¬1) فينفيه بسبب ذلك، ولا شك أن معظم كلام الغزالي منها، ولكنه لما صنف "الوسيط" استمد أيضًا من ثلاثة كتب أخرى: أحدها: "الإبانة" للفوراني، ومنها أخذ هذا الترتيب الحسن الواقع في كتبه، وهو ترتيب الأبواب والفصول والتقاسيم، وكان فعله لذلك توفيقًا من الله لما فيه من إراحة الناس، لأن الرافعي قد اضطر إلي متابعته لكونه شارحًا، وكذلك النووي لكونه مختصرًا وعلى كلامهما المعول فكان ذلك سببًا للتسهيل على الناس في إخراج الأبواب والمسائل. وثانيها: "التعليق" للقاضي الحسين، وهو الكتاب الجليل العظيم الفوائد. وثالثها: "المهذب" للشيخ أبي إسحاق، واستمداده منه كثير على خلاف ما في الأذهان، وقد نبه عليه ابن الرفعة في "شرح الوسيط"، ولا شك أن الرافعي -رحمه الله- قد فاته أصول كثيرة لم يقف عليها كما سيأتي إيضاحه، ومنها "الإبانة" و"التعليق" المذكوران، فإذا علمت ما ذكرناه من استمداد الغزالي من الثلاثة المذكورة أيضًا مع "النهاية"، فقد ينقل حكمًا أو خلافًا منها ليس في "النهاية" فينكره عليه الرافعي ظنًا منه أنه لم يخرج عن "النهاية"، ويتابعه على ذلك في "الروضة" ويزيد فيبالغ في الإنكار [ويشنع] (¬2) العبارة أو يسقط ذلك بالكلية، على أن بعض ذلك مذكور في "النهاية" أيضا ولكن في غير ذلك الموضع، فإن مسائل "النهاية" متفرقة لكونها على ترتيب المختصر، وكانت بين عيني الغزالي فلما ¬

_ (¬1) فى ب: غيره. (¬2) فى جـ: ويسيع.

صنف كتبه جمع كل شيء إلى ما يلائمه ورتبه الترتيب المذكور، ومن أغرب ما يقع لهما في هذا النوع أنهما قد ينكران عليه ذلك ويبالغان في إنكاره مع جزمهما به في موضع آخر. الثاني عشر: بيان المواضع التي ادعى الرافعي أن لا نقل فيها، أو توقف في نقلها لكونه لم يجده، ويذكر الحكم من جهته على سبيل التفقه مع أنها منقولة مصرح بها، ومن غريب ما يقع له [في هذا النوع] (¬1) أن المسألة قد تكون مسطورة في كلام الشافعي، أو في الكتب التي غالب نقل الرافعي منها، وهي غير كلام الغزالي المشروح منه ستة تصانيف "التهذيب" و"النهاية" "والتتمة" و"الشامل" و"تجريد" ابن كج و"أمالي" السرخسي المعروف بـ"الزاد"، فيذكر أحدها على وفق ما أجاب به تارة وعلى عكسه أخرى كما ستراه مبينًا إن شاء الله تعالى. الثالث عشر: بيان الراجح من الخلاف الذي حكياه أو أحدهما بلا ترجيح، وهو من أهم الأمور، وترجيحه إما من كلاهما في كتاب آخر أو باب آخر، وإما من نص الشافعي أو ذهاب الأكثرين أو غير ذلك مما ستراه إن شاء الله تعالى. الرابع عشر: بيان ما أسقط الرافعي من الأصل الذي يشرحه، وهو "الوجيز" حكمًا كان أو خلافًا. الخامس عشر: ذكر فائدة الخلاف الذي حكاه أحدهما ونفى أن يكون له فائدة، أو كانت فائدته لا تظهر إلا بتأمل. السادس عشر: ضبط ما يتحرف على المتفقة من الألفاظ الواقعة فيهما سواء كانت من الأعلام أو النسب أو غيرهما. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

السابع عشر: تفسير ما يحتاج من الألفاظ المذكورة إلى التفسير من جهة اللغة، سواء كان ذلك في الأحاديث أم لم يكن، فإن كانت تلك الألفاظ قليلة ذكرتها في مواضعها من الباب، وإن كثرت ذكرتها مجموعة في أوله أو في آخره. الثامن عشر: ذكر ترجمة الإمام الشافعي وترجمة جميع المنسوبين إليه مما وقع ذكره في أحد الكتابين خاصة، وإن كان الذي فاتهما منه نادرًا جدًا، وإنما ذكرت ذلك لاستشراف الواقف على ضبط أسمائهم وأنسابهم إلى معرفة طبقاتهم في العلم وأعمارهم ووفياتهم وشيوخهم، ومعرفة من لم يذكر ممن بقى منهم، لما في ذلك من الفوائد لاسيما أن كثيرًا من أصحابنا يجهلهم كثير من المشتغلين الآن، فلا يعلمون أنهم منهم فضلًا عن ذكر الرافعي لهم والموضع الذي ذكرهم فيه، فلذلك ذكرتهم على سبيل الاختصار خصوصًا المشهورين منهم إحالة على شهرتهم، ثم إن كان الشخص متكرر الذكر في أحد الكتابين مشهورًا، فلا حاجة إلى بيان الموضع الذي ذكر فيه، فإن لم يكن كذلك ذكرت موضعه ولا أذكر من يتوهم فيه الاستقلال بالاجتهاد وخروجه عن تقليد الشافعي إلا أبا ثور والمزني وابن المنذر. فقد صرح الشيخ محيى الدين بأنهم من أصحابنا، ذكر ذلك في "الروضة" مفرقًا، وفي أوائل "شرح المهذب" [مجموعًا، وكثيرًا ما يصرح الشيخ أَبو إسحاق في "المهذب"] (¬1) بذلك. ثم إن الترجمة للذين أترجم لهم لا يمكن أن تكون في كل موضع [وقع ذكرهم فيه لا بإيضاح الترجمة، ولا بإحالتها على أول موضع ذكروا فيه من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الكتاب، لما فيه من التطويل الذي لا مزيد عليه والعي الواضح. فلهذا قصدت جمعهم في موضع] (¬1) واحد في فصل بعد فراغ الخطبة وقبل الشروع في مسائل الكتابين، فأذكر أولًا الشافعي ثم أصحابه الذين أخذوا عنه مرتبين على ترتيب وفياتهم، ثم أصحاب الأصحاب في أبواب على حروف المعجم معتبرًا أول حرف من اللفظ الذي يعرف به الشخص اسمًا كان أو كنية [أو لقبا أو نسبًا] (¬2) ونحو ذلك، إلا أن الاعتبار في الآباء والأبناء ونحوهما وفي ما أضيف إليه تصنيفه بالاسم الأخير لا بالأول فأذكر مثلًا الرافعي في حرف الراء، وابن سريج وأبا الطيب بن سلمة في حرف السين، وابن بنت الشافعي في حرف الشين، وصاحب "التقريب" و"التتمة" في حرف التاء، والقفال الشاشي والشيخ أبا إسحاق الشيرازي في حرف الشين، والشيخ أبا حامد الاسفراييني في حرف الهمزة، وإن كان قد يعرف بما قبله لأنه بالمجموع أشهر، فقس على [ذلك وأعقد لهم إن] (¬3) شاء الله تعالى قبل الخوض في تراجمهم فصلًا يكون أنموذجًا لما سيأتي، أذكر فيه أسماءهم سردًا مرتبة على ترتيب وفياتهم عند العلم بها، فإن لم تكن معلومة، ففي أهل طبقته ليسهل الوقوف على من أريد الوقوف عليه إن شاء الله تعالى، وقد جمعت كتابًا مستقلًا شاملًا للأصحاب المذكورين هنا وغيرهم -رضي الله عنهم-. التاسع عشر: ذكر تخريج ما فيه من أحاديثه التي اتفق لي ذكرها بطريق العرض، إما لضبط لفظة أو لشرحها أو دفع استدلال، أو غير ذلك. تمام العشرين: وهو خاص بالروضة، في [بيان] (¬4) الخلل الواقع في اختصارها وهو على أنواع كثيرة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من ب.

أحدها: وهو أفحشها: أن ينعكس عليه كلام الرافعي أو يتحرف أو يفهم منه غير المراد أو يغفل عن شرط مذكور فيه، ونحو ذلك. ثانيها: أن يحذف من كلامه حكمًا أو تصحيحًا أو خلافًا. ثالثها: أن يزيد أحد هذه الأمور، ولم ينبه على أنه من زوائده بل يدخله في نفس كلام الرافعي، لكن إذا نقل التصحيح عن اثنين فصاعدا وأطلق النووي تصحيحه لم أعترض عليه فيه، وإنما أذكر منه ما كان تصحيحه عن واحد فقط. رابعها: أن يثبت طريقة مستندة إلى قول الرافعي مثلًا وهو ما أورده فلان أو أجاب به، ونحو ذلك فإن الفرق بين الإيراد والقطع واضح، وقد صرح به الرافعي مع وضوحه، فقال في الكلام على بيع الفضولي عقب قول الإمام: قطع العراقيون بالبطلان، ما نصه: الذي ألفيته في أكثر كتبهم الاقتصار على ذكر البطلان، لا نفي الخلاف المفهوم من إطلاق [لفظ] (¬1) القطع في مثل هذا المقام، وفرق بين ألا يذكر الخلاف وبين أن ينفي. هذا كلامه. خامسها: أن يذكر المسألة من زوائده وهي في كلام الرافعي في موضع آخر، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعرف حقيقتها إلا بالوقوف عليها وليس الإخبار الإجمالي كالعيان التفصيلي. وهذه العشرون نوعًا هي الأنواع التي أبني عليها هذا الكتاب غير ما يقع في غضونها بطريق النفع من الفوائد الجليلة، ولو أفرد كل نوع من هذه الأنواع بالكلام عليه لكانت عشرين تصنيفًا من أجَل التصانيف، وأكثرها نفعًا، وأعظمها وقعًا، يعد كل واحد منها منحة دهر وثمرة عمر. وأما الفروع الزائدة على ما في "الشرح" و"الروضة"، فإن كتابنا هذا ليس، موضوعًا لها، وأرجو إن كان في الأجل فسحة أن أشرع إن شاء الله ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفصل الأول

تعالى في كتاب مستقل جامع مستوعب بأدلة صحيحة، وأقيسة منقحة وعبارة ملخصة متوسطة يحصل به الاكتفاء عما عداه والتطلع لما سواه أعان الله تعالى على ذلك بمنه وكرمه. واعلم أنك إذا تأملت ما اشتمل عليه كتابنا هذا علمت أنه في الحقيقة شرح "للشرح" و"الروضة" وإن كان حجمه لطيفًا دون حجم الرافعى، فإن الأنواع المذكورة هي غاية ما ذكره الشارح المطلع المستوعب، فإن الفروع الزائدة على الكتاب المشروح ليست من شرحه في شئ، وما كان منه واضحًا فلا يحتاج إلى شرح بالكلية فصح ما قلناه من كونه شرحًا للكتابين، ولما وضح اتصاف شرحنا هذا بما وصفناه، وصح إطلاقه مما ذكرناه، واشتمل على إيضاح هذه النفائس المهمات، والإفصاح عن غوامض المعضلات المدلهمات، بألفاظ أصفى عند الألمعي من الإبريز والفضة، وإيراد خلا عن العي وزها على الرياض الغضة، لقبته بـ"المهمات في شرح الرافعي والروضة" نفع الله تعالى به بمنه وكرمه، وهذه فصول ينبغي معرفتها. الفصل الأول ينبغي أن يعلم أن الإمامين المذكورين قد وقع منهما عَدّ احتمالات الإمام وجوهًا ولا ألتزم التنبيه على ذلك، فإن الغزالي أجل من جاء بعد الإمام وأعرف بحاله من غيره، وقد جعل احتمالاته وجوهًا، والرافعي أجل من جاء بعد الغزالي، وقد صرح أيضا بذلك في مواضع، منها في "الشرح الكبير" في باب إحياء الموات فإنه حكى ثلاثة أوجه في ما إذا بادر فأحيا ما يحجره غيره هل يملكه؟ ، ثم قال: ومال الإمام إلى الفرق بين أن يأخذ المتحجر في العمارة، فلا يملك المبادر، وبين أن يكون التحجر برسم خطوط ونحوه فيملك، فهذا وجه رابع. هذه عبارته. وذكر مسألة في "الشرح الصغير" في كتاب التيمم في الفصل المعقود لقضاء الصلاة المختلة، فقال: وفيه وجه للإمام. هذه عبارته.

الفصل الثاني

وعد النووي أيضا في "المنهاج" احتمالاته وجوهًا، حيث عبر بالأصح في مواضع، منها: قوله في صلاة الجمعة: ويغتسل، فإن عجز تيمم في الأصح ومقابلة احتمال الإمام، ومنها: في تحريم الحلي على المعتدة، وكذا اللؤلؤ في الأصح فإنه تردد للإمام، ومنها: قوله: والصحيح قطع ذاهبة الأظفار بتسليمها دون عكسه، ليس في عكسه إلا احتمال للإمام، وقال ابن الصلاح في "فتاويه": إن الشيخ أبا إسحاق وإمام الحرمين والغزالي مجتهدون مصيبون، وهذا هو ضابط أصحاب الوجوه. لكن ذكر ابن الرفعة في "المطلب" في باب صفة الصلاة في الكلام على رفع اليدين: أن الغزالي ليس من أصحاب الوجوه، بل ولا إمامه. والذي قاله مردود بما سبق من نقل جماعة كل منهم أجل منه فلذلك لم ألتزمه في هذه الأنواع وإن كنت قد تعرضت لكثير منه. الفصل الثاني ينبغي أن تعلم أني لا ألتزم استيعاب جميع ما وقع في الكتابين المذكورين من هذه الأنواع كلها، ولكن ما فاتني منها إلا قليل جدًا بالنسبة إلى ما ذكرته، وقد استقرأت أبواب هذا الكتاب فوجدت غالبها قد اجتمعت فيه هذه الأنواع كلها، وأكثرها قد تكررت هذه الأنواع فيه حتى اتفق من الغريب وقوع الكلام معهما في أول مسألة وقعت في الكتابين المذكورين وفي آخر مسألة فيهما، وقد اتفق لي مثل هذا الغريب في ثلاثة تصانيف مما صنفته في هذا المعنى. أحدها: مع النووي في كتابي المسمى بـ"التنقيح في الاستدراك على التصحيح"، فإنه أقر الشيخ على ما قاله في أول المسألة مختلف فيها في

الفصل الثالث

"التنبيه"، وفي آخر مسألة فيه، وهما على خلاف الصحيح الذي التزم التنبيه عليه. الثاني: مع ابن الرفعة في كتابي المسمى "الهداية إلى أوهام الكفاية". ثالثها: في هذا الكتاب. الفصل الثالث في ذكر الكتب الفقهية أو المتضمنة لذلك التي يسر الله بفضله إلى حين كتابة هذا الفصل وقوفي عليها، وحصل الاستمداد على الكتاب المذكور منها ونقلت بالمباشرة لا بالوسائط عنها، لكن على نقصان في نحو العشرين منها، نقصانًا متفاوتًا بالنسبة إلى القلة والكثرة، ونرجو من فضل الله تعالى الزيادة عليها، وإيضاح حال هذه المصنفات أذكره غالبًا في نوع الأسماء عند ذكر التراجم، إن كان المصنف قد وقع له ذكر في الرافعي أَو "الروضة"، وقد أتعرض له في هذا الفصل. فأول هذه المصنفات وأولاها وأعلاها عند ذوي البراءة وأعلاها كتب إمام المذهب -رضي الله عنه- فمنها وهو رأسها وأرأسها وأجمعها للفروع وأنفسها -كتاب "الأم" وهو نحو خمس عشرة مجلدًا متوسطة، صنفه الشافعي بمصر كما قاله صاحب "الاستقصاء" شارح "المهذب" عن رواية المزني، وراويه هو البويطي، ونقله عنه الربيع المرادي وبوبه وإن كانت أبوابه متكررة ومسائله غير مرتبة كما سبق عند تعداد الأنواع. والكتاب المعروف "بسير الواقدي" من جملة "الأم"، وكذلك "اختلاف الحديث" وكتاب "الرسالة"، وإنما أفردهما الناس بالاستنساخ؛ لأنهما نوعان غريبان إذ ذاك وكالتصنيفين المستقلين، وما ذكرناه من نسبتها إلى

البويطي قد صرح به الغزالي في "الإحياء"، فقال في كلام يتعلق بالبويطي ما نصه: وصنف كتاب "الأم" الذي ينسب الآن إلي الربيع بن سليمان وعرف به، وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه، ولم ينسبه إلى نفسه فزاد الربيع فيه وتصرف فأظهره. هذا لفظ "الإحياء" بحروفه، ذكر ذلك في أركان الصحبة والصداقة وهو في الكتاب الثاني المعقود للعادات بالعين المفتوحة. ومنها: "الأمالي" وهو أجزاء قلائل صنفها الشافعى بمصر، كما ذكره الشيخ أَبو حامد في أول تعليقه. ومنها: "الإملاء" وهو أيضا من الجديد، كما صرح به الرافعي في مواضع من "الشرح الكبير"، وهو نحو "الأمالي" في الحجم. وقد يتوهم بعض من لا اطلاع له أن "الإملاء" هو "الأمالي" وليس كذلك فتفطن له، ولهذا صرح النووي فى "تهذيب الأسماء واللغات" بالمغايرة، وهذه الكتب [الثلاث] (¬1) منها نسخ صحيحة موقوفة بالمدرسة الشريفية من القاهرة ومنها نقلت، وكتاب "مختصر [البويطي" وهو مجلد واحد نفيس، وكتاب "مختصر] (¬2) المزني" وهو الكتاب المبارك النافع المشهور، وغالب الكتب المطولة شروح عليه، ومسائله مرتبة غالبًا بخلاف غالب غيره من تصانيف الإمام، وكتاب "نهاية الاختصار" مجلد واحد عزيز الوجود رواه المزني عن الشافعي بلفظ مختصر قريب من لفظ "محرر" الرافعي، والنسخة التي نقلت منها مؤرخة بالسنة الثامنة بعد أربعمائة، وكتاب "القديم" الذي رواه الكرابيسي عن الشافعي وهو مجلد ضخم ظفرت بنسخة عتيقة منه وعليها خط ابن الصلاح بغرابته والثناء عليه. وأما كتب الأصحاب فمنها: كتاب "قيام الليل" في مجلدين لمحمد بن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

نصر المروزي، وكتاب "تعظيم قدر الصلاة" له أيضًا في مجلدة ضخمة يأتي الكلام عليهما في ترجمته. ومنها: كتاب "الفروق" لابن سريج، وهو مختصر مشتمل على أجوبة عن أسئلة متعلقة بمختصر المزني سئل عنها. وكتاب "الودائع" له وهو مجلد متوسط يشتمل على أحكام مجردة عن الأدلة بعبارة وجيزة. كتاب "الغبن والدين في الوصايا" ونحوها من علم الحساب له وهو مختصر. ومنها: كتاب "تذكرة العالم والمتعلم" لأبي حفص عمر ولد الإمام ابن سريج المذكور وهو تصنيف لطيف. ومنها: كتاب "المسافر" لمنصور التميمي وهو مجلد متوسط غالبه نصوص وبعضه من تفقهه، وأحد النوعين متميز عن الآخر. ومنها: "الكافى" للزبيري وهو مختصر دون "التنبيه" قليل الوجود وكتاب "المسكت" بسين مهملة وتاء مثناة من فوق، وبعضهم يعبر عنه "بالمشكل" أي بالشين المعجمة واللام له أيضًا، وهو كالألغاز عزيز الوجود، اختصره بعض العلماء. ومنها: "الإشراف في مسائل الخلاف" لابن المنذر كتاب جليل مشهور نحو أربعة أجزاء، وكتاب "الإجماع" له مختصر مشهور، وكتاب "الاقتصاد في الإجماع والخلاف" له وهو مجلدان، وكتاب "الإقناع" وهو أحكام مجردة عن الدليل يقرب من "المحرر" للرافعي حجمًا ونظمًا له أيضًا. ومنها: كتاب "أدب القضاء" للإصطخري مجلد ضخم يشتمل على نفائس. ومنها: "التلخيص" لابن القاص مختصر معروف، يذكر في كل باب مسائل منصوصة ومخرجة، ثم أمورًا ذهبت إليها الحنفية على خلاف

قاعدتهم، وكتاب "المفتاح" له وهو دون "التلخيص" في الحجم. وقد اعتنى الأئمة بالكتابين المذكورين، وشرحوهما شروحًا مشهورة ستعرفها عند ذكر مؤلفيها، وكتاب "أدب القضاء" مجلد لطيف له، وكتاب "دلائل القبلة" مختصر أكثره تاريخ وحكايات عن أحوال الأرض وعجائبها ومصنف لطيف في "الكلام على إحرام المرأة"، ومصنف ثان على قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا أبا عمير ما فعل النغير" أى الطائر، ومصنف ثالث في "مسائل الدور" علقه عنه أَبو على الزجاجي، وكل هذه لابن القاص. ومنها "شرح المختصر" لأبي إسحاق المروزي نحو ثمانية أجزاء، وكتاب "التوسط بين الشافعي والمزني فيما اعترض به المزني في المختصر" له أيضا، وهو مجلد ضخم يرجح فيه الاعتراض تارة ويدفعه أخرى. ومنها: "فروع ابن الحداد" وسمى "بالمولدات" لكونه هو المولد لها والمبتكر، وهو مجلد لطيف متوسط من عجائب التصانيف تتحير العقول في تقريره فضلًا عن اختراعه، اعتنت به الأئمة وتنافسوا في شرحه كما ستعرفه، ووقف كثير منهم عن الكلام فيه لدقته وغموضه. وذكر الرافعي في الكلام علي بعض مسائله: أن ابن الحداد لما ابتكر هذا الفرع أخذ العجب برجله فزلت به القدم فغلط فيه. ومنها: "التعليق الكبير" على مختصر المزني لابن أبي هريرة نقله عنه أَبو علي الطبري، وتعليق آخر له أيضًا في مجلد واحد ضخم، وهما قليلا الوجود. ومنها: "شرح الرسالة" لأبي الوليد النيسابوري، المعروف أيضًا بحسان القرشي مجلد واحد. ومنها: "الإفصاح" بالفاء والصاد المهملة لأبي علي الطبري، وسيأتيك إيضاح حاله في ترجمة المصنف. ومنها: كتاب "الخصال" لأبي بكر الخفاف وهو مجلد متوسط ذكر في

أوله نبذة من أصول الفقه، سماه "بالأقسام والخصال" ولو سماه بالبيان لكان أولى؛ لأنه يترجم للباب بقوله: البيان عن كذا. ومنها: "فروع ابن القطان" التي نقلها عنه ابن كج وهو مجلد متوسط غالبه غريب. ومنها: كتاب "أدب القضاء" للقفال الكبير الشاشي وهو جزء كبير قليل الوجود، وكتاب "محاسن الشريعة" له أيضا وهو كتاب عظيم جليل المقدار مشتمل على معان غريبة، وحكم لطيفة، ومسائل مهمة قليل الوجود، ومنه نسخة فى ثلاثة مجلدات لطاف موقوفة بالمدرسة الفاضلية من القاهرة. ووقفت على مختصر مسمى "بالمساعد على معرفة القواعد" نسبه كاتبه إليه، والظاهر أنه لأبي بكر الشاشي صاحب "الحلية" لا لهذا. ومنها: "جامع الجوامع" لابن العتريس كتاب جليل في الاعتناء بالنصوص يأتيك [بيان] (¬1) حاله في نوع الأسماء. ومنها: "شرح التلخيص" لأبي عبد الله الختن -بالخاء المعجمة والتاء المثناة- هو مجلد واحد. ومنها: "شرح ما لا يسع المكلف جهله" وهو مختصر في العبادات خاصة، لابن لال بلامين بينهما ألف. ومنها: "التهذيب" لأبي علي -الزجاجي بضم الزاي وتخفيف الجيم- مختصر قريب من "التنبيه" مشتمل على فروع زائدة على "المفتاح" تصنيف شيخه ابن القاص، ولهذا يلقب أيضًا الكتاب المذكور "بزوائد المفتاح"، ومنها تصنيف لطيف له أيضا يتضمن مسائل زادها على كتاب "أدب القضاء" لشيخه المذكور. ومنها: "اللطيف" لابن خيران وهو مجلد دون "التنبيه" كثير الأبواب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

جدًا، لم يرتبه المصنف الترتيب المعهود حتى أنه جعل الحيض في آخر الكتاب، وابن خيران هذا هو ابن خيران الصغير وهو أَبو الحسن البغدادي، لا أَبو علي بن خيران، فإن ذلك متقدم عليه، وهو المراد عند إطلاق اللفظ من غير تقيد وقد نقل هو عنه في كتاب الشهادات. ومنها: "فتاوي أبي عبد الله الحناطى" وهو تصنيف لطيف أجاب فيه عن مسائل سئل عنها. ومنها: كتاب "التقريب" لابن القفال، كتاب جليل المقدار، ويأتيك بيانه في نوع الأسماء عند الكلام على ترجمة مصنفه، ومنها ثلاثة تصانيف في الفرائض لابن اللبان أحدها: مجلد نفيس سماه "بالإيجاز". ومنها: "شعب الإيمان" للحليمي، كتاب جليل في نحو ثلاثة مجلدات مشتمل على نفائس فقهية وغيرها مما يتعلق بأصول الإيمان وآيات الساعة وأحوال القيامة، ومنه نسخة موقوفة بخانقاه سعيد السعداء، وقد اختصره شيخنا علاء الدين القونوي اختصارًا حسنًا، وقد نقل الرافعي -رحمه الله- في كتاب الطهارة في الكلام على ما يحصل به إسلام الكافر، وفي كتاب الردة عن "المنهاج" للحليمي أمورًا، فاعتقد كثير من الناس أنه اسم للكتاب المذكور، والذي ظهر لي أنه غيره، فإن بعض ما نقله عنه لم أجده في "الشعب". ومنها: "تعليقة" الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهي تعليقة على المختصر جليلة مطولة، وهي مختلفة النسخ، ومنها استمد أصحابه في تصانيفهم. ومنها "الكفاية" [للصيمرى] (¬1) وهو مختصر، وكتاب "الإرشاد" وهو شرح على الكفاية المذكورة في مجلد واحد له أيضا، وكتاب "الإيضاح" بالياء والضاد المعجمة في نحو خمسة [أجزاء] (¬2) أيضًا له، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى (أ) أدراجه.

ومنها: كتاب "التلقين" لابن سراقة وهو مجلد متوسط، وكتاب "أدب الشهود" له وهو مختصر، وكتاب "الحيل" بالحاء المهملة جمع حيلة له أيضًا، وكتاب "شرح الكافي في الفرائض" مجلد متوسط، له أيضًا، ومختصر في العبادات غالبًا سماه "ما لا يسع المكلف جهله"، وقد سبق نحو هذه التسمية في تصنيف لابن لال، وكتاب "الأعداد" للمذكور وهو المسمى "بوجه إعجاز القرآن من الأعداد والحساب" وهو مجلد ضخم قليل الوجود غريب الطريقة، يذكر فيه المرتبة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف، ويذكر ما ورد منها في القرآن وما رتب عليها من الأحكام أو وافقها في العدد فيقول مثلا: الأربعة وردت في القرآن في قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وفي كذا وكذا [ويذكر حكم ذلك، ثم يقول: وخطب الحج أربعة وكذلك كذا وكذا] (¬1). ومنها: "المجموع" للمحاملي قريب من حجم "الروضة" مشتمل على نصوص كثيرة للشافعي، وكتاب "التجريد" له قريب من ذلك وغالبه فروع عارية عن الاستدلال، وكتاب "القولين والوجهين" له أيضا وهو مجلدان يذكر فيه جملة من الفروع المختلف فيها ويميز فيها ذات القولين من ذات الوجهين، وكتاب "رؤوس المسائل" للمذكور وهو مجلدان متوسطان يذكر فيه أصول المسائل، ويستدل عليها، وكتاب "المقنع" له [مجلد] (¬2) ضخم مشتمل على فروع كثيرة بعبارة مختصرة، وكلام المصنف في خطبته محتمل لإرادة المقنع بضم الميم كما يقوله الناس، وللمقنع بفتحها، وكتاب "اللباب" له أيضا مختصر مشهور كبير الفائدة على صغره، وكتاب "عدة المسافر وكفاية الحاضر" مجلد في الخلاف بيننا وبين الحنفية، ومنه نسخة موقوفة بالمدرسة الفاضلية من القاهرة، وهذه التصانيف كلها أخذها من تعليقة شيخه الشيخ أبي حامد. ومنها: "شرح [التلخيص" للقفال شيخ] (¬3) المراوزة وهو مجلدان، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من (أ).

وكتاب "شرح فروع ابن الحداد" له في مجلد، وكتاب "الفتاوى" في مجلدة ضخمة كبيرة الفائدة له أيضًا، ومن نسخة بخط بعض أصحابه وعليها خط ابن الصلاح ومنها نقلت. ومنها: تصنيف لطيف فى "الدور" لأبي إسحاق الإسفراييني. ووقفت على شرح "لفروع ابن الحداد" لم يكتب عليه اسم مصنفه غلب على ظني أنه للمذكور والله أعلم. ثم رأيت نسخة ثانية منه وقد كتب عليه في ظهره ما يكتب في العادة، وهو ترجمة الكتاب وترجمة مؤلفه، فرأيت موضع الحاجة وهو الاسم قد انمحى من طول الزمان. ومنها: "تعليقة البندنيجي" وتسمى "بالجامع" وحجمها قريب من حجم "الرافعي الصغير"، وكتاب "الذخيرة" له وهو دون التعليقة. ومنها: كتاب "الفرائض" للأستاذ أبي منصور البغدادي، وكتاب "القضايا في الدور" و"الوصايا" له أيضًا نفيس جليل، وكتاب "الدوريات" له، وهو مختصر على كثير من أبواب الفقه. ومنها: "شرح التلخيص" لأبي علي السنجي أكبر من مهذب الشيخ أبي إسحاق، وكتاب "شرح الفروع" له أقل حجمًا مما قبله وهما كتابان جليلان جدًا، ومنها: "شرائط الأحكام" لابن عبدان مجلد متوسط. ومنها: "الفروق" للشيخ أبي محمد الجويني، وهو مجلد ضخم كثير الفائدة وإن كان مقصود الكتاب وهو سؤال الفرق ليس بطائل، وكتاب "السلسلة" له مجلد قريب مما قبله، وسماه بذلك لأنه يبني فيه مسألة على مسألة ثم يبني المبني عليها على أخرى ويكرر ذلك في بعض المسائل، وقد نقل الرافعي عنه موضعًا مما طال فيه البناء، فلما أكمله تلطف معه في القول فقال: وهذه سلسلة طَوَّلَهَا الشيخ، وكتاب "المختصر" له أيضًا وهو مختصر لـ"مختصر المزني"، وكتاب "التبصرة" للمذكور وهو مجلد لطيف غالبه في العبادات، وفي تسهيل أمور قد تحصل منها الوسوسة،

وتصنيف لطيف له أيضًا في "موقف الإمام والمأموم". ومنها: "الحيل" لأبي حاتم القزويني وهو تصنيف متوسط يذكر فيه الحيل الدافعة للمطالبة وأقسامها من المحرمة والمكروهة والمباحة كالحيل الرافعة للشفعة ونحوها. ومنها "المجرد" لسليم الرازي وهو أربع مجلدات عارية عن الأدلة غالبًا جرده من تعليقة شيخه الشيخ أبي حامد، وكتاب "رؤوس المسائل" له، [وهو مجلد ضخم جدًا يحذو فيه حذو رفيقه المحاملي في رؤوس المسائل] (¬1) السابق ذكره تسمية واصطلاحًا، وكتاب "الكافي" له مختصر قريب من "التنبيه" وكتاب "الإشارة" له أيضًا وهو تصنيف لطيف. ومنها: كتاب "الاستذكار" للدارمي قريب من حجم "الوسيط"، وقد وقفت على نسخة عليها خطه، وكتاب "جامع الجوامع ومودع البدائع" له أيضا وسأذكر حال الكتابين في نوع الأسماء. ومنها: "تعليقة القاضي أبي الطيب" وهو نحو عشر مجلدات كبار كثير الاستدلال والأقيسة بلفظ منقح مجرد ملخص، وكتاب "شرح الفروع" للمذكور وهو مجلد ضخم، وتصنيف لطيف في "تحريم الغناء" له أيضا. ومنها: "شرح غنية ابن سريج" لأحد تلامذة القفال وهو مجلد واحد متوسط عزيز الوجود، وتاريخ النسخة التي نقلت منها سنة سبع عشرة وخمسمائة. ومنها: "الحاوي" للماوردي وهو الجليل الحفيل الذي لم يصنفه مثله وكتاب "الأحكام السلطانية" وهو تصنيف عجيب في مجلد، و"الإقناع" له أيضًا وهو مختصر مشتمل على غرائب. ومنها: "شرح فروع ابن الحداد" لأبي بكر الصيدلاني مجلد، وتعليق له مختصر على المزني في جزأين ضخمين مشتمل على فوائد كثيرة وغريبة، والنسخة التي وقفت عليها وقفها ابن الرفعة على المدرسة المعزية بمدينة ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

مصر، مكتوب عليها الآن: إن مقرها بالمدرسة الصالحية بين القصرين. ومنها: "المطارحات" لأبي عبد الله القطان، تصنيف لطيف يطارح به الفقهاء عند اجتماعهم -أي يمتحن بعضهم بعضًا به- لدقته كما يمتحن بالألغاز، وليس لابن القطان المعروف فاعلمه. ومنها: "أدب القضاء" لأبي عاصم العبادي [مختصر مشهور ومفيد، وكتاب "الزيادات" له أيضا ويعبر الرافعي عنه "بفتاوى العبادي"] (¬1) وهو مجلد لطيف، و"زيادات الزيادات" له أيضًا، وكذلك "الزيادات على زيادات الزيادات" أيضًا، وكتاب "طبقات الفقهاء" له وإنما عددته لاشتماله على مسائل كثيرة ووجوه غريبة. ومنها: كتاب "الإبانة" للفوراني قريب من حجم الوسيط، وكتاب "العمد" له أيضًا وهو بفتح الميم دون "الإبانة" بقليل. ومنها "تعليقان" للقاضي الحسين، وكتاب "أسرار الفقه" للمذكور قريب من حجم التنبيه وقريب في المعنى من كتاب "محاسن الشريعة" للقفال الشاشي، يشتمل على معان غريبة ومسائل، وهو قليل الوجود ومنه نسخة موقوفة بالمدرسة القطبية من القاهرة، وكتاب "الفتاوى" له مشهور، و"شرح على فروع ابن الحداد" و"قطعة من شرح تلخيص ابن القاص" له أيضا، وقد بسطت الكلام على هذه الكتب فبعضه سبق في أوائل الخطبة عند تعداد الأنواع وبعضه يأتيك في ترجمة المذكور. ومنها: "شرح مفتاح ابن القاص" لأبي خلف الطبري، وهو مجلد عزيز الوجود، و"النوع الفقهي" للمذكور، وهو نوع من الأنواع المعقود لها كتابه المسمى "بالمعين"، ومن المعين نسخة موقوفة برباط السدرة بمكة شرفها الله تعالى وعليها خطه. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

ومنها: كتب أبي بكر البيضاوي المذكور في طبقات الشيخ أبي إسحاق كما سيأتي وهي ثلاث: "التبصرة" مختصر حسن، وكتاب "التذكرة في شرح مسائل التبصرة" وهو مجلد، وكتاب "أدلة التبصرة" مجلد لطيف. ومنها: "الكفاية في الفروق واللطائف" لأبي عبد الله الحسين الطبري وهو مختصر، ذكره الشيخ أَبو إسحاق في طبقاته. ومنها: "المهذب" للشيخ أبي إسحاق لخصه من [تعليقة شيخه القاضي أبي الطيب، وكتاب "التنبيه" أخذه من] (¬1) تعليق الشيخ أبي حامد، وتصنيفان في الخلاف بيننا وبين الحنفية للشيخ أيضا مشتملان على فوائد كثيرة، أحدهما: كبير جدًا سماه "تذكرة المسؤولين"، والثاني دونه سماه "النكت والعيون". ومنها: "الشامل" لابن الصباغ، وهو الكتاب الجليل المعروف، وكتاب "الطريق السالم" له وهو مجلد قريب من حجم "التنبيه" مشتمل على مسائل وأحاديث وبعض تصوف ورقائق، وكتاب "الكامل" [بالكاف] (¬2) في الخلاف بيننا وبين الحنفية له أيضا، وهو قريب من حجم "الشامل". ومنها: "النهاية" للإمام جمعها بمكة وحررها ببلده نيسابور، ومختصرها له أيضا ولم يكمله، وكتاب "الأساليب" في الخلاف بيننا وبين الحنفية للمذكور وسماه "بالأساليب" لأنه في أثناء الاستدلال إذا أراد الانتقال إلى طريقة أخرى من الاستدلال يترجم بقوله: أسلوب آخر، والغزالي قد أخذ هذا المعنى منه في تصنيف له يأتي، إلا أنه يعبر بقوله: مأخذ آخر، فلذلك سماه "المآخذ"، وكتاب "الغياثي" مجلد متوسط سلك به غالبا مسلك "الأحكام السلطانية" للماوردي كما سيأتي في الكلام على التراجم، وسماه "بالغياثى" لأنه صنفه للوزير غياث الدين الملقب بنظام الملك صاحب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

المدارس المشهورة، وكتاب "غياث الخلق في اتباع الحق" له أيضا، يحث فيه ويحرض على الأخذ بمذهب الشافعي دون غيره، و"الرسالة النظامية" مختصر لطيف صنفه لنظام الملك فيما ينبغي سلوكه لمثله. ومنها: "التتمة" للمتولي، ولم يتفق له إكماله بل وافاه محتوم القضاء عند وصوله إلي كتاب القضاء، وقد أكمله غير واحد ولم يقع شئ من تكملتهم على نسبته. ومنها: "المعاياة" لأبي العباس الجرجاني، مشتمل على أنواع من الامتحانات كالألغاز والفروق والاستثبات من الضوابط، وكتاب "التحرير" له وهو مجلد كبير مشتمل على أحكام كثيرة مجردة عن الاستدلال، وكتاب "البلغة" له أيضا وهو مختصر، وكتاب "الشافي" للمذكور وهو كبير في أربع مجلدات قليل الوجود. ومنها: "التهذيب" للشيخ نصر المقدسي قريب من حجم "الروضة"، ومنه نسخة موقوفة بالمدرسة الفاضلية، وكتاب "التقريب" له قريب من هذا الحجم، وكتاب "المقصود" وهو أحكام مجردة في جزأين متوسطين قليل الوجود، وكتاب "الكافي" أيضا له قريب من حجم "التنبيه" ومن حجم "الكافي" لشيخه سليم كما سبق، وله أيضا شرح متوسط على مختصر شيخه سليم الذي سماه "الإشارة". ومنها: "المعتمد" لأبي نصر البندنيجي تلميذ الشيخ أبي إسحاق [في جزأين] (¬1) مشتمل على أحكام مجردة غالبًا في الخلاف، وله فيه اختيارات غريبة. ومنها: "العدة" -بتشديد الدال- في خمسة أجزاء ضخمة لأبي عبد الله الحسين الطبري "عدة" أبي المكارم الطبري الروياني فإني لم أقف ¬

_ (¬1) سقط من ب.

على تلك، وفيها كلام مهم يأتيك في نوع الأسماء تتعين مراجعته. ومنها: "الإشراف على غوامض الحكومات" لأبي سعيد الهروي، وهو مجلد متوسط كبير الفائدة شرح فيه "أدب القضاء" تصنيف شيخه العبادي وكتاب "لباب التهذيب" للهروي، وهو مختصر يتضمن مسائل كثيرة من "تهذيب" البغوي. ومنها: "البحر" للروياني وهو بحر كاسمه، وكتاب "الحيلة" له مجلد متوسط فيه اختيارات كثيرة، وكثير منها يوافق مذهب مالك، والكتاب المسمى "المبتدي" -بكسر الدال- أي الذي يريد التفقه وهو دون "الحيلة" بقليل، وكتاب "القولين والوجهين" له وهو مجلدان سبق الكلام عليه عند ذكر كتب المحاملي. ومنها: كتب الغزالي وهو "البسيط" وهو كالمختصر "للنهاية"، وكتاب "الوسيط" له ملخص منه وزاد فيه أمورًا، وكتاب "الوجيز" مأخوذ مما قبله وفيه أيضا زيادات عليه سبق التنبيه على سببها في أثناء الخطبة، وكتاب "الخلاصة" وهو مجلد دون "التنبيه" ذكر في خطبته أنه انتقاه من "مختصر المزني"، وكتاب "عقود المختصر" وهو ملخص من مختصر الشيخ أبي محمد كمختصر المزني ويعبر عنه "بالمعتصر" بالتين المهملة، فلذلك سماه الغزالي "عقود المختصر ونقاوة المعتصر"، وكتاب "الفتاوى" له وهي مشتملة على مائة وتسعين مسألة -أي مائتين إلا عشرة- وهي غير مرتبة، وله فتاوى أخرى غير مشهورة سئل فيها عن مسائل هي أقل من تلك، وكتاب "الإحياء" وهو الأعجوبة العظيم الشأن، والمختصر المسمى "بداية الهداية"، هذا وإن كان الغالب عليه هو ما يتعلق بالتصوف إلا أن فيه أمورًا متعلقة بالفقه وتصنيفان في المسألة السريجية: أحدهما: في عدم وقوع الطلاق سماه "غاية الغور في دراية الدور". والثاني: في إبطاله سماه "الغور في الدور" ويرجع فيه عن تصحيحه، وكتابان جليلان في الخلاف بيننا وبين الحنفية؛ أحدهما: سماه "المآخذ"

على وزن المساجد وهو جمع مأخذ وقد سبق في ترجمة كتب الإمام سبب تسميته بذلك، والثاني: تأكيد له وتقوية سماه "تحصين المآخذ" فهذه هي كتب الغزالي -رحمه الله-. ومنها: كتاب "المعتمد" للشاشي تلميذ الشيخ أبي إسحاق وهو قريب من حجم "الوسيط"، وكتاب "الحلية" له وهو في مجلدين ذكر فيه خلافا كثيرًا للعلماء، صنفه للخليفة المستظهر بالله لكي يوافق ما يفعله مذهبًا ويجتنب المجمع عليه، ولذلك يلقب الكتاب المذكور أيضا "بالمستظهرى" أي بياء النسبة، وكتاب "الترغيب في العلم" للمذكور أيضا وهو مجلد متضمن لفروع بأدلة، وكتاب "العمدة" له أيضا مختصر صنفه لولد الخليفة المذكور الملقب عمدة الدين، وتصنيف لطيف في المسألة السريجية اختار فيه عدم الوقوع. ومنها: كتاب "التهذيب" للبغوي، وهو تصنيف متين محرر عار عن الأدلة غالبًا اختصر فيه تعليقة شيخه القاضي الحسن، وإن كان قد زاد فيه ونقص، وكتاب "الفتاوى" له وهو نفيس مشهور، وكتاب "شرح التنبيه" له معروف أيضا، ومنها: "الكافي" للخوارزمي في أربعة أجزاء كبار عار غالبًا عن الاستدلال والخلاف على طريقة شيخه البغوي في تهذيبه، وفيه زيادات عليه غريبة. ومنها: "تقريب الأحكام" للهروي مجلد لطيف. ومنها: "فوائد المهذب" للفارقي وهو مجلدان متوسطان نقلهما عنه تلميذه ابن أبي عصرون، وزاد فيه مواضع معلمة بصورة عين مهملة إشارة إلى ابن أبي عصرون. ومنها: "المحيط في شرح الوسيط" لمحمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وهو نحو ثمان مجلدات، وكتاب في الخلاف بيننا وبين الحنفية له أيضا وهو تعليق مفيد.

ومنها: "الذخائر" للقاضي مجلي، وقد أشبعت الكلام عليه في نوع الأسماء كما سيأتي، وكتاب "العمدة في أدب القضاء" للمذكور وهو لطيف، وتصنيفه في "الجهر بالبسملة"، وكذلك في "المسألة السريجية" اختار فيها عدم الوقوع، وفي "جواز اقتداء بعض المخالفين في الفروع ببعض" صنفه في توجهه للحج من البحر على طريق عيذاب. ومنها: كتاب "أحكام الخناثى" لابن المسلم الدمشقي تلميذ الغزالي، مختصر. ومنها: أيضًا كتاب "أحكام الخنثى" للقاضي أبي الفتوح بن أبي عقامة قريب مما قبله، وقد أوضحت حالهما في كتابي المسمى بـ"إيضاح المشكل". ومنها: كتاب "أدب القاضى" للزبيلي مجلد قريب من حجم "التنبيه"، وفي ضبط لفظ الزبيلي كلام مذكور في تأليفي المعقود "لطبقات أصحاب الشافعي" فراجعه. ومنها: "فتاوى أبي نصر" محمد بن عبد الله الأرغياني وهو مجلدان، يعرف أيضا "بفتاوى النهاية" لأن مؤلفه جرده منها، وقد وهم ابن خلكان فيه فنسبه في تاريخه لشخص آخر أرغياني أيضا، وسيأتيك بيان ذلك في نوع الأسماء فراجعه. ومنها: "روضة الأحكام ورتبة الحكام" للقاضي شريح الروياني ابن عم صاحب "البحر" وهو مختصر في أدب القضاء كثير الفائدة ومنها: "شرح التنبيه" [للصائن] (¬1) الجيلي، وهو الشرح المعروف المفيد إلا أنه لا يجوز الاعتماد على ما فيه من النقول، كما نقلته في كتاب "الطبقات" عن ابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد، وسببه على ما حكاه بعض شيوخنا: أن بعض من عاصره حسده عليه فدس فيه نقولًا غير صحيحة فأفسد الكتاب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا هو الظاهر، وإلا فكيف يظن الإقدام على مثل ذلك من أحد من أهل العلم، خصوصًا في تصنيف له عالمًا أن ذلك لابد أن يظهر على طول الزمان، وكتاب "الإعجاز في الألغاز" له أيضا وهو دون "التنبيه". ومنها: "الرونق" لأبي حامد العراقي وهو ككتاب الحاملي حذوًا ومقدارًا، وليس للشيخ أبي حامد المشهور كما يظنه كثيرون. ومنها: كتب العمراني وهي "البيان" واصطلاحه أن يعبر بالمسألة عما في المهذب وبالفرع عما زاد عليه، وكتاب "الزوائد" له وهو جزآن جمع فيه فروعًا زائدة على "المهذب" من كتب معدودة، وكتاب "السؤال عما في المذهب من الإشكال" وهو مختصر، و"الفتاوى" مختصر أيضا. ومنها: كتب ابن أبي عصرون وهو "الانتصار" في أربع مجلدات أكبر من الوسيط، وكتاب "المرشد" في جزأين متوسطين، وهو أحكام مجردة بلفظ مختصر كانت الفتوى عليه في الديار المصرية قبل وصول الرافعي الكبير، إليها وكتاب "التنبيه" فروع مجردة دون تنبيه الشيخ أبي إسحاق وقد سبق أن شيخه الفارقي له فوائد على "المهذب" جمعها عنه المذكور وزاد فيها، فهي تنسب إليه أيضًا لهذا المعنى فاعلمه. ومنها: "شرح أبي الفتوح العجلي على مواضع من "الوسيط" و"الوجيز" وهو جزآن، وعندي كتاب في "تتمة التتمة"، الظاهر أنه تصنيفه، وقد سبق في الكلام على "التتمة" أن مؤلفها مات قبل إكمالها فكملها غير واحد منهم العجلي هذا، ومنها: "شرح الوجيز" للعماد بن يونس وهو جزآن، [و"كتاب الفتاوى" له جزء واحد. ومنها: "شرح التنبيه" لشرف الدين بن يونس] (¬1) وهو ابن أخي العماد المذكور قبله وهو الشرح المشهور في الآفاق لأجل شهرة "التنبيه" ومنها: كتب الرافعي وقد سبق الكلام عليها في أوائل الكتاب فراجعها، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومنها: "الجامع الأوفى في الفرائض" لأبي المظفر الشهرزوري بالشين المعجمة. ومنها: "حواشي الوسيط" لابن السكري وهو تصنيف لطيف. ومنها: "شرح الوسيط" للموفق حمزة بن يوسف الحموي، وهو كتاب مشهور أكبر من حجم الروضة، ومنها: كتاب "الإكمال لما وقع في التنبيه من الإشكال" له أيضًا. ومنها: "المعتبر شرح المختصر" -للشرواني بالشين المعجمة- وهو مجلد ضخم تكلم فيه على مختصر الشيخ أبي محمد الجويني السابق ذكره، ومنها: "شرح المهذب" للعراقي وهو كبير في نحو خمسة عشر جزءًا متوسطة. ومنها: "الكامل" للمعافى الموصلي وهو قريب من حجم "الروضة" ومنها: "التوجيه في شرح التنبيه" لابن الخل -بالخاء المعجمة- وهو مجلد ضخم ليس فيه غير تصوير المسألة وتعليلها بعبارة مختصرة وهو أول من تكلم على "التنبيه". ومنها: "الوسائل في فروق المسائل" لأبي الخير سلامة بن إسماعيل بن جماعة المقدسي وهو مجلد، وكتاب "شرح المفتاح" وهو مجلدان. ومنها: "شرح التنبيه" لابن طاهر الكرخي في أربع مجلدات. ومنها: "الكفاية" للحاجري نحو "التنبيه" حجمًا واختصارًا، ومنها: "رفع التموية عن مشكل التنبيه" للدزماري فى مجلدين وهو غير مستوعب لمسائل التنبيه بل نكت على مواضع منه. ومنها: كتاب "الهادي" لقطب الدين النيسابوري، مختصر قريب من مختصر التبريزي في الحجم، كانت المتفقهة في بعض النواحي من الأعصار المتقدمة يحفظونه. ومنها: "الفرائض" للأشبهي معروف. ومنها: "ترتيب الأقسام" للمرعشي مجلد متوسط فيه غرائب.

ومنها: كتاب "البيان في أحكام التقاء الختانين" للفقيه سلطان وهو مختصر، ومنها: "الموجز في شرح الوجيز" للزنجاني مجلدان ومنه نسخة بالمدرسة القطبية العتيقة. ومنها: "شرح مشكل الوسيط" لابن أبي الدم، وهو نحو الوسيط مرتين مشتمل على نكت فيها أعمال كثيرة، وكتاب "أدب القضاء" له وهو مجلد لطيف فيه فوائد. ومنها: "مجموع المحيي القليوبي" وهو مجلد مشتمل على فروع غريبة معزوة إلى قائلها. ومنها: "نكت التنبيه" لابن أبي الصيف، بالصاد المهملة، مجلد لطيف. ومنها: "مشكل الوسيط" لابن الصلاح، وهو نكت في جزأين متوسطين على مواضع متفرقة وأكثرها في الربع الأول، وكتاب "الفتاوى" له مجلدة كبيرة الفوائد، وبعض نسخها مرتب على الأبواب وبعضها غير مرتب، وكتاب "أدب المفتي والمستفتي" له مختصر نافع مشتمل على فوائد غريبة من أنواع العلوم، نقلها في رحلته إلى خراسان عن كتب غريبة كثير منها بخطوط مصنفيها، وستعرف ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وله تصنيف في "السواك للصائم" يأتي النقل عنه، ونكت متفرقة على المذهب، وتصنيف "في رحبة المسجد" ذهب فيه إلى شئ ليس بصحيح، وخالفه ابن عبد السلام وصنف فيه أيضا تصنيفًا جيدًا. ومنها: "الغاية" للشيخ عز الدين بن عبد السلام في اختصار "النهاية"، وكتاب "القواعد الكبرى" وهو الكتاب الدال على علو مقدار الرجل وكثير منه مأخوذ من كتاب "شعب الإيمان" للحليمي، وله أيضا "القواعد الصغرى" و"الفتاوى الموصلية" سئل عنها في الموصل و"فتاوى أخرى" سئل فيها عن مسائل قليلة. ومنها: "الحاوي الصغير" للشيخ عبد الغفار، وكتاب "العجاب"، له وكتاب "اللباب".

ومنها: "التعجيز" لابن يونس وهو تاج الدين عبد الرحيم ولد ابن العماد السابق، وكتاب "شرح التعجيز" في مجلدين ضخمين ومات ولم يتمه بل بقى منه نحو الربع وكتاب "التنبيه في اختصار التنبيه" وقد غير فيه ألفاظًا وزاد فيه مسائل غريبة، وكتاب "التنويه على ألفاظ التنبيه" فسلك فيه مسلك "دقائق المنهاج" للنووي، لكنه أكبر منه بكثير -رضي الله عنهم- أجمعين. فهذه هي الكتب التي وقفت عليها، ونقلت منها بغير واسطة إلى حالة وضع هذا الفصل على نقصان في نحو العشرين منها نقصانًا متفاوتا، وبالنسبة إلى القلة والكثرة كما سبق ذكره في أول الفصل، وغالبها جارية في ملكي بحمد الله تعالى، وذلك كله خارج عن كتب النووي فمن بعده إلى زماننا، وفي ظني أن هذا العدد بل ولا أكثر لم يتيسر الوقوف عليه لأحد ممن صنف في الفروع، فإنك إذا استقرأت مصنفي كتب الشافعية المطولة وجدت الرافعي أكثرهم اطلاعًا على المصنفات، ثم إنه كان -رحمه الله- شديد التثبت والاحتراز في النقل لا يطلق نقلًا عن كتاب إلا إذا رآه فيه، فإن لم يقف عليه من كلامه عزاه إلى حاكيه عنه أو أتى بصيغة "عن" فيقول: وعن الكتاب الفلاني كذا، وحينئذ فإذا تأملت ما ذكرناه ظهر لك أن غالب ما وقف عليه الرافعي إنما هو من الطبقات المتأخرات عن الأربعمائة إلى زمانه، وأما المتقدمة عليها فنادر جدًا لاسيما كتب الإمام الشافعي نفسه، بل فاته أيضا مما بعد الأربعمائة أصول كثيرة هي أمهات مطولات ككتاب "التقريب" و"تعليق البندنيجي" وكتب الفوراني و"تعليق القاضي أبي الطيب" وكثر تعليق الشيخ أبي حامد و"الحاوي" للماوردي وكتب الدارمي كلها وكتب سليم الرازي جميعها، وكتب الشيخ نصر المقدسي بأسرها، وعدة أبي الحسين الطبري، وغير ذلك مما لا يخطر بالبال فضلًا عن الأوساط والمختصرات. نعم وقف الرافعي -رحمه الله- على اثنى عشر مصنفًا ما بين مبسوط

ومتوسط ومختصر لم أقف عليها لعدم وصول أكثرها إلى بلادنا: أحدها: "كتاب الصيدلاني". والثاني: "كتاب الحناطي". والثالث: "كتاب المسعودي". والرابع: "التجريد" [لابن كج] (¬1). والخامس: "شرح الموفق" ابن طاهر على مختصر الجويني. والسادس: "جمع الجوامع" للروياني وهذه الكتب مطولة. والسابع: "شرح مختصر المزني" للشيخ أبي محمد. والثامن: "تعليقة إبراهيم المروزى". والتاسع: "شرح المفتاح" لأبي منصور البغدادي. والعاشر: "التجربة" للروياني وهي بتاء مثناة من فوق بعدها جيم. والحادي عشر: فوائد علقها شريح الروياني عن جده أبي العباس يعبر عنها الرافعي بالمعلقات. والثاني عشر: "المستدرك" لإسماعيل البوشنجي، فهذه هي الكتب التي لم نقف عليها إلى الآن مما وقف هو عليها وفضل الله تعالى منتظر، ومع ذلك فهي [نذر] (¬2) يسير بالنسبة إلى ما فاته هو مما أسلفناه وقدمناه والمسؤول من الله تعالى التوفيق والإعانة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فصل

فصل ينبغي للواقف على ما ذكرته في كتابي هذا من النكت العجبية، والأمور [الغريبة] (¬1) الواقعة في الكتابين المذكورين أن لا يكفيه مجرد التأخر في الزمن بالإعراض عن هذه الأعمال، والاعتراض على القدح فيما يكفى بالقبول والإقبال، فلله در القائل: اعرفوا الرجال بالحق ولا تعرفوا الحق بالرجال، وينبغي أيضًا أن يتحيل في إقامة العذر لمن ألفهما، ولا يتخيل أن في ذلك نقصا من قدرهما، فإن طبع الإنسان على السهو والنسيان ولا يتصور عادة -خصوصًا مع طول التصنيف- أن يسلم مصنفه من الخطأ والتحريف، والوقوع في مخالفة الأولى والحود عن الطريقة المثلى، فكل مأخوذ من قوله ومتروك، ألا والسعيد من انعدت غلطاته، وانحصرت سقطاته وقيض له من تدارك زَلَلَهُ، وأصلح خلله أصلح الله أعمالنا وأنجح آمالنا بمنه وكرمه. وإذا تأمل المنصف هذا التصنيف، وأمعن النظر في هذا [التأليف] (¬2) حكم بأنه ينظم الكتابين كالقوافي، وأن هذا الثالث هو ثالث الآثافي. هذا وربما تأمله بعض أبناء الوقت ممن ركبه الخزي والمقت والحسد واتخذ إلهه هواه وشيطانه مولاه، وألبسه الله رداء الحسد وسربال الشقاوة وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فنظر إليه بطرف خفى وصم عن إدراك ما فيه وعمى، أو استتبع فيه بصره، وأوسع فكره فحقق خبره، وعلم قدره فعدل سرًا إليه، ولكن أماله حسده فعدل جهرًا عليه كما قد وقع في الكتاب الأول الموضوع لبعض هذه الأنواع المسمى "بالجواهر" زاعما في ذلك استكشاف غوره، أو استتباع عثره، مرشدًا إلى التوقف عن التوغل فيه والغول، ومكنونه مفهوم فى لحن القول، فلم يكن ذلك مانعًا أن شفع بالثاني الأول، ولا قاطعًا ما أمر الله به أن يوصل، وإذ حان ¬

_ (¬1) في أ: الباب. (¬2) زيادة من جـ.

الشروع فيما قصدناه، وآن الرجوع إلى ما وعدناه فنسألك اللهم يا مرشدًا إلى أوضح دليل، وهاديًا إلى سواء السبيل، أن ترشدنا إلى أفضل ما يعتمد، وتسددنا إلى أعدل ما يعتقد، وتأخذ بأيدينا إذا عثرنا، ولا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ودعاء لا يسمع وعمل لا يرفع، فإنك غاية ملاذ السائلين ونهاية [أمل الآملين] (¬1)، ولك الحمد ظاهرًا وباطنا وأنت حسبنا ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فصل

فصل في إنجاز ما سبق الوعد به، وهو ذكر ما اشتمل عليه الكتابان من المنسوبين إلى الإمام الشافعي عددًا سردًا مرتبًا على ترتيب وفياتهم عند العلم بها، ليكون ذلك أنموذجًا لما بعده، ثم ذكر تراجمهم على حروف المعجم، ولنبدأ بأصحابه الآخذين عنه، ثم باقى الأصحاب متبركين بالبداءة بإمامهم فنقول: الإمام الشافعي، الحميدي، البويطي، عبد العزيز بن مقلاص، الحارث المعروف بالنقال بالنون، أَبو ثور، حرملة، الكرابيسي، الربيع الجيزي الزعفراني، يونس بن عبد الأعلى، المزني، محمد بن عبد الحكم، الربيع المرادى، موسي بن أَبى الجارود، ولم أعلم وفاته، أخت المزني لا أعلم أيضا تاريخ وفاتها. وأما بقية الأصحاب ففي المائة التى توفي فيها الشافعي وهي المائة الثالثة جماعة وهم: أحمد بن سيار -بفتح المهملة-، الأنماطى، أَبو عبد الله البوشنجى ويعرف بمحمد بن إبراهيم العبدي أيضًا، محمد بن نصر المروزي، إبراهيم الحربي، أَبو جعفر الترمذي، الجنيد شيخ الصوفية، ابن بنت الشافعي. وأما المائة الرابعة ففي الخمسين الأولى منها جماعة: ابن سريج، منصور التميمى، أَبو يحيى الساجي، أَبو الطيب بن سلمة، أَبو بكر بن خزيمة، عبد الله ابن جعفر القزويني، أحمد بن سيف السجستاني، أَبو عبد الله الزبيري، أَبو عبيد ابن حربويه، أَبو علي بن خيران، أَبو حفص بن الوكيل -ويعرف بالباب شامى ابن المنذر أَبو على

الثقفي، أَبو سعيد الإصطخري، أَبو بكر الصيرفي، أَبو يحيى البلخي، أَبو العباس بن القاص -بالمهملة-، أَبو إسحاق المروزي، أَبو بكر الصبغي بالمهملة. أَبو بكر بن الحداد، أَبو علي بن أَبي هريرة، أَبو الوليد النيسابورى ويعرف أيضا بحسان القرشي -أَبو علي الطبري- ويعرف أيضا بصاحب "الإفصاح"، أَبو بكر الفارسى وهو صاحب "عيون المسائل"، قاضي القضاة أَبو السائب، أَبو بكر الخفاف- وهو صاحب كتاب "الخصال" وأبو بكر هذا والذين بعده إلى آخر هذه الخمسين لم أعلم وفاتهم إلا أنهم في هذه الطبقة، وهم إبراهيم بن يوسف، أَبو بكر المحمودي، أَبو الطيب النساوي، أَبو الحسين النسوى، أَبو منصور ابن مهران، أَبو الحسن الصابوني، أَبو الحسن الطرسوسي، أَبو جعفر الإستراباذي. وفي الخمسين الثانية من هذه المائة جماعة وهم: ابن القطان، القاضي أَبو حامد المروروذي، القفال الشاشي -صاحب "جمع الجوامع"- وهو أَبو سهل بن العفريس لم أعلم تاريخ وفاته، إلا أنه من طبقة القفال، ابن المرزبان، أَبو سهل الصعلوكى، الأزهري -وهو الإمام في اللغة-، أَبو بكر الإسماعيلي، أَبو زيد المروزي، أَبو أحمد الجرجاني، الداركي، الماسرجسي، الأودني، أَبو محمد الإصطخري، الدارقطني، أَبو عبد الله الختن -بالخاء المعجمة والتاء المثناة بنقطتين من فوق- أَبو زكريا السكرى، الخطابى، زاهر السرخسى، ابن لال -بلامين بينهما ألف- أَبو محمد البافي الخضرى، أَبو علي الزجاجي، وهذا والذين بعده إلى آخر هذه الخمسين لم تتحرر وفاتهم إلا أنهم في هذه الطبقة، وهم، القيصري، بن خيران -صاحب "اللطيف"-، أَبو محمد الكرابيسي، الحناطي أَبو حيان التوحيدي، أَبو الفياض البصري، صاحب "التقريب" -أَبو يعقوب الأبيوردى الشبوى- بفتح الشين المعجمة بعدها باء موحدة مضمومة، بنت الشبوي -المذكور لم أعلم تاريخ وفاتها.

وأما المائة الخامسة ففي الخمسين الأولى منها جماعة وهم: ابن اللبان، الحليمي، أَبو محمد الحداد، ولم تتحرر لى وفاته إلا أنه في هذا العصر، أَبو الطيب الصعلوكى، الحاكم صاحب "المستدرك"، ابن كج، الشيخ أَبو حامد أَبو طاهر الزيادي، أَبو القاسم الصيمري، ابن سراقة وترتيب هذا على الذي قبله [بالظن، أَبو إسحاق الطوسي، المحاملي القفال، المروزي، الأستاذ أَبو إسحاق الإسفراييني، أَبو بكر الطوسي، المسعودي، البندنيجي أَبو منصور البغدادي، الحافظ أَبو نعيم، أَبو علي السنجي، ابن عبدان، الشيخ أَبو محمد الجويني، أَبو حاتم القزوينى، الشريف ناصر العمرى، سليم الرازى، أَبو القاسم الكرخى، الدارمى، القاضي أَبو الطيب، الماوردى، الصيدلانى ويعرف بالداوودى وبابن داود أيضًا أَبو الفضل العراقى أَبو عبد الله القطان صاحب -"المطارحات"-، أَبو عبد الرحمن القزاز، أَبو إسحاق الخراط، أَبو الحسن الطيبى، أَبو الفضل الفاشاني، -بالفاء- أَبو منصور الأبيوردى متقدم على ابن كج، أَبو محمد ابن ميمون الفارسى متقدم على العبادي، أَبو سهل الأبيوردي جد الرويانى، وابن الصيدلانى، إلى هنا لم أعلم وفاتهم إلا أنهم في هذه الطبقة. وفي الخمسين الثانية من هذه المائة جماعة، وهم: البيهقي، أَبو عاصم العبادى، الفورانى، القاضي حسين، الخطيب البغدادى، الشالوسى -معجم الأولى- أَبو الربيع الإيلافى، الواحدى، الماخوانى، أَبو خلف الطبرى، ويعرف أيضا بالسلمى-، الشيخ أَبو إسحاق الشيرازى، الخبرى بخاء معجمة مفتوحة بعدها باء موحدة ابن الصباغ، إمام الحرمين، صاحب "التتمة" النيهى بنون مكسورة والجرجاني صاحب "المعاياة"، أَبو المظفر السمعانى، نصر المقدسى، سعد الإسترباذى، العبدرى

صاحب "الكفاية"-، أَبو الفرج السرخسى، صاحب "الأمالى"- ويعرف أيضًا بالزاز، أَبو الحسن العبادى -وهو صاحب "الرقم"- أَبو نصر البندنيجى، أَبو عبد الله الحسين المعروف بصاحب "العدة"، أَبو سعد الهروى والد الرويانى، أَبو مخلد البصرى الموفق ابن طاهر بعد الشيخ أَبى محمد أَبو الفتح الهروى رفيق الغزالى، ابن يونس القزوينى، ومن أبي سعيد إلى هنا لم أعلم وفاتهم إلا أنهم من أهل هذه الطبقة. وأما المائة السادسة ففي الخمسين الأولى منها جماعة وهم: [الرويانى] (¬1) وهو صاحب "البحر"، الكيا الهراسى، الغزالى، أَبو بكر بن بدران، الحلوانى، الشاشى -وهو صاحب الحلية-، أَبو بكر ابن السمعاني، أَبو القاسم الأنصاري، أَبو نصر بن القشيري البغوي ابن برهان الفارقى، ملكداد القزوينى إسماعيل البوشنجى (¬2) إبراهيم المروروذى بالذال المعجمة-. محمد بن يحيى صاحب "الذخائر"، أَبو بكر الزنجاني. أَبو بكر الأرغياني القاضي أَبو الفتوح، وهو صاحب "أحكام الخناثى"، أَبو المكارم الروياني- وهو ابن أخت صاحب "البحر" ويعرف بصاحب "العدة"، شريح الرويانى -بالشين المعجمة-، ومن الزنجانى إلى هنا لم أعلم تاريخ وفاتهم إلا أنهم في هذه الطبقة. وفي الخمسين الثانية من هذه المائة جماعة، وهم: صاحب "البيان" ولد الرافعى، أَبو بكر الحازمى بالمهملة، ابن أبي عصرون، الدولعي، أَبو الفتوح العجلي، وهو صاحب "التعليق على الوسيط". وأما المائة السابعة، ففيها إلى وفاة الشيخ محيى الدين جماعة وهم: الإمام فخر الدين، الرافعي، ابن الصلاح، الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) بداية سقط كبير جدًا من جـ.

1 - الإمام الشافعي

النووي، وهو خاتمة الأسماء -رضى الله عنهم أجمعين- ورضى عَنَّا بهم. وإذ علم هذا الأنموذج الشريف الدال على سعادة الدارين، فنعود إلى ذكر تراجمهم المعطرة للوجود، المرغبة في الخير لكل موجود، مستمدين من الله التوفيق والمعونة فنقول: 1 - الإمام الشافعي هو أَبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، جد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي، لقى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مترعرع، وأسلم أبوه السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم، فأسر من جملة من أسر، وفدى نفسه ثم أسلم، كانت ولادة الشافعي بغزة من الشام سنة خمسين ومائة، وقيل: بمنى، حكاه في "التنقيب"، وقيل: بعسقلان، وقيل: باليمن، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، و"الموطأ" وهو ابن عشر، وتفقه على مسلم بن خالد مفتى مكة، ويعرف بالزنجى لشدة شقرته من باب الأضداد، وأذن له مسلم في الإفتاء وعمره خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى مالك بالمدينة، ولازمه مدة، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة، فأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها وأخذوا، عنه وصنف بها كتابه القديم، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين فأقام بها شهرًا، ثم خرج إلى مصر، فلم يزل بها [ناشرًا] (¬1) للعلم، ملازمًا للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن أصابته ضربة شديدة، ¬

_ (¬1) في أ: مباشرًا.

فمرض بسببها أيامًا على ما قيل، ثم انتقل إلى رحمة الله وهو قطب الوجود يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه، وكانت له كرامات ظاهرة، منها: أنه لما حضره الموت نظر إلى أصحابه: فقال للبويطى: يا أبا يعقوب تموت في قيودك، فكان منه ما سنذكره قريبًا، وقال للمزنى: سيكون لك بعدى شئون، فعظم شأنه بعده عند الملوك فمن دونها، وقال لابن عبد الحكم: تنتقل إلى مذهب أبيك، فانتقل لسبب يأتى ذكره، وقال للربيع: أنت راوية كتبى، فعاش بعده قريبًا من سبعين سنة حتى صارت الرواحل تشد إليه من أقطار الأرض، لسماع كتب الشافعي. وكان -رحمه الله- أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من قرر ناسخ الأحاديث ومنسوخها، وأول من صنف في أبواب كثيرة من الفقه معروفة، ومع ذلك قال: وددت أن لو أخذ عنى هذا العلم من غير أن ينسب إلىّ منه شئ، وقال: ما ناظرت أحدًا إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه، ومعناه كما قال البيهقي: إنه لا يستنكف [عن الأخذ به، بخلاف خصمه، فإنه قد يستنكف] (¬1) فلا يأخذ به، وكان جهورى الصوت جدًا، وفي غاية من الكرم والشجاعة، وجودة الرمى وصحة الفراسة وحسن الأخلاق، وكان قوله حجة في اللغة كقول امرئ القيس ولبيد ونحوهما، نهاية في العلم بأنساب العرب وأيامها وأحوالها ذا، شعر غريب. طلب -رحمه الله- من محمد بن الحسن صاحب أَبي حنيفة -رضى الله عنهما- إعارة كتب لما قدم بغداد فمنعها، وكان الشافعي يعظمه ويثنى على علمه ثناءً كثيرًا، فبعث إليه رقعة فيها: ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قل لمن لم تر عينا من رآه مثله ... ومن كان من رآه قد رأى قبله العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله ... لعله يبذله لأهله لعله وله: ولولا الشعر بالعلماء يزرى ... لكنت اليوم أشعر من لبيد وأشجع في الوغى من كل ليث ... وآل مهلب وأبي يزيد ولولا خشية الرحمن ربى ... حسبت الناس كلهم عبيدى وله: ما حك جلدك مثل ظفرك ... فتول أنت جميع أمرك وإذا قصدت لحاجة ... فاقصد لمعترف بقدرك وله: أمت مطامعى فأرحت نفسى ... فإن النفس ما طمعت تهون وأحيبت القنوع وكان ميتا ... ففي إحيائه عرض مصون إذا طمع يحل بقلب عبدَ ... علته مهانة وعلاه هون وله: إذا ما خلوت الدهر يومًا ... فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفى عليه يغيب غفلنا لعمر الله حتى تراكمت ... علينا ذنوب بعدهن ذنوب فياليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن فى توباتنا فنتوب

2 - الحميدي

2 - الحميدي أَبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشى الأسدى الزبيرى المكى، المعروف بالحميدى بضم الحاء، رحل مع الشافعي من مكة إلى مصر ولزمه حتى مات، فرجع إلى مكة يفتى إلى أن توفي بها سنة تسع عشرة ومائتين، كذا قاله البخارى في "تاريخه"، والشيخ أَبو إسحاق في "طبقاته"، وقال غيرهما: توفي سنة عشرين، روى عنه البخارى في "صحيحه"، وذكره مسلم في مقدمة كتابه، وقال يعقوب بن سفيان الفسوى: ما رأيت أنصح للإسلام وأهله منه، نقل عنه الرافعي في الحج أنه روى عن الشافعي: أن الشعرة الواحدة يجب فيها ثلث دم، وفي الشعرتين ثلثان. 3 - البويطي أَبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشى البويطى من بويط، وهى قرية من صعيد مصر الأدنى، كان خليفة الشافعي في حلقته بعده، قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسى من أَبي يعقوب، وليس أحد من أصحابى أعلم منه، وكان كثير الصيام والقراءة وأعمال الخير، وكان ابن أَبي الليث الحنفي قاضى مصر يحسده، فسعى به إلى الواثق بالله أيام المحنة بالقول بخلق القرآن، فأمر بحمله إلى بغداد مع جماعة آخرين من العلماء، فحمل إليها على بغل مغلولًا مقيدًا مسلسلًا في أربعين رطلًا من حديد، وأريد منه القول بذلك، فامتنع فحبس ببغداد على تلك الحالة إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، كذا قاله ابن يونس في "تاريخ مصر"، وقال ابن

4 - ابن مقلاص

خلكان: الصحيح أنه مات سنة إحدى في رجب، وبه جزم النووي في "شرح المهذب"، وكان ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة، وكان في كل جمعة يغسل ثيابه ويتنظف ويغتسل ويتطيب، ثم يمشى إذا سمع النداء إلى باب السجن، فيقول له السجان: إلى أين؟ فيقول: أجيب داعى الله، فيقول له السجان: ارجع رحمك الله، فيقول البويطى: اللهم إنى أجبت داعيك فمنعونى. 4 - ابن مقلاص أَبو على عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص الخزاعى مولاهم المصرى، قال ابن يونس في "تاريخ المصريين": كان فقيهًا فاضلًا زاهدًا ثقة، وكان من أكبر المالكية، فلما قدم الشافعي مصر لزمه وتفقه على مذهبه، توفي في شهر ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين ومائتين، ومقلاص بميم مكسورة وبالقاف والصاد المهملة، نقل الرافعي عنه في باب الربا أنه حكى عن الشافعي، جواز بيع الخبز الجاف المدقوق بمثله، وحكى عنه أيضًا في الكلام على ضابط أرش العيب. 5 - ابن سريج أَبو عمر الحارث بن سريج البغدادى الخوارزمى الأصل، المعروف بالنقال بالنون والقاف، سمى بذلك لنقله كتاب "الرسالة" من مصر إلى عبد الرحمن [ابن مهدي] (¬1) المعروف، فإنه كان قد سأل الشافعي أن يصنف ¬

_ (¬1) في ب: المهدي.

6 - [أبو ثور]

له في أصول الفقه كتابًا فصنف له الكتاب المذكور، وأرسله مع الحارث ولم يكن أحد صنف فيه قبل ذلك، وقد ضعف جماعة النقال المذكور، قال أَبو الفتح الأزدى: وإنما تكلموا فيه حسدًا له، ذكره الخطيب في "تاريخه"، والشيخ أَبو إسحاق في "طبقاته" في أصحاب الشافعي البغاددة، فقال: ومنهم الحارث بن سريج النقال، مات سنة ست وثلاثين ومائتين، وهو الذي حمل كتاب "الرسالة" إلى عبد الرحمن ابن مهدى، نقل عنه الرافعي في موضعين: أحدهما: في آخر باب حد السرقة: أنه روى قولًا عن الشافعي أنه إذا وجب [عليه] (¬1) قطع اليمين فقطع الجلاد اليسار لا يجزئ كالقصاص، والثانى: في قاطع الطريق: فنقل عنه أنه روى عن الشافعي، أن قاطع الطريق إذا مات قبل قتله لا يسقط صلبه، وذكر أيضًا الرافعي في كتاب الجنايات في أواخر الكلام على استيفاء القصاص في مسألة، ما إذا قطع اليسار عن اليمين [كلمة] (¬2) تحتمل أن يكون المراد بها النقال المذكور، وهو الظاهر، فإنه نقله في قطع السارق أيضًا كما نقله [عنه] (¬3) في كتاب السرقة، ويحتمل أن يراد بها القفال بقاف وفاء اسم للمعروف. 6 - [أبو ثور] (¬4) إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، من رواة القديم، قال أحمد بن حنبل: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة، قال: وهو عندي كسفيان الثورى، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) بياض في أ.

7 - حرملة

مات في صفر سنة أربعين ومائتين، وكان أَبو ثور على مذهب الحنفية، فلما قدم الشافعي بغداد اتبعه وقرأ كتبه، ونشر علمه، ومع ذلك، قال الرافعي في كتاب الغصب: أَبو ثور وإن كان معدودًا وداخلًا في طبقة أصحاب الشافعي فله مذهب مستقل، ولا يعد تفرده وجهًا هذا كلامه. 7 - حرملة حرملة بن يحيى ابن عبد الله بن حرملة المصرى التجيبى نسبة إلى تجيب بتاء مثناة من فوق مضمومة، وقيل: مفتوحة ثم جيم بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم باء موحدة، وهى قبيلة نزلت مصر وأصلها اسم امرأة. وكان حرملة إمامًا حافظا للحديث والفقه، صنف "المبسوط" و"المختصر" المعروف، ولد سنة ست وستين ومائة، وتوفي في شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين قاله ابن ماكولا، وقال ابن عدى: توفي سنة أربع، نقلها النووي في "تهذيبه" ورجح الأول في "شرح المهذب". 8 - الكرابيسي [أَبو على] (¬1) الحسن بن على ابن يزيد البغدادى الكرابيسى، كان من الأئمة الجامعين بين الفقه والحديث، وله مصنفات كثيرة، توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل: سنة ثمان وأربعين، قال ابن خلكان: وهو أشبه بالصواب، وسمى الكرابيسى؛ لأنه كان يبيع [الكرباس] (¬2) وهى الثياب الغليظة. ¬

_ (¬1) بياض فى أ. (¬2) فى أ: الكرباسى.

9 - الربيع الجيزى

9 - الربيع الجيزى [أَبو محمد] (¬1) الربيع بن سليمان ابن داود الأزدى مولاهم المصرى الجيزى، توفي في ذى الحجة سنة ست وخمسين ومائتين، قاله النووي في "التهذيب". زاد ابن خلكان عن القضاعى: أنه توفي بالجيزة ودفن بها، والجيزة بجيم مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت بعدها زاى هى البلدة المعروفة المقابلة لمدينة مصر، نقل عنه [في] (¬2) الرافعى، و"الروضة" في كتاب "الشهادات" أنه روى عن الشافعي: كراهة القراءة بالألحان، ولا ذكر له فيهما في غير هذا الموضع. نعم في "المهذب" وغيره نقلا عنه عن الشافعي: أن الشعر يطهر بالدباغ تبعًا للجلد، وأما الربيع المرادى الآتى ذكره، فالنقل عنه كثير وإذا أطلق الربيع فالمراد هو المرادى. 10 - الزعفراني أَبو على الحسن بن محمد: الزعفرانى من قرية يقال لها: الزعفرانية بقرب بغداد، قال الماوردى: هو أثبت رواة القديم، قال الإمام أَبو يحيى زكريا بن يحيى الساجى: سمعت الزعفرانى يقول: إنى لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ على منذ خمسين ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ.

11 - ابن عبد الأعلى

سنة، وكان إمامًا في اللغة، قال النووي في "تهذيبه": توفي في شهر رمضان سنة ستين ومائتين، وقال ابن خلكان: توفي في شعبان من السنة المذكورة، قال: وقال السمعانى في "الأنساب": إنه توفي في ربيع الآخر سنة تسع وأربعين ومائتين. 11 - ابن عبد الأعلى [أَبو موسى] (¬1) يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصرى، ولد في ذى الحجة سنة سبعين ومائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، قاله النووي في تهذيبه. 12 - المزني [أَبو إبراهيم] (¬2) إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزنى المصرى، كان ورعًا زاهدًا مجاب الدعوة، متقللًا من الدنيا، وكان معظمًا بين أصحاب الشافعي. وقال الشافعي في حقه: لو ناظر [السلطان] (¬3) لغلبه، وذكر الرافعي في كتاب الخلع في الكلام على اختلاع الوكيل، أن بعض المعلقين نقل عن الإمام أنه قال: أرى كل اختيار للمزنى تخريجًا، فإنه لا يخالف أصول الشافعي لا كأبى يوسف ومحمد، فإنهما يخالفان أصول صاحبهما ¬

_ (¬1) بياض فى أ. (¬2) بياض فى أ. (¬3) فى ب: الشيطان.

13 - ابن عبد الحكم

كثيرًا، هذا كلامه، لكن نقل الرافعي أيضًا في باب الأحداث عن الإمام أيضًا ما يخالفه، فقال: إنه خرّج -يعنى المزنى- فتخريجه أولى من تخريج غيره، وإلا فالرجل صاحب مذهب مستقل. انتهى. صنف "المبسوط" و"المختصر" و"المنثور" و"المسائل المعتبرة" و"الترغيب في العلم"، وكتاب ["الدقائق والعقارب"] (¬1)، سمى بذلك لصعوبته، وصنف كتابًا مفردًا على مذهبه لا على مذهب الإمام الشافعي، ذكره البندنيجى في كتابه "الجامع" في آخر باب الصلاة بالنجاسة، ولد سنة خمس وسبعين ومائة، وتوفي لست بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، وصلى عليه الربيع الآتى ذكره، ودفن بالقرافة بالقرب من قبر الإمام الشافعي، وجعل عليه بناء دائر قصير ضيق، وقد زرت قبره، والمزنى منسوب إلى مزينة وهى قبيلة معروفة. 13 - ابن عبد الحكم [أَبو عبد الله] (¬2) محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم المصرى، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان أبوه عالمًا جليلًا رئيسًا له إحسان كثير على الشافعي، وكان على مذهب مالك، ومن أكابر أصحابه، وروى عن الشافعي أشياء قليلة، ولد سنة خمسين ومائة، وتوفي سنة أربع عشرة ومائتين، فنشأ ولده [هذا] (¬3) على مذهب أبيه، وأخذ عن أشهب وابن وهب، فلما قدم الشافعي مصر صحبه وتفقه [به] (¬4)، قال: فاجتمع ¬

_ (¬1) في أ: الوثاق وفي ب: الوثاق والمثبت من "طبقات الشافعية" للمصنف. (¬2) بياض فى أ. (¬3) زيادة من ب. (¬4) سقط من ب.

14 - ابن أبي الجارود

قوم من أصحاب أَبي، فعذلوه في ذلك، فكان يلاطفهم ويأمرنى سرًا بملازمته، وأحبه الشافعي، وصار يثنى عليه [حتى قال مرة: وددت لو أن لى ولد مثل هذا، وعلى ألف دينار دينًا لا أجد لها وفاء] (¬1)، وحمل في الفتنة إلى بغداد فلم يجب لما طلبوه، فرد إلى مصر، وانتهت إليه الرئاسة بها، توفي يوم الأربعاء لليلة خلت من ذى القعدة قبل منتصفه سنة ثمان وستين ومائتين، وقال ابن نافع: سنة تسع وستين؛ ذكره ابن خلكان، وانتقل قبل وفاته إلى مذهب مالك؛ لأنه كان يروم أن الشافعي يستخلفه بعده في حلقته، فلم يفعل، واستخلف البويطى، وقد ذكره العبادى وابن الصلاح في طبقاتهما لأجل مسائل نقلها عن الشافعي، منها: ما نقله عنه الرافعي أن الصائم تلزمه الكفارة إذا باشر فيما دون الفرج فأنزل. 14 - ابن أَبي الجارود [أَبو الوليد] (¬2) موسى بن أَبي الجارود بالجيم المكى، تفقه على الشافعي، وروى عنه، وكان يفتى بمكة على مذهبه، قاله الشيخ أَبو إسحاق في "طبقاته"، والنووي في "تهذيبه"، ولم يذكروا له وفاة، نقل عنه الرافعي في باب زكاة الذهب والفضة، أنه روى عن الشافعي: تحريم تحلية السرج واللجام والنقر موافقًا للوجه الذي صححوه. 15 - الربيع المرادى أَبو محمد الربيع بن سليمان ابن عبد الجبار المرادى مولاهم المصرى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض في أ.

16 - أخت المزني

المؤذن بجامع مدينة مصر خادم الشافعي وراوى "الأم" وغيرها من كتبه، قال الشافعي فيه: إنه أحفظ أصحابى، رحلت الناس إليه من أقطار الأرض لأخذ علم الشافعي ورواية كتبه، ولد سنة أربع وسبعين ومائة، وتوفي بمصر يوم الإثنين لعشر بقين من شوال سنة سبعين ومائتين؛ ذكره النووي في "تهذيبه". وأنشد [له] (¬1) ابن خلكان: صبرًا جميلًا ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الأمور نجا من خشى الله لم ينله أذى ... ومن رجا الله كان حيث رجا 16 - أخت المزني أخت المزنى -رضى الله عنهما- صاحب الشافعي نقل عنها الرافعي في زكاة المعدن، فإنه صحح أن الحول فيه لا يشترط ثم قال: وفيه قول: إنه يشترط؛ نقله البويطي، إنما رواه المزنى في "المختصر" عمن يثق به عن الشافعي [واختاره] (¬2)، قال: وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك، فلم يحب تسميتها، لا أعلم تاريخ وفاتها. وأما أصحاب الأصحاب فتجمعهم أبواب كما سبق فاستحضر الاصطلاح المتقدم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

باب الهمزة

باب الهمزة

17 - الأنماطي

باب الهمزة 17 - الأنماطي [أبو القاسم عثمان] (¬1) بن سعيد ابن بشار -بفتح الباء- كذا نسبه الشيخ أَبو إسحاق، وقال المطوعى في كتابه "المذهب في ذكر شيوخ المذهب": اسمه عبد الله بن أحمد بن يسار البغدادي الأنماطي منسوب إلى الأنماط، وهى البسط التى تفرش، أخذ الفقه عن المزنى والربيع، وأخذ عنه ابن سريج، قال الشيخ أَبو إسحاق: كان الأنماطي هو السبب في نشاط الناس للأخذ بمذهب الشافعي في تلك البلاد، قال: ومات ببغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين، وزاد النووي في "طبقاته"، وابن خلكان في "تاريخه": أنه في شوال. نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: في الحيض في الكلام على قول السحب واللقط، ومنها: أن شرط ضم السخال إلى الأمهات في الزكاة بقاء الأمهات. 18 - الإصطخري [أَبو سعيد] (¬2) الحسين بن أحمد الإصطخري، كان هو وابن سريج ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

19 - الإستراباذى

شيخى الشافعية ببغداد، وصنف كتبًا كثيرة، منها "أدب القضاء"، استحسنه الأئمة، وكان زاهدًا متقللًا من الدنيا، وكان في أخلاقه حدة، ولاه المقتدر بالله قضاء سجستان، ثم حبسه ببغداد، ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، كذا قاله الشيخ أَبو إسحاق في "طبقاته" ونقله عنه النووي في "تهذيبه"، زاد ابن خلكان: أنه في يوم الجمعة ثانى عشر جمادى الآخرة، وقيل: رابع عشر، ودفن بباب حرب، وإصطخر بكسر الهمزة وفتح الطاء، وجوز بعضهم فتح الهمزة، حكاه في [الحيض] (¬1) من "شرح المهذب". 19 - الإستراباذى [أَبو جعفر] (¬2) الإستراباذى ذكره العبادى في طبقة القفال الشاشى والأودنى، وذكره أَبو جعفر عمر بن على المطوعى في كتابه المسمى "بالمذهب في ذكر شيوخ المذهب" الذي ألفه للإمام أَبي الطيب سهل ابن الإمام أَبي سهل الصعلوكى، فقال: إنه من أصحاب ابن سريج وكبار الفقهاء والمدرسين وأجلة العلماء المبرزين، وله تعليق معروف في غاية الإتقان، علقه عن ابن سريج، نقل عنه الرافعي في كتاب الجنايات قبيل العاقلة بقليل، فقال: وقال أَبو جعفر الإستراباذى: لا حقيقة للسحر، وإنما هو تخييل، لم يؤرخوا وفاته، وإسترباذ بهمزة مكسورة وتاء بنقطتين من فوق مكسورة أيضًا، وبالذال المعجمة، قاله النووي في "تهذيبه"، قال: وهى بلدة بخراسان قريبة من جرجان. ¬

_ (¬1) في ب: المختصر. (¬2) بياض في أ.

20 - الأزهرى

20 - الأزهرى [أَبو منصور] (¬1) محمد بن أحمد بن الأزهر المعروف بالأزهرى الإمام في اللغة، ولد بهراة سنة ثنتين وثمانين ومائتين وكان فقيها صالحًا غلب عليه علم اللغة، وصنف فيها كتابه "التهذيب" الذي جمع فأوعى، وصنف أيضًا في التفسير، وشرح ألفاظ "مختصر المزني"، توفي في ربيع الآخر سنة سبعين وثلاثمائة، تكرر نقل الرافعي عنه فيما يتعلق بألفاظ "المختصر". 21 - الإسماعيلي [أَبو بكر] (¬2) أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلى الجرجانى، قال الحاكم في "تاريخ نيسابور": وكان واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء، وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء، وقال الشيخ أَبو إسحاق فيه: جمع بين الفقه والحديث ورئاسة الدين والدنيا، وصنف "الصحيح"، وأخذ عنه فقهاء جرجان، وقال شيخنا القاضي أَبو الطيب: دخلت جرجان قاصدًا إليه وهو حى، فمات قبل أن ألقاه، توفي سنة [نيف] (¬3) وسبعين وثلاثمائة، انتهى كلام الشيخ. وقال حمزة بن يوسف السهمي في "تاريخ جرجان": إنه توفي في غرة رجب سنة إحدى وسبعين وله أربع وسبعون سنة، بسين ثم باء، نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: وقوع الطلاق الثلاث في المسألة السريجية، ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ. (¬3) في ب: ست.

22 - الأودني

وكان له ابنان عالمان كبيران جمعا الدين والدنيا: أَبو سعيد وأبو نصر، قال الشيخ أَبو إسحاق في ترجمة أَبي سعيد: وفيهم يقول الصاحب بن عباد في رسالته: وأما الفقيه أَبو نصر، فإذا جاء حدثنا وأخبرنا، فصادق وناطق وناقد وحاذق، وأما أنت أيها الفقيه أبا سعيد فمن رآك كيف تدرس وتفتى وتحاضر، وتروى وتكتب وتملى علم أنك الحبر ابن الحبر والبحر ابن البحر، والضياء ابن الفجر، وأبو سعد بن أَبي بكر، فرحم الله شيخكم الأكبر، فإن الئناء عليه غُنم والنساء بمثله عقم، فليفخر به أهل جرجان ما سال واديها وأذن مناديها. 22 - الأودني [أَبو بكر] (¬1) محمد بن عبد الله الأودنى، قال فيه الحاكم: كان شيخ الشافعية بما وراء النهر، وكان من أزهد الفقهاء وأورعهم وأعبدهم وأبكاهم على تقصيره، وأشدهم تواضعا وإنابة. قال: وتوفي ببخارى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، ونقله عنه النووي في "تهذيبه"، قال ابن خلكان: وذلك في ربيع الأول، ودفن بمحلة من بخارى يقال لها: كلاباذ بكاف مفتوحة وباء موحدة وذال معجمة أخذ عن أَبي منصور بن مهران، قال الإمام في "النهاية": وكان من دأبه أن يضن بالفقه على من لا يستحقه، وإن ظهر بسببه أثر الانقطاع عليه في المناظرة، وأودنة قرية من قرى بخارى وهى بفتح الهمزة، نقله ابن الصلاح عن "الإكمال" لابن ماكولا، وعن خط ابن السمعاني في "الأنساب"، واقتصر عليه، وذكر ابن خلكان أن السمعاني قال: إنه بالضم، فإن الفتح من خطأ الفقهاء [ولم يذكر غيره أعنى ابن خلكان] (¬2). ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من ب.

23 - الإصطخري

23 - الإصطخري القاضي أَبو محمد الإصطخري، تفقه على القاضي أَبي حامد المروروذي، وكان قاضى فسا بفاء مفتوحة وسين مهملة، وفقيه فارس، وشرح "المستعمل" لمنصور التميمي، وكان فقيهًا مجودًا، قاله الشيخ أَبو إسحاق، وقال الخطيب في "تاريخه": هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن محارب الأنصاري، سمع بفارس والعراق والحجاز والشام ومصر، قال: وولد بإصطخر في سنة إحدى وتسعين ومائتين، ولم يذكر وفاته، وقال الذهبي في "الميزان": مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، نقل الرافعي في كتاب السرقة عن شرح "المستعمل" لأبى محمد المذكور. 24 - الأبيوردي [أَبو منصور] (¬1) الأبيوردى، نقل الرافعي عنه في الباب الأول من كتاب الصداق في الحكم الثانى منه، فقال: وفي شرح القاضي ابن كج أن أبا منصور الأبيوردى حكى عن القاضي أَبي حامد: أن المرأة إذا تبرعت وسلمت نفسها حتى وطئها الزوج كان لها الامتناع كمذهب أَبي حنيفة، لم أعلم تاريخ وفاته. 25 - الإسفراييني [الشيخ أَبو حامد] (¬2) أحمد بن محمد بن أحمد الإسفرايينى، ولد ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

26 - الإسفراييني

سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وفد بغداد سنة أربع وستين، فدرس على ابن المرزبان، فلما مات لزم الداركى، ثم درس سنة سبعين وأقام ببغداد مشغولًا بالعلم حتى صار فريد زمانه، وأنظرهم، ومن وقف على تعليقته علم ذلك، وفي نسخها اختلاف في بعض المسائل، وانتهت إليه رئاسة الدين والدنيا، وطبق الأرض بالأصحاب، وجمع مجلسه نحوًا من ثلاثمائة متفقه، وحكى ابن الصلاح: أنه وقع بينه وبين الخليفة في مسألة أفتى فيها، فكتب الشيخ إليه: اعلم أنك لست بقادر على عزلى عن ولايتى التى ولَّانيها الله تعالى، وأنا أقدر أن أكتب رقعة إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث أعزلك عن خلافتك، توفي -رحمه الله- ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وأربعمائة، ودفن في داره، وكان يومًا مشهودًا من كثرة الناس وشدة الحزن والبكاء، ثم نقل سنة عشر إلى باب حرب، قاله الخطيب في "تاريخ بغداد"، ونقله النووي في "تهذيبه": وإسفراين بكسر الهمزة وفتح الفاء بلدة بخراسان نواحى نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان. 26 - الإسفراييني [أَبو إسحاق] (¬1) إبراهيم بن محمد الإسفراينى، صاحب العلوم الشرعية والعقلية واللغوية، والاجتهاد في العبادة والورع، أقام بالعراق مدة، ثم اختار وطنه فرجع إلى إسفراين، فدخل عليه أهل نيسابور في الانتقال إليهم، فأجابهم، وبنوا له مدرسة عظيمة لم يبن قبلها مثلها، فلزمها إلى أن توفي يوم عاشوراء سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وحمل منها إلى بلده، فدفن بها، نقله النووي في "تهذيبه"، نقل عنه الرافعي في أوائل الحيض وفي غيره، وذكر في أثناء النكاح أنه شرح "فروع ابن الحداد". ¬

_ (¬1) بياض في أ.

27 - الأبيوردى

27 - الأبيوردى [أَبو يعقوب] (¬1) يوسف بن محمد الأبيوردى، قال فيه المطوعى: تخرج بأبى طاهر الزيادى، وصنف التصانيف السائرة، والكتب الفاتنة الساحرة، وما زالت به حرارة ذهنه وسلاطة وهمه، وذكاء قلبه حتى احترق جسمه واختضد غصنه، وقال غيره: إن الشيخ أبا محمد الجوينى تفقه عليه، وإن من تصانيفه كتاب "المسائل في الفقه"، يفزع إليه الفقهاء وتنافس فيه العلماء، تكرر نقل الرافعي عنه، ولم أقف على وفاته. واعلم أن الرافعي في قسم الصدقات في الكلام على صنف الفقراء، قال: ونقل الفقيه أَبو يعقوب عن الأودنى كذا وكذا، ويجوز أن يكون المراد هو الأبيوردى والله أعلم. 28 - الأبيوردي أحمد بن على [أَبو سهل أحمد بن على المعروف بالأبيوردى، تلميذ الأودنى، قرأ عليه المتولى ببخارى، ونقل الرافعي في آخر الباب الثالث من أبواب النكاح عن المتولى عنه: أنه إذا قال الخاطب لولى المرأة: زوجت نفسى بنتك فقبل الولى صح العقد، وإن القاضي الحسين منعه] (¬2). [وللأصحاب] (¬3) أبيوردى آخر يقال له: أَبو العباس، مات بعد نيف ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) بياض في أ.

29 - الإيلاقي

وعشرين وأربعمائة. 29 - الإيلاقي أَبو الربيع طاهر بن عبد الله الإيلاقي التركي، وإيلاق بهمزة مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت وبالقاف، هى ناحية من بلاد الشاش المتصلة بالترك في غاية النزاهة على عشرة فراسخ من الشاش، تفقه المذكور بمرو على القفال، وببخارى على الحليمى، وبنيسابور على الزيادى وأخذ الأصول عن الأستاذ أَبي إسحاق، مات سنة خمس وستين وأربعمائة عن ست وتسعين سنة بتاء ثم سين، قاله النووي في "تهذيبه"، نقل عنه الرافعي في كتاب الرهن: أن الخمر إذا غلت ثم تخللت طهر الموضع الذي ارتفعت إليه والحكم فيها كما قاله، ونقل عنه أيضا في نذر اللجاج والغضب. 30 - الإستراباذي [أَبو محمد] (¬1) سعد بسكون العين ابن عبد الرحمن الإستراباذي، تفقه بنيسابور على ناصر العمري وغيره، ثم دخل إلى مرو الروذ وتفقه على القاضي الحسين، ولازم إمام الحرمين وصار من أخصائه، توفي في نصف شوال سنة تسعين وأربعمائة أي بالتاء ثم السين، قاله عبد الغافر الفارسى في ذيله على "تاريخ الحاكم"، نقل عنه الرافعي في الباب الثاني من ¬

_ (¬1) بياض في أ.

31 - أبو القاسم سلمان

أركان الطلاق أنه إذا قال: لك طلقة لا يقع به شئ وإن نوى، ونقل عنه أيضا قبيل الرجعة بنحو ورقة. [ومن الأصحاب آخر] (¬1) يقال له: أَبو محمد الإستراباذى وهو الحسن بن الحسين المعروف بابن رامين بالراء المهملة، نزل بغداد ومات سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، ولما نقل الرافعي عن الإستراباذى ما تقدم صرح بأنه سعد. 31 - أبو القاسم سلمان [أَبو القاسم] (¬2) سلمان بفتح السين ابن ناصر الأنصارى النيسابورى تلميذ إمام الحرمين كان فقيهًا إمامًا في علم الكلام والتفسير زاهدًا ورعًا، ذا قدم في التصوف والطريقة، من بيت صلاح وتصوف وزهد، شرح "الإرشاد" لإمام الحرمين، وله كتاب "الغنية" في الفقه، أصابه في آخر عمره ضعف في بصره، ويسير وقر في أذنه، توفي في جمادى الآخرة سنة ثنتى عشرة وخمسمائة، كذا نقله ابن الصلاح في طبقاته عن عبد الغافر الفارسي خطيب نيسابور في "الذيل"، ثم حكى عن ولده: أنه توفي في سنة إحدى عشرة، نقل عنه الرافعي أنه حكى في كتاب "الغنية" عن الأستاذ أَبي إسحاق: جواز نصب إمامين في إقليمين. 32 - أبو الفتح ناصر [أَبو بكر] (¬3) أحمد ابن الإمام أَبي الفتح سهل بن أحمد بن على بن ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ. (¬3) بياض في أ.

33 - سهل بن أحمد

الحسن الباني -بالباء الموحدة والنون- الأرغيانى، قال السمعاني في "الأنساب" في باب الباء الموحدة: كان أَبو بكر هذا مثل والده في الفضل والسيرة، وكان في عصرنا ولم ألقه، قال: وبأن قرية من قرى أرغيان من نواحى نيسابور هذا كلامه، ثم ذكر أنه توفي ولم يؤرخ وفاته بل ينص عليه، نقل عنه الرافعي في أواخر القضاء على الغائب في الكلام على ما إذا أراد نقل العين المحكوم بها إلى بلد القاضي الذي حكم، فقال: إنه يأخذ كفيلا ويختم على العين بخاتمه، ثم قال: وأخذ الكفيل حتم والختم ليس بحتم، كذلك حكى المتلقى عن أَبي بكر الأرغيانى الإمام، هذه عبارته. وقد ذكر السمعاني أيضا والده، فقال: 33 - سهل بن أحمد سهل بن أحمد المعروف بالحاكم، كان إمامًا فاضلًا حسن السيرة، تفقه على القاضي حسين، ثم دخل طوس، فقرأ بها التفسير والأصول على شهفور الإسفراينى، ثم دخل نيسابور، وقرأ بها علم الكلام على إمام الحرمين، وعاد إلى ناحيته وولى بها القضاء، وروى عنه جماعة، منهم الحافظ السلفى، ثم حج وترك القضاء، واشتغل بالعبادة. ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة، وتوفي في أول يوم من المحرم سنة تسع وتسعين، بتاء ثم سين فيهما. ومن الأصحاب شخص آخر يعرف بالأرغياني، وهو أَبو نصر بالصاد محمد بن عبد الله بن أحمد صاحب الفتاوى المعروفة، وتوهم ابن خلكان أنها للذي سبق، فنسبها إليه، ثم تفطن فنبه على وهمه، وهى في مجلدين ضخمين يعبر عنها "بفتاوى الأرغياني" تارة و"بفتاوى الإمام" أخرى، لأنها أحكام مجردة أخذها مصنفها من "النهاية"، ولد المذكور

بأرغيان سنة أربع وخمسين وأربعمائة وقدم نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين. قال ابن السمعاني: وبرع في الفقه، وكان إمامًا متنسكًا كثير العبادة، حسن السيرة مشتغلًا بنفسه، توفي في ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، ودفن بظاهر نيسابور، ومن شعره: أيا جَبَلى نَعْمان بالله خليّا ... نسيم الصبَّا يَخْلص إلىّ نسيمُها فإن الصَّبا ريحٌ إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها وأرغيان بهمزة مفتوحة ثم راء ساكنة بعدها غين معجمة مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت في آخرها نون، اسم لناحية من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة. واعلم أن ما ذكرته من كون صاحب هذه الترجمة الأصلية وهو أَبو بكر الأرغياني، هو الذي نقل عنه الرافعي في كتاب القضاء قد وقع كذلك في بعض نسخ الرافعي، ووقع في بعضها أَبو بكر الزنجاني، وحينئذ فتحتاج إلى ذكره فراجعه من حرف الزاي المعجمة، ولم يذكر في "الروضة" شيئا من ذلك بل ذكر المقالة بدون قائلها.

باب الباء

باب الباء

34 - البوشنجي

باب الباء 34 - البوشنجي [أَبو عبد الله] (¬1) محمد بن إبراهيم العبدى البوشنجى الفقيه الأديب شيخ أهل الحديث في زمانه، كان إمامًا جليلًا جوادًا سخيًا، وكان يقدم لسنانيره من كل طعام يأكله، حتى أنه نسيهن ليلة فما ذكر إلا بعد فراغ الطعام فطبخ في الليل من ذلك الطعام، وأطعمهن، وكانت الأئمة تعظمه جدًا، حكى العبادي في طبقاته: أنه لما توفي الحسن بن محمد القباني، قدم أَبو عبد الله هذا للصلاة عليه، فلما أراد الانصراف قدمت دابته، فاحتاطه الأئمة، فأخذ أَبو عمرو الحقاف رئيس نيسابور باللجام، وابن خزيمة بركابه، وأبو بكر الجارودي، وإبراهيم بن أَبي طالب يسويان عليه ثيابه فمضى ولم يكلم أحدًا منهم، وقال السيد الجليل أَبو عثمان سعيد بن إسماعيل: تقدمت يومًا لأصافح أبا عبد الله البوشنجي تبركًا به، فنفض يده عنى، وقال: لست هناك، ولما توفي وحضر ابن خزيمة للصلاة عليه سئل عن مسألة، فقال: لا أفتى حتى نواريه في لحده، نقل عنه الرافعي في مواضع، ويعبر عنه في أكثرها بأبى عبد الله البوشنجي، ونقل عنه في كتاب "الدعاوى" في الكلام على دعوى النكاح: أنه يشترط فيها التعرض لنفي الموانع، وعبر عنه بمحمد بن إبراهيم العبدي، نزل -رحمه الله- نيسابور وتوفي بها سنة تسعين، وقيل: سنة إحدى وتسعين ومائتين، ذكره الحافظ المزى في "التهذيب" والحاكم. والبوشنجي بباء موحدة مضمومة، وشين معجمة مفتوحة بعدها نون ثم ¬

_ (¬1) بياض في أ.

35 - البلخي

جيم، ويقال: بالفاء عوضًا عن الباء، وأصلها بوشنك بالكاف، وهى بلدة قديمة على سبعة فراسخ من هراة، والعبدى بعين مهملة وباء موحدة نسبة إلى عبد القيس، وهى قبيلة معروفة، قاله ابن خلكان، ويقال في النسبة إليها أيضًا عبقسى. 35 - البلخي [أَبو يحيى زكريا] (¬1) ابن أحمد بن يحيى البلخى، قال ابن باطيش: ذكره المطوعى في كتابه "المذهب"، فقال: فارق وطنه لأجل الدين، ومسح عرض الأرض، وسافر إلى أقاصى الدنيا في طلب الفقه، وكان حسن البيان في النظر، مرهف عذب اللسان في الجدل، وذكره ابن عساكر في "تاريخ الشام"، فقال: كان أبوه وجده عالمين، وولاه المقتدر بالله قضاء الشام، توفي بدمشق في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وثلاثمائة وقيل في ربيع الآخر. نقل عنه الرافعي في مواقيت الصلاة في الكلام على طرآن العذر، كالحيض ونحوه في أول الوقت، ونقل عنه أيضًا: أنه كان يرى أن القاضي يزوج نفسه بامرأة هو وليها، قال: وحكى أنه فعله لما كان قاضيًا بدمشق، قال العبادى في "الطبقات": قال أَبو سهل الصعلوكى: رأيت ابنه من هذه المرأة ببلدى بالشام. 36 - البافي [أَبو محمد] (¬2) عبد الله [بن محمد] (¬3) البافي الخوارزمى صاحب ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ. (¬3) سقط من ب.

37 - أبو الفياض البصري

الداركى، قال الشيخ أَبو إسحاق: كان فقيهًا أديبًا شاعرًا مترسلًا كريمًا، درّس ببغداد بعد الداركى، ومات بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. انتهى. وتسعين بتاء ثم سين، زاد ابن الصلاح في "طبقاته": أن وفاته كانت في المحرم، وأن الشيخ أبا حامد صلى عليه، قال غيره: كان يقول الشعر من غير كلفة، ويكتب الرسائل الطويلة من غير روية، جاءه غلام حدث وبيده رقعة دفعها إليه فقرأها مبتسمًا ثم أجاب عنها وردها إليه، وكان فيها بيتان وهما: عاشق خاطر حتى استلب المعشوق قُبْله ... أفتنا لا زلت تفتى هل يبيح الشرع قتله فأجابه: أيها السائل عمّا لا يبيح الشرع فعله ... قبلة العاشق للمعشوق لا توجب قتله نقل عنه الرافعي في مواضع قليلة، منها: في أول سجود السهو: أنه حكى وجهًا أنه يسجد لتسبيحات الركوع والسجود، ومنها: في الصوم. والبافي منسوب إلى باف بالباء الموحدة والفاء إحدى قرى خوارزم. 37 - أبو الفياض البصري [أَبو الفياض] (¬1) محمد بن الحسن المنتصر البصرى، تفقه على القاضي أبي حامد المروروذى، وصنف "اللاحق بالجامع" الذي صنفه شيخه، وهو تتمة له، وأخذ عنه الصيمرى شيخ الماوردى، وقال الشيخ أَبو ¬

_ (¬1) بياض في أ.

38 - البندنيجي

إسحاق: درّس بالبصرة، وعنه أخذ فقهاؤها، نقل عنه الرافعي في أوائل الحيض: أن الإستمتاع بالحائض في ما بين السرة والركبة يجوز إن أمن الوطء؛ لقوة ورع أو ضعف شهوة، وإلا فلا، ونقل عنه في غيره أيضًا، لم أقف له على وفاة. 38 - البندنيجي [القاضي] (¬1) أَبو على الحسن بن عبيد الله -بالتصغير- البندنيجي، أكبر أصحاب الشيخ أَبي حامد، وصاحب التعليقة المشهورة عنه المسماة "بالجامع"، وهى جليلة المقدار قليلة الوجود، وعندي منها نسخة، وصاحب "الذخيرة" أيضا كتاب جليل وقفت عليه، كان أَبو على المذكور صالحًا ورعًا، قال الشيخ في "طبقاته": خرج في آخر عمره إلى بلده وتوفي بها في جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وأربعمائة. 39 - أبو منصور البغدادي [الأستاذ] (¬2) أَبو منصور عبد القاهر بن ظاهر بن محمد التميمى البغدادي، قال عبد الغافر: ورد نيسابور مع أبيه فاشتغل بها على الأستاذ أَبي إسحاق الإسفراينى وغيره إلى أن برع. ودرّس في سبعة عشر علمًا، وأقعده الأستاذ بعده للإملاء، فأملى سنتين، واختلف إليه الأئمة، ثم خرج من نيسابور في فتنة التركمانية إلى ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

إسفراين، فابتهج أهلها به إلى الحد الذي لا يوصف، فلم يبق إلا يسيرًا حتى مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة أى بتاء ثم سين، ودفن إلى جانب أستاذه، وذكر ابن خلكان نحوه أيضًا. وقد تكرر نقل الرافعي عنه خصوصًا في الدوريات والوصايا، فإنه كان إمامًا في ذلك حتى صنف كتابا في الدوريات في جميع أبواب الفقه، وهو تصنيف غريب عندى به نسخة. واعلم أن أبا منصور هذا له أخ، يقال له: أَبو القاسم عبد الله كان إمامًا كبيرًا ذا علوم متعددة وجاه عريض ومال كثير وسخاء واسع، نزل بلخ ودرس بنظاميتها، ومات بها في جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، هذا هو الذي تحرر من كلام التفليسى وغيره [فإنهم نسبوه كنسب أَبي] (¬1) منصور وجعلوه تميميًا نيسابوريًا، وحاصل ذلك أنه ولد بعد انتقاله من نيسابور إلى إسفراين ثم فارق أَبو القاسم من إسفراين، ونزل ببلخ، ولهذا عبر بعضهم: عنه بالبلخى، وذكر بعضهم أن أبا القاسم هو ابن بنت أَبي منصور، ويقويه تراخى الموت بينهما، وكان سبب هذا الاضطراب ما ذكرناه من تراخى الموت، ومن التعبير بالبلخى، وكان لعبد الله هذا ولد فقيه فاضل مناظر واعظ يقال له: أَبو المحاسن محمد، رحل وسمع وحدث ودرس بنظامية بلخ بعد وفاة أبيه، ذكره أَبو سعيد في "الذيل" ونقله عنه التفليسى، ولم يؤرخ وفاته، ويأتى في حرف الشين المعجمة في ترجمة شهفور شئ آخر متعلق به. ¬

_ (¬1) في: إنهم نسبوه إلى، وفي ب: إنهم نسبوه إلى كتب أبى والمثبت من "طبقات الشافعية" للمصنف.

40 - البيهقي

40 - البيهقي البيهقي أَبو بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي الحافظ الفقيه الأصولى الزاهد الورع القائم في نصرة المذهب، تفقه على ناصر العمري، وأخذ علم الحديث عن الحاكم، وكان كثير التحقيق والإنصاف حسن التصنيف، قال عبد الغافر في "الذيل": كان على سيرة العلماء قانعًا من الدنيا باليسير، متجملًا في زهده وفي ورعه، قال إمام الحرمين: ما من شافعى إلا وللشافعي في عنقه منة، إلا البيهقي، فإن له المنة على الشافعي نفسه، وعلى كل شافعى لما صنفه في نصرة مذهبه من تخريج الأحاديث: "كالسنن الكبير" و"السنن الصغير" و"معرفة السنن والآثار"، وجمعه لنصوصه في كتابه المسمى "بالمبسوط"، وتصنيفه في مناقبه، ولد بخسرو جرد وهى بخاء معجمة مضمومة ثم سين مهملة ساكنة ثم راء مهملة ثم جيم مكسورة ثم راء مهملة ساكنة بعدها دال، وهى قرية من ناحية بيهق، في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وتغّرب في التحصيل، ثم رجع بعد تحصيله إلى بلده، وصنف فيها كتبه، وكان أول سماعه في آخر سنة تسع وتسعين، وأول تصنيفه في سنة ست وأربعمائة، ثم طلب إلى نيسابور في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة [لينشر العلم، فأجاب وأقام بها مدة وحدث بتصانيفه ثم عاد إلى بلده، ثم قدم نيسابور ثانيًا وثالثًا، وتوفي بها سنة ثمان وخمسين وأربعمائة] (¬1)، وحمل إلى بلده فدفن بها، كذا ذكره جماعة منهم ابن الصلاح في طبقاته، زاد غيره: بأن وفاته كانت في العاشر من جمادى الأولى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

41 - الحافظ البغدادي

وبيهق بفتح الباء اسم لناحية من نواحى نيسابور على عشرين فرسخًا منها مشتملة على عدة قرى، نقل عنه في "الروضة" في مواضع، منها: أن وقت المغرب موسع، ونقل الرافعي أيضا عنه مواضع، منها: اختيار وجوب الكفارة في نذر المعصية. وكان له ولد فقيه محدث يقال له: أَبو على إسماعيل، ويلقب بشيخ القضاة، تولى القضاء والتدريس والخطابة بما وراء النهر، ثم عاد بعد ما غاب نحو ثلاثين سنة إلى بلدة فمات بها. 41 - الحافظ البغدادي الحافظ أَبو بكر أحمد الخطيب بن على الخطيب البغدادي، ولد ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثنتين وتسعين وثلاثمائة، وتفقه على المحاملى والقاضي أَبي الطيب، واستفاد من الشيخ أَبي إسحاق وابن الصباغ، وبرع في الحديث حتى صار حافظ زمانه، وبلغت مصنفاته نيفا وخمسين مصنفًا، منها: "الجهر بالبسملة" أثنى عليه الأئمة والعلماء، وكان ورعًا زاهدًا متعبدًا يتلو في كل يوم وليلة ختمة، وكان حسن القراءة، جهورى الصوت حسن الخط، خرج من بغداد في فتنة أرسلان التركى، مقدم الأتراك ببغداد المعروف بالبساسيرى الخارج على الخليفة، فورد دمشق سنة إحدى وخمسين، وأقام بها إلى سنة سبع، وذلك في دولة العبيديين خلفاء مصر المعروفين بالفاطميين والأذان بدمشق "حى على خير العمل"، فضاقوا منه وهمَّ متولى البلد بقتله، ثم اتفق الحال على إخراجه فذهب إلى صور بلد بساحل دمشق، فأقام بها إلى سنة ثنتين وستين، فرجع إلى بغداد من طريق الساحل، فتلقوه وأكرموه وأسمع وأملى في جامع المنصور بإذن الخليفة، ولم تطل إقامته بها، بل مات يوم الإثنين سابع ذى الحجة سنة ثلاث

42 - أبو مخلد البصري

وستين، ودفن إلى جانب بشر الحافي، وقال السمعاني: إن وفاته كانت في شوال ذكره ابن خلكان، قال: وسمعت أن الشيخ أبا إسحاق ممن حمل جنازته؛ لأنه انتفع به كثيرًا، فكان يراجعه في الأحاديث التى يودعها كتبه، تكرر النقل عنه في أوائل القضاء من "الروضة". 42 - أبو مخلد البصري [أَبو مخلد] (¬1) بفتح الميم وإسكان الخاء المعجمة البصرى، نقل الرافعي عنه في أول الخلع: أن الفتوى على أنه فسخ، ونقل عنه في أوائل النكاح في الكلام على جواز نظر الخصى والمخنث، وهو المتشبه بالنساء، فقال: وحكى أَبو مخلد البصرى وهو من متأخرى الأصحاب في الخصى والمخنث وجهين على الإطلاق، ولم أقف له على تاريخ وفاة. 43 - البندنيجي [أَبو نصر] (¬2) محمد هبة الله بن ثابت البندنيجي، كان من كبار أصحاب الشيخ أَبي إسحاق، ويعرف بفقيه الحرم؛ لأنه نزل مكة فجاور بها نحوًا من أربعين سنة، وكان يعتمر في رمضان ثلاثين عمرة، وهو ضرير يؤخذ بيده، وكان يقرأ سورة الإخلاص في كل أسبوع ستة آلاف مرة، صنف كتاب "المعتمد" في الفقه في جزأين ضخمين، وهو مشهور في ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

44 - البغوي

الحجاز واليمن قليل الوجود في غيرهما، وعندى به نسخة، نقل عنه في "البيان" في صفة الوضوء وفي غيره، ونقل عنه أيضًا المحب الطبرى شيخ الحرم في شرحه للتنبيه، أخذ صاحب "البيان" عن الفقيه زيد عنه، وتوفي -رحمه الله- باليمن سنة خمس وتسعين وأربعمائة بتاء ثم سين، وقد نيف على الثمانين ودفن ببلد يعرف بذى الأنبتين بينه وبين ثغر المدينة المشهورة نحو يومين وقبره هناك مشهور مقصود، وقال التفليسى: إنه ولد سنة سبع وأربعمائة ومات سنة تسعين، ونقل عنه في "الروضة" خاصة في موضع واحد لا ثانى له وهو في كتاب الجنائز: أن نقل الميت من بلد إلى بلد مكروه، والصحيح: التحريم. 44 - البغوي [أَبو محمد] (¬1) الحسين البغوي [ابن مسعود] (¬2) المشهور بالبغوى، المعروف بابن الفراء تارة، وبالفراء أخرى، الملقب بمحيى السنة، مصنف "التهذيب" الإمام في التفسير والحديث والفقه، تفقه على القاضي حسين ومن تعليقته لخص "التهذيب"، وكان دينا ورعًا قانعًا باليسير يأكل الخبز وحده، فعذل في ذلك فصار يأكله بالزيت، وكان لا يلقى الدرس إلا على طهارة، قال ابن خلكان: توفي بمرو الروذ في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة، ودفن عند شيخه، قال: والبغوي منسوب إلى بغا بفتح الباء وهى قرية بخراسان بين هراة ومرو، وكان له أخ عالم يقال له أَبو على الحسن، تفقه على أخيه، توفي بعده باثنتى عشرة سنة. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ.

45 - ابن برهان

45 - ابن برهان [أَبو الفتح] (¬1) أحمد بن على بن برهان -بفتح الباء- الحنبلي ثم الشافعي، ولد ببغداد في شوال سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتفقه على الغزالي والكيا والشاشي، وبرع في المذهب وفي الأصول، وكان هو الغالب عليه، وله فيه التصانيف المشهورة "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" وغيرها، رحلت إليه الطلبة من البلاد واستغرق نهاره وبعض ليله في إقرائهم، ودرّس بالنظامية شهرًا واحدًا، ثم عزل ثم تولاها ثانيا يومًا واحدًا، ثم عزل وكان ذكيًا يضرب به المثل في حل الإشكال، توفي سنة عشرين وخمسمائة، كذا قاله ابن خلكان، والمعروف أنه في سنة ثمان عشرة في ثامن عشر جمادى الأولى، نقل عنه في "الروضة" في كتاب القضاء: أن العامى لا يلزمه التقيد بمذهب معين ورجحه. 46 - البوشنجي الإمام أَبو سعد إسماعيل ابن الإمام عبد الواحد ابن إسماعيل البوشنجى، نزيل هراة، نقل عنه الرافعي في مواضع، وقال في حقه في كتاب الخلع: إنه إمام غواص متأخر لقيه من لقيناه، قال عبد الغافر في "الذيل": شاب نشأ في عبادة الله تعالى، مرضى السيرة على منوال أبيه، فقيه مناظر مدّرس زاهد، وقال السمعاني: كان فاضلًا غزير الفضل، ¬

_ (¬1) بياض في أ.

47 - أبو الخير

حسن المعرفة بالمذهب، جميل السيرة، مرضى الطريقة، كثير العبادة ملازم الذكر قانعًا باليسير، خشن العيش راغبا في نشر العلم، لازمًا للسنة، غير ملتفت للأمراء وأبناء الدنيا. ثم قال: ولد سنة إحدى وستين وأربعمائة، ومات بهراة سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ونقل النووي في "تهذيبه" مثله أيضًا، وتفقه والده على الفقيه أَبي إبراهيم الضرير، وتوفي سنة ثمانين وأربعمائة، ولهما أقارب أئمة فضلاء. 47 - أبو الخير [أَبو الخير] (¬1) يحيى بن أَبي الخير بن سالم العمراني اليماني مصنف "البيان" و"الزوائد"، و"السؤال عما في المهذب من الإشكال" و"الفتاوى"، كان شيخ الشافعية ببلاد اليمن، ورحلت إليه الطلبة من البلاد، وكان يحفظ "المهذب"، توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، قاله النووي في "تهذيبه"، وكان له ولد يقال له: طاهر، جامع لأنواع من العلوم، تفقه بأبيه وخلفه في حلقته وله مصنفات. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

باب التاء

باب التاء

48 - الترمذي

باب التاء 48 - الترمذي [أَبو جعفر] (¬1) محمد بن أحمد بن نصر الترمذي، كان أولًا حنفيًا فحج فرأى ما يقتضي انتقاله لمذهب الشافعي فتفقه على الربيع وغيره من أصحاب الشافعي، وسكن بغداد، وكان ورعًا زاهدًا متقللًا جدًا، كانت نفقته في الشهر أربعة دراهم. قال الدارقطني: ولم يكن للشافعيين بالعراق أرأس منه ولا أشد ورعًا، نقل عنه الرافعي مواضع قليلة، منها: أن فضلات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاهرة، وأن الساجد للتلاوة خارج الصلاة لا يكبر للافتتاح لا وجوبًا ولا استحبابًا، وأنه إذا رمى إلى حربي فأسلم ثم أصابه السهم، فلا ضمان، والمعروف خلافه فيهن. ولد في ذي الحجة سنة مائتين، وتوفي لإحدى عشرة خلت من المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين -بتاء ثم سين-، قاله الشيخ أَبو إسحاق، ونقله عنه النووي في "تهذيبه"، وذكره ابن خلكان. وترمذ مدينة على طرف نهر جيحون، وفيها ثلاثة أقوال حكاها في "التهذيب" عن السمعاني: الأول: فتح التاء وكسر الميم وهو المتداول بين أهلها. والثاني: كسرهما. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

49 - أبو الحسن التميمي

والثالث: ضمها، قال: وهو الذي يقوله أهل المعرفة. 49 - أبو الحسن التميمي [أَبو الحسن] (¬1) منصور بن إسماعيل التميمي المصري الضرير، كان فقيهًا متصرفًا في علوم كثيرة، لم يكن في زمانه في مصر مثله. قال الشيخ أَبو إسحاق: قرأ على أصحاب الشافعي وأصحاب أصحابه، وله مصنفات في الفقه مليحة، منها: "الهداية" و"السافر" و"الواجب" و"المستعمل" وغيرها. وله شعر مليح، مات قبل العشرين وثلاثمائة. انتهى كلام الشيخ. وقال ابن خلكان: توفي سنة ست وثلاثمائة، وكان شاعرًا خبيث اللسان في الهجو، وكان جنديًا، وأصله من البلد المسماة برأس عين من نواحى حلب ومن شعره: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة من كان يحلف ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة وله أيضا: الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسة ممن ينازع في الرياسة ... قبل أوقات الرياسة نقل الرافعي عنه مواضع، منها: في زكاة الفطر أن الأقط يجزئ، وفي الجنايات: أن مستحق القصاص يجوز له استيفاؤه بغير إذن الإمام، ونقل في كتاب السرقة عن بعض شروح كتابه المسمى "بالمستعمل"، وعندي من ¬

_ (¬1) بياض في أ، ب وأثبتناه من طبقات الإسنوي.

50 - أبو حيان التوحيدي

تصنيفه المسمى "بالسافر" نسخة. 50 - أبو حيان التوحيدي [أَبو حيان] (¬1) علي بن محمد بن العباس البغدادي المعروف بالتوحيدي، شيرازي الأصل، وقيل: نيسابوري، وقيل: واسطي، شيخ الصوفية، وصاحب كتاب "البصائر" وغيرها من المصنفات في علم التصوف، أخذ عن القاضي أبي حامد المروروذي، كما صرح في "البصائر"، وقد ذكره ابن خلكان في آخر ترجمة أبي الفضل العميد، فقال: كان فاضلًا مصنفًا، وكان موجودًا في السنة الأربعمائة، كما ذكره في تصنيفه المسمى "بالصديق والصداقة". والتوحيدي بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الحاء، وبالدال المهملتين، يقال: إن أباه كان يبيع التوحيد ببغداد، وهو نوع من التمر بالعراق، وعليه [حمل] (¬2) بعض شراح المتنبي قوله: يترشَّفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيد هذا آخر كلام ابن خلكان. وحيان بحاء مهملة بعدها ياء مشددة بنقطتين من تحت، نقل الرافعي عنه في موضع واحد، فقال: إنه نقل عن شيخه القاضي المذكور أن الربا لا يجزئ في الزعفران، والمعروف خلافه. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من ب.

51 - القفال الكبير

51 - القفال الكبير [القاسم] (¬1) بن القفال الكبير الشاشي، مصنف "التقريب"، كان إمامًا جليلًا حافظًا، برع في حياة أبيه، وقد نقل الرافعي عن الحليمي في كتاب الرضاع في الكلام على اختلاط اللبن بغيره ما يدل عليه، فقال عقب كلام ما نصه: هذا شيء استنبطته أنا وكان في قلبي منه شيء فعرضته على القفال الشاشي، وابنه القاسم فارتضياه، فسكنت نفسي ثم وجدته لابن سريج فسكن قلبي إليه كل السكون. وقال العبادي: إن كتابه "التقريب" قد تخرج به فقهاء خراسان، وازدادت طريقة أهل العراق حسنًا، وقد أثنى البيهقي على "التقريب" في ضمن رسالة كتبها إلى الشيخ أبي محمد يحثه فيها على نقل كلام الشافعي باللفظ، ويذكر له سبب جمعه لنصوص الشافعي، فقال ما حكاه عنه النووي في "تهذيبه": ثم نظرت في كتاب "التقريب"، وكتاب "جمع الجوامع" و"عيون المسائل" وغيرها، فلم أر أحدًا منهم فيما حكاه أوثق من صاحب "التقريب"، وهو في النصف الأول من كتابه أكثر حكاية لألفاظ الشافعي منه في النصف الأخير، وقد غفل في النصفين جميعًا مع اجتماع الكتب له أو أكثرها وذهاب بعضها في عصرنا، قلت: وحجم "التقريب" [قريب] (¬2) من حجم الرافعي، وهو شرح على "المختصر" جليل استكثر فيه من الأحاديث، ومن نصوص الشافعي بحيث أنه يحافظ في كل مسألة على نقل [ما نص عليه الشافعي فيها في جميع كتبه ناقلًا له ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ.

52 - أبو سعيد النيسابوري

باللفظ لا بالمعنى بحيث يستغني] (¬1) من هو عنده غالبًا عن كتب الشافعي كلها، ولم أر في كتب الأصحاب أجل منه، وقد نسبه بعض المتقدمين إلى القفال نفسه، وبه جزم في "الشامل" في باب استقبال القبلة، ورجحه العجلي في "شرح الوسيط" في الباب الثالث من أبواب التيمم، وذكر الغزالي في كتاب الرهن نحوه، فإنه جعله لأبي القاسم، وقد سبق أن القاسم اسم لولده، والمعروف أنه لولده، وهو ما جزم به العبادي في "الطبقات"، والرافعي في "القضاء"، وقال -أعني الرافعي- في "التذنيب" -إنه الأظهر، ورأيت في "تاريخ جرجان" لحمزة السهمي ما يدل عليه فقال: سمعت أبا عبد الله الكرماني يقول: سمعت الحليمي يقول: علق عني القاسم بن القفال صاحب "التقريب" أحد عشر جزءًا من الفقه. لم أعلم تاريخ وفاته -رحمه الله-. 52 - أبو سعيد النيسابوري [أَبو سعيد] (¬2) عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري المتولي مصنف "التتمة"، تفقه بمرو على الفوراني، وبمرو الروذ على القاضي الحسين، وببخارى على أبي سهل الأبيوردي، وبرع في الفقه والأصول والخلاف وصنف كتابًا في أصول الدين، وكتابًا في الخلاف، ومختصرًا في الفرائض، ولم يكمل "التتمة" بل وصل فيها إلى الحدود فكملها جماعة، دخل بغداد، ودرّس بالنظامية بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق، ثم عزل بابن الصباغ قبل مضي شهر، ثم عمي ابن الصباغ، فأعيد إليها سنة سبع وسبعين، فأقام بها إلى أن توفي. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) بياض في أ.

قال ابن خلكان: في ليلة الجمعة الثامن عشر من شوال سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد، ودفن بمقبرة باب أبرز، وكان مولده بنيسابور في سنة ست وعشرين، وقيل سبع، قال ابن خلكان: ولم أقف على المعنى الذي سمي به المتولي.

باب الثاء المثلثة

باب الثاء المثلثة

53 - أبو علي الثقفي

باب الثاء المثلثة 53 - أبو علي الثقفي [أَبو علي] (¬1) محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمن الثقفي الحجاجي من نسل الحجاج بن يوسف النيسابوري، قال فيه الحاكم: هو الإمام المقتدى به في الفقه والكلام والدين والعقل والوعظ، وقال ابن سريج: ما جاءنا من خراسان أفقه منه، واستفتى رجل ابن خزيمة في مسائل فأعطاها إلى أبي علي المذكور ليجيب عنها، وصار كلما كتب على واحدة ناولها لابن خزيمة، فيتأملها إلى أن استوعبها، فقال له ابن خزيمة: يا أبا علي ما يحل لأحد منا بخراسان يفتي وأنت حي. وأرسل الشبلي من بغداد رجلًا من أهل العلم وأمره بالحضور سرًا إلى مجلس وعظه، وأن يكتب مجالسه سنة كاملة، ففعل وأحضرها إليه. قال الحاكم: سمعت الصبيغي يقول: ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد أَبو على من العراق. وسمعت أبا العباس الزاهد يقول: كان الثقفي في عصره حجة الله تعالى على خلقه، وأجاب في بعض مسائل أصول الدين بما يخالف الناس فألزم بيته، فلم يخرج منه إلى أن مات، وحصل له في ذلك الجلوس محن. ولد سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي في جمادى الأولى سنة ثمان ¬

_ (¬1) بياض في أ.

وعشرين وثلاثمائة، هذا كلام الحاكم. وقال العبادي: إنه تفقه على محمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وأنه أجاب عن "الجامع الصغير" لمحمد بن الحسن، تكرر نقل الرافعي عنه.

باب الجيم

باب الجيم

54 - الجنيد

باب الجيم 54 - الجنيد [أَبو القاسم] (¬1) الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي ثم البغدادي القواريري، نسبة لبيع القوارير وهي الزجاج، وهو الإمام العلم المبرز في العلم والعمل، شيخ الزهاد والمساكين، تفقه بأبي ثور، أحد أصحاب الشافعي ببغداد، وكان يفتي في حلقته وعمره عشرون سنة [وسمع الحديث من جماعة وسمع منه جماعة، وقال ذات يوم: ما أخرج الله تعالى إلى الأرض علمًا وجعل للخلق إليه سبيلًا إلا وجعل الله لى فيه حظًا ونصيبًا وكان يفتح كل يوم حانوته ويسبل الستر ويصلي فيه أربعمائة ركعه. توفي -رحمه الله- يوم السبت] (¬2) في شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين، ذكره ابن الصلاح في "طبقات الشافعية"، ونقل عنه في "الروضة" قبيل الصيام أن أخذ المحتاج من صدقة التطوع أفضل من أخذه من الزكاة، لئلا تضيق على الأصناف، ثم نقل عن آخرين العكس، وعن الغزالي في "الإحياء" تفصيلًا. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

55 - الجرجاني

55 - الجرجاني [أَبو أحمد] (¬1) الجرجاني. قال السهمي في أواخر "تاريخ جرجان": هو محمد بن أحمد بن إبراهيم الصباغ الفقيه صاحب أبي إسحاق المروزي، درّس ببغداد، ومات بها. انتهى. وقال الشيخ قطب الدين الحلبي المعروف بابن أخت الشيخ نصر في "تاريخ مصر": محمد بن [أحمد] (¬2) بن إبراهيم البغدادي، ويكنى أبا الطيب، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وكان من أعلم الناس بمذهب الشافعي، حج ووصل إلى الأندلس، ثم خرج منها وتوفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة عن نيف وسبعين سنة، انتهى كلامه. فأما نسبته إلى بغداد فواضح، وأما تكنيته بأبي الطيب فلا يمتنع أن يكون للشخص كنيتان. ذكره الرافعي في باب القذف من اللعان، فيما إذا قال يا زأني بالهمز، فإنه حكى في المسألة ثلاثة أوجه، ثم قال: والثاني: أنه قذف، وعن الداركي أن أبا أحمد الجرجاني نسبه إلى نصه في "الجامع الكبير". ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من ب.

56 - ابن العفريس

56 - ابن العفريس [أَبو سهل] (¬1) أحمد بن محمد الزوزني، ويعرف بابن العِفريس -بالعين والسين المهملتين- صاحب "جمع الجوامع"، وذكره أَبو عاصم العبادي في طبقة القفال الشاشي وأبي زيد والخفاف ونحوهم. نقل عنه الرافعي في أوائل الطهارة: أن المؤثر في تغير الماء بالطاهرات هو تغير أحد الأوصاف أم لابد من اجتماعها؟ . فيه أقوال حكاها الموفق ابن طاهر عن صاحب "جمع الجوامع"، ونقل عنه في "الروضة" أيضا من زوائده في الكلام على سنن الجمعة، إلا أنه لم يقف على كتابه، بل أخذه من ابن الصلاح، وكتابه المذكور قد وقفت عليه وهو قريب من حجم "الرافعي الصغير"، قال في أوله، هذا كتاب جمعته من جوامع كتب الشافعي، وهي "القديم" و"المبسوط" و"الأمالي" و"البويطي" و"حرملة" ورواية موسى بن أبي الجارود، ورواية المزني في "المختصر"، و"الجامع الكبير"، ورواية أبي ثور، وحكيت مسائلها بألفاظه، وجعلت "المبسوط" أصلًا، ونقلت إلى كل باب منه من سائر الروايات ما كان من جنسه ورتبته على ترتيب "مختصر المزني" ونسبت كل قول منها إلى مكانه، وجعلته مشتملا على المشاهير والشواهد، هذا كلامه ملخصًا، ولم يتعرض "للأم"، وسببه قلة وجوده عندهم إذ ذاك، ثم ذكر في آخر خطبته أنه روى عن محمد بن يعقوب المعقلي المعروف بالأصم عن الربيع صاحب الشافعي. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

57 - الجويني

والمشهور على الألسنة أن العفريس [السابق] (¬1) ذكره بعين مكسورة ثم فاء ساكنة ثم راء مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت، ورأيته مضبوطا في النسخة التي وقفت عليها بفتح العين والفاء، وسكون الراء بعدها نون مفتوحة، وهو أصل صحيح قديم أدرك كاتبه حياة المصنف وعليه خط ابن الصلاح رحمه الله تعالى. 57 - الجويني الشيخ أَبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني. قرأ الأدب بناحية جوين على والده، والفقه على [أبي] (¬2) يعقوب الأبيوردي، ثم خرج إلى نيسابور، فلازم أبا الطيب الصعلوكي، ثم رحل إلى مرو لقصد القفال فلازمه حتى برع عليه مذهبًا وخلافًا، وعاد إلى نيسابور سنة سبع وأربعمائة، وقعد للتدريس والفتوى، وكان إمامًا في التفسير والفقه والأدب، مجتهدًا في العبادة ورعا مهيبًا صاحب جد ووقار. قال شيخ الإسلام أَبو عثمان الصابوني: لو كان الشيخ أَبو محمد في بني إسرائيل لنقلت لنا أوصافه وافتخروا به. ونقل النووي في "الطبقات" عن الشيخ أبي سعد عبد الواحد بن القشيري صاحب "الرسالة": أن المحققين من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال أنه لو جاز أن يبعث الله تعالى نبيًا في عصره لما كان إلا هو. صنف -رحمه الله- تفسيرًا [كبيرًا يشتمل على عشرة أنواع من العلوم في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

58 - الجرجاني

كل آية وتعليقًا في الفقه متوسطًا لم أقف عليه، وعندي من تصانيفه: "الفروق"، و"السلسلة" و"التبصرة" و"مختصر المختصر" وتصنيفه في "موقف الإمام والمأموم"] (¬1). وتوفي في نيسابور في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة. قاله السمعاني في "الذيل"، وعبد الغافر في "الذيل" أيضا، وتبعهم النووي في "الطبقات"، وقال السمعاني في "الأنساب": إنه توفي سنة أربع وثلاثين ومدة مرضه سبعة عشر يومًا. وجوين ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كبيرة. 58 - الجرجاني أَبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الجرجاني، كان قاضي البصرة وشيخ الشافعية بها ومن أعيان الأدباء في وقته، تفقه على الشيخ أبي إسحاق، وصنف في الفقه "التحرير والمعاملة" و"البلغة" و"الشافى"، وهو كبير في أربع مجلدات قليل الوجود عندي به نسخة. مات [راجعًا] (¬2) من أصبهان إلى البصرة سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة، قاله ابن الصلاح في "طبقاته". ¬

_ (¬1) غير واضحة في أ. (¬2) سقط من ب.

باب الحاء

باب الحاء

59 - الحربي

باب الحاء 59 - الحربي [أَبو إسحاق] (¬1) إبراهيم بن إسحاق، المعروف بالحربي -بالحاء المهملة والباء الموحدة وفي آخره ياء النسبة-، ذكره العبادي في "طبقاته"، وقال: لم يكن ببغداد أعلم منه بالفقه، ولا بعلم الأدب. ولم يؤرخ وفاته، وقال الشيخ أَبو إسحاق في "طبقاته": توفي سنة خمس وثمانين ومائتين، نقل عنه الرافعي في الجنايات في الكلام على القصاص في الأطراف فقال: ويذكر في الشجاج الحالقة وهي التي تقشر الجلد مع اللحم، وعن إبراهيم الحربي أنها الأولى والحارصة تليها، والأكثرون عكسوا. 60 - ابن حربويه [القاضي] (¬2) أَبو عبيد علي بن الحسين بن حربويه البغدادي، تفقه على أبي ثور، وولي قضاء واسط ثم إقليم مصر، فأقام بها مدةً طويلة وكانت الخلفاء تعظمه. قال ابن يونس في "تاريخ مصر": كان شيئا عجيبًا ما رأينا مثله لا قبله ولا بعده، وكان آخر قاض يركب إليه أمراء مصر، وكان لا يقوم للأمير ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

61 - ابن الحداد

إذا أتى إليه بأمره، ثم أرسل مُوَقِّعه الإمام أبا بكر بن الحداد إلى بغداد سنة عشر وثلاثمائة [في طلب إعفائه عن القضاء، فأعفي وعاد إليها. وتوفي بها في صفر سنة تسع عشرة وثلاثمائة] (¬1)، قاله الشيخ أَبو إسحاق، وصلى عليه الإصطخري، ودفن في داره، ونقل عنه الرافعي مواضع، منها: منع تعجيل الزكاة، واشتراط رفع الروشن بحيث يمر تحته الفارس ناصبًا رمحه. وحربويه بفتح [الباء] (¬2)، ويقال: بضم الباء، وإسكان الواو وفتح الياء، ويجري الوجهان في نظائره كلها كسيبويه ونفطويه وعمرويه وراهويه. 61 - ابن الحداد [أَبو بكر] (¬3) محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني المصري الشهير بابن الحداد، كان إمامًا مدققا في علوم كثيرة [خصوصًا الفقه وموَّلداته تدل عليه، وكان كثير العبادة كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويختم في كل يوم وليلة ختمة، ويختم في يوم الجمعة في الجامع قبل الصلاة ختمة أخرى في ركعتين] (¬4). أخذ الفقه عن جماعة، منهم: منصور بن إسماعيل التميمي، السابق ذكره، وأخذ عن محمد بن جرير لا دخل بغداد رسولًا في سؤال إعفاء ابن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) بياض في أ. (¬4) غير واضحة في أ.

62 - الحناطي

حربويه عن قضاء مصر كما سبق الآن قريبًا، وجالس أبا إسحاق المروزي لما ورد مصر، قال ابن زولاق في "تاريخ قضاة مصر": إنه صنف كتاب "الباهر" في الفقه في مائة جزء وكتاب "جامع الفقه"، وكتاب "أدب القضاء" في أربعين جزءًا، وكتاب "الفروع المولدات" معروف، وهو الذي اعتنى الأئمة بشرحه، وكان حسن الثياب رفيعها، حسن المركوب، وكان يوقع للقاضي ابن حربويه، وباشر قضاء مصر مدة لطيفة بأمر أميرها عند شغوره، فسعى غيره من بغداد، فورد تفويضه لذلك الغير. ولد -رحمه الله- يوم موت المزني، وحج فمرض في الرجوع، ومات يوم دخول الحاج إلى مصر، وهو يوم الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وعمره تسع وسبعون سنة وأشهر، قاله السمعاني، وقال الشيخ أَبو إسحاق: مات سنة خمس وأربعين، واقتصر عليه النووي في "تهذيبه"، وابن خلكان في "تاريخه"، والصحيح الأول، فقد ذكره ابن زولاق في "تاريخه"، وهو أقعد؛ لكونه مصريًا، إلا أنه قال: في صفر، ثم دفن يوم الأربعاء بسفح المقطم عند أبويه، وكان أحد أجداده يعمل الحديد ويبيعه فعرف بذلك. 62 - الحناطي [أَبو عبد الله] (¬1) الحناطي، وهو الحسين بن أبي جعفر محمد الطبرى، قدم بغداد في أيام الشيخ أبي حامد، وروى عنه القاضي أَبو الطيب، وذكره الشيخ أَبو إسحاق ولم يؤرخ وفاته، نقل عنه الرافعي في آخر الاستنجاء، ثم كرر النقل عنه. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

63 - الحداد

والحنَّاطي بالحاء المهملة والنون معناه الحناط كالخباز والبقال، لكن [العجم] (¬1) يزيدون عليه [ياء] (¬2) النسب أيضا، فيعبرون مثلًا عن الذي يقصر الثياب بالقصار مرة وبالقصاري أخرى، قال ابن السمعاني: لعل أن بعض أجداده كان يبيع الحنطة. وقد ذكر المطوعي في كتابه المسمى بـ"المذهب" والده وأثنى عليه، وعبر عنه بالحناطي أيضًا، فقد كان إمام عصره بطبرستان حقًا وواحد دهره علمًا وفقهًا، وكان قد درس على ابن القاص، وأخذ عن أبي إسحاق، وأعاده أيضا مرة أخرى، فقال: والمنجبون من فقهاء أصحابنا -أي المعقبون للعلماء- أربعة، فذكر الإسماعيلي والصعلوكي والقفال الشاشي، ثم قال: وأبو جعفر الحناطي حيث رزق مثل الشيخ أبي عبد الله ولدا وضيئًا ونجلًا زكيًا، وذكر الشيخ أَبو إسحاق لأبي عبد الله المذكور أيضا ولدًا عالمًا فقال: ومنهم أَبو نصر بن الحناط الشيرازي، أخذ الفقه أبيه عن أبي عبد الله، وكان فقيهًا أصوليًا فصيحًا شاعرًا صوفيًا، مات بـ"فيد" في طريق مكة، وله مصنفات كثيرة في الفقه وأصوله، وعنه أخذ فقهاء شيراز. انتهى، وكأنه عرف بالشيرازي لكونه استوطنها، ويحتمل أن يكون غيره وفيه بعد. 63 - الحداد [أَبو محمد] (¬3) الحداد، ذكره الشيخ أَبو إسحاق في "طبقاته" فقال: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) بياض في أ.

64 - الحليمي

القاضي أَبو محمد الحسن بن أحمد المعروف بالحداد، من أهل البصرة، أحد فقهاء أصحابنا، لا أعلم على من درس ولا وقت وفاته، ورأيت له كتابًا في "أدب القضاء" [دل] (¬1) على فضل كبير. انتهى كلام الشيخ. نقل عنه الرافعي في كتاب "القضاء" في آخر الكلام على قوله: قال: فأما الخط فلا يعتمده الشاهد، فقال في ذيل كلام نقله عن الصيمري في الأسباب المعينة على تذكر الشهادة: وحكى أَبو محمد الحداد من الأصحاب أن بعض علمائنا ممن ولى قضاء البصرة، كان يكتب أن الذي شهدت عليه يشبه فلانًا. انتهى. 64 - الحليمي [أَبو عبد الله] (¬2) الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم -بحاء مهملة مفتوحة ولام- المعروف بالحليمي، قال فيه الحاكم: كان شيخ الشافعيين بما وراء النهر وآدبهم وأنظرهم بعد أستاذيه: القفال الشاشي، والأودني، وقال في "النهاية": كان الحليمي رجلًا عظيم القدر لا يحيط بكنه علمه إلا غواص. ولد ببخارى، وقيل: بجرجان سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة ثلاث وأربعمائة، قيل: بجمادى، وقيل: في ربيع الآخر. قد نقل عنه الرافعي في التيمم ثم كرر النقل عنه، ومن مصنفاته "شعب الإيمان" كتاب جليل جمع أحكامًا كثيرة، ومعانٍ غريبة لم أظفر بكثير منها في غيره، وكان له أخ فاضل يقال له أَبو الفضل الحسن، ولد في السنة التي ولد فيها أخوه من غير أمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض في أ.

65 - الحاكم

65 - الحاكم [أَبو عبد الله] (¬1) محمد بن عبد الله بن محمد الضبي النيسابوري الحاكم، ويعرف أيضا بابن البيع -بكسر الياء المشددة- صاحب "المستدرك"، و"تاريخ نيسابور"، و"فضائل الشافعي" وغيرها. كان فقيهًا حافظًا ثقة، إلا أنه كان يميل إلى التشيع ويظهر التسنن، انتهت إليه رئاسة أهل الحديث حتى حدث الأئمة عنه في حياته. طلب العلم في صغره باعتناء أبيه وخاله، ورحل إلى الحجاز والعراق مرتين، وروى عن خلائق عظيمة تزيد على ألفي شيخ، وتفقه على أبي الوليد النيسابوري، [وأبي علي] (¬2) بن أبي هريرة، وأبي سهل الصعلوكي وانتفع به [أئمة] (¬3) كثيرون، منهم: البيهقي فإنه روى عنه فأكثر وبكتبه تخرج، ومن بحره استمد وعلى منواله نسج، وقال عبد الغافر الفارسي في "الذيل": كان الحاكم إمام أهل الحديث في عصره، وبيته بيت الصلاح والورع والزهد، واختص بصحبة إمام وقته أبي بكر الصبغي، وكان يراجع الحاكم في السؤال والجرح والتعديل. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وأول سماعه سنة ثلاثين، وشرع في التصنيف سنة سبع وثلاثين، وبلغت مصنفاته قريبا من ألف جزء حديثية، ثم أطنب عبد الغافر في مدحه إلى أن قال: مضى إلى رحمة الله تعالى، ولم يخلف بعده مثله في ثامن صفر سنة خمس وأربعمائة، وقد ترجمه الحافظ أَبو موسى المديني في مصنف مفرد، وذكر أنه دخل الحمام واغتسل ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

66 - [القاضي] الحسين

وخرج فقال: آه وقبضت روحه وهو متزر لم يلبس القميص، نقل عنه الرافعي في كتاب صلاة الجماعة، فقال: إنه نقل في تاريخ نيسابور عن أبي بكر الصبغي أن الركعة لا تدرك بالركوع. 66 - [القاضي] (¬1) الحسين وهو الإمام المحقق المدقق أَبو على محمد بن أحمد المروزي من أكبر أصحاب القفال، قال عبد الغافر: كان فقيه خراسان وكان عصره تاريخًا به. وقال الرافعي في "التذنيب": إنه كان كبيرًا غواصًا في الدقائق من الأصحاب الغر الميامين، وكان يلقب بحبر الأمة. انتهى. وذكره النووي في "تهذيبه" فقال: وله "التعليق الكبير"، وما أجزل فوائده وأكبر فروعه المستفادة، ولكن يقع في نسخه اختلاف، وكذلك في تعليق الشيخ أبي حامد. قلت: وللقاضي في الحقيقة تعليقان يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بزوائد كثيرة، سببه اختلاف المعلقين عنه؛ ولهذا نقل ابن خلكان في ترجمة أبي الفتح الأرغياني: أن القاضي الحسين قال في: حقه: ما علق أحد طريقتي مثله. وقد وقع لي "التعليقان" بحمد الله تعالى، وله شرح على فروع ابن الحداد، وقطعة من "شرح تلخيص ابن القاص"، وقعا لي في مجلدة واحدة بخط بعض تلاميذه وعلى حاشيتها خط ابن الصلاح منبهًا على غرابة ذلك، وله تصنيف آخر سماه "أسرار الفقه"، هو مجلد قليل الوجود ظفرت به، ¬

_ (¬1) بياض في أ.

67 - إمام الحرمين

وأما "فتاويه" فمعروفة. توفي -رحمه الله- بعد صلاة العشاء ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شهر المحرم سنة ثنتي وستين وأربعمائة، قاله النووي في "تهذيبه". 67 - إمام الحرمين [ضياء الدين] (¬1) أَبو المعالي عبد الملك إمام الحرمين ابن الشيخ أبي محمد الجويني إمام الأئمة في زمانه وأعجوبة دهره. ولد في ثامن عشر المحرم سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقرأ الفقه على والده، والأصول على أبي القاسم الإسكاف تلميذ الإسفراييني، وتوفي والده وله نحو عشرين سنة، فأقعده الأئمة في مكانه للتدريس كما سيأتي في ترجمة الفوراني، وخرج من نيسابور لما ظهرت الفتن بين المعتزلة والأشاعرة وظهرت المعتزلة، فأقام ببغداد تارةً وبأصفهان تارة وغيرهما من الأماكن، ثم خرج إلى الحجاز فجاور بمكة أربع سنين يدرس ويفتى، وجمع "النهاية" هناك، ثم عاد إلى نيسابور عند استقامة الأمور، فبنيت له نظاميتها وفوض إليه التدريس بها والخطابة بالجامع المعروف بالمنيعي، ومجلس الوعظ وأمور الأوقاف، وعظم شأنه عند الملوك واجتمع المستفيدون عليه، وحرر "النهاية" رتبها وأملاها وعقد مجلسًا عند فراغها حضره الأئمة والكبار. وكان -رحمه الله- متواضعا جدًا بحيث يتخيل جليسه أنه يستهزئ به، ¬

_ (¬1) بياض في أ.

رقيق القلب بحيث يبكي إذا سمع بيتًا أو تفكر في نفسه ساعة، أو خاض في علوم الصوفية وأرباب الأحوال، ولم يكن يستصغر أحدًا حتى يسمع كلامه، فإن أصاب استفاد منه وعزى الفائدة إليه، وإن كان صغير السن. وإن لم يرض كلامه بين زيفه ولم يحابه وإن كان أبًا، وبقى على ما ذكرناه قريبًا من ثلاثين سنة إلى أن مرض باليرقان وبقى به أيامًا وبرئ منه وعاد إلى الدرس والمجلس وحصل السرور للخواص والعوام، فلم يكن إلا يسير حتى عاوده المرض وغلبت عليه الحرارة فحمل في مَحَفّة إلى قرية من قرى نيسابور لاعتدال هوائها وخفة مائها، فتوفي بها ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة عن تسع وخمسين سنة -بتاء ثم سين-. قاله ابن خلكان في "تاريخه"، وصلى عليه ابنه الإمام أَبو القاسم بعد جهد جهيدٍ، ودفن بداره، ثم نقل بعد سنين فدفن بجانب والده، وكان له نحو أربعمائة تلميذ فكسروا محابرهم وأقلامهم، وأقاموا كذلك حولًا وكسروا أيضا منبره، وقع لي من تصانيفه الفقهية كتاب "الأساليب في الخلاف" وهو كتاب جليل، وبعض "مختصر النهاية" وفيه أمور زائدة على "النهاية" ولم يتفق على إتمامه، وكتاب "الغياثي" وهو كتاب مفيد يقرب في المعنى من "الأحكام السلطانية"، وقع لي بخط تلميذه الخواري، و"الرسالة النظامية" رضي الله عنه وأرضاه.

68 - الحلواني

68 - الحلواني أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني -بضم الحاء-، ولد سنة عشرين وأربعمائة، ونقل عنه السلفي في "معجم شيوخ بغداد"، ذكره، الرافعي في الباب الثاني من قسم الصدقات ووصفه بالفقه، فقال: رأيت بخط الفقيه أبي بكر ابن بدران الحلواني: أنه سمع أبا إسحاق الشيرازي يقول في اختياره: إنه يجوز صرف زكاة الفطر إلى واحد، توفي سنة سبع وخمسمائة. 69 - [أبو بكر] (¬1) الحازمي وهو محمد بن موسى بن عثمان بن موسى بن عثمان بن -حازم بالحاء المهملة- الهمذاني الملقب زين الدين. كان فقيهًا حافظًا زاهدًا ورعًا متقشفًا حافظًا للمتون والأسانيد، غلب عليه علم الحديث، وصنف فيه تصانيفه المشهورة. ولد سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة، واستوطن الجانب الغربي من بغداد بعد توغله في الرحلة وتفقه بها على ابن فضلان وغيره. وتوفي بها صغير السن كبير القدر ليلة الإثنين الثامن والعشرين من جمادى ¬

_ (¬1) بياض في أ.

الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ودفن مقابل الجنيد، قاله ابن خلكان في "تاريخه". ولا يعلم أحدًا ممن ترجمنا له مع كثرتهم أصغر سنًا منه، بل ولا يعلم من نقص عن الأربعين منهم غيره، وذلك عكس القاضي أبي الطيب وأبي طاهر الزيادي كما تعرفه إن شاء الله تعالى. نقل عنه في "الروضة" في أثناء كتاب القضاء: إن الذين أدركتهم من الحفاظ كانوا يميلون إلى جواز إجازة غير المعين بوصف العموم كأجرت للمسلمين ونحوه، ثم صححه النووي.

باب الخاء المعجمة

باب الخاء المعجمة

70 - ابن خزيمة

باب الخاء المعجمة 70 - ابن خزيمة [أبو بكر] (¬1) محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، تفقه على الربيع والمزني وصار إمام زمانه بخراسان، رحلت إليه الطلبة من الآفاق، قال شيخه الربيع: استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منّا، وكان متقللًا له قميص واحد دائما، فإذا جدد آخر وهب ما كان عليه. نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: أنه إن رجع في الأذان ثنى الإقامة وإلا أفردها. ومنها: أن الركعة لا تدرك بالركوع، ولد في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتوفي في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقال الشيخ في "الطبقات": سنة ثنتي عشرة. 71 - ابن خيران [أبو علي] (¬2) الحسين بن صالح بن خيران البغدادي، كان إمامًا جليلًا ورعًا، كان يعيب على ابن سُريج في ولايته للقضاء ويقول: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا، إنما كان في أصحاب أبي حنيفة، وطلبه الوزير ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

72 - أبو بكر الخفاف

ابن الفرات بأمر الخليفة للقضاء فامتنع فوكل ببابه، وختم عليه بضعة عشر يومًا حتى احتاج إلى الماء فلم يقدر عليه إلا بمناولة بعض الجيران فبلغ الخبر إلى الوزير فأمر بالإفراج عنه، وقال: ما أردنا بالشيخ أبي علي إلا خيرًا أردنا أن يُعلم أن في مملكتنا رجلًا يعرض [عليه] (¬1) قضاء القضاة شرقًا وغربًا وفعل به مثل هذا وهو لا يقبل. وقد ذكر الرافعي في كتاب القضاء هذه الحكاية مختصرة. توفي -رحمه الله- يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة عشرين وثلاثمائة، كذا قاله العسكري، والشيخ أبو إسحاق. وقال الدارقطني: توفي في حدود العشر وثلاثمائة، ومال إليه الخطيب. وقال ابن الصلاح في "طبقاته": إن الأول أقرب. وقال الذهبي: إنه أصح، وجزم به في "شرح المهذب". 72 - أبو بكر الخفاف أبو بكر الخفاف صاحب كتاب "الخصال"، هو أحمد بن عمر بن يوسف، نقل عنه الرافعي في كتاب "السير": إن الصبي المميز يصح منه الأمان. ذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقة ابن الحداد وابن سلمة ومعاصريهما، وكتابه المسمى "بالخصال"، مختصر قليل الوجود عندي منه نسخة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

73 - أبو عبد الله الختن

73 - أبو عبد الله الختن [أبو عبد الله] (¬1) الختن -بخاء معجمة ثم تاء بنقطتين من فوق بعدها نون- هو محمد بن الحسن بن إبراهيم الفارسي ثم الإستراباذي، أحد الأئمة الورعين والمقدمين في الأدب ومعاني القرآن والقراءات، ومن المبرزين في النظر والجدل، وله على "التلخيص" شرح جليل عزيز الوجود ظفرت به. وعرف بالختن؛ لأنه كان ختن الإمام أبي بكر الإسماعيلي المذكور في حرف الهمزة أي زوج ابنته. توفي بجرجان يوم عرفة، ودفن يوم الأضحى سنة ست وثمانين وثلاثمائة وهو ابن خمس وسبعين سنة، قاله النووي في "تهذيبه"، نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: وقوع الطلقات الثلاث في المسألة السريجية. الخطابي: [أبو سليمان] (¬2) حمد -بفتح الحاء وسكون الميم- بن محمد بن إبراهيم ابن خطاب البستي المعروف بالخطابي، كان فقيهًا رأسًا في علم العربية والأدب وغير ذلك، أخذ الفقه عن القفال الشاشي وابن أبي هريرة وغيرهما، وصنف التصانيف النافعة، وله شعر حسن ومنه: - شر السباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

74 - الخضري

- كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما نرى بشرا لم يؤذه بشر ومن شعره أيضا: وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلى توفي [رحمه الله] (¬1) ببلدة بُست سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، قاله النووي في "طبقاته". زاد غيره في ربيع الآخر. وبست بباء موحدة مضمومة ثم سين مهملة ساكنة بعدها تاء. والخطابي نسبة إلى جده المذكور، وقيل: إنه من ذرية زيد بن الخطاب أخي عمر -رضي الله عنهما-. نقل عنه الرافعي: أن الذي يجيء على مذهب الشافعي أنه يجهر في كسوف الشمس، والمعروف خلافه، ونقل عنه أيضًا في مواضع أخرى قليلة. 74 - الخضري [أبو عبد الله] (¬2) محمد بن أحمد الخضري المروزي، كان هو وأبو زيد شيخي عصرهما بمرو وكثيرًا ما يقول القفال: سألت أبا زيد والخضري. وممن نقل عنه القاضي الحسين في باب استقبال القبلة في الكلام على ¬

_ (¬1) زيادة في أ. (¬2) بياض في أ.

75 - ابن خيران البغدادي

تقليد الصبي. توفي -رحمه الله- في عشر الثمانين وثلاثمائة، قاله ابن خلكان قال: والخضري نسبة إلى بعض أجداده. وذكر التفليسي في باب الحاء المهملة في ترجمة حكيم بن محمد: إنه كان موجودًا في سنة خمس وسبعين من العشر المذكور، وذكر في باب الميم: إنه أخذ عن أبي بكر الفارسي وأنه أقام بمرو ناشرًا لفقه الشافعي مرغبًا فيه، وكان يُضرب به المثل في قوة الحفظ وقلة النسيان. 75 - ابن خيران البغدادي [أبو الحسن] (¬1) علي بن أحمد بن خيران البغدادي صاحب "اللطيف". قال الشيخ في "الطبقات": درس عليه شيخنا أبو أحمد بن رامين. وقد نقل الرافعي عن كتابه "اللطيف" في الباب الأول من أبواب الطلاق في آخر الفصل الأول منه، وفي كتاب العدد في مسألة الآيسة، وهو كتاب لطيف دون "التنبيه" كثير الأبواب جدًا، وهو قليل الوجود وقعت لي منه نسخة، نقل منه في كتاب الشهادات عن ابن خيران الكبير و [هو] (¬2) أبو علي السابق. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ.

76 - أبو إسحاق الخراط

76 - أبو إسحاق الخراط ذكره الرافعي في الجنايات فقال: الظاهر أن ولي المجنون له أن يعفو على المال بشرط أن يكون فقيرًا، ثم قال: وحكى الإمام النص في المجنون مطلقًا، وكذا ذكره الروياني عن رواية أبي إسحاق الخراط. انتهى. لم أقف له على تاريخ وفاة. 77 - الخبري [أبو حكيم] (¬1) -بفتح المهملة وكسر الكاف- عبد الله بن إبراهيم ابن عبد الله الخبري [بخاء معجمة مفتوحة ثم باء موحدة ساكنة بعدها راء مهملة وفى آخره ياء] (¬2) النسب نسبة إلى خبر ناحية من نواحي شيراز، كان دينًا مرضى الطريقة، تفقه على الشيخ أبي إسحاق وبرع في الفرائض والحساب، وله فيهما مصنفات حسنة، وتلاميذ كثيرة منهم: الحسين بن الشقاف بالشين المعجمة والقاف المكررة -إمام بغداد في وقته، وكان يعرف العربية أيضًا- وشرح "الحماسة" و"ديوان المتنبي" و"البحتري" و"الرضى الموسوي" وغيرها، وسمع الحديث الكثير، وكان يكتب الخط الحسن ويضبط [الضبط] (¬3) الصحيح. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ، ب والمثبت من طبقات الشافعية للمصنف. (¬3) سقط من أ.

توفي يوم الثلاثاء ضحوة نهار الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة ست وسبعين وأربعمائة ببغداد، وهي السنة التي توفي فيها شيخه، قاله ابن نقطة في كتاب "تكملة الإكمال". ويحكى: أنه كان وقت وفاته قاعدًا يكتب في مصحف فوضع القلم من يده واستند، وقال: والله إن هذا موت هنئ طيب فمات. نقل عنه في "الروضة" خاصة في موضع واحد فقط وهو تصحيح الرد على ذوي الأرحام إذا لم ينتظم أمر بيت المال. وكتابه الذي ذكر فيه ذلك يسمى "بالتلخيص"، وقد رأيته فيه ناقلًا له عن الأكثرين.

باب الدال

باب الدال

78 - الداركي

باب الدال 78 - الداركي أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الداركي. درّس بنيسابور سنين، ثم سكن بغداد وانتهت إليه رئاسة العلم بها، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وقال الشيخ أبو حامد: ما رأيت أفقه منه، وكان أبوه محدث أصبهان في وقته. توفي ببغداد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، ودفن يوم الجمعة بالشونيزية، وهو ابن نيف وسبعين سنة، قاله النووي في "تهذيبه". ودارك بفتح الراء من قرى أصبهان. 79 - الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر البغدادي المعروف بالدارقطني الإمام الجليل، قال الخطيب: كان فريد عصره في علم الحديث عالمًا بعلوم أخرى، قال: وبلغني أنه درس على أبي سعيد الإصطخري. وقال الحاكم: ما رأى الدارقطني مثل نفسه. توفي ببغداد يوم الخميس لثمان خلون من ذي القعدة، وقيل: في الثاني منه سنة خمس وثمانين وثلاثمائة عن تسع وسبعين سنة -الأولى بالتاء أولًا والثانية بالسين- وصلى عليه الشيخ أبو حامد، ودفن قريبًا من معروف الكرخي، قاله ابن خلكان.

80 - الدارمي

قال: والدارقطني براء مفتوحة وقاف مضمومة نسبة إلى دار القطن وهي محلة كبيرة ببغداد، نقل عنه في "الروضة" في أثناء كتاب القضاء في الكلام على الرواية بالإجازة: أن المجاز يجوز له أن يجيز وهو الصحيح. 80 - الدارمي أبو الفرج محمد بن عبد الواحد الدارمي البغدادي، تفقه على الشيخ أبي حامد وغيره [وترك] (¬1) دمشق، وصنف "الاستذكار" وهو مجلدان ضخمان وفي النقل منه عُسر لاختصاره، وقد رأيت عليه بخطه أن غالبه من كلام ابن المرزبان. وصنف أيضًا كتابًا مطولًا مبسوطًا مشتملًا على غرائب كثيرة سماه "جمع الجوامع ومودع البدائع"، رأيت بعضه بخطه أيضا. قال الشيخ أبو إسحاق: كان فقيهًا حاسبًا شاعرًا متصوفًا، ما رأيت أفصح منه لهجة، قال لي: مرضت فعادني الشيخ أبو حامد الإسفراييني فقلت: مرضت فارتحت إلى عائد ... فعادني العالَم في واحد ذاك الإمام ابن أبي طاهر ... أحمد ذو الفضل أبو حامد ولد سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وتوفي بدمشق سنة تسع وأربعين وأربعمائة. انتهى كلام الشيخ. وقال ابن الصلاح في "طبقاته" نقلا عن الخطيب: إن ولادته يوم الخميس الخامس والعشرين من شوال من السنة المذكورة، وإن وفاته ليلة ¬

_ (¬1) في "طبقات الشافعية" للمصنف: انتقل من بغداد إلى الرحبة وسكنها مدة، ثم استوطن.

81 - أبو العالي مجلي

الجمعة مستهل ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، ودفن بباب الفراديس، نقل عنه في ["الروضة"] (¬1) في مواضع كثيرة. 81 - أبو العالي مجلي [القاضي] (¬2) أبو العالي مجلي -بجيم مفتوحة ولام مشددة [مكسورة] (¬3) - ابن جُميع -بضم الجيم مصغرًا- ابن نجا -بالنون والجيم- المخزومي الأرشوني الأصل ثم المصري، تفقه على الفقيه سلطان المقدسي تلميذ الشيخ نصر وبرع فصار من كبار الأئمة، وتفقه عليه جماعة، منهم: العراقي شارح [المهذب] (¬4)، وتولى قضاء الديار المصرية سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم عزل لتغير الملوك في أوائل سنة تسع وأربعين، وتوفي في ذي القعدة سنة خمسين، ذكره ابن خلكان في تاريخه. وقع لي من تصانيفه "أدب القضاء" وهو غريب، وتصنيفه في "الجهر بالبسملة"، وفي جواز إقتداء بعض المخالفين في الفروع ببعض، صنفه في توجهه للحجاز من طريق عيذاب، وكتابه المعروف المسمى "بالذخائر" وهو كثير الفروع والغرائب إلا أن ترتيبه ترتيب غير معهود متعب لمن يريد استخراج المسائل منه وفيه أيضًا أوهام، وقد وقع لي مجلدة لطيفة صنفها بعض الفضلاء الحمويين الواردين إلى مصر عقب موت صاحب "الذخائر" وضعها لذلك فلم يذكر سببًا طائلًا وأبان فيها عن مجمل وعرض، نقل عنه في "الروضة" في موضع واحد فقال: إنه ¬

_ (¬1) في ب: الرافعي. (¬2) بياض في أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) في ب: التنبيه.

82 - الدولعي

قطع بتحريم الصلاة في الأوقات المكروهة. 82 - الدولعي [ضياء الدين] (¬1) أبو القاسم عبد الملك بن يزيد بن ياسين التغلبي الدولعي. ولد بالدولعية بالعين المهملة وهي قرية من قرى الموصل، وتفقه ببغداد، ثم قدم الشام في شبيبته فتفقه أيضًا على نصر الله المصيصي وعلى ابن عصرون، وولي خطابة دمشق، وتدريس الغزالية فترة طويلة. وقال النووي في "طبقاته": كان شيخ شيوخنا وكان أحد الفقهاء لمشهورين، والصلحاء الورعين، ولد سنة أربع عشرة وخمسمائة، وقيل ولد قبل ذلك، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين -بتاء ثم سين- انتهى كلامه. زاد ابن خلكان: أن وفاته في ثاني عشر الشهر، قال: وسئل عن مولده فقال: في سنة سبع وخمسمائة، ذكر ذلك في الكلام على وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ورأيت في "تاريخ بغداد" لابن الدبيثي: إنه توفي في يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر، وأن كلامه اختلف فى مولده. نقل عنه في "الروضة" في موضعين فقط: أحدهما: أنه إذا حلف بالمصحف وأطلق كان يمينًا. والثاني في الشهادات: أن اليراع المسماة بالشبابة حرام، وأنه صنف في تحريمها مصنفًا حسنًا. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

باب الراء

باب الراء 83 - الرازي أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم -بالتصغير فيهما- الرازي، دخل بغداد في حداثته فاشتغل بالنحو واللغة، قال: فبكرت يومًا إلى الشيخ الذي أقرأ عليه في ذلك وسماه، فقيل لي: إنه في الحمام فمضيت نحوه فعبرت في طريقي على مسجد الشيخ أبي حامد وهو يملي فيه في الصوم فيما إذا أصبح مجامعًا فاستحسنت ما يقوله فعلقته، ثم قلت: أكمل عليه هذا الباب فلما فرغت منه استحسنت ذلك فلازمته. ولما توفي الشيخ أبو حامد درّس مكانه، وكان أبوه حيًا فحضر إلى بغداد فرآه وقد فرغ من التدريس لكبار الطلبة وقد جلس لإقراء المبتدئين فلم يفرق بينه وبن مؤدب الصبيان، فقال: يا سليم إذا كنت تقرئ الصبيان في بغداد فارجع إلى بلدك وأنا أجمع عليك صبيان القرية لتقرئهم، فأدخل والده إلى بيته ليأكل شيئا وأعطى مفتاح البيت إلى بعض الطلبة وقال: إذا فرغ والدي من أكله فأعطه مفتاح البيت ليأخذ ما فيه. ثم إن سليمًا سافر إلى الشام وأقام بثغر "صور" وهو ساحل دمشق مُرابطًا ينشر العلم، فتخرج عليه أئمة منهم الشيخ نصر المقدسي. وكان ورعًا زاهدًا يحاسب نفسه على الأوقات، لا يدع وقتًا يمضي بغير فائدة، ثم بعد أن نيف على الثمانين [حج] (¬1) في البحر المالح فغرق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

84 - الروياني

عند ساحل جدة بعد عوده في سلخ صفر سنة سبع وأربعين وأربعمائة، قاله النووي في "تهذيبه"، وكذلك الشيخ في "طبقاته"، وقال: إنه كان فقيهًا أصوليًا، وإنه مات غريقًا بالجار. وقال ابن خلكان: إنه دفن بجزيرة بقرب الجار، قال: والجار بالجيم والراء المهملة بلد على الساحل بينها وبين مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام- يوم وليلة. انتهى. وله تصانيف مشهورة في التفسير والفقه، منها: تصنيف في الفقه يسمى "بالفروع" دون "المهذب" لم أقف عليه إلى الآن، وكثيرًا ما ينقل عنه صاحب "البيان" ولا يسمي مصنفه بل يقول: قال صاحب "الفروع"، أو نحو هذه العبارة مشيرًا إلى سليم المذكور، وقد بين المراد بعض المتأخرين من فقهاء اليمن في تصنيف له يسمى "بالمعين". والرازي نسبة إلي الري إقليم كبير معروف قريب من عراق العجم وزادوا فيه الزاي [شذوذًا] (¬1). 84 - الروياني [أبو العباس] (¬2) أحمد بن محمد بن أحمد الروياني الطبري قاضي القضاة مصنف "الجرجانيات" وجد صاحب "البحر". سمع الحديث من عبد الله بن أحمد الفقيه، وسمع منه حفيده المشار إليه، وأخذ عنه، تكرر نقل الرافعي عنه خصوصًا في أوائل النكاح، وفي تعليقات الطلاق. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) بياض في أ.

85 - والد الروياني

ورويان: من بلاد طبرستان وغير مهموزة، لم يذكروا له وفاة. 85 - والد الروياني [إسماعيل] (¬1) ابن الشيخ أبي العباس المذكور. تكرر ذكره في الرافعي نقلا عن ولده ولم أقف له أيضًا على وفاة. 86 - صاحب البحر قاضي القضاة عبد الواحد إسماعيل -المذكور قبله- الملقب فخر الإسلام صاحب "البحر" وغيره من الأصول النفيسة. كانت له الوجاهة والرياسة والقبول التام عند الملوك فمن دونها، أخذ عن والده وتفقه على جده وعلى محمد بن بيان الكازروني بميافارقين، برع في المذهب حتى كان يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي، ولهذا كان يقال له: شافعي زمانه، وصنف التصانيف المشهورة وبنى مدرسته بآمل وكان فيه إيثار للقاصدين إليه. ولد في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة، واستشهد بجامع آمل عند ارتفاع النهار بعد فراغه من الإملاء في يوم الجمعة حادي عشر المحرم، قال ابن خلكان: سنة اثنتين وخمسمائة، وقال عبد الغافر الفارسي في "الذيل": سنة إحدى، قتله الملاحدة لعنهم الله، وكان له ولد فقيه يقال ¬

_ (¬1) غير واضحة في أ.

87 - أبو المكارم

له: أبو القاسم حمد -بحاء ثم ميم ساكنة- تفقه عليه، وأخ يقال له: أبو مسلم فقيه أيضا وغيرهما ممن يأتي ذكره. 87 - أبو المكارم أبو المكارم الروياني هو صاحب "العدة" وهو ابن أخت صاحب "البحر"، نقل عنه الرافعي في النفاس والشركة وفي الفسخ بالإعسار بالنفقة، وفي التحكيم وغيرهما. لم أقف له على تاريخ وفاة، وللأصحاب طبري آخر يقال له أيضًا: صاحب "العدة"، يأتي ذكره في حرف العين، وهو أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسين، درس بنظامية بغداد قبل الغزالي، وكان يدعي إمام الحرمين لأنه جاور بمكة نحوًا من ثلاثين سنة يدرس ويفتي ويسمع ويملي، توفي بها في العشر الأخير من شعبان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، كذا ذكره الذهبي. وذكر ابن السمعاني وابن النجار: أن الطبري انتقل إلى أصفهان وتوفي بها سنة خمس وتسعين، وقال عبد الغافر في "السياق": سنة تسع وتسعين، ولكن هؤلاء قالوا في هذا الطبري: إنه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله، فلا حاجة إلى دعوى الاتحاد، وإن كان الخلاف في وقت الموت ومكانه فإنه ذكر فيه شيئًا مما يختص بالأول فسببه الاشتباه والله أعلم. وكتابه المسمى "بالعدة" قليل الوجود عندي منه نسخة من خمسة أجزاء

ضخمة كتبت بمكة شرفها الله تعالى وفي عصره، والقرائن تدل على أنها حررت عليه، ذكر فى خطبتها أنه قرأ على ناصر العمري، وقد وقف النووي على "العدة" لأبي عبد الله دون "العدة" لأبي المكارم، والرافعي بالعكس، ولهذا عبر الرافعي في أوائل الباب الثالث من كتاب الإيمان بقوله: وروى نحو هذا عن الحسن الطبري في "عدته". إذا علمت ذلك فحيث نقل النووي من "زوائده" عن "العدة" وأطلق كما وقع له قبيل باب إزالة النجاسة، وقبيل كتاب الصلاة فمراده عدة أبي عبد الله. وأما الرافعي فإنما وقف على "عدة" أبي المكارم كما ذكرناه، وغالبًا إذا نقل عنها أضافها إلى صاحبها، فإن نقل عن صاحب "العدة" وأطلق فإن لم يكن في أثناء كلام منقول عن صاحب "البيان" كما وقع له في كتاب الشركة فمراده "عدة" أبي المكارم، وإن كان فمراده عدة أبي الحسين؛ لأن صاحب "البيان" قد وقف عليها وأكثر من النقل عنها، وصرح بذلك في خطبة كتابه المسمى "بالزوائد"، ولم يقف على تلك، فتفطن لذلك فإنني قد حققته، ولا شك أن النووي كثيرًا ما يحذف الوسائط التي ينقل الرافعي الحكم عنها سواء كان منقولًا عن صاحب "العدة" أو عن غيره، وحينئذ فإذا نقل في "أصل الروضة" عن "العدة" وأطلق فلا يعلم المراد بمراجعة الرافعي، فإن دلت قرينة على نقله عن صاحب "البيان" فمراده أبو عبد الله وإلا فأبو المكارم.

88 - القاضي أبو نصر شريح

88 - القاضي أبو نصر شريح بالشين المعجمة والحاء المهملة ابن القاضي أبي معمر عبد الكريم ابن الشيخ أبي العباس أحمد جد صاحب "البحر" المتقدم ذكره، فيكون شريح هذا ابن عم صاحب "البحر". كان إمامًا في الفقه وولي القضاء بآمل طبرستان. نقل الرافعي عنه في الباب الثاني في أركان الطلاق فروعًا كثيرة نقلها عن جده أبي العباس، وفي الشهادة على المتنقبة. وصنف كتابًا في القضاء سماه "روضة الحكام ورتبة الأحكام" عندي منه نسخة، قال في خطبته: لما كثرت تصانيفي في الفروع والأصول، والمتفق والمختلف وأنفقت عليها عنفوان شبابي وأيام كهولتي إلى أن جاوزت الستين رأيت آداب القضاء كذا وكذا إلى آخر ما ذكره. لم أقف على تاريخ وفاته إلا أن أباه توفي في رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، كذا قاله ابن باطيش الموصلي في "طبقاته". 89 - والد الإمام الرافعي أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن الفضل والد الإمام الرافعي. تفقه ببلده قزوين على ملكداد بن علي وغيره، ثم قدم بغداد فتفقه بالنظامية على أبي المنصور ابن الرزاز، ثم رحل إلى نيسابور فتفقه بنظاميتها علي محمد بن يحيى.

90 - الإمام الرافعي

وقد ترجم له ولده في كتابه "الأمالي" فقال: والدي ممن خص بعفة الذيل وحسن السيرة والجد في العلم والعبادة وذلاقة اللسان وقوة الجنان والصلابة في الدين والمهابة عند الناس، والبراعة في العلم حفظًا وضبطًا، توفي في شهر رمضان سنة ثمانين وخمسمائة وهو في عشر السبعين. انتهى كلامه. نقل عنه الرافعي في التيمم، وفي شرائط الصلاة في الكلام على الكلام فيها، وفي موضعين من الجنائز، وفي أوائل البيع في الكلام على ضابط المحقرات، وفي باب قسم الصدقات، وفي كتاب القضاء، وفي أول الشهادات، وفي الكلام على الشطرنج. 90 - الإمام الرافعي [أبو القاسم] (¬1) إمام الدين عبد الكريم بن محمد -المذكور قبله- القزويني، صاحب "شرح الوجيز" الذي لم يصنف في المذهب مثله، تفقه على والده وعلى غيره، وكان إمامًا في الفقه والتفسير والحديث والأصول وغيرها طاهر اللسان في تصنيفه، كثير الأدب، شديد الاحتراز في المنقولات، فلا يطلق نقلًا عن أحد غالبًا إلا إذا رآه في كلامه، فإن لم يقف عليه فيه عبر بقوله وعن فلان كذا، شديد الاحتراز أيضًا في مراتب الترجيح كما سبق إيضاحه في الخطبة. وقال النووي: إنه كان من الصالحين المتمكنين، ووكانت له كرامات كثيرة ظاهرة، وهو منسوب إلى رافعان بلدة من بلاد قزوين. انتهى. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

وسمعت قاضي القضاة جلال الدين القزويني يقول: إن رافعان بالعجمي مثل الرافعي بالعربي فإن الألف والنون في آخر الاسم عند العجم كياء النسبة في آخره [عند العرب: فرافعان نسبة إلى رافع، قال: ثم إنه ليس بنواحي قزوين بلدة يقال لها] (¬1) رافعان ولا رافع بل هو منسوب إلى جدٍ له يقال له: رافع، وقلت: وحكى بعض الفضلاء عن شيخه قال: سألت القاضي مظفر الدين قاضي قزوين إلى ماذا نسبة الرافعي؟ فقال: كتب بخطه وهو عندي في كتاب "التدوين في أخبار قزوين" أنه منسوب إلى رافع بن خديج -رضي الله عنه-، توفي في أواخر سنة ثلاث أو أوائل سنة أربع وعشرين وستمائة بقزوين، قاله ابن الصلاح. وقال ابن خلكان: توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وعمره نحو ست وستين سنة، وله شعر حسن ذكر منه كثيرا في كتابه "الأمالي": ومنه: أقيما على باب الرحيم أقيما ... ولاتنيا في ذكره فتهيما هو الرب من يقرع على الصدق بابه ... يجده رؤوفًا بالعباد رحيما ¬

_ (¬1) سقط من أ.

باب الزاي

باب الزاي

91 - الزبيري: صاحب "الكافي"

باب الزاي 91 - الزبيري: صاحب "الكافي" أبو عبد الله أحمد بن سليمان البصري المعروف بالزبيري من ولد الزبير بن العوام صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويعرف أيضًا بصاحب "الكافي"، وهو مختصر في الفقه نحو "التنبيه" عندي به نسخة، كان حافظًا للمذهب عارفًا بالأدب خبيرًا بالأنساب. وقال الماوردي في الكلام على زكاة الحلي: إنه كان شيخ أصحابنا في عصره، وكان أعمى، ومن تصانيفه كتاب "النية" وكتاب "الإمارة" وكتاب "رياضة المتعلم" وكتاب "ستر العورة" وكتاب "الاستشارة والاستخارة" والكتاب المسمى "بالمسكت" وهو كالألغاز كتاب غريب اختصره بعض الفضلاء، وعندي به نسخة ونسخة بأصله. قال الشيخ أبو إسحاق: مات قبل العشرين وثلاثمائة، وذكر النووي في "تهذيبه" مثله، وقال الذهبي: مات سنة سبع عشرة، نقل عنه الرافعي في المياه في الكلام على القلتين ثم كرر النقل عنه. 92 - الزجاجي [القاضي] (¬1) أبو علي الحسن بن محمد بن العباس الطبري المعروف بالزجاجي -بضم الزاي وتخفيف الجيم- أخذ عن ابن القاص، وقال الشيخ ¬

_ (¬1) بياض في أ.

93 - الزجاجي

في "الطبقات": أخذ عنه فقهاء آمل ودرس عليه شيخنا القاضي أبو الطيب وله كتاب "زيادة المفتاح". انتهى كلامه، وكتابه هذا يلقب "بالتهذيب" وهو عزيز الوجود، وعندي به نسخة، وقد نقل الرافعي عنه في التيمم. لم أقف للمذكور على تاريخ وفاة. وللأصحاب شخص آخر يعرف بالزجاجي، وهو أبو بكر أحمد بن علي من الطبريين أيضًا، قدم بغداد واستوطنها، ومات في أخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة كتب عنه الخطيب، وقال: كان ثقة دينًا فقيهًا. 93 - الزجاجي [أبو طاهر] (¬1) محمد بن محمد بن محمش -بميم مفتوحة وحاء مهملة ساكنة بعدها ميم مكسورة ثم شين معجمة- المعروف بالزيادي، كان إمام [المحدثين] (¬2) والفقهاء بنيسابور في زمنه، إمامًا في العربية والأدب. ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وسمع الحديث سنة خمس وعشرين، وتفقه سنة ثمان وعشرين. وتوفي سنة أربعمائة، قاله النووي في "تهذيبه"، قال: وكان أبوه من أعيان العباد يتبرك به وبدعائه، وقال العبادي في "طبقاته": إنه منسوب إلى بشير بن زياد، وأنه عاش مائة وكسرًا فيكون مات بعد سنة سبع عشرة، ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) فى ب: الحرمين.

94 - الزنجاني

لكن رأيت في كتاب "السياق" على "تاريخ الحاكم لنيسابور" وتصنيف عبد الغافر الفارسي: أنه إنما عرف بالزيادي؛ لأنه يسكن ميدان زياد بن عبد الرحمن، وأنه ولد سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، ومات سنة عشر وأربعمائة، ووافقه عليه غيره وزاد: إن وفاته كانت في شعبان. نقل عنه الرافعي في سنن الوضوء ثم كرر النقل عنه. 94 - الزنجاني [أبو بكر] (¬1) أحمد بن محمد بن أحمد بن زنجويه الزنجاني، كان إمامًا في الفقه محدثا ورعًا، تفقه على القاضي أبي الطيب، وروى عنه جماعة منهم الحافظ السلفي، قال: وكانت الرحلة إليه لفضله وعلو إسناده، قال الذهبي في "تاريخه": لم أعلم متى توفي إلا أنه حدث سنة خمسمائة، قال السلفي: وسمعته يقول لي: أفتى من سنة تسع وعشرين، وفي "طبقات" الموسوي التفليسي: إنه ولد سنة ثلاث وأربعمائة. وزنجان بزاي معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة بعدها جيم بالنون في آخره ناحية معروفة. نقل عنه الرافعي في آخر القضاء على الغائب على ما فيه من كلام سبق في باب الهمزة في ترجمة الأرغياني فراجعه. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

باب السين

باب السين

95 - ابن سيار

باب السين 95 - ابن سيار أبو الحسن أحمد بن سيار -بسين مهملة مفتوحة وياء مشددة بنقطتين من تحت- ابن أيوب السياري المروزي الحافظ الأديب الزاهد، كان يقاس بابن المبارك في زمانه، رحل إلى العراق والشام ومصر، وسمع إسحاق بن راهويه، وروى عنه النسائي وابن خزيمة. توفي سنة ثمان وستين ومائتين، قاله الخطيب، ونقله النووي في "تهذيبه" و"طبقاته"، ورأيت في "تاريخ نيسابور" للحاكم: إن ذلك في ليلة الإثنين النصف من شهر ربيع الآخر، وإنه دفن يوم الإثنين بعد العصر: نقل عنه الرافعي: أنه أوجب الأذان للجمعة دون غيرها، وأن الواجب من الأذانين لها هو الذي يفعل بين يدي الإمام. 96 - ابن سريج [القاضي] (¬1) أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي شيخ الشافعية في عصره وعنه انتشر فقه الشافعي في أكثر الآفاق، قال الشيخ أبو إسحاق: ابن سريج يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني، وقال الشيخ أبو حامد: نحن نجري مع ابن سريج في ظواهر الفقه دون ¬

_ (¬1) بياض في أ.

97 - الساجي

دقائقه، بلغت مصنفاته أربعمائة مصنف انتهى كلام الشيخ. وعز وجود شئ منها في هذا الوقت، عندي كتابه المسمى "بالودائع" وكتاب "العين والدين" في الوصايا ونحوها من علم الحساب، وتصنيف على مختصر المزني أجاب فيه عن أسئلة سئل عنها. وكان له ولد فقيه يقال له أبو حفص عمر، نقل عنه العراقيون في الطهارة نقلًا عن والده، وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية"، وذكره أيضًا العبادي في "الطبقات" في ترجمة الباب شامي، صنف مختصرًا في الفقه يقال له "تذكرة العالم" عندي منه نسخة، تولى أبو العباس قضاء شيراز. ومات ببغداد لخمس بقين من جمادي الأولى سنة ست وثلاثمائة عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر، قاله النووي في "تهذيبه"، قال الخطيب: ودفن بالجانب الغربي بحجرة بسويقة ابن غالب، وكان سريج جده مشهورًا بالصلاح الوافر. 97 - الساجي [أبو يحيى] (¬1) زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الضبي -بالضاد المعجمة- البصري المعروف بالساجي -بالسين المهملة والجيم- منسوبًا إلى الساج وهو نوع من الخشب الجيد، كان أحد الأئمة الفقهاء الحفاظ الثقات، ذكره الشيخ أبو إسحاق في "طبقاته" فقال: أخذ عن الربيع والمزني، وصنف كتاب "اختلاف الفقهاء" وكتاب "علل الحديث"، وتوفي بالبصرة سنة سبع وثلاثمائة، نقل عنه الرافعي في كتاب العارية في الكلام على إعارة الأرض للبناء والغراس فقال: وإذا أعارها مدة معينة ثم ¬

_ (¬1) بياض في أ.

98 - ابن سلمة الضبي

رجع قبل المدة أو بعدها فالحكم كما لو رجع في العارية المطلقة حتى يتخير بين خصلتين فقط على الصحيح وهما التملك والقلع مع غرم أرش النقص، لكن هاهنا قول: إنه إذا رجع بعد المدة فله القلع مجانًا نقله الساجي. 98 - ابن سلمة الضبي [أبو الطيب] (¬1) محمد بن المفضل بن سلمة الضبي البغدادي، تفقه على ابن سريج، وكان موصوفًا بفرط الذكاء، وقال الشيخ أبو إسحاق: إنه كان عالمًا جليلًا. مات وهو شاب في شهر المحرم سنة ثمان وثلاثمائة، قاله النووي في "تهذيبه". تكرر نقل الرافعي عنه، وكان والده من الأدباء، له مصنفات في العربية ويكنى أبا طالب، وجده سلمة بن عاصم تلميذ الفراء وشيخ ثعلب، وقد أكثر ثعلب من النقل عنه. 99 - السيجستاني [أبو بكر] (¬2) أحمد بن عبد الله بن سيف السيجستاني. أخذ عن المزني، قاله العبادي في طبقاته، ونقل عنه الرافعي في الباب الرابع من أبواب الصداق فقال: روى القفال الشاشي عن أحمد بن عبد الله بن سيف السجستاني: أنه سأل المزني هل يجوز النكاح على تعليم الشعر؟ ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ.

100 - أبو السائب

فقال: يجوز إن كان مثل قول القائل: يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا ويقول العبد فائدتي وزادي ... وتقوى الله أكرم ما استفادا توفي -رحمه الله- سنة ست عشرة وثلاثمائة، قاله ابن قانع وغيره، وقيل: ستة خمس عشرة وهو وهم كما قاله الخطيب، وقال سلمة بن قاسم: توفي سنة ثمان عشرة والبيتان المذكوران لأبي الدرداء - رضي الله عنه - كذا ذكره القاضي أبو الطيب في كتاب الشهادات من تعليقته. 100 - أبو السائب [قاضي القضاة] (¬1) أبو السائب عتبة بن عبيد الله بن موسى الهمذاني، كان أبوه تاجرًا يوْم بمسجد بهمذان فاشتغل عتبة بالعلم وغلب عليه في الابتداء التصوف والزهد، وتقلد قضاء مراغة، ثم قضاء أذربيجان بكمالها، ثم بلدة همذان، ثم انتقل إلى بغداد فعظم شأنه بها وتولى قضاء القضاة بالعراق في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وكان أول من ولى ذلك من الشافعية كما قاله الذهبي في "العبر"، قال: وتوفي في ربيع الآخر سنة، خمسين وثلاثمائة عن ست وثمانين سنة ذكره الرافعي في كتاب النكاح في الركن الثاني منه فقال: وهذا يخالف مسألة منقولة وهي أن زيدًا خطب إلى قوم وعمرًا إلى آخرين ثم جاء زيد إلى الآخرين وعمرو إلى الأولين وزوج كل فريق من جاء، قال ابن القطان: وقعت في أيام أبي السائب ببغداد فأفتى الفقهاء بصحة النكاحين. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

101 - أبو الطيب الساوي

101 - أبو الطيب الساوي [أبو الطيب] (¬1) محمد بن موسى الساوي منسوب إلى ساوة بالمهملة، أخذ عن أبي إسحاق المروزي كما قاله العبادي في "الطبقات". نقل عنه الرافعي في أوائل كتاب القراض وفي الباب الثاني من اللقطة. 102 - السكري [أبو زكريا] (¬2) يحيى بن أبي طاهر أحمد السكري، قال الحاكم: كان من صالحي أهل العلم والمناظرين على مذهب الشافعي، تفقه على أبي الوليد النيسابوري، ودرس نيفًا وثلاثين سنة. توفي في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، نقل عنه الرافعي استحباب ركعتين قبل المغرب. 103 - السرخسي [أبو علي] (¬3) زاهر بن أحمد بن محمد السرخسي، قال فيه الحاكم: المقرئ الفقيه المحدث شيخ عصره بخراسان، أخذ الفقه عن أبي إسحاق ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ. (¬3) بياض في أ.

104 - ابن سراقة

المروزي، والأدب عن أبي بكر بن الأنباري. توفي في سلخ ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وهو ابن ست وتسعين سنة -بتاء ثم سين-. انتهى. ونقل النووي في "التهذيب" مثله، وقال غيره: توفي في ربيع الآخر، وأنه أخذ علم الكلام عن الأشعري. وسرخس بسين وراء مهملتين مفتوحتين ثم خاء معجمة ساكنة بعدها سين مهملة، وقيل بإسكان [الراء وفتح الخاء. نقل عنه الرافعي أن الخيار في النكاح يثبت بالصنان والبخر ونحو ذلك] (¬1). 104 - ابن سراقة [أبو الحسن] (¬2) محمد بن يحيى بن سراقة -بضم السين المهملة وتخفيف الراء- العامري البصري صاحب التصانيف في الفقه والفرائض وعلم الحديث، وكانت له رحلة واسعة وعناية كبيرة بالحديث، ولزم الدارقطني مدة لأجله، وقع لي من تصانيفه الفقهية كتابه في "الشهادات"، وكتابه في "الأعداد" وهو مشتمل على أشياء أخرى غريبة، وكتابه الذي سماه "ما لا يسع المكلف جهله"، قال ابن الصلاح في "طبقاته": كان حيًا في سنة أربعمائة. وذكره الذهبي في "تاريخه" في الذين توفوا في حدود سنة عشر. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) بياض في أ، وفي ب: أبو زكريا، وفي كتاب "طبقات الشافعية" للمصنف "أبو الحسن" وهو الصحيح.

105 - السنجي

نقل عنه في "الروضة"، تصحيح الرد على ذوي الأرحام إذا لم ينتظم أمر بيت المال فقال: صححه وأفتى به الإمام أبو الحسن ابن سراقة من كبار أصحابنا ومتقدميهم، وهو أحد أعلامهم في الفرائض والفقه، هذه عبارته. 105 - السنجي الشيخ أبو علي الحسين بن شعيب المرزوي السنجي إمام زمانه في الفقه، تفقه على القفال وكان أجل أصحابه، وأخذ أيضًا عن الشيخ أبي حامد، وشرح "المختصر" شرحًا مطولًا يسميه إمام الحرمين "بالمذهب الكبير"، لم أقف عليه وشرح أيضًا "التلخيص" و"فروع ابن الحداد"، وقد وقفت عليهما وهما في غاية النفاسة، و"التحقيق". وهو أول من جمع في تصانيفه بين طريقة العراقيين والخراسانيين، توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة، كذا قاله الرافعي في "التذنيب"، وقيل سنة ثلاثين، وقيل: نيفًا وثلاثين وجزم به ابن خلكان، ولم يؤرخ النووي وفاته في "التهذيب" ولا تعرض لها في "الطبقات"، ودفن إلى جانب أستاذه القفال. وسنج قرية من قرى مرو وهي بكسر السين المهملة بعدها نون ساكنة ثم جيم. 106 - السمعاني [أبو المظفر] (¬1) منصور بن محمد التميمي السمعاني المروزي الحنفي ¬

_ (¬1) بياض في أ.

107 - السرخسي

ثم الشافعي، كان والده إمامًا من أئمة الحنفية فتفقه عليه ابنه أبو المظفر هذا حتى برع في مذهب أبي حنيفة وصار من أركانهم ومن فحول النظر ومكث كذلك ثلاثين سنة، ثم صار إلى مذهب الشافعي لأمر ظهر له حين حج يقظة ومنامًا، وأظهر ذلك في دار الإمارة بحضور أئمة الفريقين في شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وأربعمائة فاضطربت مرو لذلك وماجت العوام، وقامت الحرب على ساق، واضطرمت نار فتنة شررها على الآفاق، وأبو المظفر ثابت على رجوعه إلى أن وردت الكتب من جهة السلطان بالتشديد عليه فخرج، وصحبته جماعة من العلماء إلى طوس فاستقبلته علماؤها ورؤساؤها وأنزلوه عندهم، وصار له فيها شأن عظيم وعز وحشمة، ثم قصد نيسابور فاستقبلوه أيضا بنحو ذلك، ثم عاد عند استقامة الأمور إلى بلده مرو في أعز ما يكون، واجتمعت عليه الناس وخرج من نسله علماء أئمة شافعية. ولد في ذي الحجة سنة ست وعشرين وأربعمائة، وتوفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ذكره حفيده أبو سعد، وكذلك عبد الغافر الفارسي في "الذيل". والسمعاني منسوب إلى سمعان بفتح السين وهو بطن من تميم، قال ابن خلكان: وسمعت بعض العلماء يقول: إنه يجوز فيها الكسر أيضًا. نقل الرافعي عنه في الباب الثاني من أركان الطلاق أنه إذا قال: لك طلقة يكون صريحًا، ونقل عنه أيضًا في "الروضة" في موضعين من أوائل القضاء. 107 - السرخسي [أبو الفرج] (¬1) عبد الرحمن بن أحمد السرخسي صاحب "الأمالي"، ¬

_ (¬1) بياض في أ.

108 - السمعاني

ويعرف أيضا بالزاز -بزاءين معجمتين- فإن في أجداده شخصين كل منهما اسمه زاز، قال ابن السمعاني في "الذيل": كان أحد أئمة الإسلام ومن يضرب به المثل في الآفاق في حفظ مذهب الشافعي، رحلت إليه الأئمة من كل جانب، وكان دينًا ورعًا محتاطًا في المأكول والملبوس، قال: وكان لا يأكل الأرز لأنه يحتاج إلى ماء كثير [في زراعته] (¬1) وصاحبه قل ألا يظلم غيره، تفقه على القاضي الحسين. وتوفي بمرو في ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وكان مولده سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين، وكتابه "الأمالى" أحد أركان الرافعي في النقل كما تقدم إيضاحه في الخطبة، وقد وقفت عليه. 108 - السمعاني [أبو بكر] (¬2) محمد بن أبي المظفر منصور السمعاني المتقدم قريبًا والد الإمام أبي سعد صاحب "الأنساب" و"الذيل": المشهورين المتكرر ذكرهما في هذه التراجم، كان فقيهًا محدثًا حافظا أديبًا واعظا مبرزًا في الأحاديث جامعًا لأشتات العلوم، وتلقب بتاج الإسلام وهو لقب والده أيضًا. قال ابن الصلاح والده أملى الحافظ أبو بكر اثنين وأربعين إملاءً في ثلاث مجلدات لم يُسبق فيما علمنا إلى مثلها. وقال عبد الغافر الخطيب في "الذيل": هو الإمام ابن الإمام ابن الإمام ووالد الإمام، شاب نشأ في عبادة الله تعالى وفي التحصيل من صباه ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ، ب والمثبت من (طبقات الإسنوي).

إلى أن أرضى أباه، حظى من الأدب والعربية وتميز فيهما نظمًا ونثرًا بأعلى المراتب، ثم برع في الفقه مستدرًا أخلاقه من أبيه بالغًا في المذهب والخلاق أقصى مراميه، وزاد على أقرانه وأهل عصره بالتبحر في علم الحديث ومعرفة الرجال والأسانيد وحفظ المتون، وجمعت فيه الخلال الجميلة من الإنصاف والتواضع والتودد، وأطال في وصفه كثيرًا، وذكره أيضا ولده في "الذيل" وعدّد الأماكن التي رحل إليها، [قال] (¬1): وأملى بجامع مرو مائة وأربعين مجلسًا في غاية الحسن والفوائد كل من رآها اعترف بأنه لم يسبق إلى مثلها، وصنف في الحديث تصانيف كثيرة. ولد سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي بمرو يوم الجمعة ثاني صفر سنة ست عشرة وخمسمائة عن ثلاث وأربعين سنة، وله شعر كثير، قيل إنه غسله قبل موته، وأن الذي ينسب إليه هو ما كان محفوظًا عنه ومنه: وظبي فوق طِرف ظل يرمي ... بسهم اللحظ قلبَ الصبّ طَرْفُه يؤثر طِرفه في القلب ما لا يؤثر ... في الحصى والتُرب طِرفه والطرف بكسر الطاء المهملة هو الفرس. نقل عنه في "الروضة" في موضع واحد وهو في كتاب الجزية فقال: إنه نص على أن دخول الحمام للنساء من غير حاجة مكروه، وصححه النووي بعد أن نقل في الأصل عن ابن أبي هريرة أنه حرام. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

باب الشين المعجمة

باب الشين المعجمة

109 - ابن بنت الشافعي

باب الشين المعجمة 109 - ابن بنت الشافعي [ابن بنت الشافعي] (¬1) أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس بن شافع المعروف بابن بنت الشافعي، فهو سبطه وابن عمه، نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: في الحيض في الكلام على قولي السحب واللقط. ومنها: أن الذهاب والإياب في السعي مرة واحدة، وأن مبيت مزدلفة ركن، وغير ذلك. قال أبو الحسين الرازي: كنيته أبو محمد، قال: وكان واسع العلم جليلًا فاضلًا لم يكن في آل شافع بعد الإمام أجل منه، وقال العبادي في "طبقاته": كان أبوه من فقهاء أصحاب الشافعي، وله مناظرات مع المزني وتزوج بابنة الشافعي زينب فأولدها أحمد المذكور، ويكنى أبا بكر، فتفقه بأبيه، وروى الكثير عنه عن الشافعي. انتهى. وذكر المطوعي نحوه أيضًا ولكنه كناه بأبي عبد الرحمن، وهو المذكور في الحج في الرافعي وفي غالب كتب الأصحاب. وهذا الخلاف الذي بين المطوعي والرازي قد حكاه النووي في "التهذيب"، ثم قال: والصحيح المعروف ما قاله الرازي، ولم ينقل ما قاله ¬

_ (¬1) بياض في أ.

110 - القفال الكبير الشاشي

العبادي من تكنيته بأبي بكر، وما نقله الرافعي عنه في السعي ومزدلفة قد رأيته في "طبقات العبادى" منقولًا عن أبي عبد الرحمن الشافعي، وجعله غير ابن بنت الشافعي، قال: وسمى بالشافعي لأنَّه تلميذه، وجعله أيضا غير أبي عبد الرحمن الشافعي المعروف بالمعتزلي. والله أعلم. قلت: وهذا الأخير هو أحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي، قال الدارقطني: كان من كبار أصحاب الشافعي الملازمين له ببغداد، ثم اتبع ابن أبي دؤاد بضم الدال وبالهمزة على اعتقاده العجيب. 110 - القفال الكبير الشاشي أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشاشي أحد أئمة الإسلام. قال العبادي في "الطبقات": هو أفصح الأصحاب قلمًا، وأمكنهم في دقائق العلوم قدمًا، وأسرعهم بيانًا، وأثبتهم جنانًا، وأعلاهم إسنادًا، وأرفعهم عمادًا. وقال الحليمي: هو أعلم من لقيته من علماء عصره. وقال فيه الحاكم: هو الفقيه الأديب إمام عصره بما وراء النهر، وأعلمهم بالأصول وأكثرهم رحلة في طلب الحديث. وقال الشيخ أبو إسحاق: إن مذهب الشافعي فيما وراء النهر انتشر عنه، وإنه صنف مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها.

111 - أبو علي الشبوي

وقال ابن عساكر في "تاريخه": بلغني أنه كان مائلًا عن الاعتدال قائلًا في أول أمره بالاعتزال ثم رجع إلى مذهب الأشعري. قال السمعاني: ولد بالشاش وهي مدينة وراء النهر سنة إحدي وسبعين ومائتين، وتوفي بها في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلائمائة، كذا ذكره في "الأنساب" في ترجمة القفال، وقال فيه في ترجمة الشاشي وفي كتاب "الذيل"، بأنه توفي في سنة ست وستين. وقال الشيخ أبو إسحاق: إنه أخذ عن ابن سُريج، وإنه توفي في سنة ست وثلاثين، وذكر الرافعي أيضًا في "التذنيب" أنه أخذ عن ابن سريج. وقال ابن الصلاح: إن ما قاله الشيخ من لقياه ابن سريج، فالأظهر عندنا خلافه، وأن ما قاله في وفاته وهم قطعًا، قال: وقد صرح المطوعي بأنه لم يدرك ابن سريج. وذكر الحاكم: أنه توفي سنة خمس وستين. انتهى. نقل عنه الرافعي في مواضع محصورة، منها: أن الجمع بعذر المرض جائز، ومنها: في باب العقيقة، وآخر الباب الثاني من كتاب الإقرار، وموضعين من أول النكاح، ومن تصانيفه كتاب "أدب القضاء"، ومنها "محاسن الشريعة" موضوع لمعان ومناسبات لطيفة ويشتمل على مسائل غريبة وهما قليلا الوجود وعندي لكل منهما نسخة. 111 - أبو علي الشبوي بشين معجمة مفتوحة ثم باء موحدة مضمومة مشددة بعدها واو مشددة

مكسورة، هو محمد بن عمر بن شبوية بسكون الواو بعدها ياء مفتوحة بنقطتين من تحت. يروى عن أبي عبد الله الفربري صاحب البخاري. قال ابن خلكان: كان فقيهًا فاضلًا من أهل مرو، وذكره الرافعي في أوائل النكاح في الكلام على نظر الرجل إلى المرأة، فإنه حكى وجهين في تحريم النظر إلى شعر المرأة وقُلامتها وغير ذلك من الأجزاء بعد الانفصال، ثم قال: وأصحهما استمرار التحريم، وبه أجاب أبو علي الشبوي مفتي مرو، ومما يحكي أن أبا عبد الله الخِضْري سئل عن قلامة المرأة: هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها؟ فأطرق الشيخ متفكرًا، وكانت تحته ابنة أبي على فقالت: سمعت أبي يقول يجوز في قلامة اليد دون قلامة الرجل. وما ذكراه من أن أبا علي اسمه محمد هو المعروف الذي ذكره ابن ماكولا في "الإكمال"، وابن نقطة في "تكملته" وفي كتاب "التقييد" له، وابن باطيش في "مشتبه النسبة"، ووقع في ["تاريخ] (¬1) ابن خلكان" تقليدًا للسمعاني في "الأنساب" أن اسمه أحمد وليس كذلك، فإن ذاك كنيته أبو الهيثم كما ذكره ابن نقطة في "التكملة"، والحاكم في "تاريخ نيسابور" وغيرهما ورفعوا نسبه فقالوا: أحمد بن عمر بن شبويه، والظاهر أنه أخوه. توفي أبو الهيثم قبل أبي علي، فإنه توفي في سنة خمسين وسبعين وثلاثمائة كما ذكره الحاكم في "تاريخ نيسابور"، ولم يذكر له رواية عن الفربري، وأبو علي تأخر عنه ولم أعلم تاريخ وفاته إلا أن ابن نقطة قال: إنه حدث بالبخاري سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، قال: وكان سماعه له من الفربري سنة ست عشرة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

112 - بنت أبي علي الشبوي

112 - بنت أبي علي الشبوي المذكور آنفًا، لم أعلم تاريخ وفاتها فذكرتها بعد أبيها. 113 - الشالوسي أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله عبد الكريم بن أحمد بن الحسن الطبري الشالوسي. قال ابن السمعاني: كان فقيه عصره بآمل ومدرسها ومفتيها وكان واعظًا زاهدًا من بيت الزهد والعلم، قال: وتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة وسمع بالعراق والحجاز ومصر وغيرهما. والشالوسي نسبة إلى الشالوس قرية بنواحي آمل طبرستان، وشينها الأولى معجمة، والثانية مهملة. انتهى كلامه في "الأنساب". ووهم النووي في كتابه "التهذيب" فجعلهما معًا مهملتين، ذكر ذلك في نوع الآباء في فصل أبي بكر. وأهل المشرق خصوصًا السمعاني أعرف ببلادهم من أهل الشام، ولا شك أن النووي هنا لم ينظر كلام السمعاني ولا غيره، ولهذا لم يؤرخ وفاته ولا ذكر شيئًا من حاله. نقل عنه الرافعي في كتاب الإجارة في الكلام على الاستئجار للقراءة على الميت، وسيأتي الكلام على المسألة هناك. إن شاء الله تعالى.

114 - الشيرازي

114 - الشيرازي الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي شيخ الإسلام علمًا وعملًا وورعًا وزهدًا وتصنيفًا وإملاءً وتلاميذًا واشتغالًا، كانت الطلبة ترحل من الشرق والغرب إليه، والفتاوى تحمل في البر والبحر إلى بين يديه. قال -رحمه الله-: لما خرجت في رسالة الخليفة إلى خراسان لم أدخل بلدا ولا قرية إلا وجدت قاضيها أو خطيبها أو مفتيها من تلاميذي، ومع هذا فكان لا يملك شيئًا من الدنيا، بلغ به الفقر حتى كان لا يجد في بعض الأوقات قوتًا ولا لباسًا ولم يحج بسبب ذلك، هذا والأمراء والوزراء بين يديه ولو أراد الحج لحملوه على الأعناق، وكان طلق الوجه دائم البشر كثير البسط حسن المجالسة يحفظ كثيرًا من الحكايات الحسنة والأشعار، وله شعر حسن ومنه: سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل تمسك إن ظفرت بود حرٍ ... فإن الحر في الدنيا قليل ولد -رحمه الله- بفيروز آباد -بكسر الفاء- وهي قرية منا قرى شيراز في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وقيل في سنة خمس، وقيل سنة ست، ونشأ بها، ثم دخل شيراز سنة عشر، وقرأ الفقه على أبي عبد الله البيضاوي وعلى ابن رامين تلميذي الداركي، ثم دخل البصرة وقرأ على الجزري، ثم دخل بغداد في شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة فقرأ الأصول على أبي حاتم القزويني، والفقه على جماعة منهم: أبو علي الزجاجي والقاضي أبو الطيب، كان له ابن استخلفه في حلقته كما سيأتي

115 - الشاشي

في ترجمته، وهو أول من درّس بنظامية بغداد، وستعرفه في ترجمة ابن الصباغ. توفي -رحمه الله- يوم الأحد، وقيل ليلة الأحد حادي وعشرين جمادى الآخرة، وقيل: الأولى سنة ست وسبعين وأربعمائة، ودفن من الغد بمقبرة باب أبرز، قاله النووي في "تهذيبه". 115 - الشاشي أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي الملقب فخر الإسلام، ولد بميافارقين في شهر المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وتفقه على قاضيها أبي منصور الطوسي تلميذ الشيخ أبي محمد، وعلى الكازروني صاحب "الإبانة"، فلما عزل الطوسي ورجع إلى بلده، دخل بغداد واشتغل على الشيخ أبي إسحاق ولازمه حتى عرف به، وكان معيد درسه، وقرأ "الشامل" على ابن الصباغ، ثم شرحه في عشرين مجلدًا وسماه "الشافي"، ومات وقد بقى منه نحو الخمس، وشرح أيضًا "المختصر"، ووقع لي من تصانيفه "المعتمد" و"الحلية" و"الترغيب" و"العمدة" وتصنيفه في المسألة السريجية، وكان مهيبًا وقورًا متواضعًا ورعًا، وكان يلقب بين الطلبة في حداثته بالجنيد لشدة ورعه. انتهت إليه رئاسة المذهب بعد شيخه، ودرس بنظامية بغداد سنة ونصفًا، ومات يوم السبت خامس وعشرين شوال سنة سبع وخمسمائة، ودفن مع شيخه أبي إسحاق في قبر واحد، قاله ابن الصلاح في "طبقاته"، وتبعه

النووي وكذلك ابن خلكان إلا أنه قال: دفن إلى جانبه، نقل عنه الرافعي في أواخر الغسل وفي غيره، وله شعر حسن ومنه: لو قيل لي وهجير الصيف متقد ... وفي فؤادي جوى للحر يضطرم أهم أحب إليك اليوم تشهدهم ... أم شربة من زلال الماء قلت: هم وكان له ولدان فقيهان مناظران عبد الله وأحمد، وكان أحمد قد أفتى في حياة والده، توفي عبد الله ببغداد في شهر المحرم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، ودفن إلى جانب والده، قاله التفليسي، وتوفي أحمد في السنة التي تليها، ذكره ابن الصلاح في بعض تعاليقه.

باب الصاد

باب الصاد

116 - الصيرفي

باب الصاد 116 - الصيرفي أبو بكر محمد بن عبد الله البغدادي المعروف بالصيرفي. كان إمامًا في الفقه والأصول، تفقه على ابن سريج وله تصانيف موجودة، منها: "شرح الرسالة"، كتاب في "الشروط" أحسن فيه كل الإحسان، قال القفال الشاشي: كان الصيرفي أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي. توفي -رحمه الله- سنة ثنتين وثلاثمائة، قاله الشيخ أبو إسحاق، زاد الخطيب والنووي وابن خلكان: أنه في يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الآخر. نقل عنه الرافعي في الطهارة في مواضع قليلة. 117 - الصبغي أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب النيسابوري المعروف بالصبغي -بكسر الصاد المهملة وإسكان الباء الموحدة وبالغين المعجمة- كان واسع العلم إمامًا في الفقه والحديث والأصول، له تصانيف جليلة، نقل عنه الرافعي مواضع منها: أن الركعة لا تدرك بالركوع، وله فيها تصنيف. وأنه يزيد ركوعًا ثالثًا ورابعًا عند تمادي الخسوف.

118 - الصابوني

ولد في شهر رجب سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتوفي في شعبان سنة ثنتين وأربعين وثلاثمائة، قاله السمعاني في "الأنساب"، ونقله عنه النووي في "تهذيبه". وكان له ولد فاضل [اسمه عبد الله سمع وحدث، توفي سنة خمسين وثلاثمائة كما ذكر التفليسي] (¬1). ولهم شخص آخر يقال له أيضًا أبو بكر الصبغي النيسابوري أحد أئمة الشافعية، توفي في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، واسمه محمد بن عبد الله ابن محمد. 118 - الصابوني أبو الحسن أحمد بن محمد الصابوني. قال النووي في "تهذيبه": إنه من أصحابنا أصحاب الوجوه، ولم يزد عليه. وقال الحاكم في "تاريخه": كان جدلًا متعصبًا للسنة، ورد نيسابور سنة ثلاثمائة إلا أن الحاكم جعله ابن يوسف، فيجوز أن يكون ذلك اسم جد من أجداده. وذكره العبادي في آخر الطبقة المتقدمة على طبقة ابن سريج. نقل عنه الرافعي في أوائل الباب السادس من كتاب النكاح: أن أم الزوجة لا تحرم إلا بالدخول على البنت كعكسه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

119 - الصعلوكي

119 - الصعلوكي أبو سهل محمد بن سليمان الحنفي نسبًا ثم العجلي الأصفهاني ثم النيسابوري المشهور بالصعلوكي، الإمام في الفقه والتفسير والحديث والعلوم اللغوية كلها والتصوف، الشاعر الكاتب حبر زمانه وخير أقرانه. ولد سنة ست وتسعين ومائتين بأصفهان، ثم دخل إلى العراق سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وذلك بعد أن تبحر في العلوم، ثم درس بالبصرة سنين، ثم استدعى إلى بلدة أصفهان فأقام بها، وكان عمه الإمام أبو الطيب أحمد مقيمًا بنيسابور، فمات بها سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكان إمامًا في الفقه والحديث، وأضر في أخر عمره، فلما نُعى إليه وعلم أن أهل أصفهان لا يمكنونه من الخروج عنهم خرج متخفيًا فورد نيسابور في رجب من السنة المذكورة على عزم الرجوع إلى أصفهان، فجلس لعزاء عمه ثلاثة أيام فحضر إليه كل رئيس ومرؤوس وقاضي ومفت من الفريقين. فلما انقضت الأيام عقدوا له المجلس غداة كل يوم للتدريس ومجلس للنظر والوعظ عشية الأربعاء، وسأله مشايخ البلد في نقل أهله إليهم وتكرر سؤالهم في ذلك فأجابهم واستقرت به الدار، وأجمع عليه الموافقون والمخالفون، ولم يزل كذلك إلى أن توفي بنيسابور ليلة الثلاثاء الخامس عشر من ذي القعدة سنة تسع وستين وثلاثمائة، وصلى عليه ابنه أبو الطيب سهل الآتي ذكره عقبه، قاله النووي في "تهذيبه". زاد ابن خلكان: أن تقديمه كان بأمر من السلطان، وأن الصلاة عليه

120 - ابن الصعلوكي

كانت بميدان الحسين، وأنه دفن في المجلس الذي كان يدرس فيه. أخذ -رحمه الله- عن ابن خزيمة، ثم عن أبي علي الثقفي وأبي إسحاق المروزي، وقال في حقه بعد مفارقته: إنما ذهبت الفائدة من مجلسنا بعد خروج أبي سهل. نقل عنه الرافعي في مواضع كثيرة، منها: اشتراط النية في إزالة النجاسة. 120 - ابن الصعلوكي والصعلوكي -بضم الصاد- أبو الطيب سهل ابن الإمام أبي سهل الصعلوكي المتقدم ذكره، تفقه على أبيه. قال الشيخ أبو إسحاق: كان فقيهًا أديبًا جمع رئاسة الدين والدنيا، أخذ عنه فقهاء نيسابور. وقال الحاكم فيه: الفقيه الأديب مفتي نيسابور وابن مفتيها، وأكتب من رأيناه من علمائها وأنظرهم، تصدر بها للفتوى والتدريس والقضاء، وتخرج به جماعة من مدن خراسان كلها، قال: وبلغني أنه وضع في مجلسه أكثر من خمسمائة محبرة وقت إملائه عشية الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكان أبوه يعظمه، ومن عبارته فيه: سهل والد. انتهى. نقل الرافعي عنه وعن والده بأنهما قالا: إن طلاق السكران لا يقع. وسئل عن الشطرنج فقال: إذا سلم المال من الخُسران والصلاة عن النسيان فذلك أنس بين الإخوان، كتبه سهل بن محمد بن سليمان.

121 - الصيمري

وقد نقل الرافعي بعض هذا اللفظ عن الصعلوكي ولم يبين من هو، والمراد سهل لا أبوه فاعلمه. توفي -رحمه الله- سنة أربع وأربعمائة، ورأيت فيما وقفت عليه من تاريخ ابن خلكان أنه توفي في المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكأنه اشتبه عليه تاريخ الإملاء المتقدم ذكره بتاريخ الموت. 121 - الصيمري القاضي أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين بن محمد الصيمري. قال الشيخ أبو إسحاق: سكن البصرة وحضر مجلس القاضي أبي حامد وتفقه بتلميذه أبي الفياض، وارتحل الناس إليه من البلاد، وكان حافظًا للمذهب وحسن التصنيف. انتهى، وقد تخرج به الماوردي وجماعة. وقع لي من تصانيفه "الإيضاح" بالياء والضاد المعجمة، و"الكفاية" و"شرحها". ذكره الذهبي في تاريخ سنة خمس وأربعمائة، وقال: إنه كان موجودًا في [هذا] (¬1) العصر، قال: ولا أعلم تاريخ موته. والصيمري بصاد مهملة مفتوحة ثم ياء ساكنة بعدها ميم مفتوحة ضمها بعضهم. قال ابن باطيش في "طبقاته": إنه منسوب إلى الصيمرة، بلد بين ديار الجبل وخورستان. وقال ابن الجوزي في "تاريخه": إنه منسوب إلى صيمر، وهو نهر من أنهار البصرة عليه عدة قرى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

122 - الصيدلاني

وقال النووي في "تهذيبه": إنه الأظهر. نقل عنه الرافعي في الاستنجاء، ثم كرر النقل عنه. 122 - الصيدلاني [أبو بكر] (¬1) محمد بن داود بن محمد المروزي المعروف بالصيدلاني نسبة إلى بيع العطر، وبالداوودي أيضًا نسبة إلى أبيه داود، ذكره السمعاني في "الأنساب" استطرادًا في ترجمة حفيده أبي المظفر سليمان بن داود بن محمد بن داوود الصيدلاني الداوودي، قال: وهو نافلة الإمام أبي بكر الصيدلاني صاحب أبي بكر القفال من أهل مرو، هكذا ذكره في باب الدال فيمن ينسب بالداوودي. قلت: وله شرح على "المختصر" في جزأين ضخمين ظفر به ابن الرفعة حال شرحه "للوسيط"، ونقل فيه غالب ما تضمنه، وقد ظفرت بالنسخة التي كانت له، وهي نسخة قديمة، تاريخ فراغ كتابتها سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وهو بعد موت المصنف بقليل كما تعرفه، ولما ترجم له الكاتب في أوله، قال: إنه الشيخ أبو بكر محمد بن داود الداوودي، وقد سبق من كلام السمعاني أنه المعروف بالصيدلاني، تلميذ القفال، فاتضح بحمد الله تعالى حال هذين -الاسمين أعني الصيدلاني- والداوودي، شارح "المختصر" -وإني لم أر لأحد من أصحابنا المؤلفين في الطبقات تعرضًا إلى شرح حال الصيدلاني ولا للداوودي بالكلية، حتى اعتقد ابن ¬

_ (¬1) بياض فى أ.

123 - ابن الصباغ

الرفعة وغيره من شيوخ العصر أنه غيره، وادعى في "المطلب" في الكلام على دية الجنين أنه متقدم على القفال، وقد ثبت بطلانه، ويوضحه أنه قد نقل في شرحه للمختصر عن الشيخ أبي حامد في ثلاث مواضع من كتاب الزكاة، في باب المبادلة بالماشية، وقد كان هو والقفال متعاصرين، وبين وفاتهما نحو عشر سنين كما تعرفه في موضعه، ثم ظفرت له -أعنى الصيدلاني المعروف- وأيضا بالداوودي "بشرح على فروع ابن الحداد" كتبه بعض شيوخنا من أصل مكتوب من خط المصنف، قرأه كاتبه عليه في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وهو شرح جليل عزيز الوجود، رفع الكاتب نسبه كما تقدم، فقال: أبو بكر محمد ابن داود الصيدلاني. لم أقف على تاريخ وفاته. تكرر نقل الرافعي عنه -رحمه الله- تعالى وحيث نقل -أعني الرافعي- عن بعض شروح "المختصر" وأبهمه فالمراد به شرحه المتقدم فاعلمه فإنني قد استقرئت نقله وحررته. 123 - ابن الصباغ أبو نصر عبد السيد بن أبي ظاهر محمد بن عبد الواحد بن محمد البغدادي المعروف بابن الصباغ. أخذ عن القاضي أبي الطيب وبرع حتى رجحوه في المذهب على الشيخ أبي إسحاق، وكان خيرًا دينا، درس بالنظامية أول ما فتحت، وذلك في سنة تسع وخمسين، ثم عزل بعد عشرين يومًا بالشيخ أبي إسحاق؛ وذلك لأنها

124 - ابن الصلاح

بنيت لأجل الشيخ فلم يجب إلى ذلك، وامتنع من الخروج من المسجد الذى يدرس فيه وهو المسجد الذي بدرب الزعفرانى، وكان الشافعي يدرس فيه فتولاها ابن الصباغ، ثم ألحوا على الشيخ فأجاب واستمر إلى وفاته، فلما مات جلس أصحابه للعزاء بالمدرسة المذكورة، فلما انقضى العزاء فوض مؤيد الملك ابن نظام الملك التدريس إلى صاحب "التتمة"، فلما بلغ الخبر إياه كتب بإنكار التعجيل وتقديم المتولي على ابن الصباغ، وقال: كان من الواجب أن تغلق المدرسة لأجل الشيخ سنة وأمر بتفويضها إلى ابن الصباغ فدرس بها سنة، ثم عمى فتولاها المتولي فحمله أهله على طلبها، فخرج إلى نظام الملك بأصبهان فأمر بأن يبني له غيرها، فعاد من أصبهان ومات بعد ثلاثة أيام من عوده. قال ابن خلكان: ولد -رحمه الله- سنة أربعمائة، وتوفى فى يوم الثلاثاء الثالث من جمادي الأولى سنة سبع وسبعين. قال: وقيل: بل توفي يوم الخميس منتصف شعبان من السنة المذكورة. زاد غيره عليه، يقال: دفن يوم الأربعاء بداره، ثم نقل إلى باب حرب وكان بيته بيت علم، أبوه وابن أخيه وابن عمه. 124 - ابن الصلاح الشيخ تقى الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردي الشهرزورى ثم الدمشقي المعروف بابن الصلاح. وكان إمامًا فى الفقه والحديث عارفًا بالتفسير والأصول والنحو ورعًا

زاهدًا ملازمًا لطريقة السلف الصالح، لا يمكن أحدًا فى دمشق من قراءة المنطق والفلسفة، والملوك تطيعه في ذلك. كان والده الصلاح شيخ بلاده، فتفقه هو عليه في صباه، ثم ارتحل إلى الموصل ولازم العماد بن يونس جد صاحب "التعجيز" حتى برع وأعاد له، ورحل إلى بغداد وطاف البلاد، ثم رحل إلى خراسان وأقام بها مدة، وأخذ عن مشايخ كثيرة، ووقف على كتب غريبه وعلق عنها أمورًا مهمة وفوائد جمة في أنواع من العلوم بلغت مجلدات كثيرة، ووقفها بدار الحديث الأشرفية بدمشق وصل إلينا بعضها. ثم بعد مفارقته خراسان استوطن دمشق في سنة ثلاثين وستمائة، وصنف فيها كتبه، وهو أول من درس بدار الحديث الأشرفية وبالرواحية. ولد -رحمه الله- سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وتوفى صبح يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. قال ابن خلكان: وصلى عليه مرتين في موضعين من البلد، وشهدهما خلق كثير، ثم خرج لدفنه نفر يسير نحو العشرة رجع الناس لأن البلد كانت محاصرة من جهة الخوارزمية، ودفن غربى مقبرة الصوفية. نقل عنه في "الروضة" فى مواضع من كتاب الحج، ومن كتاب الوقف وغير ذلك.

باب الطاء

باب الطاء

125 - أبو علي الطبري

باب الطاء 125 - أبو علي الطبري أبو على الحسين بن القاسم الطبرى مصنف "الإفصاح"، تفقه ببغداد علي ابن أبى هريرة، ودرس [بها] (¬1) بعده، وصنف في الأصول والجدل والخلاف، وهو أول من صنف في الخلاف المجرد، وكتابه فيه يسمى "المحرر"، وكتابه "الإفصاح" الذي يعرف به هو بالفاء والصاد المهملة، وهو شرح على "المختصر" متوسط عزيز الوجود وقفت عليه. مات سنة خمسين وثلاثمائة، قاله الشيخ في "طبقاته"، والنووي في "تهذيبه". والطبري نسبة إلى طبرستان -بفتح الباء الموحدة- وهو إقليم متسع مجاور لخراسان، ومدينته آمل بهمزة ممدودة وميم مضمومة بعدها لام، وأما الطبري فنسبة إلى طبرية الشام، نقل عنه الرافعي في باب النفاس وفي غيره. 126 - الطرسوسي [أبو الحسن] (¬2) الطرسوسي، ذكره العبادي في طبقة الساوي وأمثاله، وقال: روى عنه أبو الحسين ابن القطان أن الشافعي قال: إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

127 - الطوسي

سمع القاضي البينة على الغائب وحكم عليه فلا يجب تحليفه لأن الغائب إذا رجع حلفه، وحكاه أيضًا الرافعي عنه. قلت: وطرسوس بطاء وراء مفتوحة وسينين مهملتين مدينة من عمل الروم على ساحل البحر مما يلي حلب، فتحها ملك مصر في زماننا بعد استيلاء الأرمن عليها مدة تزيد على أربعمائة سنة. 127 - الطوسي [أبو إسحاق] (¬1) إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي أحد الأكابر النظارين، كانت له ثروة زائدة وجاه وافر، تفقه على أبي الوليد النيسابورى، ومات في رجب سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وقال العبادي: إنه تفقه على أبي سهل، نقل عنه الرافعي: استحباب ركعتين قبل المغرب. قال السمعاني: طوس اسم لناحية بخراسان تشتمل على مدينتين: إحداهما: الطابران -بطاء مهملة وباء موحدة مفتوحة وراء مهملة- والثانية: نوقان -بنون مضمومة وبالقاف والنون- قال: وإنها أكثر من ألف قرية، وكان فتحها في خلافة عثمان -رضي الله عنه- سنة تسع وعشرين. وذكر أيضًا ابن الصلاح أن نون نوقان مضمومة. وقال ابن خلكان: إنها مفتوحة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

128 - الطوسي النوقاني

128 - الطوسي النوقاني أبو بكر محمد بن أبي بكر الطوسي النوقاني بنونين تقدم الكلام على ضبط ذلك، تفقه المذكور بنيسابور على الماسرجسي، وببغداد على أبي محمد البافي، وكان إمام أصحاب الشافعي بنيسابور، له الدرس والأصحاب ومجلس النظر، وكان ورعًا زاهدًا منقبضًا عن الناس، ترك طلب الجاه والدخول على السلاطين وقبول الولايات، وكان حسن الخلق تفقه به خلق كثير وظهرت بركته عليهم منهم: الأستاذ أبو [القاسم] (¬1) القشيري. توفى بنوقان سنة عشرين وأربعمائة، قاله ابن الصلاح في "طبقاته". نقل عنه الرافعي في باب الإجارة فقال: وعن الشيخ أبي بكر الطوسي ترديد جواب في الاستئجار لإعادة الدرس. وفي الجنايات، قبل باب اختلاف الجاني ومستحق الدم فقال: ويقال ولو قطع الأنملة العليا من رجل والوسطى من آخر فاقد العليا فاتفقا على وضع الحديدة على مفصل الوسطى واستوفيا الأنملتين بقطعة واحدة جاز، وقد هونا الأمر عليه، قاله أبو بكر الطوسي. انتهى. ونقل عنه أيضا في موضعين آخرين قبل الموضع المذكور في الكلام على القصاص في الباضعة والمتلاحمة، ونقل أيضًا [عنه] (¬2) خامسًا في باب قطع الطريق، فقال: إذا اجتمعت عليه حدود الله تعالى لا يوالي فيها، وحكى أبو بكر الطوسي وجهًا أنه يوالي إذا كان معها قتل. ¬

_ (¬1) بياض فى أ. (¬2) سقط من أ.

129 - القاضي أبو الطيب

وسادسًا في الشهادات، فقال: إذا جنى عليه جناية توجب القصاص فعفي عنها على مال، ثم أراد إثباتها بالشاهد واليمين لم يجز في أصح الوجهين، قال: وحكى عن أبي بكر الطوسي طريقة قاطعة به. وكان له ولد فقيه مدرس صالح يسمى بكرًا. 129 - القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري. قال الشيخ أبو إسحاق: هو شيخنا وأستاذنا، لم أر ممن رأيت أكمل اجتهادًا وأشد تحقيقًا وأجود نظرًا منه. صنّف التصانيف المشهورة في أنواع من العلوم، ولازمت مجلسه بضع عشرة سنة، وسألني أن أجلس في مجلسه للتدريس ففعلت في سنة ثنتين وأربعمائة، وتوفي عن مائة [سنة] (¬1) وسنتين، لم يختل عقله ولا تغير فهمه، يفتي ويقضي ويحضر المواكب إلى أن مات. انتهى كلام الشيخ، وقال الخطيب في "تاريخه": كان ورعًا حسن الخلق، ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وتوفي ببغداد سنة خمسين وأربعمائة، وتفقه ببلده على الماسرجسي، وببغداد على الشيخ أبي حامد وغيرهما، وله تصانيف مشهورة. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

130 - أبو خلف الطبري

130 - أبو خلف الطبري أبو خلف محمد بن عبد الملك بن خلف السلمي -بضم السين- الطبرى. أخذ عن القفال والأستاذ أبي منصور البغدادي. قال ابن باطيش: مات في حدود سنة سبعين وأربعمائة. نقل الرافعي عنه: أنه اختار في شرحه "للمفتاح" وجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بغير عذر سواء كان بجماع أو غيره. وشرحه هذا غريب وعندي منه نسخة، ورأيت ذلك فيه، وعندي أيضًا نسخة من النوع الفقهي من كتابه "المعين". 131 - أبو الحسن الطيبي بطاء مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت بعدها باء موحدة، نسبة إلى بلد يقال لها: الطيب. نقل عنه الرافعي قبيل كتاب الإمامة في الكلام على قد الملفوف إنه إن كان ملفوفًا على هيئة التكفين فالقول قول القاد، وإن كان غيرها فالقول قول الولي، ومن هذه البلدة شخص آخر يقال له: أبو العباس أحمد الطيبي قاضي الطيب، تفقه على الشيخ أبي إسحاق، واستشهد بالطيب بعد

132 - ابن طاهر

الخمسمائة. نعم لهم آخر يقال له الحسن الطبسي -بالباء الموحدة المفتوحة والسين المهملة- من طبقة الشيخ أبي حامد، دخل بغداد. وذكره السمعاني من شيوخ أبي الحسن البوشنجي الداوودي، وذكره أيضًا الموسوي التفليسي في "طبقاته" فقال: أبو الحسن أحمد بن محمد ابن سهل الطبسي من أصحاب أبي إسحاق المروزي، سكن نيسابور ودرس بها وحدث، ثم انصرف إلى الطبسين ومات بها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فيحتمل أن يكون هذا هو المذكور في الرافعي إلا أن النووي قد ضبطه في "أصل الروضة" بكسر الطاء والباء الموحدة فتبعه عليه. 132 - ابن طاهر [الموفق] (¬1) ابن طاهر شارح "المختصر" للشيخ أبي محمد. نقل الرافعي عنه في المياه، ثم فيما بعدها مصرحًا به تارةً ومضيفًا إلى شرحه أخرى، ومما حكاه عنه: قول أن الجراد من صيد البحر لأنَّه متولد من روث السمك. ¬

_ (¬1) بياض في أ، وفي ب: أبو بكر، وفى طبقات الشافعية للإسنوى "الموفق".

باب العين

باب العين

133 - ابن عبدان

باب العين 133 - ابن عبدان أبو الفضل عبد الله بن عبدان، تثنية عبد. كان شيخ همذان وعالمها ومفتيها، أخذ عن ابن لال وغيره، وصنف كتابًا في الفقه سماه "شرائط الأحكام" قليل الوجود عندي منه نسخة، مات -رحمه الله- في صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، قاله ابن الصلاح في "طبقاته"، نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: حكاية وجه: أنه يستحب ترك القنوت في الصبح لأنه صار شعار المبتدعة. منها: استحباب القنوت في الوتر في جميع السنة، ومنها: إنه يجوز الخبز والدقيق والسوبق في الفطرة. 134 - الشريف العمري [أبو الفتح] (¬1) ناصر بن الحسين بن محمد المعروف بالشريف العمرى، من ولد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. تفقه بمرو على القفال، وبنيسابور على الزّيادي وأبي الطيب الصعلوكى، ودرس في حياتهما وتفقه به خلق كثير، وصار عليه مدار الفتوي والتدريس ¬

_ (¬1) بياض في أ.

135 - أبو الفضل العراقي

والمناظرة، وصنف كتبًا كثيرة، وكان فقيرًا قانعًا باليسير متواضعًا خيرًا. توفي في نيسابور في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ذكره عبد الغافر في "الذيل". نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: في الوتر إن كان منفردًا، فالفصل وإلا فالوصل. 135 - أبو الفضل العراقي ذكره العبادي في طبقة القفال المروزى، وزاد فقال: إنه نظيره، ورأيت في "فتاوى القفال": أن مسألة تزويج الحاكم كافرة لا ولى لها من كافر يخالفها في الدين كيهودي من وثنية أو مجوسية أو نصرانية قد دارت بينهما، وأفتى القفال بالجواز، كما أنا نقرهم عليه لو فعلوه وترافعوا إلينا، وأفتى أبو الفضل المذكور بالمنع. نقل الرافعي في صلاة العيدين عن العبادى: عنه أنه يجوز للرجال الجلوس على الحرير كمذهب أبي حنيفة. 136 - العبادي القاضي أبو عاصم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد -بتشديد الباء الموحدة- الهروي المعروف بالعبادي.

137 - العبدري

قال السمعاني في "الأنساب": كان إمامًا فقيهًا مناظرًا دقيق النظر سمع الكثير وتفقه وصنف. انتهى. ومن تصانيفه "المبسوط" و"الهادي" و"كتاب المياه" و"كتاب الأطعمة" و"الزيادات" و"زيادات الزيادات"، و"الزيادات على زيادات الزيادات" و"طبقات الفقهاء"، وهو الذي تكرر النقل عنه في هذا الكتاب و"أدب القضاء"، وقد وقفت على الخمسة الأخيرة. أخذ -رحمه الله- عن أبي طاهر الزيادي، كما حكاه عنه الرافعي في أوائل الجنايات فقال: وحكى أبو عاصم العبادي عن شيخه الأستاذ أبي طاهر عن شيخه الأستاذ أبي الوليد عن شيخه عثمان بن سريج: أنه لا قصاص على المكره -أي بكسر الراء-. مات -رحمه الله- في شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمائة عن ثلاث وثمانين سنة، نقله النووي في "تهذيبه"، وابن خلكان في "تاريخه"، وستقف على ترجمة ولده أبي الحسن إن شاء الله تعالى. نقل عنه الرافعي في التيمم، ثم كرر النقل عنه. 137 - العبدري أبو الحسن علي بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري من بني عبد الدار تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازى، وصنف كتابًا سماه "الكفاية". قال ابن السمعاني: وبرع في الفقه وصار أحد الأئمة الوجهين، وكان جميل الطريقة، جميل الأثر، سمع من الماوردي وغيره.

138 - أبو الحسن العبادي

توفي ببغداد سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. نقل عنه في "الروضة" في ثلاثة مواضع: أحدها: القطع بتحريم ضبة الذهب. والثاني: تصحيح عدم نبش الميت إذا بلع مال نفسه. الثالث: أنه ذهب إلى أن الأضحية لا يؤمر بها الحاج بمنى، ثم رد عليه النووي في الثالث. 138 - أبو الحسن العبادي ابن الأستاذ أبي عاصم السابق ذكره قريبًا، مصنف كتاب "الرقم"، كان من كبار الخراسانيين. توفي في جمادي سنة خمس وتسعين وأربعمائة وله ثمانون سنة، قاله النووي في "تهذيبه". نقل عنه الرافعي في التيمم، ثم كرر النقل عنه. 139 - الطبري صاحب "العدة" أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري المعروف بصاحب "العدة"، وبإمام الحرمين أيضا، تقدمت ترجمته مستوفاة في حرف الراء في ترجمة أبي المكارم الروياني صاحب "العدة" فراجعها.

140 - ابن أبي عصرون

وكان له ولد يقال له: أبو محمد عبد الرحمن، ولد ببغداد سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وأخذ عن الشيخ أبي إسحاق، وتفقه على أبيه وتولى النظامية مرات، وبذل في مقابلة توليتها أموالًا عظيمة [لو] (¬1) أراد أن يبني بها مدرسة لأمكن. توفي سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بخوارزم، نقله التفليسي عن الحافظين: السمعانى، وابن عساكر. 140 - ابن أبي عصرون [قاضي القضاة] (¬2) شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن على بن المطهر بن أبي عصرون بن أبي السري التميمي الحديثي الموصلي. تفقه أولًا على القاضي المرتضي بن الشهرزوري، وأبي عبد الله بن الحسين بن خميس الموصلي، ثم توجه إلى واسط، وأخذ عن الفارقي الآتي ذكره، وبرع عليه، ثم رحل إلى بغداد، فعلق عن أسعد الميهنى، وقرأ الأصول على ابن برهان السابق ذكره، وقرأ بها النحو والقراءات العشر وسمع الحديث، وعاد إلى بلده الموصل بعلم كثير، فدرس بها في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ثم أقام بسنجار مدةً، ودخل حلب في سنة خمس وأربعين، ودرس بها وأقبل عليه ملكها الملك العادل نور الدين، فلما انتقل إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، استصحبه معه وولاه تدريس الغزالية ونظر الأوقاف، ثم ارتحل إلى حلب وولى قضاء سنجار وحران وديار ربيعة، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض في أ.

وتفقه عليه هناك جماعة ثم عاد إلى دمشق سنة سبعين في دولة الملك الناصر صلاح الدين فولاه القضاء بها، ثم عمي في سنة سبع وسبعين، وصنف جزءًا في "ولاية القضاء للأعمى"، فولى السلطان ولده، ولم يعزل الوالد جبرًا له، وبنى له نور الدين مدرسة بحلب وأخرى بدمشق وبها قبره. وله مصنفات عندي منها: "الانتصار" في ثلاث مجلدات كبار، و"المرشد" في جزئين، و"فوائد المهذب" في جزأين أيضًا، و"التنبيه" في جزء واحد وعليه خطه بقراءة بعض أصحابه عليه، وهو دون تنبيه الشيخ أبي إسحاق وله شعر حسن ومنه: كل جمع إلى الشتات يصير ... أي صفوٍ ما شابه تكدير أنت في اللهو والأمان مقيم ... والمنايا في كل وقت تسير ويحك يا نفس اخلصي إن ربي ... بكل ما أخفيه بصير كُلُّ جَمْعٍ إِلَى الشَّتَاتِ يَصِيرُ ... أَيُّ صَفْوٍ مَا شَابَهُ تَكْدِيرُ أَنْتَ فِي اللَّهْوِ وَالأَمَانِ مُقِيمٌ ... وَالْمَنَايَا فِي كُلِّ وَقْتٍ تَسِيرُ وَيْكِ يَا نَفْسُ أَخْلِصِي إِنَّ رَبِّي ... بِالَّذِي أَخْفَتِ الصُّدُورُ بَصِيرُ وله أيضًا: أأمل أن أحيا وفي كل ساعة ... تمر بي الموتى تهز نعوشها وما أنا إلا منهم غير أن لي ... بقايا ليال في الزمان أعيشها وقال ابن الصلاح في "طبقاته": كان من أفقه أهل عصره وإليه المنتهى في الفتوى والأحكام، وتفقه به خلق كثير. ولد في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وتوفي في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة. انتهى كلامه. ورأيت في "تاريخ بغداد" لابن الدبيثي نقلا عن القاسم ولد الحافظ أبي القاسم ابن عساكر: أنه ولد سنة ثنتين وتسعين، ونقل عنه في

141 - العجلي

"الروضة" في باب العارية فقط، وعبر عنه بصاحب "الانتصار". 141 - العجلي -[محب] (¬1) الدين أبو الفتوح أسعد -بهمزة ثم سين ساكنة- بن محمود بن خلف العجلي الأصفهاني، مصنف "التعليق على الوسيط" و"الوجيز" "وتتمة التتمة" وقفت عليهما. كان فقيهًا مكثرًا في الرواية زاهدًا ورعًا يأكل من كسب يده يكتب ويبيع ما يتقوت به لا غير، وكان عليه المعتمد بأصبهان في الفتوى، وكان يعظ ثم ترك الوعظ، وصنف في ذلك كتابًا سماه "آفات الوعاظ". ولد بأصبهان في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وتوفي بها في ليلة الخميس الثاني والعشرين من صفر سنة ستمائة، قاله ابن خلكان في "تاريخه". ذكره الرافعي في الطلاق والكلام على المسألة السريجية، فإنه استدل على بطلان الدور بوجهين، فذكر الأول، ثم قال: والثاني قال الشيخ الإمام أبو الفتوح العجلي تصحيح الدور يلزم منه المحال، هذه عبارة الرافعي في حقه ولم ينقل عن أحد أقرب زمنًا إليه منه، فإن الرافعي قد أكمل كتابه المذكور بعد وفاة العجلي بثنتي عشرة سنة فحين نقل الرافعي عنه في كتاب الطلاق ما نقل يكون العجلي إما حيًا وإما قريب عهد بحياة. وللأصحاب آخر يعرف بالعجلي واسمه سعد -بسين مفتوحة- وكنيته ¬

_ (¬1) في "طبقات الشافعية" للمصنف: منتخب.

142 - الشيخ عز الدين ابن عبد السلام

أبو منصور، كان عالمًا نظارًا زاهدًا هيوبًا، مات بهمذان سنة أربع وتسعين وأربعمائة. 142 - الشيخ عز الدين ابن عبد السلام الشيخ عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي ثم المصري، الملقب بسلطان العلماء، والملقب له هو الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. كان -رحمه الله- شيخ الإسلام علمًا وعملًا وورعا وزهدًا وتصانيفًا وتلاميذًا آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ عليهم القول، أغلظ يومًا على الملك الصالح بمصر فلما خرج قيل له: ألم تخف من إذايته لك؟ فقال: استحضرت عظمة الله فصار قدامى أحقر من قط. وكتب إليه السلطان بالإغلاظ عليه في حادثة وقعت، فأجاب عن كتابه بكتاب غريب، ذكر في آخره: وبعد هذا فإنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي. ولد بدمشق سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وقرأ الفقه على الشيخ فخر الدين ابن عساكر، والأصول على السيف الآمدى، وولى خطابة دمشق فحط على سلطانها في الخطبة لأمرٍ جرى منه فحصل له تشويش انتقل بسببه إلى مصر، وصحبه الشيخ محمد بن الحاجب فتلقاه

سلطان الكرك وسأله الإقامة عنده فقال: هذه قليلة على [علمى] (¬1) وقصدي نشره، فتلقاه الملك الصالح سلطان مصر وأكرمه واحترمه وولاه خطابة الجامع العتيق بمصر والقضاء بها مع الوجه القبلى، قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عادته وأزيد، ثم ترك ذلك واستقر بتدريس الصالحية عند فراغ عمارتها، وكان الحافظ زكى الدين مدرسًا بالكاملية، فامتنع من الفتوى مع وجوده، وكان كل منهما يأتي إلى مجلس الآخر. وأخذ التفسير في درسه، وهو أول من أخذه في الدرس، ولم يزل بالصالحية مقيمًا إلى أن توفي بها في عشر جمادي الأولى سنة ستين وستمائة، ولما بلغ السلطان خبر وفاته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعة، فإنه لو أمر الناس في شأني بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره. ونزل الملك الظاهر في جنازته، ودفن في آخر القرافة بعيدا عن الموتى واتصلت المقابر الآن به. ذكره في "الروضة" في كتاب "السير" خاصة، فنقل عنه: أن المصافحة بعد الصبح والعصر بدعة مباحة. ¬

_ (¬1) في ب: عملي.

باب الغين

باب الغين

143 - الغزالي

باب الغين 143 - الغزالي الإمام حجة الإسلام زين الدين أبو حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي، ولد بطوس سنة خمسين وأربعمائة، وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في حانوته، فلما احتضر أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له صوفي صالح فعلمهما الخط وأدبهما، ثم نفد ما خلفه أبوهما، وتعذر عليهما القوت فقال: أرى لكما أن تلجأ إلى المدرسة. قال الغزالي: فصرنا إلى المدرسة نطلب الفقه لتحصيل القوت فاشتغل بها مدة، ثم ارتحل إلى أبي نصر الإسماعيلي بجرحان، ثم إلى إمام الحرمين بنيسابور فاشتغل عليه ولازمه حتى صار أنظر أهل زمانه، وجلس للإقراء في حياة إمامه وصنف، وكان الإمام في الظاهر يظهر التبجح به وفي الباطن عنده منه شئ لما يصدر عنه من سرعة العبارة وقوة الطبع. وينسب إليه تصنيفان ليسا له بل وضعا عليه وهما: "السر المكتوم"، "المضنون به على غير أهله"، وينسب إليه أيضًا شعر، فمن ذلك ما نسبه إليه ابن السمعاني في "الذيل"، والعماد الأصبهاني في "الخريدة". حلت عقارب صُدغه في خده ... قمرًا فجل به عن التشبيه ولقد عهدناه يحل ببرجها ... فمن العجائب كيف حلت فيه وأسند العماد له أيضًا:

هبني صبوت كما ترون بزعمكم ... وحظيت منه بلثم خد أزهر إني اعتزلت فلا تلوموا أنه ... أضحى يقابلني بوجه أشعرى فلما مات إمامه خرج إلى المعسكر وحضر مجلس نظام الملك، وكان مجلسه محط رحال العلماء، ومقصد الأئمة [والنصحاء] (¬1)، فوقع للغزالي أمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ومجازاة الخصوم اللُد، ومناظرة الفحول، ومناطحة الكبار، فأقبل عليه نظام الملك وحل منه محلًا عظيمًا فعظمت منزلته، وطار اسمه في الآفاق، وندب للتدريس بنظامية بغداد سنة أربع وثمانين فقدمها في تجمل كبير وتلقاه الناس ونفذت كلمته، وعظمت حشمته حتى غلبت على حشمة الأمراء والوزراء، وضربت به الأمثال وشدت إليه الرحال إلى أن شرفت نفسه عن رذائل الدنيا فرفضها وأطرحها، وأقبل على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنف فيها كتبًا يقال: إن "الإحياء" منها، ثم صار إلى القدس والإسكندرية، ثم عاد إلى وطنه بطوس مقبلًا على التصنيف والعبادة، وملازمة التلاوة ونشر العلم، وعدم مخالطة الناس. ثم إن الوزير فخر الملك بن نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور وألح عليه كل الإلحاح فأجاب إلى ذلك، وأقام عليه مدة، ثم تركه وعاد إلى وطنه على ما كان عليه، وابتنى إلى جواره خانكاة للصوفية، ومدرسة للمشتغلين، ولزم الانقطاع ووظف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا تمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث، خصوصًا البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل ¬

_ (¬1) في ب: الفصحاء.

القلوب إلى أن انتقل إلى -رحمة الله- تعالى وهو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وروح خلاصة أهل الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضي الرحمن، يتقرب إلى الله تعالى به كل صديق، ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق، قد انفرد في ذلك العصر عن أعلام الزمان كما انفرد في هذا الباب فلم يترجم فيه معه الإنسان. وكانت وفاته بطوس صبيحة يوم الإثنين رابع عشر جمادي الآخرة سنة خمس وخمسمائة، وعمره خمس وخمسون سنة، ذكره ابن الصلاح في "طبقاته" ناقلا لهذا التاريخ ولأكثر ما سبق عن رفيقه عبد الغافر الفارسي في "الذيل". وكان أخوه عالمًا صالحًا واعظًا غلب عليه علم التصوف والخلوة، توفي بقزوين في حدود سنة عشرين وأربعمائة. وكان لهما عم من كبار الأئمة، أشار إليه الشيخ أبو إسحاق في "الطبقات" فقال: وبخراسان وفيما وراء النهر من أصحابنا [خلق] (¬1) كثير كالأودني وعدد جماعة، ثم قال: والغزالي وأبي محمد الجويني وغيرهم ممن لم يحضرني تاريخ موتهم هذه عبارته، [فعلمنا] (¬2)، أنه يريد غير صاحب "الوسيط"، لأن وفاته تأخرت عن الشيخ بنحو ثلاثين سنة. وذكره السمعاني في كتاب "الأنساب" في ترجمة الزاهد أبي على الفارمذي فقال: إنه تفقه على أبي حامد الغزالي الكبير، وبسط ابن الصلاح في "فوائد رحلته" حاله فقال: هو أحمد بن محمد، وكنيته أيضًا أبو حامد، تفقه على الزيادي، واشتهر حتى أذعن له فقهاء الفريقين، وأقر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بفضله فضلاء المشرقين والمغربين، وهو عم الغزالي صاحب "الوسيط"، توفي بطبران طوس سنة خمس وثلاثين وأربعمائة هذا حاصل كلامه. قال ابن خلكان: وعادة أهل خوارزم وجرجان ينسبون إلى القصار فيقولون القصاري ونحوه فنسبوا إلى الغّزال فقالوا: الغزالي.

باب الفاء

باب الفاء

144 - أبو بكر الفارسي

باب الفاء 144 - أبو بكر الفارسي أبو بكر أحمد بن الحسين بن سهل الفارسي، وهو صاحب "عيون المسائل" في نصوص الشافعي، وهو كتاب جليل على ما شهد به الأئمة الذين وقفوا عليه، تفقه على ابن سريج. نقل الرافعي عنه في أول صفة الوضوء، ثم تكرر نقله عنه، ومما نقله عنه شاذًا: أن العشاء يخرج وقتها بخروج وقت الاختيار. مات في حدود سنة خمسين وثلاثمائة. [ولهم آخر] (¬1): يقال له أبو بكر الفارسي محمد بن أحمد بن على، شيخ الشافعية في زمنه، تولى قضاء بلاد فارس، وأقام ببخارى ثم نيسابور إلى أن مات بها في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، قاله الحاكم في "تاريخه". ولهم آخر يقال له: أبو بكر الفارسي البيضاوي، وهو محمد بن أحمد ابن العباس يعرف بالشافعي، له كتاب "الأدلة في تعليل مسائل التبصرة". ¬

_ (¬1) بياض في أ.

145 - أحمد بن ميمون الفارسي

145 - أحمد بن ميمون الفارسي أبو محمد أحمد بن ميمون الفارسي. ذكره العبادي في "الطبقات"، ونقل عنه: أن السيد إذا سلم الأمة ليلًا ولم يسلمها نهارًا تجب لها نصف النفقة، ونقل الرافعي أيضًا ذلك عنه، ونقل -أعني الرافعي- عنه أيضًا: أن في موضحة الوجه أكثر الأمرين من خمس من الإبل والحكومة. 146 - الفوراني أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن فوران -بضم الفاء- المروذي الفوراني. تفقه على القفال وبرع حتى صار شيخ الشافعية بمرو، وصنف "الإبانة" وهو معروف كثير الوجود، "والعمد" وهو غريب عزيز الوجود، وعندي به نسخة. أخذ عنه جماعة، منهم: المتولي، وقد أثنى عليه في "التتمة" ومدحه وأطنب فيه، وسمي كتابه "بالتتمة"، لأنه تتمة "الإبانة" وشرح لها وتفريع عليها. وأما الإمام: فكان ينقصه، لأنه قدم نيسابور حين بلغه موت الشيخ أبي محمد لقصد الجلوس مكانه للتدريس والإفتاء، لأنها في جمع العلماء أعظم

147 - الفارقي

من مرو، فاجتمع إلى الإمام أصحاب والده فأجلسوه في موضعه، وكان إذ ذاك شابًا، فأظهر الفوراني أنه جاء لقصد التعزية، وجلس للأخذ عنه أياما يسيرة وحضر عنده الإمام فلم ينصفه، ثم انصرف إلى مرو وتوفي بها. قال النووي في "تهذيبه" و"طبقاته" في شهر رمضان سنة إحدى وستين وأربعمائة. وحيث قال الإمام وفي بعض التصانيف، أو قال بعض المصنفين: فمراده الفوراني، وكذلك حيث قال في "البحر": قال بعض أصحابنا بخراسان. 147 - الفارقي أبو على الحسن بن إبراهيم الفارقي: ولد بميافارقين عاشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتفقه بها على الكازروني، فلما توفي رحل إلى بغداد، فأخذ عن الشيخ أبي إسحاق ولازمه وسمع عليه كتاب "المهذب" وحفظه، ولازم ابن الصباغ أيضًا وحفظ كتابه "الشامل"، قال ابن السمعاني: وكان يكرر عليها دائمًا ويقرأ من الماضي كل ليلة ربع أحد الكتابين، وكان إمامًا ورعًا قائمًا في الحق مشهورًا بالذكاء، أملي شيئًا على المهذب يسمى "الفوائد"، نقله عنه ابن أبي عصرون وهو في جزأين متوسطين عندي منه نسخة. تولى قضاء واسط، وسكنها إلى حين وفاته بها في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر المحرم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عن خمس وتسعين سنة، ودفن في مدرسته، كذا قاله ابن خلكان.

148 - القاضي أبو الفتوح

وذكر السمعاني نحوه. نقل عنه في "الروضة" خاصة في كتاب الشفعة فقط فقال: إنه صحيح عدم خيار المجلس للشفيع، ومن أصحابنا آخر يقال له: الفارقي وهو أبو الغنائم محمد بن الفرج السلمي، كان فقيهًا فاضلًا دينًا ورعًا، تفقه أيضًا على الشيخ أبي إسحاق، وتوفي يوم الخميس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. ولما نقل النووي عن الفارقي ما نقلناه عنه لم يصرح بأنه أبو على إلا أنه صرح في "تهذيبه" بأنه هو، ذكر ذلك في نوع الأنساب وفي نوع الآباء، ولو لم يصرح بذلك لكان هو المراد بلا شك، لأنه أشهر، ويصرح بالنقل عنه في مواضع. 148 - القاضي أبو الفتوح القاضي أبو الفتوح، ويعرف بابن أبي عقامة أيضًا، هو عبد الله بن محمد بن على بن أبي عقامة -بفتح العين المهملة وبالقاف- التغلبي الربعي البغدادي ثم اليمني. قرأ على جده أبي الحسن على، وعلى الشيخ أبي الغنائم الفارقي المذكور قبل هذه الترجمة بأسطر، وقرأ أبو الغنائم على الشيخ أبي حامد الإسفراييني. قلت. كذا ذكره [الفقيه العالم عمر بن على بن سمرة الجعدي اليمني في كتاب "طبقات فقهاء اليمن ورؤساء الزمن"] (¬1): والفقيه العالم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الصالح أبو محمد عبد الله بن فضل الزيادي اليمني. والمعروف أن الفارقي المذكور إنما أخذ عن الشيخ أبي إسحاق كما [يأتي] (¬1) قريبًا في ترجمته، ولأبي الفتوح المذكور أولاد وأحفاد أئمة فضلاء، انتفع به كثير من علماء اليمن، منهم: القلعي صاحب "احترازات المهذب" فإنه أخذ عن ولد ولده عن أبيه عن جده أبي الفتوح، والقلعي هذا منسوب إلى قلعة بلدة بالقرب من ظفار الحيوطي من بلاد اليمن، قال ابن سمرة: وفضائل بني أبي عقامة مشهورة، وهم الذين نشر الله بهم مذهب الشافعي في تهامة، وقدماؤهم جهروا بالبسملة في الجمعة والجماعات. ونسبهم في بني الأرقم من تغلب بن ربيعة، وقال النووي: هو من فضلاء أصحابنا المتأخرين، له مصنفات حسنة من أغربها وأتقنها كتاب "الخناثي" جاء في مجلد لطيف فيه نفائس حسنة، ولم يسبق إلى تصنيف مثله. انتهى كلامه، وتصنيفه المذكور قليل الوجود وعندي له نسخة، وصاحب "البيان" ينقل عنه كثيرًا. ونقل عنه الرافعي بواسطة "البيان" في كتاب الديات في الكلام على قطع حلمة المرأة، وفي غيره أيضا. ونقل عنه النووي من "زوائده" في أوائل النكاح في الكلام على ما إذا عقده بشهادة خنثيين ثم بانا رجلين. لم أقف للمذكور على تاريخ وفاة. ¬

_ (¬1) في أ. سبق.

149 - الفاشاني

149 - الفاشاني [أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد الملك بن على الفاشاني، من قرية يقال لها فاشان -بالفاء والشين المعجمة-، ويقال أيضًا: بالباء الموحدة. قال السمعاني في "معجم شيوخه": خرج من فاشان جماعة من العلماء قديمًا وحديثًا، فذكر جماعة ثم قال: ومنهم أبو الفضل وساق نسبه كما ذكرناه. وقال: سمع الحاكم أبا عمر محمد بن عبد العزيز القنطري، وسمع منه الحافظ أبو القاسم هبة الله الشيرازي. ولم يؤرخ وفاته. واعلم أن باشان بالباء الموحدة قرية من قرى هراة أيضًا فتفطن له] (¬1). نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: في القديم أن الزوج لا يرجع في نصف الصداق إذا طلق قبل الدخول إلا بقضاء القاضي، وفاشان بالفاء والشين المعجمة مدينة قريبة من هراه. 150 - الإمام فخر الدين الرازي الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن حسن القرشي التيمي البكري الطبري الأصل الرازي المولد، إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في العلوم الشرعية، كان والده من تلامذة البغوي فاشتغل هو -أعني الإمام- أولًا عليه، فلما مات والده رحل إلى الكمال السمناني، واشتغل عليه، ثم عاد إلى الري فاشتغل على المجد الجيلي، وبرع في العلوم حتى رحل إليه الناس من الأقطار ولقبوه بشيخ الإسلام. وصنف تصانيفه المشهورة في كل علم، وشرح "الوجيز" للغزالي ولم يكمل، وكان يمشي في خدمته نحو ثلاثمائة تلميذ، وله مجلس وعظ حضره الخاص والعام، ويلحقه فيه حال ووجد وكان -رحمه الله- قد حصلت له ثروة ظاهرة، ونعمة تضاهي نعمة اللوك، وعظم شأنه حتى أن الملك خوارزم شاه يأتي إلى بابه وإلى مجلس وعظه. ولد بالري خامس وعشرين شهر رمضان سنة أربع وأربعين، [وقيل ثلاث وأربعين] (¬1) وخمسمائة، وتوفي بهراة في يوم الإثنين يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة ودفن أخر النهار في جبل قريب من هراة، قاله ابن خلكان في "تاريخه". نقل عنه في "الروضة" في موضع واحد، وهو في القضاء في الكلام على ما إذا تغير اجتهاد المفتي. وكان له شعر جيد ومنه: نهاية أقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذي ووبال وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال ¬

_ (¬1) سقط من ب.

باب القاف

باب القاف

151 - القزويني

باب القاف 151 - القزويني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، سكن مصر وأخذ عن يونس بن عبد الأعلى والربيع بن سليمان المرادي، وكانت له حلقة للاشتغال بمصر وللرواية، وكان قبل قدومه إلى مصر ينوب في الحكم بدمشق ثم تولى قضاء الرملة، وكان محمودًا فيما يتولاه، إلا أنه خلط في آخر عمره فتركوه. توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة. ذكره ابن يونس في "تاريخ مصر"، وابن عساكر في "تاريخ الشام". نقل عنه الرافعي في الجنايات في أوائل كتاب موجبات الضمان، فقال: وفي كتاب القاضي ابن كج: أن أبا حفص بن الوكيل وعبد الله بن محمد القزويني أثبتا للشافعي -رضي الله عنه- قولًا بوجوب جميع الضمان فيما إذا ضرب الشارب زيادةً على الأربعين، وقزوين بقاف مفتوحة مدينة في عراق المعجم عند قلاع الإسماعيلية.

152 - ابن القاص

152 - ابن القاص أبو العباس أحمد بن [أبي] (¬1) أحمد الطبري المعروف بابن القاص -بالقاف والصاد المهملة- تفقه على ابن سريج وتفقه عليه أهل طبرستان. توفي، بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلثمائة. قال ابن السمعاني: والقاص هو الذي يعظ ويذكر القصص، وعُرف أبوه بالقاص، لأنه دخل بلاد الديلم وقص على الناس الأخبار المرغبة في الجهاد، ثم دخل بلاد الروم غازيًا، فبينما هو يقص لحقه وجدٌ وغشيه فمات -رحمه الله- تعالى، قاله النووى في "تهذيبه". وقال ابن خلكان: إن صاحب الترجمة وهو أبو العباس هو الذي مات في حالة الوعظ من الوجد والغشية، وله تصانيف عندي من كل منها نسخة وهي "التلخيص" و"المفتاح" و"أدب القضاء" وكتاب "دلائل القبلة" وأكثره تاريخ وحكايات عن أحوال الأرض وعجائبها، وتصنيفه في "إحرام المرأة"، وتصنيفه في الكلام على قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، وطرسوس تقدم ضبطها. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

153 - ابن القطان

153 - ابن القطان [أبو الحسن] (¬1) أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي المعروف بابن القطان أخر أصحاب ابن سريج وفاة، أخذ عنه علماء بغداد، ومات بها في جمادي الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه، قاله الخطيب وغيره، وتبعهم النووي في "تهذيبه". 154 - القفال [أبو بكر] (¬2) عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي المعروف بالقفال، وهو شيخ المراوزة، كان في ابتداء أمره يعمل الأقفال وبرع في صناعتها حتى عمل قفلًا بمفتاحه وزنه أربع حبات، فلما أتي عليه ثلاثون سنة اشتغل بالفقه حتى صار منه ما صار. قال أبو بكر بن السمعاني في "أماليه": كان وحيد زمانه فقهًا وحفظًا وزهدًا وورعًا، وله في الفقه وغيره من الآثار ما ليس لغيره، رحلت إليه الطلبة من البلاد فتخرجوا به وصاروا أئمة. انتهى. وقال الشيخ أبو محمد: أخرج القفال يده فإذا على ظهر كفه آثار، فقال: هذا من آثار عملي في ابتداء شبيبتي، قال القاضي الحسين: كان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) بياض في أ.

155 - أبو عبد الرحمن القزاز

القفال في كثير من الأوقات في الدرس يقع عليه البكاء، ثم يرفع رأسه ويقول: ما أغفلنا عما يراد بنا، أخذ -رحمه الله- عن جماعة، ولكن تخرج بأبي زيد المروزي، وتوفي في جمادي الآخرة سنة سبع عشرة وأربعمائة وعمره تسعون سنة، شرح "التلخيص" و"الفروع" وهما قليلان بأيدي الناس وقد ظفرت بهما. 155 - أبو عبد الرحمن القزاز أبو عبد الرحمن القزاز -بقاف وزايين معجمتين- السمرقندي. ذكره الرافعي في أوائل الباب الثاني من أركان الطلاق فقال: نقل أبو الحسن العبادي عنه: أنه روي عن القديم أن "الفراق" و"السراح" كاتبان. لم أقف على تاريخ وفاته. 156 - القيصري بقاف مفتوحة بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم صاد مهملة، كذا ضبطه ابن الصلاح في القطعة التي شرحها من أوائل "المهذب"، وقال: إنه من كبار العراقيين، وأن الدارمي نقل عنه حكاية قولين في اختصاص الدباغ بالمنصوص عليه، كذا رأيته في تصنيف بخطه. نقل عنه الرافعي في الكلام على أن أمر السلطان هل هو إكراه أم لا؟

157 - القزويني

ولنا أشخاص كل منهم يقال له: القصري بسكون الصاد، أحدهم: عبد الله بن على، منسوب إلى بلدة قريبة من الساحل، ذكره ابن عساكر فقال: أخذ عن أبي بكر الشاشي وأسعد المهيمني، قدم الشام، وتوفي بحلب سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة. الثاني: أحمد بن محمد تلميذ ابن اللبان القرضي، توفي في شهر رجب سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. والثالث: أبو الحسن على بن محمد بن أحمد الجرجاني الزاهد، توفي بجرجان يوم الجمعة في الجامع عند المحراب بعد صلاة الجمعة يوم عاشوراء سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ذكره المهيني في "تاريخ جرجان". والمذكور في نسخ الرافعي إنما هو القيصري -بزيادة- الياء كما ذكر قبل ذلك. 157 - القزويني أبو حاتم محمود بن الحسن بن محمد القزويني، ينسب إلى أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال الشيخ أبو إسحاق: تفقه بآمل، ثم قدم بغداد وحضر مجلس أبي حامد، ودرس الفرائض على ابن اللبان، وأصول الفقه على القاضي أبي بكر، وكان حافظًا للمذهب والخلاف، صنف كتبًا كثيرة في المذهب والخلاف والأصول والجدل، ولم أنتفع بأحد في الرحلة كما انتفعت به وبالقاضي أبي الطيب رحمهما الله، وتوفي بآمل. انتهى كلامه. وقال السمعاني: توفي سنة أربعين وأربعمائة، وقال الذهبي: مات

158 - ابن القشيري

تقريبا في حدود ستين وأربعمائة. نقل عنه الرافعي مواضع، منها: في أوائل القضاء، ونقل في "الروضة" من زوائده في آخر كتاب الشفعة عن كتابه المسمى "بالحيل"، وكتابه المذكور تصنيف لطيف عندي به نسخة، وكان له ولدّ وحفيد عالمين ذكرهما السمعاني. 158 - ابن القشيري أبو نصر عبد الرحمن ابن الأستاذ عبد الكريم القشيري صاحب "الرسالة"، كان أبو نصر المذكور إمام الأئمة وحبر الأمة وأشبه أولاد الأستاذ به، رباه والده فأحسن تربيته وتخرج به، وبرع في الأصول والتفسير والنظم والنثر وغيرها خصوصًا المسائل الحسابية، ثم بعد وفاة والده واظب إمام الحرمن حتى حصّل طريقته في الخلاف والمذهب، وكان له موقع عظيم عند الإمام حتى أنه نقل عنه في كتاب الوصية من "النهاية" مع كونه شابًا إذ ذاك وتلميذًا له، تأهب للحج فلما وصل إلى بغداد عقد مجلس الوعظ فظهر له من القبول ما لم يعهد لأحد قبله. ولزم الشيخ أبو إسحاق وغيره من الأئمة مجلس وعظه، وكان يعظ في النظامية وفي رباط شيخ الشيوخ، فحج وعاد فأقام في بغداد سنة كاملة، ثم حج ثانيًا، وعاد إليها وجرى له مع الحنابلة في زمن إقامته ببغداد أمورٌ كثيرة وفتن وتعصب بسبب التجسيم، وقتل من الفريقين جماعة، ثم وردت إشارة نظام الملك من أصبهان إليه بالرجوع إلى بلده لتسكن الفتنة، فرجع إليها

159 - ملكداد

ملازمًا للتدريس والإفتاء والوعظ والإملاء إلى أن ضعف نحو شهر، ثم مات يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادي الآخرة سنة أربع عشرة وخمسمائة. نقل عنه الرافعي في آخر كتاب النذر، فقال: في تفسير أبي نصر القشيري أن القفال قال: من التزم بالنذر ألا يكلم الآدميين يحتمل أن يلزمه؛ لأنه مما يتقرب به، ويحتمل أن يقال: لا لما فيه من التضييق والتشديد، وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس، قال في "الروضة" و"شرح المهذب": الصحيح: هو الاحتمال الثاني. 159 - ملكداد الشيخ أبو بكر ملكداد بن على بن [أبي] (¬1) عمر العمركي، شيخ والد الرافعي. ترجم له الرافعي في كتابه المسمى "بالأمالي" فقال: إمام خطير قنوع ملازم لسيرة السلف الصالحين وهديهم، وأفتى بقزوين سنين على الصواب، علق عن صاحب "التهذيب" مجموعة بعبارة أكثر مما يوجد في التصنيف وبزيادة فروع ومسائل، وتفقه أيضًا على القاضي أبي سعد الهروي، وكان محصلًا طول عمره حافظا كثير البركة، تخرج به جماعة من أهل البلد وغيرهم، وربّي والدي كما يربي الوالد الشفيق ولده، وكان أستاذه في الفقه والحديث والأدب والأخلاق، ولم يسافر مدة حياته احترامًا وتبركًا ¬

_ (¬1) سقط من ب.

160 - ابن يونس القزويني

بأنفاسه، وحضر يومًا الجامع بكرة لإلقاء الدرس على عادته فأتته زليخة بنت القاضي أبي سعد الطالقاني وهي جدتي أم أبي، وكانت تحبه حينئذ فأخبرته سرًا بوفاة ولده محمد، وكان شابًا فاضلًا حسن المنظر والمخبر فأمرها بتجهيزه، ولم يذكر ذلك للحاضرين، فلما فرغ من درسه قال: إن محمدًا دُعى فأجاب فمن أراد الصلاة عليه فليحضر. توفي -رحمه الله- سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. انتهى كلام الرافعي ملخصًا، وله تعليقة نقل عنها الرافعي في أوائل كتاب النكاح وجهًا: أن النكاح لغير التائق أفضل من التخلي للعبادة، ونقل عنه أيضًا في آخر بابه الأول من كتاب قسم الصدقات في الكلام على أن بني هاشم وبني المطلب هل يأخذون من الزكاة عند انقطاع سهمهم من خمس الخمس أم لا؟ 160 - ابن يونس القزويني نقل الرافعي عنه في باب استقبال القبلة مع الاجتهاد بالتيامن والتياسر في قبلة الكوفة، وحكاية وجهين في قبلة البصرة، ونقل عنه أيضًا في أول سجود السهو حكاية وجه: أنه يسجد لتسبيحات الركوع والسجود، لا أعلم من حاله شيئًا.

باب الكاف

باب الكاف 161 - أبو محمد الكرابيسي أبو محمد الكرابيسي النيسابوري، ذكره العبادي في طبقة أبي محمد البافي ونظرائه، وذكره الرافعي في صفة الصلاة في الكلام على التكبير فقال: إن القاضي أبا الطيب نقل عنه عن الأستاذ أبي الوليد أنه إذا قال: الله الأكبر بزيادة أل لا تجزئ على القديم، وهذا المذكور لا أعلم من حاله شيئًا إلا أن نعوته كلها منطبقة على أبي أحمد الحاكم. وقد مات المذكور في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، ومضى عليه من عشر المائة ثلاث سنين، وبقية حاله قد ذكرته في كتاب "الطبقات"، فإن الرافعي والنووي لم يذكراه في الكتابين. نعم ذكر الرافعي الحاكم صاحب "المستدرك"، وهو أبو عبد الله، وإذا علمت ما ذكرناه فلا يبعد أن يكون هو أباه، ولكن تحرف على الناسخ أحمد بمحمد، وقد تقدم الكلام على أبي على الكرابيسي أحد رواة القديم عن الشافعي. وذكر العبادي في هذه الطبقة آخر يقال له: أبو سعيد الكرابيسي المروزي والظاهر أنه الذي يقال له: محمد بن شبرويه، توفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وآخر يقال له: محمد بن الحسن الكرابيسي.

162 - ابن كج

162 - ابن كج القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج الدينوري، تفقه على ابن القطان، وجمع بين رئاسة الدين والدنيا، وكان يضرب به المثل في حفظ المذهب، وارتحل الناس إليه من الآفاق رغبة في علمه وجوده، قتله العيارون بالدينور ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة، قاله الشيخ أبو إسحاق. قال ابن خلكان: وكانت له نعمة كبيرة، قال: وحكى السمعاني: أن الشيخ أبا على السنجي لما انصرف من عند الشيخ أبي حامد اجتاز به فرأى علمه وفضله، فقال له: يا أستاذ الاسم لأبي حامد والعلم والقلم لك، فقال: رفعته بغداد وحطتني الدينور. 163 - الكرخي أبو القاسم، منصور بن عمر بن على الكرخي -بالخاء المعجمة- البغدادي، قال الشيخ أبو إسحاق: هو شيخنا، تفقه على الشيخ أبي حامد وله عنه تعليقة، وصنف في المذهب كتاب "الغنية"، ودرس ببغداد، ومات بها في جمادي الآخرة سنة سبع وأربعين وأربعمائة. انتهى كلام الشيخ. نقل عنه الرافعي: أنه يستحب في التشهد إذا نشر أصابع اليسري أن يضمها، ثم كرر النقل عنه.

باب اللام

باب اللام

164 - ابن لال

باب اللام 164 - ابن لال أبو بكر أحمد بن على بن أحمد بن لال الهمذاني. ولال بلامين بينهما ألف معناه أخرس، أخذ عن أبي إسحاق المروزي وابن أبي هريرة، وكان ورعًا متعبدًا، أخذ عنه فقهاء همذان. ونقل عنه الرافعي قولًا: أن الإخوة للأبوين ساقطون في مسألة المشركة. ولد سنة سبع وثلاثمائة، ومات سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، قاله الشيخ في "الطبقات"، ونقله عنه في "التهذيب". وقفت له على تصنيف لطيف في العبادات خاصة سماه "شرح ما لا يسع المكلف جهله"، وقد سمي ابن سراقة تصنيفًا بنحو هذه التسمية أيضًا كما سبق في ترجمته. 165 - ابن اللبان أبو الحسين محمد بن عبد الله البصري الفرضي، المعروف بابن اللبان، قال الشيخ أبو إسحاق: كان إمامًا في الفقه والفرائض، صنف فيها كتبًا كثيرة ليس لأحد مثلها، وعنه أخذ الناس، وكان يقول: ليس في الأرض

فرضي إلا من أصحابي أو أصحاب أصحابي أو لا يحسن شيئًا، نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: أن زكاة الفطر لا تجب. مات في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وأربعمائة، وتصنيفه "الكبير" وغيره في الفرائض عندي به نسخة.

باب الميم

باب الميم

166 - محمد بن نصر المروزي

باب الميم 166 - محمد بن نصر المروزي أحد أئمة الإسلام، قال فيه الحاكم: هو الفقيه العابد العالم إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة. وقال الخطيب في "تاريخ بغداد": كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم. ولد ببغداد سنة ثنتين ومائتين، ونشأ بنيسابور، وتفقه بمصر على أصحاب الشافعي، وسكن سمرقند إلى أن توفي بها سنة أربع وتسعين ومائتين، ذكره النووي في "تهذيبه". صنف كتابا في الصلاة سماه "تعظيم قدر الصلاة" مشتملًا على أحاديث كثيرة وأحكام يسيرة يؤذن بسعة روايته وصحة درايته، وقفت عليه في مجلدة ضخمة، وتصنيفًا آخر في "قيام الليل" أكبر من هذا وقفت عليه في مجلدين ضخمين كتب في حياة المصنف وقرئ عليه، فإن تاريخ كتابتها وقراءتها في ربيع الأول سنة سبع وثمانين ومائتين، وكان من أحسن الناس صورة، ذا لحية بيضاء، وكان أبوه من مرو. نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: أنه قال: يكفي في صحة الوصية الإشهاد عليه بأن هذا الكتاب خطى وما فيه وصيتي، وإن لم يعلم الشاهد ما فيه، وكذا نقله عنه الإمام والمتولي، ورأيت بخطه في "طبقات العبادي"

عنه أنه تكفي الكتابة بلا شهادة بالكلية والمعروف خلاف الأمرين. ومنها: أن الإخوة ساقطون بالجد. ومنها: في تشطير الصداق، وغير ذلك. والمروزي نسبة إلى مرو، وزادوا عليها الزاي شذوذا، وهي إحدى مدن خراسان الكبار، فإنها أربعة: نيسابور، وهراة، وبلخ، ومرو وهي أعظمها، ولهذا يعبر أصحابنا بالخراسانيين تارة وبالمراوزة أخرى، والمراد بمرو إذا أطلقت مرو الشاهجان -بالشين المعجمة والجيم- ومعناه روح الملك فالشاه الملك، وجان هو الروح إلا أن العجم تقدم المضاف إليه على المضاف. وأما مرو الروذ فإنها تستعمل مقيدة، والروذ براء مهملة مضمومة وذال معجمة هو النهر بلغة فارس، والنسبة إلى الأولى مروزيكما سبق، وإلى الثانية مروروذي بثلاث راءات، وقد تخفف فيقال مروذي، وبين المدينتين دون ثلاثة أيام، وقد جمعها الأخطل الشاعر في قوله مخاطبًا ليزيد بن المهلب ابن أبي صفرة لما قبض عليه الحجاج بأمر عبد الملك بن مروان: أبا خالد بادت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد فلا أمطر المروان بعدك مطرة ... ولا اخضر بالمروين بعدك عود فما لسرير الملك بعدك بهجة ... ولا لجواد بعد جودك جود

167 - ابن المنذر

167 - ابن المنذر أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري نزيل مكة شرفها الله تعالى، أحد الأئمة الأعلام، لم يقلد أحدًا في آخر [عمره] (¬1)، قال الشيخ أبو إسحاق: توفي إما سنة تسع أو عشر وثلاثمائة، ونقله عنه النووي في "تهذيبه"، وابن خلكان في "تاريخه" مقتصرين عليه. قال الذهبي في "تاريخه": وهذا ليس بشيء؛ لأن محمد بن الحسن ابن عمار أحد الرواة عنه لقيه سنة ست عشرة وثلاثمائة، وله أيضًا تصانيف كثيرة وقع في منها "الإجماع" و"الإشراف" و"الإقناع" وهو أحكام مجردة كمحرر الرافعي حجمًا ونظمًا. 168 - أبو إسحاق المروزي أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي. كان إماما جليلًا غواصًا على المعاني ورعًا زاهدًا أخذ عن ابن سريج، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد، وانتشر الفقه عن أصحابه في البلاد، ثم انتقل في آخر عمره إلى مصر وجلس في مجلس الشافعي. قال العبادي: وخرج من مجلسه إلى البلاد سبعون إمامًا، وتوفي بمصر ¬

_ (¬1) سقط من ب.

سنة أربعين وثلاثمائة، قاله الشيخ أبو إسحاق. قال ابن خلكان: كان ذلك لتسع خلون من رجب، ودفن قريبًا من الشافعي، وقد شرح "المختصر" شرحًا مبسوطًا، وهو من أحسن ما وقفت عليه في شروحه. وحكى الرافعي عنه حكاية غريبة متعلقة بالقيافة، فقال: حكى الصيدلاني وغيره عن القفال عن الشيخ أبي زيد عن أبي إسحاق قال: كان لي جار ببغداد وله مال ويسار، وكان له ابن يضرب إلى السواد ولون الرجل لا يشبهه وكان يعرض بأنه ليس منه قال: فأتاني فقال: عزمت على الحج وأكبر قصدى أن أستصحب ابني وأريه بعض القافة، فنهيته: وقلت لعل القائف يقول بعض ما تنكره وليس لك ابن غيره، فلم ينته، وخرج فلما رجع قال لي: إني استحضرت مدلجيًا وأمرت بعرضه عليه في عدة رجال، كان فيهم الذي يرمي بأنه منه، وكان معنا في الرفقة، وغبت عن المجلس، فنظر القائف فيهم فلم يلحقه بأحد منهم فأخبرت بذلك، وقيل لي: احضر فلعله يلحقه بك فأقبلت على ناقة يقودها عبد لنا أسود كبير، فلما وقع بصره علينا قال: الله أكبر ذاك الراكب أبو هذا الغلام، والقائد الأسود أبو الراكب فغشي على من صعوبة ما سمعت، فلما رجعت ألححت على والدتي لتخبرني فأخبرتني أن أبي طلقها ثلاثًا ثم ندم، فأمر هذا الغلام بنكاحها للتحليل ففعل فعلقت منه، وكان ذا مال كثير وقد بلغ الكبر، وليس له ولد فاستلحقك ونكحني مرة ثانية.

169 - أبو بكر المحمودي

169 - أبو بكر المحمودي أبو بكر محمد بن محمود المروزي المعروف بالمحمودي. أخذ عن الإمام الحافظ الزاهد أبي محمد المروزي المعروف بعبدان -بفتح العين وبالباء الموحدة تثنية عبد- تلميذ المزني والربيع. ذكره الرافعي في مواضع، منها: في الحيض في الكلام على قول السحب واللقط. ومنها: أنه أبطل بيع الجارية المغنية إذا بيعت بأزيد من قيمتها لولا الغناء. لم أقف على تاريخ وفاته، ولكن ذكره العبادي في طبقة الإصطخري والثقفي، ولهم آخر يقال له: أبو الحسن المحمودي فاعلمه. 170 - أبو منصور بن مهران أبو منصور بن مهران شيخ الأودني، نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: جواز تقديم نية الصلاة على التكبير ولو بشيء يسير، واستحباب القنوت في الوتر في جميع السنة. لم أقف على تاريخ وفاته. ولهم آخر يقال له: أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ الزاهد

171 - القاضي أبو حامد المروروذي

[سمع] (¬1) ابن خزيمة، ونقل عنه الأستاذ إسماعيل الضرير في "تفسيره": أن اختيار الشافعي -رحمه الله- في سجود التلاوة ما ذكره أبو بكر بن مهران في كتاب سجود القرآن وهو: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، وهو في عصر هذا المذكور. 171 - القاضي أبو حامد المروروذي القاضي أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر العامري المروروذي. قال الشيخ في "طبقاته"، وتبعه عليه النووي في "تهذيبه": أخذ عن أبي إسحاق المروذي، ونزل البصرة وأخذ عنه فقهاؤها، وكان إمامًا لا يشق غباره، شرح "مختصر المزني"، صنف "الجامع في المذهب" وهو كتاب جليل، وصنف في أصول الفقه، ومات سنة ثنتين وستين وثلاثمائة، وكان له ولد عالم صنف كتبًا كثيرة. انتهى. نقل عنه الرافعي في التيمم، ثم كرر النقل عنه، وقد تقدم الكلام على المروروذي قريبًا. 172 - ابن المَرْزُبان أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي المعروف بابن المرزبان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

173 - أبو زيد المروزي

كان مشهورًا بالإمامة في المذهب ورعًا، أخذ عن ابن القطان، وأخذ عنه الشيخ أبو حامد أول قدومه بغداد. توفي في رجب سنة ست وستين وثلاثمائة، قاله الخطيب والشيخ أبو إسحاق والنووي في "تهذيبه". والمرزبان بميم مفتوحة وراء ساكنة ثم زاي معجمة مضمومة بعدها باء موحدة مخففة هو فارسي معرب، ومعناه كبير الفلاحين، وجمعه مرازبة، قاله الجوهري. نقل عنه الرافعي في مواضع محصورة، منها: أن الآجر المعجون بالروث يطهر ظاهره بالغسل. ومنها: في الإقرار، في الكلام على الأقارير المجملة. ومنها: في النكاح، في الكلام على ولاية العدو. ومنها: في الجنايات، في أوائل كتاب موجبات الضمان. ومنها: في أوائل كتاب الأيمان: أنه إذا نوى الاستثناء في أثناء اليمين فلا يكفي. 173 - أبو زيد المروزي أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله الفاشاني -بفاء وشين معجمة وبالنون- المعروف بالمروزي، كان شيخ الإسلام علمًا وعملًا وورعًا وزهدًا، جاور بمكة سبع سنين، وأخذ عن أبي إسحاق المروزي، وعنه أخذ القفال المروزي، وكان من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وقال فيه إمام الحرمين

174 - الماسرجسي

في باب التيمم: إنه كان من [أذكى الناس] (¬1) قريحة. ولد سنة إحدى وثلاثمائة، وتوفي بمرو سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، قاله الشيخ أبو إسحاق، وتبعه النووي في "تهذيبه". زاد ابن خلكان فقال: في يوم الخميس الثالث عشر من رجب. وفاشان قرية من قرى هراة إحدى مدن خراسان الأربع. قال السمعاني: ويقال له أيضًا: باشان بالباء الموحدة، وأما قاسان -بالقاف والسين المهملة- فناحية من نواحي أصفهان مشتملة على قرى، منها: راوند التي ينسب إليها ابن الراوندي المعروف، وقاشان -بالقاف والشين المعجمة- ناحية مجاورة لقم -بضم القاف وتشديد الميم- وكلاهما من عراق العجم. 174 - الماسرجسي أبو الحسن محمد بن علي الماسرجسي شيخ القاضي أبي الطيب. قال الحاكم: كان من أعرف أصحابنا بالمذهب، أخذ عن أبي إسحاق وصحبه إلى مصر، ولازمه إلى أن توفي، فانصرف إلى بغداد ودرس بها، وكان المجلس له بعد قيام ابن أبي هريرة، ثم انصرف إلى خراسان سنة أربع وأربعين، وتوفي بها عشية الأربعاء، ودفن عشية الخميس السادس من جمادي الآخرة سنه أربع وثمانين وثلاثمائة وهو ابن ست وسبعين سنة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

175 - المحاملي

انتهى. ونقل عنه النووي في "تهذيبه". وقال الشيخ أبو إسحاق: توفي سنة ثلاث وثمانين، وبه جزم في [صفة] (¬1) الصلاة من "شرح المهذب". وما سرجس أحد أجداده لأمه كان نصرانيًا فأسلم على يد عبد الله بن المبارك، وهو بسين مهملة مفتوحة وراء مهملة ساكنة بعدها جيم مكسورة ثم سين مهملة. نقل عنه الرافعي استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، ثم كرر النقل عنه، وحكى عنه في باب الديات أنه قال: رأيت صيادًا يرى الصيد على فرسخين، وكان له ولد اسمه محمد تفقه عليه، وعاش بعده خمس سنين. 175 - المحاملي أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد الضبي -بضاد معجمة- المعروف بالمحاملي، ويعرف أيضًا بابن المحاملي، وهو الأصل كما ستعرفه. قد تفقه على الشيخ أبي حامد وبرع حتى قال في حقه: إنه اليوم أحفظ منى للفقه. ولما صنف من تعليق أستاذه كتبه المشهورة "كالتجريد" و"المقنع" و"اللباب" وقف عليها فقال: نثر كتبي نثر الله عمره فلم تطل مدته، ومات ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يوم الأربعاء لتسع بقين من ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة عن نحو سبع وأربعين سنة، فإن ولادته في سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وكان له ولد يقال له: محمد، تفقه على أبيه، وكان فقيهًا عالمًا ذكيًا، ولكنه ترك الفقه واشتغل بالدنيا، ولولده هذا -وهو محمد- ولد يقال له: أبو طاهر يحيى، كان فقيهًا كبيرًا ورعًا كثير العبادة، جاور بمكة وتوفي بها وله مصنف في الفقه، وقد وقع في مختصر يقال له: "لباب الفقه" منسوب إلى أبي طاهر فيجوز أن يكون هو هذا، وقد سبق أن صاحب الترجمة الأصلية وهو أبو الحسن أحمد يعرف بابن المحاملي، وهو كذلك لأن أباه محمدًا كان يعرف بالمحاملي، وكان فقيهًا فرضيًا محدثًا، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ومات في رجب سنة سبع وأربعمائة، ومن أجداده القاضي أبو بكر عبد الله ابن الحسين بن إسماعيل، يعرف أيضًا بالمحاملي ذكره العبادي، وكذلك التفليسي فقال: سمع أباه وغيره وتولى القضاء سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وأقام به زمانا طويلًا ينتقل من إقليم إلى إقليم، وكان عفيفًا نزيهًا مات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، فتخلص أن هذه النسبة قديمة فيهم، وأنهم عريقون في العلم. ومن الأصحاب شخص آخر يقال له: أبو الحسن المحاملي الكبير، [ليس] (¬1) من هؤلاء، ذكره أيضًا العبادي، وقال: نقل عنه جماعة من أصحابنا، وإنه كان قديمًا معظمًا في زمانه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

176 - المسعودي

176 - المسعودي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن مسعود بن أحمد المروزي المعروف بالمسعودي، قال السمعاني: كان إمامًا فاضلًا مبرزًا عالمًا زاهدًا ورعًا حسن السيرة، تفقه على القفال، وشرح "المختصر" فأحسن فيه. توفي سنة نيف وعشرين وأربعمائة بمرو. انتهى. وذكر النووي في "تهذيبه" مثله. وقال ابن الصلاح: إنه محمد بن عبد الله. وكذا رأيته بخط الحافظ أبي القاسم ابن عساكر، وذكر أيضًا أنه المعروف بالصيدلاني كما تقدم إيضاحه. نقل عنه الرافعي في الوضوء، ثم كرر النقل عنه. واعلم أن كتاب "الإبانة" للفوراني قد وقع في بلاد اليمن منسوبًا إلى المسعودي هذا غلط، فحيث وقع في "البيان" نقل عن المسعودي فالمراد به الفوراني، كذا نبه عليه ابن الصلاح في "طبقاته"، وتبعه عليه النووي في "تلخيصها"، ولم يتفطن الرافعي لذلك، وهو كثير النقل عن "البيان"، فإذا رأيت فيه -أعني في الرافعي- نقلًا عن المسعودي، فإن كان بوساطة صاحب "البيان" فالمراد به الفوراني، فإن كان من غير طريقه فهو المسعودي حقيقة، فتفطن لذلك، فإن النووي لم ينبه عليه في "الروضة"، بل تابعه على ذلك وكأنه لم يطلع عليه إذ ذاك.

177 - القطان صاحب "المطارحات"

177 - القطان صاحب "المطارحات" أبو عبد الله الحسين بن محمد المعروف بالقطان وبصاحب "المطارحات"، قال النووي: إنه من أصحابنا أصحاب الوجوه. ذكره الرافعي في آخر الغصب، ونقل عنه: أن الجارية إذا حبلت من الغاصب وماتت في يد المالك أنه إن كان عالمًا: فلا شيء عليه؛ لأنه ليس منه حتى يقال: ماتت بولادة ولده، وإن كان جاهلًا: فعلى قولين، والأصح: وجود الضمان مطلقًا. لم أقف له على تاريخ وفاة. "والمطارحات" تصنيف لطيف وضع للامتحان؛ ولهذا لقب "بالمطارحات" وهو قليل الوجود، وعندي به نسخة. وبعضهم ينسبه لأبي الحسين بن القطان السابق ذكره وهو وهم فاجتنبه. ومن أصحابنا شخص يقال له: أبو على القطان الطبري، ذكره العبادي في طبقة الزجاجي صاحب "زيادة المفتاح". 178 - الماوردي أقضى القضاة أبو الحسن على بن حبيب الماوردي البصري. قال الشيخ أبو إسحاق: تفقه بالبصرة على أبي القاسم الصيمري، ثم

179 - الماخواني

ارتحل إلى الشيخ أبي حامد الإسفراييني فأخذ عنه. درس بالبصرة وبغداد سنين كثيرة، وله مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والآداب، وكان حافظًا للمذهب. انتهى. ونقل عنه في "المهذب" في مواضع: أحدها: في كتاب النفقات في بيع المرأة للكسوة. والثاني: في الجنايات في الفصل المعقود للمأمومة. والثالث: في آخره قبيل كتاب السير بأسطر. والرابع: في كتاب الشهادات في ضابط عدد الاستفاضة، ولم ينصفه إمام الحرمين في تصنيفه المسمى "بالغياثي" فقال: وذكر مصنف "الأحكام السلطانية": إنه يجوز أن يكون الذمي وزيرًا، ومن هذا مبلغ علمه ومنتهى فهمه كيف يتصدى للتصنيف والفتوى؟ ، هذا كلامه. والذي جوزه الماوردي إنما هو وزارة التنفيذ دون التفويض فاعلمه. توفي ببغداد بعد موت القاضي أبي الطيب بأحد عشر يومًا، وذلك يوم الثلاثاء في سلخ ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة وله ست وثمانون سنة، ودفن يوم الأربعاء بباب حرب، وحضر جنازته من حضر جنازة القاضي أبي الطيب من العلماء والرؤساء، ذكره النووي في "طبقاته". 179 - الماخواني أبو الفضل محمد بن عبد الرزاق الماخواني، إمام فاضل متبحر.

180 - المقدسي

تفقه على أبي طاهر السنجي. توفي سنة نيف وستين وأربعمائة، قاله ابن السمعاني في "الأنساب"، والماخواني نسبة إلى ماخوان -بخاء معجمة مضمومة وبالنون- وهي قرية من قرى مرو. نقل الرافعي عنه في الباب الثاني في أركان الطلاق: أنه إذا قال: لك طلقة، لا يقع به شيء. 180 - المقدسي الشيخ أبو [الفتح] (¬1) نصر [بن إبراهيم] (¬2) المقدسي النابلسي شيخ المذهب بالشام، وصاحب التصانيف المشهورة والعمل الكثير والزهد الصادق، تفقه على سليم الرازي، وأقام بالقدس مدة طويلة، ثم قدم دمشق سنة ثمانين وأربعمائة فسكنها وعظم شأنه بها وزاره السلطان فلم يقم له ولا التفت إليه، وكان لا يقبل من أحد شيئًا بل يقتات من غلة أرض له بنابلس، وحضر الغزالي إلى حلقته لما قدم دمشق للتبرك به. توفي يوم تاسوعاء سنة تسعين وأربعمائة عن نيف وثمانين سنة، قاله ابن عساكر في "تاريخ الشام"، والنووي في " تهذيبه"، وخرجوا بجنازته بعد صلاة الظهر، فلم يتيسر دفنه إلا قرب المغرب، ودفن بمقابر باب الصغير. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

181 - إبراهيم المروروذي

وقع لي من تصانيفه "التهذيب" و"المقصود" و"الكافي" و"شرح الإشارة"، تكرر ذكره في "الروضة". 181 - إبراهيم المروروذي أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد المروروذي. تفقه على الحسن النيهي الآتي ذكره، وأبي المظفر السمعاني السابق، قال أبو سعد السمعاني: كان من العلماء العاملين، وصارت إليه الرحلة في طلب العلم بمرو وأوصاه والدي علينا، فكان يقوم بأمورنا أتم قيام، ثم قال: قتل -رحمه الله- شهيدًا في وقعة الخوارزمية بمرو في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة عن ثلاث وثمانين سنة، وله تعليقة نقل الرافعي عنها في استقبال القبلة، ثم كرر النقل عنها، وهو منسوب إلى مرو الروذ -بذال معجمة- وقد سبق إيضاحه.

باب النون

باب النون

182 - أبو الوليد النيسابوري

باب النون 182 - أبو الوليد النيسابوري أبو الوليد حسان القرشي النيسابوري من ولد سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس، ولهذا يعبر عنه الرافعي وغيره في بعض المواضع بحسان القرشي. قال الحاكم: كان إمام أهل الحديث بخراسان وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم وأكثرهم تقشفًا ولزوما لمدرسته وبيته، درس على ابن سريج. انتهى كلامه. وشرح "رسالة الشافعي" شرحًا حسنًا وهو قليل الوجود، وعندي به نسخة. نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: بطلان الصلاة بتكرير الفاتحة، وأنه يقنت في الوتر في [جميع السنة، وأنه يجوز الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرادي. [توفي] (¬1) ليلة الجمعة الخامس من ربيع الأول سنة تسع وأربعين وثلاثمائة عن ثنتين وسبعين سنة، قاله الحاكم، وذكر السمعاني في "الأنساب" والنووي في "تهذيبه" نحوه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

183 - النسوي

183 - النسوي أبو الحسن النسوي -بنون مفتوحة وسين مهملة- منسوب إلى نسا مدينة معروفة. نقل عنه الرافعي في أواخر باب النذر: أنه إذا نذر أن يضحي ببدنة من الإبل ولم يجدها ووجد ثلاث شياه بقيمتها أجزأته لوفائهن بالقيمة. ثم ترجم له الرافعي في هذا الموضع فقال: وهو شيخ من أصحابنا، كان في زمن أبي إسحاق وابن خيران. هذه عبارته. ولهم نسوي آخر يقال له: أبو الفضل محمد بن محمد بن إبراهيم متأخر عن هذا، ذكره العبادي والشيخ أبو إسحاق. قلت: وكان أبو الفضل هذا في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة موجودًا مقيمًا في بغداد، كذا رأيته في "تاريخ جرجان" للسهمي في ترجمة أبي بكر الإسماعيلي، وذكر الفارسي في "ذيل تاريخ نيسابور" نسويا آخر فقال: أبو بكر محمد بن زهير النسوي الفقيه الخطيب مقدم أصحاب الشافعي بنسا ومفتيهم ومحدثهم، تفقه ببغداد وتوفي ببلده ليلة الفطر سنة ثمان عشرة وأربعمائة، والذي ذكره يحتمل أن يكون هو المذكور في الرافعي ولكن اختلفت الكنية.

184 - الحافظ أبو نعيم صاحب "الحلية"

184 - الحافظ أبو نعيم صاحب "الحلية" الحافظ أبو نعيم -بضم النون- أحمد بن عبد الله الأصبهاني صاحب "الحلية" وغيرها، الجامع بين الفقه والحديث والتصوف. قال الخطيب: لم ألق في شيوخي أحفظ منه ومن أبي حازم الأعرج. ولد في رجب سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي يوم الأحد الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة. وذكر ابن خلكان في "السنة" مثله. نقل عنه في "الروضة" في أثناء كتاب القضاء في الكلام على الرواية بالإجازة: أن المجاز يجوز له أن يجيز كما هو المعروف. 185 - أبو عبد الله النيهي أبو عبد الله الحسن بن عبد الرحمن النيهي تلميذ القاضي الحسين، وأستاذ إبراهيم المروزي السابق ذكره. قال ابن السمعاني: كان إماما فاضلًا عارفًا بالمذهب ورعًا، انتشر عنه الأصحاب، وكانت وفاته في حدود سنة ثمانين وأربعمائة. نقل الرافعي عنه في أوائل حد القذف، فقال: ولو قال: يا مؤاجر فليس بصريح في القذف.

186 - النووي

وعن الشيخ إبراهيم المروذي، أنه حكى عن أستاذه النيهي أنه صريح لاعتياد الناس القذف به. واعلم أن النيهي هذا هو عم عماد الدين عبد الرحمن بن عبد الله الذي نقل عنه ابن الصلاح في فوائد رحلته: أنه لا يصح بيع الفقاع حتى يصبه ويراه. والنيهي منسوب إلى نيه -بنون مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم هاء- وهي بلدة صغيرة بين سجستان وإسفرايين. 186 - النووي الشيخ محي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف الحزامي -بحاء مهملة مكسورة بعدها زاي معجمة- النووي. هو محرر المذهب ومهذبه ومنقحه ومرتبه، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة السابق في الخطبة [تفصيلها] (¬1). ولد في العشر الأول من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوي من الشام من عمل دمشق، وقرأ بها القرآن، وقدم دمشق في سنة تسع وأربعين، وقرأ "التنبيه" في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع "المهذب" في بقية السنة، ومكث قريبًا من سنتين لا يضع جنبه إلى الأرض، وكان يقرأ في اليوم والليلة اثنى عشر درسًا على المشايخ في عدة من العلوم، وتفقه على جماعة، منهم: الكمال سلار الأربلى، والكمال إسحاق المغربي وأكثر ¬

_ (¬1) سقط من ب.

انتفاعه عليه. وكان -رحمه الله- على جانب كبير من العمل والزهد والصبر على خشونة العيش، وكان لا يدخل الحمام ولا يأكل من فواكه دمشق لما في ضمانها من الحيلة والشبهة، وكان يتقوت مما يأتي من بلده من عند أبويه، ولا يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم والليلة بعد عشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولا يشرب بالثلج كما يعتاده الشاميون، ولم يتزوج، وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف، وكان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر يواجه به الملوك فمن دونهم، وحج مرتين. تولى دار الحديث الأشرفية سنة خمس وستين فلم يأخذ من معلومها شيئًا إلى أن توفي، وكان يلبس ثوبًا قطنًا وعمامة سختيانية، وكان في لحيته شعرات بيض، وعليه سكينة ووقار في البحث مع الفقهاء وفي غيره، ولم يزل على ذلك إلى أن سافر إلى بلده وزار القدس والخليل، ثم عاد إليها فمرض بها عند أبويه، وتوفي في ليلة الأربعاء رابع وعشرين شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، ودفن ببلده -رضي الله عنه وعنا-.

باب الهاء

باب الهاء

187 - ابن أبي هريرة

باب الهاء 187 - ابن أبي هريرة القاضي أبو على الحسن بن الحسن البغدادي، المعروف بابن أبي هريرة أحد أئمة الشافعية. تفقه بابن سريج، ثم بأبي إسحاق المروزي، وصحبه إلى مصر، ثم عاد إلى بغداد، ومات بها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، قاله الشيخ أبو إسحاق. زاد ابن خلكان: في رجب، وكان معظمًا عند السلاطين فمن دونها، وقفت له على شرحين "للمختصر" مبسوط ومختصر في جزء واحد. 188 - الهروي القاضي أبو سعد بسكون العين [محمد بن أحمد بن يوسف الهروي، أخذ عن أبي عاصم العبادي] (¬1)، وشرح تصنيفه في آداب القضاء، وهو شرح مشهور مفيد [سماه "الإشراف على غوامض الحكومات"] (¬2) وتولى القضاء بهمذان. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

189 - إلكيا الهراسي

نقل عنه الرافعي في مواضع، منها: عيوب البيع والإقرار والغصب والدعاوي وغيرها، وبالغ في الاعتماد على شرحه المذكور والتقليد له، فتارة يصرح باسمه وتارة يقول: بعض أصحاب العبادي، فتفطن له. واعلم أن عبد الغافر الفارسي ذكر في كتاب "الذيل": أن القاضي أبا سعد محمد الهروي قتل شهيدًا مع أبيه في جامع همذان في شعبان سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وأنه كان رجلًا من الرجال، وداهية من الدهاة، إلا أنه خالف المذكور أولًا في الأب والجد فقال: محمد بن نصر بن منصور، فيجوز أن يكون غيره وفيه بعد. 189 - إلكيا الهراسي أبو الحسن عماد الدين على بن محمد الطبري المعروف بإلكيا الهراسي، تفقه ببلده، ثم رحل إلى نيسابور قاصدًا إمام الحرمين وعمره ثماني عشرة سنة، فلازمه حتى برع في الفقه والأصول والخلاف، وطار اسمه في الآفاق، وكان هو والغزالي والخرافي -بالخاء المعجمة والفاء- أكبر تلامذته ومعيدي درسه، وكان إماما نظارًا قوى البحث دقيق الفكر ذكيا فصيحًا جهوري الصوت، حسن الوجه جدًا، خرج إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم قدم بغداد وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، واستمر مدرسًا بها عظيم الجاه رفيع المحل تخرج عليه الطلبة إلى أن توفي في أول المحرم سنة أربع وخمسمائة وعمره أربع وخمسون سنة، قاله عبد الغافر في "الذيل"، وتبعه ابن خلكان وغيره، ودفن في تربة الشيخ أبي

190 - أبو الفتح الهروي

إسحاق، كان ممن حضر جنازته الشريف أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني مقدما أصحاب أبي حنيفة، وكان بينه وبينهما منافسة، فوقف [أحدهما] (¬1) عند رأس قبره والآخر عند رجليه، فأنشد ابن الدامغاني: وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس وأنشد الشريف: عقم النساء فلم يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم نقل عنه في "الروضة" في موضع واحد، وهو في أوائل القضاء: أن العامي يلزمه أن يقلد مذهبًا معينًا، ونقل عن ابن برهان عكسه، ثم رجحه - أعني النووي-. وإلكيا بهمزة مكسورة ولام ساكنة ثم كاف مكسورة أيضًا بعدها ياء بنقطتين من تحت، معناه الكبير بلغة الفرس، والهراس براء مشددة وسين مهملتين لا أعلم نسبته إلى أي شيء. 190 - أبو الفتح الهروي أبو الفتح الهروي أحد أصحاب الإمام، نقل عنه الرافعي في أوائل القضاء: أن مذهب عامة أصحابنا: أن العامي لا مذهب له. لم أعلم تاريخ وفاته. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

باب الواو

باب الواو

191 - ابن الوكيل

باب الواو 191 - ابن الوكيل أبو حفص عمر بن عبد الله، المعروف بابن الوكيل، ويعرف أيضًا بالباب شامي نسبة إلى باب الشام، وهي إحدى المحال الأربع بالجانب الغربي من بغداد. قال المطوعي: كان فقيهًا جليلًا من نظراء ابن سريج، وكبار المحدثين والرواة وأعيان النقلة، تفقه على الأنماطي، وتوفي ببغداد بعد العشرة وثلاثمائة. نقل عنه الرافعي في آخر التيمم ثم كرر النقل عنه. 192 - الواحدي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد النيسابوري الواحدي، أصله من ساوه من أولاد التجار، وكان فقيهًا إمامًا في النحو واللغة وغيرهما، وأستاذ عصره في التفسير، وله التصانيف المعروفة فيه وفي غيره، ومن تصانيفه فيه "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز" ومنه أخذ الغزالي هذه الأسماء، وكان له شعر حسن. توفي بنيسابور بعد مرض طويل في جمادي الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة، قاله ابن خلكان وغيره، نقل عنه في "الروضة" في مواضع من كتاب السير في الكلام على السلام.

باب الياء

باب الياء 193 - إبراهيم بن يوسف إبراهيم بن يوسف، ذكره النووي في "تهذيبه" فقال: إنه من أصحابنا، مذكور في "الروضة" قبيل كتاب الرجعة بأسطر ولم يزد على ذلك. وقال الحاكم في "تاريخ نيسابور": إبراهيم بن يوسف بن لقمان الفقيه البخاري، نزيل نيسابور في دار السنّة، أفادني بعض أصحابنا بخطه عنه أحاديث. انتهى. ذكره الرافعي قبيل الرجعة بدون صفحة فقال: إن أبا العباس الرويانى حكى أن امرأة قالت لزوجها: اصبغ لي ثوبًا يكن لك فيه أجر، فقال الرجل: إن كان لي فيه أجر فأنت طالق، فقالت المرأة: وقد استفتيت في ذلك إبراهيم بن يوسف العالم، فقال: إن كان إبراهيم بن يوسف عالمًا فأنت طالق. فاستُفتى المذكور فقال: لا يحنث في الأولى لأنه مباح، والمباح لا أجر فيه، ويحنث في الثانية، لأن الناس سموني عالمًا، وقيل: يحنث في الأولى أيضًا، وصححه الروياني. لم أعلم تاريخ وفاته.

194 - محمد بن يحيي

194 - محمد بن يحيي أبو سعد -بسكون العين- محمد بن يحيي النيسابوري. تفقه على الغزالي وصار أكبر تلامذته، وشرح "الوسيط" وسماه "المحيط"، وعلق في الخلاف تعليقة مشهورة، وقد وقفت على التصنيفين، درس بنظامية نيسابور ونظامية هراة. وقال النووي في "تهذيبه": كان إمامًا بارعًا في الفقه والزهد والورع، رحل إليه الناس من الأقطار وتخرجوا به فصاروا أئمة فضلاء، قتلته الغُزّ (¬1) منا جملة خلق كثير لما استولوا على نيسابور في رمضان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. هذا كلامه. وقال غيره: قتلوه بدس التراب في فيه لما خرجوا على سنجر السلجوقي. وقال ابن السمعاني: قتل في الجامع حادي عشر من شوال سنة تسع وأربعين، وكان مولده -كما قاله ابن خلكان- سنة ست وسبعين وأربعمائة ببعض أعمال نيسابور. نقل عنه الرافعي في باب المياه والتيمم وشروط الصلاة وصلاة الجنازة ومواضع أخري محصورة. وقد انتهى ما أردناه من تراجم هذه السادة الأعلام أئمة الإسلام، وقد سبق ¬

_ (¬1) قال الإسنوى فى "طبقاته": الغز يعنى التركمان.

في ترجمة الشافعي -رضي الله عنه-: إنه قد نقل أنه أصابته ضربة شديدة فمات بسببها، وحينئذ فيكون من حصل الافتتاح به والاختتام به شهيدين، وحصل الافتتاح أيضًا بمحمد، والاختتام بمحمد وأول والد الأول أول الحروف، وأول والد الأخير آخر الحروف، وهذه اتفاقات غريبة ومناسبات صالحة مشعرة بأن البركة قد حفتهم، وجزيل الثواب قد عمهم -رضي الله عنهم أجمعين-، ونفعنا بهم بمنه وكرمه آمين. انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني ويبدأ بكتاب الطهارة.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء الثَّاني مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (2)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة قوله: قال الغزالي -رحمه الله-: وفيه ثمانية أبواب. الباب الأول: في المياه الطاهرة أراد بالطاهرة التي ترجم لها بقوله: كتاب الطهارة، بعض أنواع الطهارة وهو الطهارة بالماء وإلّا فمن شرطه إدراج التيمم في أبوابه؛ لأنه أحد الطهارات ألا ترى إلى قول الشافعي الرافعي -رحمه الله-: طهارتان فكيف يفترقان؟ فلما أفرده بكتاب دل على أن المراد: الطهارة بالماء انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي هنا ذهول عجيب بل أراد الغزالي جميع أفراد الطهارة ولا تخصيص في كلامه، فإن التيمم عنده وعند إمامه] (¬1) ليس بطهارة حتى بالغ الإمام فقال مشيرًا للقول بالتطهير: وهذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف فإن التراب غير مطهر وإنما تعلقت به إباحة بسبب ضرورة. هذه عبارته. قوله: المطهر للحدث والخبث هو الماء من بين سائر المائعات. اعلم أنه قد عبر في "المحرر" بقوله: ولا يجوز رفع حدث ولا إزالة نجس إلا بالماء المطلق، وتعبيره ناقص فإنه يشترط الماء المطلق أيضًا في طهارة دائم الحدث كالمستحاضة، وفي الكرة الثانية والثالثة، والوضوء المجدد والأغسال المسنونة، وفي غسل الميت والذمية والمجنونة لتحلان لزوجهما، وذلك كله لا تتناوله العبارة المذكورة لأنه لا يرفع حدثًا ولا نجسًا. وهذه الإيرادات قد لا ترد على عبارة "الشرح" و"الروضة"؛ لأن هذه الأمور وإن لم ترفع فهي طهارة، والطهارة إما عن حدث، أو: خبث، وحينئذ فتكون لام الجر الداخلة على قوله للحدث هي لام التعليل، لا اللام ¬

_ (¬1) نهاية سقط كبير جدًا من جـ.

الزائدة الداخلة على مفعول العوامل الفرعية لتقوية التعدية كما في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬1). فاعلمه. والظاهر أن الرافعي لم يرد شيئًا من ذلك، وإنما أراد ما صرح به في "المحرر" ويدل عليه أن "المحرر" متأخر عن "الشرح" فلو كان ما في "الشرح" أولى عنده مما في "المحرر" لم يعدل عنه في "المحرر" قطعًا فدل على أنهما عنده سواء، ولو عبر بـ (في) فقال: المطهر في الحدث والخبث لكان أظهر في دفع الاعتراض. قوله: الثاني: لم قال من بين سائر المائعات، ولم يقتصر على قوله: والمطهر للحدث والخبث هو الماء؟ والجواب أنه لو اقتصر عليه لأشكل بالتراب فإنه مطهر، وليس بماء. واعلم أنه لو أراد تخصيص الطهورية في الحدث والخبث جميعًا [بالماء] (¬2) لم يلزم هذا الإشكال لكنه لم يرد التخصيص في الفصلين جميعًا، وإنما أراد التخصيص في كل واحد منهما فوجب الاحتراز انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: في تقرير هذا الكلام فإنه مشكل بعيد عن الفهم لاسيما على المتفقهة، وذلك لعلاقة المعنى الذي يحاوله وتعقيد اللفظ الذي عبر به عنه، وإذا أردت تحقيق ذلك فتأمل كلامه قبل نظرك في تقريرنا له. والثاني: فيما يرد عليه. فأما الأول: فلابد من تقديم مقدمة عليه وهي: أن الحكم على متعدد ¬

_ (¬1) البروج: 16. (¬2) سقط من أ.

تارة يكون على الهيئة الاجتماعية كقولك: شرب الماء والمسكر حرام، فإن هذا الحكم وهو التحريم ثابت للمجموع لأن المسكر من جملته وهو على انفراده حرام، ولا يصح أن يكون ثابتًا لكل واحد وإلا لزم تحريم الماء، وتارة يكون على كل واحد كقولك: زيد وعمر وبكر يشبعهم رغيفان أي كل واحد على انفراده لا الهيئة الاجتماعية. ومن الأول: كل رجل يحمل الصخرة العظيمة، ويسمى الكلى المجموعي. [ومن الثاني كل رجل يشبعه رغيفان غالبًا ويسمى الكلي التفصيلى] (¬1) إذا علمت ذلك فقول الغزالي: المطهر للحدث والخبث هو الماء إن أراد كل واحد واحد فلابد من تقييده بقوله: من بين سائر المائعات. إذا لو لم يقله لكان يرد عليه في الحدث؛ لأن التراب مطهر له في التيمم، ولا يرد في الخبث لأن التراب لا مدخل له فيه. وإن أراد الهيئة الاجتماعية لم يحتج إلى التقييد بذلك لأن المجموع لا يطهره إلا الماء، إذ من جملته الخبث، والخبث لا مدخل للتراب فيه، وهذا تقدير كلامه فنزله عليه. وقوله فيه لم يلزم هذا الإشكال، مراده بالإشكال هو السؤال الذي أجاب عنه فاعلمه. وهذالسؤال لا يرد على "المحرر" لأنه نفي كل واحد منهما فقال: ولا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس إلا بالماء وهي عبارة حسنة. [وفي بعض نسخ الرافعي لما لزم هذا الإشكال أي بإثبات ما النافية ¬

_ (¬1) سقط من ب.

وهذه النسخة واضحة] (¬1). وأما ما يرد عليه فأمور: منها: أن ما ذكره من عدم الإيراد على تقدير إرادة المجموع عجيب، فإن التراب مطهر للخبث أيضًا في النجاسة المغلظة، وحينئذ: فليست الطهارة في الخبث مختصة بالماء على الإطلاق بل من بين المائعات خاصة، وكذلك ما يدبغ به كالشب والقرظ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس في الماء والقرظ ما يطهر" (¬2). ومنها: أن جعل قوله: من بين المائعات قيدًا لإخراج التيمم [لا يستقيم] (¬3) لما سبق التنبيه عليه من أن التيمم عند الإمام والغزالي ليس طهارة وأيضًا فإنه لا يعلم معه انتفاء التطهير بالجامدات، وهذا موضع بيانه. فيقول القائل: قد علمنا حكم المائعات فما حكم الجامدات وغيرها. هل تدخل شرعًا في التطهير أم لا؟ فإنه قد قيل بذلك في أشياء كالشمس والريح والنار ومرور الزمان [وإلقاء الكلب في المملحة] (¬4) نحوها. وقد اغتر في "الروضة" بكلام الرافعي فصرح بجعله قيدًا فقال: المطهر للحدث والخبث من المائعات الماء المطلق خاصة هذه عبارته. وقد تفطن في "المحرر" لذلك فلم يذكره وتبعه عليه في "المنهاج" وهو الصواب. وإنما أراد الغزالي بما ذكره التنصيص على نفي التطهير عن المائع بخصوصه لأن القول به فيه أقرب من غيره. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ، ب.

قوله: ثم منهم من يفسر المطلق بالباقي على أوصاف الخلقة ومنهم من يفسره بالعاري عن القيود والإضافات انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الذي يخرج الماء عن الإطلاق تقييده بأحد ثلاثة أشياء: إما بالإضافة كماء الورد والأشنان. وإما بالصفة: كقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} وقوله {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (¬1) يعني المنى. وإما بلام العهد: كقوله في الحديث: "نعم إذا رأت الماء" (¬2) يعني المنى أيضًا. وإلى هذه الثلاثة أشار الرافعي بقوله: العاري عن القيود والإضافات، إلا أنه لو أفرد لكان أحسن. واختصره في "الروضة" بعبارة أخرجت الصفة ولام العهد فقال: والمطلق هو العاري عن الإضافة اللازمة وقيل: الباقي على وصف خلقته هذه عبارته. والغريب أن الرافعي قد عبر أيضًا في "المحرر" بالإضافة فعدل في "المنهاج" إلى التعبير بالقيد، فليته لو فعل ذلك أيضًا هنا. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يصحح شيئًا من التفسيرين في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح هو التفسير الثاني فقد جزم به الرافعي في "المحرر" ونص عليه الشافعي -رحمه الله- في "البويطي". وصححه أيضًا النووي في كتبه ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي. وفي "شرح التهذيب" المسمى "بالوافي"، "ونكت المهذب" لابن الصلاح: أنه إنما سمى مطلقًا لأن الماء إذا أطلق انصرف إليه. ¬

_ (¬1) سورة المرسلات (20). (¬2) أخرجه البخارى (130) ومسلم (313) من حديث أم سلمة -رضى الله عنها-.

الأمر الثالث: أن التفسيرين معًا يرد عليهما المتغير بطول المكث وبالمجاور، وبما يعسر صون الماء عنه فإنه طهور، وإن كان التغيير كثيرًا يمنع إطلاق الاسم كما ستعرفه. وكذلك ما حوالي النجاسة العينية فإن الحدين صادقان عليه، ومع ذلك لا يجوز استعماله على القول الجديد الموجب للتباعد كما هو مقرر في موضعه. قوله: المستعمل طاهر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه" (¬1) وهل هو طهور أم لا؟ . ¬

_ (¬1) قال الحافظ: حديث: روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا ما غير طعمه أو ريحه لم أجده. هكذا وقد تقدم فى حديث أبى سعيد بلفظ: إن الماء طهور لا ينجسه شئ، وليس فيه: خلق الله، ولا الاستثناء. وفى الباب كذلك عن جابر بلفظ: إن الماء لا ينجسه شئ، وفيه قصة رواه ابن ماجه وفى إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف متروك وقد اختلف فيه على شريك الراوى عنه وعن ابن عباس بلفظ: الماء لا ينجسه شئ. رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان ورواه أصحاب السنن بلفظ: إن الماء لا يجنب وفيه قصة. وقال الحازمى: لا يعرف مجودا إلا من حديث سماك بن حرب عن عكرمة وسماك مختلف فيه وقد احتج به مسلم وعن سهل بن سعد رواه الدارقطنى وعن عائشة بلفظ: إن الماء لا ينجسه شيء. رواه الطبرانى فى الأوسط وأبو يعلى والبزار وأبو على بن السكن فى صحاحه من حديث شريك، ورواه أحمد من طريق أخرى صحيحة لكنه موقوف. وفى المصنف والدارقطنى من طريق داود بن أبى هند عن سعيد بن المسيب قال: أنزل الله الماء طهورا لا ينجسه شيء. وأما الاستثناء فرواه الدارقطنى من حديث ثوبان بلفظ: الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه. وفيه رشدين بن سعد وهو متروك وقال بن يونس: كان رجلا صالحا لا شك فى فضله أدركته غفلة الصالحين فخلط فى الحديث. وعن أبى أمامة مثله رواه ابن ماجه والطبرانى وفيه رشدين أيضًا ورواه اليهقى بلفظ: إن الماء طاهر إلا أن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه. أورده من طريق عطية بن بقية عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبى أمامة وفيه تعقب على من زعم أن رشدين بن سعد تفرد بوصله، ورواه الطحاوى والدارقطنى من طريق راشد بن سعد مرسلا بلفظ: الماء لا ينجسه شيء إلا ما =

قال في الجديد: لا. وحكى عن القديم: إنه طهور لأنه ماء باق على إطلاقه، ومنهم: من لم يثبت هذا القول انتهى ملخصًا. وحاصل كلامه: أن في المسألة طريقتين. إحداهما: إثبات قولين. والثانية: القطع بأنه ليس بطهور. وسبب التردد على ما قاله الأصحاب ونقله النووي في "شرح المهذب": أن عيسى بن أبان -من الحنفية- نقل عن القديم أنه طهور؛ فمنهم من قبل روايته وأثبت قولين؛ لأنه رجل ثقة وقد نقل، ومنهم من لم يقبلها قال: لأن هذا النقل ليس موجودًا في شيء من كتب الشافعي فنقول: أخذه ابن أبان منها ولم يعاصره أيضًا حتى نقول: سمعه منه، ولعله تأول كلام الشافعي في نصرة طهارته ردًا على أبي يوسف حيث ذهب إلى نجاسته فحمله على جواز الطهارة به. إذا علمت ما قلناه ففيما تقدم أمور: أحدهما: أن الأصح من الطريقين هو: طريقة القولين؛ فقد صححها الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: وفي طهوريته قولان: الجديد: المنع، ¬

_ = غلب على ريحه أو طعمه. زاد الطحاوى: أو لونه. وصحح أبو حاتم إرساله قال الدارقطنى فى العلل: هذا الحديث يرويه رشدين بن سعد مرسلا، وقال أبو أسامة عن الأحوص عن راشد قوله: قال الدارقطنى: ولا يثبت هذا الحديث، وقال الشافعي: ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه ولونه كان نجسا يروى عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله وهو قول العامة لا أعلم بينهم خلافًا. وقال النووى: اتفق المحدثون على تضعيفه. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس.

والقديم: أنه طهور، ومن الأصحاب من قطع بالمنع، هذا لفظه. وصححها أيضًا النووي فقال في "شرح المهذب": الصواب طريقة القولين، وقال في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" هنا: إنها أصح الطريقين وأشهرهما، وقال فيه أيضًا قبل باب الاجتهاد: إنها أشهر الطريقين. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" لما اختصر كلام الرافعي صحح طريقة القطع فقال: وليس بطهور على المذهب، وقيل: طهور على القديم هذا لفظه. فانظر كيف عبر بقوله، وقيل: طهور على القديم ولم يقل: وطهور على القديم. وقد أوضح ذلك في كتاب "الإشارات" الذي هو على "الروضة" "كالدقائق" على "المنهاج" فقال: وأما قولى: وقيل: طهور على القديم فمعناه أن فيه طريقين؛ المذهب: القطع بأنه ليس بطهور، والثانية: على قولين هذا كلامه. إذا علمت ذلك ففي كلام الروضة مناقشتان. إحداهما: أن الرافعي لم يصحح شيئا أصلًا، بل صحح في كتاب آخر عكس ما أدخله النووي في كلامه. الثانية: أن هذا التصحيح مناقض لما ذكره في "شرح المهذب" "وشرح الوسيط" كما تقدم. والصواب خلاف ما في "الروضة" لأن الجمهور على خلافه كما سبق، ورأيت في كتاب "التقاسيم" للمرعشي أن أبا ثور روى هذا القول أيضًا.

فعلى هذا يثبت القول بلا محالة لاندفاع ما استندوا إليه في رده وهو عدم المعاصرة، فإن أبا ثور أحد رواة القديم، لكن في هذا النقل وقفة فقد قال سليم الرازي في "التقريب": وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله عن الماء المستعمل فتوقف فيه، وهذا لا يفيد شيئًا، هذه عبارة سليم، وذكر غيره نحوه. وهذه الحكاية لا تفيد إثبات القول لأمرين. أحدهما: التوقف. والثاني: أنه يجوز أن يريد بأبي عبد الله أحمد بن حنبل لا الشافعي. واعلم أن النووي يدعى أنه لم يزد في كلام الرافعي شيئًا، وأنه لم يذكر تصحيحًا في مسألة إلا إذا ذكره الرافعي فقال في باب الأذان من كتاب "الإشارات" السابق ذكره، ولم أذكر [أن الأظهر] (¬1) في الفائتة أنه لا يؤذن لها اعتمادًا على [أن الأظهر] (¬2) قول الرافعي الجديد من حيث إن الغالب تصحيح الجديد؛ بل لأن الرافعي صرح به بعد ذلك، فإن هذا شيء لم أفعله ولا أفعله إن شاء الله تعالى، ولا أصرح بالتصحيح أو الترجيح عن الرافعي إلا إذا صرح به، فإن لم يصرح هو به صرحت به ونبهت على أنه من كلامي؛ هذا لفظه -رحمه الله- بحروفه وهو في غاية العجب، فإنه فعل ذلك في أول مسألة في "الروضة" ثم في المسألة التي تليها إلى غير ذلك مما لا ينحصر مما ستراه إن شاء الله. الأمر الثالث: أن تعليله للقديم يؤخذ منه أن المستعمل مطلق. والمسألة فيها وجهان: أحدهما: نعم؛ ولكن منع من استعماله تعبدًا وهذا هو المذكور أيضًا في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

"الشرح الصغير" "والمحرر"، وجزم به أيضًا الرافعي في كتاب التيمم وأشعر كلامه أنه لا خلاف فيه وأنه لا وجه له أيضًا. وصححه النووي في "شرح التنبيه" المسمى "بتحفة التنبيه" فقال: ومن خطه نقلت: إنه الصحيح عند الأكثرين. والثاني: هو الذي صححه في "التحقيق" "والفتاوى" "وشرح المهذب" أنه ليس بمطلق ولم يتعرض في "الروضة" لهذه المسألة بالكلية. الأمر الرابع: أن الشافعي في القديم يقول: إن من قدر على بعض الماء لا يلزمه استعماله بل يتيمم، وهو مشكل على ما قدمناه من كونه يقول في القديم: إن المستعمل طهور، بل كان مقتضاه أنه يلزمه استعمال الناقص ثم يجمعه ويتوضأ به ثانيًا لأنه طهور. ويؤيد هذا: أن المحرم إذا كان محدثًا وعليه طيب ووجد ما يكفي أحدهما فإنه يجب عليه أن يتوضأ به ثم يجمعه ويغسل به الطيب، فإن تعذر ذلك غسل الطيب، هكذا جزم به النووي في باب التيمم من "التحقيق" "وشرح المهذب"، ونقله في الشرح المذكور عن الأصحاب ولم يذكر في "الروضة" هذا الفرع. ولقائل أن يقول: ينبغي أن يتعين إزالة الطيب مطلقًا سواء أمكن جمعه أم لا؛ لأن إزالة الطيب على الفور بخلاف الوضوء فالزمن الذي يتوضأ فيه هو تارك فيه لإزالة الطيب. نعم: إن فرضنا أن الوقت قد ضاق بحيث يتعين الوضوء والصلاة، فلا كلام إلا أن يقال: في التأخير جمع بين المصلحتين كما قالوا: يجوز تأخير الزكاة لانتظار القريب والجار، وإن كان الإخراج على الفور لأجل هذه

المصلحة. والحديث الذي ذكره الرافعي في أول كلامه صحيح رواه أحمد وصححه، وحسنه الترمذي إلا الاستثناء فإن ابن ماجه قد رواه بإسنادٍ ضعيف وضم إليه اللون. قوله: في أصل "الروضة": وأما ما اغتسلت به كتابية من حيض لتحل لمسلم فإن قلنا: لا يجب إعادة الغسل إذا أسلمت فليس بطهور، وإن أوجبناها وهو الأصح فوجهان الأصح أنه ليس بطهور. انتهى. واعلم أن حكم المجنونة إذا حاضت فغسلها زوجها كحكم الكافرة المذكورة في جميع ما ذكر هنا، كذا ذكره الرافعي في أوائل صفة الوضوء ولم يتعرض لها في "الروضة" هناك ظنًا منه أنها مذكورة هنا مع الذمية فأسقطها معها هناك. فاعلمه. وفي المسألة أمور أخرى مهمة يأتي ذكرها في الباب السادس من أبواب النكاح وهو المعقود للموانع في الجنس الرابع منه وهو الكفر فراجعها. قوله: وسقطت طهورية المستعمل في الكرة الأولى لانتقال المنع، وقيل لتأدي العبادة، ثم قال: وينبغي أن يعلم أن انتقال المنع هو الذي عبر عنه الأصحاب: بتأدي الفرض لأن رفع الحدث فرض، ولا نعني بالفرض في مثل ذلك ما يلحق الإثم بتركه، بل: ما لابد منه، ولذلك نحكم باستعمال ما توضأ به الصبي إلا على وجه لا يعبأ به وباستعمال ما توضأ به البالغ لصلاة النفل. انتهى كلامه. والذي ذكره في وضوء البالغ لصلاة النفل غريب جدًا؛ لأن فيه إثمًا بتركه إذ لو صلاها بلا وضوء أثم إجماعًا، فإذا تقرر أن المراد بالفرض هو

النسبة إلى رفع الحدث عند إرادة الصلاة لزم أن يكون هذا الفرض بالنسبة إلى البالغ بمعنى: أنه لابد منه وأن الإثم يلحقه أيضًا بخلاف الصبي، وليس كلام الرافعي في عدم الإثم راجعًا إلى صلاة النفل من حيث هي بل إليها عند إرادة فعلها بلا وضوء؛ لأن صلاة النفل له منها بد، فإن تركها جائز، فتعين أن يكون المراد ما ذكرناه. قوله: في أصل الروضة: كما لو انغمس جنب في قلتين فإنه طهور بلا خلاف انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة لم يذكرها الرافعي وإنما زادها النووي وأدخلها في الأصل فاعلمه. الثاني: أن ما ادعاه من نفي الخلاف ليس كذلك، بل المسألة ذات وجهين رأيتهما في "التبصرة" للشيخ أبي محمد الجويني فقال: مسألة الماء إذا كان قلتين ولا نجاسة فيه وأردت الاغتسال من الجنابة ولا نجاسة على بدنك فليس الاحتياط أن تنغمس فيه بل الاحتياط أن تغترف وتتنحى وتفرغ (¬1) على بدنك ليحصل لك الغسل بالإجماع، فإن انغمست فيه ففي صحة الغسل خلاف بين مشايخنا هذا كلامه بحروفه، وحكاها أيضًا صاحب "البيان" عن "الشامل"، ونقله عنه في "شرح المهذب" ثم نازعه في اقتضاء كلام "الشامل" لذلك، وقد ثبت نقلهما من كلام غيره، فلا شك أنهما مخصوصان بالقلتين وإلا لتناول النهر والبحر ولا قائل به. ووجه الخلاف نقصانهما بما يتشربه البدن قبل تمام الانغماس عند من ¬

_ (¬1) بداية سقط كبير من ب.

يقول بالتجديد. قوله: ولو انغمس جنب في ماء قليل ثم نوى ارتفعت جنابته بلا خلاف، ومقتضى كلام الأصحاب: أن الماء يصير مستعملًا بالنسبة إلى المنغمس حتى يخرج منه وهو مشكل، وينبغي ألا يصير لارتفاع الحدث انتهى ملخصًا. أما ما نقله عن مقتضى كلامهم واقتضى كلامه عدم الوقوف على التصريح به فقد صرح به الخوارزمي في "الكافي" فقال: إنه لو أحدث حدثًا آخر في حال انغماسه جاز ارتفاعه به. وأما الإشكال الذي ذكره فقد أجاب الأصحاب عنه كما قاله النووي في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" بأن صورة الاستعمال باقية والماء في حال استعماله باق على طهوريته. وقد ذكر صاحب "الحاوي الصغير" أنه يصير مستعملًا بالنسبة إلى المنغمس تبعًا لإشكال الرافعي. واعلم أن الشيخ أبا محمد الجويني قد ذكر في كتابه المسمى بـ "التبصرة" أنه إذا نوى مع إدخال يده بعد غسل وجهه رفع الحدث ثم أخذ غرفة فغسل بها ساعده لم يصح لأنه قد صار مستعملًا. وهذا الذي قاله قد استفدنا منه أن انفصال العضو مع الماء يقتضي الحكم على الماء بالاستعمال وإن كان الماء متصلًا بالعضو. فتفطن هذه الصورة فإنها مقيدة لإطلاقهم وسيأتي عقب هذا ما يقويه أيضًا. قوله: ولو نزل الجنب في ماء قليل ونوى قبل تمام انغماسه ارتفعت جنابته عن الجزء الملاقى للماء بلا خلاف، ولا يصير الماء مستعملًا، بل له أن يتمم الانغماس ويرتفع عن الباقي على الأصح.

وقال الخضري: يصير مستعملًا، ولا يرتفع إلا عن المغموس حال النية انتهى ملخصًا. وفيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الخضري قد تابعه عليه في "الروضة" إلا أن الخضري قد رجع عنه كذا [رأيته] (¬1) في "العمد" و"الإبانة" للفوراني، وفي "العدة" لأبي الحسين الطبري وغيرهما، وقد تعرض أيضًا لذلك النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة. فإن قيل: فإذا تقرر رجوع الخضري فحينئذ فهل يبقى في المسألة خلاف؟ . قلت: بلى، فقد رأيت في "الفروق" للشيخ أبي محمد الجزم بأنه يصير مستعملًا، ذكر ذلك في باب ما يفسد الماء من الاستعمال. واعلم أن النووي في أصل الروضة نقل عن النص موافقة الأصح ولم يتعرض له الرافعي وإنما هو من زياداته فاعلمه. الأمر الثاني: أنه احترز بالانغماس عما إذا تمم الغسل بغير ذلك فإنه لا يرتفع كما أوضحه في "شرح المهذب" فقال: أما لو اغترف الماء بإناء أو يده وصبّه على رأسه أو غيره فلا ترتفع جنابة ذلك القدر الذي اغترف له بلا خلاف، صرح به المتولي والروياني وغيرهما وهو واضح؛ لأنه انفصل. هذا كلامه. وقد سبق عن الشيخ أبي محمد ما هو أبلغ منه. قوله: من زياداته: ولو انغمس جنبان ونوى أحدهما قبل صاحبه ارتفعت جنابة الناوي وصار الماء مستعملًا بالنسبة إلى الآخر على الصحيح، وإن نويا معًا بعد غمس جزء منهما ارتفع عن جزئهما وصار مستعملًا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح انتهى. وهذا كله قد سبق قريبًا في كلام الرافعي فتأمله. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: أيضًا من زوائده: ولو انفصل] (¬1) الماء من بعض أعضاء الجنب إلى بعضها فوجهان: الأصح عند صاحبي "الحاوي" و"البحر": لا يصير مستعملًا، والراجح عند الخراسانيين: أنه يصير [مستعملًا] (¬2) وقال الإمام: إن نقله قصدًا صار وإلا فلا انتهى. وصورة المسألة: فيما إذا انفصل عن البدن بالكلية. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أنه لم يصرح بتصحيح في "شرح المهذب" أيضًا، والأصح في "الكفاية": أنه لا يصير مستعملًا، وصحح في "التحقيق" عكسه فقال: وبدن جنب كعضو محدث. وقيل: لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه وقيل: إن نقله ضر هذا كلامه. الثاني: إن ما نقله عن الإمام ليس مطابقًا لما في "النهاية" فإن الإمام بعد حكاية القول بأنه يصير مستعملًا قال ما نصه: وفيه نظر، لأن الماء إذا كان يتردد على البدن ففي الأعضاء تفاوت في الخلقة، وليس البدن سطحًا بسيطًا، وإذا كان كذلك فيقع في جريان الماء بعض التقاذف [لا محالة، فما كان من هذا الجنس فهو محطوط لا اعتبار به قطعًا. فأما التقاذف] (¬3) الذي لا يقع إلا على ندور، فإن كان عن قصد فمستعمل وإلا فلا يبعد أن يعذر صاحب الوقعة، فإن الغالب وقوع ذلك في الزمن الماضي ولم يقع عنه بحث من سائل. وإذا تأملت ما قاله علمت أنه ليس وجهًا ثالثًا كما يوهمه كلام "الروضة" فإن النقل قصدًا لم يرخص فيه أحد، بل حاصله القول بأنه لا يصير. الأمر الثالث: أن الرافعي قد صرح بالمسألة في أواخر الباب الثاني من ¬

_ (¬1) نهاية سقط من ب بقدر ورقة مخطوطة. (¬2) زبادة من ب. (¬3) سقط من جـ.

أبواب التيمم فإنه قال تعليلًا لمسألة ما نصه: كما يعذر في التقاذف الذي يغلب في الماء ولا يحكم باستعمال المتقاذف هذا لفظه. وأسقطها النووي هناك. وإذا علمت ما ذكره الرافعي علمت أن المسألة [ليست] (¬1) خاصة بالجنب كما أوهمه كلام "الروضة" وصرح به في "التحقيق" وعلمت أيضًا أن ما يقع على سبيل الغلبة لا يضر عنده، وأما ما يقع نادرًا فلم يتعرض له والقياس فيه ما صححه النووي. قوله: أيضًا من "زوائده": وأما الماء الذي يتوضأ به الحنفي وغيره ممن لا يعتقد وجوب نية الوضوء؛ فالأصح: أنه يصير مستعملًا، والثاني: لا، والثالث: إن نوى صار وإلا فلا. انتهى. وما ذكره من تصحيح مصيره مستعملًا مع انتفاء النية مشكل مخالف للقواعد فإن الأصح في المختلف فيه أنا نراعى اعتقادنا لا اعتقاد الفاعل، ولهذا صححوا صحة الاقتداء بحنفي اقتصد دون ما إذا ترك البسملة، ثم إن المصحح لكونه يصير مستعملًا إن منع الاقتداء ناقض كلامه، وإن لم يمنعه لزم الاقتداء لمن يعتقد بطلان صلاته وهو مخالف لما ذكروه هناك. ولما ذكر هذه المسألة في "شرح المهذب" عزاها إلى "البيان" خاصة، ثم راجعت البيان فوجدته بناها على جواز الائتمام به ولم يذكر تصحيحًا بالكلية فعلمنا أن الصحيح هو التفصيل، وأن تصحيح الاستعمال مطلقًا ذكره النووي من عنده ذهولا. فاعلمه. قوله: في "الزيادات" ولو غسل رأسه بدل مسحه فالأصح أنه مستعمل كما لو استعمل في طهارته أكثر من حاجته انتهى كلامه. وتصحيح الاستعمال نقله في "شرح المهذب" عن الشاشي صاحب "الحلية" خاصة فأطلق تصحيحه هنا وهناك اعتمادًا عليه لأنَّه لو وجد تصحيحًا لغيره لذكره معه بلا شك. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قال: القسم الثاني: ما تغير عن وصف خلقته. قوله: ولو تغير بمجاور لم يضر في أصح القولين لأن هذا النوع من المتغير تروح لا يسلب اسم الماء المطلق كتغير الماء بجيفة ملقاة على شط النهر. انتهى. والتروح بتاء مثناة مفتوحة هو: تغير الرائحة. ودعواه أنه لا يسلب الاسم يوهم بأن صورة المسألة في التغير اليسير وليس كذلك بل صورتها في التغير الفاحش، أما اليسير فإنه لا يضر وإن كان بخليط، وضابط الكثير هو المزيل للإسم. قوله: والأصح أن المشمس مكروه لحديث عائشة (¬1) وابن عمر، وروى ابن عباس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه" (¬2). انتهى. ¬

_ (¬1) وهو أنه - رضي الله عنها - قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سخنت ماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص. أخرجه الدارقطني (1/ 38) والبيهقي في "الكبرى" (15) وابن الجوزي في "التحقيق" (41) وابن عدي في "الكامل" (3/ 42). قال الدارقطني: غريب جدًا، خالد بن إسماعيل متروك. وقال البيهقي: لا يصح. وقال الألباني: موضوع. (¬2) قال الحافظ: رويناه في الجزء الخامس من مشيخة قاضي المرستان من طريق عمر بن صبح عن مقاتل عن الضحاك عنه بهذا وزاد "ومن احتجم يوم الأربعاء أو السبت فأصابه داء فلا يلومن إلا نفسه، ومن بات في مستنقع موضع وضوئه فأصابه وسواس فلا يلومن إلا نفسه، ومن تعري في غير كن فخسف به فلا يلومن إلا نفسه ومن نام وفي يده غمر الطعام فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه، ومن نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه ومن شك فى صلاته فأصابه زحير فلا يلومن إلا نفسه" وعمر بن صبح كذاب، والضحاك لم يلق ابن عباس. وفي الباب عن أنس رواه العقيلي بلفظ: "لا تغتسلوا بالماء الذي يسخن فى الشمس فإنه يعدي من البرص" وفيه سوادة الكوفي وهو مجهول. ورواه الدارقطني في "الأفراد" من حديث زكريا بن حكيم عن الشعبي عن أنس، وزكريا ضعيف والراوي عنه أيوب بن سليمان وهو مجهول وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات". وقال البيهقي في "المعرفة": لا يثبت البتة. وقال العقيلي: لا يصح فيه حديث مسند وإنما هو شيء روي من قول عمر.

الوضح بالضاء المعجمة البياض، ويكنى به عن البرص قاله الجوهري. وحديث ابن عباس معروف والباقيان ستعرف الكلام عليهما. وتعبيره بالمشمس، لا يتناول ما شمس بنفسه لأن فعله شمس، فلو عبر بالشمس لكان صوابًا. وهل يكره ذلك في الأبرص والميت وغير الآدمي من الحيوانات؟ فيه نظر. قوله في أصل "الروضة": والمشمس في الأواني مكروه على الأصح: بشرط أن تكون في البلاد الحارة، والأواني المنطبعة، إلا الذهب والفضة على الأصح. وعلى الثاني يكره مطلقًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يكتف بكون البلاد حارة، بل شرط فيها أن تكون مفرطة الحرارة. الأمر الثاني: وهو تنبيه حسن نبه عليه "النووي" في كتاب "الإشارات"، الذي هو على "الروضة" "كالدقائق" على "المنهاج". فقال: وقولي على الأصح راجع إلى البلاد الحارة، والأواني المنطبعة، لا إلى الذهب والفضة. والذي قاله صحيح معنى ولفظًا، فكأنه قال: الأصح أنه يشترط أن تكون في البلاد الحارة الأواني المنطبعة، إلا الذهب والفضة والمتبادر إلى الفهم أنه عائد إلى استثناء الذهب والفضة ولا يستقيم لأمرين: أحدهما: أن الرافعي حكى وجهين في اختصاصه بالبلاد الحارة والأواني المنطبعة، ولو كان الخلاف في "الروضة" عائدًا إلى الذهب والفضة، لم يكن كلامه مطابقًا لكلام الرافعي فإنه يكون قد أسقط الخلاف في مسألتين.

الأمر الثاني: أن الرافعي لما ذكر الأواني المنطبعة، قال: واستثنى بعضهم آنية الذهب والفضة وهذا الإستثناء يحتمل أن يكون استدراكًا لما قاله الأصحاب فيكون إطلاقهم محمولًا عليه. وهو الذي فهمه النووي، ويحتمل أن يكون وجهًا مخالفًا لما عليه الأكثرون وأما جعله وجهًا مع تصحيحه، فغلط محض إذ هو خارج عن كل من هذين ولا إشعار لكلام الرافعي بتصحيحه. لا جرم: كان الصواب في كلام "الروضة" عود التصحيح إلى المستثنى منه دون المستثنى كما نبه هو عليه بخلاف ما يفهمه كثير من الناس. نعم: آخر كلام الرافعي يبين أنه أراد حكاية وجه على خلاف ما فهمه النووي من كونه استدراكًا، فإنه قال: ولك أن تعلم قول الغزالي: والإناء المنطبع. بالواو إشارة لهذا الوجه. قوله: ولا فرق بين أن يقع ذلك قصدًا أو اتفاقًا، فإن المحذور لا يختلف. ويؤيده أن المشمس في الحياض والبرك غير مكروه بالإتفاق، لأنه لا يخاف منه مكروه. انتهى. وما ذكره: من عدم التفرقة بين القصد والاتفاق قد حذفه من "الروضة"، ولم يذكر ما يدل عليه، بل ما يدل على عكسه فإنه عبر بالمشمس وفعله شمس بالتشديد. قوله: والطريقة الأولى أقرب إلى كلام الشافعي، فإنه قال: ولا أكره المشمس إلا من جهة الطب، أى: إنما أكرهه شرعًا، حيث يقتضي الطب محذورًا فيه. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: شرعًا ذكره يستفاد منه مسألة حسنة، وهى أن كراهة المشمس إذا قلنا بها تكون شرعية لا إرشادية، والمسألة فيها وجهان حكاهما ابن الصلاح في تعليقه على "الوسيط" فقال: فيه وجهان، والفرق

بينهما أن الكراهة الشرعية يتعلق فيها الثواب بالترك بخلاف كراهة الإرشاد فإن فائدتها دنيوية وهي مثل كراهة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصهيب أكل التمر وهو أرمد (¬1). أحدهما: أنه كراهة إرشادية من جهة الطب، وهذا هو طريقة صاحب الكتاب، وأفصح عنه في التدريس وهو ظاهر كلام الشافعي والأظهر. والوجه الثاني: أنها كراهة شرعية، وهي طريقة صاحب "الحاوي" و"المهذب" وغيرهما هذا كلامه -رحمه الله-. ونقل عنه النووي في "شرح المهذب" أنه قال: الأظهر الثاني، وهو غلط سببه إسقاط حرف من كلام ابن الصلاح، وهو الواو. واعلم أن النووي قد صحح في الشرح المذكور الثاني فقال: إنه المشهور، وخالف في "شرح التنبيه" المسمى بالتحفة فقال: ومن خطه نقلته: إن اعتبرنا القصد فشرعية وإلا فإرشادية هذه عبارته وحذف النووي من "الروضة" قول الرافعي شرعًا وكأنه ظن أنه لا فائدة له. قوله من "زوائده": الراجح من حيث الدليل أن المشمس لا يكره مطلقًا، وهو مذهب أكثر العلماء. وليس للكراهة دليل يعتمد. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الذي رجحه هنا قد صححه في "شرح الوسيط" المسمى بـ"التنقيح" فقال: إنه الصحيح المختار. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (3443) والحاكم (8263) والطبراني في "الكبير" (7304) والمزني في "تهذيب الكمال" (16/ 442) قال في "الزوائد": إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الألباني: حسن.

وقال في "شرح المهذب": إنه الصواب. لكنه جزم في "المنهاج" بكراهته. الأمر الثاني: أن ما أشار إليه من عدم ثبوت دليل للكراهة قد أوضحه في "شرح المهذب" فقال: حديث عائشة الذي استدلوا به ضعيف باتفاق المحدثين، ومنهم من يجعله موضوعًا، وأما ما رواه الشافعي في "الأم" بإسناده عن عمر أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس وقال: إنه يورث البرص (¬1)، فضعيف أيضًا باتفاق المحدثين، فإنه من رواية إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى، وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه إلا الشافعي، فإنه وثقه ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء، هذه عبارته. وذكر نحوه في "الفتاوى" وغيره فقال: إن الحديث والأثر ضعيفان جدًا. وما ذكره في الحديث صحيح، وأما الأثر فلا، وما ذكره من الاتفاق على تضعيف إبراهيم المذكور ليس كذلك. فقد وثقه غير الشافعي جماعة منهم: ابن جريج وابن عدي صاحب "الكامل"، بل لو لم يوثقه إلا الشافعي لكان حجة علينا، ولا يضر الشافعي ومن تبعه تضعيف غيره إياه، وبالجملة فقد رواه الدارقطني بإسناد آخر صحيح، كما قاله المحب الطبري في "شرح التنبيه"، وحينئذ فتندفع هذه المقالات وتثبت الكراهة، كما قال بها إمامنا وبطل ما ادعاه في "الروضة" وغيرها، من عدم ثبوت دليل. الأمر الثالث: قال في "شرح المهذب": ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن الناس نزلوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحجر أرض ثمود ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "الأم" والبيهقي في "الكبري" (13) والدارقطني (1/ 39). قال الألباني: لا يصح.

فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التى كانت تردها الناقة (¬1). وفي رواية "البخاري" (¬2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء، فيكون استعمال هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروهًا أو حرامًا، إلا لضرورة، لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها، ولا يحكم بنجاستها، لأن الحديث لم يتعرض للنجاسة، انتهى كلامه. وعبر في "التحقيق" بقوله: يمنع من استعماله، وفي "الفتاوى" بقوله: منهي عنه. وحينئذ فكان ذكره في "الروضة" لهذه المسألة أولى من المشمس. وقد ذكر من زياداته كراهة شديد السخونة والبرودة. وأهمل الرافعي في "الشرح الكبير" هذه الثلاث وذكر في "الشرح الصغير" المسألتين الأخيرتين. قوله من زياداته: وتزول كراهة المشمس بتبريده على أصح الأوجه، وفي الثالث يراجع الأطباء. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في "الشرح الصغير" وقال: أظهر الوجهين بقاء الكراهة، على خلاف ما صححه النووي، ووجهه أن العلة هي انفصال شيء من أجزاء الإناء إلى الماء وتلك الأجزاء هي التي تورث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3199) ومسلم (2981). (¬2) حديث (3198).

البرص، وهي باقية. ووجه ما صححه النووي أن تأثيرها لذلك قد يكون شرطه حرارة الماء، لكونها تفتح المسام. ولم يصحح شيئًا في "شرح المهذب"، وهو يورث ضعفًا في ما صححه في "الروضة" فإن النووي قد تبع فيه ما لم يتبع في غيره، فلو ظفر فيه لغيره لنقله. قوله في المتغير بالطاهرات: ويكفي في سلب الطهورية تغير واحد من الأوصاف الثلاث، وفي قول لابد من اجتماعها. ثم قال: وحكي الموفق ابن طاهر أن صاحب "جمع الجوامع"، حكي قولًا عن رواية الربيع أن التغير في اللون وحده، وفي الطعم والرائحة معًا يمنع الطهورية وفي أحدهما لا يمنع. انتهى كلامه بحروفه. وهذا القول الثالث، قد تابعه على حكايته هكذا في "الروضة" وهو مشكل حصل في حكايته تحريف، فإن التغير بالطعم عند الأصحاب أفحش من التغير باللون أو التغير بالرائحة قطعًا. ولهذا قالوا إذا بقي بعد غسل النجاسة طعمها ضر بخلاف اللون أو الرائحة. والصواب في حكايته: ما حكاه الرافعي في "الشرح الصغير"، فإنه لما حكى هذه الأقوال الثلاث، عبر عن الثالث بقوله: وقيل الرائحة وحدها لا تؤثر وتغير غيرها يؤثر؛ هذا لفظه، وهو صحيح مناسب وهو يدل على ما قلناه من التحريف. قوله: والتغير بالتراب المطروح فيه قصدًا فيه وجهان، وقيل قولان: أحدهما: أنه ليس بطهور لأنه تغير بمخالطة مستغني عنه.

والثاني: وهو الأظهر أنه على طهوريته، لأن التراب يوافق الماء في الطهورية، ونص الأصحاب على أن هذا الخلاف لا يجري فى الجص والنورة، وغيرهما واستبعدوا خلاف من خالف فيه. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد صحح أيضًا في "الشرح الصغير" أن الخلاف في التراب وجهان، وجزم في "المحرر" بأن الخلاف قولان، ووقع هذا الإختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج" مع اختلاف آخر بينهما، وذلك أن النووي عبر في "المنهاج" بالأظهر، وقال في "الروضة": وأما المتغير بالتراب المطروح قصدًا فطهور على الصحيح، وقيل على المشهور. وقد اصطلح في "المنهاج" و"الروضة" على أن الأظهر والأصح من الخلاف القوي، والصحيح والمشهور: من الخلاف الضعيف، فيكون الخلاف ضعيفًا على ما قال في "الروضة" وقويًا على ما قال في "المنهاج". الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد ذكر في غير التراب نحو ما ذكره الرافعي فقال: وفي الجَصّ والنورة وغيرهما من أجزاء الأرض وجه شاذ أنها لا تضر. هذا لفظه. مع أن الشافعي قد نص على ما جعله وجهًا ضعيفًا. كذا نقله البغوي في "التهذيب" عن رواية "حرملة". الأمر الثالث: أن محل هذا الخلاف في النورة ونحوها إذا لم تطبخ فإن طبخت ففي "الكفاية" وغيرها أنه يسلب الطهورية بلا خلاف. الأمر الرابع: أن ذكر القصد بعد التعبير بالمطروح لم يتحرر المراد بما احترز به عنه، إلا أن يقال: احترز به، عما إذا قصد طرح التراب إلى جانب الماء فسقط فيه وعما يطرحه الصبي والمجنون، وفيهما نظر والمتجه

أن ذلك يضر وبه جزم في "الإقليد" فالصواب حذف هذا القيد، وقد حذفه في "المحرر" و"المنهاج". قوله: والمتغير بالملح المطروح فيه أوجه: أصحها: يسلب الجبلي منه دون المائي. والثاني: يسلبان. والثالث: لا يسلبان. انتهى. وتقييد هذه الأوجه في الملح بكونه مطروحًا ذكره الغزالي فتبعه الرافعي هنا وفي "الشرح الصغير" أيضًا، وهو يقتضي أنه إذا وقع من غير طرح، لا يضر مطلقًا كما في نظيره من التراب، وحذف النووي هذا القيد من "الروضة" ولم يذكره أيضًا في "شرح المهذب" ولا في "التحقيق"، وحذفه أيضًا صاحب "الحاوي الصغير" واعترض الشارحون عليه، والمتجه: عدم اعتباره، بخلاف التراب لأن حمل التراب بإثارة الريح كثير فيعفى عنه بخلاف الملح. قوله: الثاني الأوراق إذا تناثرت في الماء وتروح بها، فإن لم يعرض لها عفونة، واختلاط فهذا ماء متغير بشيء مجاور فيبقى على طهوريته في أظهر القولين كما سبق. انتهى. وهذا التخريج الذي ذكره، قد تبعه عليه في "الروضة"، وهو خطأ حصل من غفلة؛ فإن المتغير بمجاورة ما لا يستغنى عنه الماء باق على طهوريته، كما جزم به الرافعي، وقد تعجب أيضًا منه ابن الرفعة في "المطلب". قوله: قال: وإن تعفنت واختلطت به ففيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها لا تسلب الطهورية لعسر الإحتراز.

والثاني: تسلب كسائر الغيرات. والثالث: لا يسلب الخريفي لغلبة التناثر فيه، ولأنها قد امتصت الأشجار رطوبتها ثم قال: فلو طرحت قصدًا فطريقان: أحدهما: القطع بسلب الطهورية للاستغناء عنه. والثاني: طرد الخلاف. انتهى كلامه. والصحيح طريقة القطع، فقد صححها الرافعي في "الشرح الصغير"، وبه أجاب في "الحاوي الصغير"، وصححه أيضًا النووي في كتبه ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زوائده بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له. وقال في "الكفاية": إنه المشهور قال: سواء طرحه صحيحًا أو مدقوقًا وفي "الشرح الصغير" في أصل المسألة وجه رابع مفصل، بين أن يكون الشجر على شاطيء الماء أو بعيدًا. قوله: الثالث: إذا اختلط بالماء مائع يوافق الماء في الصفات، كماء الورد المنقطع الرائحة، وماء الشجر، والماء المستعمل ففيه وجهان: أحدهما: إن كان الخليط أقل من الماء فهو طهور وإن كان أكثر أو مثله قولان، وأظهرهما: إن كان الخليط قدرًا لو خالف الماء في طعم أو لون أو رائحة لتغير الماء، فهو مسلوب الطهورية وإن كان لا يؤثر مع المخالفة فلا. ثم قال في آخر المسألة في الكلام على ألفاظ "الوجيز": وقوله في أول هذا الفرع: إذا صب مائع على ماء قليل ينبغي أن يعرف أن الصب لا أثر له. ثم قال: وكذلك التعرض للقليل ليس للتقييد، بل القليل والكثير في هذا الحكم سواء، ولو حذف لفظ القليل لم يضر. هذا لفظه.

وما ذكره من كونه لا فرق بين القليل والكثير غلط، بل الصواب اختصاصه بالقليل، كما صور الغزالي، وذلك لأن المستعمل من جملة ما ذكره وقد صحح الرافعي في أوائل هذا الباب أن المستعمل إذا جمع قلتين يعود طهورًا. وصحح أيضًا في الباب الذي بعد هذا أنه إذا صب على الماء النجس ماء مستعملًا حتى بلغ قلتين يعود طهورًا أيضًا. وإذا عرفت ما قاله في هذين الفرعين ظهر لك فساد ما ادعاه من عدم التقييد، فإنه يلزم من كونه يقدر مخالفًا عند اتصاله بالماء الكثير، أن يكون كالخل وغيره من المائعات، وحينئذ فلا فائدة في بلوغه قلتين، وكيف يتخيل متخيل أن المستعمل إذا خلط بماء كثير طهور يسلبه الطهورية، وإذا خلط بمثله، أو بماء نجس حتى بلغ قلتين يجعله طهورًا؟ ووقع هذا الكلام العجيب أيضًا في "الروضة" و"شرح المهذب" و"التحقيق"، ولو فرعوا حكم هذه المسألة وهو جعله كالمائع على القول بأنه إذا خلط بماء مستعمل أو نجس لا يعود طهورًا لكان يستقيم، ووراء ما ذكره الرافعي وجوه غريبه: أحدهما: ما اختاره القفال في "فتاويه" أن المضر من ذلك هو الكثير، وتعرف الكثرة بالعادة. الثاني: إن كان هو الثلث فصاعدًا فهو كثير مضر، وإن كان دونه فلا، وهذا الذي نقله في "الفتاوي" المذكورة عن أبي يعقوب الأبيوردي. والثالث: إن بلغ الخليط ثلاثة أضعاف الماء منع؛ وإلا فلا؛ حكاه المصعني بالصاد والعين المهملتين في "نهاية المستفيد في احترازات المهذب". والرابع: إن بلغ سبعة أضعافه فيمنع، وإلا فلا، حكاه هو وما قبله المحب الطبري شيخ الحجاز في شرحه "للتنبيه"، وفي "التهذيب"

وغيره طريقة قاطعة باختصاص الخلاف بالماء المستعمل أما غيره فيعتبر فيه تقدير المخالفة جزمًا لأن المتوضئ لا يمكنه الاحتراز عن أن يقع في الإناء شيء مما ينفصل عن أعضائه. قوله: في المسألة: وحيث قلنا ببقاء الطهورية فله استعمال الجميع لاستهلاكه، وقيل: لابد أن يبقى قدر الخليط كما لو حلف لا يأكل ثمرة فاختطلت بثمر. وأطبقوا على ضعف هذا الوجه، وقيل إن كان الماء وحده يكفي لواجب الطهارة فله استعمال الجميع وإلا فلا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكر من الإطباق على التغليط لقائل هذا الوجه، ليس كذلك فقد صححه الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي أبو الطيب الطبري، وقد نقله عنهما في "شرح المهذب"، ونقل الماوردي أن طائفة وافقته. الأمر الثاني: أن محل الخلاف في التقنية إنما هو نقصان الوضوء الواحد، فلو كان معه ماء كاف لوضوءين إلا عضوًا، فكمله بمائع صحت صلاته بالوضوءين، والفرق بينه وبين ما إذا نقص عن الوضوء الواحد أنه تيقن استعمال مائع في طهارة معينة، وهنا تيقنه في إحدي طهارتين لا بعينها. كذا ذكره الشيخ أبو محمد في كتابه "الفروق" ونقله عنه في "شرح المهذب" وارتضاه. قوله: في أصل "الروضة": فإن جوزنا استعمال الجميع ومعه من الماء ما لا يكفيه وحده ولو كمله بمائع يستهلك فيه لكفاه لزمه ذلك، إلا أن تزيد قيمة المائع على ثمن ماء الطهارة. انتهى.

فيه أمور: أحدها: أن تقييد لزوم التكميل بما إذا كان يكفيه ليس بصحيح فإن الناقص عن الكفاية يجب استعماله. الثاني: أن هذا الشرط المذكور وهو [أن لا تزيد القيمة ليس من كلام الرافعي فاعلمه. الثالث: أن زيادة المائع] (¬1) إنما ينبغي اعتبارها بالنسبة إلى المعجوز عنه من ماء الطهارة، لا بالنسبة إلى ماء الطهارة جميعه، فإن ما عدا المعجوز عنه قد سقط الأمر بطلبه لتحصيله إياه. وكلامه هنا يقتضي الثاني، وذكر مثله في "شرح المهذب" بعبارة هي أصرح من هذه وفي المسألة إشكال نذكره إن شاء الله تعالى في باب الإجتهاد، في الكلام على اشتباه الماء بماء الورد. قوله من "زوائده" ولو تطهر بالماء الذي ينعقد منه الملح قبل أن يجمد، جاز على المذهب. انتهى. محل هذا الخلاف كما نبه عليه جماعة منهم ابن الرفعة في "الكفاية"، ما إذا كان ينعقد بنفسه، فإن كان إنعقاده بسبب سبوخة في الأرض بعيد ما يصل إليها من الأمطار والأنهار، جاز قطعًا. ويقال: جَمَد الماء -بالفتح- يجمُد -بالضم- وجمودًا إذا تَيبس. قوله أيضا من "زياداته"، ولو أغلى الماء فارتفع من غليانه بخار تولد منه رشح فوجهان: المختار منهما عند صاحب "البحر" أنه طهور. انتهى كلامه. والأصح: أنه ليس بطهور على خلاف ما قاله صاحب "البحر"، ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فإنه قد نقل فيه، أعني في "البحر" أن ظاهر لفظ الشافعي يقتضيه، وأيضًا فإن الرافعي في "شرحه الصغير" قد نقل عن الروياني ما تقدم، من كونه طهورًا ثم قال بعد نقله إياه: ونازعه عامة الأصحاب فقالوا: يسمى بخارًا ورشحًا ولا يسمي ماء على الإطلاق هذه عبارته. وقد صحح النووي في "التحقيق" و"الفتاوى" و"شرح المهذب" ما قاله الروياني ذهولًا عما نقله الرافعي في "الشرح الصغير" من كونه شاذًا مخالفًا للمعروف في المذهب، وسبب ذلك أن النووي لم يأخذ من "الشرح الصغير" شيئًا، إما لعدم وقوعه له، أو لتوهمه أن كل ما فيه فهو في "الكبير"، ولم يقف على ترجيح لغيره فوقع فيما وقع، فاعلم ذلك واجتنبه.

الباب الثاني في المياه النجسة

الباب الثاني في المياه النجسة وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في النجاسات قوله: أما نجاسة الخمر فلوجهين: أحدهما: أنها محرمة التناول لا لاحترام وضرر ظاهر، والناس مشغوفون بها فينبغي أن يحكم بنجاستها، تأكيدًا للزجر. الثاني: أن الله تعالي سماها رجسًا. والرجس والنجس عبارتان عن معبر واحد. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه أشار بالدليل الأول إلى حد النجاسة، ذكره في "التتمة"، وهذبه النووي. فقال: كل عين حرم تناولها في حال الإختيار مع سهولة التمييز لا لحرمتها ولا لإستقذارها ولا إضرارها في بدن أو عقل واحترزوا بالإختيار عن الضرورة، فإنها تبيح أكل النجاسات والتداوي بها بالشروط المعروفة في بابها. واحترز بسهولة التمييز عن أكل الدود الميت في الفاكهة والجبن ونحوهما. وبالحرمة -أي: التعظيم والإكرام: عن ميتة الآدمى. وبالاستقذار: عن المني والمخاط وبالضرر عن الأحجار والنباتات المضرة للبدن أو العقل. إذا علمت ذلك فقد صرح الرافعي بالقيدين الأولين من قيود المحرم،

وهما عدم الاحترام والضرر، وأما الثالث فأشار إليه بقوله والناس مشغوفون بها. الأمر الثالث: أن ما ذكره ثانيًا في الدليل على النجاسة استدلال عجيب، فإنهما وإن كانا بمعني واحد في اللغة، إلا أنهما ليسا موضوعين بإزاء المعني الذي هو بصدده بل للتعبد، فإن العرب لم تعرف المعني الشرعي. واستدل بعضهم عليه بالإجماع، وليس كذلك، فإن ربيعة شيخ مالك ذهب إلي طهارتها، كما حكاه في "شرح المهذب" عنه، ورأيت في "التقاسيم" للمرعشي حكايته أيضًا عن المازني من أصحابنا. قوله: بل ينبغي أن يكون لفظ الخمر معلمًا بالواو لأن الشيخ أبا علي حكي خلافًا في نجاسة المثلث المسكر الذي يبيحه أبو حنيفة مع الحكم بالتحريم. انتهى كلامه. وهذا الوجه أسقطه النووي فلم يذكره في "الروضة". قوله: والخنزير نجس لأنه أسوأ حالًا من الكلب، فهو أولى بأن يكون نجسًا منه. وأشار بقوله: لأنه أسوأ حالًا إلى كونه لا يقتني أو لا ينتفع به. وهذا الاستدلال ينتقض بالحشرات. قوله: والميتات كلها نجسة لأنها محرمة. وتحريم ما ليس بمحترم وليس فيه ضرر كالسم، يدل على نجاسته. انتهى. وينبغي أن يقول ولا استقذار وإلا يرد المخاط ونحوه، كما سبق إيضاحه.

قوله: واستثنى الغزالي منه السمك والجراد [لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد] (¬1) والكبد والطحال" (¬2) وكذا الآدمي على الصحيح. ويرد على هذا الحصر الجنين الذي يوجد ميتًا عند ذبح الأم، وكذلك الصيد إذا مات بالضغطة على أحد القولين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يستوف ما يرد عليه من هذه الأنواع، فإن الصيد والبعير الناد إذا ماتا بالسهم، يحلان بلا خلاف، لأنه وجد فيهما الفعل المقتضي لحلهما شرعًا وإن لم توجد الزكاة المعروفة، والذي ينبغي أنه لا يورد شيء من هذه المذكورات، فإن الميتة عرفًا وشرعًا ما لم يوجد فيه فعل مقتض للإباحة، وهنا قد وجد ذلك، وقد أجاب بذلك في "شرح المهذب". الثاني: أن "النووي" في أصل "الروضة" لم يذكر الصيد إذا مات بالضغطة، وذكر عوضه الصيد إذا لم تدرك ذكاته. فورد عليه شيئان أيضًا، كونه قد ذكر ما لم يذكره الرافعي، وحذف ما ذكره وهو غريب، لا أدري ما الحامل له عليه. والضغطة بضاد وغين معجمتين. هي الضمة الشديدة ونحوها. يقال: ضغطه يضغطه ضغطًا، إذا زحمه إلى حائط ونحوه، ومنه ضغطة القبر. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه ابن ماجة (3218) وأحمد (5723) والشافعي (1569) والبيهقي في "الكبري" (1129) وعبد بن حميد (820) وابن الجوزي في "التحقيق" (1941) وفي "العلل المتناهية" (1104) وابن عدي في "الكامل" (4/ 186) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. قال الألباني: صحيح.

والحديث الذي ذكره الرافعي رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، لأجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإن كان الحاكم قد قال في المستدرك في حديث هو في سنده: هذا حديث صحيح الإسناد. نعم: رواه البيهقي موقوفًا على عمر، وقال: إنه حديث صحيح حكمه حكم المرفوع. قوله: الثالث: الحيوانات التي لا نفس لها سائلة، هل تنجس الماء إذا ماتت فيه؟ اختلف فيه قول الشافعي، والأصح: لا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء" (¬1) وإنه يقدم الداء، وجه الاستدلال أنه قد يقضي المقل إلى الموتي سيما، إذا كان الطعام حارًا، فلو نجسه لما أمر به. انتهى. أطلق هذا الحكم، ومحله إذا لم يتغير الماء به، فإن تغير فوجهان: والصحيح أنه ينجس. فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه المرجح من الوجهين. وقال النووي في "شرح المهذب" و"التحقيق" و"الروضة" [إنه الأصح. وسأذكر عبارة "الروضة"] (¬2) عقب هذه المسألة لأمر نتكلم معه فيه. والحديث المذكور صحيح، روي أصله البخاري من رواية أبي هريرة، وفيه فليغمسه، ثم لينزعه. نعم: تقديم الداء رواه أبو داود (¬3) ولفظه: "فإنه يتقي بجناحه الذي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5445) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) حديث (3844).

فيه الداء فليغمسه كله". والمقل: بالميم والقاف، هو الغمس كما ورد مصرحًا به في الرواية الأخري وحكي في "الوسيط" عن "التقريب"، قولًا فارقًا بين ما تعم به البلوي كالذباب والبعوض فلا ينجس، وما لا تعم كالعقارب والخنافس فينجس. وهذا القول قد رأيته في "التقريب"، كما حكاه عنه، واختاره أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" وهو متعين لا محيد عنه، لأن محل النص فيه معنيان مناسبان عدم الدم، وعموم البلوي. فكيف يقاس عليه ما وجد فيه أحدهما. بل المتجه اختصاصه بالذباب، لأن غمسه لتقديم الداء، وهو مفقود في غيره. قوله من "زياداته": ولو كثرت الميتة التي لا نفس لها سائلة، فغيرت الماء أو المائع. وقلنا: لا تنجسه من غير تغير فوجهان مشهوران: الأصح: تنجسه لأنه متغير بالنجاسة. والثاني: لا تنجسه، ويكون الماء طاهرًا غير مطهر، كالمتغير. بالزعفران. وقال إمام الحرمين: وهو كالمتغير بورق الشجر. انتهى كلام "الروضة". وهذا النقل عن الإمام غلط، فإنه -أعني النووي- فرع هذا الخلاف على القول بنجاستها، كما قاله أيضًا غيره. ولهذا علل ما صححه بقوله: لأنه متغير بالنجاسة.

وإمام الحرمين إنما فرع ما قاله على القول بالطهارة. فقال: فإن قيل: إذا حكمتم بأن هذه الميتات ليست بنجسة، وذكرتم أن كثيرها وإن غير، فالماء طاهر، فهل يجوز التوضيء به؟ قلنا: أقرب معتبر فيه أن يجعل الماء بها كتغيره بأوراق الأشجار (¬1) [فإنها بمثابتها على هذا المسلك هذه عبارته والتخريج الذي قاله ظاهر. قوله: وأما ما نسوه في الماء وليس له نفس سائلة فلا ينجس الماء بلا خلاف، لكن لو طرح فيه من خارج عاد الخلاف. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من نفي الخلاف قد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير"، وتابعه عليه النووي في "الروضة" وليس كذلك ففي "الإستذكار" للدارمي ثلاثة أوجه حكاها فيما إذا لم يتغير الماء. أحدها: هذا. والثاني: أنه ينجسه. والثالث: إن كثر ذلك الناشيء فينجسه وإلا فلا. الأمر الثاني: أن حكمه يعود القولين حتى يكون الأصح الطهارة محله في حيوان نشأ من الماء أو المائع كما فرضه هو، ولا يلزم من إعتقاد هذا لكونه اعتقاد ما لم ينشأ فيه، بل الحكم أن طرحه يضر كما جزم به الرافعي في "الشرح" وأجاب به أيضًا صاحب "الحاوي الصغير" والحاصل أنهما مسألتان الناشيء في الماء، وغير الناشيء، اقتصر في "الكبير" على الناشيء، وفي "الصغير" على غيره فتفطن لذلك فإنه مهم وهذا التقدير أولى من جعلهما مسألة واحدة، وإلزامه وكيف يصار ¬

_ (¬1) بداية سقط كبير من أ، ب والمثبت من جـ.

لذلك مع اختلاف التصوير المناسب للتفرقة وكيف يقال بأن إلقاء ما ليس نشؤه منه لا يضر، وقد فرقوا في أوراق الأشجار وغيرها بين أن تلقي قصدًا أم لا، مع أنها طاهرة، فالنجس أولى لغلظ حكمه وقد اختصره في "الروضة" بلفظ أوضح من لفظ الرافعي فقال: فلو أخرج منه وطرح في غيره أو رد إليه عاد القولان انتهى. والقسمان اللذان شرح بهما كلام الرافعي قد صرح بهما كذلك جماعة منهم القاضي حسين في "التعليق" والجرجاني في "التحرير". واعلم أن النووي في شرح "الوسيط" المسمي بـ "التنقيح" لما ذكر القولين في أصل المسألة وصحح أنه لا ينجس، قال: وسواء في جريان القول ما مات فيه أو في غيره ثم نقل إليه، وهذا يقتضي أن الأجنبي إذا ألقي فيه بعد موته لا يضر على الصحيح وهو غلط سببه عدم تأمل الفرق السابق، والصواب أيضًا في الناشيء في الماء إذا ألقي في غيره أنه يضر جزمًا لا يتجه غير ذلك ويظهر ترجيح ذلك أيضًا فيما إذا أعيد إليه، وإن كان ما قالوه فيه محتملًا فاعتمد ما ذكرته. قوله: في أصل "الروضة" فإن قلنا: إن هذه الميتة لا تنجس المائع فهي نجاسة في نفسها خلافًا للقفال، وفي جواز أكلها إذا كانت متولدة من الطعام كدود الخل والتفاح أوجه. الأصح: يحل أكله مع ما تولد منه ولا يحل منفردًا. والثاني: يحل مطلقًا. والثالث: يحرم مطلقًا، والأوجه جارية سواء قلنا بطهارة هذا الحيوان أو بنجاسته. انتهى كلامه. وقد اشتمل على حكاية وحيه أنه يجوز أكله منفردًا على القول بنجاسته وهو غلط لم يذكره الرافعي ولا غيره وإنما أغلطه سوء فهم منه لكلام

الرافعي، فإن الرافعي بعد ذكر الخلاف في الطهارة والأكل قال ما نصه: وربما يخطر بالبال أن الخلاف في حل الأكل مبنى على الخلاف فى الطهارة والنجاسة، إن قلنا بالنجاسة: حرم وإلا: فيحل. وليس الأمر فيه على هذا الإطلاق بل الخلاف منتظم مع حكمنا بالطهارة، فوجه التحريم: الإستقذار ووجه الحل إذا كان يؤكل مع الطعام عسر الاحتراز والتمييز وعند الانفراد لا ينقدح شيء. هذا لفظه. وهو صريح في أن تجويز الأكل منفردًا إنما على القول بالطهارة، ومعني قول الرافعي لا ينقدح فيه شيء أي لا ينقدح أن يقال فيه بالحل، وكأنه توهم أن المراد لا ينقدح له توجيه، وكيف يفهم ذلك مع التقسيم السابق. قوله: وأيضًا فلأنه يتناول الشعر المبان على العضو المبان من الحيوان مع أنه نجس في أصح القولين. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد أسقطها النووي فلم يذكرها في "الروضة". وهي مسألة مهمة. قوله: والمشيمة وجزء الآدمي المُبَان طاهران على المذهب الصحيح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المسألتين متقاربتان في المعني لأن المشيمة أيضًا جزء من الأدمي وقد صرح بنجاسة المشيمة ابن القاص في "التلخيص" وأبو عبد الله المعروف بالختن في شرحه، وعلله بكونه جزءًا مبانًا منها وكذلك الشيخ أبو علي السنجي في شرح الكتاب المذكور، ووافقه عليه أيضًا القفال عند شرحه لهذا الموضع، وأبو نصر البندنيجي في "المعتمد" وذكر ابن سريج في كتاب "التذكرة" ما حاصله ذلك أيضًا فإنه قال وجميع ما

خرج من القبل والدبر نجس إلا الولد والمني، وصرح به أيضًا أبو الطيب والبندنيجي في تعليقهما، وادعي أبو الطيب الاتفاق عليه، والبغوي في "التهذيب" وابن الصباغ في "الشامل"، والإمام في "النهاية" والروياني في "البحر" كلاهما في باب الصلاة بالنجاسة وهو المذكور في ترتيب الأقسام للمرعشي وفي "البيان" نقلًا عن ابن الصباغ وفي "البسيط" نقلًا عن الشيخ أبي علي من غير مخالفة منهما، وقطع الشيخ أبو حامد في "تعليقه" بنجاسة الجزء المبان من الآدمي، وكذلك المحاملي في "المقنع" في باب صفة الصلاة، والقاضي أبو الطيب في تعليقه، وصححه الماوردي في كتاب الجنائز، ونقله في "البيان" عن عامة الأصحاب، وعلله بأن الحرمة إنما هي بجملة الأبعاض، ولم ينقل مقابله إلا عن الصيرفي خاصة، ونقله القاضي حسين وابن الصباغ والروياني في "البحر" عن نصه في "الأم". وقال في "الكفاية": أوضح الطريقين القطع به. والثانية: على وجهين ثم إن ابن الرفعة عداه أيضًا إلى شعر الأدمي فقال: الأصح فيه النجاسة. نعم: صحح في "النهاية" أن جزء الأدمي طاهر فتبعه الرافعي ثم النووي. الأمر الثاني: أن ما ذكرناه من كون الأكثرين على النجاسة محله فيما أبين منه في حال حياته، فأما المنفصل بعد موته فحكمه حكم ميتته بلا شك، وتصوير الأصحاب وتعليلهم يرشدان إلى ما ذكرته، ولهذا قال في "البحر" في أبواب الصلاة: والفرق عند الشافعي بين العضو المبان في حياته، وبين الجملة: أن العضو لا حرمة له بدليل أنه لا يجب غسله وتكفينه ودفنه بخلاف الجملة.

قوله في "الروضة": ويستثنى شعر الآدمي والعضو المبان فيه، ومن السمك والجراد ومشيمة الآدمي فهذه كلها طاهرة على المذهب. انتهى. وتعبيره بالمذهب يقتضي أن الجميع فيها طريقان، وليس كذلك فإن السمك والجراد ليس فيه إلا وجهان، والذي أوهم النووي في ذلك أن الرافعي عبر بالمذهب الصحيح وليس فيه اصطلاح فتبعه عليه. قوله: المنفصل عن باطن الحيوان قسمان: أحدهما: ليس له استحالة واجتماع في الباطن، وإنما يرشح رشحًا كاللعاب والدمع والعرق فله حكم المترشح منه إن كان طاهرًا فطاهر، وإن كان نجسًا فهو نجس، سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم، وبما أفضلت السباع كلها" (¬1) حكم بطهارة السؤر وذلك يدل على طهارة اللعاب، وركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرسًا معرورًا لأبي فرفضه ولم يحترز من العرق. انتهى. أما الحديث الأول فضعيف، فإن الشافعي قد رواه عن إبراهيم بن محمد وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر والإبراهيمان ضعيفان جدًا عند أهل الحديث، والعمدة عندنا إنما هو حديث الهرة الآتي وأما الحديث الثاني وهو ركوبه معرورًا فحديث صحيح رواه مسلم (¬2). وقوله في الحديث: "معرورًا" هو حال من الراكب، وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا صفة لقوله: "فرسًا" فاعلمه. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (10) والدارقطني (1/ 62) والبيهقي في "الكبري" (1110) وابن الجوزي في "التحقيق" (48) وابن عدي في "الكامل" (2/ 396) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. ضعفه البيهقي والزيلعي والألباني. (¬2) حديث (965) من حديث: جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.

قال الجوهري: تقول: اعروريت الفرس: ركبته عريًا -أي: بلا سرج- وهو افعوعل. انتهى. فعلى هذا يكون اسم الفاعل منه معروريًا والسؤر في الكلام الرافعي مهموز والمراد به بقية الماء. قوله: والثاني: ما له استحالة واجتماع في الباطن كالدم والبول والعذرة فهي نجسة من غير المأكول بالإجماع وأما في المأكول فبالقياس عليه. انتهى ملخصًا. ودعواه الإجماع ليس كذلك فقد ذهب النخعي كما حكاه العمراني في "البيان" والشاشي في "الحلية" إلى أن البول طاهر من المأكول وغيره. قوله: وهل يحكم بنجاستها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه وجهان، قال أبو جعفر الترمذي: لا، لأن أبا طيبة الحجام شرب دمه ولم ينكر عليه وروي أن أم أيمن شربت بوله، ولم ينكر عليها. انتهى. وما نقله عن أبي جعفر الترمذي في هذه المذكورات ليس كذلك، بل إنما خالف في بعضها، فقد قال الماوردي في "الحاوي": وكان أبو جعفر الترمذي من أصحابنا يزعم أن شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده طاهر، وأن شعر غيره من الناس نجس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حلق شعره بمنى قسمه بين أصحابه، ولو كان نجسًا لمنعهم منه، قيل له: قد حجمه أبو طيبة وشرب دمه بحضرته، أفنقول أن دمه طاهر؟ فركب الباب وقال: أقول بطهارتها، قيل له: فقد روي أن امرأة شربت بوله. فقال لها: "إذا لا ينجعك بطنك" (¬1). أفتقول بطهارة بوله؟ قال: لا، لأن البول متقلب من الطعام والشراب، وليس كذلك الدم والشعر لأنهما من أصل الخلقة. انتهى كلام ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (6912) والطبراني في "الكبير" (25/ 89) حديث (230) وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 67) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (4/ 303) بسند ضعيف.

الماوردي ذكره في باب الآنية في أثناء مسألة أولها: قال الشافعي: ولا يطهر بالدباغ إلا الإهاب. وقد تلخص من ذلك أنا لا نقول بطهارة البول والغائط والقيء على خلاف ما ذكره الرافعي. نعم: الخلاف ثابت عن غير أبي جعفر الترمذي، حكاه القفال في "شرح التلخيص" في الكلام على الخصائص، ثم تلقاه منه جماعة، وحديث أبي طيبة ضعيف كما قاله في "شرح المهذب"، وأما شرب المرأة البول فرواه الدارقطني، وقال: إنه حديث صحيح (¬1). وأبو طيبة بطاء مفتوحة ثم ياء بنقطتين من تحت ساكتة بعدها باء موحدة، وأم أيمن اسمها: بركة، وكانت حاضنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكفلت به طفلًا. واعلم أن الفوراني في كتاب "العمد" قد أشار هنا إلى خلاف صرح به غيره، وهو أن العسل هل يخرج من فم النحلة أم من دبرها؟ ، وحينئذ فلابد من استثنائه وحكي خلافًا في كتاب الزكاة في نجاسة العنبر؛ منهم من قال: إنه نجس؛ لأنه يخرج من بطن دويبة لا يؤكل لحمها. ومنهم من قال: إنه طاهر؛ لأنه ينبت في البحر ويلفظه وأما الزباد بزاي معجمة بعدها باء موحدة، ثم ألف وهو الطيب المعبر عنه بالزبدة، فقال في "شرح المهذب" هنا: سمعت جماعة من الثقات من أهل الحرة بهذا يقولون إنه عرق سنور بري. فعلى هذا يكون طاهرًا بلا خلاف، وقال الماوردي والروياني في آخر باب بيع الغرر: إنه لبن سنور في البحر. قالا: فإذا قلنا بنجاسة ما لا يؤكل لحمه ففي هذا وجهان: ¬

_ (¬1) ضعفه الحافظ من أجل أبي مالك النخعي.

أحدهما: أنه أيضًا نجس كغيره. والثاني: طاهر كالمسك، والمعروف أن جميع حيوانات البحر طاهرة يجوز أكلها فيكون الزباد على هذا التقدير طاهرًا. قوله: والقيء. كذا ذكره النووي في "أصل الروضة" ولم يصرح به الرافعي هنا. نعم ذكره في "المحرر" وكذلك في "الشرح الصغير" وحكي فيه وجهًا أنه إن تغير كان نجسًا وإلا فلا. واعلم أن النووي قد ذكر من "زوائده" هنا أن البهيمة إذا أكلت حبًا ثم ألقته صحيحًا، فإن كانت صلابته باقية وهو الذي بحيث لو زرع لنبت كان طاهر العين متنجسًا فيغسل ويؤكل، وإلا كان نجسًا، وقياسه في القيء كذلك فتفطن له، حتي لو ابتلع ماء ثم ألقاه غير متغير وفرعنا على أنه نجس كما صححه الرافعي وغيره طهر بالمكاثرة. نعم: الرطوبة الخارجة من المعدة نجسة، ونحن لا ندري هل خرج منها شيء مع الماء أم لا؟ وبتقديره فلا يعلم أن الخارج مقدار تغير لو فرضناه مخالفًا. قوله: وفي خرء السمك والجراد وبولهما وجهان: أظهرهما: النجاسة كغيرهما. والثاني: لا؛ لجواز ابتلاع السمكة حية وميتة. انتهى. الخُرء بخاء معجمة مضمومة هو الرَّوَث فاعلمه لئلا يتصحف بالجزء بالجيم فإنه فيه خلاف كما سبق. قوله في "أصل الروضة": وفي دم السمك والجراد وجهان أصحهما النجاسة. انتهى.

وما ذكره من أن الجراد له دم غلط، فقد صرح الأصحاب بأنه لا دم له، ولهذا لم يذكره الرافعي فاعلمه. قوله: أما الأدمي فلبنه طاهر إذ لا يليق بكرامته أن يكون نشؤه على الشيء النجس. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاقه ويستثني منه لبن الميتة فإنه نجس، كذا هو في الرضاع من "الحاوي" و"الشامل" وغيرهما وفي البيوع من "الإستقصاء". لكن في أخر بيع الغرر من "البحر" أنه طاهر يجوز شربه وبيعه. واختلفوا في لبن الرجل والصغيرة فذهب ابن الصباغ إلى نجاسته من الرجل، وصاحب "البيان" وابن يونس شارح "التنبيه" إلى نجاسته من الصغيرة وتعليل الرافعي يرشد إليهما، ورأيت في "شرائط الأحكام" لابن عبدان وفي "التلقين". لابن سُراقة وغيرهما من كبار متقدمي الأصحاب ما يدل على الطهارة فإن عبارة الأول: إلا مني الأدميين ولبنهم، وعبارة الثاني: إلا لبن بني آدم. قوله: والأنفحة طاهرة على أصح الوجهين بشرطين: أحدهما: أن يؤخذ من السخلة المذبوحة. والثاني: أن لا يطعم غير اللبن فإن ماتت أو أطعمت غير اللبن فهي نجسة بلا خلاف. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه لا حاجة إلى الشرط الثاني أصلًا فإن اسم الأنفحة لا يطلق في اللغة إذا أكل الحيوان غير اللبن، قال الجوهري: والإنفحة: بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة كرش الحمل، أي: بالحاء، أو الجدي ما

لم يأكل، فإذا أكل فهو كرش عند أبي زيد، وكذلك المنفحة. هذا كلام الجوهري. الأمر الثاني: أن دعوي نفي الخلاف فيما إذا أكل غير اللبن لا تستقيم فقد تقدم أن روث المأكول فيه خلاف وهذا من جملة الأرواث، ويدل عليه كلام الجوهري السابق وكلام غيره أيضًا. قوله: فأما مني الأدمي فطاهر لقول عائشة: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي فيه" (¬1)، وفي رواية "وهو في الصلاة" (¬2)، والإستدلال بها أوضح، وحكي بعضهم عن صاحب "التلخيص" قولين في مني المرأة، وحكي آخرون عنه أن مني المرأة نجس، وفي مني الرجل قولان وهو أقوي النقلين عنه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذه الطرق لما اختصرها في "الروضة" عبر بقوله: وأما المني فطاهر وقيل فيه قولان، وقيل: القولان في مني المرأة خاصة. هذا لفظه. فأسقط الطريقة الثالثة التي هي أشهر مما قبلها، وهي القائلة بأن مني المرأة نجس، وفي مني الرجل القولان، وزاد طريقة أخري وهي حكاية قولين في الجميع، وحاصله: أنه سها فأبدل طريقة بطريقة، ووقع هذا الوهم المذكور في "شرح المهذب" أيضًا، فإن عادته أن يأخذ مما نصه في "الروضة" وينقله إلى الشرح المذكور. الأمر الثاني: أن كلام ابن القاص في "التلخيص" موافق لما رجح الرافعي ثبوته عنه، فإنه قال ما نصه: وكل ما خرج من السبيلين فهو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (227) ومسلم (289). (¬2) أخرجه ابن خزيمة (290) وابن حبان (1380).

نجس إلا مني الرجل، ثم قال: وفي القديم إنه نجس، قاله بعض أصحابنا. هذا لفظه ومنه نقلت؛ فاقتضي الجزم بأن مني المرأة نجس وأن القولين في مني الرجل، ورأيت في كتاب "المفتاح" له أيضًا ما هو أصرح من كلامه في "التلخيص"، فقال: وفي المني قولان: أحدهما: نجس. والآخر: طاهر ومني المرأة نجس. هذه عبارته. الأمر الثالث: أن مني الخصي يلحق بمني المرأة عند من قال بنجاسته كذا حكاه في "الاستقصاء" عن "الخصال" للخفاف ثم رأيته في "الخصال" قبيل البيان عن حال الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها فقال: وكل مني نجس إلا مني الرجل الفحل دون الخادم، هذه عبارته، والحديث الذي ذكره الرافعي رواه الشيخان، وأما رواية "وهو في الصلاة" فرواها ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قوله في "أصل الروضة": وأما الزرع النابت على السرجين فقال الأصحاب ليس هو نجس العين، لكن ينجس بملاقاة النجاسة، فإذا غسل طهر، وإذا سنبل فحباته الخارجة طاهرة. انتهى. هذه المسألة ذكره الرافعي في باب الأواني قبل الكلام على إناء الذهب والفضة فاعلمه. قوله: قلت: القيح نجس وكذا ماء القروح إن كان متغيرًا. . . . إلى آخره. هاتان المسألتان ذكرهما الرافعي في شروط الصلاة. قوله من "زياداته": وليست رطوبة فرج المرأة والعلقة بنجستين في الأصح ولا المضغة على الصحيح، والمِرَّة نجسة وكذا جرة البعير. انتهى.

فيه أمور: أحدها: أن رطوبة الفرج والعلقة والمضغة، قد ذكرها الرافعي في الكلام على المني فحكي أن في العلقة والمضغة وجهين، وقال: أصحهما الطهارة. وأما الرطوبة فلم يصرح فيها بتصحيح ولا بكون الخلاف فيها وجهين أو قولين؟ لكن مقتضي كلامه تصحيح الطهارة فحذف النووي المسائل الثلاث، ثم ذكرها من "زوائده" هنا، وقد ذكرها الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" وصحح طهارة الجميع، وصرح في "الشرح الصغير" بأن الخلاف في الكل وجهان، ولم يبينه في "المحرر". نعم يشترط في العلقة والمضغة على قاعدة الرافعي أن يكونا من الآدمي فإن مني غيره نجس عنده والعلقة والمضغة أولى بالنجاسة من المني، ويدل عليه تردده في "المحرر" و"المنهاج" في نجاستهما مع جزمه فيهما بطهارة المني، وأما على طريقة النووي ففيه نظر، ويقتضي تعليله أنه كذلك أيضًا. الأمر الثاني: أن رطوبة الفرج طاهرة مطلقًا سواء كان الفرج من امرأة أو بهيمة كما قال في كتبه حتي في "تصحيح التنبيه" و"دقائق المنهاج". الأمر الثالث: أن الشيخ قد قال في "المهذب" أن المنصوص نجاسة رطوبة الفرج، وقال الماوردي في باب ما يوجب الغسل: إن الشافعي قد نص في بعض كتبه على طهارتها، ثم حكي التنجيس عن ابن سريج فتلخص أن الخلاف فيها قولان لا وجهان. الأمر الرابع: "أن النووي قد نقل في شرح المهذب" أن المذهب القطع بطهارة المضغة، وقيل: على وجهين، وهو مناقض لجزمه هنا بطريقة الوجهين، وأبلغ منه أنه سوى في "المنهاج" بين العلقة والمضغة في التعبير

بالأصح فجعل الخلاف فيها قويًا، والصواب خلاف ما في "شرح المهذب" لأن المضغة إما كميتة الآدمي وفيها قولان في الجديد شهيران أو كجزءه المنفصل، وفيه طريقان، حاكية للخلاف، وقاطعة بالنجاسة، فكيف يكون الصحيح فيها القطع بالطهارة؟ . الأمر الخامس: إذا فرعنا على نجاسة رطوبة الفرج فنقل النووي في "شرح المهذب" عن "فتاوى صاحب الشامل" ولم يخالفه: أن المولود لا يجب غسله إجماعًا. ذكره ذلك في موضعين من باب إزالة النجاسة وقال في آخر باب الآنية من الشرح المذكور إن فيه وجهين حكاهما الماوردي والروياني، وقد حكاهما أيضا الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في "فتاويه" ورأيت في "الكافي" للخوارزمي أن الماء لا ينجس بوقوعه فيه على الأصح فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعًا [على الخلاف] (¬1)، وأن يكون مفرعًا على القول بعدم وجوب الغسل لكونه نجسًا معفوًا عنه. الأمر السادس: في بيان هذه الأمور: فأما رطوبة الفرج فليس المراد بها البلل الخارج مع الولد أو غيره فإنه نجس كما جزم به الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "شرح المهذب"، وقال الإمام: لا شك فيه، بل هي كماء أبيض متردد بين المذي والعرق كما قاله في "شرح المهذب". والعلقة: دم غليظ يستحيل المني إليه. والمضغة: لحمة سميت بذلك لأنها صغيرة بقدر ما يمضغ. وأما المرة: فبكسر الميم وهي إحدى الطبائع الأربع، كما قال الجوهرى، ونجاستها ظاهرة، وذكر في "شرح المهذب" عن "الفروق" ¬

_ (¬1) نهاية سقط كبير من أ، ب.

للشيخ أبي محمد كلامًا يوهم أن وعاء المرة أيضًا نجس وهو باطل، ومراد الشيخ ذكر أشياء هي مقر لما يستحيل من النجاسات ولهذا عدّ معها المعدة والمثانة. نعم: إن انفصلت جاء فيها الخلاف في جزء الآدمي. وأما الجرة فهو بكسر الجيم كما قاله الجوهري قال: وهو ما يخرجه البعير ليجتر به، ونجاسته واضحة؛ لأنه كالقيء. قوله: أيضًا من "زياداته": وأما الماء الذي يسيل من فم النائم فقال المتولى: إن كان متغيرًا فنجس وإلا فطاهر، وقال: غيره: إن كان من اللهوات فطاهر أو من المعدة فنجس. ويعرف كونه من اللهوات بأن ينقطع إذا طال نومه وإذا شك فالأصل عدم النجاسة انتهى كلامه. وهو عجيب يوهم اختلافًا في المسألة، ولا شك أنه توهم ذلك فإنه في "التحقيق" جعله وجهين، وليس كذلك بل هو مقالة واحدة، فإن الخارج من المعدة يكون متغيرًا بخلاف الخارج من غيرها هكذا ذكره الأصحاب حتى الرافعي في "الشرح الصغير" فإنه ذكر أنه إنما يكون نجسًا إذا خرج من المعدة. ثم قال: ويعرف كونه من المعدة بصفرته ونتنه إلا أن بعضهم قسمه باعتبار المحل، وبعضهم باعتبار الصفات والآثار، وبعضهم جمع كالرافعي. وكلامه في "شرح المهذب" أقل إيهامًا، وصرح فيه بأن القائل الآخر هو الشيخ أبو محمد في "التبصرة"، ومن جملة كلامه هذا: أن الخارج من المعدة نجس بالإجماع.

قوله في المسألة: وإذا حكم بنجاسته وعمت بلوى شخص به لكثرته منه فالظاهر أنه يلحق بدم البراغيث وسلس البول ونظائره. انتهى لفظه. ذكر مثله في "شرح المهذب" وهو غير مستقيم لأن حكم دم البراغيث أنه يعفى عنه في الثوب والبدن ولا يجب غسله، وحكم سلس البول أنه يجب غسله والتطهير منه بحسب الإمكان، وإنما يعفى عن الخارج منه بعد الطهارة [فإلحاق] (¬1) الماء السائل بأحدهما لا يصح معه إلحاقه بالآخر، ويلزم من ذلك عدم العلم بما قاله. وقال في "التحقيق": قياس المذهب العفو. وهذه عبارة جيدة مبينة للحكم فليؤخذ بها. قوله في "الزيادات" أيضًا: قال المتولى: والوسخ المنفصل من الآدمى فى حمام وغيره له حكم ميتته، وكذلك وسخ غيره. وفيما قاله نظر ينبغي أن يكون طاهرًا قطعًا كالعرق. انتهى. وضعف النووي في "شرح المهذب" كلام "التتمة" فقال: وهو ضعيف، لم أره لغيره. والذي قاله النووي مردود، فإن الوسخ قد يكون عن تجمد عرق أو انفصال غبار ونحوه، وقد يكون قِطَعًا يسيرة تتفتت من الجلد عند خشونته كما ينبثق كثيرًا في الرجلين وخصوصًا عند تقشف البدن. فلا يسلم أن المتولى أراد القسم الأول، بل الظاهر أنه يريد الثاني، والتخريج الذي قاله فيه صحيح. وأما قوله في "شرح التهذيب": إنه لم يره لغيره. فغريب، فإن صاحب "البحر" قد جزم به أيضًا، وهو كثير النقل عنه. ¬

_ (¬1) في جـ: فإلحاقه.

الفصل الثاني في الماء الراكد

الفصل الثاني في الماء الراكد قوله: ذهب أبو عبد الله الزبيري إلى أن القلتين ثلاثة مائة مَنٍ. ثم قال: والمذهب أن القلتين مائتان وخمسون منًا وهو خمسمائة رطل. انتهي كلامه. واعلم أن هذا النقل عن الزبيري قد وقع للقفال، فتابعه عليه جماعة ممن جاء بعده، فرأيته في "تعليق القاضي الحسين"، وكذلك في "شرح التلخيص" له فقال: ومن أصحابنا من قال: وهو أبو عبد الله الزبيري ذكره في كتابه الملقب بـ"الكافي" أن القلتين ثلثمائة منًا. هذه عبارته. ونقله عنه أيضًا الفوراني في "الإبانة"، وفي "العمد". وكذلك أبو الحسين الطبري في ["العدة"] (¬1)، والإمام، ثم الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" و"عقود المختصر" فتابعهم الرافعي ثم المصنف في "الروضة". وقد راجعت كلام الزبيري في كتابه "الكافي" فرأيت فيه الجزم بأن القلتين خمسمائة رطل على وفق المذهب، ذكر ذلك في موضعين من كتابه في أوله وبعد التيمم. قوله: والأصح أن هذا التقدير تقريب، فلا يضر نقصان القدر الذي لا يظهر نقصانه تفاوت في التغير بالقدر المغير من الأشياء المُغيِّرة. انتهي. فيه أمران: أحدهما: أنه قد اعترض عليه في "الروضة" فقال من "زياداته": ¬

_ (¬1) في جـ: عدته.

الأشهر تفريعًا على التقريب أنه يعفي عن نقص رطلين، وقيل: ثلاثة ونحوها، وقيل: مائة رطل. انتهي كلامه. وما ذكره هاهنا تفريعًا على التقريب قد خالفه في "التحقيق" فصحح ما قاله الرافعي فقال: وهو تقريب في الأصح، فلا يضر نقصان ما لا يظهر تفاوت بنقصه. وقيل: يعفي عن رطلين، وقيل: ثلاثة، ويقال: مائة. هذا لفظه. وكلامه في "شرح المهذب" يقتضي أن الراجح ما ذكره في "الروضة". الأمر الثاني: أن هذا الذي جزم به الرافعي هو بحث أبداه الإمام فقال: إذا قلنا بالتقريب فالأقرب أنه لا [يضر] (¬1) نقصان قدر لو طرح على [باقيه] (¬2) شيء من الزعفران مثلًا [لو] (¬3) قدر طرحه على الكامل لم يظهر تفاوت في التغير. فإن كان قدرًا يظهر التفاوت بسببه ضر. هذا كلامه. فجزم به الرافعي، وعبر عنه بعبارة قلقة، وتبعه عليه في "الروضة"، وقد [تحرر] (¬4) أن الصواب خلافه. قوله من "زوائده": وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة وشك هل هو قلتان أم لا؟ فالذي جزم به صاحب "الحاوي" وآخرون أنه نجس لتحقق النجاسة، ¬

_ (¬1) في جـ: يطهر. (¬2) في جـ: ما فيه. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) في أ، ب: يجوز أن يكون.

ولإمام الحرمين فيه احتمالان. والمختار، بل الصواب الجزم بطهارته لأن الأصل طهارته وشككنا في نجاسة منجسه، ولا يلزم من النجاسة التنجيس. انتهي كلامه. ومراده "بالقليل" هو القليل عرفًا لا المصطلح عليه. إذا علمت ذلك فما ذكره هو وغيره من إطلاق المسألة ليس بجيد، بل الصواب، أن يقال: إن جُمع شيئًا فشيئًا، وشك في وصوله قلتين، فالأصل القلة. وإن كان كثيرًا وأخذ منه شيء، ثم شك فالأصل بقاء الكثرة. وإن ورد شخص على ماء يحتمل القلة والكثرة فهذا موضع التردد. قوله: أما القليل فيتنجس بملاقاة النجاسة تغير بها أم لا، لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" (¬1) ويروى "نجسًا" (¬2). انتهى. استثنى النووي -رحمه الله- في أصل "الروضة" ما لا نفس له سائلة، وما لا يدركه الطرف والهرة إذا تنجس فيها ثم غابت على ما في الثلاثة من الخلاف المعروف. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن استثناء الهرة يدل على أن الضم باقٍ على الحكم بتنجيسه، وإلا لم يصح استثناؤه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (63) والترمذي (67) والنسائي (52) والدارمي (732) وابن خزيمة (92) والحاكم (459) والشافعي (2) والدارقطني (1/ 14) وابن أبي شيبة (1/ 133) والبيهقي في "الكبرى" (1162) من حديث ابن عمر. وهذا حديث صحيح. (¬2) أخرجه أبو داود (65) وابن ماجه (517) وأحمد (4803) والدارمى (731) وابن حبان (1249) والحاكم (460). وهي رواية صحيحة أيضًا، والله أعلم.

وحينئذ فيكون الأصحاب قد أخذوا بالأصل في الموضعين، أي: في بقاء طهارة الماء، وبقاء نجاسة الفم، وليس في "الشرح" و"الروضة" ما يخالف هذا فاعتمده فإنه أمر مهم مُنقاس قد غفل عنه من غفل. الأمر الثاني: أنه يستثنى مع ذكره أمور: منها: غسالة النجاسة بالشروط المعروفة. ومنها: اليسير من الشعر الذي حكمنا بتنجيسه فلا ينجس الماء القليل كما صرح به النووي من "زياداته" في باب الأواني ونقله عن الأصحاب. قال: ولا يختص الاستثناء بشعر الآدمي في الأصح. ثم قال: إن اليسير يعرف بالعرف. وقال الإمام: لعله الذي يغلب إنباته. وقال في "المهذب": يعفي عن الشعرة والشعرتين [وفي "تحرير الجرجاني": يعفي عن الشعرتين] (¬1) والثلاث. ومنها: القليل من دخان النجاسة إذا حكمنا بتنجيسه فإنه يعفي عنه كما جزم به الرافعي في آخر صلاة الخوف، لكنه لم ينص على الماء بخصوصه وإنما أطلق العفو، ومقتضاه أنه لا فرق وهو ظاهر أيضًا، ووراء ذلك وجهان آخران مشهوران حكاهما في "الكفاية": أحدهما: العفو قليلًا كان أو كثيرًا. والشافي: التنجيس مطلقًا. وفيه كلام آخر يأتي في صلاة الخوف. ومنها: الحيوان إذا كان على منفذه نجاسة ثم وقع في الماء لا ينجسه ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

على أصح الوجهين كما ذكره الرافعي أيضًا في باب شروط الصلاة للمشقة في صونه، ولهذا لو كان مستجمرًا نجسه كما جزم به الرافعي: وادعي في "شرح المهذب" أنه لا خلاف فيه، لكنه حكي في "التحقيق" وجهًا بخلافه. ومنها: الصبي إذا أكل شيئًا نجسًا ثم غاب واحتمل طهارة فمه، فإنه كالهرة في عدم التنجيس كذا ذكره ابن الصلاح في "فتاويه" وهي مهمة نفيسة ولهذا قال الغزالي: إن هذا الخلاف لا يجري في حيوان لا يعم اختلاطه بالناس، وخالفه المتولي فحكاه فيما إذا أكل السبع جيفة ثم غاب. واعلم أن الحديث السابق وهو حديث القلتين رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الطحاوي وابن منده وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وزاد أنه على شرط الشيخين. وأما رواية: نفي التنجيس. فرواها أبو داود وابن حبان ولفظها: "فإنه لا ينجس"، وإسنادها صحيح كما قاله البيهقي، وجيد كما قاله يحيى بن معين. وفي رواية: "إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء". رواه الشافعي في "الأم" والمختصر والبيهقي في "السنن الكبير". قوله: وإذا تغير بعض الماء فظاهر المذهب نجاسة جميعه، وخرج وجه أنه لا ينجس إلا القدر المتغير وهو ظاهر لفظ الكتاب. انتهى. اعلم أن الرافعي قد جزم بعد هذا في الكلام على الجارى بموافقة الوجه الثاني، وسأذكر لفظه هناك، وصححه هنا في "الروضة" من "زوائده"، وإن كان لفظه يوهم أنه وجه آخر، فتفطن له. وقال في "الشرح الصغير": إنه الأقوى.

فعلى هذا يكون المتغير كنجاسة جامدة، فإن كان الباقي دون القلتين فنجس، وإلا فطاهر. قوله: ثم لو طال مكث الماء وزال تغيره بنفسه عاد طهورًا. . . إلى آخره. ينبغي أن يعلم أنه لابد في هذه الحالة أيضًا من تقدير الواقع مخالفًا للماء. وحينئذ فإن غيره ضر، وإلا فلا لأنه لا يزيد على ما إذا لم يغيره حالة الوقوع. قوله في أصل "الروضة": فإن لم توجد رائحة النجاسة لطرح المسك فيه، أو طعمها لطرح الخل، أو لونها للزعفران؛ لم يطهر بالاتفاق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه في المسك من الاتفاق لم يذكره الرافعي وليس كذلك أيضًا فقد حكاه فيه الخوارزمي في "الكافي" وجهين وقياس الباقي كذلك. الأمر الثاني: أنه أشار بالمسك ونحوه إلى كون ذلك ممازجًا للماء فإن لم يكن ممازجًا كما لو ألقى فيه عودًا فزالت الرائحة فإنه يطهر كذا رأيت هذا الضابط بتمثيله في "فتاوي القفال" فتفطن له. قوله: وإن طرح فيه التراب فلم يكف التغير فهل يعود طهورًا؟ فيه قولان] (¬1). ¬

_ (¬1) نهاية سقط كبير من أ.

أحدهما: نعم لأن التراب لا يغلب عليه شيء من الأوصاف الثلاثة حتى يفرض سترها، فإذا لم يصادف تغيرًا أشعر ذلك بالزوال. وأصحهما: لا يعود طهورًا؛ لأنه وإن لم تغلب هذه الأوصاف إلا إنه يكدر الماء، والكدورة من أسباب الستر فلا يدري معها أن التغير زائل أو مغلوب انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد وافق في "الروضة" وفي أكثر كتبه على أنه لا يطهر، ثم خالف في "النكت" التي على "التنبيه" فصحح أنه يطهر وهذا التصحيح لا يلتفت إليه فاعلمه. الثاني: أن التعليل الذي ذكره الرافعي في أخر كلامه يشعر بأن محل الخلاف إنما هو في حال كدورة الماء حتى إذا صفا ولم يبق فيه تغير فإنه يعود طهورًا بلا خلاف، والأمر كذلك فقد صرح به القفال في "فتاويه" والمتولي في "التتمة" والنووي في "شرح المهذب"، وحذف أعني النووي التعليل المذكور من "الروضة"، وأرسل الخلاف. قوله: وذكر بعضهم أن هذا الخلاف مفروض في تغير الرائحة وأما لو تغير اللون لم يؤثر طرح التراب فيه بحال، والأصول المتعمدة ساكنة عن هذا التفصيل انتهى كلامه. فأما البعض الذي أشار إليه ولم يصرح باسمه فهو العجلي شارح "الوسيط"، وسبب عدم التصريح به: معاصرته له؛ على أنه قد صرح أيضًا بالنقل عنه في الطلاق في المسألة السريجية وعظمه في أثناء النقل عنه. وأما دعواه أن الأصول ساكتة عنه فعجيب، فقد صرح المحاملي

في "المجموع" بجريان الخلاف في الأوصاف الثلاثة، وصرح الروياني في "البحر" بالخلاف في اللون وسكت عما عداه إلا أن مقتضاه التعميم. وصرح القاضي الحسين والفوراني والمتولي بالخلاف فيه وفي الطعم، واقتضى كلامهم: عدم القول به في الرائحة على عكس ما قاله العجلي. وقد استدرك في "الروضة" هنا على الرافعي فقال: بل صرح المحاملي والفوراني بجريان الخلاف في التغير بالأوصاف الثلاثة وأضاف إليهما في "شرح المهذب" المتولي أيضًا، وقد ظهر لك أن ما نقله عن الفوراني والمتولي ليس الأمر فيه كذلك، وقد نقله في "المطلب" عنهما على الصواب. قوله: وأما ما لا يدركه الطرف كنقطة الخمر والبول التي لا تبصر والذبابة التي تقع على النجاسة تم تطير عنه، لفظه في المختصر يشعر بأنه لا يؤثر، ونقل عن "الأم" عكسه واختلف الأصحاب فيها على سبعة طرق إحداها: قولان في الماء والثوب. والثانية: تؤثر فيهما قطعًا. والثالثة: لا قطعًا. والرابعة: تؤثر في الماء، وفي الثوب قولان. والخامسة: تؤثر في الثوب وفي الماء قولان. والسادسة: يؤثر في الماء دون الثوب. والسابعة: عكسه. وظاهر المذهب عند المعظم هو التنجس.

ويتحصل من هذه الطرق أربعة أقوال. أحدها: أنها تنجسهما كغيرها من النجاسات. والثاني: لا لتعذر الاحتراز. والثالث: تنجس الثوب دون الماء؛ لأن الماء له قوة تدفع النجاسة. والرابع: عكسه لأن صون الماء بالتغطية ممكن بخلاف الثوب؛ ولأن وقوع ذلك غالبًا إنما هو بطيران الذباب، وفي طيرانها ما يجففها فيؤثر في الماء بخلاف الثوب حتى لو كان الثوب رطبًا كان كالماء عند صاحب هذه المقالة. انتهى كلام الرافعي ملخصًا. فيه أمران. أحدهما: أنه لم يصح هو ولا النووي في "الروضة" شيئًا من الطرق، وإنما صححا أصل الحكم، والصحيح طريقة القولين فقد صححها الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "التحقيق" "وشرح المهذب". الأمر الثاني: لم يصرح الرافعي ولا النووي في "الروضة" بغير الماء المطلق كاللبن ونحوه، والماء المتغير بالطاهرات، ولا شك أنه يستفاد من كلام الرافعي السابق اختلاف في أن العلة في عدم تنجيسه للماء المطلق هل هي المشقة أو ما فيه من القوة الدافعة للنجاسة؟ فعلى الأول يتناول الماء وغيره، وعلى الثاني يختص بالماء. وقد صرح في "المنهاج" بأن ذلك كله لا ينجس فقال: ويستثني ميتة لا دم لها سائل فلا تنجس مائعًا على المشهور، وكذا في قول نجس لا يدركه طرف. قلت: ذا القول أظهر والله أعلم.

وتقرير ما ذكرناه أن الرافعي في "المحرر" لم يعبر فيما لا دم له يسيل بالمائع بل بالماء فعبر به النووي ثم نبه عليه في "الدقائق" فقال: وقوله مائعًا أحسن من قول "المحرر" ماء؛ لأن المائع أعم والحكم سواء هذه عبارته. ثم حكم على ما لا يدركه الطرف بما حكم به على ما لا نفس له سائلة حيث عبر بقوله: وكذا -أي: هذا الحكم- وهو: عدم تنجيس المائع ثابت فيما لا يدركه الطرف، ونقل في "الكفاية" عن بعض شراح "التنبيه" أنه ينجس به بلا خلاف. ثم قال: ولست أعتقد صحته ثم استدل عليه بشيء فيه ضعف، وقد تحرر أمره واتضح بما ذكرناه. قوله: بل لو كمل الماء الناقص عن القلتين بماء ورد وصار مستهلكًا فيه ثم وقعت فيه نجاسة تنجس وإن لم يتغير، وإنما لا تقبل النجاسة قلتان من محض الماء. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وهو مشكل، فإنهم قد جعلوا المائع المستهلك في الماء بمثابة الماء في جواز الطهارة به، وبالغوا فيه فأوجبوه كما تقدم فلم لا جعلوه بمثابته في عدم تنجيس الماء عند بلوغه به قلتين؟ . قوله: ولو كوثر الماء النجس عاد طهورًا ثم قال: والعبرة بضم الماءين لا بخلطهما حتى لا يضر تمييز الصافي منهما عن الكدر. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" لكن ذكر بعد هذا في الكلام على ما إذا غمس كوزًا فيه ماء نجس في ماء كثير ما يعرفك أن الماءين إذا كانا على الأرض واتصلا بفتح حاجز فلابد من اتساعه ولا يكفي الضيق. قوله: لو أضيف إليه ما يغمره ويغلب عليه ولكن لم يبلغ به قلتين لم يطهر

في أظهر الوجهين، فإن قلنا: يطهر لم تعد طهوريته. انتهى. والأكثرون على أنه يطهر وقد نبه عليه ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: إذا وقع في الماء الراكد الكثير نجاسة جامدة فهل يجوز الاغتراف مما حوالي النجاسة [أم يجب] (¬1) التباعد عنها بقدر قلتين؟ فيه قولان: القديم وهو ظاهر المذهب على خلاف الغالب أنه يجوز الاغتراف من أي موضع شاء ولا يجب التباعد لأنه طاهر كله بدليل حديث القلتين. والجديد: أنه يجب لأن ما دون القلتين مما يجاور النجاسة لو كان وحده لكان نجسًا فكذلك إذا كان معه غيره وأثر الكثرة رفع النجاسة عما وراء ذلك القدر. انتهى. وما ذكره [من] (¬2) كون الفتوى على القديم تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، لكن رأيت في "شرح الفروع" "وشرح التلخيص" كلاهما للشيخ أبي علي السنجي أن الشافعي نص في "اختلاف الحديث" على أنه لا يجب التباعد وهو من الجديد قال: وحينئذ فالفتوى إنما هي على الجديد، وقد نقله عنه أيضًا النووي في "شرح المهذب" وقال: إن القلتين يشترطان من كل جانب على الصحيح، وقيل: توزعان على الجوانب الأربعة. قوله: وينبغي أن يبحث عن القولين في مسألة التباعد أهما في جواز الاستعمال بعد الاتفاق على الطهارة أم في الطهارة والنجاسة والتباعد يترتب عليهما؟ ثم قال: هذا فيه نظر وتأمل [وقد صرح بعض المعلقين عن الشيخ أبي محمد بالأول] (¬3). انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) زيادة من ب. (¬3) سقط من جـ.

فيه أمور: أحدها: أن الرافعي نفسه قد صرح في تعليل القولين بالثاني، كما تقدم نقله عنه، فكيف يستقيم معه أن يبدي ما أبداه من التردد. ثم إن المسألة مشهورة مصرح بها في كتب العراقيين والخراسانيين وقد نبه عليه النووي في "شرح المهذب"، وفي "الروضة" أيضًا فقال: هذا التوقف عجيب فقد صرح بالأول أي بالطهارة جماعات منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وصاحب "الحاوي" والمحاملي وصاحب "الشامل" "والبيان" وآخرون وهو الصواب. قال: وقطع بالثاني جماعة منهم القاضي الحسين وإمام الحرمين والبغوي وغيرهم حتى قال هؤلاء الثلاثة: لو كان قلتين فقط كان نجسًا على قول التباعد. قلت: وجزم أيضًا الدارمي في "الاستذكار" وأبو الحسين الطبري في "العدة" بأنه طاهر. والفوراني في "الإبانة" والخوارزمي في "الكافي" بأنه نجس. الأمر الثاني: أن الشيخ أبا محمد قد نص على أنه نجس وقطع به على خلاف المنقول عنه هاهنا كذا رأيته في موضعين من كتاب "التبصرة" له ونقله عنه ابن الصلاح أيضًا فيما جمعه من الفوائد في رحلته إلى بلاد الشرق. الثالث: أن الشافعي قد نص على المسألة وجعل الذي يجب التباعد عنه نجسًا، كذا رأيته في "شرح التلخيص" للقفال فقال ما نصه: قال الشافعى: وما حوالي الجيفة نجس حتى يتباعد عنه بقدر قلتين ويستعمل ما

وراء ذلك هذا لفظه. ورأيت في "فتاويه" أيضا نحوه، وقد انقطع النزاع بذلك. قوله في الزيادة المتقدم ذكرها: إن صاحب "الحاوي" والقاضي أبا الطيب ممن صرحا بالطهارة. وليس كما قال في النقل عنهما. فأما القاضي أبو الطيب فلم يصرح بشيء فإنه قال في تعليقه: فقد اختلف أصحبنا في كيفية استعماله على وجهين: أحدهما: قاله أبو العباس ابن القاص وأبو إسحاق المروزي: أنه يجب أن يستعمل من موضع يكون بينه وبين النجاسة قدر قلتين ووجهه: أنه لا حاجة إلى أن يستعمل الماء وفيه نجاسة. والوجه الثاني: قاله أبو العباس ابن سريج والاصطخري وهو الصحيح وعليه عامة أصحابنا: أنه يستعمل منه كيف شاء هذا كلامه. وأما الماوردي فقال: أحدهما: لا يجوز أن يستعمل من هذا الماء إلا من مكان يكون بينه وبين النجاسة قلتان اعتبارًا بأن ما قارب النجاسة كان أخص بحكمها. والثاني: يجوز لأن الماء الواحد لا يتبعض حكمه وإنما يجري عليه حكم واحد في النجاسة أو الطهارة. هذا موضع الحاجة من كلامه وهو وإن لم يكن صريحًا في كونهما في النجاسة فلا إشعار له بالطهارة أصلًا.

الفصل الثالث في الماء الجاري

الفصل الثالث في الماء الجاري قوله: قال الغزالي: النهر المعتدل إذا وقعت فيه نجاسة مائعة لم تغيره فطاهر؛ إذ الأولون لم يحترزوا عن الأنهار الصغيرة. قال الرافعي في شرحه له: كلام الغزالي هنا في الماء القليل وكأنه اختيار للقول القديم الذي حكاه صاحب "التلخيص" وغيره أن الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير، وذلك القول قد اختاره طائفة من الأصحاب ووجهوه بشيء آخر غير ما ذكره في الكتاب، وهو أن الماء الجاري وارد على النجاسة فلا ينجس إلا بالتغير كالماء الذي زالت به النجاسة. انتهى كلامه ملخصًا من تفرق كبير. وكلامنا معه موقوف على مقدمة. فنقول: اختلف الأصحاب في محل القديم فقال في "التتمة": محله في الماء الذي يجري على النجاسة الواقفة وينفصل عنها، وقال: إن صاحب "التلخيص" رواه هكذا على القديم. وقال القاضي أبو الطيب: محله في الجرية التي اشتملت على نجاسة جامدة تجري بجريان الماء لا قبلها ولا بعدها. وكذا ذكره في "المهذب". وقال الخوارزمي محله في النجاسة المائعة التي [لم] (¬1) تغير الماء. وقال في "شرح المهذب": القديم جار في المائعة والجامدة الواقفة والجارية. والحق: ما قاله في "التتمة" لاسيما وقد نقلوه صريحًا عن تصوير الشافعى، وتعليل الرافعي يدل له أيضًا، واستبعد في "الكفاية" تصوير ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القاضي قال: لأن الجرية شبيهة بالماء الراكد. إذا علمت ذلك فقد صرح الغزالي عقب هذا بأن القليل المار على النجاسة نجس، وألحق أيضًا الجارية بالجامدة وسأذكر لفظه عقب هذا، وحينئذ فيبطل قول الرافعي: إنهم وجهوه بأن الجاري وارد على النجاسة إلى آخره، فإن هذا تعليل ممن صور القديم بالماء المار عليها، وأخذ الرافعي حكمًا من قائل وتعليلًا من آخر، فلزم الجمع بين متنافيين، وهذا كله نشأ من تنزيل الرافعي كلام "الوجيز" على اختيار القديم. قوله: في المائعة أيضًا وهذا إذا لم تغير الماء حسًا أو تقديرًا فإن غيرته فالقدر المتغير نجس وحكم غيره معه كحكمه مع النجاسة الجامدة. انتهى كلامه. وقد سبق في الماء الراكد أنه إذا تغير بعضه تنجس جميعه على ظاهر المذهب وحكى وجهًا موافقًا لما جزم به هاهنا. وقد ذكر هو وغيره أن كل جرية من الماء الجاري لها حكم ماء مستقل فلزم حينئذ أن تكون المسألتان على حد سواء، وقد صرح هو به بعد هذا في آخر الفصل فقال: الثالث قضية كلام الأكثرين تلويحًا وتصريحًا أنه لا فرق بين الحريم وغيره لا في الماء الراكد ولا في الجاري؛ لأنه إن كان طاهرًا فلا معنى لوجوب الاجتناب، وإن كان نجسًا فليزمه نجاسة ما يجاوره بملاقاته حتى يتعدى إلى جميع الراكد وإلى جميع الجاري مما في عرض النهر هذه عبارته. قوله: قال الغزالي: وإن كانت جامدة فإن كانت تجري بجريان الماء فما فوق النجاسة وهو الماء الذي لم يصل إلى النجاسة وما تحتها وهو الذي لم تصل النجاسة إليه طاهر، وما على يمينها وشمالها فيه طريقان: قيل: بطهارته، وقيل: بتخريجه على قولي التباعد.

وإن كانت النجاسة واقفة فالحكم ما سبق إلا أن ما يجري على النجاسة وينفصل عنها فهو نجس فيما دون القلتين. انتهى كلام الغزالي. وفيه أمور: أحدهما: أن ما ذكره من طهارة الجريان التي بعد النجاسة والتي قبلها قد وافقه عليه الرافعي والنووي، وإطلاقه لا يستقيم، كما نبه عليه البغوي في "التهذيب"، ونقله عنه في "شرح المهذب" فقال: إن الجرية التي تعقب جرية النجاسة تغسل المحل فهي في حكم غسالة النجاسة. والذي قاله البغوي ظاهر متعين حتى لو كانت نجاسة مغلظة فلابد من سبع جريات عليه، ثم إن ما عدا السابعة من تلك الجريات نجس أيضًا على تفاوت بين تلك الغسلات في عدد ما يجب الغسل منها وهو مذكور في حكم غسالة الكلب واضحًا فليراجع منه. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر عقب هذا أن منهم من أجرى خلاف التباعد فيما بعد النجاسة دون ما قبلها؛ لأن ما بعدها مستمد مما قبلها، وإن في كلام العراقيين ما يقتضي طرده في جميع الجوانب وهاتان الطريقتان لم يذكرهما في "الروضة". الأمر الثالث: أن الطريقتين اللتين فيما على جانبي النجاسة لم يصحح الرافعي منهما شيئًا في هذا الكتاب وتبعه عليه في "الروضة" وصحح الرافعي في "الشرح الصغير" طريقة التخريج وعبر بالأظهر، وصحح النووي في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" طريقة القطع، وهو الصواب فقد نقلها في "النهاية" عن الأكثرين. وصرح -أعني الإمام- بأن الخلاف المذكور محله في الباقي من هذه

الجرية لا من غيرها، والطريقتان المذكورتان وهما الساقطتان من "الروضة" جاريتان أيضًا كما قاله الرافعي فيما يسامت النجاسة في العمق أو على وجه الماء. الأمر الرابع: أنا قد استفدنا من لفظ الغزالي المذكور في أول المسألة أن الماء القليل إذا كان جاريًا لا ينجس إذا كانت النجاسة مائعة. أو جامدة تجري بجريانه وأنه ينجس إذا كانت النجاسة جامدة وهو يمر عليها. إذا تقرر هذا، فقد اعترض الرافعي في آخر الفصل على الغزالي فقال: إنه: لا يمكن أن تكون مسائل الفصل مفروضة في القليل وإلا كان خلاف التباعد جاريًا فيما على يمين النجاسة ويسارها مع قلة الماء وهو بعيد، بل الوجه الحكم بالنجاسة عند القلة، وكذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. هذه عبارته. وقد ظهر لك أن الاعتراض مردود وأن كلام الغزالي على العكس مما توهمه. قوله: أما النهر العظيم فيجتنب فيه حريم النجاسة خاصة ولا يعود فيه الخلاف الذي ذكرناه في التباعد عما حوالي النجاسة في النهر المعتدل، كذا قاله الغزالي في "الوجيز" وحكى في [البسيط] (¬1) وجهًا أنه [لا] (¬2) يجري خلاف التباعد فيه أيضًا، ووجهًا آخر أنه لا يجب اجتناب الحريم ثم ذكر في "الوجيز" أن هذا الحريم مجتنب في الماء الراكد، وجزم في "البسيط" بأنه لا يجتنب وفرق بينه وبين الماء الجاري على أحد الوجهين بأن الراكد لا حركة له حتى ينفصل البعض عن البعض في الحكم، فكما يجوز الاغتراف مما بعد النجاسة يجوز الاغتراف من جوارها. ¬

_ (¬1) فى أ: الوسيط. (¬2) سقط من جـ.

ثم قال: وقضية كلام الأكثرين تصريحًا وتلويحًا أنه لا فرق -أى في عدم الوجوب- بين الحريم وغيره لا في الماء الراكد ولا في الجاري. انتهى ملخصًا. وفيه أمران: أحدهما: أن الصحيح جريان [خلاف] (¬1) التباعد في النهر العظيم على وفق الوجه المنقول عن "البسيط" مخالفًا لما جزم به في "الوجيز"، فقد صرح الرافعي في "الشرح الصغير" بأن الأكثرين قالوا به ونقل الفرق عن الإمام والغزالي خاصة، وصحح النووي في أصل "الروضة" الفرق بينهما كما قاله في "الوجيز" فاعلمه واجتنبه، فإن الرافعي لم يصحح في "الكبير" شيئًا، وقد بين في "الصغير" أن الأكثرين على خلافه. وسبب وقوع النووي فيما وقع فيه أن الرافعي ذكر في أول الفصل أنه يشرح كلام الغزالي على ما هو عليه إلى آخر الفصل، ثم يتعقبه فلم يتعقب هذا ولا التزم القول بما فيه على ما هو عليه إلى آخر الفصل فلم يستحضر النووي حالة الاختصار ما قدمه أو استحضره فظن بسكوته عليه أنه المعروف فوقع فيما وقع. ولا شك أن سكوت الرافعي وهم، ولم يتعرض في "شرح المهذب" لشيء من هذا بالكلية. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد اختصر موضع الخلاف بقوله: وفيه وجه: أنه يجب اجتناب الحريم خاصة وبه قطع الغزالي وطرده في حريم الراكد أيضًا. هذه عبارته من غير زيادة عليها. فدعواه أن الغزالي قطع به عجيب، فإن الرافعي قد نقل عنه أنه ذكر الخلاف في "البسيط"، وأما في "الوجيز" فإنه جزم ولم يقطع. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقد تقدم في الخطبة أن الرافعي قد فرق بينهما. ثم إن النووي قد أوهم كلامه أيضًا [القطع] (¬1) بذلك في الراكد، مع أن الرافعي قد نقل عنه أنه جزم في "البسيط" بعدم وجوب الاجتناب كما تقدم، فليته اقتصر على الحذف من الأصل ولم يزد فيدعي القطع. قوله: ولابد من بيان العظيم والحريم، أما العظيم فقد قال الغزالي: إنه الذي يمكن التباعد فيه عن كل جانب من جوانب النجاسة بقدر قلتين والمعتدل ما لا يمكن فيه ذلك. وقال الإمام: المعتدل هو الذي يفرض تغيره بالنجاسات المعتادة، والعظيم هو الذي يمكن تغيره بها. قال: والبعرة في النهر المعتدل كالجيفة في الوادي، وأما الحريم فقال الغزالي: ما يتغير شكله بسبب النجاسة؛ أي بتحريكه إياها وانعطافه عليها والتفافه بها. انتهى. وهذا الخلاف الذي ذكره في "تفسيره العظيم" لم يصحح منه شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، وصحح في "الروضة" ما قاله الغزالي ولم ينبه على أنه من زوائده بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله من زياداته: ولو توضأ من بئر ثم أخرج منها دجاجة منتفخة لم يلزمه أن يعيد صلاته إلا ما تيقن أنه صلاها بالماء النجس ذكره صاحب "العدة". انتهى كلامه. وهذه المسألة التي اقتضى كلامه أن الرافعي لم يذكرها واقتصر على نقلها عن صاحب "العدة" قد ذكرها الرافعي في قاعدة شاملة لها ولغيرها من النجاسات في شروط الصلاة في الضرب الخامس. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الفصل الرابع في إزالة النجاسة

الفصل الرابع في إزالة النجاسة قوله: أما نجس العين فلا يطهر بحال إلا الخمر فتطهر بالتخلل، وجلد الميتة فيطهر بالدباغ، والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيض إذا نجسناهن فاستحالت حيوانًا. انتهى. أهمل دم الظبية إذا استحال مسكًا، وإن كان قد ذكر المسك كما ذكر الجميع. قوله: وأما غيره فالنجاسة تنقسم إلى حكمية وعينية فالحكمية وهي التي لا نجس مع يقين وجودها؛ كالبول إذا جف على المحل ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على موردها، ولا يجب فيها عدد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حُتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" (¬1). انتهى. هذا الحديث رواه البخاري ومسلم بمعناه ولفظه عن أسماء أن امرأة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء" وفي رواية: "فلتقرصه ثم لتنضحه بماءٍ" (¬2). والحت بالتاء المثناة هو الحك. والقرص بالصاد المهملة هو القطع، ومعناه اقطعية واقلعيه بظفرك. وقد تلخص من كلام الرافعي أن الحكمية هي التي لا يشاهد لها عين ولا يدرك لها طعم ولا لون ولا رائحة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (225)، ومسلم (291). (¬2) أخرجه مالك (134)، وأبو داود (361)، وأحمد (26977)، وابن حبان (1397)، والشافعي في "المسند" (9)، والطبراني في "الكبير" (24/ 109) حديث (286)، والبيهقي في "الكبرى" (36) من حديث أسماء -رضي الله عنها-.

قوله: وأما العينية فلا يكفي فيها إجراء الماء بل لابد من محاولة إزالة أوصافها الثلاثة أو ما وجد منها، فإن بقى طعم لم يطهر؛ لأنه سهل الإزالة وبظهر تصويره فيما إذا دميت لثته أو تنجس فوه بنجاسة أخرى. انتهى. وتصوير الرافعي بهذا يشعر بأن اختيار المحل بالذوق لا يجوز ويدل عليه أن المجتهد في الأواني لا يجوز له ذلك كما نقله في "شرح المهذب" عن العمراني وأقره، وقد تقدم الكلام فيه هناك واضحًا فراجعه. قوله: وإن بقى اللون وحده فإن كان سهل الإزالة فلا يطهر، وإن كان عسر الإزالة كدم الحيض يصيب الثوب وربما لا يزول بعد المبالغة والاستعانة بالحت والقرص فيطهر؛ لما روى عن خولة بنت يسار قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض فقال: "اغسليه" فقلت: أغسله فيبقي أثره، فقال: "يكفيك ولا [يضرك] (¬1) أثره" (¬2). ثم قال بعد ذلك وقول الغزالي وإن بقى لون بعد الحت والقرص فمعفو عنه. فيه مباحثتان: إحداهما: أن الاستعانة بالحت والقرص هل هي شرط أم لا؟ ظاهر كلامه يقتضي الاشتراط، وبه يشعر نقل بعضهم، لكن الذي نص عليه المعظم خلافه. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الجمهور من أنهم قالوا: إن اللون إذا كان لا يزول ¬

_ (¬1) في الأصل: يضر. (¬2) أخرجه أبو داود (365)، وأحمد (8926)، والطبراني في "الكبير" (24/ 241) حديث (615) وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (2191) من حديث خولة بنت يسار -رضي الله عنها-. قال الألباني: صحيح.

بمجرد الماء وأمكن إزالته بالحت والقرص لا يجب الاستعانة على إزالته بهما على خلاف ما يقتضيه كلام الغزالي، وقد تابعه عليه النووي في "الروضة" وخالفه في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" وهو كتاب محرر عمدة، ومن أواخر ما صنف فقال فيه في أثناء كلامه على المسألة: إن الأمر [كما] (¬1) قال الغزالي، وذكر مثله في "التحقيق" أيضًا فإنه قال: ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله، ثم قال بعد ذلك: وإذا أمكن إزالته، بأشنان ونحوه وجب. وكلامه في "شرح المهذب" مضطرب فإنه ذكر أولًا أن الاستعانة على إزالته واجبة، ونقله عن الأصحاب قاطبة، ثم نقل عن الرافعي بعد ذلك بقليل أنه لا يجب وأقره عليه وهو يقتضي انفراد الرافعي به، وكأنه أراد أن يردفه بما ينبه على غلطه فنسى. فلنكشف القناع عن هذه المسألة ونبين وجه الصواب فيها طالبين من الله التوفيق. فنقول: الأثر له حالان: أحدهما: أن يتوقف زواله على الاستعانة بشيء من حت أو قرصٍ؛ فالموجود فيه لأئمة المذهب هو الوجوب، فقد صرح به القاضي الحسين في "التعليق" والمتولي في "التتمة" والإمام في "النهاية" وهو مقتضى كلام الغزالي المتقدم، ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" ولم يحك غيره ونقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب كما تقدم، وأوضحه في "البيان" فقال: فإن غسله وبقى له أثر لم يزله الماء ولا يزول إلا بالقطع عفي عنه هذا كلامه. وقال ابن الصلاح: الحت هو الحك بعود أو نحوه، والقرص تقطيعه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بالظفر والصحيح وجوبه، هذا كلامه. واستفدنا من كلامه حكاية وجه نحن ننازعه في ثبوته. والظاهر أنه أخذه من كلام الرافعي هذا الذي قد تصدينا لدفعه. وحكى الروياني في "البحر" [وجهين] (¬1) في وجوب الاستعانة بالأشنان ونحوه، ولا يلزم منه عدم وجوب الحت والقرص. الثاني: ألا يتوقف زوال الأثر عليه فيستحب فعله للخروج من خلاف داود، فإنه أوجبه لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حتيه" الحديث وقد صرح باستحبابه في هذه الحالة الماوردي في "الحاوي" وغيره، ونقله أيضًا ابن الرفعة. فإذا علمت هذا ظهر لك أن المسألة في الحقيقة لا خلاف فيها، وأن الكلام المختلف محمول على حالين. فالمعظم الذين نقل الرافعي عنهم الاستحباب مرادهم فيما إذا لم يتوقف الزوال عليه. وإيجاب الغزالي له وكذلك الأصحاب أيضًا كما نقله عنهم في "شرح المهذب" وغيره إنما هو فيما إذا لم توقف عليه كما تقدم من عبارة الغزالي وبه يندفع هذا التعارض العجيب. ويدل عليه أنه لو كان في المسألة خلاف محقق فلا جائز أن يكون محله عند عدم التوقف؛ لأن الواجب شرعًا إنما هو الإزالة وقد حصلت، وأيضًا فإنه لا يعرف ذلك إلا عن الظاهرية ولا يعرف خلاف فيه عندنا إلا ما أوهمه النقل السابق، ولا جائز أن يكون عند التوقف؛ لأن الأثر إذا كان يزول بالحت والقرص فلا عسر فيه قطعًا، فكيف يكون [مستحبًا] (¬2) عند الجمهور ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: مستحيلًا.

مع اتفاقهم على أن الذي يعفي عنه إنما هو العسر؟ وقد جزم به أيضًا الرافعي قبيل هذا الكلام كما تقدم نقله عنه. وليت شعري كيف استقام له عدم الوجوب مع السهولة، وكيف استقام له أيضًا الجمع بين الكلامين، ومن تأمل ما ذكرناه علم صحته ولم يختلج في صدره خلافه. فلله الحمد. وحديث خولة رواه أحمد وأبو داود ولكن في إسناده ابن لهيعة، وقد ضعفوه لسوء حفظه، ووثقه بعضهم (¬1). وخولة بخاء معجمة مفتوحة ويسار بياء مثناة من تحت مفتوحة بعدها سين مهملة. قوله: في الروضة: وإن بقيت الرائحة فقولان: وقيل: وجهان أظهرهما: يطهر. انتهى كلامه. لكن إذا قلنا: لا يطهر فإنه يعفي عنه كدم البراغيث، كذا نقله الرافعي عن "التتمة" وأقره ولم يحك خلافه، وحذفه النووي فلم يذكره في "الروضة" وهو غريب. نعم: ذكر جماعة غير الرافعي أنه على هذا القول لا يعفي عنه. قوله: ثم أطلق الأكثرون القول بطهارة ذي اللون العسر، ويجوز أن يقال: إنه نجس معفو عنه. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله قد صرح به في "البحر" في باب ما يفسد الماء وهو [بعد] (¬2) التيمم، فقال: فإن تعذر ¬

_ (¬1) تقدم أن هذا الحديث صحيح. أما تعليله برواية ابن لهيعة له، فقد رواه عنه جماعة منهم عبد الله بن وهب وحديثه عنه صحيح كما هو مذهب كثير من أهل العلم. (¬2) سقط من أ.

إزالة اللون فهل نحكم بطهارة الثوب أم بالعفو مع النجاسة؟ وجهان هذه عبارته. قوله: وروي في اللون أيضًا وجه أنه لا يطهر المحل ما دام باقيًا ذكره في "التتمة" ونسبه إمام الحرمين إلى صاحب "التلخيص" فلو أعلمت على قول الغزالي فمعفو إشارة إلى هذا الوجه لم يكن به بأس. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا وفيه أمران. أحدهما: أن الخلاف في اللون قولان حكاهما المزني في "جامعه الكبير"، كذا ذكره المرعشي في كتابه المسمى "ترتيب الأقسام". الثاني: أن ما توهمه الرافعي من كون المراد من هذا الوجه هو عدم العفو حتى أنه قال: ينبغي لأجله إعلام العفو الواقع في كلام الغزالي بالواو ليس كذلك ولا ثبوت له في "التتمة" ولا في "النهاية". أما "التتمة": فقد صرح -أعني المتولي- في آخر الكلام بأنه نجس معفو عنه، وكأن الرافعي نظر إلى أوله دون آخره. وأما "النهاية" فالذي فيها عدم الطهارة ولا يلزم منه عدم العفو. نعم: ذهب غير هذين إلى أنه لا يعفي عنه، ويتلخص من كلام الروياني وغيره من الأصحاب في العفو عنهما مقالات: ثالثها: يعفي عن اللون دون الريح. رابعها: عكسه. خامسها: يعفي عن لون الدم دون لون غيره. سادسها: يعفي عن الريح في الأرض دون غيرها. سابعها: في الأواني خاصة.

قوله: وإن بقى اللون والرائحة معًا فلا يطهر المحل لقوة دلالتهما على بقاء العين، وفيه وجه ضعيف. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي ذكره قد حذفه من "الروضة" وهو يدل على أن صورة المسألة فيما إذا بقيا في محل واحد فإن بقيا متفرقين لم يضر، والمسألة قريبة مما إذا كان على ثوبه أو بدنه دماء متفرقة كل منها قليل، ولو اجتمعت لكثرت، وفيها احتمالان للإمام وميله إلى العفو، وكلام التتمة يقتضي الجزم بخلافه. قوله: وهل يطهر الثوب قبل العصر؟ على وجهين بنوهما على أن الغسالة طاهرة أو نجسة؟ فإن قلنا: إنها طاهرة فلا حاجة إلى العصر وهو الأصح وإلا فيجب، وعلى هذا فهل يكتفي بالجفاف؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم لأنه أبلغ، ونضوب الماء في الأرض كالعصر في الثوب انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" "وشرح المهذب" على إطلاق محل الخلاف في العصر ومحله فيما إذا صب الماء عليه في إجانة ونحوها وبقيا معًا. فأما لو صبه عليه وهو في يده فجرى عليه فلا حاجة إلى العصر كذا صرح به البندنيجي في "تعليقه"، وذكره أيضا الروياني في "البحر" والخوارزمي في "الكافي" وغيرهم. ويقال: نضب الماء بفتح الضاد المعجمة ينضب بالضم نضوبًا إذا غار في الأرض قاله الجوهري. قوله: وهذا كله إذا ورد الماء على المحل، فإن عكس والماء قليل لم يطهر. وقال ابن سريج: يطهر ومحله فيما إذا قصد بالغمس إزالة النجاسة،

فأما لو ألقته الريح فإنه ينجس الماء بلا خلاف. قال الأئمة: ومن هذا نشأ ظن من نقل عن ابن سريج: أنه يشترط النية في إزالة النجاسة. انتهى كلامه. ودعواه أنه لا خلاف في نجاسة الماء غريب فقد نقل في الباب السابق عن الروياني: أن القليل كالكثير لا ينجس إلا بالتغير على وفق ما قاله مالك، واختاره أيضًا الغزالي في "الإحياء" وسنعود في أول صفة الوضوء إلى كلام يتعلق بما نحن فيه. قوله: أيضًا وإذا صار بالأرض بول فيجب أن يصب عليها من الماء ما يغلب عليه ويغمره هذا ظاهر المذهب، وروى وجه أنه يجب سبعة أضعاف البول، ووجه بأنه يجب لبول الواحد ذنوب ولبول الاثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدًا. ثم قال: وسائر النجاسات المائعة كالبول فتطهر الأرض عنها بالمكاثرة من غير تقدير على ظاهرة المذهب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن التقدير في هذه المسألة بالوجهين السابقين وفيه بعد لاسيما الثاني فتأمله. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد عبر عن ظاهر المذهب المذكور ثانيًا: بأئمة المذهب وهو سهو على اصطلاحه فإن الرافعي لم يذكر فيها شيئًا من الطرق. قوله: وفي القديم قول: إن الأرض النجسة تطهر بزوال أثر النجاسة بالشمس والريح ومرور الزمان فخرج [أبو زيد] (¬1) والخضري وآخرون منه ¬

_ (¬1) فى جـ: أبو ثور.

قولان أن النار تطهر. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على حكاية هذا القول عن القديم ورأيت في "التقريب" للإمام القاسم ابن القفال الكبير الشاشي أن الشافعي نص في "الإملاء" على أن الأرض تطهر بالشمس ثم رأيت مثله في كتاب التيمم من "شرح التلخيص" للقفال المروزي. وفي "السلسلة" للشيخ أبي محمد "والمهذب" للشيخ أبي إسحاق وغيرهم: وحينئذ فيكون التطهير بها وبالنار قولًا واحدًا جديدًا لا قديمًا؛ لأن "الإملاء" من الكتب الجديدة كما قاله الرافعي في مواضع كثيرة، منها: صلاة الجماعة. وأن الجديد إذا أطلقوه في مقابلته أرادوا به "الأم". قوله من "زوائده": ولو سقيت سكين ماء نجسًا ثم غسلها طهر ظاهرها، وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل أم لا يطهر حتى يسقها مرة ثانية بماء طهور؟ وجهان: قطع القاضي الحسين [والمتولى] (¬1) بأنه يجب سقيها. واختار الشاشي الاكتفاء بالغسل وهو المنصوص. قال الشافعي في "الأم" في باب صلاة الخوف: لو أحمى حديدة ثم صب عليها سمًا نجسًا أو غمسها فيه فشربته ثم غسلت بالماء طهرت؛ لأن الطهارات كلها إنما جعلت على ما يظهر ليس على الأجواف. هذا نصه. قال المتولي: وإذا شرطنا السقي جاز أن يقطع به الأشياء الرطبة قبل السقي كما يقطع اليابسة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "شرح المهذب" وهذا الذي نقله عن النص قد صرح بتصحيحه في "التحقيق" وغيره، ولفظه في "التحقيق": ولو سقي ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

سكينًا ماء نجسًا أو طُبخ به لحم طهرا بالغسل، وقيل: يشترط لطهارة باطنها سقيها ماءً طهورًا وطبخه به. هذه عبارته. وما ذكر هنا من طهارة باطنها بمجرد غسل الظاهر لا يجتمع مع ما ذكروه في الآخر فإنهم قالوا: إذا عجن اللبن بمائع نجس ثم طبخه وفرعنا على الجديد، وهو أن النار لا تطهر فإن كان رخوًا طهر ظاهره وباطنه بالغسل، وإن صلبًا متحجرًا طهر ظاهره، ولا يطهر الباطن إلا بأن يدق حتى يصير ترابًا ثم يفاض الماء عليه. وقد ذكره النووي هكذا قبيل ذلك بقليل ولا وجه إلا التسوية والقياس هو المذكور في الآجر. ونقل البندنيجي في باب صلاة الخوف من "تعليقه" هذا النص المذكور في السكين ثم قال: وهذا خلاف أصوله لأنه يقول في الآخر كذا وكذا. قوله: فيها أيضًا: فكالدهن لا يمكن تطهيره على الأصح. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي -رحمه الله- في أوائل البيع مبسوطة، ومحل الخلاف كما قاله في "الكفاية" فيما إذا تنجس ببول أو خمر ونحوهما مما لا دهنية فيه، فإن تنجس بودك الميتة لم يطهر بلا خلاف. قوله: أيضًا من زوائده: قال المتولي: ولو غُسل ثوب عن نجاسة فوقعت عليه نجاسة عقب عصره هل يجب غسل جميع الثوب أم يكفي غسل موضع النجاسة؟ وجهان، الصحيح: الثاني. انتهى كلامه. وهذا التصحيح من كلام النووي؛ لأن للمتولي على خلاف المتبادر من كلامه فتفطن له، وقد ذكره في "شرح المهذب" على الصواب. قوله: إلا في بول صبي لم يطعم ولم يشرب سوى اللبن فيكفي فيه الرش

لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يغسل من بول الصبية ويرش على بول الغلام" (¬1) انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله: سوى اللبن لا يستقيم إطلاقه فقد ذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" وفي النكت التي له على التنبيه" أن تحنيك الصبي بالتمر في أول ولادته لا يضر. وذكر الشيخ تاج الدين في "الإقليد" نحوه، وكلامه في "شرح المهذب" يدل على ما هو أعم منه، فإنه عبر بقوله: لم يأكل غير اللبن للتغذي، وذكر نحوه في "شرح مسلم" وهذه العبارة تدل على أن السفوف والأشربة ونحوها مما يستعمل للإصلاح لا يضر، وعبر في "الكفاية" بقوله: لم يطعم ما يستقل به كخبز ونحوه، وكأنه أراد ما ذكره ابن يونس "شارح التنبيه" بقوله: لم يستقل بالطعام أي يكفيه الطعام عن اللبن، وقال ابن يونس "شارح التعجيز": المراد أن يكون غير اللبن غالبًا في غذائه. وقال الموفق حمزة بن يوسف الحموني "في شرح التنبيه" معنى قوله: يطعم: أى يستقل بجعل الطعام في فيه والعمدة هنا على ما في "شرح المهذب". الثاني: أن كلامه يقتضي أن الخنثى ملحق في ذلك بالأنثى وهو كذلك. فقد صرح به البغوي في "التهذيب" ونقله عنه في "الروضة"، وأقره وجزم به في "التحقيق" وجزم به أيضًا الخوارزمي في "الكافي". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (376)، والنسائي (304)، وابن ماجه (526)، وابن خزيمة (283)، والحاكم (589)، والطبراني في "الكبير" (22/ 384) حديث (958)، والبيهقي في "الكبرى" (3959)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 62) من حديث أبي السمح. صححه الحاكم والذهبي والحافظ ابن حجر والألباني -رحمهم الله تعالى-.

الثالث: أن إطلاق المصنف وغيره يقتضي أنه لا فرق في اللبن بين أن يكون من آدمي أو غيره وهو متجه. الرابع: أنه يقتضي أنه لا فرق بين الرضاع في الحولين وبين ما بعده، والقواعد تأباه، ولهذا فإن الأعراب الذين لا يتناولون إلا اللبن يجب الغسل من بولهم بلا شك، وقد صرح بنقل ذلك عن الشافعي بعض من علق على "الوسيط" ممن هو في طبقة شيوخنا فقال: قال الشافعي: والرضاع بعد الحولين بمنزلة الطعام والشراب. واعلم: أن الحديث السابق ذكره صحيح صححه ابن خزيمة والحاكم وقال البخاري والترمذي: إنه حسن ولكن لفظهم فيه مخالف للمذكور هنا، واللفظ المعروف فيه: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام". قوله: وهل يلتحق بول الصبية ببول الصبي؟ فيه وجهان أصحهما: لا للخبر، والفرق من جهة المعنى أن بول الصبية أصفر ثخين وطبعها أحر فبولها بالمحل ألصق انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف وجهين مع أنه قولان، فأما التفرقة: فهي المعروف من نصه وأما الإلحاق: فنقله البيهقي في "سننه" ثم ابن الصلاح ثم النووي في "شرح المهذب" ولفظ الشافعي: ولو غسل بول الجارية كان [أحب إلى] (¬1) إحتياطيًا، وإن رش عليه ما لم تأكل الطعام أجزأ إن شاء الله تعالى. واعلم أن ابن ماجه في "سننه" قد نقل عن الشافعي فرقًا لطيفًا فقال، حدثنا أحمد بن موسى بن معقل، أبو اليمان المصري قال: سألت الشافعي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

عن ذلك فقال: إن الله لما خلق آدم خُلقت حواء من ضلعه القصير فصار بول الغلام من الماء والطين وبول الجارية من اللحم والدم هذا كلامه. قوله: ولوغ الكلب ما ولغ فيه والولوغ المصدر انتهى. اعلم أن الأول بالفتح، والثاني بالضم. قوله: وقاعدة الفرع: أنه يغسل من ولوغ الكلب سبعًا إحداهن بالتراب لما رواه أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعًا أولاهن أو أخراهن بالتراب" (¬1). انتهى. اعلم أن تجويز التعفير في غير الأولى والأخرى مردود استدلالًا ونقلًا. أما الأول؛ فلأن الروايات الواردة في هذا الباب أربعة. إحداها: أولاهن رواها مسلم. والثانية: إحداهن بالحاء المهملة رواها الدارقطني [من رواية علي] (¬2) ولم يضعفها، وذكر المصنف في "المسائل المنثورة" أنها رواية ثابتة. والثالثة: رواها أبو داود (¬3) "فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب" وهذه الرواية هي معنى ما رواه مسلم "وعفروه" الثامنة بالتراب، قال الأصحاب: وإنما سميت ثامنة باعتبار استعمال التراب معها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (279)، وأبو داود (71)، والنسائي (338)، وأحمد (9507)، وابن حبان (1297) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. تنبيه: وقع في "التحقيق" لابن الجوزي (1/ 255). قوله: انفرد به البخاري. قال ابن الملقن: وهو سبق قلم قطعًا، فلعله أراد أن يكتب: انفرد به مسلم، فسبق العلم إلى البخارى، فليصلح. "البدر المنير" (1/ 547). (¬2) سقط من جـ. (¬3) حديث (73).

والرابعة: رواها الدارقطنى (¬1) أيضًا بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب": "أخراهن أو أولاهن" أعني بصيغة أو، وهذه الرواية هي التي اقتصر الرافعي عليها، وحينئذ فقول: "إحداهن" إن لم يثبت، وهو مقتضى كلامه في "شرح المهذب" وكلام غيره أيضًا فواضح وإن تثبت فهي مطلقة، وقد قيدت بالأولى في رواية وبالأخرى في أخرى فلا يجوز التعفير فيما عداهما لاتفاق القيدين على نفيه ولكن يتخير بينهما لأنهما؛ لما تعارضا ولم يكن أحدهما أولى من الآخر تساقطا وبقى التخيير فيما حصل فيه التعارض لا في غيره، ويدل عليه التصريح بالتخيير بينهما في رواية صحيحة كما سبق. وأما الأمر الثاني: وهو النقل فلأن الشافعي قد نص على تعين الأولى أو الأخرى على وفق ما ذكرناه فقال في "البويطي" ما نصه قال: يعني الشافعي: وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبعًا أولاهن أو أخراهن بالتراب ولا يطهره غير ذلك، وكذلك روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا لفظه بحروفه ومن "البويطي" نقلت. وذكر في "الأم" قريبًا منه أيضًا، وقد اطلع على هذا النص جماعة من الأصحاب فجزموا في كتبهم بمقتضاه منهم الزبيري في "الكافي" والمرعشي في كتابه المسمى "بترتيب الأقسام"، وابن جابر كما نقله الدارمي في "الاستذكار" عنه، فثبت أن هذا هو مذهب الشافعي وأنه هو الصواب من جهة الدليل أيضًا فتعين الأخذ به واطراح ما عداه، فلله الحمد والمنة على التوفيق لذلك. قوله: في "الروضة": وفيما سوى الولوغ وجه شاذ أنه يكفي غسله مرة كسائر النجاسات. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن صاحب هذا الوجه يقول: إنه إذا تطاير شيء من ¬

_ (¬1) السنن (1/ 65).

اللعاب لا مع الولوغ يكفي فيه مرة وليس كذلك، فإن الرافعي نقل عن صاحبه الوجه أنه دائر مع اللعاب لا مع الولوغ [فقال: وفيه وجه أن غير اللعاب كسائر النجاسات قياسًا. وعند مالك لا يغسل من غير الولوغ؛ لأن الكلب طاهر عنده والغسل من الولوغ تعبد هذا لفظه. واعلم أن النووي في "شرح المهذب" قد رجح هذا الوجه الذي صرح في "الروضة" بشذوذه فقال: وهذ الوجه متجه وقوى من جهة الدليل لأن الأمر بالغسل سبعًا من الولوغ إنما كان لتنفيرهم عن مؤاكلة الكلاب هذه عبارته وحينئذ فيحمل الشذوذ على أنه من جهة النقل. قوله: الثانية هل يلحق الخنزير بالكلب في هذا التغليظ؟ فيه قولان. الجديد وبه قطع بعضهم أنه يلتحق به لأنه نجس العين فكان كالكلب، بل أولى بالتغليظ؛ لأنه لا يجوز اقتناؤه بحال. والقديم أنه كسائر النجاسات؛ لأن التغليظ في الكلب إنما ورد فطمًا لهم عما يعتادونه من مخالطتها. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن ما صححه من طريقه القولين قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: فيه طريقان. أحدهما: فيه قولان وهي طريقة ابن القاص. ثم قال: والطريق الثاني: يجب سبع قطعًا وبه قال الجمهور وتأولوا نصه في القديم هذه عبارته، فثبت بذلك حينئذ أن الراجح خلاف ما في "الرافعي" "والروضة". الأمر الثاني: أن النووي قد رجح في الشرح المذكور أنه يكفي مرة واحدة فقال: واعلم أن الراجح من حيث الدليل أنه يكفي غسلة واحدة بلا

تراب، وبه قال أكثر العلماء الذين قالوا بنجاسة الخنزير، وهذا هو المختار، لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع لاسيما في هذه المسألة المبينة على التعبد. هذا لفظه. وذكر مثله في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" ولم يتعرض لذلك في باقي كتبه. قوله: الثالثة هل يقوم الصابون والأشنان مقام التراب؟ فيه ثلاثة أقوال: أظهرها: لا، لظاهر الخبر؛ ولأنها طهارة متعلقة بالتراب فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم. والثاني: نعم. والثالث: إن وجد التراب لم يعدل إلى غيره، وإلا عدل للضرورة، وقيل: يجوز فيما يفسده التراب كالثياب دون الأواني. انتهى كلامه ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الأصحاب قد أدخلوا الرمل في اسم التراب وصححوا بجواز التيمم به إذا لو كان ناعمًا له غبار كما ستعرفه، وأوضحه النووي في فتاويه فقال: لو سحق الرمل وتيمم به جاز وإذا تقرر هذا تعين أن يكون مجزئًا في الولوغ أيضًا؛ لأن مشروعية التراب إما للاستطهار أو الجمع بين توني الطهور أو للتعبد بإطلاق الاسم وكل منهما موجود في الرمل فيلزم القول بجوازه فاعلمه فليس في كلامهم هنا ما ينفيه. الأمر الثاني: أن النووي في "أصل الروضة" وفي أكثر كتبه قد وافق الرافعي على عدم الإجزاء في الصابون والأشنان، وخالف في التصنيف المسمى "برؤوس المسائل". فقال فيه: الأصح الإجزاء، والعمل على ما قاله في غيره.

والقائل بالإجزاء لا يخصه بالصابون والأشنان بل يعديه إلى كل مزيل صرح به الرافعي في المسألة التي ذكرها بعد هذه المسألة، ونقله في "الروضة" إلى هنا. هو وقد صرح القاضي حسين بأن الدقيق يجري على هذا القول، وصرح غيره بإجزاء. النخالة أيضًا. كذا رأيته في "المفتاح" لابن القاص و"التهذيب" لأبي علي الزجاجي وهو المعروف "بزيادة المفتاح" و"البحر" للروياني. و"البلغة" للجرجاني "والعدة" لأبي الحسين الطبري، ولك أن تتوقف في جواز استعمال الدقيق ونحوه. الأمر الثالث: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد حكى هذه الثلاثة الأوجه على عكس ما جزم به هاهنا. قوله: ومنهم من بناه على الخلاف فيما إذا غمس الإناء الذي ولغ فيه الكلب في ماءٍ كثير هل يطهر أم لا يعتد بذلك إلا غسلة واحدة؟ انتهى والأصح حسبانه مرة فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأظهر وصححه النووي في "شرح المهذب" و"التحقيق"، واختصر في "الروضة" [هذا الموضع بقوله: -ولا يكفي غمس الإناء والثوب في الماء الكثير. في الأصح هذا] (¬1) لفظه من غير زيادة ويتوجه عليه ثلاث اعتراضات. أحدها: أنه لم ينبه على أن التصحيح المذكور من زوائده. والثاني: أن الرافعي قد نص على أنا إذا قلنا: لا يطهر حسبت مرة وذلك لا يؤخذ من كلام "الروضة". والثالث: أن الخلاف المذكور قولان لا وجهان فإنه في "شرح المهذب" ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قد حكى في المسألة خمسة أقوال. الأول والثاني: ما ذكره الرافعي. والثالث: يحسب ستًا وتجب سابعة بتراب. والرابع: إن كان الكلب أصاب نفس الإناء حسبت غسلة وإن أصاب الماء الذي في الإناء [فتنجس الإناء] (¬1) تبعًا له حسبت سبعًا. لأنه تنجس تبعًا فطهر تبعًا. والخامس: إن كان الإناء ضيق الرأس حسبت مرة، وإن كان واسعًا طهر، ثم قال: والأظهر حسبانه مرة. وفي "الكفاية" وجه سادس أنه إن مكث الإناء مقدار -غسله سبع مرات طهر وإلا فلا، ويأتي مما سيأتي وجه سابع أنه يحسب سبعًا ويبقى التعفير فقط حتى إذا أصاب الأرض لم يحتج إلى شيء إذا مزجه بمائع كفي. قوله: السادس لا يكفي ذر التراب على المحل؛ بل لابد من مائع يمزجه به. انتهى. - لم يبين -رحمه الله- كيفية المزج ولا مقدار التراب الممزوج. فأما كيفية المزج: فإنه مخير بين أن يجعل التراب في الماء أو الماء في التراب، أو يأخذ الماء الكدر من موضع ثم -يغسل به، كذا قاله في "شرح المهذب"، ولو وضع التراب على المحل وأورد عليه الماء لم يكف كذا رأيته في "التبصرة" للشيخ أبي محمد وهو مقتضى، كلام غيره، وجزم ابن الرفعة في "الكفاية" بالجواز، ولا شك أن العكس كذلك أيضا إلا أن الذي ذكره مردود. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

وأما الثاني وهو مقدار التراب فالمعروف أنه: ما يكدر الماء ويصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل، وقيل: ما يطلق عليه الاسم؛ حكاه في "شرح المهذب". - قوله: ثم ذلك المائع إن كان ماء حصل الغرض وإن كان غيره، كالخل وماء الورد وغسله ستًا بالماء فوجهان. أحدهما: يكفي لأن المقصود من تلك الغسله هو التراب. وأصحهما: لا. انتهى كلامه. ذكر مثله النووي في "شرح المهذب" "والروضة" وهو يشعر بأن هذا الخلاف إنما هو فيما إذا اقتصر على ست غسلات بالماء حتى إذا غسله بالماء سبعًا فإنه يكفي التراب الممزوج بالمائع جزمًا -وقد صرح به بعضهم لكن صرح النووي في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" بأن الخلاف في المسألتين، وأن الصحيح فيهما عدم الإجزاء. غير أنه جعل الخلاف في المسألة الثانية مرتبًا على الخلاف في الأولى، فاعلم ذلك واجتنب الإيهام الحاصل في هذين الكتابين. والظاهر أن الرافعي كان يريد ذكره هكذا فتركه نسيانًا، أو قاله ولكن سقط من المسودة، وإلا فكيف يترك الكلام على ما احترز عنه وهو في محل النظر، ويدل عليه كلام "الشرح الصغير" "والمحرر" "والتحقيق" "والمنهاج" يقتضي ما في "الشرح الوسيط" أيضًا، فإن فيها تصحيح عدم الإجزاء من غير تقيد بشيء. نعم: لو مزج التراب أولًا بالمائع ثم استعمله مع الماء جاز قطعًا كما نبه عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" قال: ولا يتجه فيه خلاف إلا

وجه بعيد في أن التراب تزول طهوريته تزول بالخل ونحوه. قوله من "زوائده": ولو كانت نجاسة الكلب عينية كدمه فلم يزل إلا بست غسلات مثلًا، فهل يحسب ذلك ستًا أم واحدة أم لا يحسب شيئًا؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحها: واحدة. انتهى. كذا ذكره أيضًا في "التحقيق" "وتعليقه على الوسيط" وهذا التصحيح لم ينقله في المبسوطات عن أحد بل إنما قاله تفقها على ما بينه فيها فقال في "شرح المهذب" بعد حكاية الأوجه: ولم أر من صرح بأصحها، ولعل أصحها أنه يحسب مرة كما قال الأصحاب: يستحب غسل النجاسة من غير الكلب ثلاث مرات، فإن لم تزل عينها إلا بغسلات استحب بعد زوال العين غسله ثانية وثالثة، فجعلوا ما زالت به العين غسلة واحدة هذه عبارته. قلت: وقد ذكر القاضي الحسين هذه المسألة -في تعليقه قبيل باب سنن الوضوء بأسطر وصحح حسبانها من السبع واستدل- بدليلين متعينين فقال: والثاني وهو الصحيح: أنه يحسب، كما لو ولغ الكلب في الإناء، فالغسلة الأولى لإزالة العين؛ لأنه حصل هناك عين من النجاسة، وإن كنا لا نراه لم يحسب ذلك من السبع، فكذلك هاهنا، ثم قاسه أيضًا على العدد المأمور به في الاستنجاء، وقد صححه أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" فلتكن الفتوى عليه. قوله: وكذلك لما تعجبوا من إصغاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإناء للهرة قال: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم" انتهى كلامه.

والإصغاء هو الإمالة، تقول: صغى بفتح الأول والثاني، يصغو ويصغي بكسر الغين صغوًا بضم الصاد والغين وتشديد الواو، وصغى بكسر الغين أيضًا، يصغي صغًا على وزن يهوي هوى، وصغيًا بضم الصاد وكسر الغين وتشديد الياء إذا مال، وأصغيت إلى فلان إذا ملت بسمعك إليه، وأصغيت الإناء أملته قاله الجوهري. واعلم أن هذا الحديث قد رواه مالك في "الموطأ" والشافعي وأبو داود والترمذي. عن كبشة بالباء الموحدة الساكنة والشين المعجمة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة قالت: دخل أبي قتادة فسكبت له وضوءًا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬1) قال الترمذي: حسن صحيح. وحاصله أن الإصغاء صدر من أبي قتادة لا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكره الرافعي، وقد اختلفوا في رواية الحديث، فرواه بعضه كما ذكرناه. ورواية مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة ورواية ابن ماجه بعض ولد أبي قتادة وفيها والطوافات بالواو، ورواه الدارمي بأو ورواية الربيع عن الشافعي ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (42)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، وأحمد (22581)، والدارمي (736)، وابن خزيمة (104)، وابن حبان (1299)، والحاكم (567) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه. وقال الألباني: صحيح.

في موضع وكانت تحت أبي قتادة أو ابن أبي قتادة وقال فيه: أو الطوافات، فأتى بأو في الموضعين، قال البيهقي: الشك من الربيع، وقد رواه عنه في موضع آخر مجزومًا بأنه ابنه واختلفوا في معنى أو الأخيرة، فقيل: للشك وقيل: إشارة إلى النوعين الذكور والإناث كما في رواية الواو وجمعها بالواو والنون مع أنها لا تعقل لتنزيلها منزلة من يعقل. والطوافون كما قاله أهل اللغة هم: الخدم والمماليك، وقيل: هم الذين يخدمون برفق وعناية، فشبهها بمن يطوف على أهل البيت للخدمة في كثرة البلوى بها ومشقة الاحتراز، كما سقط الاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة في القرآن عن الخدم لأجل ذلك. قوله: فلو أكلت فأرة وغابت واحتمل ولوغها في ماءٍ كثير أو ماءٍ جارٍ ثم ولغت في ماء قليل فلا ينجس على أظهر الوجهين. استشكل الرافعي في "الشرح الصغير" هذه المسألة فقال: وليعلم أن الهرة تشرب الماء بلسانها وتأخذ منه الشيء القليل ولا تلغ في الماء بحيث يطهر فمها عن أكل الفأرة، فلا يفيد احتمال مطلق الولوغ احتمال عود فمها إلى الطهارة هذا كلامه وهو إشكال صحيح. فإن قيل: كيف حكمنا بطهارة الماء مع أن الأصل نجاسه الفم؟ قلنا: لأن الأصل طهارة الماء أيضًا فلما تعارض رجح الثاني، باحتمال الولوغ في الماء الكثير أو الماء الجاري كما قلناه فتمسكنا بالأصل في الموضوعين وقد تقدم ذكر ذلك في الكلام على الماء الراكد فراجعه. قوله: في "الروضة" غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة وإلا فإن كانت قلتين فطاهرة بلا خلاف.

قلت: ومطهرة على المذهب، والله أعلم. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف ليس على إطلاقه، فقد حكى الخوارزمي في "الكافي" وجهان أن غسالة ولوغ الكلب لا تطهر بذلك. والثاني: أن هذا الخلاف الذي ذكره في كونها مطهره أم لا محله فيما إذا كان قليلًا فجمعه كما ذكره في "شرح المهذب" وزاد فصحح طريقة القطع، والقياس طريقه الوجهين وبها جزم في "الشرح الصغير". فأما إذا كان كثيرًا عند الغسل فطهور بلا خلاف فكان صوابه أن يقول: فإن بلغ القلتين. قوله: ولو لم تتغير [أى] (¬1) ولم يزد وزنها وكان قليلًا ففيه ثلاثة أقوال: الجديد: أنه إن لم يطهر المحل فالغسالة نجسة وإلا فطاهرة غير مطهرة؛ لأن البلل الباقي على المحل بعضها، والماء الواحد القليل لا يتبعض في الطهارة والنجاسة. انتهى. هذا التعليل قد أسقطه من "الروضة" مع أنه يؤخذ منه مسألة حسنة مهمة، وهي أن الماء إذا انفصل متغيرًا، والنجاسة غير باقية على المحل فإن المحل لا يطهر، والذي اقتضاه كلامه قد صححه القاضي حسين في "شرح التلخيص" وكذلك صاحب "التتمة" فقال: والثاني وهو الصحيح أن المحل نجس يجب غسله. وإنما قلنا ذلك لأن الماء انفصل عن المحل وقد بقى جزء منه في المحل والمنفصل ينجس وكان الباقي على المحل نجسًا أيضًا. وعلى هذا إذا وقع البول على الثوب فصب الماء عليه بالوزن فانفصل الماء زائدًا في الوزن فنعلم أن الزيادة بول فالماء نجس؛ لأن زيادة الوزن ¬

_ (¬1) زيادة من أ.

بسبب النجاسة فنعجله كالتغير وفي المحل وجهان على ما ذكرنا، هذا كلام "التتمة" ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره. وأجاب أيضًا بنجاسته ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" وقال: إن مقابله ضعيف لا يتصور القول به. وحمل كلام الغزالي الموهم للطهارة على تغير يحدث في الغسالة بعد انفصالها عن الحل، فإن الساقط في الماء ربما كان ذا أجزاء مجتمعة لا تغير الماء إلا بعد تحللها فيتأخر تأثر الماء به. وهذا الذي نبه عليه ابن الصلاح في آخر كلامه مسألة حسنة أيضًا. واختار في "الإقليد" طهارة المحل عند انفصال الغسالة متغيرة، وحاول تضعيف ما قاله ابن الصلاح فلم يذكر طائلًا والصواب النجاسة. قوله: فإن زاد وزنها بعد الانفصال عما كانت فهي كالمتغيرة في أصح الوجهين. انتهى. تابعه في "الروضة" على اعتبار المقدار الذي كان عليه الماء قبل الغسل في الزيادة والنقصان وليس بجيد، بل لابد من مراعاة المقدار الذي يتشربه المغسول حتى إذا انفصلت عن الثوب بقدر ما كانت أو أقل بمقدار تشرب الثوب أكثر منه كانت نجسة أيضًا. وكلام الرافعي في هذه المسألة يؤخذ منه طريقان: أصحهما: القطع بالنجاسة. والثاني: على الخلاف فيما إذا لم يتغير، وقد صرح بهما في "الروضة" وهو اختصار حسن. قوله: الثالث الخلاف المذكور محله في المستعمل في واجب الإزالة، أما المستعمل في مندوبها ففيه وجهان:

أظهرها: أنه ظاهر الطهور. والثاني: أنه كالمستعمل في واجبها فيعود فيه القول الأول والثالث دون الثاني انتهى كلامه. والمندوب المشار إليه هو الكرة الثانية والثالثة، فأما إذا غسل نجاسة يستحب غسلها ولا يجب كدم البراغيث ونحو ذلك، فإن غسالته كغيرها بلا شك وليس نظير ما لو توضأ بنية قراءة القرآن ونحوها مما يستحب فيه الوضوء؛ حيث قلنا: إن غسالته لا تكون مستعملة على الصحيح بل مطهره لأن الحدث هناك لم يرتفع، والنجاسة هنا قد زالت فاعلم ذلك، ولهذا مثل في "أصل الروضة" بالكرة الثانية والثالثة فقط. نعم: يتجه إلحاق النجاسة المشكوك [فيها] (¬1) إذا لم يتحققها بعد ذلك [بوضوء] (¬2) الاحتياط. واعلم أن قول الرافعي: إنه يأتي في مسألتنا القول الأول والثالث صحيح لأن الأول يقول بأنه غير طهور بخلاف الثالث، فاعلمه واحذر ما توهمه فيه من توهم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: هو.

الباب الثالث في الاجتهاد

الباب الثالث في الاجتهاد قوله: وهل يقبل قول الصبي المميز أي في الإخبار عن نجاسة الماء؟ فيه وجهان. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الصحيح من الوجهين أن إخبار الصبي لا يقبل، كذا جزم به الرافعي في باب الأذان وفي كتاب الشفعة وصححه أيضًا في كتاب التيمم في الكلام على الإخبار بالمرض المخوف، ونقله عن الأكثرين في باب استقبال القبلة. لكنه في التيمم حكى الخلاف في الصبي المراهق فقط وتبعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي أن غير المراهق لا يقبل خبره فيه جزمًا فهل هو لمعنى يخص التيمم أم أشار به إلى التمييز أم هو حكاية وجه لم يذكره هناك أم الإطلاق في غيره محمول عليه؟ فيه نظر. ويدل على الاحتمال الأخير أن الخوارزمي في "الكافي" حكى الخلاف المذكور في الأواني في المراهق فقط وجزم في غيره بأنه لا يقبل. والمعروف من كلام الأصوليين والمحدثين والفقهاء جريان الخلاف عند وجود التمييز. الأمر الثاني: أن النووي قد وافق الرافعي في هذه المواضع على إطلاق تصحيح عدم القبول ثم خالف ذلك في باب الأذان من "شرح المهذب" فنقل عن الجمهور أن إخبار الصبي يقبل فيما طريقه المشاهدة فعلى هذا يقبل خبره في رؤية المتنجس ونحوه بخلو الموضع عن الماء وطلوع الفجر وغروب الشمس وما أشبهه، بخلاف ما طريقه النقل كالإفتاء والتداوي ورواية

الأخبار ورواية التنجس عن غيره. وهذا الذي ذكره النووي سبقه إليه المتولي فقلده هو فيه والصواب ما تقدم. الأمر الثالث: أن هذه المسألة ذات قولين للشافعي فينبغي التعبير بها لا بالوجهين فقد رأيت في "العمد" للفوراني [في القبلة أن الخضري نقل عن نص الشافعي] (¬1) أنه لا يقبل فأخبره القفال أن أبا زيد نقل له عن نص الشافعي أنه يقبل. قوله: من زوائده ويقبل الأعمى بلا خلاف. انتهى. وما أطلقه من عدم الخلاف قد ذكر مثله في "شرح المهذب" بالنسبة إلى الأذان أيضًا وليس كذلك، فإن في قبول رواية الأعمى بما سمعه حال العمى وجهين أصحهما عند الجمهور أنها تقبل، واختار الإمام خلافه، كذا ذكره الرافعي في الباب الثالث في مستند علم الشاهد. وحينئذ فإن روى التنجس أو دخول الوقت عن غيره ففيه الوجهان فاعلمه. قوله: في "أصل الروضة" ويشترط أن يعلم من حال المخبر أى بنجاسة الماء أنه لا يخبر إلا عن حقيقة. انتهى. مراده بذلك ما قاله في "المنهاج" وهو أن يكون المخبر مبينا للسبب أو يكون فقيهًا موافقًا في الاعتقاد، وذكر في "المحرر" قريبًا من ذلك. ولما ذكر الرافعي ما ذكره في "الروضة" علله بأن المذاهب مختلفة في أسباب النجاسة فقد يظن ما ليس بمنجس منجسا والعجب من ترك النووي لهذه العلة فإنها تفهم بعض المراد. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: وإذا اشتبه عليه ماء وبول أو ماء وماء ورد لم يجتهد في أصح الوجهين ثم قال: فعلى هذا يعرض عنهما في الصورة الأولى ويتيمم وفي الثانية يتوضأ بهذا مرة وبهذا مرة. انتهى كلامه. فيه أمران: [أحدهما] (¬1) أنه قد تقدم قبيل الباب الثاني في المياه النجسة أنه إذا كان معه ماء لا يكفيه وعنده مائع كماء ورد وغيره وجب عليه التكميل إن كان بحيث لو قدر مخالفًا له في أوسط الصفات لم يغيره، وكأن ذلك المائع لا تزيد قيمته على ثمن ماء الطهارة. [وتقدم هناك أن زيادة المائع إنما ينبغي اعتبارها بالنسبة إلى المعجوز عنه، فإذا لم يوجبوا عليه التكميل هناك عند زيادة قيمته؛ لأن فيه زيادة على ما أوجبه الشارع فلأن لا يجب الوضوء الكامل به بطريق الأولى لاسيما مع استعمال الماء الكامل لفرض كامل. فالصواب الانتقال إلى التيمم. وقد ذكروا في التيمم أنه لا يجب عليه شق الثوب للاستقاء به إذا زاد الأرش على ثمن الطهارة] (¬2). الأمر الثاني: أن الرافعي -رحمه الله- لم يشترط للتيمم في هذه المسألة خلطًا ولا صبًا مع اشتراطه ذلك فيما إذا اجتهد فلم يظهر له شيء كما ستعرفه في المسألة الآتية وهو كالصريح في عدم الاشتراط. وتابعه في "الروضة" أيضا على ذلك وهو صحيح فإن الأصحاب في مسألة التخير قد انتهى أمرهم في تعليل وجوب إتلاف الماءين بصب أو خلط ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قبل التيمم إلى كونه ينسب إلى تقصير ما في الاجتهاد، قالوا: وليست العلة مجرد وجود الماء الطاهر؛ لأن هذا الماء معجوز عنه شرعًا فصار كما لو كان عليه سبع أو أمسكه للعطش، ولهذا عبر النووي في "شرح التنبيه" المسمى "بالتحفة" بقوله: والفرق أنه ينسب إلى تقصير في الاجتهاد وهذه عبارته. وإذا علم أن العلة هي التقصير في الاجتهاد فهذا المعنى على ضعفه لا يأتي في مسألة الماء والبول؛ لأنه ممنوع من الاجتهاد فيه رأسًا فتفطن لذلك، وقد وقع في "التنبيه" "والمحرر" و"شرح المهذب" اشتراط الصب أو الخلط في مسألة الماء والبول أيضًا وقد ظهر لك عدم الاشتراط مما تقدم وهو الصواب فليؤخذ به. قوله: فإن اجتهد فلم تلح له علامة بل تحير تيمم لعجزه عن الوضوء، ثم إن كان تيممه بعد صب ماء في الإناءين فلا قضاء عليه ويعذر في صبه لدفع القضاء. وفي معنى الصب ما لو جمع بينهما لتنجسا فإن تيمم قبل ذلك قضى؛ لأن معه ماءً طاهرًا بيقين. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "الروضة" "والتحقيق" وغيرهما. وفيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام يشعر بأن التيمم قبل الخلط أو الصب صحيح وإنما هما شرط لعدم القضاء فقط، وبه صرح القاضي حسين في "تعليقه" والمتولي في "التتمة" والماوردي في "الحاوي" وعزاه إلى جمهور الأصحاب.

وصحح النووي في "شرح المهذب" أن ذلك شرط لصحة التيمم وبه جزم في "شرح التنبيه" [المسمى "بتحفة التنبيه" وليس كذلك فستعرف من كلامه هو في مسألة تغير الاجتهاد ما يبطله] (¬1). الأمر الثاني: أنه لا حاجة إلى صبهما ولا إلى صب أحدهما في الآخر بل يكفي صب أحدهما فقط؛ لأنه قد تقدم الآن من كلام الرافعي أن العلة فيه هو أنه إذا لم يفعل ذلك يكون قد تيمم ومعه ماء طاهر بيقين، وهذا المعنى ينتفي بما إذا صب أحدهما؛ لأنه إذا صبه احتمل أن يكون الباقي هو الطاهر واحتمل أن يكون هو النجس، فليس معه ماء طاهر بيقين، فإذا لم يكن فلا إعادة لأنها هي العلة في القضاء كما تقدم. ولهذا المعنى شرط صاحب "الحاوي الصغير" في وجوب القضاء في نحو ما ذكرناه بقاءهما معًا فقال: إن بقيا وهي دقيقة غفل عن سرها ومستندها شراح "الحاوي". الأمر الثالث: أن النووي قد صحح في كتبه فيما إذا انصب أحد الإناءين أو صبه أنه لا يجتهد، بل يتيمم ويصلي ولا يعيد، سواء أراق الآخر أم لا. وأنت إذا تأملت هذا الكلام مع ما قاله فيما إذا تحير وجدته في غاية الغرابة لأنه عند التحير لم يكتف بصب أحدهما مع أنه مأمور بصبه غير متعد فيه، فاكتفي به في الموضع الثاني مع تعديه؛ لأن الفرض أنه صبه قبل الاجتهاد وترك الواجب عليه، وهذا كله مما يوضح أن الصواب عند التحير الاكتفاء بإتلاف أحد الماءين. وقد حكى الجرجاني في "التحرير" في مسألتنا وجهًا أنه يكفي صب ¬

_ (¬1) سقط من ب.

واحد فيبقى معه ما يشك في نجاسته فيستعمله، وحاصل ما ذكره إلحاق هذه المسألة بتلك على وفق ما أشرت إليه. قوله: ولو أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الإناءين فصلى به الصبح ثم تغير اجتهاده عند الظهر إلى طهارة الثانى، فإن لم يبق من الأول شيء فقولان المنصوص أنه لا يستعمله بل يتيمم؛ لأنه إن غسل ما أصابه الماء الأول فيلزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد وإلا فيكون مصليًا مع يقين النجاسة. انتهى ملخصًا وفيه أمور: أحدها: أن أئمة المذهب نقلوا هذا النص والتخريج فيما إذا بقى من الأول شيء، كذا نقله الشيخ أبو حامد وصاحب "الحاوي" "والتتمة" "والشامل" وغيرهم. والحالان أعنى حال البقاء وعدمه وإن استويا في هذا الحكم إلا أن النص إنما هو فيما ذكرناه، والآخر بالقياس عليه. الأمر الثاني: ما نبه عليه صاحب "الشامل" فقال: وعندي أن ما قالوه ليس نقضًا للاجتهاد لأنا لا نبطل طهارة ولا صلاة وإنما أمرنا بغسل ما أطابه بالماء الأول لحكمنا عليه بالنجاسة وهذا بعينيه موجود في الباقي فإنهم حكموا بتنجيسه مطلقًا ولم يجعلوه نقضًا للاجتهاد هذا كلامه وهو صحيح لا شك فيه. الأمر الثالث: -وهو خاص بالنووي- أن الاجتهاد إنما يكون بين إناءين موجودين حتى لو انصب أحدهما فلا اجتهاد عنده، وحينئذ فلا تجيء هذه المسألة.

قوله: والقول الثاني خرجه ابن سريج من تغير الاجتهاد في القبلة أنه يتوضأ بالثاني ولا يتيمم؛ لأن هذه قضية مستأنفة فلا يؤثر فيها الاجتهاد الماضى، لكن لابد من إيراد الماء على جمميع المواضع التي أصابها الماء الأول، وغسلها لإزالة النجاسة. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، وهذا الكلام يقتضي أن ابن سريج يقول والحالة هذه: إنه لابد من الإيراد على موارد الأول؛ لأنه جعله من تتمة كلامه وهو ظاهر كلام الغزالي وبعضهم. وليس -كذلك بل هو قائل بعدم الوجوب كما صرح بنقله عنه الروياني في "البحر" وكذلك الماوردي في "الحاوي" وجعله إلزامًا له ولأجل ذلك إن صاحب "الشامل" "والمهذب" "والتتمة" لما حكوا هذا القول عنه لم ينقلوا الإيراد، وكلامه في "شرح المهذب" يقضي اتفاق الأصحاب على أنه لابد من الإيراد وأن ابن سريج قائل بذلك وأوهم نقل ذلك عن "الشامل" وكله غلط فاعلمه. قوله: ثم على النص لا يقضي الصلاة الثانية المؤداة بالتيمم، لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين، وقيل: يلزمه قضاؤها؛ لأن معه ماء طاهرًا بحكم الاجتهاد. وأما الصلاة الأولى فلا حاجة إلى قضائها لا على النص ولا على التخريج. انتهى. سكت -رحمه الله- عن قضاء الثانية على المخرج، وقد ذكره في "أصل الروضة" وجزم بأنه لا يجب تبعًا "للوسيط" "والتتمة" وغيرهما لكن في نظيرة من القبلة وجهان والقياس مجيئهما؛ لأن مستند ابن سريج هو التخريج منها كما سبق. وقد رأيت ذلك -أعني الوجهين- مصرحًا بهما

في "البحر". وحكى ابن الصلاح في "فوائد رحلته" عن "التقريب" ثلاثة أوجه. أحدها: يستعمل الثاني ويعيد الصلاتين معًا. والثاني: يستعمله ويعيد الأولى فقط. والثالث: إن ضبط ما أصابه من الماء الأول غسله بالثاني ولا يعيد وإلا تركه وتيمم، وهذا الئاني ذكر نحوه في "شرح المهذب". قوله: الحالة الثانية: أن تبقى من الأول بقية تكفيه لطهارته فيجب إعادة الإجتهاد للصلاة الثانية؛ لأن معه ماء مستيقن الطهارة وإذا أعاد فتغير اجتهاده فالحكم كما سبق إلا أن الصلاة الثانية المؤداة بالتيمم يجب قضاؤها على النص؛ لأن معه ماء طاهر بيقين، وقيل: لا يجب. انتهى. وفيه أمور: أحدها: أنه أطلق إعادة الاجتهاد ومحله كما قاله البغوي في "التهذيب" والنووي في "شرح المهذب" فيما إذا أحدث، فإن كان باقيًا على طهارته فيصلى بها. الأمر الثاني: أنه ساكت عن عدد ما يعيده، وقد نقله في "الشامل" من جملة النص، فقال: ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم. هذا لفظه ويتجه إلحاقه بما إذا وهب ماء بعد الوقت وستعرفه في التيمم إلا أن تلف أحد الماءين هنا كتلف الماء بجملته هناك لما سبق من أن بقاء أحد الماءين لا يوجب القضاء. الأمر الثالث: لم يتعرضوا هنا للصب ولا للخلط بل صححوا التيمم مع بقائهما ولكن -أوجبوا الإعادة. وهذا يدل على أن الصب والخلط

المذكورين في المجتهد إذا لم يظهر له شيء إنما هما شرط للقضاء خاصة لا لصحة التيمم كما يقوله النووي، فتفطن لهذه النكتة يتضح لك ما ذكرناه من قبل. - قوله: والشيء الذي لا يتيقن نجاسته ولا طهارته والغالب في مثله النجاسة فيه قولان لتعارض الأصل والظاهر. أظهرهما الطهارة عملًا بالأصل. ويدل عليه ما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته (¬1)، وكانت هي بحيث لا تحترز عن النجاسات. ثم قال: فمن ذلك ثياب مدمني الخمر وآنيتهم وثياب القصابين والصبيان الذين لا يتوقون النجاسة. والمقابر المنبوشة حيث لا تتيقن النجاسة انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من تخريج ثياب الصبيان على القولين قد تابعه عليه في "الروضة" [ثم] (¬2) خالفه في "شرح التنبيه" المسمى "تحفة التنبيه" فقال: وأبعد بعضهم فطرده في ثياب الصبيان، والصواب طريقة العراقيين وهي القطع بالطهارة. الأمر الثاني: أنه عبر في "الروضة" بقوله ومقبرة شك في نيشها هذا لفظه. وعبر به الرافعي في شروط الصلاة ولكن الشك في النبش لا يقتضي أن الغالب النجاسة، وذكر الرافعي المسألة في التيمم في الكلام على طهارة التراب فقال: ولو تيمم بتراب المقابر التي عم فيها النبش وغلب اختلاط صديد الموتى به ففي الجواز قولًا يقابل الأصل والغالب. الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" قد عبر بقوله: فمن ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5650)، ومسلم (543). (¬2) في أ: قد.

ثياب مدمني الخمر وأوانيهم. ثم قال: وأواني الكفار المتدينين باستعمال النجاسة كالمجوس والمنهمكين في الخمر إلى آخره. ثم نبه في كتاب "الإشارات" الذي هو على "الروضة" "كالدقائق" على "المنهاج" على جواب عن اعتراض يورد عليه فقال: قد يتوهم من لا فكر له أن ذكر المنهمكين في الخمر تكرر وأنه لا حاجة إليه لتقدم ذكره، وهذه غفلة من زاعمها فإن المراد بمدمني الخمر المذكورين أولًا هم المسلمون ثم ألحق بهم أواني الكفار الذين يتدينون باستعمال النجاسات وإنما ذكروا لئلا يتوهم من إنضمام الكفر إليه مصيره نجسًا بلا خلاف؛ لأن الإسلام من حيث الجملة مظنة التحرز. والحديث الذي ذكره الرافعي في حمل أمامة [رواه الشيخان وفيه أنه إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وأمامة] (¬1) هي بنت زينب ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحبها. تزوجها على - رضي الله عنه - بعد وفاة فاطمة بوصية فاطمة -رضي الله عنها- له في ذلك. الأمر الرابع: أن هذه القاعدة ليست على القولين مطلقًا كما أطلقه، بل قد يجزم بمقتضى الأصل كمن ظن طهارة أو حدثًا أو أنه صلى أربعًا، وقد يجزم بالظاهر [كالبينة والخبر ومسألة الظبية] (¬2). قوله: ولو رأى ظبية تبول في الماء الكثير وكان بعيدًا عن الماء فانتهى إليه فوجده متغيرًا وشك أنه تغير بالبول أو بغيره فهو نجس، نص عليه الشافعي وأصحابه. انتهى كلامه. وهذه المسألة شرطها أن يتعقب التغير للبول فإن لم يتعقبه بأن غاب عنه زمانًا ثم وجده متغيرًا لم يحكم عليه بالنجاسة؛ لأن إحالته على السبب الظاهر قد ضعف بطول الزمان، صرح بهذا الشرط الإمام أبو عبد الله ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ.

الجرجاني المعروف بالختن ختن الإسماعيلي على ابنته في شرحه "لتلخيص ابن القاص" فإنه ذكر مسألة ما إذا جرح الصيد وغاب عنه ثم وجده ميتًا وأجاب بأنه لا يحل. ثم قال: ونظيره من مسألة الماء أن يبول الصبي فيه ولا يتعقبه التغير حتى يمضي زمان ثم يوجد متغيرًا؛ فلا يحكم بأن التغير عن البول، وكذلك البول في الجناية؛ لأن الشافعي قال: ولا يحكم بأن موت المجني عليه منها حتى تشهد بينة بأنه لم يزل ضمينًا منها إلى أن مات فالمسائل الثلاث كلها سواء تجمعها نكتة واحدة، هذا لفظه ومن شرحه نقلت. وهو شرح غريب عزيز الوجود. وفي كلام الرافعي والنووي إشعار [بعيد] (¬1) بهذا اللفظ، وقد نقله القفال أيضًا في "شرح التلخيص" عن الأصحاب. لكن ذكر الدارمي في "الاستذكار": أنه لو رأى نجاسة حلت في ماء فلم تغيره فمضى عنه ثم رجع فوجده متغيرًا لم يتطهر به. قال في "شرح المهذب": وفيما قاله نظر. انتهى. وذكر ابن كج في "التجريد" أنه يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة. واعلم أن جماعة قد شرطوا شرطا آخر غير هذا وهو رؤية الماء قبل بول الظبية عن قرب غير متغير، فإن لم يعهده أصلًا أو طال عهده به فهو طاهر كذا رأيته في "شرح التلخيص" للقفال وفي القطعة التي شرحها القاضي الحسن منه أى من "التلخيص"، ومن خط تلميذه الذي [أملاها] (¬2) عليه وهو الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر [الأصبهانى] (¬3) نقلت ذلك، وذكر في "الروضة" نحوه. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) فى جـ: أملى. (¬3) فى جـ: الأصفهاني.

قوله "من زوائده": فلو وجد قطعة لحم ملقاة فإن كان [في البلد] (¬1) مجوس ومسلمون فنجسة وإن تمحض المسلمون فإن كانت في خرقة أو مكتل فطاهرة، وإن كانت مكشوفة فنجسة انتهى. فيه أمران: أحدهما: [أن] (¬2) ما أطلقه من التنجيس عند وجود مجوس يقتضي أن الثلاثة كافية في ذلك مع كثرة المسلمين والقواعد تدفعه؛ بل لابد من النظر إلى الحصر وعدمه كما في اشتباه المحرم ونحوه، وقد جزم بذلك صاحب "البيان" في كتاب البيع في آخر باب ما ينهي عن بيع الغرر، فقال نقلا عن الشيخ أبي حامد: وإن وجدها في بلاد الإسلام في موضع أكثر أهلها المسلمون فيجوز أكلها؛ لأنه يغلب على الظن أنها ذبيحة مسلم، قال يعني الشيخ أبا حامد بخلاف ما إذا وجد الماء متغيرًا ولم يعلم بأي شيء تغير فلا يحكم بنجاسته؛ لأن أصله على الإباحة. الأمر الثاني: أن هذا التفصيل قد نقله في "شرح المهذب" عن القاضي الحسين ولكن بالنسبة إلى جواز الأكل وتحريمه [وهو] (¬3) ظاهر، وأما الحكم عليه بالنجاسة حتى ينجس رطبًا يلاقيه فلم يذكره أحد ولا يصح القول به؛ لأن الأصل عدمه وكيف يحكم بالنجاسة مع الشك، وقد نصوا على أنه لو اشتبه عليه الطاهر من مكانين أو ثوبين أو إناءين [ونحو ذلك فأصابه ذلك من أحدهما لم يحكم بتنجيسه مع أنه لو صلى في أحد المكانين أو الثوبين أو توضأ بأحد الإناءين] (¬4) لم تصح صلاته، فتخلص أن ما في "الروضة" غلط نشأ من سوء تصرفه في العبارة. واعلم أن المكتل بكسر الميم وفتح التاء المثناة من فوق شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في جـ: وهذا. (¬4) سقط من جـ.

الباب الرابع في الأواني

الباب الرابع في الأواني وهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: المتخذ من الجلود قوله في أصل "الروضة": ويعتبر في الدباغ تطيب الجلد وصيرورته بحيث لو وقع في الماء لم يعد الفساد والنتن. انتهى. وتعبيره بقوله: "لو وقع" تحريف غير صحيح؛ بل الصواب وهو الواقع في النسخ الصحيحة من الرافعي "نقع" بالنون -أى: وضع في الماء وترك حتى يبتل باطنه وتخرج خاصيته إلى الماء ومجرد الوقوع في الماء لا عبرة به، فإن النتن قد لا يعود بالوقوع ويعود بالنقع. قوله: وإذا أوجبنا استعمال الماء في أثناء الدباغ فلم يستعمل فإنه يكون نجس العين، وهل يطهر بمجرد نقعه في الماء أم لابد من استعمال الأدوية ثانيًا؟ فيه وجهان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو الثاني وقد صححه في "التحقيق" "والروضة" من "زوائده" فقال: قلت: أصحهما الثاني وبه قطع الشيخ أبو محمد. والآخر احتمال لإمام الحرمين. والمراد نقعه في ماء كثير والله أعلم هذا كلام الروضة. الأمر الثانى: أن ما توهمه النووي من أن المراد الماء الكثير غلط عجيب بل لا فرق بين [الكثير والقليل] (¬1) الطاهر والنجس فإن الكلام إنما هو في طهارة العين وتتميم الدباغ ولهذا صحح وجوب استعمال الأدوية. ثانيًا: ¬

_ (¬1) سقط من ب.

مضافًا للماء مع أن التطهير بعد ذلك لابد منه. قوله: والجديد أن الدباغ يطهر ظاهر الجلد وباطنه حتى يصلى فيه وعليه ويباع ويستعمل في الأشياء الرطبة واليابسة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إيما إهاب دبغ فقد طهر"، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه- فانتفعتم به". والقديم أنه يطهر ظاهره فقط حتى يصلي عليه ولا يصلي فيه ولا يباع ولا يستعمل في الأشياء الرطبة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تنتفعوا من -الميتة بإهاب ولا عصب" ظاهره المنع مطلقًا خالفنا في ظاهر الجلد جمعًا- بينه وبين الأخبار المجوزة للدباغ. انتهى. اعترض عليه في "الروضة" فقال: قلت: أنكر جماهير العراقيين وكثير من الخراسانيين هذا القديم، وقطعوا بطهارة الباطن وما يترتب عليه والله أعلم، وما ذكره من انكسار الجماهير لهذا القول صحيح، وأما المترتب عليه فلا، لأن من جملة ما يترتب عليه بطلان البيع، ولم يقطعوا بفساده بل حكوا في الصحة قولين مع القطع بطهارة الباطن كذا ذكره أبو على الطبري في "الإفصاح" والشيخ أبو حامد والبندنيجي في تعليقهما والمحاملي في "المجموع" والدارمي في الاستذكار والماوردي والبغوي في "التهذيب" والشيخ أبو إسحاق في "المهذب" و"التنبيه" وابن الصباغ في "الشامل" والجرجان في "البلغة". "والشافي" وأبو خلف الطبري في "شرح المفتاح" والروياني في "البحر" وأبو عبد الله الحسين الطبري في "عدته" والشاشي في "الحلية" والعمراني في "البيان" واعترف بهما في "شرح المهذب" وزاد فقال: إنهما مشهوران والصحيح منهما عند الأصحاب هو الجديد هذه عبارته. ثم علل القديم بعلة ذكرها جماعة ممن تقدم ذكرهم الآن وهي أن الأصل

تحريم الميتة، غير أن الشرع أباح الانتفاع بجلودها بعد الدباغ فيبقى البيع على الأصل ثم قال: هذا هو الصواب في تعليله، وأما ما يوجهه به كثير من الخراسانيين من نجاسة الباطن فضعيف. ونقل ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" عن صاحب التقريب أنه نقله عن نصه في "الجديد"، والقديم جواز الصلاة فيه. والحديث الأول رواه الترمذي بهذا اللفظ وقال: حديث حسن، وفي مسلم (¬1): "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" وهو معنى رواية الترمذي. والحديث الثاني رواه الشيخان (¬2) والجميع من رواية أبي هريرة. وأما الحديث الأخير فرواه الترمذي وقال: إنه حسن ثم نقل عن أحمد أنه مضطرب. وقال البيهقي في "كتاب المعرفة": إنه مرسل. قوله من "زياداته": وتجوز هبة الجلد قبل الدباغ كما تجوز الوصية به انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من جواز هبته قد جزم به أيضًا في "التحقيق"، ونقله في شرح المهذب عن الماوردي والروياني وأقرهما، ثم خالف ذلك في كتاب الهبة من أصل "الروضة" فقال في الركن الرابع منها: إن الأصح المنع وهذا الثاني هو المعروف وهو مقتضى إطلاق "المنهاج". الأمر الثانى: أن القائل بالجواز محله في الهبه علي سبيل نقل اليد. وأما على سبيل التمليك فلا يتصور فيه الخلاف وقد أشار الروياني إلى ذلك. ¬

_ (¬1) حديث (366). (¬2) البخاري (2108)، ومسلم (363).

القسم الثانى: المتخذ من العظم

القسم الثانى: المتخذ من العظم - قوله: من "زوائده": قال أصحابنا: يعفي عن اليسير من الشعر النجس في الماء والثوب الذي يصلي فيه وضبط اليسير العرف -والأصح أن هذا العفو يعم الجميع، وقيل: يختص بشعر الآدمي. انتهى. وما صححه من تعميم العفو لجميع الشعور حتى يتناول ما لا تعم به البلوى كشعر الذئب والدب والنمر ونحوها مردود باطل؛ بل الأكثرون خصوا ذلك بشعر الآدمي منهم الفوراني والماوردي وابن الصباغ والإمام والغزالي والجرجاني والبغوي -والروياني في "البحر" والعمراني في "الزوائد" وأطلق جماعة قليلة الخلاف فتوهم النووي من إطلاقه التعميم فصرح به- نعم ألحق القاضي الحسين الحمار المركوب بالآدمي في ذلك لعموم البلوي به. وتوهم النووي في "شرح المهذب" أنه عداه إلى سائر الشعور فتمسك في التخريج به وهو خطأ. قوله: وإذا قلنا: ينجس شعر الآدمي بالموت والإبانة فهل يستثنى شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه وجهان انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا منهما في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح عنده وعند النووي أن حكمه -عليه الصلاة والسلام- في طهارة المنفصل منه ونجاسته كحكم غيره فمقتضاه أن يكون الشعر كذلك أيضًا، وقد صرح به الشيخ أبو حامد في "تعليقه" ناقلًا له عن الجمهور فقال: إن أبا جعفر الترمذي إنفراد بطهارته -يعني الشعر- قال: وعامتهم خالفوه وصحح النووي في مسألتنا الطهارة فقال في "التحقيق" "والروضة": إنه الصحيح وفي "شرح المهذب": إن مقابله غلط ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله من "زوائده": ولو باع جلد ميتة بعد دباغه وعليه شعر وقلنا: يجوز

القسم الثالث: المتخذ من الذهب والفضة

بيع الجلد ولا يطهر الشعر بالدباغ فإن قال: بعتك الجلد دون شعره صح، وإن قال مع شعره ففي صحة بيع الجلد القولان في تفريق الصفقة. وإن قال: بعتك هذا وأطلق صح، وقيل: وجهان انتهى. وما ذكره من الصحة إذا باعه دون شعره غير مستقيم فقد قال هو وغيره في كتاب البيع: إنه لابد من رؤية وجهي الجلد في صحة بيعه. ولا شك أن الشعر مانع من الرؤية لأنَّه ليس جزءًا من المبيع. فإن فرض ذلك في شعرات يسيرة متفرقة ففي الصحة نظر أيضًا لانتشار منابتها. القسم الثالث: المتخذ من الذهب والفضة قوله: واستعماله مكروه كراهة تنزيه في "القديم". وكراهة تحريم في "الجديد". انتهى. ورأيت في "شرح التلخيص" للشيخ أبي على أن الشافعي نص في رواية حرملة كما في "القديم". قوله: ومن الاستعمال المحرم التجمر بمجمرة الفضة التي احتوى عليها ولا حرج في إتيان الرائحة من بعد. انتهى. وليس فيه ولا في "الروضة" بيان لضابط البعد وقد بينه في "شرح المهذب" فقال نقلًا عن الأصحاب: قالوا: ولا بأس إذا لم يجثو عليها وجاءته الرائحة من بعيد. وينبغي يكون بعدها بحيث لا ينسب إلى أنه متطيب بها. هذا كلامه. وفي "الكفاية" لابن الرفعة: أن المحرم إنما هو الاحتواء فقط، وأنه لا يحرم الشم مع القرب، وهو في ذلك تابع للقاضي حسين في "تعليقته". قوله: وهل يحرم اتخاذ أواني النقدين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا.

لفائدة جمع المال وإحرازه كي لا يتفرق. وأصحهما: التحريم قياسًا على آلات الملاهي. ثم قال: واحتجوا لهذا الوجه أيضًا بأنه لا خلاف في وجوب الزكاة فيها. ولو كان اتخاذها مباحًا لكان وجوب الزكاة فيهما علي القولين في الحلي المباح. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن حكاية الخلاف وجهين قد تبعه عليه في "الروضة" ونقله في "شرح المهذب" عن الأكثرين. والصواب حكايته قولين. فقد رأيت في كتاب ["التقريب" للإمام القاسم ابن الإمام القفال الكبير الشاشي في كتاب] (¬1) الزكاة: أن التحريم نص عليه في رواية حرملة والمزني. وأن الجواز نص عليه في كتاب الغصب، وحينئذ تكون المسألة على قولين. وقد صرح بهما هكذا جماعة كبيرة. الأمر الثاني: أن ما ادعاه من عدم الخلاف في الزكاة ليس كذلك، بل فيه خلاف مشهور حكاه جماعة كبيرة منهم الماوردي في "الحاوي"، والمرعشي في كتابه المسمى "ترتيب الأقسام" والجرجاني في "التحرير". الأمر الثالث: أن الحلى المكروه ملحق بالمحرم في وجوب الزكاة وليس ملحقًا بالمباح حتى يجري فيه القولان. وحينئذ فنقول: لا يلزم من وجوب الزكاة فيها حصول المدعي وهو التحريم؛ لأنها قد تكون مكروهة عند القائلين بالجواز، فلذلك أوجبوا فيها الزكاة. قوله: وفي جواز تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بها أى بأواني الذهب والفضة وجهان. انتهى. لم يصرح الرافعي هنا ولا في "الشرح الصغير" بتصحيح. والصحيح ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هو التحريم كذا ذكره النووي في "شرح المهذب" وغيره، وصححه أيضًا في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: ولا خلاف أن ما نفاسته -أي من الأواني- بسبب صنعته لا يحرم استعماله ولا يكره. انتهى. وما ذكره من نص الخلاف قد تبعه على أيضًا في "الروضة". لكن ذكر صاحب "البيان" أن صاحب "الفروع" أشار إلى وجهين في تحريمه. قوله: ولو اتخذ إناء من حديد أو غيره وموهه بالذهب والفضة تمويهًا لا يحصل منه شيء بالعرض على النار. فقال قائلون: إن قلنا التحريم لعين الذهب والفضة وهو الجديد فلا منع. وإن قلنا لمعنى الخيلاء وهو القديم منع. وقال آخرون: معنى الخيلاء معتبر. لكن من جوز قال: الموه لا يكاد يخض. ولو اتخذ إناء من ذهب أو فضة وموهه بنحاس أو غيره جرى الخلاف إن قلنا التحريم لعين الذهب والفضة حرم. كان قلنا لمعنى الخيلاء فلا. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام مقتضاه تصحيح الجواز في المسألة الأولى. والمنع في الثانية. ولما اختصر النووي هذا الكلام حكى في المسألتين وجهين من غير ترجيح البتة، ثم صحيح منهما الجواز من "زياداته" وهو اختصار عجيب فاعلمه. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلام الرافعي في المسألة الأولى من ترجيح

الجواز قد صرح بتصحيحه في غير هذا الكتاب فقال في "المحرر": إنه الظاهر وفي "الشرح الصغير": إنه الأظهر، وصححه أيضًا النووي هنا في باقي كتبه "كشرح المهذب" "والتحقيق" "والمنهاج". إذا علمت ذلك فقد ذكر الرافعي في باب زكاة النقدين في الكلام على حلى الذهب ما يخالف ذلك فقال: هل يجوز للرجل تمويه الخاتم والسيف وغيرها بالذهب تمويهًا لا يحصل منه شيء؟ فيه وجهان. ثم قال: وبالتحريم أجاب العراقيون هنا. والذي قاله مقتضاه تصحيح المنع؛ لأن تصحيح أئمة المذهب معمول به فضلًا عن قطعهم، وصححه أيضًا النووي في الباب المذكور من "شرح المهذب"، وفي باب ما يكره لبسه أيضًا فقال: الثانية: لو كان الخاتم فضة فموهه بذهب أو موه السيف وغيره من آلات الحرب أو غيرها بذهب تمويهًا لا يحصل منه شيء فطريقان أصحهما وبه قطع العراقيون التحريم للحديث، والثاني فيه وجهان هذا كلامه في الموضعين مع أنه قد صرح بالذهب في باب الأوانى، وصحح فيه الجواز كما تقدم نقله عنه فليته مع تصحيحه المنع صحيح طريقة الوجهين بل صحيح طريقة القطع به، هذا مع أن آلات الحرب أولى بالتجويز من غيرها لجواز تصليتها. ووجه الجمع بين الكلامين أن يقال: الذي جوزه هنا هو الأواني والذي منعه هناك هو الملبوس ولا يلزم من المنع فيه لاتصاله بالبدن وشدة ملازمته له أن يمتنع غيره. فانقل ذلك واعمل بمقتضاه فإن كان كلام "المنهاج" وغيره يوهم التعميم وذكر أيضًا في الزكاة من "شرح المهذب" عقب هذا الموضع أن تمويه سقف بيته وجداره بالذهب أو الفضة حرام بلا خلاف قال: ولكن إن حصل منه شيء حرمت استدامته وإلا فلا وتابعه ابن الرفعة في "الكفاية"

على ذلك، وليس كذلك، فإن الرافعي في "الشرح الصغير" قد صرح بجريان الوجهين فيهما، ذكر ذلك في الزكاة إلا أن حكايته غريبة. الأمر الثالث: أن تصحيح النووي للجواز في المسألة الثانية يتجه أن يكون المراد به إنما هو الاستعمال فقط، ولهذا صوّر المسألة بذلك حتى لو اتخذ الإناء ليفعل به ذلك كان حرامًا، ولهذا قالوا: لا يستحق الصانع الأجرة ونحوها، إذ لو جاز للزم أن يقال: يصح الاستئجار على عمله ثم نعطيه لمن يموهه بالرصاص ونحوه ولا أثر للفرق بين أن يقصد اتخاذه على هيئة أم لا. وإذا صح أن اتخاذه لذلك حرام اتجه أن يقال أيضًا بتحريم استمرار بقائه وإن جاز استعماله. قوله: ولو غشى ظاهره وباطنه بالنحاس قال الإمام: الذي أراه القطع بجوار استعماله والذي يجئ على قول من يقول أن التحريم لعينهما أن يقول التحريم ههنا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه ليس المراد بالغشية التمويه بل تصفيحه، ولقد أعله في "النهاية" بقوله: فإنه الإناء من النحاس وقد أدرج فيه ذهب يسير. الثاني: أن قول الرافعي والذي يجئ إلى آخره هو من عنده لا من تتمة كلام الإمام وهو واضح، ولهذا جزم في "البسيط" بالجواز وقال: إنه لا خلاف فيه. الثالث: أن النووي في "الروضة" قد اختصر هذا الموضع بقوله فطريقان. قال الإمام: لا يحرم، وقال غيره: على الوجهين انتهى. فإن

كانت حكايته للطريقتين لتوهمه أن ذلك من كلام الإمام فعجيب، وأيضًا سواء كان هذا البحث له أو للرافعي كيف يصح أن يقول فيه: وقال غيره كذا وكذا؟ قوله: في "الروضة": فرع. المضبب بالفضة فيه أوجه: أحدها: إن كانت الضبة صغيرة وعلى قدر الحاجة لا يحرم استعماله ولا يكره، وإن كانت كبيرةً فوق الحاجة حرم، وإن كانت صغيرة فوق الحاجة أو كبيرة قدر الحاجة فوجهان، الأصح يكره. والثاني: يحرم والوجه الثاني: إن كانت الضبة تلقى فم الشارب حرم وإلا فلا. والثالث: يكره ولا يحرم. والرابع: يحرم في جميع الأحوال قلت: أصح الأوجه وأشهرها الأول والله أعلم، ومعنى الحاجة غرض إصلاح موضع الكسر. انتهى كلام "الروضة". وفيه أمور: أحدها: أن هذا التصحيح الذي ذكره من زياداته قد صرح به الرافعي فإنه حكى وجهين فيما إذا كانت الضبة في موضع الاستعمال، وقال: إن معظم العراقيين وهو أوفق للمعنى على أن حكمها كحكم غيرها، ثم ذكر ما إذا كانت الضبة في غير موضع الاستعمال وجزم فيه بالوجه الأول من الوجوه المذكورة في "الروضة"، وذكر الباقي على سبيل التضعيف. الثاني: أن الرافعي لما أن ذكر أن الصغيرة التي للحاجة لا تحرم ولا تكره استدل عليه بأن حلقه قصعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت من الفضة، وكذلك قبيعة سيفه

فعلمنا أن الحلقة من مسائل الحاجة وهذه مسألة حسنة لا تؤخذ من كلام "الروضة"، وقد ذكر الرافعي أيضًا بعد ذلك ما يدخل فيه هذا وغيره فقال: ونعني بالحاجة الأغراض المتعلقة بالتضبب سوى التزيين هذا لفظه، ولم يذكره في "الروضة" وهذا غريب جدًا. الثالث: أن الرافعي قد صرح بأن موضع الاستعمال كالشرب فقال: ومن نصر هذا الوجه فمن شرطه أن يقول: لو كان الاستعمال في غير الشرب وكانت الضبة على الموضع الذي يمسه المستعمل ويلاقيه يحرم أيضًا ولا يساغ غير ذلك هذا لفظه ولم يذكره في "الروضة" أيضًا فاعلمه. الأمر الرابع: أن استدلال الرافعي على الضبة المختلف فيها تقبيعة سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجيب، فإن هذا من آلات الحرب وتحليتها بالفضة جائز قطعًا والقبيعة بقاف مفتوحة وباء موحدة مكسورة قال الجوهري: هو ما على طرف مقبض السيف من قصبة أو غيرها. وحديث القبيعة رواه أبو داود والترمذي وقال: إنه حسن. والقصعة بفتح القاف هي ما يشبع طعامها عشرة أنفس. والصحفة ما تشبع خمسة. قوله: قال بعضهم: الضبة الكبيرة ما تستوعب جزءًا من الإناء كأسفله أو عروته أو شفته. وقال بعضهم: المرجع فيه إلى العادة. وقال الإمام: لعل الوجه أن يقال: هو ما يلمع على البعد للناظر، وأشار إليه الغزالي. انتهى ملخصًا. صحح في "الشرح الصغير" الوجه الأول وقال النووي في "زيادات

الروضة": إنه أشهر الأوجه، قال: ولكن الأصح اعتبار العروة. والمراد بالعروة ما جعل في الإناء ليعلق به أو يمسك كأذن الإبريق ونحوه. قوله: الخامسة: قدر الضبة المجوزة لو اتخذ منه إناء صغيرًا كالمكحلة وطرف العالية هل يجوز؟ حكى فيه وجهان للشيخ أبي محمد أظهرهما التحريم؛ لأنه يقع عليه اسم الآنية. انتهى. وهذه المسألة قد تكلم من الأصحاب فيها قديمًا ابن سريج فمن بعده، وقد رأيت ذلك في كتاب "التقريب" للإمام القاسم ابن الإمام القفال الكبير الشاشي ذكر ذلك في كتاب الزكاة فقال: وقد بلغنا عن أبي العباس أنه ذكر الخبر وهو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى -أى إلى مكة- جملًا لأبي جهل في أنفه بُرة من فضة فقال: فيه دليل على أنه لا بأس باتخاذ مثل المكحلة وملعقة العالية ونحوها مما لم يكن فيه سرف هذا كلامه في "التقريب". قوله: وذكر في "التهذيب" أنه لو اتخذ للإناء حلقة من فضة أو سلسلة أو رأسًا يجوز؛ لأنه منفصل عن الإناء لا يستعمله. ولك أن تقول: لا يسلم أنه لا يستعمله تبعًا للإناء. ثم هب أنه لا يستعمله لكن في الاتخاذ من غير استعمال خلاف سبق فليكن هذا على الخلاف. انتهى. واعلم أن الحلقة والسلسلة لا وقفة في جوازهما وقد سبقا في كلام الرافعي في أثناء الاستدلال على المضبب. وأما الرأس فإن جماعة قد وافقوا صاحب "التهذيب" على جوازه وعللوه بأنه منفصل عن الإناء لا يستعمله، كذا ذكره في "شرح المهذب" ثم قال: وينبغي إلحاقه بالمضبب في التفصيل والخلاف.

وقال في "الروضة": قد وافق البغوي جماعة ولا نعرف فيه خلافًا. قلت: وقد ظهر من تعليلهم الرأس بالانفصال أنه شئ مستقل يغطي الإناء. ويزيده إيضاحًا، كلام الخوارزمي في "الكافي" فإنه قال: لو اتخذ لكوزه رأسًا من فضة فيجوز؛ لأنه منفصل عنه لا يستعمله وقت الشرب، فعلى قياسه لو كان الذي يوضع فيه الكوز من فضة يحتمل أن يجوز؛ هذه عبارته. وعلى هذا فضابط الاستعمال المحرم أن يتعلق ببدنه كأكل منه أو شرب أو نحوهما، وذلك مفقود في غطاء الكوز وفيما يجعل فيه، وهكذا الحرير أيضًا إنما يحرم منه ما يعلق ببدنه كالجلوس عليه والجلوس تحته لوقاية الحر والبرد وستره عن الناس ويصير هذا نظير ما قالوه في الأعيان النجسة كجلود الميتة أنه يحرم استعمالها في ما يتعلق ببدنه دون غيره حتى يحرم الامتشاط. بمشط العاج وليس الجلد النجس دون جعل الأشياء فيه. ووقع في مشط العاج كلام مهم تعرفه قبيل صلاة العيد، وحينئذ فيكون غطاء العمامة وكيس الدراهم ونحو ذلك من الحرير أولى بالجواز من غطاء الكوز وما يوضع فيه. قوله: من "وائده": ولو أثبت الدراهم في الإناء بالمسامير فهو كالضبة وقطع القاضي حسين بجوازه. انتهى. وقد تتبعت ما نقله هنا عن القاضي في "تعليقتيه" معًا وفي "فتاويه" و"شرح الفروع" والقطعة التي شرحها من "التلخيص" وكلام الناقلين عنه فلم أظفر به.

الباب الخامس في صفة الوضوء

الباب الخامس في صفة الوضوء وفرائضه ست: الفرض الأول: النية: اعلم أن بعضهم قد زاد سابعًا وهو الماء الطهور وغلطه النووي في "شرح المهذب" وقال: الصواب أنه شرط لصحته لا فرض آخر، فلهذا لم يعده هنا لكنه في "الروضة" قد جعل التراب في التيمم من جملة أركانه والماء الطهور هنا كالتراب هناك. قوله: ولا تجب النية في إزالة النجاسة ويحكي عن ابن سريج اشتراط النية فيها، وبه قال أبو سهل الصعلوكي. انتهى. وهذا النقل عن ابن سريج ليس بثابت كما نبه عليه الرافعي في إزالة النجاسة، وقد تقدم ذكر لفظه هناك. وحكى ابن الصلاح فيما جمعه من "الفوائد في رحلته إلى بلاد الشرق" أن في المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كانت النجاسة على الثوب لم تجب النية لأن الإزالة لا تجب لإمكان صلاته في غيره، وإن كانت على البدن وجبت لوجوب إزالتها وهو وجه فيقاس. قوله: ولو اغتسلت الذمية أو المجنونة من الحيض أو النفاس لحق الزوج ثم أفاقت المجنونة أو أسلمت الكافرة وجبت عليهما الإعادة في أصح الوجهين؛ لأنهما ليستا من أهل العبادة وإنما صح في حق الزوج للضرورة انتهى. هاتان المسألتان سبق الكلام عليهما في باب المياه، وهل يشترط أن تنوي

الذمية عند اغتسالها والزوج عند تغسيله لزوجته المجنونة؟ فيه وجهان في "شرح المهذب" من غير تصريح بتصحيح. أصحهما في "التحقيق": أنه يشترط ولو امتنعت المسلمة من الغسل فغسلها الزوج قهرًا. فهل يشترط نيته أو لا؟ قال في "شرح المهذب": الظاهر أنه على الوجهين في المجنونة، وجزم في باب الحيض من "الكفاية" بأن الذي ينوي في غسل الذمية إنما هو الزوج. قوله: وفي صحة طهارة الكافر الأصلي ثلاثة أوجه: ثالثها: يصح الغسل دون الوضوء. ثم قال: أما المرتد فلا تصح منه الطهارة بحال، ولم يجروا فيه الخلاف المذكور في الكافر الأصلي. انتهى. تبعه أيضًا في "الروضة" على نفي الخلاف عن المرتد فقال: ولا تصح طهارة مرتد بلا خلاف. وليس كما قالا فقد حكى [الماوردي في الحاوي وجهًا] (¬1) أنه يصح [غسله، وحكى النووي في "التحقيق" وجهًا أنه يصح] (¬2) وضوءه وغسله وعزاه في "شرح المهذب" إلى "النهاية". قوله: ولو توضأ المسلم ثم ارتد لم يبطل وضوءه في أصح الوجهين ثم قال: وأما التيمم ففيه وجهان أيضًا لكن الأصح فيه البطلان؛ لأن التيمم لاستباحة الصلاة، فإذا ارتد خرج عن أهلية الاستباحة إلى آخره. تابعه النووي على إطلاق عدم البطلان في الوضوء وينبغي استثناء وضوء دائم الحدث؛ وأن يكون كالتيمم في بطلانه بالردة، فإن المذهب أنه كالتيمم في كونه لا يرفع الحدث، ولكن يبيح الصلاة كما قاله في "الروضة" من زياداته قبيل باب المستحاضة. وقد سبق أن علة بطلان التيمم كونه للاستباحة، وأيضًا فقد قال الإمام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

في "النهاية": إن التيمم إذا كان معه غسل فإنه يرفع الحدث كالمسح على الخفين، وعلى هذا فينبغي استثناؤه أيضًا من التيمم. قوله في "الروضة": أما وقت النية فلا يجوز أن يتأخر عن غسل أول جزء من الوجه. انتهى. وهذا التعبير فاسد فإن أول الوجه من جهة أعلاه هو ابتداء الجبهة ومن جهة أسفله هو منتهى الذقن، ولا يجب اقتران النية بشئ منهما، وقد ذكره الرافعي على الصواب فقال عن أول غسل الوجه أى مغسول فتوهم النووي أنه لا فرق بين غسل الأول وأول الغسل فعبر بالعكس فلزم الخلل. قوله: فإن قارنت النية ما قبل الوجه من السنن لم يصح وضوؤه على أصح الوجهين. انتهى. استدرك عليه في "الروضة" فقال: هذا في المضمضة والاستنشاق محله إذا لم ينغسل معهما شئ من الوجه فإن انغسل أجزأه إن كان نيته الوجه وكذا إن لم يكن على الصحيح وقول الجمهور. قال: لكنه يحتاج إلى إعادة غسل ذلك الجزء مع الوجه على الأصح انتهى كلامه. والذي قاله النووي -رحمه الله- من تصحيح الاعتداد بالنية عند مقارنتها للجزء المذكور مع تصحيح كونه لا يقع على الفرض غلط عجيب وكلام متدافع، فإن تصحيح النية يقتضي الاعتداء بالمغسول وإلا فيؤدي إلى [الاكتفاء] (¬1) بنية لم تقارن غسلًا مفروضًا والتفريع على عدم صحة ذلك يثبت أن صحة النية والاعتداد بذلك الجزء عن الوجه متلازمان وهو الموجود لأئمة المذهب كما ستعرفه. وقد راجعت كلام النووي في "شرح المهذب" ¬

_ (¬1) فى جـ: الاعتداد.

لكون ما يزيده في "الروضة" يلخصه غالبًا منه فلما راجعته وجدته بعد أن صحح إجزاء النية عند اقترانها بالجزء المذكور، نقل عن البغوي وجوب إعادة غسل ذلك الجزء فراجعت "التهذيب" فوجدته قد عبر بقوله: وقيل: إن انغسل في المضمضة والاستنشاق شئ من بشرة وجهه صح وضوؤه وإلا فلا. وهذا ضعيف لأنه وإن انغسل فلم يغسله عن الفرض بدليل أنه لا يجوز الاقتصار عليه بل يجب غسله ثانيًا في الفرض هذه عبارته فراجعت "تعليقة" القاضي الحسين لأن البغوي لخص "التهذيب" من كلام لشيخه المذكور في "تعليقته" المذكورة فرأيته قد حكى الخلاف في صحة النية عند اقترانها بسنة ثم قال ما نصه: وقال القفال: إن انغسل بالمضمضة ظاهر شفته يصح الوضوء؛ لأنه صار مؤديًا جزءًا من الفرض وإن لم ينغسل شئ من شفتيه لا يجوز لأنه محض سنة وهذا على الطريق الذي يقوله أنه لو ترك لمعة وغسلها المرة الثانية يحصل الوضوء وسنذكره هذا لفظ القاضي. ووجه التخريج الذي ذكره أنه قد غسل ذلك الجزء مقترنًا بنية الوضوء إلا أن غسله إنما كان عن السنة لا عن الفرض. فأشبه غسل اللمعة في المرة الثانية أو الثالثة والصحيح فيها الإجزاء فيكون كذلك في مسألتنا، فاختصر البغوي كلام شيخه المذكور بما سبق وعلمنا من تضعيف البغوي لهذه المقالة أن الصحيح عنده في مسألة اللمعة عدم الإجزاء فإنه لم يصحح فيها شيئًا هناك بل ولا شيخه المذكور أيضًا فوقف النووي على كلام البغوي خاصة ولم يطلع أيضًا على مدركه ومستنده فإنه لم يراجع عليه من أصوله ما راجعت، ولا تتبعت، فلزم الوقوع في الخطأ الصريح، وقد صرح أيضًا رفيق البغوي في الأخذ عن القاضي الحسين وهو صاحب "التتمة" بصحة النية وبإجزاء المغسول عن الفرض وكذلك الروياني في "البحر" وصحح أبو علي

الطبري في "الإفصاح" والماوردي في "الحاوى" صحة الوضوء بهذه النية ولم يوجبا إعادة شيء وكذلك ابن الرفعة في "كفايته" مع تتبعه واتساع باعه، وبالغ ابن الصباغ في "الشامل" فجزم بالصحة عند انغسال شئ من الشفة ولم يوجب إعادةً. ولا شيئًا آخر وغلط ابن الرفعة في "المطلب" تبعًا لصاحب "الذخائر". في النقل عنه في هذه المسألة أي عن ابن الصباغ وسبب الغلط تحريف لفظة منه أي من الجارة للضمير بلفظ نبه أعنى بالنون والباء فتفطن لذلك وفي ما أشرت إليه تنبيه لمن أحب الوقوف عليه وقد طال الكلام في هذه المسألة وذلك لإيضاح وجه الغلط فلله الحمد على التوفيق لذلك. ونبه في "الذخائر" على شيء متعين وهو أنه حيث وقع شئ عن الوجه في هذه الحالة فلا تجزئ المضمضة ولا الاستنشاق لتقدم بعض غسل الوجه عليهما وتقديمها عليه شرط. قوله: فينوي أحد ثلاثة أمور: أحدها: رفع الحدث أو الطهارة عنه. والثاني: استباحة الصلاة أو غيرها مما لا يباح إلا بطهارة. الثالث: فرض الوضوء أو أداء الوضوء. انتهى ملخصا. فيه أمور: أحدهما: أن هذا الحصر قد تابعه عليه في "الروضة" ويرد عليه كيفيات: إحداها: أن ينوي الطهارة للصلاة أو لغيرها مما يتوقف على الوضوء فإنه يصح كما ذكره الشيخ في "التنبيه" وكذلك في "المهذب" وغاير بينها وبين ما إذا نوى الطهارة عن الحدث ووافقه عليه النووي في شرحه له وحكى اتفاق الأصحاب عليه إلا أن في هذه الصورة نظر، فإنه لو نوى

الطهارة ولم يقل عن الحدث لا تجزئه على الصحيح كما صرح به في "زوائد الروضة" وأفهمه كلام الرافعي وعلله في "شرح المهذب" بأن الطهارة قد تكون من حدث وقد تكون عن خبث، وهذا نفسه يأتي في صورتنا والتعرض فيها للصلاة ونحوها لا يزاحم هذا المعنى ولا يأتي هذا الإشكال في الاستباحة لأن الاستباحة؛ تتوقف على الحدث والخبث معا فيندرجان في نيتها بخلاف الطهارة. الكيفية الثانية: أداء فرض الطهارة ذكرها جماعة منهم سليم الرازي في "التقريب". الثالثة: أن ينوي الوضوء فقط فيصح كما صححه في "التحقيق" "وشرح المهذب" وفرق الماوردي بينه وبين ما إذا نوى الجنب الغسل بأن الوضوء لا يطلق على غير العادة بخلاف الغسل. الأمر الثاني: أن نية الرفع والاستباحة ونحوهما لا إشكال فيها في غير الوضوء المجدد وأما المجدد فالقياس فيه الاقتصار على نية الطهارة والوضوء والتجديد ونحو ذلك على خلاف ما يقتضيه إطلاقه، إلا أن يقول قائل: تصح بالجميع كالصلاة المعادة غير أن ذلك مشكل خارج عن القواعد فلا يقاس عليه. الأمر الثالث: ذكر الرافعي في نية الصلاة أنه لابد من قصد فعل الصلاة ولا يكفي إحضار نفس الصلاة غافلا عن الفعل. والذي ذكره يتجه مثله هنا عند نية الوضوء والطهارة ونحوهما. قوله: ولو نوى رفع بعض الأحداث صح وضوؤه على الأصح؛ لأن الحدث لا يتجزأ فإذا [ارتفع البعض ارتفع الكل، وقيل: لا لأنه لا يتجزأ فإذا] (¬1) نفي البعض نفي الكل، وقيل: إن لم ينف ما عداه صح وإن نفاه فلا، وقيل: إن نوى الأول صح وإلا فلا، لأن الأول هو الذي أثر في المنع وبعض ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الطهارة، وقيل عكسه؛ لأن الآخر أقرب، وذكر بعضهم أن الخلاف فيما إذا نواه ونفي غيره فإن لم ينف صح بلا خلاف انتهى. وهذه الطريقة أسقطها النووي من "الروضة". واعلم أن هذه المسألة تشبه مسألة ذكرها الرافعي في الطلاق في آخر الباب الأول، وهي أنه إذا وطئ امرأتين واغتسل من الجنابة وحلف أنه لم يغتسل عن الثانية لم يحنث. ورأيت في "شرح التلخيص" للشيخ أبي علي السنجي قبل كتاب الزكاة أن المرأة إذا كانت جنبًا فحاضت ثم اغتسلت وكانت قد حلفت أنها لا تغتسل عن الجنابة فالعبرة عنده بالنية فإن نوت الاغتسال عنها تكون مغتسلة عنهما وتحنث، وإن نوت عن الحيض وحده لم تحنث لأنها لم تغتسل عن الجنابة، وإن كان غسلها مجزئًا عنهما معًا. قال: ورجح القفال الحنث هذا كلامه. وقد ظهر لك أن الرافعي صور مسألة اليمين بحالة اتحاد النوع، وقد يؤخذ منها التخصيص أيضًا في الوضوء حتى إذا نوى ما عدا الأول من إفراغ النوع متعمدًا لم يصح كما لا تحنث في اليمين وهو متجه. قوله في أصل "الروضة": فإن لم يكن الحدث المنوي واقعًا منه بأن قال: ولم يتم فنوى حدث اليوم، فإن كان غالطًا صح وضوؤه قطعًا، وإن تعمد لم يصح في الأصح. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك فقد خرجه الإمام والغزالي في "البسيط" على الخلاف في المسألة السابقة وهي ما لو نوى رفع بعض الأحداث، وستقف في التيمم على كلام آخر متعلق بالمسألة فراجعه. قوله: فإن نوى ما يستحب له الوضوء كقراءة القرآن للمحدث وسماع الحديث وروايته والعقود في المسجد وغيرها فوجهان أظهرهما لا يصح

وضوؤه لأن هذه الأشياء مباحة مع الحدث فلا يتضمن قصدها قصد رفع الحدث، والوجهان جاريان فيما إذا كان الوضوء مستحبًا في ذلك الفعل لمكان الحدث كما ذكرناه من الأمثلة، وفيما إذا كان لا باعتبار الحدث كتجديد الوضوء، فإن القصد منه زيادة النظافة وقطع بعضهم في الثاني بنفي الصحة. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعبير الرافعي بالقعود يشعر بأن المار في المسجد لحاجة أو نحوها لا يستحب له ذلك، وكلام "الروضة" أيضًا يشعر به فإنه عبر بالجلوس وليس كذلك، فقد صرح في "شرح المهذب" باستحبابه في هذه الحالة، ولهذا عبر في "المحرر" بالدخول وسيأتي في الغسل ما يعضده أيضًا، والمسألة شبيهة بأن المأمور بتحية المسجد من أراد الجلوس أو كل من دخل؟ ولعلنا نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه. الأمر الثاني: في باقي الأمور التي استحبوا لها الوضوء وأرادها الرافعي بقوله وغير ذلك، وقد جمعها النووي في "شرح المهذب" "والتحقيق" فقال: يندب عند نوم وغضب وغيبة وأذان وإقامة وغسل جنابة ودرس علم ووقوف بعرفة وسعى وزيارة قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفصد وحجامة وقئ وقهقهة مصلٍ وحمل ميت ومسه وأكل لحم جزور ولجنب أراد أكلًا وشربًا أو نومًا أو جماعًا أو خطبة لغير جمعة انتهى كلامه. وتخصيص الغيبة ليس بجيد فقد قال في نواقض الوضوء من "شرح المهذب" الصحيح أو الصواب استحبابه من الكلام القبيح كالغيبة والنميمة والكذب والقذف والفحش وقول الزور. وأيضًا فقد رأيت في "شرح فروع ابن الحداد" للقاضي الحسين بخط

تلميذه المعلق عنه استحباب الوضوء لزيارة القبور مطلقًا. الأمر الثالث: في بيان الحالة التي يستحب فيها تجديد الوضوء والأصح أنه يستحب لكل من صلى به صلاة ما فرضا كانت أو نفلًا، ولا يستحب لغيره، كذا ذكره في "الروضة" في باب النذر من زوائده. وحكى في "شرح المهذب" هنا وجوهًا أخرى. أحدها: لا يستحب إلا إذا أدى به فرضًا. والثاني: يستحب إذا فعل بالوضوء ما قصده لأجله. والثالث: يستحب مطلقًا إذا فرق بينهما تفريقًا كبيرًا، فلو وصله بالأول كان في حكم غسلة رابعة؛ كذا قاله الإمام وغيره وصرحوا بكراهة التجديد إذا لم يرد بالأول شيئا. والرابع: إن صلى بالأول أو سجد لتلاوة أو شكر أو قرأ القرآن في مصحف استحب وإلا فلا، والمراد بالأخير ما يتوقف عليه الوضوء، وبالثاني ما يتوقف عليه أو يندب له مع مراعاة ما سبق من فعل ما قصد. واعلم أن تجديد التيمم والغسل غير مستحب على الصحيح، وتجديد الوضوء لماسح الخف يأتيك في بابه، وأما تجديد الوضوء المكمل بالتيمم لجراحة فإنه يستحب كما جزم به في "الذخائر" نقلًا عن القفال. قال في "الكفاية": وفيه نظر لأنا إذا لم نستحب له الإتيان بالتيمم لم يكن المأتى به طهارة كاملة، والإتيان ببعض الطهارة غير مستحب اللهم إلا أن يقال: لما لم يكن استعمال الماء في الباقي والتيمم عنه غير مشروع صار ذلك البعض كالمفقود. الأمر الرابع: في بيان محل الخلاف في صحته بنية التجديد وقد صوره

في "التتمة" بما إذا نوى ذلك مع علمه بأنه محدث، وكلام ابن الصباغ في أثناء فرع ابن الحداد خصهما بما إذا نوى ذلك وهو يعتقد أنه متطهر. الأمر الخامس: أن النووي في "الروضة" قد وافق الرافعي على جريان الوجهين في الوضوء المجدد فقال: ولو نوى تجديد الوضوء فعلى الوجهين وقيل: لا يصح قطعًا، وناقض ذلك في "شرح المهذب" فقال: ولو نوى تجديد الوضوء أو الجنب غسلًا مسنونًا ففي ارتفاع حدثه طريقان: أحدهما: أنه على الوجهين فيما يستحب له الطهارة. والثاني: وهو المذهب القطع بأنه لا يرتفع حدثه ولا جنابته؛ لأن هذه الطهارة ليس استحبابها بسبب الحدث فلا يتضمن رفعه بخلاف الطهارة لقراءة القرآن. قوله: ولو شك في الحدث بعد يقين الطهارة فتوضأ احتياطًا ثم تبين أنه كان محدثًا فهل يعتد بهذا الوضوء؟ فيه هذان الوجهان؛ لأن الوضوء والحالة هذه محبوب للاحتياط لا للحدث بخلاف العكس فإنه يصح. انتهى. والأصح من الوجهين المحال عليها أنه لا يصح وحينئذ فيقال: إذا كان وضوء الاحتياط غير صحيح فما الفائدة في استحبابه لأنَّه إن كان محدثًا فحدثه لا يرتفع وإن كان متطهرًا فلا حاجة إليه ولاسيما إذا لم يكن قد أدى به قبل الشك شيئًا من الصلوات، فإنه لا يستحب التجديد والحالة هذه وليس عن هذا الإشكال جواب شاف. والصواب في هذه المسألة ما قاله الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في "القواعد الكبرى" أن طريق الشاك في ذلك والحالة هذه أن يحدث ثم يتطهر قال: فإن لم يفعل لم [يحصل] (¬1) الورع على المختار لعجزه عن جزم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

النية قال: وكذلك [إذا] (¬1) التبس عليه المني بالمذي فطريقه أن يجامع ثم يغتسل، وفي "شرح التعجيز" لمصنفه حكاية وجه ثالث في أصل المسألة أنه إن احتاط لشكه في أنه أحدث لم يصح أو في أنه تطهر صح؛ لأن نية رفع الحدث قويت بأن الأصل بقاء الحدث. قوله: ولهذا ذكروا وجهين في اشتراط الإضافة إلى الله تعالى كما في الصوم والصلاة وسائر العبادات. انتهى. واعلم أن جريان الخلاف في الوضوء إنما أشار إليه الإمام بحثًا ثم رده فإنه. قال: الوضوء من القربات، فلذلك أوجب الشافعي فيه النية، وإذا كان كذلك انقدح ذكر خلاف في أنه هل يشترط أن يضيفه إلى الله تعالى كما في الصلاة؟ لكن قد قطع أئمة المذهب بأنه لو نوى أداء الوضوء لفريضة الوضوء صحت نيته وارتفع حدثه، فالوجه أن يكتفي بما ذكره الأئمة هذا لفظه. فأثبت الغزالي الوجهين فتابعه الرافعي عليه، وقد نبه ابن الرفعة أيضًا على هذا الذي نبهت عليه فثبت أن الوجهين لا أصل لهما. قوله: والأولى ألا نجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات بل نعتبرها للتمييز، ولو كان الاعتبار على وجه القربة لما جاز الاقتصار على أداء الوضوء وحذف الفريضة؛ لأن الصحيح أنه يشترط التعرض للفرضية في الصلاة وسائر العبادات. انتهى كلامه. وهو يقتضي وجوب التعرض للفرضية في الحج والعمرة، وليس كذلك فقد صرح الماوردي والبندنيجي وغيرهما كما قاله ابن الرفعة في صفة الصلاة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بأنه لا يجزئ فيهما؛ لأن من عليه فرضهما لو أحرم بالنفل لم يقع له بل للفرض، وأما الصوم فقد اختلف فيه كلام النووي كما تعرفه واضحًا في موضعه. قوله: قال الشيخ أبو على: الموجب للطهارة هو الحدث وقيل: دخول الوقت، وقيل: أحدهما يشترط الآخر. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن هذه المسألة قد أسقطها النووي فلم يذكرها في الروضة. الثاني: أن الأصح فيها وجوبه بالحدث والقيام إلى الصلاة معًا كذا صححه النووي في "التحقيق" وفي "شرح مسلم" في باب جواز أكل المحدث للطعام ولم يذكره الرافعي البتة. الثالث: ذكر الرافعي كلامًا حاصله أنه إذا توضأ قبل الوقت ناويًا للفرض إن أراد بالفرض ما يأثم الشخص بتركه، فإنه يتخرج على هذا الخلاف، وأما إذا أراد ما لابد منه في إيقاع الصلاة، فإنه يصح جزمًا وأن الصبي إذا نوى الفرض صح وضوؤه بالمعني الثاني دون الأول، ولم يذكر في الروضة شيئًا من ذلك، بل اختصر كلام الرافعي فقال: الأمر الثالث: فرض الوضوء أو أداء الوضوء وذلك كان قطعًا وإن كان الناوي صبيًا. هذا لفظه. ومما يتخرج أيضًا على هذا الخلاف ما إذا نوى أداء الوضوء] (¬1) اقبل الوقت وأراد بالآداء معناه المصطلح عليه، وقد يقال من فوائده أيضًا ما لو شرع في الوضوء ثم أراد قطعه باللمس مثلًا وقلنا بالصحيح وهو أنه لا يجوز قطع الواجب الموسع بعد الدخول فيه. أما قطعه بما له فيه غرض صحيح فلا إشكال في جوازه وسيأتي نظير مسألة الكتاب في أول باب الغسل فراجعها. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: كما لو كبر الإمام وقصد مع التحريم إعلام القوم لا يضر، انتهى كلامه، لم يتعرض في "الروضة" هنا لذكر هذه المسألة لكنها تؤخذ من كلامهم هناك. قوله: ولو اقتصر على نية رفع الجنابة حصلت الجمعة في أصح القولين انتهى. ذكره نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وخالفهما في "المحرر" فجزم فيه بعدم الحصول، فقال؛ ولو اغتسل لجمعة وجنابة حصلا أو لأحدهما حصل فقط، وهذا هو الذي صححه النووي في كتبه ونقله في "الروضة" وغيرها عن الأكثرين وحينئذ تكون الفتوى عليه. واعلم أن في صحة الغسل بالنسبة إلى الجمعة عند الاقتصار على نيتها كلامًا ستعرفه في باب غسل الجنابة. قوله: ولو نوى رفع الجنابة وغسل الجمعة فإن قلنا: لو اقتصر على غسل الجنابة لم تحصل الجمعة، فقضيته ألا يصح الغسل أصلًا كما نوى بصلاته الفرض والنفل جميعًا، وإن قلنا: تحصل. فوجهان كالوجهين في ضم نية التبرد إلى رفع الحدث أصحهما أنه لا يضر. انتهى كلامه ملخصًا. وكله مدخول، فأما ما قاله في التفريع على القول الأول من عدم الصحة فقد جزم في "المحرر" بعكسه، وقد تقدم ذكر لفظه. وأما تعليله بالتشريك بين الفرض والنقل فيشكل عليه ما إذا نوى بصلاته الفرض والتحية فإنه يصح. وأما ما قاله في التفريع على القول الثاني فضعيف وقياسه على التبرد ممنوع؛ لأن ذاك تشريك بين عبادة وغيرها وما نحن فيه عبادتان. لا جرم أن الشافعي -رحمه الله- قد نص على أنهما يحصلان له إذا

نواهما. كذا رأيته في "شرح التلخيص" للقفال في باب النية وهو أوائل الكتاب ثم رأيته منصوصًا عليه في "مختصر البويطي" فقال ما نصه: ومن اغتسل بعد طلوع الفجر يوم الجمعة ينويه للجمعة والجنابة والحيض والعيد أجزأه ذلك إن شاء الله تعالى، هذا لفظ الشافعي بحروفه ومنه نقلت ولم يتعرض في "الروضة" لهذا البناء لكنه يتجه وهو إثبات الخلاف. واعلم أن النووي في "الروضة" عبر بقوله حصلا على الصحيح ولم يصرح بمقابله وقد ظهر لك أن مقابله عدم الحصول في كل منهما للتشريك. واعلم أن لمسألة التشريك نظائر منها إذا كبر للإحرام ونوى إعلام القوم فإنه لا يضر كما سبق قريبًا. ومنها: إذا خطب يوم الجمعة على قصد الكسوف والجمعة فإنه لا يصح كما جزم به الرافعي والنووي وغيرهما ولا أعلم فيه خلافًا، ولهذا عبر الشافعي بقوله: خطب للجمعة وتعرض للكسوف، وتبعه الأصحاب على هذا التعبير. ومنها: إذا صام في يوم عاشوراء مثلًا عن قضاء أو نذرٍ أو كفارة وأطلق أو نوى معه الصيام عن عاشوراء، أفتى قاضي القضاة شرف الدين البارزي بالصحة ووقوعه عنهما وهو مردود فإن القياس ألا يصح لواحد منهما. ومنها: إذا كبر المسبوق تكبيرةً واحدةً وقصد التحرم والهوى فإنه لا يصح. ومنها: إذا صلى الفائتة في ليالي رمضان ونوى معها صلاة التراويح، وقد ذكرها ابن الصلاح في "فتاويه" وقال: إن التراويح لا تحصل بل تحصل الفائتة، قال: والأفضل أن يصليها بعد التراويح وما ذكره من

حصول الفائتة ممنوع؛ لأن التشريك مقتضى للإبطال كما سبق. وأما ما ذكره من استحباب تأخير الفائتة إلى ما بعد التراويح فممنوع أيضًا؛ لأن القضاء على الفور إما وجوبًا أو استحبابًا فكيف يؤخرها عن التراويح؟ قوله: فيما لو نوت المستحاضة ونحوها فريضة أو نافلة ثم النظر في كون المستباح فرضًا أو نفلًا أو مطلق الصلاة وفيما يباح لها إذا نوت النفل كما سيأتي في التيمم. انتهى كلامه. هذه المسائل أسقطها من "الروضة". قوله: من "زياداته" ولو نسى اللمعة في وضوئه أو غسله ثم نسى أنه توضأ أو اغتسل فأعاد الوضوء والغسل بنية الحدث أجزأه بلا خلاف. انتهى كلامه. وليس كما قال من نفي الخلاف فقد رأيت في "شرح الفروع" للشيخ أبي على السنجي أن بعض أصحابنا ذهب إلى تخريجه على تفريق النية وفي ظني أنه ذكره في الكلام على الغسل. واللمعة بضم اللام كذا قاله النووي في "الإشارات" التي على "الروضة"، قال الجوهري: واللمعة بالضم قطعة من البيت فكأن ما ذكره النووي مأخوذ من هذا. قوله: الثانية: إذا فرق النية على أعضاء الوضوء فنوى عند غسل الوجه رفع الحدث عنه وعند غسل اليدين رفع الحدث عنهما وهكذا فوجهان: أصحهما عند المعظم أنه يصح؛ لأنه يجوز تفريق أفعاله فجاز تفريق النية عليها. وقيل: إن نوى رفع الحدث عن المغسول ونفي غسل سائر الأعضاء لم يصح وإلا فيصح، والمشهور أنه لا فرق. انتهى ملخصًا.

لم يصرح هنا بما إذا نوى عند كل عضو رفع الحدث وأطلق ولم يخصه بذلك العضو، وقد صرح بها ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" وقال: إنها تتخرج أيضًا على هذا الخلاف وحينئذ فيكون للتفريق ثلاث صور. قوله: من زوائده؛ ولو نوى الطهارة ولم يقل عن الحدث لم يجزئه على الصحيح المنصوص. اعلم أن الشافعي قد نص في "البويطي" على الصحة فقال ما نصه: وإن نوى به الطهارة ولم ينو به صلاة مكتوبة ولا نافلة ولا جنازة ولا قراءة مصحف أجزأه أن يصلي به. انتهى. وقد نقل الأصحاب هذا النص ونقله هو أعني النووي في "شرح المهذب" وفي غيره من كتبه ولم ينقل نصًا يقتضي عدم الصحة ولم ينقله غيره أيضًا من المطلعين على النصوص كصاحب "البحر" وغيره؛ فكأنه في "الروضة" قد انعكس عليه ذلك، وبتقديره فكان يلزم أن يجعل الخلاف قولين. واعلم أن الإجزاء في هذه المسألة قوي لأنه محلى بالألف واللام وهى للعموم عند الشافعي وأصحابنا كما أوضحته في "شرح منهاج الأصول"، وأيضًا فلأنه إذا لم يكن عليه نجاسة تعين الحدث بحسب الواقع وأيضًا فإن رفع الحدث شامل للأصغر والأكبر فتكون الطهارة أيضًا شاملة للحدث والنجس. قوله. فيها: لو نوت مغتسلة عن حيض تمكين زوج من وطء فأوجه الأصح يستبيح [الوطء والصلاة وكل شئ يقف على الغسل. والثاني: لا يستبيح شيئًا. والثالث: يستبيح الوطء] (¬1) وحده. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الفرض الثانى: غسل الوجه

وهذه المسألة التي ذكرها من "زوائده" في غير موضعها قد ذكرها الرافعي في موضعها وهو باب الغسل فإنه قال: أما إذا نوى المغتسل استباحة فعل نظر إن كان مما يتوقف على الغسل كالصلاة والطواف فالحكم ما سبق في الوضوء، ومن هذا القبيل ما إذا نوت الحائض استباحة وطء الزوج [في أصح الوجهين] (¬1)، والثاني أن غسلها بهذه النية لا يصح للصلاة وما في معناها انتهى كلامه. فاستفدنا منه الأوجه الثلاثة لأنه قد ذكر في الوضوء وجهًا أنه لا يصح بنية الاستباحة ثم أحال الغسل عليه فعلم منه ومن الوجهين الذين بعد الأوجه الثلاثة وقد اختصره في "الروضة" هناك بلفظ غير وافٍ كما ستعرفه. وقول الرافعي تمكين الزوج وهو قريب مما ذكره الخوارزمي في "الكافي" فإنه قيد المسألة بما إذا نوت الوطء الحلال وهو يقتضي أن الاغتسال للوطء المحرم غير صحيح وفيه نظر. الفرض الثانى: غسل الوجه قوله: وحكى في الصدغين وجه أنهما من الوجه انتهى. وهذا الذي حكاه وجهًا واقتضى كلامه استغرابه من جهة النقل نص عليه الشافعى، ورواه عنه البويطي والمزني كذا ذكره ابن الصلاح في "النكت" التي له على "المهذب" وصححه. وحكى الماوردي عن أبي العياض البصري وجهًا ثالثًا أن ما استعلى منه عن الأذنين فهو من الرأس وما انحدر عنها فمن الوجه وصححه الروياني. والصُدغ بضم الصاد كذا ضبطه الجوهري ويقال: بالسين أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ويدخل في حد الوجه موضع العمم؛ لأنه في تسطيح الجبهة وهذا إن استوعب الغمم جميع الجبهة، فإن لم يستوعب فوجهان أصحهما: أنه من الوجه أيضا. . . . إلى آخره. واعلم أن كلامهم يدل على أن هذا التردد محله فيما إذا اتصل الغمم بشعر الرأس، فإن انفصل عنه وجب غسله اتفاقًا وهو ظاهر. قوله: وأما موضع التحذيف وهو الذي ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العذار والنزعة ففيه وجهان أظهرهما عند المصنف أنه من الوجه، والذي عليه الأكثرون وهو الذي يوافق نص الشافعي أنه من الرأس. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما رجحه هنا قد رحجه أيضًا في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين وأوفقهما للنص وكذلك في "التذنيب" فقال: إنه الأرجح عند المعظم ثم خالف هذه الكتب كلها في "المحرر" فقال: أظهر الوجهين أنه من الوجه وهو غريب لتعبيره بالأظهر فيه وفي عكسه، والأول هو المفتى به للتصريح بنقله عن الأكثرين وهو الذي صححه النووي في كتبه. الأمر الثاني: أن الخلاف في المسألة قولان، فإن الروياني في "البحر" نقل عن نصه في "الإملاء" أنه من الرأس، ونقل الإمام عن النص أنه من الوجه، وقد نقل النووي في "شرح المهذب" هذين النصين ثم قال: فحصل أنهما قولان لا وجهان خلافًا لما قاله سائر الأصحاب. والنزعة بفتح النون وفتح الزاي أيضًا وحكيت لغة بإسكان الزاي. قاله في "شرح المهذب".

قوله: في قولنا: من كذا إلى كذا وكلمتا "من" و"إلى" إذا دخلتا في مثل هذا الكلام قد يراد بهما دخول ما أوردتا عليه وقد يراد خروجه. نظير الأول: حضر القوم من فلان إلى فلان. ونظير الثاني: من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة كذا ذراعًا انتهى كلامه. واعلم أن هذه المسألة التى أجملها وهي غاية الابتداء والانتهاء في دخولهما خلاف عند النحاة والأصوليين والفقهاء، وقد بسط الأصوليون كلامهم فيها كما حررته في "شرح منهاج الأصول". فأما غاية الابتداء فقد اختلفوا فيها على مذهبين، وأما غاية الانتهاء ففيها مذاهب. أحدها: أن ما بعد الحرف مخالف في الحكم لما قبله أي ليس داخلًا فيه بل محكوم عليه بنقيض حكمه، لأن ذلك الحكم لو كان ثابتًا فيه أيضًا لم يكن الحكم فقهيًا منتهيًا، فلا تكون الغاية غاية وهو محال، وهذا مذهب الشافعي والجمهور كما قاله في البرهان. والثاني: أنه داخل فيما قبله. والثالث: إن كان من الجنس دخل وإلا فلا، نحو: بعتك الرمان إلى هذه الشجرة فينظر هل هي من الرمان أم لا؟ والرابع: إن لم يكن معه "من" دخل كما مثلناه فإن كان معه فلا نحو: بعتك من كذا إلى كذا. والخامس: إن كان منفصلًا عما قبله بفصل معلوم بالحس كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} [البقرة: 187]، فإنه لا يدخل وإلا فيدخل

كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فإن المرفق ليس منفصلًا عن اليد بفصل معلوم غير مشتبه بما قبله وما بعده كفصل الليل من النهار بل بجزء مشتبه فلما كان كذلك لم يكن تعيين بعض الأجزاء بأولى من الآخر فوجب الحكم بالدخول وفي المحصول والمنتخب أن هذا التفصيل هو الأولى ومذهب سيبويه أنه إن اقترن "بمن" فلا يدخل، وإلا فيحتمل الأمرين، وقد نقله عنه في "البرهان" واختار الآمدي أن التقييد بالغاية لا يدل على شئ ولم يصحح ابن الحاجب شيئًا، وفائدة الخلاف ما إذا قال له: على من درهم إلى عشرة، أو قال: بعتك من هذا الجدار [إلى هذا الجدار] (¬1) والمفتي عليه عندنا أنه لا يدخل الجدران في البيع ولا الدرهم العاشر في الإقرار، وفي الفرق نظر. قوله: ويجب غسل باطن الحاجبين والعزارين والأهداب ونحوها وإن كثفت لأن كثافتها نادرة والنادر ملحق بالغالب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الإيجاب مشكل؛ لأنها وإن كانت نادرة لكنها إذا وقعت تدوم، وقاعدتنا أن النادر الدائم كالغالب وهذا البحث لا يأتي في لحية المرأة لأنه يستحب حلقها. الأمر الثاني: أن النووي في "تصحيح التنبيه" قد نفي الخلاف في وجوب غسل الباطن في الخدين والأهداب ولحية المرأة والخنثى، وليس كذلك فإن فيها وجهين مذكورين في "الروضة" وغيرها. قوله: الثاني: لو كان بعضه خفيفًا وبعضه كثيفًا ففيه وجهان أصحهما أن للخفيف حكم الخفيف وللكثيف [حكم الكثيف] (¬2) توفيرًا لمقتضى كل واحد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

منهما. والثاني: للكل حكم الخفيف وهو الذي ذكره في "التهذيب" وعلله بأن كثافة البعض مع خفة البعض نادرة فصار كشعر الذراع إذا كثف، ولك أن تمنع ما ذكره وتدعي أن الكثافة في البعض والخفة في البعض أغلب من كثافة الكل انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الخلاف إنما يأتي عند تمييز الخفيف من الكثيف فأما إذا لم يتميز فلا يأتي بالضرورة لكن ماذا يكون حكمه؟ لم يبينه، وقد بينه الماوردي فقال: حكمه حكم الخفيف بلا خلاف. الثاني: أن ما نقله الرافعي هنا عن "التهذيب" غلط، والمذكور فيه إنما هو العكس فإنه قال ما نصه: كان كان بعض لحيته خفيفًا والبعض كثيفًا يجب إيصال الماء إلى باطن الخفيف دون الكثيف، وإذا نبتت للمرأة لحية كثيفة يجب إيصال الماء إلى باطنها لأنه نادر كما إذا كثف شعر الذراع يجب إيصال الماء إلى ما تحته في غسل اليد، هذا لفظ "التهذيب" بحروفه ومنه نقلته. وسبب غلط الرافعي -والله أعلم- أن البغوي عبر بقوله: يجب إيصال الماء مرتين فانتقل نظر الرافعي وقت الكتابة من الأولى إلى الثانية، أو أنتقل نظر الناسخ فسقط من النسخة التي وقف عليها. وكلام الرافعي هنا مما يعرف به جلالة قدره فإن فهمه لم يقبل هذا الكلام الغلط بل بحث فيه ورده. واعلم أن الوجه ثابت كان ثبت غلط النقل عن "التهذيب"، فقد جزم القاضي الحسين بذلك في القطعة التي شرحها من "التلخيص" وعلله بكونه نادرًا.

الفرض الثالث غسل اليدين

قوله: القسم الثاني: الشعر الخارج عن حد الوجه من اللحية طولًا وعرضًا لا يجب غسل باطنه قولًا واحدًا بل ظاهره في أصح القولين؛ لأنه تابع للوجه وتحصل به المواجهة. انتهى. وما ذكره في نفي الخلاف عن الباطن محله في الشعر الكثيف، أما الخفيف فالقولان جاريان في ظاهره وباطنه، كذا صرح [به جماعة وقال النووي] (¬1) في "شرح المهذب": إنه الصواب، وإن كلام من أطلق محمول عليه. قوله من "زوائده": قال أصحابنا: يجب غسل جزء من رأسه ورقبته وما تحت ذقنه مع الوجه ليتحقق استيعابه، ولو قطع أنفه أو شفته لزمه غسل ما ظهر بالقطع [في الوضوء] (¬2) والغسل على الأصح. انتهى. وهاتان المسألتان في الرافعي مجزوم بهما، وحكى الدارمي وجهين متعلقين بالمسألة الأولى فقال وهل ويجب في نفسه أو لغيره على وجهين. الفرض الثالث: غسل اليدين قوله: قال الله تعالى: {وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬3) وكلمة "إلى" قد تستعمل بمعنى "مع" كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬4) وقوله: {منْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬5) وهو المراد هنا لما روى "أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" (¬6) وروى أنه أدار الماء على مرفقيه ثم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سورة المائدة (6). (¬4) سورة النساء (2). (¬5) سورة آل عمران (52) والصف (14). (¬6) أخرجه الدارقطنى (1/ 83) والبيهقى فى "الكبرى" (259) وابن الجوزى فى "التحقيق" (130) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. قال الدارقطنى: ابن عقيل ليس بالقوى. =

قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" انتهى كلامه. واعلم أن الناس قد اختلفوا في أن اليد تطلق حقيقة على ماذا؟ فقال بعضهم: إلى الكوع واختاره القاضي أبو الطيب، وقيل: إلى المنكب وهو رأى الجمهور كما أو صحته في "شرح منهاج الأصول". إذا علمت ذلك فما ذكره الرافعي تبعًا لغيره من حمل "إلى" هنا على معنى "مع" فاسد من جهة المعنى على القولين معًا. أما على القول الأول فلأن الآية تفسير دالة على وجوب الغسل إلى الكوع ووجوب المرفق دون ما بينهما وهو الساعد ولا قائل به. وأما على القول الثاني فلأنه يصير التقدير واغتسلوا إلى المنكبين مع المرفق ولا قائل به أيضًا مع ما فيه من ذكر ما لا فائدة له وهو المرفق. فالصواب أن "إلى" باقية على حقيقتها اللغوية وهي الغاية وجعلها المحققون غاية الترك -أي واتركوا منها- إلى المرفق؛ لأن ما قبل الغاية لابد أن يكون متكررًا، وغسل اليد يتكرر قبل المرفق فلا يصح أن يكون هو المعني بخلاف الترك، والغاية لا تدخل في المعنى على المشهور فلا يدخل المرفق في الترك وحينئذ فيجب غسله وهو المدعى. والحديث الأول رواه البيهقي بإسناد ضعيف. والحديث الثاني هو معنى الأول. قوله: الثالث: أن يكون القطع من مفصل المرفق فهل يجب غسل العظم، ¬

_ = وقال ابن الجوزى: هذا الحديث ضعيف، قال أحمد: القاسم بن محمد ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك الحديث. والشيخ الألبانى صحح الحديث بشواهده، وهو كما قال.

فيه طريقان: أحدهما: القطع بالوجوب، والثاني: قولان أصحهما الوجوب. واختلفوا في مأخذ القولين، منهم من قال: مأخذهما أن المرفق في اليد السليمة يغسل تبعًا أم مقصودًا، فمن قائل: تبعًا وضرورة لاستيعاب غسل اليد إلى المرفق، ومن قائل: يغسل مقصودًا كسائر أجزاء محل الفرض. ومنهم من قال: بل مأخذهما الخلاف في حقيقة المرفق، فمن قائل: المرفق عبارة عن طرف الساعد ولم يبق، ومن قائل: المرفق مجموع العظمتين وقد بقى أحدهما. انتهى. فيه أمران: الأمر الأول: أن القائل بأن المرفق عبارة عن طرف عظم الساعد يقتضي قوله ألا يوجب غيره ولكن إنما أوجب غسل رأس العضد تبعًا وضرورة، والقائل بأنه عبارة عن المجموع يقول بأنه مقصود بالإيجاب وحينئذ فليس ذلك خلافًا كما زعمه الرافعي، وإنما هو اختلاف في التعبير اعتقد أنه خلاف محقق، وقد أشكل على ابن الرفعة ذلك فقال: ولم يظهر لي فرق بين الطريقين فأدرك -رحمه الله- عدم انتظامه دون السبب في وقوعه. الأمر الثاني: أن الأصح من الطريقين هى طريقة القولين كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وجزم بها في "المحرر" وتبعه عليه النووي في "المنهاج" وصحح في "الروضة" طريقة القطع بالوجوب ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له، فإن مخالف لما في أصله مناقض لما ذكره في غيره. قوله: لأن للمعترض أن يقول: الإطالة في الوجه أن يغسل إلى اللبب

الفرض الرابع: مسح الرأس

وصفحة العنق. انتهى. قال الجوهري: اللبب بكسر اللام صفحة العنق وهما لبتان هذا كلام الجوهري، ولفظ الرافعي موهم. الفرض الرابع: مسح الرأس قوله: لأن من أمر يده على هامة اليتيم صح أن يقال: مسح رأسه؛ ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح في وضوئه بناصيته وعمامته ولم يستوعب. انتهى. هامة هي الرأس وجمعها هام أي بلا هاء والحديث المذكور في مسلم من رواية المغيرة بن شعبة. قوله: وشرط الشعر المسموح ألا يخرج عن حد الرأس فلو كان مسترسلًا خارجًا عن حده أو جعدًا كائنًا في حد الرأس لكنه بحيث لو مد لخرج عن حده لم يجز المسح عليه؛ لأن الماسح عليه غير ماسح على الرأس. واعلم أن كل شعر مد في جهة النبات يكون خارجًا عن حد الرأس وإن كان في غاية القصر، وكأن المراد المد في جهة الرقبة والمنكبين وهي جهة النزول. انتهى كلامه. وهذا التأويل والحمل الذي ذكره الرافعي قد أسقطه النووي من "الروضة" وإسقاطه له عجيب، فإن فهم المسألة متوقف عليه، وقد عبر في "الروضة" عن المسترسل بالسبط، وهو خلاف عادته في قصد الإيضاح، والسبط بفتح الباء وكسرها يقال: سبط شعره بالكسر سبط سبطًا بالفتح فيهما والجعد بإسكان العين هو المنقبض وفعله جعد بالضم. قوله: وهل يشترط ألا يجاوز منبته؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط ذلك فلا يجوز المسح على ما جاوز منبته وإن كان في

حد الرأس فإنه كالغطاء لما تحته كالعمامة. وأصحهما أنه لا يشترط لوقوع اسم الرأس عليه. انتهى كلامه. هذان الوجهان لم يتحر محلهما فإن المجاوزة إن أريد بها الارتفاع عن المنبت وهو البشرة حتى لا يجزئ ذلك على وجه، فالقول به عسر جدا بعيد ولا أظن أحدًا يقول به، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شعر طويل وكان يمسح عليه. وإن أريد بها انتتاف الشعر من أصله بدليل تشبيهه بالعمامة فحكاية الخلاف في إجزائه بعيدة فضلا عن تصحيحه. ولما ذكر في "شرح المهذب" هذه المسألة قال: إن ظاهر نصه في "الأم" أنه لا يجزئ، فإنه قال: لو مسح شيئًا من الشعر على منابت الرأس قد أزيل عن منبته لم يجزئه، لأنه شعر على غير منبته فهو كالعمامة هذا نصه. وتأوله الشيخ أبو حامد والمحاملي على ما إذا كان الشعر مسترسلًا خارجًا عن محل الفرض فعقصه في وسط رأسه وهو تأويل ظاهر، هذا كلامه في "شرح المهذب". وإذا تأملت هذا النص وتشبيهه بالعمامة وجدته منطبقًا على ما ذكره الرافعي تصويرًا وتعليلًا، والظاهر المتبادر إلى الفهم أن المراد به الشعر المنتق كما أشرنا إليه لا التأويل الذي ذكره أبو حامد ومن تبعه. وإذا علمت ذلك فنرجع إلى كلام الرافعي فنقول: قول من قال فيه: إنه لا يجزئ مراده حالة الانتتاف وهو الذي قلنا: أنه مراد الشافعي، وقول من قال: يجزئ إنما تكلم في الشعر المجاور للمنبت، وحينئذ فلا خلاف بينهما إذ لم يتطابقا على تصوير واحد كما فهمه الرافعي. وقد حكى أيضًا في

الفرض الخامس: غسل الرجلين

"شرح المهذب" وجهين فيما إذا كان في حد الرأس، ولكنه لو مد لخرج عن حدها. وحمل الخلاف على هذه الصورة صحيح أيضًا إلا أن الرافعي لم يردها فإنه قد ذكرها وجزم فيها بالمنع ثم ذكر هذه المسألة التي حكى فيها وجهين وصحح الإجزاء. قوله في "زياداته": ولا تتعين اليد للمسح بل يجوز بأصبع أو خشبة أو خرقة أو غيرها. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي قبل هذا الموضع بأسطر فقال: ولو بل رأسه ولم يمر اليد ولا غيرها مما يمسح به فهل يجزئه؟ هذه عبارته. قوله: أيضًا في "الزوائد": ولو كان له رأسان أجزأه مسح أحدهما، وقيل: يجب مسح جزء من كل رأس. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الثاني وجه ثابت وليس كذلك بل هو احتمال للدارمي كذا ذكره في "شرح المهذب". الفرض الخامس: غسل الرجلين قوله: ولو اجتمع عليه حدث أصغر وأكبر وقعا معًا أو سبق الأصغر ففيه وجوه أصحهما ويجزئه الغسل ثم قال: أما إذا سبق الأكبر الأصغر فطريقان أحدهما طرد الخلاف، والثاني: الاكتفاء بالغسل بلا خلاف انتهى. والأصح طريقة الخلاف، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي فاعلمه.

الفرض السادس: الترتيب

الفرض السادس: الترتيب قوله: لاسيما أن الغسل هو الأصل في حق المحدث وإنما حط عنه تخفيفًا. انتهى. هذا التعليل قد أسقطه من "الروضة" وحاصله أن الحدث الأصغر يعم جميع البدن والمرجح اختصاصه بأعضاء الوضوء ففي "التحقيق" أنه أصح الوجهين، وفي آخر صفة الوضوء من "شرح المهذب": إنه أرجحهما، قال: وفائدة الخلاف فيما إذا اغتسل. قوله: في "الروضة": من اجتمع عليه حدثان أكبر وأصغر فيه أوجه. الصحيح يكفيه غسل البدن بنية الغسل وحده ولا ترتيب عليه. والثاني: تجب نية الحدثين إن اقتصر على الغسل. والثالث: يجب وضوء مرتب وغسل البدن. والرابع: يجب وضوء مرتب وغسل باقي البدن. انتهى. وهذا التعبير الذي وقع في حكاية: الرابع فاسد فإنه يجب غسل هذه الأعضاء عن الجنابة، ولا يكفى غسلها عن الوضوء ولو كان الواجب هو الوضوء لكان يكفي غسلها بنية. والرافعي عبر بقوله: يشترط أن تكون أعضاء الوضوء مغسولة على الترتيب لأن الترتيب، من خواص الوضوء والتداخل إنما يأتي فيما يشترك فيه الشيئان، والتعبير المذكور صحيح فإنه لم يوجب وضوءًا مرتبًا بل غسلًا على ترتيب الوضوء. قوله: فيها أيضًا: أما إذا غسل المحدث جميع بدنه فإن مكث زمنًا يأتي فيه الترتيب أجزأه على الصحيح، وإن لم يمكث أو غسل أسافله قبل أعاليه لم يجزئه على الأصح. [قلت] (¬1): الأصح عند المحققين الإجزاء انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

واعلم أن الرافعي قد ذكر في الصورة الأولى طريقة قاطعة أنه يجزئه ولم يذكرها في "الروضة". قوله في المسألة: هذا كله إذا نوى رفع الحدث، فإن نوى الجنابة: فوجهان أحدهما: لا يجزئه لأنه نوى طهارة غير مرتبة، وأصحهما الجواز، والنية لا تتعلق بخصوص الترتيب نفيًا وإثباتًا. انتهى. وما ذكره من الصحة قد تابعه في "الروضة" على إطلاقه وهو مشكل بل ينبغي عدم الصحة عند التعمد، كما إذا نوى رفع حدث ليس عليه بل أولى. وقد رأيت في "شرح فروع ابن الحداد" للقاضي الحسين وفي "التهذيب" للبغوي تصوير المسألة بذلك فتعين ما ذكرته. قوله: والوضوء الذي جوز صاحبه أن يكون حدثه أكبر كما إذا خرج منه بلل واحتمل أن يكون منيًا وأن يكون مذيًا ففيما يلزمه ثلاثة أوجه. أصحها أنه يتخير بين أن يغتسل أخذًا بأنه مني وبين أن يتوضأ ويغسل الثوب أخذًا بأنه مذي؛ لأنه إذا أتى بموجب أحدهما بقى الآخر مشكوكًا فيه انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد تابعه في "الروضة" وفي أكثر كتبه على تصحيح التخيير ثم خالف في "شرح التنبيه" المسمى "بالتحفة" وفي "رؤوس المسائل" فقال: أظهرهما أنه يجب عليه العمل بموجبهما لكن الفتوى على التخيير، فإن الأكثرين كما قاله في "شرح المهذب" ذهبوا إليه. الثاني: ذكر الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى" أن الورع لا يحصل بالاغتسال وقد تقدم بسطه في الركن الأول.

وللمسألة نظائر: منها: إذا شكت المرأة هل عليها عدة طلاق أو وفاة أو كان عليه زكاة ولم يدر أنها بقرة أو شاة أو دراهم فيلزمه الجميع، كما لو كان عليه صلاة ولم يعرف عينها فإنه يلزمه الخمس، كذا نقله الشيخ عز الدين في "القواعد" أيضًا عقب الموضع الذي تقدم نقله عنه الآن، ثم استشكله الشيخ بأن الصلوات تيقنا شغل ذمته بها وشككنا في السقط بخلاف هذا. والإشكال الذي ذكره الشيخ صحيح ثم إنا نحتاج إلى الفرق بينه وبين مسألتنا، ولعل الفرق أن موجب الأكبر والأصغر من جنس واحد وهو الغسل فأمكن الاكتفاء بالأقل عند الاشتباه بخلاف مسألة الزكاة. وهذا الفرق قد ذكروا مثله في اللقيط، فإن الشافعي قد نص على قولين فيما إذا قذفه قاذف ونازعه في الحرية ونص في منازعة الجاني على أن القول قول اللقيط ولهذا قال في "التنبيه" في الجنايات: فيحلف ويقتص منه، وقيل: فيه قولان كالقذف وفرق الرافعي وابن الرفعة وغيرهما بما قلناه. ومن النظائر أيضًا: مسألة الإناء المعروفة وهي: إذا كان عنده إناء من ذهب وفضة زنته ألف، ستمائة من نوع وأربعمائة من نوع، ولم يدر أيهما الأكثر وعسر عليه التمييز بالنار والامتحان بالماء، فيجب عليه إخراج زكاة ستمائة ذهبًا وستمائة فضة، وكذلك لو تعذر عليه إحضار آلات السبك يجب عليه المجموع أيضًا؛ لأن الزكاة على الفور صرح به الرافعي نقلًا عن الإمام. والفرق بين هذه وبين مسألة الشك في الخارج أنه في الزكاة تيقن شغل ذمته بذهب وفضة فوجب عليه أن يبرئها بيقين ولا تتيقن البراءة إلا بما قلناه بخلاف الشك في الخارج، فإن الواجب أحدهما خاصة. قوله: ويجري هذا الخلاف يعني الأوجه الثلاثة المذكورة في المسألة المتقدمة فيما إذا أولج خنثى مشكل في دبر رجل منهما بتقدير ذكورة الخنثى

جنبان وإلا محدثان. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" وفيه أمران. أحدهما: أن الرجل المولج فيه محدث على كل حالٍ بالإخراج من دبره فينبغي أن يقال: إنه جنب ومحدث وإلا فمحدث. فإن قيل: على تقدير ذكورة الخنثى فقد وجب على الرجل المولج فيه أكبر الأمرين فلا يجب أصغرهما. قلنا: الأكبر يجب بالإيلاج والأصغر إنما يجب بالنزع. والثاني: أن الأصح من تلك الأوجه هو التخيير بين الوضوء والغسل وحينئذ فيكون الأصح هو التخيير هنا أيضًا لكنه أعاد المسألة في أوائل الغسل وجزم بالوجه الثاني وهو وجوب الوضوء، واقتصر الرافعي في "الشرح الصغير" على المذكور في هذا الباب وهو القياس وجعلها قاعدة عامة فقال: ويجري هذا الخلاف في كل وضوء جوز صاحبه أن يكون حدثه أكبر ومثل بهذه المسألة. قال -رحمه الله-: القول في سنن الوضوء قوله: يسن الاستياك مطلقًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (¬1) ولا يكره إلا بعد الزوال للصائم خلافًا لأبي حنيفة ومالك وأحمد. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 182) ووصله النسائي (5)، وأحمد (24249)، والدارمي (684)، وابن خزيمة (135) وابن حبان (1067)، والشافعي (41)، والطبراني في "الأوسط" (276)، وأبو يعلى (4598)، وابن أبي شيبة (1/ 156)، والبيهقي في "الشعب" (2118)، وفي "الكبرى" (134)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 94)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (1116) والحميدي (162) من طرق عن عائشة -رضي الله عنها-، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-.

فيه أمران أحدهما: أن النووي -رحمه الله- قد وافق في "الروضة" وفي أكثر كتبه على الكراهة المذكورة في حق الصائم، ورجح في "شرح المهذب" خلافه فإنه حكى قولًا آخر أنه لا يكره ثم قال: وهو المختار. وفي كتاب الصيام عن القاضي حسين أنه يكره في الفرض ولا يكره في النفل خوفًا من الرياء بتقدير الترك. الأمر الثاني: أن تعبيره بالصائم يقتضي أن الكراهة تزول بغروب الشمس والمسألة فيها وجهان: أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: أنها تبقى إلى الفطر. كذا حكاهما في "شرح المهذب" وقال: إن الأصح هو الأول، ونقل الثاني عن الشيخ أبي حامد، ثم ذكر أيضًا في كتاب الصيام من الشرح المذكور فرعًا يقتضي موافقة الشيخ أبي حامد، فإنه قال: ذكر صاحب "البيان" أنه يكره للصائم إذا أراد أن يشرب أن يتمضمض ويمجه وكأن هذا سببه بكراهة السواك للصائم بعد الزوال لكونه مزيلًا للخلوف هذا كلامه. ونقل في "شرح التنبيه" المسمى "بالتحفة" كلام الشيخ أبي حامد ولم يذكر غيره. فإن قيل: ينبغي رجحان هذا لأن الخلوف من أثر الصوم فلا يزال، وإن كان بعد الوقت فالجواب أن إطلاق الصائم عليه بعد الغروب إنما هو على سبيل المجاز؛ لأنَّه اسم فاعل قد انقضى فلا يدخل في قوله -عليه السلام-: "لخلوف فم الصائم" (¬1) فإن الخلوف إذ ذاك ليس من فم الصائم حقيقة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1795)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والحديث الذي ذكره الرافعي صحيح رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والنسائي والبيهقي في سننهما بأسانيد صحيحة وذكره البخاري في "صحيحه" في كتاب الصيام تعليقًا فقال: وقالت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" وتعليقات البخاري إذا كانت بصيغة جزم كالمذكور هنا صحيحة. والمطهرة في الحديث بفتح الميم وكسرها كل إناء يتطهر به فشبه السواك به لأنه يطهر الفم. قاله في "شرح المهذب". قوله: لنا أنه يزيل أثر العبادة وهو خلوف الفم وأنه مشهود له بالطيب قال -عليه الصلاة والسلام-: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (¬1) وإذا كان كذلك فيكره إزالته كدم الشهيد انتهى كلامه. فيه أمران. أحدهما: أن مقتضاه أن دم الشهيد يكره إزالته وليس كذلك بل هو حرام، وبتقدير أن يكون المراد وهو الحرمة على خلاف ما تقتضيه العبارة فيقال له: كيف يصح قياس المكروه على الحرام؛ لأن هذا القياس إن لم يكن صحيحًا فلا كلام، فإن كان لزم استواء المقيس والمقيس عليه في الحكم. الثاني: أن الرافعي قد أشار بطيب دم الشهيد إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنهم يأتون يوم القيامة وأوداجهم تشجب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك" وحينئذ فلك أن تقول: ما الحكمة في تحريم إزالة هذا مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك وعدم تحريم إزالة الخلوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟ والخلوف بضم الخاء هو المتغير، والحديث الذي ذكره الرافعي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة وقد وقع خلاف بين الشيخ ¬

_ (¬1) تقدم تقريبًا.

تقي الدين ابن الصلاح والشيخ عز الدين بن عبد السلام في أن رائحة المسك للخلوف هل هي في الآخرة فقط أم في الدنيا والآخرة؟ وصنف كل منهما في ذلك تصنيفًا، ولخص النووي في "شرح المهذب" كلامهما. فالذي قاله الشيخ عز الدين إنهما في الآخرة لأنَّه قد ثبت في مسلم "لخلوف فم الصائم عند الله يوم القيامة" (¬1) وقال ابن الصلاح فيهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لخلوف فم الصائم حين يخلف" (¬2) بفتح الياء وضم اللام روى هذه الزيادة ابن حبان في صحيحه قال: ولما روى الإمام الحافظ أبو بكر السمعاني من حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال "أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال" ثم قال: "وثانيها أنهم يمسون وخلوف أفواههم عند الله أطيب من ريح المسك" (¬3) قال: وهو حديث حسن. ولأن المراد بكونه عند الله أطيب من ريح المسك إنما هو الثناء عليه والرضا به وهو لا يختلف، هكذا فسره خلائق لا يحصون من الشافعية والمالكية والحنفية منهم الخطابي والبغوي وأبو عثمان الصابون وأبو بكر السمعاني وأبو حفص ابن الصغار الشافعيون، وأما رواية يوم القيامة فلأنها محل الجزاء كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] انتهى تلخيص ما قاله ابن الصلاح. قوله: وإنما خص بعد الزوال لأن تغير الفم بسبب الصوم حينئذ يظهر. انتهى كلامه. وهذا المعنى الذي ذكره يلزم منه التفرقة بين من تسحر ومن لم يتحر وبين من تناول بالليل شيئًا وبين غيره، ولهذا قال الطبري في "شرح التنبيه" أو تغير ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1151). (¬2) عند ابن حبان (3424). (¬3) أخرجه البيهقي في "الشعب" (3603) من حديث جابر، وضعفه الألباني -رحمه الله تعالى-.

فمه بعد الزوال بسبب آخر كنوم أو وصول شيء كريه الريح إلى فمه فاستاك لذلك لم يكره. قوله: ويتأكد في مواضع عند الوضوء والصلاة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -["لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬1) ومنها تغير النكهة وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] (¬2)، إذا استيقظ استاك وروى: "يشوص فاه بالسواك" (¬3)، ومنها قراءة القرآن واصفرار الأسنان وإن لم يحصل في الفم تغير. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" قد زاد على هذه الأمور دخول المنزل والاستيقاظ من النوم للحديث الصحيح لكن الاستيقاظ قد ذكره الرافعي عند أسباب التغير كما نقلناه عنه واستدلاله بالحديث يشعر بأن النظر إلى المظنة لا إلى وقوع التغير حقيقة فاعلمه، وزاد في "الرونق" إرادة النوم. الأمر الثاني: أن لفظ الصلاة لا يتناول سجدة التلاوة والشكر كما صرح به الرافعي في الأوقات المنهي عنها وفي غيره ومع ذلك فحكمهما حكم الصلاة في الشرائط والمستحبات، وحينئذ فيكون المتجه استحباب السواك لهما وكذلك للطواف أيضًا. الأمر الثالث: أن مقتضى كلامه وقد صرح به في "شرح المهذب" أيضًا أنه لا فرق بين أن يصلي بالوضوء أو بالتيمم أو بلا طهارة بالكلية كفاقد الطهورين ولا بين أن يصلي الفرض أو النفل حتى لو أراد أن يصلي صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (847)، ومسلم (252) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من جـ. (¬3) أخرجه البخاري (242)، ومسلم (255) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. يشوص: يمره على أسنانه ويدلكها به.

ذات تسليمات كالضحى والتراويح والتهجد استحب أن يستاك لكل ركعتين وإطلاقه أيضًا يقتضي أن صلاة الجنازة كغيرها وهو ظاهر. والحديثان المذكوران رواهما الشيخان. والفكهة ريح الفم، ويشوص بالشين المعجمة والصاد المهملة معناه يغسل وينظف قاله الجوهري. قوله: والأحب أن يكون يابسًا لين بالماء دون ما لم يلين. انتهى. ذكر في "الروضة" أيضا مثله وتقييده بالماء يشعر بأن هذا الاستحباب لا يحصل بالتليين بالريق وفيه نظر والمتجه حصوله وكذا غمه في ماء الورد ونحوه لاسيما عند عدم الماء ورأيت في شرح الكفاية للصيمري أنه يكره] (¬1) غمسه في وضوئه وأنه يستحب غسله للاستياك به ثانيًا. قوله: نعم لو كان جزءًا منه كأصبعه الخشنة ففيه ثلاثة أوجه أظهرها لا يجزئ لأنه لا يسمى استياكًا، ثم قال: والثاني يجزئ والثالث: إن فقد غيرها أجزأ وإلا فلا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن التقييد يجزئه والتمثيل بأصبعه يؤخذ منه أن صورة المسألة في الأصبع المتصلة، فإن انفصلت وقلنا بطهارتها اتجه الإجزاء وإن كان دفنها واجبًا على الفور. وإن قلنا بنجاستها ففي الإجزاء نظر يجري في كل آلة النجسة فلا يبعد القول بالإجزاء ووجوب غسل الفم لأجل النجاسة وإن عصى باستعمالها. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الثاني: أن التقييد بذلك للاحتراز أيضًا عن أصبع غيره فإنها تجزئ قطعًا كما قاله النووي في "شرح المهذب" و"دقائق المنهاج". والثالث: أن النووي في "الروضة" قد اختصر كلام الرافعي اختصارًا فاسدًا، فإنه حذف التقييد المذكور فقال: ولا يحصل بأصبع خشنة في أصح الأوجه وذكر مثله في "التحقيق" "والفتاوى" أيضًا. فاعلم ذلك. الرابع: أنه قد وافق في هذه الكتب على تصحيح عدم الإجزاء وخالف في "شرح المهذب" فقال المختار إجزاؤه مطلقًا، قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في "اللباب" والبغوي واختاره في "البحر" انتهى. ورأيته مقطوعًا به أيضا في "الرونق" لأبي حامد. واعلم أن لهذه المسألة نظائر. منها: إذا استنجى باليد وفيه وجوه أصحها: أنه لا يجوز ولا يجزئ، وثانيها: نعم، وثالثها: يجوز في يد نفسه دون غيره، ورابعها: عكسه. ومنها: ستر العورة باليد فإن كان بيد غيره جاز قطعًا وكذا بيد نفسه على الصحيح، ومنها: السجود على اليد وهو جائز على يد غيره قطعًا ويمتنع على يده قطعا. ومنها: ستر الرأس باليد في الإحرام وهو جائز مطلقًا. قوله: وفي "النهاية" "والوسيط": يستحب السواك طولًا وعرضًا فإن اقتصر على إحدى الجهتين فالعرض أولى؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "استاكوا عرضًا" (¬1) وقال آخرون يستاك عرضًا لا طولًا. ورووا في الخبر "استاكوا عرضًا لا طولًا". ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (174) من حديث عطاء بن أبي رباح مرسلًا.

فعلى الأول لا يتعين العرض في إقامة هذه السنة وإنما هو أولى. وعلى الثاني هو متعين. انتهى. قلت: إن النووي في "الروضة" قد اختصر هذا الكلام كله بقوله: ويستحب أن يستاك عرضًا هذا لفظه من غير زيادة عليه فحذف أمرين: أحدهما: المقالة الأولى وهي مقالة الإمام والغزالي. والثاني: أن الاستياك بالعرض هل هو متعين لإقامة السنة أم لا؟ وهي مسألة مهمة. والحديث الأول رواه أبو داود في مراسيله ولفظه: "إذا استكتم فاستاكوا عرضًا". قوله: ولو نسى التسمية في الابتداء أتى بها في الأثناء ثم قال: فإن تركها عمدًا فهل يشرع التدارك؟ فيه احتمال. انتهى. ذكر الرافعي في الضحايا ما يقتضي أنه يأتي بها سواء تركها عمدًا أو نسيانًا، وصرح به في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" فقال: قد صرح أصحابنا بالتدارك في حالة التعمد أيضًا، قال: وممن صرح به المحاملي في "المجموع" والجرجان في "التحرير" انتهى. لكن كلام "المحرر" يدل على أنه لا يأتي بها فإن قيد الإتيان بها بالترك نسيانًا فقال: فإنه نسى في الابتداء سمى إذا تذكر في الأثناء وذكر نحوه في "الحاوي الصغير" ولفظ الشافعي في "الأم" يوافقه فإنه قال: فإن سهى عنها سمى متى ذكر إن ذكر قبل أن يكمل الوضوء هذه عبارته، وذكره كذلك أيضًا جماعات منهم الماوردي والبغوي وصاحب "البيان". قوله: من زوائده قال أصحابنا: وتستحب التسمية في ابتداء كل أمر ذي

بال من العبادات وغيرها. انتهى. وهذه الزيادة قد ذكرها الرافعي قبل هذا بألفاظ قلائل وعبر بلفظ، البال كما عبر به النووي مراعاة للحديث فحذفه من "الروضة" ذهولًا ثم استدركه. قوله: ومن سننه غسل اليدين إلى الكوعين قبل غسل الوجه كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذلك في وضوئه. انتهى. والحكم الذي ذكره صحيح والحديث ثابت في الصحيحين لكن تعبيره بقوله قبل غسل الوجه تعبير عجيب تبعه عليه في "الروضة"، والظاهر أنه إنما إذا أراد التعبير بقوله قبل المضمضة فإنه لم يتعرض لبيان وقته في غير هذا الموضع والمنقول فيه وهو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة ما ذكرناه فلنذكره مع وقت باقي السنن المتقدمة على غسل الوجه فإن الرافعي لم يستوف ذلك وهو أمر مهم. فنقول: قال الشافعي في "المختصر" وإذا قام الرجل إلى الصلاة من نومٍ أو كان غير متوضئ فأحب أن يسمى الله ثم يفرغ من إنائه على يديه ويغسلهما ثلاثًا ثم يتمضمض إلى آخره، هذا لفظ الشافعي وعليه جرى أئمة المذهب عند شرحهم له المتقدمون منهم والمتأخرون وعبارة الشيخ أبي حامد في "التعليق" فأما الهيئة فالتسمية أولا ثم غسل الكفين ثم المضمضة وذكر جماعة مع ذلك وقت السواك فقالوا: يبتدئ به قبل هذه الأشياء ومن هؤلاء القفال الكبير الشاشي في كتاب "محاسن الشريعة" والماوردي في "الإقناع" والغزالي في ["الوسيط"] (¬1) فإنهم قالوا: السواك ثم التسمية ثم غسل الكفين ثم المضمضة، وذكر في "البيان" نحوه، وقد صرح الرافعي بحكم ¬

_ (¬1) في جـ: البسيط.

المضمضة مع الاستنشاق، وصحح أن الترتيب بينهما مستحق كما سيأتى، وأما غسل اليد فلم يصرح بحكمه في الشرح بل عبارته موهمه فإنه قال: ومن سننه غسل اليد قبل غسل الوجه هذا لفظه وتبعه عليه في "الروضة" وذكر في "المحرر" ما يدل على تقديمه على المضمضة. ولكن أهمله في "المنهاج" فقال: ومنها غسل اليدين إلى الكوعين في أول الوضوء هذه عبارة "المحرر". وقد سبق من النص وكلام الأصحاب قريبًا ويأتيك أيضًا من الأحاديث الصحيحة ما يوافقه، وهل ذلك على سبيل الاستحقاق أو الاستحباب؟ فيه وجهان أصحهما في "الروضة": أنه على سبيل الاشتراط كذا حكاه في "شرح المهذب" وحاوله في "الروضة" فانعكس عليه كما ستعرفه. وأما التسمية: فليس في كلام الرافعي والنووي تصريح بتقديمها على غسل اليدين ولا مقارنتها، وقد سبق من نص الشافعي المذكور وغيره أنها متقدمة ولكن المتجة أن ذلك ليس على سبيل الاشتراط بل لو قيل باستحباب المقارنة لم يبعد وهو ما اقتصر عليه في "الكفاية" ناقلا له عن بعضهم استنتاجا من كلام "التنبيه" وكأنه أراد به الشيخ تاج الدين فإنه جزم به في "الإقليد". وأما: السواك فقد تقدم عن "الوسيط" "والبيان" وغيرهما أنه متقدم على الجميع، وكلام الرافعي والنووي يشير إليه، وقال الإمام: الظاهر أنه بعد غسل الكفين وقبل المضمضة كذا ذكره في "مختصر النهاية" في باب السواك ولم يتعرض له في "النهاية" وتابعه عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" وعبر بالظاهر كما عبر ولا شك أنه أخذه منه.

ويدفعه ما رواه مسلم في "صحيحه" (¬1) عن ابن عباس أنه بات عند نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فقام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل فنظر إلى السماء من آخر الليل ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} (¬2) حتى بلغ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى ثم اضطجع ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية ثم رجع فتسوك فتوضأ ثم قام فصلى. قوله: ثم من يدخل يديه في الإناء ولم يتقين طهارتهما يكره له ذلك قبل الغسل قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده (¬3).انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله: ولم يتيقن طهارتها يدخل فيه أربعة أقسام وهي تيقن النجاسة وظنها وتوهمها واستواء الأمرين. ودخولها صحيح إلا القسم الأول؛ لأن إدخال اليد عند تيقن النجاسة مفسد للماء وحينئذ فيكون استعماله محرمًا لا مكروهًا، فإن المراد كراهة الإدخال عند إرادة الاستعمال بلا شك، فإن لم يرد استعماله فيكون شبيهًا بالبول في الماء القليل وسيأتي حكمه في باب الاستنجاء. الأمر الثاني: وقد سبق في الطهارة: أن الماء إذا طهر إحدى اليدين فإنه لا يجوز نقله إلى تطهر الأخرى على المعروف، وإذا استحضرت ما قالوه وجدته هنا شيئًا يقع فيه كل مغترف ولا يمر بالبال فتأمله، ولا أظن أحدًا هنا ¬

_ (¬1) حديث (256). (¬2) سورة آل عمران (190). (¬3) أخرجه البخاري (160)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

يوجد: ما تقتضيه تلك المقالة، وحينئذ فيكون مخالفًا له والصواب ما دل عليه كلامهم هنا. الأمر الثالث: هذه الغسلات هي الثلاث الندوبة في أول كل وضوء، ولكن طلب تقدمها على الغمس عند الشك، كذا صرح به جماعات منهم البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وفي كلام الرافعي أيضًا إشعار به. الأمر الرابع: إنما قال في الإناء ليحترز عن البركة ونحوها والراد إناء فيه دون قلتين بلا شك وقد نبه عليه في "الدقائق". نعم الماء وإن كثر فحكمه حكم الماء القليل. الأمر الخامس: أن استدلال الرافعي بالحديث المذكور يشعر بأن الكراهة لا تزول إلا بالغسل ثلاث مرات، والأمر كذلك، فقد نص عليه الشافعي في البويطي فقال: فين لم يغسلها إلا مرة أو مرتين أو لم يغسلها أصلًا حين أدخلهما في وضوئه فقد أساء. هذا لفظه بحروفه ومن البويطي نقلته. وجزم به في "الروضة" فقال: نص عليه البويطي وصرح به الأصحاب للحديث الصحيح. واعلم أن التقييد بالثلاث رواه مسلم، وأما البخاري فروى الحديث بدون هذه الزيادة. قوله: فإن تيقن طهارة يديه فهل يكره له الغمس قبل الغسل؟ فيه وجهان: أظهرهما لا بل يتخير بين تقديم الغمس وتأخيره. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام يشكل على ما سبق عن البويطي والأصحاب، فإنه إذا غسل مرةً أو مرتين فقد تيقن طهارة يده، وقد قالوا: إذا تيقن طهارة اليد لا يكره الغمس على الصحيح بالجمع بين عدم الكراهة عند

المتيقن وبين بقاء الكراهة إلى التثليث كيف يصح وليس عنه جواب شاف. الأمر الثاني: بل يتخير بين تقديم الغمس وتأخيره أشار به إلى مسألة حسنة، وهو أنه كما لا يكره الغمس قبل الغسل عند تيقن الطهارة على الصحيح لا يستحب له أيضًا في هذه الحالة تقديم الغسل على الغمس ويباح له ما يشاء؛ لأنه أضرب عن المكروه [وجعله مخيرًا فامتنع أن يكون التخيير في أصل الجواز لأن المكروه] (¬1) أيضا جائز فتعين ما قلناه من إرادة الإباحة، وقد صرح النووي في "تصحيح التنبيه" بهذه المسألة وحكى فيها وجهين وصحح عدم الاستحباب كما قلناه. وأسقط النووي هذه المسألة من كلام الرافعي لظنه أن الكلام المذكور لا فائدة له ولم يذكرها أيضًا من زوائده، وذكر قريبًا من ذلك في "شرح المهذب" وأما في "التحقيق" فذكر خلافًا واحدًا ولم يبين هل هو خلاف في الكراهة أو الاستحباب فتلخص أنه لم يصرح بهذه المسألة إلا في "تصريح التنبيه". الأمر الثالث: أن النووي قد ذكره في "تصريح التنبيه" أنه إذا تيقن الطهارة لا يكره الغمس بلا خلاف، فإنه عبر بالصواب وقد اصطلح في خطبة الكتاب على أنه يعبر بالصواب حيث لا خلاف ودعوى عدم الخلاف غريب فإنه مشهور لاسيما أنه عبر عنه في "الروضة" بالأصح وقد اصطلح فيها على أن الأصح من الخلاف القوي. وفي "الحاوي" أن الصحيح من المذهب الذي عليه الجمهور استحباب تقديم الغسل عند تيقن الطهارة، وذكر في النهاية نحوه أيضًا. قوله: والمضمضة والاستنشاق مستحبان ثم أصل الاستحباب يتأدى بإيصال الماء إلي الفم والأنف، سواء كان بغرفة واحدة أم أكثر، انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تابعه في الروضة على تفسير المضمضة والاستنشاق بما ذكره وهو يقتضي أمرين: أحدهما: أن إدارة الماء في فيه ليست بشرط وهو أصح الوجهين في "زوائد الروضة" لكن نص الشافعي على أنها تشترط كذا حكاه في "البيان" عن الشيخ أبي حامد. الثاني: أن مج الماء لا يشترط حتى يحصل ذلك مع ابتلاعه، وبه صرح القاضي أبو الطيب والمتولي وجزم به النووي في "شرح المهذب" وفي كلام جماعة ما يشعر باشتراطه وجذب الماء بالنفس إلى الفم ثم تثره كالإدارة والمج في المضمضة، [وذكر العلماء من فوائد غسل الكفين والمضمضة] (¬1) والاستنشاق أولًا معرفة أن الأوصاف الثلاث التي للماء وهي اللون والطعم والرائحة هل تغيرت أم لا؟ . قوله: وأصح القولين وبه قطع بعضهم: أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل من الجمع لما روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين المضمضة والاستنشاق (¬2). ورواه عثمان وعلي -رضي الله عنهما- كذلك ولأنه أقرب إلى النظافة، فعلى هذا يأخذ غرفة يتمضمض منها ثلاثًا وأخرى يستنشق منها ثلاثًا لأن عليًا رواه كذلك، وقيل: يفعلهما بست غرفات انتهى ملخصًا. ومصرف بصاد مهملة مفتوحة ثم راء مشدودة مكسورة بعدها فاء وحديثه رواه أبو داود ولم يضعفه (¬3)، فيكون حجة عنده وأما رواية ذلك ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه أبو داود (139)، والطبراني في "الكبير" (19/ 181) حديث (410)، والبيهقي في "الكبرى" (235) من حديث طلحة عن أبيه عن جده ضعفه يحيى القطان، وابن حبان، وأحمد، وابن مهدي، وأحمد، وابن حجر، والألباني. (¬3) قلت: قال مسدد: فحدثت به يحيى -يعني القطان- فأنكر، قال: أبو داود سمعت أحمد يقول: إن ابن عيينة كان ينكره ويقول: أيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده. =

عن عثمان وعلي فرواها ابن السكن في كتابه المسمى "بالسنن الصحاح المأثورة"، وأما الرواية الأخيرة عن على فأنكرها ابن الصلاح. قوله: وإن قلنا بالجمع ففي كيفيته وجهان أصحهما أنه يأخذ غرفة يتمضمض بها ويستنشق ثم ثانية كذلك ثم ثالثة كذلك، روى ذلك عن عبد الله بن زيد. ثم قال: والثاني أنه يأخذ غرفةً واحدة يتمضمض منها ثلاثا ويستننشق ثلاثًا وعلى هذا وجهان. أحدهما يخلط فيتمضمض ويستنشق مرة بما معه ثم يفعل ذلك ثانيًا وثالثًا. والثاني يقدم المضمضة على الاستنشاق. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن المرجح من هذين الوجهين الأخيرين هو الخلط كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال أحسنهما أنه يخلط وصحح النووي في "الروضة" الوجه الثاني منهما وهو تقديم المضمضة ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثاني: أن تفريع هذين الوجهين أعني الأخيرين على قول الجمع ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وهو تفريع فاسد فإن الأخير منهما وهو تقديم المضمضة من تفاريع قول الفصل [(¬1) وهو إنما يفرع على قول الجمع وقد تبعه النووي في "الروضة" على ذلك وزاد فصححه كما تقدم، وما ¬

_ = ومثل هذا من أبي داود يُعد تضعيفا للحديث المذكور. وقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": اتفق العلماء على ضعفه. (¬1) بداية سقط كبير من ب.

نقله الرافعي عن عبد الله بن زيد من كونه يفصل بثلاث غرفات. رواه عنه البخاري في "صحيحه" (¬1)، وأما أصل الجمع فرواه عنه الشيخان. قوله: فالمبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثاث ويمر الأصبع عليها وتصعيد ماء الاستنشاق بنفسه إلى الخيشوم مع إدخاله الإصبع وإزالة ما هناك من أذى. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد أسقط اللثاث. الثاني: أنه قيد الأصبع المذكور [ثانيًا باليسرى] (¬2). قوله: لكن لو كان صائمًا لا يبالغ فيهما كيلا يصل الماء إلى الدماغ والبطن، وقد روى عن لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء فقال: "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" (¬3) انتهى. لم يبين الرافعي ولا النووي في "الروضة" هنا حكم المبالغة والحالة هذه هل هي حرام أو مكروهة؟ والصحيح كراهتها كذا جزما به في كتاب الصيام في الكلام على ما إذا بقى بين أسنانه طعام وجزم به هنا النووي في "شرح المهذب" وحكى ابن الرفعة فيه وجهين من غير ترجيح. أحدهما: أنهما مكروهة، وعزاه إلى البندنيجي وابن الصباغ. ¬

_ (¬1) حديث (184). (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه أبو داود (142)، والترمذي (785)، والنسائي (114)، وابن ماجه (448)، وإبن حبان (1087)، والحاكم (525) من حديث لقيط بن صبرة - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح.

والثاني: أنها محرمة وعزاه إلى كتاب الصيام من تعليقة القاضي أبي الطيب. ولقائل أن يقول: ما الفرق على الصحيح هنا بينه وبين القبلة إذا خشى الإنزال؟ فإن الأصح تحريمها مع أن العلة في كل منهما هو خوف الفساد. ولقيط بلام مفتوحة مكسورة قاف مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت وصبره بصاد مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة وصبرة جده فإنه لقيط بن عامر بن صبرة العقيلي يكنى أبا رزين، وحديثه هذا رواه الترمذي في كتاب الصيام وقال: إنه حسن صحيح، ورواه أيضًا أبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة. قوله: قلنا: ورد في رواية الرُّبيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح رأسه مرتين (¬1). انتهى. الرُّبيع بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء المكسورة، ومعوذ بضم الميم وفتح العين وتشديد الواو وبالذال المعجمة، وهو معوذ ابن عفراء وحديثها هذا رواه البيهقي وضعفه، فإنه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف عند أكثر أهل الحديث. قوله: وما لا يجب إيصال الماء إلى باطنه ومنابته من شعر الوجه يستحب تخليله، وعن المزني أن التخليل واجب ورواه ابن كج عن بعض الأصحاب فإن أراد المزني فتفرداته لا تعد من المذهب إذا لم يخرجها على أصل الشافعي. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن مراد قائل هذا كما قال في "الروضة": إنما هو وجوب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (126) والترمذي (33) وابن ماجه (438)، وأحمد (27063)، والطبراني في "الكبير" (24/ 267) حديث (675). قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: حسن.

إيصال الماء إلى المنبت. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر في حق المزني في كتاب الخلع ما يخالف هذا فقال في الباب الثاني عنه نقلًا عن الإمام من غير مخالفة له ما نصه: وأرى كل اختيار للمزنى تخريجًا فإنه لا يخالف أصول [أصول الشافعي لا كأبي يوسف ومحمد فإنهما يخالفان أصول] (¬1) صاحبهما انتهى. وقد أسقط النووي هذين الموضعين فلم يذكرها في "الروضة" وقد رأيت في "النهاية" وكأنه في نواقض الوضوء عكس، ما نقله الرافعي في الخلع عنه فقال إن خرج يعني المزني فتخريجه أولى من تخريج غيره، وإلا فالرجل صاحب مذهب مستقل وقد تقدم التنبيه على ذلك في ترجمة المزني. قوله: في أصل الروضة ولو لم يرد نزع ما على رأسه من عمامة أو غيرها مسح ما تحت الرأس ويسن تتميم المسح على العمامة. انتهى كلامه. والمراد بقوله: ولو لم يرد ذكره الشيخ في "المهذب" فتابعه النووي في شرحه له ثم عبر به في "الروضة" ومقتضاه أنه لا فرق في ذلك بين أن يعسر عليه تنحية ما على رأسه أم لا، والذي جزم به الرافعي أن محله عند العسر فقال: ولو عسر عليه تنحية ما على رأسه من عمامة وغيره إلى آخره هذه عبارته. وذكر نحوه في "المحرر" "والشرح الصغير" "والمنهاج" وكذلك في "الكفاية" فقال: لو كان به أذىً منعه من الاستيعاب إلى آخره. قوله: أيضًا في "الروضة": ولا يكفي الاقتصار على العمامة قطعًا انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك، فقد رأيت في "البحر" عن محمد بن نصر المروزي من كبار أصحابنا أنه يكفي سواء أوضع العمامة علي طهر أم لا ولم يتعرض الرافعي لعدم الخلاف. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: في الكلام على مسح الأذنين والأحب في إقامة هذه السنة أن يدخل مسبحته في صماخيه ويديرهما على المعاطف ويمر إبهاميه على ظهورهما ثم يلصق كفيه وهما مبلولتان بالأذنين استطهارًا. انتهى كلامه. وما ذكره من الكيفية المحبوبة قد أسقطها جميعها من "الروضة". واعلم أن الرافعي قد ذكر قبل ذلك بقليل أنه يستحب مسح الصماخين بماء جديد، ثم ذكر هذه الكيفية فكأنه أراد أنها جامعة لجميع ما سبق وإلا لزم مسح الصماخين ست مرات. قوله: ومن المستحبات مسح الرقبة روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مسح الرقبة أمان من الغُلّ" (¬1) وهل هو سنة أم أدب؟ فيه وجهان، والسنة والأدب مشتركان في أصل الاستحباب. لكن السنة تأكد شأنها والأدب دون ذلك انتهى. الصحيح عند الرافعي: أنه سنة كذا صححه في "الشرح الصغير". واعلم أن النووي قد خالف في أصل الاستحباب فقال من زوائده: ذهب كثيرون من أصحابنا إلى أنها لا تمسح؛ لأنه لم يثبت فيها شيء، ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الأصحاب وهذا هو الصواب انتهى. واعلم أن مقتضى كلام الحموي أن فيه قولين وأن الجديد منهما عدم استحبابه، فإنه قال: هذا مع أن مسح الرقبة ليس سنة على الجديد. هذه عبارته في كتاب المسمى "بإزالة التمويه في مشكل التنبيه". ¬

_ (¬1) قال الحافظ: هذا الحديث أورده أبو محمد الجويني وقال: لم يرتض أئمة الحديث إسناده فحصل التردد في أن هذا الفعل هو سنة أو أدب. وتعقبه الإمام بما حاصله: إنه لم يجر للأصحاب تردد في حكم مع تضعيف الحديث الذي يدل عليه وقال القاضي أبو الطيب: لم ترد فيه سنة ثابته. وقال القاضي حسين: لم ترد فيه سنة. وقال الفوراني: لم يرد فيه خبر. وأورده الغزالي في "الوسيط" وتعقبه ابن الصلاح فقال: هذا الحديث غير معروف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو من قول بعض السلف. وقال النووي في "شرح المهذب": هذا حديث موضوع ليس من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزاد فى موضع =

والغُل بضم الغين، والحديث المذكور موضوع كما قاله في "شرح المهذب". قوله في "الروضة": الثالثة عشرة: تخليل أصابع الرجلين بخنصر يده اليسرى من أسفل الرجل مبتدئًا. بخنصر الرجل اليمنى وخاتمًا. بخنصر اليسرى وقيل: يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع يده ويبقى الإبهامان انتهى. ما ذكره من استحباب التخليل. بخنصر اليد اليسرى قد خالفه في "شرح المهذب" فإنه حكى فيه ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثاني: عن القاضي أبي الطيب أنه بخنصر يده اليمنى. والثالث: قاله الإمام إنهما سواء ثم قال: وما قاله [الإمام هو الراجح المختار وذكر في "التحقيق" أيضًا أنه المختار. قوله: ] (¬1) معظم الأئمة ذكروا التخليل في أصابع الرجلين وسكتوا عنه في اليدين لكن قال ابن كج: إنه يستحب فيهما وفي جامع أبي عيسى الترمذي ¬

_ = آخر: لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس هو سنة بل بدعة ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الأصحاب وإنما قاله ابن القاص وطائفة يسيرة وتعقيه ابن الرفعة بأن البغوي من أئمة الحديث وقد قال باستحبابه ولا مأخذ لاستحبابه إلا خبر أو أثر؛ لأن هذا لا مجال للقياس فيه. انتهى كلامه. ولعل مستند البغوي في استحباب مسح القفا ما رواه أحمد وأبو داود من حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق. وإسناده ضعيف وكلام بعض السلف الذي ذكره ابن الصلاح يحتمل أن يريد به ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن موسى بن طلحة قال: من مسح قفاه مع رأسه وقي الغل يوم القيامة. قلت: فيحتمل أن يقال: هذا وإن كان موقوفا فله حكم الرفع؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأى فهو على هذا مرسل. انتهى كلام الحافظ. (¬1) سقط من جـ.

عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك" انتهى كلامه. كذا نقل في "الروضة" مثله ومقتضى كلام "المنهاج" استحباب التخليل فيهما وصرح به في "الدقائق". والحديث المذكور رواه الترمذي وقال: إنه حسن [وقال في "علله": سألت عنه البخاري فقال: إنه حسن] (¬1) ونقل في "الروضة" تحسينه عن الترمذي ولم ينبه على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي قوله: وإن كانت الأصابع ملتحمة لم يجب فتقها ولا يستحب انتهى كلامه. وهو يوهم جواز الفتق وليس كذلك وقد استدركه عليه في "الروضة". قوله: قال في القديم: الموالاة [واجبة لأنه -عليه الصلاة والسلام- توضأ على سبيل الموالاة] (¬2)، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به؛ ولأنه عبادة ينقضها الحدث فتعتبر فيها الموالاة كالصلاة وفي الجديد إنها سنة لما روي أن رجلًا توضأ وترك لمعةً في عقبة فلما كان بعد ذلك أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغسل ذلك الموضع (¬3) ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن قدر المدة وعن ابن عمر أنه كان يتوضأ في سوق المدينة فدعى إلى جنازة وقد بقى من وضوئه فرض الرجلين [فذهب معها إلى المصلى ثم مسح على خُفَّيه ولأن أفعال الوضوء] (¬4) يجوز أن يتخللها الزمان اليسير، وكذلك الزمان الكبير بخلاف الصلاة. انتهى. واعلم أن القياس الأول ينتقض بالطواف والقياس الأخير ينتقض بالأذان والحديث الأول بعض حديث طويل أخرج أصله ابن ماجه وغيره وضعفه البيهقي، والحديث الثاني المعروف منه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بإعادة الوضوء كذا رواه الإمام أحمد وقال: إسناده جيد وأبو داود والبيهقي وزاد: وأد الصلاة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من جـ.

وأما الأمر بإعادة المتروك خاصة فنقله في "شرح المهذب" موقوفًا على ابن عمر والقصة عن ابن عمر قال البيهقي: إنها صحيحة ونقلها في "البيان" عن ابن عمر] (¬1) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قوله: والتفريق الكثير أن يمضي من الزمان ما يجف المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص وقيل: يؤخذ الكثير والقليل من العادة، وقيل: إذا مضى قدر ما يمكن إتمام الطهارة فقد كثر التفريق. انتهى. اعلم أن الرافعي قد قال في الباب السادس في السجدات: وأما ضبط طول الفصل فيحتاج إليه هنا، وفيما إذا تيقن أنه ترك ركنًا وذكره بعد السلام وفي قدره قولان: أظهرهما: يرجع إلى العرف. والثاني: ما يزيد علي ركعةٍ ولنا وجه أن الطويل قدر الصلاة التي هو فيها انتهى. وقال في الحج: إن التفريق الكثير لا يضر الطواف في أصح القولين ثم قال: قال الإمام: والكثير هو ما يغلب على الظن تركه الطواف هذا كلامه من غير زيادة عليه. والقياس أن يأتي في كل باب ما أمكن إتيانه مما قيل في غيره. قوله: الرابعة عشرة: أن يحافظ على الدعوات الواردة في الوضوء فيقول في غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حسابًا يسيرًا، وعند غسل اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وروي اللهم: احفظ رأسي وما حوى وبطني وما وعى، وعند مسح الأذنين اللهم اجعلني من القوم الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (175) وأحمد (15534) والبيهقى في "الكبرى" (396). قال الشيخ الألبانى: صحيح.

صراطك يوم تزل الأقدام. ورد بها الأثر عن السلف الصالحين. انتهى. اعترض عليه في "الروضة" فقال: قلت: هذا الدعاء لا أصل له ولم يذكره الشافعي والجمهور والله أعلم. وما ادعاه من كونه لا أصل له ذكره أيضًا في "شرح المهذب" "والمنهاج" وغيرهما وليس كذلك، فقد روى من طرق. منها: عن أنس أنه قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين يديه إناء من ماء فقال لي: "يا أنس ادن مني أعلمك مقادير الوضوء" فدنوت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أن غسل يديه قال: "بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله" فلما استنجى قال: "اللهم حصن فرجي ويسر لي أمري" فلما أن تمضمض واستنشق قال: "اللهم لقني حجتي ولا تحرمني رائحة الجنة" فلما أن غسل وجهه قال: "اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه" فلما أن غسل ذراعيه قال: "اللهم أعطني كتابي بيمينى" فلما أن مسح بيده على رأسه قال: "اللهم غشنا برحمتك وجنبنا عذابك" فلما أن غسل قدميه قال: "اللهم ثبت قدمي يوم تزول فيه الأقدام" ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والذي بعثني بالحق نبيًا ما من عبد قالها عند وضوئه لم يقطر من خلال أصابعه قطرة إلا خلق الله منها ملكًا يسبح الله تعالى بسبعين لسانًا يكون ثواب ذلك التسبيح له إلى يوم القيامة" رواه ابن حبان في "تاريخه" (¬1) في ترجمة عباد بن صهيب (¬2). وقال أبو داود فيه: إنه صدوق قدري، وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب، وفي هذا الحديث ذكر أصل الدعاء وإن كان مخالفًا في الكيفية لبعض ما في "المحرر"، وهمزة أعطني للقطع لا للوصل وقدمي بتشديد الياء على التثنية. ¬

_ (¬1) المجروحين (2/ 165). (¬2) أورده ابن حبان في ترجمة عباد بن صهيب ثم قال: كان قدريًا داعيًا إلى القدر، ومع ذلك يروى المناكير عن المشاهير التي إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع ثم ذكر هذا الأثر ليؤكد ما ذهب إليه. وعباد هذا قال فيه البخاري والنسائي: متروك لكن نسأل الله تعالى السلامة من التعصب.

قوله في "الروضة": الخامسة عشرة: ترك الاستعانة وهل تكره؟ فيه وجهان انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد صحح في الشرحين الكبير والصغير عدم الكراهة وعبر فيهما بالأظهر ولم ينقله عنه في "الروضة" بل حذف التصحيح المذكور ثم ذكره من "زياداته" وهو في غاية الغرابة. الثاني: أن مقتضى هذا الكلام اختصاص ذلك بما إذا طلب المتوضئ الإعانة حتى لو أعانه غيره وهو ساكت لا يكون خلاف الأولي فإن الشيء للطلب ولهذا لو حلف لا يستخدمه فخدمه ساكتًا لا يحنث وهذا مخالف لما يقتضيه كلام الرافعي فإن عبارته الخامسة ألا يستعين في وضوئه بغيره. روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أنا لا أستعين على وضوئي بأحد" (¬1) قاله لعمر - رضي الله عنه - وقد بادر ليصب الماء على يديه، ولأنه نوع من التنعم والتكبر وذلك لا يليق بحال المتعبد، والأجر على قدر النصب، وهل تكره الاستعانة؟ وجهان: أظهرهما: لا. لأنه -عليه الصلاة والسلام- قد استعان بأسامة والربيع بنت معوذ، وكذلك بالمغيرة لأجل جبة ضيقة الكمين انتهى. فاستدلاله بالحديث والمعني يدلان على أنه لم يرد بالاستعانة حقيقتها وإنما أراد الاستقلال بالأفعال. الثاني: أن الاستعانة بأسامة والمغيرة ثابتة في الصحيحين (¬2) لكن دعواه أن الاستعانة بالمغيرة لأجل ضيق الجبة تبع فيه الإمام والغزالي، وقد أنكر ابن الصلاح عليهما ذلك وقال: إن الثابت في الصحيحين أنه كان لابسها لكن لم يستعن لأجلها، فإنه استعان في غسل وجهه به فلما انتهى إلى غسل يديه ضاقت كماه، فلم يستطع أن يخرج يديه منهما فأخرجهما من أسفل ¬

_ (¬1) قال النووي في "المجموع": هذا حديث باطل لا أصل له. (¬2) البخاري (356)، ومسلم (274) من حديث المغيرة.

الجبة وغسلهما. هذا كلامه. وأما الاستعانة بالربيع فرواه الشافعي وأبو داود والترمذي (¬1). قال ابن الصلاح: وهو حسن. والرُّبيع بضم الراء على التصغير، وأما حديث عمر فرواه البزار بإسناد ضعيف. الثالث: أن الخلاف كما قاله في "الروضة" محله فيما إذا استعان بمن يصب عليه، فإن استعان في غسل الأعضاء كره قطعًا وإن استعان في إحضار الماء فلا بأس ولا يقال: إنه خلاف الأولى ثم قال: وحيث كان له عذر فلا بأس وتعبيره آخرًا بقوله فلا بأس ليس بجيد، فقد ذكر قبل ذلك من زوائده أن من لا يقدر على الوضوء إلا بالاستعانة كالأقطع فإنه يجب عليه أن يستعين ولو بأجرة المثل فإن لم يجد صلى وأعاد. قال في "الكفاية": ولابد أن تكون الأجرة فاضلة عن قضاء ديونه وعن كفايته وكفاية من تلزمه كفايته ليومه وليلته. قوله: الثانية هل يستحب ترك التنشيف؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا ينشف أعضاءه وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبح جنبًا فيغتسل ثم يخرج إلى الصلاة ورأسه يقطر ماء (¬2). والثاني: لا يستحب ذلك، وعلى هذا فقيل: لا يستحب التنشيف أيضًا، وقد روى عن فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التنشيف وتركه وكل حسن ولا ترجيح ومنهم من قال: يستحب التنشيف لما فيه من الاحتراز عن التصاق الغبار وإذا ¬

_ (¬1) تقدم والبخارى (179)، ومسلم (1280) من حديث أسامة. (¬2) أخرجه أحمد (24473) بسند صحيح.

قلنا باستحباب الترك ففي كراهته ثلاثة أوجه: أظهرها: لا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل فأتى ملحفة ورسية فالتحف بها حتي رؤى أثر الورس في عكنه (¬1). والثاني: نعم لأنه إزالة أثر العبادة فأشبه إزالة الخلوف عن فم الصائم. والثالث: حكى عن القاضي الحسين أنه إن كان في الصيف كره وإن كان في الشتاء لم يكره لعذر البرد. انتهى كلامه. فيه أمور: الأمر الأول: فيما صدر به كلامه هل هو صوابه النشف على وزن الضرب أو التنشيف على وزن التكريم. [والجواب] (¬2) أن المعروف في كتب اللغة إنما هو الأول وأن فعله مخفف مكسور على وزن علم. قال الجوهري: نشف الثوب العرق بالكسر، ونشف الحوض الماء تنشفه تنشيفًا شربه وينشفه كذلك، وأرض نشفة بينة النشف بالتحريك إذا كانت تنشف الماء، وقال في "ديوان الأدب" في باب فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها من المضارع من كتاب السالم: نشف الثوب العرق أى شربه، وضبطه الهروي في الغربين بنحوه وقال المطرزي في المغرب: نشف الماء أخذه من أرض بخرقة أو غيرها من باب ضرب ومنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرقة ينشف بها إذا توضأ (¬3)، وبهذا صح قوله ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5185)، وابن ماجه (466) و (3604)، وأحمد (23895)، والطبراني في "الكبير" (18/ 349) حديث (899)، وأبو يعلى (1435)، وابن أبي شيبة (5/ 161)، والبيهقي في "الكبرى" (843)، وابن سعد في "الطبقات" (1/ 451)، والنسائي في "الكبرى" (10156) وفي "عمل اليوم والليلة" (324) من حديث قيس بن سعد بسند ضعيف. (¬2) في أ: اعلم. (¬3) أخرجه الترمذي (53)، والحاكم (550)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 251) =

في غسل الميت ثم ينشفه بثوب أى ينشف ماءه حتى يجف، وينشف الثوب العرق يشربه من باب ليس هذا كلامه، وضبطه ابن الأَثير في "النهاية" بالتجفيف أيضًا لكنه لم يبين هل هو بالكسر أو الفتح، وقال القاضي عياض في "المشارق": نشف الماء ونشفته أنا بكسر الشين سواء هذا لفظه. فالكل متفقون على التجفيف وإن اختلفوا بالنسبة إلى الكسر أو الفتح فإن قيل: المخفف المتعري يجوز تشديده للمبالغة فهل يصح ذلك هنا؟ قلنا: لا؛ وذلك لأنه يلزم منه أن يكون المستحب تركه إنما هو المبالغة في التنشيف لا تركه أصلا وليس كذلك. الأمر الثاني: أن الملحفة بكسر الميم مأخوذة من الالتحاف، وأما الورسية فقد وقع في رواية البيهقي بواو مفتوحة ثم راء ساكنة ثم سين مكسورة ثم ياء مشدودة والذي جزم به الجوهري وغيره من أهل اللغة بخلافه فقالوا ملحفة ورسية بكسر الراء وبعدها ياء ساكنة ثم سين مفتوحة ثم هاء -أي مصبوغة بالورس- وهو نبت أصفر يصبغ به يخرج من شجر باليمن والعكن بفتح الكاف جمع عكنة بسكونها هو الانطواء في البطن ويعكن الشئ إذا ركن بعضه على بعض. الأمر الثالث: أن ما ذكره من الخلاف محله إذا لم يكن له حاجة إلى التنشيف بحرٍ أو بردٍ أو التصاق نجاسة، فإن كان فلا كراهة قطعًا، قال في "شرح المهذب": ولا يقال أيضًا: إنه خلاف المستحب. الأمر الرابع: أن جميع ما ذكره الرافعي من الأَحاديث الدالة على ¬

_ = من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال الترمذي: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء. وقال الألباني: ضعيف.

التنشيف وعلى عدمه ضعيفة، قال الترمذي: لا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء. نعم صح حديث ميمونة وفيه إشعار باستحباب تركه، وكذلك خروجه ورأسه تقطر. الأمر الخامس: أن النووي في "الروضة" وفي غيرها قد وافق الرافعي على استحباب ترك التنشيف ثم خالف في "شرح مسلم" فقال: الذي نختاره ونعمل به أنه مباح تركه وفعله سواء، فإن المنع والاستحباب يحتاجان إلى دليل. قوله: الثالث ألا ينفض يديه فهو مكروه، لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم فإنها مرواح الشيطان" (¬1) انتهى. استدرك في "الروضة" فقال: في النقض أوجه: الأَرجح أنه مباح تركه وفعله سواء. والثاني مكروه. والثالث: تركه أولى انتهى. وهذا الذي رجحه من استواء الأمرين قال في "شرح المهذب" أنه الصحيح لكنه خالف ذلك في غيرها فصحح في "التحقيق" أنه خلاف الأولى وجزم به في "المنهاج" والفتوى على ما في "المنهاج" فقد نقله ابن كج في "التجريد" عن نص الشافعي قال: قال الشافعي: وأحب إذا توضأ ألا ينفض يديه انتهى وادعى النووي في "التنقيح" أنه لا نص فيها للشافعي وأما الحديث فقال في "شرح المهذب" إنه ضعيف لا يعرف. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (573) من حديث أبي هريرة وقال الألباني: موضوع.

فأما دعواه الضعف فمسلم، وأما عدم المعرفة فلا، فقد رواه ابن حبان في "تاريخه" وابن أبي حاتم في "علله" وضعفاه. قوله: ويندب أن يبدأ في اليد والرجل بأطراف الأصابع ويختم بالمرفق والكعب إن كان يصب الماء عليها بنفسه وإن صب عليه غيره [بدأ بالمرفق والكعب. انتهى كلامه. وما ذكره فيما إذا صب عليه غيره] (¬1). قد تابعه عليه في "الروضة" ثم نقل ذلك في "شرح المهذب" في الكلام على غسل اليدين عن الماوردي وشيخه أبي القاسم الصيمري وأقرهما ثم نقله عنهما أيضًا في الشرح المذكور في الكلام على غسل الرجلين ثم قال: فالأكثرون على استحباب الابتداء بالأصابع وهو المختار، ونص عليه الشافعي في "الأم" فقال: وينصب قدميه ثم يصب عليهما الماء بيمينه أو يصب غيره انتهى كلامه. وذكر نحوه أيضًا في "شرح التنبيه" المسمى بـ "التحفة" وقال: إنه الصواب وقد سوى بين المسألتين في "التحقيق" في الكلام على السنن، وقال: إنه يبدأ بأصابع يديه ورجليه ولم يفصل بين أن يصب عليه غيره أم لا، وقد ظهر أن الفتوى علي غير ما في "الشرح" و"الروضة". قوله: وأن يقول بعد الوضوء مستقبلًا القبلة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من استحباب الاستقبال في هذا الدعاء قد أسقطه من "الروضة" وإسقاطه عجيب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمر الثاني: أن النووي قد زاد في "الروضة" لفظة "أشهد" مع قوله: وأن محمدًا فقال: وأشهد أن محمدًا وزادها أيضًا الرافعي في "المحرر". والدعاء المذكور روى أوله مسلم في "صحيحه" (¬1) ولفظه: عن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من توضأ فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" وفي رواية للترمذي بعد قوله: "ورسوله": "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" (¬2)، وأما باقي الدعاء فرواه الحاكم في "المستدرك" من رواية أبي سعيد الخدري ولفظه: "من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب برق ثم طبع بطابعٍ فلم يكسر إلى يوم القيامة" (¬3)، وهذا حديث صحيح الإسناد. وقوله في الحديث: "برق" هو بفتح الراء والباء فيه بمعنى في أي رق كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} وقد ورد التصريح بها أعني بفي في رواية. والطابع بفتح الباء وكسرها هو الخاتم ومعنى لم يكسر أنه لا يتطرق إليه إبطال. قوله: في "أصل الروضة": فرع التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بلا خلاف، وكذا الكثير على الجديد المشهور، ولو فرق بعذر كنفاذ الماء ¬

_ (¬1) حديث (234) من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (¬2) حديث (55) من حديث عمر - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه الحاكم (2072)، والبيهقي في "الشعب" (2754)، والنسائي في "الكبرى" (9909)، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى-.

لم يضر على المذهب، وقيل فيه القولان ثم قال ما نصه: وحيث جاز التفريق لا يجب تجديد النية في الأصح. انتهى. وهو في جريان خلاف التجديد في التفريق اليسير والكبير لقدر مع أنه لا يجب فيها نية التجديد بلا خلاف كما ذكره في "شرح المهذب" وكلام الرافعي مستقيم فإنه عبر بقوله وإن فرعنا على الجديد فاقتضى ذلك إرادة التفريق الكثير بغير عدم لأنه محل الجديد والقديم فأبدله النووي بقوله: وحيث جاز التفريق ذهولًا فوقع فيما وقع. قوله من زياداته: ولو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف لم يحسب الكف على الأصح انتهى لفظه. وهذا الذي ذكره غلط عجيب انعكس فيه المراد عليه؛ وذلك لأن الحكم في هذه المسألة أن غسل الكف محسوب؛ لأنه قد فعل في وقته إذ لا يشترط قبله شيء من الأفعال، وهل تحسب المضمضة والاستنشاق؟ على وجهين أصحهما: لا. والخلاف ينبني على أن النيتين هل يشترط فيها الترتيب كما يشترط في الأركان أم لا؟ والصحيح الاشتراط كذا ذكره في "شرح المهذب" وغيره وهو واضح، وقد تقدم الوعد في أوائل الباب بذكر هذا الموضع. قوله أيضًا من "زياداته": ويرتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله وقال إمام الحرمين يتوقف على فراغ الأعضاء. انتهى. ويظهر أن تكون فائدة الخلاف فيما إذا أحدث في أثنائه فأراد هو أو غيره أن يتوضأ بماء كان قد استعمل في الأعضاء السابقة على الحدث، فإن قلنا بالأول لم يجز وإن قلنا بمقالة الإمام جاز، أما لو استعمله بدون حدث فإنه لا يصح عند الإمام أيضًا بدليل أنه يوافق على مصير الماء مستعملًا في مسألة غمس اليد بعد غسل الوجه.

الباب السادس في الاستنجاء

الباب السادس في الاستنجاء وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في آداب قضاء الحاجة قوله في أصل "الروضة": ومنها ألا يستقبل الشمس ولا القمر بفرجه لا في الصحراء ولا في البنيان وهو نهى تنزيه قال جماعة ويتجنب الاستدبار أيضًا، والجمهور اقتصروا على النهي عن الاستقبال. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن تعبيره يقتضي أن الصحيح عند الرافعي أنه لا يتجنب الاستدبار وليس كذلك بل حاصل ما في الرافعي الجزم بالنهي عنه أيضًا فإنه نقل عن الغزالي أن كلامه يقتضي أن الصحيح عند الرافعي لا يتجنب ذلك ثم قال ما نصه وأكثر الكتب ساكتة عن استدبارهما وإن كان المنع من استقبالهما مشهورًا لكنه صحيح حكاه في "البيان" عن الصيمري ورأيته في "الشافي" لأبي العباس الجرجاني وفي الخبر ما يدل عليه هذا لفظه. فانظر كيف نقله واستدل عليه ولم ينقل خلافه، وزاد على ذلك فقال: إن القول به صحيح وجزم به أيضًا الرافعي في كتابه المسمى "بالتذنيب" وزاد على ذلك فصرح بكراهته وبكراهة الاستقبال أيضًا ذكر ذلك في أواخر الكتاب في أوائل الفصل السابع، ووافقه عليه النووي في "مختصره" أعني "مختصر التذنيب" ولم يخالفه كما خالفه في غيره، غير أن النووي قد صرح في أكثر كتبه بما يقتضيه كلام "الروضة" من عدم الكراهة فقال في "شرح المهذب": الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور أنه لا يكره، وقال

في نكت "التنبيه": إنه المذهب. وقول الجمهور: والصواب وكأنه في هذه الكتب اعتمد على ما في "الروضة" نقلًا عن الرافعي وقد علمت ما فيه. الأمر الثاني: أن ما نقله في "الروضة" عن الجمهور من تنصيصهم على النهي عن الاستقبال قد نقل عنهم عكسه في كتبه المبسوطة فقال في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح": لم يذكر الشافعي والأكثرون أن قاضي الحاجة يترك استقبال الشمس والقمر فالمختار أنه مباح تركه وفعله سواء انتهى. وذكر نحوه في "شرح المهذب" وقال في "التحقيق": إن الكراهة لا أصل لها وهذا كله يدل على أن ما نقله في الروضة عن الجمهور من التصريح به ليس كذلك ولم يصرح به الرافعي كما تقدم، وإنما هو من فهم النووي وحينئذ فيكون الصواب عدم اجتناب الأمرين على خلاف ما في "الروضة" وأكثر المختصرات فاعلمه. قوله: [الثالث إن كان في بناء] (¬1) أو بين يديه ساتر فالأدب ألا يستقبل القبلة ولا يستدبرها وإن كان في الصحراء ولم يستتر بشئ حرم عليه استقبال القبلة واستدبارها ولا يحرم ذلك في البناء. انتهى كلامه بحروفه. وهو صريح في أنه لا يحرم الاستقبال ولا الاستدبار، إذا كان في البنيان وإن لم يستتر بشيء وأما في الصحراء فيفصل فيها بين وجود السترة وعدمها وحينئذ فيكون الجواز متعلقًا بالمفهوم من اسم البنيان والتحريم متعلقا باسم الصحراء بشرطه. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" قد تابع الرافعي على ذلك وهو المفهوم من كلامه في "المنهاج" وغيره، ثم صرح في أكثر كتبه بما يخالفه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فقال في "شرح المهذب" الصحيح أنه إن كان بين يديه ساتر فيرتفع ثلثي ذراع وقرب منه على ثلاثة أذرع جاز استقبال القبلة، سواء أكان في الصحراء أم في البنيان ومن أصحابنا من اعتبر الصحراء والبنيان فأباح في البنيان مطلقًا وحرم في الصحراء مطلقا. انتهى. وذكر في "شرح مسلم" كما في "شرح المهذب" وقاله: إنه الصحيح المشهور عند أصحابنا، وذكر نحو ذلك أيضًا في "التحقيق" وفي "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح". الثاني: أنه إذا جلس في بيت مهيأ لذلك فلا يشترط الساتر المذكور صرح به النووي في "شرحى الهذب" و"مسلم" وغيرها. الثالث: لم يصرح الرافعي بكون الاستقبال والاستدبار في البنيان مكروها أم لا، فإنه عبر بقوله: فالأدب وكذلك النووي في "الروضة"، وقد صرح أعني الرافعي بحكمه في كتابه المسمى بـ "التذنيب" وجزم فيه بكراهة الأمرين ذكر ذلك في أواخر الكتاب في أوائل الفصل السابع، ونقله النووي في "شرح المهذب" عن المتولي فقط ثم قال: ولم يتعرض الجمهور للكراهة التي ذكرها المتولي والمختار عدمها انتهى. والذي قاله النووي هو الظاهر نقلًا ودليلًا. الرابع: أن محل ذلك كله فيما إذا لم يكن عليه مشقة في التحول فإن كان لم يكن ذلك مكروهًا ولا خلاف الأولى هذا حاصل ما ذكره النووي في "شرح التنبيه" المسمى بـ "التحفة" وفي "شرح مسلم" أيضًا. الخامس: قد أقروا أنه إذا أراد أن يقضي حاجته في الصحراء فإنه يستتر عن العيون، والمراد بالصحراء هناك ما لا يمكن تسقيفه، فإذا

جلس فيه فيستتر بالستر المذكور في الاستقبال، وإذا جلس فيما يمكن تسقيفه فهو ساتر، هكذا جزم به الرافعي في الشرحين والنووي في "الروضة" قبيل هذه المسألة وحينئذ فإذا كان بينه وبين حائط الذي يمكن تسقيفه أكثر من ثلاثة أذرع كان كافيًا في السترة المأمور بها عن العيون دون السترة المأمور بها في تحريم الاستقبال، وكثيرًا ما تلتبس المسألتان، وذكر النووي في "شرح المهذب" "والتحقيق" ضابط السترة المذكورة في الصحراء والبنيان ولم يذكر ضابط السترة عن العيون بل ذكر أنه يستتر عن العيون ولم يزد عليه وهو عجيب موهم قوله: وسبب المنع في الصحراء فيما ذكر أن الصحراء لا يخلو من حصل من ملك أو جني أو إنسي فربما وقع بصره على عورته وأما في الأبنية في الحشوش فلا يحضرها إلا الشياطين، ومن يصلي فيكون خارجًا عنها فيحول البناء بينه وبين المصلي انتهى كلامه. وما ذكره في الفرق بين الصحراء والبنيان ضعيف، وقد أوضح النووي ضعفه في "شرح التنبيه" المسمى بـ"التحفة" فقال: وهذا التعليل ضعيف فإنه لو قعد مستقبلًا للحائط: قريبًا منه ووراءه فضاء واسع جاز، وصرح به إمام الحرمين وصاحب "التهذيب" وغيرهما ولو صح هذا التعليل لحرم هذا، والتعليل الصحيح ما ذكره القاضي الحسين وصاحب "التهذيب" "والبحر" وغيرهم أن جهة القبلة معظمة يوجب صيانتها في الصحراء ورخص فيها في البنيان للمشقة هذا كلامه وهو واضح. والحشوش جمع حش بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة المشدودة وهو المرحاض، وأصل الحش في اللغة البستان وإنما سمى المرحاض، به لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في البساتين لعدم الأخلية عندهم.

قوله: ومنها ألا يبول في الماء الراكد لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم" (¬1)، ويروى في "الراكد" وهذا المنع يشمل القليل والكثير لما فيه من الاستقذار ثم إن كان قليلًا ففيه شئ آخر وهو أنه تنجيس للماء وتعطيل لفوائده فإن كان بالليل زاد شئ آخر وهو ما قيل: إن الماء بالليل للجن فلا ينبغي أن يبال فيه ولا يغسل خوفًا من أذى يصيبه من جهتهم. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" كما نقله في "شرح المهذب" عن جماعة أنه إن كان قليلًا كره وإن كان كثيرًا فلا ثم قال: وفيه نظر، وينبغي أن يحرم البول في القليل قطعًا لأن فيه إتلافًا عليه وعلى غيره وأما الكثير فالأولى اجتنابه انتهى، والذي يتجه في هذه المسألة وتتعين الفتوى به أنه إن كان في الوقف ولم يكن في هذه غيره ولم يكن متطهرًا فإنه حرام؛ لأنه بمنزلة الصب وإن لم يكن كذلك نظر إن لم يكن له بأن كان في غدير ونحوه فيحرم أيضًا؛ لأن فيه إتلافًا على غيره. نعم: إن كان هناك ما يمكن تكميله به فيبلغ قلتين ففيه نظر والمتجه التحريم لما فيه من تكليف الغير ذلك، ولاحتمال تلف ما يكمل به، وإن كان الماء له نظر إن أمكن التكميل كره، وإن لم يمكن فيفصل فيه بين الوقت وخلافه كما سبق، وجزم ابن الرفعة في "الكفاية" بالكراهة وفي "الحاوي الكبير" إذا كان ليلًا لما قيل من أن الماء بالليل للجن، والحديث المتقدم رواه الشيخان من رواية أبي هريرة. قوله: ومنها ألا يبول في الجحرة لما روى قتادة عن عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه، فقيل لقتادة: ما بال الجحرة؟ قال: يقال: إنها مساكن الجن (¬2). انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (236)، ومسلم (282) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أبو داود (29)، والنسائي (34)، واْ حمد (20794)، والحاكم (666)، =

الجحرة بالجيم مكسورة بعدها حاء مهملة مفتوحة جمع جحر، وسرجس بسين مهملة مفتوحة وراء ساكنة ثم جيم مكسورة ثم سين مهملة أيضًا، والحديث المذكور صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة، وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين. قوله: ومنها ألا يجلس تحت الأشجار المثمرة صيانة لها عن التنجيس انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير بالمثمرة ولم يبينا هل المراد بها حقيقتها وهي التي عليها الثمرة أو المراد التي من شأنها أن تثمر؟ وقد نبه في "شرح المهذب" على أن المراد الثاني فقال: لا فرق بين وقت الثمرة وغيرها. قوله: ومنها ألا يبول في مهاب الريح استنزاهًا من البول وحذرًا من رشاشة. روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتمخر الريح (¬1). أي ينظر أين مجراها فلا يستقبلها. ¬

_ = والبيهقي في "الكبرى" (483)، وابن الجارود في "المنتقى" (34) من حديث عبد الله ابن سرجس بسند ضعيف، فإن قتادة كان مدلسًا وقد عنعن هذا الحديث ثم في سماح قتادة بن عبد الله بن سرجس خلاف مشهور. (¬1) قال الحافظ: لم أجده من فعله وهو من قوله عند ابن أبي حاتم في العلل من حديث سراقة بن مالك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبلوا القبلة واتقوا مجالس اللعن الظل والماء وقارعة الطريق واستمخروا الريح واستتبوا على سوقكم وأعدوا النبل". وحكى عن أبيه أن الأصح وقفه، وكذا هو عند عبد الرزاق في مصنفه. وقال أبو عبيد في غريبه: عن عباد عن واصل مولى أبي عيينة قال: كان يقال: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح. قال أبو عبيد: يعني أن ينظر من أين مجراها فلا يستقبلها ولكن يستدبرها لكيلا يرد عليه الريح البول وروى الدارقطني عن عائشة شاهده. وعن الحضرمي رفعه: "إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ببوله فترده عليه". رواه ابن قانع وإسناده ضعيف جدا. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره البول في الهواء. رواه ابن عدي وفي إسناده يوسف بن السفر وهو ضعيف. وفي الباب حديث هشام بن عروة عن اْبيه عن عائشة قالت: مر سراقة بن مالك المدلجي على =

انتهى. والتمخر بالخاء المعجمة والراء المهملة قاله الجوهري، وذكر الحديث وفسره بما ذكره الرافعي، وحكى من كلامهم استمخرت الريح إذا استقبلتها بأنفك، وذكر الخطابي في "غريب الحديث" في أواخر الكتاب أن سراقة ابن مالك - رضي الله عنه - قال لقومه: إذا أتى أحدكم الغائط فليكرم قبلة الله ولا يستدبرها وليتق مجالس اللعن الطريق والظل واستمخروا الريح واستشبوا على سوقكم وأعدو النبل ثم قال: قوله: استمخروا الريح أى استقبلوها فقال: امتخر الفرس الريح إذا استقبلها يستروح، ومنه مخور السفينة وهو قطعها الماء بالريح. قال الله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} قال أبو عمر ابن العلاء تقول العرب في الرجل الأَحمق: إنه والله لا يتوجه تريد أنه لا يستقبل الريح إذا قعد لحاجته، وذلك لأنه إذا استدبرها وجد ريح ما يبرز منه فهو لحمقه لا يتوجه هذا لفظه ثم قال: استشبوا أى اتكئوا على سوقكم ومنه شبوب الفرس وهو أن يرفع يديه ويعتمد على رجليه، وما ذكره في تفسير الاستمخار ناقلًا له عن أهل اللغة عكس ما قاله الرافعي إلا أن الذي قاله قد قاله الجوهري بعينه كما سبق وكأنه أخذه منه، وكلام الجوهري ظاهره التدافع فإنه كيف يصح ما ذكره في الحديث مع تعقيبه بأنه يقال: استمخرت الريح إذا استقبلتها بأنفك فإن هذا عكس الاستدبار، وهذا الحديث روى معناه ابن أبي حاتم في علله وقال أسنده عبد الرزاق ولفظه عن سراقة بن مالك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أتى أحدكم ¬

_ = رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن التغوط فأمره أن يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها ولا يستقبل الريح. الحديث رواه الدارقطني وروى الدولاني في الكنى والإسماعيلي في حديث يحيى بن أبي كثير عن خلاد عن أبيه مثله وإسناده ضعيف.

الغائط فلا تستقبلوا القبلة واستمخروا الريح" (¬1) واعلم أن ما ذكره الرافعي استدلالًا وتعليلًا يؤخذ منه أنه لا يمتنع البول في مهاب الريح مستدبرًا وهو وارد على "الروضة" فإنه لم يزد على قوله ولا يبول في مهب ريح. قوله: وأن يعتمد إذا جلس على اليسرى لما روى عن سراقة بن مالك قال: علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى (¬2). انتهى. وهذا الذي ذكره لا يعلم منه الكيفية المطلوبة، وقد بينها جماعة منهم الشيخ في "التنبيه" فقال: إنه ينصب قدم الرجل اليمنى أى يضع أصابعها على الأرض ويرفع الباقي ويعتمد على اليسرى، وسببه إن استعمال الرجل إنما هو بالاعتماد، فإذا اعتمد على اليسرى دون اليمنى كان مستعملًا في هذا المحل لما يليق به، وهذا التعليل يشمل أيضًا البول قائمًا وقاعدًا إلا أنه إذا بال قائمًا فإنه يفرج رجليه ففي صحيح ابن خزيمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك، وعلل في "المهذب" الاعتماد على اليسرى بكونه أسهل لخروج الخارج، وقال الماوردي: إنه أنجح له. قال غيره: لأن المعدة في الجانب الأيسر والصواب في التعليل ما ذكرناه، والحديث المذكور رواه البيهقي ولفظه علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أردنا الخلاء أن نعتمد اليسرى وننصب اليمنى. لكنه توقف في تصحيحه. قوله: ومنها أن يعد النبل إن كان يستنجي بالأحجار لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال "اتقوا الملاعن الثلاث واعدوا النبل" (¬3) والنبل أحجار الاستنجاء جمع نبلة وأصلها الحصاة الصغيرة. انتهى. قال الجوهري: النبل بضم النون وفتح الباء من باب الأضداد تطلق على ¬

_ (¬1) انظر كلام الحافظ السابق. (¬2) قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه رجل لم يسم. (¬3) قال الحافظ: عبد الرزاق عن ابن جريج عن الشعبي مرسلًا، ورواه أبو عبيد من وجه آخر عن الشعبي عمن سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإسناده ضعيف.

الكبار والصغار وهو جمع نبيلة، ثم قال: والنبل بضم النون وفتح الباء حجارة الاستنجاء، وفي الحديث: "اتقوا الملاعن وأعدوا النبل" والمحدثون يقولون: النبل أى بفتحها، يقال: سميت بذلك لصغرها هذا كلامه. وقال ابن الأثير في "غريب الحديث": النُبل بضم النون جمع نبلة والمحدثون يفتحون النون والباء كأنه جمع نبيل في التقدير، والنبل بالفتح يطلق على الكبار من الإبل والصغار وهو من الأضداد، وقال صاحب "التعجيز" هنا في شرحه له: النبل بضم الباء جمع نبيل كسرير وسُرر فتخلص أنه يقال على ثلاثة أوجه قال في "شرح المهذب": والحديث المذكور [ليس بثابت بل المعتمد ما روته عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ] (¬1) "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار" (¬2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وقال: أعني الدارقطنى: إسناده حسن صحيح. قوله: ومنها ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة تحرزًا من عود الرشاش إليه. انتهى كلامه. ويعلم من هذا التعليل الذي ذكره الرافعي إخراج الأخلية المعتادة من هذا الحكم لانتفاء المعنى، وقد حذف النووي من الروضة تعليل الرافعي ثم أورد عليه دخول الأخلية وهو صنيع عجيب. قوله: وألا يستصحب شيئًا عليه اسم الله تعالى كالخاتم والدراهم، وكذلك ما كان عليه قرآن وألحق باسم الله تعالى اسم رسوله تعظيمًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (44)، وأحمد (24815) و (25056)، والدارمي (670)، وأبو يعلى (4376)، والبيهقي في "الكبرى" (503)، والطحاوي في "شرح المعاني" (688) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال الألباني: حسن. (¬2) سقط من أ، ب.

وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬1). لأنه كان عليه: محمد رسول الله انتهى. فيه أمور: أحدها: أن كل معظم يلحق بما تقدم في الأمر بالنزع صرح به الإمام ونبه عليه في "الكفاية" وحينئذ فتدخل أسماء جميع الأنبياء والرسل وأسماء الملائكة. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يفرق في اسم الله تعالى بين أن يكون مختصًا به كالله والرحمن، أو غالبًا فيه كالخالق، أو يطلق عليه وعلى (¬2) غيره على السواء كالحي والسميع والبصير، فإن الجميع من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يقال: إذا أتى بغير المختص مريدًا به غير الله تعالى فلا يكره حمله، وهذا الكلام يأتي أيضًا في اسم رسوله حتى يعم جميع أسمائه كأحمد والمدثر والمزمل والحاشر والطيب والطاهر وحتى يأتي التردد فيما إذا كان اسمه مثلًا محمدًا فنقشه على الخاتم ونحوه مريدًا به نفسه فهل يؤمر أيضًا بإزالته لكون الاسم في نفسه معظمًا أو لا نظرًا إلى المقصود به الآن، وقد نص الشافعي على كتابة اسم الله تعالى في وشم نعم [الزكاة مع أنها تتمرغ في النجاسات. وعلله الرافضي بأن المقصود] من ذلك إنما هو التمييز، وهذا التعليل يقتضي عدم الكراهة هنا بطريق الأولى، لأن المدلول وهو الذات المقدسة مراده هناك بخلاف ما نحن فيه، لكن ذكر النووي في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (19)، وابن ماجه (303) وابن حبان (1413)، والبيهقي في "الكبرى" (454) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال أبو داود والألباني: منكر. (¬2) سقط من أ.

التنقيح ما يخالفه فقال: لعل المراد المختص بذلك لا لفظة أحمد ومحمد بمجردها بل لابد من شئ يشعر بأن المراد رسول الله، وكذلك أسماء الله تعالى هذا كلامه. الثالث: أن الحديث الذي ذكره الرافعي رواه الترمذي بهذا اللفظ وقال: إنه حسن صحيح غريب. وأخرجه ابن حبان أيضًا في "صحيحه" وقال الحاكم: إنه علي شرط الشيخين، وكذا قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في آخر "الاقتراح"، وأما استدلاله بأنه كان مكتوبًا عليه محمد رسول الله فرواه الشيخان (¬1) وصرح الحاكم (¬2) في روايته أن هذا هو سبب النزع. وروى ابن حبان في صحيحه عن أنس قال: كان نقش خاتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر (¬3). وفي حفظي أنها كانت تقرأ من أسفل فصاعدًا ليكون اسم الله تعالى فوق الجميع. قوله: وخير الصيمري بين نزع الخاتم وضم كفه عليه. ثم قال: نعم، قيل: إنه لو غفل عن النزع حتى اشتغل بقضاء الحاجة ضم كفه عليه. انتهى ملخصًا. وقد أسقط في "الروضة" الوجه الصائر إلى التخيير وجزم بالضم عند الغفلة والذي نقله الرافعي عن الصيمري قد رأيته في كتابه المسمى بالكفاية وفي شرحها له أيضًا. قوله من "زوائده": والسنة أن يقول عند دخول الخلاء: بسم الله اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث، ويقول إذا خرج؛ غفرانك الحمد لله الذي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2939) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) المستدرك (1/ 298) حديث (671). (¬3) أخرجه البخاري (2939) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

أذهب عني الأذى وعافاني (¬1)، وسواء هذا في البنيان والصحراء انتهى. اعلم أن الشيخ أبا حامد في "التعليق" قد صرح بأن الذكر الأول خاص بالبنيان ونقله في "التبيان" عنه وأقره وهو ظاهر بخلاف الذكر الثاني وهو ذكر الخروج وكلام "الروضة" لا ينافيه فليحمل عليه. لكن صرح في "شرح المهذب" بأنه لا فرق. واعلم بأنه قد ذكر في "الشرح الصغير" الذكرين بدون قوله: وعافاني وذكر الجميع في "المحرر" إلا أنه عبر بقوله: أخرج عني الأذى فعدل عنه في "المنهاج" إلى أذهب ليوافق الحديث، فإن ابن ماجه قد أخرجه كذلك من رواية أنس لكن بإسناد فيه ضعف غير أنه لائق بالحال، والحديث من فضائل الأعمال. قوله: ويستحب ألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. انتهى. ذكر مثله في "شرح المهذب" فقال: وقولنا لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ليس بواجب اتفاقا بل هو مستحب، وجزم في "نكت التنبيه" بأنه مخرج على الوجهين في كشف العورة في الخلوة حتى يكون الصحيح فيه المنع وهو تباين فاحش، والأول هو مقتضى كلامه في بقية كتبه، ومقتضى كلام غيره أيضًا. وأما الثاني: فجزم به المحب الطبري في "شرح التنبيه"، وذكره ابن الرفعة في "الكفاية" بحثًا ولم ينقله عن أحد، ورأيت في كلام بعض الفضلاء من المتأخرين نقلًا عن بعض الأئمة أنه إذا كشف زائدًا عن الحاجة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (301). قال في الزوائد: متفق على تضعيفه. وقال الألباني: ضعيف.

هل يأثم على الكل أو على الزائد فقط؟ فيه خلاف وهو يشعر بالتحريم ونبه النووي في النكت المذكوره على فائدة حسنة وهي "التنبيه على شرح التنبيه" للجيلي فقال فيه ما نصه: ولا يغتر بما في "شرح التنبيه" للجيلي في شئ من المواضع ولا يؤخذ منه شئ حتى ينظر في مصنفات أصحابنا قال وأخبرني شيخنا عز الدين عن شيخه الشيخ تقي الدين بن الصلاح أنه قال: لا يجوز لأحد أن يطالع فيه معتمدًا لنقله انتهى كلامه. وقد اشتهر في مصر أن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد هو أول منبه على ذلك وقد ثبت تقدمه وتقويته. والسبب في وقوع النقول المنكرة في التصنيف المذكور أن مؤلفه لما أبرزه أقبلت الناس عليه لحسنه وحسن تقريره وكثرة فوائده فحسده عليه بعض من لعنه الله وغضب عليه فألحق فيه أشياء منكرة في الأحاديث وغيرها فأفسده. قوله من "زياداته": والسنة أن يبول في مكان لين لا يرتد عليه فيه بوله ويكره في قارعة طريق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصرح هنا بحكم الغائط في الطريق وهو حرام على ما دل عليه كلامه في الشهادات فإن الرافعي قد نقل هناك عن صاحب العدة أشياء كثيرة من المحرمات وعد منها التغوط في الطريق، واعترض هو والنووي عليه في بعضها وارتضيا بعضها وهذه المسألة من المسائل التي ارتضياها، لكن قال في "شرح المهذب" "وشرح مسلم" ظاهر كلام الأصحاب أن النهي عنه للتنزيه وينبغي أن يكون محرمًا لهذه الأحاديث ولما فيه من إيذاء المسلمين، قال: وفي كلام الخطابي وغيره إشارة إلى تحريمه ثم جزم في "شرح المهذب" أيضًا بعد ذلك بالكراهة صرح بذلك في أثناء الاستدلال على المسألة وهو المفهوم من باقي كتبه وكتب الرافعي أيضًا، بل

ذكر النووي في "نكت التنبيه" ما يقوى التحريم فقال: والنهي عن التخلي في الظل الذي يجمع فيه الناس نهي تحريم، صرح به الخطابي والبغوي في "شرح السنة" لأنه إيذاء لهم. واعلم أن المعنى ولفظ الحديث يدلان على اختصاص النهي في الطريق ونحوه بالغائط دون البول على خلاف ما قاله في "الروضة" وهو المذكور في "الإقناع" لابن المنذر. الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوجيز" قد ذكر النهي عن البول في الطريق وعبر عنها بالشوارع ونسى الرافعي شرح ذلك أو تعرض له ولكن سقط من النسخ ولهذا ذكره في "المحرر".

الفصل الثاني: فيما يستنجي [منه]

الفصل الثاني: فيما يستنجي [منه] (¬1) قوله: وما يوجب الغسل كالمني والحيض لا يمكن الاقتصار فيه على الأحجار انتهى. استدرك عليه في "الروضة" فقال: صرح صاحب "الحاوى" وغيره بجواز الاستنجاء من دم الحيض، وفائدته فيمن انقطع حيضها فأرادت أن تتيمم لسفر أو مرض فإنها تستنجي به وتتيمم وتتخلى بلا إعادة. انتهى كلامه. وهذا الذي استدركه ذكره أيضًا في "التحقيق" و"شرح المهذب" وليس على إطلاقه، فإن الشافعي قد نص عليه وجوزه للبكر دون الثيب كما نقله عنه الروياني وغيره. قال ابن الرفعة بعد نقله أيضًا هذا النص: فأما جوازه للبكر فلما قلناه وأما منعه للثيب فلما ذكروه في استنجائها من أنها إذا بالت وتحققت وصول البول إلى مدخل الذكر تعين الماء؛ لأن الحجر لا يصل إليه وحينئذ فالحيض قد نجس مدخل الذكر، فإن كانت بكرًا لم يجب عليها إزالة ما وراء العذرة؛ لأنه في حكم الباطن، وأما الظاهر فيجب عليها إزالته وإزالته بالحجر ممكنة، وأما الثيب فيجب عليها إزالة النجاسة مما يبدو منها عند القعود وإزالته بالحجر لا تمكن وفي هذا التقرير كلام مهم ستعرفه في آخر الباب. ولقائل أن يقول: سلمنا أن الثيب لا يمكنها إزالة جميع ما يجب عليها بالحجر لكن إزالة البعض به ممكنه فينبغي تخريجه على الخلاف فيما إذا قدر على إزالة بعض النجاسة، والأصح كما قاله في باب التيمم من "الروضة" و"التحقيق" و"شرح المهذب" وجوبه ولو قيل بصحته للبكر فاقدة للماء ¬

_ (¬1) في ب: عنه.

وواجدة له لكان متجهًا، وتكون فائدته أنها لو نزلت في ماءٍ قليل أو حملها مصل لكانت كالمستجمر في جريان الخلاف. قوله: وإن أوجب الطهارة الصغرى فإن لم يكن ملوثًا كدود وحصاة فقولان نص عليهما في "الجامع الكبير" وجعلهما الغزالي وغيره وجهين انتهى. وما ذكره هنا من كون الخلاف قولين قد خالفه [في "المحرر" فجزم بأنه وجهان، والصواب هو المذكور هنا ولهذا خالفه] (¬1) في "المنهاج" فإنه عبر بالأظهر وحكم البعرة الجافة كحكم الحصاة والدودة كذا نقله من زوائده عن "الشامل" وغيره. قوله: وإذا كان ملوثًا فينظر إن كان نادرًا كالدم والقيح ففيه قولان أصحهما يجوز فيه الاقتصاد على الحجر وبه قطع بعضهم. انتهى ملخصًا. تابعه أيضًا النووي على تصحيحه في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما وخالف في "شرح مسلم" فقال في باب المذي ما نصه: أصح القولين في مذهبنا أنه يتعين الماء. هذه عبارته. وذكر النووي في "التحقيق" و"شرح المهذب" أن دم الاستحاضة [من النادر فإن فيه القولان والذي قاله مشكل فإن الاستحاضة] (¬2) وإن كانت نادرة لكنها دائمة، والقاعدة أن النادر والدائم كالغالب، ولهذا أسقطوا القضاء عن المستحاضة وعللوه بذلك. وإن انتشر الغائط أكثر من المعتاد بأن تعدى المخرج وما حواليه نظر إن لم يجاوز الأليتين فيجزئ الحجر في الأظهر، وقطع بعضهم به وبعضهم بأنه لا يجزئ انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

تابعه في "الروضة" على إطلاق المسألة قال في "الكفاية": ومحله فيما إذا كان المجاوز متصلًا فإن تقطع تعين الماء في المنقطع وإن كان في باطن الأليتين ونقله في "شرح المهذب" عن حكاية الإمام عن الصيدلاني وارتضاه. قوله: وإن جاوزهما تعين الماء لأنه نادر بمرة وقيل: ما لم يجاوز على الخلاف. انتهى. تابعه أيضًا في "الروضة" على إطلاق المسألة ومحلها إذا كان المجاوز متصلًا فإن تقطع أعطينا كل واحد حكمه قاله في "الكفاية" وفي "شرح المهذب" ونقله الروياني عن الأصحاب والقاضي الحسين في "شرح التلخيص" في الكلام على إزالة النجاسة عن النص، وحينئذ فيستنجي بالحجر فيما لم يجاوز بل مقتضى النص جواز الحجر مع الاتصال أيضًا وفي "الحاوي" وجه أنه يجب غسل الجميع. واعلم أن التعبير بالأليتين غير مستقيم، بل الصواب التعبير: بالصفحتين لأن الأليتين هو ما ينطبق عند القيام ولهما ظاهر وهو ما يبدو عند القيام وباطن أي ينطبق وهو المسمى: بالصفحة. والحكم دائر معها، ولهذا عبر بها في "المحرر" و"المنهاج". وقول الرافعي بمرة الباء بمعنى في. أي: وقع في مرة واحدة هذا أصله، ثم توسعوا فأطلقوه على النادر جدًا سواء وقع مرةً واحدة أم أكثر، وهذا هو معنى قولهم أيضًا نادر في كرة. قوله: والبول كالغائط والحشفة كالأليتين، وقال أبو إسحاق المروزي: إذا جاوز البول الثقب تعين [الماء] (¬1) قطعًا انتهى. والذي قاله الرافعي قد تبعه عليه في "الروضة" وهو غير مطرد، فإنه ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

إنما يأتي في الرجل السليم الذكر، فأما المرأة ومن قطع ذكره من أصله فلا ينطبق عليهما ما قاله ولم يتحريا في ضابط الانتشار المانع من الحجر فيهما، وأما مقطوع الحشفة فيتجه فيه الجزم، فإن مقدارها يقوم مقامها ولا يتخرج على الخلاف في أن الغسل والحر ونحوها هل تتعلق بمقدارها أم بمجموع ما بقى؟ . قوله في "أصل الروضة": وحيث اقتصر على الحجر فشرطه ألا تنتقل النجاسة وألا يجف ما على المخرج. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد أهمل شرطًا ثالثًا وهو ألا يطرأ على المحل نجاسة أجنبية حتى لو عاد إليه من الأَرض رشاش نجس تعين الماء، وهذا الشرط ذكره الرافعي في كتبه كلها حتى في "المحرر" ولم يذكره النووي في الأصل بل ذكره من زياداته في آخر الباب وكأنه والله أعلم انتقل نظره حالة اختصار الرافعي من هذه الشرط إلى اشتراط عدم الجفاف فإن كلًا منهما في أوله ويشترط. الأمر الثاني: أن ما ذكراه من اشتراط عدم النقل قيده في "النهاية" بتقييد لابد منه فقال: وسر هذا الفصل يتضح بأمر وهو أن المقتصر على الأحجار لو كلف ألا ينقل النجاسة في محاولة رفعها أصلًا لكان ذلك تكليف أمر يتعذر الوفاء به وذلك لا يليق بالفرائض التي لسبب مرخص، فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف، فالقدر الذي يعسر مع رعاية الاحتياط المصون منه في النقل يجب أن يعفي عنه وهو بمثابة إلقاء الجيرة [على محل الخلع فإنه لابد من أخذ أطراف من المواضع الصحيحة حتى تستمسك الجبيرة فإذًا ما ذكره] (¬1) الأصحاب من النقل ومنعه عنوا به ما لا ضرورة إليه. وهذا الذي ذكرته لم أره منصوصًا عليه ولكن لابد منه، هذا لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وأما قول الغزالي في "الوجيز": وقيل: المذي نادر فيقتضي إثبات خلاف، ولكلامه في "الوسيط" إشعار به أيضًا لكن الذي تشتمل عليه كتب الأصحاب قديمها وحديثها عدّه من النجاسات النادرة من غير تعرض للخلاف فيه. انتهى كلامه. وما ذكره عجيب جدًا فقد جزم المحاملي في "المقنع" بأنه معتاد فقال في نواقض الوضوء ما نصه: سواء كان معتادًا كالبول والغائط والمذي والريح أو نادرًا كسلس البول هذه عبارته. وذكر مثله في "المجموع" أيضًا في الباب المذكور وزاد أيضًا الودي. وكذلك العمراني في "البيان" فقال: فأما المعتاد فهو كالغائط والبول والريح، والمصوب: [والمذي والودي هذه عبارته. وقد اغتر النووي بما قاله له الرافعي فجزم في "الروضة" وغيرها بكونه نادرًا] (¬1) وجزم في "شرح المهذب" بأن الودي نادر على خلاف ما في "البيان" والذي أوقع الرافعي فيما تقدم هو العجلي شارح "الوجيز" فإنه قال: وقوله في "الوجيز": وقيل: المذي نادر، ليس هذا إشارة إلى وجهين بل المنقول في الكتب أنه نادر. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفصل الثالث: فيما يستنجى به

الفصل الثالث: فيما يستنجى به قوله: كالمقابس والحممة والغضا انتهى. المقابس جمع مقباس بكسر الميم وبالباء الموحدة، قال الجوهري: القبس شعلة من نار وكذلك المقباس، قال والحممة: الفحم والرماد وكل ما احترق من النار الواحدة حممة، والغضا: بغين وضاد معجمتين شجر له شوك. [قوله] (¬1) ولا يجوز الاستنجاء بما كتب عليه علم كحديث وفقه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يوهم الجواز في الجلد، وقد سكت الجمهور عنه ولا شك في المنع؛ لأنه امتهان للكتب؛ وأما الجلد بعد انفصاله عن الكتاب فقد رأيت في عقود المختصر للغزالي ما حاصله المنع في جلد المصحف [فإنه قال: ويجوز بكل مدبوغ إلا ما كان على المصحف ثم أخذ منه] (¬2) فإن استنجى متعمدًا فقد أعظم ويجب عليه الزجر ويستغفر الله هذه عبارته. الأمر الثاني: أنه لابد من تقييد العلم بالمحترم سواء كان شرعيًا كما سبق أو لم يكن كالحساب والطب والنحو والعروض ونحوها؛ لأنها تنفع في العلوم الشرعية وإن كان أهل هذه العلوم غير داخلين في الوصية للعلماء على ما أوضحوه هناك، فأما غير المحترم كالمنطق والفلسفة ونحوهما فلا أثر له. قوله: وفي جزء الحيوان المتصل به كاليد والعقب وذنب الحمار ونحوه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وجوه: الصحيح: أنه لا يجوز. والثاني: يجوز بيد نفسه لا بيد غيره. والثالث: عكسه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى إطلاقه أنه لا فرق بين ما يجوز قتله كالفأرة وبين غيرها وهو كذلك فقد رأيته مصرحًا به في "العمد" للفوراني. الأمر الثاني: أن ما ذكره من تقييد الجزء بالمتصل يقتضي الجواز بالمنفصل الطاهر كيد الآدمي، وفيه نظر، والقياس: المنع. قوله في "أصل الروضة": كما يجوز الاستنجاء بالديباج قطعًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه ليس كما قال من دعوى عدم الخلاف ففيه وجه أنه لا يجوز الاستنجاء به حكاه الماوردي في "الحاوي" ولم يتعرض الرافعي لنفي الخلاف. الثاني: أنه ينبغي التفصيل فيه بين الرجال والنساء. قوله أيضًا في "الروضة": وفي الجلد الطاهر أقوال: أظهرها إن كان مدبوغًا جاز الاستنجاء وإلا فلا. انتهى. أسقط النووي هنا طريقتين ذكرهما الرافعي. إحداهما: الجواز في المدبوغ قطعًا. والثانية: وقد صار إليها كثيرون كما قاله الرافعي المنع في غيره قطعًا.

الفصل الرابع: في كيفية الاستنجاء

الفصل الرابع: في كيفية الاستنجاء قوله: والمسألة الثانية في كيفية الاستنجاء وجهان. أظهرهما: وبه قال ابن أبي هريرة: أنه يمسح بكل حجر جميع المحل بأن يضع واحدًا على مقدم الصفحة اليمين فيمسحها به إلى مؤخرها ويريده إلى الصفحة اليسرى فيمسحها به من مؤخرها إلى مقدمها فيرجع إلى الموضع الذي بدأ منه ويضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى ويفعل به مثل ذلك ويمر الثالث على الصفحتين والمسربة [إلى مؤخرها ويديره إلى الصفحة اليسرى فيمسحها به من مؤخرها إلى مقدمها فيرجع به ووجهه ما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وليستنج بثلاثة أحجار يقبل بواحد ويدبر بواحد ويحلّق بالثالث" (¬1). والثاني قاله أبو إسحاق: إن حجرًا للصفحة اليمنى وحجرًا للصفحة اليسرى وحجرًا للوسط. وحكى في التهذيب وجهًا ثالثًا وهو أنه يأخذ واحدًا يضعه على مقدم المسرية ويديره إلى مؤخرها ويضع الثاني على مؤخرها ويديره إلى مقدمها ويحلق بالثالث وكأنه أراد بالمسربة جميع الموضع، وعلى هذا الوجه يمسح بالحجر الأول والثاني جميع الموضع كأنه صفحة واحدة ويطبق الحجر الثالث على المنفذ، وبهذا فارق الوجه الأول فإنه على ذلك الوجه يطبق الحجرين الأولين ويمسح بالثالث جميع الموضع وهذا الخلاف [في الإيجاب على ما ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح المهذب: هذا غلط -أي قول الرافعي: هذا ثابت- والرافعي تبع الغزالي في الوسيط والغزالي تبع الإمام في النهاية والإمام قال: إن الصيدلاني ذكره وقد بيض له الحازمي والمنذري في تخريج أحاديث المهذب. وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: لا يعرف ولا يثبت في كتاب حديث. وقال النووي في الخلاصة: لا يعرف، وقال فى شرح المهذب: هو حديث منكر لا أصل له.

نقل عن الشيخ أبي محمد. وقال المعظم الخلاف في] (¬1) الأولوية لثبوت الروايتين جميعًا زاد في الروضة على هذا فقال: قلت: وقيل: يجوز العدول من الكيفية الثانية إلى الأولى دون عكسه -والله أعلم- انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره الرافعي في الوجه الأول أن الإدارة فيه تكون عند ابتداء الصفحة اليسرى لم يتعرض له في "الروضة" بل أوهم كلامه غير المراد فإنه عبر بقوله أصحهما يمسح بكل حجر جميع المحل فيضعه على مقدم الصفحة اليمنى ويديره على الصفحتين إلى أن يصل موضع ابتدائه، هذه عبارته. إلا أن ما ذكره بعد ذلك في الكلام على الإدارة ظاهره مخالف المذكور هنا. الأمر الثاني: أنه لم يبين تفصيل الكيفية على قول أبي إسحاق، وقد اختلفوا في ذلك فقال الماوردي: وقال أبو إسحاق: إنه يمسح بالحجر الأول الصفحة اليمنى من مقدمها إلى مؤخرها ويمسح بالحجر الثاني الصفحة اليسرى من مؤخرها إلى مقدمها، ثم يمسح بالثالث جميع المحل وهو المسربة وقال البغوي في التهذيب قال أبو إسحاق: يأخذ حجرًا يضعه على مقدم صفحته [اليمنى ويدير إلى مؤخرها ثم يأخذ الثاني فيضعه على مقدم صفحته] (¬2) اليسرى ويدير إلى مؤخرها انتهى وهذا بالنسبة إلى الحجر الثاني عكس ما نقله عنه الماوردي. واعلم أن ما نقله عنه الماوردي أيضًا من أن الحجر الثالث يكون لجميع المحل قد صرح به أيضًا في التتمة فقال: وقال أبو إسحاق: يستعمل حجرًا في الصفحة اليمنى وحجرًا في الصفحة اليسرى وحجرًا يمسح به الجميع، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

هذا لفظه. وذلك يخالف ما نقله عنه الرافعي من تخصيص الثالث بالوسط. الأمر الثالث: أن ما ذكره من ثبوت الحديثين غريب، فإن الحديث الأول ليس بثابت ولا يعرف في كتب الحديث، كذا قاله ابن الصلاح في مشكل الوسيط وتابعه عليه المصنف في "شرح المهذب" وغيره. وأما الثاني فرواه الدارقطني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي وقالا: إسناده حسن ولفظه: أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجران للصفحتين وحجر للمسربة. الأمر الرابع: في ضبط المسربة، اعلم أن المعروف في اللغة أن المسربة لا تطلق على مجرى الغائط وإنما تطلق على الشعر المستدق المستطيل من الصدر إلى السرة، ويقال حينئذ بفتح الراء وضمها حتى أن الجوهري في "الصحاح" وابن سيده في "المحكم" والقزاز في "جامعه" وأمثالهم في التصانيف الكبار المعتمد عليها لم يطلقوا المسربة على مجرى الغائط بالكلية. نعم: ذكر الصغاني في "العباب" أن المسربة بالفتح مجرى الغائط وبالوجهين الشعر المذكور وذكر ابن الأثير في النهاية أن الشعر المشار إليه يقال فيه مسرُبة بالضم وأن مجرى الغائط يقال بالفتح والضم قال: كأنه من السرب وهو المسلك وما ذكره مخالف لكلامهم من وجهين ظاهرين، وقد اغتر النووي بهذا فجزم في "لغات التنبيه" بأن مجرى الغائط يجوز فتحها وكسرها ثم خالف ذلك في "شرح المهذب" على وجه عجيب فقال: والمسربة مجري الغائط وهو بضم الراء، وقيل: يجوز فتحها هذا لفظه. الأمر الخامس: أن هذا الذي حكاه في "الروضة" من زوائده، واقتضى كلامه أنه وجه ثالث نقله ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" عن الغزالي بحثًا وكذلك نقله هو في "شرح المهذب" فقال: وقال الغزالي في درسه ينبغي

أن يقال من قال بالأول لا يجيز الثاني، ومن قال بالثاني يجيز الأول هذه عبارته. قوله: ينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بقرب النجاسة لأنه لو وضعه عليه لأبقى شيئًا منها ونشرها وحينئذ يتعين الماء ثم إذا انتهى إلى النجاسة أراد الحجر قليلًا قليلًا حتى يرفع كل جزء منه جزءًا من النجاسة، فلو أمره من غير إدارة ونقل النجاسة من موضع إلى موضع تعين الماء، وإن لم ينقل فقيل: لا يجزئه لأن الجزء الباقي من المحل يلقى ما تنجس من الحجر، والاستنجاء بالنجس لا يجوز والأظهر الجواز؛ لأنه تضييق لباب الرخصة. انتهى. وما ذكره من أنه يشترط الوضع على موضع طاهر وأنه يضر النقل الحاصل من عدم الإدارة قد تابعه في "الروضة" عليهما ثم خالفهما في "شرح المهذب" فقال بعد نقل هذه الكيفية ما نصه هكذا ذكره إمام الحرمين والغزالي والرافعي وغيرهم، ولم يشترط العراقيون شيئًا من ذلك وهو الصحيح، فإن اشتراط ذلك تضييق للرخصة غير ممكن إلا في نادرٍ من الناس مع عسر شديد، وليس لهذا الاشتراط أصل في السنة هذا كلامه. وما أطلقه في "شرح المهذب" عن الإمام ليس كذلك، فقد قال في "النهاية": والمقتصر على الأحجار لو كلف ألا ينقل النجاسة في محاولة رفعها لكان ذلك تكليف أمر يتعذر الوفاء به فيجب العفو عن القدر الذي تعسر الاحتراز منه مع رعاية الاحتياط، وهذا لم أره منصوصًا ولكن لابد منه، هذا كلامه. قوله: لأن مس الذكر باليمين مكروه. انتهى. لم يتعرض في "الروضة" للكراهة بل اقتصر على استحباب مسكه باليسار.

قوله: الخامسة الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر أو ما في معناه فقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بذلك وأنزل فيه قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬1) الآية، وفيه من طريق المعنى أن العين تزول بالحجر والأثر بالماء فلا يحتاج إلى مخامرة عين النجاسة وهي محمومة. انتهى كلامه. فيه أمور: الأول: أن فحوى كلامهم تصويرًا وتعليلًا يدل على أن استحباب الجمع يختص بالغائط، وقد رأيته مجزومًا به في "كتاب محاسن الشريعة" للقفال الكبير الشاشي وهو ظاهر فتأمله، لكن رأيت في "التقريب" لسليم الرازي التصريح بأنه لا فرق، ورأيت في "عقود المختصر" للغزالي نحوه أيضًا. الأمر الثاني: أن المعنى وسياق كلامهم يدلان على الاكتفاء في هذا الاستحباب بما دون ثلاثة أحجار إذا حصلت إزالة العين. الثالث: إذا لم نجوز الحجر في المجاوز والنادر ففي كلام "المهذب" وشرحه إشارة إلى أنه لا يستحب الجمع والمتجه الاستحباب. ويلزم القول به أيضًا في سائر النجاسات نظرًا للمعنى السابق. الرابع: أن التعليل بقلة مخامرة النجاسة يقتضي أنه لا تشترط الطهارة في هذا الحجر خصوصًا عند فقدان الطاهر، وقد رأيت التصريح بعدم اشتراطه مطلقًا في كتاب "الإعجاز" للجيلي نقلًا عن الغزالي في بعض كتبه. الخامس: أن هذا الحديث الذي ذكره الرافعي قد رواه البزار في مسنده من رواية ابن عباس لكن بإسناد ضعيف (¬2) ولفظه: "فسألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) سورة التوبة (108). (¬2) قال الهيثمي: فيه محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري، ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما وهو الذي أشار بجلد مالك.

عن ذلك فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء"، وأنكر النووي في "شرح المهذب" هذه الرواية فقال: هكذا رواه الفقهاء في كتبهم وليس له أصل في كتب الحديث، بل المذكور فيها أنهم قالوا: كنا نستنجي بالماء (¬1). وليس فيها مع الحجر، كذا رواه جماعة منهم الإمام أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه. هذا كلامه. قوله في "الروضة": وأما الرجل فمخير في فرجيه بين الماء والحجر وكذا المرأة البكر، وبهذا الثيب، فإن مخرج بولها فوق مدخل الذكر والغالب أنها إذا بالت نزل البول إلى مدخل الذكر، فإن تحققت ذلك تعين الماء وإلا جاز الحجر على الصحيح. انتهى كلامه. والإتيان بلفظ كذا في الثيب فاسد، وصوابه أن يقول: وأما الثيب بلفظ أما فإن التعليل الذي بعده لا يلائمه أصلًا، وكلام الرافعي -رحمه الله- مستقيم فإنه عبر بأما كما ذكرته، والعلة في تعيين الماء عند التحقق هو الانتشار وعلله في "الكفاية" بعد هذا بقليل بكون الحجر لا يأتي على ذلك. قوله -عقب ذلك-: ثم القدر المغسول من الرجل ظاهر ومن المرأة ما يظهر إذا جلست على القدمين، وفي وجه تغسل الثيب باطن فرجها كما تخلل أصابع رجليها؛ لأنه صار ظاهرًا بالثيابة. انتهى كلامه. ولقائل أن يقول هذه المسألة المختلف فيها إن كانت مع تحقق إيصال الماء فكيف يسوي بين البكر والثيب في الاقتصار على غسل ما يظهر عند الجلوس؟ وأيضًا فكيف يجب الماء مع أن الحجر يأتي على هذا المقدار ولهذا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (355)، والحاكم (3277) والبيهقي في "الشعب" (2747) والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 18) والدارقطني في "العلل" (1604) من حديث أنس وصححه الألباني.

قال في "شرح المهذب": قال الشافعي والأصحاب: ويلزم الثيب أن توصل الحجر إلى الموضع الذي يجب إيصال الماء إليه في غسل الجنابة وهو ما يظهر عند جلوسها على قدميها هذا كلامه وإن لم يكن مع تحقق إيصال الماء فالواجب غسل المنفد فينبغي أن يتأمل وقد أبرزنا ما في غضونه من الإشكال فإن لاح للناظر أمر فهو مستند لما ذكرته. ولعلنا نزداد فيه علمًا. قوله من زياداته: فإن قدم الوضوء أو التيمم على الاستنجاء صح الوضوء دون التيمم في أظهر الأقوال. والثاني: يصحان. والثالث: لا يصحان. انتهى كلامه. والفرق بينهما كما قاله الأصحاب ومنهم الشيخ في "المهذب": إن الوضوء يرفع الحدث وارتفاعه يحصل مع قيام المانع، وأما التيمم فلا يرفع الحدث ولكن يبيح الصلاة ولا استباحة مع قيام المانع، وإذا كان هذا هو المدرك لزم استثناء وضوء دائم الحدث، وألا يصح فعله قبل الاستنجاء لكونه لا يرفع الحدث على المذهب، كما نقله في "الروضة" من زياداته قبيل باب المستحاضات.

الباب السابع: فى الأحداث

الباب السابع: فى الأحداث وفيه فصلان: الفصل الأول: في أسبابها قوله: نواقض [الوضوء] (¬1) عندنا أربعة. اعلم أنه يرد عليه أمران نبه عليهما المحاملي في "اللباب". أحدهما: شقاء دائم الحدث كالمستحاضة وسلس البول. والثاني: انقضاء مدة المسح ونحوه لنزع الخف، قال في "شرح المهذب": ولعل الأصحاب إنما تركوهما هنا لذكرهم لهما في بابهما. قوله: أحدها: خروج الخارج من أحد السبيلين. اعلم أن فرج المرأة مشتمل على سبيلين سبيل للبول وسبيل للحيض وهو مدخل الذكر، والوضوء ينتقض بالخارج من الثاني كما ينتقض بالأول، وقد ذكر الرافعي ذلك في مواضع منها في هذا الباب عقب هذا الموضع بصفحة فقال: أما المشكل فإن خرج الخارج من فرجيه جميعًا فهو محدث؛ لأن أحدهما أصلى هذا كلامه، ومنها في باب الغسل قبيل الطرف الثاني فقال: ولو أولج رجل في فرج مشكل، والمشكل في فرج امرأة فالمشكل جنب؛ لأنه جامع أو جومع والرجل والمرأة لا يجنبان لكن ينتقض وضوء المرأة بالنزع هذا لفظه. إذا علمت ذلك كله علمت أن تعبيره بقوله أحد السبيلين مستقيم في الرجل أما في المرأة فلا. قوله: وقد يفرض خروج الريح من الإحليل أيضًا لأدرة فينتقض الوضوء به. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والإحليل كما قاله في الصحاح مخرج البول ومخرج اللبن من الضرع والثدي هذه عبارته وهو موافق للمراد هنا، وعبر النووي في "شرح المهذب" بقوله: مجرى البول أعنى بالجيم، وقال في "لغات الروضة": إنه رأس الذكر والأُدرة بضم الهمزة وسكون الدال وفتح المهملتين هو نفخة في الخصية تقول منه رجل آدر على وزن آخر قاله الجوهري. فإن قيل: إذا كان خروج الريح من القبل ناقضًا فلم فرقتم في النوم بين أن يكون قاعدًا أم لا؟ والجواب ما قاله النووي في "التنبيه" وغيره أن خروج الريح من القبل نادر فلم يرفع به الأصل بخلاف الدبر. قوله: وأما قول الغزالي في الكتاب: وينتقض بالخارج طاهرًا كان أو نجسًا. فقد يتوهم منه أن المراد بالطاهر المني وليس كذلك، بل المراد به الدود والخصي وسائر ما هو طاهر العين، وأما المني فلا يوجب خروجه الحدث، وإنما يوجب الجنابة ولا تغتر بتعميم الأئمة القول بأن الخارج من السبيلين ناقض [للطهارة فإن هذا ظاهر. يعارضه قولهم: إن من أنزل بمجرد النظر أو بالاحتلام قاعدًا] (¬1) يكون جنبًا غير محدث. وحكى في "البيان" عن القاضي أبي الطيب أن خروج المني يوجب الحدثين: الأصغر لأنه خارج، والأكبر لأنه مني والمذهب المشهور هو الأول، والشئ منهما أوجب أعظم الأمرين بخصوصه لا يوجب أدونهما بعمومه كزنا المحصن لمّا أوجب أعظم الحدين؛ لأنه زنا المحصن لا يوجب أدناهم لأنه زنا. انتهى كلامه. وما ذكره من صرف كلام الغزالي عن المني إلى ما ذكره دال على توهمه عدم الخلاف وهو عجيب وذهول عن كلام الأصحاب خصوصًا الإمام، فقد نص -أعني الإمام- على أن المني المجرد ناقض للوضوء، فإنه صور الجنابة المجردة بما إذا أولج في بهيمة أو دبر رجل أو لف على ذكره خرقة وأولج في ¬

_ (¬1) سقط من أ.

امرأة ثم قال ما نصه: فإن قيل: إذا أنزل المني فهلا عد هذا مما يقتضي الجنابة المحضة؟ قلنا: المني لا يتصور خروجه وحده بل يخرج معه رطوبة يتعلق بخروجها وجوب الوضوء هذه عبارته، ذكر ذلك في آخر باب ما يوجب الغسل، وتابع الغزالي فيه إمامه على عادته، ثم إن الإمام عقب ذلك حكى الخلاف في أن من أحدث وأجنب يكفيه الغسل أم لابد من الوضوء معه؟ ثم قال: والذي أراه أن الذي لا يدرج الوضوء تحت الغسل، إنما يقول ذلك إذا تميز الحدث عن الجنابة فأما إذا كان انتقاض الوضوء يتقدم كالمس المتصل بالوقاع فالأظهر الاندراج انتهى. ويلزم من إندراج الوضوء في هذه الصورة التي ذكرها الإمام أن يندرج أيضًا في المقارن وهو خروج المني بطريق الأولى. فتخلص مما قاله الإمام أن الوضوء لا يجب في خروج المني جزمًا مع القول بأنه ناقض، وذكر مثله القاضي أبو الطيب فإنه صرح في "شرح الفروع" بكونه ناقضًا مع أنه في تعليقه في مسألة من وجب عليه وضوء وغسل قد صور الجنابة المجردة بإنزال المني كما سبق وصرح أيضًا بكون المني ناقضًا ابن سريج في كتاب الودائع وإطلاق الشافعي في "الأم" يقتضيه فإنه قال: ودلت السنة على أن الوضوء من المذي والبول مع دلالتها على الوضوء من خروج الريح فلم يجز إلا أن يكون جميع ما خرج من ذكر أو دبر رجل أو امرأة أو قبل المرأة موجبًا للوضوء ثم قال: وكل ما خرج من واحد من الفروج ففيه الوضوء انتهى. وجزم الماوردي بأن الحيض ناقض للوضوء ونقل الإجماع عليه مع أنه ناقض للطهارة الكبرى كالمني. ونقل ابن عطية في "تفسيره" الإجماع على أن المني ناقض للوضوء، واستدلال الرافعي على عدم النقض بأن الشئ مهما أوجب إلى آخره قد تعقبه الماوردي بالحيض واستشهاده بالزنا غير

مستقيم، فإن مطلق الزنا لا يوجب شيئًا، بل إن كان زنا بكر أوجب الجلد، وإن كان زنا ثيب أوجب الرجم، فأهون الحدين وجب لكونه زنا بكر، وعموم الزنا مشترك بين ما يوجب الأهون والأعظم، وقد وافق ابن الرفعة على النقض بالمني. وذكر أن المراد بما استند إليه الرافعي من تصوير الجنابة المجردة ويزعم لأجله أن المشهور عدم النقض إنما هو تصوير جنابة لا يجب معها فعل الوضوء بل الغسل كاف بلا نزاع قال: ونحن نقول في الذي استشهد به لذلك: لا لأنه لم يوجد نقض الطهارة الصغرى؛ بل لأنه قد وجد في حال واحد ما يقتضي إيجاب فعلين في محل واحد في آن واحد، وذلك لا يمكن فلا يخاطب به ولا سبيل إلى إسقاطهما فتعين الإتيان بأعمهما وإدراج الآخر فيه. قال: وبهذا فارق ما إذا تقدم الحدث الأصغر على الأكبر أو تأخر حيث أوجبنا الوضوء والغسل على رأى لأنه حال وجود حائل سبب وجوب أحدهما أو شرطه لم يوجد سبب وجوب الآخر أو وشرطه، هذا كلامه إلا أنه وقع له في أثناء الكلام على المسألة أغلاط نبهت عليها في "كتاب الهداية". قوله في "أصل الروضة": فرع: إذا انسد السبيل المعتاد وانفتحت ثقبة تحت المعدة وخرج منها المعتاد وهو البول والغائط نقض قطعًا. انتهى. وليس كما قال من دعوى عدم الخلاف فقد حكى الرافعي في "الشرح الصغير" عن ابن عبدان طرد القولين فيه، وحكاهما الماوردي في "الحاوى" عن ابن أبي هريرة أيضًا. وقد حكى النووي أيضًا هذا الخلاف في "التحقيق" و"شرح المهذب" ولم يتعرض الرافعي لدعوى عدم الخلاف، وإنما زاده النووي في "الروضة" وزاد فيها دعوى ذلك في عدم النقض في عكسه، وهو ما إذا انفتح فوق المعدة مع انفتاح الأصلي ثم اعترض عليه بأن فيه خلافًا وهو عجيب.

قوله: ولو انفتحت فوق المعدة وقد انسد السبيل المعتاد أو تحت المعدة والمعتاد منفتح فهل تنتقض الطهارة في الصورتين؟ فيه قولان: أصحهما: لا. أما في الصورة الأولي فلأن ما يخرج من فوق العدة أو من حيث يحاذيها لا يكون مما أحالته الطبيعة؛ لأن ما تحيله تلقيه إلى أسفل. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من إطلاق الخلاف قد تبعه عليه في الروضة ومحله كما قاله الماوردي في الانسداد العارض، فإن كان أصليًا فينتقض بالخارج من [المنفتح بلا خلاف. سواء كان فوق المعدة أم تحتها. وسواء ندر الخارج] (¬1). أم لا. قال: وحكم الأصلي والحالة هذه أنه لا وضوء من مسه ولا غسل من الإيلاج فيه. قال النووي في "شرح المهذب": ولم أر في كلام الأصحاب تصريحًا بموافقته ولا مخالفته انتهى. وإذا لم يصرح الأصحاب بخلاف ما قاله وجب الرجوع إليه؛ لأنه ثقة وقد نقل. الأمر الثاني: أن هذا التعليل يعلم منه مسألة مهمة نفيسة قل من تعرض لها وهي أن حكم المعدة حكم ما فوقها، وقد حذف النووي من "الروضة" ذلك ثم حاول ذكر المسألة من زوائده فعبر بقوله: ومرادهم بتحت المعدة ما تحت السرة وبفوقها السرة ومحاذاتها وما فوقها والله أعلم هذا كلامه، وهو تعبير عجيب كالمتدافع؛ لأنه يوهم أن المعدة لا حقيقة لها وأن المعدة من جملة ما فوق المعدة فلنذكر كلامًا يعرف منه مراده فنقول: المعدة من المكان المنخسف تحت الصدر إلى السرة وهذا التفسير صحيح مشهور لا شك فيه، وقد ذكره الأطباء والفقهاء واللغويون وذكره شراح "التنبيه" كابن يونس وابن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الرفعة فقال: والمعدة الموضع الذي يستقر فيه الطعام أشار إليه في المجمل وهي بفتح الميم وكسر العين، ويجوز إسكان العين مع فتح الميم وكسرها، ومحلها ما بين فوق السرة إلى المنخفض تحت الصدر الذي يخرج منه النفس هذا كلامه. وهو واضح، وأما تعبير النووي فعجيب ولو قال: حكم المعدة حكم ما فوقها لاستقام. قوله: وهل يجوز الاقتصار في الخارج من المنفتح على الأحجار؟ قال الإمام: فيه ثلاثة أقوال، والغزالي فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: لا وهما مسبوقان بهذا الاختلاف. انتهى ملخصًا. لم يصح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا أعني في أنها أوجه أو أقوال. وقد اختلف فيه كلام النووي فجزم في "شرح المهذب" بأنها أوجه وصحح في أصل "الروضة" أنها أقوال فزاد ونقض. قوله في [أصل] (¬1) "الروضة" وإذا انفتح له مخرج ونقضنا الوضوء بالخارج منه فلا يجب الغسل بالإيلاج فيه على الأصح، ثم قال: ولا يثبت للإيلاج فيه شئ من أحكام الوطء سوى الغسل على وجه وقيل يثبت المن وسائر أحكام الوطء. انتهى. لم يصحح الرافعي شيئًا من هذا الخلاف الأخير، وإنما حكى الأول عن الإمام والثاني عن الحناطى. قوله من "زوائده": لو أخرجت دودة رأسها من فرجه ثم رجعت ينقض على الأصح. انتهى. ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

واعلم أن النووي في "شرح المهذب" قد علل النقض بالخروج ومقابله بعدم الانفصال، وتعليل الثانى ذكره أيضًا الماوردي والروياني وغيرهما فاعلمه، [وإذا كان ذلك هو العلة علم منه أنه لا فرق بين أن يعود أم لا فاعلمه] (¬1)، وفائدته على ذلك الوجه في جواز مس المصحف ونحوه مما لا يتوقف على إزالة النجاسة، أما الصلاة ونحوها فممتنع لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. قوله: أيضًا من زوائده: ومن له ذكران ينتقض بكل منهما والله أعلم، وهذا الإطلاق غير صحيح فإنه قد بين في "شرح المهذب" مستنده في ذلك فقال: ومن له ذكران فخرج من أحدهما شئ انتقض وضوؤه، ذكره الماوردي هذا كلامه. والماوردي قيد ذلك بما إذا كان يبول منهما فقال: لو كان له ذكران يبول منهما غمس أحدهما انتقض وإيلاجه يوجب الغسل، ولو خرج من أحدهما بلل نقض ولو كان يبول من أحدهما فالحكم له والآخر زائد لا يتعلق به نقض انتهى. وهذا القيد متعين لابد منه. قوله: الناقض الثاني زوال العقل بالجنون أو الإغماء أو السكر الذي لا شعور معه، ثم قال: وحكى في "التتمة" وجهًا ضعيفًا أن السكر لا ينقض الوضوء. انتهى. ومحل هذا الوجه إنما هو في السكران المتعدي بسكره فإن صاحب "التتمة" علله بكونه يعامل معاملة الصاحي فيما عليه وماله، والذي يعامل بذلك إنما هو المتعدي وعجب من الرافعي حيث لم يقيد ذلك أو يعلله بالعلة المقتضية للتقييد وقيد الفوراني في "الإبانة" الخلاف بما إذا لم يغش عليه فإن ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

غشى عليه نقض، وذكر نحوه في "العمد". قوله: لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء فمن نام فليتوضأ" (¬1). انتهى. الوكاء بكسر الواو وهو الخيط الذي يربط به الشئ والسه بسين مهملة مفتوحة بعدها هاء أصله سَتَه وهو العجز، وقد يراد به حلقة الدبر، كذا قاله الجوهري وجعل منه هذا الحديث ثم قال: وروى وكاء الست بحذف الهاء وبالتاء. ومعنى الحديث أن اليقظة وكاء الدبر أي الحافظة لما فيه من الخروج، فإن الإنسان يحس بما يخرج منه ما دام مستيقظًا فإذا نام زال الضبط، والحديث المذكور حسن رواه أبو داود وابن ماجه ولفظهما "العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ". قوله من زياداته: ولو شك في النوم أو في أن التمايل بعد النوم ممكنًا هل كان بعد الاستيقاظ أم قبله لا ينتقض وضوؤه. انتهى. وهاتان المسألتان قد ذكرهما الرافعي بعد هذا في الكلام على الشك في الحدث. قوله: في "أصل الروضة": فإن لمس شعرًا أو سنًا أو ظفرًا أو عضوًا مبانًا من امرأة أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة لم ينتقض وضوؤه على الأصح. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (203)، وابن ماجه (477)، وأحمد (887)، والدارقطني (1/ 161)، والبيهقي في "الكبرى" (757)، وابن الجوزي في "التحقيق" (164)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 88)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 329) من حديث علىّ - رضي الله عنه -، وحسنه الألباني -رحمه الله تعالى-.

واعلم أن ما قاله في الصغيرة من جزمه بطريقة الوجهين فمسلّم، وأما الباقي فقد خالفه في "شرح المهذب" فحكى فيه طريقتين. إحداهما: حكاية وجهين. والثانية: القطع بعدم النقض، ثم صحيح هذه الطريقة وهو مخالف لما في "الروضة" في إثبات الخلاف وفي قوته. قوله: ولو لمس ميتة انتقض على الصحيح. انتهى. تابعه في "الروضة" وفي أكثر كتبه كشرح "المهذب" و"التحقيق" على تصحيح الانتقاض حتى بالغ في "شرح المهذب" فقال: الصحيح المختار طريقة القطع به ثم خالف في "رؤوس المسائل" فصحح أنه لا ينتقض فقال: والأصح أن لمس المحارم والصغيرة التي لا تشتهي والميتة واليد المقطوعة لا ينقض هذا لفظه والفتوى على الأول فإن الأكثرين رجحوه. قوله في أصل "الروضة": [ومس الذكر المقطوع والأشل والمس باليد الشلاء وناسيًا ناقض على الصحيح. انتهى. لم يذكر الرافعي خلافًا في الذكر الأشل. قوله: في أصل "الروضة"] (¬1) ولنا وجه شاذ أن المرأة لا تزال ملموسة. انتهى. وهذه المقالة الضعيفة لم يحكها الرافعي في "الشرح الكبير" ولا في "الصغير" وجهًا بل إنما حكاها فيهما قولًا. قوله: لنا في النقض بمس الذكر حديث بسرة بنت صفوان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مس ذكره فليتوضأ" (¬2) وفي رواية: "من مس فرجه" انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه أبو داود (181)، والترمذي (82)، والنسائى (447)، وأحمد (27334) =

بُسرة بالباء الموحدة المضمومة والسين المهملة الساكنة واحده اليسر وهي جدة مروان بن الحكم والد عبد الملك أى أم أمه، وهذا الحديث قد صححه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان والدارقطني والحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين، وقال الترمذي في كتاب العلل: قال البخاري: إنه أصح شئ في الباب. قوله: وقال أحمد: تنتقض الطهارة سواء مس بظهر الكف أو ببطنها لنا أن الأخبار الواردة في الباب جرى في بعضها لفظ المس، وفي بعضها لفظ الإفضاء ومعلوم أن المراد منهما واحد والإفضاء في اللغة هو المس ببطن الكف. انتهى. وكأنه يشير بقوله أن المراد بهما واحد إلى أن الإفضاء مس مقيد فيحمل المطلق على المقيد وبه صرح غير الرافعي أيضًا وهو ممنوع، فإن المس عام هنا لوقوعه صلة للموصول الذي هو من صيغ العموم والفعل يعم بعموم فاعله فكأنه قال كل ماس يجب عليه الوضوء. والإفضاء فرد من أفراد العموم، وذلك لا بخصيص على المشهور عند الأصوليين. نعم: طريق الاستدلال أن يقال: مفهوم الشرط المستفاد من حديث الإفضاء يدل على أن غير الإفضاء لا ينتقض فيكون مخصصًا لعموم المس ¬

_ = و (27336)، وابن حبان (1116)، والحاكم (474)، والدارقطني (1/ 147)، والطيالسي (1657)، والطبراني في "الكبير" (24/ 194) حديث (488) وفي "الأوسط" (1457) من حديث بسرة بنت صفوان -رضي الله عنها-. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح.

المستفاد من الحديث الآخر وغاية ذلك أن يكون المفهوم مخصصًا لعموم المنطوق وهو جائز كما أوضحته في "شرح منهاج الأصول". قوله في "أصل الروضة": ولو كان له كفان عاملتان تنقض كل واحدة منهما، وإن كانت إحداهما عاملة نقضت دون الأخرى، وقيل في الزائدة خلاف مطلق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه أهمل قسمًا ثالثًا من كلام الرافعي وهو ما إذا كانتا معًا غير عاملتين وقد سوى الرافعي بينه وبين العاملتين في النقض. الأمر الثاني: أن ما صححه من عدم النقض بالزائدة التي لا تعمل، قد صحح عكسه في "التحقيق" فقال: وتنقض كف زائدة، ويقال: إن عملت هذا لفظه. وليس في "شرح المهذب" تصريح بموافقة أحد الموضعين، فإنه قال ما نصه: ثم الجمهور أطلقوا الانتقاض بالكف الزائدة، وفصل البغوي بين العاملة وغيرها انتهى. وهو كالمطلق بين المقيد بقيدين متنافيين ويؤيد ما قاله في "الروضة": إنه لو كان له ذكران أحدهما عامل فمس الآخر لم ينتقض الوضوء به على ما اقتضاه كلام "الروضة" في باب الغسل وصرح بتصحيحه في "شرح المهذب" و"التحقيق" وهو مشكل على ما تقدم نقله عن "التحقيق" من تصحيح الانتقاض بكف غير عامل، ويقوى ما في "الروضة" فليعمل به، وهذا إذا لم يكن الذكران على سنن واحد، فإن كانا كذلك فحكمهما حكم الأصبع الزائدة إذا كانت على سنن الباقي، فعلى هذا ينتقض أيضًا هكذا

رأيته في "العمد" للفورانى، ولم يذكر النووي ذلك، وهل يعرف عمل الذكر بالبول أو بالجماع؟ فيه وجهان في زيادات "الروضة" قبيل الصيال من غير ترجيح وقد تكلمنا قريبًا علي كلام من "زوائد الروضة" وذلك الكلام يؤخذ منه أنه يعرف بالبول، وكذلك تعرف أيضًا من الكلام الذي نقلناه الآن من باب الغسل، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: وحكم فرج المرأة في المس حكم الذكر لما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضؤون" قالت عائشة: بأبي أنت وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء قال: "إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ" (¬1). انتهى. وليس فيه ولا في "الروضة" بيان محل النقض من فرج المرأة وقد نبه عليه الإمام فقال: هو ملتقى الشفرين على المنفذ ونقله عنه أيضًا في "الكفاية" مقتصرًا عليه فاعلم ذلك فإنه أمر مهم، وليس المراد الناتئ جميعه طولًا وعرضًا على قياس فرج الرجل. والحديث المذكور ضعيف كما قاله البيهقي وغيره وقولها: بأبي أنت وأمي أي أفديك بأبي وأمي من كل مكروه. قوله: وقال في الجديد ينتقض بمس حلقة الدبر وهي ملتقي المنفذ ثم قال: ومن الأصحاب من جزم به ونفي الخلاف فيه. انتهى. أسقط النووي هذه الطريقة فلم يذكرها في "الروضة". قوله: وفي فرج البهيمة قولان حكى عن القديم أن مسه كمس فرج ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (1/ 147)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 53)، وابن الجوزي في "التحقيق" (179) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال الدارقطني: عبد الرحمن العمري ضعيف. وكذا ضعفه ابن حبان والحافظ ابن حجر.

الآدمي ثم قال: وهذا القول في القبل دون الدبر، فإن دبر الآدمي لا يلحق في القديم بالقبل فمن غيره أولى. انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن القول المحكي في النقض بفرج البهيمة قول جديد لا قديم فقد نقله الفوراني والداوودي شارح "المختصر" والقاضي الحسين في تعليقه وإمام الحرمين والغزالي في "البسيط"، وصاحب "العدة" عن رواية يونس ونقله الشيخ أبو حامد في "التعليق"، والبندنيجي في "الذخيرة"، والماوردي في "الحاوى" وسليم الرازي في "المجرد" و"التقريب"، والشيخ في "المهذب" والروياني في "البحر" عن رواية ابن عبد الحكم، ونقله عنهما معًا الدارمي في "الاستذكار" وكلاهما من أصحاب الشافعي في الجديد كما تقدم إيضاحه في أول الكتاب والذي أوقع الرافعي في هذا هو الغزالي [فإنه نقله في "الوسيط" عن القديم وكأنه توهم أن يونس من رواة القديم] (¬1)، ويدل على هذا التوهم عبارته في "البسيط" فإنه قال نصه: وأما فرج البهيمة فإنه بعيد جدًا فنص في الجديد على أنه لا ينتقض الطهر بمسه وحكى يونس ابن عبد الأعلى قولًا للشافعي أنه ناقض هذا لفظه وهو دليل لما قلناه. ورأيت في "شرح التلخيص" للقاضي حسين نحوه أيضًا. واعلم أن المراد هنا بابن عبد الحكم إنما هو أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري كذا صرح به الشيخ أبو حامد في "تعليقه" ونقله عنه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" وهي فائدة حسنة، وصرح بذلك لئلا يتوهم أنه ابنه محمد فإنه كان [ملازمًا للشافعي ومشهورًا بصحبته ومعدودًا في أصحابه وإن كان] (¬2) في آخر الأمر قد انتقل إلى مذهب أبيه لمعنى سبق ذكره في ترجمته. الأمر الثاني: أن هذا القول ليس خاصًا بالقبل كما زعمه الرافعي لأنه إنما ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب.

استنبطه على تقدير كون القول قديمًا وقد ثبت خلافه، وقد أشار النووي إلى هذا في "الروضة"، وكذلك في "شرح المهذب" ونقل فيه عن الدارمي أن حكم الطير كحكم البهيمة. [الأمر الثالث: أن الرافعي حكى طريقة قاطعة بأن مزج البهيمة] (¬1) لا ينتقض وأسقطها من "الروضة". قوله: روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مس زبيبة الحسن أو الحسين ولم يرو أنه توضأ انتهى. الزبيبة بضم الزاي وفتح الباء تصغير الزب وهو الذكر وألحقت الياء فيه كما ألحقت في عسيلة ودهينة، قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": وذكر في "الصحاح": لهذا اللفظ معانٍ: منها اللحية ولم يذكر منها الذكر بالكلية. قوله: وفي الذكر المبان وجهان أصحهما أنه كالمتصل لشمول الاسم له انتهى. ذكر مثله في "الروضة". وفيه أمران: أحدهما: أنه يوهم أن البعض المبان لا ينتقض لتقييده بالذكر؛ ولأنه قياس البعض المبان من المرأة فإنهم قالوا فيه: إنه لا ينتقض لكونه لا يصدق عليه اسم المرأة وهذا بعينه موجود في الذكر بخلاف ما إذا مس جزءا منه قبل القطع فإنه يصدق أن يقال: مس الذكر كما لو حلف لا يمس زيدًا، وهذا الذي أوهمه كلامه من عدم النقض قد جزم البغوي في "التهذيب" بخلافه، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" ولم يخالفه إلا أنه مشكل. الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي بالذكر وتعليله ببقاء الاسم يقتضيان أن فرج المرأة إذا قطع لا يكون ناقضًا [وهذا هو الظاهر لأن الموضع الناقض هو ملتقى الشفرين كما تقدم] (¬2) وتلك الجلدة لا تتميز غالبًا بحيث يطلق ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب.

عليها اسم الفرج. قوله في "الروضة": وأما الممسوس فرجه فلا ينتقض قطعًا. قلت: وفيه قولان كالملموس، والله أعلم. وما ذكره من عدم الخلاف لم يذكره الرافعي بل زاده من عنده وأدخله في كلام الرافعي ثم اعترض بسببه عليه وهو غريب، وقد سبق في أول الباب مثله ويأتيك نظيره أيضًا في مواقيت الصلاة وغيره. قوله: وإن مس المشكل أحد الفرجين وصلى الصبح مثلًا ثم توضأ ومس الآخر وصلى الظهر ففي المسألة وجهان. أحدها: يقضيهما جميعًا؛ لأن إحدى صلاتيه واقعة مع الحدث. وأظهرهما] (¬1) أنه لا يقتضي واحدة منهما كما لو صلى صلاتين باجتهادين إلى جهتين. انتهى. وما ذكره من عدم وجوب القضاء مطلقًا قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غير موافق للقواعد المتقدمة، بل الذي ينبغي أن يتعين قضاء الثانية؛ لأن اللمس الناقض وهو مس الفرج الأصلي إن كان هو المس الثاني فواضح، وإن كان هو الأول فالطهارة الواقعة بعده إنما فعلت للاحتياط؛ لأنه لا يجب عليه أن يتوضأ لشكه في أنه أصلي أو زائد، وطهارة الاحتياط لا ترفع الحدث على الصحيح فتعين أن يكون تصوير المسألة بما إذا كان وضوؤه بعد حدث وقد رأيت تصويرها بذلك في شرح التلخيص للقاضي حسين، وذكر مثله المحب الطبري في شرح التنبيه وهو يوضح ما ذكرناه. قوله في "الروضة" في المسألة: ولو مس أحدهما وصلى الصبح ثم مس الآخر وصلى الظهر من غير وضوء أعاد الظهر قطعًا فقط. انتهى. قال في "الذخائر": الذي يقتضيه النظر وجوب إعادتهما معًا كما لو تحقق أنه نسى عضوًا في إحدى طهارتيه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: ولو مس المشكل فرج مشكل وذكر مشكل آخر انتقض طهره إما باللمس أو بالمس. انتهى. والمشكل المذكور ثانيًا قد أبدله في الروضة بلفظ نفسه فقال: ولو مس المشكل فرج نفسه. والتصوير الذي ذكره وإن كان صحيحا إلا أنه مسألة أخرى. قوله: ولو مس أحد المشكلين فرج صاحبه ومس الآخر ذكر الأول انتقض أحدهما لا بعينه، ولكل منهما أن يصلي؛ لأن الأصل في حقه الطهارة ثم قال: فلو اقتدى أحدهما بالآخر ثم بان أن الإمام رجل قال بعضهم: لا تصح صلاة المقتدي بلا خلاف، ولا يتخرج على القولين فيما إذا اقتدى الخنثى بالخنثى ثم بانت ذكورة الإمام. انتهى. وهذه المسألة [الأخيرة] (¬1) قد حذفها النووي من "الروضة". قوله: خلافًا لمالك حيث قال: إذا استيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه يأخذ بالحدث إن كان خارج الصلاة احتياطًا بخلاف المصلى، ثم قال: وحكى في التتمة وجهًا عن بعض الأصحاب يوافق مذهب مالك. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية هذا الوجه وهو سهو، فإن صاحب "التتمة" إنما نقله عن الحسن البصري، وكذلك نقله عنه أيضًا الماوردي في "الحاوي" والبندنيجي في "الذخيرة" وسليم الرازي في "التقريب" غير [أن صاحب التتمة نقله] (¬2) عن الحسن ولم يصرح بالبصري، والباقون صرحوا به. نعم: حكى صاحب "التعجيز" في شرحه له وجهًا أنه يأخذ بالحدث مطلقًا سواء في الصلاة أو خارجها. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ: أنه قال فى "التهذيب".

قوله في "أصل الروضة" ولو تيقن بعد طلوع الشمس حدثًا وطهارة ولم يعلم أسبقهما فثلاثة أوجه: أصحها وقول الأكثرين: إنه إن كان قبلهما محدثًا فهو الآن متطهر، وإن كان متطهرًا فهو الآن محدث، إن كان ممن يعتاد التجديد وإلا فمتطهر أيضًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد خالف ذلك في "شرحي المهذب" و"الوسيط" فصحح وجوب الوضوء مطلقا فقال: الأظهر المختار لزوم الوضوء بكل حال. قال القاضي أبو الطيب: وهو قول عامة أصحابنا. ثم الجمهور أطلقوا المسألة، وقال المتولي والرافعي: صورتها فيمن عادته تجديد الوضوء، أما من لم يعتده فالظاهر أن طهارته تكون بعد الحدث فيكون الآن متطهرًا هذا كلامه في الشرحين، وخالف في "المنهاج" فصحح أنه يأخذ بضد ما قبله. وذكر في "الروضة" من زوائده كلامًا فيه [ميل إلى] (¬1) ما صرح به في الشرحين السابقين. الثاني: أنه قد اتضح بما ذكره النووي في هذين الشرحين أن القيد للمتولي والرافعي وأن الجمهور لم يقيدوه به، مع أنه في "الروضة" نقله عن الجمهور وهو غريب، والأمر في هذا الثاني على خلاف ما في الروضة لكن القوى من جهة المعنى ما ذكره فيها، وأما الأول فالفتوى على ما فيها لذهاب الأكثرين إليه وللمسألة نظائر. منها: ما إذا قامت بينة بأنه أقر لرجل بدين في اليوم الفلاني، وقامت بينة أخرى بأن المقر له أقر في ذلك اليوم بأنه لا يستحق على المقر شيئًا وجُهل السابق منهما، قال ابن الصلاح في "فتاويه": يقضي بسبق البراءة ثم ¬

_ (¬1) في أ: مثل.

الاعتراف بالشغل؛ لأنه لابد من حمل كلامهما على الصدق فلا يضار إلى تصديقهما بتقدير تأخر الإقرار النافي عن الإقرار المثبت بناء على احتمال طرءان البراءة لأنا تيقنا الشغل والأصل بقاؤه فتعين العكس، وذكرها أيضًا في "مشكل الوسيط" هنا وزاد على ذلك فقال: أما إذا شهدت بالبراءة فإنا نحكم بها؛ لأن معها زيادة علم. ومنها: إذا أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج وشك هل أحرم قبل الطواف فيصح الحج أو بعده فلا يصح، ففي "الحاوي" أن الأصحاب قالوا: يصح لأن الظاهر في الإحرام بعد وقوعه صحته. ومنها: لو أحرم وتزوج وشك هل سبق التزويج الإحرام فيصح أم لا فيبطل، فإنه يصح، نص عليه الشافعي هكذا نقل المسألتين النووي في فتاويه وغيرها وفيهما نظر؛ لأن الأصل عدم وقوع النكاح في الزمن السابق على الإحرام وعدم وقوع الإحرام بالحج قبل الطواف، بل المتيقن هو الزمن الذي قبل الشك ثم الأقرب إليه فالأقرب. قوله: والمشهور أن الشك هو التردد على السواء، فإذا حدث له هذا التردد في الحدث أو الطهارة بعد تيقن عكسه لم يلتفت إليه، هو إن كان الحادث هو الظن فإنه يؤخذ به في رفع الحدث لا في رفع الطهارة. انتهى. وما ذكره في رفع يقين الحدث بظن الطهارة، تبعه عليه صاحب "الحاوي الصغير" ومقتضى كلام الأصحاب أنه لا يؤخذ بالظن المذكور وأنه لا فرق هنا بين التساوى والرجحان، وبه صرح في "الدقائق" فقال: الشك هنا وفي معظم أبواب الفقه هو التردد سواء المستوى والراجح، وقال في "الذخائر": الذي ذهب إليه الأصحاب في المسألتين جميعًا وهما تعين الطهارة وظن الحدث وعكسهما إنما هو الأخذ باليقين قال: ويحتمل عندي

إجراء القولين في تعارض الأصل والظاهر، وقال في "الكفاية": إن ما قاله الرافعي لم نره لغيره. نعم: ذكر في "الشامل": أنا إنما [قلنا: ينقض الوضوء بالنوم مضطجعًا لأن الظاهر خروج وحينئذ يصدق] (¬1) أن يقال: رفعنا يقين الطهارة بظن الحدث بخلاف عكسه، وسبب الفرق أن الصلاة في ذمته بيقين فتأمل ما ذكرته نقلًا واستدلالًا فإنه مهم. ولا شك أن الرافعي قصد ما ذكره ابن الصباغ فانعكس عليه ويؤيده أيضًا أن المرأة إذا جومعت أنزلت وخرج منها ماء الرجل بعد اغتسالها فإنه يجب عليها إعادة الغسل؛ لأن منيها يختلط بمنيه فيكون الظاهر خروج منيها أيضًا، كذا علله الرافعي فتفطن له، ولم يتعرض في "الروضة" لذلك بالكلية، بل اقتصر على ذكر الشك وكان الصواب أن يذكره وينبه عليه. قوله: وينكشف حال الخنثى ببوله من أحد الفرجين إن كان له ما يشبه آلة الرجال وآلة النساء فإن لم يكونا له بل كانت له ثقبة يخرج منها البول فلا دلالة فيه لبوله. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن القسم الثاني من قسمى الخنثى قد ذكره أيضًا الرافعي في كتاب الفرائض وأسقطه من "الروضة" هنا، وحكمه كما في كتاب الفرائض أنه مشكل يوقف أمره حتى يبلغ فيخبر عن نفسه بما يميل إليه طبعه قال: ولا دلالة في بول هذا، وهذا الذي قاله البغوي قد نقله عنه النووي في "شرح المهذب" وأقره عليه وما اقتضاه كلامه من انحصار الدلالة في الميل ليس كذلك بل يعرف أيضًا بالحيض وبالمني المتصف بصفة أحد النوعين كما سيأتي. الأمر الثاني: أن الأنثيين خارجان عن مسمى الفرج كما صرحوا به في ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

نواقض الوضوء في الكلام على مس الفرج والتعبير بالفرج ههنا يقتضي أن جملة الرجال إذا نقض منها الأنثيان كان الخنثى مشكلا بالشروط الآتية، وليس كذلك فإن الاستدلال ينقص الخلقة والحالة هذه على الأنوثة أقوى من الاستدلال بباقي العلامات وقد رأيت ذلك مصرحًا به في كتاب أحكام "الخناثا للإمام" جمال الإسلام أبي الحسن علي بن المسلم بلام مشددة مفتوحة السلمي الدمشقي الشهير بالشهرزوري تلميذ الغزالي توفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وبعد أن صرح به جعل الضابط في ذلك أن يكون العضوان تأمين على العادة وقد ذكرت لفظه في كتاب [الإيضاح] (¬1) فراجعه. قوله: ولو بال منهما جميعًا ففيه وجهان. أحدهما: أن دلالة البول قد سقطت. وأصحهما: لا بل يؤخذ بالذي سبق خروجه فإن استويا فبالذي تأخر انقطاعه، فإن اتفقا فيهما سقطت دلالته. انتهى. تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على إطلاق سقوط الدلالة في هذه الحالة ومقتضاه أنه لا فرق بين أن يستويا في العدد أم لا، والقياس اعتبار أكثر المرات في الخروج والسبق والانقطاع حتى إذا بال بفرج مثلًا مرتين وبالآخر ثلاثًا أخذنا بصاحب الثلاث وهكذا قياس سبقهما وانقطاعهما، وقد جزم بما ذكرناه الماوردي في كتاب الرضاع وابن المسلم في تصنيفه في أحكام الخناثا. قوله: وكذلك المني والحيض في وقتهما فإن أمنى بفرج الرجال فرجل أو بفرج النساء أو حاض فامرأة بشرط أن يتكرر خروجه ليتأكد الظن ولا يتوهم كونه اتفاقيًا. انتهى. ¬

_ (¬1) في جـ: "الاستيعاب".

فيه أمور: أحدها: أن اشتراطه التكرار في المني والحيض وسكوته عنه في البول يقتضي عدم اشتراطه فيه، والمتجه استواء الكل في ذلك حتى إذا بال مثلًا من فرج الرجال مرة واحدة عقب وضعه ثم مات فلا يرث إرث الذكور. الأمر الثاني: هل يكفي في التكرر مرتان أم كيف الحال؟ يظهر إلحاقة بما قيل في كلب الصيد، وقد ذكر الرافعي أنه لابد فيه من التكرار بحيث يغلب على الظن تأدب الجارحة ثم قال "ويرجع في عدد ذلك إلى أهل الخبرة عند الجمهور، وقيل: يشترط ثلاث مرات، وقيل: يكفي مرتان. الأمر الثالث: أن التعبير بالحيض يوهم أن الدم المذكور يعطي أحكام الحيض من تحريم الصوم وإسقاط الصلاة وغيرهما مع أنه لا يثبت له شئ منها كما ذكر في "شرح المهذب" لجواز كونه رجلًا والخارج دم فساد قال: وهكذا الحكم إذا أمنى من الذكر وحاض من الفرج وحكمنا ببلوغه وإشكاله، وما ذكروه يشعر بأن الدم الخارج منه قبل إمكان سن البلوغ يرجح أيضًا الأنوثة، وإن كان دم فساد كما في المسألة المذكورة، وحكى ابن المسلم في دلالة الحيض وجهين قال: إنهما محكيان أيضًا في المني. أحدهما: أنهما يدلان. والثاني: ألا نحكم بهما بل يتوقف حتى ينظر هل يوجد الأخر كما قلنا في المبتدأة إذا رأت الدم أنا لا نحكم بكونه حيضًا بل نتوقف إلى مضى يوم وليلة هذا كلامه ولم يبين المدة التي يصير إليها على هذا الوجه. قوله: ولو أمنى من الفرجين جميعًا فوجهان: أحدهما: يستمر الإشكال. وأصحهما: لا بل إن أمنى منهما على صفة منى الرجال فرجل أو على

صفة منى النساء فامرأة. ثم قال فإن أمنى من فرج النساء على صفة منى الرجال أو من فرج الرجال على صفة منى النساء أو أمنى من فرج الرجال على صفة منيهم ومن فرج النساء على صفة منيهن استمر الإشكال. انتهى كلامه. [قلت] (¬1) وهو يشتمل على ثلاث مسائل يستمر الإشكال فيها ذكرها أيضًا كذلك في "شرح المهذب". إحداها: أن يمنى بفرج النساء خاصة ولكن على صفة منى الرجال. الثانية: أن يمنى بفرج الرجال خاصة ولكن على صفة منى النساء. الثالثة: أن يمنى من فرج الرجال على صفة منى الرجال ولكن يمنى مع ذلك أيضًا من فرج النساء [على صفة منى النساء] (¬2). وقد اختصر في "الروضة" هذه المسائل اختصارًا فاسدًا فقال: إن أمنى من أحدهما بصفة ومن الآخر بالصفة الأخرى فلا دلالة. هذه عبارته، فأسقط المسألتين الأولتين وهما أهم مما ذكره، واقتضى كلامه فيهما عكس الحكم، فإن اشتراطه الإمناء من الآخر بالصفة الأخرى يقتضي أنه إذا أمنى من فرج الرجال بصفة منى النساء أو بالعكس لا يكون مشكلًا وليس كذلك وهذا كله نشأ من إسقاط حرف واحد وهى الهمزة من "أو" في أول المسألة الثانية حتى اعتقد أنها "الواو" وأن ما دخلت عليه قيد في المسألة واعتقاده ذلك عجيب فإن كلام الرافعي على هذا التقدير يؤدي إلى عىٍ واضح وتطويل بلا فائدة فإنه لا يبقى لما قبل الثالثة على هذا التقرير فائدة بالكلية. قوله: وقيل لا دلالة في المني. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

هذا الوجه غير ثابت، إنما الخلاف الثابت في اللبن هل يدل على الأنوثة أم لا؟ كما ذكره في "شرح المهذب" فتحرف [على الرافعي بالمني فتبعه] (¬1) عليه في "الروضة" ويدل عليه أن الرافعي في أوائل باب الرضاع حكى في اللبن وجهًا ثالثًا أنه يعرض على القوابل فإن قلن إنه لا يكون إلا لامرأة حكم بأنوثته، ورابعًا أنه يدل عليها عند فقدان سائر الأمارات، وأسقطهما النووي من "الروضة" ولم يزد على قوله ولبن الخنثى لا يقتضي [الأنوثة] (¬2) على المذهب وكأنه توهم سبقهما في هذا الباب فإن الرافعي بعد ذكر هذا الخلاف عبر بقوله: وظاهر المذهب أن اللبن لا يقتضي الأنوثة، وقد أشرنا إلى الخلاف فيه في كتاب الطهارة انتهى. وهذا يعين لك [أنه تحرف] (¬3) عليه اللبن بالمني، وقد ذكر الماوردي في باب رضاع الخنثى وجهًا أنه لا دلالة في الحيض أيضًا. قوله: أما تعارض البول مع الحيض أو مع النبي ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بمقتضى البول لأنه دائم متكرر فيكون أقوى. وأصحهما: أنه يستمر الإشكال ويتساقطان. انتهى. أغفل -رحمه الله- ههنا تعارض المني مع الحيض وقد ذكره في أوائل باب الحجر في ضمن تعليل وجزم بتعارضهما وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لمعنى يتعلق به فراجعه، وحكى في "شرح المهذب" هنا ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكرناه. والثاني: أنه رجل. والثالث: أنه امرأة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) فى أ: الأنوثة. (¬3) فى أ: أن يجوز.

ثم قال: والأول هو الأصح الأعدل الذي صححه الرافعي، وما ذكره من تصحيح الرافعي له كأنه اشتبه عليه فإن الرافعي لم يذكره هنا بالكلية كما قدمناه، وتبعد إرادته للمذكور في الحجر فإنه جازم به لا مصحح وذاكر له في غير موضعه، والعادة تقتضي التنبيه عليه. نعم: ذكر ابن الرفعة في "شرح الوسيط" كلامًا قد تظن صحته، والمنقول والدليل يخالفانه فقال: وما ذكروه في هذه المسألة يقتضي أنه لو بال من فرج وحكمنا برجولته ثم حاض في أوانه قضينا بأنه مشكل إذ البول يتقدم إمكان الحيض وما اقتضاه كلامهم مشكل؛ لأنه نقض للاجتهاد بالاجتهاد فتفرض المسألة فيما إذا كان البول المتقدم من ثقبة تحت الأنثتين ثم بال من فرج الرجال مقارنًا للحيض فأما إذا تقدم البول فالظاهر أن العمل عليه ثابت [قال] (¬1) وقد حكى القاضي الحسين عن النص أنه إذا احتلم أو حاض قبل الخمسة عشرة ثم أقر بمالٍ فإنا نوقف إقراره على بلوغها فإن لم [يتبين] (¬2) حاله عمل بإقراره وإن حاض في المسألة الأولى أو أمنى في المسألة الثانية لغى إقراره. انتهى ملخصًا. وما نقله عن القاضي الحسين قد رأيته في كتاب الفرائض من تعليقه وفيه كلام ذكرته في ["الاستيعاب"] (¬3). وما ذكره من تأويل هذه المسألة على هذه الصورة ليس كذلك بل صورتها ما ذكر هو أنه مقتضى كلامهم أولًا، كذا صرح به الرافعي في الحجر في الكلام الذي تقدم قريبًا الوعد بذكره هناك. والجواب عما قاله من أن الاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد: أن النقض الممتنع إنما هو في الأحكام الماضية ونحن لا نتعرض لها، وإنما عبرنا الحكم لانتفاء المرجح الآن وصار كالمجتهد في القبلة وغيرها إذا غلب على ظنه دليل فأخذ به ثم عارضه دليل آخر بعد ذلك فإنه يتوقف عن الأخذ به في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: يتغير. (¬3) فى أ: "الإيضاح".

المستقبل، ولا ينقض ما مضى. قوله: ولا دلالة في نبات اللحية ونهود الثدي ونزول اللبن، وقيل: يؤخذ بها ولا في عدد الأضلاع، وقيل إن نقص من الأيسر واحد فرجل وإن استويا فامرأة. انتهى. ولم يبين هو ولا النووي في "الروضة" أن الاختلاف في اعتبار هذه الأشياء هل محله عند فقدان العلامات السابقة أم لا؟ وقد بينه الإمام في "النهاية" ونقله عنه في "شرح المهذب" فقال: ولا يعارض النهود ونبات اللحية شيئًا من العلامات المتفق عليها. هذا كلامه. وقياس اللبن والأضلاع كذلك؛ لأنهما دون النبات والنهود عند الأصحاب. قوله: ومن الأمارات الميل الطبعي فإذا أخبر بعد بلوغه وعقله بميله إلى الرجال فهو إمرأة أو إلى النساء فرجل ثم قال: وهذا إذا عجزنا عن الأمارات السابقة وإلا فالحكم بها لأنها محسوسة معلومة والميل [غير معلوم. لأنه ربما يكذب في إخباره. انتهى. وتعليله الإخبار عن الميل] (¬1) باحتمال الكذب ونفي [احتمال ذلك] (¬2) عن باقي العلامات يقتضي أن صورة المسالة في البول والمني والحيض أن يكون بالمشاهدة لا بإخباره وهو في غاية البعد، وقد رجعوا إلى إخبار المرأة عن الحيض إذا علق الزوج الطلاق [به] (¬3). قوله: فروع، أحدها: إذا بلغ ووجد من نفسه أحد الميلين لزمه أن يخبر به فإن أخر عصى. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سقط من أ.

أحدهما: أن التعبير بالإخبار يقتضي الاكتفاء بذكر ذلك لواحد وهو بعيد جدًّا، والقياس اعتبار شاهدين أو ما يقوم مقامهما كإخبار الحاكم وكما في بلوغه وإسلامه وغير ذلك. الأمر الثاني: إن إطلاق إيجاب الإخبار على الفور فيه نظر، والقياس [يقتضى] (¬1) تخصيصه بما إذا دعت إليه الحاجة. قوله: وإذا أخبر الخنثى بميله لزمه، ولا يقبل رجوعه إلا أن يخبر بالذكورة ثم يلد أو يظهر [به] (¬2) حمل فيبطل إخباره. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق عدم الرجوع ومحله فيما عليه، أما فيما له فيقبل رجوعه قطعًا، وقد نبه عليه إمام الحرمين والنووي في "شرح المهذب". قوله: ولو حكمنا بقول الخنثى ثم ظهرت علامة غير الحمل فيحتمل أن يوجع إليها، ويحتمل أن يستصحب الأول انتهى. قال في "شرح المهذب": الذي يقتضيه كلام الأصحاب [هو الاحتمال الثاني. وقال في "الروضة": إنه الصواب [ومقتضى] (¬3) كلام الأصحاب] (¬4) [انتهى] (¬5) هذا الذي ذكراه يقتضي أنهما لم يظفرا في المسألة بنقل وهو غريب فقد جزم الماوردي في باب رضاع الخنثى وهو قبيل النفقات بالاحتمال [الثاني] (¬6) وهو العدول إلى الأمارة، وكذلك الروياني في كتاب الفرائض من "البحر"، وجزم الرافعي أيضًا في النكاح في أول الباب الثامن المعقود لمثبتات الخيار بما يقتضيه أيضًا، ذكر ذلك في الكلام على ثبوت الخيار بخروجه خنثى واضحًا فتأمله وهذا هو الصواب الجاري على القواعد. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عند. (¬3) في جـ: منه. (¬4) في أ، ب: وظاهر. (¬5) سقط من أ، ب. (¬6) في جـ: الأول.

قوله من "زياداته": قال أصحابنا: إذا أخبر الخنثى بميله عملنا به فيما له وفيما عليه ولا نرده للتهمة كلما لو أخبر صبى ببلوغه للإمكان. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به من القبول عند التهمة ذكر في الفرائض ما يقتضيه أيضًا، وصرح بتصحيحه في آخر باب الحضانة من زياداته. إذا علمت ذلك فقد صحح في "التحقيق" هنا أنه لا يقبل فقال ما نصه: ويجب الصدق في الميل وتعجيله ويقبل قوله فيما له وعليه إلا في ثبوت حق له سابق بجنابة ونحوها في الأصح. انتهى. وذكر نحوه في "شرح المهذب" أيضًا فقال: قال البغوي وغيره يقبل، وقال الإمام: ظاهر المذهب أنه لا يقبل، وهذا هو الظاهر. انتهى. وذكر في "الروضة" في كتاب الجنابات في باب ما يشترط فيه مساواة القتيل للقاتل نحوه أيضًا ولم يصرح الرافعي في هذه المسألة بتصحيح إلا في "الشرح الصغير" في كتاب الجنايات فإنه صحيح أنه لا يقبل كما يقتضيه كلام "الكبير" "والروضة" هناك، والفتوى على القبول ففي "الحاوى" و"البحر" كلاهما في كتاب النكاح أن عدم القبول حكاه الرَّبيع [عن نصه وأن المشهور] (¬1) في أكثر كتبه أنه يقبل لأن أحكامه لا تتبغض. وفي "الكفاية" أنه المشهور والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الفصل الثاني: في حكم الحدث

الفصل الثاني: في حكم الحدث قوله في أصل "الروضة": ويحرم على المحدث مس حاشية المصحف وما بين سطوره وحمله بالعلاقة قطعًا. انتهى. وهذه المسائل الثلاث التي ادعى فيها عدم الخلاف فيها وجه حكاه صاحب "التتمة" وحكاه القاضي الحسين في المسألة الثالثة بل حكى ابن الصلاح فيما جمعه من الفوائد في رحلته إلى بلاد الشرق أن صاحب التقريب حكى وجهًا أن المحدث يجوز له مس المصحف [ولم يتعرض الرافعي لدعوى عدم الخلاف. قوله: وهل يحرم مس الجلد] (¬1) والخريطة والصندوق والعلاقة وجهان ثم قال: [ومنهم من جزم بالجواز في غير الجلد وخصص الخلاف بالجلد] (¬2) ومنهم من جزم بالمنع في الجلد وخصص الخلاف بما سواه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هاتين الطريقتين قد أسقطهما النووي من "الروضة" فاعلمه. وتعبيره في الجلد بالصحيح وفيما عداه بالأصح يقتضي التفاوت بالضعف والقوة لا بالكثرة والقلة. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر تعليلًا حاصله أن التحريم في ظرف المصحف شرطه أن يكون معدًا له حتى لو كان في جراب مثلًا فإنه لا يجرم وهل الورق الأبيض في أول المصحف كالحاشية أو الجلد؟ فيه نظر. قوله في أصل "الروضة": ولا يحرم حمل المصحف في جملة متاع على ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من جـ.

الأصح، انتهى. هذه المسألة شرطها ألا يكون المصحف هو المقصود بالحمل كذا صرح به الأصحاب، ومنهم الرافعي ولكن حذفه النووي من "الروضة"، وقال سليم الرازي في "المجرد": وشرطه أن يقصد نقل المتاع لا غير وهذه العبارة أبلغ من عبارة الرافعي. قوله: وأما ما أثبت فيه شئ من القرآن لا للدراسة كالدراهم الأحدية والحيطان المنقوشة وكتب الفقه والأصول والتفسير فوجهان، أصحهما: أنه لا منع. ثم قال: وفصل بعضهم في التفسير فقال: إن كان القرآن أكثر حرم وإلا فوجهان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد اعترض عليه في "الروضة" فقال: مقتضى هذا الكلام أن الأصح أنه لا يحرم إذا كان القرآن أكثر وهذا منكر بل الصواب المقطع بالتحريم؛ لأنه وإن لم يسم مصحفًا ففي معناه قال: وقد صرح بهذا صاحب "الحاوى" وآخرون ونقله صاحب البحر عن الأصحاب انتهى. ولأجل ذلك جزم أيضًا بالتحريم فيما إذا كان القرآن أكثر في "التحقيق" "وشرح المهذب" والتبيان وغيرها وقال: إنه لا خلاف فيه وهذا الذي اقتضى كلام النووي أن أحدًا لم يقل به حيث عبر بقوله منكرًا إلى آخره عجيب ففي "الحلية" للشاشي التصريح باختيار ما قاله الرافعي فإنه قال ما نصه، وقيل في تفسير القرآن: أنه إن كان القرآن أكثر حرم حمله، وإن كان التفسير أكثر فعلى الوجهين، ولا اعتبار بالكثرة عندى في ذلك، وإنما الاعتبار بالمقصود هذه عبارته، ومنها أخذ الرافعي ما ذكره.

الأمر الثاني: أن مقتضى كلام النووي تسليم الجواز عند التساوى وهو قياس المذكور في الحرير ونحوه. والدراهم الأحدية هي التي كتب عليها قل هو الله أحد. قوله: أما الصبي المميز فهل يجب على الولي والمعلم منعه من مس المصحف والألواح وحملهما؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. لأن تكليفهم استصحاب الطهارة مما تعظم فيه المشقة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن محل الخلاف كما أفهمه التعليل المذكور وكلام الأصحاب إنما هو في الحمل المتعلق بالدراسة، فإن لم يكن لغرض ألبتة أو كان لغرض آخر منعوا منه جزمًا وهو ظاهر. الأمر الثاني: أن تقييده بالمميز للاحتزار عن غيره فإنه لا يجب منعه كذا رأيته في آخر باب الوضوء من تعليق القاضي الحسين فاعلمه. وذكر في "شرح المهذب" عقب كلام نقله عن القاضي المذكور ما يوهم الوجوب فقال: ولا يمكن المجنون والصبي الذي لا يميز من حمل المصحف لئلا ينتهكه، ثم ذكر في التحقيق ما هو أظهر منه فقال: وعلى الولى منعه ولا أصل لما ذكره ولم أجد تصريحًا بتمكين المميز في حال الجنابة، والقياس المنع؛ لأنها نادرة وحكمها أغلظ. قوله من "زياداته": ويكره إحراق الحاشية المنقوشة بالقرآن انتهى. وما ذكره هنا من الكراهة قد جزم به أيضًا في "شرح المهذب" و"التحقيق" وغيرهما، وجزم به أيضًا في "التبيان في آداب حمله القرآن" في آخر الباب السابع منه فقال: ولو كتب القرآن على الحلوى وغيرها من الأطعمة فلا بأس بأكلها، قال القاضي ولو كان على خشبة كره إحراقها. هذا كلامه، ثم

ذكر بعده في الباب التاسع في أثناء فصل ما يخالفه فقال: وقد قدمنا أنه إذا كتب على الأطعمة فلا بأس بأكلها وأنه إذا كتب على خشبة لم يجز إحراقها، والصواب ما ذكره آخرًا وهو الحرمة لا الكراهة فإنه نقله أولًا عن القاضي، والذي ذكره القاضي -أعني الحسين- في تعليقه إنما هو الحرمة كذا نقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" واقتصر عليه. قوله من "زوائده": ومن لم يجد ماءً ولا ترابًا يصلي لحرمة الوقت ويحرم عليه مس المصحف وحمله. انتهى. وما ذكره هنا في الصلاة والمصحف قد ذكره الرافعي في آخر التيمم. قوله أيضًا من "زياداته": ولو خاف علي المصحف من غرق أو حرق أو نجاسة أو كافر ولم يتمكن من الطهارة أخذه مع الحدث للضرورة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: لم يبين هل الأخذ والحالة هذه واجب أو مستحب أو مباح وقد نبه عليه في "التحقيق" و"شرح المهذب" فقال إنه واجب. الأمر الثاني: إذا عجز عن الوضوء ولكن قدر على التيمم، فقال القاضي أبو الطيب في تعليقه: لا يجب عليه أن يتيمم؛ لأنه لا يرفع الحدث، قال في "شرح المهذب" وفيما قاله نظر وينبغي أن يجب عليه ذلك؛ لأنه وإن لم يرفع الحدث فإنه كالوضوء في استباحة الصلاة وغيرها. قلت: وعجب منه في هذا الكلام الدال على عدم وقوفه على نقل مخالف لما قاله القاضي يستند إليه في الرد عليه، وقد صرح الأصحاب في باب التيمم في الكلام على النية بالمسألة وجزموا بوجوبه وجعلوا نية التيمم

له كنية سجدة التلاوة ونحوها مما لا يباح إلا بالطهارة ولكنهم ألحقوها بالتيمم للنافلة؛ لأن الشارع لم يوجبه وقد ذكره هو والرافعي في كتبهما كذلك، وتعبيره في الروضة بقوله: ولم يتمكن من الطهارة فيه إشعار به.

الباب الثامن في الغسل

الباب الثامن في الغسل قوله: وهل يجب الغسل بخروج الحيض أو بانقطاعه؟ فيه أوجه: أحدها: بخروجه كما يجب الوضوء بخروج البول والغسل بخروج المنى. وثانيها: بالانقطاع لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" (¬1). وثالثها وهو الأظهر: أن الخروج يوجب عند الانقطاع، وكذلك نقول في البول والمني خروجهما يوجب الغسل والوضوء عند الانقطاع بل عند القيام إلى الصلاة. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: ما الفرق بين الوجه الأول والثالث، فإن الأول وهو القائل بالخروج يسلم أنه لا يصح إلا عند الانقطاع والتكليف به في تلك الحالة تكليف بما لا يطاق، فيكون القائل به يشترط فيه الانقطاع فيرجع إلى الثالث. [الأمر الثاني] (¬2) أن هذا الخلاف له فائدتان ذكرهما في "شرح المهذب" إحداهما: وقد نقلها عن صاحب "البحر" وهي في الحائض إذا استُشهدت فإن قلنا لا يجب بالخروج فلا تغسل وإلا فوجهان، وهذه الفائدة قد نقلها عنه في "الروضة" أيضًا في باب غسل الميت. الفائدة الثانية: وقد نقلها عن صاحب "العدة" وهو أبو المكارم ابن اخت صاحب البحر وهي: إذا قلنا: إن الحائض لا تمنع القراءة، فإن قلنا إن غسل الحيض لا يجب بالخروج اغتسلت عن الجنابة وإلا فلا، لأن عليها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (226)، ومسلم (333) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) سقط من أ.

غسلين وغسل الحيض لا يمكن صحته مع جريان الدم فلا يصح الآخر؛ لأن من عليه حدثين لا يمكن ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر كمن نام ثم شرع في البول وتوضأ في حال بوله عن النوم. وله فائدة ثالثة لا تختص بهذا الخلاف وذلك فى التعليق بأن قال: إن وجب عليك غسل فأنت طالق. الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" قد تابع الرافعي على ما صححه فقال ثم وجوبه بخروج الدم أم بانقطاعه أم الخروج موجب عند الانقطاع؟ فيه أوجه: أصحها الثالث هذا لفظه، ولم يذكر غير ذلك مما ذكره الرافعي ثم إنه خالفه في آخر باب صفة الوضوء من التحقيق فقال ما نصه: وفي موجب الوضوء أوجه. أحدها: الحدث وجوبًا موسعًا. والثاني: القيام إلى الصلاة. وأصحها: أنه يجب بالأمرين والأوجه تجري فى موجب الغسل، وقيل: يجب في الحيض والنفاس بالانقطاع. انتهى. وحاصل هذا أن الأصح أن الحيض والنفاس يجب الغسل لهما بالخروج والقيام إلى العبادة ثم خالف الكتابين جميعًا في "شرح المهذب" فقال فيه هنا ما نصه: وفي وقت وجوب الحيض والنفاس أربعة أوجه: أحدها: بخروج الدم. والثاني: بانقطاعه. والثالث: بالقيام إلى الصلاة. والرابع: بالخروج والانقطاع والقيام إلى الصلاة والأصح وجوبه بالانقطاع هذا لفظه بحروفه. وهو عكس كل من الموضعين [المتقدمين] (¬1) ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

وفيه زيادة ونقص فتأمله. ولم يذكرها في هذا الباب من "التحقيق" وقد سبق الخلاف في موجب الوضوء في بابه واضحًا في الكلام على النية فراجعه. والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة، والحيضة المذكورة فيه بكسر الحاء وفتحها فالكسر اسم لحالة الحيض والفتح للمرة من الحيض، وقال [الخطابي] الصواب الكسر وغلط من فتح، وجوز الأَكثرون الفتح بل هو أقوى كما قاله في "شرح المهذب". وحُبيش بحاء مهملة مضمومة ثم باء موحدة مفتوحة بعدها ياء ساكنة ثم شين معجمة. قوله: ولو أتت بولد أو ألقت علقةً أو مضغة ولم تر دمًا ولا بللًا ففي وجوب الغسل وجهان، أظهرهما: أنه يجب؛ لأنها لا تخلوا عن بلل وإن قل غالبًا، وأنه يجب الغسل بخروج الماء الذي يخلق الولد منه فبخروج الولد أولى. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ذكر البلل وقع في الرافعي فتبعه عليه في "الروضة" وهو غريب، وإنما عبر بعضهم بالدم وبعضهم بالنفاس، والنفاس: هو الدم حتى أن ابن الرفعة والنووي في "شرح المهذب" لم يتعرضا له بالكلية لا هنا ولا في باب الحيض، بل عبّرا تارةً بالنفاس وتارة أخرى بالدم وعلى هذا فلو ولدت ولدًا بلا دم ومعه بلل كان على الوجهين. نعم: علل القاضي الحسين وجه الوجوب بعلتين. إحداهما: أن ذلك لا يخلوا عن رطوبة وإن قلت، والتعبير بالرطوبة لا

ينافي ما صرح به غيره وصدر هو به كلامه. الأمر الثاني: وقد نبه عليه في "شرح المهذب" أن شرط الدم المذكور أن يكون بعد الولادة لا قبلها ولا معها؛ لأن هذا هو شرط الدم المحكوم بكونه نفاسًا كما يأتيك في موضعه. الأمر الثالث: أن هذا التعليل المذكور [ثانيًا] (¬1) يقتضي جريان الخلاف في هذه الأمور مع وجود البلل والدم فعلى وجه يجب الغسل بالبلل أو الدم فقط وعلى آخر يجب بذلك وبخروج الولد أيضًا. وفائدة الخلاف فيما إذا نوت الغسل من الولادة، فإن قلنا: إنها موجبة أيضًا صح كما إذا اجتمع على المرأة غسل جنابة وغسل حيض فاغتسلت لأحدهما فإنه يجزئ عنهما، وإن قلنا: إن الموجب إنما هو البلل أو الدم فتكون قد نوت ما ليس عليها، وحكمه أنه لا يصح على أصح الوجهين. وهذا الخلاف الذي نبهت عليه، وكذلك فائدته قد ذكرها صاحب "التعجيز" في شرحه له. قوله في "الروضة": ولو أولج الخنثى في بهيمة أو امرأة أو دبر رجل فلا غسل على أحد، وعلى المرأة الوضوء بالنزع منها، وكذا الوضوء على الخنثى والرجل المولج فيه. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: وكذا الوضوء على الخنثى والرجل المولج فيه سهو فإنه يدخل في إيجاب الوضوء على الخنثى الصور الثلاث المتقدم ذكرها وهي إيلاجه في البهيمة وفي المرأة وفي دبر الرجل مع أنه لا يجب إلا في الصورة الأخيرة خاصة كما ذكره الرافعي لأنهما بتقدير ذكورة الخنثى جنبان وإلا فمحدثان فالمتيقن هو الأصغر، وأما الأوليان فلا يجب عليه الوضوء ¬

_ (¬1) فى أ: هنا.

فيهما بلا نزاع، فلو قال: وكذا الوضوء على الخنثى المولج في الرجل، وعلى الرجل المولج فيه لاستقام على أنه هل يجب الوضوء بخصوصه أو الغسل؟ فيه كلام سبق في صفة الوضوء في الكلام على الترتيب فراجعه. قوله من "زياداته": ولو كان له ذكران يبول بأحدهما وجب الغسل بإيلاجه ولا يتعلق بالآخر حكم في نقض الطهارة. انتهى. وهذا الكلام يدخل فيه عدم النقض بمسه ويؤخذ منه أن الذكر الأصلي يعرف بالبول منه، وقد سبق إيضاح ذلك في باب الأحداث فراجعه. قوله ولا فرق في وجوب الغسل بخروج المني بين أن يخرج منه من الطريق المعتاد أو من غيره مثل أن يخرج من ثقبة في الصلب أو في الخصية كذلك ذكره في "التهذيب" وغيره وهو ظاهر ما ذكره في الكتاب، وقال في "التتمة" حكمه في [الجنابة حكم] (¬1) النجاسة المعتادة إذا خرجت من منفذ غير السبيلين، ويجوز أن يكون الصلب هنا بمثابة المعدة. انتهى كلامه. وهو يقتضي تصحيح الأول، وقد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "الروضة"، وجزم بأن الصلب كالمعدة وجزم في "التحقيق" بما قاله في "التتمة" وهو أنه لا يجب إلا حيث نقضنا الوضوء به ولم يحك فيه خلافًا، وقال في "شرح المهذب" "وشرح التنبيه" المسمى "بالتحفة": إنه الصواب. وهو تباين فاحش إلا أن المذكور في هذين هو الماشي على القواعد فليعمل به. وما ذكره في "الروضة" من أن الصلب كالمعدة مخالف أيضًا "للتحقيق" و"شرح المهذب" فتأمله. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

ثم إنه إنما يأتي في الرجل أما المرأة فما بين ترائبها وهو عظام الصدر قال تعالى: {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (¬1) أي صلب الرجل وتراب المرأة. قوله: ولو تنبه فرأى شيئًا يحتمل أن يكون منيًا وأن يكون مذيًا لم يلزمه الغسل، ثم قال: وقد حكينا أى في صفة الوضوء وجهًا أنه يلزمه الغسل. هذا لفظه. والوجه الذي ذكره لم يتقدم له ذكر لا في صفة الوضوء ولا في غيره فيحتمل أنه أراد الغسل مع الوضوء مرتبًا، وغسل الثوب. نعم: هذا الوجه وهو لزوم الغسل فقط قد صرح به الشيخ تاج الدين ابن الفركاح في "الإقليد". قوله: ثم للمني خواص ثلاثة. إحداها: الرائحة الشبيهة لرائحة العجين والطلع ما دام رطبًا فإذا جف أشبهت رائحته بياض البيض. والثانية: التدفق بدفعات قال الله تعالى {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}. والثالثة: التلذذ بخروجه واستعقابه فتور الذكر وانكسار الشهوة ثم قال بعد ذلك: هذا في مني الرجل وأما مني المرأة فقد ذكر الإمام والغزالي إنه لا يعرف إلا بالشهوة لكن مما ذكره الأكثرون تصريحًا وتعريضًا التسوية بينهما في طرد الخواص الثلاث. انتهى كلامه. وما ذكره من طرد الخواص الثلاثة في مني المرأة تابعه عليه في "الروضة" وخالفه في "شرح مسلم" فجعل له خاصيتين فقط في باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها ما نصه: وأما مني المرأة فهو رقيق أصفر وقد يبيض لفضل قوتها وله خاصيتان يعرف بواحدة منهما. إحداهما: أن رائحته كرائحة مني الرجل. ¬

_ (¬1) سورة الطارق (7).

والثانية: التلذذ بخروجه وفتور شهوتها عقب خروجه هذا كلامه فأهمل [التدفق] (¬1)، والظاهر أنه قلد فيه ابن الصلاح فإنه ذكر في "مشكل الوسيط" أنه لا يعرف بغيرهما ثم اعترض على الرافعي غير مصرح باسمه فقال: وما ذكره بعض شارحي "الوجيز" من أن الذي ذكره الأكثرون تصريحًا وتعريضًا التسوية بينهما في طرد الخواص الثلاث فليس كما قال، وهذه تصانيفهم. هذا كلامه. لكن قد عبر الشافعي في حقها بالتدفق فقال في أثناء كلام نقله عنه الماوردي: أو رأت المرأة الدافق وجب الغسل. قوله في "أصل الروضة": ولو اغتسلت من جماع ثم خرج منها مني الرجل لزمها الغسل على المذهب بشرطين. أحدهما: أن تكون ذات شهوة دون الصغيرة. والثاني: أن تقضي شهوتها بذلك الجماع لا كنائمة ومكرهة. فإن اختل شرط لم يجب الغسل قطعًا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بالمذهب يقتضي أن الرافعي حكى طريقين وليس كذلك، بل ذكر أولًا أنه يجب بشرطين، ثم قال: وحكى وجه آخر أنه لا يشترط إعادة الغسل هذه عبارته، ولم يصرح [هو] (¬2) أعني النووي بحكاية الطريقين في شئ من كتبه. الأمر الثاني: أن الرافعي قد علل الوجوب في الحالة المذكورة بقوله وإنما وجب؛ لأنه حينئذ يغلب على الظن اختلاط منيها بمنيه، فإذا خرج منها ذلك المختلط فقد خرج منها منيها انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) فى أ، ب: النزو. (¬2) سقط من أ، ب.

والإيجاب لأجل الظن المذكور مشكل لأن تيقن الطهارة لا يرفع بظن الحدث كما ذكره هو وغيره في الباب السابق وأيضًا فلأنه إذا خرج منه شئ لم يدر هل هو مني أو مذي، وغلب على ظنه أنه مني لكون المذي لا يليق به ففيه احتمالان للإمام حكاهما عنه الرافعي، قال أعني الرافعي إن الأوفق لكلام المعظم أنه لا يأخذ بهذا الظن وهذا الذي ذكره مخالف له أيضًا. الأمر الثالث: أن ما ادعاه من نفي الخلاف عند فوات الشرطين ليس كذلك، فإن الإمام نقل عن بعضهم أنه يجب ثم خالفه فقال: وعندي في هذا تفصيل وذكر ما تقدم ولم يصرح الرافعي بعدم الخلاف. قوله أيضًا في "أصل الروضة": فرع إذا استدخلت منيًا في قبلها أو دبرها لم يلزمها الغسل على المذهب. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي لم يذكر في هذه المسألة طريقين ولا هو أيضًا في "شرح المهذب". نعم عبر الرافعي بالمذهب فتابعه عليه في "الروضة" ذهولًا. الأمر الثاني: أن مقتضى إطلاق "الروضة": أن القائل بوجوب الغسل يوجبه بمجرد الاستدخال ولا يتوقف على الخروج، وكلامه في "شرح المهذب" مضطرب، فإنه قال بعد نقله الوجوب عن أبي زيد المروزى، قال البغوي والرافعي: وعلى هذا لا فرق بين إدخالها قبلها أو دبرها كتغييب الحشفة وهذا وإن كان له أدنى خيال إذا استدخلت في قبلها لاحتمال أنها تلذذت فأنزلت منيها فاختلط به، فإذا خرج المني الأجنبي صحبه منيها لكن إيجابه بخروجه من الدبر لا وجه له ولا خيال، ودليله النصوص في أن الغسل إنما يلزمه بمنيه واتفق الأصحاب على أنها لو أدخلت في فرجها دم

الحيض، أو أدخل الرجل في دبره أو قبله المني وخرجا فلا غسل هذا كلامه فإلحاقه أولًا بالحشفة يقتضي الوجوب قبل الخروج وكلامه الأخير يقتضي عكسه. الأمر الثالث: أنا قد استفدنا من مجموع هذا الكلام أنه لا فرق بين منيها ومني الرجل، وحينئذ فيكون ذلك مخصصًا لعموم إطلاقهم أولًا أن خروج مني الشخص موجب للغسل، لكن في أثناء ما نقلناه عن "شرح المهذب" ما يقتضي خلافه أيضًا. قوله: وقيل يجب الغسل من الجنون وقيل: منه ومن الإغماء. انتهى. والقائل بوجوبه من الجنون خاصة قد أسقطه من "الروضة". قوله: فيحرم على الجنب أن يقرأ شيئًا من القرآن قاصدًا به القرآن سواء كان آية أو بعضها لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن" (¬1). وروى لم يكن يحجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القرآن شئ سوى الجنابة" (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (131) والبيهقي في "الكبرى" (1375) ومريم الحنبلية في "مسندها" (10) وابن عرفة في "جزء ابن عرفة" (3) والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 90) وابن الجوزي في "التحقيق" (161) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عباس يروى عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعف روايته عنهم. وقال البيهقي: ليس هذا بالقوى. وقال الألباني: منكر. (¬2) أخرجه أبو داود (229) والترمذي (146)، والنسائي (265) وابن ماجه (594) وأحمد (639) وابن خزيمة (208) وابن حبان (800) والحاكم (7083) والدارقطني (1/ 119) والطيالسي (101) وأبو يعلى (348) و (406) وابن الجعد في "مسنده" (59) من حديث علىّ - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. =

وروى يحجز انتهى. ومقتضى هذا الكلام أن الحرف يحرم، وبه صرح الماوردى، ويحتمل أن يريد بالحرف الكلمة. وقال الشيخ عز الدين في "القواعد": الذي أراه أن القارئ إذا فرق النية فلا يثاب إلا إذا فرقها على الجمل المفيدة، قال: لأنه لا قربة في الإتيان بأحد جزئي الجملة والذي ذكره متجه وقياسه من هنا ألا يحرم. والحديث الأول رواه الترمذي من رواية ابن عمر بإسناد ضعيف وقد ضعفه البخاري والبيهقي، والحديث الثاني رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح، وقال غيره من الحفاظ ومنهم البيهقي: إنه ضعيف؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة بكسر اللام، وقد كبر وخلط وإنما روى هذا الحديث بعد اختلاطه. وقال الشافعي: وأحب للجنب ألا يقرأ القرآن لحديث لا يثبته أهل الحديث. [كذا] (¬1) نقله عنه البيهقي في كتاب "المعرفة" [وسكت عليه] (¬2). قوله: ولا يستثني من التحريم شئ من الصور إلا إذا لم يجد الجنب ماءً ولا ترابًا وصلى على حسب الحال ففي جواز قراءة الفاتحة وجهان، أحدهما: نعم لأنها ركن في الصلاة. وأظهرهما: أنه لا يجوز كغيرها وينتقل إلى الذكر انتهى. تبعه عليه في "الروضة" ولكنه صحيح الأول وفيه أمران: ¬

_ = وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الألباني: ضعيف. قلت: وهو كما قال الشيخ الألباني فإن مداره على عبد الله بن سلمة وقد قال البخاري: لا يتابع على حديثه. (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب.

أحدهما: أن كلامه يقتضي أن المتيمم في الحضر لا يلتحق بفاقد الطهورين في جريان وهو خلاف المنقول. ففي "تعليق" القاضي الحسين و"الكافي" للخوارزمي أنه يلتحق به. الأمر الثاني: أنه يقتضي أيضًا تحريم تمكين الكافر الجنب من ذلك إذا قرأ بنفسه أو أقرأناه حيث جاز لنا تعليمه، وهو ما إذا رجى إسلامه لكنهم قد صححوا جواز تمكينه من المكث في المسجد وقياسه جواز تمكينه من القراءة إلا أن يفرق بينهما بأن حرمة القرآن أشد من حرمة المسجد، ولهذا ذكر النووي في نواقض الوضوء في "شرح المهذب" و"التحقيق" أنه يمنع من مس المصحف. قوله: لما فرغ -يعني: الغزالي- من ذكر موجب الجنابة ذكر حكمها، وأما حكم الحيض والنفاس فيأتي في بابهما ولا يفرض في الموت [مثل هذه الأحكام. انتهى. وما ذكره في الموت] (¬1) غير مستقيم لأنه يحرم به قبل وجود الغسل أمور: منها الصلاة عليه ودفنه وفي تحميله المصحف نظر. قوله: ويحرم على الجنب مع حرم على المحدث شيئان. أحدهما: قراءة القرآن. ثم قال: الثاني: المكث في المسجد. انتهى كلامه. واحترز بالمسجد عن المدرسة والرباط ومصلى العيد ونحوها فإنها لا تدخل في التحريم، وذكر في "الروضة" قبل الكلام على سجود السهو أن الدارمي حكى وجهين في مصلى العيد وأنه طردهما في دخول الكافر إياه بغير إذن. قلت: والقياس طردهما في الربط والمدرس إذا وقفت على الصلاة أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

قال في "الكفاية": وقضية ذلك أن يجريا في تحية المسجد أيضًا. نعم: كلام الرافعي يقتضي أيضًا الجواز فيما بعضه مسجد، فإن وقف حصة شائعة من أرض فإنه يصح كما دل عليه كلام "الشامل" في الشفعة، وصرح به ابن الصلاح في فتاويه، وقال قسمتها واجبة مع أنه يحرم على الجنب المكث فيها قبل القسمة تعليقًا للتحريم كما قاله في الفتاوي المذكورة والمتجه إلحاقها أيضًا بالمسجد في أمر الداخل بالتحية ونحوه بخلاف صحة الاعتكاف وصحة الصلاة فيها للمأموم إذا تباعد عن إمامه أكثر من ثلاثمائة ذراع. نعم لو كانت الأَرض مما لا يجب قسمتها ففي بطلان الوقوف نظر. قوله: ثم قد يعذر في المكث عند الضرورة كما لو نام في المسجد فاحتلم ولم يمكن الخروج للخوف من العسس أو نحوه، وليتيمم في هذه الحالة تطهيرًا أو تخفيفًا للحدث بقدر الإمكان، ولا يتيمم بتراب المسجد انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يبيّن [هل التيمم] (¬1) في هذه الحالة واجب أو مستحب؟ فإنه عبر بلام الطلب التي هي محتملة [لمما] (¬2)، وقد بين الرافعي في "الشرح الصغير" مراده، وصرح بكونه مستحبًا فقال ويحسن أن يتيمم إن وجد غير تراب المسجد انتهى. ويؤيد كونه مستحبًا لا واجبًا، ما قاله القاضي أبو الطيب [في تعليقه أنه إذا احتاج إلى حمل المصحف ولم يتمكن من الوضوء] (¬3): لم يجب عليه التيمم. وقد توهم النووي أن مراد الرافعي هو الوجوب فصرح به في "الروضة" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سقط من أ، ب.

وأدخله في كلام الرافعي فاعلمه. [قلت] (¬1): لكن الذي قاله النووي متجه في المعنى وقد رأيته مصرحًا به في "فتاوى القفال" وهو ظاهر كلام "التتمة" فإنه قال: إلا أنه إن قدر أن يتيمم بتراب المسجد فعليه أن يتيمم لأنه قائم مقامه عند عدمه قاله في الباب السادس في الطهارات المعتبرة في الصلاة في الفصل الثالث منه. وأما ما تقدم نقله عن القاضي فقد تقدم الكلام فيه في أواخر نواقض الوضوء، وقد أحسن ابن الرفعة في هذه المسألة، فإنه لما لم يقف فيها على نقل صريح عبر بعبارة الرافعي بعينها فقال: وليتيمم. ولو أجنب وهو خارج المسجد والماء في المسجد لم يجز أن يدخل ويغتسل في المسجد؛ لأنه مكث لحظة مع الجنابة. قال البغوي: فإن كان معه إناء تيمم ثم دخل وأخرج فيه الماء للغسل، وإن لم يكن إناء صلى بالتيمم ثم يعيد، وقال في "شرح المهذب" إن ما قاله البغوي فيه نظر وينبغي أن يجوز الغسل فيه إذا لم يجد غيره ولم يجد إناء ولا يكفي التيمم حينئذ؛ لأنه مكث لطيف لضرورة، والذي قاله ظاهر. الأمر الثاني: أنه لم يصرح بحكم التيمم بتراب المسجد هل هو على التحريم أو الكراهة لكن فيه إشعار بالتحريم، [وقد صرح النووي في "شرح المهذب" بذلك أعني بالتحريم] (¬2)، كذا ذكره في الفصل المعقود لأحكام المساجد وهو في هذا الباب، وفي تعليق القاضي الحسين وجه أنه لا يحرم، وستقف إن شاء الله تعالى على المسألة مبسوطة في الحج في الكلام على مبيت مزدلفة. والعسس: جمع عاس كخادم وخدم، وحارس وحرس وهو الذي يطوف بالليل. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

قوله: والعبور وإن لم يكن حرامًا فهو مكروه إلا لغرض. انتهى كلامه. وما ذكره من كراهة الدخول عند انتفاء الغرض قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" ثم خالف في "شرح المهذب" فقال في أوائل الفصل المعقود لأحكام المساجد السابق ذكره قريبًا ما نصه: ولا كراهة في العبور سواء أكان لحاجة أم لغيرها، لكن الأولى ألا يعبر إلا لحاجة ليخرج من خلاف أبي حنيفة، وهذا مقتضى كلام الأصحاب تصريحًا وإشارة، وقال المتولي والرافعي: إن عبر لغير غرض كره، وإن كان لغرض فلا هذا كلامه، والأمر كما قاله في "شرح المهذب". قوله: ثم إن نوى الجنب رفع الجنابه أو نوت الحائض رفع حدث الحيض صح الغسل. انتهى. تبعه عليه في "الروضة" ومقتضاه أنه لا يصح أحدهما بنية الأخر وهو كذلك في أصح الوجهين إن تعمد، فأما إذا غلط فيصح جزمًا، كذا ذكره في أخر باب نية الوضوء من "شرح المهذب" وهو نظير ما ذكروه في الحدث الأصغر. وهل يصح اغتسال [النفساء] (¬1) بنية الحيض؟ سكت عنه الرافعي ومقتضى كلام "الكفاية" أنه لا يصح. ولقائل أن يقول قد عللوا إيجاب الغسل بكونه دم حيض مجتمع ومقتضي ذلك أنه يصح. قوله: وإن غلط الجنب وظن أن حدثه هو الأصغر فنواه لم ترتفع الجنابة عن غير أعضاء الوضوء، وفي أعضاء الوضوء وجهان أظهرهما: أنها ترتفع عنها إلا الرأس فلا في أصح الوجهين؛ لأن فرض الرأس في الوضوء وهو ¬

_ (¬1) فى أ: القضاء.

الذي نواه إنما هو المسح والمسح لا يجزئ عن الغسل. انتهى ملخصًا. ورأيت في "شرح الفروع" للشيخ أبي علي السنجي استدراكًا حسنًا فقال: قلت: وإن كان الرجل كثيف اللحية؛ بحيث لا يلزمه إيصال الماء إلى ما تحتها في الوضوء ينبغي ألا يجوز غسل ذلك الموضع عن الجنابة؛ لأنه ليس في ضمن نية وجوب غسل ذلك الموضع إلا أن يقول قائل: إنه يخرج على وجهين لأن إيصال الماء إليه في الوضوء مستحب، فيكون كمن توضأ بنية التجديد، ويحتمل مواضع تطويل الغرة في الوضوء أيضًا هذين الوجهين انتهى. والاستدراك الذي قاله صحيح والأصح في التجديد أنه لا يكفي. واعلم أنه قد سبق لنا خلافه فيما إذا مسح زيادة على الواجب هل يقع الزائد نفلًا أو واجبًا، فإن قلنا: يقع نفلًا لم يرتفع حدث الرأس؛ لأنه لا يتصور معها التبعيض الذي لم يتعين موضعه الأمر بغسل الباقى، وحينئذ يكون لعدم الارتفاع مدركان. أحدهما: هذا. والثاني: ما ذكره الرافعي والقائل بارتفاعه عن الرأس لا يتصور إلا برفعه عن الجميع فيكون ذلك بناء على أن الجميع، يقع فرضًا فاعلمه. قوله في "الروضة": ولو نوت الحائض استباحة الوطء صح على الأصح. انتهى. هذه المسألة قد سبق الكلام عليها في باب صفة الوضوء في الكلام على غسل الوجه. قوله: وإن لم يتوقف الفعل المنوي على الغسل كالعبور في المسجد والأذان وغسل الجمعة والعيد فالحكم ما ذكرناه في الوضوء. انتهى كلامه. وحاصل هذا الكلام أنه لا يصح غسله على الصحيح؛ لأنه الذي صححه

هناك فقال: وإن نوى ما يستحب له الوضوء كقراءة القرآن للمحدث فوجهان: أظهرهما: لا يصح وضوءه؛ لأن هذه الأفعال مباحة مع الحدث فلا يتضمن قصدها رفع الحدث. والثاني: يصح؛ لأنه قصد أن يكون ذلك الفعل على أكمل أحواله ولا يكون كذلك إلا إذا ارتفع الحدث هذا كلامه حينئذ، فكلامه هناك لا إشكال في دلالته على عدم صحة الغسل عن الجنابة، وأما بالنسبة إلى الجمعة فقد يؤخذ منه عدم صحتها أيضًا، كما في نظيره من الوضوء فإن الحكم فيه كذلك، وقد لا يستلزم ذلك أن يكون اللفظ ساكتا عنه لأنا نعقل حصول غسل الجمعه بدون [غسل] (¬1) الجنابة كما في عكسه على ما سبق إيضاحه في الكلام على نية الوضوء ولا نعقل ذلك في نظيرة من الوضوء. وبالجملة فليس في الرافعي "والروضة" تصريح بهذه المسألة، وقد صرح بها في "المحرر" وجزم بالحصول، وقد ذكرت لفظه في الكلام على نية الوضوء، فإن الرافعي قد ذكر هذه المسائل هناك وحكى الماوردي وغيره وجهًا أنها لا تحصل؛ لأن القصد أن يكون على أكمل أحواله فإذا لم يرتفع الحدث لم يكن على الأكمل. [قوله] (¬2) الثاني: استيعاب جميع البدن بالغسل قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تحت كل شعره جنابة فبلوا الشعور وأنقوا البشرة" (¬3) انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) أخرجه أبو داود (248) والترمذي (106) وابن ماجه (597) والبيهقي في "الكبرى" (797) وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 387) وتمام في "الفوائد" (867) وابن الغطريف في "جزء ابن الغطريف" (76) وحمزة بن يوسف السهمي في "تاريخ جرجان" (ص/ 102) وابن عدي في "الكامل" (2/ 192) والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 216) من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -. =

وهذا الحديث الذي استدل به وجزم برفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعيف بالاتفاق ضعفه الشافعي ويحيى بن معين والبخاري وأبو داود والمتأخرين كابن الصلاح والنووي وغيرهم. نعم: روى علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسله فعل به كذا وكذا من النار" قال على فمن ثم عاديت رأسي وكان يجز شعره رواه أبو داود ولم يضعفه، فيكون صحيحًا أو حسنًا عنده على قاعدته، وقال القرطبي في "شرح مسلم" إنه صحيح، والنووي في باب صفة الوضوء من "شرح المهذب" في الكلام على المضمضة: إنه حسن إلا أنه ناقضه أعني النووي في الشرح المذكور أيضًا فقال هنا: إنه ضعيف. قوله في "أصل الروضة" وكذا ما يبدو من الثيب إذا قعدت لقضاء الحاجة على أصح الأوجه، وعلى الثاني لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين، وعلى الثالث يجب في غسل الحيض والنفاس خاصة لإزالة دمها، ولا يجب ما وراء ذلك ما ذكرناه قطعًا. انتهى كلامه. وحاصله أن هذه الأوجه محلها فيما يبدو عند القعود وأن ما وراءه وهو باطن الفرج لا يجب بلا خلاف. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يحك الثالث فيما يبدو بل حكاه في الباطن فإنه قال: وكذلك ما ظهر من الثيب بالافتضاض وهو ما يبدو عند القعود لقضاء الحاجة دون ما وراء ذلك في أظهر الوجوه؛ لأنه صار في حكم الظاهر كالشقوق. ¬

_ = ضعفه الترمذي والدارقطني والحافظ ابن حجر والألباني وغيرهم. وهذا الحديث مداره على الحارث بن وجيه وهو ضعيف.

والثاني: لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين، كما لا يجب غسل باطن الفم. والثالث: يجب عليها غسل باطن الفرج في غسل الحيض والنفاس خاصة لإزالة دمها هذا كلام الرافعي وحاصله أنه حكى في الظاهر وجهين مطلقين، وفي الباطن أيضًا وجهين: أحدهما: قائل بعدم الوجوب مطلقًا. والثاني: مفصل، وهذا القائل يوجب غسل المنفذ خاصة لإزالة الدم والتعليل المذكور يدل عليه بخلاف القائل بوجوبه في الظاهر، وهو الذي يبدو عند القيام، فإنه يوجب غسل ما يبدو من أعلى الفرج إلى أسفله. وقد ذكر في "شرح المهذب" نحو ما ذكره الرافعي بإيضاحٍ وزيادة فقال: وإن كانت ثيبًا وجب إيصاله إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة؛ لأنه صار في حكم الظاهر هكذا نص عليه الشافعي وجمهور الأصحاب. [وحكى] (¬1) القاضي الحسين والبغوي وجهًا ضعيفًا أنه يجب على الثيب إيصاله إلى داخل فرجها بناء على نجاسته. ووجها أنه يجب في غسل الحيض والنفاس لإزالة النجاسة ولا يجب في الجنابة وقطع إمام الحرمين بأنه لا يجب على الثيب إيصاله إلى ما وراء ملتقى الشفرين هذا كلامه، واستفدنا منه أربعة أوجه. الأمر الثاني: أن دعواه عدم الخلاف فيما وراء المذكور ليس كذلك فقد استفدنا من كلام الرافعي أن فيها وجهين ومن كلامه في "شرح المهذب" ثلاثة أوجه، وقد سبق في باب الاستنجاء في الكلام على استنجاء المرأة كلام يتعلق بما نحن فيه أيضًا فراجعه، وكلام "الكفاية" أيضًا في هذه المسألة موهم. ¬

_ (¬1) فى جـ: وذكر.

واعلم أن ما نقله في "شرح المهذب" عن البغوي والقاضي من كون الوجوب مفرعًا على النجاسة قد نقل في "الكفاية" عن "التتمة" عكسه. قوله: ويسامح بباطن العقد التي على الشعرات وحكى الروياني وجهًا [أخر] (¬1) أنه يلزمه قطعها. انتهى. ووقع في بعض نسخ "الروضة" كذلك وفي بعضها زيادة على المذكور هنا فصحح فيها خلاف ذلك. قوله: وذهب أبو حنيفة إلى وجوب المضمضة والاستنشاق ثم قال: وذكر إمام الحرمين أن في بعض تعاليق شيخه حكاية وجه موافق لمذهب أبي حنيفة. انتهى. وهذا الوجه مذكور في "الشرح الصغير" أيضًا، وقد أسقطه النووي من "الروضة" على أنه ساقط أيضًا من بعض نسخ الرافعي ولعله السبب في السقوط من "الروضة". قوله في "الروضة": ولو كان على بدنه نجاسة فغسل غسلة واحدة بنية الحدث والنجس طهر عن النجس ولا يطهر عن الحدث على المذهب [فإن] (¬2) الأصح أنه يطهر عن الحدث أيضًا والله أعلم. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بالمذهب يشعر بأن الرافعي حكى في المسألة طريقين أو طرق وليس كذلك، فإنما حكى وجهين ثم قال إن ظاهر المذهب أنه لا يطهر. الأمر الثاني: أن ما صححه هنا من زوائده قد ذكره كذلك أيضًا في أكثر كتبه وجزم في هذا الباب في "شرح مسلم" بأنها لا تكفي وهو الذي جزم به في كتاب الجنائز من "الروضة" و"المنهاج"، فإن الرافعي قد قال هناك ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: قلت.

في "الشرحين" و"المحرر": إن أقل الغسل استيعاب بدنه بالماء بعد إزالة ما عليه من النجاسة وأقره في "الروضة" و"المنهاج" عليه مع أن الاكتفاء بالغسلة في الميت أولى لأن النية لا تجب في غسله لا جرم أن النووي في "شرح المهذب" هناك أحال الأمر فيه على المذكور في الجنابة. الأمر الثالث: قد تقدر أن التثليث مستحب في طهارة الحدث والخبث فهل يقول الرافعي بعدم الإندراج أيضًا في المستحب كما قال به الواجب حتى يغسل العضو. ستّا أم لا؟ فيه نظر: قوله: فنقول إن تجردت الجنابة عن الحدث الأصغر أو اجتمعا وقلنا بالصحيح وهو الاكتفاء بالغسل فالوضوء محبوب ولا يحتاج إلى إفراده بنية، فإن أوجبنا الوضوء امتنع عنده من محبوبات الغسل ولابد من إفراده بالنية انتهى ملخصًا. واعلم أنا إذا جعلناه من المندوبات وقلنا: لا يحتاج إلى الإفراد بالنية فمقتضاه أن نية الغسل كافية في حصوله كما تكفي نية الوضوء في حصول المضمضة والاستنشاق، وبه صرح النووي في بعض كتبه وابن الرفعه [في "الكفاية"] (¬1) ورأيته في "شرح مفتاح ابن القاص" لأبي خلف الطبري وهو باطل لأن نية الغسل على هذا التقدير لابد أن تقارن ابتداء هذا الوضوء كما في غيره إذ لو تأخرت النية إلى فراغه لم يكن المأتي به وضوءًا بالكلية فلابد أن تكون نية الغسل في أوله، ولا شك أن نية الغسل فقط غير كافيه بل لابد أن ينوي غسل الجنابة أو رفع الحدث أو استباحة [الصلاة ونحوها] (¬2) من الأمور المعروفة في موضعها، فإذا أتى بذلك ارتفعت الجنابة عن المغسول من أعضاء الوضوء بلا نزاع لوجود النية والغسل معها إذ لا ترتيب في الغسل فلا يتصور شمول نية الغسل له أعني للوضوء وليس ذلك كالمضمضة ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب.

والاستنشاق فإن محلهما غير محل الواجب إذا لا يجب إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف بخلاف ما نحن فيه، والصواب في هذه المسألة أن نقول: إن تجردت الجنابة عن الحدث الأصغر نوى بوضوئه نية الغسل، وإن اجتمعا كما هو الغالب نوى به رفع الحدث الأصغر ليخرج من الخلاف، وقد ذكره في "الروضة" من زوائده وسبقه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" إلى بعضه ولكنه لم يهذبه فذكره في "الروضة" مهذبًا. والذي قالاه مخالف في الحقيقة لقول الرافعي أنه لا يحتاج إلى إفراده بنية، ونقل النووي في "شرح المهذب" عن الأصحاب أنه لا فرق في حصول نية الغسل بين أن يقدم الوضوء كله أو بعضه أو يؤخره أو يفعله في أثناء الغسل، ولكن الأفضل تقديمه، فإن سلم للرافعي هذا فأخره المغتسل صح أن يقال: إنه لا يحتاج إلى إفراده بالنية؛ لأنه من سننه ونية الغسل قد تقدمت، ولكن ظاهر كلام الرافعي يشعر بالتقديم لا غير ولم يرد في الأَحاديث الصحيحه غيره وهو قياس ما ذكره في سنن الوضوء من اشتراط تقديم غسل الكفين على المضمضة ثم هي على الاستنشاق، وعللوه بأنه الوارد في الأحاديث. ثم إنه إذا أخره وقد اجتمع عليه الحدثان فلا يتجه القول بأنه ينوي به رفع الحدث الأصغر كما أطلقه النووي لأنه يعتقد أنه قد ارتفع بغسل الجنابة فيكون متلاغيًا. وقد ذكر الشافعي في "المختصر" كلامًا حاصله أنه لا يأتي بالوضوء بعد ذلك، وسأذكر لفظه بعد ذلك بنحو ورقه وقد ذكر الداوودي شارح المختصر كلامًا غريبًا فقال في أول الباب قوله: أي قول الشافعي: ثم يتوضأ وضوءه للصلاة أي يقدم غسل أعضاء وضوئه على غيرها من الأَعضاء على

ترتيب الوضوء لكان بنية غسل الجنابة؛ لأن ذلك وضوء هذا لفظه بحروفه والذي نقلناه عن الرافعي واستشكلناه منطبق عليه وينحل به إن كان موافقًا عليه. قوله: الرابع: يفيض الماء على رأسه ثم على الشق الأيمن ثم على الشق الأيسر، الخامس: تكرار البدن ثلاثًا فإن كان بتغميس في الماء انغمس ثلاث مرات. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام يوهم أن غسل الرأس والجسد يفعل مرة ثم مرة ثانية ثم ثالثة كذلك، والأخبار الصحيحة دالة على أنه يغسل رأسه ثلاثًا أولا ثم باقي جسده كذلك. قال في "الكفاية" وهو ما نص عليه الشافعي والأصحاب كافة. الأمر الثاني: أنهم لما نصوا على التيامن في غسل الميت اختلفوا في كيفيته على قولين: أصحهما: أنه يبدأ بمقدم شقه الأيمن وهو الذي يلي [الظهر ثم بمؤخر] (¬1) شقه الأيسر. والثاني: أنه يبدأ بمقدم شقه الأيمن ثم بمؤخره ثم يفعل بشقه الأيسر كذلك، وسكتوا هنا عن ذلك والمتجه طرده فيه أيضًا. الأمر الثالث: ذكر الرافعي -رحمه الله- في "الشرح الصغير" أن ما ولغ فيه الكلب إذا وضعه في ماء جارٍ فجرى عليه سبع مرات كفي بخلاف الراكد [إذا تقرر ذلك فقول الرافعي هنا ينغمس ثلاثًا كلام غير محرر بل تحرير] (¬2). المسألة أن يقال: إن كان جاريًا كفي بعد تمام انغماسه أن يمكث زمنًا يمر عليه من الماء غير ما انغمس فيه ثم مثله وهو زمن لطيف، وإن كان راكدًا فلابد من انغماسه ثلاثًا إلا أنه لا يكفي انغماسه وهو في موضعه في ¬

_ (¬1) في جـ: الوجه ثم يقدم. (¬2) سقط من أ، ب.

حصول التثليث في الأعضاء والحاصلة في الماء، بل لابد من انفصاله بجملته ثم انغماسه ويتجه أن يلحق انتقاله بانفصاله، وقد اختصر في "الروضة" كلام الرافعي بقوله: فإن اغتسل في نهر إلى آخره فزاد الكلام خللًا؛ لأن النهر لا يكون إلا جاريًا. قوله: السابع إذا اغتسلت الحائض أتبعت أثر الدم المساه أو طيب آخر لحديث عائشه المشهور (¬1)، والأولى المسك. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره محله في غير المعتدة التي وجب عليها الإحداد أما المذكوره فإنها تطيب المحل بقليل من قسط أو أظفار كما سيأتيك واضحًا في العدة فراجعه. الأمر الثاني: أن الأصح في "شرح المهذب" وغيره أن استعمال الطيب يكون بعد الغسل، والحديث المذكور في الصحيحين. قوله: في المسألة فإن لم تجد الطيب فالطين؛ لأنه يقطع الرائحة، فإن لم تجد كفي الماء انتهى. عبر في "الروضة" في آخر الكلام بقوله: فإن لم تفعل -أي عوضًا عن تجد- ليس تعبيرًا صحيحًا. قوله: والأَحب ألا ينقص ماء الوضوء عن مد وماء الغسل عن صاع لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع (¬2). انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن صورة المسألة أن يكون الشخص معتدل الخلقة كما كان -عليه الصلاة والسلام- فلو كان ضئيلًا أو متفاحش الطول أو العرض فيستحب له أن يستعمل في الوضوء ما يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد إلى جسد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (308)، ومسلم (332). (¬2) أخرجه البخاري (198)، ومسلم (325) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا قياس الغسل قاله الشيخ عز الدين في القواعد، والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من حديث أنس. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يصرح بحكم الزيادة إلا أن كلامه وكلام غيره يشعر بأنها إذا لم يكن فيها سرف لا تكون مكروه بل مستحبة لأن المستحبات المطلوبة في الوضوء والغسل لا تتأتي إلا بالزيادة قطعًا، وقال في "الكفاية": إن كلام الأصحاب يدل على أن المستحب الاقتصار على الصاع والمد لأن الرفق محبوب وعليه يدل ما روى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "سيأتى أقوام يستقلون هذا فمن رغب في سنتى وتمسك بها بعث معى في حضرة القدس" (¬1) هذا كلامه وهو مردود رددناه عليه في "الهداية"، نعم الإسراف مكروه [وفي "شرح المهذب" وجه أنه حرام. قوله: ويستحب أن يقول في آخره: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. انتهى. واقتصاره على هذا عجيب، بل المقتضى لاستحباب الذكر هو القياس على الوضوء مقتضى لاستحباب جميع ما سبق هناك وهو المذكور في "التحقيق"، وقد زاد في "أصل الروضة" على ما ذكره الرافعي وحده لا شريك له وأشهد إلى أخره. قوله من "زوائده": ولو ترك المغتسل المضمضة أو الاستنشاق أو الوضوء قال الشافعي - رضي الله عنه - والأصحاب: فقد أساء ويستحب أن يتدارك ذلك ¬

_ (¬1) قال الحافظ: رواه الحافظ أبو المظفر السمعاني في أثناء الجزء الثاني من كتابه الانتصار لأصحاب الحديث من حديث أم سعد بلفظ الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي أقوام يستقلون ذلك أولئك خلاف أهل سنتى والآخذ بسنتى معي فى حضرة القدس، وفيه عنبسة بن عبد الرحمن وهو متروك.

انتهى كلامه. وما نقله عن الشافعي من استحباب إعادة الوضوء سهو بل حاصل كلامه أنه يأتى بالمضمضة والاستنشاق دون الوضوء، فقد قال في "المختصر": فإن ترك الوضوء للجنابة أو المضمضة والاستنشاق فقد أساء ويجزئه ويستأنف المضمضة والاستنشاق. هذا نصه بحروفه، والغريب أن النووي قد ذكر هذا النص بعينه في "شرح المهذب" وأوضحه فقال: قال القاضي الحسين والمتولي والروياني وآخرون: وآمره باستئناف المضمضة والاستنشاق دون الوضوء لمعنيين. أحدهما: الخلاف في المضمضة والاستنشاق وكان موجودًا في زمانه فإن أبا حنيفة وغيره ممن تقدم يوجبونهما فأحب الخروج من الخلاف والوضوء لم يكن أوجبه أحد وإنما حدث خلاف أبي ثور وداود بعده. الثاني: أن الماء قد وصل إلى موضع دون موضعهما فأمره بإيصاله إليهما هذا كلامه. ثم ذكر بعد ذلك عن الأصحاب: أنه يستحب استئناف الوضوء لكن استحباب المضمضة والاستنشاق آكد. قوله: من زياداته أيضًا ولا يجب الترتيب في أعضاء الغسل لكن يستحب أن يبدأ بأعضاء الوضوء ثم بالرأس وأعالى البدن. انتهى. وهذه الكيفية إما مخالفة للكيفية التى ذكره هو وغيره قبل ذلك استحبابها. ولا حاجة إليها؛ لأن الرافعي قد ذكرها قبل ذلك. قوله في "الزيادات" أيضًا: ولو أحدث في أثناء غسله جاز أن يتمه ولا

يمنع الحدث صحته لكن لا يصلي حتى يتوضأ. انتهى كلامه. وما ذكره من إيجاب الوضوء قد ذكر مثله في "شرح المهذب" هنا وإيجابه لا يستقيم إلا في صورة خاصة أو على وجه ضعيف سبق في صفة الوضوء في الكلام على غسل الرجل إنه قال في الكتابين هناك: ومن اجتمع عليه حدث أكبر وأصغر فالصحيح أنه يكفيه غسل جميع البدن بنية الغسل وحده ولا ترتيب عليه. والثاني: يجب نية الحدثين إن اقتصر على الغسل. والثالث: يجب وضوء مرتب وغسل جميع البدن. والرابع: وضوء مرتب وغسل الباقى. ولو غسل جميع بدنه إلا رجليه ثم أحدث، فإن قلنا بالوجه الثالث وجب وضوء كامل للحدث وغسل الرجلين للجنابة يقدم أيهما شاء فتكون الرجل مغسولة مرتين، وإن قلنا بالرابع وجب غسل الرجلين بعد أعضاء الوضوء ويكون غسلهما واقعًا عن الحدث والجنابة جميعًا، وإن قلنا بالصحيح الأول فعليه غسل الرجلين عن الجنابة، وغسل سائر أعضاء الوضوء عن الحدث، ثم يتخير في تقديم غسل الرجلين وتأخيرهما وتوسيطهما. انتهى كلامه ملخصًا. وإذا علمت ما قاله هناك اتضح لك ما قدمناه، وهو أن المذكور هنا لا يستقيم إلا على غير الصحيح أو في صورة خاصة، وهى ما إذا أحدث بعد فراغ أعضاء الوضوء. قوله فيها أيضًا: ولو غسل يديه إلا شعرة أو شعرات ثم نتفها، قال الماوردي: إن كان الماء وصل إلى أصلها أجزأ وإلا لزمه إيصاله إليه، وفي

فتاوى ابن الصباغ يجب غسل ما ظهر وهو الأصح، وفي "البيان" وجهان: أحدهما: عند التحقق يجب. والثاني: لا لفوات ما وجب غسله كمن توضأ وترك رجله فقطعت انتهى كلامه. وهذا النقل عن "البيان" ليس مطابقا لما فيه، فإنه إنما فرض المسألة فيما إذا بقى أطراف عسرة فقطع ما لم يغسله والتردد فيه واضح، وأما النتف فالذى قاله الماوردى فيه متجه وقد يوافقه عليه صاحب "البيان".

كتاب التيمم

كتاب التيمم وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: فيما يبيح التيمم وهو العجز عن استعمال الماء إما لتعذره بالكلية أو لتعسره لخوف ضرر ظاهر. انتهى. وذكر مثله في "الروضة" وليس فيه بيان محل العجز أى هل يعم الطهارات كلها أم لا؟ وقد تعرض له في المحرر فقال يتيمم المحدث والجنب [لأسباب وتبعه عليه في "المنهاج" واحترز بالمحدث والجنب] (¬1) عن المتنجس فإنه لا يتيمم عند العجز كما صرح به الرافعي في استدلاله على تقديم المتنجس عند الوصية بالماء للأولى وذلك لعدم وروده، وحكى في التحقيق قولًا قديمًا: أنه يتيمم، وحكى في "شرح المهذب" عن القديم: أنه يمسح موضع النجاسة بالتراب إلا أن الحصر في المحدث والجنب غير مستقيم، فإن الحائض والنفساء والتى ولدت ولدًا جافًا، والمأمور بغسل مسنون كغسل الجمعة والإحرام يتيممون أيضًا، وكذلك الميت يُيمم، والقياس أن المأمور بوضوء مسنون يتيمم أيضًا كما في نظيره من الغسل وقد يقال لا يستحب ذلك كما في تجديد التيمم. قوله في "الروضة": الثانية: أن يجوز وجوده يعني الماء تجويزًا بعيدًا أو قريبًا فيجب تقديم الطلب قطعًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف لا يصح، فقد حكى الصبغى في "شرح المختصر" وجهًا أنه لا يجب الطلب أيضًا إذا غلب على ظنه العدم، وذكر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الإمام في "النهاية": أن بعض المصنفين حكى في المسألة وجهين وعنى به الفورانى فإنه اصطلاحه في المراد بهذه العبارة. وقد نقلها في "البيان" عنه أيضًا، أى عن الفورانى ولم يتعرض الرافعي لنفي الخلاف. قوله: ويشترط أن يكون الطلب بعد دخول الوقت ويجوز أن يثبت فيه على أظهر الوجهين. انتهى. تابعه في "الروضة" على عدم صحة الطلب قبل الوقت وزاد في أثناء الباب فقال: لو طلب مع الشك [في الوقت لم يصح أيضًا وإن صادف الوقت ويتجه أن يكون محل ذلك كله] (¬1) فيما إذا لم يتيقن بالطلب الأول عدم الماء فإن تيقن كفي وبتقدير ألا يتيقن فلا يبعد كما قاله في "الكفاية" أن يتخرج على الخلاف في التيمم لصلاة أخرى وكلام الرافعي يشعر بأن الإذن في الطلب يجوز تقديمه على الوقت وهو متجه. قوله: حتى لو بعث النازلون واحدًا فطلب لهم أجزأ عن جميعهم. انتهى. وهذه المسألة قد حذفها النووي من هذا الموضع ثم ذكرها بعد ذلك من "زوائده". قوله: ولا خلاف أنه لا يسقط بطلبه الطلب عن من لم يأمره ولم يأذن له انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف تابعه عليه في "الروضة" وغيرها لكن كلام الماوردي والروياني دال على عدم اشتراط الإذن وهو الظاهر من جهة المعنى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: والطلب أن يفتش رحله فإذا لم يجد نظر يمينًا وشمالًا وقدامًا وخلفًا إن استوى موضعه، وإن لم يستو نظر وإن كان يخاف على نفسه أو ماله لم يجب الطلب، وإن لم يخف تردد إلى حد لو استعان بالرفقة لأغاثوه مع ما هم عليه من التشاغل، وهذا الضابط ذكره الإمام وتابعه الأئمة من بعده عليه، وليس في الطرق ما يخالفه ثم قال: وهذا إذا كان وحده فإن كان في رفقة إلى أخره. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن تقييد الخوف بنفس الطالب وماله وغير مستقيم، فأن أهله ورفقته في ذلك كنفسه بلا شك، ولهذا عدل النووي في "المنهاج" عن عبارة "المحرر" وأتى بها منكرًا فقال: إن لم يخف ضرر نفس أو مال. الأمر الثاني: أنه لو خاف على ما ليس بمال مما هو منتفع به كالكلاب والسرجين فالمتجه أنه لا يجب أيضًا الطلب وفيه كلام سيأتى عقبه. الأمر الثالث: أن مقتضى إطلاقه أنه لا فرق في المال الذى يخاف عليه بين أن يكون مقدار ما يجب بذله في تحصيل الماء ثمنًا أو أجره أو يكون أكثر منه، وقد اختلف فيه كلامه في "شرح المهذب" فجزم في أواخر الكلام على قوله قال: فإن دل على ماءٍ بأن الخوف على هذا المقدار لا يمنع من وجوب الطلب وجزم قبله بنحو ورقتين بأنه لا فرق، وهذا هو مقتضى إطلاق الأكثرين وهو القياس أيضًا لأنه يأخذه من لا يستحقه. نعم: ذكروا في باب الوصية أنه لو أوصى بكلاب ونحوها وخلف شيئًا من المال صحت وصيته على الصحيح؛ لأن المال وإن قل خير منه فيتجه أن يقال بمثله هنا، على القول بأن الخوف على مقدار ما يجب بذله لا يمنع

الطلب؛ لأن هذا المقدار خير من الكلاب ونحوها وإن كثرت، فلا يكون الخوف عليها مانعًا. الرابع: أنه إذا فرض الكلام فيما إذا كان وحده فكيف تجئ الاستغاثة بالرفقة لأن الفرض ألا رفقة فإن قيل المراد أنه يتردد إلى حد لو كان هناك رفقة واستغاث بهم لأغاثوه، قلنا: لا يستقيم أيضًا، لأن الرفقة الذين تعذر وجودهم لا ضابط لعددهم وحصول الغوث والاستغاثة تختلف فيه المسافة بكثرة الرفقة وقلتهم، وبالجملة فهو غلط ويوضح غلطه أن الرافعي قد نقله عن الإمام كما تقدم، والإمام إنما ذكره في حالة وجود الرفقة وأيضًا فإن الرافعي في "المحرر" قد عدل عن هذا الضابط بالكلية فقال: نظر في الجوانب الأربع إن كان في مستوٍ [وإن احتاج إلى التردد بحسب ما كان ينظر إليه هذه عبارته فقوله وإن احتاج أي بأن كان غير مستو] (¬1)، وقوله ما كان ينظر إلى بقدر ما كان بنظره في مستوى، وضبط بعضهم المنظور إليه عند الإستواء بغلوه سهم كذا نقله في "الشرح الصغير". الأمر الخامس: أن ما ذكره الرافعي من أنه ليس في الطرق ما يخالف تفسير الإمام عند عدم استواء الأَرض ليس كذلك، فقد ضبطه صاحب "الشامل" بأن يصعد على مرتفع وينظر وكذلك صاحب "البيان"، وضبطه القاضي حسين في تعليقه بأن يمشى بقدر غلوة سهم، وذكر الماوردى أيضًا ما يخالفه فقال: كل موضع لو تيقن وجود الماء فيه منع من التيمم وحيث إذا جوز وجود الماء فيه ألا يجوز له التيمم قياسًا على رحله هذا كلامه ذكر في "التتمة" مثله. وقد ذكر الرافعي أن حد الغوث الذى يجب فيه الطلب عند التوهم دون ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

المقدار الذى يجب فيه الطلب عند التحقق، وهو المسافة التى يسير إليها المسافرون للرعى والاحتطاب ونحوها من حاجاتهم فقول الماوردى: إنه يجب عند التوهم في المقدار الذى يجب فيه القصد عند التحقيق مقتضى لعدم ضبطه بما قاله الإمام وهو مسافة الغوث فإنه أوجب الطلب في ما فوقها أيضًا، ولهذا قال الماوردى أيضًا فيما إذا كان سائرًا وعلم أنه يصل الماء في آخر الوقت إن كان في منزله الذى هو فيه عند دخول الوقت كان تأخير الصلاة إلى استعمال الماء واجبًا، لأن المنزل كله محل للطلب، وإن كان تيقنه لوجود الماء في غير منزله كان تأخير الصلاة مستحبًا. قوله: الحالة الثالثة: أن يتيقن وجود الماء حواليه وله ثلاث مراتب: الأولى: أن يكون على مسافة يسير إليها النازلون للاحتطاب والاحتشاش والرعى فيجب السعي إليه، وهذه المسافة فوق حد الغوث. قال محمد بن يحيى: لعله يقرب من نصف فرسخ. انتهى. وهذا الضابط الذى ذكره وتبعه عليه في "الروضة" قد ذكر في المسألة التى بعدها ما يخالفه فقال ما حاصله: أن القدر الذى يسير إليه المسافرون لأغراضهم يختلف صيفًا وشتاءً وتؤثر فيه وعورة المكان وسهولته والمعتبر من ذلك هو الوسط المعتدل لا الحال الذى هو فيه وحذف النووي ذلك. قوله: المرتبة الثانية: أى من مراتب تيقن الماء: أن يكون بعيدًا عنه بحيث لو سعى إليه لفاته فرض الوقت فيتيمم ثم الأشبه بكلام الأئمة أن الاعتبار في هذه المسافة من أول وقت الصلاة الحاضرة: لو كان نازلًا في ذلك الموضع ولا بأس باختلاف المواقيت في الطول والقصر ولا باختلاف المسافة في السهولة والصعوبة، فإن كان التيمم لفائتة أو نافلة اعتبر بوقت الفريضة الحاضرة وعلى هذا لو انتهى إلى المنزل في أخر الوقت والماء في حد القرب وجب قصده

والوضوء، وإن فات الوقت كما لو كان الماء في رحله فإنه يتوضأ وإن فات الوقت. انتهى كلامه. اعترض عليه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة" وغيرهما فقال: هذا الذى ذكره الإمام الرافعي ونقله عن مقتضى كلام الأصحاب من اعتبار أول الوقت ليس كما قاله، بل الظاهر من عباراتهم أن الاعتبار بوقت الطلب هذا هو المفهوم من عباراتهم في كتبهم المشهورة والمهجورة، وهو ظاهو نص الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم" وغيره، فإن عبارته وعبارتهم وإن دل على ماء ولم يخف فوت الوقت ولا ضرر ألزمه طلبه هذا نصه ونصهم وهو صريح أو كالصريح فيما قلته وقد ثبت ذلك وأتقنته والله أعلم. هذا كلامه في "الروضة"، وذكر مثله في "شرح المهذب" لكن قد نقل الفورانى في "الإبانة" عن نص الشافعي أنه يلزمه قصده وإن خرج الوقت. قوله في "أصل الروضة": المرتبة الثالثة أن يكون بين المرتبتين فيزيد على ما يسير إليه النازلون ويقصر عن خروج الوقت فهل يجب قصده أم [يجوز] (¬1) التيمم، نص الشافعي أنه إن كان عن يمين المنزل أو يساره وجب قصده وإن كان صوب مقصده لم يجب فقيل بظاهر النصين، وقيل فيهما قولان والمذهب جواز التيمم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد رجح طريقة القولين فقال: وهذه الطريقة أظهر من الأولى هذا لفظه، والعجب من حذف النووي له. ¬

_ (¬1) في جـ: يجب.

الأمر الثاني: أن الرافعي قد حكى طريقة ثالثة عن "التهذيب" وهي أنه لا يجب يمنه ويسرة وفي صوب مقصده قولان وهذه الطريقة قد أسقطها أيضًا من "الروضة" وهى عكس المنقول في "الروضة" عن النص. قوله: وظاهر المذهب جواز التيمم، وإن علم الوصول إلى الماء في أخر الوقت، روى أن ابن عمر -رضى الله عنهما- أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم. انتهى. عبر النووي في "الروضة" هنا بالمذهب عوضًا عن قول الرافعي ظاهر المذهب فاقتضى ذلك أن الرافعي قد حكى طريقين وليس كذلك والجرف بضم الجيم وإسكان الراء وضمها أيضًا ما أكلته السيول من الأَرض والمربد بكسر الميم وسكون الراء مع الباء الموحدة وبالدال المهملة هو الموضع الذى تحبس فيه الإبل وغيرها، وأهل المدينة يطلقونه على الموضع الذي يجفف فيه التمر قاله الجوهري. والأثر المذكور رواه الشافعي بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب" قال: والجرف بينه وبين المدينة ثلاثة أميال والمربد موضع بقرب المدينة. قوله: وإن لم يتيقن وجود الماء في آخر الوقت ولكن رجاه فقولان أصحهما: أن التقديم أفضل. والثاني: عكسه ثم قال: ولا يخفى أن موضع القولين ما إذا اقتصر على صلاة واحدة أما إذا صلى بالتيمم في أول الوقت وبالوضوء في أثنائه فهو النهاية في إحراز الفضيلة. انتهى كلامه. وما ذكره من اختصاص القولين بحالة الاقتصار على الصلاة الواحدة

وأن ذاك هو النهاية، أخذه الرافعي من النهاية للإمام وتبعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما، وهو مردود لأن الفرض في الصلاة المعادة هى الأولى على الصحيح، ولم يحصل لها فضيلة الطهارة بالماء وهذا أعني أداء الفرض بالماء هو مدرك القائل باستحباب التأخير فكيف يكون هذا الفعل هو النهاية مع فوات هذا المعنى؟ ، وقد جزم القاضي الحسين في تعليقه على الكلام في رؤية [المتيمم] (¬1) الماء في أثناء الصلاة بأن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء لا يستحب له إعادتها به قال بخلاف من صلى منفردًا ثم أدرك جماعة. وما ذكره القاضي قد رأيته مجزومًا به أيضًا في فتاوى القفال وعلله بقوله إذ لا فضل للصلاة بالوضوء على الصلاة بالتيمم عند عدم الماء قال بخلاف الانفراد بالصلاة للخبر. قلت: والفرق هو [بالبدل] (¬2) الإتيان في التيمم بخلاف المنفرد، ونقله أيضًا الرويانى في "البحر" عن الأصحاب ونقله عنه في "شرح المهذب" ولم يخالفه فيه، وقد ذكر ابن الرفعة أيضًا في "الكفاية" نحو ما ذكرناه وأيده ببعض ما أيدناه. ولك أن تقول ما الفرق بين تصحيح استحباب التقديم في مسألتنا وبين من رجى زوال عذره المسقط للجمعة قبل فوات الجمعة، فإن الأصح هناك استحباب التأخير لاحتمال زواله، وقد يفرق بأن الجمعة تفعل في أوائل الوقت غالبًا فتأخير الظهر إلى فواتها ليس بفاحش بخلاف التيمم فإنه لا ضابط في التأخير له فيلزم منه التأخير إلى أخر الوقت ويخاف مع ذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب.

فوات الصلاة. قوله: في المسألة فإن استوى الطرفان عنده أى الوجود في أخر الوقت وعدمه فلا جريان للقولين في هاتين الحالتين بل التعجيل أولى لا محالة وربما وقع في كلامهم نقل القولين فيما إذا لم يظن الوجود ولا العدم [ولا وثوق به وكأن ذلك القائل أراد بالظن اليقين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله من نفي الخلاف في حالة التساوى تبع فيه الإمام، والإمام قلد القاضي الحسين وهو باطل فقد صرح جماعات كثيرة بجريان القولين في هذه الحالة، فقال الشيخ أبو حامد والماوردى والمحاملى في "التجريد": لو كان لا يعلم وجود الماء في آخر الوقت ولا عدمه ولم يكن أحد الاحتمالين في وجوده وعدمه أقوى من الآخر ففيه القولان وقال القاضي أبو الطيب: فإن كان يرجوا وجود الماء ويرجو عدمه ففيه قولان وعبارة البندنيجي وإن وقف بين الأمرين فقولان، وعبارة "المهذب" وإن كان يشك ففيه قولان، وهذا الذي ذكرناه قد نقله في الكفاية عن العراقيين قاطبة، وذكر في "الروضة" بعضه وقد علم بطلان ما قاله الرافعي نقلًا وتأويلًا. الأمر الثاني: أن قول الرافعي: "ولا العدم" قد أسقطه من "الروضة" فأفسد المعنى. قوله أيضًا في المسألة: وذهب الإمام والغزالي إلى أن تقديم الصلاة منفردًا أفضل من التأخير لحيازة الجماعة، واحتجاجه للقول الأول فيما إذا رجا الماء وعكسه صاحب "الإفصاح" واحتج به للقول الثاني وقال آخرون وفيه خلاف مبني على الخلاف في تأخير التيمم. انتهى ملخصًا.

فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام في الرافعي يقتضي أن مسألة الجماعة فيها ثلاث طرق مفروضة أيضًا في حالة الظن لا في حالة اليقين وإلا لم يحسن الاستدلال، وبه صرح البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما من العراقيين وكلامه في "الروضة" لا يدل على ذلك، فإن جعلها مسألة مستقلة ولم يتعرض إلى الاستدلال بما على تلك فقال: أما تعجيل المتوضئ وغيره الصلاة في أول الوقت منفردًا وتأخيرها لانتظار الجماعة ففيه ثلاث طرق قيل: التقديم أفضل، وقيل: التأخير، وقيل: قولان. قلت: قطع معظم العراقيين بأن التأخير للجماعة أفضل، ومعظم الخراسانين بأن التقديم منفردًا أفضل، وقال جماعة: هو كالتيمم فإن تيقن الجماعة في آخر الوقت فالتأخير أفضل، وإن ظن عدمها فالتقديم أفضل، وإن رجاها فقولان فينبغي أن يتوسط فيقال: إن فحش التأخير فالتقديم أفضل وإن خف فالتأخير أفضل، وموضع الخلاف إذا اقتصر على صلاة واحدة فأما إذا صلى أول الوقت منفردًا وآخره في جماعة فهو النهاية في إحراز الفضيلة وقد جاء به الحديث في صحيح مسلم. هذا كلامه في "الروضة" ولا يؤخذ منه ما يؤخذ من كلام الرافعي من كون هذه الطرق مفروضة في حال الظن بل يؤخذ منه أن الطريقين الأولين عامان وإلا لم يحسن الطريق الثالث المنفضل وهو فاسد بلا شك فكيف يقطع بأن التأخير أفضل عند [ظن] (¬1) الحصول، ولو عبر في الطريق الثالث بقوله: وقيل على القولين في التيمم لكان كلامه مستقيمًا مطابقًا لكلام الرافعي وحينئذ يكون التفصيل بين الفحش وعدمه راجعًا إلى حالة ظن ¬

_ (¬1) في جـ: عدم.

الجماعة وهو مراد النووي بلا شك وكأنه لما اختصر كلام الرافعي تصرف في حكاية الثالث فلزم الوهم. الأمر الثاني: أنه إذا ظهر لك جميع ما قلناه ظهر لك أن كلام الرافعي ساكت عن حالة يقين الجماعة، وقد تعرض في "شرح المهذب" لهذه الحالة أعني لحالة اليقين فقال بعد حكاية الخلاف ما نصه: فإن أراد الاقتصار على صلاة واحدة فإن تيقن حصول الجماعة آخر الوقت فالتأخير أفضل لتحصيل شعارها الظاهر، ولأنها فرض كفاية على الصحيح في مذهبنا وفرض عين على وجه لنا وهو قول ابن خزيمة من أصحابنا وهو مذهب أحمد بن حنبل وطائفة ففي تحصيلها خروج من الخلاف ولم يقل أحد أنه يأثم بتأخيرها، ويحتمل أن يقال: إن فحش التأخير فالتقديم أفضل وإن خف فالانتظار أفضل هذا كلامه. [وما ذكره ثانيًا من أن محله إذا اقتصر على صلاة واحد فيه نظر تقدم ذكره قبل هذا بقليل في الكلام] (¬1) على أنه إذا رجا الماء هل يستحب له التأخير أم لا؟ لكن الحديث الذي أشار إليه يعضده وهو ما ثبت في "صحيح مسلم" (¬2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أنه سيجيء أئمة يؤخرون الصلاة عن أول وقتها قال: فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة. الأمر الثالث: أن هذا الخلاف المذكور في أن الأفضل التقديم أو التأخير ينبغي تقييده بما إذا أوقع الصلاة كلها في الوقت، فإن خرج بعضها فلا شك في مرجوحيته وإن جعلناها أداء للخلاف المشهور في جوازه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) رقم (534) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

الأمر الرابع: أن النووي قد أسقط من "الروضة" قول الرافعي إلا لعدم فأفسد المعنى. واعلم أنه قد يصور لك في أصل المسألة أن الشخص قد يتعلق به وجوب فعل ومع ذلك فالأفضل له ألا يفعله في ذلك الوقت بل يؤخر وله نظائر فمنها تأخير الصلاة ليصلي بالماء إذا تيقنه وتأخيرها في شدة الحر بالشروط المعروفة بخلاف زكاة الفطر فإنها تجب بالغروب ويستحب تأخيرها إلى يوم العيد قبل الصلاة كما قاله ابن الرفعة وغيره، ولكن رأيت في الأم في كتاب اختلاف مالك والشافعي أن ابن عمر يخرجها قبل الفطر بيومين أو ثلاث ثم قال ما نصه قال الشافعي: هذا حسن واستحسنه لمن فعله هذا لفظه بحروفه من "الأم" نقلته. وبخلاف دم التمتع فإنه يجب بالإحرام بالحج ويستحب له تأخيره إلى يوم النحر كما قاله الرافعي وغيره ومسألة دم القران ففيه أفعال يوم النحر كالحلق وطواف الإفاضة، ورمى جمرة العقبة فإن وقتها يدخل بنصف الليل، ولكن يستحب تأخيرها إلى يوم النحر. [فإذا] (¬1): تقررت هذه الصورة وما أشبهها فلو مات من أمرناه بتأخير الصلاة ونحوها قبل الفعل فيظهر ألا يعصي جزمًا لأن الفرض أنه ما فوت بالتأخير وقد أحسن باتباع الأمر فكيف يعصي وعلى هذا فيستثني من إصرار الخلاف في الصلاة وما أشبهما. قوله: من "زياداته" قال صاحب الفروع: لو خاف فوات الجماعة لو أكمل الوضوء فلحاق الجماعة أولى وفيه نظر. انتهى. ¬

_ (¬1) في الأصل: قوله.

وهذا الحكم الذي نقله عن بعضهم وتوقف فيه قد ذكر مثله في "شرح المهذب"، وقد ارتضاه في التحقيق فإنه جزم له ولم ينقله عن أحدٍ قال: والمراد بإكمال الوضوء أن يأتي بآدابه. قلت: إن للمسألة نظائر. فمنها: إذا علم أنه لو قصد الصف الأول لفاتته الركعة، قال النووي في "شرح المهذب" والتحقيق: الذي أراه يحصل الصف إلا في الركعة الأخيرة فتحصيلها أولى وكلامه يدل على أنه لم يجد لأحدٍ فيها نقلًا ولم يذكرها في "الروضة". ومنها: إذا ضاق الوقت عن سنن الصلاة وكانت بحيث لو أتى بها لم يدرك ركعة، ولو اقتصر على الواجب لأوقع الجميع في الوقت، ذكر البغوي في فتاويه ما حاصله أن السنن التي تجبر بالسجود يأتي بها بلا إشكال، وأما غيرها فالظاهر الإتيان بها أيضًا لأن الصديق - رضي الله عنه - كان يطوّل القراءة في الصبح حتى تطلع الشمس قال: ويحتمل ألا يأتي بها إلا إذا أدرك ركعة هذا حاصل كلامه وهي مسألة كثيرة الوقوع غزيرة النقل. وفيما قاله نظر وينبغي ألا يجوز له فعل شئ من السنن إذا قلنا أن إخراج بعض الصلاة عن الوقت لا يجوز فأن المتوضئ إذا كان بحيث لو غسل كل عضو ثلاثًا لم يكف ماؤه قال البغوي في فتاويه يجب أن يغسل مرةً مرةً فلو غسل ثلاثًا فلم يكف وجب التيمم ولا يعيد لأنه صب الماء لغرض التثليب فليس كما لو صبه سفهًا وصار كما لو أمكن المريض أن يصلي قائمًا بالفاتحة فصلى قاعدًا بالسور جاز.

هذا كلامه وظاهره التعرض حيث قال: أولًا يجب، وقال آخرًا: جاز وكان مراده بقوله يجب إنما هو ينبغي لأن أخر الكلام صريح لا يحتمل تأويلًا لكن جزم النووي في أول باب فرض الوضوء وسنته من "شرح التنبيه" المسمى تحفه التنبيه بوجوب الاقتصار على فرائضه عند ضيق الوقت أو الماء عن سنته. قوله: ولو انتهى إلى بئر وعلم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد خروج الوقت فقد نص فيه وفي مثله في الثوب الواحد يتناوب عليه جماعة من العراه أنه يصبر، ونص فيما لو اجتمعوا في سفينة فيها موضع واحد يمكن فيه الصلاة قائمًا ولا تجئ نوبيته إلا بعد خروج الوقت على أنه يصلي قاعدًا. واختلف الأصحاب على طريقين أظهرهما على قولين بالنقل والتخريج، أظهرهما أنه يصلي في الوقت بالتيمم وعاريًا وقاعدًا لحرمة الوقت. الثاني: يصبر لقدرته على الوضوء واللباس والقيام، والطريقة الثانية تقرير النصين والفرق أن القعود أسهل ولهذا جاز تركه في النقل بخلاف الوضوء والسنن انتهى ملخصًا. وهذان التصحيحان أعني تصحيح طريقة التخريج وتصحيح الصلاة في الوقت بتيمم وبقعود وتعرى قد نقل النووي في أصل "الروضة" [طريقين] (¬1). أحدهما: وهو تصحيح التخريج وحذف الآخر وهو المقصود المعني به ثم ذكر من زياداته ما حذفه وضم إليه ما لم يحذفه فقال: قلت: الأصح من الطريقين إجراء القولين في الجمع وأظهرهما يصلي في الوقت بالتيمم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وعاريًا وقاعدًا ولا إعادة على المذهب هذه عبارته وهو اختصار عجيب، وذكر الرافعي المسألة في "الشرح الصغير" أيضًا كما ذكرها في الكبير. قوله: وإذا وجد الجنب ماء لا يكفيه لغسله أو المحدث ما لا يكفيه لوضوئه: ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمه استعماله بل يتيمم كما لو وجد بعض الرقبة في الكفارة. وأصحهما: أنه يجب استعماله ثم يتيمم عن الباقي كما إذا كان بعض أعضائه صحيحًا والبعض جريحًا ثم قال: وأما إذا كان الشخص محدثًا ولم يجد إلا ما يصلح للمسح كثلج وبرد لا يذوب فالأظهر القطع بالاقتصار على التيمم وقيل على القولين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تصويرهم المسألة في الوجوب يشعر بجواز الاستعمال جزمًا وهو كذلك بل حكى في "شرح المهذب" الاتفاق على استحبابه حتى إذا استعمل المقدور عليه ثم قدر على الباقي فيكمل وفيه نظر ويقويه استدلالهم ببعض الرقبة فإنه كما لا يجب اعتاقه عن الكفارة لا يصح أيضًا. الأمر الثاني: أنه لم يبين هو ولا النووي في "الروضة" حكم القضاء هل يجب أم لا؟ ، وقد بينه في "شرح المهذب" هنا فقال ما نصه: ولا إعادة عليه على المذهب، وبه قطع الجمهور وحكى الدارمي وجهًا أن الإعادة تجب. ذكره في أول باب المياه، وقد ذكرته أنا هناك انتهى كلامه. والأمر كما ذكره هناك لكنه ذكره مخالفًا للمذكور هنا فإنه حكى في الإعادة ثلاثة أوجه، وصحح الثالث وهو وجوبها على الحاضر دون المسافر ذكر ذلك قبيل قوله: قال المصنف: وما ينبع من الأرض إلى آخره.

قوله: فإن أوجبنا فيغسل المحدث وجهة ثم يديه على الترتيب ويغسل الجنب من جسده ما شاء ولكن الأولى أعضاء الوضوء والرأس. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد أهمل الرأس واقتضى كلامه مساواتها لباقي الجسد وأهملها أيضًا من التحقيق فقال: وأعضاء الوضوء أولى وقيل أعلا البدن. الثاني: أنه في "شرح المهذب" قد حكى هذين الوجهين من غير ترجيح أعنى ما قاله الرافعي والقائل بأعالي بدنه ثم توسط بينهما فقال المختار البداءة بأعضاء الوضوء ثم بالرأس ثم بالشق الأيمن كما يفعل من يغسل جميع البدن. قوله: والقولان محلهما إذا قدر أيضًا على التراب فإن لم يقدر عليه فالأظهر القطع بوجوب استعمال الناقص والفرق بينه وبين ما إذا وجد بعض الرقبة ولم يقدر على الصوم والإطعام حيث لا يؤمر بالإعتاق أن الكفارات [على التراخي. انتهى كلامه. وهو صريح في أن الكفارات] (¬1) الواجبة بالتعدي تكون على التراخى؛ لأنه مثل بكفارة الظهار والمجامع في رمضان، وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي -رحمه الله- في مواضع من هذا الكتاب واختلف كلامه فيها اختلافًا عجيبًا وتبعه عليه في "الروضة" وقد أوضحت ذلك في كتاب الظهار. قوله من "زوائده": ولو كان جنبًا أو محدثًا أو حائضًا وعلى يديه نجاسة ووجد ما يكفي أحدهما تعين للنجاسة فيغسلهما ثم يتيمم فلو تيمم ثم غسلها جاز على الأصح انتهى. وجواز التيمم قبل غسل النجاسة قد صححه أيضًا من "زياداته" قبيل ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الباب الئالث من كتاب التيمم فقال: ولو كانت يده نجسة فضرب بها على ترابٍ ومسح وجهه جاز على الأصح ولا يجوز مسح النجسة قطعًا انتهى كلامه. [إذا علمت ذلك] (¬1) فقد صحيح في آخر باب الاستنجاء من زياداته أيضًا عكس هذين الموضعين فقال: ولو تيمم وعلى بدنه نجاسة أخرى فهو كالمتيمم قبل الاستنجاء وقيل: يصح قطعًا والصواب ما ذكره هناك وهو عدم الصحة فقد نص عليه الشافعي في "الأم" كما نقله عنه ابن الصباغ في "الشامل" وصححه هو والقاضي أبو الطيب والشيخ نصر والشاشي وغيرهم. ولو طرأت عليه النجاسة بعد التيمم، وقلنا: إن التيمم معها لا يصح، قال الروياني فهو على الوجهين فيمن تيمم ثم ارتد والعياذ بالله تعالى. [قوله] (¬2) ولو أتلف الماء في الوقت لغرض كشرب للحاجة أو غسل ثوب للنظافة أو تبرد فلا إعادة عليه. انتهى. وتعبيره بالغرض يشمل ما إذا كان السرف للتلذذ كما لو أذاب به سكرًا وشموله لذلك صحيح وقد نقله في "البحر" عن القفال وأنه ألحق بذلك ما إذا شك في طهارته فأراقه احتياطًا، وجزم بمثله في "التتمة" فإنه جعل الضابط في موضع الجزم ما إذا صرفه إلى مباح وموضع التردد الآتي عقب هذه المسألة ما إذا أتلفه عبثا ونقل في "البحر" عن بعضهم ما يوهم تخريج شربه للتلذذ على الإراقة سفهًا وليس كذلك. قوله في المسألة: ولو أتلفه فيه لغير غرض وتيمم لم يلزمه القضاء في ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من أ، ب.

أظهر الوجهين لأنه تيمم وهو عادم للماء وكما لو صب قبل الوقت، والثاني: يجب لعصيانه بخلاف ما قبل الوقت وبخلاف ما لو اجتاز بماء في الوقت فلم يتوضأ ثم بعُد عنه وصلى بالتيمم فإنه لا قضاء عليه قطعًا لأنه لم يضع شيئًا هنا، فإنما امتنع من التحصيل والتقصير في تفويت الحاصل أشد منه في الامتناع من تحصيل ما ليس بحاصل ورأيت في كلام الشيخ أبي محمد طرد الوجهين فيه وهو غريب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من عدم العصيان في الصب قبل الوقت [فيه نظر] (¬1) لأنه إضاعه مال: فالصواب تحريمه ولم يتعرض له في "الروضة"، ولو أحدث عمدًا لغير حاجة كما لو مس فرجه أو مس امرأة لغير سبب فيتجه الحاقه بالإتلاف بلا سبب. الثاني: أن كلامه في مسألة الاختيار يوهم عدم وجوب الوضوء والقياس وجوبه ويدل عليه وجوب قبول الهبة، وبذلك يقوي ما ذهب إليه الشيخ أبو محمد من طرد الوجهين وفيه كلام يأتيك قريبًا. [قوله] (¬2) ولو باعه أو وهبه لا لحاجة لم يصح في أشبه الوجهين لأنه عاجز عن تسليمه شرعًا فإن صححنا ففي وجوب القضاء ما ذكرناه في الصب لأنه فوته بإزالة الملك عنه، وإن قلنا بعدم الصحة فلم يقدر على استرداده قضاه وإن تلف ففي القضاء الخلاف في الصب ثم قال: وإذا أوجبنا القضاء في هذه الصورة ففي القدر المقضي ثلاثة أوجه: أصحها: يقتضي تلك الصلاة فقط. والثاني: أغلب ما يؤديه بوضوء واحد. والثالث: كل صلاة صلاها بالتيمم انتهى. ¬

_ (¬1) في حـ: ممنوع. (¬2) سقط من أ، ب.

وهذا الوجه الثالث لم يحكه الرافعي على وجهه ولا يتصور الأخذ بظاهر ما حكاه فيه، فإن المراد من هذا الوجه أن يصلي صلوات بالتيمم من غير حدث هكذا بينه في "التهذيب" فقال: وقيل: يعيد ما صلى بالتيمم إلى أن أحدث هذا لفظه، وقد ذكره النووي في "الروضة" وذكره في "شرح المهذب" على الصواب، وحكاه عن البغوي وغيره ثم ضعفه، وما قبله فإنه يلزم قائله أن يقول: إن من توضأ ثم أحدث من غير ضرورة وصلى بالتيمم يعيد، واعلم أن ما صححوه من بطلان الهبة فيه نظر، فإنه لو وجبت عليه كفارة وهو يملك عبدًا فوهبه أو طولب بديون فوهب ما يملكه فإن الهبة تصح كما جزم به في "شرح المهذب" هنا. واعلم أن التعبير بقوله في هذه الصور أعني بلفظ الجمع قد وقع في النسخ الصحيحة من الرافعي وهو الصواب، ووقع في بعضها بإثبات الياء وهو غير مستقيم. قوله من "زوائده": قال أصحابنا وإذا قلنا لا تصح هبة هذا الماء فتلف في يد الموهوب له فلا ضمان عليه على المذهب. انتهى. وما ذكره من عدم الضمان مطرد في كل هبة فاسدة ووجهه أن الهبة الصحيحة لا ضمان فيها على القابض وفاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه، وقد ذكر الرافعي المسألة في البيع والهبة والوصايا واختلف فيها كلامه وكلام النووي وسيأتيك ذلك إن شاء الله تعالى واضحًا في كتاب الهبة فراجعه. قوله؛ ولو وهب منه الماء لزمه قبوله لأنه واجد والمنة فيه لا تعظم [انتهى] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فإن لم يقبل وتيمم بعد عدم الماء أو امتناع مالكه من الهبة أثم وفي وجوب الإعادة الوجهان فيمن صب الماء بعد الوقت لغير غرض كذا قاله النووي في "شرح المهذب" والصواب في هذه المسألة تصحيح القطع بعدم الإعادة، فإن هذا من تفويت تحصيل ما ليس بحاصل لا من تفويت الحاصل وقد سبق إيضاحه قريبًا. قوله: ولو أقرض منه الماء وجب قبوله في أصح الوجهين؛ لأنه إنما يطالب عند الوجدان وحينئذ يهون الخروج عن العهدة، ولو أقرض منه الثمن فإن كان معسرًا لم يلزمه قبوله، وإن كان موسرًا لكن الماء غائب فكذلك في أظهر الوجهين انتهى كلامه. وقد اعترض عليه ابن الرفعة فقال: إن أراد بقوله عند الوجدان وجدان الماء فقد نص الشافعي على أنه إذا أتلف عليه ماء في المفازة ولقيه في بلد أخر وجبت القيمة في مفازة لأن الماء في البلد [قيمته وقد سلم هو والجمهور هذا النص وإن أراد وجدان قيمته في البلد] (¬1) فالثمن الذي يقرضه إياه مثله في المعنى وقد صحح أنه لا يلزمه قبول قرضه وهذا الاعتراض [ظاهر والتفريق بالتغليظ على الغاصب] (¬2) لا ينهض لأن النص مصور بما إذا مات وله في تركته ماء فصرفناه إلى العطشان. قوله: ولو بيع الماء بنسيئة وهو معسر لم يجب قبوله وإن كان موسرًا وجب على الصحيح. انتهى. وصورة المسألة أن يكون الأجل ممتدًا إلى أن يصل بلد ماله وقد نبه عليه في "الروضة". قوله: ولو وجد ثمن الماء واحتاج إليه لدين مستغرق أو نفقه حيوان محترم معه أو لمؤنة سفرة في ذهابه وإيابه لم يجب شراؤه، وإن فضل عن ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

هذا كله وجب الشراء إن بيع بثمن المثل. انتهى. تابعه على ذلك في "الروضة" وفيه أمور. أحدها: أن المتجه اعتبار المسكن والخادم على خلاف ما يقتضيه كلامه. الأمر الثاني: أن إطلاقه يقتضي أن لا فرق في الدين بين الحال والمؤجل وبه صرح في "الكفاية". ولا في السفر بين الطاعة وغيرها من [الجائزات ولا يبين أن يريده في الحال أو بعد ذلك ولا يبيّن نفسه وغيره من] (¬1) مملوك وزوجة ورقيق ونحوهم ممن يخاف انقطاعهم وهو ظاهر بخلاف الدين لأنه لا يجب أداء دين الغير ويجب جملة عند الانقطاع. نعم لو كان معسرًا ولا ينبه له فهل يجب إعطاؤه الخلاصة من عقوبة الحبس فيه نظر. الأمر الثالث: إن تعبيره بعدم الوجوب يشعر بجواز بدله فيه لكنه لا يخفي تحريم ذلك في بعض الصور. الأمر الرابع: إن تقييد الدين بكونه في ذمته قد حذفه من "الروضة" وهو أصوب ليدخل فيه ما إذا ضمن دينًا في عين من أعيان أمواله وأعار شيئًا لغيره ليرهنه كما تعرفه في موضعه ولا يرد علينا دين الغير لأنه لا يقال فيه أنه تحتاج إلى وفائه. قوله: وفي ضبط ثمن المثل أوجه أظهرها عند الأكثرين: أنه ثمنه في ذلك الموضع في تلك الحالة. والثاني: فيه ولكن فى غالب الحالات وبه قال أبو إسحاق واختاره الروياني. والثالث: قدر أجرة نقله إلى ذلك الموضع قال في "الوسيط": سواء قلنا الماء مملوك أم لا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

فيه أمور: أحدها: أن الوجه الأول قال به الدارمي وصححه الفوراني في "الإبانة" ونقله الإمام عن الأكثرين، فقلده فيه الرافعي، ومشى عليه النووي والأكثرين على تصحيح الثاني فقد قال به مع من تقدم أيضًا الشيخ أبو حامد كما نقله عنه النووي في "شرح المهذب" والبندنيجي والمحاملي نقلًا عن أبي إسحاق ساكتين عليه، وسليم في "المجرد" والقاضي أبو الطيب والماوردي والفوراني في "العمد" وابن الصباغ والجرجاني في "الشافي" وصوبه الروياني في "البحر" وقال: إن الوجهين في الآخيرين ضعيفان، وجزم به الشيخ نصر المقدسي في كتابه المسمى "بالمقصود" والطبري صاحب "العدة" وهو أبو عبد الله الحسين أبو المكارم وسكت عن الترجيح جماعة منهم صاحب التهذيب و"التتمة" و"البيان" وغيرهم ولم يختر الإمام ما نقله عن الأكثرين بل قال الأقرب عندي أن يقال: تغيير الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى حالة سد الرمق. الأمر الثاني: أن الغزالي في "البسيط" قد جعل اعتبار الأجرة مفرعًا على أن الماء لا يملك على خلاف ما في "الوسيط". الأمر الثالث: أن الرافعي قد فرع على الوجه الأخير مسألة حسنة توقف فيها وحذفها النووي فقال وعلى هذا فالأجرة تختلف باختلاف المسافة طولًا وقصرًا فيجوز أن تعبير الوسيط المقتصد ويجوز أن تعبير الحد الذي يسعى إليه المسافر عند تيقن الماء [فإن ذلك الحد لو لم يقدر على المسعى إليه بنفسه واحتاج إلى بذل إلى الأجرة الماء] (¬1) إليه لزمه بذلها إذا كان واجدًا لها. قوله في "الروضة": ولو منع منه آلات الاستقاء أو أجرت بثمن المثل وأجرته وجب القبول فإن زادت لم تجب كذا قاله الأصحاب، ولو قيل: يجب التحصيل ما لم تجاوز الزيادة ثمن مثل الماء لكان حسنًا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وهذا الذي ذكره بحثًا محله في البيع خاصة لا في الإجارة، وقد أشار الرافعي إلى ذلك في تعليل ذكره عقبه، ولكن حذفه النووي فقال؛ لأن الآلة المشتراه تبقى له وقدر ثمن المثل يحتمل التلف في هذه الجهة، هذه عبارته وهو واضح؛ لأن المنفعة استهلكت لغرض تحصيل الماء فلا وجه للزيادة بخلاف الأعيان. قوله: ولو لم يجد إلا ثوبًا وقدر على شده في الدلو ليستقي لزمه ذلك فلو لم يكن دلو وأمكنه إدلاؤه في البئر ليبتل ويعصر منه ما يوضئه لزمه فلو لم يصل إلى الماء وأمكن شق وشد بعضه ببعض لزمه، هذا كله إذا لم يحصل في الثوب نقص يزيد على أكثر الأمرين من ثمن المثل وأجره الحبل انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وخالف في "شرح المهذب" فاعتبر في الإدلاء نقصائه عن ثمن الماء، وقال في الشق، فإن كان نقصه بالشق لا يزيد على الأكثر من ثمن المثل وعن آلة الاستقاء لزمه. هذه عبارته. وفيه مخالفة أخرى مع ما ذكرناه وهي تعبيره بقوله وثمن آلة الإستقاء والظاهر أنه أراد أجرة الآلة فسبق القلم إلى الثمن؛ لأن الآلة ما ليتها باقية بعد الاستقاء والشق لا جائز له واعتبار أكثر الأمرين ذكره الشاشي وادعى أنه الصواب فتابعاه عليه: قوله: وغير المحترم من الحيوان هو الحربي والمرتد والخنزير، والكلب العقور. [انتهى. وتقييد الكلب الذي ليس بمحترم بالعقور يدل على أن غير العقور] (¬1) محترم لا يجوز قتله وبه صرح في كتاب الأطعمة في الباب الثاني المعقود للاضطرار فقال: إنه محترم يجب إطعامه وسقيه إذا كان مضطرًا قال بخلاف المرتد والخنزير والكلب العقور. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

ثم ذكر ما يخالف ذلك في موضعين من هذا الكتاب. أحدهما: في باب محرمات الإحرام في أوائل النوع السابع فقال: ومن الحيوان ما لا يظهر فيه نفع ولا ضرر كالخنافس والجعلان والسرطان والرخمة والكلب الذي ليس بعقور فيكره قتلها هذا كلامه ولا يمكن حمل الكراهة هنا على التحريم؛ لأن غير الكلب مما ذكره لا يحرم قطعًا. والموضع الثاني في كتاب الغصب فإنه نقل عن الإمام هناك أنه غير محترم وأقر ذكر ذلك في الكلام على ما إذا غضب خيطًا وخاط به جرح حيوان وجزم به في "الشرح الصغير" هناك أيضًا ولم يعزه إلى الإمام وجزم أيضًا بجواز قتلها في "شرح مسند الشافعي"، وقد سلم "الشرح الصغير" من الاختلاف فإنه أجاب بالجواز في الحج والغصب ولم يتعرض له في غيرهما. واعلم أن النووي -رحمه الله- قد اختلف أيضًا كلامه في هذه المسألة فإنه تابع الرافعي على هذه المواضع الواقعة في "الشرح الكبير" وزاد في الحج فقال قوله: إن الكلب الذي ليس بعقور يكره قتله مراده كراهة تنزيه وفي كلام غيره ما يقتضي التحريم، ونقل في "شرح مسلم" عن الأصحاب أنه لا يجوز قتله ولم يحك فيه خلافًا. ذكر ذلك في باب حكم الولوغ، وقد اختلف أيضًا كلامه في "شرح المهذب" فجزم المهذب في التيمم بأنه غير محترم وحكى في الحج وجهين أو صحح أنه محترم وجزم به في باب ما يجوز بيعه وادعى أنه لا خلاف فيه فإنه قال ما نصه: قال أصحابنا: وإن لم يكن الكلب عقورًا ولا كلبًا لم يجز قتله سواء كان فيه منفعة أم لا وسواء أكان أسود أم لا وهذا كله لا خلاف فيه بين أصحابنا هذا لفظه بحروفه وهو تناقض عجيب، حيث يقول: لا خلاف فيه ثم يصح عكسه وقد جزم بالتحريم القاضي الحسين والماوردي وإمام الحرمين في باب بيع الكلاب، ويتحرر من ذلك أن الإمام أيضًا قد اختلف كلامه، وبالجملة فمذهب الشافعي جواز قتله

صرح به في "الأم" في باب الخلاف في ثمن الكلاب. قوله في "الروضة": ولا يكلف أن يتوضأ بالماء ثم يجمعه ويشربه [على المذهب] (¬1) انتهى. وفيه أمران: أحدهما: أن كلامه يشعر بأنه يجب تعاطي ذلك عند الاحتياج إلى سقى غيره وهو ظاهر منقاس في الحيوان، وأما الآدمي ففيه نظر. الثاني: أن هذا الكلام يقتضي أن الرافعي قد حكي في المسألة طريقين وليس كذلك بل لم يصرح بحكاية خلاف بالكلية، فإنه قال بعد جزمه بأن العطشان يشربه ما نصه: وكان والدى -رحمه الله- يقول: ينبغي أن يقال لو قدر على التطهير به وجمعه في طوق ليشربه لزمه ذلك ولم يجز التيمم، وما ذكره يجئ وجهًا في المذهب؛ لأن أبا على الزجاجي ذكر كذا وكذا ثم ذكر ذلك اللفظ الذي سأذكره بعد ذلك فراجعه. قوله: لأن أبا علي الزجاجي والماوردي وآخرين ذكروا أن من معه ماء طاهر وماء نجس وهو عطشان يشرب النجس ويتوضأ بالطاهر، فإذا أمر بشرب النجس ليتوضأ بالطاهر فأولى أن يؤمر بالوضوء ويشرب المستعمل. انتهى كلامه. زاد النووي على هذا فقال نقل الشاشى هذا عن الماوردي وأنكره، وقال: يشرب الطاهر وهذا هو الصحيح والله أعلم. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها] (¬2): أن كلام الزجاجي مطابقا لما نقله عنه الرافعي فقد رأيت ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ: علمت.

كتابه الذي ينقل الرافعي والأصحاب عنه وهو "زيادات المفتاح" الملقب بالتهذيب فقال بعد كتاب الطهارة بنحو ورقة ما نصه: ولو كان مع المسافر ماءان طاهر ونجس توضأ بالطاهر، وحبس النجس للعطش هذا لفظه بحروفه، ومقتضاه أن العطش ليس حاصلًا الآن، وإنما هو متوقع ولهذا قال: وحبس النجس ودعوى الرافعي في الشرب حال الوضوء وبينهما فرق ظاهر إذا لا يلزم من إيجاب الوضوء بالطاهر إذا لم يكن به عطش إيجابه عند العطش. وقد ذكر الشافعي في "الأم" نحو ما قاله الزجاجي فقال: إذا كان مع الرجل في السفر إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس واشتبها عليه وكان يخاف العطش فيما بعد إن توضأ بالماء فإنه يتحرى ويتوضأ بالطاهر في ظنه ويمسك الآخر حتى إن احتاج إليه لعطشه شربه هكذا حكاه عنه صاحب "البيان" في باب الشك في نجاسة الماء وهو يؤيد الفرق أيضًا. الأمر الثاني: أن ما نقله الرافعي واقتصر عليه من كونه يشرب النجس هو المفتى به لأمرين: أحدهما: أن الشافعي قد نص عليه في حرملة كذا رأيته في الرونق لأبي حامد وفي "اللباب" للمحاملي وفي تصنيف آخر يسمى بهذا الاسم أيضًا للإمام أبي حفص عمر بن عبد الله بن طاهر البستي جميعهم في أواخر الكتاب في كتاب الأشربة فقالوا: وقال في حرملة: إذا وجد ماءًا طاهرًا ونجسًا واحتاج إلى الطهارة توضأ بالطاهر ويشرب النجس انتهى. الثاني: أن كلامه في "التحقيق" يدل على أنه المشهور فإنه قال: المختار أنه يشرب الطاهر وقد اصطلح في خطبته وخطبة التصحيح على أن المختار يحكم بكونه راجحًا في الدليل ويكون المشهور بخلافه. [الأمر الثالث] (¬1): أنه لا يجوز له شرب النجس بين الوضوء والصلاة ¬

_ (¬1) في حـ: الأمر الرابع.

وإلا كان مصليًا بالنجاسة بل ينبغي تقديمه عليهما ليتطهر فمه عند الوضوء فإن أخره عنهما فيتحمل المنع لأنه تنجس فمه نجاسة باقية مع قدرته على تطهيره، ويحتمل الجواز؛ لأن لغرض الشرب. قوله: الثانية قال الشافعي - رضي الله عنه - إذا مات رجل له ماء ورفقاؤه يخافون العطش شربوه ويمموه وأدوا ثمنه واختلفوا في المراد بالثمن فقيل المثل؛ لأن الماء مثلي، وقيل القيمة لأن المسألة مفروضة فيما إذا رجعوا إلى بلدتهم ولا قيمة للماء بها انتهى. فيه أمران: الأول: أن التقييد بكون الماء لا قيمة له قد حذفه من "الروضة". الثاني: أن الصحيح وجوب القيمة كذا صححه الرافعي في كتاب الغصب والنووي في "الروضة" هنا. ونقل في "البحر" وجهين آخرين: أحدهما: قال: وهو الأصح إن أدوا في الموضع الذي شربوا فيه لم يلزم إلا المثل وإن أدوا في غير ذلك الموضع فعليهم قيمته التي كانت في موضع الإتلاف. والثاني: قال: وهو حسن إن غرم في غير موضع الإتلاف ولكن لها قيمة في ذلك الموضع. وجب المثل وإن كان أقل من قيمة يوم الإتلاف لأن نقصان قيمة المثل لا تؤثر في الحكم وإن غرم في موضع لا قيمة للماء فيه أصلًا وجب القيمة. قوله: ولو أوصى بماءٍ لأولى الناس به أو وكل من يصرفه له فحصر محتاجون فيقدم الميت على المتنجس في أصح الوجهين لأنه خاتمة أمره ولأن المقصود من غسل الميت تنظيفه والتراب لا يفيد ذلك وغرض الحي استباحة الصلاة وإسقاط الفرض وهذا الغرض يحصل بالتيمم حصوله بالغسل،

وقيل: بالعكس لأن النجاسة لا بدل لها ثم قال: ولا خلاف أنه إذا كان على بدن الميت نجاسة فهو أولى. انتهى. وما ذكره من إطلاق عدم الخلاف في تقديم المتنجس الميت على التنجس الحي قد تابعه عليه في "الروضة" "وشرح المهذب" وهو صحيح إذا عمت النجاسة بدن الميت لأنا إن قلنا أن الغسلة الواحدة تكفي عن الحدث والخبث فلحصول الواجبين ولاجتماع المعنيين السابقين وهما خاتمة الأمر وعدم البدل، وإن قلنا: إنها لا تكفي فلاجتماع المعنيين وإن لم يعم بدنه فالقياس تقديمه في غسل ما أصابته النجاسة وأن يأتي فيما عداه الوجهان السابقان في اجتماع الميت ومن عليه النجاسة بل هي المسألة بعينها ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إن الغسلة الواحدة لا تكفي كما قاله الرافعي أو أنها تكفي كما قاله النووي. قوله: وإن اجتمع ميتان والماء لا يكفي إلا أحدهما فإن كان الماء موجودًا قبل موتهما وماتا على الترتيب فالأول أولى فإن ماتا معًا، أو وجد الماء بعد موتهما فأفضلهما أولى، فإن استويا أقرع بينهما. انتهى. تابعه على ذلك في "الروضة" و"شرح المهذب" وفيه أمران: أحدهما: أن موتهما له خمسة أحوال ذكر منها الرافعي ومن تبعه حالتين فقط وهما إذا ماتا معًا وإذا ماتا على الترتيب أي والسابق معلوم وأهمل ما إذا لم يعلم هل ماتا على الترتيب أو المعية، وما إذا علم الترتيب ولكن لم يعلم السابق، أو علم ولكنه نُسى. والقياس في هذه الثلاث أن يكون كمعلوم المعية. الأمر الثاني: أن الأصحاب قد ذكروا في صلاة الجماعة أن الحر يقدم على العبد وأن البالغ يقدم على الصبي وأنه يرجح أيضًا بالفقه والقراءة والورع والسن والنسب والهجرة وفرعوا عليها تفاريع وتكلموا على المقدم منها عند التعارض ثم رجحوا عند التساوي في هذه الصفات بأمور أخرى

كنظافة الثوب والبدن وحسن الصوت والصورة وطيب الصنعة، وقالوا في صلاة الجنازة إذا حضرت موتي من نوع واحد قدم إلى الأمام أفضلهم قالوا والعبرة بالخصال التي تُرغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظن كونه أقرب من رحمة الله ولا يقدم بالحرية. إذا علمت ذلك فالأَقرب هنا إلحاقه بالجنازة حتى لا يقدم بالحرية ولا بالنسب ويتجه على هذا تقديم الصبي على البالغ وفي التقديم بالأبوة على البنوة وبالذكورة على الأنوثة نظر والظاهر عدمه إلا أنهم في الوضع في اللحد قالوا: إنه يقدم الأب على الابن والأم على البنت. قوله: ثم المتنجس على الحدث لما سبق من أن الماء في النجاسة لا بدل له. انتهى. تبعه في "الروضة" على إطلاق تقديم المتنجس على المحدث لكنه أعني النووي قد جزم في "التحقيق" بأن المحدث إذا كان عليه نجاسة ووجد ما يكفي أحدهما فإن كان مسافرًا تعين لإزالة النجاسة؛ لأنه إذا فعل ذلك وتيمم سقط القضاء، وإن كان حاضرًا يخير للزوم القضاء على كل حال. وهذا الذي قاله في الشخص الواحد يلزم منه مجيئه في الشخصين؛ لأن العلة بعينها موجودة فيهما، وحينئذ فيقرع بين المتنجس والمحدث إذا كانا حاضرين إلا أنه في "شرح المهذب" إنما نقل التفصيل المذكور عن القاضي أبي الطيب خاصة بعد أن نقل عن الأصحاب أنهم أطلقوا المسألة بل جزم البغوي في فتاويه والحالة هذه بوجوب استعماله في النجاسة على عكس ما في "التحقيق" وقاس عليه ما إذا كان معه مدد واحتاج إلى التيمم والاستنجاء فإنه يستنجي به، وإن كان حاضرًا وما قاله البغوي هو مقتضى التعليل المتقدم من كونه لابد له وهو الظاهر فليعمل به. قوله: والحائض أولى من الجنب لأن حدثها أغلظ بدليل تحريم الوطء وإسقاط فرض الصلاة، وقيل: بالعكس لأن الصحابة اختلفوا في تيمم

الجنب ولم يختلفوا في تيمم الحائض، وقيل: هما سواء. وعلى هذا لو طلب أحدهما القسمة والآخر القرعة، فالقرعة أولى في أظهر الوجهين، وإن اتفقا على القسمة جاز إن أوجبنا استعمال الماء الناقص وإلا لم يجز لأنه تضييع. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المراد بالوجه الثالث: إنما هو مساواة الجنابة للحيض حتى يقدم الأفضل منهما قبل القرعة أو القسمة إن كان فيهما أفضل على خلاف ما يوهمه كلام "الشرحين" و"الروضة". الأمر الثاني: أن تعليله بالتضييع يقتضي أنه كما لا يجب استعمال الماء الناقص على هذا القول لا يجوز استعماله أيضًا، وفيه كلام سبق في موضعه. قوله: وهذا كله إذا عين المالك مفازة، فإن أطلق وقال: اصرفوه لأولى الناس به فينبغي أن يبحث عن المحتاجين في غير ذلك المكان أيضًا، كما لو أوصى لأعلم الناس إلا أن حفظ الماء ونقله إلى مفازة أخرى كالمستبعد. انتهى. وهذا الفرع حذفه جميعه من "الروضة". قوله [في "الروضة"] (¬1): ولو انتهى هؤلاء المحتاجون إلى مباح واستووا في إحرازه واثبات اليد عليه ملكوه بالسوية، ولا يجوز لأحد أن يبذل نصيبه لغيره وإن كان أحوج منه كذا قاله الإمام والغزالي وقال أكثر الأصحاب يقدم الأحوج فالأحوج كالوصية ولا منافاة بين الكلامين وأراد الأصحاب أن المستحب تقديم الأحوج وأنهم لو تنازعوا كان كما قاله إمام ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الحرمين ويمكن أن ينازعهم في الاستحباب، ويقول لا يجوز العدول عما يتمكن منه للطهارة انتهى كلامه بحروفه. وهو كلام عجيب يخالف بعضه بعضًا؛ لأنه ادعى أولًا عدم المنافاة [بين الكلامين] (¬1) مع أن الإمام والغزالي قائلان بأن الإعطاء لا يجوز والأكثرون قائلون: بأن الإعطاء يستحب على هذا التقدير وهو الملك. وأى التئام بين هذين ثم إنه كيف يستحب للمالك أن يبذل ماءه وقد ذكر هو وغيره أن المالك لا يجوز له اعطاؤه لأحد غير العطشان وهو مما لا خلاف فيه. وبالجملة فهذا الغلط إنما حصل من اختصار النووي، وأما كلام الرافعي فصحيح، فإنه جمع بينهما بأن الانتهاء إلى الماء إن حصل معه الاستيلاء والإحراز ملكوه وهو مراد الإمام والغزالي، وإن لم يحصل معه ذلك فلا ملك، وفيه تكلم الأَكثرون وقالوا يستحب لغير الأحوج ترك الإحراز للأحوج حتى لو أحرز امتنع البذل، ثم أورد أعني الرافعي السؤال المذكور في "الروضة" فقال في الجمع بينهما ما نصه ولا منافاة بين الكلامين؛ لأن هؤلاء أي أكثر الأصحاب أرادوا التقديم على سبيل الاستحباب وكأنهم يقولون: مجرد الانتهاء إلى الماء المتاح لا يقتضي الملك، وإنما يثبت الملك بالاستيلاء والإحراز و [فيستحب لغير الأحوج ترك الإحراز والإستيلاء إيثارًا للأحوج] (¬2) هؤلاء يسلمون أنهم لو لم يفعلوا ذلك واستولوا عليه وازدحموا لكأن الأمر على ما ذكره الإمام والغزالي، هذا كلام الرافعي، وهو صحيح لا إشكال فيه والإشكال الذي ذكره ظاهر، فإن إطلاقهم يقتضي أن المالك لو وهب لغير الأحوج لكان يجب عليه القبول، فكذلك ما نحن فيه. قوله: الثانية لو أدرج الماء في رحله من غير شعوره به فتيمم على اعتقاد ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ، ب.

ألا ماء عنده ثم تبين الحال فطريقان. إحداهما: القطع بنفي الإعادة. والثانية: وهي أظهر عند علماء الأصحاب أن فيه قولين: أصحهما عدم الإعادة، ولو تبين أن بقربه بئرًا ولم يكن علم بها أصلًا فهو نظير هذه المسألة. انتهى ملخصًا. وفيه أمران. أحدهما: أن تصحيحه طريقة القولين قد تابعه عليه في "الروضة" ثم خالفه في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" فقال: أصح الطريقين القطع بأنه لا إعادة ولم يصرح في "شرح المهذب" بتصحيح شئ من الطريقين إلا أنه نقل أن الإمام والغزالي في "البسيط" صححا طريقة القطع ولم يذكر شيئًا غيره. الأمر الثاني: أن إلحاقه مسألة البئر بإدراج الماء قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" ثم خالفه في "شرح المهذب" فصحح وجهًا، ثالثًا وهو أن البئر إن كانت ظاهرة الأعلام بينة الآثار وجب الإعادة لتقصيره، وإن كانت خفية لم يجب لعدم تقصيره، وقد أطلق الجمهور هذه المسألة، وقال البغوي: إن طلبة في رحلة فلم يجده فذهب للطلب من موضع آخر فادرج في غيبته فلا إعادة، وإن لم يطلب من رحله لعلمه أن لا ماء فيه وكان قد أدرج ولم يعلم فالأصح وجوبها لتقصيره، وهذا التفصيل جيد وسيأتي الكلام فيه في نظير هذه المسألة. قوله: إحداها: لو نسى الماء في رحله فتيمم على ظن ألا ماء عنده ثم تبين الحال نص في "المختصر" على وجوب الإعادة. والقديم ونفاه بعضهم عدم وجوبها. انتهى. وإطلاقه يقتضي أنه لا فرق في هذه المسألة بين أن يقع منه طلب الماء

أم لا، وكذلك إطلاق "الشرح الصغير" و"المحرر" و"الروضة" و"المنهاج" ويتصور عدم الطلب بأن يكون معتمدًا اعتقادًا جازمًا بالعدم وقيد المسألة في "شرح المهذب" بما إذا تقدم الطلب وهو يقتضي أنه إذا وجد الاعتقاد المذكور فتيمم بلا طلب ثم تذكر الماء قضى قولًا واحدًا، وبه صرح في "الإقليد". قوله: الثانية: لو نسي ثمن الماء قال ابن كج: يحتمل أن يكون كنسيان الماء ويحتمل غيره والأول أظهر. انتهى. وهذا الموضع قد اختصره في "الروضة" اختصارًا غير مطابق فاعلمه. قوله: الثالثة: لو كان في رحله ماء فأضله ثم وجده نظر إن لم يمعن في الطلب فعليه القضاء لتقصيره وإن أمعن حتى غلب على ظنه فقد الماء فقولان: أحدهما لا إعادة لأنه لم يفرط في البحث والطلب. وأظهرهما أنها تجب لأنه عذر نادر لا يدوم قال الأئمة، والقولان مخرجان على القولين فيمن اجتهد في القبلة وصلى ثم تيقن الخطأ، ولذلك يقول بعضهم في المسألة وجهان. انتهى. وهذا الكلام قد اختصره في "الروضة" بقوله: الثالثة: لو أضل الماء في رحله وصلى بالتيمم فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة وإن أمعن حتى ظن العدم وجبت أيضًا على الأظهر، وقيل: الأصح هذه عبارته. إذا علمت ذلك ففيما ذكره أمور. أحدها: أن تقييد الرافعي المسألة بما إذا وجد الماء بعد ذلك يقتضي الجزم بعدم وجوب القضاء فيما إذا لم يجده وهو متجه وتقييده أيضًا بما إذا غلب على ظنه العدم إما لسرقة أو نحوها للاحتراز عما إذا تحقق بقاؤه ولكنه التبس عليه وضاق الوقت، فإن قياس ما سبق في المزدحمين على البئر أنه لا

يتيمم بل يستمر على البحث إلى أن يجده بخلاف التوهم، وهذان القيدان قد ذكرهما أيضًا في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "شرح المهذب" وقد حذف من "الروضة" التقييد بما إذا وجده. الأمر الثاني: أن ما ذكره في "الروضة" من الاختلاف في أن الخلاف قولان أو وجهان عجيب جدًا فإن الرافعي لم يذكر شيئًا من ذلك ولا أراده بل لما ذكر أنهما مخرجان أكدا التخريج وقواه بتصريح بعضهم بالوجهين، فإن الأقوال المخرجة يعبر عنها تارة بالوجوه وتارة بالأقوال: وإن كانت من قسم الوجوه لا من قسم الأقوال على الصحيح، ولهذا عكسه في "شرح المهذب" فقال فيه وجهان، وقيل: قولان وهما مخرجان هذه عبارته وهو تعبير صحيح. الأمر الثالث: أن تعبيره بالقضاء يقتضي أن صورة المسألة فيما إذا وجده بعد الوقت ولم يتعرض لما إذا وجده في الوقت هل يكون حكمه حكم ما بعده أم يجب الإعادة جزمًا وفيه نظر. قوله: الرابعة لو أضل رحله في الرحال فتيمم، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة، وإن أمعن فطريقان أحدهما أنه على القولين المخرجين في إضلال الماء في الرحل. والثاني: القطع بنفي الإعادة، وظاهر المذهب نفي الإعادة. انتهى. لم يصح شيئًا من الطريقين والصحيح طريقة القطع فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير" إنها أصح الطريقين. وصححها أيضًا النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فقال: فالمذهب: أنه لا إعادة، وقيل: قولان،

وقيل: وجهان ثم خالف في "شرح المهذب" فصحح طريقة الخلاف فقال: أصحهما وأشهرهما أن فيه وجهين هذا لفظه. قوله: أما إذا خاف من استعمال الماء بقاء الشين على بدنه فينظر إن خاف شيئًا قبيحًا على عضو ظاهر ففيه ثلاث طرق: أحدها: الجزم بالجواز، والثاني: الجزم بالمنع، والثالث: أنه على القولين المتقدمين. وتجري الطرق في أشياء منها إذا خاف شدة الضنا، والمراد من الضنا المدنف الذي يجعله ضمنًا. انتهى. والمدنف بدال مهملة مشتق من الدنف بفتح الأول والثاني، وهو المرض الملازم يقول: دنف الرجل بالكسر فهو دنف بالكسر أيضًا، وأدنف بالألف مثله وأدنفه المرض يتعدى ولا يتعدى فهو مدنف بالكسر والفتح. قاله الجوهري. والضمن بكسر الميم هو المتألم، والضنا المرض يقول: ضنى بالكسر ضنًا شديدًا فهو رجل ضني بالفتح أيضًا، وضن نحو عم وعو بالنقض وأضناه المرض أي أثقله. قاله الجوهري أيضًا. وقال في "شرح المهذب" أيضًا هو الذي يخامر صاحبه، وكلما ظن أنه برئ نكس. قوله في "الروضة": وإن خاف شيئًا يسيرًا كأثر الجدري والسواد القليل، أو شيئًا قبيحًا على غير الأعضاء الظاهرة لم يجز التيمم بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك، فإن الخلاف ثابت في جميع ما ذكره كذا صرح به في "الإقليد" فقال: ولا شك أن ما لا ينقص الجمال من

الشين لا يؤثر وما ينقص الجمال فيه أوجه الإباحة والمنع. والفرق بين الفاحش وغير الفاحش والفرق بين الظاهر والباطن هذه عبارته. والذي ذكره من جريان الخلاف مطلقا هو مقتضى كلام الماوردي وغيره ولم يصرح الرافعي بنفي الخلاف. والشين كما قاله الرافعي في الديات هو الأثر المستكره من تغير لون أو نحول أو استحشاف أو ثغرة تبقى أو لحمة تزيد. والجدري بضم الجيم وفتح الدال وهو المرض المعروف. واعلم أن الحكم المذكور في هاتين المسألتين مشكل، وذلك، لأن المتوضئ في هذه الحالة قد يكون عبدًا أو أمة فتنقص قيمتهما نقصانًا فاحشًا، فكيف لم يبيحوا التيمم لأجل هذا النقصان الكبير، وأباحوه فيما إذا امتنع المالك من البيع إلا بزيادة يسيرة. وهذا الإشكال أورده الشيخ عز الدين وهو ظاهر لا جواب عنه اللهم إلا أن يلتزموا الجواز في ذلك فيلزمهم استثناؤه ولم يستثنه أحد بل المنع من التيمم في هذه الحالة مشكل مطلقًا حرًا كان أو عبدًا، فإن الفلس مثلًا أسهل على النفوس بلا شك من أثار الجدري على الوجه ومن الشين الفاحش في الأعضاء الباطنة، ولاسيما المرأة الشابة التي يقصد الاستمتاع بها. قوله: والمراد من الظاهر ما يبدو في حال المهنة. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر في الجنايات في الاختلاف في سلامة الأَعضاء أن العضو الباطن هو ما يعتاد ستره مرؤة وقيل ما يجب ستره وحينئذ فيكون في الظاهر أيضًا وجهان. أصحهما: ما لا يكون كشفه هتكًا للمروءة. والثاني: ما عدا العورة.

وقد صرح بالوجهين هنا الشيخ تاج الدين في الإقليد وفي موافقة المجزوم به هنا لما صححوه هناك نظر. والمهنة بفتح الميم قال الجوهري: المهنة بالفتح الخدمة، وحكى أبو زيد والكسائي المهنة بالكسر وأنكره الأصعمي هذا لفظ الجوهري. قوله: من زياداته وإذا لم يوجد طبيب بشرطه. قال الشيخ أبو على السنجي: لا يتيمم. انتهى. ذكر نحوه في "شرح المهذب" فقال: قال صاحب "البحر" قال أبو على السنجي: لا يتيمم ولم يزد على هذا، ولم أر لغيره موافقة له ولا مخالفة هذا كلامه، وهذا النقل عن السنجي صحيح فقد رأيته في "شرح الفروع " له لكن ذكر البغوي في فتاوية هذه المسألة وجزم بأنه يتيمم فتعارض الجوبان وإيجاب الوضوء أو الغسل مع الجهل بحال العلة التي هي مظنة للهلاك بعيد عن محاسن الشريعة فنستخير الله تعالى ونفتي بما قاله البغوى، ويدل عليه أيضًا ما نقله النووي في باب الأطعمة من "شرح المهذب" عن نقل الشافعي أنه إذا خاف المضطر أن الطعام الذي أحضره له غيره مسموم فإنه يجوز له تركه والانتقال إلى الميتة. قوله في "أصل الروضة": وإذا احتاج إلى وضع الجبيرة لكسر أو انخلاع ولم يقدر على نزعها عند الطهارة وجب عليه غسل الصحيح على المذهب، وكذا مسح الجبيرة بالماء، ثم قال: وحكى قول ووجه أنه لا يجب مسحها بل يكفي الغسل مع التيمم. انتهى. وهذا الكلام لا يطابق كلام الرافعي، فإن الرافعي غاير بين القول والوجه، فحكى الوجه كما حكاه النووي، وأما القول فحكاه في الاكتفاء بالتيمم فقط.

قوله: ولا تتقدر مدة مسح الجبيرة بالماء على الأصح. والثاني: أنها تتقدر بمدة الخف، قال الإمام: وهذا فيما إذا كان يتأتى الرفع بعد انقضاء كل يوم وليلة من غير ضرر فإن لم يكن فلا خلاف في جواز استدامته وإن كان يتأتى ذلك في كل طهارة لم يجز المسح ووجب النزع والغسل لا محالة. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام في بيان محل الخلاف وأقره عليه تابعه عليه في "الروضة" أيضًا ولم يعزه إلى الإمام وهو غير صحيح فإنه لا يمكن القول بعدم وجوب الرفع والغسل إذا تأتي من غير ضرر سواء كان بعد هذه المدة أو قبلها فكيف تتأتى التفرقة بين أن تأتي في كل طهارة أو بعد انقضاء المدة وقد تفطن في "شرح المهذب" لفساده إلا أنه لم يذكر تصويرًا صحيحًا ونحن نذكره فنقول: صورته فيما إذا انقضت المدة ولم يمكن النزع والغسل فإن كان على طهارة المسح نظر إن قلنا لا يتأقت صلى بهذه الطهارة، وإن قلنا: يتأقت فلابد من المسح بعد هذا من النزع وغسل العضو لكنه لا يتأنى فيمسح ويقضي كمن وضع على غير طهر، وإن انقضت بعد انتقاض طهارة المسح فإن قلنا: لا يتأقت فيمسح ويصلى ولا إعادة؛ لأنه قد وضع أولا على طهارة. وإن أقتناه فلابد من تطهير العضو أى مع ما يترتب عليه قبل المسح عليه لكنه لا يتأتى فيمسح ويعيد، وذكر ابن الصلاح والنووي في التنقيح أن الخلاف لا يتصور ذاهلين عن التصوير الذي ذكرناه. قوله: وإذا وضع الجبيرة ففي وجوب التيمم في حقه طريقان أظهرهما قولان: أصحهما: الوجوب لحديث جابر في المشجوج الذي احتلم واغتسل فدخل الماء شجته فمات أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما كان يكفيه أن يتيمم

ويعصب رأسه بخرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" (¬1) ثم قال ما نصه: والطريق الثاني: أن ما تحت الجبيرة إن كان معلولًا بحيث لا يمكن غسله لو كان باديًا وجب التيمم كالجريح الذي ليس علي جرحه شئ فإنه يتيمم وإن كان يمكن غسله لو كان باديًا فلا حاجة إلى التيمم كالمسح على الخف. انتهى. وهذا الطريق قد انعكس على النووي في "الروضة" فقال من غير ذكر علة له ما نصه، والطريق الثاني: إن كان ما تحت الجبيرة عليلًا بحيث لا يجب غسله لو ظهر لم يجب التيمم وإلا وجب هذه عبارته، وقد ذكره على الصواب في "شرح المهذب". والحديث المذكور رواه أبو داود بإسناد جيد لم يضعفه. قوله: فإن قلنا يتيمم وكان جنبًا فهل يجب غسل الصحيح على التيمم؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يجب لأنه الأصل كما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه وأصحهما: أنه يتخير لأن التيمم هنا للعلة وهي مستمرة بخلاف تلك فإنه إنما يتيمم لعدم الماء فلابد من استعمال الموجود أولًا. انتهى كلامه. لم يتعرض -رحمه الله- إلى الأولى من الأمرين، بل كلامه يوهم استواءهما وليس كذلك، بل قد نص الشافعي - رضي الله عنه - على استحباب تأخير الغسل ليذهب الماء أثر التراب. ولقائل أن يقول: الأولى تقديم ما ندب تقديمه في الغسل فإن كانت الجراحة في رأسه مثلًا غسل ما صح منها ثم يتيمم عن جرحه ثم يغسل باقي جسده، وقد ذكر صاحب "البيان" فيما إذا كان حدثه أصغر مثل ذلك ونقله ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (336)، وحسنه الألبانى.

عنه في "الروضة" ثم قال: إنه حسن. قوله في "الروضة": والصحيح اشتراط وضع الجبيرة على طهر فيجب النزع واستئناف الوضع على طهر إن أمكن وإلا فيترك ويجب القضاء بعد البرء بلا خلاف، وإن كان في الوضع على طهر خلاف هذا كله إذا لم يقدر على نزع الجبيرة عند الطهر، فإن قدر بلا ضرر وجب النزع وغسل الصحيح إن أمكن ومسحه بالتيمم إن كان في موضع التيمم ولم يمكن غسله. انتهى كلامه. وما ذكره من وجوب القضاء بلا خلاف غلط عجيب، فإن في المسألة ثلاثة أقوال مشهورة، وقد ذكرها الرافعي في آخر كتاب التيمم، ولم يذكر الرافعي هنا ما ذكره النووي من نفي الخلاف بل اقتصر على الوجوب، وتعبيره بقوله وغسل الصحيح غلط أيضًا، فإن الصورة أنه عليل إما بالجرح أو بالكسر، وعبر الرافعي بقوله: وغسل ذلك الموضع. قوله: فإن لم يحتج إلى الجبيرة غسل الصحيح، وهل يحتاج إلى ضم التيمم؟ فيه الخلاف السابق في الحالة الأولى وهي وضع الجبيرة. انتهى. وهذا الذي ذكره من ثبوت خلاف في هذه الحالة عجيب، وقد استدرك ذلك عليه في "الروضة" وأوضحه فقال: إنه غلط ولم أره لأحد من أصحابنا وكأنه اشتبه عليه قال: فالصواب الجزم بوجوب التيمم لئلا يبقى موضع الكسر بلا طهارة أي بخلاف الحالة الأولى لأن المسح على الجبيرة قائم مقام غسل العضو. قوله: ولا يجب مسح موضع العلة بالماء وإن كان لا يخاف من المسح فإن الواجب الغسل وإذا تعذر ذلك فلا فائدة في المسح بخلاف المسح على الجيرة فإنه مسح على حائل الخف وقد ورد الخبر به هكذا ذكره الأئمة وللشافعي - رضي الله عنه - نص مسافه وجوب المسح، وليس هذا موضع ذكره

انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الروضة" والوقوف على حقيقته موقوف على مقدمة وهي: أن الكلام في المسح يفرض في مسألتين. إحداهما: ما يقرب من العليل، فإذا خاف من غسله انتشار الماء وضع بقرب الجراحة خرقة مبلولة وتحامل ليقطر منها ماء يغسل الصحيح الملاصق للجريح، فإن لم يمكنه ذلك فقد نص الشافعي على إمساسه بالماء فقال: إن خاف لو أفاض الماء إصابة الجريح أمس الماء إمساسًا لا يفيض، وأجزأه ذلك إذا أمس الشعر والبشرة هذا لفظه في "الأم"، وجزم به أيضًا صاحب "التهذيب" و"البحر" وغيرهما. المسألة الثانية: مسح العليل نفسه وقد جزم الأصحاب بعدم وجوبه ونقلوا فيه الاتفاق وعللوه بما ذكره الرافعي، وقد ذكر في "شرح المهذب" جميع ما ذكرته، وذكره أيضًا في "التحقيق" مختصرًا فقال: ولا يجب مسح الجرح بماءٍ وإن لم يضره ثم قال: فإن خاف انتشار الماء وضع بقرب الجرح خرقة مبلولة وعصرها فإن تعذر أمسه بلا إفاضة نص عليه وجزموا به هذه عبارته. إذا علمت جميع ما ذكرناه علمت أن النص الوجب للمسح ليس محله في المسألة الثانية، وإنما محله في الأولى ولم يذكرها الرافعي بالكلية أعني الأولى غير أن إيجابه فيها يقتضي إيجابه في الثانية أيضًا لاشتراكهما في المعنى وهو الإتيان بالمقدور عليه فلهذا عبر الرافعي بقوله مسافة الوجوب، وليس هذا موضع ذكره أي أن الشافعي لم ينص عليه في هذه المسألة، وإنما نص عليه في نظيرها وذلك يسوق إلى الوجوب في هذه هذا هو معنى كلامه فتفطن له فإنه من الأمور المهمة.

قوله: وهل يجب إلقاء الساتر من لصوق أو جبيرة عند إمكانه للمسح عليه؟ فيه وجهان ذهب الشيخ أبو محمد إلى الوجوب وخالفه الأكثرون، ولو كان على طهارة كاملة وأرهقه الحدث ووجد من الماء ما يكفيه لوجهه ويديه ورأسه ونقص عن رجليه ولو لبس الخف لأمكنه أن يمسح قال الإمام: قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك وهو بعيد عندي ولشيخي أن يفصل بأن المسح رخصة محضة فلا يليق بها إيجاب لبس الخف وما نحن فيه من مسالك الضرورات فيجب فيه الإتيان بالممكن وقد أمكن المسح بإلقاء الخرقة. واعلم أن من يقول بوجوب الإلقاء يأمر به قبل الحدث ليمسح عليه إذا تطهر بعد الحدث؛ لأن الطهارة شرط عند إلقاء الجبيرة كما بيناه من قبل، وإذا كان الشخص متطهرًا فيضعف الوجوب في الصورتين؛ لأنه إن لم يؤد وظيفة الوقت فهو متمكن من أدائها بهذه الطهارة، فلا يكلف والحالة هذا بطهارة أخرى، والطهارة التي لا يكلف بها لا تختلف بإعداد أسبابها، ولهذا لا يؤمر بإمساك الماء لأجل الصلاة التي لم يدخل وقتها، وإن أدى وظيفة الوقت فليس عليه طهارة أخرى حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، فلا يكلف بإعداد أسبابها. انتهى ملخصًا. وهذا التوقف من الرافعي في تصوير المسألة عجيب فإن تصويرها واضح وهو أن يكون على طهارة ولم يؤد الفريضة، وقد أرهقه الحدث فلم يتمكن من أدائها، وهذا التصوير قد نقله الرافعي من جملة ما نقله عن الإمام في مسألة الخف وهو بعينه يأتي في الجبيرة لأن الكلام عند الإمكان ومحله الإمكان في هذه الحالة. قوله: وإذا اغتسل الصحيح وتيمم لمرض أو نحوه وصلى فريضة فله أن

يصلى بها ما شاء من النوافل ولابد من إعادة التيمم للفريضة الأخرى وهل يجب إعادة الوضوء إن كان محدثًا فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين كما لو نزع الماسح الخف أو انقضت المدة هل يستأنف الوضوء أو يقتصر على غسل الرجلين فيه قولان ووجه الشبه أن الطهارة في الصورتين كملت من جنسين أصل وبدل، فإذا بطل حكم البدل هل يبطل الأصل حتى يؤمر بالاستئناف أم لا؟ والطريق الثاني: القطع بنفي الاستئناف؛ لأن التيمم طهارة مستقلة في الجملة فلا يلزم بارتفاع حكمها انتقاض طهارة أخرى، وهذا الخلاف جار في الجنب إذا غسل الصحيح من بدنه وتيمم للعليل فصلى هل تفتقر الفريضة الثانية إلى استئناف الغسل مع التيمم؟ انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح هي الطريقة القاطعة كذا صححها الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "الروضة" وغيرها ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثاني: أن إجراء الخلاف في الغسل قد تابعه عليه في "الروضة" وعبر بقوله: وهل يجب إعادة الوضوء إن كان محدثًا أو الغسل إن كان جنبًا فيه طريقان هذه عبارته وأنكر ذلك في "شرح المهذب" فقال: فإن كان جنبًا أعاد التيمم دون الغسل بالاتفاق كذا قاله الأصحاب في [كل] (¬1) الطرق وقال الرافعي: في إعادة الغسل خلاف كما في المحدث وهذا ضعيف متروك. هذه عبارته. قوله من زياداته: قال البغوي وغيره وإذا كان جنبًا والجراحة في غير أعضاء الوضوء فغسل الصحيح وتيمم للجراحة ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة لزمه الوضوء ولا يلزمه التيمم لأن تيممه عن غير أعضاء الوضوء فلا ¬

_ (¬1) في جـ: جميع.

يؤثر فيه الحدث ولو صلى فريضة ثم أحدث توضأ للنافلة ولا يتيمم وكذا حكم الفرائض كلها، والله أعلم. وما ذكره النووي في أخر كلامه من أن الفرائض جميعها حكمها كذلك قد توهم منه كثيرون أنه يتوضأ لها ولا يتيمم كالنافلة وأنه يستبيح بوضوئه الثاني وتيممه فرائض لكون التيمم قائمًا مقام غسله عن الجنابة، وكذلك توهموا استباحة الجمع بمحض التيمم عن الجنابة وبالتيمم مع غسل ما قدر عليه وليس الأمر كذلك بل لابد من إعادة التيمم كما صرح هو به والرافعي في المسألة التي تقدم نقلها عنه، ومراده أن غير الصلاة من الفرائض كالطواف وغيره حكمه حكم الصلاة في أنه إذا أحدث بعد فعله لا يباح بالوضوء فقط إلا النقل، وقد رأيت أيضًا في "الشافي" للجرحاني تصريح بوجوب التيمم لكل فرض فقال: وقد كان قبله أي قبل الحدث ممنوعًا من الفرض دون النفل وإذا أراد أن يستبيح الفرض تيمم له هذا لفظه في أخر فصل أوله وينتقض التيمم.

الباب الثاني: في كيفية التيمم

الباب الثاني: في كيفية التيمم قوله: في "الروضة" للتيمم سبعة أركان: الأول: التراب، والثاني: القصد فلو وقف في مهب الريح ناويًا للتيمم فسفت عليه ترابًا فأمر يده عليه بنية التيمم لم يكف في الأصح كما سيأتي، والثالث: نقل التراب الممسوح به إلى العضو حتى إذا كان على العضو تراب فرده عليه لم يجزئه. والرابع: النية، الخامس: مسح، الوجه السادس مسح اليدين، والسابع: الترتيب. انتهى. واعلم أنه في "شرح المهذب" قد أسقط التراب فلم يعده في الأركان، وجعل [الأركان] (¬1) ستة فقط وأسقط في "المنهاج" التراب والقصد وجعلها خمسة وهكذا صنع في "المحرر" أيضًا وهو الصواب أما التراب فلأنه كالماء في الوضوء وهم لم يعدوه ركنًا وأما القصد فلأن النقل يغني عنه وقد نبه الرافعي على ذلك في آخر الكلام على الأركان. قوله: ومن التراب الأعفر وهو ما لا يخلص بياضه والأسود ومنه طين الدواة والآجر ومنه الطين الإرمني الذي يؤكل تداويًا، والأبيض ومنه الذي يؤكل سفهًا ويقال له الخراساني. انتهى كلامه. وقد [اختصره] (¬2) في "الروضة" اختصارًا فاسدًا فإنه جعل المأكول تداويًا هو المأكول سفهًا فخلط قسمًا بقسم نسيانًا لما بينهما فاعلمه. والأعفر بالعين المهملة والفاء، وأما الإرمني فهو بكسر الهمزة وفتح الميم ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) فى أ، ب: اضفر.

قال الجوهري: إرمينية بكسر الهمزة كورة بناحية الروم والنسبة إليها إرمني بفتح الميم هذا لفظه، وقال النووي في "الإشارات" الذي هو على "الروضة" "كالدقائق" على "المنهاج": الإرمني بكسر الهمزة والميم منسوب إلى إرمينية بكسر الهمزة وتخفيف الياء ناحية معروفة هذا كلامه، وذكر ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" مثله أيضًا وزاد بأن مدينة خلاط منها، وما قاله النووي تبعًا لابن الصلاح يخالف كلام الجوهري في كسر الميم راعيًا القياس ولم يستحضر المنقول. قوله في أصل "الروضة": ولا يصح التيمم بالنورة، والجص والزرنيخ، وسائر المعادن والذريرة والأحجار المدقوقة والقوارير المسحوقة وقيل: يجوز في وجه تجميع ذلك. انتهى كلامه. والذهاب إلى الجواز لم يحكه الرافعي وجهًا بل جزم بأنه قول ثم أعني الرافعي لم يذكر خلافًا في الجص وسائر المعادن فاعلمه أيضًا، فإنه جزم عقب هذا بالجواز في الخزف المسحوق مع أن الرافعي قد حكى فيه وجهين وأدخله في مسمى القوارير فاشتمل كلامه على ثلاثة أغلاط فاعلمها. والذريرة بفتح الذال المعجمة وكسر الراء الأولى، قال الزبيدي في "مختصر العين" هي فتات قصب من قضب الطيب يجاء به من الهند كذا قاله النووي في "الإشارات" ولم يزد الجوهري على أنه بالذال المعجمة. قوله: وأما الرمل ففي "الأم" أنه لا يجوز، وفي القديم و"الإملاء" جوازه فقيل قولان أحدهما المنع كالحجارة المدقوقة، والثاني: الجواز لأنه من جنس التراب وعلى طبعه، والصحيح أنه ليس باختلاف قول بل نص المنع محمول على ما إذا كان خشنًا لا يرتفع منه غبار والآخر على خلافه. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل ما ذكره الرافعي أنه لابد من وصول الغبار من

الرمل إلى الوجه واليدين بلا خلاف وهو واضح، فإن غايته أن يلحق بالتراب. فإذا علمت ذلك فقد اختصره في "الروضة" اختصارًا فاسدًا مصرحًا به بإتيان الخلاف فيه مع كونه خشنًا فتفطن له. الأمر الثاني: أن ما ذكره من جوازه بالرمل الناعم قد جزم به أيضًا النووي في "فتاويه" فقال: لو سحق الرمل وتيمم به جاز ثم خالف ذلك أعني النووي في "شرح المهذب" و"الوسيط" وتصحيح "التنبيه" فذكر ما حاصله المنع في التراب المخلوط برمل ناعم وحينئذ فيمتنع بالرمل الصرف بطريق الأولى. قوله: فإن اختلط بالتراب دقيق أو زعفران ونحوها فإن كان كثيرًا لم يجز التيمم به كذا إن كان قليلًا عند الأكثرين ثم قال ما نصه: ثم بماذا تعتبر القلة والكثرة؟ ذكر إمام الحرمين أن المرعي أن يظهر الشئ ويرى ولم أر لغيره تعرضًا لذلك بل اقتصروا على ذكر القلة والكثرة ولو اعتبرنا الأوصاف الثلاثة كما في الماء لكان مسلكًا. انتهى كلامه. وما ذكره من أنه لم ير لغير الإمام كلامًا فيه ومن أنه ينبغي اعتبار الأوصاف الثلاثة قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب فقد تعرض لذلك وصرح بما أشار إليه من اعتبار الأوصاف الثلاثة جماعة منهم الشيخ أبو حامد في "تعليقه" والروياني في "البحر"، ولفظه أعني الروياني: فإن كان كثيرًا غلب على التراب وغير طعمه أو لونه أو ريحه لا يجوز التيمم به وإن كان مغلوبًا ولم يتغير من التراب شئ قال عامة أصحابنا: لا يجوز هذا لفظه، وذكر سليم الرازي في "التقريب" نحوه أيضًا.

قوله: ثم لا كلام في أن الملتصق من التراب بالوجه واليدين مستعمل حتى لا يجوز أن يضرب يده على وجه المتيمم ليتيمم بالغبار المأخوذ منه. انتهى. وهذا التعبير مقتضاه نفي الخلاف عنه وليس كذلك فقد رأيت في تعليق الشيخ أبي حامد وجهًا أنه ليس [بمستعمل] (¬1) ثم قال: الشيخ بعد ذكره له إن المستعمل عند هذا القائل مستهلك. قوله: وأما المتناثر ففيه وجهان، والأصح أنه مستعمل أيضًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن شرط الحكم باستعمال المتناثر إعراض المتيمم عنه كذا ذكره الرافعي بعد هذا الموضع بنحو، خمسة أوراق قبيل الكلام على الركن السابع فقال ما نصه: وإن قلنا المتناثر مستعمل، فإنما يثبت حكم الاستعمال إذا انفصل بالكلية وأعرض المتيمم عنه، هذا لفظه، وحينئذ فلو انفصل فبادر إلى أخذه من الهواء وتيمم به صح، وحذف النووي هذا الموضع فلم يذكره. الأمر الثاني: أنه يشترط أيضًا في الحكم باستعماله أن يكون قد مس العضو على الذهب، كذا ذكره النووي في "التحقيق" و"شرح المهذب"، وذكر الرافعي تعليلًا يؤخذ منه ذلك، ولا يؤخذ هذا الشرط أيضًا من "الروضة". قوله: لو شوى الطين ثم يسحقه ففي التيمم به وجهان: أظهرهما أنه لا يجوز؛ لأن اسم التراب لا يبطل بمجرد الشي. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وذكر في "الروضة" الوجهين بلا تصحيح ثم استدرك ذلك من "زوائده" وهو [غريب] (¬2)، وقال في "شرح ¬

_ (¬1) فى أ، ب: مستعمل. (¬2) فى ب: عجيب.

الوسيط" المسمى بالتنقيح الأصح عند الأكثرين المنع وصحح المحققون الحجاز، وذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا وزاد فقال إن الجواز أظهر. قوله في "الروضة": الركن الثاني قصد التراب فلابد منه فلو وقف في مهب ريح فسفت عليه ترابًا فأمر يده عليها بنية التيمم إن كان وقف بغير نية لم يجزئه وإن قصد تحصيل التراب لم يجزئه أيضًا على الأصح والأظهر. انتهى. اعلم أن الشافعي قد نص في "الأم" في هذه المسألة على أنه لا يصح، ونقل صاحب التتمة عن القديم: أنه يصح فيكون الخلاف حينئذ قولين ولكن اختلف الأصحاب في الراجح منهما، وكلام الرافعي أيضًا يدل على هذا، ولهذا قال في "شرح المهذب" إن الأصحاب حكوه وجهين وحقيقته قولان. قوله: الثالث نقل التراب الممسوح به إلى العضو فلو كان على الوجه تراب فردده عليه لم يجزئه فلو نقله منه إلى اليد أو من اليد إليه أو سفت الريح ترابًا على كمه فمسح به وجهه أو تمعك بلا عذر جاز في الأصح. انتهى. وما ذكره من تصحيح الاكتفاء بالتمعك وبمسح الوجه بما سفته الريح على الكم ونحو ذلك قد ذكر بعد هذا فرعين مفرقين يشكلان عليه فإنه صحح أن الحدث بعد الضرب وقبل مسح الوجه يضر، وأن الضرب قبل الوقت أو مع الشك في دخوله يضر أيضا مع أن المسح بالضرب المذكور لا يتقاعد عن التمعك والضرب بما على الحكم فتأمله. قوله: وللناوي أربعة أحوال: أحدها: أن ينوي استباحة الفرض والنفل فيستبيحهما ولا يشترط تعيين الفريضة على الأصح عند الأكثرين فعلى هذا إن نوى الفرض مطلقًا صلى أى فرض شاء، وإن نوى معينة فله أن يصلي

غيرها. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر بعد هذا الفضل كلامًا ينبغي معرفته هنا واستحضاره، وله مقدمة وهي أنه إذا نسى صلاة من الخمس [وجب عليه الخمس] (¬1) ويكفيه تيمم على الصحيح وحينئذ فهل يجري الخلاف في التعيين في التيمم المذكور أم لا؟ توقف فيه الرافعي فقال هناك قال الشيخ أبو علي: إن الوجهين في الاكتفاء بالتيمم الواحد مبنيان على أنه لا يجب تعيين الفريضة فإن أوجبنا وجب لكل واحدة تيمم لا محالة، ولك أن تقول. إنما يجب التعيين إذا كانت الفريضة معلومة، أما إذا لم تكن فيجوز أن يقال ينوي بتيممه ما عليه، ويحتمل فيه التردد والإيهام كما يحتمل في كل واحدة من الصلوات ينوي أنها فائتة وهو متردد في ذلك، هذا كلامه. وصحح في "الروضة" أن الخلاف يجري مطلقًا، وحاصله تصحيح ما ذكره الرافعي بحثًا أن من يوجب تعيين الفريضة يكتفي هنا بأن ينوي ما عليه فاعلم ذلك. قوله في أصل "الروضة": الثالث أن ينوي النفل فلا يستبيح به الفرض على المشهور وقيل قطعا. ثم قال: الرابع: أن ينوي الصلاة فحسب فله حكم التيمم للنفل على الأصح، وعلى الثاني يكون كمن نوى الفرض والنقل معًا. انتهى. وما ذكره هنا من تصحيح طريقة الخلاف في المسألتين قد خالفه في "شرح المهذب" فصحح فيهما طريقة القطع بعدم الاستباحة ونقلها عن الجمهور. قوله من زوائده: ولو تيمم بنية استباحة الصلاة ظانًا أن حدثه أصغر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فكان أكبر أو عكسه صح قطعًا؛ لأن موجبهما واحد، ولو تعمد ذلك لم يصح في الأصح ذكره المتولي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف في القسم الأول وهو ما إذا ظن حدثه أصغر وكان أكبر ذكر مثله في "شرح المهذب" هنا وعبر بقوله بلا خلاف عندنا خلافًا لمالك وأحمد، وكذلك في باب صفة الوضوء، وعبر بقوله بالإجماع وهذه الدعوة باطلة لم يذكرها صاحب "التتمة" أيضًا فقد نقل الفوراني في باب صفة الوضوء من "الإبانة" عن البويطي والربيع أنه لا يصح قال: بخلاف عكسه، وصرح أيضًا بنقله عنهما القاضي الحسين في كتاب التيمم من تعليقه ذكر ذلك في فصل أوله قاله: ولو نسى الجنابة. الأمر الثاني: أن صورة المسألة كما ذكره صاحب التتمة وغيره ممن تكلم على المسألة أن يتيمم بنية الاستباحة عن ذلك الحدث وتعبير النووي بقوله ظانًا كذا لا يفيد ذلك فتأمله. ثم [إن] (¬1) المسألة مشهورة في المذهب منصوص عليها للشافعي فاقتصاره على صاحب "التتمة" يؤذن بالقصور. قوله: فيها أيضًا وكيفية مسح اليدين كذا وكذا ثم قال: وهذه الكيفية ليست واجبة لكنها مستحبة على المذهب، وقيل: غير مستحبة. انتهى. وتعبيره فيها بالمذهب سهو فإن الرافعي لم يذكر ما يقتضيه بل قال: إنها مستحبة على المشهور، وقيل: لا. قوله: واعلم أنه لا يجوز لتأخر النية عن أول فعل مفروض في التيمم وأول أفعاله المفروضة نقل التراب ولو قال نويت قبل مسح شيء من ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الوجه لم يجزئه في الأصح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المراد بالنقل هو الضرب كما قاله في "شرح المهذب" و"الكفاية" ولكن عبر الطبري في "شرح التنبيه" بقوله ولابد من النية قبل رفع يديه من التراب. الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي والنووي في كتبهما يقتضي جريان الخلاف فيما إذا قارنت النية النقل ومسح الوجه، ولكن غربتا فيما بينهما، والمتجه هو الجزم بالاكتفاء وهو حاصل ما رأيته في "شرح مفتاح ابن القاضى" لأبي خلف الطبري فإنه قال: ووقت النية في التيمم أن ينوي عند القصد إلى التراب، ويكون ذاكرًا للنية عند مسح الوجه هذه عبارته. قوله في "الروضة": ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور التي يجب إيصال الماء إليها في الوضوء على المذهب. انتهى. وما اقتضاه كلامه من حكاية الرافعي بطريقين ليس كذلك بل إنما حكى وجهين فقط. نعم ذهب جماعة كثيرة إلى القطع بعدم الوجوب، وكان الصواب تمييزه عن كلام الرافعي. قوله أيضًا في "الروضة": ويجب استيعاب اليدين إلى المرفقين على المذهب، وقيل: فيه قولان. انتهى. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: إنكار القول الآخر فاسد وبالغ في التحقيق فلم يذكر غير طريقة القولين. قوله: والواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين سواء كان بضربة أو

أكثر، ويستحب ألا يزيد ولا ينقض، وقيل: لا يجوز أن ينقض عن ضربتين، وقيل يستحب أن يضرب ضربة للوجه وأخرى لليد اليمين وأخرى لليسرى. انتهى كلامه. وهذا الوجه إنما يستقيم إذا كان المراد ثلاث ضربات بكف واحدة؛ لأن الضرب بها لكل يد لا معنى له. قوله: في أصل "الروضة" ومن السنن الموالاة على المذهب. انتهى. واعلم أن الرافعي قد حكى في هذه المسألة ثلاث طرق: أصحها: أن فيها قولين. والثانية: الجزم بالإيجاب. والثالثة: العكس. ولا يؤخذ من "الروضة" حكاية الثلاث ولا تعيين الطريقة الصحيحة، ثم قال الرافعي: إن من يعتبر الجفاف في الوضوء يعتبره أيضًا هنا بتقدير أن لو كان المستعمل ماء. [قوله أيضًا فيها: ويستحب أن لا يكون المسح على المذهب. انتهى. وهذا التعبير أيضًا ذهول. فإن الرافعي لم يحل في المسألة إلا وجهين] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الثالث: في أحكام التيمم

الباب الثالث: في أحكام التيمم قوله: ويبطل التيمم بتوهم القدرة على الماء قبل الدخول في الصلاة إلا أن يقارنه مانع كما لو سمع إنسانًا يقول: أودعني فلان ماءً وهو يعلم غيبة فلان فإنه لا يبطل. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه احترز بغيبة المالك عما إذا كان حاضرًا فإنه يجب عليه طلبه منه، كما لو كان هو القائل: عندي ماء، وعما إذا لم يعلم غيبته فإنه يجب السؤال عنه، وهذا القيد أخذه الرافعي من كلام "التتمة" ولابد منه، وإن أطلقه الأكثرون وممن أطلقه أيضًا الرافعي في كتاب الرافعي في كتاب الظهار. [الأمر] (¬1) الثاني: أنه سكت عن عكسه وهو ما إذا أخر لفظ وديعة فقال: عندي ماء أودعني إياه فلان والمعروف فيه بطلان التيمم مطلقًا وصرح به الرافعي أيضًا في الظهار، ونقل في "الكفاية" عن القاضي الحسين أنه رأى تخريجه على ما إذا عقب الإقرار بما يرفعه كقوله على ألف من ثمن خمر. قوله في "الروضة": وإن رأى الماء في أثناء الفرض فإن كان مقيمًا بطلت صلاته على الصحيح. انتهى. وما ذكره من كون الخلاف وجهين قد خالفه في "المنهاج" فجعله قولين، والمذكور هنا هو الصواب المذكور في كتبه وكتب الرافعي والغريب أن قد عبر "المحرر" بالأصح، فعدل عنه في "المنهاج" وعبر بالمشهور. قوله: وإن كان فرضه معينًا عن القضاء كالمسافر لم يبطل على المذهب ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

المنصوص وأشار المزني إلى تخريج قول: أنهما يبطلان، وبه قال أبو حنيفة. ووجه الأول أن وجدان الأصل بعد التلبس بمقصود البدل لا يبطل حكم البدل، كما لو شرع في الصيام ثم وجد الرقبة. انتهى كلامه. وما ذكره ههنا عجيب، فإن الخصمين المذكورين يوجبان أيضًا الصوم في الكفارة المشار إليها وهي كفارة الظهار، وقد نقله الرافعي هناك عنها، واحتج عليهما بالقدرة على المهدي في أثناء صوم السبعة، فلو احتج عليهما ههنا أيضًا بذلك لاستقام. قوله: وإذا قلنا بالمنصوص فما الذي يفعله؟ فيه وجوه: أصحهما: يندب الخروج منها ليتوضأ ونفاه بعضهم. والثاني: يندب قلبها نافلة ويسلم عن ركعتين. الثالث: يندب الاستمرار عليها. الرابع: يحرم قطعها. الخامس: إن ضاق الوقت حرم القطع وإلا فلا، قاله الإمام وطرده في كل حصل. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام صريح في أن ما قاله الإمام من جملة الآراء الضعيفة، وقد تابعه في "الروضة" على ذلك أيضًا، ونبه على أن طرده إياه في كل مصل ضعيف أيضًا وأنه خلاف المذهب وخلاف نص الشافعي. إذا علمت ذلك فقد خالف في التحقيق فجعل ما قاله الإمام في أصل المسألة تقييدًا لها ولم يجعله وجهًا ضعيفًا، فقال بعد حكاية الأوجه الأربعة ما نصه: إن ضاق الوقت. حرم قطعهما بالاتفاق. هذا لفظه وهو غريب

جدًا، وذكر في "شرح المهذب" نحوه، فإنه بعد حكايته الأوجه الأربعة نقل عن الإمام أنه قال: عندي أن محله عند الاتساع. ثم قال ما نصه: وهذا الذي قاله الإمام متعين ولا أعلم أحدًا يخالفه. هذه عبارته. والأمر كما قاله النووي في الكتابين المذكورين فاعلمه واجتنب ما وقع في الرافعي و"الروضة" هنا؛ لأنه يلزم من جواز القطع والحالة هذه تفويت الصلاة مع القدرة على إيقاع جميعها في الوقت بلا ضرر. الأمر الثاني: ستعرف إن شاء الله تعالى أنه إذا شرع في الفرض ثم أفسده وفعله ثانيًا كان قضاء، وإن كان في الوقت، وتجويزهم الخروج هنا يقتضي أن ذلك مستثنى لأجل هذا الغرض، وفي ذلك كلام يأتيك في موضعه. الأمر الثالث: أن الطريقة النافية للوجه الأول قد أسقطها من "الروضة". الأمر الرابع: أن ما ذكره الرافعي في هذه المسألة محله في الصلوات الخمس فأما إذا تيمم الميت وصلى عليه ثم وجد الماء فإنه يجب غسله والصلاة عليه، سواء أكان في أثناء الصلاة أم بعدها. قاله البغوي في "فتاويه" ثم قال: ويحتمل ألا يجب وما ذكره احتمالًا قد رأيته مجزومًا به في كتاب "التلقين" لابن سراقة من كبار المتقدمين لكنه إنما تكلم على الوجدان بعد الصلاة خاصة ولو فصل بين ما قبل الإدراج في الكفن وبين ما بعده كما قد قيل به فيما إذا خرج منه منه لم يبعد، وكان الفرق على الأول بين صلاة الجنازة وغيرها من الصلوات أن ذلك خاتمة أمر الميت فاحتيط له. وقياس ما قاله البغوي أن يجري أيضًا في المصلين على الميت، وهذا إذا كان المصلي في السفر، فإنه إن كان في الحضر فليس له أن يتيمم ويصلي

على الميت، كذا رأيته في كتاب "اللطيف" لابن خيران الصغير، وهذا الكتاب قد نقل عنه الرافعي في مواضع منها كتاب العدد، ولعل السبب في المنع إن إيجاب ذلك في الصلوات الخمس إنما هو لحرمة الوقت، ولهذا أوجبنا القضاء وهذا المعنى منتف هنا، ولم يصرح الرافعي بالمسألة. وبتقدير القول بفعلها وجوبًا أو جوازًا أو في حالة اليقين دون عدمه، هل يقول بوجوب القضاء لغيرها أم للمشقة، لاسيما تكليفه الذهاب إلى الغير بخلاف فرائض الأعيان فإنها متأكدة، وأيضًا فالقضاء في الجنازة لا يتأتى حقيقة لعدم الوقت المعين المحدود وبتقدير القول بالقضاء، فلو كان زائدًا على الفرض فهل يقضي أيضًا لكونه لما تلبس لها وقعت فرضًا كما صرح به في "الشرح" و"الروضة" في كتاب الجنائز أم لا لعدم الوجوب ابتداء؟ فيه نظر. قوله: فعلى المذهب المنصوص وهو أن رؤيته في صلاة المسافر لا تقتضي الإبطال لو شرع في الصلاة وهو مسافر ثم نوى الإقامة فيها بعد وجدان الماء ففي بطلان صلاته وجهان أصحهما البطلان تغليبًا لحكم الإقامة وهما كالوجهين فيما إذا كان مقيمًا ورأى الماء في صلاته ولو شرع المسافر في الصلاة بالتيمم ونوى القصر ثم وجد الماء في الصلاة ونوى الإتمام بعد بطلت صلاته أيضًا في أصح الوجهين، لأن تيممه صح لهذه الصلاة مقصورة وقد التزم الآن زيادة ركعتين. انتهى كلامه. وما ذكره في المسألة الثانية وهي المسافر القاصر إذا أتم صحيح، وأما المذكور في المسألة الأولى فلا؛ وذلك لأن المصلي بالتيمم في موضع يغلب فيه عدم الماء لا قضاء عليه مطلقًا مسافرًا كان أو مقيمًا وفي موضع يغلب الوجود يجب عليه مطلقًا مسافرًا، كذا ذكره في آخر الباب في فصل القضاء

بالأعذار قال: وقولهم: إنه يجب القضاء على الحاضر دون المسافر مستوٍ فيه على الغالب، وذكر مثله في "شرح المهذب" فقال: ولو نوى المسافر هذه الإقامة أي إقامة أربعة أيام في موضع من البادية يعم فيه عدم الماء فلا إعادة عليه بلا خلاف هذا لفظه. إذا علمت ذلك فلنرجع إلى مسألتنا فنقول للرافعي هذا المسافر الذي رأى الماء ثم نوى الإقامة وأبطلت تيممه لأجل الإقامة إن كان سفره يغلب فيه العدم وهو الظاهر من كلامك والمستقيم أيضًا من جهة المعنى فنية الإقامة فيه لا أثر لها لأنه لو كان مقيمًا هناك وتيمم لعدم الماء ثم رآه في أثناء صلاته لم محكم بإبطالها، فبطريق الأولى هذا، وإن كان سفره يغلب فيه الوجود بطلت صلاته بمجرد رؤية الماء، ولا يتوقف الإبطال على نية الإقامة؛ لأنها لا تغني عن القضاء. وقد وقع هذا الموضع في "الروضة" وغيرها من كتب النووى، كما وقع في الرافعي وهو عجيب ونقل الماوردي في المسألتين وهما نية الإقامة والإتمام عن ابن القاص أنه يبطل وعن سائر الأصحاب خلافه. قوله: أما إذا فنى قبل سلامه ولم يعلم به فلا يستبيح النافلة، وإن علم بفنائه أيضًا قبل السلام ففي بطلان تيممة ومنعه النافلة وجهان. انتهى. والأصح منهما امتناعهما عليه فقد نص الشافعي على بطلان تيممه ولم يفصل بين أن يعلم أو لا يعلم كذا رأيته في "شرح التلخيص" لأبي عبد الله المعروف بالختن ذكره في كتاب الصلاة وقطع به جمهور العراقيين، وصححه النووي في "شرح المهذب" و"التحقيق"، وقال في "زوائد الروضة": إنه الأصح الذي قطع به العراقيون وما نقله عنهم ينتقض بصاحب "الشامل" فإنه قد اختار بقاء تيممه، فقال: ينبغي ألا يبطل تيممه؛ لأن هذا الماء لا

يجب استعماله لهذه الصلاة ولا قدر على استعماله لغيرها قال: ويلزم من قال: لا يصلي النافلة أن يقول: إذا مر به ركب وهو في الصلاة ففرغ منها وقد ذهب الركب لا يجوز النفل لأن توجه الطب يمنع ابتداء الصلاة بالتيمم، وذكر في "البحر" أيضًا مثل ذلك ثم قال فإن منعه الأولون فهل يعيد؟ قوله: ولو رأى الماء في أثناء النافلة [فإن] (¬1) لم ينو عددًا لم يزد على ركعتين وقيل: يصلي ما شاء. انتهى. وهذا الذي قاله من تصحيح منع الزيادة مستثنى منه ما إذا رأى الماء بعد قيامه إلى الثالثة فإنه يتمها كما صرح به القاضي أبو الطيب والروياني، وكلام النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية" يدل على موافقتهما أيضًا وهو متجه. قوله: ولا يؤدي بالتيمم الواحد مما يتوقف على الطهارة إلا فريضة واحدة لقول ابن عباس: من السنة ألا يصلي كل مكتوبة إلا بتيمم والسنة في كلام الصحابي تنصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. هذا الكلام يرد عليه تمكين المرأة زوجها من الوطء فإنه فرض عليها، ويتوقف على الطهارة عن الحيض والنفاس، ومع ذلك يجوز لها بالتيمم الواحد عنهما إن مكنه مرارًا، وأن تجمع بين ذلك وبين فرض آخر كما صححه النووي في باب الحيض من "شرح المهذب" وقد احترز عن ذلك في "الروضة" فقال: لا يصلي بالتيمم الواحد إلا فريضة واحدة، وسواء كانت الفريضتان متفقتين أو مختلفتين كصلاتين وطوافين وصلاة وطواف انتهى. إلا إنه وقع في اعتراض آخر وهو عدم مطابقة التقسيم للمقسم وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الصلاة وكأنه لما لم يفطن لما أوردناه على الرافعي عدل إلى ما ذكره ذهولًا عما بعده فوقع فيما هو أفحش منه. واعلم أن القاضي أبا الطيب قد استدل لهذه المسألة بدليل حسن فقال: لأن الطهارة في ابتداء الإسلام كانت واجبة لكل صلاة كما هو معروف مقرر وثبت نسخ ذلك بالنسبة إلى الوضوء للحديث الصحيح عن عمر أنه -عليه الصلاة والسلام- صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد فبقينا في التيمم على الأصل. وأما قول الرافعي إن الصحابي إذا قال من السنة يكون مرفوعًا فقد رأيته كذلك في "الأم" في باب عدد كفن الميت لكن رأيت في "شرح المختصر" للداوودي وهو المعروف بالصيدلاني أن هذا هو القديم، ثم قال: والجديد أنه ليس بحجة ذكر في كتاب الجنايات في باب أسنان إبل الخطأ، وقد بسطت ذلك في "شرح منهاج الأصول" فليراجع منه. قوله: ويجوز أن يجمع بين فريضة وصلاة جنازة على الأصح المنصوص، وكذلك بين صلوات جنائز، ثم قال: ولو أراد أن يصلي على جنازتين صلاة واحدة فقال بعضهم يبني ذلك على الخلاف، وقال صاحب "المعتمد": ينبغي أن يجوز ذلك كل حال، لأنه إذا جاز سقوط الفرضين بصلاة واحدة جاز الاقتصار على التيمم الواحد. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا وصحح في "شرح المهذب" الأول فقال: إنه الأشهر الذي قطع به جماعة. قوله: ولو نسى صلاة من الخمس لزمه الخمس ويكفيه لهن تيمم واحد وقيل: لابد من خمس تيممات قال الشيخ أبو على: والوجهان مفرعان

على ألا يجب تعيين الفريضة في التيمم، فإن أوجبنا وجب لكل واحدة تيمم بلا محالة ولك أن تقول إنما يجب التعيين إذا كانت الفريضة معينة, فإن لم تكن فيجوز أن يقال: ينوي بتيممه ما عليه ويحتمل منه التردد والإيهام كما في نية الصلاة، وهذا الذي ذكره الرافعي بحثًا من كون الخلاف جاريًا مطلقًا صرح باختياره الدارمي كما نقله عنه النووي في "شرح المهذب" وزيادات "الروضة" وقال: إنه أصح قال: ونقل أعني الدارمي عن ابن المرذبان وافق وأبا علي. وقد سكت الرافعي هنا عن أمرٍ مهم وهو أنه إذا صلى الخمس بالتيمم أو الوضوء ثم تذكر المنسية هل يلزمه إعادتها أم لا؟ وقد تعرض ابن الصلاح للمسألة وجزم بوجوب الإعادة، ونقله عنه النووي في باب الوضوء من "شرح المهذب" ثم قال: ولم أر فيه كلامًا لأصحابنا، ويحتمل أن يكون على الوجهين فيمن شك في انتقاض طهره فتوضأ احتياطًا ثم بان بأنه كان محدثًا، والأصح منها الوجوب، ويحتمل وهو الأظهر أن يقطع بعدم الوجوب؛ لأنا أوجبناها عليه وفعلها بنية الواجب بخلاف الوضوء فإنه ينزع به هذا كلامه. والاحتمال الذي رجحه النووي هو المجزوم به في "البحر". قوله: وإن نسى صلاتين مختلفين وجهل عينهما فقال ابن القاص: يتيمم لكل واحدة من الخمس وقال ابن الحداد: ويقتصر على تيممهن ويزيد في عدد الصلوات، فيصلي بالتيمم الأول الصبح والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيخرج عن العهد بتعين واستحسن الأئمة ما ذكره ابن الحداد، ولابد فيه من معرفة ضابطه وشرطه.

أما الضابط فهو أن يزيد على قدر المنسي فيه عددًا لا ينقص عما بقى من المنسي فيه بعد إسقاط المنسى، وينقسم المجموع صحيحًا على المنسي نيابة في الصورة المذكورة المنسي صلاتان، والمنسي فيه خمس يزيد عليه ثلاثًا؛ لأنها لا تنقص عما يبقى من الخمسة بعد إسقاط الاثنين بل تساويه في المجموع وهو ثمانية ينقسم على الاثنين صحيحًا. وأما الشرط فإنه يبتدئ من المنسي فيه بأي صلاة شاء، ويصلي بل تيمم ما يقتضيه القسمة مرتبًا أو غير لكن يشترط أن يترك في كل مرة ما ابتداء به في المرة التي قبلها ويأتي في المرة الأخيرة بما بقى من الصلوات فلو صلى في المثال المذكور بالتيمم الأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبالثاني الصبح والظهر والعصر والمغرب فقد أخل بهذا الشرط، فإن لم يترك في المرة الثانية ما ابتدأ به في المرة الأولى، وإنما ترك ما ختم به فيها فلا يخرج عن العهدة لجواز أن يكون عليه الظهر أو العصر أو المغرب مع العشاء فبالتيمم الأول صحت تلك الصلاة ولم تصح العشاء وبالتيمم الثاني لم يصل العشاء، فلو صلى العشاء بعد ذلك بالتيمم الثاني خرج عن العهدة. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من حصول غير العشاء محله إذا أتى بالصلوات مرتبة بالترتيب الذي تميز هو به وقد سبق لك أنه لا يجب مراعاته حتى لو بدأ أولا بالعشاء برئت ذمته قطعًا، وهو أيضًا مندرج تحت الضابط المتقدم، فإنه ترك في الثانية ما بدأ به في الأولى. قوله: ولو صلى الفرض بالتيمم على وجه معه القضاء ثم أراد القضاء بذلك التيمم، فإن قلنا: الفرض الأول جاز، وإن قلنا: الثاني أو كلاهما فرض لم يجز. انتهى.

اعترض عليه في "الروضة" فقال: ينبغي إذا قلنا الثانية فرض أن يجوز؛ لأنه جمع بين فرض ونافلة، والله أعلم. وما ذكره في "الروضة" قد ذكر مثله في "شرح المهذب" فقال: قال الرافعي وغيره لا يجوز وهذا ضعيف والمختار أنه يجوز إذ لا فرض بين تقدم نفل على فرض وعكسه. ولك أن تقول: القاعدة أن التيمم لغير الفرض لا يؤدي به الفرض وتيممه إنما كان للأولى والتفريع على أنها غير فرض فيكون الصواب ما قاله الرافعي نعم إن فرضنا أنه تيمم الفرض آخر فصلى الصلاة المذكورة، ثم أراد إعادتها اتجه الجواز كما قاله النووي إلا أن هذه الصورة لم تخطر بباله هنا بلا شك ولكن التحقيق في المسألة ما ذكره. قوله: ولو تيمم لفائتة ضحوة فلم يصلها حتى دخلت الظهر فله أن يصلى به الظهر في أصح الوجهين، ولم تيمم للظهر ثم تذكر فائتة قيل: يستبيحها قطعًا وقيل على الوجهين وهو الأصح هذا كله تفريع على الأصح أن تعيين الفريضة ليس بشرط فإن شرطناه لم يصح غير ما قالوه. انتهى. قال العمراني: وإذا اشترطنا التعيين فاتفقنا بأن كان عليه ظهر فتيمم له ولم يصله وصلى به ظهرًا آخر جاز. وقال المحب الطبري في "شرح التنبيه": وقد يقال في المتفقتين أيضًا بالمنع لاختلاف صفتهما بالآداء والقضاء والمغايرة ثبتت به وليس ببعيد هذا لكلامه. وقد يجاب بأن اختلافها في ذلك لا أثر ولهذا لا يشترط تعيينه عند التحرم. قوله: ووقت الاستسقاء باجتماع الناس لها في الصحراء. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران.

أحدهما: كيف شرطوا للإجتماع في صحة التيمم لها مع صحة فعلها قبل ذلك فرادى وجماعة لاسيما وفيه مشقة، فإنه قد يقتضي استصحاب التراب إلى الصحراء ولك أن تورد وهذا الكلام بعبارة أخرى فتقول هذه الصلاة تصح بمجرد انقطاع الغيث ولا معنى لوقت الصلاة هنا إلا الوقت يصح فعلها فيه وإن كان غيره أكمل، بل تيمم لصلاة الجمعة ثم انتظر الجماعة، فإنه يصح مع أن الجماعة شرط فيها. الثاني: إذا قدرنا صحة ما قاله من اشتراط الاجتماع فما ضابط الناس المجتمعين لها وهل يعتبر فيهم الإمام أم لا؟ قوله في "الروضة" ووقت صلاة الجنازة انقضاء الغسل وقيل: الموت. اعلم أن الرافعي قد صرح بأن صلاة الجنازة ملحقة بالنوافل المؤقتة حتى يجري فيها الخلاف في جواز التيمم قبل وقتها ولم يصرح في "الروضة" بذلك وهو الصواب فإنها واجبة بالإجماع. قوله: في "الروضة" فالعذر العام لا قضاء معه كصلاة مسافر محدث أو جنب بالتيمم لعدم ما يجب استعماله إذا لم يكن سفر معصية، وفي سفر المعصية أوجه الأصح يجب التيمم والقضاء، والثاني: تيمم ولا يقضي. والثالث: لا يجوز التيمم. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن العاصي بسفره إذا تيمم لعطش ونحوه يصح تيممه، لأنه تيمم لعدم ما يجب استعماله، وليس كذلك ففي "شرح المهذب" إنه لا يصح تيممه إذا فعله مع وجود الماء لأجل عطش أو مرض قال: بل طريقه إن يتوب ثم يتيمم ذكر ذلك في باب المسح على الخفين، ونقل إنه لا خلاف فيه والمثبت في ذلك إن التيمم في هذه الحالة يكون رخصة بلا شك

لانطباق حد الرخصة عليه، والرخص لا تناط بالمعاصي بخلاف التيمم عند الفقد فإنه عزيمة، وقد صرح الغزالي في "المستصفى" بذلك فقال: إن التيمم للمرض ونحوه رخصة بخلاف التيمم لفقد الماء. واعلم أن كلام الرافعي ليس صريحًا في تناول هذه الصورة فاعلمه، وإنما جاء هذا من تصرفه في "الروضة" على أن المسألة فيها وجهان رأيتهما في كلام جماعة. قوله: وهل يشترط لعدم القضاء أن يكون السفر طويلًا؟ فيه قولان أصحهما لا لإطلاق قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} (¬1) الآية، وعن عمر أنه رجع من الجرف، فلما بلغ المربد تيمم ثم دخل المدينة فلم يعد مع بقاء الوقت. ومنهم من قطع بالأول ولم يثبت الثاني قولًا. انتهى كلامه. وقد اختصر في "الروضة" هذا الكلام بقوله وقصير السفر كطويله على المذهب، وقيل في وجوب القضاء معه قولان. انتهى. وفي هذا الاختصار أمور. أحدها: أن تصحيحه لطريقة القطع عكس ما ذكره الرافعي هنا، وفي "الشرح الصغير" أيضًا. الثاني: أنه مناقض لما ذكره في باب مسح الخف من "شرح المهذب" فإنه جزم هناك بطريقة القولين مع كونه قد ذكر هنا من الشرح المذكور مثل ما في "الروضة". [الأمر الثالث: أنه خالف الموضعين جميعا في آخر صلاة المسافر من "الروضة"] (¬2) فحكى الخلاف وجهين وجهين وقد تقدم الكلام في أوائل ¬

_ (¬1) سورة المائدة (6). (¬2) سقط من أ، ب.

الباب على ما يتعلق بهذا الأثر المنقول عن عمر فراجعه. قوله: ومنها ما إذا لم يجد ماء ولا ترابًا. فالجديد الصحيح: أنه يلزمه أن يصلي ويعيد. والثاني: يلزمه بلا إعادة. والثالث: يستحب مع وجوب الإعادة. والرابع: يستحب بدونه. والخامس: تحرم الصلاة. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد أسقط القول الرابع من "الروضة". الثاني: أن الرافعي والنووي في "الروضة" لم يثبتا محل وجوب الإعادة، ولا شك إنها تشرع إذا قدر على الماء، وكذلك إذا قدر على التراب في موضع يغني عن الإعادة، فأما إذا كان في موضع لا يغني عنها فإنه لا يعيد؛ لأنه لا فائدة فيه كذا جزم به النووي في "فتاويه" وفي "شرح المهذب" أيضًا، ونقله فيه عن الأصحاب قاطبة، واقتضى كلامه أنه لا يجوز ذلك وجزم في النكت التي [له على] (¬1) "التنبيه" بعكسه، فقال: إنه يعيد سواء كان في موضع يسقط القضاء أم لا، والذي ذكره في "شرح المهذب" هو الصواب ولا التفات إلى ما ذكره في النكت المذكورة وكأنه علق غالبها من أفواه مشايخه. وقد ذكر البغوي في فتاويه في المسألة المبسوطة فقال: إن قدر عليه في الوقت لزمه وإن قدر عليه بعده ففيه احتمالان: ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه لا فائدة فيه، والثاني: يلزمه؛ لأن وقت وجوده لوقت الصلاة ولهذا إذا لم يجد الطهورين وخرج الوقت ولم يصل ثم وجد أحدهما وجب استعماله فدل على عدم مراعاة الوقت. هذا كلامه. وهذه المسألة الأخيرة التي استدل بها مسألة مهمة، وللأول أن يجيب عنها فإنه هنا قد ضيع حق الوقت وفوته فيقضيه بخلاف ما إذا صلى، وتوقف ابن الرفعة في المسألة أعني من أصلها لعدم وقوفه على نقل فيها، فقال: في وجوبه نظر يقوي بعدم خروج الوقت هذا كلامه. ويمكن تخريج ما سبق فيها على أن صلاة فاقد الطهورين هل هي صحيحة أو باطلة؟ وفيها وجهان، أصحهما في "التحقيق" و"شرح المهذب" أنها صحيحة. قوله: وإذا قلنا إن فاقد الطهورين يصلي فلا يجوز مس المصحف ولا قراءة القرآن للجنب والحائض. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه ومقتضى هذا الإطلاق أن الجنب والحائض لا يقرآن الفاتحة في الصلاة، والنووي قد خالف الرافعي فيه في باب الغسل وصحح إنها لا يحرم عليهما بل يجب عليهما قراءتها. قوله في أصل "الروضة": ومنها المربوط على خشبة ومن شد وثاقه بالأرض بالأرض يصلي بالإيماء ويعيد، وقال الصيدلاني إن صلى مستقبلًا القبلة لم يعد وإلا أعاد قال وكذا الغريق يصلي على خشبة بالإيماء وفصل [البغوى] (¬1) فقال: يجب القضاء على المربوط مطلقًا، وأما الغريق فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

صلى إلى القبلة لم يعد وإن صلى لغيرها فقولان. انتهى ملخصًا. وقد حذف في "الروضة" القول بأنه لا قضاء على الغريق مطلقا فاقتضى كلامه أن البغوي سوى بين المربوط والغريق فليس كذلك. قوله: ومنها إذا كان على جرحه دم يخاف من غسله صلى وأعاد سواء كان على أعضاء الوضوء أم لا والقديم أنه لا إعادة. انتهى. هذه المسألة قد ذكرها الرافعي -رحمه الله- قبيل ستر العورة أيضًا على خلاف ما ذكره هنا، وتابعه في "الروضة" على ذلك، وقد ذكرت المسألة هناك مبسوطة فراجعها. قوله: وإذا تيمم المقيم لعدم الماء وجبت الإعادة، فإنه عذر نادر لا يدوم، لأن أهل الموضع يتبادرون إلى الإصلاح والإنباط. انتهى. يقال: نبط الماء بنون وباء موحدة مفتوحين وطاء مهملة نبيط بالضم والكسر نبوطًا نبع وانبط الجفاء بلغ الماء والنبيط الذي ينبط من قعر البئر إذا حضرت ويقال للعين نبط إذا كثر ماؤها قاله الجوهري. قوله: وكان -يعني: أبا ذر- يقيم بالربذة. هو بالراء والباء الموحدة المفتوحين وبالذال المعجمة كذا قال الجوهري قال: وهو موضع به قبر أبي ذر الغفاري وذكر في باب الزنا من "شرح المهذب" أنه على ثلاث مراحل من المدينة. قوله: في "الروضة" ومنها المتيمم لعذر في بعض الأعضاء فإن لم يكن على العضو ساتر من جبيرة أو لصوق فلا إعادة، وإن كان ساتر فأقوال أظهرها إن وضعها على ظهر فلا إعادة وإلا وجبت. انتهى. وما جزم به في الوضع على حدث من حكاية قولين غريب فقد حكى الرافعي في المسألة طريقين إحداهما هذه، والثانية يعيد جزمًا قال وهي أظهر الطريقين.

قوله: ثم هذا كله فيما إذا كان الساتر على غير محل التيمم، فأما إذا كان على محل التيمم وجبت الإعادة لا محالة النقصان البدل والمبدل جميعًا كذلك ذكره ابن الصباغ في "الشامل" وأبو سعيد المتولي في "التتمة". انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه العلة قد ذكرها ابن الصباغ وأما المتولي فلا بل علله بقوله لأن التيمم بدل، والجبيرة بدل، ولا يجوز أن يكون للبدل بدل هكذا رأيته في "التتمة". الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلامه من عدم الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة"، وكيف يستقيم ذلك مع أن لنا قولًا أن كل صلاة وجبت في الوقت لا يجب إعادتها ولو كان فاقدًا للطهورين كما تقدم، وما ذكره الرافعي من عدم الخلاف قد نقله في "شرح المهذب" عن هذين المذكورين وعن القاضي أبي الطيب والروياني، ثم قال: إن إطلاق الباقين يقتضي أنه لا فرق. قوله في "الروضة": ومنها التيمم لشدة البرد، والأظهر: أنه يوجب الإعادة [والثاني: لا. والثالث: تجب على الحاضر دون المسافر. انتهى. وما جزم به في الحاضر] (¬1) من حكاية قولين غريب، فإن الرافعي في حكى فيه كلامًا حاصله طريقان المشهور منهما القطع بوجوب الإعادة فاعلمه. قوله: والعاجز عن ستر العورة كيف يصلى؟ فيه قولان أصحهما يصلى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قائمًا ويتم الركوع والسجود، لأن المقدور عليه لا يسقط بالمعجوز كيف والقيام والركوع والسجود أركان الصلاة والستر شرط. والقول الثاني: يصلي قاعدًا وعلى هذا فهل يتم الركوع والسجود أم يومى؟ فيه قولان وقيل: يتحر وتجري الخلاف في صوره: منها ما إذا كان محبوسًا في موضع نجس لو سجد لسجد على نجاسة هل يتم السجود أم يقتصر على الإيمان، وإذا وجد ثوبًا طاهرًا لو فرشه لبقى عاريا ولو لبسه صلى على نجاسة ماذا يفعل؟ فيه الخلاف، وإذا وجد العريان ثوبًا نجسًا هل يصلي فيه أم يصلي عاريًا؟ فيه الخلاف. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمران. أحدهما: أن الخلاف المذكور في المسألة الأولى قد أجراه في الثلاثة المذكورة آخرًا ويؤخذ منه أن الصحيح في الأول من الثلاث أنه يتم السجود، وإن كان على نجاسة وهو مقتضى ما في هذا الباب من "شرح المهذب" أيضًا وأما المسألتان الأخيرتان فلا يظهر من هذا إلينا حكمهما لكن الصحيح فيهما أيضًا أنه يصلي عريانًا كذا ذكره في الشرح المذكور هنا. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلام "الروضة" و"شرح المهذب" هنا في المحبوس في موضع نجس من كونه يسجد على النجاسة قد خالفه في باب طهارة البدن والثوب من "شرح المهذب" فقال ما نصه: ولا يجوز أن يضع جبهته على الأرض هذا هو الصحيح، وحكى صاحب "البيان" وجهًا ضعيفًا أنه يلزمه وضعها وليس بشئ هذا لفظه وهو غريب جدًا، وصحح أيضًا مثله في "التحقيق" في الباب المذكور كذلك في هذا الباب في الكلام على فاقد الطهورين وهذا هو الصواب الذي عليه الفتوى فقد نص عليه

الشافعي في القديم والجديد وقال إنه يومئ كذا رأيته في هذا الباب من تعليق الشيخ أبي حامد. قوله: قال الإمام والوجه القطع بأن الذين يعتادون العري يتمون الركوع والسجود فإنهم يتصرفون في أمورهم عراة. انتهى. [وحصل] (¬1) مقالة رابعة، وقد حذف ذلك من "الروضة" قوله: وإن كان على المحل العليل ساتر فإن وضعه على طهر مسح عليه وصلى، ولا يجب الإعادة في أظهر القولين قياسًا على الخف إن وضع على حدث، فإن أمكن نزعه ليضعه على طهر وجب وإن تعذر مسح وصلى للضرورة هل يعيد؟ فيه طريقان: أظهرهما القطع بالوجوب، والثانية: على القولين السابقين. انتهى. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع ذكر في الشرح الصغير وقال في "شرح المهذب" إنها الأصح التي قال بها الجمهور وجزم في "الروضة" بالطريقة الضعيفة، فإنه حكى في المسألة ثلاثة أقوال فخالف أصله وناقض كلامه ووقع له مثل هذا بعينه عقب ذلك فإنه قال: والأظهر أن التيمم لشدة البرد يوجب الإعادة، والثاني: لا، والثالث: يجب على الحاضر دون المسافر، والرافعي حكي في المسافر قولين، وأما الحاضر فصحح فيه القطع بالوجوب. قوله من "زياداته": ولو لم يجد المريض من يحوله للقبلة لزمته الصلاة بحسب حاله وتجب الإعادة على المذهب قال الروياني: وقيل: قولان وهو شاذ انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) فى جـ: وحاصلها.

وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي قبل هذا الموضع بنحو ثلاثة أوراق في الكلام على الغريق ونحوه ولم يحك فيها خلافًا فحذفها النووي من هناك وزادها من كلامه في هذا الموضع وضم إليها حكاية الخلاف. قوله أيضًا من "زوائده": لا يستحب تجديد التيمم على المذهب وبه قطع الجمهور في "المستظهرى" وجهان ويتصور في مريض وجريح ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء إذا تيمم وصلى فرضًا ثم أراد نفلًا ويتصور في العدم أو لم يوجبه ثانيا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن عدم استحباب التجديد قد ذكره الرافعي في الكلام على كيفية النية فحذفة المصنف هناك ثم ذكره من زوائده هنا إلا أنه زاد فيه هذا الخلاف. الأمر الثاني: قد سبق في الوضوء أن الصحيح واستحباب تجديده حيث صلى به صلاة فرضًا كانت أو نافلة، وحينئذ فإذا قلنا باستحبابه هنا فيتصور في ثلاث صور. إحداها: إذا صلى به فرضًا ثم أراد نفلًا. الثانية: عكسه. الثالث: إذا صلى به نفلًا ثم أراد به نفلًا آخر. فاقتصار على الصورة الأولى غريب ولا شك أن توهم أن من صلى نافلة لا يستحب له التجديد وهو وجه ضعيف. الأمر الثالث: أنه إنما شرط في التيمم لعدم الماء عدم وجوب الطلب؛ لأنه لو وجب لبطل تيممه، وإذا بطل خرج التيمم الذي يأتي به عن أن

يكون تجديدًا فتؤدي مشروعيته إلى عدم مشروعيته، وذلك دور. ولقائل أن يمنع وجوب الطلب في هذه الحالة ويقول إنما يجب إذا لم يكن متممًا فإن إباحة الصلاة مع وجوب الطلب تفيده، وإذا قلنا: إن تجديد التيمم لا يستحب فهل يستحب التجديد في المغسول معه؟ فيه نظر أيضًا. قوله: أيضًا ولو منع الوضوء إلا منكوسًا فهل فيه الاقتصار على التيمم أم عليه غسل الوجه لتمكنه منه؟ فيه القولان فيمن وجد بعض ما يكفيه حكاه الروياني عن والده قال: ولا يلزمه قضاء الصلاة إذا أمسك، امتثل المأمور على القولين وفي القضاء نظر لندوره لكن الراجح ما ذكره؛ لأنه في معنى من غصب ماؤه فلا قضاء. انتهى كلامه. ولا شك أن الإكراه على الفعل المذكور إكراه على الصلاة بلا وضوء وقد ذكر هذه المسألة في أثناء الكلام على الكلام في الصلاة، وجزم بوجوب الإعادة وعلله بالندرة وادعى الاتفاق عليه وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى.

النظر الأول في شروطه وكيفيته وحكمه

باب المسح على الخفين والنظر الأول في شروطه وكيفيته وحكمه: وله شرطان عن أبي بكرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يومًا وليلة إذا تطهر ولبس خفيه أن يمسح عليهما وعن صفوان بن عسال قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كنا مسافرين أو سفر ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم. انتهى. أما أبو بكرة فإنه بالباء في أوله وتاء في آخره، واسمه نفيع بضم النون وبالفاء مصغرًا ابن الحارث، سمى أبا بكرة لأنه تدلي ببكرة من حصن الطائف إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حاصرها، توفي بالبصرة سنة إحدى وخمسين وحديثه هذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما"، وقال الشافعي والخطابى: إسناده صحيح، وقال البيهقي: قال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: إنه حسن. وأما صفوان فبالصاد المهملة وأصله الحجر وعسال بعين مهملة مفتوحة وسين مهملة مشددة وفي آخره لام وهو صفة للرمح، يقال: عسل الرمح عسلانًا بالفتح إذا اهتز واضطرب فهو عسال وأما سفر فبسكون الفاء. قال الجوهري: يقال سفرت أسفر سفورًا خرجت إلى السفر فأنا سافر وقوم سفر كصاحب وصحب. انتهى. والمشهور عند النحاة فيه وفي أوزانه كصحب ونحوه أنه اسم جمع لا جمع. وحكى ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" خلافًا في أنهم هل نطقوا شيئًا أم لا؟ ، وحديث صفوان هذا رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي في

"جامعه" وقال: إنه حسن صحيح. قوله: ومن شرط المسح على الخف أن يلبسه وهو متطهر، وعند أبي حنيفة لا يشترط تقدم الطهارة على اللبس وإنما المعتبر أن يطرأ الحدث بعد اللبس على طهارة كاملة. لنا حديث أبي بكرة وعن المغيرة بن شعبة قال: سكبت الوضوء لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما انتهيت إلى رجليه أهويت إلى الخفين لأنزعهما فقال: "دع الخفين فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" علل جواز المسح بطهارتهما عند اللبس، فإذا كانتا طاهرتين كانت سائر الأعضاء طاهرة؛ لأن الترتيب واجب فلو غسل إحدى الرجلين وأدخلهما الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها لم يكف؛ لأن أول اللبس تقدم على تمام الطهارة. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الأصحاب قد قرروا في كتاب الإيمان في كتاب أن استدامة اللبس لبس وحينئذٍ فإذا غسل رجليه في الخف صدق اللبس بعد الطهر الكامل وهذا يقوي مذهب أبي حنيفة والمزني وإلا يلزمنا الفرق. الثاني: أن ما ذكره من أن الرجلين إذا كانتا طاهرتين كانت سائر الأعضاء؛ كذلك لأن الترتيب واجب يقتضي أنه لو كان جنبًا مغسل أعضاء الوضوء عن الحدث ثم لبس الخف جاز المسح، بل يوهم الجواز أيضًا فيما إذا لبس بعد غسل الرجلين فقط والمتجه خلافه، ويحتمل الإجزاء؛ ويقوى في الصورة الأولى؛ لأنه تطهر طهارة كاملة، فإن الطهارة تطلق على الوضوء وعلى الغسل، فإن لم تكن هذه المسألة مستثناه فهي واردة على التقرير الذى ذكره.

الأمر الثالث: أن الوضوء في حديث المغيرة بالفتح على المعروف لأن المراد به الماء، وحديثه هذا رواه الشيخان (¬1) على اختلاف في بعض الألفاظ. قوله: ولو ابتدأ اللبس وهو متطهر ثم أحدث، قيل: إن وصلت الرجل إلى قدم الخف لم يجز المسح نص عليه في "الأم" وذكر فيه -أى الأم أيضًا- أنه إذا مسح على الخفين بشرطه ثم أزال قدميه من مقرهما ولم يظهر من محل الفرض شئ لا يبطل المسح، ونقل القاضي أبو حامد أنه ما نصه وفرض القاضي الحسين المسألة فيما إذا أحدث وقد أدخل بعض قدميه في مقرها والباقى في ساق الخف وقال اختلفوا في صورتي الابتداء والانتهاء في أن حكم البعض هل هو كحكم الكل أم لا؟ انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن محل الخلاف في الصورة الثانية إذا كان الخف على [الطول] (¬2) المعتادة، فإن كان أطول من العادة فأخرج رجليه إلى موضع لو كان الخف معتادًا لظهرت فاستبطل مسحه قطعًا كذا ذكره صاحب "البيان" ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" ولم يخالفه. الأمر الثاني: أن ما نقله الرافعي عن القاضي الحسين من الخلاف في أن البعض هل ينزل منزلة الكل ابتداء وانتهاء أي في ابتداء اللبس وفي الإخراج بعد الاستقرار في القدم قد أسقطه النووي من "الروضة". قوله: إذا توضأت المستحاضة ولبست الخفين ثم أحدثت حدثًا غير حدث الاستحاضة ولم ينقطع دمها قبل المسح جاز لها المسح على الأصح المنصوص، فإن انقطع دمها قبل المسح وشفيت نزعت وأتت بطهارة كاملة، وقيل: تمسح سواء انقطع أم لم ينقطع وقيل: لا تمسح أصلًا ثم إذا جوزنا ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ، ب: الصورة.

المسح نظر إن أحدثت قبل أن تصلي بطهارتها فريضة مسحت وصلت فريضةً ونوافل، فإن أحدثت بعد ما صلت فريضة مسحت ولم تصل به إلا النوافل؛ لأنه الذي تستفيده بطهارتها فلا تستفيد بالمسح المرتب عليها أكثر من ذلك، وحكى عن "تعليق أبي حامد" أن لها أن تستوفي مدة المسح المرتب عليها ولكن عند كل صلاة فريضة تعيد الطهارة والمسح. اشهى كلامه ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن كلامه في المستحاضة لا يعلم منه الحكم فيما إذا شفيت بعد المسح، وقد قالوا: إذا شفيت بعد الوضوء، فإن كان قبل شروعها في الصلاة بطلت طهارتها وإن كان بعد الفراغ لم يضر، وان كان في الأثناء ففيه خلاف، والصحيح أنه يضر ويظهر أن يكون الحكم هنا في الأقسام الثلاثة كذلك. الأمر الثاني: أن الرافعي قد احترز عن حدث الاستحاضة ولم يبين حكمه وقد بينه في "شرح المهذب" فقال: إنه لا يضر ولا يحتاج معه إلى استئناف الطهارة إلا إذا أخرت الدخول في الصلاة بعد الطهارة ودمها يجرى، وقلنا بالمذهب أنه تنتقض طهارتها ويجب استئنافها فحينئذ يكون حدث الاستحاضة كغيره على ما سبق هذا كلامه. الأمر الثالث: أن ما نقله عن أبي حامد قد تابعه عليه أيضًا ابن الصلاح في مشكل الوسيط والنووي في "شرح المهذب" وصرحا بأنه الشيخ أبو حامد لكن الذي رأيته في تعليق الشيخ أبي حامد المذكور إنما هو الجزم المذهب المشهور، وهو أنها إذا أحدثت قبل أن تصلي فريضة بطهارتها مسحت وصلت فريضة ونوافل، وان أحدثت بعد صلاة الفريضة مسحت وصلت نوافل فقط.

قوله: والوضوء المضموم إليه التيمم بسبب جراحة أو انكسار حكمه حكم طهارة المستحاضة، وأما محض التيمم فإن كان سببه إعواز الماء لم نستفد به جواز المسح بل إذا وجد الماء لزمه النزع والوضوء الكامل، وعن ابن سريج أنه يجوز؛ لأنه يبح الصلاة أيضًا، ثم قال: فإن كان بسبب شئ آخر سوى إعواز الماء أى: كالجراحة فهو كطهارة المستحاضة في جواز ترتيب المسح عليه فإنه لا يتأثر بوجدان الماء لكنه ضعيف لا يرفع الحدث بطهارتها. انتهى. ولقائل أن يقول: ما صورة هذه المسألة الأخيرة؟ لأنه إذا تيمم للجراحة ولبس الخف وأحدث وأراد الصلاة، فإن برئ الجرح وجب نزع الخف بلا نزاع كالمستحاضة إذا شفيت وبه صرح في "شرح المهذب"، فإن لم تبرأ فلا مسح أصلًا؛ لأنه بمحض التيمم كما كان بمحضه قبل اللبس. والجواب: أن صورته فيما إذا لم يزل السبب ولكن تكلف المجروح وغسل ثم أراد المسح غير أنه يبقى النظر في أن هذا الفعل هل يجوز أم لا؟ والعجب من الرافعي والنووي كيف لم يذكرا صورة هذه المسألة. واعلم أن تعليله لمذهب ابن سريج بكون التيمم يبيح الصلاة لا يحسن؛ لأن ابن سريج يرى أن التيمم يرفع الحدث في حق الفريضة الواحدة، وممن صرح بذلك ابن الرفعة هنا وفي التيمم وأشار إليه الرافعي أيضًا هناك ولم يصرح الرافعي بالوضوء المضموم إليه التيمم للإعواز لكن كلامه يشعر بأنه لا يكفي وهو ظاهر. قوله: والخف المشقوق القدم إذا شد محل الشق منه بالشرج يجوز المسح عليه في أظهر الوجهين، ونص عليه الشافعي لحصول الستر والارتفاق بالمشى. انتهى.

الشرج: بالشين المعجمة والراء المهملة المفتوحتين وبالجيم هو العُرَى. قوله: ويشترط في الخف أن يمكن متابعة المشي عليه بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال. انتهى. لم يبين -رحمه الله- مدة التتابع وقد رأيته مبينًا في كتاب "التبصرة" للشيخ أبي محمد الجويني، وجعل الضابط مسافة القصر فقال ما نصه وأقل حد المتابعة على التقريب لا على التجديد مسافة سفر القصر هذا لفظه. وفي "رونق أبي حامد" تقديرها بثلاثة أميال، والأول هو المعتمد عليه. قوله: ولو تعذر المشي فيه لسعته المفرطه أو لضيقه ففي جواز المسح عليه وجهان: أصحهما: المنع. انتهى. يستثنى من ذلك ما قاله الخوارزمي في "الكافي" وهو ما إذا كان ضيقًا لكنه يتسع بالمشي عن قرب فإنه يجوز. قوله: ولو تعذر لغلظه أو ثقله كالخشب والحديد لم يجز، هكذا قاله الجمهور ثم قال ما نصه: وذكر إمام الحرمين وصاحب الكتاب في الوسيط: أنه يجوز المسح على الخف من الحديد وإن عسر المشي فيه، فإن ذلك ليس لضعف الملبوس وإنما هو لضعف اللابس. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الجمهور قد صوره هو بما إذا تعذر المشي فيه، وما نقله عن الإمام والغزالي قد صوره أيضًا بما إذا عسر ولم يصوره بالتعذر كذلك ذكر للإمام والغزالي ومقتضى اللفظ أنهما مسألتان. فالأولى: منعها الجمهور وصورتها عند التعذر. والثانية: وهي التي جوزها الإمام والغزالي صورتها إذا أمكن.

لكن الذي أراده الرافعي أن الكلام كله [في] (¬1) مسألة واحدة وأن الثاني حكاية لوجه مخالف الأكثرين فإنه قد بينه في "الشرح الصغير" فقال: ولو تعذر المشي فيه لثقله أو غلظه كالمتخذ من الخشب أو الحديد، قال الأكثرون: لا يجوز المسح، وقال الإمام: يجوز لأن عسر المشي لضعف اللابس لا لضعف الملبوس هذا لفظه. ولقائل أن ينازع الرافعي في ذلك ويقول: بل هما مسألتان ومدلولات الألفاظ قاضية بذلك. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد حذف ما نقله الرافعي عن الإمام والغزالي وهو اختصار عجيب، فإن مقالتهما إما خلاف في المسألة أو مسألة أخرى. وقد ذكر ذلك في "شرح المهذب" وتوقف في أن ذلك خلاف أو لا كما توقفت. قوله: الثانية ذكر الشيخ أبو محمد أنه ينبغي أن يقع على الملبوس اسم الخف حتى لو لف على قدميه قطعة أدم وشده بالرباط لم يجز المسح عليه. . . . إلى آخره. وما قاله الشيخ أبو محمد جزم به الرافعي قبل هذا بنحو ورقه في الكلام على الخف المخرق، فاعلم ذلك. قوله: من "زوائده" ويجوز على خف زجاج قطعًا إذا أمكن متابعة المشي عليه والله أعلم. وما ذكره من دعوى عدم الخلاف ذكر مثله في "شرح المهذب" وليس كما زعم، فقد جزم البندنيجي في "تعليقه" بالمنع لكونه لا يستر ومن نظائر ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

المسألة ستر العورة بذلك ورؤية المبيع من ورائه والحكم أنهما لا يكفيان. أما عدم الاكتفاء في العورة فلأن المقصود سترها عن الأعين ولم يحصل بخلاف الخف، فإن المعتبر فيه غسل الرجل بسبب الساتر وقد حصل، وأما عدم الاكتفاء في المبيع؛ فلأن المطلوب نفي الغرر وهو لا يحصل؛ لأن الشئ من وراء الزجاج يرى كبيرًا جدًا على خلاف ما هو عليه. ومن نظائر المسألة أيضًا: إذا حلف لا يراه فرآه من وراء ذلك وستعرف الكلام عليها إن شاء الله تعالى في الطلاق. قوله: ولو اتخذ خفًا من جلد الميتة قبل الدباغ لم يحل استعماله في البدن باللبس وغيره على أصح القولين ونص في "الأم" على أنه لا يجوز المسح عليه؛ لأنه لا يماس الصلاة وفائدة المسح، وإن لم تنحصر في الصلاة إلا أن المقصود الأصلي الصلاة وما عداها كالتابع، وأيضًا فإن الخف يدل عن الرجل، ولو كانت الرجل نجسة لم يغسل عن الوضوء ما لم يطهر عن النجاسة فكيف يمسح على البدل وهو نجس العين. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه وفيه أمور: أحدها: أن ظاهر العين إذا أصابته نجاسة [حكمه] (¬1) في ذلك حكم نجس العين صرح به النووي في "شرح المهذب" وصاحب "الذخائر". الثاني: أنه لو كان محل المسح طاهر العين دون [خرق] (¬2) أسفله أو كانت الطهارة ظاهرة العين دون البطانة فمقتضى التعليل الأول أن المسح لا يصح لأن الصلاة فيه لا تصح، وأما على الثاني فيحتمل أن يقال إنه يصح ونستفيد به مس المصحف ونحوه، إن قلنا إن مسح الخف يرفع الحدث وهو ما صححه النووي، وإن قلنا إنه كالتيمم في أنه يبيح الصلاة خاصة وهو ¬

_ (¬1) فى جـ: حكم. (¬2) فى جـ: خرقه أو.

مقتضى ما صححه الرافعي في "الشرح الصغير" كما [ستعرفه] (¬1) في آخر الباب فينبني على صحة التيمم قبل إزالة النجاسة، فإن لم يصححه هناك [فهنا] (¬2) أولى، وإن [صححناه] (¬3) فالظاهر الصحة أيضًا ولو كان كله طاهر العين ولكن تنجس أسفله أو خرقه دون محل المسح فيتجه فيه أيضًا هذا التخريج، ومقتضى كلام الرافعي في الكلام على كيفيه المسح الجزم بالصحة، وقد رأيته مصرحًا به في "التبصرة" للشيخ أبي محمد. الأمر الثالث: أن للصلاة قد تباح مع لبس الخف النجس العين لشدة البرد ونحوه وحينئذ فيكون مقتضى التعليل الأول من [تعليلى] (¬4) الرافعي أنه جوز المسح عليه خصوصًا إذا لم يجد ما يكفيه للغسل لو نزع الخف، وقول الرافعي: يماس الصلاة أي لا يجامعها، فعبر به عنه مجازًا؛ لأن من مس شيئًا فقد اجتمع به وقاربه. قوله: فالقديم ونص عليه في "الإملاء" أنه يجوز المسح على الجرموقين، والجديد أنه لا يجوز؛ فإن جوزنا فقد ذكر ابن سريج فيه ثلاثة معانٍ. أظهرها أن الجرموق بدل عن الخف، والخف بدل عن الرجل. وثانيها الأسفل كاللفافة والخف [هو] (¬5) الأعلى. وثالثها: أن الأعلى والأسفل معًا كخف واحد له ظهارة وبطانة. انتهى. تابعه في "الروضة" "وشرح المهذب" على التعبير بالمعاني مع أن هذه ¬

_ (¬1) في جـ: تعرفه. (¬2) في جـ: فهاهنا. (¬3) في جـ: صححنا. (¬4) في جـ: تعليل. (¬5) سقط من جـ.

المعاني الثلاث هي وجوه لابن سريج كذا نبه عليه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال فيه ثلاثة أوجه لابن سريج هذا لفظه وسبقه إليه الإمام في "النهاية" والروياني في "البحر" والعمراني في "البيان" وغيرهم بل عبارة "البحر" [إن] (¬1) فيه ثلاثة أوجه نقلها ابن سريج عن الأصحاب. قوله: ويتفرع على هذه المعاني صور منها: لو خرق على الأعلى من رجل والأسفل من [الأخرى] (¬2) فإن قلنا إنه بدل البدل نزع الأعلى المتخرق وأعاد المسح على ما تحته وهل يكفي ذلك أم يحتاج إلى استئناف الطهارة؟ فيه قولان. وإن قلنا: إنهما كطاقتي خف لم يضر. وإن قلنا: الأسفل اللفافة ويجب نزع الكل كما لو تخرق أحد الخفين ثم إذا نزع غسل الرجلين وفي استئناف الوضوء القولان. انتهى. والتفريع على المعنى الأخير وهو اللفاقة قد سقط [من الروضة] (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ. (¬2) فى جـ: الثانية. (¬3) سقط من أ، ب.

النظر الثاني في كيفية المسح

النظر الثاني في كيفية المسح قوله: لا كلام في أن ما يحاذي غير الأسفل والعقبين محل للمسح. انتهى. ويستثني مما قاله خرق الخف، فإن حكمه حكم الأسفل كما جزم به النووي في "المنهاج" ونقله في "الروضة" و"شرح المهذب" عن "التهذيب" وأثره. قوله: في "الروضة" إلا أسفل الرجل [فإنه لا] (¬1) يجوز الاقتصار عليه في الأظهر وقيل: يجوز قطعًا، وقيل: لا يجوز قطعًا. انتهى. وما صححه في طريقة القولين تبعًا للرافعي قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: المذهب وهو الصواب المعتمد نقلًا ودليلًا وعليه جمهور الأصحاب القطع بعدم الإجزاء. قوله: وأما الأكمل فهو أن يمسح أعلى الخف وأسفله فقد رواه هكذا المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأولى أن يضع كفه اليسرى تحت العقب واليمنى على ظهر الأصابع، ويُمر اليسرى إلى أطراف الأصابع من أسفل واليمنى [على] (¬2) الساق وروى هذه الكيفية عن ابن عمر. انتهى. وهذه الكيفية قد أسقطها النووي من "الروضة" مع اتفاق الأصحاب على استحبابها كما قاله في "شرح المهذب" حتى إن صاحب التنبيه قد صرح باستحبابها فيه، وأما حديث المغيرة فرواه أبو داود والترمذي وغيرهما لكنه ضعيف ضعفه البخاري وغيره وكذلك الشافعي واعتمد على أثر ورد عن عمر قاله في "شرح المهذب". قوله: وقال الغزالي في "الوجيز" الأكمل أن يمسح أعلاه وأسفله إلا أن ¬

_ (¬1) فى أ، ب: فلا. (¬2) فى أ، ب: إلى.

يكون على أسفله نجاسة، وهذا استثناء لم يذكره في "الوسيط" ولا تعرض له الأكثرون وفيه إشعار بالعفو عما على أسفله فأما عدم المسح فلا شك فيه؛ لأن المسح يزيد فيها وأما العفو ففيه كلام يأتي في الصلاة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه [مشعر] (¬1) بانفراد الغزالي بهذا الاستثناء مع أن القاضي الحسين قد صرح به في تعليقه حكمًا وتعليلًا، وزاد عن هذه المسألة في هذا التعليل فقال: لأنه ينجس يده ويزيد في النجاسة. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد عبر عن هذه المسألة بقوله: ولو كان عند المسح على أسفل خفه نجاسة لم يجز المسح عليه أى على الأسفل. وحاصل هذه العبارة أنها مسألة أخرى مستقلة، وحكمها أيضًا ممنوع، فإن المسح على الأسفل المذكور، إن كان بدون الأعلى فلا يصح طاهرًا كان أو نجسًا، وإن كان معه صح ونستفيد به مس المصحف ونحوه وكذلك الصلاة ونحوها إذا أزال النجاسة. قوله: وهل يستحب مسح العقب؟ فيه قولان، وقيل وجهان: أصحهما: نعم، ومنهم من قطع بالاستحباب ونفي الخلاف. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح طريقة القولين فقال: ويستحب مسح العقب على الأظهر وقيل: الأصح، وقيل قطعًا ثم عكس ذلك في "شرح المهذب" فقال مشيرًا إلى طريقة القطع ما نصه: وهذه الطريقة هي المذهب وجزم بها كثيرون وذكر مثله في "شرح التنبيه" المسمى بالتنقيح [بالتحفة فقال: ومنهم من قطع باستحبابه وهو الأصح وكذلك في شرح الوسيط المسمى بالتنقيح] (¬2) فقال: أصحهما القطع باستحبابه وهو نص الشافعي في معظم كتبه، والثانية: على قولين. هذا كلامه ولم ¬

_ (¬1) فى جـ: يشعر. (¬2) سقط من أ، ب.

يذكر المسألة في "المنهاج" وذكرها في "التحقيق" ولم يبين الأصح منهما بل قال: المذهب استحباب مسحه. قوله: لكن استيعاب الكل ليس بسبب مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خفيه خطوطًا، وحكى عن تعليق القاضي حسين أنه يستحب الاستيعاب كما في مسح الرأس. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما صححه من عدم الاستحباب صححه أيضًا النووي في "الروضة"، وجزم به في "التحقيق" و"المنهاج" وخالف ذلك في "شرح المهذب" فإنه نقل عن الإمام والغزالي عدم الاستحباب ثم قال: وأطلق جمهور الأصحاب استحباب استيعاب الخف بالمسح. هذا لفظه. الثاني: أن الذي حكاه الرافعي عن "التعليق" صحيح فإنه مذكور فيها كذلك، ومذكور أيضًا في "الإبانة" للفوراني و"التتمة" للمتولي وغيرها لكنهم فسروا الاستيعاب بالكيفية المستحبة في المسح وهي أن تضع اليسرى تحت العقب واليمنى على رءوس الأصابع إلى آخر ما قالوه، فذكروا هذه العبارة تنبيهًا على خلاف أبي حنيفة وأحمد حيث قالا يستحب مسح الأعلى دون الأسفل وحينئذ فلا خلاف في المسألة بين القاضي وغيره فاعلمه وقد نبه ابن الرفعة أيضًا عليه ويظهر بسبب ما وقع فيه النووي من الاختلاف فإن مراد الإمام والغزالي بالاستيعاب غير ما أراده الجمهور منه فتوهم النووي أن المراد واحد فأثبت خلافًا وناقض كلامه، والحديث المذكور هو المسح خطوطًا قال في "شرح المهذب": إنه ضعيف وإنه يروي عن على، وقال ابن الصلاح: إن الخطوط ليس لها أصل في كتب الحديث وإن قول صاحب

"النهاية": ورد فيه حديث صحيح ليس بصحيح. انتهى. ولكن روى جابر قال: مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل يتوضأ وهو يغسل خفيه فنخسه بيده وقال: "إنا لم نؤمر بهذا" فأره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرةً وفرج بين أصابعه (¬1). رواه الطبراني في "أصغر معاجمه" (¬2). وقال تفرد به بقية بن الوليد. واعلم أن بقية وإن كان مدلسًا إلا إنه ثقة أخرج له مسلم في الوليمة. قوله: وأما قول الغزالى: إن الغسل والتكرار مكروهًا فإنما يكره الغسل لأنه تغييب للخف بلا فائدة، وكذلك التكرار يوجب ضعف الخف إلى آخره، ثم نقل أعني الرافعي وجهًا أن الغسل لا يجزئ ووجهًا آخرًا أن التكرار مستحب، ولم يذكر في المسألتين هنا غير ذلك. وفيه أمران: أحدهما: أن هذا التعليل يقتضي أنه لا يكره ذلك في الخف من الحديث والخشب إذا أمكن متابعة المشي فيهما. الثاني: أن ما قاله الغزالي في المسألتين من الكراهة هو المعروف فقد وافقه عليه الرافعي في "الشرح الصغير" فجزم بكراهة الغسل وصحح كراهة التكرار وصحح النووي ذلك في "شرح المهذب" وفي أصل "الروضة" أيضًا، وإن كان كلام الرافعي في "الكبير" هنا ليس فيه إلا ما قلناه. نعم: جزم فيه أعني في -الكبير- بكراهة غسل الخف في الكلام على مسح الرأس. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (551) وأبو يعلى (1945)، والطبراني في "الأوسط" (1135) وابن الجوزي في "التحقيق" (246) من حديث جابر - رضي الله عنه -. قال الشيخ الألباني: ضعيف جدًا. (¬2) قلت: بل في أوسطها.

النظر الثالث في حكم المسح

النظر الثالث في حكم المسح قوله: وهل يتقدر المسح بمدة أم لا؟ فيه قولان: قال في القديم: لا، لما روى ابن عمارة وكان ممن صلى للقبلتين قال: قلت: يا رسول الله أمسح على الخف، قال: "نعم"، قلت: يومًا، قال: "ويومين" قلت: وثلاثة أيام، قال: "نعم وما شئت" (¬1). وقال في الجديد يتقدر في حق المقيم بيوم وليلة في حق المسافر بثلاثة أيام ولياليهن لحديث صفوان بن عسال كما تقدم. انتهى. واعلم أن التعبير بقوله: و"لياليهن" هو التعبير الموجود في الأحاديث وفي كتب الأصحاب أيضًا وليلة اليوم هي الليلة السابقة عليه فلا يكون مقتضى اللفظ جواز مسح ثلاث ليال مطلقًا؛ بل جواز مسحها إن كانت ليالي تلك الأيام، وحينئذ فقد يتفق استباحة الثلاث كما إذا أحدث عند الغروب وقد يتفق له استباحة الثلاث كما إذا أحدث عند الغروب وقد يتفق ذلك في ليلتين كما إذا أحدث عند الفجر وهذا هو مقتضى اللفظ الوارد في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (158)، وابن ماجة (557)، والحاكم (607)، والدارقطني (1/ 198)، والطبراني في "الكبير" (545)، وفي "الأوسط" (3408)، وابن أبي شيبة (1/ 163)، والبيهقي في "الكبرى" (1240)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2145) من حديث أبي بن عمارة - رضي الله عنه -. قال أحمد: حديث أبي بن عمارة ليس معروف الإسناد. وقال ابن معين: إسناده مظلم. وقال البخاري: أبي بن عمارة له صحبة يقال ذلك وحديثه في المسح إسناده مجهول لا يروي عن غيره ولا يصح. وقال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس هو بالقوي. وقال الدارقطني: هذا الإسناد لا يثبت. وقال الألباني: ضعيف جدًا.

الحديث وفي كتب الأصحاب فاعلمه. غير أن الرافعي لما تكلم على غاية ما يمكن المسح له من الصلوات مثل بمثال يؤخذ منه جواز مسح ثلاث ليال مطلقًا. ولقائل أن يقول له: الدليل قائم على امتناع ما قلت فما الدليل على ما ذهبت إليه، وما جوابك عما قلناه؟ وحديث صفوان صحيح كما تقدم، وأما حديث أبي بن عمارة فرواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وغيرهم من أهل السنن واتفقوا على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به. وعمارة بكسر العين وضمها والكسر أشهر، وخالف ابن عبد البر فقال: إن الضم قول الأكثرين قالوا: وليس في الأسماء عمارة بكسر العين غير هذا. قوله: وتعبير الرافعي ابتداء المدة من وقت الحدث بعد اللبس ونقل عن أحمد وداود أن ابتداءها من وقت المسح. دلنا أن وقت جواز المسح يدخل بالحدث ولا معنى لوقت العبادة سوى الزمان الذي يجوز فعلها فيه كوقت الصلاة وغيره. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي ذكره الرافعي مشهور في كتب المتقدمين من أصحابنا والمتأخرين وهو صريح في أنه لا يجوز لماسح الخف أن يجدد الوضوء قبل الحدث لكن جزم النووي في "شرح المهذب" بالاستحباب فضلًا عن الجواز، فإنه قال في الاستدلال على أن ابتداء المدة من حين الحدث، واحتج أصحابنا بأنه إنما يحتاج إلى الترخص بالمسح من حين يحدث، وهذا

فاسد فإنه يحتاج بمجرد اللبس لتجديد الوضوء. واعلم أنه إذا لبسه ثم أراد تجديد الوضوء قبل أن يحدث جاز له المسح، ولا تحسب عليه المدة حتى يحدث هذا لفظه، وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" أن مقتضى القياس المتقدم منع اللابس من التجديد قال: ولا شك في كونه مكروهًا وكلامه يقتضي أنه لا فرق بين ما قبل الحدث وما بعده والذي دل عليه تعليل الأصحاب إنما هو المنع فيما قبل الحدث كما فرضناه. وهذا الذي نقله الرافعي عن أحمد وداود قد نقله في "شرح المهذب" عن أبي ثور وابن المنذر من أصحابنا ثم قال أعني النووي: إنه المختار لأنه مقتضى أحاديث الباب الصحيحة انتهى. وأما ما جاء في رواية عن صفوان بعد قوله: "وبول من الحدث" إلى الحدث فخرجها القاسم بن زكريا المطرز لكنها لم تثبت. قوله: ولو أحدث في الحضر ومسح في السفر فإنه يمسح مسح مسافر خلافًا للمزني حيث قال: يمسح مسح مقيم ولنا أنه لو سافر بعد دخول وقت الصلاة كان له القصر على الصحيح. انتهى. واعلم أن هذا النقل عن المزني قد أنكره جماعة منهم القاضي أبو الطيب فقال ما نصه: نقل الداركي عن المزني أنه يمسح مسح مقيم وليس بصحيح ومذهبه كمذهبنا. فإن قيل: استدلال الرافعي على المزني بالقياس على جواز القصر في هذه الحالة أيضًا مردود ففي "المهذب" في صلاة المسافر نقلًا عنه أيضًا أنه لا يجوز [القصر] (¬1) بل يجب الإتمام. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فالجواب أن مذهب المزني في القصر هو الجواز كما نقله عنه الرافعي؛ لأن الشيخ في "المهذب" قد نقل هناك عنه أن فائتة الحضر يباح قصرها في السفر. فإذا كان مذهبه جواز القصر إذا مضى جميع الوقت في الحضر [فالأولى] (¬1) جوازه إذا مضى مقدار الصلاة [وأما ما نقله الشيخ عن المزني في هذه الحالة أي فيما إذا مضى مقدار الصلاة] (¬2) فإن المزني قاله تخريجًا من وجوب القضاء على المرأة إذا حاضت بعد إمكان فعل الصلاة فقال: قياس قول الشافعي أنه يلزمه الإتمام هكذا صرح به جماعة ونقله ابن الرفعة عنه فالمزني إنما قاله: إلزامًا لأن المسألتين عنده متشابهتان ولم يقل ذلك مذهبًا ثم إن المزني لما وافق في مسألة طرآن الحيض بعد إمكان فعل الصلاة لزمه أن يقول: ليس له القصر؛ لأن المسألتين عنده متناظرتان فلذلك احتج عليه الرافعي بالقياس على القصر. قوله: ولو ابتدأ المسح في الحضر ثم سافر أتم مسح المقيمين وكذا لو انعكس الحال وقال المزني: كل يوم وليلة في السفر [تقابل بثلث يوم وليلة في الحضر؛ فإن مسح يومًا وليلة في السفر] (¬3) ثم أقام فله ثلثًا يوم وليلة وإن مسح يومين وليلتين ثم أقام فله ثلث يوم وليلة. انتهى كلامه. واعلم أن البندنيجي قد ذكر في "تعليقه" مذهب المزني محررًا وستر ما ذهب إليه فقال: حكى أبو العباس يعني ابن سريج عن المزني أنه قال: إذا كان مقيمًا ثم سافر أو مسافرًا ثم أقام بنى إحدى المدتين على الأخرى [ويقسط] (¬4) ذلك على الزمان فإن كان مقيمًا فمضى من مدة الإقامة ثلثها ¬

_ (¬1) في جـ: فالأول. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) سقط من جـ. (¬4) فى أ، ب. وتقسيط.

من حين الحدث ثم سافر له أن يمسح بعد أن حصل مسافرًا يومين وليليتن ثلثي مدة السفر في مقابلة ما بقى من مدة الحضر وهو ثلثًا يوم وليلة [فإنه بقى له الثلثان من مدة المسح وقد صار الآن مدة مسافرين وإن كان مسافرًا يوم وليلة] (¬1) ثم حضر فقد مضى له ثلث مدة السفر فيضيف إلى هذا ثلثي مدة الحضر انتهى. وكلام الرافعي منطبق عليه في الصورتين فتأمله إلا إنه لم يمثل إلا لطرآن الإقامة على السفر، وقد اختصره في "الروضة" على صورة تقتضي أن خلاف المزني إنما هو في الثانية خاصة فإنه حذف الضابط، واقتصر على المثال ولكنه عبر عنه أعني عن المثال بتعبير حسن أخذه من مشكل الوسيط لابن الصلاح فقال: وقال المزني: يمسح ثلث ما بقى من ثلاثة أيام ولياليهن مطلقًا هذا لفظه من غير زيادة عليه ولا يمكن عوده إلا إلى الثانية فقط. قوله: الغاية الثانية نزع الخفين أو إحداهما فإن وجد ذلك وهو على طهارة مسح لزمه غسل الرجلين وفي استئناف الوضوء قولان؛ أظهرهما أنه لا يلزمه. انتهى ملخصًا. واحترز بالمسح عن طهارة الغسل ويدخل في ذلك مسائل. الأولى: إذا لم يحدث قبل النزع وهو واضح. الثانية: إذا أحدث ولكن توضأ وغسل رجليه في الخف وطهارته كاملة ولا يلزمه شئ بلا خلاف وله أن يستأنف لبس الخف بهذه الطهارة كذا ذكره في "شرح المهذب" وأشار بقوله: وله أن يستأنف إلى وجوب [نزعها] (¬2) إذا أراد المسح حتى لو كان المقلوع واحدة فقط فلابد من نزع الأخرى وهو كذلك. الثالثة: إذا كان على طهارة المسح ولكن اتفق أن غسل رجليه في الخف ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ، ب: نزعه.

قبل النزع أو غسلهما قبل انقضاء المدة والمنقول في هذه المسألة أن الغسل المذكور لا أثر له بعد النزع والانقضاء لأن فرض الرجل قد سقط بالمسح فلم يكن الغسل على اعتقاد الفرض كذا ذكره البغوي في فتاويه ثم قال: ويحتمل خلافه وهي مسألة نفيسة، وما ذكره فيها متجه. قوله: واختلفوا في أصل القولين المذكورين، فقيل: إنهما أصل [بأنفسهما] (¬1) وقيل: مبنيان على تفريق الوضوء، وقيل: على أن بعض الطهارة هل تختص بالانتقاض، وقيل على أن مسح الخف هل يرفع الحدث عن الرجلين أم لا، فإن قلنا يرفع استأنف وإلا فلا، وهذه طريقة القفال والشيخ أبي حامد وأصحابهما، وهو ما أورده الغزالى. انتهى ملخصًا. ومقتضى كلامه أن الأكثرين على ترجيح طريقة البناء على رفع الحدث، وقد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" ولم يصح في "الروضة" شيئًا لكنه صحح في "شرح المهذب" أنهما أصلان بنفسهما ولهذا صحح فيه وفي "الروضة" من زوائده أن مسح الخف يرفع الحدث لكن تصحيح الرافعي في الشرح أن القولين مبنيان على رفع الحدث مع تصحيحه لوجوب غسل الرجلين يلزم منهما أن يكون الأصح عنده أن مسح الخف لا يرفع الحدث على خلاف ما صححه النووي في "الروضة" وغيرها فاعلمه. قوله: من "زياداته": ولو خرج الخف عن صلاحية المسح لضعفه أو لخرقه أو غير ذلك فهو كنزعه. انتهى. ومسألة التخرق ذكرها الرافعي وكررها في مواضع عديدة في الكلام على فوائد الخلاف في أن الجرموق إذا جوزنا المسح عليه يتنزل منزلة البطانة أو غيرها. ¬

_ (¬1) في جـ بنفسيهما.

كتاب الحيض

كتاب الحيض وفيه خمسة أبواب: الباب الأول في حكم الحيض والاستحاضة قوله: لا فرق في سن الحيض بين البلاد وغيرها وعن الشيخ أبي محمد أن في الباردة وجهين. انتهى. وهذا الوجه الذي ذكره عن الشيخ أبي محمد لم يبين المراد منه ومعناه أنه إذا وجد الدم لتسع سنين في البلاد الباردة التي لا يعهد ذلك في مثلها فليس بحيض كذا ذكره في "شرح المهذب" وأشار إليه في "الروضة". قوله: نص الشافعي في موضع على أن أقل الحيض يوم وليلة، ونص في موضع على أن أقله يوم فاختلف فيه الأصحاب على ثلاثة طرق. أحدها: أن فيه قولين: أظهرهما: أن أقله يوم وليلة فإنه روى ذلك عن علي ولأن المتبع فيه الوجود، وقد قال الشافعي: رأيت امرأة لم تزل تحيض يومًا وليلة وروى عن عطاء وأبي عبد الله [الزبيري] (¬1). والثاني: أقله يوم لما روى عن الأوزاعي أنه قال: كانت عندنا امرأة تحيض بالغداه وتطهر بالعشى. والطريق الثاني القطع بأنه أقله يوم. والثالث: وهو الأظهر القطع بأنه يوم وليلة. انتهى. واعلم أن استدلال الرافعي بقول الشافعي: رأيت كذا وكذا استدلال عجيب، فإن ذلك إنما يصح أن لو كان النزاع في اشتراط زيادة على يوم وليلة وليس هو كذلك بل المقصود إنما هو الرد على [من] (¬2) جوز الأقل ¬

_ (¬1) في أ، ب: الزهري. (¬2) سقط من جـ.

والرد لا يحصل به فإن من جوز الأقل والرد لا يحصل به فإنه من جوز اليوم فقط جوز ما عداه سواء كان يومًا وليلة أو أكثر أو أقل وقد تتبعت ذلك فرأيت الأصحاب إنما حكوا عن الشافعي هذه الحكاية وما بعدها من النقل عن عطاء وعن الزبيري في اليوم فقط، وممن ذكره الشيخ في "المهذب" فقال: قال الشافعي - رضي الله عنه -: رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يومًا لا تزيد عليه، هذه عبارته. ثم استدل أيضًا بالنقل عن عطاء، عن [الزبير] (¬1) فعلم بذلك أن هذا النقل الذي ذكره الرافعي حصل فيه خلل. واعلم أن النووي في "الروضة" قد اختصر كلام الرافعي بقوله وأقل الحيض يوم وليلة على المذهب هذه عبارته ولا يؤخذ منها حكاية الطرق الثلاث ولا تعيين الصحيح منها. قوله: وأكثره خمسة عشر يومًا وكذلك أقل الطهر روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي" (¬2) أشعر بأكثر الحيض وأقل الطهر. انتهى. وما ذكره من أن الطهر لا ينقص عن خمسة عشر إنما هو في طهرٍ فاصلٍ بين الحيضتين كذا صرح به الرافعي في باب النفاس والنووي في أصل "الروضة" هنا تبعًا لصاحب "التنبيه" وغيره واحترزنا به عن أشياء. أحدها: الطهر الفاصل بين الحيض والنفاس فإنه يجوز أن يكون ناقصًا عنه على الصحيح وذلك بأن رأت الحامل الدم وفرعنا على أنه حيض ¬

_ (¬1) فى أ، ب: الزهرى. (¬2) قال ابن الجوزى: هذا حديث لا يعرف. وأقره النووى عليه. وقال السخاوى: لا أصل له بهذا اللفظ.

فولدت بعده بعشرة أيام مثلًا كما أوضحوه في باب النفاس. الثاني: أيام النقاء المتخللة بين أيام الحيض إذا قلنا بقول اللفظ كما ستعرفه. الثالث والرابع: طهر المبتدأة والآيسة، ذكرهما في الكفاية والحديث الذي ذكره الرافعي قال في "شرح المهذب": إنه حديث باطل لا يعرف. قوله: ولو اطردت عادة امرأة بأن تحيض أقل من يوم وليلة أو أكثر من خمسة عشر وتطهر دون الخمسة عشر ففيه ثلاثة أوجه: أظهرها: إنه لا عبرة به لأن بحث الأولين أوفي، والثاني نعم لأن المرجع في هذه المقادير إلى الوجود وقد وجد والثالث: إن وافق ذلك مذهب أحد من السلف أخذنا به وإلا فلا انتهى. وهذه المسألة قد نص الشافعي فيها على اتباع الوجود، كذا حكاه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" عن حكاية صاحب "التقريب" في "التقريب" ثم صححه، وقال: وكأن الأصحاب لم يطلعوا على هذا النص وحكاه أيضًا الماوردي في كتاب العدد فقال: قال الشافعي: لو علمنا أن طهر امرأة أقل من خمسة عشر يومًا جعلنا القول فيه قولها وذلك بأحد وجهين: إما أن يتكرر طهر المرأة مرارًا متوالية أقلها ثلاث مرات من غير مرض، فإن تفرق ولم يتوال لم يصر عادة أو يوجد مرة واحدة من جماعة ناء أقلهن ثلاثة، وهل يراعي أن يكون ذلك في فصل واحد في عام واحد؟ فيه وجهان، ولا يقبل ذلك إلا ممن تجوز شهادتهن ولا يقبل خبر المعتدة معهن في حق نفسها وفي قبولها في حق غيرها وجهان هذا كلامه. وفيه فوائد متعلقة بكلام الرافعي. قوله: ومن به جراحة نضاخة بالدم يخشى من مروره تلويث المسجد

ليس له عبوره. انتهى. النضاخة بالخاء المعجمة وهي هاهنا كثيرة الدم ومنه قوله تعالى {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} (¬1) أى: فوارتان. قوله: ويجب على الحائض قضاء الصوم وإن لم يجب قضاء الصلاة لما روى أن معاذة العدوية قالت لعائشة -رضي الله عنها-: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت: أحرورية أنت؟ كنا ندع الصلاة والصوم على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقضي الصوم ولا نقضي الصلاة (¬2). انتهى. لم يبين -رحمه الله- أن قضاء الصلاة هل هو حرام أو مكروه أو كيف الحال؟ وقد اختلفوا فيه فنقل ابن الصلاح والنووي في طبقاتهما عن البيضاوي في شرحه في كتابه المسمى "بالتبصرة" أنه يحرم عليها ذلك وقياسه البطلان والذي نقلاه عن البيضاوي قد رأيته في كتابه المسمى "بالأدلة لمسائل التبصرة" واستدل عليه بأن عائشة نهت السائلة عن ذلك وبأن القضاء محله في ما أمر بفعله وليس مذكور في تصنيفه المسمي بـ"التذكرة في شرح التبصرة" فاعلم ذلك. ورأيت في "شرح الوسيط" للعجلي أنه ذكره وذكر مثله في "الشامل" و"البحر" قال: بخلاف والمغمي عليه فإنه يستحب لهما القضاء. والحرورية بحاء مهملة مفتوحة وبرائين مهملتين بينهما واو قال الجوهرى: هم الخوارج نسبوا إلى قرية يقال لها: حرورا بالمد والقصر كان أول اجتماعهم بها حين طعنهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في التحكيم وخروجهم عليه، وزاد غيره إنهم كانوا يبالغون في ¬

_ (¬1) سورة الرحمن (66). (¬2) أخرجه البخاري (315)، ومسلم (335).

التشديد في دينهم بماله أصل وبما لا أصل له وإليه أشارت عائشة -رضي الله عنها-، والحديث أخرج أصله الشيخان. قوله: وهل يقال إن الصوم واجب حال الحيض؟ فيه وجهان انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح الذي قاله الجمهور وصححه النووي في "شرح المهذب" وزوائد "الروضة" وغيرها هو عدم الوجوب. الثاني: أن فائدة الخلاف كما قاله في "شرح المهذب" في الإيمان والتعاليق. قلت: وفائدته أيضًا فيما إذا ماتت قبل إمكان القضاء، فإن قلنا أنها لم تخاطب به فلا فديه عليها، وإن قلنا إنها مخاطبة فيصير نظير ما إذا أفطر المسافر والمريض ومات قبل إمكان القضاء لاستمرار السفر أو المرض، والصحيح إنه لا فدية عليه وحكى الإمام عن البلخي وغيره وجوبها وعلله بأنه شهد الشهر وهو مكلف فأشبه الشيخ الهرم وحينئذ فقياسي أنها أيضًا [تفدى] (¬1). ونقل ابن الرفعة عن بعضهم أن فائدته في نية الأداء والقضاء، فإن قلنا بوجوبه عليها في الحال الحيض نوت القضاء وإلا نوت الأداء، فإنه وقت توجه الخطاب عليها. وهذه الفائدة رأيتها في "الذخائر" للقاضي مجلي وعبر بما ذكرته وفيه نظر فإنه لا يلزم من كونه وقت توجه الخطاب عليها أن يكون أداء بل هو قضاء على كل حال لخروج وقته الأصلي بدليل من استغرق الوقت بالنوم مثلًا فإن الصلاة التي يفعلها بعد ذلك قضاء بلا نزاع وإن كان التكليف لم يقع في الوقت لاستحالة تكليف النائم على أن صاحب "الذخائر" وغيره قد حكوا خلافًا في التكليف بها في الوقت وهو ¬

_ (¬1) في جـ: تفتدى.

غريب. ورأيت لبعض الفضلاء ممن قدم إلى ديار مصر بعد موت صاحب "الذخائر" بقليل ورأى إقبال الناس على كتابه تصنيفًا لطيفًا ادعى في أوله قلة بضاعة المذكور أعني صاحب "الذخائر" في العلم وعدم أهليته للتصنيف -وتقبيح ترتيب كتابه ثم شرع في [تعزيز] (¬1) ما ادعاه بالاعتراض عليه في مواضع من الربع الأول ما بين غلط وتحريف وغير ذلك إلا أن فيه تحاملًا كثيرًا أفضى به إلى الاعتراض بما لا طائل فيه كما تقدم التنبيه عليه في ترجمته، وهذا الموضع من جمله المواضع التي تكلم فيها، فقال في أثناء كلامه عليه: وكيف تقول إذا نوت الأداء هل تقول أداء صوم شهر رمضان أو أداء صومٍ ما غير مضاف إلى صوم رمضان، وكل منهما لا يمكن صحته؟ ولقائل أن يجيب عن ما قاله مع ذكره في القسم الأول والتزام صحه النية كذلك. قوله: وهذا التحريم أى تحريم الصوم يبقى ما دامت ترى الدم فإذا انقطع ارتفع وإن لم تغتسل بخلاف الإستمتاع وما يفتقر إلى الطهارة فإن التحريم فيه ستر إلى أن تغتسل. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر في باب الاستبراء كلامًا يوهم جواز الاستمتاع بما بين السرة والركبة بمجرد انقطاع الحيض فقال وإذا: طهرت من الحيض، وتم الاستبراء بقى تحريم الوطء حتى تغتسل، ويحل الاستمتاع قبل الغسل على الصحيح هذا كلامه، ومعناه أن الاستمتاع المحرم بسبب الاستبراء ينقطع تحريمه عما عدا ما بين السرة والركبة مطلقًا لأنه لا يخلفه معنى وأما فيما بين السرة والركبة فهل يبقى لأجل الحيض أم لا؟ لم يتعرض له؛ لأن هذا الباب ليس معقودًا له فاعلم ذلك فإنه قد يلتبس. ¬

_ (¬1) في أ، ب: تقرير.

قوله: ثم إن جامعها والدم عبيط -أى: في أوله- تصدق بدينار وإن كان في إدباره فنصفه، لما رواه ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى امرأة حائضًا فليتصدق بدينار ومن أتاها وقد أدبر الدم فليتصدق بنصف دينار (¬1). انتهى. العبيط بعين مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت وطاء مهملة هو الخالص الطري، قاله الجوهري. والحديث المذكور رواه جماعات بألفاظ مختلفة منهم أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم في المستدرك وقال إنه حديث صحيح لكنه خالف الحفاظ فيما قاله، فقال الشافعي في "أحكام القرآن": هذا حديث لا يثبت مثله وجمع البيهقي طرقه وبين ضعفها بيانًا شافيًا، وقال في "شرح المهذب": اتفق الحفاظ علي ضعفه. قوله: وغير الجماع ضربان. أحدهما: الاستمتاع بما بين السرة والركبة وفيه ثلاثة أوجه: أظهرها يحزم ويحكي عن نصه في "الأم"، وثالثها: قاله أبو الفياض أن أمن الواطئ لقوة ورع أو ضعف شهوة لم يحرم والإحرام ثم قال: وأما الاستمتاع بما فوق السرة، وما تحت الركبة فجائز، وقيل: لا يجوز الاستمتاع بالموضع المتطلخ بدم الحيض. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن تصوير المسألة بالاستمتاع ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (264) و (2168)، والنسائي (289)، وابن ماجة (640)، والدارمي (1111) والدارقطني (3/ 287) وأبو يعلى (2432) والطبراني في "الكبير" (12135) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الألباني: صحيح.

والمحرر وكذلك المصنف في "الروضة" وابن الرفعة في الكفاية وغيرهم وهو شامل للنظر بشهوة وللمباشرة وهي التقاء البشرتين بشهوة قبلة كانت أو غيرها، وعبر في "شرح المهذب" والتحقيق بالمباشرة وهو يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون ذلك بشهوة أم لا، وإن النظر لا يحرم ولو كان بشهوة. فبين كل من التعبيرين عموم وخصوص من وجه. الثاني: أن النووي قد اختار في التحقيق وتصحيح التنبيه و"شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" أنه لا يحرم من الحائض إلا الجماع، ولم يختره في "الروضة" ولا في المنهاج وأومئ إلى اختياره في "شرح المهذب" فقال: إنه الأقوى دليلًا. الثالث: أن الرافعي هنا وفي "الشرح الصغير" و"المحرر" قد تكلم على ما فوق السرة وما تحتها وكذلك في الركبة، ولم يتعرض لحكم السرة والركبة وما حاذاها وتبعه عليه النووي في "الروضة"، وقال في "شرحي المهذب" والوسيط: [لم أر] (*) لأصحابنا فيها نقلًا والمختار الجزم بجوازه قال: ويحتمل تخريجه على الخلاف في كونه عورة والذي قال غريب فقد نص الشافعي نفسه على المسألة فقال في باب ما ينال من الحائض ما نصه: ولا يتلذذ بما تحت الإزار منها ولا يباشرها مفضيا إليها، والسرة ما فوق الإزار هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. الرابع: أن الأصحاب قد سكتوا عن مباشرة المرأة للزوج والقياس أن مسها للذكر ونحو من الاستماعات المتعلقة بما بين السرة والركبة حكمه حكم استماعه بها ذلك المحل الأمر. الأمر الخامس: قال النووي في "شرح المهذب" ما عدا ما ذكرناه مما

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليست بالمطبوع، والمعنى واللفظ يقتضيها، وفي المجموع ما نصه: «وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِنَفْسِ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَمَا حَاذَاهُمَا فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِأَصْحَابِنَا، وَالْمُخْتَارُ الْجَزْمُ بِجَوَازِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِمَا عَوْرَةً، إنْ قُلْنَا عَوْرَةٌ كَانَتَا كَمَا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا - بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُمَا لَيْسَتَا عَوْرَةً أُبِيحَا قَطْعًا كَمَا وَرَاءَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ».

تحت الإزار ومن المتلطخ بالدم فمباشرة فيه حلال بإجماع المسلمين، وأما ما نقله الماوردي عن عبيدة السلماني التابعي وهو بفتح العين وبفتح السين من تحريم الاستماع بجميع بدنها فلا أظنه صحيحًا. انتهى. والذي ذكره غريب فقد حكى هو في كتاب النكاح من "الروضة" تبعًا للرافعي عن أبي عبيدة بن حربويه من كبار أصحابنا المتقدمين أنه لا يجوز على وفق هذا المذهب. قوله: وعن عائشة قالت: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخميلة فحضت فانسللت فقال: "أنفست" قلت: نعم، فقال: "خذي ثياب حيضتك وعودي إلى مضجعك" ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار (¬1) ويروي مثله عن أم سلمه (¬2). انتهى. الخميلة بخاء معجمة مفتوحة، قال الجوهرى: الخمل: الهدب والطنفسة أيضًا، والحديث المذكور رواه الشيخان وفي لفظهما مخالفة للمذكور هنا. قوله: ومن أحكام الحيض أنه يوجب البلوغ وتتعلق به العدة والاستبراء ويكون الطلاق فيه بدعيًا وحكم النفاس حكم الحيض إلا في إيجاب البلوغ وما بعده. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره صريح في أن الطلاق في النفاس لا يكون بدعيًا، وليس كذلك بل هو بدعي لوجود المعنى وهو التطويل، وقد صرح [هو] (¬3) به في كتاب الطلاق واستدركه عليه النووي هنا، وزاد على ما قاله الرافعي ¬

_ (¬1) اْخرجه البخاري (290)، ومسلم (1211). (¬2) أخرجه البخاري (294)، ومسلم (296)، واللفظ المذكور هنا من حديث أم سلمة. (¬3) زيادة من جـ.

من أحكام الحيض منع وجوب طواف الوداع ومنع قطع التتابع في صوم الكفارة. الأمر الثاني: أن المرأة إذا حاضت ثم انقطع حيضها [بغير] (¬1) عارض [معروف] (¬2) ثم طلقت، فإنها لا تعتد بالأشهر فلو لم تحض أصلا ولكنها حملت وولدت فهل يكون الحمل مانعًا من الاعتداد بالأشهر؟ فيه اختلاف واضطراب في التصحيح تعرفه في كتاب العدد، فإذا قلنا: لا يمنع وهو ما صححه النووي فلا فرق فيه بين أن ترى نفاسًا بعد الحمل أم لا، كذا صرح به النووي في "فتاويه"، ونقله الرافعي في آخر العدد عن "فتاوي البغوي" ولم يخالفه. وإذا علمت ذلك علمت أن وجود الحيض يمنع الاعتداد بالأشهر قبل سن الإياس بخلاف النفاس فقد خالف حكم النفاس حكم الحيض في هذه المسألة أيضًا. قوله: ويلزم المستحاضة أن تحتاط فتغسل أولًا فرجها ثم تحشوه [فإن كان الدم كبيرًا لا يندفع بالحشو تلحمت مع ذلك وتترك الحشو] (¬3) إن كانت صائمة والتلحم إن كان اجتماع الدم يحرقها ويؤذيها ثم تتوضأ بعد الاحتياط الذي ذكرناه. انتهى. وتعبيره بـ (ثم) في الوضوء قد تابعه عليه في "الروضة" [أيضًا] (¬4) وهو يقتضي أنه لا تجب المبادرة إليه عقب الاحتياط وليس كذلك فقد جزم في "التحقيق" بوجوبه، وقال في "شرح المهذب": إنه على الوجهين فيمن ¬

_ (¬1) فى أ، ب: لغير. (¬2) فى اْ، ب: معزور. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) زيادة من جـ.

تيمم وعليه نجاسة إلا أنا إذا صححنا الوضوء، والحالة هذه فلابد من غسل الفرج كما قاله الماوردي ووجه "التنبيه" بالتيمم أن طهارة المستحاضة لا ترفع الحدث، ولقائل أن يقول: حافظوا في مسألتنا على صحة الصوم وحافظوا فيمن ابتلع خيطًا بالليل وأصبح صائمًا على صحه الصلاة كما هو معروف في موضعه والفرق لائح. قوله: ويلزمها أن تتوضأ لكل فريضة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: "توضئي لكل صلاة" (¬1) ولابد وأن تكون طهارتها للصلاة بعد دخول وقتها كما ذكرناه في التيمم، وحكى الشيخ أبو محمد وجهًا أنه يجوز أن تقع طهارة المستحاضة قبل الوقت بحيث ينطق آخرها على أول الوقت. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن شرط صحة التيمم للنافلة المؤقتة دخول وقتها على الصحيح، وتعبير الرافعي هنا بالصلاة وتنظيره بالتيمم يشعران بأن الحكم في المستحاضة كذلك أيضًا. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد حكى الوجه المذكور كما حكاه الرافعي، وقد ذكر الإمام في موضعين أن هذا الوجه مفرع على وجوب المبادرة إلى الصلاة وهذا الذي نبه عليه يستفاد منه أمران. أحدهما: بسبب اشتراط انطباق آخر الوضوء على أول الوقت فإنهم لم يتعرضوا له. الثاني: أن هذا الوجه ليس على إطلاقه بل مقد بفضل الصلاة عقبه. والحديث المذكور رواه الترمذي ولفظه "وتوضئ لكل صلاة حتى يجيئ [ذلك] (¬2) الوقت". ثم قال: إنه حسن صحيح. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) سقط من جـ.

قوله: وينبغي أن تبادر إلى الصلاة عقب طهارتها فإن أخرت نظر إن كان التأخير لا السبب من أسباب الصلاة فأوجه. الصحيح: المنع. والثاني: يجوز مطلقًا. والثالث: ما لم يخرج الوقت. فإن أخزت لسبب من أسبابها كستر العورة والاجتهاد في القبلة والأذان والإقامة وانتظار الجماعة، [والجمعة] (¬1) ونحوها فتجوز. ثم قال وظاهر كلام الغزالي يقتضي طرد الخلاف فيه ونفاه معظم النقلة. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: سيأتيك في باب الأذان أن المرأة لا تؤذن على المشهور، وحينئذ فيكون ذكره للأذان هنا إما تفريعًا على القول الضعيف وإما أن يكون قد أراد إجابة المؤذن وفيه بعد؛ لأن كلمة في التأخير لأسباب الصلاة، والإجابة ليست منها وبتقدير صحة الحمل عليها على ضرب من التأويل ففي جواز التأخير لها إذا منعنا التأخير لغير أسباب الصلاة نظر. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي عدم الخلاف في التأخير للأسباب ويدل عليه أنه صرح بنفيه في "الشرح الصغير" وليس كذلك [فقد ذهب بعض الأصحاب كما حكاه الماوردي (¬2) في "الحاوي" إلى أنه لا يجوز بها التأخير لذلك] ولم يتعرض النووي لهذا الكلام الذي يشعر بنفي الخلاف. قوله: وهل يلزمها تجديد غسل الفرج وحشوه وشده لكل فريضة؟ تنظر ¬

_ (¬1) فى أ، ب: الجماعة. (¬2) سقط من أ، ب.

إن زالت العصابة، عن موضعها زوالا له وقع أو ظهر الدم على جوانب العصابة؛ فلابد من التجديد؛ لأن النجاسة قد كثرت وأمكن تقليلها، ولا يلتحق به الزوال اليسير كما يعفي عن الانتشار اليسير في الاستنجاء وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم فوجهان: أصحهما: وجوب التجديد كما تجب الوضوء وهذا الخلاف يجري فيما إذا انتقض وضوءها بلمس أذرع أو نحوها. انتهى. وما ذكره في الزوال اليسير حكمًا وتعليلًا يوهم أن الحكم فيه والعفو عنه بالكلية حتى لا يجب التجديد وليس كذلك فإنه لو لم يحصل زوال بالكلية لكان بالتجديد واجبًا على الأصح كما ذكره بعده، فبطريق الأولى الزوال اليسير لكن مراده أنه لا يلتحق بالقسم المتفق عليه بل بالمختلف فيه حتى يدخله العفو على رأى، فاعلم ذلك واجتنب الغلط في فهمه، وقد اختصره في "الروضة" على وجه جيد. قوله: ولو سبقت في الصلاة فثلاثة أقوال: أحدها: أنها تبطل وهو ظاهر المذهب. والثاني: لا أثر لذلك وهو مخرج من رؤية الماء في التيمم. والثالث: رواه الربيع أنها تخرج وتزيل الحدث والنجس وتبني ويمكن أن يكون بناء على القديم في سبق الحدث. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن القاضي حسين في كتاب التيمم من "تعليقه" قد نقله ما بحثه الرافعي فقال: إن أبا بكر الفارسي حكى في "عيون المسائل" في المستحاضة قولين ثم قال، وإذا قلنا لا تمض على الصلاة، فإذا اغتسلت وعادت هل تبني أو تسابق حكمها حكم من سبقه الحدث نعم فيما ذكره الرافعي نظر فإن البناء قديم والربيع من رواة الجديد.

الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد اختصره بقوله تطلب على المذهب، ولم يزد على هذا، وعليه انتقادان: أحدهما: أنه لم [يستوف] (¬1) الخلاف. والثاني: أن الرافعي لم يحك طريقين ولا طرقا والتعبير بالمذهب على اصطلاحه يقتضي ذلك وكأنه أراد أن يعبر بقول الرافعي ظاهر المذهب فنسى لفظه ظاهر. قوله: ولو انقطع دمها وهي لا تعتاد الانقطاع والعود [فيجب] (¬2) إعادة الصلاة على الأصح لترددها عند الشروع فيها ثم قال: وعلى هذا لو توضأت بعد انقطاع الدم وشرعت في الصلاة ثم عاد الدم فهو حدث جديد يجب عليها أن تتوضأ وتستأنف الصلاة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة قد أسقطها من "الروضة" وذكرها في "شرح المهذب" نقلًا عن الرافعي ثم أعادها في الشرح المذكور أيضًا بعد ذلك بأسطر، فقال: فرع: لو توضأت ثم انقطع دمها انقطاعًا يوجب بطلان الطهارة فتوضأت بعد ذلك فدخلت في الصلاة فعاد ذلك بطل وضوؤها ولزمها استئنافه وهل يجب استئناف الصلاة أم يجوز البناء؟ فيه القولان فيمن سبقه الحدث انتهى. وقد أسقط معها ثانية ذكرها -أعني الرافعي- بعد ذلك في أثناء كلامه على عبارة الغزالي، فقال: ثم عروض الانقطاع في أثناء الصلاة المفروضة قبل الصلاة بناءً على ظاهر المذهب في أن الشفاء في الصلاة كهو قبلها، ¬

_ (¬1) فى أ، ب: يسوق. (¬2) فى جـ: وجبت.

وأسقط أيضًا ثالثة نفيسة ذكرها أيضًا في كلامه على لفظ الغزالي وهي فيما إذا انقطع وكان يعود قبل إمكان الطهارة والصلاة ولكن على ندور فنقل أن مقتضى كلام الأصحاب جواز الشروع في الصلاة اعتمادًا على هذه العادة النادرة ثم قال: ولا يبعد أن تلحق هذه العادة النادرة [بالمعدومة] (¬1) وهو مقتضى كلام الغزالى. الأمر الثاني: لم يبين هو ولا النووي هنا مقدار الطهارة والصلاة والمتجه الماشي على القواعد اعتبار أقل ما يمكن كركعتين في ظهر المسافر. قوله من "زياداته": والصواب المعروف أنها تستبيح النوافل مستقلة، وتبعا للفريضة ما دام الوقت باقيًا وبعده أيضًا على الأصح. انتهى كلامه. والذي صححه من الاستباحة بعد الوقت قد خالفه في أكثر كتبه فصحح في "التحقيق" و"شرح مسلم" و"شرح المهذب" أنها لا تستبيح وعبر في الكل بالأصح كما عبر في الروضة، ومحل هذه المسألة في "شرح المهذب" في آخر الباب قبل الكلام على سلس البول وفرق بينهما وبين التيمم بتجدد الحدث. قوله أيضًا من "زياداته": والمذهب أن طهارة المستحاضة تبيح الصلاة ولا ترفع الحدث. والثاني: ترفعه. الثاني: ترفع الماضي دون المقارن. انتهى كلامه. وهذا الثالث الذي جعله خلاف المذهب قد ذهب الأكثرون إليه كما قاله في باب الوضوء من "شرح المهذب" في الكلام على النية، فقال: الأشهر التفضيل بين الماضي وغيره، وقال في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" هناك ¬

_ (¬1) في أ: بالمعلومة.

أيضًا إن الأكثرين قطعوا به لكنه قال: الأصح في الدليل عدم الارتفاع مطلقًا. وذكر في هذا الباب من شرح المهذب مثله فقال في المسألة ثلاث طرق. أشهرها: يرتفع حدثها الماضي دون المقارن والمستقبل، ثم قال: والثالث وهو الأصح دليلًا لا يرتفع شئ من حدثها، وإذا علمت ما ذكره في هذه المواضع ظهر لك خطأ تعبيره بالمذهب.

الباب الثاني في المستحاضات

الباب الثاني في المستحاضات قوله: وبما تعتبره القوة والضعف فيه وجهان: أحدهما: إن الاعتبار بمجرد اللون. ثم قال: والوجه الثاني وهو الذي ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم أن القوة تحصل بإحدى خصال ثلاث: اللون، والرائحة الكريهة والثخانة. وقد ورد في صفة دم الحيض أنه أسود محتدم بحراني ذو دفعات، والمحتدم: هو الحار الذي يلذع البشرة ويحرقها بحدته، وقيل المحتدم: هو الضارب إلى السواد، والبحراني: هو الشديد الحمرة يقال: أحمر بحراني وباحري. انتهى. وما ذكره عن العراقيين غريب، فإن الشيخ أبا حامد شيخهم لم يعتبر في "تعليقه" غير اللون، وكذلك الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" و"التنبيه" والماوردي في "الحاوي" وابن الصباغ في "الشامل" والمحتدم بحاء ودال مهملتين، وما ذكره الرافعي في تفسيره ذكره الفقهاء في كتبهم قالوا: وهو مأخوذ من احتدام النهار وهو شدة حره، والمشهود في كتب اللغة أن المحتدم هو الذي اشتدت حمرته حتى اسود، والفعل منه احتدم. والبحرانى: الشديد الحمرة ينسب إلى البحر لصفاء لونه بخلاف دم الفساد؛ لأنه يخرج من قعر الرحم كما يخرج الماء من قعر البحر، حكاه البندنيجي وقيل: لأنه يخرج بسعة تدفق كماء البحر. قوله: وإذا وجد بعد القوي ضعيفان كما إذا رأت خمسة سوادًا ثم خمسة حمرة ثم أطبقت صفرة فطريقان:

أحدهما: القطع بإلحاق الحمرة المتوسطة بالقوي قبلها؛ لأنهما قويان بالإضافة إلى ما بعدهما. والثاني وجهان: أحدهما: هذا. والثانى: إلحاقها بالضعيف بعدها احتياطًا للعبادات. انتهى ملخصًا. لم يصح شيئًا في "الروضة" أيضًا والراجح إلحاقها بما بعدها فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أشبه الوجهين وصحح في "شرح المهذب" و"التحقيق" وغيرهما طريقة القطع به. قوله: فلو رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادًا فالصحيح أن حيضها السواد ثم قال: فإذا عرفنا على هذا، فلو رأت المبتدأة خمسة عشرة حمرة ثم خمسة عشر سوادًا تركت الصوم والصلاة في جميع هذه المدة، قال الأئمة: ولا يتصور مستحاضة تدع الصلاة شهرًا كاملا، إلا هذه وزاد المتولي فقال: ولو زاد السواد على الخمسة عشر فقد فات شرط التمييز، وحكمها أن نرد من أول الأحمر إلى يوم وليلة على قول وإلى ست أو سبع على قول فتؤمر بترك الصلاة أيضًا هذه المدة فهذه امرأة تؤمر بتركها ستًا وثلاثين أو سبعًا وثلاثين. انتهى ملخصًا. وسياقه يقتضي أن هذه الأيام هي أقصى ما يمكن فيه الترك، وقد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، فقد تؤمر بالترك في أضعاف ذلك كما إذا رأت خمسة عشر كدرة ثم صفرة كذلك [ثم شقرة كذلك] (¬1) ثم حمرة كذلك فإنها تؤمر بالترك في كل واحد من هذه الدماء لأن العلة المذكورة في الثلاثين وهي قوة المتأخر على المتقدم مع رجاء انقطاعه موجودة ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فيه بل إن اعتبرت بقية أنواع التمييز كالرائحة والثخانة فتزيد أيضًا المدة. قوله: إذا بلغت الأنثى سن الحيض وبدأها الدم لزمها أن تترك الصلاة والصوم كلما ظهر الدم، ولا يأتيها الزوج، ثم لو انقطع لما دون أقل الحيض بان أنه لم يكن حيضًا فيقتضي الصلاة والصوم. انتهى. واعلم أن النووي -رحمه الله- قد استثنى في "شرح المهذب" من قضاء الصوم ما إذا كان أمسكت قال: فإنه لا قضاء عليها، وما ذكره -رحمه الله- يحتاج إلى تصوير فإن لقائل أن يقول: كيف يصح الصوم مع تحريم الإقدام عليه وذلك تلاعب يقتضي التردد في النية؟ والجواب: أن يقال صورة المسألة: ما إذا نوت ليلًا قبل طرآن الدم، وحينئذ إذا طرأ بعد ذلك طرأ في وقت لا تجب فيه النية، فإنه قد دخل في العبادة بالنية السابقة والصوم بعد الدخول فيه لا يؤثر فيه الشك في النية بل ولا الجزم بقطعها بخلاف ما إذا كانت النية موجودة في وقت وجود الدم، فإنه لا يصح لما ذكرنا من الشك وهذا الذي ذكرته متعين لابد منه، ولم يتعرض في "الروضة" لقضاء الصوم بالجملة وكأنه تركه لتوهم وجوبه على كل حال سواء بان حيضًا أم لا. وليس كذلك. قوله: المستحاضة البائنة مبتدأة لا تمييز لها فترد إلى أقل الحيض في أصح القولين. والثاني إلى غالب عادة النساء وهو ست أو سبع وقد روى أن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة شديدة فاستقبلت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "تحيضي ستة أيام وسبعة أيام في علم الله ثم اغتسلى، فإذا رأيت أنك قد طهرت فصلى أربعًا وعشرين أو ثلاث وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن

ذلك يجزئك" (¬1)، وروى أنه قال: تحيض في علم الله ستًا أو سبعًا كما تحيض النساء وتطهرن ميقات حيضين وطهرن وقال جماعة من الأصحاب ومنشأ القولين تردد الشافعي في أن حمنة كانت معتادة أو مبتدأة والمراد بقوله في علم الله أى: مما أعلمك الله. انتهى. حمنة بحاء مهملة وميم ساكنة ونون مفتوحة. وقوله: ميقات هو منصوب على الظرفية أى في وقت حيضهن وأما تردد الشافعي في أنها كانت معتادة أو مبتدأة، والراجح منهما عنده أنها كانت معتادة كذا ذكره في "الأم" ولو صح دليله وقال: هذا أشبه معانيه إلا أن الجمهور اختاروا أنها مبتدأة. والحديث المذكور رواه جماعات بألفاظ مختلفة، قال الترمذي: هو حسن (¬2) قال: وسألت البخاري عنه فقال: إنه حسن قال، وقال أحمد [بن حنبل] (¬3) إنه حسن صحيح، وأعله البيهقي بتفرد عبد الله بن محمد بن عقيل وليس هو كذلك، وصوب النووي في "شرح المهذب" ما قاله الترمذي. قوله: في أصل "الروضة" فإن رددنا بالمبتدأة غير المميزة في الحيض إلى الأقل فالصحيح أن طهرها بقية الشهر، وقيل: غالب الطهر وقيل أقله وهو ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجة (622)، وأحمد (27514)، والحاكم (615)، والدارقطني (1/ 214)، وعبد الرزاق (1174)، وإسحاق بن راهوية في "مسنده" (2190)، والشافعي (1470)، والطبراني في "الكبير" (24/ 218) حديث (553)، والبيهقي في "الكبرى" (1499)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3189). قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: حسن. (¬2) الذي في النسخ الخطية التي بين يدي سنن الترمذي وهي سبع نسخ قوله: حسن صحيح. (¬3) زيادة من جـ.

نص غريب للشافعي. انتهى ملخصًا. وهذا النص ليس بغريب فقد رأيته مجزومًا به في "البويطى" في آخر الحيض، وأيضًا فإنه جعل مقابله وهو عدم الرد إلى الأقل وجهًا ثم صححه وفيه مخالفة الأصحاب لنص إمامهم ولا بد لذلك من مقتضى وإلا فهو ممتنع. واعلم أن الرافعي لا يرد عليه شئ من ذلك، فإنه لم يستغرب هذا النص وجعل أيضًا مقابلة قولًا ثم فرع عليه فقال: وعلى هذا فوجهان أحدهما: ترد إلى بقية الشهر. والثاني: إلى غالبه. قوله: أما إذا رددنا المبتدأة إلى الأقل أو الغالب هل يلزمها الاحتياط فيما وراء التردد إلى تمام الخمسة عشرة كالمتحيرة؟ فيه قولان. أصحهما: لا يجب فإن [أوجبنا منعناها] (¬1) من تمكين الزوج [ولا] (¬2) يجوز لها أن تقضي فيه وإن كان قد فاتها من الصوم والصلاة والطواف ثم قال: وعلى القولين لا تقضي الصلوات المأتي بها ما بين المراد والخمسة عشر لأنها إن كانت ظاهرة فقد صلت وإن كانت حائضًا فليس عليها قضاء الصلوات. انتهى. فيه أمران: أحدهما: في تصوير قضاء الطواف فإنه محل نظر يتضح بذكر أقسامه فنقول: أما طواف الإفاضة وطواف العمرة فلا آخر لوقتها فلا يتصور أن يكونا قضاء، وعلى القولين لا تفعلها المرأة في المدة المذكورة وهي ما بين المرد وتمام الخمسة عشر لأنه لما لم يكن لوقتها آخر كانا شبيهين بالفوائت، ¬

_ (¬1) فى جـ: أوجبناها. (¬2) فى جـ: فلا.

والفوائت لا تفعل فيه كما تقدم. وأما طواف الوداع فإنه يفعل في هذه المدة لكن الفائدة أنه لا يقضي ولكن يجب الدم بتركه بالشروط المقررة في موضعه. والقياس أن الدم لا يجب على المرأة المذكورة بسببه لأنها قد أتت به للمعنى المذكور في عدم قضاء الصلاة. ويبقى النظر فيما إذا نذرت طوفًا في وقت معين والكلام فيه أولًا في أنه هل يتعين أم لا؟ ويتجه أن يكون كالصلاة المنذورة في وقت معين وفي تعينها خلاف واضطراب في الترجيح مذكور في موضعه، فإن قلنا إنه لا يتعين صار كالفوائت فلا تفعله المرأة في هذا الوقت، فإن قلنا بالمتعين فتفعله فيه بلا قضاء كما في الصلاة. الأمر الثاني: أن هذا الذي قاله في الصلاة من عدم الوجوب مع التفريع على قوله في الاحتياط مشكل، وما الفرق فيه بين المبتدأة والمتحيرة، وأيضًا فإن الرافعي كما حكى الخلاف في وجوب قضاء الصلاة على المتحيرة احتج للوجه الضعيف بهذا الدليل بعينه ثم إنه رده باحتمال انقطاع الحيض في أثناء الصلاة أو في آخر الوقت أو قبل غروب الشمس فيلزمها الظهر والعصر، وكذلك قبل طلوع الفجر حتى يلزمها المغرب والعشاء وهذا تعينه. فقال هنا أيضًا والظاهر أن هذا إنما صدر ممن لم يوجب قضاء الصلاة على المتحيرة فقلده فيه الرافعي. قوله: المستحاضة الثالثة: المعتادة التي لا تمييز لها ترد إلى عادتها لما روى عن أم سلمة أن امرأة كانت تهريق الدماء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتيت لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيض في الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا

خلفت ذلك فلتغتسل ولتستثفر ثم تصلي" (¬1). انتهى. وتهراق بضم التاء وفتح الهاء أي تصب، والدماء منصوب على التمييز لكنه شاذ عند البصريين لكونه معرفة. والحديث المذكور صحيح رواه مالك في "الموطأ" والشافعي وأحمد في "مسنديهما" أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم كما قاله في "شرح المهذب". قوله: في الكلام على المستحاضة: الرابعة: وهي المعتادة المميزة: وإذا رأت المبتدأة خمسة سوادًا وخمسة وعشرين حمرة هكذا مرارًا ثم استمر السواد أو الحمرة في بعض الشهور فقد عرفنا بما سبق من التمييز أن حيضتها خمسة من أول كل شهر وصار ذلك عادة لها محيضها الآن خمسة من أول كل شهر ويحكم بالاستحاضة في الباقي هذا هو الصحيح، وحكى إمام الحرمين وجهًا آخر أنه إذا انحزم التميز فلا نظر إلى ما سبق وهي كمبتدأة غير مميزة. انتهى كلامه. وما ذكره من أنه إذا استمرت الحمرة في بعض الشهور فيجعل لها منها خمسة حيضًا وباقي الشهر طهرًا لأجل ما سبق قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو مخالف لما أسلفه من القواعد فقد ذكر في أوائل الكلام على المستحاضة الأولى أنها إذا رأت خمسة سوادًا ثم رأت حمرة مستمرة فإنه لا حيض لها في الأشهر التي استمرت الحمرة فيها على خلاف ما دل عليه ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (136) وأبو داود (274) والنسائي (208) وابن ماجه (623) وأحمد (26759) والدارمي (780) والشافعي (1047) والدارقطني (1/ 207) والطبراني في "الكبير" (23/ 272) حديث (583) وأبو يعلى (6894) والبيهقي في "الكبرى" (1473) وأبو نعيم في "الحلية" (3519) وإسحاق في "مسنده" (1844) وابن الجارود في "المنتقى" (113). وهذا حديث صحيح عند جماهير أهل العلم.

كلام الغزالي، فإن ما ذكره في السواد المستمر صحيح، وأما في الحمرة فيستقيم على طريقة الغزالي فقط؛ لأن العادة تثبت بمرة وقد بان لها تقدم أن حيضها خمسة من أول الشهر إلا أنه لم يثبت لها مقدار الطهر. قوله: ولو كانت المسألة بحالها فرأت في بعض الأدوار عشرة سوادًا وباقي الشهر حمرة ثم استمر السواد في الذي بعده فقال الأئمة: فحيضها [عشرة] (¬1) السواد ومردها بعد ذلك عشرة وفي الرد إلى العشرة إشكال إذا لم تثبت العادة بمرة فينبغي تخريجه عليه، وأجاب الغزالي بأن هذه عادة تمييز به فتنسخها المرة فلا يجري الخلاف. انتهى ملخصًا. وهذا الذي حاوله الرافعي من التخريج واقتضى كلامه عدم الإطلاع عليه قد صرح به جماعات كثيرة ونقله عنهم النووي في "شرح المهذب" وفي "زيادات الروضة" منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي والشيخ نصر المقدسي وصاحب "البيان". قوله: ولا خلاف في كون الصفرة والكدر حيضًا في أيام العادة. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وتابعه النووي عليه في "الروضة" وليس كذلك ففيه وجه أنه لا يكون حيضًا إلا إذا كان معه سواد أو حمرة بالشرط المذكور في غير أيام العادة [وفاقًا وخلافًا ويحصل منه وجوه تعرف بمعرفة الوجوه المذكورة فيما إذا وقع ذلك في غير العادة] (¬2)، وهذا الخلاف ذكره صاحب التتمة. والرافعي والنووي يكثران النقل عنها فدعواهما النفي غريب. ¬

_ (¬1) في أ، ب: عدة. (¬2) سقط من جـ.

الباب الثالث في المتحيرة

الباب الثالث في المتحيرة قوله: ويجب عليها أن تحتاط فتلحق بالحائض في الوطء ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن في غير الصلاة، وأما في الصلاة فنقرأ الفاتحة وكذا السورة على الأصح، ويجب عليها أن تصلي الخمس ولا تحرم النوافل على الأصح. وثالثها: التفضيل بين الراتبة وغيرها ويجري الخلاف في نقل الصوم والطواف. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: إن إطلاق تحريم المكث في المسجد متجه إذا كان غرض دنيوي، فإن كان لغرض الصلاة فكقراعة السورة فيها وإن كان للاعتداء فتكون مفروضة ومندوبة كما في الصلاة وحينئذ فكون الراتب منه هو اعتكاف رمضان، والراتب من الطواف كما قاله في "شرح المهذب" هو طواف القدوم ولا يخفي أن محل هذا كله إذا أمنت التلويث. الثاني: أن تعبيره بالصلوات الخمس تعبير ناقص إذا تخرج عنه المنذورة وركعتا الطواف إذا أوجبناهما مع أن حكمهما حكم الصلوات الخمس كما صرحا به بعد هذا الموضع، وأما صلاة الجنازة فالقياس أنها أيضًا كالخمس حتى يجزم بجوازها ويحتمل إلحاقها بالنافلة مطلقًا والتفضيل بين التعين وعدمه. قوله: ويلزمها أيضًا أن تغتسل لكل فريضة ويجب أن يقع غسلها في الوقت، لأنه طهارة ضرورة فصار كالتيمم، وفي وجه لو وقع غسلها قبل الوقت وانطبق أول الصلاة على أول الوقت وأخر الغسل جاز، وقد ذكرنا

نظيره في طهارة المستحاضة. انتهى. واعلم أن هذا الوجه لما حكاه في طهارة المستحاضة لم يشترط فيه انطباق أول الصلاة على آخر الغسل. قوله: إحداهما أن المتحيرة تصوم على قول الاحتياط جميع رمضان وكم يجزئها؟ المنقول عن الشافعي أنه يجزئها خمسة عشر يومًا إذ لابد وأن يكون لها في الشهر طهر صحيح وغاية ما يمكن امتداد الحيض إليه خمس عشر يومًا فيقع صوم خمسة وغاية ما يمكن امتداد الحيض إليه خمس عشر يومًا فيقع صوم خمسة في الطهر، وقال الأكثرون: لا يجزئها إلا أربعة عشر لاحتمال أن يبدئ حيضها في أثناء يوم منقطع في أثناء الستة عشر ثم قال: فأما إذا كان ناقصًا فالمحسوب على قياس المنقول عن الشافعي لا يختلف وتقضي هنا أربعة عشر. وعلى قول الأكثرين المقضي لا يختلف وتحسب لها ثلاثة عشر. انتهى. واعلم أن ما قاله الرافعي في الكامل واضح وأما ما قاله من كون الواجب عليها في الناقص تفريعًا على النص إنما هو أربعة عشر وأن المحسوب على قياس النص لا يختلف بكونه كاملًا أو ناقصًا حتى يحصل لها خمسة عشر فكأنه نظر فيه إلى أن العلة في حساب الخمسة عشر في التام، إنما هو كون الشهر لا يخلو عن طهر صحيح، وذلك بعينه موجود هنا، وجزم النووي بأنه إنما يحصل لها في الناقص تفريعًا على النص أربعة عشر وحينئذ فيقضي خمسة عشر هكذا ذكره في أصل "الروضة"، واختصر كلام الرافعي عليه ولم يفرده بزيادة فقال: فإن نقص الشهر حصل على الأول أربعة عشر وعلى الثاني ثلاثة عشر هذا لفظه.

وكأنه نظر إلى أنا نفرع على الاحتياط وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا وهو العلة في بطلان الخمسة عشر على قول النص وحينئذ فلا فرق بين الكامل والناقص فيمسك كل منهما بطرق غير متلفت إلى الآخر، ولا شك أن قولنا أكثر الحيض خمسة عشر وأقل الطهر كذلك لا يمكن ذلك في شهر هلالي ناقص بل متى رأت المرأة في أول الهلالي الناقص خمسة عشر حيضًا فلابد أن ترى بعده مثلها طهرًا وتكمل بأول الذي يليه ولا يمتنع أن ترى خمسة عشر في أول لكونه ناقصًا؛ لأن الدور لا يستلزم أن يكون في شهر واحدٍ وحينئذ فيكون الصواب ما قاله النووي، وإذا نظرنا إلى هذا المعنى فقد يقتضي ذلك مخالفة لما قالوه في صيامها أشهرًا أو شهرًا آخرًا لتكمل به رمضان فليتأمل، والذي قاله في "الروضة" قد ذكره الروياني في "التلخيص" نقلًا عن الشافعي فقال: قال الشافعي: إذا صامت رمضان حصل لها منه خمس عشر يومًا فلو صامت شوالًا حصل لها أربعة عشر، يومًا كلامه وقياسه عند نقص غيره أن يحصل منه أيضًا أربعة كما قاله النووي وقد صرح به الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: فإن كان الشهر ناقصًا فعلى ما نقل عن الشافعي تقتضي خمسة عشر وعلى ما ذكره الأصحاب تقضي ستة عشر، أيضًا ولا يحسب لها إلا ثلاثة عشر هذه عبارته ولم يتعرض في "شرح المهذب" لذلك بالكلية. قوله: وهل يجب عليها قضاء الصلاة كالصوم؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب؛ ولهذا سكت عنه الشافعي مع تنصيفه على وجوب قضاء الصوم. وظاهر المذهب وجوبه للاحتياط، ومنهم من قطع به وقال إن الشافعي كما لم يذكر وجوبه لم ينفه أيضًا. انتهى ملخصًا.

واعلم أنه ليس الأمر كما ذكره الرافعي من أن الشافعي لم يتعرض لذلك بل قد تعرض له ونص على عدم وجوبه كذا صرح به الروياني في "البحر" فقال: قال الشافعي: إنها تصلي ولا تقضي. هذا لفظ الروياني. ثم بعد ذكره له علله ولم يتعرض في الروضة لهذا النقل عن الشافعي فلذلك اندفع الإيراد عنه فيها. نعم: وقع له ذلك في "شرح المهذب"، وقد ظهر لك أن المفتي به هو عدم الوجوب على خلاف ما في الرافعي و"الروضة" لتنصيص الشافعي عليه لاسيما أنهم قد استندوا في ترجيح الوجوب إلى أنه لا نص للشافعي يدفعه كما تقدم وقد ثبت خلافه قال في "شرح المهذب" فقد صرح بأن لا قضاء عليها الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وجمهور العراقيين والغزالي في الوجيز ونقله الفارسي وصاحب "الحاوي" والشيخ نصر وآخرون عن جمهور أصحابنا وهو ظاهر كلام الشيخ في "المهذب". قوله: ومع هذا كله لو اقتصرت على أداء الصلوات في أوائل أوقاتها ولم نقض شيئًا حتى مضت خمسة عشر يومًا أو مضى شهر لم يجب عليها لكل خمسة عشر الإقضاء صلوات يوم وليلة؛ لأن القضاء لا يجب إلا لاحتمال الانقطاع ولا يتصور الانقطاع في الخمسة عشر إلا مرة ويجوز أن يجب به قضاء صلاتي جمع وهما الظهر والعصر أو المغرب والعشاء فإذا أشكل الحال أوجبنا قضاء يوم وليلة. انتهى كلامه. وما ذكره من وجوب قضاء اليوم والليلة لكل خمسة عشر قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا والصواب هو المذكور في الحاوي الصغير أنه يلزمها ذلك لكل ستة عشر وذلك؛ لأنها لا تقضي ما وقع في الحيض ولا ما وقع

في الطهر، ولا ما سبق الانقطاع على غسله، وإنما تقضي الصلاة التي تأخر الانقطاع عن غسلها ولا تحتمل الانقطاع في ستة عشر يومًا إلا مرة واحدة، ويحتمل تأخر الإنقطاع عن الغسل في تلك المرة فيجب قضاؤها ولم تدر تلك الصلاة فتكون كمن نسى صلاة من الخمس. قوله: أما إذا أرادت قضاء أكثر من يوم فيضعف ما عليها وتزيد يومين. . . . إلى آخر ما قاله من الطريق المشهور. وما اقتضاه كلامه من أن أقل عدد تبرأ به الذمة مع التضعيف زيادة يومين قد صرح به أيضًا غيره من الأصحاب، واعترض عليهم الدار في كتابه المصنف في المتحيرة باعتراض حسن فقال: إذا كان عليها يومان فصاعدًا إلى آخر السابع فلا حاجة إلى زيادة يومين على الضعف بل يكفي زيادة يوم كما لو كان عليها يوم واحد وأما من الثامن فصاعدًا فالأمر فيه كما قالوه من زيادة اليومين. إذا علمت ذلك فاعلم أن ضابط ما يحصل به الاكتفاء بزيادة اليوم أن تعرف المرأة ما عليها من صوم وتصوم يومًا وتفطر يومًا إلى أن تستوفيه ثم تترك الصوم تمام ستة عشر يومًا من أول صيامها الأول والسادس عشر منه، فإذا كان عليها يومان صامت خمسة وأقل ما يحصل منه هذه الخمسة تسعة عشر يومًا فتصوم الأول والثالث والسابع عشر والتاسع عشر، وتفطر الرابع وكذلك السادس عشر يبقى بينهما أحد عشر يومًا فتصوم منها يومًا أى يوم شاءت وحينئذ فتزاد منها بيقين ثم ذكر بعد ذلك الطريق في تحصيل هذه الخمسة بعشرين فصاعدًا يومًا يومًا إلى سبعة وعشرين وتحصيلها بخمسة من أكثر من سبعة وعشرين لا يصح، وإن كان عليها صوم ثلاثة أيام كفاها سبعة وأقل ما يحصل منه هذه السبعة إحدى وعشرين يومًا فتصوم في كل طرف

اليوم الأول والثالث والخامس وتخلي ما يلي كل خمسة يومًا وتصوم يومًا من التسعة الباقية، والمراد بالطرفين الطرف الأول والأخير فالطرف الأول هو اليوم الأول وما يليه والطرف الأخير هو اليوم الأخير وما قبله فاعلم ذلك في هذا القسم وفي غيره. وإن كان عليها صيام أربعة كفاها تسعة وأقل ما يحصل منه هذه التسعة ثلاثة وعشرون فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع من الطرفين وتخلي يومًا يلي السبعة فيها يبقى سبعة تصوم منها يومًا وإن كان عليها صيام خمسة كفاها أحد عشر وأقل ما يحصل منه الأحد عشر خمسة وعشرون فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع من الطرفين وتخلى يومًا ويومًا وتصوم يومًا من الخمسة الباقية وإن كان عليها ستة كفاها ثلاث عشر وأقل ما يحصل منه سبعة وعشرون فتصوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع والحادي عشر من الطرفين وتخلي يومًا ويومًا وتصوم يومًا من الثلاثة الباقية وإن كان عليها سبعة كفاها خمسة عشر ويحصل من سبعة وعشرين فتصوم من الطرفين ما سبق وزيادة الثالث عشر وتخلي يومًا ويومًا وتصوم اليوم الباقي وهذه الطريقة التي استدركها الدارمي قد أخدها عنه صاحب الحاوي الصغير في كتابه والنووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وهذا كله في قضاء الصوم الذي لا تتابع فيه أما إذا قضيت صومًا متتابعًا بنذر وغيره، فإن كان قدرًا يقع في شهر صامته على الولاء ثم مرة أخرى قبل السابع عشر ثم مرة أخرى من السابع عشر. مثاله: عليها يومان تصوم يومين وتصوم السابع عشر والثامن عشر وتصوم منهما متتابعين إذا كان عليها شهران صامت ثمان وأربعين يومًا على

التوالي أربعة أشهر لسنة وخمسين يومًا وعشرون يومًا لأربعة أيام، فإن دام طهرها شهرين فذاك وإلا تصوم شهرين من هذه المدة صحيح لا محالة وتخلل الحيض لا يقطع السابع. انتهى كلامه. وهذا الضابط الذي ذكره ومثل له باليومين قد استدرك عليه الدارمي استدراكًا متعينًا أخذه منه أيضًا صاحب الحاوي الصغير فقال: محله إلى آخر اليوم السابع فقط وشرطه مع ذلك أن يقع الصوم المتوسط بعد الثالث من صومها الأول وقبل السادس عشر فتترك يومًا بعد الصوم الأول كالرابع في مثالنا ويومًا قبل الآخر كالسادس عشر في مثالنا أيضًا فتصوم بينهما القدر المتوسط وهو اليومان في المثال أيضًا. وحاصله أنها تصوم مرتين متفرقتين في خمسة عشر والمرة الثالثة من سابع عشر صومها الأول وأما الثامن إلى آخر الرابع عشر فطريقها فيه، أن تصوم ستة عشر يومًا مع قدر المتتابع متواليًا، وأما الخمسة عشر فصاعدًا فالأمر فيه كما اقتضاه كلام الرافعى. قوله: والمتحيرة إذا طلقها زوجها قيل إنها تصبر إلى سن الإياس ثم تعتد بالأشهر لاحتمال تباعد الحيض والتفريع على قول الاحتياط، والذي صار إليه المعظم أن عدتها تنقض بثلاثة أشهر؛ لأن المرأة لها في كل شهر حيضة غالبًا وصبرها إلى سن اليأس مشقة عظيمة. انتهى. واعلم أن [المتحيرة] (¬1) لا تخرج عن التحير بحفظ دورها ولهذا قال الرافعي في آخر الباب: إنما تخرج عن التحير بحفظ قدر الدور وابتدائه وقدر الحيض، وإذا تقرر هذا علمت أن إطلاق اعتداد المتحيرة بثلاثة أشهر غير مستقيم، لأنها لو حفظت دورها فتعتد بثلاثة أشهر أدوار منه سواء كان ¬

_ (¬1) في أ، ب: المحيرة.

أكثر من ثلاثة أشهر أو أقل لاشتماله على ثلاثة أطهار، كذا ذكره الدارمي وتابعه عليه في "شرح المهذب" وأشار في "الروضة" إليه ولم يثبته ولا شك في صحته فلو شكت في قدر أدوارها ولكن قالت: أعلم أنها لا تجاوز ستة مثلا أخذت بالأكثر كما قال الدارمي وهو موافق أيضًا للقواعد. قوله من "زوائده" لا يصح جمع المتحيرة بين الصلاتين بالسفر أو المطرفي وقت الأولى. انتهى كلامه. وهذا الشرط وهو الإيقاع في وقت الأولى راجع إلى السفر أيضًا كما صرح به في "شرح المهذب" ووجه امتناعه أن الجمع في وقت الأولى شرطه تقدم الأولى صحيحة يقينًا أو ظنًا وهو منتفٍ ههنا بخلاف الجمع في وقت الثانية.

الباب الرابع في التلفيق

الباب الرابع في التلفيق قوله: ولو رأت المرأة وقتًا دمًا ووقتًا طهرًا وانقطع الدم قبل مجاوزة خمسة عشر يومًا ففيه قولان رجح المعظم منهما أن حكم الحيض ينسحب على الكل بشرط أن يكون النقاء محبوسًا بدمين في الخمسة عشر ثم قال ومثل له الغزالي بما لو رأت يومًا وليلة دمًا أربعة عشر نقاءً ثم رأت السادس عشر دمًا فالنقاء مع ما بعده من الدم طهر؛ لأنه ليس محبوسًا بالحيض في المدة قال: ولك ألا تستحسن هذا المثال في هذا الموضع؛ لأنه الآن يتكلم فيما إذا لم يجاوز الدم الخمسة عشر ففي هذه الصورة قد جاوز، واللائق غير هذا المثال نحو ما إذا رأت يومًا دمًا ويومًا نقاءً إلى الثالث عشر ولم يعد الدم في الخامس عشر فالرابع عشر والخامس عشر طهر؛ لأن النقاء فيهما غير محبوس بدمين في الخمسة عشر. انتهى. والاعتراض الذي قاله الرافعي ظاهر فإن شرط المسألة لابد أن يكون مطابقًا لصورتها، وأما المثال الذي قاله -أعني: الرافعي- فلا يستقيم لأنه إن أراد أنها رأت دمًا بعد الخامس عشر فهو كمثال الغزالي سواء في كونه جاوز الخمسة عشر إذ الدم المتأخر لا يشترط اتصاله بآخر الخمسة عشر على المذهب، وإن أراد أنها لم تر دمًا بعد ذلك فهو خارج بقوله محبوسًا بدمين فإن النقاء المذكور على هذا التقدير غير محبوس بدمين لا في الخمسة عشر ولا بعدها. قوله: وقد قال إمام الحرمين في الفرق بينهما أي بين الفترة والنقاء دم الحيض يجتمع في الرحم ثم الرحم يقطره شيئًا فشيئًا فالعبرة بما بين ظهور

دفعة وانتهاء أخرى من الرحم إلى المتفد فما زاد على ذلك فهو النقاء الذي فيه القولان وربما يتردد الناظر في أن مطلق الزائد يخرج عن حد الفترات المعتادة لأن تلك المدة يسيرة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن قوله: وربما يتردد الناظر إلى آخره ليس من كلام الإمام بل من كلام الرافعي فاعلمه، فإن هذا التعبير يوهم خلافه، وموضع ذكر هذا الفرق في النهاية قبيل باب المعتادة في التلفيق وقد أحسن النووي في الروضة فصرح بأن القائل له هو الرافعي. الأمر الثاني: أن المعتمد عليه في الفرق أن الفترة هي الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم ويبقى أثره بحيث لو أدخلت المرأة في فرجها قطنة لخرج عليها أثر الدم من حمرة أو صفرة أو كدرة هذه حالة حيض قطعًا طالت أم قصرت، والنقاء أن يصير فرجها بحيث لو أدخلت القطنة لخرجت بيضاء، وهذا الفرق ذكره الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق ونص عليه الشافعي في "الأم" ونقله عنهم النووي في "شرح المهذب" وزيادات الروضة قال: والعجب من الإمام الرافعي في كونه أهمل هذا الفرق الذي نص عليه إمام المذهب وشيوخ الأصحاب واقتصر على هذا الفرق، وإنما ذكره الإمام، لم يقف على خلافه فإنه قال: إن الأصحاب لم يضبطوا ذلك وأن منتهى المذكور فيه أن يقال كذا وكذا. قوله: وإن لم يبلغ واحد منها أقل الحيض كما إذا رأت نصف يوم دمًا ومثله نقاء وهكذا إلى آخر الخمسة عشر ففيه ثلاث طرق: أصحها: طرد القولين:

والثاني: لا حيض لها وكل ذلك دم فساد لأن جعل النقاء حيضًا بخلاف الحقيقة إنما يصار إليه إذا تقدم. [الحيض أو تأخر أقله أو وجد أحدهما. والثالث: أن توسطهما قدر أقل] الحيض على الاتصال كفي ذلك لحصول القولين وإلا محلهما دم فساد. انتهى ملخصًا. تابعه عليه النووي في "الروضة" وهو كلام فاسد، فإن الطريقة الثانية إنما تصح إذا نقص كل دم عن أقل الحيض. والطريقة الثالثة إنما تصح إذا بلغ أحد الدماء المتوسطة أقل الحيض فلا يتصور اجتماع هذه الطرق في صورة واحدة وهو قد فرض الصورة فيما إذا رأت نصف يوم دمًا ومثله نقاء وهكذا إلى آخر الخمسة عشر وإذا كان كذلك فالمرأة لم تر أقل الحيض متصلًا لا في الأول ولا في الوسط ولا في الأخير. قوله فى "الروضة": يحصل في المعتبر من الدمين ليجعل ما بينهما حيضًا على قول المستحب أوجه. أصحها: يشترط بلوغ مجموع الدماء قدر أقل الحيض. والثاني: يشترط أن يكون كل واحد من الدمين قدر أقل الحيض. والثالث: لا يشترط بل لو كان مجموع الدماء نصف أو أقل فهي وما بينهما من النقاء حيض على قول التلفيق قاله الأنماطي. انتهى. وتعبيره في أخر كلامه بقوله على قول التلفيق غلط، والصواب: أن ذلك إنما يكون حيضًا على قول السحب لا على قوله التلفيق؛ لأنا إذا قلنا بقول اللفظ فلابد من بلوغ الدماء أقل الحيض بلا نزاع كما ذكره قبل ذلك، وأيضًا فالتفريع عليه لا على قول اللفظ، وهذا السهو قد سلم منه الرافعي

فإنه عبر بقوله وما بينهما من النقاء حيض على القول الذي نتكلم فيه هذا لفظه والذي يتكلم فيه هو قول. قوله في [أصل] (¬1) الروضة: ثم المستحاضة ذات التقطع على أنواع. أحدها: المعتادة الحافظة لعادتها، فإن كانت عادتها السابقة لا تقطع فيها رددناها إليها وحينئذ، فإن قلنا بالسحب فالدم المنقطع في أيام العادة حيض، وإن قلنا بالتلفيق فأزمنة النقاء طهر، وهل تلفق حيضها من زمن الإمكان أو من زمن عادتها، ففيه وجهان، والأصح أنه يلفق من الإمكان هذا كله إذا لم تنتقل عادتها فإن انتقلت بتقدم أو تأخر ثم استحيضت عاد الخلاف كما ذكرنا في حالة الإطباق، وقال أبو إسحاق المروذي حيضها أيامها القديمة وما عداها استحاضة ثم قال: فلو [أعادت] (¬2) خمسة من أول كل شهر فانتقلت عادتها وتأخرت يومًا واحدًا وتقطع الدم فرأت الأول نقاء والثاني دمًا وجاوز السادس عشر فقال أبو إسحاق المروزي حيضها: أيامها القديمة وما قبلها استحاضة، فإن سحت بحيضها اليوم الثاني والثالث والرابع إن لفقنا فالثاني والرابع والسادس؛ لأن السادس وإن خرج عن العادة فبالتأخر انتقلت عادتها وصار الثاني أولها والسادس أخرها وإن لفقنا من الإمكان فهي والثامن والعاشر وإن سحبنا فحيضها خمسة متوالية أولها الثاني. انتهى كلامه. فهذا الذي ذكره في هذا الفصل قد ذكرنا مثله أيضًا في "شرح المهذب" في ضمن فرع ثم خالف في "التحقيق" وموضع آخر من "شرح المهذب" وهو قبل الأول بأسطر فصحح ما ذهب إليه أبو إسحاق فقال: أعني في "شرح المهذب" إن لفقنا من العادة بحيضها الثاني والرابع إذ ليس في العادة ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ، ب: اعتادت.

سواهما وإن لفقنا من الإمكان فيهما والسادس والثامن والعاشر إن سحبنا فهل الإعتداء بعدد العادة أم بزمانها؟ فيه وجهان ذكرهما ابن سريج والأصحاب. أصحهما: أن الاعتبار بزمانها فيكون حيضها الثاني والثالث والرابع ولا يمكن ضم الأول والخامس إليها لأنها نقاء ليس بين دمي حيض. والثاني: الاعتبار بعددها، ولا يبالي بمجاورة الزمان فيكون حيضها خمسة: الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس. انتهى كلامه. وذكر في "التحقيق" مثله كما تقدم ذكره فتصحيحه على السحب الثاني والثالث والرابع فقط، وجزمه على التلفيق من العادة بالثاني والرابع إنما هو قياس قول أبي إسحاق المشهور والصواب ما في "الروضة"، فإن قول أبي إسحاق مرجوع عند الجمهور وعنده أيضًا فتصحيحه لما يوافقه سهو بلا شك.

الباب الخامس في النفاس

الباب الخامس في النفاس قوله: وأكثر النفاس ستون. انتهى. والمعنى فيه كما نقله ابن الصلاح في فوائد رحلته إلى بلاد الشرق عن الإمام سهل الصعلوكى أن المنى يمكث في الرحم أربعين على حاله منيًا ثم يمكث مثلها علقة ثم مثلها مضغة، وبعد هذه المدة لا يجتمع الحيض في الرحم، لأن الدم غذاء للطفل بل إنما يجتمع في المدة التى قلناها ومجموعها أربعة أشهر، وأكثر الحيض خمس عشر يومًا فيكون أكثر النفاس ستين، قال: وهذا معنى لطيف حسن. قوله في "الروضة": وما تراه الحامل من الدم على ترتيب أدوارها فيه قولان: القديم: أنه دم فساد، والجديد أنه حيض إلا إنه لم تنقضى به العدة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تقييده هذه المسألة بكونه على ترتيب أدوارها يوهم إيهامًا ظاهرًا لأنه لابد منه حتى لو اجتمع مع الحمل مخالفة العادة لا يكون ما رأته من الدم حيضًا قطعًا وهو وجه حكاه في "شرح المهذب" عن الدارمي. والصحيح المشهور أنه لا فرق، وقد جزم به الرافعى بعد هذا بنحو ورقة في الكلام على ألفاظ "الوجيز". الثاني: أن ما أطلقه الرافعي هنا من كون العدة لا تنقضي بهذا الدم محله إذا كان عليها عدة واحدة لصاحب الحمل، فإن كانت عليها عدة أخرى لغيره فتنقضي بهذا الدم على الصحيح كما هو مذكور في بابه، وذلك

فيما إذا طلقها وهي حامل ثم وطئها آخر في العدة لشبهة فرأت الدم في مدة الحمل وكذلك أيضًا لو كان بالعكس. قوله: والدم الخارج قبل الطلق ليس بنفاس بلا خلاف؛ لأن النفاس لا يسبق الولادة. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تابعه عليه في الروضة وليس كذلك ففيه وجه: أنه يكون نفاسًا إذا اتصل بدم النفاس حكاه الماوردي في الحاوي قوله: في أصل الروضة: فحصل من الخلاف المذكور في هذه المسائل أن في ابتداء مدة النفاس أوجهًا. أحدها: من وقت الدم البادئ عند الطلق. والثاني: من الخارج مع ظهور الولد. والثالث: وهو الأصح من انفصال الولد. وحكى إمام الحرمين وجهًا: أنها لو ولدت ولم تر الدم أيامًا ثم ظهر الدم فابتدأ مدة النفاس يحسب من وقت خروج لا من وقت الولادة فهذا وجه رابع وموضعه إذا كانت الأيام المتخللة دون أقل الطهر انتهى كلامه. وهذه المسألة قد اختلف فيها كلامه في "شرح المهذب" فصحح في أوائل الكلام على النفاس ما صححه في "الروضة" ثم إنه بعد ذلك بأوراق قبيل قوله فرع، قال المحاملي وغيره: صحح الوجه الرابع المنسوب إلى حكاية الإمام، فقال: أما إذا ولدت ولم تر دمًا أصلًا ثم رأته قبل خمسة عشر يومًا من الولادة فهل يكون ابتداء النفاس من رؤية الدم أم من وقت الولاده؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين: أصحهما: من رؤية الدم -وقد سبق بيان هذا في أول فصل النفاس،

هذا لفظه. مع أن الذي سبق إنما هو العكس، وصحح مثله في "التحقيق" أيضًا في أثناء فرع أوله تقطع دمها فقال ما نصه: ولو ولدت ولم تر دمًا. ثم رأته قبل خمسة عشر فابتداء النفاس من الدم ويقال: من الولادة هذ لفظه ولم يصرح بالمسألة في الكتاب المذكور في غير هذا الموضع، وما وقع فيه غريب جدًا فإنه عبر عما صححه في "الروضة" بقوله: ويقال: واصطلاحه فيه أن هذه اللفظة للوجه الواهي وأن مقابلة هو الصواب. قوله: والدم الخارج بين اليومين ليس بنفاس على الأصح عند العراقيين، فإن قلنا: إنه نفاس واحد أم نفاسان؟ فيه وجهان أظهرهما: نفاسان واختلفوا في موضع هذين الوجهين، فقال الصيدلاني: موضعها ما إذا كانت المدة المتخللة بين الدمين دون الستين فإن بلغت ستين فهو نفاس آخر لا محالة، وعن الشيخ أبي محمد: إنه لا فرق. انتهى ملخصًا. ولم يرجح الرافعي في "الشرح الصغير" أيضًا شيئًا من الوجهين الأخيرين والمعروف ما قاله الصيدلاني وقد صرح به في النهاية إلا أن الرافعي لم يحكه على وجهه فقال: قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا على أنه نفاس آخر هذا كلامه، وقد نقله عنه هكذا النووي وصححه في كتبه. قوله في "الروضة": الحال الثاني أن تجاوز ستين فإن بلغ زمن النقاء في الستين أقل الطهر ثم جاوز فالعائد حيض قطعًا. . . . إلى آخره. ليس كما قال من دعوى القطع فقد حكى صاحب البحر في هذه المسألة طريقين إحداهما: هذه، والثانية: أن فيها وجهين: أحدهما: أنه حيض: والثاني: نفاس.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة باب المواقيت وفيه [ثلاثة] (¬1) فصول: الفصل الأول: في وقت الرفاهية قوله: والأصل فيه ما رُوى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أمني جبريل عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس"، ويروى "حين كان الفئ مثل الشراك" (¬2) إلى آخر الحديث المعروف. والشراك: بكسر الشين المعجمة هو أحد سيور النعل التي يكون على وجهها. إذا علمت ذلك فقد اختلف كلام النووي في "شرح المهذب" في أن الصبر إلى مصير الفئ مثل الشراك هل هو شرط لصحة الظهر أم لا؟ فقال هنا ما نصه: وليس الشراك هنا للتحديد والاشتراط بل؛ لأن الزوال لا يتبين بأقل منه انتهى. ومقتضى [هذا] (¬3) أنه لابد من الصبر إلى هذا المقدار، وإن كان الزوال حقيقة لا يتوقف عليه ثم أعاد المسألة في الشرح المذكور بعد ذلك بنحو ¬

_ (¬1) زيادة من جـ. (¬2) أخرجه أبو داود (393)، والترمذي (149)، وأحمد (3081)، وابن خزيمة (325)، والحاكم (693)، والدارقطنى (1/ 258)، والطبرانى فى "الكبير" (10752)، وأبو يعلى (2750)، وعبد الرزاق (2028)، وابن أبي شيبة (3220)، والبيهقى في "الكبرى" (1583)، وعبد بن حميد (703) وابن الجارود فى "المنتقي" (149) من حديث ابن عباس. قال الترمذى: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح. وقال الألبانى: حسن صحيح. (¬3) سقط من أ، ب.

ورقة وجزم بأنه لا يجب الصير إليه، والحديث المذكور رواه أبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم، ولكن بعض ألفاظهم مخالفة للمذكور هنا، وروى الترمذي معناه عن جابر أيضًا ثم نقل عن البخاري أنه أصح شئ في المواقيت. قوله: فأما إذا لم يبق للشاخص عند الاستواء ظل فالزوال بظهور الظل، ولا معنى للزيادة لكنه نادر لا يكون إلا في يوم واحد وهو أطول أيام السنة في بعض البلاد كمكة وصنعاء. انتهى. وذكر جماعة منهم ابن الصباغ وابن الصلاح نقلًا عن أبي جعفر الراسبي صاحب "كتاب المواقيت" أن ذلك يكون يومين قيل: أطول يوم لستة وعشرين وبعده كذلك، وتوهم النووي في "شرح المهذب" أن المراد بالستة والعشرين المتقدمة وكذلك بالمتأخرة إنما هو نفي الظل عن جميعها فاعلم ذلك واجتنب ما وقع له. قوله: فإذا صار ظل الشاخص مثله وجاوز ذلك بأقل زيادة فقد دخل وقت العصر، ولا خلاف في دخول وقت العصر حين يخرج وقت الظهر عندنا لكن خروج وقت الظهر لا يكاد يعرف إلا بتلك الزيادة. انتهى ملخصًا. تابعه النووي في "الروضة" على دعوى نفي الخلاف وليس كذلك فإن في الزيادة المذكورة ثلاثة أوجه حكاها صاحب "الذخائر" والنووي فى "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية". أحدها: هذا. والثاني: أنها من وقت الظهر. والثالث: أنها فاصلة بينهما. قوله: وللعصر أربعة أوقات: وقت فضيلة: وهو أوله، ووقت اختيار: وهو إلي مصير الظل مثليه، ووقت جواز بلا كراهة: وهو من مصير الظل مثليه إلى الأصفر، ووقت كراهة: أى يكره التأخير إليه وهو من الاصفرار

إلى الغروب. انتهى. أهمل خامسًا وهو وقت تحريم، أى يحرم التأخير إليه وهو أن يبقى ما لا يسع الصلاة، فإن الصحيح تحريمه، وإن جعلنا الصلاة فيه أداء وهو يطرد في سائر الأوقات. قوله: لا خلاف في أن وقت المغرب يدخل بغروب الشمس. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك فقد جزم الماوردي في "الحاوى" بأنه لابد من غيوب الضوء المستعلى فقال ما نصه: أول وقت المغرب غروب الشمس وهو أن يسقط القرص ويغيب حاجب الشمس وهو الضوء المستعلي عليها كالمتصل بها هذا لفظه، ويشهد له وما رواه أبو داود عن سلمة بن الأكوع قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها (¬1). وفي الصحيحين (¬2) أيضًا نحوه. قوله: وهو ظاهر في الصحاري وأما غيرها فالاعتبار بألا يري شئ من شعاع الشمس على أطراف الجدران وقلل الجبال انتهى. قال الجوهري: القلة أعلى الجبل وقلة كل شئ أعلاه ورأس الإنسان قلته، وأنشد سيبويه عجائب تبدي الشيب في قلة الطفل. قوله: وإلى متى يمتد وقت المغرب؟ فيه قولان: القديم أنه يمتد إلى غيبوبة الشفق لما روى عن بريدة أن رجلًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت الصلاة فقال: صلى معنا هذين يعني اليومين إلى أن قال: وصلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (417)، وأحمد (16580)، والدارمى (1209) وعبد بن حميد (386) من حديث سلمة بن الأكوع. (¬2) أخرجه البخارى (536)، ومسلم (636). (¬3) أخرجه مسلم (613).

وفي الصحيح: وقت صلاة المغرب ما لم يسقط الشفق (¬1). وفي الجديد: إذا مضى قدر وضوء وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات فقد انقضى الوقت لأن جبريل -عليه السلام- صلاها في اليومين في وقت واحد، ولو كان لها وقتان لبين كما في سائر الصلوات. ثم معلوم: أن ما لابد منه من شرائط الصلاة لا يجب تقديمه على الوقت فيحتمل التأخير بعد الغروب قدر ما يشتغل بها. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنا كما اعتبرنا زمنًا يسع الطهارة الصغرى لعدم وجوبها قبل الوقت فكذلك الطهارة الكبرى لابد من اعتبار زمن يسعها سواء كان جنبًا أم لا، فينبغي أن نقول: إذا مضى قدر وضوء وغسل ولا يقتصر علي الوضوء ولا على الغسل أيضًا، وإن كان يتدرج فيه الوضوء لأنه يستحب له أن يأتي به مع الغسل مطلقًا وفي اعتبار زمن للطهارة عن النجس يجب, فإنه لا يجب إزالته قبل الوقت إذا لم يعص بإصابته بأن تلطخ به لكنه لا ينضبط مقداره, وقد عبر في النهاية بقوله: ويعتبر زمن الطهارة وكذلك في "شرح المهذب" أيضًا وهي شاملة لجميع ما ذكرته، وللتيمم أيضًا فإن الزمن المصروف له مع الطلب أكثر وبتقدير اعتبار الطهارة عنها أعني النجاسة فالقياس اعتبار الزمن المصروف للنجاسة المغلطة لأنها قد تصيبه، وتعليل الرافعي بدل للجميع. الأمر الثاني: أن تعبيره بستر العورة قد ذكره في بقية كتبه وتابعه عليه أيضًا النووي وهو تعبير مردود مخالف لما ذكروه من استحباب التعميم والتقمص والارتداء ونحوها، وقد رأيت في "الإقناع" للماوردي و"المجرد" لسليم الرازي و"المقصود" لنصر المقدسي اعتبار مقدار لبس الثياب ولم يخصوه بستر العورة وهو حسن. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (612) من حديث عبد الله بن عمرو.

الأمر الثالث: أن مقتضى إطلاقه أنه لا فرق في اعتبار الأذان والإقامة بين الرجل والخنثى والمرأة وهو ظاهر فإنا إذا لم تستحب للمرأة والخنثى الأذان فإنا نستحب لها الإجابة. الأمر الرابع: وهو مبني على مقدمة، وهي: أن الركعات الخمس المعتبرة في وقت المغرب منها ثلاث للفرض، قال الإمام في "النهاية" والغزالي في "عقود المختصر": تعتبر فيها الفاتحة وقصار المفصل، وعبارة القاضي حسين: وسور قصار، وأما الركعتان الباقيتان، فهل هما سنة المغرب التي بعدها أو الركعتان المستحبتان قبلها عند بعضهم؟ فيه خلاف. جزم الإمام في "النهاية" بالثاني وتبعه صاحب "التعجيز" في شرحه له، وجزم النووي في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" "وشرح المهذب" بالأول ذكر ذلك في أثناء الاستدلال علي اتساع، وقتها جزم به أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" فقال بعد اعتبار الخمس ما نصه: وللأصحاب وجه أنه تستحب ركعتان خفيفتان قبل المغرب فقياسه اعتبار سبع هذا لفظه وهو صريح فيما قلناه. وقد صرح به أيضًا البغوي في "التهذيب" فقال: وهو أن يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم ويصلي خمس ركعات، وقيل: وقدر ركعتين بين الأذان والإقامة هذه عبارته. إذا علمت هذا فقد جزم النووي في كتبه كلها باعتبار الخمس ولم يتعرض للسبع ثم صحح في كتبه أيضًا استحباب الركعتين قبلها استحبابها مع تصحيح الخمس لا يجتمعان. الأمر الخامس: أن الاستدلال بحديث جبريل على تضييق وقت المغرب

مذكور في أكثر كتب الشافعية وهو عمدتهم فيما ذهبوا إليه، والاستدلال به غريب، فإنه ليس فيه دلالة البتة، بل وليس على محل النزاع، فإن النزاع إنما هو في الوقت الجائز لا في الوقت المختار، وجبريل -عليه السلام- إنما بين الوقت المختار ولم يبين الوقت الجائز، ولذلك قالوا: إن الصبح يشتمل على وقت اختيار وهو ما بينه جبريل ووقت جواز وهو ما عدا ذلك إلى الإسفار. وذكروا أيضًا مثله فى "العصر وكذلك في العشاء وقالوا: إن وقت الظهر جميعه وقت اختيار؛ لأنه ليس فيه وقت خارج عما بينه، وإذا تقرر أن جبريل إنما بين الوقت المختار وسكت عن الوقت الجائز فيكون الوقت المختار للمغرب لا يمتد إلى غروب الشفق بل مضيقًا وهو المسمى بوقت الفضيلة ونحن نسلم ذلك، وأما الوقت الجائز وهو محل النزاع فليس فيه تعرض له. وما ذكرناه من أن وقت الفضيلة هو وقت الاختيار في المغرب هو الصواب وحكى في "شرح المهذب" وجهًا أن وقت الاختيار يمتد إلى نصف الوقت، وجزم به ابن الرفعة في "الكفاية" ونقله عن الأصحاب ويدفعه ما نقله الترمذي عن العلماء كافةً من الصحابة فمن بعدهم من كراهة تأخير المغرب. الأمر السادس: أن حديث بريدة الدال على اتساع وقت المغرب قد رواه مسلم في صحيحه، والحديث الذي بعده قد صرح الرافعي بأنه في الصحيح، وهو كذلك، فإن مسلمًا رواه أيضًا بألفاظ مختلفة، وأما حديث بيان جبريل فقد سبق.

قوله: والاعتبار في جميع ذلك بالوسط المعتدل. انتهى. قال القفال: ويعتبر في حق كل إنسان الوسط من فعل نفسه لأنهم يختلفون في ذلك، فبعضهم خفيف الحركات والجسم والقراءة، وبعضهم عكسه والذي ذكره القفال حسن يصلح أن يكون شرحًا لكلام الرافعي فليحمل عليه واعلم أن المتجه اعتبار زمن الاجتهاد في القبلة، لأنها شرط من شروط الصلاة كالطهارة والستر وهل يعتبر مع ذلك مدة المعنى إلى الجماعة؟ فيه نظر. وحكي النووي في "شرح المهذب" وجهًا ادعى أنه قوى وهو تقدير وقت المعرف بالعرق فمتى أخر عن المتعارف في العادة خرج الوقت. قوله: ويحتمل أيضًا أكل لقم يكسر بها سؤرة الجوع. انتهى كلامه. وذكر النووي أيضًا مثله في "الروضة" و"التحقيق" وقال في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح": الصحيح الصواب أن من حضره الطعام يأكل إلى أن يشبع لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يعجل حتى يفرغ" (¬1) رواه الشيخان من رواية ابن عمر، وذكر في "شرح المهذب" مثله واستدل بما أخرجه الشيخان عن أنس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم" (¬2). قوله: واختار طائفة من الأصحاب القديم ورجحوه وعندهم أن المسألة مما يفتي فيها على القديم. انتهى. واعلم أن الشافعي في "الإملاء" قد علق القول بالإتساع على صحة ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (642)، ومسلم (559). (¬2) أخرجه البخارى (641)، ومسلم (557).

الحديث كذا نقله عنه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" قال: وقد ثبت الحديث بل أحاديث فيكون قول الإتساع جديدًا، وذكر مثله النووي وصححه في أكثر كتبه فقال في "الروضة": إنه الصواب، وقال في "المنهاج" إنه الأظهر وقال في موضعين من "شرح المهذب": إنه الصحيح وعبر في "التصحيح" و"التحقيق" بالمختار. قوله: وعلى هذا القول يعني الجديد لو شرع في المغرب في الوقت المضبوط فهل يجوز أن يستديم صلاته إلى أن ينقضي هذا الوقت، إن قلنا إن الصلاة التي وقع بعضها في الوقت وبعضها بعده أداء، وإنه يجوز تأخيرها إلى أن يخرج عن الوقت بعضها فله ذلك لا محالة. وإن قلنا: لا يجوز ذلك في سائر الصلوات ففي المغرب وجهان أحدهما: المنع، وأصحهما أنه يجوز مدها إلى غروب الشفق لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة الأعراف في المغرب (¬1). انتهى كلامه. وحاصله أنه إذا مد غير المغرب من الصلوات حتى خرج الوقت فينبغي على أن الصلاة إذا وقع بعضها في الوقت وبعضها بعده هل هي أداء أو قضاء؟ فإن قلنا: إنها قضاء أو بعضها فلا يجوز، وإن قلنا إنها أداء فينبني على أنه هل يجوز التأخير إلى ذلك الوقت أم لا؟ فإن جوزنا التأخير جوزنا المد وإلا فلا. والصحيح عند الرافعي أن التأخير إلى إخراج بعضها لا يجوز. وإن قلنا إنها أداء فيكون الصحيح المنع من مد الصلوات إلى خروج الوقت إلا المغرب فإنه يجوز مدها إلى مغيب الشفق. إذا علمت حاصل ما ذكره هنا فقد ذكر بعد هذا في الباب أيضًا أنه إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (730) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

شرع في الصلاة وقد بقى من الوقت ما يسعها فمدها بتطويل القراءة حتى خرج الوقت، فإنه لا يأثم ثم قال: وفي كراهته وجهان: أصحهما: أنه لا يكره أيضًا وسأذكر لفظه بعد هذا إن شاء الله تعالى مع أمور تتعلق، وأنه هل يشترط في جواز ذلك فعل ركعةٍ أم لا؟ والذي قاله هنا مع ذلك متباينان تباينًا فاحشًا فإنه قطع ثانيًا بجواز مد غير المغرب، وحاصل المذكور هنا منعه وقطع في المغرب بمنع مدها إلى ما بعد مغيب الشفق وتردد فيما قبل مغيبه مع أن مد المغرب إلى ما بعد الشفق هو نظير مد سائر الصلوات، فكيف يقطع بمنعه ويتردد فيما قبله؟ بل قد ذكر هنا أن المغرب أولى بالمد من سائر الصلوات، فإنه جوز مدها مع المنع في غيرها، وقد وقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"شرح المهذب" و"التحقيق"، وذكر في الشرح الصغير الموضع الأول وهو المذكور في المغرب ولم يذكر الثاني وكذلك في المختصرات. وحديث قراءة الأعراف في المغرب رواه البخاري عن زيد بن ثابت ولفظه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها بطولى الطوليين قال ابن أبي مليكة طولى الطوليين الأعراف والمائدة، ورواه عنه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (¬1) ولفظه "كان يقرأ في المغرب سورة الأعراف في الركعتين كلتيهما" ثم قال: إنه صحيح على شرط الشيخين. قوله: وإلى متى يمتد وقت الاختيار في العشاء؟ فيه قولان: أصحهما: إلى ثلث الليل لبيان جبريل -عليه السلام-، والثاني: إلى ما نصفه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت العشاء إلى نصف الليل" (¬2) انتهى كلامه. وما ذكره من تصحيح القول الذاهب إلى الثلث قد صححه أيضًا النووي ¬

_ (¬1) حديث (866). (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

في "الروضة" و"التحقيق" و"تصحيح التنبيه" وغيرها، وخالف في "شرح مسلم" فقال: الأصح أنه يبقى إلى نصف الليل ذكر ذلك في آخر باب أوقات الصلاة وهو بعد كتاب الصلاة بكراريس كثيرة. ونقل في "شرح المهذب" تصحيح كل قول عن طائفة وطائفة النصف أكثر، نقل ذلك عن الشيخ أبي حامد والمحاملي وسليم الرازي والجرحاني والشيخ نصر المقدسي والروياني والزبيري ثم قال: المختار الثلث ثم صرح بتصحيحه فيه بعد ذلك أيضًا، وحديث جبريل سبق بيانه. وأما الثاني فقال في "شرح المهذب": إنه بهذا اللفظ حديث منكر لا يعرف. نعم: في الحديث "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" (¬1) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة ثم قال: إنه حسن صحيح، ويغني عن هذا كله ما رواه مسلم (¬2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص من جملة حديث: "ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط". قوله: وفيه وجه ذهب إليه الإصطخري، وأبو بكر الفارسي أنه إذا ذهب وقت الاختيار فقد ذهب وقت الجواز لظاهر حديث جبريل ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل". انتهى. وهذا الذي حكاه وجهًا قد نقله سليم الرازي قولًا للشافعي وأغرب من ذلك أنه جعله القول الجديد، وجعل القديم امتداده إلى طلوع الفجر كذا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (167) من حديث أبى هريرة، وقال: حسن صحيح. (¬2) تقدم حديث (612).

رأيته في كتابيه "التقريب" و"المجرد"، وذكر الماوردي في "الحاوى" أيضًا أن الشافعي أشار إليه في موضع من "الأم"، وأما الفارسي فلم يجزم بل له في المسألة احتمالان كذا رأيته في شرح التلخيص للقفال، والحديثان سبق الكلام عليهما قبل هذه المسألة. واعلم أنه قد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدجال قلنا: يا رسول الله، ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم" قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال: "لا اقدروا له قدره" انتهى. وحينئذ فيستثني هذا اليوم مما ذكر في المواقيت جميعها فإنه سيحتاج إليه. قوله: ثم في الوقت الذي يجوز فيه تقديم أذان الصبح عليه وجوه أظهرها: أنه يقدم في الشتاء لسبع بقى من الليل وفي الصيف لنصف سبع بقى من الليل، روى عن سعد القرظي قال: كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشتاء لسبع بقى من الليل وفي الصيف لنصف سبع (¬2). والثاني: أنه يدخل بالنصف الثاني. والثالث: بخروج وقت الاختيار. والرابع: إذا بقى السبع صيفًا كان أو شتاء. والخامس: أن جميع الليل وقت له كما أنه وقت لنية صوم الغد. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكره في صلاة العيد ما يخالف المذكور هنا فذكر ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2937)، وأبو داود (4321)، وأحمد (17666). (¬2) قال النووى: وهذا الحديث مع ضعف إسناده محرف. "تلخيص الحبير" (1/ 179).

ما حاصله أنه يدخل بنصف الليل، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى وصححه أيضًا النووي في كتبه كلها قال في "الروضة": واعتمد من رجح الأول حديثًا باطلًا محرفًا. وذكر في أصل "المنهاج" ما يوافق هذا أيضًا فقال: وشرطه الوقت إلا الصبح فمن نصف الليل، وعبارة الرافعي في المحرر يجوز في آخر الليل وليس صريحًا في شيء إلا أن الصحيح في كتاب الطلاق من "المحرر" و"الروضة" وغيرها أن آخر الشهر واليوم عبارة عن الجزء الأخير منه على الصحيح، وقيل يدخل بأول النصف الثاني. وما رجحوه هناك يشعر بعدم مطابقة المنهاج والمحرر. الأمر الثاني: أن الموجود في نسخ الرافعي تبعًا "للوسيط" سعد القرظي على نسبته إلى بني قريظة قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" وفي غيره: إنه خطأ فاحش بلا شك قال: وإنما هو سعد القرظي بإضافته إلى القرظ وهو الذي يدبغ به، وأضيف إليه لأنه كان ملازمًا للتجارة فيه وهو من موالي عمار بن ياسر كان مؤذنًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قباء، فلما ولى أبو بكر - رضي الله عنه - الخلاقة وترك بلال الأذان نقله أبو بكر إلى مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليؤذن فيه، فلم يزل يؤذن حتى مات في أيام الحجاج وتوارثت بنوه الأذان. وقيل: الذي نقله عمر بن الخطاب، وهذا الحديث المروي عنه رواه الشافعي في القديم بإسناد ضعيف كما قاله في "شرح المهذب"، وإنما ادعى في "الروضة" تحريفه، لأن فيه في الشتاء السبع ونصف يبقى وفي الصيف لسبع وليس مطابقًا لما قالوه.

ونقل صاحب "التعجيز" في شرحه عن الماوردي القول بمقتضاه في الشتاء وهو غلط فإن الذي فيه الجزم بما صححه النووي. واعلم أن هذا الفرع قد نقله النووي في الروضة من هذا الباب إلى الأذان واعتذر عن نقله بكونه مناسبًا. قوله من "زياداته": ويكره أن يقال للعشاء عتمة. انتهى. وما جزم به من الكراهة هنا قد جزم به أيضًا في "المنهاج" من "زوائده" وكذلك في "التحقيق" و"مهمات الأحكام" ثم ذكر عكس ذلك في "شرح المهذب" فقال نص الشافعي في "الأم": على أنه يستحب ألا تسمى بذلك وذهب إليه المحققون من أصحابنا، وقالت طائفة قليلة يكره هذا كلامه وقد ظهر لك منه أن الفتوى على عدم الكراهة. قوله أيضًا من "زياداته": ويكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها لغير عذرٍ إلا في خير. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذه الكراهة تعم سائر الأوقات ولا تخض العشاء كذا قاله ابن الصلاح وهو متجه. الثاني: أن سيأتي كلامهم يشعر بتصوير المسألة بما بعد دخول الوقت ولكن يحتمل القول بالكراهة قبل دخول وقت العشاء، وإن كان بعد فعل المغرب لخوف فوات الوقت وإن كان غير مخاطب بها. الأمر الثالث: اختلفوا في كراهة الحديث بعدها فعلله في "شرح المهذب" بأن نومه يتأخر فيخاف مع ذلك أن يفوته الصبح عن وقتها أو عن أوله أو يفوته صلاة الليل إن كان ممن يعتادها، وعلله غيره بوقوع الصلاة التي هي أفضل الأعمال خاتمة عمله وربما في مات نومه، وعلله القرطبي في

"شرح مسلم" بأن الله تعالى قد جعل الليل سكنًا وهذا تخريجه عن ذلك. الأمر الرابع: أن إطلاق الرافعي كراهة الحديث بعدها يدخل فيه ما إذا قدم المسافر العشاء وجمعها في وقت المغرب والمتجه خلافه، وقد يبني على المعاني السابقة، فإن قلنا بعدم الكراهة فهل يكره بدخول الوقت أو بمضى وقت الفراغ منها غالبًا؟ فيه نظر يأتي مثله في الأوقات المكروهة. الأمر الخامس: أن إطلاقه أيضًا يقتضي الكراهة سواء صلى السنة أم لا وقد يبني أيضًا على المعاني المذكورة، فإن قيل: التعليل بخشية التفويت يقتضي كراهة الحديث قبل فعلها أيضًا فالجواب: أن إباحة الكلام قبل الصلاة تنتهي بالأمر بإيقاع الصلاة في وقت الاختيار وأما بعد الصلاة فلا ضابط له فيكون خشية التفويت فيه أكثر. قوله في "الزيادات" أيضًا: واختلف العلماء في الصلاة الوسطى فنص الشافعي والأصحاب إنها الصبح، وقال الماوردي: صحت الأحاديث أنها العصر ومذهبه اتباع الحديث. ذكر مثله في "التحقيق" و"شرح المهذب" أيضًا وقال في "شرح مسلم": الأصح: أنها العصر كما قاله الماوردي. قوله: قاعدة الصلاة تجب بأول الوقت وجوبًا موسعًا فلو أخر من غير عذر ومات في أثناء الوقت قبل الفعل لم يعص في أصح الوجهين بخلاف الحج، لأن آخر وقته غير معلوم فأبيح له التأخير بشرط أن يبادر الموت وإذا مات قبل الفعل أشعر الحال بتقصيره، وفي الصلاة آخر الوقت معلوم. انتهى كلامه. ذكر نحوه النووي في كتبه وهذا الفرق هو معنى قول الأصحاب يجوز التأخير بشرط سلامة العاقبة.

ففيه أمور: أحدها: أن التأخير في هذا وفي كل واجب موسع إنما يجوز بشرط العزم على الفعل كذا صححه النووي في التحقيق و"شرح المهذب" الثانى: أن هذا الخلاف لا يتصور [جريانه في المواضع التي يستحب فيها التأخير كالإبراد ونحوه [كالجمع] (¬1) للمسافر في وقت الأولى سواء مات في وقتها أو وقت الثانية وسيأتي في الحج كلام آخر متعلق بمسألتنا. الثالث: أن ما جزم به ههنا من كون الجواز مشروطا بسلامة العاقبة قد أنكره في آخر كتاب الوديعة إنكارًا شديدًا وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: وهل يجوز تأخير الصلاة إلى حين يخرج بعضها عن الوقت؟ إن قلنا: إنها أو بعضها قضاء فلا. وإن قلنا: إنها مؤداة فقد حكى إمام الحرمين عن أبيه ترديد الجواب في ذلك، ومال إلى أنه لا يجوز وهذا هو الذي أورده في "التهذيب" من غير تردد وبناءٍ على خلاف. انتهى كلامه. وهذه المسألة لم يمعن الرافعي النظر فيها فإنه لم ينقلها إلا عن الإمام البغوي، والمسألة مشهورة في المذهب قديمًا والجواز فيها أشهر فقد رأيت في "الغنية" لابن سريج أنه يجوز ورأيت في شرحها لبعض تلامذة القفال نقلًا عن شيخه ذلك من غير مخالفة له، ونقله الماوردي عن ابن سريج وابن خيران، ونقله في "شرح المهذب" عن البندنيجي ونقله ابن الرفعة عن الماوردي والعراقيين ورأيت في "الإفصاح" لأبي علي الطبري أنه ظاهر نص الشافعى، قال: وهو الأشبه، وصحح الرافعي في "الشرح الصغير" ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

والنووي في "أصل الروضة" المنع استنادًا لما في "الكبير" من النقل عن هذين، وقد ذكر الرافعي فرعين يشكلان على المنع ويوافقان الذاهب إلى الجواز: أحدهما: في أخر صفة الصلاة، والثاني: في صلاة المسافر في الكلام على جمع التأخير، وستعرفهما في موضعهما إن شاء الله تعالى. قوله: ولو شرع فيها وبقى من الوقت ما يسع الجميع لكن مدها بطول القراءة حتى خرج الوقت لم يأثم ولا يكره له أيضًا في أظهر الوجهين. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكر في الكلام على المغرب ما يخالفه المذكور هنا، وقد سبق إيضاحه فراجعه. الثاني: أن الرافعي وغيره قد أطلقوا هذه المسألة ولم يقيدوها بما إذا صلى ركعة في الوقت، فهل الإطلاق محمول على هذا التقييد لأنهم قد قرروا أن الصلاة لا تكون أداءًا إلا بفعل ركعة في الوقت أو الحكم كما أطلقوه؛ لأن الحمل الذي جعلوها فيه قضاء بفعل ما دون الركعة إنما هو عند ضيق الوقت، وأما مسألتنا فالوقت يسعها فقد يقال بجوازه كما جوزنا إخراج بعضها ههنا لأجل عدم التقصير وإن لم نجوز التأخير حتى يضيق الوقت والمتجه الأول وهو اشتراط الركعة. الثالث: أنا وإن قلنا: إن التطويل إلى خروج الوقت لا يكره فهو خلاف الأولى كذا قاله في "شرح المهذب" وغيره.

الرابع: أن بعض الأصحاب قد ذهب إلى تحريم ذلك وقد ذكره النووي في "الروضة" مستدركًا به على الرافعي في زعمه بأنه لما اختصر كلام الرافعي لم يطلع على الخلاف فتوهم إن المسألة مقطوع بها فصرح بذلك فقال: لم يأثم قطعا هذا لفظه ثم ظفر بعد ذلك بالخلاف فالحقه مستدركًا به عليه من "زياداته" فتفطن لذلك واعلم بأنه من سوء تصرفه. قال القاضي حسين: وهذا الخلاف مبني على أن هذه الأوقات وقت للدخول والخروج أو للدخول فقط، ورأيت في "المتعمد" شيئًا غريبًا وهو حكاية الخلاف في المد في استحبابه لا في جوازه ولا في كراهته. ورأيت في "الإحياء" للغزالي طريقة غريبة عكس ذلك هي الجزم بأن مد الصلاة إلى ما بعد أول الوقت وهو وقت الفضيلة خلاف الأفضل. قوله: والصلاة أول الوقت أفضل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" (¬1) وبم تحصل فضيلة الأولوية؟ حكى الإمام فيه ثلاثة أوجه أقربها عنده أنها تحصل بأن يشتغل بأسباب الصلاة كالطهارة والأذان كما دخل الوقت فإنه لا يعد حينئذ متوانيًا ولا مقصرًا. والثاني: يبقى وقت الفضيلة إلى نصف الوقت لأن معظم الوقت باق ما لم يحضر النصف وإلى هذا مال الشيخ أبو حامد واعتبر نصف وقت الاختيار. والثالث: لا تحصل الفضيلة إلا إذا قدم ما يمكن تقديمه من الأسباب لتنطبق الصلاة على أول الوقت وعلى هذا قيل: لا ينال المتيمم فضيلة الأولية، وقال الشيخ أبو محمد: لابد من تقديم ستر العورة لأنه لا يختص بالصلاة. انتهى كلامه. فيه أمور: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2630)، ومسلم (85) بلفظ: "الصلاة لوقتها" من حديث ابن مسعود.

أحدهما: أن ما ذكره -رحمه الله- في المتيمم تفريعًا على الثالث غير منتظم؛ لأن الشرط في هذا الوجه على ما ذكره إنما هو تقديم ما يمكن تقديمه والتيمم لا يمكن تقديمه على الوقت فكيف يصح نفي الفضيلة معه تفريعًا على الوجه المذكور. واعلم أن هذا الخلل إنما وقع من تعبير الرافعي فتابعه عليه في "الروضة" لا من الإمام، فإن الإمام إنما فرعه على اشتراط انطباق الصلاة بأول الوقت ولم يشترط فيه عدم إمكان التقديم فقال: واعلم أن قول هذا القائل لتنطبق الصلاة يظهر أن يكون المراد به الصلاة المأمور بها في ذلك الوقت فرضًا كانت أو سنة حتى لا يصير الاشتغال بالسنة الراتبة المتقدمة. الثاني: أن المتيمم قد ينال الفضيلة وذلك إذا جوزنا صلاة الوقت بالتيمم للفائتة. الثالث: أن ما ذكره الشيخ أبو محمد في تعليل ستر العورة لا يأتي في الحرة إلا فيما بين السرة والركبة خاصة؛ لأنه الذي يجب سترة منها في الخلوة كما سنوضحه في موضعه. الرابع: أن هذا الوجه الذي رجحه الإمام قد رجحه الرافعي في الشرح الصغير وعبر بالأقرب كما عبر الإمام، وصححه النووي في "شرح المهذب" والتحقيق وفي أصل الروضة أيضًا. الخامس: أن ما ذكره الرافعي من جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت ليس على إطلاقه بل الأصح على ما قاله في "شرح المهذب": أنه يشترط فيه وفي كل واجب موسع أن يعزم على الفعل في أثناء الوقت. السادس: أن الكاف في قول الرافعي: كما دخل الوقت بمعنى عند وهي عجمية، والحديث المذكور رواه [الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان

في صحيحهما وقال الحاكم] (¬1) والبيهقي في "الخلافيات": إنه على شرط الشيخين، ولفظ الصحيحين: الصلاة لوقتها. قوله: أما الظهر فظاهر المذهب أنه يستحب فيها الإبراد، فإن شدة الحر من فيح جهنم، ومن الأصحاب من قال الإبراد رخصة فلو تحمل المشقة وصلى في أول الوقت فهو أفضل. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الذهاب إلى الرخصة وجهًا وزاد عليه فقال: إنه شاذ، وليس كذلك فقد نص عليه الشافعي في "البويطي"، ونقل ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" أن الشيخ أبا علي السنجي قال: إنه الصحيح، والحديث المذكور رواه الشيخان من رواية أبي هريرة. وفيح بفاء مفتوحة وياء ساكنة بنقطتين من تحت وبالحاء المهملة والمراد به هنا غليان جهنم وانتشار لهبها ووهجها نعوذ بالله تعالى منها. ويفهم من كلام الرافعي أنه لا يستحب الإبراد بالأذان وقد نقله في المطلب عن بعضهم وأنه حمل حديث أبي ذر في تأخير الأذان على الإقامة، وسيأتي [ذكره] (¬2). قوله: والإبراد المحبوب أن يؤخر إقامة الجماعة عن أول الوقت في المسجد الذي يأتيه الناس من بعد ما يقع للحيطان ظل يمشي فيه الساعون إلى الجماعة فلو قربت منازلهم أو حضر جمع في مسجد لا يأتيهم غيرهم فلا إبراد أيضًا وفيه قول، ولو كان يمشي في ظل أو يصلي منفردًا في بيته فلا إبراد أيضًا وفيه وجه. انتهى. ذكر في "الروضة" أيضًا وفيه أمور: ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ، ب.

أحدها: أن تعبيره بالمسجد جرى فيه على الغالب وإلا فالأوجه إلحاق المدارس والربط وسائر أمكنة الجماعة بذلك، ويدل عليه ما رواه البخارى عن أبي ذر أن مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يؤذن وكان في سفر فقال له: أبرد قال: حتى ساوى الظل التلول (¬1). وفي "صحيح أبي عوانة": أن بلالًا أراد أن يؤذن. وفي آخر الحديث: ثم أمره وأقام، ونقل البيهقي عن رواية غندر أنه أمره بذلك بعد التأذين. الأمر الثاني: إنه وقع في "المنهاج" حكاية الخلاف فيمن قربت منازلهم وفي جمع لا يأتيهم غيرهم وجهين والمعروف أنه قولان كما وقع هنا. الثالث: إن تقييده بقوله لا يأتيهم غيرهم. يقتضي أن المقيمين في المسجد كالمقيمين الآن في المسجد الحرام بمكة والحاضرين فيه في أول الوقت اتفاقًا يستحب لهم الإبراد تبعًا لغيرهم وهو واضح لا شك فيه، وكلام الشافعي أيضًا يدل عليه، ويؤيده أن بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في المسجد وكان يبرد بالناس وفيهم أهل الصفة المقيمون في المسجد. نعم: سبق في التيمم أن المنفرد الراجي للجماعة في أثناء الوقت يستحب أن يصلي أيضًا منفردًا ثم يأتي بها مع الجماعة، وقياسه هنا كذلك إلا أن ذلك لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الأمر الرابع: لم يستثن المصنف من استحباب تعجيل الصلاة إلا ما تقدم مع أنه يستثني أيضًا المسافر فإنه يستحب له إذا كان سائرًا في وقت الأولى أن يؤخرها إلى وقت الثانية، وكذلك الواقف بعرفة فإنه يستحب له تأخير المغرب ليجمعها مع العشاء بمزدلفة وإن كان وقت وجوبها نازلًا, وكذلك المقيم بمنى للرمي يستحب له تأخير الظهر عنه كما تعرفه في الحج ومن يدافعه الحدث أو يحضره طعام يتوقف إليه وغيره مما يأتي في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (603).

الجماعة أو غيرها والمنفرد إذا تحقق الجماعة أو رجاها على ما سبق في التيمم. [قوله: في "الروضة" ويختص استحباب الإبراد بالبلاد الحارة على الأصح المنصوص. انتهى. واعلم أن مقابل الأصح أنه يتعدى إلى المعتدلة خاصة لا إليها وإلى الباردة هذا هو الذي اقتضاه كلام الرافعي فاعلمه] (¬1). قوله: وأما الصبح فيستحب فيها التعجيل أيضًا لما روى عن عائشة قالت: كان النساء ينصرفن من صلاة الصبح مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن متعلقات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (¬2). انتهى. يقال: لفع رأسه تلفيعًا أى غطاه وتلفعت المرأة بمرطها أى تلفحت به، واللفاع: ما يتلفع به، قاله الجوهري. قال: والمرط بكسر الميم واحد المروط وهي أكسية من صوف أو خز والحديث المذكور رواه الشيخان. قوله: ولو أخبر عدل عن دخول الوقت بالمشاهدة اعتمد البصير والأعمى، فإن أخبر عن اجتهاد لم يقلده البصير والقادر على الاجتهاد، ويجوز للأعمى تقليده في أصح الوجهين وحينئذ فيخير بينه وبين الاجتهاد. والمؤذن العالم بالمواقيت في الصحو كالمخبر عن مشاهدة وفي القيم كالمجتهد فلا يقلده البصير وفي الأعمى الوجهان، وحكى في "التهذيب" وجهين في تقليد المؤذن من غير فرق بين الأعمى والبصير وقال: الأصح الجواز واحتج عليه بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤذنون أمناء الناس على صلواتهم"؛ ويحكى أن ابن سريج ذهب إليه، والتفضيل المتقدم أقرب وهو اختيار ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه البخاري (553)، ومسلم (645).

الروياني وغيره. انتهى ملخصًا. واعلم أن الشافعي -رحمه الله- قد نص على المسألة وأجاب بالجواز مطلقًا والغريب أن صاحب "التهذيب" قد ذكره من جملة ما ذكر ونقله عنه النووي في "الروضة" وغيره فقال: قلت: الأصح ما صححه صاحب التهذيب، وقد نقله عن نص الشافعي - رضي الله عنه - وبه قال الشيخ أبو حامد وصححه البندنيجي وصاحب "العدة" وغيرهم والله أعلم. والحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف. قوله: وإذا لزم الاجتهاد وصلى من غير اجتهاد لزمه الإعادة وإن وقعت صلاته في الوقت. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه لا فرق في وجوب الإعادة بين أن يظن دخول الوقت أم لا وهو كذلك كما نقله النووي في "شرح المهذب" عن "التتمة" وأقره وما جزم به الرافعي من وجوب الإعادة قد ادعى في "شرح المهذب" أنه لا خلاف فيه وليس كذلك فقد حكي العبادي في "الطبقات" عن أبي سهل الصعلوكي أنه لا تجب. قوله من "زياداته": ولو علم المنجم دخول الوقت بالحساب، حكى صاحب "البيان" أن المذهب: أنه يعمل به بنفسه ولا يعمل به غيره. انتهى. ذكر مثله أيضًا في "شرح المهذب" وفيه أمران: أحدهما: أن الصحيح ما قاله صاحب "البيان" كذا صححه في التحقيق أعني النووي وعبر بالمذهب أيضًا. الأمر الثاني: إذا علم المنجم أو الحاسب دخول رمضان فالصحيح أنه يجوز له العمل به دون غيره ولكن لا يجب عليه أيضًا، كذا صححه

النووي في "شرح المهذب" ولم يصحح الرافعي شيئًا، وحينئذ فالقياس أن يكون هذا التفضيل المذكور هنا إنما هو أيضًا في الجواز فقط لا في الوجوب حتى لو فرضنا ذلك في المغرب مثلا لم يلزمه المبادرة، ولو فرضناه في الصبح جاز له أن يصليها ولا يمتنع عليه الطعام لو كان صائما؛ لأنه لا يلزمه الأخذ فاعلم ذلك على ما فيه من الإشكال وستكون لنا عودة في الصوم إلى المسألة. إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني: في وقت المعذورين

الفصل الثاني: في وقت المعذورين ونعني بالعذر ما يسقط القضاء كالجنون والصبي والحيض والكفر ولها ثلاثة أحوال. الأول: أن تكون موجودة في أول الوقت ولكن -تزول في آخره فإذا زال ذلك وقد بقى من الوقت مقدار ركعة وكذا دونها على أصح القولين لزمه فرض الوقت ثم قال: والمعتبر في الركعة أخف ما يقدر عليه أحد وإنما يلزم فرض بإدراك قدر الركعة بشرط وهو أن تمتد السلامة عن الموانع قدر إمكان فعل الطهارة وتلك الصلاة، أما لو عاد مانع قبل ذلك فلا. مثال: إذا بلغ الصبي في آخر وقت العصر ثم جن أو أفاق المجنون ثم عاد جنونه، فإن مضى في حال السلامة قدر ما يسع أربع ركعات بعد الطهارة لزمته العصر وإلا فلا. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من الرجوع في هذه الركعة إلى أخف ما يقدر عليه [أحد مشكل خارج عن القواعد بل القواعد تقتضي الرجوع إلى أخف ما يقدر عليه] (¬1) الغالب أو صاحب الواقعة أو إلى الوسط بين ذلك كما سبق في المغرب. الثاني: أنه ساكت عن السترة، والقياس اعتبارها أيضًا بل لو قيل باعتبار من الاجتهاد في القبلة لكان متجها لأنها أيضًا من جمله شروط الصلاة وإلا فما الفرق؟ الأمر الثالث: أن التعبير بالطهارة يدخل فيه طهارة الخبث والحدث ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

أصغر كان أو أكبر وهو متجه أيضًا، وقد تقدم في الكلام على وقت المغرب نحوه. الرابع: أن الحكم الذي ذكره في المثال المذكور وهو لزوم العصر بخلو المانع عن مقدار ما يسعها هي والطهارة خاصة عجيب، فإن المغرب لا سبيل إلى عدم إيجابها مع كونه قد أدرك من وقتها ما يسعها، وإذا أوجبنا تعين أى يصرف إليها من الوقت الخالي عن الموانع ما يكفيها لأنها صاحبة الوقت، وما فضل يجعل للعصر ويلزم من ذلك حينئذ عدم وجوبها في مثالنا، لأن الفاضل لا يكفيها؛ فاعلم ذلك فإنه منهم مطرد في سائر الصلوات ولهذا صرح الرافعي في آخر الحال فيما إذا زال العذر في أثناء وقت الثانية وعاد بأنه لابد في وجوب [الصلاتين] (¬1) من زوال المانع مدة تسعهما، ومسألتنا أولى وقد صرح بها البغوي في "التهذيب" يدل عليه أن المريض إذا مات بعد التمكن من صوم البعض لا يلزمه الفدية عن الباقي؛ لأن الأمر بالقضاء شرطه التمكن من القضاء. قوله: في المسألة فإن كانت الصلاة مما تجمع مع قبلها كالعصر والعشاء لزم أيضًا الظهر والمغرب؛ لأن وقت العصر وقت الظهر في حالة العذر ففي حالة الضرورة وهي فوق العذر أولى. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أنه لابد من زوال المانع في زمن يسع الصلاتين لأجل ما تقدم نقله قريبًا عن الرافعي، بل مسألتنا هذه أولى من تلك بالاشتراط؛ لأن الإدراك في الوقت أقوى منه خارج الوقت. الأمر الثاني: أن هذا التعليل يقتضي أن الظهر إذا أدركها في وقت الثانية ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

تكون أداء لا قضاء كما قالوا به في المسافر وهو محتمل والمتجه خلافه. قوله: وهل تعتبر مع الركعة أو دونها أن يدرك من الوقت ما يسع الطهارة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم لأن الصلاة إنما تمكن بعد تقديم الطهارة. وأصحهما: لا؛ لأن الطهارة لا تختص بالوقت ولا تشترط في الإلزام، وإنما تشترط في الصحة، ألا ترى أن الصلاة تجب على المحدث ويعاقب على تركها. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الخلاف قد حكاه الرافعي في الشرح الصغير وجهين على خلاف ما حكاه ههنا وكلاهما صحيح؛ لأن الإمام في النهاية حكاهما قولين ثم قال: وأرى أنهما مخرجان وإذا كانا مخرجين صح التعبير بالوجهن أيضًا؛ لأن القول المخرج في الحقيقة وجه وكذلك صححوا أنه لا ينسب إلى الشافعي. الأمر الثاني: أن هذا التعليل الذي علل به عدم اشتراط إدراك ما يسع الطهارة في الوقت يقتضي أيضًا عدم اشتراطه خارجه وقد تقدم تصحيح خلافه. قوله: الحالة الثانية أن يخلو أول الوقت عن العذر ويوجد في أثنائه كما لو طرأ الحيض أو النفاس أو الجنون أو الإغماء فينظر إن كان الوقت الماضي قدر ما يسع الصلاة استقرت الصلاة وجب القضاء وإلا فلا، والمعتبر أخف ما يمكن الركعتين في ظهر المسافر ثم قال: ولا يعتبر مع إمكان فعل الصلاة زمان إمكان الطهارة من الوقت؛ لأن الطهارة يمكن تقديمها على الوقت، فإن

لم يجز تقديمها كالتيمم وطهارة المستحاضة فلابد من زمن لها أيضًا ولإخلاء وسط الوقت عن العذر ثم عاد كان كأوله. انتهى كلامه. والتمثيل في آخر كلامه بالتيمم وطهارة المستحاضة قد يوهم اختصاص ذلك بمن فيه مانع من رفع الحدث، ولا شك أن الحيض والنفاس والإغماء ونحوهما لا يمكن معها فعل الطهارة، وحينئذ فإذا طهرت الحائض مثلًا في أخر الوقت ثم جنب بعد إدراك [فعل] (¬1) الصلاة خاصة فينبغي عدم الوجوب؛ لأن الزمن المتقدم على المقدار الذي أدركته وهو زمن الحيض لا يمكن فيه فعل الطهارة. قوله: وقال البلخي: حكم أول الوقت حكم آخره فيجب القضاء بإدراك ركعة أو تكبيره، ثم قال بعد ذلك بقليل: والعصر لا يلزم بإدراك وقت الظهر ولا العشاء بإدراك وقت المغرب خلافا للبلخي حيث قال: إذا أدرك من وقت الظهر ثماني ركعات ثم طرأ العذر لزمه الظهر والعصر جميعًا كما تلزمه الأولى بإدراك الثانية. انتهي. تابعه في "الروضة" على هذا النقل عن البلخي مع أن اشتراط الثمانية في إيجاب الصلاتين لا يستقيم مع ما تقدم عنه من إيجاب الصلاة بإدراك بعضها لأنه إذا اكتفي بالبعض فلا يشترط أربع في مقابلة الظهر، وقد ذكره على الصواب جماعة منهم الماوردي فقال ما حاصله: إن البلخي يجعل إدراك الركعة في أول وقت الظهر كإدراكها في آخر وقت العصر حتى يجب عليه بسببها الظهر وفي العصر القولان، وذكر الإمام نحوه أيضًا فقال قبيل باب صفة الأذان: وذهب أبو يحيى البلخي من أئمتنا إلى أن القول في إدراك أول الوقت في رعاية التكبير على قول الركعة على آخر، والنظر في ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

إدراك صلاة العصر بإدراك وقت الظهر كالقول في إدراك الظهر في آخر العصر هذا كلام الإمام على أن جماعة قد ذكروا ما ذكروا الرافعي ثانيًا تجمع الرافعي بين المقالتين وهو لا فوقع فيما وقع. قوله: ويؤمر الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ويضرب على تركها إذا بلغ عشرًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬1)، قال الأئمة: فيجب على الأباء والأمهات تعليم الأولاد الطهارة والصلاة والشرائع بعد السبع والضرب على تركها بعد العشر، وذكروا في اختصاص الضرب العشر معنيين: أحدهما: أنه زمان احتمال البلوغ بالإحتلام فربما بلغ. والثاني: أنه حينئذ يقوى ويحتمل الضرب. وأجره تعليم الفرائض في مال الطفل، فإن لم يكن له مال فعلى الأب فإن لم يكن فعلى الأم، وهل يجوز أن يعطي الأجرة من مال الطفل على تعليم سورة الفاتحة والفرائض من القرآن والأدب؟ فيه وجهان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه ليس في كلامه بيان لمن يتعاطى ذلك فنبينه إن شاء الله تعالى فنقول: إن لم يحتج ذلك إلى بذل مال فالمتجه وجوبه على من هو في حضانته إن كان الولد أنثى، فإن كان ذكرًا والأب موجود فيجب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (495)، وأحمد (6689) و (6756)، والحاكم (708) والدارقطني (1/ 230) وابن أبي شيبة (1/ 304)، والبيهقي في "الشعب" (8650) وفي "الكبرى" (3050)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 26)، وابن أبي الدنيا في "العيال" (297) والخطيب في "التاريخ" (2/ 278)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 60) والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 167) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال الألباني: حسن صحيح.

عليه؛ لأن الولد يقيم عنده نهارًا بخلاف البنت وإن احتاج إلى بذل مال فالولي يتعاطاه مطلقًا إن وجب في مال الولد، فإن وجب في مال الأب ولم يكن وليًا فالمتجه عدم صحة الاستئجار منه، وإن وجب في مال الأم ولم تكن وصية فالمتجه صحة الاستئجار منها. وفي وجوبه نظر. ويحتمل أن يقال: إن كان الأب موجودًا بصفة الولاية لمحهو الذي يتعاطاه. الأمر الثاني: أن الوجوب ليس قاصرًا على الآباء والأمهات، بل يجب كما قاله في "شرح المهذب" على الولي سواء كان أبًا أو جدًا أو وصيًا أو قيمًا من جهة الحاكم. قلت: والملتقط ومالك الرقيق في معنى الأب وكذلك المودع والمستعير ونحوهما فيما يظهر. قال الطبري في شرح التنبيه: ولا يقتصر في الأمر على مجرد صيغته، بل لابد معه من التهديد. الأمر الثالث: المراد بالشرائع ما كان في معنى الطهارة والصلاة وذلك كالصوم ونحوه؛ لأنه المضروب على تركه. الأمر الرابع: أن تعبيره ظاهر في اشتراط كمال السبع والعشر، وقد صرح به الشيخ نصر في المقصود وصرح به غيره أيضًا ولكن قياس المعنى الأول من معنى الضرب أن يكون دائرًا مع إمكان البلوغ، وقد صرح به الماوردي، وحينئذ فيضرب باستكمال تسع إذا قلنا أن إمكان البلوغ يدخل به، وهو الصحيح فتفطن لذلك واعلمه. ولهذا قال الطبري في "شرح التنبيه": هل يعتبر في أمره وضربه استكمال السابعة والعاشرة؟ فيه وجهان.

ففي "شرح الكفاية" للصيمري أنه لو ضربه قبل العشر المرة المرتين ليعتاد كان أحوط. الأمر الخامس: لا شك أن التمييز لابد منه فى الأمر والضرب، وتركه الرافعي لوضوحه لكن مقتضى عبارته أن السبع لابد منها وإن وجد التمييز قبلها، وقد صرح في "شرح المهذب" بما يدل عليه، وادعى في الكفاية أنه المشهور، وحكى معه وجهًا أنه يكفي التمييز وحده كما في المختصر الأبوين وبه جزم في "الإقليد". الأمر السادس: أن الشافعي -رحمه الله- قد نص في المختصر على أن التعليم والضرب عليه يشرعان بمجرد التمييز كما هو المعهود والآن من المعلمين للأطفال فقال: وعلى الأباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم ويعلموهم الطهارة والصلاة ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا هذه عبارته فاعلم ذلك. وحينئذ فيكون الضمير في قول الرافعي والضرب على تركها يعود إلى الشرائع خاصة، وهو ظاهر عند التأمل. الأمر السابع: اختلف عبارات الأصحاب في ضبط التمييز وأحسن ما قيل فيه أن يصير الطفل بحيث يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده، وروى أبو داود أنه -عليه الصلاة والسلام- سئل متى يؤمر الصبي بالصلاة فقال: إذا عرف يمينه من شماله (¬1) ثم قال: إنه عن رجل غير معين عن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (497)، والطبراني في "الأوسط" (3019) و"الصغير" (274) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2565)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 89) من حديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن أبيه. قال الشيخ الألباني: ضعيف.

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الأمر الثامن: أن عبارة الرافعي تقتضي أنه لا فرق في أمر الصبي بالصلاة بين أن يكون أداء أو قضاء، وهو كذلك صرح به الشيخ عز الدين في باب اللعان من "مختصر النهاية" قال: إلا أنه إذا بلغ لم يؤمر بها. التاسع: أن الأصح من الوجهين في إعطاء الأجرة على ما زاد على الفرائض هو الجواز كذا صححه النووي في التحقيق "وشرح المهذب" و"زيادات الروضة". العاشر: الحديث المذكور رواه بهذا اللفظ أبو داود بإسناد حسن، وروى نحوه الترمذي وقال: إنه حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن خزيمة وكذا الحاكم والبيهقي وقالا: إنه على شرط مسلم. قوله: فرعان: أحدهما: لو ارتد ثم جن قضى أيام الجنون وما قبلها إذا أفاق وأسلم تغليظًا على المرتد ولو سكر ثم جن قضى بعد الإفاقة صلوات المدة التى ينتهي إليها السكر لا محالة، وهل يقضي صلوات أيام الجنون؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن السكران يغلظ عليه أمر الصلاة كما يغلظ على المرتد وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يقضي صلوات أيام الجنون، والفرق أن من جن في ردته في جنونه حكمًا، ومن جن في سكره ليس بسكران في دوام جنونه قطعًا. انتهى كلامه. وقد استفدنا مما قاله في السكران أنه لا خلاف في وجوب قضاء مدة السكر المقارنة للجنون وغيرها وأن الخلاف في مدة الجنون التي لم تقارن السكر، واستفدنا من كلامه أيضًا أن الوجوب على المرتد المجنون أولى من السكران المجنون وهو أصح.

وحينئذ فيلزم من دعواه عدم الخلاف في مدة الجنون المقارنة للسكر عدم الخلاف ليس كذلك، بل اختلف الأصحاب في زمن الردة المقارنة للجنون هل يجب قضاء ما فات فيها أم لا؟ على وجهين: وحينئذ فليزم جريان عدم الوجوب مدة السكر المقارنة للجنون بطريق الأولى. وهذا الخلاف قد صرح به الإمام في آخر سجود السهو، وذكره الرافعي في نظير المسألة من الصوم وهو ما إذا ارتدت ثم حاضت. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" و"التحقيق" وغيرهما قد وافق الرافعي على وجوب قضاء زمن الجنون المقارن للسكر، وصرح في "شرح المهذب" بما يخالفه فقال: فرع: لو سكر ثم جن ثم أفاق وجب قضاء المدة التي قبل الجنون، وفي مدة الجنون وجهان مشهوران الأصح لا يجب؛ لأنه ليس بسكران في مدة الجنون بخلاف الردة هذه عبارته، وهي تدل على ما قلناه، وإن كان التعليل قاصرًا موهمًا لخلافه والمذكور في "الكفاية" كما في الرافعي، وهو الصواب المعروف، ولا يلتفت لما وقع في "شرح المهذب" فإنه سهو أو تحريف في التعبير أو مؤول ويدل عليه التعليل وقد صرح أيضًا في الشرح المذكور بالاتفاق على أن الفائت في زمن جنون المرتد يجب قضاؤه، وكلاهما مردود أما الأول قلما عرفت، وأما الثاني ففيه وجهان أيضًا رأيتهما في كتاب "الاستذكار" للدارمى، فقال: وإن حاضت في ردتها فوجهان، هذه عبارته.

الفصل الثالث: في الأوقات المكروهة

الفصل الثالث: في الأوقات المكروهة قوله: الأوقات المكروهة خمسة، وقتان يتعلق النهي فيهما بالفعل وهما: بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، وثلاثة بالزمان وهي: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وعند الاستواء حتى يزول الاصفرار حتى يتم غروبها. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن المراد بحصر الكراهة في الخمس إنما هو بالنسبة إلى الأوقات الأصلية فستأتي كراهة التنفل وقت إقامة الصلاة، ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة، واعلم أن الرافعي في "المحرر" قد عد أيضًا أوقات الكراهة خمسة، وأهمل في "المنهاج" تبعًا لبعضهم وقتين وهما حالة الطلوع والغروب لتوهمهم اندراجهم تحت قولهم بعد الصبح حتى ترتفع الشمس كرمح وبعض العصر حتى تغرب، وليس كذلك فإنه إنما يتناول من صلى الصبح والعصر والكراهة في ذينك الوقتين وهما حالة الطلوع والغروب يعم من صلى ومن لم يصلى عاصيًا بالترك كان أو غير عاصٍ، حتى إذا تنفل الصبى والتارك بلا عذر في هذين الوقتين لم تنعقد صلاتهما، وكذلك من زال عذره عند طلوع الشمس مثلًا كحائض طهرت وناسٍ تذكر، وحينئذ فالكراهة لها سببان في حق من صلى وسبب واحد في حق من لم يصل. الأمر الثاني: أن ما ذكره بعد الصبح والعصر متعلقه بالفعل ليس كذلك بل به وبالوقت معًا؛ لأنه لو صلاهما قضاء في وقت آخر لم يكره النفل بعدهما وإنما يكره ذلك إذا أوقعهما في وقتهما.

الثالث: أن عبارة الرافعي تدخل فيها ما إذا جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم لغرض ما من سفرًا ومطرًا ومرض حتى يكره له التنفل في وقت الظهر؛ لأنه يصح أن يقال: تنفل بعد صلاة العصر أداء والأمر كذلك وقد صرح البندنيجي في باب صلاة المسافر من تعليقه نقلًا عن الشافعي والأصحاب، ونقله عنه ابن الرفعة في الباب المذكور أيضًا في الكلام على شروط الجمع وهي مسألة حسنة غريبة وحكمها متجه ورأيت في فتاوي العماد بن يونس الموصلي أنه لا يكره قال: لأنه لو نسى الصبح أو العصر وصلاه لا يكره وإن كان وقتها، والذي قاله مردود بما ذكرناه مجموع بنص الشافعي والاستشهاد الذي استدل به ليس نظير ما نحن فيه على أنه قد تابعه بعض المتأخرين ممن شرح الوسيط ذهولًا عما تقدم وهذا القائل هل يقول بالكراهة بمجرد دخول وقت العصر أم لابد من مضى زمان يسع فعلها؟ فيه نظر، وقوله: قيد رمح هو بكسر القاف أي قدر وقاد لغة فيه، وقاس وقيس بالسين مثله أيضًا. قوله: ولا يكره في هذه الأوقات صلاة لها سبب متقدم أو مقارن فمنها صلاة التحية فإنها لا تكره خلافًا لأبي عبد الله الزبيرى، ثم قال فلو دخل في هذه الأوقات لا لحاجة بل ليصلي التحية فوجهان أقيسهما أنها تكره كما لو أخر الفائتة ليقضيها في هذه الأوقات. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المكروه في حق مؤخر الفائتة الذي قاس عليه هذه المسألة إنما هو التأخير ولا يصح القول بكراهة الفعل فإنه إما واجب أو مستحب وحينئذ فيكون المكروه في حق الداخل إنما هو الدخول لذلك الغرض، وأما الصلاة نفسها فلا تكره بعد الدخول وهو متجه على أن الإمام قد جزم في تأخير الفائتة بعكس ما ذكره الرافعي.

الأمر الثاني: من جملة الأسباب المقتضية لعدم الكراهة إعادة الصلاة حيث شرعت بصلاة المنفرد والمتيمم ونحوها ولم يدخل في التعبير بالقضاء فتفطن له. قوله: ومنها صلاة الاستسقاء وفيها وجهان: أحدهما: تكره وهو الذي ذكره صاحب "التهذيب" وآخرون. وأظهرهما: أنها لا تكره. انتهى ملخصًا. وما ذكره من تصحيح عدم الكراهة قد تابعه عليه النووي في هذا الباب من الروضة و"شرح المهذب" وغيرهما من كتبه ثم صحح في "شرح المهذب" أيضًا في باب الاستسقاء أنها تكره، ولما صححه هناك ذكر أن هذا التصحيح قد تقدم في موضعه وهو غريب فإنه إنما قدم العكس كما ذكرته لك وهو يشعر بأنه إنما حصل عن سهو، ولهذا نقل الإمام والغزالي في البسيط عن الأكثرين عدم الكراهة فتكون الفتوى عليه. قوله: وروى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى قيس بن قهد يصلي ركعتين بعد الصبح فقال: "ما هاتان الركعتان" فقال: إنى لم أكن صليت ركعتي الفجر فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولم ينكر عليه (¬1). انتهى. ¬

_ (¬1) قال الحافظ: رواه أبو داود من حديث بن نمير عن سعد به لكن قال: عن قيس بن عمرو قال رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال: "أصلاة الصبح أربعا" ورواه الترمذي من طريق عبد العزيز بن محمد عن سعد بلفظ فقال: "أصلاتان معا" وقال: غريب لا يعرف إلا من حديث سعد، وقال: ابن عيينة سمعه عطاء بن أبي رباح من سعد قال: وليس إسناده بمتصل لم يسمع محمد بن إبراهيم من قيس، وقال أبو داود: روى عبد ربه بن سعيد ويحيى بن سعيد هذا الحديث مرسلا أن جدهم صلى، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. والحاكم من طريق الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس بن فهد أنه جاء والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر فصلى معه فلما سلم قام فصلي ركعتي الفجر فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لم أكن صليتهما قبل الفجر، فسكت. فائدة: ذكر العسكري أن قهدًا لقب عمرو والد قيس وبهذا يجمع الخلاف في اسم أبيه فقد بينا أن بعضهم قال قيس بن قهد وبعضهم قيس بن عمرو، وأما ابن السكن فجعله في الصحابة اثنين.

قهد بالقاف وسكون الهاء وبالدال المهملة، وهو في اللغة الأبيض الأكدر قاله الجوهري. وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وإسناده ضعيف، قال الترمذي: الأصح أنه مرسل، وروى عن قيس بن قهد كما ذكره في الكتاب والأكثرون قيس بن عمرو وهو الصحيح عند جمهور أئمة الحديث كما قاله في "شرح المهذب". قوله: ولا تكره الصلاة يوم الجمعة في وقت الاستواء وقيل في جميع اليوم وقد روى: إن جهنم لا تسجر يوم الجمعة (¬1) انتهى. هو بالسين المهملة والجيم ومعناه توقد، قال الجوهري: سجرِت التنور أسجره سجرًا إذا حميته ومنه قوله تعالى {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (¬2) والحديث المشار إليه رواه أبو داود عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم عن أبي قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: "إن جهنم لا تسجر يوم الجمعة"، قال أبو داود وهو مرسل فإن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة والمرسل عندنا حجة إذا اعتضد بأحد أمور وقد وجد ههنا كثير منها. قوله: ولا تكره أيضًا في حرم مكة، وقيل في المسجد الحرام خاصة، وقيل تكره مطلقًا ويدل على الاستثناء قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئًا فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهارٍ" (¬3) انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (10836) بسند ضعيف. قال أبو داود: هو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة. وقال الألباني: ضعيف. (¬2) سورة التكوير (6). (¬3) أخرجه أبو داود (1894) والترمذي (868) والنسائي (585) وابن ماجة (1254) وأحمد =

فيه أمران. أحدهما: أن الصلاة وإن كانت لا تكره في الأوقات المكروهة في مكة إلا أن الأولى ألا تفعل، قاله المحاملي في "المقنع". الثاني: أن الحديث لا دلالة فيه أصلًا؛ لأنه ليس فيه تعرض لشرائط الصلاة ولا لبيان أوقاتها ولا لتجويز الصلاة لكل أحد في كل وقت فعدم التعرض إلى وقت الكراهة نظير عدم التعرض إلى الوقت الممتنع في الفرائض والنوافل وإلى الأحوال الممتنعة فيها كالحدث والنجس وغير ذلك وكما لا يدل الحديث على جواز هذه الأمور كذلك لا يدل على جواز فعلها في هذا الوقت والحاصل أن الحديث يدل على نهي بني عبد مناف وعن منع المصلي والطائف ونحن -نعلم ضرورة أن شرط هذا أن تكون الصلاة والطواف جامعين للشرائط المعتبرة- التي قامت الأدلة من خارج على إعتبارها وهذه الأوقات قد تحصل الصلاة فيها لأسباب -والحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان وكذا الحاكم -وقال إنه على شرط مسلم إلا أن روايتهم مخالفة للمذكور هنا في بعض اللفظ- قوله: ومتى ثبتت الكراهة فلا تصح على أظهر الوجهين نذر أن يصلى في هذه -الأوقات، فإن قلنا بإنعقادها صح نذره وإلا فلا، وإذا صح نذره ¬

_ = (16782) والدارمي (1926) وابن حبان (1553) والحاكم (1643) والشافعي (805) والدارقطني (2/ 266) والطبراني في "الكبير" (1600) وأبو يعلى (7396) من حديث جبير بن مطعم. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح. وقال الألباني: صحيح.

فالأولى أن يصلي- في وقت آخر كمن نذر أن يضحي بشاة فذبحها بسكين مغصوبة يصح نذره ويذبحها بغير مغصوب. انتهى كلامه ملخصًا. تابعه عليه في الروضة والكلام عليه موقوف على تقديم شيئين. أحدهما: أن تصحيحه هنا عدم الانعقاد موافق لما سيأتي من كون الكراهة كراهة تحريم على الصحيح، وحينئذ فيكون الخلاف في الصحة مفرعًا على الخلاف في التحريم ولا يمكن أن يكون تفريعًا على القول بالتحريم فقط؛ لأنه لو كان كذلك لوجوب فعله في وقت آخر على القول بالصحة، وقد سبق أنه لا يجب وإنما هو أولى، ولا تفريعًا على القول بكراهة التنزيه لاستحالة البطلان مع ذلك الإبطال يقتضي تحريم الإقدام عليه كما سنوضحه في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى. الثاني: ستعرف إن شاء الله تعالى في كتاب النذر أنه إذا نذر صلاة في وقت معين وجب فعلها فيه على الصحيح. إذا تقرر ذلك فنعود إلى مسألتنا فنقول: إذا صح النذر تفريعًا على كونه لا تحريم فلم لا يجب فعله في ذلك الوقت وفاء بالقاعدة، ولم جوزنا العدول عنه حتى جعلناه أولى، وقياس ذلك السكين المغصوب لا يصح لاتفاقهم على عدم تعيين الآلة؛ لأنها لو كانت ملكًا لم يجب الذبح بها، فإن قيل إنما ألغينا التقييد بذلك الوقت لكونه مكروهًا قلنا: الكراهة لا تنفي الصحة، وأيضًا فكان يلزم القول بالإلغاء أيضًا على القول بتحريمه وعدم صحته، بل المتجه القول بصحة النذور وإيجاب الفعل في ذلك الوقت؛ لأنه إذا فعله في الوقت المكروه مع تقدم النذر يكون قد صلى صلاة لها سبب متقدم، وهو النذر وما كان كذلك لا كراهة فيه حتى يقال: هل هي كراهة تنزيه أم تحريم. ونظير هذه المسألة ما إذا نذر صوم يوم الشك وسيأتيك إن شاء الله تعالى

في الصيام على نوع آخر من الإشكال، وما ذكرناه جميعه محله ما إذا كان الجار والمجرور في كلام الرافعي أعني في هذه الأوقات متعلقًا بـ "يصلى" كما هو مقتضى تعبيره، أما إذا تعلق بنذر أى نذر في هذه الأوقات أن يصلي فلا إشكال في الصحة وفي جواز تأخيره إلى أى وقت أراد؛ لأنه لم يعلقه بوقت معين. قوله في "زياداته": وكراهة الصلاة في هذه الأوقات حيث أثبتناه كراهة تحريم على الأصح. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه قد صحح أيضًا التحريم في هذا الباب من "شرح المهذب" و"شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" ثم صحح في هذا الباب من التحقيق أنها مكروهة كراهة تنزيه فقال ما نصه: كراهة تنزيه، وقيل: تحريم. انتهى. وبه جزم في أوائل "شرح المهذب" في الكلام على الماء المشمس، وجزم به أيضًا هناك في كتابه المسمى بالاشارات الذي هو على "الروضة" "كالدقائق" على "المنهاج" وهو مقتضى كلامه في المنهاج و"مهمات الأحكام" فإنه حكم فيهما بكراهتها، واقتصر عليه ولفظ الكراهة متى أطلق كان المراد به كراهة التنزيه. والذي عليه الفتوى هو: التحريم، فقد نص عليه الشافعي في "الرسالة" في باب اليمين عن معنى يشبه الذي قبله، ورأيت في شرح رسالة الشافعي لأبي الوليد النيسابوري أحد أصحاب ابن سريج إطلاق نقل ذلك عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: إذا صلى في الأوقات المنهي عنها عزر. الأمر الثاني: أن الشيخ محى الدين لما ذكر في "شرح المهذب" والإشارات والتحقيق أنها مكروهة كراهة تنزيه صرح مع ذلك في هذه

المواضع من هذه الكتب بأن الأصح عدم انعقادها، وصرح به أيضًا في شرح "الوسيط" فقال: الأصح عدم انعقادها. وإن قلنا إنها مكروهة كراهة تنزيه، وهذا عجيب، فكيف يقال: بأن العبادة لا تنعقد ويقال مع ذلك إن فعلها جائز مع أن الإقدام على العبادة التي لا تنعقد حرام اتفاقًا لكونه تلاعبًا. والذي أوقع النووي في هذا هو الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فإني رأيت في "فوائد المهذب" له هذا الكلام بعينه في هذا الموضع بعينه وهو الماء المشمس فقال: والكراهة مانعة من الصحة سواء أكانت تحريمًا أم تنزيهًا؛ لأنها تضاد الأمر كيف ما كانت؛ لأنها للترك والأمر طلب الفعل، هذا لفظه، وهذه النكت قد وصل فيها إلى أواخر الإحداث متصلًا، وعلق على مواضع أخرى مفرقة وفيه فوائد كثيرة وقد أخذ النووي أكثرها بلفظها ووضعها في "شرح المهذب" فقلده في هذا الموضع العجيب، ومما يدل على تقليده إما فيه النسخة التي نقلت منها ذلك في مجموع كان له أعني للشيخ محى الدين فإنه كتب عليه اسمه وقابله وحشاه بخطه في مواضع كثيرة، وذكر أيضًا ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" [هنا نحوه أيضًا، وقلده فيه أيضًا العماد بن السكري في "حواشي الوسيط"] (¬1). الأمر الثالث: إذا قلنا إنها تكره وتنعقد فينبغي ألا يحصل فيها ثواب كما قال القاضي أبو الطيب إن من صام بعد نصف شعبان وغيره من الوقت المنهي عنه وصححناه فإنه لا ثواب فيه كذا نقله ابن الرفعة هناك عنه. وقد نص جماعة على أن الصلاة في الدار المغصوبة تصح ولا ثواب فيها، وقد تكلم فيه الشيخ محى الدين في "شرح المهذب" فقال في باب طهارة البدن والثوب: قال القاضي أبو منصور أحمد بن محمد بن عبد الواحد في "الفتاوى" التي نقلها عن عمه ابن الصباغ صاحب "الشامل": ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ولا ثواب فيها، قال القاضي أبو منصور: ورأيت أصحابنا بخراسان اختلفوا فمنهم من أبطل صلاته قال: وذكر شيخنا يعني ابن الصباغ في كتاب "الكامل" أنه ينبغي حصول الثواب عند من صححها. قال القاضي: وهو القياس. انتهى ما قاله ملخصًا. ومن نظائر المسألة: ما إذا استأجر المغصوب في التطوع، وقلنا: لا يجوز، إن الحج يقع للثابت ولا ثواب له هكذا جزم به الشيخ في "المهذب" والمتولي في "التتمة" والعمراني في "البيان"، وحكاه النووي في "شرح المهذب" عنهم قال: وقال به أيضًا جماعة آخرون ثم قال: والمختار حصوله. ورأيت في [الألغاز] (¬1) للجرجاني في باب الأواني أنه إذا صلى في ثوب حرير أو صلى عليه يسقط به فرضه ولا ثواب. ¬

_ (¬1) في أ، ب: البلغة.

الأذان

الباب الثاني في الأذان وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في بيان الصلاة التي هي محل الأذان قوله: والأذان والإقامة سنتان لأنهما للإعلام والدعاء للصلاة فصار كقوله في العيد: الصلاة جامعة، وقيل إنهما فرضا كفاية لقوله -عليه الصلاة والسلام- "فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم" (¬1)، وقيل فرضا كفاية في الجمعة دون غيرها، فإن قلنا إنهما فرضان فإنما يسقط الحرج بإظهمارهما في البلد والقرية بحيث يعلم جميع أهلها أنه قد أذن فيها لو أصغوا. انتهى. وليس في كلامه تصريح بأن القائل بفرض الكفاية هل يوجبه لكل صلاة من الخمس أم لا؟ وقد نص الفوراني على المسألة فقال: يسقط فرض الكفاية بالأذان لصلاة واحدة في كل يوم وليلة ولا يجب لكل صلاة، وحكى إمام الحرمين هذا عنه ولم يحك غيره، وقال لم أر لأصحابنا إيجابه لكل صلاة قال: ودليله أنه إذا حصل مرة في كل يوم وليلة [لم] (¬2) يندرس الشعار، واقتصر الغزالي في "البسيط" على ما ذكره الفوراني. قال في "شرح المهذب": والصواب وهو ظاهر كلام الجمهور إيجابه لكل صلاة. واعلم أن التعليل الذي ذكره الرافعي لكونه رواه الشيخان من رواية مالك بن الحويرث. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (602)، ومسلم (674) من حديث مالك ابن الحويرث - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من أ.

قوله: فإذا قلنا: الأذان فرض كفاية في الجمعة فقيل: الواجب هو الذي بين يدي الخطيب وقيل: يسقط الوجوب بالأذان المأتي به لصلاة الجمعة، وإن لم يكن بين يدي الخطيب. انتهى كلامه. لم يصح في الروضة ولا في "شرح المهذب" أيضًا شيئًا منهما، وقد نص في "البويطى" في باب الأذان على المسألة فقال ما نصه: قال -يعنى: الشافعي- والنداء الواجب يوم الجمعة وهو يجزئ عن غيره هو النداء الذي يكون والإمام على المنبر يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حتى يجلس الإمام على المنبر. انتهى لفظه، وحاصله أن الشرط فيه كونه بعد خروج الإمام سواء كان بين يديه أم لا. قوله: فالمنفرد في الصحراء أو في المصر هل يؤذن أم لا؟ الجديد أنه يؤذن لما روى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي سعيد الخدري: "إنك رجل تحب البادية والغنم فإذا دخل عليك وقت الصلاة فأذن وارفع صوتك، فإنه لا يسمع صوتك حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد لك يوم القيامة" (¬1). ¬

_ (¬1) قال الحافظ: هذا السياق تبع فيه الغزالي والإمام والقاضي الحسين والماوردي وابن داود شارح المختصر وهو مغاير لما في صحيح البخاري والموطأ وغيرهما من كتب الحديث ففيها عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه قال له: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة" قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذا رواه الشافعي عن مالك وتعقبه الشيخ محيى الدين وبالغ كعادته، وأجاب بن الرفعة عن هؤلاء الأئمة الذين أوردوه مغيرا بأنهم لعلهم فهموا أن قول أبي سعيد هكذا سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائد إلى كل ما ذكره يكون تقديره سمعت كل ما ذكرت لك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحينئذ يصح ما أوردوه باعتبار المعنى لا بصورة اللفظ ولا يخفى ما في هذا الجواب من الكلفة والرافعي أورده دالا على استحباب أذان =

وحكى عن القديم أنه لا يؤذن، وقال بعضهم: إن كان يرجوا حضور جمع أذن وإلا فلا. والجمهور اقتصروا على ذكر المنسوب إلى الجديد ولم يتعرضوا للخلاف. نعم حكى القول القديم في "التتمة" ولكن إذا كان المنفرد يصلي في المصر خاصة ولم يطرده في المنفرد في الصحراء. انتهى ملخصًا. فيه أمور أحدها: أن ما ذكره من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال ذلك لأبي سعيد قلد فيه الغزالي، والغزالي قلد فيه الإمام وهو غلط، كما قاله جماعة منهم النووي في تهذيب الأسماء واللغات وفي غيره أيضًا قال: والصواب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: قال لي أبو سعيد! إنى أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الأمر الثاني: أن النووي -رحمه الله- في "الروضة" قد حكى في المسألة طريقتين. إحداهما: حاكية للخلاف. والثانية وصححها: قاطعة بالجديد. ¬

_ = المنفرد وهو خلاف ما فهمه النسائي والبيهقي فإنهما ترجما عليه الثواب على رفع الصوت كذا قيل وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من الترجمة على بعض مدلولات الحديث أن لا يكون فيه شئ آخر وقد روى النسائي من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله انظروا إلي عبدي". الحديث.

وليس في كلام الرافعي شئ من ذلك وكأنه أخذه من قول الرافعي أن الجمهور لم يذكروا خلافه وهو عجيب، فإنه لا يلزم من عدم ذكرهم إياه نفيهم له، وقد صرح الرافعي في "الشرح الصغير" بخلاف ما توهمه النووي فقال: الأول الجماعة ففي المنفرد قولان، هذا لفظه. فلم يذكر هذه الطريقة بالكلية فضلا عن أن تكون هي الصحيحة، ولو كان كذلك لكان قد ناقص كلامه مناقضة فظيعة فدل على عدم إرادة ذلك، وجزم بالقولين في المحرر والمنهاج وقد أخذ النووي ما تصرف فيه من الروضة فنقله إلى "شرح المهذب". الأمر الثالث: أن إثبات القديم هنا كيف يستقيم مع قول الرافعي بعد هذا، إن الفائتة يؤذن لها في القديم سواء أكان منفردًا أم في جماعة. ثم فرع عليه فقال: إن الأذان على القديم حق الفريضة. ووجه الإشكال أن المنفرد إذا لم يؤذن للحاضرة فكيف يستقيم أن يقال يؤذن للفائتة، والروضة سالمة من هذا الاعتراض إلا أن جزمه في "المنهاج" بذلك مناقض ومعترض عليه بما عليه بما ذكرناه. الرابع: أن ما نقله الرافعي عن "التتمة" من التفصيل بين الصحراء أو غيرها لم يذكره في "الروضة". قوله في المسألة: وهذا إذا لم يبلغ المنفرد أذان المؤذن فأما إذا بلغه فالخلاف مرتب على الخلاف أولى بألا يؤذن كآحاد الجمع، وإن قلنا يؤذن فهل يرفع صوته: نظر إن صلى في مسجد أقيمت فيه جماعة وانصرفوا لم يرفع لئلا يتوهم دخول وقت صلاة أخرى وإلا فوجهان: الأصح: يرفع، والثاني: إن رجا جماعة رفع وإلا فلا. انتهى.

فيه أمور: أحدها: أن تعبيره في المنفرد لا يؤخذ منه تصحيح في أنه يؤذن أم لا، وقد تابعه عليه أيضًا النووي فلم يصرح بتصحيح لا في "الروضة" ولا في "شرح المهذب" بل ذكر ما ذكره الرافعي من كونه أولى والأولوية لا تستلزم تصحيح العكس كما تقدم في الخطبة وغيرها نقله عن الرافعي، وقد صحح -أعني النووي- في "شرح مسلم" أنه لا يؤذن في هذه الصورة فقال في باب الندب إلى وضع الأيدي على الركبة ما نصه ومذهبنا الصحيح أنه يشرع له الأذان إن لم يكن سمع أذان الجماعة وإلا فلا يشرع له. انتهى لفظه بحروفه. ثم عكس ذلك في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" فقال: الأصح استحبابه وصحح أيضًا مثله في "التحقيق" وهو مقتضى كلام الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" فإنه صحح فيها أن المنفرد يؤذن ولم يفصل بين أن يسمع أو لا يسمع فلتكن الفتوى عليه. الأمر الثاني: في الكلام على القيود المذكورة لعدم الدفع فأما تقييده بالمسجد فهو يقتضي أنه يرفع في غيره، وكان سببه شدة الاعتبار في المساجد بأمر الأذان، فيكون الاحتياط في دفع الإبهام فيها أكثر، وبهذا يظهر إلحاق المدارس والربط ونحوها بها. وأما تقييده بوقوع الجماعة فلأنها إذا لم تقم لا يستحب له الأذان بالكلية؛ لأنه مدعو بالأول كما سبق إيضاحه. وأما تقييده بما إذا انصرفوا فيقتضي استحباب الرفع قبله لعدم خفاء الحال عليهم وفيه نظر؛ لأنه يوهم غيرهم من أهل البلد. قوله: وإن كان للمسجد إمام راتب فيكره إقامة الجماعة الثانية فيه على

أصح الوجهين ثم قال: وإذا أقاموا الجماعة الثانية مكروهة كانت أو مكروهة فهل يستحب لهم الأذان؟ فيه قولان: حكاهما الإمام عن "التقريب": أحدهما: لا، لأن كل واحد منهم مدعو بالأذان الأول، وقد أجاب بالحضور فصاروا كالحاضرين في الجماعة الأولى بعد الأذان. وأظهرهما: نعم؛ لأن الأذان الأول قد انتهى حكمه بإقامته الجماعة الأولى لكن لا يرفع فيه الصوت لئلا يلتبس الأمر على الناس، وأما ذكر المصنف في الوجيز المطروق في صورة المسألة فليس للتقييد؛ لأن رواية صاحب "التقريب" مطلقة ولعله إنما ذكره؛ لأنه إمامه جماعة إنما يتفق غالبًا في المساجد المطروفة. انتهى كلامه. فيه أمور تتوجه أيضًا على كلام "الروضة": أحدها: أن الذي قاله من الكراهة ليس على إطلاقه بل محله ما إذا كان المسجد غير مطروق، وإن كان مطروقًا كأكثر المساجد أو كثير منها فلا كراهة كما يأتيك في موضعه. الثاني: أنه يقتضي ترتيب قولين على أحد الوجهين والقولان للشافعى، فكيف يتفرعان على وجه للأصحاب، وقد حكى البغوي الخلاف قولين لا وجهين وذلك حينئذ واضح. الثالث: أن الذي قاله من استحباب الأذان للجماعة مع قولنا إنها مكروهة خارج عن القواعد ولابد فيه من نقل صريح، فإن الرسائل لها حكم المقاصد، وكيف تكون الجماعة مكروهة والدعاء إليها مستحبًا، ويؤيد ما ذكرناه تقييد "الوجيز" الذي توهم الرافعي أنه لا فائدة له فتفطن له. قوله: فإن قلنا تؤذن المرأة للنساء فلا ترفع صوتها بحال فوق ما يسمع صواحبها ويحرم عليها الزيادة على ذلك. انتهى.

وما ذكره من تحريم الرفع ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وجزم به أيضًا النووي في "الروضة" وصححه في "شرح المهذب"، واستدل عليه بقوله كما يحرم كشفها بحضرة الرجال؛ لأنه يفتتن بصوتها كما يفتتن بوجهها هذه عبارته. والذي ذكراه من التحريم مخالف لما ذكره في الغناء فإنهما قالا في كتاب "الشهادات": إن المذهب المشهور جواز غناء المرأة وأنه يجوز للرجل سماعه منها وإن كانت أجنبية حرة كانت أو أمة قالا: والخلاف هو الخلاف في أن صوتها عورة أم لا؟ وأنت [إذا] (¬1) تأملت هاتين المقاتلين قضيت عجبًا من تجويزهما إسماع الرجل الغناء وتحريمهما إسماعه الأذان لخوف الفتنة، وما أشبه هذه المقالة بقول الحسن البصري لأهل العراق: تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البراغيث. نعم: تعليله في "شرح المهذب" يقتضي جواز الرفع [بحضرة المحارم، وبالجملة فقد نص الشافعي على المسألة وصرح بجواز الرفع] (¬2) فقال في "البويطى" في باب إمامة النساء ما نصه: غير إني لا أحب لهن أن يرفعن أصواتهن بالأذان. هذا لفظ الشافعي بحروفه، ومن البويطي نقلته. فثبت إن الصواب هو الجواز فلتكن الفتوى عليه. ويؤيده أيضًا جواز رفع الصوت بالتلبية على كلام فيه ستعرفه إن شاء الله تعالى في بابه مع أنها قد تلبي بحضرة الرجال ومع سكون الأصوات لأمر ما: إما لتقديم إحرامها أو لغير ذلك. قوله: قال في "النهاية": وإذا قلنا المنفرد لا يرفع صوته فلا يعني به أن الأولى ألا يرفع فإن الرفع أولى في حقه ولكن نعني به أنا نعتد بأذانه دون الرفع. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

وما نقله هنا عن الإمام قد خالفه فيه بعد هذا مخالفة عجيبة فقال في الكلام على رفع الصوت ما نصه: أما الأول أى الأذان لنفسه فيكفي فيه أن يسمع نفسه على المشهور؛ لأن الغرض منه الذكر دون الإعلام، وقال الإمام الاقتصار على إسماع النفس يمنع كون المأتي به أذانًا وإقامة فليزد عليه قدر ما يسمع من عنده لو حضر. ثم تقرر أن الخلاف الذي قدمناه في أن المنفرد إذا أذن هل يرفع صوته مفروض على المشهور في أنه هل يستحب الرفع؟ وعلى ما ذكره الإمام هل يعتد به دون الرفع؟ هذا كلامه، وقد تبعه على الموضعين في الروضة والذي نقله هنا عن المشهور مخالف للمجزوم به أولًا ثم إن الذي جزم به أولًا وهو استحباب الجهر للمنفرد لا يستقيم قطعًا فإنه قد سبق أن المنفرد إذا أذن في مسجد أقيمت فيه الجماعة فإنه لا يرفع لئلا يوهم الناس وقوع صلاتهم خارج الوقت وهذا الذي ذكروه لا يستقيم إلا يكون الرفع محرمًا أو خلاف الأولى وعلى كل حال فهو كلام عجيب. قوله: وهل يستحب أن يقال في الجنازة الصلاة جامعة؟ فيه وجهان إلى. . . . آخره. والصحيح منهما: عدم الاستحباب، فقد نص عليه الشافعي في أول كتاب الأذان من "الأم" فقال: والصلاة على الجنازة وكل نافلة غير العيد والكسوف فلا أذان فيها ولا أقول الصلاة جامعة هذا نصه بحروفه، وصححه أيضًا [الرافعي] (¬1) في "الشرح الصغير" وعلله فيه أعني في "الشرح الصغير" بقوله: وكان سببه أن المشيعين للجنازة حاضرون بلا حاجة إلى الإعلام، ولم يذكر في الكبير تعليل واحد من الوجهين. ¬

_ (¬1) في الأصل: النووي.

قوله: ففي الفائتة ثلاثة أقوال. الجديد أنه لا يؤذن لها لما روى عن أبي سعيد الخدري قال: حبسنا عن الصلاة يوم الخندق حتى كان بعد المغرب هوى من الليل فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالًا فأقام للظهر فصلاها ثم أقام للعصر فصلاها ثم أقام للمغرب فصلاها ثم أقام للعشاء فصلاها (¬1). والقديم: أنه يؤذن لها لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في سفرٍ فقال: احفظوا علينا صلاتنا يعني الفجر فضرب على أذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس فقاموا فساروا هنيهة ثم نزلوا فتوضؤا، وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر وركبوا (¬2)، وقال في "الإملاء": إن أمل اجتماع قوم يصلون معه أذن وإلا فلا. انتهى. والهوى بهاء مفتوحة يجوز ضمها على قلة ثم واو مكسورة بعدها ياء مشدودة ومعناه طائفة من الليل، والحديث المذكور رواه الشافعي وأحمد في "مسنديهما" بإسناد صحيح، ورواه أيضًا ابن حبان في صحيحه وغيرهم على اختلاف في ألفاظ روياتهم، وأما الحديث الثاني فرواه مسلم من رواية أبي قتادة بمعناه. قوله: ولو والى بين فريضة الوقت ومقضية فإن قدم الحاضرة أذن لها وأقام للمقضية، وإن قدم المقضية أمام لها وفي الأذان لها الأقوال. وأما فريضة الوقت فلا يؤذن لها إن قلنا: يؤذن للمقضية لئلا يتوالى الأذانان، وإن قلنا: لا يؤذن للمقضية فلا يؤذن أيضًا للحاضرة في الأظهر لحديث أبي سعيد السابق. انتهى. واحترز الرافعي بالمولاة عما إذا طال الفصل بينهما فإنه يؤذن للحاضرة ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (661)، وأحمد (11662)، والشافعي (123) وعبد الرزاق (4233) من حديث أبي سعيد. قال الشيخ الألباني: صحيح. (¬2) أخرجه مسلم (681)، وأبو داود (437)، وأحمد (22599) من حديث أبي قتادة.

قطعًا كما قاله الأصحاب، وقد استدركه في "الروضة" على كلام الرافعي واستدركه عجيب مع تصريحه بهذا القياس. قوله: وإن جمع بين صلاتي جمع بالتأخير كتأخير الظهر إلى العصر وقدم الظهر أقام لكل واحدة منهما ولم يؤذن للعصر محافظًا على الموالاة، وأما الظهر فيجري فيها أقوال الفائتة لأنها شبهتها من جهة أنها خارجة عن وقتها الأصلي، والأصح أنه لا يؤذن لها أيضًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة في وقت العشاء بإقامتين من غير أذان، قال الإمام: وينقدح أن يقول يؤذن وإن قلنا الفائتة لا يؤذن لها، لأنها مؤداة ووقت الثانية وقت للأولى عند العذر، وإما لأن إخلاء صلاة العصر عن الأذان فهى واقعة في وقتها بعيد فيقدر الأذان الواقع قبل صلاة الظهر للعصر وقد يؤذن الإنسان لصلاة ويأتي بعده بتطوع وغيره إلى أن تتفق الإقامة. انتهى كلامه. تابعه في الروضة على نقل التأذين على قولنا: لا يؤذن للفائتة احتمالًا عن الإمام فقط مع أنه وجه ثابت، صرح بنقله القاضي الحسين في "تعليقه" والمتولي في "التتمة" وابن يونس، والحديث الذي ذكره الرافعي ثابت في "الصحيحين" لكنه معارض بما رواه مسلم عن جابر أنه بأذان وإقامتين (¬1). وزيادة الثقة مقبولة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1218).

الفصل الثاني: في صفة الأذان

الفصل الثاني: في صفة الأذان قوله: والإقامة فرادى إلا أنه يثني التكبير في الأول والأخير ويثني الإقامة أيضًا فتكون ألفاظها أحد عشر، والقديم يفرد الجميع وفي آخر قديم أيضًا يفرد كلمة الإقامة دون التكبير ثم قال: وذهب محمد بن خزيمة إلى أنه إن رجع في الأذان ثني الإقامة وإلا أفردها جمعًا بين الأخبار، وحكاه البغوي قولًا. انتهى كلامه. وعبارته في هذا القولان يقتضي أنه إن رجع ثني الجميع وإلا أفرد الجميع هذا هو مقتضى تعبير "الروضة" أيضًا فإنه قال: وللشافعي قول: أنه إن رجع في الأذان ثني جميع كلمات الإقامة وإلا أفردها، واختاره ابن خزيمة هذه عبارته، وليس الأمر كما دل عليه لفظهما بل المنقول في هذا القول أنه لم يرجع أفردها ما عدا التكبير في الأول والأخير، وما عدا لفظ الإقامة كذا ذكره في "شرح المهذب" فقال: وإن لم يرجع أفرد الإقامة فجعلها إحدى عشرة كلمة هذه عبارته، وإنما سمى ذلك إفرادًا باعتبار الغالب كما ورد في الحديث: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (¬1)، وقد حكى الإمام في المسألة قولًا آخر أنه يفرد لفظ الإقامة والتكبير الأخير خاصة أما الإقامة فللحديث، وأما التكبير فليكون قد رد الإقامة إلى شطر الأذان. قوله: ويستحب أن يرتل الأذان ويدرج الإقامة لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر" (¬2) والترسل والترتيل أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (578)، ومسلم (378) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الترمذي (195)، والحاكم (732) وعبد بن حميد (1008) وحمزة بن يوسف =

يأتي بكلماته مبينة من غير تمطيط يجاوز الحد، والإدراج أن يأتي بالكلمات حدرًا من غير فصل. انتهى. تقول حدر يحدر بضم الدال المهملة. نعم: ذكر في "الروضة" أنه يستحب في الأذان أن يجمع كل تكبيرتين في نفس وعلله بأن لفظ التكبير خفيف. والحديث المذكور رواه الحاكم في "مستدركه". قوله: الثالثة ينبغي أن يرجع في أذانه، والترجيع هو أن يأتي بالشهادتين مرتين مرتين بصوت خفض ثم يمد صوته فيأتي بكل واحد منهما مرتين أخرتين بالصوت الذي افتتح الأذان به؛ لأن أبا محذورة قال: ألقى على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التأذين بنفسه قال: "قل: الله أكبر الله أكبر" (¬1)، وروى فيه الترجيع. واعلم أن كلام الشيخ محى الدين وغيره قد اختلف في أن الترجيع اسم لماذا؟ فقال في "شرح المهذب": وقول الشيخ: يرجع هو بفتح الياء وإسكان الراء وتخفيف الجيم، وقد رأيت من يضم الياء ويشدد الجيم وهو تصحيف؛ لأن الترجيع هو الذي يأتي به سرًا. انتهى. وذكر نحوه في "لغات التنبيه" و"الدقائق والتحقيق" وخالف في "شرح مسلم" فقال: إنه العود إلى الشهادتين مرتين يرفع الصوت بعد قولهما ¬

_ = السهمي في "تاريخ جرجان" (ص/ 154) وابن الجوزي في "التحقيق" (386) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم وهو إسناد مجهول. قلت: وفيه عمرو بن فائد وهو متروك. قال الشيخ الألباني: ضعيف جدًا. (¬1) أخرجه مسلم (379)، وأبو داود (503)، والترمذي (191)، والنسائي (629) وابن ماجة (708).

مرتين يخفضه وكلام الرافعي و"الروضة" يحتمل أنه اسم للأول خاصة وإنه اسم للمجموع وحديث أبي محذورة المذكور صحيح رواه مسلم. قوله: ثم ظاهر إطلاق الغزالي أن التثويب يشمل الأذان الذي قبل الفجر الذي بعده وصرح في "التهذيب" بأنه إذا ثوب في الأذان الأول لا يثوب في الثاني في أصح الوجهين. انتهى. لم ينقل في "الشرح الصغير" إلا كلام "التهذيب" خاصة، وقال في "شرح المهذب" ظاهر إطلاق الأصحاب أنه لا فرق، وعبر في أصل "الروضة" بقوله ظاهر إطلاق الغزالي وغيره. قوله: والموالاة بين كلمات الأذان مأمور بها فإن سكت بينهما يسيرًا لم يضر، وإن طال ففي بطلان أذانه قولان، وإن تكلم طويلًا فقولان مرتبان على السكوت الطويل وأولى بالبطلان، ولو خرج في أثناء الأذان عن أهليته بإغماء أو نوم طويلين فعلى القولين، واعلم أن العراقيين جوزوا البناء في جميع هذه الصور مع طول الفصل وحكوه عن نص الشافعي - رضي الله عنه - لكن الأشبه وجوب الاستئناف وحمل النص على الفصل اليسير. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على إطلاق الخلاف ومحله إذا لم يفحش الطول، فإن فحش بحيث لا يسمى مع الأول أذانًا واحدًا استأنف جزمًا قاله في "شرح المهذب". قوله: ولو ارتد في خلال الأذان فعاد إلى الإسلام ففي البناء عليه وجهان عند الأكثرين وقولان مخرجان عند بعضهم أصحهما: الجواز وبه قطع بعضهم عند قصر الزمان وحمل المنع على ما إذا طال زمن الردة. انتهى

ملخصًا. وقد اختصر النووي في "الروضة" هذا الكلام اختصارًا فاسدًا من أوجه فإنه قال ما نصه: فإن أسلم وبنى فالمذهب أنه إن لم يطل الفصل جاز البناء وإلا فقولان، وقيل: قولان مطلقًا، وقيل: وجهان هذا لفظه. فانظر كيف صحح الرافعي طريقة الخلاف مطلقًا لا طريقة التفصيل، وانعكست على النووي وصحح أن الخلاف وجهان لا قولان وانعكس أيضًا عليه وصحح أيضًا البناء عند الطول ولم يذكره بالكلية، وكان الصواب أن ذكر أولًا ما ذكره آخرًا. ثم يذكر ما قبله ثم يختم بما بدأ به فيقول فوجهان مطلقًا، وقيل قولان، وقيل: إن لم يطل الفصل إلى آخره، وما ذكره في الروضة نقله أيضًا إلى "شرح المهذب" على عادته في ذلك كما بيناه مرارًا، وقد ذكر الرافعي في كتاب الحج إن في بطلانه بالردة وجهين أعني الحج ثم قال: ولا فرق على الوجهين بين طول الزمان وقصره إلا أنه صحح البطلان مطلقًا على خلاف المذكور في الأذان وتابعه في "الروضة" على كل ذلك وجزم في الصوم بالبطلان مطلقًا.

الفصل الثالث: في صفة المؤذن

الفصل الثالث: في صفة المؤذن قوله: وشرط المؤذن أن يكون مسلمًا وإذا نطق الكافر بالشهادتين في الأذان، إن كان عيسويًا لم يحكم بإسلامه، وإن كان غيره حكم به لنطقه بكلمتي الشهادة على أصح الوجهين، والعيسوية فرقة من اليهود يقولون محمد رسول الله إلى العرب خاصة. انتهى. ولقبوا بذلك لأنهم منسوبون إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني كان موجودًا في خلافه المنصور، وخالف اليهود في أشياء منها أنه حرم الذبائح. قوله: ولا يصح أذان المرأة والخنثى المشكل للرجال كما في الاقتداء بهما وقيل: يصح. انتهى. وهذا التعليل لم يذكره في "الروضة" ويستفاد منه مسألة حسنة فيها وقفة أنه لا فرق في الرجال بين المحارم وغيرهم، وقد تقدم في أذان المرأة للنساء ما يقوى الجواز هنا بحضرة المحارم. قوله: ويستحب أن يكون المؤذن صيتًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة عبد الله بن زيد: "ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتًا" (¬1) والمعني به زيادة الإبلاغ والإسماع. انتهى. وهذا التفسير الذي ذكره -رحمه الله- للأندى صحيح مشهور فقد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (512)، وأحمد (16523) والدارقطني (1/ 245) من حديث عبد الله بن زيد. قال الزيلعي: أعلوه بأبي سهل، تكلم فيه يحيى بن معين. وقال الألباني: ضعيف.

صرح به الأزهري والهروي في الغريبين وابن فورك في "المطالع" والمطرزي في "المغرب"، والراغب في "المفردات" وابن الأثير في "النهاية"، وحكى معه قولًا آخر ضعيفًا أن الأندى هو الأحسن والأعذب. قال الأزهري: وهو مأخوذ من الندى وهو الرطوبة؛ لأن الحلق إذا جف لم يمتد الصوت، والحديث المذكور صحيح أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان وفي ألفاظهما بعض مخالفة لما ذكره الرافعي وفي رواية للترمذي وصححها ابن خزيمة: فإنه أندى أو أمد صوتًا منك. قوله: وأما قول الغزالي وليكن المؤذن عدلًا ثقة فقد جمع الشافعي بينهما أيضًا فمنهم من قال: أراد عدلًا إن كان عبدًا؛ لأن العبد لا يوصف بالعدالة لكن يوصف بالثقة والأمانة. انتهى كلامه. والذي ادعاه من كون العدالة لا يوصف بها العبد ممنوع بل إنما يمتنع وصفه بقبول الشهادة فإن العدالة اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر وهذا المعنى يحصل في العبد، وقد صرح الرافعي بذلك في أوائل باب الاجتهاد في المياه، فقال ما نصه: فكل من تقبل روايته من ذكر وأنثى وعبد وحر يقبل قوله في ذلك بشرط العدالة هذا لفظه، ولهذا اغتر في "الروضة" هنا بقوله: وأن يكون عدلًا وهو الثقة. قوله من "زياداته": والأصح ترجيح الأذان وهو قول أكثر أصحابنا وقد نص الشافعي في الأم على كراهة الإمامة فقال: أحب الأذان لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "غفر الله للمؤذنين" (¬1) وأكره الإمامة للضمان وما على الإمام فيها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (499) والترمذي (189) وابن ماجة (706) وأحمد (16525) والدارمي (1187) وابن خزيمة (363) وابن حبان (1679) والدارقطني (1/ 241). قال الترمذي: حسن صحيح، وكذا قال الشيخ الألباني.

هذا نصه والله أعلم. انتهى كلامه. وهذا النص الذي نقله -رحمه الله- له تتمة دالة على عكس ما يقوله لم يذكرها، فإن الشافعي قد قال عقب ما نقله عنه [ههنا من غير مفصل ما نصه: وإذا أم رجل ابتغى أن يتقى الله ويؤدي ما عليه] (¬1) في الإمامة فإن فعل رجوت أن يكون أحسن حالًا من غيره هذا لفظه، وهو يدل على عدم كراهة الإمامة في هذه الحالة بل على استحبابها، وقد نقل هذا النص على وجهه جماعة منهم صاحب "الشامل" ثم قال بعد نقله: وهذا يدل على إنه إذا كان يقوم بحقوق الإمامة وما يجب فيها كان أفضل، ونقله أيضًا كذلك صاحب "البحر" في آخر المسألة ثم قال: وفيما ذكروه من لفظه في كتاب الإمامة خلل يعني اللفظ العاري عن هذه الزيادة ثم قال: ولم يذكروا تمام الكلام على هذا الوجه وهذا يزيل الإشكال هذا لفظه. قوله: واعتذر الصائرون إلى تفضيل الأذان عن ترك الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان بوجوه. أحدها: إذا قال حي على الصلاة لزم أن يتحتم حضور الجماعة إلى آخره، وما ذكره من أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يؤذن ليس كذلك، فقد ثبت أنه أذن في بعض أسفاره وقد ذكره النووي في "شرح المهذب" في الكلام على استحباب الأذان قائمًا فقال: وما يستدل به أي لترك القيام حديث يعلى بن مرة الصحابي أنهم كانوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسير، فانتهوا إلى مضيق وحضرت الصلاة فنظروا السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على راحلته وأقام فتقدم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع (¬2). رواه الترمذي ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه الترمذي (411)، وأحمد (17609) والدارقطني (1/ 380) الطبراني في =

بإسناد جيد. وهذه الصلاة كانت فريضة، ولهذا أذن لها وصلاها على الدابة للعذر، ويجب إعادتها، هذا كلامه في "شرح المهذب". وقال في "الخلاصة": إنه حديث صحيح، والبلة في الحديث بكسر الباء وهي النداوة قاله الجوهري، قوله: وأما الجمع بين الإمامة والأذان فلا يستحب ثم قال وأغرب ابن كج، فقال: الأفضل لمن صلح لهما أن يجمع بينهما ولعله أراد الآذان لقوم والإمامة لآخرين. انتهى -واستغرابه لمقالة ابن كج مشعر بإنفراده بها وليس كذلك، وقد صرح أيضًا- باستحباب الجمع بينهما أبو علي الطبري والماوردي والقاضي أبو الطيب ادعى الإجماع - عليه، ونقله النووي عنه في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" وصححه قوله: ولو وجد أمينًا يتطوع وأمنينًا أحسن منه صوتا لا يتطوع فقال ابن سريج: يجوز للإمام إرزاقه، وقال القفال: لا يجوز. انتهى. وقد منعه أيضًا الشيخ أبو محمد وهو مقتضى كلام القاضي الحسين والمتولي. فإنهما خرجا المسألة على القولين فيما إذا طلبت الأم أجرة الرضاع ووجد الأب متبرعة والأصح فيه انتزاع الولد من الأم، وصحح النووي في مسألتنا الجواز إذا رآه الإمام مصلحة كذا صححه في "التحقيق" و"شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وإن كان في البلد مساجد، فإن لم يمكن جمع الناس في مسجد واحد رزق عددًا من المؤذنين تحصل بهم الكفاية ويتأدى بهم الشعار وإن ¬

_ = "الكبير" (22/ 256) حديث (663) والبيهقي في "الكبرى" (2056) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2749) والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 182). قال الترمذي: هذا حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح البلخي لا يعرف إلا من حديثه. وقال البيهقي: فيه ضعف. وقال الألباني: ضعيف.

أمكن فوجهان: أحدهما: يجمعهم ويرزق واحدًا. والثاني: يرزق الجميع لئلا تتعطل المساجد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: إن الأصح هو الوجه الثاني كذا صححه النووي في "التحقيق" وزيادات الروضة و"شرح المهذب". الأمر الثاني: إن هذا الكلام مع تقدم لا ينتظم، فإنه كيف يعقل الجزم بأنه إذا -لم يمكن الجمع أن الإمام لا يرزق الكسل بل يرزق عددًا منهم وإن أمكن جمعهم رزق الكل على وجه لاسيما إنه الصحيح. قوله في "الروضة": وأما الإستئجار على الأذان ففيه أوجه: أصحها: يجوز مطلقًا أى من كل أحد. والثاني: لا يصح مطلقًا. والثالث: يجوز للإمام ومن أذن له ولا يجوز لآحاد الناس. انتهى. وإذا قلنا بهذا الوجه فشرطه أن يكون من بيت المال. كذا قاله الرافعي وأسقطه من "الروضة" وحيث جوزنا الاستئجار فعلى أي شيء يأخذ الأجرة فيه وجوه محلها كتاب الإجارة. قوله: قال في "التهذيب" وإذا استأجر الإمام من بيت المال لم يفتقر إلى بيان المدة بل يكفي أن يقول: إستأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة كل شهر بكذا، ولو استأجر من مال نفسه أو استأجر وأخذ من عرض الناس وفي إشراط بيان المدة وجهان. انتهى. والأصح اشتراطه كذا صححه النووي في "التحقيق" "وشرح المهذب" وزيادات الروضة وعرض الناس بعين مضمومة وراء ساكنة -مهملتين بعدها ضاد معجمة أي عامتهم، كذا ضبطه الجوهري وفسره فقال: وفلان من عرض الناس أي هو من العامة هذه عبارته.

قوله: في أصل "الروضة": وأما الإقامة فإن أذنوا على الترتيب فالأول أولى بها إن كان هو المؤذن الراتب أو لم يكن هناك مؤذن راتب، فإن كان الأول غير- الراتب، فالأصح أن الراتب أولى والثاني الأول أولى، ولو أقام في هذه الصور غير من له ولاية الإقامة اعتد به على الصحيح المعروف، وعلى الشاذ لا يعتد بالإقامة من غير السابق بالأذان تخريجًا من قول الشافعي -رحمه الله- لا يجوز أن يخطب واحد ويصلي آخر. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: إن تصحيحه أولوية الراتب لم يذكره الرافعي وإنما صحح أن السابق لا يقدم. كما سأذكر لك من عبارته ولا يلزم من عدم تقديمه تقديم الراتب، فقد يتساويان لما في كل واحد من المعنى. الثاني: أن هذا الخلاف الذي ذكره غير مستقيم لأن تخريجه من خطبة واحد وصلاة آخر يقتضي أن محله ما إذا أقام من لم يؤذن وكلامه فيما أذن الجميع ثم إن حاصل كلامه أن إذا جعلنا الولاية للأول فأذن غيره لا يصح على وجه، وإن قلنا بالصحيح وهو أن الولاية للثاني فأذن الأول صح جزمًا وهو عجيب فإنهما مستويان في صدور الأذان منهما وفي التفريع على أنه أولى أيضًا. واعلم أن الرافعي عبر بقوله وإذا انتهى الأمر إلى الإقامة فإن أذنوا على الترتيب فالأول [أولى] (¬1) بالإقامة لما روى عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أؤذن في صلاة الفجر فأذنت فأراد بلال أن ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

يقيم فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم" (¬1). وهذا إذا لم يكن مؤذن أو كان السابق هو المؤذن الراتب، فأما إذا سبق غير المؤذن الراتب وأذن فهل يستحق ولاية الإقامة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لإطلاق الخبر. وأظهرهما: لا؛ لأنه مشى بالتقدم، وفي القصة المروية كان بلال غائبا وزياد أذن بإذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا قلنا: ولاية الإقامة لمن أذن فليس ذلك على سبيل الاستحقاق بل لو أذن غيره اعتد به، روى أن عبد الله بن زيد لما ألقى الأذان على بلال فأذن قال عبد الله: أنا رأيته وأنا كنت أريده يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فأقم أنت" (¬2). وحكى صاحب "التتمة" وغيره وجهًا إنه لا يعتد به تخريجًا من قول الشافعى: إنه لا يجوز أن يخطب واحد ويصلي آخر. انتهى كلامه بحروفه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (514) والترمذي (199) وابن ماجة (717)، وأحمد (17572) والطبراني في "الكبير" (5286) وعبد الرزاق (1817) وابن أبي شيبة (1/ 196) والبيهقي في "الكبرى" (1663)، والطحاوي في "شرح المعاني" (795) وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 327). قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث الإفريقي وهو ضعيف عند أهل الحديث. وقال الألباني: ضعيف. (¬2) أخرجه أبو داود (512) وأحمد (16523) والدارقطني (1/ 245) والطيالسي (1103) والبيهقي في "الكبرى" (1738) والبخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 183). قال البخاري: فيه نظر. وقال الألباني: ضعيف.

وهو صحيح فإن قوله: أولى هو من الأولوية لا من التقدم ومراده تقديم المؤذن على غير المؤذن فتوهم النووي إنه من الأولية فصرح به وجعله عائدًا إلى الصور المتقدمة، فلزم الخلل ثم إنني راجعت الأصل الذي نقل الرافعي عنه هذا التخريج وهو "التتمة" وغيرها أيضًا فلم أجد فيها حكاية ذلك إلا فيما إذا أقام من لم يؤذن بالكلية فتعين غلط ما وقع في الروضة. الثالث: أن الرافعي والنووي قد أهملا ما إذا كانا معًا راتبين ولا شك إن حكمهما كحكم غير الراتبين، وكلام ابن الرفعة في الكفاية شامل لهذه الصورة، والصدائي منسوب إلى صداء بضم الصاد وتخفيف الدال المهملتين وبالمد يصرف ولا يصرف وهو أبو هذه القبيلة واسمه يزيد بن حرب، قال البخاري في "تاريخه": صداي من اليمن، وكان أذان زياد الصدائي في صلاة الصبح في السفر ولم يكن بلال حاضرًا، وحديثه هذا رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وفي إسناده ضعيف وحديث عبد الله بن زيد هذا رواه أبو داود وغيره وهو أيضًا ضعيف وحديث الصدائي أقوم إسنادًا منه قاله في "شرح المهذب". قوله: هذا إذا أذنوا على الترتيب أما إذا أذنوا معًا، فإن اتفقوا على إقامة واحد فذاك وإلا أقرع بينهم ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد؛ لأنها لاستنهاض الحاضرين إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد، وقيل: لا بأس أن يقيموا معًا إذا لم يؤد إلى التشويش. انتهى. ولقائل أن يقول: لم لا يقدم الإمام واحدًا باجتهاده فيما يشتمل عليه من المحاسن كرفع الصوت أو حسنه أو غير ذلك، ولم لا يفصل أيضًا بين الراتب وغيره، وقد عبر في "الروضة" عن التشويش بالتشويش بالهاء قال الجوهري: والتشويش التخليط وقال: إن الهوشة بالهاء هي العسة والهيج والاضطراب، وقال في باب السين المهملة: إن الهوس طرف من الجنون، وإذا علمت ذلك ظهر لك إن تعبير الرافعي صحيح بل أقرب إلى المعنى

المراد. قوله: ويستحب أن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه. انتهى. هذا خاص بالأذان أما الإقامة فلا يستحب لها ذلك كما نقله في "شرح المهذب" عن الروياني وغيره. قوله: ويستحب لمن سمع المؤذن أن يجيب فيقول مثل ما يقول، وإن كان السامع جنبًا أو محدثًا إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وإلا في كلمة الإقامة فإنه يقول: أقامها الله وأدامها وجعلني من صالحي أهلها وإلا في التثويب فإنه يقول: صدقت وبررت. انتهى. وينبغي أيضًا أن يستثني قول المؤذن ألا صلوا في رحالكم، فإنه وإن كان يستحب ذكره في أثناء الأذان كما سيأتي بسطه، لكن لا يتأتي القول باستحباب الإجابة بمثله؛ لأنه ليس بذكر، نعم يبقى النظر في أنه هل يجب فيه بشئ أم لا، وإذا قلنا يجيب فما الذي يجيب به والقياس إنه يجيب بما يجيب به والقياس إنه يجيب بما يجيب به الحيعلتين. قوله: وإن كان في قراءة أو ذكرٍ فيستحب له قطعها ويجيب فإنه لا يفوت وإن كان في صلاة لم يجب حتى يفرغ فإن أجاب كره في أظهر القولين، لكن لا تبطل الصلاة إن أجاب بما استحببناه؛ لأنها أذكار فلو قال: حى على الصلاة أو الصلاة خير من النوم بطلت صلاته؛ لأنه كلام. انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه أهمل من أقسام المسألة الطائف والمجامع وقاضي الحاجة فأما الطائف فيجيب في طوافه كما قاله الماوردي، وأما المجامع وقاضي الحاجه فبعد الفراغ كما قاله في "شرح المهذب". الثاني: أن كلامه صريح في أن صدقت وبررت لا يكون مبطلًا، وليس كذلك، فإنه أولى بالإبطال مما ذكره لما فيه من الخطاب وقد استدركه في "الروضة".

الثالث: أن ما قاله الرافعي من الإبطال في الحيعلة والتثويب قد فصل فيه الصيمري في "شرح الكفاية" فقال: فإن قاله في الصلاة مريدًا به الأذان بطلت صلاته، وإن أراد به الذكر لله لم تبطل هذا لفظه ولابد من هذا التفصيل وستعرف نظيره في الرد على المصلى ونحوه. قوله من "زوائده": ويستحب للمجيب أن يجيب في كل كلمة عقبها والله أعلم. وهذا الكلام ليس فيه بيان للوقت المعتد به، والمسألة لها أحوال يعرف جواب بعضها من مسائل ذكرها في "شرح المهذب" تفقهًا وفي بعضها كلام فنذكر تلك المسائل مع ما [أبديه] (¬1) فيها وهي أربع. إحداها: لو علم أنه يؤذن ولكن لم يسمعه فالظاهر أنه لا يشرع له الإجابة. الثانية: إذا ترك الإجابة حتى فرغ المؤذن فالظاهر أنه يتداركه قبل طول الفصل لا بعده انتهى. ولك أن تقول: تكبير العيد المشروع عقب الصلاة يتداركه الناسي وإن طال الفصل في أصح الوجهين فما الفرق؟ الثالثة: إذا لم يسمع الترجيع فالظاهر إنه يجيب فيه لقوله: "فقولوا مثل ما يقول" ولم يقل ما تسمعون والترجيع مما يقول. الرابعة: إذا سمع مؤذنًا بعد مؤذن فالمختار أن الاستحباب شامل الجميع إلا أن الأول متأكد يكره تركه. انتهى. وفي "الفتاوى الموصلية" للشيخ عز الدين نحوه قال: إلا أن الواقع في ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الصحيح قبل الوقت مساوٍ في ذلك لما بعده؛ لأن الأول فضل بالتقدم والثاني بوقوعه في الوقت. وبالاتفاق عليه فإن الأول يختلف فيه. قال: وكذلك الأذان الأول يوم الجمعة مساوٍ للثاني؛ لأن الأول فضل بما ذكرناه من التقدم والثاني بكونه المشروع في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر بعض الثقات من فضلاء المعجم إن الرافعي صنف في سفره إلى الحجاز كتابًا سماه "الإيجار في أخطار الحجاز" وإنه رأى فيه هذه المسألة فقال أعني الرافعي خطر لي أنه إذا سمع المؤذن وأجابه وصلى في جماعة فلا يجيب الثاني لأنه غير مدعو بهذا الأذان، والذي قاله حسن، إلا أن استحباب الجماعة لمن صلى في جماعة أيضًا يخدشه. إذا علمت ذلك فنرجع إلى أحوال المسألة فنقول: إن المجيب قبل ابتدأ المؤذن بالأذان فواضح، وأن ابتدأ مع ابتدائه أو بعده ولكن أتى ببعض الألفاظ قبل ابتداء المؤذن بها فيتجه ألا يعتد به، وما ذكره النووي في الترجيح قد يؤخذ منه الاعتداء وإن حصل ذلك أي المقارنة أو الابتداء بعد الابتداء في كلمة، ولكن حصل الفراغ منها قبل فراغ المؤذن فالمتجة الاعتداء وإن قارن في اللفظ بكماله اعتد به، وإن تأخر فيفصل بين طول الزمان وقصره كما سبق عن "شرح المهذب" وفيه النظر السابق، وقد يحصل مما نقلناه عن "شرح المهذب" في الترجيح إنه لا يشترط في مشروعية الإجابة سماع جميع اللفظ فراجعه وتفطن له. واعلم أن النووي في "الروضة" قد غير هنا ترتيب الرافعي. قوله: أيضًا من "زوائده": قال في "التهذيب": لو زاد في الأذان ذكرًا أو زاد في عدده لم يفسد أذانه. انتهى. وهذا الذي نقله عن البغوي وأثره عليه محمول على ما إذا لم يؤد إلى

اشتباهه على السامعين بغير الأذان كذا نبه عليه في "شرح المهذب" ولابد منه. قوله فإذا من "زياداته" أيضًا ما إذا كان ليلة مطيرة أو ذات ريح وظلمة فيستحب أن يقول إذا فرغ من أذانه: ألا صلوا في رحالكم فإن قاله في أثناء الأذان بعد الحيعلة فلا بأس، وكذا قاله الصيدلاني والبندنيجي والشاشي وغيرهم واستبعد إمام الحرمين ذكره في أثناء الأذان وليس ببعيد بل هو الحق والسنة، فقد نص عليه الشافعي في الأم وثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، ثم قال: قد فعل ذا من هو خير مني يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. واعلم أن الحديث الذي استدل به يدل على إنه يقول عوضًا عن الحيعلة وهو خلاف ما نقله من كونه يقولها بعدها. قوله: أيضًا من "زوائده" ولو أذن بالعجمية. وهناك من يحسن بالعربية لم يصح، وإلا فيصح. انتهى. وما ذكره من عدم الصحة فيما إذا كان هناك من يحسن محله فيما إذا أذن لغيره، فإن أذن لنفسه وكان لا يحسن العربية صح سواء كأن هناك من يحسن أم لا، كذا ذكره الماوردي ونقله عنه في "شرح المهذب"، فاقتصر عليه.

استقبال القبلة

الباب الثالث في استقبال القبلة قوله: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل البيت ودعا في نواصيه ثم خرج وركع في قبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة" (¬1) انتهى. وقيل: بضم القاف والباء، ويجوز إسكانها، قال بعضهم، معناه مقابلها، وقال بعضهم: ما استقبلك. أي وجهها، ويؤيده رواية ابن عمر في الصحيحين. في هذا الحديث: وصلى ركعتين في وجه الكعبة (¬2). والحديث المذكور رواه الشيخان من رواية أسامة. واعلم أن الإمام أحمد قد روى في "مسنده"، وكذلك ابن حبان في "صحيحه" أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل البيت في اليوم الأول ولم يصل، ثم دخل اليوم الثاني (¬3) وصلى. وفي هذا جواب عن نفي أسامة للصلاة. والأصحاب، ومنهم النووي في "شرح المهذب" قد أجابوا باحتمال الدخول مرتين، وقد تبين ذلك بالنقل لا بالاحتمال. قوله: ألا ترى أن المريض الذي لا يجد من يوجهه إلى القبلة، ولا يطيق التوجه معذور، كذلك المربوط على خشبة. انتهى. واعلم أن القضاء يجب أيضًا في هذه الحالة، وكذلك في جميع أحوال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (389)، ومسلم (1330) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه البخاري (388) ومسلم (1329). (¬3) أخرجه أحمد (2126) و (2834) وابن حبان (3207) والطيالسي (2653) والطبراني في "الكبير" (11339) و"الأوسط" (1020) وأيو يعلي (2594) والطحاوي في "شرح المعاني" (2117) وعبد بن حميد (633) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، بسند صحيح.

العجز عن الاستقبال كما نبه عليه آخر كتاب التيمم، وحذفه من "الروضة" ثم ذكر بعده بقليل من "زوائده". قوله: وهذا أيضًا إذا لم يلحقه خوف فأما إذا خاف الانقطاع عن الرفعة لو نزل لأداء الفريضة أو خاف على نفسه أو ماله من وجه آخر، فله أن يصلي على الدابة، لكنه يعيد إذا نزل. انتهى كلامه. ومقتضاه ومقتضى ما في "الروضة" و"شرح المهذب" و"الكفاية" أن خوف الانقطاع يكون منه ضررًا أم لا، لما فيه من الوحشة، وهذا الذي اقتضاه كلامهم هنا، قد صرحوا بتصحيحه في نظيره من التيمم، وقد تقدم ذكره هناك مع ما يشكل عليه. قوله: وأما صلاة الجنازة ففي جواز فعلها على الراحلة ثلاث طرق بيناها في التيمم والظاهر المنع، لأن الركن الأظهر فيها القيام وفعلها على الراحلة يمحو صورته، وذكر بعضهم للمنع معنى آخر يذكر من بعده، انتهى. والمعنى الذي أشار إليه هو ندور هذه الصلاة، بخلاف الرواتب هكذا ذكره بعد هذا بنحو ورقتين، ثم قال: وهذه العلة والتي قدمناها من محو سورة القيام ينبغي أن يختلفا في التفريع وإذا صلاها على الراحلة قائمًا، فقضية هذه العلة المنع وقضية تلك العلة الجواز وبه أجاب إمام الحرمين هذه عبارته، والراجح على ما دل عليه كلامه هو العلة الأولى فيكون الراجح الجواز قائمًا ويدل عليه تصريح الإمام، وقياسه جواز أدائها ماشيًا فاعلم ذلك، لكن صحح في "شرح المهذب" امتناع المشي، وأردفه بقوله كما تقدم في "التتمة"، وفي ثبوت ما قاله نظر، لاسيما أنه لم يتقدم له ذكر في التيمم، وقد حذف النووي من الروضة الإختلاف في التعليل، وما

ترتب عليه، وأعاد الرافعي أيضًا المسألة قبيل صلاة التطوع وعلل [بالندرة] (¬1)، وبإحترام الميت أيضًا، ولا يجوز من كلامه تصريح بشئ إلا أنه إلى جواز أقرب لمن تأمل آخر كلامه. قوله في "الروضة": وأصح الأوجه صحة الفريضة على الدابة الواقفة دون السائرة، وتصح أيضًا في السرير الذي يحمله رجال، والزورق الجاري للمقيم ببغداد، ونحوه في الأصح. انتهى ملخصًا. والكلام معه في مسألتين: الأولى: السرير، والكلام فيه في أمرين: أحدهما: أن إطلاقه يقتضي أنه لا فرق فيه بين أن يسير به الرجال أم لا، وقد أصرح به في "شرح المهذب" فقال: الأصح الصحة كالسفينة وبه قطع القاضي أبو الطيب، فقال في باب موقف الإمام والمأموم: قال أصحابنا: لو كان على سرير يحمله رجال وساروا به صحت صلاته، هذه عبارته، وسنذكر أيضًا ما يدل له، وعلى هذا فيحتاج إلى الفرق بين السرير، وبين الدابة. الأمر الثاني: أن الرافعي -رحمه الله- لم يصحح في المسألة شيئًا، بل نقل عن بعضهم أنه يصح عند السير به، واستدل بذلك على الصحة في الدابة السائرة، ونقل عن الإمام أنه كالصلاة على ظهر الدابة ولم ينقل شيئًا آخر بالكلية، وذكر البغوي أنه على الوجهين في الدابة السائرة والقاضي أبو الطيب جزم بالصحة في الدابة الواقفة وقاسها على سرير يحمله أربعة، وهذا القياس إنما يصح عند مكث العاملين، والصواب عدم الصحة ¬

_ (¬1) في جـ: بالندور.

كالدابة، والفرق بينه وبين السفينة واضح. المسألة الثانية: الزورق ولم يصحح الرافعي فيه أيضًا شيئا بالكلية، بل ولا حكى وجهين، فإنه قال: وتصح الصلاة في السفينة، وإن كانت تتحرك لمسيس الحاجة إلى ركوبها فجعل كالأرض، وجعلت السفينة كالصفائح المبطوحة على الأرض، ثم قال: وأما الزورق الجاري، فهل للمقيم ببغداد وغيره إقامة الفريضة فيه مع تمام الأركان والأفعال؟ قال إمام الحرمين: فيه احتمال وتردد ظاهر، فإن الأفعال تكثر بجريان الزوارق فهو قادر على دخول الشرط، هذه عبارته، وذكر مثله في الشرح الصغير وجهين وزاد فصحح الصحة، ولم ينبه عليه وذكر مثله في "التحقيق" و"شرح المهذب"، نعم: في كلام الرافعي بعد هذا رمز إليه بعيد. واعلم أن الصفائح جمع صفيحة، هي ألواح الباب، قال الجوهري. قوله: لأن سير الدابة منسوب إليه، ولهذا يجوز الطواف عليها وسير السفينة بخلاف، فإنها بمثابة الدار في البر. انتهى. وهذا الكلام مقتضاه أنه لو فرض سيل حول الكعبة فطاف فيه على سفينة أو لوح لم يصح، والمتجه صحته. قوله: ويجوز فعل النوافل راكبًا وماشيًا ثم قال: وهل يختص ذلك بالسفر الطويل؟ فيه قولان: وأصحهما: لا، وبه قطع بعضهم. انتهى ملخصًا. وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضا، وقد اختصره النووي في "الروضة" بقوله في السفر الطويل، وكذا القصير على المذهب هذا لفظه من

غير زيادة عليه، وهو يقتضي تصحيح طريقة القطع، ولا يؤخذ منه تصحيح لواحدة من الطريقين، وكلاهما مخالف لما في الرافعي، وعبر في "التحقيق" بعبارة "الروضة"، وعبارة "شرح المهذب" صريحة أو كالصريحة في تصحيح طريقة القطع، وقال في شرح الوسيط: إنها المذهب. قوله: أما راكب السفينة فلا يجوز تنفله فيها إلى غير القبلة لتمكنه، نص عليه الشافعي ثم قال: واستثنى صاحب العدة الملاح الذي يسير بها، ويجوز تنفله حيث توجه لحاجته. انتهى كلامه. وهذا الإستثناء يحتمل أن يكون حكاية وجه ضعيف، ويحتمل أن يكون استدراكًا لما قاله الأصحاب، ويكون إطلاقهم محمولًا عليه والأول هو المراد ففد صرح الرافعي في الشرح الصغير، بأن الأصح أنه لا فرق بين الملاح وغيره، وحكى هذا وجهًا ضعيفًا لكن الذي فهمه النووي هو الثاني، فقال في "الروضة" من زيادته: قد استثناه أيضا صاحب الحاوي وغيره، ولابد منه. انتهى كلامه. واستثناه أيضًا في شرح المهذب والتحقيق وجزم به الروياني في "البحر". قوله: أما الراكب على سرج ونحوه، ففي وجوب الإستقبال عليه عند التحرم وجوه أرجحها عند المعظم إن سهل بأن كانت الدابة واقفة وأمكنه إدارتها أو الانحراف عليها أو كانت سائرة والزمام بيده ولا حران بها وجب عليه ذلك، لما روى عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته، كبر ثم صلى حيث وجه ركابه (¬1). وإن عسر بأن كانت مقطرة أو صعبة الإدارة لحرانها فلا، لما فيه من المشقة وإختلال أمر ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1225) والدارقطني (1/ 395) والطبراني في "الأوسط" (2536) والبيهقي في "الكبرى" (2040) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال ابن السكن: صحيح. وقال الألباني: حسن.

السير عليه، انتهى. ومقتضاه أن الواقفة إذا سهل عليه إدارتها أو إنحرافه عليها إنما يجب على راكبها الاستقبال حال التحرم خاصة، وهو بعيد. قال ابن الصباغ: والقياس أنه مهما دام واقفًا فلا يصلي إلا إلى القبلة، فإذا أراد السير انحرف إلى طريقه، والذي قال متعين، وقد نقل في الكفاية عن الأصحاب نحوه، فقال: وقال الأصحاب: لو وقف في أثناء الطريق للإستراحة أو لانتظاره رفقة لزمه الاستقبال ما دام واقفًا، فإن سار بعد ذلك، نظرت فإن سيره لأجل سير الرفقة أتم صلاته إلى جهة سفره، وإن كان هو المختار لذلك من غير ضرورة لم يجز أن يسير حتى تنتهي صلاته، لأنه بالوقوف قد لزمه فرض التوجه، وهذا كلامه، وذكر في "شرح المهذب" من "الحاوي" نحوه، ولم يخالفه. والحديث المذكور رواه أبو داود بإسناد حسن كما قاله في "شرح المهذب". قوله: وإن انحرف عن صوب الطريق أو حرف الدابة عمدًا فقد قال في "الوجيز": إن صلاته تبطل، وهذا مُجْرَىً على إطلاقه تبطل وقد رجع إلى الأصل فإذا المراد ما إذا حرفها إلى غير القبلة، أو انحرف عليها يمينه، وهكذا قيده سائر الأئمة. انتهى. وما اقتضاه كلامه من عدم الخلاف، وقد صرح به في شرح المهذب وهو غريب، فقد حكى في "التتمة" وجهًا أن الصلاة تبطل إذا انحرف على الدابة بأن جعل وجهه إلى عجزها ونقله أيضًا في "شرح المهذب" في آخر الباب، وأبدى القاضي الحسن في "فتاويه" في ذلك احتمالين. قوله: إن حرف الدابة ناسيًا أو غالطًا بأن ظن أنها طريق، فإن عاد على قرب لم تبطل وإن طال بطلت على أصح الوجهين، وإن انحرف بجماح الدابة فطال الزمان بطلت على الصحيح كالإمالة قهرًا، وإن قصر لم تبطل

وفيه وجه. انتهى ملخصًا. أهمل -رحمه الله- من أقسام المسألة ما إذا انحرفت الدابة بنفسها من غير جماح، وهو غافل منها ذاكر للصلاة، وقد ذكره الغزالي في الوسيط فقال: إن قصر الزمان لم تبطل وإن طال فوجهان. قوله: وإذا اشترطنا استقبال الراكب عند الإحرام لم يشترط عند السلام في أصح الوجهين، ولا يشترط بما سواهما من أركان الصلاة. انتهى. واعلم أن النووي قد ادعى في "تصحيح التنبيه" أن ذلك لا خلاف فيه بالنسبة إلى الركوع والسجود، فإنه قال: الصواب أن ذلك لا يشترط فيهما، وهذا هو اصطلاحه في التعبير بالصواب، وقال في شرح المهذب: إن فيه وجهين ثم إن الخلاف مشهور فإن القاضي أبا الطيب قد حكاه في تعليقته، وجزم البندنيجي بالوجوب، وصححه الروياني وقد حكى ذلك كله ابن الرفعة. قوله: ثم الطريق في الغالب لا تستد بل تشتمل على معاطف. انتهى. تستد: . بسين مهملة ثم تاء بنقطتين من فوق ثم دال مهملة أى: تستقيم. ومنه قول الشاعر (¬1): أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني أى: استقام رميه وصار صوابًا مأخوذ من السداد بالفتح، وهو الاستقامة والصواب ومنه قولهم: سددك الله، وقوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (¬2)، وأما السداد [بالكسر فهو ما يسديه الشئ تقول: هذا سداد] (¬3). القارورة الثغر. ¬

_ (¬1) هو مالك بن فهم الأزدي، شاعر، أول من ملك على العرب بأرض الحيرة. توفى سنة 480 ق. هـ. (¬2) سورة الأحزاب (70). (¬3) سقط من أ، ب.

نعم: يجوز الكسر والفتح في قولهم: فيه سداد من عور، وأصبت به سدادًا من عيش أى ما يسدد به الخلة وإن كان الكسر أفصح، قاله جميعه الجوهري. قوله: ليس لراكب اليعاسيف ترك الاستقبال في شئ من نافلته، وهو الهائم الذي يستقبل تارة ويستدبر أخرى، إذ ليس له مقصدًا معلوم، وقول الغزالي، ولا يصلي راكب اليعاسيف معناه: أنه لا يتنفل متوجهًا إلى حيث تسير دابته كما يفعله غيره، لا أنه لا يتنفل أصلًا، فإن هذا الرجل لو تنفل مسقبلًا في جميع صلاته. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه يجوز لراكب اليعاسيف أن يتنفل على الدابة مستقبلًا للقبلة، وهو مقتضى ما في الروضة أيضًا، وهذا غير مستقيم، فإن هذا السفر حكمه حكم الإقامة إذ لا يستبيح به شيئًا من الرخص، والمذهب في المقيم أنه لا يجوز له التنفل على الراحلة إلى القبلة، ولا إلى صوب مقصده، بل لو صلى على الأرض مضطجعًا وجوزناه كما هو الصحيح، فلابد من الجلوس لفعل الركوع والسجود ولا يكفي الإيماء بهما، بل لا يجئ في مسألتنا الخلاف في المقيم، فإن علة التجويز للمقيم كونه محتاجًا إلى التردد لحاجته كما يحتاج المسافر، وهذه العلة مفقودة هاهنا، لأن هذا التردد عبث لا حاجة إليه، وقد تفطن في "شرح المهذب" للصواب، فقال: الرابعة: إذا كان المسافر راكب يعاسيف، وهو الهائم الذي يستقبل تارة، ويستدبر أخرى، وليس له مقصد معلوم، فليس له الترخيص بشئ من رخص السفر هذا كلامه، والذي وقع للرافعي قلد فيه الإمام، وقد نقله عن ابن الصلاح في "مشكل الوسيط"، ثم اعترض عليه بما ذكرته، فقال: وقوله: يعني الغزالي، ولا يتنفل أصلًا، أطلقه وقد قيده شيخه

في "النهاية"، فقال: لا يتنفل أصلًا إذا لم يكن مستقبلًا في جميع صلاته. فأقول: التنفل على الراحلة رخصة من رخص السفر على ما تقرر وراكب اليعاسيف لا يترخص بترخص السفر، فهو إذًا كالمقيم هذه عبارته، ثم ذكر بعد ما يقتضي جريان الخلاف الذي في المقيم، واعترضه صحيح وصريان الخلاف غير صحيح، نعم! إن كان هذا المذكور. له مقصد صحيح في هذا الفعل كالذي يطلب ضالة أو آبقًا ونحوهما، فلا شك أنه على الخلاف في المقيم، واليعاسيف مأخوذ من العسف، وهو ركوب الأمر بغير روية وركوب الفلاة وقطعها على غير صوب، قاله الأزهري. قوله في المسألة: ولو كان له مقصد معلوم لكن لم يسر في طريق معين فله التنفل مستقبلًا جهة مقصده على الأظهر، وعلى الثاني لا لأنه لم يسلك طريقًا مضبوطًا، فقد لا يؤدي سيره إلى مقصد. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف قولين، وحكاه في "التحقيق" وجهين، والصواب الأول والمقصد بكسر الصاد كما ضبطه ابن الصلاح والنووي. قوله: الثانية لو انحرف المتنفل عن صوب الطريق أو حرف الدابة عنه ناسيًا، وعاد على العرف لم تبطل صلاته، ثم قال: هل يسجد للسهو، ذكر الصيدلاني والإمام والغزالي وصاحب "التهذيب" أنه يسجد، لأن عمده مبطل، وحكى الشيخ أبو حامد في طائفة عن نص الشافعي أنه لا يسجد. انتهى ملخصًا. وقد صحح في "الشرح الصغير" الأول أعني السجود وهو المذكور في

"الحاوي الصغير" أيضًا، ونقله الخوارزمي في "الكافي" عن نص الشافعي، ومقتضى كلام "الروضة" و"التحقيق" و"شرح المهذب"، ترجيح عدم السجود، فإنه قال: فيه وجهان: المنصوص لا يسجد، وهذه العبارة أظهر في الترجيح من كلام الرافعي في "الشرح الكبير"، لكن هذا التصحيح خارج عن القاعدة لكون عمله مبطلًا كما تقدم ذكره، ومعارض أيضًا بما نقله الخوارزمي عن الشافعي، ومشكل بما إذا جمحت الدابة وعادت على الفور، فإن الأصح في "الروضة" وغيرها أنه يسجد. فإذا علمت هذه الأمور كلها تعين أن تكون الفتوى على السجود على خلاف ما اقتضاه كلام الروضة وغيرها من كتب النووي فاعلمه. وكأن النووي لم يطلع إلا على النص الذي نقله الرافعي. قوله في أصل "الروضة": أما الراكب في مرقد ونحوه مما يسهل فيه الاستقبال وإتمام الأركان، فعليه الإستقبال في جميع الصلاة وإتمام الأركان على الأصح كراكب السفينة والثاني لا يشترط وهو منصوص. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به في حكاية الوجهين قد ضعفه في شرح المهذب، فإنه حكى في المسألة طريقين: إحداهما: هذه. والثانية: القطع بالوجوب، قال؛ وهي المذهب وقطع بها الجمهور. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر وجهًا أنه يجب الاستقبال دون إتمام الأركان كما قيل بمثله في المتنفل على الأرض مضطجعًا ولم يذكره في "الروضة".

قوله: أما الماشي فيتم ركوعه وسجوده ويستقبل فيهما وفي إحرامه، ولا يمشي إلا في قيامه، وكذا في تشهده على ظاهر المذهب. انتهى ملخصًا. وما ذكره من حصر المشي إلا في قيامه تابعه عليه في "الروضة"، وهو يقتضي أنه يمشي في حال الاعتدال دون الجلوس بين السجدتين، وقد صرح به في "الكفاية" نقلًا عن البغوي وغيره، وفرق بأن مشي القائم يسهل، فسقط عنه التوجه فيه ليمشي فيه شيئًا من سفره قدر ما يأتي بالذكر المسنون، ومشى الحالتين لا يمكن إلا بالقيام وقيامه غير جائز، فكان عليه التوجه فيه. قوله: ولا كلام في أن الماشي لو مشى على نجاسة قصدًا فسدت صلاته، ولكن لا يجب عليه التحفظ لأنه يشق ولو انتهى إلى نجاسة ولم يجد معدلًا عنها، فقد قال الإمام: هذا فيه احتمال، قال: ولو شك في البطلان في الرطبة، وإن كانت عن غير قصد، لأنه يصير حاملًا للنجاسة، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الإمام من التوقف في اليابسة، تبعه عليه في "الروضة" وغيرها، ولم يزد عليه، وذكر في التحقيق ما حاصله أن المعروف البطلان فاعلمه. الأمر الثاني: أن ما قاله الإمام في الرطبة قد تبعه عليه في "الروضة" وجزم به مع أن شرطه أن يحصل تلوث كبير لا يقع في حد العفو، كذا صرح به الرافعي في هذه المسألة بخصوصها ذكر ذلك في باب شروط الصلاة. قوله: ويشترط دوام السفر فلو مر ببلدة له بها أهل وعشيرة فهل يصير مقيمًا بدخولها؟ فيه قولان. انتهى. والأصح منهما أنه لا يصير، كذا صححه الرافعي في صلاة المسافر.

اعلم أنه لو إبتدأ النافلة على الأرض ثم أراد السفر، ففي شرح المهذب أنه يلزمه الاستئناف بلا خلاف، وجزم به في التحقيق، وكان ينبغي أن يفصِّل، فيقال: إن اضطر إلى ذلك بأن رحلت الرفقة وتضرر بتخلفهم بنى وإلا استأنف كما قالوا في صلاة الخوف فيمن افتتح الفرض على الأرض ثم ركب. قوله من "زوائده": قال أصحابنا: والنفل في الكعبة أفضل منه خارجها وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، فإن رجاها فخارجها أفضل، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن التنفل في البيت أفضل من التنفل في المساجد، حتى مسجد المدينة كذا ذكره في "شرح المهذب" في هذا الباب، وقد ذكر الماوردي أن حرم مكة مساوٍ لمسجدها في المضاعفة، ونقله عن النووي في مناسكه، وأقره بخلاف حرم المدينة، وحينئذ فإذا ثبت تفصيل التنفل في البيت على فعله في مسجد المدينة كما تقدم نقله عن شرح المهذب لزم ذلك في مسجد مكة بطريق الأولى، وإطلاقهم في باب صلاة التطوع يدل عليه، وهذا كله يعارض ظاهر ما نقلناه الآن من "الروضة"، وحينئذ فينبغي تأويله على أن يكون المراد بقوله خارجها أي من المسجد ويكون ساكتًا عن التفصيل بين المسجد والبيت، وقد تقرر في موضعه أن التنفل في البيت أفضل من المسجد بخلاف الفرض. الأمر الثاني: أن تعبير "الروضة" قد سقط منه شئ يعرف من "شرح المهذب"، فإنه قال: أصحابنا: والتنفل في الكعبة أفضل منه خارجها، وكذا الفرض إذا لم يمكن فخارجها أفضل هذه عبارته، فسقط من الروضة تفضيل الفرض في الكعبة عند إمكان فعل الجماعة في الكعبة وفي خارج

الكعبة معا وعبارة المهذب قد تنازع في هذه الصورة، فإن قال: والأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت، لأنه يكثر للجمع، مكان أعظم للأجر، هذا كلامه. قوله: ولو صلى في الكعبة أو على سطحها فينظر إن كان بين يديه شاخص قدر مؤخرة الرجل صحت صلاته ومؤخرة الرجل ثلثا ذراع إلى ذراع تقريبًا، وإن لم يكن بين يديه شيء شاخص من نفس الكعبة، ففيه وجهان. الأصح: المنع، لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة على ظهر الكعبة (¬1)، والثاني: وبه قال أبو حنيفة وابن سريح، يجوز كما لو وقف خارج العرصة، ثم قال ما نصه: رخص بعضهم نقل الجواز عن ابن سريج بصورة العرصة دون السطح لكن قال إمام الحرمين: لا شك أنه يجزئه في ظهر الكعبة، وصرح في التهذيب بنفي الجواز عنه في الواقف على ظهر الكعبة، فلا فرق. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: بنفي الجواز وقع كذلك في عدة من نسخ الرافعي، واعتمد عليها ابن الرافعي في "الكفاية"، فنقل هذا الكلام بعينه عن التهذيب وهو غلط، فإن المذكور في التهذيب عن ابن سريج إنما هو الجواز في السطح ولم ينقل عنه شيئًا في العرصة، ووقع في بعض نسخ الرافعي التعبير بنقل الجواز عوضًا عن نفي الجواز، وهذه النسخة هي الصواب، والحديث المذكور رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم، قال الترمذي: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (346) وابن ماجة (746) والبيهقي في "الكبرى" (3613) والطحاوي في "شرح المعاني" (2098) وعبد بن حميد (765) والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 71) والبزار (161) وابن عدي في "الكامل" (3/ 203) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: إسناده ليس بذاك القوي. وقال الألباني: ضعيف.

ليس إسناده بذاك القوي، ولفظ الحديث عن [ابن] (¬1) عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعة مواطن لا يجوز فيها الصلاة المجزرة والمزبلة والمقبرة ومعاطن الإبل والحمام وقارعة الطريق وفوق بيت الله العتيق. . . .". واعلم أن ابن الصلاح قد قال في "مشكل الوسيط": الصحيح أن مؤخرة الرحل بميم مضمومة ثم همزة ساكنة ثم خاء معجمة مكسورة بعدها راء وهاء، وهي عبارة عما يستند إليه راكب الرجل من خلاف ظهره والرحل منزلته من ظهر الجمل منزلة البرذعة من ظهر الحمار، قال في "غريب المهذب" المسمى "بالمغنى": المؤخرة بفتح الهمزة وتشديد الخاء. قال ابن الأثير: المؤخرة بالسكون لغة قليلة في الآخرة على وزن الضاربة وقد منع منها بعضهم. قوله: وقبلة الكوفة نصبها علىّ، وقبلة البصرة نصبها عتبة بن غزوان -رضي الله عنهما- انتهى. وغزوان بغين معجمة مفتوحة ثم زاى معجمة ساكنة، توفي عتبة بطريق البصرة سنة سبع عشرة من الهجرة. قوله: فإن قدر على القبلة يقينًا لم يجز له الاجتهاد كالقادر على العمل بالنص لا يجوز له الإجتهاد، وحكى الروياني وجهين فيما إذا استقبل الحجر بكسر الحاء بناء على هذا الأصل، قال: الأصح المنع، لأن كونه في البيت غير مقطوع به. انتهى. واعلم أنه يجوز الأخذ برواية الصحابي واجتهاده بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذكره في "شرح المهذب" في الكلام على الاجتهاد في الأوقات، فترد ¬

_ (¬1) سقط من الأصل.

هذه الصورة على المصنف، وأما الذي صححه الروياني، فقد صححه النووي في أصل "الروضة" وغيرها من كتبه وسبب كونه غير مقطوع به أنه في أخبار الآحاد، وصورة مسألة الكتاب أن يكون في الحرم وهو أعمى أو في ظلمة. قوله: وإن لم يقدر على درك اليقين نظر إن وجد من يخبره عن القبلة عن علم رجع إليه ولم يجتهد أيضًا كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد، وكذا في الحوادث إذا روى العدل خبرًا. انتهى. واعلم أن ما ذكره في وجدان الخبر إن أراد به أنه إذا أخبره وجب العمل بقوله وامتنع الاجتهاد فواضح، ويدل عليه تعبيره بقوله كما في الوقت إذا أخبره فإن أراد أن يلزمه سؤاله، فيشكل على ما ذكره في المكر من أنه يجوز له إذا صلى في بيته أن يجتهد، وإن أمكنه الرقى على السطح، وقياسه من هنا ألا يجب السؤال بل أولى لأن الرقى يحصل العلم بخلاف السؤال، وقد استفدنا من كلام الرافعي أن إخبار العدل عن مشاهدة ليس بيقين، وأنه لا يجوز الأخذ به إلا إذا تعذر عليه القطع، وسأذكر في الكلام على ظهور الخطأ كلامًا يتعلق به. قوله في أصل "الروضة": ولا يقبل في القبلة خبر كافر قطعًا ولا فاسق ولا صبي غير مميز على الصحيح فيهما. انتهى. وما جزم في الفاسق من طريقة الوجهين قد ضعفها في "شرح المهذب" فقال: وأما الفاسق ففيه طريقان: المشهور وبه قطع الأكثرون أنه لا يقبل خبره هنا كسائر أخباره، والثاني في قبوله وجهان، وما أطلقه في الكافر، قد ذكر الماوردي ما يقتضي تخصيصه فقال: فأما إذا استدل مسلم من كافر

دلائل القبلة كأن سأله عن أحوال الرياح ومطالع النجوم فأخبره ووقع في نفسه صدفة ثم اجتهد لنفسه من خبر المشرك في جهات القبلة جاز، لأن المسلم عمل في القبلة على اجتهاد نفسه، وإنما قبل خبر المشرك في غيرها مما يستوي في الإخبار به من وقع في النفس صدقة من مسلم وكافر، هذه عبارته. قوله: حتى أن الأعمى يعتمد المحراب إذا عرفه بالمس حيث يعتمده البصير بالرؤيه، ثم قال: ولو اشتبهت عليه طيقان لمسها فلا شك في أنه يصير حتى يخبره غيره صريحًا، انتهى كلامه. والطيقان جمع طاق كنار ونيران، وجار وجيران، قال صاحب المطالع: طاق البناء هو الفارغ ما تحته وهي الحنية وتسمى الأزح، وقال الجوهري: الطاق ما عطف من الأبنيه والجمع طاقات وطيقان فارسي معرب، ولهذا يعبر بعض الفقهاء عن المحراب بطاق القبلة وسنعيد هذه اللفظة إن شاء الله تعالى في كتاب الإيمان بزيادة على المذكور هنا. قوله: ولو غرز عصًا أو خشبة فوجهان أحدهما يكفي بحصول الاصال بالمغروز، ولذلك تعد الأوتاد المغروزة من الدار، وتدخل في البيع، وأصحهما: لأ كما لو وضع الغروز من البناء والأوتاد جرت العادة بغرزها لما فيها من الصالح فقد تعد من البناء لذلك. انتهى كلامه. وحاصله حكمًا وتعليلًا أن هذا الخلاف لا يجري في البيع وهو غريب، فقد حكاه الرافعي هناك، وجعله مفرعًا على الخلاف، ونقل أن الخلاف المذكور هنا أصل لذلك، فقال في [الفصل] (¬1): الدار ما نصه. ¬

_ (¬1) في أ، ب: اللفظ.

الثالث: ما أثبت على غير هذا الوجه [كالدقوق] (¬1) والدنان والإجانات المثبتة والسلالم المسمرة والأوتاد المثبتة في الأرض والجدران والتحتاني من حجري الرحى وخشب القصار، ومعجن الخباز، ففي جميع ذلك وجهان: أصحهما أنه يدخل ثم قال: وفي "التتمة" أن أصل الخلاف في هذه المسائل الخلاف في تجويز الصلاة إلى العصا المغروزة في سطح الكعبة إن جوزناه، فقد عددناها من البناء فتدخل وإلا فلا. انتهى كلامه. فحكى الخلاف فيه كما ذكرناه مع كونه مثبتًا ومسمرًا وجعل هذا أصلًا له. قوله: والوجهان في الغرز المجرد أما لو كانت مثبته أو مسمرة كفت للاستقبال. نعم: قال إمام الحرمين: الخشبة وإن كانت مثبتة، فبدن الواقف خارج عن محاذاتها من الطرفين فيكون على الخلاف الذي يأتي ذكره فيمن وقف على طرف، وبعض يديه في محاذاة ركن من الكعبة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها أن ما ذكره من تخصيص الوجهين بمجرد الغرز لا بالمثبت والمسمر قد صرح به في أصل "الروضة" كما ستعرفه، والكلام المذكور في البيع يقتضي أنه لا فرق هنا بينهما فتأمله. الأمر الثاني: هو موقوف على عبارة الإمام فنقول: قال: ولو وقفه على حرف ركن من البيت وكان يحاذي ببعض بدنه الركن وبعضه خارج عن مسامته الكعبة، ففي صحة الصلاة وجهان، ثم قال بعد صفحة: ثم لو فرض شخوص خشبة من البناء فمعلوم أنه في حجمها قد لا يكون على قدر الواقف، وقد ذكرنا خلافًا فيمن وقف على طرف ركن من أركان ¬

_ (¬1) في أ، ب: اللفظ.

الكعبة، وخرج بعض بدنه عن؟ وهذه الخشبة الشاخصة، وإن اتصلت اتصال البناء، فبدن الواقف خارج عن محاذاتها في الطرفين، فهذا فيه تردد عندي، كما ذكرته، هذه عبارته، وقول الإمام: فهذا فيه تردد ظاهر عندي جزم منه بحكاية التردد، وذلك التردد ظاهر مما سبق، وليس بخفي، ولهذا قال كما ذكرته أى كما ذكرت التردد هنا هذا مدلول كلام الإمام لا غير، وهو مطابق لكلام الرافعي، وتوهم النووي أن الإمام متردد في جريان ذلك الخلاف هنا، فاعترض به على الرافعي فقال: وإن كانت العصا خشبة أو مسمرة كفت قطعًا، لكن قال الإمام: إن خرج بعض بدنه عن محاذاتها كان على الخلاف الآتي ممن خرج بعض بدنه محاذاة الكعبة. قلت: لم يجزم الإمام بأنه يكون على ذلك الخلاف، بل قال في هذا التردد ظاهر عندي، وظاهر كلام الأصحاب القطع بالصحة في مسألة العصا، لأنه يعد مستقبلًا بخلاف مسألة طرف الركن فالله أعلم. هذا كلامه وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن الفهم الذي فهمه غير صحيح لما ذكرته ولأن إجراء الخلاف من هنا لم يتقدم له ذكر حتى يجعل التردد عائدًا إليه. الوجه الثاني: أن ما دعاه ونسبه إلى ظاهر كلام الأصحاب من القطع غريب، فما بالعهد من قدم فقد سبق قبل هذا بنحو خمسة أسطر حكاية هذا الخلاف بعينه في الشاخص فقال: إنه إذا استقبل العتبة وهي قدر ثلثي ذراع جاز ثم قال: ولنا وجه أنه يشترط في العتبة أن تكون بقدر قامة المصلي طولًا وعرضًا ووجه أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان، ثم قال عقبه: إن الكعبة لو هدمت والعياذ بالله تعالى يوقف في عرصتها أو وقف على سطحها واستقبل شاخصًا من نفس الكعبة، فله حكم العتبة إن كان

ثلثي ذراع جاز وإلا فلا على الصحيح وفيه الوجهان الآخران، هذه عبارته. فإذا جرى الخلاف المذكور في شاخص من نفس الكعبة فالعصا أولى، وهذا الاعتراض وارد على الرافعي أيضًا، فإن قوة كلامه مشعرة بأن لم يقف عليه صريحًا وإنما أخذه مما أبداه الإمام. قوله: ولو وقف على طرف من أطراف البيت وبعض بدنه في محاذاة الركن، والثاني خارج ففي صحة صلاته وجهان أحدهما يصح، لأنه توجه إلى الكعبة بوجهه وحصل أصل الإستقبال وأصحهما لا يصح، لأنه يصدق أن يقال: ما استقبل الكعبة إنما استقبلها بعضه. انتهى كلامه. وهذا الاستدلال الذي ذكره للوجه الأول صريح في أن العبرة في الإستقبال بالوجه، وذكر في كتاب الحج في كلام على أركان الطواف ما حاصله أنه لابد منه ومن الصدر فقال: قال الإمام: الأصح المنع كما أن المصلي لما أمر بأن يولي الكعبة صدره ووجهه لم يجز أن يوليها شقه، هذه عبارته. والصواب: أن الإعتبار بالصدر خاصة كما جزم في شرح المهذب في الكلام على الالتفات في الصلاة. قوله: ولو حال بين المكي وبين الكعبة حائل فاجتهد فلا إعادة إن كان الحائل خلقيًا، وكذا إن كان حادثًا في أصح الوجهين انتهى. تابعه في "الروضة" على الصحيح عدم الوجوب. وهو مخالف لنص الشافعي، فإنه قد نص في البويطي على وجوب الإعادة عليه، ولم يفصل، فأقبل مراتبه أن يحمل على الحادث، ونقله البندنيجي عن نصه في "الأم"، وذهب إليه الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب

والماوردي والمحاملي والجرجاني، وقد ادعى النووي في "شرح المهذب" أنه يجتهد في الخلقي بلا خلاف، وليس كذلك، فقد حكى ابن الرفعة عن القاضي أبي الطيب أنه لا يجتهد. واعلم أنه لو بنى حائلًا من غير ضرورة ولا حاجة ومنعه المشاهدة لم تصح صلاته أى بالاجتهاد لتفريطه، كذا نقله في "النهاية" عن العراقيين وهي مسألة حسنة. قوله: ومحراب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نازل منزلة الكعبة، فمن يعاينه يستقبله، ويسرى محرابه عليه بناءً على العيان والإستدلال كما ذكرنا في الكعبة، ولا يجوز العدول عنه بالإجتهاد وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، هذا كلامه في الجهة، وهل يجوز الإجتهاد فيها بالتيامن والتياسر إن كان محراب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجز بحال، ولو تخيل حاذق في معرفة القبلة فيه تيامنًا أو تياسرًا، فليس له ذلك وخياله باطل، وأما سائر البلاد فيجوز على الأصح. انتهى ملخصًا. واعلم أن الشيخ محب الدين الطبري قد أثار في شرحه "للتنبيه" بحثًا ينبغي أن يعلم، فقال: فإن قيل: محرابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عين الكعبة، إذ لا يجوز فيه الخطأ، فيلزم بما قلتم ألا تصح صلاة من بينه وبينه من أحد جانبيه أكثر من سمت الكعبة إلا مع الانحراف، قلنا: من أين لكم أنه على عين الكعبة، فيجوز ألا يكون على عين الكعبة، فيجوز ألا يكون كذلك، ولا خطأ بناء على أن الفرض الجهة. نعم: إن ورد في الصحيح أنه نصب على العين فيكون مقتضى الدليل ما ذكرتموه على القولين.

على القولين أما على العين فظاهر، وأما على الجهة فهذا المحراب كالكعبة [فمشاهده كمشاهدها] (¬1) إلا أن إجماع الصحابة على بناء مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واسعًا، وصلاتهم في أقطاره من غير أن ينقل الانحراف عنهم دليلًا على طرد حكم البعد في كل مكان سواء تحقق صوب عين الكعبة أم لا تحقيقًا للقول بأن فرض التعبد هو الجهة مطلقًا، ولا أعلم أحدًا تكلم في هذه المسألة والظاهر فيها ما ذكرته. انتهى كلامه ملخصًا. وللبحث فيه مجال. واعلم أن المراد بمحراب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو موقفه وإلا فالمحاريب محدثه والمحراب في اللغة هو صدر المجلس. قوله: قال الإمام: والخلاف في أن المجتهد إذا تخير هل يقلد أم لا محله إذا ضاق الوقت أما قبله فيمتنع التقليد جزمًا قال: وفيه احتمال من التيمم في أول الوقت. انتهى. وهذا التقييد الذي ذكره الإمام جزم به الماوردي في "الحاوى" والطبري في "شرح التنبيه"، ووافق الرافعي عليه في آخر المسألة في الكلام على لفظ الوجيز فقال: ومسألة التخير قد أطلق الخلاف فيها، وهو محمول على ما إذا ضاق الوقت كما حكمنا من قبل هذه عبارته. وقت غفل في الروضة عن هذا الكلام واقتصر على نقل كلام الإمام ساكتًا عليه ثم اغتر به في غيرها فقال في "شرح المهذب": إن المذهب الذي صرح به الجمهور تعميم الخلاف وقال في "شرح الوسيط": إن ما قاله الإمام شاذ والمشهور التعميم، وذكر في "الشرح الصغير" كما ذكر في "الروضة". ¬

_ (¬1) في أ، ب: فمشاهدها.

قوله: ولو اختلف عليه [اختلاف] (¬1) اجتهاد مجتهدين قلد من شاء منهما والأولى تقليد الأوثق والأعلم عنده، وقيل يجب ذلك فإن تساوى قول اثنين عنده يخير وقيل: يصلي مرتين إلى الجهتين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد اختصر ذلك اختصارًا فاسدًا فإنه جمع المسألتين فقال: ولو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين قلد من شاء منهما على الصحيح، والأولى تقليد الأوثق والأعلم وقيل يجب ذلك، وقيل: يصلي مرتين إلى الجهتين، هذه عبارته فاقتضى كلامه حكاية وجه أنه يجب عليه الصلاة مرتين مع كونه أحدهما أرجح عنده ولم يذكره الرافعي إلا عند التساوي ولا يصح القول به أيضًا إلا في هذه الحالة. الأمر الثاني: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد رجح الثاني فقال: إنه الأشبه وذكر في "الكفاية" أن القاضي أبا الطيب نقله عن نص الشافعي في "الأم" ثم قال أي -ابن الرفعة-: إن الأكثرين على التخيير بينهما وسأذكر بعد هذا كلامًا آخر متعلقًا بهذه المسألة. قوله: ومن صلى بالاجتهاد ثم ظهر له الخطأ نظر إن كان بالاجتهاد أيضًا لم يؤثر فيما مضى، وإن كان باليقين وجب القضاء في أصح القولين؛ لأنه تيقن الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء فلا يعتد بما مضى كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه واحترزوا بقولهم فيما يأمن مثله في القضاء عن الخطأ في الوقوف بعرفة فإن القضاء لا يجب؛ لأن مثله غير مأمون في القضاء ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا المجتهد؛ لأن الأمر هناك مبني على رؤية الهلال ولا يعين بكون الرائين مصيبين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بالقضاء الذي هو حقيقة في المفعول خارج الوقت يشعر بأن صورة المسألة أن يكون التبين بعد الوقت حتى إذا تبين الحال ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

والوقت باق وجت الإعادة قولًا واحدًا كما في نظيره من الاجتهاد في وقت الصلاة ووقت الصوم، وفي كلام الرافعي في الباب ما يدل عليه وإن كان الرافعي في أثناء المسألة في الكلام على التيامن والتياسر قد عبر أيضًا بلفظ الإعادة، وكرر هذه اللفظة. لكن رأيت في "دلائل القبلة" لابن القاص ما حاصله أن القولين جاريان مطلقًا فإنه قال: إذا أخطأ في الجهة فقال مالك بن أنس: إن كان وقت الصلاة قائمًا فعليه الإعادة، وإن كان قد فات الوقت فلا إعادة. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق بن راهويه: عليه الإعادة. وقال النووي والكوفي وصاحباه: لا إعادة عليه. قال الشافعي: فيها قولان، هذه عبارته ثم استدل على كل من القولين. الأمر الثاني: أن ما ذكره في أخر كلامه يقتضي أن إخبار العدل بالخطأ عن مشاهدة لا يوجب القضاء لانتفاء التعين، وقد سبق عند الكلام على القدرة على اليقين ما يدل له، والجاري على القواعد أن حكمه هنا كحكم مشاهدته حتى يجب عليه القضاء ولهذا قاسوه على الحاكم إذا ظهر له النص وليس المراد به إلا الخبر الصحيح الذي يرويه العدل ونحوه سواء كان متواترًا أم لا. قوله، في "الروضة": -وأما المتمكن من تعلم أدلة القبلة فيبني على أن تعلمها فرض عين أم كفاية؟ والأصح فرض عين. قلت: المختار ما قاله غيره أنه إذا أراد سفرًا ففرض عين لعموم حاجة المسافر إليها وكثرة الاشتباه عليه، وإلا ففرض كفاية إذ لم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم السلف ألزموا آحاد الناس بذلك بخلاف أركان الصلاة وشروطها. انتهى

كلامه. وهذا الوجه الذي رجحه قد قال في "شرح المهذب" أيضًا: إنه الأصح وخالف في المنهاج فصحح أنه فرض مطلقًا ولم يذكر الثالث بالكلية تبعًا لما في "المحرر". قوله: في "أصل الروضة" ولو ظهر له الخطأ بالظن في أثناء الصلاة مقترنًا بظهور الصواب فوجهان. الأصح: أنه ينحرف ويبني حتى لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات باجتهادات فلا إعادة. والثاني: يستأنف وخص صاحب التهذيب الوجهين بما إذا كان الدليل الثاني أوضح من الأول قال: فإن استويا تمم صلاته إلى الجهة الأولى ولا إعادة. انتهى. وهذا الكلام يشعر بأن المعروف إطلاق الوجهين وبه صرح في "شرح المهذب" فقال: والمشهور إطلاق الوجهين، هذه عبارته. وحينئذ فيكون الأصح على الانحراف أيضًا، وهو عجيب فكيف يتصور أن يقال بلزوم الانتقال مع التساوي ثم إنه مخالف لكلام الرافعي، فإن الرافعي عقب نقله عن "التهذيب" ما نقل لم يرتض كلامه ولا ذكر ما ذكره، فقال: وإن كانا مثلين فقضيته التوقف والتخير، وحينئذ فلا يكون الصواب ظاهرًا له وحينئذ فيكون حكمه حكم من ظهر له الخطأ ولم يظهر له الصواب، وحكمه أنه إن عجز عن درك الصواب بالاجتهاد على العرف وطلب صلاته إذا لا سبيل إلى الاستمرار على الخطأ ولم يقف على جهة الصواب حتى ينحرف، فإن قدر على العرف هل يبني وينحرف أو يستأنف؟ يعود فيه الخلاف السابق وأولى بالاستئناف؛ لأنه هناك قد تمكن من الانحراف إلى

الصواب كما ظهر الخطأ، وهاهنا بخلافه فإنه يتخير في الحال ثم قال: ولا فرق في هذا بين أن يظهر الخطأ بالقطع أو الظن. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": والصواب من هذا الخلاف وجوب الاستئناف وإذا علمت بما تقدم تلخص لك من كلام الرافعي أنه إذا لم يكن الثاني أوضح لا يتنفل بالكلية كما يقوله النووي، بل إن لم يترجح المحال من قرب بطلت صلاته وإن ترجح عن قرب ففيه الخلاف، والصوأب وجوب الاستئناف والقائل هنا بوجوب الانحراف قد يكون إلى الأول وقد يكون للثاني، وظهر بطلان ما قاله النووي على كل تقدير ولا شك أنه لما حذف ما ذكره الرافعي ظنًا منه أنه مناقشة في لفظ اغتر به في "شرح المهذب" فنقله على عادته وصرح بما اقتضاه فلزم الخلل. نعم: قد سبق لنا أنه إذا اختلف على المقلد اجتهاد مجتهدين متساويين قلد من شاء منهما وقيل: يصلي مرتين وقياسه أن يتخير أيضًا في مسألتنا تعليل أنه إذا تغير اجتهاده قبل الدخول في الصلاة وظن أن الصواب جهة أخرى اعتمد الأوضح منهما، فإن تساويا يخبر وقيل يصلي إلى الجهتين مرتين وهذا نظير ما سبق أيضًا. نعم: لو دخل في الصلاة باجتهاد ثم شذ عنه ولم يترجح له شئ من الجهات أتم صلاته إلى جهته ولا إعادة عليه كما نص عليه في "الأم"، واتفقوا عليه كذا قاله في "شرح المهذب". وقياسه أن يستمر في مسألتنا على الجهة الأولى؛ لأن الشك يحصل عنده بتعارض الدليلين وقد سبق ظن فيتمسك به فتلخص أن الصواب ما قاله البغوي، وما قاله الرافعي والنووي لا يستقيم وكلام النووي أبعد عن

الصواب من كلام الرافعي ثم بعد ذلك رأيت الطبري في شرح التنبيه قد نص على ما ذكرته بعينه، فقال: ولا يتجه غير ما قاله البغوي وذكر نحو ما ذكرته، وذكر فيه أيضًا أنه لو وقع ذلك أثناء التكبير كان كما لو وقع قبله، والذي ذكره صحيح وقد سبق إيضاحه في الكلام على رؤية المتيمم للماء. قال ابن الصلاح: والمرجح في الطول والقصر إلى العرف لا إلى مضى الركن وعدمه فقد يمضي مع القصر ركن وقد لا يمضى، قال: وفيما علقته في الدرس بخراسان عما علق عن الغزالي تحديده بالركن، قال: وهذا غير مرضِ. قوله: والخطأ في التيامن والتياسر إذا ظهر بالاجتهاد وكان ذلك بعد الفراغ من الصلاة فلا يقتضي وجوب الإعادة؛ لأن الخطأ في الجهة والحالة هذه لا يؤثر ففي التيامن والتياسر أولى، وإن كان في أثناء الصلاة فينحرف ويبني ولا يعود فيه الخلاف المذكور في نظيره من الخطأ في الجهة لأنا استبعدنا الصلاة الواحدة إلى جهتين مختلفتين، وأما الالتفات اليسير فإنه لا يبطل الصلاة، وإن كان عمدًا وإذا ظهر الخطأ في التيامن والتياسر يقينًا فإن قلنا الفرض إصابة العين ففي وجوب الإعادة إن وقع بعد الصلاة، والاستئناف إن وقع في أثنائها القولان في الجهة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من وجوب الانحراف إذا ظهر في الأثناء قد تابعه عليه في "الروضة" وادعى عدم الخلاف، فقال: وإن كان في أثنائها انحرف وأتمها قطعًا. انتهى. والقياس يقتضي تخريجه على أن الفرض في حق البعيد هل هو الجهة

أو العين؟ فإن قلنا العين وجب الانحراف، وإن قلنا الجهة فلا، وقد أشار الرافعي بعد هذا بدون ورقتين إلى هذا الخلاف فقال: ولو اختلف اجتهاد رجلين في التيامن والتياسر والجهة واحدة، فإن أوجبنا على المجتهد رعاية ذلك فهو كالاختلاف في الجهة فلا يقتدي أحدهما بالآخر وإلا فلا بأس. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الاستدلال على اعتقاد الانحراف بأن الالتفات اليسير عمدًا لا يبطل، كيف يصح مع التفاريع التي ذكرها قبل وبعد من وجوب الانحراف عند الظن والاستئناف والإعادة عند التحقق، فإن لم تكن المسألة من أقسام الانحراف لم يصح الاستدلال بها. قوله: ولو تغير اجتهاد المأموم لزمته المفارقة وهل هي مفارقة بعذر أم بغير عذر لكونه مقصرًا بترك الإمعان في النظر والبحث فيه وجهان. انتهى. والأصح هو الزول كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية". قوله: [إحداها] (¬1) إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى أو أراد قضاء فائتة فهل يحتاج إلى تجديد الاجتهاد؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، فإن قلت فهل يختص الوجهان بما إذا لم يبرح من مكانه كالتيمم؟ قلنا: في كلام بعض الأصحاب ما يقتضي ذلك لكن الفرق ظاهر؛ لأن أكثر أدلة القبلة لا تختلف بالمسافات القريبة لأنها سماوية. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الروضة" أيضا وكذلك في "شرح المهذب" نقلا له عن ¬

_ (¬1) فى أ، ب: أحدها.

الرافعي وليس ذلك صريحًا في رد هذه المقالة ولا في قبولها، وقد ارتضاها النووي في "التحقيق" وجزم بأن محل القولين إذا لم ينتقل فإن انتقل جدد الاجتهاد جزمًا، وهو حاصل ما في "الكفاية" لابن الرفعة أيضًا. قوله: ولو اجتهد عدل فقال لمن هو يصلى بالتقليد أخطأ بك فلان، فإن كان قول الأول أرجح عنده أو مثله أو لم يعرف هل هو مثله أو لا لم يجب العمل بقول الثاني، وهل يجوز العمل به؟ يبني على أن المقلد إذا وجد مجتهدين هل يجب الأخذ بأعلمهما أم يتخير؟ فإن قلنا بالأول لم يجز وإلا ففيه خلاف؛ لأنه إن بنى كان مصليًا للصلاة الواحدة إلى جهتين، وإن استأنف كان مبطلًا للفرض بغير عذر وفي كل منهما خلاف، وإن كان الثاني أرجح فهو كتغير اجتهاد البصير فينحرف. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح في الصلاة الواحدة إلى جهتين هو الجواز كما صرح به الرافعي والنووي في مواضع من هذا الباب، والأصح في الخروج من الفرض بغير عذر هو المنع كما سبق في التيمم، وحينئذ فيكون الأصح من هذا الخلاف هو الجواز إن أراد البناء والمنع إن أراد الخروج، وعبر في الروضة بقوله خلاف ولم يذكر مدرك الخلاف الذي يعلم منه الصحيح في حالة دون حالة ثم إنه صحيح من زوائده المنع ولم يذكر تفصيلا بالكلية. وذكر مثله في "شرح المهذب" والتحقيق وغيرهما فحصل الغلط من وجهين. الأمر الثاني: أن ما ذكره فيما إذا كان الثاني أعلم قد ذكر في كتاب القضاء في الكلام على الاستفتاء ما يخالفه فقال القياس في هذه المسألة: أن

تخرج على الخلاف السابق فإن أوجبنا الأخذ بقول الأعلم فهو كما قالوه من تعين. فهو كما قالوه من تعين الاجتهاد، وإلا فلا أثر لقوله. واعلم أن ما قالوه في هذه المسألة والمسألة السابقة صريح في أن الخلاف في تقليد الأعلم جارٍ مع العلم به، لكن الرافعي في القضاء لما تكلم على الاستفتاء وحكى الخلاف في وجوب استفتاء الأعلم جعل محله في البحث عنه، ثم حكى عن الرافعي أنه ذكر في علم الأصول أنه إذا اعتقد أن أحدهم أعلم، لم يجز أن يقلد غيره، وإن كان لا يلزمه البحث عنه إذا لم يعلمه، وأقره الرافعي فلم ينكره، وزاد النووي على ذلك فقال من "زوائده" المختار ما ذكره الغزالي، قال: فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين، فإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح. وهذا الذي قاله النووي هناك واقتضاه كلام الرافعي أيضًا مناف للمذكور هنا، وذكر أيضًا ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" أنه إذا علمه وجب عليه تقليده على الأظهر. وهذا التعبير يشعر بثبوت الخلاف فيه.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء الثَّالث مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (3)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [قوله] (¬1) الصلاة في الشريعة عبارة عن الأفعال المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم بشرائط. انتهى. وهذا الحد الذي ذكره يرد عليه سجدة التلاوة والشكر، فإن الحد صادق عليهما مع أنهما ليستا من أنواع الصلاة كما صرح به الرافعي، بل ذلك في الكلام على الأوقات المكروهة، وهو واضح أيضًا. والمراد بالأفعال هو ما يصدر عن الشخص، ليعم القراءة وغيرها من الأركان القولية، وأنها من الصلاة بلا نزاع. قوله في أصل "الروضة": فالأركان المتفق عليها سبعة عشر: النية والتكبير والقيام والقراءة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه، والسجود والطمأنينة فيه، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والقعود في آخر الصلاة والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، والتسليم، وترتيبها هكذا؛ انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه جعل من المتفق على ركنتيه التكبير، والطمأنينة، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتسليم، وليس كذلك. فأما التكبير ففي "البحر" للروياني وجه أنه شرط لا ركن؛ وعلله بأن الركن هو الداخل في الماهية، والمصلي لا يدخل في الصلاة إلا بفراغه منه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأجاب عنه الروياني بأن المصلي إذا فرغ منه تَبَيَّنا دخوله في الصلاة بأوله. والنووي في "شرح المهذب" حكى هذا عن أبي حنيفة، قال: وفائدة الخلاف في كونه شرطًا أو ركنًا فيما لو افتتح التكبير بمانع ما من النجاسة أو استدبار القبلة، أو غيره، وهي فائدة صحيحة فاعلمها. وأما الطمأنينة فإن الغزالي لم يجعلها ركنًا مستقلًا بل هيئة تابعة للركن، ومال إليه الرافعي فقال: وبه يُشْعِر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثم اركع حتى تطمأن. . . ." (¬1) إلى آخر الحديث. وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليست متفقًا على وجوبها فضلًا عن ركنيتها فإن الجرجاني حكى في كتابيه "الشافي" و"التحرير" قولين في إيجابها فقال: [فصل] (¬2). وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي واجبة في التشهد الأخير على أصح القولين. هذا لفظه، ومنهما نقلته. وحكى القاضي عياض في "الشفا" عدم الوجوب أيضًا عن الخطابي من أصحابنا، ونقله في "شرح المهذب" عن ابن المنذر وقال: إنه من جملة الأصحاب. وأما السلام فرأيت في "الذخائر" للقاضي مجلي وجهًا أنه شرط، فثبت بطلان دعواه في هذه الأربعة. ولم يتعرض الرافعي -رحمه الله- لنفي الخلاف، فقد ذكر النووي من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (724) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من جـ.

جملة المقطوع به أيضًا النية، إلا أنه بعد أسطر قد ذكر الخلاف فيها. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يرفض عد الترتيب من [بين] (¬1) الأركان على الإطلاق فضلًا عن دعوى عدم الخلاف فيه، فإنه نقل في تفسير الركن عبارتين، ثم نقل عن الغزالي أنه عد الأركان أحد عشر؛ ثم قال: ومنهم من ضم إلى الأحد عشر التي ذكرها الترتيب في الأفعال. وهكذا أورده صاحب "التهذيب" ويظهر عده من الأركان على العبارة الثانية .. هذه عبارته إلا أنه جزم به في "المحرر"، وقال في "الشرح الصغير": إنه حسن. الأمر الثالث: أن تعبيره بقوله: ترتيبها هكذا. أي على مقتضى العدد غير مستقيم؛ لأن النية والتكبير لا ترتيب بينهما، وكذلك القيام مع القراءة. وقد صرح الرافعي في كتاب الحج في أوائل الفصل الثامن المعقود للمبيت بأنه لا ترتيب بين القيام والقراءة. قوله: ومن فرض الموالاة ونية الخروج ألحقها بالأركان. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن مدلول هذا الكلام هو اتفاق القائلين بالوجوب [على الركنية ولأجل ذلك اغتر ابن الرفعة به فقال: لا خلاف أن نية الخروج] (¬2) من الأركان وليست كذلك. فأما الموالاة ففي "النهاية" عن الأصحاب أنها شرط. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وأما نية الخروج ففي كونها ركنًا أو شرطًا وجهان رأيتهما في "العمد" للفوراني، وفي "الإبانة" له أيضًا. الأمر الثاني: أن النووي قد تابع الرافعي هنا، وفي أكثر كتبه على جعل الموالاة من الأركان. وخالف في "شرح الوسيط" فقال في باب شروط الصلاة: والموالاة والترتيب شرطان، وهو أظهر من جعلهما من الأركان. هذه عبارته، ومن خطه نقلت. الأمر الثالث: في تصوير الموالاة في الصلاة، فإن في تصويره إشكالًا، وقد تعرض لتصويره إمام الحرمين فقال: ولا يتصور ذلك إلا في تطويل الفواصل كالاعتدال والجلوس بين السجدتين، قال: فالتفريق في الصلاة إنما هو تطويل ركن قصير؛ وتبعه الرافعي على هذا التصوير فقال بعد ذلك في الكلام على ترك الموالاة في الفاتحة ناسيًا: ولو أخل المصلي بالموالاة ناسيًا بأن طول ركنًا قصيرًا لم يضر. هذا كلامه. ولما كان في الإبطال بتطويل الركن القصير خلاف شهير عبر الرافعي بقوله: ومن فرض الموالاة؛ فاعلم ذلك فإنه دقيق مهم. وصور ابن الصلاح بصورة أخرى رأيتها في نكت له على "المهذب" فقال: وعندي أن صورته ما إذا سلم ناسيًا، وطال الفصل فإنها تبطل للتفريق، لأنه ليس بمتصل حقيقة بخلاف الفصل القصير فإنا عفونا عنه كالكلام اليسير. وقد أعاد الرافعي الكلام على هذه المسألة في أوائل سجود السهو، وذكرت أيضًا لفظه هناك فراجعه.

قوله: وعد الغزالي هنا الأبعاض أربعة: أحدها: القنوت. وثانيها: التشهد الأول. وثالثها: العقود له. ورابعها: الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه إذا قلنا باستحبابها. وألحق بها شيئان: أحدهما: الصلاة على الآل في التشهد الثاني إن قلنا: إنها مستحبة لا واجبة، وكذلك في التشهد الأول إن استحببناها تفريعًا على استحباب الصلاة على الرسول فيه؛ وهذا الخامس قد ذكر في الكتاب في باب السجدات. والثاني: القيام للقنوت عُدَّ بعضًا [برأسه] (¬1) وقراءة القنوت بعضًا آخر، حتى لو وقف ولم يقرأ سجد للسهو، وهذا هو الوجه إذا عددنا التشهد بعضًا، والقعود له بعضًا آخر. انتهى كلامه فيه أمور: أحدها: أن الغزالى في "الوجيز" في البابين معًا، قد ذكر الصلاة على الآل في التشهد الثاني؛ فدعواه أنه أهمله هنا غريب. ثم إن الغزالي في "الوجيز" لم يتعرض للصلاة على الآل في التشهد الأول، لا هنا ولا هناك فاعلمه، فإن ظاهر كلامه يقتضي أن الغزالي عده هناك، وأن المراد بالخامس هو الصلاة على الآل في التشهدين، إذا قلنا باستحبابهما. الأمر الثاني: أن ما ذكره من كونه لو وقف ولم يقرأ أن يسجد إنما هو بيان للسجود بترك القراءة دون القيام، ولم يبين صورة العكس، وهو ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

السجود للقيام فقط مع غموضه. وأما الذي مثل له فإنه واضح، وصورته: أن يكون لا يحسن القنوت ولا التشهد فإنه يستحب له أن يقف ويجلس بقدرهما كما قاله في باب صفة الصلاة من "الكفاية"؛ وحينئذ فإذا ترك ذلك سجد للسهو كما ذكره في الباب المذكور، وفي باب سجود السهو أيضًا. وما ذكره يدل على أن التشهد والقنوت إنما يشرع السجود لتركهما إذا كان التارك يحسنهما، ولو قيل بخلافه لم يبعد نظرًا إلى أن التارك من حيث الجملة محتاج إلى الجبر. وخالف في "الإقليد" ما ذكره ابن الرفعة فقال في "التحقيق": إن القيام للقنوت لا يعد من هذه الجملة لأن القنوت يشرع في قيام مشروع لغيره وهو ذكر الاعتدال؛ ولهذا لا يقف من لا يعرف القنوت بقدر القنوت، والتشهد شرع جلوسه مقصودًا في نفسه، ولهذا يجلس من لا يعرف التشهد بقدره. هذا كلامه. الأمر الثالث: في تصوير السجود لترك الصلاة على الآل في التشهد الثاني بأن السجود محله قبل السلام، وحينئذ فإن لم يسلم صلى على الآل، ولا سجود، ولا ترك، وإن سلم فات المحل. والجواب: أنه يتصور بما إذا صلى مأمومًا وتيقن ترك إمامه لذلك، وهذه الصورة لا إشكال فيها، وقد تصور أيضًا بصورتين للنظر فيهما مجال. إحداهما: إذا سلم ناسيًا للترك فإن المتجه أن يسجد كما أطلقوه، وإن كان يحتمل أن يقال: إذا سجد كان عائدًا إلى الصلاة كما صححوه؛ وإذا عاد فيأتي بها لأن محلها باقٍ وهو القعود. وإذا أتى بها فلا سجود فيؤدي السجود إلى عدم السجود، وذلك دور.

وجوابه: بأنه يسجد ويعود إلى الصلاة ولكن لا يأتي بالمتروك للدور المذكور، ولاشتغاله بشيء آخر. الصورة الثانية: إذا تركها واشتغل بالأدعية المأثورة فيحتمل أن يأتي بها ولا سجود لأنه لم يشتغل بفرض، ويحتمل عدم الإتيان لاشتغاله بما بعدها من السنن، كما قالوا: إنه لا يعود إلى دعاء الاستفتاح بعد تعوذه على الصحيح. وما ذكرناه موقوف على قاعدة: وهي أن من اشتغل عن السنة بسنة بعدها، هل يعود إلى السنة المتروكة أم لا؟ كلام صاحب "التنبيه" يدل على أنه يعود، فإنه قال: وإن ترك سنة فإن ذكر قبل التلبس بقرض عاد إليه، وإن تلبس بفرض لم يعد إليه. فدل على أنه لا أثر للتلبس بالسنة، ووافقه عليه ابن الرفعة، واعتذر عن عدم العود إلى دعاء الاستفتاح بأنه لمعنى، وهو الاستفتاح وقد زال. وكلامه في "المهذب" يدل على عدم العود فإنه ذكر المسألة في باب سجود السهود فقال: فإن نسى سنة نظرت فإن ذكر ذلك، وقد تلبس بغيره مثل إن ترك دعاء الاستفتاح فذكره، وهو التعوذ، أو ترك التشهد الأول فذكره وقد انتصب قائمًا لم يعد إليه. هذه عبارته، ووافقه النووي في شرحه له، وزاده تصريحًا فقال: قال أصحابنا: إذا ترك المصلي سنة وتلبس بغيرها لم يعد إليها؛ سواء تلبس بفرض أو سنة. هذه عبارته، وستكون لنا عودة أيضًا إلى الكلام في الأبعاض في أول باب سجود السهو فراجعه.

الركن الأول التكبير

الركن الأول التكبير قوله: وهل يجب استصحاب النية إلى أن يفرغ من التكبير؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم. انتهى. ذكر مثله أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" ثم خالف ذلك في كتاب الطلاق من "الشرح الكبير" فقال في الكلام على نية الكنايات. والأظهر: الاكتفاء بمقارنتها لأول التكبير. انتهى. وحذفه النووي من "الروضة" هناك فاتفق أن يسلم من الاختلاف؛ لكنه قال في "شرح المهذب" و"شرح الوسيط" المسمى "التنقيح": المختار ما اختاره الإمام والغزالي [إلى] (¬1) أنه يكفي فيها المقارنة العرفية عند العوام بحيث يعد مستحضرًا لصلاة. قوله: في أصل "الروضة": ولو علق الخروج بدخول شخص ونحوه مما يحتمل حصوله في الصلاة، وعدمه بطلت في الحال في الأصح كما لو دخل في الصلاة هكذا فإنها لا تنعقد بلا خلاف، وكما لو علق به الخروج من الإسلام فإنه يكفر في الحال قطعًا. والثاني: لا تبطل في الحال. وهل تبطل بوجود الصفة إذا وجدت وهو ذاهل عن التعليق؟ وجهان: أصحهما وهو قول الأكثرين: تبطل. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قال الإمام: ويظهر على هذا أن يقال: يتبين بالصفة بطلانها من حين التعليق. أما إذا وجدت، وهو ذاكر للتعليق فتبطل قطعًا. انتهى. ذكر الرافعي نحوه، وفيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد عكس هذا الترتيب في الصيام فقال قبيل الركن الثاني: هل هو خارج عن الصوم عند مجيئه؟ فيه وجهان: إن قلنا نعم فهل يخرج في الحال؟ فيه وجهان: وكل ذلك كما في الصلاة. الأمر الثاني: أن ما ذكره من عدم الخلاف فيما إذا دخل في الصلاة على هذا التعليق ليس كذلك، فقد حكى القاضي حسين في "تعليقه" في ذلك خلافًا. الأمر الثالث: [أن ما ذكره من] (¬1) كونه ذاكرًا للتعليق مدلوله استحضار أنه كان قد علق مع أنه لم ينس تعليقًا آخر مماثلًا للأول، فهذا لا سبيل فيه إلى ما زعمه من القطع بالبطلان ولا شك أن مراده إنشاء تعليق آخر إلا أن عبارته قصرت عنه. قوله فيها أيضًا: ولو تردد الصائم في الخروج من صومه، أو علقه على دخول شخص ونحوه لم يبطل على المذهب الذي قطع به الجماهير، وقيل: وجهان. انتهى. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع قد خالفه في كتاب الصوم فجزم بحكاية وجهين. قوله: الثانية لو شك في النية نظر إن أحدث على الشك ركنًا فعليًا بطلت صلاته، وإن أحدث ركنًا قوليًا كالقراءة والتشهد، وكذلك في أظهر ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الوجهين، وهو المنصوص. انتهى ملخصًا. وهذه العبارة تشعر أو توهم أن الحكم متعلق بجميع الفاتحة أو التشهد، وليس كذلك، بل البعض منها مبطل أيضًا على الأصح كما صرح به الخوارزمي في "الكافي" ونقله عن نص الشافعي. قوله: وفي اشتراط نية الفرضية وجهان: أظهرهما عند الأكثرين، وبه قال أبو إسحاق: يشترط لأن الطهر قد يوجد من الصبي، وممن صلى منفردًا ثم أعادها في الجماعة، مع أنه ليس بفرض، ولك أن تقول: إن عني بالفرضية في هذا المقام كونها لازمة على المصلي بعينه وجب أن لا ينوي الصبي الفرضية بلا خلاف ولم يفرق الأئمة بين الصبي والبالغ بل أطلقوا الوجهين. وأيضًا فإن من صلى منفردًا ثم أدرك جماعة ينوي بالثانية الفرض على الصحيح، وهو غير لازم عليه وإن عنى بالفرضية كونها لازمة على أهل الكمال فالطهر أخص منه، والتعرض للأخص يغني عن التعرض للأعم؛ وإن عنى به شيئًا آخر فلابد من بيانه. انتهى ملخصًا. فيها أمران: أحدهما: أن ما أشعر به إطلاقه من إلحاق الصبي في ذلك بالبالغ قد صرح به في الباب الثالث من أحكام التيمم فقال: والصحيح أن الصبي لا يجمع بين فرضين لأنه وإن لم يكن ملحقًا لكن ما يؤديه حكمه حكم الفرض، ألا ترى أنه ينوي بصلاته المفروضة. هذه عبارته. وقد صرح النووي أيضًا هنا في "الروضة" بذلك فقال مختصرًا لكلام الرافعي ونية الفرضية شرط على الأصح عند الاكثرين سواء كان الناوي بالغًا أو صبيًا، ثم خالف ذلك في "شرح المهذب" فقال: قال الرافعي:

وسواء في الاشتراط كان الناوي بالغًا أو صبيًا، وهذا ضعيف. والصواب أنه لا يشترط في حقه نية الفرضية، وكيف ينوي الفرضية وصلاته لا تقع فرضًا؟ . وقد صرح بهذا صاحب "الشامل" وغيره. هذا كلامه. وذكر مثله في "التحقيق" فقال: الأصح أنه لا يشترط، وما ذكره النووي فيهما هو الصواب. وقد جزم به أيضا في "التتمة" في الكلام على ما إذا صلى الصبي ثم بلغ وإمام الحرمين في الكلام على المنفرد إذا أعاد في جماعة، ونقله عنه الرافعي هناك، واقتضى كلامه الاتفاق عليه، وستعرفه في موضعه إن شاء الله تعالى. ورأيته أيضًا مجزومًا به في كتاب "القولين والوجهين" للمحاملي في كتاب الصيام. واعلم أن الذي ذكره الرافعي أيضًا في الصلاة المعادة قد خالفه في "الروضة" في صلاة الجماعة فقال من زوائده: الراجح أنه لا يشترط فيها نية الفرضية، وبما ذكرناه يحصل الجواب عن البحث السابق. وتعليل النووي عدم نية الفرضية لكونه لا يقع فرضًا منقوض بمن أدرك الإمام في الجمعة بعد الرفع من الركوع الثاني، فإن الأصح في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما أنه ينوي الجمعة [وإن كانت لا تحصل، وكتب النووي على حاشية هذه المسألة في كتاب الجمعة] (¬1)، من "الروضة" فقال: إنما ينوي الجمعة لأنا لم نتيقن فواتها لاحتمال أن يكون الإمام قد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

نسي القراءة من إحدى الركعتين فتذكر أنه بقي عليه ركعة فيقوم إليها. وحينئذ فيكون الذي قاله فارقًا بين المسألتين، لكنه غير مستقيم، فقد ذكر في "الروضة" من "زياداته" أن المسبوق إذا بقي عليه ركعة فقام الإمام إلى خامسة، فلا يجوز متابعته فيها حملًا على أنه تذكر ترك ركن. وأيضًا فلو راعينا هذا لكان يلزمه الاقتداء به، وهو بعيد. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي إلحاق فرض الكفاية والمندوب وركعتي الطواف إن أوجبناهما بالصلوات الخمس في شيئين: أحدهما في التعيين، وهو ظاهر، وكلامهم في الصوم يدل عليه، وحينئذ فينوي صلاة الجنازة مثلًا أو عن نذر أو ركعتي الطواف. ثانيهما: في الفرضية، وهو ظاهر أيضًا، وقد صرح به في فرض الكفاية الرافعي في باب صلاة الجنازة، وحكى معه وجهًا آخر أنه لابد من نية فرض الكفاية. وأما المنذور فنقله في "الكفاية" عن بعضهم ساكتًا عليه، والقياس في ركعتي الطواف كذلك. قوله: وأصح الوجهين عند الأكثرين أنه لا يشترط التعرض لنية الأداء والقضاء، بل يصح الأداء بنية القضاء، وبالعكس. ولك أن تقول: إن جرى ذلك على لسانه أو في قلبه، ولم يقصد حقيقة معناه، بل قصد بالأداء حقيقته، وبالقضاء حقيقته، فلا ينبغي أن يقع نزاع في جوازه، وإن قصد معناه المصطلح عليه، فلا ينبغى أن يقع نزاع في منعه، وإن كان المراد شيئًا آخر فلابد من بيانه أولًا. انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أنه قد يلتزم تصويره بما إذا أراد شيئًا آخر [لابد من بيانه] (¬1) فسبق لسانه إلى غيره بناءً على أن التلفظ يجب، وعلى أن نية القضاء والأداء لابد منها، وهذا الجواب قد ذكره في "الكفاية". الأمر الثاني: أن النووي قد استدرك عليه في "الروضة" فقال: مراد الأصحاب بهذه المسألة ما إذا نوى ذلك جاهلًا بالوقت لغيم ونحوه، وذكر أيضًا مثله في "شرح المهذب" ثم قال: صرح الأصحاب بأنه إذا نوى الأداء في وقت القضاء وعكسه لم يصح بلا خلاف. وممن صرح به إمام الحرمين في مواقيت الصلاة. انتهى. وحاصل ما قاله النووي: أن محل الوجهين فيما إذا نوى ذلك جاهلًا، لكنه قد ذكر في الشرح المذكور قبل هذا الموضع بأسطر قلائل ما يخالفه فقال: وإذا ظن الوقت باقيًا فنوى الأداء لم يضر بلا خلاف، ونص عليه الشافعي. هذا كلامه. وذكر قريبًا منه أو ما يقتضيه في مثله من الصوم. واعلم أن حمل الخلاف على صورة الجهل وإثبات الخلاف فيها قد أنكره في "الكفاية"، ولا وجه لإنكاره؛ وتوجيه البطلان أنه نوى شيئًا ليس مطابقًا لما في نفس الأمر لاسيما من يقول بوجوب التعرض للأداء والقضاء، فله أن يقول: هذا الشرط لم يحصل، فبطلت الصلاة مع الجهل كسائر الشروط التي جهلها المصلي. وقد ظفرت بنسخة صحيحة من "فتاوى القاضي حسين" ورأيته قد ذكر هذه المسألة فقال: ظاهر المذهب أنه يصح؛ وهو يقتضي إثبات الخلاف، ثم ¬

_ (¬1) سقط من ب.

رأيت نسخة أخرى فلم أظفر بذلك لاختلاف النسخ ورأيت في "فتاوى القفال" كلامًا حاصله: التفصيل بين أن يضم إليه شيئًا آخر يعارضه لقوله: أصلي فرض الوقت قضاءًا، أو أصلي ظهر أمس [أداء] (¬1)، فيصح، ويلغو ذكر القضاء والأداء، أو لا يضم إليه ذلك، فلا يصح [فاقتضى] (¬2) كلامه فرض ذلك مع العلم. قوله: في "الروضة": ولا يشترط التعرض لعدد الركعات على الصحيح، لكن لو نوى الظهر ثلاثًا أو خمسًا لم تنعقد. انتهى. وما ذكره من عدم الانعقاد [مقتضاه] (¬3) أنه لا فرق فيه بين الغالط والعامد، وهو خلاف ما ذكره الرافعي فإنه قد ذكر ذلك قبل هذه المسألة بقليل استدلالًا على شئ، وفرضه في حالة العلم. ومقتضاه أنه لا يؤثر عند الغلط، ويؤيده ما ذكروه في نية الخروج من الصلاة وفي غيرها فإنهم قالوا: إذا لم يوجبها فأخطأ في التعيين لم يضر. قوله: القسم الثاني: النوافل، وهما ضربان: أحدهما: النوافل المتعلقة بوقت أو سبب فيشترط فيها أيضًا نية فعل الصلاة، والتعيين [فينوي] (¬4) سنة الاستسقاء والخسوف، وسنة عيد الفطر والتراويح والضحى وغيرها. وفي الرواتب تعين بالإضافة فيقول: أصلي ركعتي الفجر، وراتبه الظهر، أو سنة العشاء. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في أ: سوى.

فيه أمور: أحدها: أن النووي في "شرح المهذب": قد مثل للراتبة بقوله: وسنة الظهر التي قبلها أو التي بعدها. هذه عبارته. واقتضى كلامه اشتراط ذلك، ولا وجه لاشتراطه عند تقديم المقدمة لا فيها ولا في المتأخرة. فإن أخرها فقد اجتمعتا فتحتمل الشرطية، ويتجه تخريجه على الخلاف في الأداء، والقضاء عند اجتماعهما، وإن كانت المؤخرة أداء. وأصل هذا البحث أن الراتبة المقدمة على الفريضة تؤخر وتكون أداء بخلاف المؤخرة فإنها لا تقدم. الأمر الثاني: أن كلامه -أعني: الرافعي- يقتضي اشتراط التعيين في ركعتي لإحرام والطواف والتحية وسنة الوضوء لأنها من ذوات السبب كما صرحوا به في الأوقات المنهي عنها مع أنه لا يشترط في التحية بلا شك كما قاله في "الكفاية" قال: وأما الأولان فصرح الأصحاب باشتراط التعيين فيهما؛ وقد صرح في "تصحيح التنبيه" بركعتي الطواف، وعدهما مما يجب فيه التعيين بلا خلاف، وأما سنة الوضوء فيتجه إلحاقها بالتحية، وقد ذكر الغزالي ذلك وزاد عليه فقال في "الإحياء" في كلامه على سنة الوضوء: ولا ينبغي أن ينوي ركعتي الوضوء كما ينوي ركعتي التحية، فهو تطوع محض يقع عقب الوضوء كيلا يتعطل وضوءه. الأمر الثاني: أن تعبيره بقوله: ركعتي الفجر أو راتبه الظهر أو سنة العشاء، فيه إشارة إلى التخيير بين هذه الألفاظ. وتعبيره بقوله: فينوي سنة الاستسقاء، والخسوف، وسنة عيد الفطر والتراويح، والضحى إلى آخره.

هكذا وقع في الرافعي -أعني: بلفظ- السنة ولا يمكن تصحيح النية بما ذكره فقط. وعبر في "الروضة" بقوله: فينوي صلاة الاستسقاء والخسوف أو عيد الفطر أو النحر. قال الشيخ عز الدين: وينبغي في صلاة العيد أن لا يجب التعرض لكونه فطرًا أو نحرًا لأنهما مستويان في جميع الصفات فيلتحق بالكفارات. الأمر الرابع: أن الرافعي قد جزم في مواضع من باب صلاة التطوع بأن الوتر من الرواتب التابعة للفرائض، وتابعه عليه في "الروضة"، وحينئذ فكيف يستقيم مع ذلك ما ذكراه هنا ليس من كونها لا تضاف إلى العشاء لأنها صلاة مستقلة. الأمر الخامس: أن ما سبق في الوتر محله فيما إذا نوي عددًا، فإن لم ينو شيئًا فهل يلغو لإبهامه أو تصح وتحمل على ركعة [لأنها المتيقن] (¬1) أو على ثلاث لأنها أفضل كما لو نوى الصلاة فإنها تنعقد ركعتين مع صحة الركعة أو علي إحدى عشرة لأن الوتر له غاية هي أفضل فحملنا الإطلاق عليها بخلاف الصلاة؟ في كل ذلك نظر. قوله: وهل يشترط التعرض للنفلية في هذا الضرب؟ اختلف فيه كلام الناقلين، وهو قريب من نية الفرضية في الفرض. انتهى. وهذا الخلاف الذي ذكره الرافعي -رحمه الله- كيف يتصور مع التصريح بالسنة؟ فإن التعرض لسنة العشاء مثلًا يستلزم التعرض للسنة قطعًا. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قوله: الضرب الثاني: النوافل المطلقة فيكفي فيها نية فعل الصلاة، ولم يذكروا هنا خلافًا في اشتراط التعرض للنفلية. ويمكن أن يقال: مقتضى اشتراط الفرضية في الفرض اشتراط النفلية هنا. انتهى. وما ذكره من عدم ذكرهم الخلاف، ليس كذلك فقد جزم صاحب "التقريب" بأن الصلاة لا تصح إلا مع التعرض للفرض أو النفل. ذكر ذلك في كتاب "الحج" في الكلام على ما إذا أهل بالحج في غير أشهره، فقال ما نصه: فأما الصلاة فلا يجوز صرفها من نية إلى نية لأنه عقدها لا يجوز على غير شيء، ألا تراه لو صلى لا ينوي به فرضًا، ولا نفلًا لم يجز صرفها إلى واحد منهما لحاجة كل واحد منهما إلى تعيين النية له دون صاحبه. وللشافعي ما يدل على هذا القول، وقد أشرنا إليه في كتاب الصلاة. هذا كلام ابن القفال، ومن "التقريب" نقلته. ولم يطلع في "الروضة" على ما ذكرناه فقال: الصواب الجزم بعدم اشتراط النفلية في الضربين، ولا وجه للاشتراط في الأول، وذكر نحوه في "شرح المهذب"، ووجه ما قاله من أنه لا وجه لاشتراطه في الضرب الأول؛ وهو ذو السبب والوقت أمران: أحدهما: ما ذكرته قبل هذه المسألة. والثاني: أن هذه الأمور لا تكون إلا نافلة بخلاف الظهر ونحوها، فإنها قد تكون فرضًا، وقد لا تكون بدليل صلاة الصبي، والصلاة المعادة، فاعلم ذلك فإن كلامه قد يتبادر منه العكس.

قوله في أصل "الروضة": النية في جميع العبادات تتعين بالقلب، ثم قال: ولنا وجه شاذ أنه يشترط نطق اللسان. انتهى. وهو يقتضي أن هذا الوجه يجري في العبادات كلها لأنه لم يخصه بشيء، وليس كذلك. فإن الصوم لا يجب النطق فيه بلا خلاف كما هو مصرح به في "الشرح" و"الروضة" في كتاب الصيام، وكذلك أيضًا الحج كما دل عليه كلام الرافعي هنا، وكذا في الزكاة كما دل عليه كلامه في موضعه. وكلام الرافعي لا إيراد عليه، لأن سياق كلامه هنا يقتضي تخصيص الوجه بالصلاة. نعم في باب الوضوء من "البحر" وجه أنه لابد من التلفظ، ومقتضاه جريانه في العبادات كلها فإنه قال: وقال أبو عبد الله الزبيري: النية اعتقاد بالقلب، وذكر باللسان، ليظهر بلسانه ما اعتقد بقلبه. هذه عبارته. وهو لا يدفع عن النووي الاعتراض المذكور. قوله: ولو عقب النية بقوله: إن شاء الله تعالى، بالقلب أو اللسان، فإن قصد به التبرك ووقوع الفعل بمشيئة الله تعالى لم يضر. وإن قصد الشك لم تصح صلاته. انتهى. تبعه عليه في "الروضة"، وقد أهملا قسمًا ثالثًا وهو الإطلاق، وقد نص عليه الجرجاني في باب صفة الوضوء من "الشافي" وقال: إنه لا يصح، لأن اللفظ موضوع للتعليق. قوله: ولو تحرم بالفرض منفردًا فجاء الإمام وتقدم ليصلي بالناس فقال -يعني الشافعي-: أحببت أن يسلم عن ركعتين تكون نافلة، ويصلي

الفرض في جماعة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله الشافعي معناه: أن يقطع نية الفرضية ويقلبها نفلًا، هكذا ذكره الرافعي في آخر كتاب صلاة الجماعة، وذكر هنا في آخر المسألة نحوه أيضًا، ولكن حذفه النووي من "الروضة". الأمر الثاني: أن صورة المسألة أن تكون الجماعة مشروعة، فإن لم تكن كما لو كان يصلي الظهر مثلًا فوجد من يصلي العصر، فإنه لا يجوز القطع، كما قاله النووي في صلاة الجماعة من "شرح المهذب" ونقله عن المتولي وغيره. ونقل الرافعي هناك عن القاضي حسين أنه في هذه الحالة لا يستحب القطع، وتابعه النووي عليه وزاد فجزم به غير ناقل له عن أحد. والقياس امتناعه، فإن الخروج من الصلاة في الوقت يجعلها قضاء على ما قاله أئمتنا. ويأتيك أيضًا في الحج. وكان القياس يقتضي امتناعه، وإن كانت الجماعة مشروعة، إلا أَنَّا قد اغتفرناه لهذا الغرض. قوله: ولو قلب فرضه نفلًا بلا سبب، فالأظهر البطلان. انتهى. إنما قيده بعدم السبب ليحترز عن المسألة السابقة، وعن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته فإن له قلبها نفلًا على اختلاف فيه مذكور في موضعه،

[وعما] (¬1) لو دخل في الفائتة ظانًا أن وقت الحاضرة متسع فبان ضيقه فإنه يجب قطعها على الصحيح كما قاله (¬2) [في "الروضة". قال القاضي حسين: ويستحب له في هذه الحالة أن يقلبها نفلًا ويسلم من ركعتين. قوله في "الروضة": فإن طال -أي: الفصل بين التكبير لقوله: الله لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر- لم يجزئه قطعًا. انتهى. وما ذكره من عدم الخلاف قد أشعر به كلام الرافعي أيضًا، وليس كذلك فقد خالف فيه [الشاشي] (¬3) فقال: ولا اعتبار عندي بطول الفصل وقصره، بل بالانتظام، فمتى أفاد التكبير بأن يكون [أكبر] (¬4) خبرًا عنه انعقد، وقد حكى ذلك في "الكفاية"، لكنه حكاه عن بعضهم، ولم يبين قائله. واعلم أن الماوردي قد مثل اليسير بقوله: الله لا إله إلا هو أكبر، مع أن الفاصل أربع كلمات فاعلمه. قوله من زوائده: ومن فروع الفصل ما ذكره صاحب "التلخيص" والبغوي والأصحاب أنه لو كبر للإحرام أربع تكبيرات أو أكثر، دخل في الصلاة بالأوتار وبطلت بالأشفاع. وصورته: أن ينوي بكل تكبيرة افتتاح الصلاة ولم ينو الخروج عن الصلاة بين كل تكبيرتين فبالأولى دخل، وبالثانية خرج، وبالثالثة دخل، وبالرابعة خرج، وبالخامسة دخل، وبالسادسة خرج، وهكذا أبدًا. ¬

_ (¬1) في أ: وكما. (¬2) بداية سقط كبير من ب قرابة عشر ورقات مخطوط. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

لأن من افتتح صلاة ثم نوى افتتاح صلاة بطلت صلاته، ولو نوى افتتاح الصلاة بين كل تكبيرتين فبالنية يخرج، وبالتكبير يدخل، ولو لم ينو بالتكبيرة، وما بعدها افتتاحًا ولا خروجًا صح دخوله بالأولى، وباقي التكبيرات ذِكر لا تبطل به الصلاة. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي بسطها قد ذكرها الرافعي مختصرة في الباب الثاني من أبواب الشفعة في الكلام على تصرف المشتري في الشقص المشفوع فقال ما نصه: كما إذا تحرم بالصلاة ثم شك فجدد نية وتكبيرة لا تنعقد بها الصلاة لأنه يحصل بها الحل، فلا يحصل بها العقد. هذا لفظه، وقد عبر الإمام أبو عبد الله المعروف بالختن عن هذه العلة بعبارة تقتضي معنًا آخر، أو بسطًا للمعنى المذكور هنا، فقال: لأنه مع التكبيرة الثانية ينوي الخروج من الصلاة التي عقدها بالتكبيرة الأولى، وينوي الدخول بها في الثانية، ولا يجوز أن يكون في وقت واحد مبطلًا لإحدى صلاتين داخلًا في أخرى. هذه عبارته، ومن شرحه على "التلخيص" نقلت. واعلم أن صاحب "التلخيص" ذكر هذا الحكم ولم يعلله، ولم يجزم به أيضًا، بل نقله عن بعض شيوخه، فيقال عقب ذكره له: سمعت بعض مشايخنا يقوله. هذه عبارته ومن "التلخيص" نقلت. قوله: وحكى في بعض نسخ "الوجيز" في قيد الرفع ثلاثة أقوال. أحدها: أنه يرفع يديه إلى حذو المنكبين. والثاني: أنه يرفعها إلى أن تحاذي أصول أصابعه أذنيه. والثالث: إلى أن تحاذي أطراف أصابعه أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وكفاه منكبيه.

وفي بعض النسخ الأول والثاني خاصة. والمراد من القول الأول أن لا يجاوز بأصابعه منكبيه، وهكذا صرح به إمام الحرمين. وأما الثاني فكأن المراد من الأذن هو شحمته وأسافله، لا أعلاه، وإلا اتحد مع القول الثالث. وظاهر المذهب القول الثالث، ولم ينقل معظم الأصحاب في ذلك خلافًا، ولم أرَ حكاية الخلاف إلا لابن كج، وإمام الحرمين، لكنهما لم يذكرا إلا القول الأول والثالث. فظهر تفرد المصنف بما نقل من حكاية القولين أو الثلاثة. انتهى ملخصًا. والحاصل أن المسألة ليس فيها ثلاثة أقوال بل ولا قولان على الوجه الذي حكاه الغزالي وإنما قولان آخران: أحدهما: أن يرفع بحيث يحاذي برؤوس أصابعه منكبيه. والثاني: القول المعروف، ولم يثبت في "الروضة" خلافًا بالكلية وكأنه يوهم نفي أصل القولين. قوله: لكن الأكثرين على ترجيح الوجه الثاني المنسوب إلى رواية وائل ابن حجر، وهو أنه يبتدئ الرافع مع ابتداء التكبير، واختلفوا على هذا في انتهائه، فمنهم من قال: يجعل انتهاء الرفع والتكبير معًا. وقيل: يجعل انتهاء التكبير، والإرسال معًا؛ وقال الأكثرون: لا استحباب في طرف الانتهاء، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع أو بالعكس أتم الثاني. انتهى كلامه.

تابعه النووي في "الروضة" على نفي الاستحباب في الانتهاء فقال: إنه الأصح، لكنه لم ينقله عن الأكثرين، وصرح بتصحيحه أيضًا في "شرح مسلم"، ثم صحح -أعني: النووي- في "التحقيق" الوجه الآخر، وهو أنه يستحب انتهاؤهما معًا، وقال في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح": إنه الأصح، وهو قول الجمهور، ونص عليه الشافعي في "الأم"، وقال في "شرح المهذب": إنه الأصح المنصوص عليه في "الأم". وإذا علمت ما تقدم علمت أن الفتوى على خلاف ما في "الشرح" و"الروضة" ترجيحًا لأحد الموضعين المتعارضين على الآخر بنص الشافعي. واعلم أن الإمام قد حكى عن شيخه ما حاصله أن الكيفيات كلها على السواء، وأقره عليه، وتابعه عليه الغزالي فقال في "الوسيط": قال المحققون: ليس هذا اختلافًا بل صحت الروايات كلها فلنقبل الكل ولنجوزها على نسق واحد. قوله: والثالثة: ويُسن بعد التكبير، وحط اليدين من رفعهما أن يضع اليمنى على اليسرى وذلك بأن يقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى، وبعض الرسغ والساعد، وقد روى ذلك عن وائل بن حجر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. والرسغ: براء مضمومة ثم سين مهملة ساكنة، وعين معجمة وهو ما رقّ من الكف واتصل بالذراع، ويقال فيه: الرصغ بالصاد، قاله الجوهري، وحديث وائل رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب"، ورواه مسلم أيضًا عنه، ولفظه: "ثم وضع يده اليمنى على اليسرى" (¬1) ولم يذكر غير ذلك. ووائل مهموز على وزن ضارب؛ وحجر بحاء مهملة ثم جيم ساكنة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (401) وأبو داود (723) وأحمد (18886).

بعدها راء. واعلم أن كلام الرافعي يقتضي أن إرسال اليدين مكروه، لأن مخالفة السنة مكروهة، كما قاله النووي. وبذلك -أعني: كراهة الإرسال- صرح البغوي في "التهذيب"، لكن قال الشافعي: والقصد من ذلك تسكين يديه، فإن أرسلهما ولم يعبث فلا بأس كذا نقله عنه في "الشامل". قوله: ويتخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل وبين نشرها في صوب الساعد، ذكره القفال لأن القبض باليمنى على اليسرى حاصل في الحالين. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقله عن القفال واقتصاره عليه، وقد ذكر الغزالي في "الإحياء" كيفية أخرى تخالف هذه فقال في أوائل الباب الثاني من كتاب "أسرار الصلاة": ويضع اليمنى علي اليسرى إكرامًا لليمنى بأن تكون محمولة، وينشر المسبحة والوسطى من اليمنى على الساعد، ويقبض بالخنصر والبنصر على كوع اليسرى. هذه عبارته في نسخة وقفت عليها. قوله: وكيف يفعل المصلي بعد رفع اليدين عند التكبير أيدلي يديه كما يفعله الشيعة في دوام القيام ثم يضمها إلى الصدر، أم يجمعهما ويضمهما إلى الصدر من غير أن يدليهما؟ والجواب: أن المصنف ذكر في "الإحياء" أنه لا يقبض يديه يمينًا وشمالًا إذا فرغ من التكبير، ولكن يرسلهما إرسالًا خفيفًا رقيقًا ثم يستأنف وضع اليمين على الشمال. قال: وفي بعض الأخبار أنه كان يرسل يديه إذا كبر، فإذا أراد أن يقرأ وضع اليمنى على اليسرى، فهذا ظاهر في أنه يدلي ثم يضمهما إلى

الصدر، وقال صاحب "التهذيب" وغيره: المصلي بعد الفراغ من التكبير يجمع بين يديه، وهذا يشعر بالاحتمال الثاني. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المراد من الاحتمال الأول المنقول عن الشيعة هو المبالغة في إرسال اليدين كما يفعله المالكية، وما نقله عن الغزالي في "الإحياء" مخالف لهذا الاحتمال، فإن قول الغزالي: إرسالًا خفيفًا، صريح في أنه لا يبالغ، بل يقبض عند الصدر، وقد صرح به كذلك في درسه، كذا نقله عنه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" فقال: وبعد هذا كله لطيفة علقتها بنيسابور مما علق عن صاحب الكتاب في الدرس قال: ثم حالة إرسال اليدين لا ينبغي أن يرسل يديه ثم يستأنف رفعها إلى الصدر، فإني سمعت بعض المحدثين يقول: الخبر إنما ورد بأنه يرسل يديه إلى صدره. هذا كلامه، وما ذكره البغوي لا ينافيه أيضًا. وإذا ظهر لك ذلك علمت قطعًا المنافاة بين كلام الغزالي والاحتمال الأول من احتمال الرافعي، وقد اختصره في "الروضة" بعبارة هي أفحش في الغلط من عبارة الرافعي فقال: واختلفوا في أنه إذا أرسل يديه هل يرسلهما إرسالًا بليغًا ثم يستأنف رفعهما إلى تحت صدره، ويضع اليمنى على اليسرى، أم يرسلهما إرسالًا خفيفًا إلى تحت صدره فحسب ثم يضع؟ فيه وجهان. قلت: الأصح الثاني، والله أعلم. وذكر مثله في "شرح المهذب" وزاد فيه، فنقل هذا الخطأ كله عن كلام الرافعي. نعم في "الخلاصة" للغزالي و"بذل الهداية" له أنه يخفضهما ثم يستأنف رفعهما.

الأمر الثاني: أن الغزالي في "الإحياء" قد عبر بقوله: "ويرسلهما إرسالًا خفيفًا، ويستأنف وضع اليمين على الشمال بعد الإرسال". وفي بعض الروايات: إن كان إذا كبر أرسل يديه فإذا أراد أن يقرأ وضع اليمنى على اليسرى، وإن صح هذا فهو أولى. هذه عبارته، وهذا الذي نقله عن بعض الروايات، وادعى أنه إذا صح يكون أولى مغاير لما ذكره أولًا، وكلام الرافعي يقتضي أنه هو. قوله: والسنة أن يفرق بين أصابعه تفريقًا وسطًا. انتهى. تابعه في "الروضة"، وذكر في "شرح المهذب" ما يخالفه فقال: قطع المصنف والجمهور باستحباب التفريق، وقال الغزالي: لا يتكلف الضم ولا التفريق، بل يتركها منشورة على هيئتها. وقال الرافعي: يفرق تفريقًا وسطًا، والمشهور الأول. انتهى كلامه بحروفه. وحاصله أن المشهور استحباب المبالغة في التفريق، والذي قاله الرافعي هو ملخص كلام الإمام فإنه قال: ولتكن الأصابع منشورة، ولا يؤثر اعتماد تفريجها ولا نرى ضمها، وليكن بين بين؛ والضابط في هيئتها أن ينشر الأصابع ويتركها على صفتها وسجيتها، ولا يتعمد فيها ضم ولا تفريج، فإذا فعل ذلك اقتصد الأمر في الانفراج. قوله من زياداته: وإذا طول الثلاثة يعني القيام والركوع والسجود زيادة على ما يجوز الاقتصار عليه. فالأصح أن الجميع يكون واجبًا. والثاني: يقع ما زاد سنة.

ومثله الخلاف في مسح جميع الرأس، وفي البعير المخرج في الزكاة عن خمس، وفي البدنة المضحى بها بدلًا عن شاة منذورة. انتهى كلامه. وحاصله أن الراجح في جميع هذه الصور أن الجميع يقع واجبًا، وقد صرح بتصحيحه أيضًا هنا في "شرح المهذب" و"التحقيق". إذا علمت ذلك فقد صحح -يعني: النووي- في باب الوضوء من "شرح المهذب" و"التحقيق" أن الزيادة تقع نفلًا، وبه أجاب في "الروضة" من زياداته في باب الأضحية فقال ما نصه: والأرجح في الجميع أن الزيادة تقع تطوعًا. انتهى. وكذلك في باب الدماء أيضًا، وهو قبل باب الأضحية فقال في البدنة أو البقرة المخرجة عن الشاة، قلت: الأصح أن الفرض سُبعها، صححه صاحب "البحر" وغيره، والله أعلم. وكذلك في "شرح المهذب" في باب النذر فقال: أصحهما يقع سبعها واجبًا، والباقي تطوعًا؛ ثم ذكر -أعني: النووي- أيضًا هذه النظائر كلها في باب الزكاة من "شرح المهذب" وصحح أن الزائد في بعير الزكاة فرض، وأن الزائد في باقي الصور نفل، وأدعى اتفاق الأصحاب على تصحيح هذا التفصيل، وكلام "الشرح" و"الروضة" هناك ربما يفهمه أيضًا. ومن نظائر المسألة ما إذا زاد بعرفات على قدر الوقوف الواجب، وقد خرجه في "الكفاية" على هذا الخلاف. ومن نظائره أيضًا ما إذا زاد في الحلق والتقصير على ثلاث شعرات، والقياس فيه التخريج. ومنها ما إذا صلى على الجنازة أكثر من واحد، ولا شك أنه لا يصح

تخريجها على الخلاف لاستحالة حصول ثواب الواجب لو أخذ بعينه بخلاف باقي الصور، فإن الفعل فيها حصل من واحد فيصح أن يثاب على بعضه ثواب الواجب، وعلى بعض ثواب النفل. والقياس فيها -أي: صلاة الجنازة أن يثاب كل واحد ثواب الواجب، أو يوزع ثواب الواجب على الجميع بالسوية، إلا أن الرافعي وغيره قد جزموا في الطائفة الثانية بأن صلاتهم تقع فرضًا فبطريق الأولى ما نحن فيه، وعللوا ما قالوه بأن صلاة الجنازة لا يتطوع بها، وبأن الشخص إذا علم أنه يثاب على الفعل ثواب الواجب كان أدعى إلى الإتيان به. وهذا التعليل حسن يطرد في باقي الصور، وأما الأول فينتقض بصلاة الصبي، والمرأة، وبالصلاة المعادة، وما ذكروه في صلاة الجنازة قياسه الاطراد في سائر فروض الكفايات. ومن النظائر ما إذا زاد على قدر الكفاية والحكم فيه أن يقع تطوعًا كما جزم به الرافعي في أوائل باب النذور، وتابعه عليه في "الروضة". والزكوات والديون والنذور ونحوها بمثابة الكفارة، والفرق بينهن وبين مسح الرأس ونظائره أن الكفارات ونحوها لها قدر معلوم محدود منصوص عليه، وهاهنا أمور مهمة: أحدها: أن جواز إخراج البدنة أو البقرة عن الشاة ليس على إطلاقه بل يستثنى منه جزاء الصيد، قاله الرافعي في باب الدماء وتبعه عليه في "الروضة"، ثم ذكر في باب الأضحية ما يوهم الجواز في جزاء الصيد إيهامًا شديدًا. ومقتضى كلامه جواز الإخراج في جزاء الشجر، وكان الفرق المطلوب من جزاء الصيد المماثلة في الصورة إخراج البدنة عن البقرة.

وأما الشجر فليس المقصود منه المماثلة، إذ الحيوان ليس مماثلًا للشجر فإذا جاز إخراج البدنة عن الشجرة الكبيرة فإخراجها عنها، وهي صغيرة أولى. ويستثنى أيضًا ما إذا نذر أن يهدي شاة بعينها فإنه لا يجوز أن يذبح مكانها بدنة ولا بقرة، لأنها تعينت كما صرح في باب النذر من "شرح المهذب" وغيره. [الثاني] (¬1) أن الخلاف في مسح الرأس هل محله إذا وقع دفعة واحدة حتى إذا وقع مرتبًا فالزائد نفل جزمًا أم الخلاف جارٍ في الصورتين؟ ، فيه وجهان حكاهما النووي في باب الأضحية من زياداته من غير ترجيح وصحح منهما في "شرح المهذب" أنه لا فرق، واختار الإمام الأول، وذكر في القيام قريبًا منه فقال: ولا يتجه وصف القيام بعد قراءة الفاتحة بالفرضية، ويتجه فرض الخلاف فيما إذا وقف زمنًا ولم يقرأ الفاتحة ثم قرأها، هل يوصف ذلك بالفرضية من حيث أنه كان يمكن إيقاع القراءة المفروضة فيه وكان لا يسوغ قطعه قبلها؟ الثالث: للخلاف المذكور ثلاث فوائد ذكرها في "التحقيق" و"شرح المهذب" في مواضع: إحداها: جواز الأكل فإن قلنا: الزائد فرض فلا يجوز أكله؛ وإن قلنا: إنه نفل، جاز، وهذه الفائدة ذكرها الرافعي في باب الدماء، وفي باب الأضحية. الفائدة الثانية: إذا عجل البعير عن الشاة، واقتضى الحال الرجوع، فهل يرجع بخمسة فقط أم يرجع بكله على هذا الخلاف؟ كذا ذكره النووى مع الفائدة المتقدمة والمتأخرة في هذا الباب من "شرح المهذب" و"التحقيق". ¬

_ (¬1) بياض في أ، ب.

الفائدة الثالثة: زيادة الثواب، فإن ثواب الواجب أعظم من ثواب النفل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكاية عن الله تعالى: "وما تقرب إلىّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم" (¬1)، وهذه الفائدة ذكرها النووي في "زياداته" في باب الأضحية، والقدر الذي يمتاز به الواجب هو سبعون درجة، حكاه في "الروضة" من زياداته في أول النكاح عن حكاية الإمام قال: واستأنسوا فيه بحديث. انتهى. واعلم أن الطبراني روى في "معجمه الكبير" عن صهيب بن النعمان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوبة على النافلة" (¬2). وإسناده متماسك. وروى البيهقي في "شعب الإيمان" أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح معمول به في السر وضعف أجره ستون ضعفًا" (¬3) وهو ضعيف فإنه من رواية بقية بن الوليد، وهذا المجموع هو الحديث الذي استأنسوا به فاعلمه، إذ الحسنة بعشر أمثالها مضافة إلى الستين، والمراد بالعمل هنا الفرض، لأنه الذي يستحب إظهاره. قلت: وفائدة رابعة وهي الحسبان من الثلث إذا أوصى بذلك، أو فعله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6137) بلفظ: "وما تقرب إلى عبدى بشئ أحب إلىّ مما افترضت عليه. . . ." من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (7322). قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه محمد بن مصعب القرقساني، ضعفه ابن معين وغيره، ووثقه أحمد. وقال الشيخ الألباني: حسن. (¬3) شعب الإيمان (6813)، وقال: هذا من أفراد بقية عن شيوخه المجهولين. وقال الشيخ الألباني: ضعيف.

[الركن الثاني: القيام]

في مرض موته. فإن جعلناه نفلًا حسبناه من الثلث؛ وإن جعلناه فرضًا فيتجه تخريجه على الخلاف في ما إذا أوصى بالعتق في الكفارة المخيرة هل تحسب من رأس المال أم لا؟ وفيه اختلاف يأتيك في باب الوصية. وفائدة خامسة أيضًا وهي كيفية النية في البعير المخرج عن الشاة ونحو ذلك، فإن جعلنا الجميع فرضًا فلابد أن ينوي الزكاة أو الصدقة المفروضة، ونحو ذلك بالجميع. وإن قلنا: إنه الخمس، كفاه الاقتصار عليه في النية. [الركن الثاني: القيام] (*) قوله: وإذا عجز عن القيام في صلاة الفرض عدل إلى القعود ولا ينقص ثوابه [لأنه] (¬1) معذور. انتهى. وهذا التعليل قد تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وفيه كلام مهم يتعين الوقوف عليه أذكره إن شاء الله تعالى في صلاة الجماعة في الكلام على الأعذار المرخصة في تركها. قوله: ولو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو، ولو قام لرآه العدو، أو جلس الغزاة في مكمن ولو قاموا رآهم العدو، وفسد التدبير فلهم الصلاة قعودًا، ويجب الإعادة لندوره، انتهى. زاد في "الروضة" فقال: قلت: قال صاحب "التتمة": إن خاف لو قام في الصلاة أن يقصده العدو صلى قاعدًا وأجزأته على الصحيح، ولو صلى الكمين في وهدة قعودًا ففي صحتها قولان، والله أعلم. فأما المسألة الأولى: من زوائده فقد اختلف تصحيحه فيها فصحح في ¬

_ (¬1) في أ: لا. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، وفي روضة الطالبين: «اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُومُ الْقُعُودُ مَقَامَهُ فِي النَّافِلَةِ، وَفِي الْفَرِيضَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقِيَامِ، الِانْتِصَابُ»

"شرح المهذب" هنا وجوب الإعادة، وصحح في باب صلاة المريض من "التحقيق" عدم الوجوب. وأما الثانية: فقد رأيتها أيضًا في كلام "التتمة" وأعادها لإفادة القول المحكي في عدم الصحة، كذا أوضحه في "شرح المهذب" في صلاة المريض فاعلمه. قوله: وإذا قعد المعذور فلا يتعين لقعوده هيئة، لكن يكره الإقعاء في هذا القعود وفي جميع قعدات الصلاة، لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقعي الرجل في صلاته (¬1). ويروى أنه قال: "لا تقعوا إقعاء الكلاب" (¬2)، واختلفوا في تفسير الإقعاء على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقرب بين رجليه، ويضع إليته على عقبيه. والثاني: أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه. والثالث: وهو الذي ذكره في الكتاب، أنه الجلوس على الوركين، ونصف الفخذين والركبتين، وهذا أظهر، وبه فسر أبو عبيد، لكن زاد فيه شيئًا آخر، وهو وضع اليدين على الأرض. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (282) وابن ماجة (894) وأحمد (1243) والبيهقي في "الكبرى" (5581) وعبد بن حميد (67) من حديث عليّ - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث على إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن على وقد ضعف بعض أهل العلم الحارث الأعور. وقال الشيخ الألباني: ضعيف. (¬2) أخرجه ابن ماجه (895) من حديث عليّ - رضي الله عنه - بلفظ: "لا تقع إقعاء الكلب". قال الشيخ الألباني: حسن.

فيه أمور: أحدهما: أن تفسير الإقعاء المكروه بالتفسير الأول قد نبه في "الروضة" على غلطه فقال: الصواب هو الثالث؛ وأما الأول فغلط، فقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) أن الإقعاء سنة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفسره العلماء بالتفسير الأول، ونص على استحبابه للشافعي في "البويطي"، و"الإملاء" في الجلوس بين السجدتين؛ قال العلماء: والإقعاء ضربان: مكروه وغير مكروه. انتهى كلام "الروضة". وذكر ابن الصلاح نحوه فقال: وقد خبط في الإقعاء من المصنفين من لم يعلم أنه نوعان. واعلم أن ما ذكره ابن الصلاح والنووي قد سبقهما إليه البيهقي، وأوضحه فأطال الكلام فيه (¬2). وقد نقله عنه في "شرح المهذب"، إلا أن خلاصة كلامه أنه مكروه ما عدا الجلوس بين السجدتين فإنه مرخص فيه أو سنة، وكلام "الروضة" لا يعطي ذلك فتفطن له. الأمر الثاني: أن الأحاديث الواردة في النهي عن الإقعاء كلها ضعيفة، كذا ذكره البيهقي، وتبعه عليه في "شرح المهذب" (¬3)، لكن روى الحاكم في "مستدركه" (¬4) عن الحسن عن سمرة قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ¬

_ (¬1) حديث (536) من حديث ابن عباس. (¬2) في "السنن الكبرى" (2/ 120) حكاية عن أبي عبيدة. (¬3) استثنوا من ذلك حديث عائشة عند مسلم "نهي عن عقبه الشيطان" كما ورد في "الخلاصة". (¬4) أخرجه الحاكم (1005) والطبراني في "الكبير" (6957) والبيهقي في "الكبرى" (2572) وابن عدي في "الكامل" (3/ 304). قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبى. وقال الشيخ الألباني: صحيح.

الإقعاء في الصلاة" ثم قال: إنه صحيح على شرط البخاري، وأراد أن مذهب البخاري أن الحسن قد ثبت سماعه من سمرة مطلقًا خلافًا لمن خصه بحديث العقيقة، كذا نقله ابن عبد البر في "الاستذكار" عن الترمذي عن البخاري. الأمر الثالث: أن عبارة الرافعي، والنووى في هذا الإقعاء صريحة في أنه يجعل ظهور قدميه على الأرض، ويجلس على بطونها. وعبر في "البويطي" بقوله: ويجلس المصلي في جلوسه بين السجدتين على صدور قدميه، ويستقبل بصدور قدميه القبلة، هذا لفظه. وحاصله أنه ينصب القدمين، ويجعل أطراف الأصابع على الأرض ويعتمد عليهما. الأمر الرابع: أن ما ذكره في "الروضة" من استحباب الإقعاء في الجلوس بين السجدتين، وأن الشافعي نص عليه، لا ينافي ما ذكره في الكلام على الجلوس بين السجدتين من استحباب الافتراش في أصح القولين، فإنه قد ذكر في شرحي "المهذب" و"مسلم" جوابه فقال: وكلاهما سنة، لكن إحدى السنتين أكثر وأشهر فكانت أفضل في أصح القولين. الأمر الخامس: أنه وقع في "الرافعي" و"الروضة" أبو عبيد بلا تاء، وصوابه أبو عبيدة بالتاء. ففي "شرح المهذب" عن البيهقي: أن أبا عبيد القاسم بن سلام نقله عن شيخه أبي عبيدة معمر بن المثنى. قوله: فإن عجز عن القعود اضطجع على جنبه الأيمن مستقبلًا بوجهه ومقدم بدنه القبلة، فإن ترك التيامن جاز، وفي قول: يستلقي على ظهره

ويجعل رجليه إلى القبلة، فإنه إذا رفع وسادته قليلًا كان وجهه إلى القبلة، وإذا أومأ بالركوع والسجود كان إيماؤه إلى القبلة بخلاف المضطجع. وقيل: يضطجع على جنبه الأيمن، ولكن أخمصاه إلى القبلة، وهو ضعيف. وذكر الإمام أن الخلاف المذكور خلاف في الوجوب، لأن الاستقبال مختلف فيه بخلاف الخلاف في كيفية القعود فإنه خلاف في الأفضل. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن رفع الوسادة على القول الثاني هل هو على سبيل الاشتراط أم لا؟ ليس في كلامه تصريح بشيء، وقد صرح باشتراطه في أصل "الروضة" وغيرها. الأمر الثاني: أن هذا كله مسلم إذا كان يصلي في غير الكعبة، فإن صلى فيها مضطجعًا لمرض أو تنفل مضطجعًا فالمتجه أنه يجوز أن يستلقي على ظهره وعلى وجهه، لأنه كيف ما توجه فهو متوجه لجزء من أجزاء الكعبة. نعم إن لم يكن على الكعبة سقف، وتنفل مستلقيًا على ظهره فيتجه المنع. والمسألة محتملة، ولعلنا نزداد فيها علمًا أو نشهد نقلًا. قوله: فإن عجز عن الإشارة بالرأس أومأ بطرفه، فإن عجز عن تحريك الأجفان أجرى أفعال الصلاة على قلبه، وقال أبو حنيفة: إذا عجز عن الإيماء بالرأس لم يكلف بها في تلك الحالة، ولكن يقضيها وقد حكاه في "البيان" وجهًا لنا.

دليلنا: ما روي عن علىّ -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يصلى المريض قائمًا، فإن لم يستطع صلى جالسًا، فإن لم يستطع الجلوس وأومأ وجعل السجود أخفض من الركوع، فإن لم يستطع صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة أومأ بطرفه فإن لم يستطع صلى على قفاه مستلقيًا وجعل رجليه مستقبل القبلة" (¬1). ثم قال بعد ذكره لهذا الحديث: واحتج في الكتاب للترتيب المذكور بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) ولا يصح الاحتجاج به في هذا المقام، لأن هذا الخبر أمر بالإتيان بما يشتمل عليه المأمور عند العجز عن ذلك المأمور، فإنه قال: "فأتوا منه"، والقعود المعدول إليه عند العجز لا يشتمل عليه القيام المأمور به حتى يكون مستطاعًا من المأمور به، وكذلك الإضطجاع لا يشتمل عليه القعود، وإجراء الأفعال على القلب لا تشتمل عليه الأفعال المأمور بها. ألا ترى أنه إذا أتى بالأفعال، ولم يحضرها في ذهنه حين ما يأتي بها أجزأته صلاته. انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 42) والبيهقي في "الكبرى" (3493) وابن الجوزي في "التحقيق" (415). قال الزيلعي: قلت: حديث غريب، وأعله عبد الحق في "أحكامه" بالحسن العربي وقال: كان من رؤساء الشيعة ولم يكن عندهم بصدوق ووافقه ابن القطان. قال: وحسين بن زيد لا يعرف له حال. انتهى. وقال ابن عدي: روى أحاديث مناكير ولا يشبه حديثه حديث الثقات وقال ابن حبان: يروى المقلوبات ويأتي عن الأثبات بالمرويات انتهى. وحسين بن زيد هو: ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال عبد الرحمن بن أبى حاتم: قلت لأبى: ما تقوله فيه؟ فحرك يده وقلبها "يعنى تعرف وتنكر؟ ". وقال ابن عدي: أرجو أنه لا باس به إلا أني وجدت فى حديثه بعض النكرة. انتهى. وقال النووي: حديث ضعيف. وكذا ضعفه ابن الملقن كما في "البدر المنير" (3/ 525 - 526). (¬2) أخرجه البخاري (6858) ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فيه أمور: أحدها: أن حكاية هذا الوجه عن "البيان" في حالة العجز عن الإيماء بالرأس قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غلط، فإن المذكور في "البيان" ما حاصله أنه إذا عجز عن الإيماء برأسه أومأ بحاجبه وطرفه في الركوع والسجود ويقرأ بلسانه، فإن عجز حركه بها، فإن تعذر الإيماء وحركة اللسان أمر الأركان على قلبه. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه الصلاة في هذه الحالة، وحكى الطبري في "العدة وجهًا" مثله. انتهى. وذكر أيضًا في "الزوائد" نحوه. وحاصله أن هذا الوجه يقول: إن الصلاة لا تسقط عند العجز عن الإيماء بالرأس، فالأبدان تعجز أيضًا عن الإيماء بالطرف، وعن حركة اللسان بالقراءة، ثم راجعت كلام "العدة"، وهي "عدة" أبي عبد الله الحسن الطبري، فوجدت النقل فيها كذلك أيضًا، إلا أنه لم يذكر الإيماء بالحاجب وكأنه ملازم للإيماء بالطرف، ورأيته قد نقل الوجه عن ناصر العمري شيخه، وزاد أن قائله يقول بوجوب القضاء على الأصح. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" لما حكى الوجه الضعيف لم يذكر وجوب القضاء، بل اقتضى كلامه عدم وجوبه، وهو وجه آخر تقدمت حكايته لم يذكر وجوب القضاء، بل اقتضى كلامه عدم وجوبه، وهو وجه آخر تقدمت حكايته، ويتحصل من ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا الإعراض الذي ذكره الرافعي عن الغزالي ذهول عن مراده، فإنه لم يرد بالأمر حديث الأعرابي، ونحوه مما يتبين فيه أركان الصلاة، بل أراد الحديث الذي ذكره وهو من رواية علىّ لكن الإمام ذكره،

واستنتج منه هذا، ودلالته على ما عدا الإمرار واضحة، وأما على الإمرار فقد أوضحه الإمام فقال: لأنه لما أمر المستلقي بالصلاة والصلاة في الشريعة عبادة مخصوصة ذات أركان فعلية وقولية، فلا يتصور اعتقادها عند سقوط الأفعال الظاهرة إلا بإجرائها في القلب، ثم قال: وهذا حسن لطيف، وهذا الحديث قد أخرج معناه الدارقطني وضعفه (¬1). نعم في البخاري من رواية [عمران] (¬2): صلى قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬3). وحديث: "إذا أمرتكم" (¬4) صحيح أخرجه الشيخان. قوله في "الروضة": فرع: القادر على القيام إذا أصابه رمد، وقال له طبيب موثوق به: إن صليت مستلقيًا أو مضطجعًا أمكن مداواتك، وإلا خيف عليك العمى، جاز له الاضطجاع، والاستلقاء على الأصح، انتهى كلامه. والخلاف المذكور عائد إلى كل من المسألتين، كذا صرح به الرافعي فقال: فهل له أن يستلقي أو يضطجع بهذا العذر؟ فيه وجهان. هذا لفظه. وعبارة الروضة ليست صريحة فيه. قوله: ولو وجد المريض خفة في ركوعه قاعدًا وإن وجدها قبل الطمأنينة لزمه الارتفاع إلى حد الركوع الصحيح، ولا يجوز له أن ينتصب قائمًا ثم يركع، وإن وجد بها بعد الطمأنينة فقد تم ركوعه، ولا يلزمه الانتقال إلى ركوع القائمين، ولكن يجوز له ذلك، لأنه لابد له من القيام للاعتدال، إما منحنيًا أو مستويًا. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن الانتقال من ركن إلى ركن لا يجب، إذ لو كان واجبًا لكان يلزمه العود إلى الركوع مطلقًا لينتقل منه، ولا ينتقل من غيره. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ، ب، جـ: عمار. (¬3) أخرجه البخاري (1066) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬4) تقدم.

[الركن الثالث] القراءة

وذكر أيضًا بعد ذلك نحوه فقال: إنه إذا سقط من الركوع، فإن اطمأن فلا يجب العود إلى الركوع، بل يقوم وإلا وجب، انتهى. وهذا الذي اقتضاه كلامه من كون الانتقال غير واجب، قد صرح بخلافه في أوائل شروط الصلاة في الكلام على سبق الحدث، وسأذكر إن شاء الله عبارته هناك، وذكر هناك نحوه أيضًا فقال في الكلام على الركوع: ويجب أن لا يقصد بهويه غير الركوع، فلو قرأ في صلاته آية السجدة فهوى ليسجد للتلاوة ثم بدا له بعدما بلغ حد الراكعين أن يركع، لم يعتد بذلك عن الركوع، لأنه لم يقطع القيام لقصد الركوع، بل يجب عليه أن يعود إلى القيام ثم يركع. انتهى. وهو يدل على وجوب شيئين. أحدهما: الانتقال. والثاني: أن لا يقصد شيئًا آخر. وذكر في مواضع أخرى نحوه أيضًا. واعلم أن ما ذكره الرافعي من جواز الانتقال إلى ركوع القائمين بعد الطمأنينة لم يصرح به في "الروضة"، إلا أن في كلامه إشعار به. [الركن الثالث] (¬1) القراءة [قوله] (¬2) يستحب للمصلي إذا كبر أن يقول دعاء الاستفتاح وهو: "وجهت وجهي. . . ." إلى: وأنا من المسلمين" (¬3) رواه عليّ -رضي الله عنه- إلا أنه قال في آخره: وأنا أول المسلمين، لأنه -عليه الصلاة والسلام- أول مسلمي هذه الأمة، ولا يزيد الإمام على هذا إذا لم يعلم رضى المأمومين بالزيادة. ¬

_ (¬1) بياض في أ، ب. (¬2) بياض في أ، ب. (¬3) أخرجه مسلم (771) وأبو داود (760) والترمذي (3421) والنسائي (897) من حديث عليّ - رضي الله عنه -.

فإن علم رضاهم، أو كان المصلي منفردًا استحب أن يقول بعده: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت. ." إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن المأموم في الصلاة الجهرية يستحب له الاقتصار على الأول، ويسرع به أيضًا ليشتغل بسماع قول الإمام، كذا نقله في "شرح المهذب" عن "التبصرة" للشيخ أبي محمد وأقره، وهو ظاهر. الثاني: أن إطلاقه يقتضي أنه لا فرق في التعبير بقوله: من المشركين، وبقوله: من المسلمين، بين الرجل والمرأة. واستعمال المرأة لذلك صحيح على إرادة الأشخاص، ويدل على التعميم ما رواه الحاكم في "المستدرك" عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين"، قال عمران: قلت: يا رسول الله: هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل لذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال: لا، بل للمسلمين عامة (¬1). واعلم أن الذكرين المتقدمين رواهما مسلم "في صحيحه" من رواية عليّ، إلا أن (مسلمًا) بعد قوله (حنيفًا) ليست في رواية مسلم، بل زادها ابن حبان في "صحيحه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (7524) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: بل أبو حمزة ضعيف جدًا. وقال الألباني: منكر. وقال أبو حاتم: حديث منكر. وأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 37) من حديث أبي سعيد بسند ضعيف أيضًا. (¬2) حديث (1771).

قوله في "الروضة": ولا يجهر بالتعوذ في الصلاة السرية، ولا في الجهرية أيضًا على الأظهر قياسًا على دعاء الاستفتاح. والثاني: يستحب. والثالث: يتخير بلا ترجيح، وقيل: يستحب الإسرار قطعًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن استحباب الإسرار بدعاء الاستفتاح قد أسقطه النووي لكونه تعليلًا فلزم خلو "الروضة" منه. وفي "شرح التنبيه" للمحب الطبري: أن في استحباب الجهرية أيضًا وجهين. الأمر الثاني: أن الرافعي لم ينقل طريقة قاطعة بالإسرار كما فعل المصنف فإنه لم يتعرض لنفي الخلاف، وإنما حكاه عن أبي عليّ الطبري كحكاية سائر الأوجه. قوله: واستحباب التعوذ هل يختص بالركعة الأولى؟ منهم من قال: لا، بل يسن في كل ركعة لوقوع الفصل بين القراءتين بالركوع والسجود، ومنهم من قال: فيه قولان: أظهرهما: ما ذكرناه. والثاني: يختص بالأولى، كما لو سجد للتلاوة ثم عاد إلى القراءة، فإنه لا يعيد، فكأن رابطة الصلاة تجعل الكل قراءة واحدة. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من الطريقين هي طريقة القطع، كذا صححه النووي في "الروضة"، ولم ينبه فيها على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له، وصحح الرافعي في "الشرح الصغير" طريقة

القولين، وحكى في "شرح المهذب" طريقة ثالثة أنه لا يستحب قطعًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره في سجدة التلاوة من كونه لا يعيد التعوذ مسألة نفسية مهمة، وقد أسقطها النووي فلم يذكرها في "الروضة"، ونقلها في "شرح المهذب" عن المتولي. قوله: وهل يجب على المأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية؟ فيه قولان: أصحهما: نعم. فإن قلنا: لا يقرأها؛ فلو كان أصمًا أو بعيدًا لا يسمع قراءة الإمام، قرأ في أصح الوجهين، فلو جهر الإمام في صلاة السر أو بالعكس فوجهان: أصحهما عند صاحب "التهذيب": أن الاعتبار بصفة الصلاة، وهو ظاهر لفظ المصنف. وذكر المحاملي حكاية عن النص ما يقتضي أن الاعتبار بفعل الإمام، وهو الموافق للأصح في الأصم والبعيد. انتهى ملخصًا. وظاهره يشعر برجحان الوجه الثاني، ولهذا صرح النووي بتصحيحه في "أصل الروضة" وصححه أيضًا في "شرح المهذب" و"التحقيق"، لكن صرح الرافعي في "الشرح الصغير" بتصحيح الأول فقال: الأصح أن الاعتبار بحال الصلاة. وجزم في "شرح المهذب" بأن المأموم يستحب له قراءة السورة إذا أسر الإمام بالجهرية فيحتاج إلى الفرق. وقريب من هذه المسألة أنَّا إذا قلنا: لا يحرم على المحرم قلع الشجر الذي ثبته الآدميون، فالعبرة بحاله لا بفعل الشخص في أصح الوجهين كما قاله في "الروضة".

قوله وإذا قلنا: إن المأموم لا يقرأ الفاتحة، فهل يسن له أن يتعوذ؟ فيه وجهان في "البيان". أحدهما: لا، لكونه لا يقرأ. والثاني: نعم لأنه ذكر سري فيشارك الإمام فيه كما لو أسر بالفاتحة. انتهى ملخصًا. والأصح منهما أنه لا يتعوذ، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، والنووي في "التحقيق" و"شرح المهذب" وزيادات "الروضة". قوله: وإذا قلنا: إنه يقرأها، فيستحب للإمام أن يسكت بعدها قدر قراءة المأموم لها، ذكره في "التهذيب". انتهى. ذكر مثله بعد ذلك في الكلام على قراءة السورة ولم يعزه إلى البغوي، والتعبير بالسكوت تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو يوهم أن الإمام في مدة انتظاره لقراءة المأموم لا يأتي بشئ بل يسكت حقيقة، وليس كذلك، بل يستحب للإمام في هذه الحالة أن يشتغل بالذكر أو الدعاء أو القراءة سرًا، لأن الصلاة ليس فيها سكوت حقيقي في حق الإمام، وبالقياس على قراءته في انتظاره في صلاة الخوف، وقد جزم النووي بذلك في "شرح المهذب" و"الفتاوى" وغيرها، ونقله أيضًا عن "الأمالي" للسرخسي فقال: قال -يعني السرخسي-: يستحب أن يدعو في هذه السكتة كما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي. . . ." (¬1) إلى آخره. وهذا الذي قاله حسن، ولكن المختار القراءة لأن هذا موضعها، هذا كلام النووي. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (711) ومسلم (598).

قوله: واعلم أن القراءة واجبة في كل ركعة إلا ركعة المسبوق، لما روى عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة (¬1). انتهى. تابعه في "الروضة" على هذا الحصر، وليس كذلك، بل تسقط أيضًا الفاتحة في الركعات كلها حيث حصل له عذر تخلف بسببه عن الإمام بأربعة أركان طويلة، وزال عذره، والإمام راكع، وتلك في صور: منها: لو كان المأموم بطيء القراءة. ومنها: لو نسى أنه في الصلاة. ومنها: ما لو امتنع من السجود بسبب الزحمة. ومن الأعذار أيضًا: ما إذا شك بعد ركوع إمامه في قراءة الفاتحة، وقد أوضحوا ذلك في الجمعة والجماعة، وحينئذ فيتصور خلو الصلاة كلها عن القراءة. واعلم أن الحديث المذكور غير ثابت، ويغني عنه ما رواه رفاعة بن رافع في حديث المسيء صلاته: "إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم الكتاب ثم قال في آخره: ثم افعل ذلك في كل ركعة رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه وفي "شرح المهذب": إن البيهقي رواه بإسناد صحيح ولفظ الصحيحين: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (818) وأحمد (11011) وابن حبان (1790) وأبو يعلى (1210) والبيهقي في "الكبرى" (2290) وعبد بن حميد (879). قال الحافظ: إسناد صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (724) ومسلم (397) وأبو داود (856) والترمذي (303) والنسائي (884) وابن ماجه (1060) وأحمد (9633) وابن خزيمة (461 - 590) وابن حبان (1890) وأبو يعلى (6577) وابن أبي شيبة (1/ 257) والبيهقي في "الكبرى" (2091).

والمراد كل ركعة بدليل الركوع والسجود وغيرهما، وأيضًا ففي البخاري: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، وفي مسلم: "كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة" (¬2). قوله: ثم كيف يقول أيتحمل الإمام الفاتحة عن المسبوق أم لا تجب عليه أصلًا؟ فيه مأخذان للأصحاب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح من هذا الخلاف هو الأول، كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" وزاد فيه: إن الأكثرين قطعوا به. ثانيهما: أن فائدة الخلاف -كما أشار إليه ابن الرفعة- فيما لو أدركه محدثًا أو في ركعة خامسة، فإن قلنا بالأول، لم يحتسب له، لأن إمامه ليس أهلًا للتحمل، وإلا حسب، والصحيح عدم الحسبان، كما هو مقتضى البناء. قوله: التسمية آية من الفاتحة، لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الفاتحة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬3)، وعدها آية منها. وروي أنه قال: "إذا قرأتم فاتحة الكتاب فاقرأوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنها أم القرآن والسبع المثاني" (¬4)، وإن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (605). (¬2) تقدم. (¬3) أخرجه النسائي (905) وابن حبان (499) والدارقطني (1/ 305) والبيهقي في "الكبرى" (2223) والطحاوي في "شرح المعاني" (1086) وابن الجارود في "المنتقي" (184) من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة. قال الدارقطني: هذا صحيح، ورجاله كلهم ثقات. (¬4) أخرجه الدارقطني (1/ 312) والبيهقي في "الكبرى" (2219) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بسند صحيح.

ليس منها، وما حكم التسمية في سائر السور سوى براءة؟ لأصحابنا. فيه طريقتان: إحداهما: أن في كونها من القرآن قولين، والطريقة الثانية -وهي الأصح: أنها من القرآن بلا خلاف، وإنما الخلاف في أنها آية مستقلة أم بعض آية. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح طريقة القطع، وجزم في "التحقيق" و"شرح المهذب" بطريقة القولين، وهو غريب. نعم ذكر الرافعي في آخر الكلام على المسألة أن الأكثرين على طريقة القولين، والظاهر أنه سهو سبق إليه القلم. والحديث الأول رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" من رواية أبي هريرة، وقال: رجاله كلهم ثقات. قوله: فلو أبدل حرفًا بحرف فقد ترك الواجب وهل يستثني إبدال الضاد بالظاء؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لقرب المخرج وعسر التمييز. وأصحهما: لا كغيره من الخروج. انتهى كلامه. وقد تبعه في الروضة على التعبير بقوله: إبدال الضاد بالظاء، وهو فاسد، فإن مدلوله لغة عكس المراد. والصواب إبدال الظاء بالضاد، وذلك لأن القاعدة اللغوية أن الباء مع كلمة الإبدال لا تدخل إلا على المتروك، ولا تدخل على المأتى به قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (¬1)، وقال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة (61).

{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} (¬1) الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108} (¬2) وقال تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (¬3) فدل ذلك كله على ما ذكرناه. نعم لو أتى بحرف بين حرفين كقاف العرب بين الكاف والقاف المعروفة، لم يضر كما صرح به جماعة، وجزم به في "الكفاية" ومال الطبري، -شارح "التنبيه"- إلى البطلان، وقال النووي في صلاة الجماعة من "شرح المهذب": إن فيه نظر. واعلم أنه يدخل في إبدال الحرف بالحرف إقامة الدال المهملة مقام المعجمة من "الذين". ومقتضى كلامهم القطع فيه بالبطلان، فليتفطن له، ويحتمل تخريجه على ما سبق. قوله: ولا يحتمل اللحن المحيل للمعنى كقوله: "أنعمت عليهم" و"إياك نعبد" بل تبطل صلاته إن تعمد، ونعيده على الاستقامة إن لم يتعمد. انتهى. ومراده أنه أتى بتاء "أنعمت" مضمومة أو مكسورة، وبكاف إياك مكسورة، ولو أتى مضمومة لم يضر وقول الرافعي: ونعيده على الاستقامة مقتضاه أنه لا يلزمه الاستئناف بل يعيده مع ما بعده، وهو مقتضى كلام الماوردي، وعبر في "الروضة" بقوله: ويجب إعادة القراءة، وهو يشعر بوجوب الاستئناف، وبه صرح القاضي حسين في "تعليقه": واعلم أن مقتضى كلام الرافعي أن اللفظ القاطع للولاء إذا أتى به ناسيًا، ولم يطل لا يجب معه الاستئناف، وبه صرح القاضي حسين في "تعليقه" على الصحيح ومسألتنا فرد منها، فيكون الصواب فيها البناء كما ¬

_ (¬1) سورة سبأ (16). (¬2) سورة البقرة (108). (¬3) سورة النساء (2).

أشعر به كلام الرافعي. قال القاضي حسين: والمحيل للمعنى هو الذي يبطل معه المعنى الأول سواء ثبت له دلالة أم لا، وجعل هو والماوردي الظالين بالمعجمة من المحيل للمعنى لأن "ظل" بمعنى أقام نهارًا. واعلم أن إقامة الواو مقام الياء في "رب العالمين" مضر، وإن كان لحنًا لا يحيل المعنى لما فيه من الإبدال. قوله: وتسوغ القراءة بالسبع وكذا القراءة بالشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصانه. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن مقتضى ما ذكره جواز القراءة بها بالشرط المذكور، وقال في "شرح المهذب": إنه لا يجوز لا في الصلاة، ولا في غيرها، وعبر في "الروضة" بعبارة أخرى فقال: وتصح بالقراءة الشاذة. ورأيت في فتاوى قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزري أن القراءة بالشواذ جائزة مطلقًا إلا في الفاتحة للمصلي، وذكر ابن الحميري المصري في "فتاويه" نحوه أيضًا، إلا أنه أطلق المنع في الصلاة، نعم نقل البغوي في أول تفسيره الاتفاق على جواز القراءة بقراءة يعقوب، وأبي جعفر لشهرتهما. الثاني: أن إطلاق الجواز عند الشرط المذكور يدخل فيه ما إذا وقع الشذوذ بإبدال الحرف كقوله: "إنا أنطيناك الكوثر" بالنون، وبه صرح في "الكفاية". قوله: ويجب الترتيب، فلو قدم متأخرًا على متقدم، نظر إن كان عامدًا بطلت قراءته، وعليه الاستئناف، وإن كان ساهيًا عاد إلى الموضع الذي أخل منه [بالترتيب] (¬1) فقرأ منه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قال الصيدلاني: إلا أن يطول فيستأنف، انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وهذه المسألة من المسائل المهمة النفسية، فإن الحكم فيها على خلاف ما يتبادر إلى الفهم من لفظها حتى إن الرافعي نفسه حال تصنيف "الشرح الصغير" فهم من هذا اللفظ غير المراد منه لطول العهد به، فصرع به، وأدى ذلك كله إلى غلطي أيضًا في "شرح المنهاج"، وإلى غلط جماعة مضت عليهم أعصار وأن يعتبر بوقع المعبر به في الغلط جدير أن يعذر غيره فيه، فلنوضح ذلك فنقول: تقديم بعض الفاتحة على قسمين: أحدهما: أن يقدم آخر الفاتحة على أولها، كتقديم النصف الأخير بكماله أو الثلث، ونحو ذلك. والثاني: أن يقدم شيئًا من الوسط حيث يكون فاصلًا بين كلمات الفاتحة كما لو انتهى إلى قوله تعالى "صراط الذين" فعاد فقرأ: "مالك يوم الدين" أو شيئًا مما يأتي، وهو غير متصل بالأول كأن قرأ هذا المذكور: "غير المغضوب عليهم". فأما القسم الأول فلا نزاع فيه حسبان النصف الأول منه، أو الثلث أو غيره، وهو المقدار الذي أخره حتى أنه يبني عليه، لأنه والحالة قارئ الفاتحة بكمالها من غير فاصل، وهو نظير ما ذكروه في الطواف والسعي والوضوء إذا ابتدأ بغير ما يشرع الابتداء به، وقد صرح بهذا الحكم مع وضوحه جماعة منهم القاضي حسين في "تعليقه" ومجلي في "الذخائر"، وجزم به أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية". وأما القسم الثاني: فالحكم فيه ما ذكره الرافعي، وقد صرح بذلك تصويرًا أو حكمًا جماعة منهم المتولي في "التتمة" ثم استدل عليه -أعني- المتولى.

فقال: لأن ذلك غير معهود في التلاوة، ومن فعل في الصلاة فعلًا يخالف الصلاة وهو ناسٍ أو جاهل لم تبطل صلاته، وإن كان عامدًا عالمًا بطلت، فكذلك القراءة؛ ثم إن الرافعي نقل هذه المسألة من كلام "التتمة" على عادته في النقل عنه، إلا أنه نقلها من غير تمثيل ولا تعليل، فلزم الخطأ، بحمل كلامه على القسم الأول لأنه المتبادر منه حتى حمله هو عليه في "الشرح الصغير" لبعد قصده عن المراد كما تقدم، فإنه قال: فإن قرأ النصف الأخير قبل الأول لم يعيد النصف الأخير بحال، ثم إن فعل ذلك عمدًا فعليه الاستئناف، وإن كان ساهيًا بنى عليه، هذه عبارته، ففهم ذلك من تعبيره في "الكبير" كما يفهمه غيره منه أيضًا، وكلام النووي في "شرح المهذب" يقتضي أنه فهمه منه أيضًا. وكذلك جعلها فرعين مستقلين، وقد وفق الله الكريم إلى الإلهام إلى الصواب، وله الحمد والشكر، وبه التوفيق والعصمة. واعلم أنه إذا كرر آية من وسط الفاتحة حتى طال الفصل فإنه يضر. كذا نقله الخوارزمي في "الشافي" عن القاضي الحسين، وارتضاه ولم ينقل خلافه، وهو متجه فاعلمه] (¬1). قوله: وهو أخل بترتيب التشهد نظر إن كان تغييرًا مبطلًا للمعنى لم يحسب وتبطل صلاته بتعمده، ويجب طرد مثل هذا في الفاتحة. وإن لم يغير فعلى الطريقين فيما إذا قال: عليكم السلام؛ والأظهر الجواز. انتهى. واعلم أن تقديم الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل هو لتقديم بعض التشهد؟ فيه كلام يأتيك في باب سجود السهو في الكلام على وجوب الترتيب في الصلاة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: ولو نوى قطع القراءة ولم يسكت أو سكت سكوتًا يسيرًا، ولم ينو القطع لم تنقطع قراءته، فإن اجتمعا انقطعت فى أصح الوجهين، ثم قال: وإنما لم تؤثر مجرد النية هاهنا بخلاف نية قطع الصلاة، لأن النية ركن في الصلاة يجب إدامتها حكمًا، والقراءة لا تفتقر إلى نية خاصة فلا تؤثر فيها نية القطع. انتهى. وقياس هذه الفرق أن نية قطع الركوع، وغيره من الأركان لا يؤثر. فاعلم ذلك فإنها مسألة مهمة، وحذف من "الروضة" هذا الفرق ففاتته هذه المسألة. قوله: أما ما يؤمر به، وتتعلق به مصلحة الصلاة كالفتح على الإمام، وسؤال الرحمة، واستعاذته من النار عند قراءة الإمام آية دلت على ذلك لم تبطل قراءته في أصح الوجهين. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن العرب تقول للقارئ إذا توقف أُرتج عليه بضم الهمزة، وتخفيف الجيم على البناء للمفعول ارتاجًا من قولهم: أرتجت الباب، إذا أغلقته، والمرتاج: المغلاق، ويقولون أيضًا: أرتتج عليه بضم التاء الأولى ارتياجًا ولا يجوز ارتج عليه بتاء ثم جيم مشددة. وتقول في الرد: فتح عليه الأمر. ثانيهما: أنه لم يبين محل الرد، وقد بينه المتولى في "التتمة" فقال: لا يرد عليه مادام يردد التلاوة، وإنما يرد إذا سكت. [الثالث] (¬1) قال الشيخ تقي الدين بن رزين في "فتاويه": ولم يثبت شيء في كيفية الاستعاذة، وغيرها مما ندب إليه المأموم؛ قال: والظاهر: ¬

_ (¬1) بياض في أ، ب.

اتباعِ اللفظ المتلو، والذي يتضمن امتثال ما أمر به فالأول كما إذا تلي: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} (¬1) فيقول: سبحان ربي العظيم. أو تلا: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2) فيقول: اللهم إني أسألك من فضلك. وأما الثاني: فكقوله في الدعاء: {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118} (¬3)، وفي الاستعاذة: {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} (¬4). قوله: ثم لم يجروا هذا الخلاف في كل مندوب فإن الحمد عند العطاس مندوب إليه، وإن كان في الصلاة، وهو قاطع للموالاة، ولكن في المندوبات التي تختص بالصلاة، وتعد من صلاحيتها. انتهى. وما ذكره من كونه لم يجروا فيه ذلك قد تابعه عليه في "الروضة"، وفي "شرح المهذب" وصرح بأنه لا خلاف فيه، وليس كذلك، فقد حكى في "الكفاية" عن الروياني وجهين في البطلان بإجابة المؤذن -أي: على القول باستحباب إجابته في الصلاة- وإذا جرى الوجهان في هذه الصورة لزم جريانهما في المتفق على استحبابه بطريق الأولى. قوله: بل إن تذكر القراءة بعدما ركع عاد إلى القيام وقرأ. انتهى. تابعه عليه في الروضة، ومحله إذا لم يكن مأمومًا فإن كان تابعه، وقضى ركعة في آخر صلاته كما جزم به الرافعي في صلاة الجماعة عند الكلام على تخلف المأموم قال: وكذلك إذا شك في القراءة أيضًا. قوله: فنقول: إذا ترك الموالاة ناسيًا، الذي ذكره الجمهور، ونقلوه عن ¬

_ (¬1) سورة الواقعة (74). (¬2) سورة النساء (32). (¬3) سورة المؤمنون (118). (¬4) سورة المؤمنون (97).

نص الشافعي: أنه لا تنقطع الموالاة؛ ومال الإمام والغزالي إلى أنه يقطع. انتهى. وهذا الخلاف قد صرح به أيضًا الروياني في] (¬1) "التلخيص" كما حكاه عنه ابن الرفعة فقال: فيه وجهان، وادعى النووي في "تصحيح التنبيه" أنه لا تنقطع بلا خلاف، فإنه عبر بالصواب وقد اصطلح في خطبته أنه يعبر بالصواب في الموضع الذي لا خلاف فيه. قوله: ثم إن أحسن سبع آيات متوالية بالشرط المذكور لم يجز العدول إلى المتفرقة. انتهى. واستدرك عليه في "الروضة" فقال: قلت: قد قطع جماعة بأنه تجزئه الآيات المتفرقة وإن كان يحسن المتوالية سواء قرأ بها من سورة أو سور منهم القاضي أبو الطيب وأبو علي البندنيجي، وصاحب "البيان"، وهو المنصوص في "الأم"، والله أعلم. وما ذكره من أن هؤلاء قد نصوا على جواز المتفرقة مع إمكان المتوالية ليس كذلك، فقد راجعت كلام الشافعي والبندنيجي والعمراني فلم أجد [لهم] (¬2) تصريحًا بالإجزاء في هذه الحالة بل قالوا: إنه يجزئ الذي يحسنه سواء كان من سور أم سورة، وهذا إطلاق يصح تنزيله على ما صرح به أولئك. وإجمال تعينه تفسيرهم، وقد صرح بالمنع الشيخ أبو محمد والإمام، والغزالي في "البسيط" [والقاضي مجلي في "الذخائر"] (¬3) والرافعي، لاسيما أن المعاني الحاصلة من اتصال الآيات تفوت، فقد لا تفهم أن المتفرقة من القرآن بالكلية كما ستعرفه في المسألة الآتية. ¬

_ (¬1) نهاية سقط كبير من ب، قرابة عشر ورقات مخطوط. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب.

قوله: فإن لم يحسن إلا سبع آيات متفرقة أتى بها. واستدرك الإمام فقال: لو كانت الآية المفردة لا تفيد معنًا منظومًا إذا قرئت وحدها كقوله تعالى: "ثم نظر" فيظهر أن لا نأمره بقراءة هذه الآيات المتفرقة، ونجعله كمن لا يحسن قرآنًا أصلًا. انتهى. تابعه النووي عليه في "الروضة" وليس فيه صراحة بموافقة هذا الاستدراك، ولا برده. وقد صرح به النووي في "شرح المهذب"، و"شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" فقال فيها: المختار ما أطلقه الجمهور. قوله: وروى أن رجلًا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزئني في الصلاة، فقال: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" (¬1). واختلفوا في تعيين هذه الكلمات على وجهين: أحدهما: لا تتعين. فإن قلنا بالتعيين فهل يشترط أن يضيف إليه نوعين آخرين ليصير سبعة أنواع؟ وجهان. انتهى. والأصح أنه لا يشترط، وقد صححه جماعة منهم ابن الرفعة في "الكفاية"، والحديث المذكور رواه ابن حبان في صحيحه. قوله: وحيث انتقل إلى الذكر فيأتي بالثناء، وهل الأدعية المحضة كالأثنية؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد، قال الإمام: والأشبه أن ما يتعلق بأمور الآخرة يقوم دون ما يتعلق بالدنيا. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (838) وأحمد (19161) وابن حبان (1809) والدارقطني (1/ 314) وابن أبي شيبة (7/ 168) والبيهقي في "الشعب" (618) وفي "الكبرى" (3791) من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وحسنه الشيخ الألباني.

ذكر مثله في "الروضة"؛ وهذا التفصيل قد رجحه أيضًا الغزالي في "البسيط"، وقال في "شرح المهذب": إنه الراجح، وقال في "التحقيق": إنه الأقوى، وقد نص الشافعي -رحمه الله- على أنه لا يجزيء غير الذكر فقال: ولا يجزئه إذا لم يحسن يقرأ إلا ذكر الله -عز وجل-. هذه لفظه، ومن "الأم" نقلته. والدعاء لا يدخل في الذكر، ويؤيده الحديث: "ومن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" (¬1). والأثنية: جمع ثناء بمعنى المدح. قوله: ويشترط أن لا يقصد بالذكر المأتى به شيئًا آخر سوى البدلية كما إذا استفتح أو تعوذ على قصد إقامة سنتهما، ولكن لا يشترط قصد البدلية فيهما، ولا في غيرهما من الأذكار فى أظهر الوجهين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تصحيح عدم اشتراط قصد البدلية، في غير الاستفتاح والتعوذ ظاهر وأما فيهما فقد تابعه عليه في "الروضة"، وهو مشكل، فإن القرينة تصرف الذكر المعهود إليهما، ونية الصلاة تشملهما فإنها شاملة للفرض والنفل، وقد دخل وقتهما، وهذا الخلاف نقلوه عن صاحب "التقريب" في غير هذين من الأذكار، وهو واضح. وقد ذكروا فيما إذا كبر المسبوق تكبيرة واحدة ما يأتي فيه هذا الإشكال أيضًا. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي استحباب دعاء الاستفتاح والتعوذ عند العجز عن القرآن والانتقال إلى الذكر، وهو مسلم بالنسبة إلى الاستفتاح. وأما التعوذ فالمتجه أنه لا يستحب في هذه الحالة، لأن الأمر به إنما ورد عند ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2927) والدارمي (3356) والطبراني في "الدعاء" (1851) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. قال الترمذي حسن غريب، قال الشيخ الألباني: ضعيف.

قراءة القرآن، ويؤيده ما سبق في المأموم من كونه لا يتعوذ على الأصح إذا قلنا: لا يقرأ، وعلى هذا يتصور كلام الرافعي بما إذا وجب عليه الذكر قبل الشروع في القراءة بأن عجز عن البسملة مثلًا فيتعوذ بدلًا عنها، وقد يقال باستحبابه لكون الذكر بدلًا عن القراءة، ورواه أيضًا أبو داود، والنسائي من رواية إبراهيم السكسكي، وهو ضعيف. قوله: ولو أحسن بعض الفاتحة ولم يحسن للباقي بدلًا، وجب تكرار ما يحسنه بلا خلاف، وإن أحسنه فوجهان، وقيل: قولان: أحدهما: أنه مكروه أيضًا لأنه أقرب إلى الأصل. وأصحها: أنه يأتي به ويبدل الباقي، لأن الشيء الواحد لا يكون أصلًا وبدلًا، ويدل عليه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ذلك السائل بالكلمات الخمس منها: الحمد لله، وهذه الكلمة من جملة الفاتحة ولم يأمره بتكرارها انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصواب في الخلاف المذكور أنه قولان، فقد ذكر البندنيجي في "تعليقه" أنهما منصوصان في "الأم". الأمر الثاني: أن الذي يحسنه من الفاتحة على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون آية كاملة، فلا نزاع في جريان الخلاف. والثاني: أن لا تكون آية، ولكنه كلام مفيد نحو الحمد لله، فإن: "رب العالمين" هو تتمة الآية بلا خلاف، وكلام الرافعي والنووي يقتضي إجراء الخلاف فيه، وليس كذلك بل ينتقل إلى البدل بلا خلاف، وقد صرح به ابن الرفعة في "الكفاية"، وعلله بأنه لا إعجاز فيه، وحينئذ فلا يستقيم إطلاقه ولا استدلاله. وابن الصباغ لما استدل بالحديث قال: وفي هذا الذكر "الحمد لله"، ولا

يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكرارها. هذا كلامه. وهو مطابق لما نقله ابن الرفعة، وكأن الرافعي أخذ هذا الاستدلال منه فأخل ببعضه فوقع في المحذور المذكور. الثالث: أن تكون كلمة واحدة كالحمد فلا إشكال في أنه لا يكرره، وهو يؤخذ مما سبق بطريق الأولى مع أن كلام الرافعي شامل له، ولهذا قيد المسألة في "شرح المهذب" بالآية والاثنتين. قوله: وإذا كان ذلك -أي: يعلم الأصل- بعد القراءة وقبل الركوع، فوجهان: أصحهما: لا يلزمه الإتيان به لأن البدل قد تم، ثم قال: ويجوز أن يعلم قوله فوجهان أيضًا أي بالواو لأن صاحب "البيان" ذكر أنه لا يجب وجهًا واحدًا. انتهى ملخصًا. وحاصله تصحيح طريقة الوجهين، وهذا المذكور في "الشرح الصغير" أيضًا، وقد اختصره النووي في "الروضة" على العكس فصحح طريقة القطع، وضعف طريقة الوجهين فقال: المذهب أنه لا يلزمه، وقيل: وجهان. هذا لفظه. وقد صحيح أيضًا الطريقة القاطعة في "التحقيق" و"شرح المهذب" اعتمادًا منه على ما وقع في "الروضة". قوله في "أصل الروضة": وأما المأموم فالمذهب أنه يجهر بالتأمين، وقيل: قولان، وقيل: إن لم يجهر الإمام جهر لتنبيهه، وإلا فقولان؛ وقيل: إن كثر القوم جهروا، وإلا فلا. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن هذا الذي ذكره من تصحيح طريقة القطع سهو على العكس مما ذكره الرافعي، فإن الرافعي في الشرحين: "الكبير" و"الصغير" إنما صحح طريقة القولين، وأما طريقة القطع فلم يحكها بالكلية فضلًا عن تصحيحها، وحكى باقي الطرق إلا أن في مطابقة الطريق الثالثة أيضًا لكلام الرافعي نظر؛ وقد أثبت في "التحقيق" و"شرح المهذب" طريقة القطع، ولكنه ضعفها، وصحح طريقة القولين على عكس ما في "الروضة" وعبر في "شرح المهذب" بقوله: إنها الأصح الأشهر التي قالها الجمهور. الأمر الثاني: أن الرافعي والنووي قد أطلقا الخلاف وليس كذلك، بل محله إذا أمن الإمام، فإن لم يؤمن فيستحب للمأموم الجهر به بلا خلاف ليسمع الإمام فيأتي به، سواء تركه الإمام عمدًا أو سهوًا، كذا صرح به النووي في "شرح المهذب" ونقله عن النص، وعبر بقوله: إنهم قد اتفقوا عليه، وإنه ليس فيه خلاف. وعن صاحب "الذخائر" أن بعضهم أجرى القولين فيه. قوله: لنا ما روي عن عطاء قال: كنت أسمع الأئمة، وذكر ابن الزبير ومن بعده يقولون: آمين ونقول، من خلفهم: آمين، حتى إن للمسجد للجة (¬1) انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري تعليقًا والشافعي (211) وعبد الرزاق (2640) والبيهقي في "الكبرى" (2285) موصولًا. قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: قلت: ليس في تأمين المؤتمين جهرًا سوى هذا الأثر ولا حجة فيه لأنه لم يرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد جاءت أحاديث كثيرة في جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس في شيء منها جهر الصحابة بها وراءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن المعلوم أن التأمين دعاء والأصل فيه الإسرار لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فلا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح وقد خرجنا عنه في تأمين الإمام جهرًا لثبوته عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووقفنا عنده بخصوص المقتدين ولعله لذلك رجع الشافعي عن قوله القديم فقال في "الأم" (1/ 65): "فإذا فرغ الإمام من قراءة القرآن قال: آمين ورفع بها صوته ليقتدي بها من خلفه فإذا قالها قالوها وأسمعوا أنفسهم ولا أحب أن يجهروا بها فإن فعلوا فلا شئ عليهم.

واللجة بفتح اللام وبالجيم المشددة هي اختلاط الأصوات، والأثر المذكور رواه الشافعي في "الأم" فقال: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء. وذكره أيضًا البخاري في "صحيحه" تعليقًا -أي: بغير إسناد- فقال: قال عطاء، وقد تقدم غير مرة أن تعليقات البخاري صحيحة إذا كانت بصيغة الجزم كالمذكور هنا. قوله: ويسن للإمام والمنفرد قراءة سورة بعد الفاتحة في ركعتي الصبح والأولتين من سائر الصلوات، وأصل الاستحباب ينادي بقراءة شيء من القرآن، لكن السور أحب، حتى أن السورة القصيرة أولى من بعض سورة طويلة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه كالصريح في تفضيل السورة القصيرة على بعض سورة أطول منها، وإلا لكان ذكر حرف الغاية هنا وهو -حتى- لا معنى له، بل يكون ذكره فاسدًا، ولأجل ما قلناه نقله ابن الرفعة في "الكفاية" عن الرافعي، ونقله عن صاحب "التتمة" أيضًا. وقد صرح به الرافعي في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: وقراءة سورة كاملة أفضل من بعض سورة، وإن طال. هذا لفظه بحروفه، وهو يوضح مراده في "الشرح الكبير". وتوهم النووي أن مراد الرافعي تفضيل السورة على البعض المساوي لها دون الزائد عليها، فاختصر كلامه اختصارًا فاسدًا فقاله في "الروضة": وقراءة سورة كامله أفضل من قدرها من طويلة. هذه عبارته. ثم نقله من "الروضة" إلى "شرح المهذب" ثم إلى "التحقيق" فاعلمه، واجتنبه، فقد صرح البغوي وغيره بخلافه، ولا استبعاد في أن تكون قراءة الكوثر مثلًا أفضل في الصلاة بخصوصها أو أكثر أجرًا من معظم

البقرة، فقد يكون الثواب المترتب على قراءة السورة الكاملة في الصلاة أكثر، وقد علل في "شرح المهذب" تفضيل السورة بأن الوقف علي آخرها صحيح بالقطع بخلاف البعض، فإنه قد يخفى عليه الوقف فيه، فيقف في غير موضعه، وهذا المعنى موجود في البعض الأطول. الأمر الثاني: نبه عليه الغزالي في "الإحياء" فقال: إذا اقتصر على قراءة البعض فيكون [بقدر] (¬1) ثلاث آيات -أي: حتى يكون كأقصر سورة- وهي سورة الكوثر. الأمر الثالث: أن التقييد بما بعد الفاتحة للاحتراز عما إذا قدمها عليها فإنها -أعني: ب السورة- لا تحسب على المذهب المنصوص، كما قاله في "زوائد الروضة". الأمر الرابع: لابد من تقييد السورة بكونها غير الفاتحة للاحتراز عما إذا كرر الفاتحة، وقلنا: لا تبطل صلاته، فإن المرة الثانية لا تحسب عن السورة كما نقله في "شرح المهذب" عن المتولي وغيره، وقال: إنه لا خلاف فيه، وعلله بأن الشيء الواحد لا يؤدى به فرض ونفل، وهذه العلة ممنوعة، فإنا إن سلمناها من الأصل فيدعي أن ذلك في الشيء الواحد الذي لم يكرر، فأما إذا كرر حيث أمكن تكريره فلا يمتنع لا في الفرض، ولا في النفل، وقد ذكر صاحب "التعجيز" في شرحه له أنها تحسب ونقل خلافه عن المتولي خاصة، والذي قاله ظاهر. الأمر الخامس: الجنب إذا فقد الطهورين وصلى، لا يجوز له قراءة السورة كما مر في موضعه، وحينئذ فإذا كان مأمومًا لا يسمع أو في صلاة سرية فالقياس أنه يشتغل بالذكر، ولا يسكت لأن السكوت في الصلاة منهي ¬

_ (¬1) زيادة من أ.

عنه. قوله: وهل تسن قراءة السورة في الثالثة من المغرب وفي الثالثة والرابعة من الرباعية؟ فيه قولان: الجديد: أنها تسن. ولكن تجعل السورة فيها أقصر، لما روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخيرتين قدر خمس عشرة آية، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الآخيرتين قدر نصف ذلك (¬1). والقديم أنها لا تسن لما روي عن أبي قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب فيسمعنا الآية، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية (¬2). ثم قال: والأكثرون على الفتوى بالقديم. انتهى. تابعه عليه النووي في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن المزني والبويطي، وهما أجل أصحاب الشافعي في الجديد قد رويا عنه أنه لا يقرأها، فصارت المسألة مما يفتى فيه على الجديد. وقد صرح بالنقل عنهما كما ذكرته جماعة منهم القاضي أبو الطيب، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" ورأيت نصه في "البويطي" فقال: قال الشافعي: فعل كل مصلي خلف إمامه أن يقرأ خلفه في كل ما أسر به الإمام من الصلاة التي يجهر في بعضها، والصلاة التي أسر فيها كلها بأم ¬

_ (¬1) فى أ: تقدير. (¬2) أخرجه مسلم (452) وأبو داود (804) والنسائي (475) وابن ماجه (828) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

القرآن، وسورة في الأوليين، وأم القرآن في الأخيرتين، فإن ترك السورة، وقد أتى بأم القرآن أجزأه. وذكر أيضًا بعده بأسطر مثله فقال: قال الشافعي: ومن صلى وحده صلاة جهرًا وصلاة سرًا فليقرأ في الأوليين أم القرآن وسورة وفي الأخيرتين بأم القرآن. هذه عبارته، وهذا كله في غير المسبوق. وأما المسبوق إذا أدرك ركعتين من الرباعية مثلًا فإنه يقرأ السورة في الركعتين الأخيرتين على الأصح المنصوص، وقد ذكر الرافعي المسألة في آخر باب صلاة الجماعة. الأمر الثاني: إذا قلنا بالاستحباب فما المقدار الذي ينقصه عن الأوليين؟ لم يبينه -رحمه الله- وقد بينه ابن أبي عصرون في "المرشد" فقال: يكون على النصف منهما. الأمر الثالث: إذا قلنا: لا يستحب الإتيان بها، فقد جزم النووي في "التحقيق" بكراهتها فقال: وتكره السورة في ثالثة ورابعة في الأظهر، وهو نصه في القديم، والمزني والبويطي. هذه عبارته. ولما تكلم في "شرح المهذب" هنا على الفرق بين إتيان المسبوق بهما، وبين عدم الجهر ذكر فرقًا يقتضي عدم الكراهة، فقال: لأن سنة آخر الصلاة الإسرار فلا [يقويه] (¬1)، وبهذا يحصل الفرق بينه وبين السورة. هذه عبارته من غير زيادة، فدل كلامه على أنه لا يسن في آخر الصلاة ترك السورة، وإنما الذي يقال: لا يسن له الإتيان بها، وبينهما فرق ظاهر، ألا ترى أنا نقول: لا يسن صوم يوم الثلاثاء والأربعاء، ولو صامهما لم يكن مكروهًا بل أتى بعبادة، وهذا الذي اقتضاه كلامه في "شرح المهذب": هو الصواب المفهوم من كلامهم. ¬

_ (¬1) في ب: يقوم.

واعلم أن الحديث الأول من حديثي الرافعي رواه مسلم إلا أنه يقتضي استحباب قراءة السورة في الظهر دون العصر. والحديث الثاني منهما متفق عليه. قوله: ولا تفضل الركعة الأولى على الثانية بزيادة القراءة، ولا الثالثة على الرابعة في الأصح فيهما [لحديث أبي سعيد، والثاني: نعم] (¬1) لحديث أبي قتادة. استدرك في "الروضة" فقال: هذا الذي صححه هو الراجح عند الأصحاب، لكن الأصح التفضيل، فقد صح فيه الحديث. انتهى. وهذا الذي أطلقاه محله فيما إذا لم يرد فيه تنصيص من الشارع مما سنعرفه، فإن ورد اتبع بلا خلاف، سواء كان يقتضي تطويل الأولى كصلاة الكسوف، وكصبح الجمعة وغيرهما، أو تطويل الثانية كسبح، "وهل أتاك" في العيد. قوله: ويستحب أن يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي الظهر بقريب من ذلك، وفي العصر والعشاء من أوساطه. . . . إلى آخره. تابعه عليه النووي في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن كلامه هنا يقتضي استحباب نقصان الظهر عن الطوال، وكذلك كلام النووي في "شرح المهذب"، وصرح به في "شرح مسلم" وكذا الإمام في "النهاية" فإنه قال -أعني الإمام- ولعل السبب فيه أن وقت الصبح طويل والصلاة ركعتان فحسن تطويلهما، ووقت صلاة المغرب ضيق، فشرع فيه القصار، وأوقات الظهر والعصر والعشاء طويلة، ولكن الصلوات أيضًا طويلة، فلما تعارض ذلك رتب عليه التوسط. انتهى. وكلامه في "المنهاج" يخالفه فإنه قال: ويسن للصبح والظهر طوال ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المفصل، والحديث الصحيح يدل للمذكور هنا، وهو ما رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر بنحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك" (¬1). الأمر الثاني: أن ما قاله من استحباب الطوال والأوساط للمصلي ليس على إطلاقه، بل محله إذا كان منفردًا، فإن كان إمامًا، وكان المأمومون محصورين وآثروا التطويل استحب، وإن لم يكونوا محصورين أو كانوا ولكن لم يؤثروا التطويل، فلا يستحب ذلك، هكذا جزم به النووي في "شرح المهذب" فقال: وهذا الذي ذكرناه من استحباب طوال المفصل وأوساطه هو فيما إذا آثر المأمومون المحصورون ذلك، وإلا خفف وجزم به أيضًا في "التحقيق"، وفي "شرح مسلم"، وجزم ابن الرفعة في "الكفاية" هنا نقلًا عن إمام الحرمين بأن ذلك كله مستحب، وإن لم يؤثره المأمومون، وجزم به أيضًا في صلاة الجماعة نقلًا عن القاضي حسين، ذكره عند قول الشيخ: ويستحب للإمام أن يخفف في الأذكار، قال إمام الحرمين: ويطيل المنفرد ما شاء إلا في المغرب، فإنه والإمام سواء لتعلق ذلك بالوقت، وفيما قاله من الاستثناء نظر. الثالث: أن المستحب في حق المسافر أن يقرأ في الأولى من الصبح {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، كذا رأيته في "شرح المختصر" للمصعبي وفي "الخلاصة" و"البداية" و"الإحياء" للغزالي، وأورد فيه حديثًا. والحديث الذي ذكره الطبراني في "المعجم الكبير" لكن في إسناده ضعيفان. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (459) و (460) والنسائي (980) وأحمد (21000).

الأمر الرابع: لم يبين هو ولا النووي في "الروضة" ما هو المفصل، وقد اختلفوا فيه على عشرة أقوال: أحدها: الجاثية إلى آخر الكتاب العزيز. والثاني: القتال. والثالث: الحجرات. والرابع: قاف، حكاهن في "شرح المهذب". والخامس: الصافات. والسادس: الصف. والسابع: تبارك. حكاهن ابن أبي الصيف فيما وقفت عليه من نكته على "التنبيه". والثامن: إنا فتحنا، حكاه الدزماري فيما وقفت عليه من شرحه على "التنبيه" المسمى "رفع التمويه". والتاسع: سبح. حكاه الشيخ برهان الدين في "تعليقه" عن "شرح التنبيه" [للمرزوقي] (¬1). والعاشر: الضحى. حكاه [الدزماري] (¬2) والخطابي في "غريب الحديث". والأصح أنه من الحجرات، كذا صححه النووي في "لغات التنبيه"، و"دقائق المنهاج"، وسمي مفصلًا لكثرة الفصول فيه بين سوره، وقيل: لقلة المنسوخ فيه، وطوال المفصل كالحجرات، واقتربت، والرحمن. وأوساطه كالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى. وقصاره معروفة منها: قل هو الله أحد. ¬

_ (¬1) في أ: المزدوفي. (¬2) في جـ: الدرماوي.

وجعلها البندنيجي من أوساطه، وقال ابن معن في "التنقيب": طواله إلى عم، ومنها إلى الضحى أوساطه، ومن الضحى إلى آخر القرآن قصاره. ورأيت في "المسافر" لأبي المنصور التميمي أحد أصحاب الربيع عن نص الشافعي تمثيل القصار بالعاديات ونحوها. قوله من زوائده: قال أصحابنا: والمرأة لا تجهر بالقراءة في موضع فيه رجال أجانب، فإن كانت خالية أو عندها نساء أو رجال محارم جهرت، وفي وجه تسر مطلقًا، وحيث قلنا: تسر، فجهرت لا تبطل صلاتها على الصحيح، والخنثى كالمرأة. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في المرأة قد خالفه في أواخر نقض الوضوء من "شرح المهذب" فجزم بأنها تسر مطلقًا، والصواب المذكور في "الروضة" فإنه المعروف، والواقع أيضًا في هذا الباب من الشرح المذكور، وإنما ذكر هناك أنها تسر تقليدًا لأبي الفتوح مصنف "أحكام الخناثا" فإني رأيت فيه ذلك مذكورًا بلفظه. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الخنثى قد خالفه في "شرح المهذب" في أواخر النواقض أيضًا فجزم بأنه يسر مطلقًا، ثم خالف الموضعين معًا في "شرح المهذب" هنا فقال: وأما الخنثى فيسر بحضرة النساء والرجال الأجانب، ويجهر إن كان خاليًا أو بحضرة محارمه فقط. وأطلق جماعة أنه كالمرأة، والصواب ما ذكرته. هذا لفظه. وقد جزم به في "التحقيق" فقال: والخنثى يجهر خاليًا وبحضرة محرم فقط، وإلا فيسر. انتهى.

ووجه الإسرار بحضرة النساء احتمال الرجولية، وقد استفدنا مما ذكره في الكتابين الجزم بأن الرجل يسر إذا صلى بحضرة نساء أجانب متمحضات، أو مع رجال لأنه إذا أسر الخنثى لهذا الاحتمال فالمحقق الرجولية أولى. ووجهه خشية افتتان النسوة كما في العكس، والذي قاله مردود؛ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأئمة الراشدين ثم من بعدهم إلى زماننا كانوا يجهرون مع اقتداء النساء بهم، ولم يستثن أيضًا أحد من الأصحاب هذه الحالة، بل كلامهم كالصريح في دفعه، فلتكن الفتوى على المذكور في "الروضة". قوله أيضًا من زياداته: وأما نوافل الليل فقال صاحب "التتمة": يجهر، وقال القاضي حسين، وصاحب "التهذيب": يتوسط بين الجهر والإسرار، وهو الأصح، وتستثنى التراويح فإنه يجهر فيها. انتهى. وذكر في التحقيق أيضًا مثله، وفيه أمران: أحدهما: أن الوتر وارد على كلامه، فإنه يجهر فيه بلا خلاف كما صرح به الماوردي في "الحاوي" قبل صلاة الجماعة بدون ورقة في أثناء الاستدلال على أن أقل الوتر واحدة ردًا على مالك، وأبي حنيفة فقال ما نصه: ثم الذي يدل على ما قلناه اتفاق الجميع على أن الثلاث ركعات يجهر فيها بالقراءة، فلو كان حكمها حكم الصلاة الواحدة لكان من حكمها أن يسر الثالثة كالمغرب. انتهى كلامه. وذكر الروياني في "البحر" في الموضع المذكور مثله أيضًا، ونقل ابن الرفعة عن الماوردي أن الإجماع على الجهر فيه، وليس كذلك، بل مراد الماوردي الأئمة الثلاثة فقط، كما دلت عليه عبارته التي ذكرتها، والاتفاق على الجهر في مثل هذا غريب مخالف لما عداه من نوافل الليل، وقد استثناه النووي أيضًا في "شرح المهذب" وغيره، وكذلك في "التبيان"، ونقل

الركن الرابع: الركوع

الإجماع عليه، إلا أنه قيده بالوتر الواقع عقب التراويح، واقتضى كلامه الإسرار فيما عداه، ورأيت في "ما لا يسع المكلف جهله" ما هو كالصريح فيه. الأمر الثانى: أن النووي قد ذكر في "التبيان" ما حاصله تصحيح الإسرار في النوافل الليلية على عكس ما قاله في "الروضة" فقال فيه ما نصه: واختلف أصحابنا في نوافل الليل فالأظهر: أنه لا يجهر. والثاني: يجهر. والثالث: وهو اختيار البغوي يقرأ بين الجهر والإسرار. انتهى كلامه. وجزم في "الروضة" في كتاب الحج بأن ركعتي الطواف تصلى في الليل جهرًا وفي النهار سرًا، وهذا أيضًا مخالف لكل من الموضعين المتقدمين. الركن الرابع: الركوع قوله: وأقل الركوع أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه إلى آخره. ثم قال: وفي لفظ: الانحناء إشارة إلى أنه لو انخنس وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب لم يكن ذلك ركوعًا، وإن صار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه. انتهى. والمائل بالثاء المثلثة هو المنتصب، يقال: مثل بين يديه بالفتح مثولًا أي انتصب قائمًا. ومنه قيل لمنارة المسرجة: ماثلة، ومثل بالأرض، أي: لصق بها، فهو من الأضداد، قاله الجوهري. قال: والراحة الكف، والجمع راح بغير تاء. وتعبيرهم بالراحة يشعر بعدم الاكتفاء بوصول الأصابع وفيه نظر.

قوله: والكلام في أكمل الركوع يقع في جملتين: إحداهما: في هيئته وهي: أن ينحني بحيث يستوي ظهره، وعنقه ويمدها كالصفيحة الواحدة، وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى التذبيح في الصلاة (¬1)، وهو أن يبسط ظهره ويطأطأ رأسه، وهذا اللفظ يذكر بالدال وبالذال، والأول أشهر. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، ولم يتعرضا لكراهة مخالفة ذلك مع أنها مكروهة، فقد قال الشافعي في "الأم": فإن رفع رأسه عن ظهره أو ظهره عن رأسه، أو جافا ظهره حتى يكون كالمحدوب كرهت له ذلك، ولا إعادة عليه. هذه عبارته. وقد ذكره أيضًا في "المنهاج" قبيل سجود السهو إلا أنه قيد الكراهة بالمبالغة في خفض الرأس، وكلام الشافعي يدفعه. والصفيحة -بفاء مسكورة بعدها ياء- إحدى ألواح الباب، والجمع صفائح، قاله الجوهري. والتذبيح بالحاء المهملة، والمعجمة، كذا قاله الجوهري. وشرط في تفسيره أن يقتب ظهره، أي: يقوسه ويجعله كالقبة فإنه قال: يقال: ذبخ الرجل تذبيخا إذا قتب ظهره وطأطأ رأسه بالحاء، وبالخاء. هذا لفظه، وهو يخالف ظاهر تعبير الرافعي "بالبسط"، وقول الرافعي، والأول أشهر أي الدال المهملة، فإن الجوهري قد أورده في فصلها [لا في الفصل] (¬2) المعقود للذال المعجمة. وكان الرافعي قد استغنى عن التصريح بتقديم ما هو مقدم في اصطلاحهم، وهو المهملة. ¬

_ (¬1) تقدم في حديث علىّ - رضي الله عنه -، وروي من حديث أبي سعيد أيضًا. (¬2) سقط من جـ.

قوله: ويستحب أن يكبر للركوع لما روي عن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود (¬1)، ويستحب أن يبتدئ به في ابتداء الهوي، ثم قال: ويرفع يديه إذا ابتدأ التكبير، انتهى. وتابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمران: أحدهما: أنه لم يتعرض لظرف الانتهاء، وفي استحباب ما قالوه في الإحرام من انتهائهما معًا نظر، والقياس استواؤهما فيه. الأمر الثاني: أن كلامه صريح في أنه يأخذ في رفع يديه حال هويه، والمذكور في "شرح المهذب" أنه يهوي عند استكمال الرفع فقال: قالوا: ويبتدأ التكبير قائمًا، ويرفع يديه، ويكون ابتداء رفع يديه وهو قائم مع ابتداء التكبير، فإذا حاذى كفاه منكبيه انحنى. هذه عبارته. وفي "البيان" و"الإقليد"، و"شرح التنبيه" لابن يونس نحوه أيضًا؛ لكن عبارة "النهاية" وغيرها توهم ما ذكره الرافعي، والصواب خلافه. قال في "الإقليد": لأن الرفع حال الانحناء متعذر أو متعسر، والحديث المذكور رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وفي الصحيحين نحوه. قوله: ويستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ركع أحدكم فقال: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، فقد تم سجوده وذلك أدناه" (¬2). ثم قال: واستحب بعضهم أن يضيف إليه: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (253) والنسائي (1083) وأحمد (3660) و (4225) والطيالسي (279) وأبو يعلى (5128) والبزار (1609) من حديث ابن مسعود، والحديث أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه أبو داود (886) والترمذي (261) وابن ماجه (890) والشافعي (156) والدارقطني (1/ 343) وابن أبي شيبة (1/ 225) والبيهقي في "الكبرى" (2520) والطحاوي في "شرح المعاني" (1288) والطبراني في "الدعاء" (541) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال الشيخ الألباني: ضعيف.

"وبحمده"، وقال: إنه قد ورد في بعض الأخبار. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقله عن بعضهم، وليس في كلامهما ما يدل على موافقه هذا القائل، ولا على مخالفته، وقد بينه النووي في أكثر كتبه وأجاب باستحبابه فقال في "شرح الوسيط" المسمى بـ"التنقيح": استحبه الكثيرون أو الأكثرون، وقال في "شرح المهذب": استحبه أصحابنا، قال: وينكر على الرافعي هذه المقالة، وجزم في "التحقيق" باستحبابه. واعلم أن الإنكار إن توجه على الرافعي كما زعمه فتوجهه عليه في "الروضة" أوجه، والإنكار عليه فيها أبلغ. والواو في: "وبحمده" واو العطف، التقدير: "وبحمده سبحت" والحديث المذكور رواه أبو داوود والترمذي، وابن ماجة، والشافعي في "الأم" وهو منقطع كما قاله البيهقي، لأن من رواته عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود، وعون لم يلق ابن مسعود، فلهذا عبر الشافعي بقوله: إن كان ثابتًا. وأما زيادة: "وبحمده" فرواها أبو داوود والدارقطني بإسناد ضعيف. والحكمة في تخصيص "العظيم" بالركوع، والأعلى بالسجود أن الأعلى أفعل تفضيل، والسجود في غاية التواضع، لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام، ولهذا كان أفضل من الركوع فجعل الأبلغ مع الأبلغ. قوله: وحكى عن "الحاوي" أن أتم الكمال من تسع تسبيحات إلى إحدى عشرة، وأوسطه خمس. انتهى. وهذا المنقول عن "الحاوي" صحيح، رأيته مذكورًا فيه كما حكاه عنه

الرافعي، وقد أسقطه النووي فلم يذكره في "الروضة"، والتسع بتاء ثم سين، وذكر في "الإفصاح" طريقة متوسطة فقال: يسبح في كل من الركعتين الأولتين إحدى عشرة وفي كل من الأخيرتين سبعًا، وهذا حسن، يؤيده ما سبق في السورة، ويمكن حمل كلام الماوردي عليه. قوله: والاعتدال ركن في الصلاة، ولكنه غير مقصود في نفسه. انتهى. وما ذكره من كونه غير مقصود قد وقع التعرض له في ثلاثة مواضع من هذا الكتاب على اختلاف فيها، وستأتي في صلاة الجماعة مبسوطة إن شاء الله تعالى. قوله: ويستحب أن يبتدئ بقوله: سمع الله لمن حمده، ويرفع الرأس واليدين معًا، وقال ابن كج: يبتدئ بالتسميع قبلها. انتهى مخلصًا. وهذا الوجه قد ذهل عنه النووي لكونه مذكورًا في الكلام على ألفاظ "الوجيز" فأسقطه من "الروضة" ونقله ابن الرفعة في "الكفاية" على غير وجهه كما أوضحته في "الهداية" فاعلمه. قوله في أصل "الروضة": فإذا استوى قائمًا قال: ربنا لك الحمد، أو ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، ويستوي في استحباب ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، ويستحب لغير الإمام، وله إذا رضي القوم أن يزيد فيقول: أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وتكره للإمام هذه الزيادة إلا برضاهم. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره في الإمام عند عدم الرضى قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: يقتصر على سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ولا يزيد عليه إلا عند الرضى.

وذكر في "التحقيق" ما يخالف كلامهما، فإنه ذكر ما ذكره في "الروضة"، وزاد عليه: حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، عقب قوله: ربنا لك الحمد، وما ذكره في هذه المسألة غريب جدًا، فإنه ذكر ثلاث مقالات متخالفة وجزم بكل منها. الأمر الثاني: أن ما ذكره من كون الإمام يأتي به عند رضى المأمومين صحيح، إلا أن الرافعي لم يذكره، وأهمل أيضًا منه شرطًا، وهو أن يكونوا محصورين. [الثالث] (¬1): استدرك النووي في "زيادات الروضة" فقال: هكذا يقوله أصحابنا في كتب المذهب "حق ما قال العبد [كلنا] " (¬2)، والذي في صحيح مسلم وغيره من كتب الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "أحق ما قال العبد" (¬3). وكلنا بزيادة ألف في أحق، وواو في كلنا، وكلاهما حسن، لكن ما ثبت في الحديث أولى، وذكر في باقي كتبه ما هو أبلغ منه فقال: الصواب الذي رواه مسلم وسائر المحدثين إثباتهما وإنكاره باطل، ففي رواية للنسائي إسقاطهما. الرابع: [استدرك] (¬4) الشيخ تاج الدين في "الإقليد" فقال: إن هذا الذكر الوارد في الاعتدال لا يفعل مع القنوت على ما دل عليه ظاهر كلام الشافعي فإنه قال: وإذا رفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح، وفرغ من قوله: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، قال وهو قائم: اللهم اهدنا ¬

_ (¬1) في أ: قوله. (¬2) في أ، ب: كلها. (¬3) أخرجه مسلم (477) وأبو داود (847) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. (¬4) في جـ: استدل.

فيمن هديت؛ وزاده الماوردي بيانًا فقال: محل القنوت إذا فرغ من قوله: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، فحينئذ يقنت. وهذا [قصد] (¬1) القياس، فإن القنوت إذا ضم إلى الذكر المشروع في الاعتدال طال الاعتدال، وهو ركن قصير بلا خلاف، وعمل الأئمة بخلافه كجهلهم بفقه الصلاة، فإن الجمع إن لم يكن مبطلًا فلا شك في كونه مكروهًا. انتهى كلامه. وفي الحديث عن سالم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: "اللهم العن فلانًا وفلانًا بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد" (¬2). رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، وظاهره يدل لما ذكره. ورأيت في "الكافي" للخوارزمي ما يوافقه أيضًا فإنه قال: والقنوت سنة بعد الركوع، والفراغ من قوله: ربنا لك الحمد. هذا كلامه. نعم إن خالف لم تبطل الصلاة عنده -أي: عند الخوارزمي- فإنه قال: ويكره إطالة القنوت، والرافعي لم يصرح بالكراهة في هذه الحالة بل صحح أن التطويل بالقنوت لا يكون مبطلًا، وحينئذ فيكون الثابت من قول الشيخ تاج الدين المذكور أن التطويل إما مكروه، وإما مبطل، إنما هو الكراهة على تقدير الأخذ بظاهر عبارة هؤلاء، لكن قد رأيت في "التهذيب" للبغوي ما يخالفه فقال: ذهب الشافعي إلى أنه يقنت في صلاة الصبح بعدما رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية، وفرغ من قوله: ربنا لك الحمد. . . . إلى آخره. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) في جـ: قضية. (¬2) أخرجه البخاري (3842).

ورأيت في "العدة" للشاشي صاحب "الحلية" نحوه فإنه [نص] (¬1) على أنه يستحب في رفع الرأس أن يقول: ربنا لك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت، بعد ثم قال ما نصه: فإن كان في صلاة الصبح قنت بعد [الرفع من] (¬2) الركوع في الركعة الثانية بعد قوله: ربنا لك الحمد، بتمامه. هذه عبارته. والصواب هو ما ذكره البغوي ومن تبعه، وقال القاضي حسين: [لو] (¬3) طول القنوت زائدًا على العادة كره، وفي البطلان احتمالان. قوله من زياداته: قال صاحب "الحاوي": يجهر الإمام بسمع الله لمن حمده، ويسر بربنا لك الحمد. انتهى كلامه. والسبب في جهر الإمام إنما هو الإعلام بالرفع ليرفع المأمومون، ويؤخذ من ذلك أن المبلغ خلف الإمام يسلك هذا المسلك أيضًا. وقد صرح به النووي في "شرح المهذب" ولم يحك فيه خلافًا فقال: ويجهر المبلغ خلف الإمام بسمع الله لمن حمده، ولا يجهر بربنا لك الحمد، لأنه ليس للانتقال بل هو ذكر للاعتدال فلم يجهر به كسائر الأذكار، هذا كلامه وهي مسألة حسنة [وجهلها انتقاص] (¬4) فينبغي معرفتها، فإن عمل الناس على خلافه. قوله: وأما ما عدا الصبح من الفرائض ففيها أقوال: أصحها عند المعظم أنه إن نزلت بالمسلمين نازلة من وباء أو قحط قنتوا، وإلا فلا. والثاني: إن نزلت قنتوا، وإلا يخير. والثالث: لا يقنتون مطلقًا، ولنا ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرًا يدعو ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في أ: و. (¬4) في جـ: وحكمها متعلق.

علي قاتلي أصحابه ببئر معونة ثم تركه (¬1). فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما [ذكرته] (¬2) من الأقوال هو حاصل ما ذكره الرافعي لمن [تأمله] (¬3)، وقد اختصره في "الروضة" بقوله: ففيها ثلاثة أقوال: المشهور أنه [إن] (¬4) نزلت بالمسلمين نازلة كالوباء والقحط قنتوا، وإلا فلا. والثاني: يقنتون مطلقًا. والثالث: لا يقنتون مطلقًا. هذه عبارته. والقول الثاني: وهو القنوت مطلقًا لم يذكره الرافعي بل ذكر عوضه قول التخيير فالتبس عليه. نعم ذكره ابن يونس شارح "التنبيه" مع وجه آخر، وهو أنه يقنت في الجهرية دون السرية. الأمر الثاني: أن تقييده بالفرائض مخرج للنوافل إلا أنه لم يبين حكمها، هل هو الكراهة أو عدم الاستحباب؟ وقد نص عليه الشافعي كما نقله عنه في "شرح المهذب" فقال: ولا قنوت في صلاة العيدين، والاستسقاء، فإن قنت عند نازلة لم أكرهه، وإن قنت من غير نازلة كرهته. هذا كلامه، وحاصله أنه لا يستحب، وفي كراهته هذا التفصيل. الأمر الثالث: أن تعبيره بالمسلمين وتمثيله بالوباء والقحط مشعران بأن المصيبة الخاصة ببعضهم كالأسر ونحوه لا يشرع فيه القنوت له، ولا لغيره، وقد يقال بالمشروعية، ويستأنس بالقصة المذكورة، ويتجه أن يقال: إن كان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2647) ومسلم (766). (¬2) في جـ: ذكره. (¬3) في أ: تأوله. (¬4) سقط من جـ.

[ضرره] (¬1) متعديًا كأسر العالم والشجاع ونحوهما قنتوا، وإلا فلا؛ وتعبيرهم يقتضيه. والوباء بالمد: فساد في الهواء أو الماء. والقحط: الجدب، وأصله احتباس المطر. يقال: قحط المطر بالفتح، وحكى الفراضية الكسر، يقحط بالفتح أيضًا قحوطا إذا احتبس وأقحط القوم إذا أصابهم القحط، وقحطوا أيضًا على البناء للمفعول قحطًا. ومعونة من بئر معونة بضم العين المهملة، وبالنون، وهي في ناحية نجد بين أرض بني عامر وجرة بني سليم، وكانت غزوتها في أول سنة أربع من الهجرة بعد أحد بأشهر، والحديث المذكور صحيح كما قاله في "شرح المهذب"، صححه الحاكم، والبيهقي، ورواه الدارقطني من طرق بأسانيد صحيحة، وكان الحامل على القنوت دفع تمرد القاتل، وجبر مصيبة المسلمين فيهم باستخلاف غيرهم لأنهم كانوا من القراء الشجعان [لا] (¬2) النظر إلى المقتولين خاصة لعدم إمكان تداركهم. قوله: وحكى أبو الفضل بن عبدان عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: المستحب ترك القنوت في صلاة الصبح إذ صار شعار قوم من الشيعة، إذ [في] (¬3) الاشتغال به تعرض للتهمة. انتهى. واعلم أن في بعض النسخ "إذ" بصيغة إذ الدالة على التعليل، وفي بعضها "إذا" بصيغة الشرط، وعلى كلا العبارتين فإنه يفيد عند هذا القائل استحبابه إذا زال هذا المعنى. وذكر في "الروضة" هذا الوجه فقط بدون ما بعده فأخل بشرطه. واعلم أن هذا الوجه ليس غريبًا كما دل عليه تعبير الرافعي، فإن ¬

_ (¬1) في أ: ضرورة. (¬2) في أ، ب: لأن. (¬3) سقط من جـ.

الغزالي في "الوسيط" قد حكاه عنه في الكلام على دفن الميت مع أشياء استحب فيها [أيضًا] (¬1) الترك في زماننا لكونها قد صارت شعارًا للرافضة منها: الجهر بالبسملة، وتسطيح القبر، والتختم في اليمين. قوله: والقنوت أن يقول: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي، ولا يقضي عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت. هذا القدر يروى عن الحسن بن علي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه ذلك (¬2). انتهى. واعلم أن النووي في "الروضة" لما ذكر هذا اللفظ زاد فيه فاءًا مع "إنك"، وواوًا مع "إنه لا يذل" وزاد "ربنا" بعد "تباركت"، وهكذا ذكره في "شرح المهذب" وغيره، ثم قال: هذا لفظه في الحديث كما رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح، فيكون هو الاختيار والسنة، إلا أن أبا داود لم يذكر الفاء مع "إنك". قوله: والإمام لا يخص نفسه بل يذكر بلفظ الجمع. انتهى. اعلم أن ما ذكره من الجمع قد رواه البيهقي عن ابن عباس، وصححه وعلله في الأذكار بأنه يكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لا يؤم عبد قومًا ويخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم" (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه أبو داود (1425) والنسائي (1745) وأحمد (1727) والدارمي (1591) و (1593) وابن خزيمة (1095) وابن حبان (945) والحاكم (4800) والطبراني في "الكبير" (2701) و"الأوسط" (3887) وأبو يعلى (6762) والبزار (1336) وابن أبي شيبة (2/ 95) والبيهقي في "الكبرى" (2957) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 264) وابن الجارود في "المنتقى" (272) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (416) من حديث الحسن بن علىّ - رضي الله عنه -. قال الشيخ الألباني: صحيح. (¬3) أخرجه أبو داود (90) والترمذي (357) وابن ماجه (923) وأحمد (22468) والبيهقي في "الشعب" (11185) والطبراني في "مسند الشاميين" (1042) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/ 12، 13) من حديث ثوبان بسند ضعيف. ضعفه الدارقطني والألباني، وروى من حديث أبي هريرة وأبي أمامة ولا يصح أيضًا.

رواه أبو داوود والترمذي، وقال: حديث حسن، ومقتضى كلام "الأذكار" إطراده في سائر أدعية الصلاة، وبه صرح الغزالي في "الإحياء" في كلامه على التشهد فقال: يقول: اللهم اغفر لنا، ولا يقول: اغفر لي. فقد كره للإمام أن يخص نفسه بالدعاء، وقال الجيلي شارح "التنبيه": الحكم كذلك في جميع الأدعية، ونقله ابن المنذر في "الإشراف" عن الشافعي فقال: قال الشافعي: لا أحب للإمام تخصيص نفسه بالدعاء دون القوم. قال ابن المنذر: وثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا كبر في الصلاة يقول قبل القراءة: "اللهم باعد بيني. . . ." إلى آخره اللهم نقني، اللهم اغسلني (¬1). الدعاء المعروف [وبهذا نقول] (¬2). هذا كلامه. وعلى هذا فالفرق بينه وبين القنوت أن الجميع مأمورون بذلك الدعاء بخلاف القنوت ومقتضى هذا [الفرق] (¬3) أنه لا يستحب الجمع للإمام في التشهد، ونحوه إلا أن يكون مراد ابن المنذر استثناء دعاء الاستفتاح خاصة. واعلم أن في جهر الإمام بالقنوت خلافًا يأتي، وإذا قلنا: إنه يسر، فإن المأموم يقنت، وإذا علمت هذا علمت أن جزم الرافعي بالجمع مع حكايته للخلاف في الجهر يقتضي أنه يجمع سواء قنت المأموم أم لا، وذلك يبطل الفرق، ويقتضي استحباب الجمع في سائر الأدعية. ومما يدل أيضًا عدم تفصيله بين أن يسمع المأموم أو لا يسمع؛ لكن ذكر -أعني: الرافعي- في الكلام على دعاء الاستفتاح أدعية بصيغة الإفراد، ونص على أن الإمام بقوم محصورين يأتي بها أيضًا، والمعتمد عليه هو ما نقله ابن المنذر عن النص. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ، ب: ويبدأ بقول. (¬3) في أ: القنوت.

قوله: وزاد العلماء فيه: "ولا يعز من عاديت" قبل "تباركت وتعاليت"، وبعده "فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك". ولم يستحسن القاضي أبو الطيب كلمة: ولا يعز من عاديت وقال: لا تضاف العداوة إلى الله تعالى، وقال سائر الأصحاب: ليس ذلك ببيعد، قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (¬1). انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يوهم أن هذه الزيادة مستحبة، وهو وجه، والراجح خلافه، هكذا ذكره النووي في كتبه فقال في "الروضة": قال جمهور أصحابنا: لا بأس بهذه الزيادة، وقال أبو حامد، والبندنيجي وآخرون: مستحبة، واتفقوا على تغليط القاضي أبي الطيب في إنكار لا يعز من عاديت وقد جاءت في رواية البيهقي، وذكر في "التحقيق" مثله فقال: ولو زادها فلا بأس، وقيل: فحسن، ويقال: لا يقال: من عاديت. هذه عبارته. الأمر الثاني: أن ما ذكره في توجيه كلام القاضي والرد عليه قد قلد فيه صاحب "الشامل"، وهو خلاف ما ذكره القاضي فإنه قال في "تعليقه": إنه لا يستحب له ذلك لأن "لا" بدل من "واليت" يغني عنها، ولأن الأمر لم يرد بها. قوله: وهل تسن الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لأنه يروى في حديث الحسن: "وصلي الله [على النبي وآله] (¬2) وسلم"، وأيضًا فقد قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} (¬3) قال المفسرون: أي لا أذكر إلا ويذكر معي. انتهى. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (98). (¬2) في أ، ب: عليه. (¬3) سورة الشرح (4).

فيه أمور: أحدها: أن كلامه، وكلام "الروضة" يشعر بأن الصلاة على الآل لا تسن، لكنه قد جزم في "الأذكار" باستحبابها، وباستحباب السلام أيضًا فأما السلام [فسلم] (¬1) للآية، ولهذا قالوا: يكره إفراد الصلاة عن السلام. وأما الصلاة على الآل فقياسها مما قالوه في التشهد الأول حكمًا وتعليلًا، أنها لا تستحب، بل قد حكى الرافعي في الكلام على التشهد وجهًا أن ذكر الصلاة في القنوت مبطل لكونه نقل ركنًا إلى غير موضعه فالسلام الذي لم يثبت أولى. الأمر الثاني: أن الرافعي نص على الصلاة فقط، ثم استدل بحديث ذكر فيه الصلاة والسلام، وهذا الحديث الذي استدل به قد رواه النسائي عن الحسن بإسناد صحيح أو حسن، كما قاله النووي في "شرح المهذب" وغيره، إلا أن السلام ليس مذكورًا فيه فإنه قال في آخره: وصلي الله على النبي. هذه صيغة ما رواه بغير زيادة، ولم يذكر النووي في غير "الأذكار" ما نقلناه عنه من استحباب السلام والصلاة على الآل، وقد خالفه فيهما صاحب "الإقليد" فقال: أما ما وقع في بعض كتب أصحابنا من زيادة "وسلم"، وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب، فكل ذلك لا أصل له. الأمر الثالث: أن ما نقله عن المفسرين في تفسير الآية قد ثبت في الحديث، وهو ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول لك: كيف رفعت ذكرك؟ ، قلت: الله أعلم، قال: إذا ذكرتُ ذكرتَ معي (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه ابن حبان (3382) وأبو يعلى (1380) من حديث أبي سعيد. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وإسناده حسن. قلت: كيف هذا وفيه دراج عن أبي الهيثم.

الأمر الرابع: أن الرافعي لم يصرح بمحل الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي القول باستحبابها، ومحله بعد القنوت كما صرح به في "المحرر" و"أصل الروضة"، وقال الطبري صاحب "العدة": لا بأس بها أوله وآخره لأثر ورد فيه. قوله: ثم مقتضى كلام الأكثرين أن الخلاف -أي: الأقوال الثلاثة السابقة في القنوت- في غير الصبح إنما هو في الجواز، ومنهم من يشعر إيراده بالاستحباب. انتهى. استدرك عليه في "الروضة" فقال من زياداته: الأصح أن الخلاف في الاستحباب، ونص عليه الشافعي، وذكر مثله في شرح الوسيط المسمى "بالتنقيح"، ولم يذكر غير ذلك. وقال في "التحقيق" ما نصه: والمختار أن الخلاف في الندب، ونص عليه في "الإملاء"، وقال الأكثرون: في الجواز. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الصحيح الثاني، لأن اصطلاحه كذلك، لاسيما مع تصريحه بأن الأكثرين على خلافه. قوله: وهل يجهر الإمام بالقنوت في الصبح؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لأنه روى ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: وأما في سائر الصلوات إذا قنت فيها، فإيراده في "الوسيط" يشعر بأنه يسر في السريات، وفي الجهريات الخلاف المذكور في الصبح، وإطلاق غيره يقتضي طرد الخلاف في الكل، وحديث بئر معونة يدل عليه. انتهى. قال في "شرح المهذب": الصحيح أو الصواب استحباب الجهر. وقال في "الروضة": إنه الراجح، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له.

والذي استدل به الرافعي أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع وربما قال: إذا قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، "اللهم أنج الوليد بن الوليد"، ثم قال في آخره: يجهر بذلك (¬1). قوله: فإن قلنا: يجهر الإمام، [فسمعه المأموم] (¬2) فوجهان: أصحهما: أنه يؤمن، ولا يقنت روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقنت ونحن نؤمن خلفه (¬3). والثاني: يتخير بين أن يقنت أو يؤمن. فعلى الأول وجهان: أظهرهما: أن المأموم يؤمن في القدر الذي هو دعاء، أما في الثناء فيشاركه أو يسكت. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يوهم مساواة المشاركة للسكوت، وليس كذلك، بل المستحب المشاركة كذا جزم به في "المحرر" و"المنهاج" و"شرح المهذب" وغيرها. الأمر الثاني: أن مقتضاه أنه يؤمن أيضًا في الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنها دعاء، وفيه نظر يحتاج إلى نقل. وحديث ابن عباس رواه أبو داود والحاكم، وقال: حديث صحيح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4284) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من جـ. (¬3) أخرجه أبو داود (1443) وأحمد (2746) وابن خزيمة (618) والحاكم (820) والبيهقي في "الكبرى" (2919) وابن الجارود في "المنتقى" (198) من حديث ابن عباس. قال الحاكم: صحيح على شروط البخاري ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني: حسن.

على شرط البخاري. [قوله] (¬1): ولفظ الكتاب، وإن كان مطلقًا في حكاية الخلاف في الجهر فالوجهان في "الأم"، أما المنفرد فيسر به كسائر الأذكار، والدعوات ذكره في "التهذيب". انتهي كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وهذا الذي قاله البغوي سبقه إليه شيخه القاضي الحسين والقاضي الماوردي، وصرح في "التحقيق" بأنه لا خلاف فيه، وذكر نحوه في غيره من كتبه، وإطلاق جماعة يقتضي جريان الخلاف فيه، بل عبر البندنيجي بقوله: ويجهر به المصلى. قوله: وهل يسن رفع اليدين؟ فيه وجهان: اختيار أبي زيد، والشيخ أبي محمد، وابن الصباغ، وهو الذي ذكره في "الوسيط": أنه يسن، لما روى عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا دعوت فادع ببطون كفيك، فإذا فرغت فامسح راحتيك على وجهك" (¬2). والثاني: لا، لما روي عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يرفع [اليد] (¬3) إلا في ثلاث مواطن: الاستسقاء والاستنصار، وعشية عرفة (¬4). وهذا هو الأظهر عند صاحب "المهذب" "والتهذيب" واختاره القفال، ومال إليه الإمام. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) أخرجه أبو داود (1485) والحاكم (1968) والطبراني في "الكبير" (10779) والبيهقي في "الكبرى" (2969) وابن عدي في "الكامل" (4/ 51) من حديث ابن عباس بسند ضعيف، ضعفه أبو داود والألباني. لكن أخرج أبو داود (1486) والطبراني في "مسند الشاميين" (1639) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2459) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 55) من حديث مالك ابن يسار السكوني، بلفظ: "إذا سألتم الله فاسألوا ببطون أكفكم" وسنده صحيح. (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) قال الحافظ: لا أصل له من حديث أنس.

فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو الرفع، فقد صححه الرافعي في "المحرر" وعبر بالأظهر، وهو مقتضى كلامه في "الشرح الصغير"، وصححه النووي في "شرح المهذب" و"التحقيق" و"الروضة"، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له. الأمر الثاني: أن السنة لمن دعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، ولمن دعا لتحصيل شئ أن يجعل بطنهما إلى السماء. [قاله] (¬1) الرافعي في باب الاستسقاء: وحديث ابن عباس ضعيف. قال أبو داود: يروى من غير وجه كلها واهية، وقال البيهقي: لست أحفظ في مسح الوجه هنا عن أحد من السلف شيئًا، وإن كان [يروى عن بعضهم] (¬2) في الدعاء خارج الصلاة فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس. والكلام في حكم المسح يأتي، وإنما وقع هذا الكلام استطرادًا لأنه من تتمة حديث الرفع. نعم روى البيهقي الرفع بإسناد صحيح أو حسن كما قاله في "شرح المهذب" من رواية أنس. والحديث الثاني الدال على عدم الرفع، صحيح، رواه البخاري (¬3) وغيره، ولفظ البخاري: "إلا في الاستسقاء"، ولم يذكر غيره. قوله: فإن قلنا: يرفع، فهل يمسح بهما وجهه؟ وجهان. قال في "التهذيب": أصحهما لا يمسح. انتهى. والأشهر في [المذهب] (¬4): استحباب المسح. كذا قاله في "شرح ¬

_ (¬1) في أ: قال. (¬2) في ب: المهذب. (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (984) ومسلم (895).

المهذب"، لكنه صحح فيه، وفي باقي كتبه أنه لا يمسح، وصححه أيضًا الرافعي في "المحرر"، وقال البيهقي في "سننه": لأنه لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس. قال: وإنما روى ذلك في الدعاء خارج الصلاة من رواية ابن عباس بإسناد ضعيف، وورد في الحديث حكمته وهو الإفاضة عليه مما أعطاه الله تفاؤلًا بتحقيق الإجابة. قوله من زوائده: ولو قنت بآية من القرآن ينوي بها القراءة، وقلنا بالصحيح أنه لا يتعين له لفظ، فإن تضمنت الآية دعاء أو شبهه كان قنوتًا، وإن لم تتضمنه كآية الدين وثبت، فوجهان حكاهما في "الحاوى": الصحيح: لا يكون قنوتًا. انتهى. وتعبيره بقوله: "ينوي بها القنوت" يقتضي اشتراط النية في ذلك، لكن الأركان لا تحتاج إلى نية لاشتمال نية الصلاة عليها، فالسنة بطريق الأولى وأيضًا فالقنوت بخصوصه لا يحتاج إلى [إفراده بنية] (¬1)، وقد يقال إن الصلاة لما كانت تقتضي القراءة من حيث الجملة لكونها قرآنًا لم ينصرف منه شئ إلى القنوت إلا بالقصد، وفيه أيضًا نظر، لأن القراءة في الاعتدال [وغيره] (¬2) مما عدا ما قبل الركوع مكروهة. الركن الخامس: السجود. قوله: لما روى جابر - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر" (¬3). انتهى. ¬

_ (¬1) في أ: نية. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) أخرجه الدارقطني (1/ 349) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (527). قال الدارقطني: تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله عن وهب، وليس بالقوي. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (432) وأبو يعلى (2176) وابن أبي شيبة (1/ 235) وتمام في الفوائد (428) وابن سعد في "الطبقات" (1/ 421) وابن عدي في "الكامل" (5/ 284) من حديث جابر أيضًا بأسانيد لا يصح منها شيء.

والقصاص: بضم القاف وفتحها وكسرها؛ ثلاث لغات حكاهن ابن السكيت وغيره، وهو أول منبته من مقدم الرأس، قاله في "شرح المهذب"، والتقييد بكونه من مقدم الرأس إنما هو تفسير للقصاص الواقع في الحديث. وأما مفهومه اللغوي فينطلق على منتهى النبات سواء كان من المقدم أو من المؤخر. قاله الجوهري، قال: والضم أفصح. والحديث المذكور رواه الدارقطني وضعفه. قوله في "أصل الروضة": والصحيح أنه لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، فلو سجد على قطن أو حشيش أو شئ محشو بهما وجب أن يتحامل حتى [ينكبس] (¬1) ويظهر أثره على يد لو فرضت تحت ذلك المحشو، وقال الإمام: عندي أنه يكفي إرخاء رأسه ولا يقله، ولا حاجة إلى التحامل كيف فرض محل السجود، انتهى كلامه. والوجه الذي يقابل الصحيح، هو ما ذكره آخرًا عن الإمام وليس وجهًا آخر، فإن الرافعي ذكره هكذا. إذا علمت ذلك فاعلم أن ما ذكره من كونه يكفي الإمساس على وجه، وأن الإمام قال به، غلط فاحش فإن الرافعي قال: وقال الإمام: يكفي عندي أن يرخي رأسه، ولا يقله، ولا حاجة إلى التحامل كيف ما فرض موضع السجود ولأن الغرض إبداء هيئة التواضع، وذلك لا يحصل بمجرد الإمساس، فإنه ما دام يقل رأسه كان كالطير بوضعه، وإذا أرخى حصل الغرض، بل هو أقرب إلى هيئة التواضع من تكلف التحامل. وهذا ما أورده في "الوسيط". هذه عبارته، وهي [مطابقة] (¬2) لما في "النهاية". ¬

_ (¬1) في أ: يتلبس. (¬2) في جـ: مطلقة.

والحاصل أن التحامل هو الغاية، وأن الإمساس مع قصد الإقلال لا يكفي قطعًا، وأن محل الخلاف فيما إذا أمس، ولم يتحامل، ولم يقل رأسه، بل فعل ما تقتضيه الجوارح بطبعها، والذي قاله الإمام هو الظاهر. قوله: وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين في السجود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" (¬1)، ويروى: "سبعة آراب (¬2): على الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين". وأظهرهما: لا يجب، لأنه لو وجب وضعها لوجب الإيماء [بها] (¬3) عند العجز، وتقريبها من الأرض كالجبهة. فإن قلنا: يجب، فيكفي وضع جزء من كل واحد منها، والاعتبار فى اليدين بباطن الكفين، وفي الرجلين ببطون الأصابع. وإن قلنا: لا يجب، فيعتمد على ما شاء منهما [ويرفع ما شاء] (¬4)، ولا يمكنه أن يسجد مع رفع الجميع؛ هذا هو الغالب أو المقطوع به. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره دليلًا على الأظهر، مسألة مهمة، وقد أسقطها من "الروضة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (779) ومسلم (490) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه مسلم (491) وأبو داود (890) و (891) والترمذي (272) وابن ماجة (885) وابن خزيمة (631) وابن حبان (1921) والشافعي (161) وأبو يعلى (6693) والبيهقي في "الكبرى" (2474) من حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. (¬3) سقط من جـ. (¬4) سقط من ب.

الأمر الثاني: [لم] (¬1) يصرح بالراد بباطن الكف، وقد صرح به في "شرح المهذب" فقال: إنه لا فرق بين الراحة والأصابع، وقيل: يختص بالراحة. الثالث: أن ما ذكره من عدم الإمكان في الجميع، غريب، فإنه يتصور بأن يرفع الركبتين، ويعتمد على ظهر الكفين، وعلى ظهور أصابع الرجلين، لأن الوضع المعتبر لم يحصل. والآراب: جمع إرب بهمزة مكسورة، وراء ساكنة بعدها باء موحدة، وهو العضو. والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس، وقد وقع هنا ذكر خباب بن الأرت. وخباب: بالخاء المعجمة، والباء الموحدة المشددة، وبالموحدة أيضًا بعد الألف. والأرت: بالمثناة [وكنية] (¬2) خباب أبو عبد الله شهد بدرًا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان من السابقين إلى الإسلام نزل الكوفة وتوفى بها سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وسبعين سنة - رضي الله عنه -. قوله: الثانية: يجب كشف الجبهة في السجود بأن لا يكون بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرته، أو كور عمامته لم يجز خلافًا لأبي حنيفة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لو كان بيده عودًا أو نحوه فسجد عليه [جاز] (¬3) كما ذكره في نواقض الوضوء من "شرح المهذب"، فلابد من استثناء هذه المسألة. الثاني: أن هذا الكلام يوهم أن لو نبت على جبهته شعر فسجد عليه] (¬4)، لم يكف، ويجب عليه حلقه، ويحتمل الإجزاء مطلقًا، بدليل ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ: وابنه. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

أنه لا يجب على المتيمم أن ينزعه ويمسح على البشرة، وهو متجه وأوجه منه أن يقال: إن استوعب الجبهة كفى، وإلا وجب أن يسجد على الموضع الخالي منه لقدرته على الأصل. والطرة هي الناصية. والكور: بكاف مفتوحة وراء مهملة هو الدور، يقال: كار العمامة على رأسه يكورها كورًا إذا أدارها، وكل دور كور، قاله الجوهري. قوله: ولو سجد على طرف عمامته أو ذيله المتحرك بحركته لم يصح، وإن لم يتحرك بحركته قيامًا وقعودًا أجزأه. انتهى. ذكر النووي في "الروضة" مثله، وصرح في "شرح المهذب" بأنه لا خلاف في الصحة إذا لم يتحرك، ذكر ذلك في باب طهارة البدن والثوب فقال: ولو سجد على طرف عمامته إن تحرك بحركته لم تصح صلاته، وإن لم يتحرك صحت صلاته بلا خلاف. هذا لفظه. ثم حكى فيه وجهين في هذا الباب من الشرح المذكور أيضًا فقال: فيه وجهان: فالصحيح: الصحة. والثاني: لا، وبه قطع القاضي حسين في "تعليقه" كما لو كان على ذلك الطرف نجاسة، هذا كلامه. والفرق بين السجود وبين النجاسة أن المعتبر في السجود أن يضع جبهته على قرار للأمر الوارد بتمكينها من الأرض، وإنما يخرج عن القرار بالحركة. والمعتبر في النجاسة أن لا يكون شئ مما ينسب إليه ملاقيًا للنجاسة لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} (¬1) والطرف الطويل من ثيابه ¬

_ (¬1) سورة المدثر (4).

منسوب إليه. قوله: فلو [تعذرت] (¬1) عليه هذه الهيئة يعني [التنكيس] (¬2) لمرض أو غيره فهل يجب وضع وسادة ونحوها ليضع الجبهة عليها أم يكفي إيماء الرأس إلى الحد الممكن؟ فيه وجهان: أظهرهما عند صاحب "الكتاب": أنه يجب. وأشبههما بكلام الأكثرين: أنه لا يجب، لأن هيئة السجود فائتة، ولو أمكنه الإتيان [التنكيس] (¬3) ولكن عجز عن وضع الجبهة وجب عليه وضع وسادة ليسجد عليها بلا خلاف. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد رجح الوجوب فقال: أظهر الوجهين: أنه يجب، والمذكور في "الكبير" هو الذي صححه النووي في كتبه كلها، والفتوى عليه. الأمر الثاني: أن المريض إذا لم يمكنه الانتصاب إلا بالاعتماد على شئ كعصا ونحوه، ففي وجوب وضعه وجهان: أصحهما في الرافعي و"الروضة": وجوبه، وإمساك العصا ليقوم هو نظير وضع الوسادة ليسجد، وقد قال في "الروضة": أنه يجب بلا خلاف، كما تقدم فأي فرق بينهما؟ ! قوله: الثالث: ينبغي أن لا يقصد بهويه غير السجود، فلو سقط على الأرض من الاعتدال قبل قصد الهوى للسجود لم يحسب، بل يعود إلى الاعتدال ويسجد. انتهى. وتعبيره أولًا بقوله: "أن لا يقصد" تابعه عليه في "الروضة" "وشرح ¬

_ (¬1) في جـ: تعذر. (¬2) في أ، ب: التمكين. (¬3) في أ، ب: بالتلبيس.

المهذب"، وهو تعبير غير صحيح، فإن الذي فرعه عليه، وهو السقوط لا يخرج به، فإنه لم يشترط فيه قصد السجود والساقط يصدق عليه أنه لم يقصد بهويه غير السجود لانتفاء القصد، وقد عبر في "المحرر" بتعبير صحيح فقال: ويجب أن لا يكون هويه لغير السجود، وذكر نحوه في "المنهاج". قوله: ولو هوى ليسجد فسقط على جنبه وانقلب وأتى بصورة السجود على قصد الاستقامة والاستداد لم يعتد به، وإن قصد السجود اعتد به. انتهى. نبه في "الروضة" على أمرين: أحدهما: أنه إذا قصد الاستقامة فينظر إن قصدها قاصدًا صرف ذلك عن السجود فلا يجزئه قطعًا وتبطل صلاته لأنه زاد فعلًا عمدًا لا يزداد مثله في الصلاة. وإن قصد الاستقامة، ولكن لم يقصد صرفه إلى السجود، بل غفل عنه فلا تجزئه أيضًا على الصحيح المنصوص، ولكن لا تبطل صلاته بل يكفيه أن يعتدل جالسًا ثم يسجد، ولا يلزم أن يقوم ليسجد من قيام على الظاهر، بل لو قام متعمدًا بطلت صلاته. ثانيهما: أن الرافعي قد أهمل القسم الثالث، وهو ما إذا لم يقصد السجود، ولا الاستقامة، وحكمه [أن] (¬1) تجزئه عن السجود قطعًا. هذا كلام "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن تعبيره بالظاهر يوهم أن مقابله وجه أنه يلزمه أن يقوم ليسجد، وليس كذلك، وإنما هو احتمال أبداه الإمام لنفسه ثم استضعفه وقال: الأظهر أنه لا يقوم، هكذا نبه عليه في "شرح المهذب". الأمر الثانى: أنه أهمل قسمًا آخر وهو ما إذا نواهما معًا -أى: الاستقامة والسجود- والمنقول منه كما ذكره الطبري شارح "التنبيه" أنه ¬

_ (¬1) في أ: أنه.

يجزئه وتعليل كلام "المهذب" يدل عليه فإنه قال: كما لو اغتسل للتبرد ونوى رفع الحدث. الأمر الثالث: أن ما ادعاه في آخر كلامه من الإجزاء بلا خلاف فيما إذا [لم يقصد] (¬1) السجود، ولا الاستقامة ليس كذلك، فقد ذكر العمراني في "البيان" ما حاصله الجزم بعد الإجزاء فقال: وإن لم ينو السجود لم يجزئه لخروجه بسقوطه لجنبه عن سمت السجود، فلا يعود إليه إلا بفعل أو نية، [إذ الفعل] (¬2) أن يجلس ثم يسجد، والنية أن ينوي بانقلابه السجود، هذا كلامه فانظر كيف صرح بأنه لا يعود إلا بأحد الأمرين. قوله: السنة أن يكون أول ما يقع من الساجد ركبتاه ثم يداه ثم أنفه وجبهته لما رواه وائل بن حجر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه (¬3). انتهى كلامه. لم يبين -رحمه الله- حكم الجبهة مع الأنف هل يضعهما معًا أم يتخير، وقد اختلف فيه. نقل النووي في "شرح المهذب" فقال في الكلام على المسألة ما نصه: قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: والجبهة والأنف كعضو واحد يقدم أيهما شاء. هذه عبارته من غير زيادة عليها، ثم ذكر بعد ذلك بنحو ورقة وصفحة ما يخالفه فقال: فرع: السنة أن يسجد على أنفه مع جبهته. قال البندنيجي وغيره: يستحب أن يضعهما على الأرض دفعة واحدة لا يقدم أحدهما. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) في أ: قصد. (¬2) في جـ: فالفعل. (¬3) أخرجه أبو داود (838) والترمذي (268) والنسائي (1089) وابن ماجة (882) والدارمي (1320) وابن خزيمة (626) وابن حبان (1912) والدارقطني (1/ 345) والطبراني في "الكبير" (22/ 39) حديث (97) والطحاوي في "شرح المعاني" (1410) من حديث وائل بسند ضعيف. ضعفه الألباني -رحمه الله تعالى-. وراجع "نهى الصحبة عن النزول بالركبة" للشيخ المحدث أبي إسحاق الحويني حفظه الله وشفاه.

وجزم به الرافعي في "المحرر"، ورأيت في "التبصرة" لأبي بكر البيضاوي الجزم باستحباب تقديم الجبهة على الأنف. والحديث المذكور رواه أبو داود، والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: إنه حديث حسن. وقال الخطابي: إنه أثبت من حديث تقديم اليدين. قوله: والأفضل أن يضيف إلى التسبيح ما روي عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في سجوده: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه [وصوره] (¬1) وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين" (¬2). انتهى. زاد في "الروضة": "بحوله وقوته" [قيل] (¬3) فتبارك الله ولم ينبه على أنه من زوائده. والحديث المذكور رواه مسلم باللفظ الذي ذكره الرافعي إلا أنه عبر بقوله: "تبارك" بلا فاء، نعم رواه ابن حبان (¬4) بالفاء، ذكر ذلك في كتابه المسمى "وصف الصلاة بالسنة" بسند صحيح. قوله: الثانية: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في ركعة لا يعقبها تشهد فنص في "المختصر" أنه يجلس للاستراحة قبل قيامه، ونص في "الأم" على أنه يقوم من السجدة، فقيل: فيه قولان: أحدهما: لا يجلس، لما روي عن وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائمًا" (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه مسلم (771) وأبو داود (760) والترمذي (3421) والنسائي (1126) وابن ماجه (1054). (¬3) سقط من أ، ب. (¬4) صحيح ابن حبان (1977). (¬5) قال الحافظ: هذا الحديث بيض له المنذري في الكلام على "المهذب" وذكره النووي "في الخلاصة" في فصل الضعيف، وذكره في "شرح المهذب" فقال: غريب، ولم يخرجه، =

وأصحهما: أنه يجلس لما رواه مالك بن الحويرث أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا (¬1). وقال أبو إسحاق: المسألة على حالين: فإن كان بالمصلي ضعف لكبر أو غيره جلس للاستراحة وإلا فلا. انتهى. ذكر في "الشرح الصغير" أيضًا مثله، والذي ذكره -رحمه الله- يؤخذ منه تصحيح الجلوس في العاجز، وأما غيره فلا يؤخذ منه تصحيح فيه، فتفطن له فإنه لم يصحح شيئًا من الطريقين. وتصحيح الجلوس مطلقًا إنما هو تفريع على طريقة القولين. والأصح: استحبابه مطلقًا، فقد صححه في "المحرر" وكذلك النووي في كتبه، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له. وقد صحح في "شرح المهذب" طريقة القولين فقال: [إنها أشهر] (¬2)، وهو مقتضى ما في "الروضة" و"المحرر" و"المنهاج". الأمر الثاني: في شرح المراد بقوله: في كل ركعة لا يعقبها تشهد، هل المراد به مشروعيته أو فعله؟ فإنه لم يصرح به، والمنقول هو الثاني، فقد صرح به البغوي في "فتاويه" فقال: إذا صلى أربع ركعات بتشهد فإنه ¬

_ = وظفرت به في سنة أربعين في "مسند البزار" في أثناء حديث طويل في صفة الوضوء والصلاة وقد روي الطبراني عن معاذ بن جبل في أثناء حديث طويل أنه كان يمكن جبهته وأنفه من الأرض ثم يقوم كأنه السهم وفي إسناده الخصيب بن جحدر وقد كذبه شعبة ويحيى القطان، ولأبي داود من حديث وائل: وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه وروى ابن المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش قال أدركت غير واحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس. (¬1) أخرجه البخاري (789) وأبو داود (844) والترمذي (287) والنسائي (1152). (¬2) في ب: إنه سهو.

يجلس للاستراحة في كل ركعة منها لأنها إذا ثبتت في الأوتار ففي محل التشهد أولى، وحديث وائل قال النووي: إنه غريب، إلا أن حاصله عدم التعرض لها، وقد قال الإمام أحمد: إن أكثر الأحاديث ليس فيها تعرض لها. وأما حديث مالك فرواه البخاري في "صحيحه". قوله: وإن قلنا: لا يجلس المصلي للاستراحة فيبتدئ التكبير مع ابتداء الرفع، وينهيه مع استوائه قائمًا. وإن قلنا: يجلس، فأوجه: أحدها: أنه يرفع رأسه غير مكبر ويبتدئ التكبير جالسًا، ويمده إلى أن يقوم، لأن الجلسة للفصل بين الركعتين، فإذا قام منها وجب أن يقوم بتكبير كما إذا قام إلى الركعة الثالثة. والثاني: وهو أصحها عند جمهور الأصحاب: أنه يرفع مكبرًا ويمده إلى أن يقوم، ففي الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في كل خفض ورفع (¬1). والثالث: أنه يرفع مكبرًا كما ذكرناه إلا أنه إذا جلس يقطعه ويقوم غير مكبر لأنه لو مد لطال، وتبتر النظم؛ ثم قال: ولا خلاف في أنه لا يكبر تكبيرتين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف تبعه عليه النووي في "الروضة" وغيرها، وسبقهما إليه القاضي حسين في "تعليقه" ثم البغوي، وليس كذلك، بل فيه وجه حكاه في "الإقليد" فقال: وفي بعض التعاليق أنه يكبر تكبيرة يفرغ منها في الجلوس، ثم يبتدئ أخرى للنهوض، وهذا وجه غريب أنكره الرافعي وقال: لا خلاف فيه، فحصل في التكبير أربعة أوجه. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) تقدم.

وقال الغزالي في "الإحياء": يبتدئ التكبير من وسط ارتفاعه إلي القعود وينهيه في وسط. ارتفاعه إلى القيام، فيقع التكبير فى وسط انتقاله، ويخلو عنه طرفاه، فهو أقرب إلى التعميم. الأمر الثاني: في مقدار قعود هذه الجلسة، وقد ضبطه في "التتمة" فقال: يستحب أن يكون بقدر الجلوس بين السجدتين، ويكره أن يزيد على ذلك، وحديث التكبير في كل خفض ورفع رواه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح. قوله: ويقوم معتمدًا على الأرض بيديه لقول ابن عباس: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام في [صلاته] (¬1) وضع يديه على الأرض كما يضع العاجن (¬2) ثم قال: ¬

_ (¬1) في جـ: صلاة. (¬2) قال الحافظ: قال ابن الصلاح في كلامه على الوسيط: هذا الحديث لا يصح ولا يعرف ولا يجوز أن يحتج به وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث ضعيف أو باطل لا أصل له وقال في التنقيح ضعيف باطل. وقال في شرح المهذب: نقل عن الغزالي أنه قال: في درسه هو بالزاء وبالنون أصح وهو الذي يقبض يديه ويقوم معتمدًا عليها. قال ولو صح الحديث لكان معناه قام معتمدًا ببطن يديه كما يعتمد العاجز وهو الشيخ الكبير وليس المراد عاجن العجين ثم قال يعني ما ذكره ابن الصلاح: أن الغزالي حكى في درسه هل هو العاجن بالنون أو العاجز بالزاي. فأما إذا قلنا إنه بالنون فهو عاجن الخبز يقبض أصابع كفيه ويضمها ويتكئ عليها ويرتفع ولا يضع راحتيه على الأرض. قال ابن الصلاح وعمل بهذا كثير من العجم وهو إثبات هيئة شرعية في الصلاة لا عهد بها بحديث لم يثبت ولو ثبت لم يكن ذلك معناه فإن العاجن في اللغة هو الرجل المسن. قال الشاعر فشر خصال المرء كنت وعاجن قال فإن كان وصف الكبر بذلك مأخوذًا من عاجن العجين فالتشبيه في شدة الاعتماد عند وضع اليدين لا في كيفية ضم أصابعها قال الغزالى: وإذا قلنا بالزاي فهو الشيخ المسن الذي إذا قام اعتمد بيديه على الأرض من الكبر. قال ابن الصلاح: ووقع في المحكم للمغربي الضرير المتأخر العاجن هو المعتمد على الأرض وجمع الكف وهذا غير مقبول منه فإنه لا يقبل ما ينفرد به لأنه كان يغلط ويغالطونه كثيرًا وكأنه أضربه مع كبر حجم الكتاب ضرارته انتهى كلامه. وفي الطبراني "الأوسط" عن الأزرق بن قيس: رأيت عبد الله بن عمر وهو يعجن في الصلاة يعتمد على يديه إذا قام كما يفعل الذي يعجن العجين.

والمراد بالعاجن هو عاجن الخمير. انتهى. ومقتضى ما قاله من أن المراد عاجن الخمير أنه يقبض يديه، وقد صرح به الغزالي في درسه كما نقله عنه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" فقال بعد ذكره للحديث: هذا حديث لا يعرف، ولا يصح، ومن غالط في لفظه يقول: العاجز بالزاي، ومن غلط في معناه غير غالط في لفظه يقول: هو بالنون، وأن المراد عاجن الخمير فيقبض أصابع كفيه ويضمها ويتكئ عليها، ولا يضع راحته. وقد نقل عن الغزالي في درسه أنه أثبت الوجهين هكذا، وعمل به كثير من عامة العجم وغيرهم. والحديث لم يثبت ولو ثبت لم يكن ذلك معناه، فإن العاجز في اللغة هو الرجل المسن الذي إذا قام اعتمد على الأرض بيديه من الكبر وأنشدوا: فأصبحت كنتيًا وأصبحت عاجنًا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن فإن كان وصف الكبير بذلك من عاجن العجين بالتشبه في شدة الاعتماد عند وضع اليدين لا في كيفية ضم أصابعهما. انتهى كلام ابن الصلاح ملخصًا. ونقل النووي في "شرح الوسيط" ما ذكرناه عن الغزالي، ثم أنكره عليه وذكر نحوه في "شرح المهذب" وقال: إنه يبسط يديه بلا خلاف، ولم يتعرض في "الروضة" للمسألة بالكلية، وهو غريب. واعلم أن ابن الأثير في "النهاية" قد ذكر ما ذكره الرافعي فقال في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إنه كان يعجن في الصلاة" [أي يعتمد] (¬1) فقيل له: ما هذا؟ فقال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجن في الصلاة (¬2)، أي يعتمد على يديه إذا قام كما يفعل الذي يعجن العجين ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (1007) وحسنه الألباني -رحمه الله-.

هذا كلامه. قوله من زوائده: واختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة على وجهين: الصحيح: أنها جلسة مستقلة تفصل بين الركعتين كالتشهد. والثاني: أنها من الركعة الثانية. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي وجزم بأنها فاصلة، وقد ذكرت لفظه في الكلام على وقت ابتداء التكبير، وقال صاحب "الذخائر": يحتمل أن يكون من الأولى تبعًا للسجود. الأمر الثاني: ذكر النووي في "شرح المهذب" أن فائدة الخلاف في التعليق على الركعة، وقال بعض [فضلاء] (¬1) المتأخرين -وهو القاضي شرف الدين البادري الحموي: فائدة الخلاف في المسبوق إذا كبر والإمام فيها، فإن قلنا: إنها مستقلة، جلس معه كما يجلس في التشهد الأول إذا كبر فيه، وإن قلنا: إنها من الثانية، فله أن ينتظره إلى القيام، والذي قاله فيه نظر. الركن السادس: "التشهد" قوله: فإذا جلس من عليه سجود سهو في آخر صلاته افترش، لأنه يعقبه حركة، وقيل: يتورك لأنه قعود في آخر الصلاة. انتهى. وهذا الذي أطلقه هو وغيره يتجه أن يكون محله ما إذا قصد السجود فإن لم يقصده تورك لانتفاء المعنى، وتعليله يدل عليه، ويصير نظير ما ذكروه في الحاج إذا طاف للقدوم إن قصد السعي بعده اضطبغ ورمل، وإلا فلا، ومقتضى إطلاق الرافعي أنه لا فرق في تصحيح الافتراش بين أن يفرع ¬

_ (¬1) زيادة من ب.

على كون السجود قبل السلام أو بعده، وهو محتمل. قوله: ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض الخنصر والبنصر، ويرسل المسبحة، وفيما يفعل بالإبهام والوسطى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر ويرسل الإبهام مع المسبحة، رواه أبو حميد الساعدي. والثاني: أنه يحلق بين الإبهام والوسطى (¬1)، رواه وائل بن حجر، وعلى هذا فيحلق بينهما برأسيهما، وقيل: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام. والثالث: وهو الأصح: أنه يقبضهما أيضًا، وعلى هذا يضع الإبهام تحت المسبحة كأنه عاقد ثلاثة وخمسين، كذا رواه ابن عمر. وقيل: يضعها على أصبعه الوسطى كأنه عاقد ثلاثة وعشرين، لما روى عن الزبير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضع إبهامه عند الوسطى (¬2). انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أنه لم يبين علي القول الأول كيفية إرسال الإبهام مع المسبحة، هل يرسلهما مفترقين أو راكبة إحداهما على الأخرى أو إحداهما إلى جانب الأخرى مساوية لها أو تحتها وقد جزم في "النهاية" بالاحتمال الأول فقال: ومن الأئمة من قال: يطلق الإبهام والمسبحة كالعاقد ثلاثة. هذه عبارته بلفظ ثلاثة من غير زيادة. والظاهر أنه مراد الرافعي، وحكى في "الكفاية" فيه وجهين ذكرهما ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (1265) وابن ماجه (912) وأحمد (18896). قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال الألباني: صحيح. (¬2) أخرجه مسلم (579).

في "الحاوي" فقال: وعلى هذا هل يضع السبابة على الإبهام كأنه عاقد بسبعة وعشرين أو يرسلهما غير متراكبين؟ [فيه وجهان. وقال في "الإقليد": يرسل الإبهام والمسبحة كالعاقد ثمانين] (¬1). واعلم بأن عقد ثلاثة وعشرين قبض الخنصر والبنصر والوسطى، وإرسال المسبحة، وضم الإبهام إليها مقبوضة الأنملة إلى جهة الأصابع. الأمر الثاني: أن [تصحيحه] (¬2) استحباب عقد ثلاثة وخمسين قد تابعه النووي في "الروضة" عليه، وذكر مثله أيضًا في "شرح المهذب" و"التحقيق" وغيرهما، وقد اعترض -أعني: النووي- على ذلك في "شرح مسلم" فقال: إن الكيفية المستحبة في التشهد ليست عقد ثلاث وخمسين عند الحسَّاب فإن شرط تلك الكيفية عندهم عقد البنصر أيضًا. قال: والعقد المستحب إنما هو عقد بسبعة وخمسين. ونقل الشيخ تاج الدين في "الإقليد" أن اشتراط عقد البنصر طريقة القبض، قال: ومن الحسَّاب من لا يشترط ذلك. ونقل في "الكفاية": أن عدم الاشتراط طريقة المتقدمين. الأمر الثالث: أن ما ذكره في آخر كلامه من الاستدلال المذكور، استدلال غير مطابق. فإن الدعوى وضعها على أصبعه الوسطى، ولفظة "عند" في الحديث لا تعطي ذلك، لكن هذا الحديث الذي نقله عن الزبير قد رواه مسلم في "صحيحه" عنه، ولفظه فيه: "ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى" هذه صيغته بلفظ "على" مطابقًا للمدعي، فتحرف ذلك على الرافعي وحديث ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ: تصحيح.

أبي حميد رواه أبو داود بإسناد صحيح، لكن لفظه: "وضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وأشار بأصبعه"، والذي عزاه إليه الرافعي غير ثابت. وحديث وائل رواه البيهقي بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب"، وحديث ابن عمر رواه مسلم. وأبو حميد بحاء [مهملة] (¬1) مضمومة، واسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر ابن عمر الأنصاري الساعدي، من بني ساعدة بطن من الأنصار، المدني، توفي في آخر خلافة معاوية. وأما وائل [فمن كبار العرب وأولاد ملوك حمير] (¬2)، كنيته [أبو هنيدة] (¬3)، نزل الكوفة، وعاش إلى أيام معاوية، ويقال: وال إليه والأعلى وزن طلب طلبًا [أى لجأ] (¬4)، وؤلًا أيضًا ومضارعة يئل فهو وائل أي لاجئ. وأما حُجر فهو بضم الحاء وإسكان الجيم. والعرب تقول عند الأمر تنكر: حجرا بالضم أى دفعًا، وهو استعاذة من الأمر، ويقولون: حجر بالله من كذا. قوله في "الروضة" وفي وجوب الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأخير قولان، وقيل: وجهان: الصحيح المشهور أنها لا تجب بل تسن. انتهي. وما ذكره من تصحيح جعل الخلاف قولين، قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: فيه وجهان، وحكاهما الإمام والغزالي قولين، والمشهور وجهان. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في أ: أبو هنية. (¬4) سقط من جـ.

وحكاه أيضًا في "المنهاج" وجهين هنا، وفي كتاب الجنائز. قوله: وأما أكمل التشهد فاختار الشافعي ما رواه ابن عباس، وهو: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" (¬1) هكذا رواه الشافعي، وروى غيره: "السلام عليك السلام علينا" بإثبات "ال" فيهما وهما صحيحان، ولا فرق، وحكى في "النهاية" عن بعضهم أن الأفضل إثبات الألف واللام. انتهى. وما ذكره من أن إثبات "ال" وحذفها هل هما سيان أم لا؟ قد حذفه من "الروضة" ثم ذكره من "زوائده" فقال: إثبات "ال" أكثر في روايات الحديث، وفي كلام الشافعي، واتفق أصحابنا على جواز الأمرين هنا. هذا كلامه. وحكى الإمام وجهًا آخر أن الأفضل إثباتها مع السلام الثاني دون الأول. وحديث ابن عباس المذكور رواه مسلم. قوله: فالمنقول عن نص الشافعي، وهو الذي رواه العراقيون، والروياني أنَّ أقل التشهد: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" ورواه صاحب التهذيب؛ "وأشهد أن محمدًا رسوله". وأسقط الصيدلاني لفظه: "وبركاته"، ثم قال ما نصه: فإذا حصل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (403) وأبو داود (974) والترمذي (290) والنسائي (1174) وابن ماجه (900) وأحمد (2665) وابن خزيمة (705) وابن حبان (952) والشافعي (170) والدارقطني (1/ 350) والطبراني في "الكبير" (10996) وغيرهم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

الخلاف في المنقول عن الشافعي في ثلاثة مواضع: أحدها: في كلمة "وبركاته". والثاني: في كلمة "أشهد" في المرة الثانية. والثالث: في لفظ "الله" في الشهادة الثانية. فمنهم من اكتفى بقوله: "ورسوله"، أي بالضمير. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: الكلام على صيغة "أشهد" في المرة الثانية، وقد جزم في "المحرر" بوجوبها، ومقتضى كلامه في "الكبير" و"الصغير" أن الأكثرين على عدم الوجوب، وصححه النووي في كتبه [واستدرك] (¬1) في "المنهاج" على كلام "المحرر" فقال: قلت الأصح "وأن محمدًا رسول الله" وثبت في صحيح مسلم. والله أعلم. وما ادعاه من أنه قد ثبت في "صحيح مسلم" ممنوع. فإنه لم يثبت على هذا الوجه لأن الثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك كما حكاه في كتبه] (¬2). إنما هو ثلاث كيفيات: إحداها: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". رواه الشيخان، من رواية ابن مسعود (¬3). والثاني: "وأشهد أن محمدًا رسول الله" [رواه مسلم] (¬4) من رواية ابن عباس. والثالث: "وأن محمدًا عبده ورسوله" (¬5) بإسقاط أشهد، رواه مسلم، أيضًا من رواية أبي موسى. ¬

_ (¬1) في جـ: واستدل. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (797) ومسلم (402). (¬4) سقط من أ. (¬5) أخرجه مسلم (404).

وليس ما قاله واحدًا من الثلاثة، لأن الإسقاط إنما ورد مع زيادة العبد. الأمر الثاني: في جواز الإتيان بالضمير بدلًا عن لفظ "الله" في قولنا: "وأن محمدًا رسول الله". ومقتضى كلام الرافعي تصحيح المنع كما تقدم، وهو مقتضى كلامه في "الشرح الصغير" أيضًا، وهو الموجود في أكثر نسخ "المحرر"، وقد اختصر النووي في "الروضة" كلام الرافعي على العكس فصحح أن الضمير يجزئ ثم عكس ذلك في مشاهير كتبه فقال في "شرح المهذب" ما نصه: قال الشافعي وأكثر الأصحاب، أقله "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". وقال جماعة: وأن محمدًا رسوله، [ونقله] (¬1) الرافعي عن العراقيين، والروياني. انتهى لفظه بحروفه. وقد علمت مما تقدم أن نقله هذا عن الرافعي غلط، اعتمد فيه على ما لخصه هو في "الروضة" وصححه أيضًا -أعني: وجوب الظاهر- في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" فقال ما نصه: الأصح أنه يجوز إسقاط لفظة "أشهد" في الشهادة الثانية فيقول: وأن محمدًا رسول الله". وقيل: يكفي: "وأن محمدًا رسوله" هذا لفظه. ومن خطه نقلت. وكذلك صححه في "التحقيق" وجزم به في "المنهاج"، وإذا علمت ذلك كله علمت أن الفتوى على المنع. الأمر الثالث: أن الضمير قد ثبت مع زيادة العبد في التشهد الوارد في الصحيح من رواية ابن مسعود وأبي موسى، ولم يقع الظاهر إلا في رواية ابن عباس كما تقدم. وقد اتفق العلماء على جواز التشهد بالروايات الثلاث كما قاله النووي في "شرح مسلم" في أول باب التشهد، فلزم من ذلك استثناء [هذه ¬

_ (¬1) في جـ: ونقل.

الصورة، واختصاص] (¬1) الاختلاف فيما عداها، فينبغي أن يتنبه له. واعلم أن النووي قد جزم في "التحقيق" و"شرح المهذب"، وغيرهما بأن الضمير كاف في الصلاة على الآل إذا أوجبناها فيقول: اللهم صل على محمد وآله، مع تصحيحه في هذه الكتب أنه لا يكفي في الصلاة على الرسول فما الفرق بينهما؟ ! الأمر الرابع: روى البخاري في "صحيحه" (¬2) في باب الأخذ باليدين من كتاب الاستئذان عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نقول في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [السلام عليك أيها النبي، فلما قبض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلنا: السلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] (¬3)، ومقتضى هذا الذي ثبت عن الصحابة أن الخطاب اليوم غير واجب، وقد رأيته مصرحًا به في كتاب "تذكرة العالم" لأبي حفص عمر بن الإمام أبي العباس بن سريج، وأبو حفص هذا قد نقل عنه الشيخ أبو حامد، وأصحابه، وكذا ابن الرفعة في كتاب الطهارة من "الكفاية". الأمر الخامس: المنقول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في تشهده: وأشهد أني رسول الله، كذا ذكره الرافعي في باب الأذان. قوله: والأولى في الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. لما روى كعب بن عجرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن كيفية الصلاة عليه فأمرهم بذلك (¬4). انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) أخرجه البخاري (5910). (¬3) سقط من أ. (¬4) أخرجه البخاري (5996) ومسلم (406).

فيه أمور: أحدها: أن النووي قد اختلف كلامه في الأكمل من أربعة أوجه، فإنه في "الروضة" قد تابع الرافعي على ما ذكره، ثم خالفه في "الأذكار" فقال في هذا الباب ما نصه: والأفضل أن يقول: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته [كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته] (¬1)، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. انتهى. لفظه بحروفه. فزاد "عبدك ورسولك" في الصلاة خاصة وزاد "الأزواج" "والذرية" في الصلاة وفي البركة معًا، وزاد: "النبي الأمي" في الصلاة والبركة. وقد ذكر في "التحقيق" و"الفتاوى" كما ذكر في كتاب "الأذكار" إلا أنه لم يأت بالنبي الأمي في المرة الثانية التي هي عقب: وبارك على محمد. والذي ذكره في "الروضة" قد نقله في "شرح المهذب" عن الشافعي والأصحاب فقال: قال الشافعي والأصحاب: والأفضل. كذا، وذكره إلى آخره إلا أنه أسقط "على" الداخلة على "آل إبراهيم" فى الصلاة والبركة وكذلك نقل في "المهذب" مع أنه قد ورد إثباتهما في سنن البيهقي وصححه ابن حبان والحاكم، وإن كان بلفظ آخر، ثم قال النووي في الشرح المذكور عقب ما نقلناه عنه: وينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة السابقة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. هذا كلامه. وليس هو مستوعبًا لما ثبت في الأحاديث ولا موافقًا لما ذكره في باقي كتبه، فإنه أسقط قوله: عبدك ورسولك، وقد ذكر الرافعي في "كتاب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الإيمان" نقلًا عن إبراهيم المروذي من غير اعتراض عليه أنه لو قال: لأصلين على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الصلاة عليه، فطريق البر أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما سهى [عنه] (¬1) الغافلون. ثم اعترض [عليه] (¬2) النووي فقال: الصواب والذي ينبغي [أن يجزم] (¬3) به أن الأفضل هو الذي يقال عقب التشهد. الأمر الثاني: لقائل أن يقول للشيخ محيي الدين: لم اخترت استحباب جمع ما ورد في الأحاديث بالنسبة إلى الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تختر ذلك بالنسبة إلى التشهد حتى يزيد [الزاكيات] (¬4) بعد "التحيات" فإن مالكًا رواها في "الموطأ" (¬5) بإسناد صحيح، ويزيد العبد في آخره فيقول: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" فإنها ثابتة في الصحيحين. وفي "الكفاية" في استحباب ذلك في التشهد وجهين؟ الأمر الثالث: أنه قد اشتهر زيادة "سيدنا" قبل محمد عند أكثر المصلين، وفي كون ذلك أفضل من تركها نظر. وفي حفظي قديمًا أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بناه على أن الأفضل سلوك [الأدب] (¬6) أم امتثال الأمر؟ فعلى الأول: يستحب دون الثاني لقوله -عليه الصلاة والسلام-: قولوا اللهم صل على محمد. الأمر الرابع: أن دعوى الرافعي أن كعب بن عجرة روى هذه الصيغة، ليس له ذكر في الكتب المطولة كسنن البيهقي وغيرها، وإن كان أصل الحديث في الصحيحين، وأقرب لفظ إليه ما رواه البيهقي (¬7) عن الشافعي عنه وهو: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: الجزم. (¬4) في أ، ب: "البركات". (¬5) حديث (204). (¬6) سقط من أ. (¬7) "السنن الكبرى" (2674).

إبراهيم إنك حميد مجيد. وهو مخالف من جهة إسقاط "على" مع آل محمد، وآل إبراهيم في الصلاة والبركة جميعًا، والحاصل منه إسقاطها أربع مرات. قوله: قال الصيدلاني: ومن الناس من يزيد: وارحم محمدًا كما رحمت على إبراهيم، وربما يقولون: ترحمت على إبراهيم، أي بالتاء. قال: وهذا لم يرد في الخبر، وهو غير فصيح، فإنه لا يقال: رحمت عليه، وإنما يقال: رحمته، وأما التراحم ففيه معنى التكلف، فلا يحسن إطلاقه في حق الله تعالى. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة قد أسقطها النووي من "الروضة". الثاني: أن قول الرافعي: أنه لا يقال: رحمت عليه، غير مستقيم، فقد نقل الطبري شارح "التنبيه" عن شيخه الصاغاني أنه يقال: رحمت عليه، وقال الغزالي: لا يجوز ترحم. أعني بالتاء وهو المراد من قول الرافعي: إنه لا يحسن وقال النووي: إنه بدعة. وبالغ ابن العربي في إنكاره، وخطأه فيه ابن أبي زيد المالكي. قوله: وأقل الصلاة على الآل أن يقول: وآله، ولفظ الكتاب يشعر بأنه يجب أن يقول: وعلى آل محمد، أي بإعادة "على" وبالظاهر عوضًا عن الضمير، والأول هو الذي ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره الغزالي قد وافقه عليه في "الكفاية" في على، فصح أن إعادتها واجبة وخالفه في الضمير، فصح أنه يكفي، وللنحاة خلاف مشهور في جواز إضافة "الآل" إلى الضمير، وقد حذف في "الروضة" مقالة الغزالي، فاعلمه.

قوله في "الروضة": ولا يجوز أن يخترع دعوة بالعجمية، ويدعو بها. انتهى. واعلم أن الذكر المخترع كحكم الدعاء في منع تأديته أيضًا بالعجمية كذا ذكره الرافعي، [وأهمله] (¬1) في "الروضة". قوله: وذكر الصيدلاني في طريقته أن المستحب للإمام أن يقتصر على التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخفف على من خلفه، فإن دعا جعل دعاءه دون قدر التشهد، ولا يطول. قال: وأما المنفرد فلا بأس له بالتطويل، هذا ما ذكره، والظاهر الذي نقله الجمهور أنه يستحب للإمام الدعاء كما يستحب لغيره، ثم الأحب أن يكون الدعاء أقل من التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه تبع لهما. فإن زاد لم يضر إلا أن يكون إمامًا فيكره له التطويل. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وحاصله أن المنفرد يستحب له أيضًا أن يكون ما يأتي به أنقص من التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خلاف المنقول في كتب المذهب فإن الذي فيها أنه يطيل ما أراد ما لم يوقعه ذلك في السهو، كذا جزم به خلائق لا يحصون منهم الماوردي، وابن الصباغ، والمتولي، والشيخ في "المهذب"، والإمام والغزالي في "البسيط" وغيره، ونص عليه الشافعي في "الأم" فقال: أحب لكل مصلٍ أن يزيد على التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الله -عز وجل- وتحميده، ودعاءه في الركعتين الأخيرتين، وأرى أن تكون زيادة ذلك إن كان إمامًا أقل من قدر التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه قليلًا للتخفيف عمن خلفه، وأرى أن يكون جلوسه إذا كان وحده أكثر من ذلك، ولا أكره ما أطال ما لم يخرجه ذلك إلى سهو أو يخاف به سهوًا. ¬

_ (¬1) في جـ: وأصله.

فإن لم يزد على التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كرهت ذلك. هذا نصه بحروفه، ومن "الأم" نقلته، وهو مشتمل على فوائد: منها: أنه يستحب للمنفرد الزيادة وهذا مع ما يقوله الرافعي في غاية التباين. وقد جزم بما ذكرناه أيضًا النووي في "شرح المهذب" فإنه ذكر النص المذكور، ولم يخالفه، وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية" ناقلًا له عن الأصحاب فقال: ولا شك في استحباب الدعاء في حق المنفرد، بل قال الأصحاب: له أن يطيل الدعاء ما شاء ما لم يخرجه ذلك إلى السهو. هذه عبارته. وذكر في "الروضة" مثل ما ذكره الرافعي إلا أنه أخر الوجه الأول وحصل بسبب تأخيره إبهام فتأمله، واجتنب الإبهام المذكور. وقد صرح في "المحرر" بمثل ما ذكره في الشرحين فقال: وينبغي أن لا يزيد قدر الدعاء على التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا لفظه، وتبعه عليه في "المنهاج" إلا أن بينهما تغاير من جهة أن تعبير الشرحين و"الروضة" يقتضي أنه لا يستحب ترك المساواة، بخلاف "المحرر" و"المنهاج"، وذلك كله مردود لما ذكرناه. قوله في "الروضة": وأما سائر الأذكار كالتشهد الأول والقنوت، وتكبيرات الانتقال والتسبيحات فأوجه: أحدها: يجوز للعاجز أن يأتي بترجمتها. والثاني: لا يجوز. والثالث: يترجم لما يجبر بالسجود دون غيره، [ثم] (¬1) قال من ¬

_ (¬1) سقط من ب.

"زياداته": الأصح الجواز للعاجز والمنع في [القادر] (¬1). . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التصحيح الذي ذكره من زياداته صرح الرافعى به وعبر بالأصح كما عبر هو به، ونقله عن الأصحاب قاطبة فحذفه ثم استدركه. الثاني: أنه [أهمل] (¬2) في اختصاره الترجمة للقادر، وقد ذكرها الرافعي أيضًا كما ذكرها في "زياداته" فحذفها أيضًا ثم زادها، وهو عجيب. واعلم أن الترجمة بغير العربية تأتي في مسائل: إحداها: الواجبات التي ليست بقرآن كتكبيرة الإحرام، والتشهد الأخير والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فيه] (¬3)، وعلى الآل إذا أوجبناها، فيترجمها العاجز لا القادر. الثانية: الفاتحة وغيرها من القرآن لا يجوز ترجمته لا لقادر، ولا لعاجز لما فيه من الإعجاز، وكذا الدعاء الذي ليس بمأثور فإن فعل بطلت صلاته. الثالثة: الأدعية المأثورة، الأصح: جواز ترجمتها للعاجز دون القادر. وقيل: يجوز مطلقًا. وقيل: لا مطلقًا، فإن منعنا فترجم بطلت صلاته. الرابعة: الأذان، أطلق الشيخ أبو حامد أنه لا يجوز، وقال الماوردي: إن أُذَّن لنفسه جاز للعاجز، وعليه أن يتعلم، ولم يجز للقادر وإن أُذَّن للجماعة لم يجز مطلقًا. قال النووى: وهذا محمول على ما إذا كان فيهم من يحسن العربية، فإن لم يكن صح. ¬

_ (¬1) في جـ: القائم. (¬2) في جـ: أحل. (¬3) زيادة من جـ.

الخامسة: الخطبة، الصحيح: منع الترجمة فيها عند القدرة. السادسة: كلمة الإسلام يجوز ترجمتها للعاجز، وكذا للقادر في الأصح. السابعة: السلام، يجوز ترجمته للقادر والعاجز في أصح الأوجه. الثامنة: لفظ التزويج والإنكاح، يجوز ترجمته للعاجز والقادر في الأصح. وقيل: يمتنع فيهما. وقيل: يجوز للعاجز دون القادر. التاسعة: البيع، وغيره من ألفاظ العقود والفسوخ يجوز ترجمته للعاجز والقادر. قوله: وأقله السلام عليكم، فلو قال: سلام عليكم فوجهان: أحدهما: أنه لا يجزئه، لأنه نقص الألف واللام، فأشبه ما لو قاله بغير تنوين. وأظهرهما: أنه يجزئه، ويقوم التنوين مقام الألف واللام كما في التشهد. انتهى. وهذه المسألة التي ذكرها في ضمن التعليل وهي أن غير المنون لا يجزئ قد أسقطها من "الروضة"، ولم يصرح بها أيضًا في "شرح المهذب" وحكى القاضي الحسين في "تعليقه" فيها خلافًا. وعلل الإجزاء بأن ترك التنوين لا يغير المعنى، واعلم أن الجوهري قد قال: إن السِلم بكسر السين وسكون اللام هو السلام. وأنشد: وقفنا فقلنا آية سلم فسلمت وحينئذ فيتجه الجواز لأنها ليست كلمة أخرى، وإذا جوزنا هذا

مع ما يؤخذ من إطلاق الرافعي في [المعلق] (¬1) تبين أنه لا فرق بين المعرف والمنكر حصل لك ثمان مسائل، لأن التقديم قد يكون للمعرف، إما مع اللغة المشهورة، وإما مع الأخرى. وقد يكون للمنكر مع اللغتين، وهذه الأربعة يأتي مثلها في التأخير. قوله: ولا يجب أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة في أصح الوجهين. فإن قلنا: يجب، لم يجب تعيين الصلاة في نية الخروج، فلو عين غير ما هو فيه عمدًا بطلت صلاته؛ وإن كان سهوًا سجد للسهو [وسلم] (¬2) ثانيا. انتهى. وما ذكره في حالة السهو بين السجود والسلام ثانيًا محله إذا لم يطل الفصل؛ فإن طال استأنف الصلاة، كذا رأيته في "عدة الطبري" و"شرح التلخيص" للقاضي الحسين، وهو ظاهر. ورأيت في شرحه أيضًا لأبي عبد الله الختن -بالخاء المعجمة- وهو ختن الإمام أبي بكر الإسماعيلي أي زوج ابنته: أن الساهي لا يحتاج إلى السجود، ولا إلى إعادة السلام قال: لأنه فرض أتى به في موضعه، وإنما سهى في نيته فلم يضر كما لو اعتقد أن الثانية ثالثة. قوله في المسألة: وإن قلنا: إن نية الخروج مستحبة فلا يضر الخطأ في التعيين. انتهى. ومراده بالخطأ تعيين خلاف ما هو عليه عمدًا كان أو سهوًا، فإن الأكثرين ممن تكلم على المسألة قد صرحوا بذلك، منهم القفال في "شرح التلخيص" والبغوي في "التهذيب"، وأبو عبد الله الطبري في "العدة" والعمراني في "البيان"، وهو المفهوم أيضًا من عبارة الرافعي لمن تأملها، [ولهذا] (¬3) عزاه ابن الرفعة إليه إلا أنه نقل عنه عدم البطلان إذا نوى غير ¬

_ (¬1) في جـ: المعكوس. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: وأنه.

ما عليه عمدًا، وقلنا بأن التعيين لا يجب بعبارة تقتضي ضعف ذلك من جهة النقل، وهو غريب منه. نعم ذكر في "البحر" كما ذكره القاضي الحسين فتبعهما المصنف عليه، ومعظم الكتب ساكتة عن المسألة "كالاستذكار" و"الحاوي" و"النهاية" و"الشامل" و"التتمة" وكتب الفوراني والغزالي وابن عصرون، وقد عبر الرافعي في "الشرح الصغير" بعبارة عجيبة لا تطابق ما قاله هنا، فقال: فإن أوجبنا نية الخروج، فلا يحتاج إلى تعيين الصلاة، فإن الخروج لا يكون إلا عما هو فيه، ولو عين غير ما فيه بطلت صلاته بخلاف ما إذا قلنا: إنها لا تجب، فإنه لا يضر الخطأ في التعيين. هذه عبارته. قوله: ثم المصلي إن كان إمامًا فيستحب له أن ينوي بالتسليمة الأولى السلام على من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن والإنس، وبالثانية على من [على] (¬1) يساره منهم. والمأموم ينوي مثل ذلك، ويختص بشئ آخر وهو أنه إن كان على يمين الإمام ينوي بالتسليمة الثانية الرد على الإمام وإن كان على يساره ينويه بالتسليمة الأولى، وإن كان في محاذاته ينويه بأيهما شاء وهو في التسليمة الأولى أحب. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن المأموم الكائن على يسار الإمام كيف ينوي الرد على الإمام بالأولى مع أن الرد إنما يكون بعد السلام عليه. وجوابه موقوف على مسألة وهو أن المأموم هل يستحب أن يتأخر بالتسليمة الأولى إلى فراغ الإمام من التسليمتين أم [لا] (¬2)؟ بل يستحب أن يسلم الأولى عقب الأولى، والثانية عقب الثانية كما ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

نقله غالب الناس، فيه وجهان، حكاهما في "شرح المهذب" من غير تصريح بتصحيح إلا أنه قال: ذهب البغوي إلى الأول، والمتولى إلى الثاني، وإنَّ ظاهر نصه في "البويطي" يدل للأول. نعم صرح بتصحيحه في "التحقيق"، وإذا علمت ذلك علمت أن كلام الرافعي ماشٍ على اختيار الوجه الأول، وهو المرجح. واعلم أن القاضي الحسين قد خالف الوجهين فإنه فصل فقال فيمن كان على يمين الإمام بمقالة البغوي، وفيمن كان على يساره بمقالة المتولي وخير المحاذي بين المقالتين، وذكر أيضًا -يعني القاضي- في "تعليقه" أن الأحب للمأموم الرد على إمامه بالأولى مطلقًا سواء كان على يمينه أو يساره أو محاذيًا له. الأمر الثاني: أن المحاذي المذكور في الرد لم يتقدم له ذكر بالكلية في السلام من الإمام فتأمله، وقياس ما ذكره في المأموم أن الإمام ينوي السلام عليه بما شاء منهما. قوله: وأما المنفرد فينوي بهما السلام على من على جانبيه من الملائكة. انتهى. واقتصاره على الملائكة قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو غريب، بل ينبغي أن ينوي المسلمين من الملائكة والجن والإنس أيضًا كما سبق مثله في الإمام والمأموم، وقد صرح بذلك في "شرح المهذب" فقال: من ملائكة وغيرهم. قوله من زياداته: السنة أن يكثر من ذكر الله تعالى عقب الصلاة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من استحباب الذكر، قد ذكره أيضًا في "شرح

المهذب" فقال: إنه يستحب لكل مصلٍ، لكنه ذكر بعد ذلك ما يشكل عليه فقال: قال الشافعي والأصحاب -رحمهم الله- يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم يكن خلفه نساء، هكذا قاله الشافعي في "المختصر"، واتفق عليه الأصحاب وعللوه بعلتين: إحداهما: لئلا يشك هو أو من خلفه، هل سلم أم لا؟ والثانية: لئلا يدخل غريب فيظنه بعد في الصلاة فيقتدي به، أما إذا كان خلفه نساء فيستحب أن يثبت بعد سلامه، ويثبت الرجال قدرًا يسيرًا يذكرون الله حتى ينصرف النساء. ويستحب للنساء أن ينصرفن عقب سلامه. هذا كلامه. فذكر أنه ينتقل من مكانه عقب السلام إذا لم يكن نسوة، وأنه لا يمكث للذكر إلا عند وجودهن، بخلاف ما دل عليه كلامه السابق من كونه يأتي بالذكر مطلقًا. وقد ذكر الماوردي كلامًا فيه جمع بين الأمرين فقال: إذا فرغ الإمام من صلاته فإن كان من صلى خلفه رجالًا لا امرأة فيهم، وثبت ساعة سلم ليعلم الناس فراغه من الصلاة ولئلا يسهو فيصلى، وإن كان معه رجال ونساء ثبت قليلًا لينصرف النساء، فإذا انصرفن وثب، ثم إذا وثب الإمام فإن كانت صلاة لا يتنفل بعدها [كالصبح والعصر استدبر القبلة ودعا، وإن كانت صلاة يتنفل بعدها] (¬1) كالظهر فيختار له أن يتنفل في منزله. هذا كلامه بحروفه. وذكر الروياني في "البحر" أن الإمام يدعو قائمًا، وذكر مثله الجيلي في "شرح التنبيه"، وبهذا ينتظم الكلام. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

ثم إذا أراد الإمام أن يتنفل في المحراب فينفتل عن يمينه، وفي كيفية استقباله لهم وجهان في "شرح المهذب" حكاهما الجيلي فيما سبق نقله عنه، وهو الدعاء قائمًا، وعبر في "التحقيق" بالجلوس فقال: أصحهما: أنه يجلس على يسار المحراب بأن يدخل يساره فيه، ويمينه إلى الناس ثبت ذلك في مسلم (¬1)، وقيل: على يمينه بأن يجعل يمينه فيه ويساره إلى الناس، وقال الإمام: لم يصح فيه شئ ولا أرى فيه إلا التخيير. الأمر الثاني: أن الشافعي قيد استحباب الإكثار بالمنفرد والمأموم فقال: وأستحب للمصلي منفردًا والمأموم أن يطيل الذكر بعد الصلاة، ويكثر الدعاء رجاء الإجابة بعد المكتوبة، هذا لفظ الشافعي، وقد نقله عنه في "شرح المهذب" ولم يخالفه، وهو يخالف إطلاق "الروضة". نعم لقائل أن يقول: يستحب أن يختصر فيهما بحضرة المأمومين، فإذا انصرفوا طول، وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى. قوله في "الزيادات" أيضًا: ويسن الدعاء بعد السلام سرًا إلا أن يكون إمامًا يريد تعليم الحاضرين. انتهى. وما ذكره الصنف من تقييد الدعاء بالسر دون الذكر يقتضي أنه يجهر به -أعني بالذكر- كما هو المعتاد، وليس كذلك فقد نص الشافعي والأصحاب على أن حكم الذكر في ذلك حكم الدعاء، وقد نبه عليه في "شرح المهذب". قوله فيها أيضًا: قال أصحابنا: يستحب إذا أراد أن يتنفل عقب الفريضة أن ينتقل إلى بيته فإن لم يكن فإلى موضع آخر. انتهى. واعلم أن علة الانتقال كما قاله الأصحاب شهادة المواضع له بالعبادة. وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} (¬2) أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (708) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) سورة الدخان (29).

المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء، وهذا المعنى يقتضي أنه لا فرق بين النافلة المتقدمة والمتأخرة، ولا بين النافلة مع الفريضة أو مع نافلة أخرى، فمن تهجد أو صلى سنة الظهر مثلًا أربعًا بتسليمتين حتى ينتقل مرتين في هذا المثال إلا أن المتجه في النافلة المتقدمة ما أشعر به كلامهم من عدم الانتقال لأن المصلي مأمور بالمبادرة، والصف الأول، وفي الانتقال بعد استقرار الصفوف مشقة خصوصًا إذا كثر المصلون كما في الجمعة. قوله من "الزوائد" أيضًا: ويستحب إذا كان يصلي وراءه نساء أن يمكث في مصلاه حتى ينصرفن. انتهى. سكت هو وغيره عن الخناثى، والقياس استحباب انصرافهم فرادى، إما قبل النساء أو بعدهم، وتأخر الرجال عن جميعهم. قوله أيضًا: وإذا أراد الانصراف، فإن كانت له حاجة عن يمينه أو عن يساره انصرف إلى جهة حاجته، وإن لم يكن له حاجة فجهة اليمين أفضل. انتهى. واعلم أن المصنف قد ذكر في كتابه المسمى "برياض الصالحين" أنه يستحب في الحج، والصلاة، وعيادة المرضى وسائر العبادات أن يذهب في طريق ويرجع في أخرى، وإطلاق هذا مع إطلاق ما نقلناه عن الروضة متنافيان. قوله فيها: وإذا سلم الإمام التسليمة الأولى فقد انقطعت متابعة المأموم، وهو بالخيار إن شاء سلم في الحال، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ والدعاء، وأطال ذلك. انتهى كلامه. وما ذكره من جواز الاستدامة محله في غير المسبوق، أما المسبوق فينظر

إن [كان] (¬1) موضع جلوسه أى تشهده الأول فله ذلك إلا أن تطويل التشهد الأول مكروه وإن كان في غيره وجب القيام على الفور، فإن جلس متعمدًا بطلت صلاته، أو ساهيًا سجد للسهو، كما هو معروف في صلاة الجماعة. قوله: خاتمة: إذا فاتت الفريضة وجب قضاؤها. . . . إلى آخره. هذه المسألة فيها كلام مهم يتعين الوقوف عليه، وقد ذكرته في كتاب الحج في الكلام على الجماع، فإن المسألة محلها هناك، وفي "شرح التنبيه" للطبري: أنه لو كان عليه فوائت فهل يبدأ بالصبح لأنها الأولى أو بالظهر تأسيًا بجبريل؟ على وجهين. قوله من "زياداته": صلاة الصبح، وإن كانت نهارية فهي في القضاء جهرية، ولوقتها حكم الليل في الجهر. انتهى كلامه. واعلم أن هذا الكلام قد فهمه أكثر الناس على غير ما هو عليه، واشتهر ذلك في خاصتهم وعامتهم قاصيهم ودانيهم، وعمل به فقهاؤهم، وقد وفق الله الكريم إلى الحق فيه، وإلى تقريره على المراد منه تقريرًا ظاهرًا، وذلك أنهم توهموا أن الصبح يقضى بالنهار جهرًا لتوهمهم أن المراد من قول النووي: فهي في القضاء جهرية، والحق أنها تقضى فيه سرًا على الصحيح كما هو القياس وكلام "الروضة" يدل على ذلك أيضًا، وتقرير ما في "الروضة" أن الصبح، وإن كانت من صلوات النهار، فحكمها حكم الصلوات الجهرية، إذا قضيت حتى يجهر فيها بلا خلاف إن قضاها ليلًا، ويكون مستثنى من قولهم: من قضى فائتة النهار بالليل فهل يجهر؟ فيه وجهان، إذ النهار عندنا أوله طلوع الفجر كاليوم، وحتى يسر على ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الصحيح إن قضاها بعد طلوع الشمس، ويكون ذلك أيضًا مستثنى من قولهم: أن من قضى فائتة النهار بالنهار يسر بلا خلاف. فقول النووي: فهي في القضاء جهرية، أى فهي صلاة جهرية قد قضيت لا سرية، وإذا حكم بأنه قضاء صلاة جهرية فلا يلزم منه الجهر بها، ألا ترى أنه إذا قضى العشاء نهارًا فقد قضى صلاة جهرية، ومع ذلك لا يجهر. وأما قول النووي: ولوقتها حكم الليل في الجهر فهي أيضًا مسألة حسنة نبه عليها. ومعناه أن هذه القطعة من النهار حكمها حكم الليل في الجهر حتى يجهر بلا خلاف إذا قضى فيها المغرب أو العشاء، ويكون مستثنى من قولهم: إن من قضى فائتة الليل بالنهار يسر على الصحيح، وحتى يجهر أيضًا بلا خلاف إذا قضى فيها الصبح ويكون مستثنى من قولهم: إن فائتة النهار تقضى بالنهار سرًا بلا خلاف، وحتى يجهر على الصحيح إذا قضى فيها الظهر أو العصر، ويكون مستثنى من قولهم أيضًا: [إن من قضى] (¬1) فائتة النهار بالنهار يسر بلا خلاف. وحاصله أن من طلوع الشمس إلى غروبها محل إسرار، وما عدا ذلك فهو محل جهر، وإن كان فيه قطعة من النهار، وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذا حاصل كلام "الروضة" فاعلمه، وقد ذكر ذلك أيضًا في "شرح المهذب" بعبارة لا لبس فيها فقال ما نصه: قلت: كذا أطلق الأصحاب لكن صلاة الصبح، وإن كانت نهارية، فلها في القضاء [في الجهر] (¬2) حكم الليلية ولوقتها فيه حكم الليل، وهذا مراد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

الأصحاب. انتهى لفظه بحروفه. فانظر كيف شرح كلام "الروضة" بما قد قررته وأبدل اللفظة الموهمة بلفظة [توضح] (¬1) المراد فتأمله. وصرح بها أيضًا في "شرح مسلم" تصريحًا أبلغ من هذا فقال في باب قضاء الفائتة في الكلام علي حديث الوادي الذي نام فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الصبح إذا قضيت نهارًا تقضى سرًا على الصحيح، وليس بعد هذا النص وقفة، ولو لم يكن في هذا الكتاب سوى هذه المسألة لكان فيها كفاية. قوله: وإذا اجتمعت حاضرة وفائتة فيستحب البداءة بالفائتة إن لم يضق وقت الحاضرة فإن ضاق وقتها بدأ بها. انتهى. والتعبير بالضيق وعدمه ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وفي "الروضة" وعبر في "المحرر" بالفوات وعدمه، وتبعه عليه في "المنهاج" و"التحقيق"، وكذلك عبر به الشيخ في "التنبيه" وأقره عليه في تصحيحه. ومقتضى التعبير بالفوات أنه إذا أمكنه فعل الفائتة، وإدراك ركعة من الحاضرة أنه يجوز له فعل ذلك، لأن الحاضرة لم تفت، بل وقعت أداء، لكنهما صححا في الباب الأول من كتاب الصلاة أن إخراج بعض الصلاة عن الوقت لا يجوز، وإن جعلناها أداء فالجواز هنا إنما يستقيم على الوجه المرجوح عندهما هناك، لأن المحافظة على الترتيب سنة، فلا تكون مسوغة لإخراج البعض عن الوقت فضلًا عن استحبابه إلا على تقدير القول بجواز الإخراج، وبتقدير التزام اغتفاره لكونه سنة، وهو المجزوم به في "الكفاية" لابن الرفعة، ففي تعدي ذلك إلى الرواتب نظر، وتعبير الكتاب محتمل لما ذكره في "المحرر" ولغيره، وهذه المسألة قد تقدم الوعد بذكرها في الباب ¬

_ (¬1) في ب: توهم.

الأول من أبواب الصلاة. قوله من "زياداته": ولو تذكر فائتة، وهناك جماعة يصلون الحاضرة والوقت متسع فالأولى أن يصلي الفائتة أولًا منفردًا، لأن الترتيب مختلف في وجوبه، والقضاء خلف الأداء مختلف في جوازه، فاستحب الخروج من الخلاف. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله مردود نقلًا وبحثًا. أما الأول فلأن النقول متظافرة على استحباب صلاة الحاضرة مع الإمام، كذا صرح به الغزالي في كتاب "الإحياء" في الباب السادس في "أسرار الصلاة"، والبغوي في "فتاويه"، وصاحب "التعجيز" فيه، وفي "مختصر التنبيه" المسمى بالتنبيه، وحكاه في "الشرح الصغير" عن جده، واقتصر عليه، ونقله المحب الطبري شارح "التنبيه" عن صاحب النكت يعني ابن أبي الصيف، وعن غيره ولم ينقل غيره. ونقل الروياني عن والده أنه قال: يحتمل أن يقال: يصلي العصر في جماعة ثم الظهر، ثم يستحب إعادة العصر. انتهى. واقتصر عليه. وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى تفويت صلاة الجماعة بالكلية لاسيما إذا كانت الفائتة رباعية، والحاضرة ثنائية، والجماعة قد ورد عليها من الطلب والثواب ما لم يرد في الترتيب ولا في اتفاق صلاة الإمام والمأموم. وأيضًا فالأمور الثلاثة مشتركة في الاختلاف فيها عند العلماء، وامتازت الجماعة بالاختلاف فيها عندنا، والنووي -رحمه الله- لم ينقل هنا هذه المسألة عن أحد إلا أنه نقل في صلاة الجماعة ما يوهمه، وسنقف عليه هناك.

قوله من "زياداته": أما إذا علم فرضية الصلاة، ولم يعلم أركانها فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعتقد جميع أفعالها سنة. والثاني: أن يعتقد بعضها فرضًا وبعضها سنة، ولا يعرف تمييزها، فلا تصح صلاته قطعًا، صرح به القاضي حسين، وصاحب "التتمة"، و"التهذيب". والثالث: أن يعتقد جميع أفعالها فرضًا فوجهان حكاهما القاضي الحسين، وصاحب "التهذيب". أحدهما: لا تصح صلاته لأنه ترك معرفة ذلك وهي واجبة. وأصحهما: تصح، وبه قطع صاحب "التتمة" لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر. قال في "التهذيب": فإن لم يصحح صلاته ففي صحة وضوئه في هذه الصورة وجهان، هكذا ذكر هؤلاء هذه المسائل، ولم يفرقوا بين العامي وغيره. وقال الغزالي في "الفتاوي": العامّي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها تصح صلاته بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض، فإذا غفل عن التفصيل فنية الجملة في الابتداء كافية. والذي قاله الغزالي هو الظاهر. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ادعاه من القطع بالبطلان في القسم الثاني، وأسنده أيضًا إلى الثلاثة المذكورين ليس بصحيح، فقد ذكر فيه القاضي الحسين في "تعليقه" وجهًا أنه يصح، وعلله باشتباهه على أكثر الناس، ونقله عنه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية"، ورأيته مجزومًا به في "فتاوى القفال"،

وعلله بأن معرفتها غامضة وزاد على ذلك مسألة حسنة فقال: إذا علم أن الفاتحة مثلًا أو الركوع فرض فقال: أنا أفعله أولًا تطوعًا ثم أفعله مرة ثانية فرضًا، ففعله أولًا بنية التطوع وقع عن الفرض، ثم إن ما ذكره النووي مخالف لمقالة الغزالي التي ارتضاها. والحاصل أن القطع بالبطلان إن ذكر على أنه حكاية عن هؤلاء لم تصح لما ذكرناه من كون القاضي حاكيًا للخلاف، والآخران جازمان لا مصرحان بعدم الخلاف، وإلا فمناقض مناقضة عجيبة، وباطل أيضًا لوجود الخلاف. الأمر الثاني: أن الأصح من الوجهين في الوضوء هو البطلان أيضًا، كذا صححه النووي في "التحقيق" ولم يصحح شيئًا في "شرح المهذب". الأمر الثالث: أن تقيده بالعامي يقتضي أن العالم إذا لم يميز بقصده الفرض من السنة تبطل صلاته وهو المذكور في "فتاوي الإمام"، وفيه نظر. والظاهر الصحة في العالم أيضًا، فإن تكليفه استحضار العلم بحال كل فعل، وبقصده أيضًا حرج شديد، فلا يعتبر في حق الجميع إلا أن ينوي بالفرض التنفل. الأمر الرابع: أن حاصل كلامه هنا الجزم بالبطلان عند اعتقاد السنة فيما هو فرض، وهو مشكل على ما سيأتي في الاقتداء بالحنفي وغيره من المخالفين، فإن الأصح صحته، وإن اعتقد أن الفاتحة والطمأنينة وغيرهما من المفروضات سنة.

شرائط الصلاة

الباب الخامس في شرائط الصلاة وهي ستة: الشرط الأول: الطهارة عن الحدث قوله: وإن أحدث بغير اختياره كما لو سبقه الحدث فلا خلاف في بطلان طهارته، وتبطل صلاته أيضًا على الجديد، لما روى عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ، وليعد الصلاة" (¬1) انتهى. واعلم أن عبارة الرافعي يدخل فيها المكره على الحدث، وقد صرح في "البيان" بذلك فقال: إنه على القولين، لكن ذكر ابن أبي هريرة في "تعليقه" أنه لو عصر بطنه حتى خرج منه حدث بغير اختياره لم تبطل صلاته، ويحتمل أن يقال: إن لم يحصل منه فعل بالكلية كما لو ألقى على امرأة أو ألقيت عليه فهو كالسبق، وإن حصل منه فعل نقض قطعًا كالساهي، وهذه المسألة لا يخرج حكمها من "الروضة" فإنه عبر بقوله: بأن سبقه -أعني بباء الجر- الداخلة على أن لأن التقدير يسبقه وذلك قيد لا يعتبر. وفسما بفاء مفتوحة، وسين مهملة بعدها ألف، أي: أخرج الريح يقول منه: فسًا فسوًا، والاسم: الفساء بالمد. والحديث المذكور ضعيف. قوله: والقديم أنه يتوضأ ويبني على صلاته لما روى أنه -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (205 - 1005) والترمذي (1164) و (1166) وأحمد (655) وابن حبان (2237) والدارمي (1141) والدارقطني (1/ 153) وعبد الرزاق (20950) من حديث علي ابن طلق. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الألباني: ضعيف، وهو الذي رجحه المصنف.

والسلام- قال: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم" (¬1). فعلى هذا قال الصيدلاني: لابد أن يعود إلى الركن الذي سبقه الحدث فيه، فإنه قال: لو سبقه الحدث في الركوع فيعود إلى الركوع، ولا يجزئه غيره. وقال الإمام: إن سبقه الحدث قبل أن يطمئن عاد، وإن كان بعده فالظاهر أنه لا يعود لأن ركوعه قد تم. وهذا التفصيل أورده في "الوسيط" ويجوز أن يجري كلام الصيدلاني على إطلاقه، فإن الانتقال من الركن إلى الركن واجب. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن القول بالبناء قد حكاه جماعة منهم ابن الرفعة في "الكفاية" عن "الإملاء"، وهو من الكتب الجديدة. الثاني: لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، والصحيح ما قاله الصيدلاني، كذا صححه النووي في "شرح المهذب"، وفي "شرح الوسيط" المسمى بالتنقيح وعبر فيهما بالأصح، ولم يتعرض لهذه المسألة في "التحقيق"، وفيها كلام آخر تقدم في صفة الصلاة في أواخر الكلام على القيام. والحديث روى أصله ابن ماجة وغيره، وضعفه البيهقي (¬2) قال: والمحفوظ أنه مرسل، ورواياتهم مختلفة وفي بعضها: "من قاء أو قلس"، وهو بقاف وسين مهملة، ومعناه القئ أيضًا، وقيل: القئ الذي لا يملأ الفم. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1221) والدارقطني (1/ 153) والبيهقي في "الكبرى" (652) وابن عدي في "الكامل" (1/ 297) و (5/ 289) وابن الجوزي في "التحقيق" (195) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وقال الشيخ الألباني: ضعيف. (¬2) السنن الكبرى (1/ 142).

ويقال: رعف بفتح العين يرعف بالفتح والضم ويقال: رعف بالضم أيضًا في لغة، ضعيفة قاله الجوهري. قوله: وإذا أراد أن يتوضأ ويبني فيجب عليه أن يسعى في تقريب الزمان وتقليل الأقوال والأفعال بحسب الإمكان، فليس له أن يعود إلى الموضع الذي كان يصلي فيه إن قدر على أقرب منه إلا إذا كان إمامًا لم يستخلف أو مأمومًا يبغي فضيلة الجماعة فهما معذوران في العودة، ذكره في "التتمة"، انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من تقييد الإمام بكونه لم يستخلف قد تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما ولم ينقله عن "التتمة" كما نقله الرافعي بل أطلق الفعل، ومقتضاه أنه إذا استخلف لا يجوز له العود، وهو غير مستقيم، فإن له أيضًا غرضًا في الجماعة وأى فرق بينه وبين المأموم؟ وصاحب "التتمة" لم يذكر هذا القيد هنا بالكلية بل أطلق جواز الرجوع. نعم أشار إليه في الكلام على الاستخلاف وقد ذكر القاضي حسين في تعليقه عكس ذلك كله فقال: عندنا على قول البناء لو لم يستخلف جاز، ولا يجوز له أن يعود إلى مكانه فضلًا من أن يجب عليه. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن مقتضى كلامه امتناع العود في حق المنفرد مع أن الصواب إلحاقه بالمأموم حتى يجوز عند قصد الجماعة بل هو أولى بالجواز، وقد صرح بذلك صاحب "التتمة" هنا أيضًا. وذكر نحوه في "التحقيق" فقال: وليس له الرجوع إلى مكانه إلا لإدراك الجماعة. هذه عبارته وهي عامة. الأمر الثالث: أن احتمال المشي لإدراك الجماعة ينبغي أن لا يفترق الحال فيه بين أن يكون إلى الموضع الذي كان فيه أو إلى غيره، وإن كان أبعد منه

نظرًا إلى المعنى، وأن لا يجوز العود في عرض الجماعة إلى مكانه إذا أمكنه الوقوف فيما هو أقرب منه. الأمر الرابع: أن كلامه يقتضي أنه يجوز للمأموم أن يصلي حيث شاء، وليس كذلك فإن القدوة باقية مادام الإمام في الصلاة، وفي عدم عوده بطلان الصلاة لمخالفته لإمامه، وهو حرام. وقد جزم المتولي بذلك فقال: يجب عليه أن يعود أو يخرج نفسه من الاقتداء. قوله: فلو أخرج بقية الحدث عمدًا، فقد نقل العراقيون وغيرهم عن النص أنه لا يضر، لأن طهارته قد بطلت. وفي "البيان" عن بعضهم أن العلة فيه احتياجه إلى إخراج البقية. فعلى الأول: يجوز أن يحدث حدثًا آخر مستأنفًا، وعلى الثاني: لا يجوز. وخالف الإمام والغزالي فمنعا إخراج بقية الأول. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أنه قد تلخص من كلام الرافعي أن الأكثرين في الحدث المستأنف أنه لا يضر، وحكى في "الروضة" الخلاف فيه بدون ترجيح بالكلية ولم يحك أيضًا الاختلاف في التعليل الذي ينبني عليه الخلاف المذكور، وهو عجيب. الأمر الثاني: أن النووي قد اختلف كلامه في بطلان الصلاة به فقال في "التحقيق": الأصح أنها تبطل، وذكر عكسه في "شرح المهذب" فقال ما نصه: وإذا أخرج بقية الحدث الأول لم يضر على الصحيح. والأصح أن علته بطلان الطهارة، وقيل: لأنه محتاج إلى إخراجه لئلا يسبقه مرة أخرى.

الشرط الثاني: طهارة النجس

فإن أحدث حدثًا آخر فإن قلنا بالأول لم يضر، وإلا فلا. انتهى لفظه بحروفه. وذكر مثله في "شرح الوسيط" المسمى بالتنقيح. [الشرط الثاني: طهارة النجس] (¬1). قوله: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" (¬2) انتهى. وما ذكره الرافعي من أن أسماء هي المقول لها قد اعترضوا عليه فيه، وعلى من ذكر كما ذكر فقالوا: إنها راوية الحديث لا صاحبة الواقعة، ففي الصحيحين عن أسماء أن امرأة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء"، وفي رواية: "فلتقرصه ثم لتنضحه بماء". قال في "شرح المهذب": وليس في الصحيح أن أسماء هي السائلة، ولا في كتب الحديث المعتمدة لكن رواه الشافعي في "الأم" كذلك في رواية ضعيفة بعد أن رواه عن أسماء أن امرأة سألت. والحت: بالتاء المثناة كما قاله الجوهري هو الحك. والقرص: بالصاد المهملة هو التقطيع والقلع بالظفر. قوله: ويلزمه قطع موضع النجاسة إذا تعذر الغسل وأمكن ستر العورة بالطاهر منه ولم ينقص من قيمته أكثر من أجرة مثل الثوب لو استأجره. انتهى. وما ذكره من اعتبار النقصان بمقدار الأجرة، ذكره المتولي في "التتمة" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري (225) ومسلم (291) وأبو داود (360) والترمذي (138) والنسائي (293) والدارمي (1016) وابن خزيمة (275) وابن حبان (1396) والشافعي (6) والطبراني في "الكبير" (24/ 109) حديث (287) والبيهقي في "الكبرى" (37) وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (2219) والحميدي في "مسنده" (320) وابن الجارود في "المنتقى" (120).

فتابعه عليه الرافعي ثم النووي، والصواب اعتبار أكبر الأمرين من ذلك من ثمن الماء لو اشتراه مع أجرة غسله عند الحاجة، فإن كلًا منهما لو انفرد لكان يجب عليه تحصيله. وأنكر الشاشي كلام المتولي وقال: الوجه أن يعتبر ثمن الثوب لا أجرته، لأنه يلزمه شراؤه بثمن المثل، والذي قاله ضعيف. لأنا إنما أوجبنا الشراء لبقاء العين، وفي الأجرة خروج المالية كما في القطع. قوله: ولو غسل أحد نصفيه ثم غسل النصف الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يطهر حتى يغسل الكل دفعة. وأظهرهما: أنه إن غسل مع النصف الباقي القدر الذي تجاوز من الأول طهر الكل، وإن لم يغسل إلا النصف في الدفعة الثانية طهر الطرفان فقط. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي في هذه المسألة قد ذكر مثله في "المحرر"، وتابعه عليه النووي في "الروضة " و"المنهاج" و"شرح المهذب" هنا ثم صحح خلافه في "شرح المهذب" أيضًا من أواخر باب إزالة النجاسة فقال: الصحيح الخلاف كان ذلك في جفنة بأن وضع نصفه ثم صب عليه ما يغمره فلا يطهر لأن هذا الماء يلاقي جزءًا ما لم يغسله، وذلك الجزء نجس، وهو وارد على ما دون القلتين فينجسه، وإذا نجس الماء نجس الثوب، وإن غسل نصفه في غير جفنة ولكن يصب الماء عليه طهر. قوله: ولو نجس واحد من موضعين منحصرين أو مواضع، وأشكل عليه كما لو نجس أحد الكمين فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما فغسله، وصلى فيه، فوجهان: أصحهما عن المعظم: أنها لا تصح، لأن الثوب واحد فقد تيقن نجاسته،

ولم يتقين الطهارة فلو فصل أحدهما جاز الاجتهاد، ويجري الوجهان في اليدين والأصابع، وكذلك فيما لو اجتهد في ثوبين وغسل النجس عنده، وصلى فيهما معًا لأنه استيقن النجاسة في المجموع ولم يستقين الطهارة، لكن الأظهر هاهنا الجواز لأنهما سيان ولو غسل أحد الكمين بالاجتهاد وفصله عن الباقي فجواز الصلاة فيما لم يغسله واردة على الخلاف. انتهى. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: "على الخلاف" يجوز أن يريد به الخلاف المحكي في أصل المسألة حتى يكون الصحيح فيه أيضًا المنع، وهو الذي فهمه النووي في "شرح المهذب" فتأمله، ويجوز أن يريد به الخلاف الأخير المذكور قبل هذه المسألة، وهو أظهر في المعنى خصوصًا إذا كان مستحضرًا لطرق الاجتهاد فإنه لا سبيل معه إلى المنع، وقد ذكر في "شرح المهذب" صورة أخرى، وهي ما إذا كان الغسل بغير اجتهاد وحكى فيها وجهين عن "التتمة"، وصحح المنع. وهو في هذه الصورة متجه، ويجوز أن تكون هى [التي] (¬1) أرادها الرافعي، ويكون صنعه "بلا" اجتهاد أعني بلا النافية، ولكن تحرفت. قوله: وإذا غسل أحد الثوبين بالاجتهاد فتجوز الصلاة في كل واحد منهما وحده بلا خلاف. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، وليس كذلك، ففي المسألة وجه أنه لا يجوز في الذي لم يغسله، كذا حكاه القاضي الحسين في "تعليقه"، وقال: فيه الوجهان في صلاته بالاجتهاد مع إمكان صلاته في ثوب طاهر بيقين، وحكاه أيضًا في "التتمة" ونقله في "شرح المهذب" عنه، بل حكى المرعشي في "التقاسيم" قولًا أنه لا يجتهد في الثياب بالكلية إلا في السفر بخلاف الأواني. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ما لبسه المصلي يجب أن يكون طاهرًا سواء كان يتحرك بحركته في قيامه وقعوده أو لا كذنابة العمامة. انتهى. الذنابة بذال معجمة مضمومة، بعدها نون وبعد الألف باء موحدة هو ذنب الوادي وغيره، كذا قاله في "ديوان الأدب" في باب فعال بضم الفاء، ولم يذكره في باب فعال بكسرها. ثم قال: إنها أعني بالكسر ما بين القلعتين أي المكانيين المرتفعين من مسايل الماء. وقال الجوهري في "الصحاح": الذنب واحد الأذناب، ثم قال: والذناب بكسر الذال عقب كل شئ، وذنابة الوادي أيضًا: الموضع الذي ينتهي إليه. هذا كلامه. وسياقه يقتضي أن الذنابة أيضًا بالكسر. وقد ضبطه هو أيضًا بذلك. وقد عبر النووي في "الروضة" عن هذه اللفظة بقوله: كذؤابة العمامة، أعني بالهمزة بعد الذال ولا شك أن الذأبة قد تطلق على الطرف المرخي من العمامة، ولكنه مجاز، فإن الذأبة اسم للشعر، والجمع: ذوائب، كذا قاله الجوهري وغيره. والظاهر أن النووي إنما عدل عن "الذنابة" إلي "الذؤابة" لتوهمه أنه تحريف. وعبر في "الروضة" قبيل صلاة العيد بالعذبة وهو أيضًا مجاز، فإن العذبة تقال على غصن الشجرة، وتقال أيضًا على أحد السيرين الرفيعين اللذين في طرفي السوط. قوله: ولو قبض طرف حبل أو ثوب بيده أو شده في وسطه طرفه الآخر نجس أو ملقى على نجاسة فوجهان:

أحدهما: تبطل صلاته كما في العمامة، وكلام الأكثرين يدل على أنه أرجح. والثاني: لا، لأنه ليس محمولًا، وخصص الإمام والغزالي هذين الوجهين بما إذا لم يتحرك الطرف الملقى على النجاسة، وجزما بالمنع عند تحركه. ولم أر ذلك إلا لهما، ولمن تابعهما، وعامة الأصحاب أرسلوا الكلام إرسالًا، وجعل صاحب "التهذيب" صورة الشد أولى بالمنع من القبض. انتهى موضع الحاجة ملخصًا. وفيه أمران: أحدهما: أن الرافعي أيضًا في "المحرر" قد صحح البطلان فقال: إنه أظهر الوجهين، لكن خالفه في "الشرح الصغير" فقال: أوجه الوجهين أنها لا تبطل، ولم يذكر ترجيحًا غيره. الأمر الثاني: أن هذا الإرسال الذي حكاه الرافعي عن الأكثرين لا يلزم منه أن يكون ذهابًا منهم إلى تعميم الخلاف، بل حاصله إطلاق يحتمل أن يكون المراد به التعميم، وأن يكون المراد به التقييد، كما ذهب إليه الإمام والغزالي ولم يبين الرافعي هنا ذلك، وقد بينه في "الشرح الصغير" و"المحرر" فإنه جزم فيهما بالتقييد، ولم يحك الخلاف إلا مع عدم الحركة. وقد اختصر النووي في "الروضة" هذا الكلام على غير وجهه، فإنه عبر عن قول الرافعي: "والوجهان أرسلهما الأكثرون" بقوله: الأكثرون قالوا: إنه لا فرق بين أن يتحرك بحركته أم لا، وهو غلط لما تقدم، ثم إنه يوهم الواقف عليه أن الرافعي ناقض كلامه مع أنه ليس كذلك فاعلمه. قوله: وإن كان طرف الحبل ملقى على ساجور كلب أو مشدودًا فيه فوجهان مرتبان على الصورة السابقة، وأولى بالصحة، لأن بين الكلب وطرف الحبل واسطة، وهي الساجور فيكون أبعد عن النجاسة، ولو كان

طرف الحبل على موضع طاهر من حمار، وعليه نجاسة في موضع آخر فعلى الخلاف في الساجور، وأولى بالصحة منه، لأن الساجور قد يعد من توابع الحبل، وأجزائه بخلاف الحمار، وإذا تركت الترتيب، وقلت: أخذ بطرف حبل طرفه الآخر نجس، أو متصل بنجاسة، حصل في الجواب ثلاثة أوجه: أحدها: يصح. والثاني: لا. والثالث: إن كان الطرف الآخر نجسًا أو متصلًا بعين النجاسة كما لو كان في عنق كلب فلا يصح، وإن كان متصلًا بشئ طاهر، وذلك الطاهر متصل بنجاسة كما لو كان مشدودًا إلى ساجور أو خرقة، وهما في عنق [حمار] (¬1)، وعليه حبل نجس فلا بأس. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من حصول ثلاثة أوجه فقط تبعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك، بل الحاصل أربعة لأنه ذكر ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون طرف المأخوذ نجسًا أو متصلًا بنجاسة. الثانية: أن يكون طرفه على ساجور كلب أو مشدودًا بساجور. الثالثة: أن يكون طرفه على موضع طاهر من حمار وعلى ذلك الحمار نجاسة في موضع آخر، وجعل الثانية أولى بالصحة من الأولى، والثالثة أولى بذلك من الثانية، فتحصل أربعة أوجه: أحدها: يصح في الثلاث. والثاني: يبطل فيها. والثالث: يبطل في الأولى والثانية ويصح في الثالثة. والرابع: يبطل في الأولى فقط، ويصح في الثانية والثالثة. ¬

_ (¬1) في ب: الكلب.

واعلم أنك إذا لمحت ما نقله الرافعي عن "التهذيب" في الشد كثرت الأوجه، لأن تلك الأربعة المتقدمة تجري في الأخذ والشد، ويأتي خامس وهو أنه لا يصح مع الشد، ويصح مع الأخذ في الثلاث. ووجه سادس: وهو أنه لا يصح مع الشد ويصح مع الأخذ في المسألة الثانية فقط. وسابع: أنه لا يصح مع الشد، ويصح مع الأخذ في الثانية والثالثة فقط، ويأتي على ما فهمه النووي من أن الخلاف عند الأكثرين يجري فيما تحرك، وما لم يتحرك وجوه أخرى فيقال: الثامن: إن تحرك بحركته لم يصح، وإلا فيصح في الثلاث. والتاسع: إن تحرك بحركته لم يصح، وإلا فيصح في الثالثة فقط. والعاشر: إن تحرك بحركته لم يصح، وإلا فيصح في الثالثة والثانية فقط. الأمر الثاني: أن النووي قد صحح في "أصل الروضة" البطلان في مسألتي الساجور والحمار، وهو صحيح مأخوذ من كلام الرافعي، فإنه قال عقب ذلك: وأطلق -يعني الغزالي- الكلام في الكلب، وهكذا نقل الشيخ أبو محمد والصيدلاني وابن الصباغ. وفصل الأكثرون فقالوا: إن كان الكلب صغيرًا أو ميتًا، وطرف الحبل مشدود عليه بطلت صلاته بلا خلاف، لأنه حامل للنجاسة، ويعنون به أنه لو مشى يجره. وإن كان الكلب كبيرًا حيًا، فأصح الوجهين أنها تبطل أيضًا لأنه حامل لشئ متصل بالنجاسة. والثاني: لا، لأنه يمشي باختياره فله قوة الامتناع، هذا كلامه. وهذا الكلام الذي نقله الرافعي، عن الأكثرين يقتضي الصحة في

مسألتي الساجور والحمار كما تقدم ذكره، وذلك لأن الرافعي قد تكلم فيما صوره الغزالي، والغزالي إنما فرضها في الحبل المشدود بالساجور لا بالكلب نفسه فلزم القول به في نظائرها كلها، سواء كان حيوانًا أم لا. فإن العلة هي اتصاله بنجس. قوله: وإن كان الحبل مشدودًا بالسفينة، وموضع الشد طاهر وفي السفينة نجاسة، فإن كانت صغيرة تبحر بالجر فهي كالكلب، وإن كانت كبيرة فلا بأس، وفيها وجه بعيد. انتهى. وصورة المسألة كما قاله في "الكفاية": أن تكون السفينة فى البحر، فإن كانت في البر لم تبطل قولًا واحدًا صغيرة كانت أو كبيرة. قوله: وإن جبر عظمه بعظم نجس فينظر إن احتاج إلى الجبر، ولم يجد عظمًا طاهرًا يقوم مقامه فهو معذور وليس عليه نزعه سواء خاف من النزع أم لا، وإن لم يحتج إليه أو وجد طاهرًا يقوم مقامه نظر إن لم يخف محذورًا يبيح التيمم وجب النزع، ولا عبرة بالألم لأنه حامل نجاسة يمكنه إزالتها، وقد تعدى بحملها وقيل: إن اكتسى باللحم لم يجب النزع، وإن خاف الهلاك فوجهان: المذهب منهما أنه لا يجب. وقال الغزالي: في المسألة قولان: المنصوص منهما أنه لا يجب. والمخرج وجوبه، وهو من تفرداته، وسائر الأصحاب لم يطلقوا في المسألة إلا وجهين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به الرافعي، واقتضى كلامه عدم الخلاف فيه من أن غير المتعدى لا يلزمه النزع، وإن انتفى الخوف، قد ذكر في "النهاية" خلافه، وكذلك المتولي في "التتمة" وابن الرفعة في "الكفاية" وغيرهم، ورأيت في كتاب "القولين والوجهين" للمحاملي نحوه أيضًا.

وحاصل كلام "التتمة" أن غير المتعدى إن لم يخف يجبر على القلع قطعًا، وإن خاف فعلى قولين، وفي كلامه فائدتان أيضًا: إحداهما: أنه إذا جبر عظمه بعظم نجس فلم ينجبر به، ووجد عظمًا طاهرًا يجبر به، فإنه يؤمر بقلع النجس بلا خلاف من غير فرق بين المتعدي وغيره. والثانية: أن من احتاج إلى الجبر، ولم يجد عظمًا طاهرًا يجبر به، أو كان لا ينجبر بما يجده من العظام الطاهرة ففي جواز الإقدام على الجبر بالنجس وجهان مبنيان على أنه لو جبر هل يؤمر بقلعه أم لا؟ وأما الإمام فصرح بالخلاف في غير المتعدي وكلامه في المتعدي محتمل. الأمر الثاني: أن ما ادعاه من أن سائر الأصحاب لم يحكوهما إلا وجهين، غريب، فقد حكاهما المتولي في "التتمة" قولين فقال: فأما إذا كان قد انجبر العظم، وخاف من قعله الهلاك [فهل] (¬1) يؤمر بالقلع أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يؤمر به، وإذا امتنع أجبر عليه، حكاه المزني في "مختصره" ثم قال: والقول الآخر: أنه لا يجب القلع وهو الصحيح. انتهى كلامه. ولا شك أن الرافعي لم يمعن النظر في هذه المسألة، ولذلك فإنه كلام "النهاية" و"التتمة". قوله: وحيث أوجبنا النزع فمات قبله ففيه وجهان: أظهرهما -وهو المنصوص-: أنه لا ينزع لأن فيه مُثلة، وهتكًا لحرمة الميت ولأن النزع في حال الحياة إنما أمر به محافظة على الصلاة، فإذا مات سقط التعبد. والثاني: أنه ينزع لئلا يلقى الله تعالى حاملًا للنجاسة. ومنهم من خصص هذا الوجه بما إذا لم يستتر باللحم ثم قال: فإن قلنا بالمنصوص ¬

_ (¬1) في أ: فلم.

فقضية التعليل بهتك الحرمة أنه لا يجوز، وقضية التعليل الثاني أنه يجوز. وإذا قلنا بالوجه الثاني، وهو أنه ينزع فمنهم من قال: يجب، ومنهم من قال: الأولى. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد حذف الخلاف المأخوذ من الاختلاف في التعليل، واقتصر في "المهذب" على التعليل الثاني، وهو المحافظة على العبادة، وتبعه عليه النووي في "شرحه"، وبذلك يترجح عدم التحريم. الأمر الثاني: أن الأصح من الخلاف الأخير هو: الوجوب، كذا صححه النووي في "الروضة"، و"شرح المهذب" وغيرهما، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زوائده بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. وجزم في "المحرر" بأن الخلاف في الوجوب فقال: فإن مات فالأصح أنه لا يجب النزع هذا لفظه، ولم يصرح به في "المنهاج". قوله: واعلم أن مداواة الجرح بالدواء النجس وخياطته بالخيط النجس كالوصل بالعظم النجس، وكذلك لو شق موضعًا من بدنه، وجعل فيه دمًا، وكذا لو وشم يده بالنوور أو العظم فإنه ينجس عند الغرز انتهى كلامه. النوور بنون مفتوحة ثم واو مضمومة بعدها واو ساكنة ثم راء مهملة. قال الجوهري: هو دخان الشحم يعالج به الوشم حتى يخضر، ولك أن تقلب الواو المضمومة همزة، وقد نور ذراعه إذا غرزها بإبرة ثم در عليها النوور، هذا كلامه. وأما العظم فهو بعين مهملة مكسورة، وظاء معجمة مشالة ساكنة، ولام مكسورة، كذا ضبطه الفارابي في "ديوان الأدب"، وقال: إنه نبت. وقال الجوهري: إنه نبت يصبغ به.

واعلم أن هذه اللفظة قد تحرفت على النووي في "الروضة" بالعظام فقال: وكذا لو وشم يده بالعظام أو غيرها، هذه عبارته. قوله: والأصل فيه ما روى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة، [والواشمة] (¬1) والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة أي فاعلة ذلك، وسائلته. والواشرة هي التي تشر الإنسان حتى تكون لها أشر، وهو التحدد. انتهى. والأشر مضموم الهمزة وسكون الشين [ويجوز فتح شينه ويقال فيه الأشور أيضًا، والمفرد أشره بضم الهمزة وسكون الشين] (¬2)، وتقول: نشرت الخشبة بالمنشار بالنون فيهما بمعنى قطعها وأشرتها بالمنشار بالهمز فيهما أيضًا ووشرتها بالواو، واسم الآلة على هذا بالتاء، قاله الجوهري مفرقًا. وإنما قيل في الأخير بالتاء لوقوع الواو فيه ساكنة بعد كسرة كما في الميقات والميزان المأخوذين من الوقت والوزن. والحديث المذكور ثابت في الصحيحين، لكن على تغيير لبعض الألفاظ. قوله في أصل "الروضة": فرع: وصل المرأة شعرها بشعر نجس أو شعر آدمي حرام قطعًا. انتهى. وما ذكره من دعوى القطع على تحريم الوصل بالشعر النجس غريب جدًا مخالف للمعنى ولكلام الأصحاب حتى الرافعي. أما المعنى: فإن الاستعمال بالتضمخ أبلغ. ومع ذلك فإن فيه خلافًا شهيرًا، وأقوالًا للشافعي. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

وأما الرافعي فعبارته صريحة في إثبات الخلاف فإنه قال: اعلم أن وصل الشعر حرام وفاقًا في بعض الأحوال، وخلافًا في بعضها، ثم قد يحرم لمعنى واحد، وقد يجتمع له معانٍ. وتفصيله أن الشعر إما نجس، وإما طاهر، وهذا التقسيم يتفرع على ظاهر المذهب، وهو أن الشعر ينجس بالموت، فأما الشعر النجس فيحرم وصله لأنه لا يجوز استصحابه في الصلاة، وفي غير الصلاة يكون مستعملًا للشئ النجس العين في بدنه استعمال إيصال وذلك حرام في أصح القولين، ومكروه في الثاني، ونظيره الادهان بالدهن النجس ولبس جلد الكلب والخنزير والميتة، والامتشاط بمشط العاج، كل ذلك حرام على الأصح. هذا لفظ الرافعي وهو صريح في إثبات الخلاف، إلا أن يكون في حالة الصلاة فيحرم قطعًا لكونه يؤدي إلى حمل النجاسة في الصلاة لا لكونه يؤدي إلى حمل النجاسة في الصلاة لا لكونه وصلًا من حيث هو. وقد اغتر النووي بما وقع فيه من "الروضة" فنقله إلى "شرح المهذب" على عادته. قوله: فأما شعر الآدمي فحرام لأن من كرامته أن لا ينتفع بشئ منه بعد انفصاله عنه بل يدفن، وأيضًا فلأنه إن كان شعر رجل فيحرم على المرأة أن تنظر إليه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تحريم نظر المرأة إلى الرجل قد خالفه في أوائل كتاب النكاح فصح جواز نظرها لما عدا العورة على خلاف ما صححه النووي، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: أنه لم يبين حكم الانتفاع والدفن. فأما [حكم] (¬1) الانتفاع: فحرام، وقد صرح به هنا في "أصل الروضة"، وبهذا يتبين عدم صحة بيعه، ولأنه غير مملوك له أيضًا. نعم: في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- لما حلق رأسه بمنى ناول شعره أبا طلحة فقسمه بين الناس، والمحقق في هذه القسمة ثبوت الاختصاص فقط. وأما الدفن: فأطلق الرافعي في أوائل الصلاة على الميت باستحباب دفن جميع ما ينفصل من الحي حتى دم الفصد والحجامة، وكذلك المضغة والعلقة. وإطلاقه يقتضي عدم الوجوب أيضًا في اليد ونحوها، وفيه شئ يأتيك في الجنائز ورأيت في كتاب الحج من "الإملاء" للشافعي أن استحباب الدفن في الشعر الحسن آكد لئلا يؤخذ للوصل. قوله في "الروضة": وأما الشعر الطاهر لغير الآدمي، فإن لم تكن ذات زوج، ولا سيد حرم الوصل به على الصحيح، وعلى الثاني: يكره. وإن كانت ذات زوج أو سيد فثلاثة أوجه: أصحها: إن وصلت بإذنه جاز، وإلا فلا انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد جزم في باب السواك من كتاب "التحقيق" بالتحريم مطلقًا فإنه قال: وأما تحميرها وَجْنَة وخضب بسواد وتطريف أصابع به وتجعيد شعر فحرام إلا بإذن زوج وسيد على المذهب؛ ثم قال بعد ذلك ما نصه: ويحرم عليها وصل الشعر والوشم والوشر، هذا لفظه. والمذكور في "الروضة" قد تبعه عليه في "شرح المهذب"، وبين فيه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أن التحريم مطلقًا قوى في الدليل لكنه مخالف للأكثرين، فالفتوى حينئذ على المذكور هنا. الأمر الثاني: أن تقييده بالشعر يوهم جواز الوصل بغيره كالصوف والخرق وغيرهما، وهو مذهب الليث بن سعد. والذي جزم به العمراني أنه كالشعر، ونقله في "شرح المهذب" عن جمهور أهل العلم قال: وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زجر أن تصل المرأة برأسها شيئًا" (¬1). قال: فأما ربط الشعر بخيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر، فليس بمنهي عنه. قوله أيضًا في "الروضة": أما تحمير الوجنة فإن كانت خلية من الزوج والسيد، أو كان أحدهما وفعلته بغير إذنه فهو حرام، وإن كان بإذنه فجائز على المذهب. وقيل: وجهان كالوصل. انتهى. واعلم أن ما ذكره من تصحيح طريقة القطع لم يذكره الرافعي، بل مقتضى نقله تصحيح طريقة الوجهين. وأما القطع فبحث للإمام فإنه قال: واعلم أن الصيدلاني والقاضي حسين ذكرا في طريقهما أن تحمير الوجه كوصل الشعر الطاهر، واستبعد إمام الحرمين الخلاف فيه مع الإذن بخلاف الوصل، فإن النهي ورد فيه. انتهى ملخص نقل الرافعي، وليس فيه نقل غيره، ولا بحث، فكان صوابه أن يقول: فجائز على الأصح، وقيل: قطعًا. هذا إن جعلنا الاستبعاد المذكور وجهًا على ما فيه من البعد. ثم إن كلامه يقتضي القطع في القسمين الأولين وليس كذلك، وهذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2126).

الغلط الذي وقع من تصرفه عزاه في "شرح المهذب" إلى الرافعي فاجتنبه؛ فإن كلام الرافعي يدل على جريان الخلاف في الأحوال كلها، إذ هو مثل الوصل، أو بالجواز أولى كما قاله الإمام. وقد سبق في الوصل جريان الخلاف في الجميع ثم إنه يؤخذ منه الخلاف في الخلية والمزوجة عند عدم الإذن، ولا يؤخذ من "الروضة" فاعلمه. قوله: وأما الوشم فحرام مطلقًا والوشر وهو تحديدًا أطراف الأسنان وترقيقها كالوصل بشعر طاهر. انتهى. وقد تقدم أن الوصل فيه ثلاثة أوجه: أصحها: إن أذن فيه الزوج أو السيد جاز، وإلا فلا. فيكون وشر الأسنان أيضًا فيه هذا التفصيل. إذا علمت ذلك فقد تبعه النووي في "الروضة" على ما ذكره في الوشر، وجزم في هذا الباب من "شرح المهذب" بما يخالفه، فإنه تكلم على الوصل، وتحمير الوجنة والخضاب بالسواد وفصل فيها بين أن يأذن الزوج والسيد أم لا، ثم قال ما نصه: وأما الوشم والوشر فحرام على الرجل والمرأة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله الواشرة والمستوشرة" (¬1). انتهى لفظه، ولم يذكر غير ذلك. وذكر مثله أيضًا في "شرح مسلم"، وكذلك في باب السواك من "التحقيق". قوله في "الروضة": وأما المكان فيجب أن يكون ما يلاقي بدن المصلى، وثيابه في موضع الصلاة طاهرًا، وكما يعتبر ذلك في جهة السفل يعتبر في جهة العلو، والجوانب المحيطة حتى لو وقف بحيث يحتك في صلاته بجدار نجس أو سقف نجس بطلت صلاته، ثم قال: ولو كان ما يحاذي صدره أو ¬

_ (¬1) تقدم.

بطنه أو شيئًا من بدنه في سجوده أو غيره نجسًا صحت صلاته على الأصح. انتهى كلامه. وتعبيره في آخره بقوله: أو غيره [يقتضي] (¬1) جريان الخلاف فيما يحاذيه من الأعلى والجوانب كسقف البيت وحيطانه، ولا يتأتي القول به، بل كلامهم صريح في عدم اشتراطه. وتصوير الرافعي، وتعليله يخرجه فإنه قال: ولو كان ما يحاذي صدره أو بطنه أو شيئًا من بدنه في السجود نجسًا فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لأن القدر الذي يوازيه منسوب إليه بكونه موضع صلاته. وأصحهما: أن صلاته صحيحة لأنه ليس حاملًا للنجاسة ولا ملاقيًا لها، هذه عبارته. فتقييده السجود وتعليله بكونه موضع صلاته مخرج لما ذكرناه، فحذف النووي التعليل، وعبر بقوله في سجوده أو غيره، وهو ذهول عجيب. نعم ذكر الطبري في "شرح التنبيه" أنه يكره استقبال الجدار النجس أو المتنجس. وذكر القاضي حسين أن الوجهين جاريان فيما لو كان ينتفل ماشيًا، وكان بين خطوتيه نجاسة لم يصبها شيء من بدنه، وفيما إذا كان على النجاسة ثوب شفاف ترى من تحته النجاسة ولا تلقى شيئًا من بدن المصلى أو ثيابه. كذا نقله في "الكفاية" عنه، ولا يؤخذ ذلك من تعبير الرافعي. قوله: ولو اشتبه مكان من بيت أو بساط لم يجز التحري في أصح الوجهين كما لو خفي موضع النجاسة من الثوب الواحد. والثاني: يجوز كما لو اشتبه ذلك في الصحراء. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يقتضي الجزم بالاجتهاد في الصحراء، وقد تابعه النووي في "الروضة" عليه، ثم خالفه في "شرح المهذب" فقال: ذهب الجمهور إلى أنه لا يجتهد في الصحراء. وقال البغوي: يجتهد. وهو شاذ. هذا كلامه. وهو اختلاف عجيب، وأشار الرافعي بالبيت والبساط ونحوهما إلى المحل الصغير وبالصحراء إلى الواسع، وبه صرح في "المهذب"، وغيره، حتى لو كان البيت والبساط كبيرين كانا كالصحراء، وإذا جوزنا الصلاة في المكان المتسع فله أن يصلي في جميعه إلى أن يبقى موضع قدر النجاسة، كذا حكاه في "شرح المهذب" عن المتولى، وحكى في "الروضة" في نظيره من الأواني وجهين: أصحهما: كذلك. والثاني: إلى أن يبقى عدد لو كان عليه ابتداء لم يكن له أن يجتهد وهو العدد المحصور. ومن نظائر المسألة: ما إذا اشتبهت محرم بنسوة غير محصورين، والأصح فيه أنه يتزوج ما شاء منهن إلى أن يبقى عدد محصور، والفرق بين هذه، وبين ذينك أن الأصل في أفراد كل منهما الجواز، والمنع طارئ بخلاف نظيره من النكاح. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر قبل هذا بأوراق في الكلام على غسل الثوب أنه إذا اشتبه موضع النجاسة، ولم ينحصر في موضعين أو مواضع محصورة فلا يجوز الاجتهاد، وأن انحصر كالكمين فعلى وجهين: أصحهما عند المعظم المنع أيضًا، وحينئذ فما ذكره الرافعي هنا في البساط ونحوه إن كان عند حصر النجاسة في موضع أو موضعين فالوجهان جاريان في نظيره من الثوب أيضًا، فكيف يستدل لأحد الوجهين بالقياس عليه،

وإن كان عند عدم الانحصار فقد سبق أنه لا يأتى الوجهان بالكلية، وبهذا يضعف أيضًا ما وقع فيه من الاجتهاد في الصحراء. قوله: روى ابن عمر "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة في سبع مواطن: المزبلة والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي والحمام، وأعطان الإبل، وفوق ظهر بيت الله العتيق" (¬1). ويروى المقبرة بدل بطن الوادى. فأما المزبلة والمجزرة فالمعنى فيهما النجاسة فلو فرش عليه شيئًا صحت الصلاة، وبقيت الكراهة لكونه مصليًا على نجاسة وإن كان بينهما حائل. وأما قارعة الطريق فللنهي فيها معنيان: أحدهما: غلبة النجاسة. والثاني: اشتغال القلب بسبب مرور الناس واختلفوا كما قاله في "التتمة" في أن العلة منهما ماذا؟ قال: فإن قلنا بالمعنى الأولى جرى النهي في جواد الطرق في البراري. وإن قلنا بالثاني فلا، ولو فرش شيئًا طاهرًا وصلى صحت الصلاة قطعًا، وتبقى الكراهة لشغل القلب. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن الأصح من هذين المعنيين هو الثاني كذا صححه النووي في "التحقيق" فقال: وقارعة الطريق في البنيان، وقيل: وفي البرية، وصححه أيضًا في "الكفاية". الأمر الثاني: أن ما ذكره في طرق البراري الخلية من الناس من عدم الكراهة فيها تفريعًا على المعنى الثاني، وهو اشتغال القلب يقتضى أيضًا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (346) وابن ماجه (746) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2098) وعبد بن حميد في "مسنده" (765) وابن الجوزي في "التحقيق" (397) وابن عدي في "الكامل" (3/ 203) والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 71) من حديث ابن عمر. ضعفه الحافظ والألباني.

عكسه، وهو أنه إذا لم يقف في طرق البلد، ولكن استقبلها فإنها تكره على الثاني دون الأول، وهذا كله عجيب، فقد سبق من كلام الرافعي فيما نقلناه الآن عنه أن الشغل كاف في الكراهة، وذكر في الكلام على المقبرة أن الغلبة كافية أيضًا فيها. وحينئذ فتكره الصلاة في القسمين جميعًا إلا أنها لمعنى واحد لا لمعنيين، وبه صرح في "الكفاية" أيضًا. الأمر الثالث: أنه قد تلخص من مجموع كلام الرافعي أن فرش الطاهر يزيل الكراهة فيما غلبت فيه النجاسة دون ما تيقنت فيه فتأمله، وتفطن له، وهو ظاهر، لأن عدم التحقق قد ضعف بالحائل والكلام على الحديث يأتي عقب هذه المسألة. قوله: وأما بطن الوادي فسبب النهي فيه خوف السيل السالب للخشوع، فإن لم يتوقع السيل فيجوز أن يقال: لا كراهة وتحتمل الكراهة لمطلق النهي. انتهى. اعترض النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما من كتبه على الرافعي باعتراض صحيح فقال: تبع الإمام الرافعي، الغزالى، وإمام الحرمين في إثبات النهي عن الصلاة في بطون الأودية مطلقًا، ولم يجئ في هذا نهي أصلًا، والحديث الذي جاء فيه ذكر المواطن السبعة ليس فيه الوادي، بل فيه المقبرة بدلًا منه، ولم يصب من ذكر الوادي، وحذف المقبرة. والحديث من أصله ضعيف ضعفه الترمذي وغيره وإنما الصواب ما ذكره الشافعي - رضي الله عنه - فإنه كره الصلاة في وادٍ خاص، وهو الذي نام فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن معه عن الصبح حتى فاتت، وقال: اخرجوا بنا من هذا الوادي، وصلى خارجه. هذا كلام النووي. واعلم أن الترمذي لما روي هذا الحديث قال: إسناده ليس بذاك القوى.

قال: وهو أشبه وأصح من حديث عمر، هذا كلامه. وهو إلى تصحيحه أقرب من ضعفه. قوله: وأما أعطان الإبل، فقد فسرها الشافعي - رضي الله عنه - بالمواضع التي تنحى إليها الإبل الشاربة ليشرب غيرها، فإذا اجتمعت استقت، ولا كراهة في مراح الغنم، وهو مأواها ليلًا. روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أدركتكم وأنتم في مراح الغنم فصلوا فيها، فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم وأنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها، وصلوا فإنها جن خلقت من جن ألا ترى إذا نفرت كيف تشمخ بأنافيها" (¬1). والفرق من وجهين: أحدهما: أن الصلاة في مأوى الجن والشياطين مكروهة. والثاني: أنه يخاف من نفارها وذلك يبطل الخشوع، والمعنيان لا يوجدان في المراح، وقد يتصور في الغنم مثل ما يتصور في أعطان الإبل وحكمهما واحد، ومأوى الإبل ليلًا كالموضع المعبر عنه بالعطن، نظرًا إلي المعنى، وهذا كله إذا كان الموضع طاهرًا، فإن كان نجسًا لم يصح فيها. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله: وحكمهما واحد ظاهره: أن حكم العطن، وما يتصور مثله في الغنم واحد وليس كذلك، بل مراده أن حكم المتصور مثله في الغنم، وحكم المراح واحد، فاعلم ذلك. وقد صرح به هكذا في "الشرح الصغير" وفي "أصل الروضة". الأمر الثاني: أنه قد وقع في "شرح المهذب" أن كراهة الصلاة في ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (74) والبيهقي في "الكبرى" (4154) من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى.

العطن والحمام: كراهة تحريم، ذكر ذلك في باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها، فإنه لما صحح أن الصلاة في تلك الأوقات للتحريم علله بقوله لثبوت الأحاديث في النهي. وأصل النهي للتحريم كالصلاة في أعطان الإبل والحمام. هذه عبارته. والذي ذكره فيها سهو. الأمر الثالث: إذا كانت هذه الأمكنة نجسة ففرش عليها ثوبًا طاهرًا صحت صلاته، ولكنها تكره، أما في المراح فالمعنى واحد، وهو محاذاة النجاسة كما صرح به الرافعي، والنووي في مواضع من هذا الباب. وأما في أعطان الإبل فلمعنيين: أحدهما: هذا. والثاني: خوف النفار، ووقع في "شرح المهذب" أنها لا تكره مع الفرش في مراح الغنم، وهو ذهول أيضًا فاعلمه واجتنبه. وكلام الشرح و"الروضة" في المسألة ملبس، وهو الذي أوقع النووي فيما وقع؛ على أن القاضي حسين قد قال: إنه لا كراهة مع الفرش مطلقًا. الأمر الرابع: أنه قد سكت عن حكم النفر، وكذلك سكت عنها أيضًا لمعظم، وقد رأيته في "الإشراف" لابن المنذر من أصحابنا، وحاصل ما ذكره إلحاقها بالغنم، ثم نقله أيضًا عن عطاء ومالك، وصرح به أيضًا المحب الطبري في "الإحكام" واعلم أن الحديث المذكور رواه الشافعي، وفي إسناده إبراهيم بن يحيى، وهو ضعيف عند المحدثين، لكنه ثقة عند الشافعي. نعم: معناه ثابت، ففي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث جابر بن سمرة ¬

_ (¬1) حديث (360).

أن رجلًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أصلى في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قال أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". وروي ابن ماجة من حديث عبد الله بن مغفل: "صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين" (¬1) وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه. وأما الإخبار عن الغنم بأنها بركة فرواه أبو داود من حديث البراء بن عازب. وروي البيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعًا أنها من دواب الجنة. قوله: وأما المقبرة فالصلاة فيها مكروهة بكل حال: إلى آخره. اعلم أن المعنى فيه ما تحت مصلاه من النجاسة كما تقدم غير مرة. والذي دَلَّ عليه كلام القاضي كما قاله في "الكفاية" أن الكراهة لحرمة الموتى، ومن المعنيين يظهر أن صورة المسألة ما إذا حاذى الميت حتى إذا وقف بين الموتى فلا كراهة إلا أن ابن الرفعة بعد ذكره للمعنيين السابقين قال: ولا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر أو بجانبه أو إليه، ومنه يؤخذ أنه تكره الصلاة بجانب النجاسة وخلفها، هذه عبارته وما ذكره في النجاسة من الكراهة خلفها وفي جانبها يعضده ما سبق نقله عن الطبري بنحو ورقتين من كراهة استقبال الجدار النجس. وأما ما ذكره من الكراهة في جانب القبر وإليه ففيه نظر، ويحتاج إلى نقل إلا إن يعلل بكونه موضع الشياطين. قوله: إحداها: الأثر الباقي على محل الاستنجاء بعد الحجر يعض عنه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (769) وأحمد (16845) وابن حبان (1702) وابن أبي شيبة (1/ 337) والبيهقي في "الكبرى" (4153) والطحاوي في "شرح المعاني" (2104) وابن الجعد في "مسنده" (3180) من حديث عبد الله بن مغفل المزني. قال الألباني: صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة وأسيد بن حضير.

مع نجاسته، فلو لاقى ماءًا قليلًا نجسه. انتهى. وما ذكره من تنجيسه للماء القليل، قد ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وصرح في موضعين من "شرح المهذب" بأنه لا خلاف في تنجيسه. الأول في "كتاب الطهارة" قبل باب ما يفسد الماء من الاستعمال فقال: ولو انغمس فيه مستجمر بالأحجار نجسه بلا خلاف، هذا لفظه. والثاني في آخر باب الاستنجاء فقال: ولو انغمس هذا المستجمر في مائع أو في ماء دون قلتين نجسه بلا خلاف. هذه عبارته أيضًا. ولم يذكرها في غير هذا الموضع من الشرح المذكور إذا علمت ذلك فاعلم أنه قد ذكر المسألة في "التحقيق" قبل باب ستر العورة، وحكى فيها وجهين، وزاد على ذلك فجعل الخلاف قويًا، فإنه قال: ولو وقع في ماء قليل أو مائع فالأصح تنجيسه لمستنج دون طائر وفأرة، ونحوهما. هذا لفظه والصواب: ما في "شرح المهذب" فإن المذكور في "التحقيق" مأخوذ من كلام موهم ذكره هنا في "شرح المهذب". قوله: ولو حمل المصلى من استنجى بالحجر أو من على ثوبه نجاسة معفو عنها لم تصح صلاته في أصح الوجهين، ويقرب منهما الوجهان فيما لو عرق ولوث محل النجو غيره، لكن الأصح هاهنا العفو لتعذر الاحتراز بخلاف حمل الغير. انتهى. تابعه النووي على ذلك في "الروضة"، وكذلك في هذا الباب من "شرح المهذب" وحاصله أن الخلاف إنما هو في المجاور لمحل النجو، فإن الصحيح فيه العفو، ثم ذكر -أعني النووي- ما يخالفه في آخر باب الاستنجاء من الشرح المذكور فقال ما نصه: الرابعة: إذا استنجى بالأحجار فعرق محله، وسال العرق منه، وجاوزه وجب غسل ما سال إليه، وإن لم يجاوزه فوجهان:

الصحيح: أنه لا يلزمه شئ لعموم البلوى، وذكر مثله في التصنيف الذي شرع فيه، وهو المسمى "بمهمات الأحكام" في الاستنجاء أيضًا فقال: ولو عرق المحل وجب غسله إن سال، وإلا فلا. وذكر المسألة في "التحقيق" في آخر باب الاستنجاء فقط موافقًا لما في "شرح المهذب" هناك. قوله: ولو حمل بيضة صار حشوها دمًا لم تصح صلاته في أظهر الوجهين. انتهى. تابعه النووي على تصحيح البطلان في "الروضة" و"شرح المهذب" و"التحقيق"، وصححه أيضًا في هذا الباب من "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح". وخالف ذلك في أوائل "شرح الوسيط" المذكور في الكلام على النجاسات فقال ما نصه: [والأظهر] (¬1) طهارة بيض ما لا يؤكل لحمه إن قلنا الأصح طهارة المنى. فأما البيضة المذرة بالذال المعجمة، وهي التي صار حشوها دمًا فالصحيح طهارتها أيضًا. هذا كلامه. واعلم أن النووي قد صحح في كتبه طهارة العلقة والمضغة، ولا فرق في ذلك عنده بين الآدمي وغيره، لأن منى غيره طاهر عنده، وهذا يشكل على تصحيحه في "الروضة" وغيرها نجاسة البيضة المذرة لأنهما اشتركا في كونها دما يؤول إلى الحيوانية، بل البيضة أولى لاستتار دمها استتارًا خلقيًا. قوله: ولو حمل قارورة مضممة الرأس برصاص أو نحوه، وفيها نجاسة لم تصح صلاته على ظاهر المذهب، ولو ضممها بخرقة بطلت صلاته، ولو ¬

_ (¬1) في ب: والأصح.

ضممها بشمع فقال بعضهم: أنه كالخرقة وقال ابن كج: إنه كالرصاص. انتهى. لم يصح شيئًا في مسألة الشمع لا في "الروضة" ولا في "شرح المهذب" وقال في "الشرح الصغير": أقرب الوجهين أنه كالخرقة. وخالف -أعني النووي- فصحح في "التحقيق" أنه كالرصاص، ونقل في "تهذيب الأسماء واللغات" أن صلاته لا تصح وجهًا واحدًا ذكر ذلك في الكلام على سد. قوله: واللحم المنتن طاهر. انتهى. هذه المسألة قد أسقطها من "الروضة" وعبر الأصحاب عنها بقولهم: اللحم إذا خنز أى تغير وهو بخاء معجمة مفتوحة بعدها نون مكسورة ثم زاى معجمة. قوله: وإن أصاب أسفل خفه أو ثوبه نجاسة فدلكه فى الأرض حتى ذهبت أجزاؤه لم تصح صلاته فيه على الجديد. والقديم الصحة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أصاب خف أحدكم أذى فليدلكه في الأرض" (¬1). قال أصحابنا: والقولان متفقان على أنه لا يطهر، والكلام إنما هو في العفو، ثم قال: وذكروا للقولين شروطًا. أحدها: أن تكون النجاسة لها جرم تلتصق به، أما البول ونحوه فلا يكفي فيه الدلك بحال. والثاني: أن يقع الدلك في حال الجفاف، فأما ما دام رطبًا فلا يغني الدلك بلا خلاف. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (385) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وصححه الألباني.

تابعه عليه النووي وفيه أمران: أحدهما: أن ما أفهمه كلامه من اتفاق الأصحاب على أنه لا يطهر ليس كذلك، بل فيه خلاف لهم حكاه الجرجاني في "الشامل"، ورجح أن القولين في الطهارة، فقال ما نصه: فإذا زال عنها طهر [فى] (¬1) أحد القولين للحاجة. وقيل: لا يطهر بذلك قولًا واحدًا، ولكنه يعفي عن أثرها، هذا لفظه بحروفه. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الشرط الثاني من عدم الخلاف قد ذكر الفارقي ما يخالفه فقال: المراد بالجافة هي الجامدة التي فيها أدنى رطوبة، وبالرطبة المائعة. والذي قاله إما حمل لكلام الرافعي على غير ما فهمه -أعني الرافعي- وإما مخالف له بالكلية وذكر العمراني ما يوافق الثاني فقال: ظاهر كلام أبي حامد، والأكثرين أنه لا فرق فى جريان القولين بين أن تكون النجاسة رطبة أو يابسة، وقد رأيته مصرحًا به في "الاستذكار" للدارمي. قوله: الثالث: دم البراغيث يعفي عن قليله في الثوب والبدن، وفي كثيره وجهان: أصحهما عند العراقيين والقاضي والروياني وغيرهم أنه يعفي لأنه من جنس ما يتعذر الاحتراز عنه. وأصحهما عند الإمام وهو المذكور في الكتاب أنه لا يعفي. انتهى ملخصًا. فيه أمور: ¬

_ (¬1) في ب: على.

أحدها: أن مقتضى ما ذكره في الدم الكثير رجحان مقالة الأولين لأنهم أكثر عددًا، ولهذا صرح النووي بتصحيحه في أصل "الروضة" لكن رجح الرافعي في "المحرر" مقابله فقال: أحسن الوجهين عدم العفو، واستدرك عليه النووي فصحح في "المنهاج" من زياداته ما صححه في "الروضة" وغيرها. الأمر الثاني: أن محل ما تقدم من العفو مطلقًا إنما هو في الثوب الملبوس إذا أصابه ذلك من غير تعمد، فإن لم يلبسه بل حمله في كمه أو فرشه وصلى عليه أو لبسه، ولكن كانت الإصابة بفعله بأن قتل قملة أو برغوثًا في ثوبه أو بدنه أو بين أصبعيه فتلوث به، فإن كان كثيرًا لم تصح صلاته، وإن كان قليلًا فوجهان: أصحهما: العفو، كذا قال النووي في "التحقيق" ونقله في "شرح المهذب" عن المتولي، وأقره وأشار إليه أيضًا الرافعي في كتاب الصيام فقال: لو فتح فاه عمدًا حتى وصل الغبار إلى جوفه فقد قال في "التهذيب": أصح الوجهين أنه يقع عفوًا، وهذا الخلاف كالخلاف فيما إذا قتل البراغيث عمدًا، وتلوث بدمائها هل يقع عفوًا؟ وذكر القاضي ما يوافقه فقال: لو كان الثوب الملبوس زائدًا على عام لباس بدنه لم تصح صلاته لأنه غير مضطر إليه، والذي قاله يقتضي منع زيادة الكم إلى الأصابع وليس ثوب آخر لا نعرض من تحمل ونحوه. قوله: ولو كان قليلًا فعرق وانتشر اللطخ بسببه ففيه الوجهان المذكوران في الكثير واختيار القاضي حسين أنه لا يعفي عنه لمجاوزة محله، واختيار أبي عاصم العبادي: العفو لتعذر الاحتراز. انتهى. وهذا الكلام ظاهر في مساواة هذه المسألة للمذكور في الدم الكثير، حتى يأتي [فيها] (¬1) ما تقدم جميعه وقد صرح بالمساواة في "المحرر" ¬

_ (¬1) في أ: فيه.

ورجح عدم العفو لذهابه إليه في الكثير. لكن سبق لنا قريبًا من كلام الرافعي أنه إذا عرق محل النجو وتلوث به غيره فيعفي عنه، وهو يقوى العفو هنا، لكن الفرق بينهما أن مشقة الاحتراز في محل النجو أكبر لضرورة خروج هذه النجاسة. قوله: والأظهر الرجوع في القلة والكثرة إلى العادة فما يقع التلطخ به غالبًا ويعسر الاحتراز عنه قليل، وإن زاد فكثير، وعلى هذا فيختلف الحال بين الأماكن والأوقات، ويجتهد المصلي في ذلك، فإن شك ففيه احتمالان للإمام، رجح منهما العفو، وهو المذكور في الكتاب. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أنه أهمل أمرًا آخر لابد منه، نبه عليه الإمام فقال: والذي أقطع به أنه لابد أيضًا من اعتبار عادة الناس في غسل الثياب. وذكر مثله الغزالي في ["الوسيط"] (¬1). الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد عبر بقوله، وهو الذي قطع به الغزالي -يعني العفو- وما ادعاه ليس بصحيح، فقد حكى الغزالي في "البسيط" هذا التردد، ولم يرجح شيئًا. قوله في "الروضة" الضرب الرابع: دم البثرات وقيحها وصديدها كدم البراغيث فيعفي عن قليله قطعًا، وعن كثيره على الأصح، ولو عصر بثرة فخرج ما فيها عفي عنه على الأصح. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لا فرق في الدم الخارج بعصر البثرة بين القليل والكثير، وكذلك كلام "المنهاج" يقتضيه أيضًا، وليس كذلك، بل حاصل المذكور في "الشرحين"، "وشرح المهذب" أنهما في القليل، فإن كثر لم يعف عنه بلا خلاف، وبه صرح في "الكفاية" واحتج الرافعي عليه بأن ابن ¬

_ (¬1) في جـ: "البسيط".

عمر -رضي الله عنهما- عصر بثرة علي وجهه، ودلك ما خرج منها بين أصابعه، وصلى ولم يغسله، وهذا الأثر رواه البيهقي بإسناد صحيح. وفي البخاري عنه نحوه تعليقًا. نعم قال الإمام: لعل يده جرت عليه في حال غفلة منه. قال في "الكفاية" ولعل أيضًا أن ما خرج منه مما لا رائحة له فيكون طاهرًا على المذهب والبثرات جمع بثرة بإسكان المثلثة، والفتح لغة، وهي خراج صغير. ويقال بثر وجهه بفتح الثاء وكسرها، وضمها. قوله: ولو أصابه دم قليل من بدن غيره من آدمي أو بهيمة أو غيرهما فقد حكي الغزالي وجماعة فيه وجهين، والجمهور حكوهما قولين: أحدهما: وهو نصه في "الإملاء": أنه لا يعفي عنه؛ لأنه لا يشق الاحتراز عنه، فأشبه القليل من الخمر وغيره. والثاني: وهو نصه في القديم "والأم" أنه يعفي عنه؛ وهذا هو الأصح عند العراقيين، وصاحب "التهذيب" لكن صحح إمام الحرمين وجماعة عدم العفو، وهو الأحسن. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الجمهور من كون الخلاف قولين منصوصين قد خالفه في "المحرر" فجزم بأنه وجهان. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على إطلاق الخلاف، وكذا أطلقه الجمهور وقيد صاحب "البيان" ذلك بغير دم الكلب، والخنزير وما تولد من أحدهما، وأشار إلى أنه لا يعفي عن شئ من ذلك بلا خلاف لغلظ حكمه. قال في "التحقيق": ولم أجد تصريحًا بموافقته، ولا مخالفته، هذا كلامه.

والذي قاله العمراني قد رأيته في كتاب "المقصود" للشيخ نصر المقدسي في باب الصلاة بالنجاسة فإنه ذكر أن اليسير من دم البراغيث يعفي عنه ثم قال: وما عدا ذلك من دماء غير الكلب والخنزير فقد قال في "الإملاء": لا يعفي عن شئ منه كسائر النجاسات، وقال في القديم "والأم": يعفي عن قليله. هذه عبارته. قوله: ولو أصابه شئ من دم الدماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة ففيه وجهان: أحدهما: أنها كدم البثرات لأنها وإن لم تكن غالبة فليست بنادرة، ولأن الفرق بين البثرات والدماميل الصغار قد يعسر. والثاني: أنها لا تلحق بدم البثرات لأن البثرات لا يخلو عنها معظم الناس في معظم الأحوال، وعلى هذا فينظر إن كان مثلها مما [يدوم] (¬1) غالبًا فهي كدم الاستحاضة، وحكمه ما سبق في الحيض. وإن كان لا يدوم غالبًا فيلحق بدم الأجنبي. والأول هو قضية كلام الأكثرين، ولكن الثاني أولى الوجهين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى [كلامه و] (¬2) كلام "الروضة" جريان الخلاف فيما يدوم غالبًا، وهذا مخالف للمعنى والمنقول، فقد جزم الأصحاب بأن الجراحات النضاحة حكمها حكم الاستحاضة فيما عدا انتقاض الوضوء. فكان صوابه: أن يقول في صدر المسألة: فما يدوم منها غالبًا حكمه حكم دم الاستحاضة، وإلا فوجهان. . . . إلى آخره. وهكذا فعل الغزالي في "الوجيز" ولكنه التبس على الرافعي حالة شرحه، وقد ¬

_ (¬1) في أ: يدق. (¬2) سقط من أ.

تفطن في "التحقيق" "وشرح المهذب" لذلك، فلم يدخله في المسألة فأما في "التحقيق" فلم يتعرض له بالكلية، وكأنه أهمله لتقدم حكمه في بابه. وأما في "شرح المهذب" فذكره بعد ذلك مضمومًا إلى الاستحاضة جازمًا بالحكم فقال عقب المسألة: وأما دم الاستحاضة، وما يدوم غالبًا فسبق حكمه في باب الحيض. هذه عبارته. الأمر الثاني: أن النووي قد صحح في "الروضة" "والمنهاج" من زوائده أن هذه الأشياء كدم البثرات، ثم خالف ذلك في "التحقيق" "وشرح المهذب" فصحح أنه كدم الأجنبي. قوله: وأما ماء القروح والنفاطات فإن كان له رائحة كريهة فهو نجس، وإلا فطريقان: أحدهما: القطع بالطهارة. والثاني: على قولين: أظهرهما: أنه نجس. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام كما لا يؤخذ منه تصحيح إحدى الطريقتين، لا يؤخذ منه أيضًا تصحيح في المسألة. وقد صحح في "شرح المهذب" [هنا] (¬1) طريقة القطع بالطهارة وصحح في "المحرر" النجاسة، ولم يتعرض للطريقين بالكلية. وصحح النووي في "الروضة" من زياداته أنه طاهر، وحذف الأصح من القولين تفريعًا على طريقة الخلاف. الأمر الثاني: إذا قلنا: إنه نجس فهل يكون كدم الفروح حتى يأتى فيه الخلاف السابق والاختلاف في التصحيح أم كيف الحال؟ والجواب: أن النووي -رحمه الله- قد جزم [بإلحاقه] (¬2) بدم البثرات، ¬

_ (¬1) زيادة من جـ. (¬2) في جـ: بإلحاقها.

كذا ذكره في "التحقيق"، "وشرح المهذب" مع تصحيحه أن دم القروح كدم الأجنبي. قوله: وإذا تبين له أنه صلى بنجاسة فقولان: الجديد: وجوب القضاء لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعله في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما فرغ من صلاته قال: "ما حملكم على ما صنعتم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعلك فألقينا نعالنا. فقال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيها قذرًا" (¬1) فلو علم بالنجاسة ثم نسي فصلى ثم تذكر فطريقان: أحدهما: القطع بوجوب القضاء لتفريطه. والثاني: أنه على القولين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصحح شيئًا من الطريقين في "الشرح الصغير" أيضًا. والصحيح طريقة القطع، كذا صححها النووي في "شرح المهذب" وصححها أيضًا في "الروضة" ولم ينبه على أن ذلك من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثاني: أن النووي في "شرح المهذب" قد اختار عدم الإعادة في المسألتين، ذكر ذلك في آخر المسألة فقال: إنه المختار. والحديث رواه أبو داود من رواية أبي سعيد بإسناد صحيح. وقال الحاكم في المستدرك: إنه صحيح على شرط مسلم [وفي رواية ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (650) وأحمد (11895) وابن خزيمة (1017) والحاكم (955) وعبد الرزاق (1516) وابن أبي شيبة (2/ 181) والبيهقي في الكبرى (3809) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. قال الحافظ: اختلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في "العلل" الموصول. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح. قلت: وفي الباب عن أنس وابن مسعود.

لأبي داود: [خبثًا] (¬1) بدل قذرًا] (¬2). وفي رواية غيره: قذرًا أو أذى. وفي رواية: دم حلمة، والحلمة بفتح الحاء واللام وهو القراد الكثير. قوله: وقول الغزالي في أول القسم الثاني أما مظان الأعذار فخمس يشعر بانحصارها في الخمس المذكورة، لكن للعذر مظان أُخر. منها: النجاسة التي تستصحبها المستحاضة، وسلس البول في صلاته، ومنها ما إذا كان على جرحه دم كثير فخاف من إزالته. ومنها ما إذا تلطخ سلاحه [بالدم] (¬3) في صلاة شدة الخوف [هذا لفظه] (¬4). وذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، والمراد بأن هذه مظان للأعذار هو العفو عنها حتى لا يجب القضاء. فإن الخمس التي أورد هذه الصور عليها يعفي عن جميعها، وقد صرح الرافعي أيضًا بهذا لمراد في أول هذا القسم فقال: القسم الثاني من النجاسات: النجاسات الواقعة في مظنة العذر، والعفو. وقد جعل مظان العذر خمسًا، هذا كلام الرافعي وهو صريح فيما قلناه. إذا علمت ذلك: فأما السلاح المتلطخ بالدم فمخالف لما قاله في صلاة الخوف، وسأذكر المسألة هناك فراجعها. وأما الدم على الجرح فقد سبق في آخر كتاب التيمم من الشرحين المذكورين ما يخالفه فقال فيهما: الجديد: وجوب القضاء. لا جرم أن النووي قد استدرك في "الروضة" عليه، فصحح وجوب القضاء، وكذلك صحح في باقى كتبه إلا في "المنهاج" فإن حاصل ما فيه تصحيح عدم وجوب القضاء فتأمله. ¬

_ (¬1) في أ: نجسًا. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

الشرط الثالث ستر العورة

الشرط الثالث ستر العورة قوله: ويجب ستر العورة في الخلوة على أصح الوجهين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حىٍ، ولا ميت" (¬1). ويروى: "لا تبرز". ثم قال: وعورة الرجل ما بين سرته وركبته وعورة المرأة جميع بدنها إلا الوجه والكفين ظهرًا وبطنًا إلى الكوعين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن إطلاق هذا الكلام يقتضى أنه لا فرق في العورة بين البالغ والصبى، وبه صرح في "شرح المهذب"، ومقتضى إطلاقه أنه لا فرق بين المميز وغيره، فإن قيل: غير المميز لا تصح منه الصلاة، ولا يحرم النظر إلى عورته إلا فرج الصغيرة على اختلاف فيه مذكور في "النكاح" فما فائدة الحكم بالعورة؟ قلنا في ستره في الطواف إذا أحرم عنه الولى على ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3140) و (4015) وابن ماجة (1460) وأحمد (1248) والحاكم (7362) والدارقطني (1/ 225) وأبو يعلى (331) والبزار (694) والبيهقي في "الشعب" (7760) وفي "الكبرى" (3049) و (6416) وابن الجوزي في "التحقيق" (401) وابن عدى في "الكامل" (7/ 280) من حديث علىّ - رضي الله عنه -. قال أبو داود: حديث فيه نكارة. وقال ابن دقيق العيد: رواية أبي داود تقتضي أن ابن جريج لم يسمعه من حبيب وأن بينهما رجلًا مجهولًا. وسكت عليه الذهبي. وقال أبو حاتم: ضعيف. وقال الألباني: ضعيف جدًا.

ما يأتيك في الحج، وما ذكره في "شرح المهذب" ذكر في "البيان" نقلًا عن الصيمري ما يخالفه فقال: إن عورة الصبي والصبية قبل سبع سنين هي القبل والدبر فقط، ثم تتغلظ بعد السبع، ثم تكون بعد العشر كعورة البالغين لأنه زمان يمكن فيه البلوغ. وذكر في "الحاوي" أيضًا ما يخالفه فقال: إن الذكور والإناث من الأطفال لا حكم لعوراتهم قبل السبع، وحكمهم حكم البالغين بعد إمكان البلوغ، وفيما بينهما يحرم النظر إلى الفرج خاصة، ولم يبين الصيمري التغليظ المشار إليه، على أن الروياني حكى عن والده جواز صلاة الصغيرة بغير خمار لظاهر الحديث. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي هنا صريح في أن المرأة يحرم عليها كشف عنقها ورأسها، وغير ذلك في الخلوة، وليس الأمر كما ذكره هنا، بل الذي يجب ستره من الحرة في الخلوة إنما هو المقدار الذي يجب ستره من الرجل، هذا حاصل ما ذكره الإمام والرافعي وغيرهما في كتاب النكاح. ورأيت في "التلقين" لابن سراقة من كبار المتقدمين ما هو أصرح منه فقال: وعورة الحرة في الصلاة ومع الرجال غير ذوي محارمها جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، هذا لفظه. وحينئذ فتنقسم العورة إلى عورة في [الصلاة. وعورة في] (¬1) النظر، وعورة في سترها خالية، والنظر له أقسام معروفة. والحديث رواه أبو داود في "سننه" في كتاب الجنازة ثم كتاب الحمام من رواية علىّ وقال: إن هذا الحديث فيه نكارة ويغني عنه حديث جرهد بفتح الجيم والهاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "غط فخذك، فإن الفخذ من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

العورة" (¬1). رواه أبو داود في كتاب الحمام والترمذي في الاستئذان من ثلاث طرق، وقال في كل طريق منها: حديث حسن. وقال في بعضها: حديث حسن، وما أرى إسناده بمتصل. قوله: ولا يكاد يفرض ظهور باطن الكفين دون ظاهرهما. انتهى. وتصوير ذلك سهل بلصوق عجين ونحوه، وبالربط بخيوط ونحوها. قوله: وهل يستثني أخمص قدميها؟ حكى صاحب الكتاب وطائفة فيه وجهين، وجعلهما آخرون قولين: أصحهما أنهما من العورة. انتهى. والأصح أن الخلاف المذكور قولان، كذا صححه النووي في "الروضة" وغيرها، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. وقد حكى الرافعي في كتاب النكاح وجهًا أن ظهر الكفين عورة أيضًا. قوله: فلو خالف الخنثي، ولم يستر إلا ما بين السرة والركبة فهل تجزئه صلاته؟ فيه وجهان نقلهما في "البيان". انتهى. صحح النووي في "زيادات الروضة" أنها لا تجزئه فقال: أصحهما: لا تصح؛ لأن الستر شرط وشككنا في حصوله، وقال في "شرح المهذب": إنه أفقه الوجهين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4014) والترمذي (2798) وأحمد (15974) والطبراني في "الكبير" (2138) وعبد الرزاق (19808) والطحاوي في "شرح المعاني" (2520) والحميدى في "مسنده" (857) وابن سعد في "الطبقات" (4/ 298) والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 162) والطيالسي (1176). قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: صحيح.

وصحح عكسه في "التحقيق" فقال: الأصح أنها تصح للشك في وجوبه. هذا لفظه بحروفه. وذكر في باب نواقض الوضوء من "شرح المهذب" نحوه أيضًا. قوله: ولو ستر اللون ووصف حجم الأعضاء كما لو لبس سروالًا خفيفًا فلا بأس. انتهى. وهذا الكلام قد يوهم أن ذلك ليس مكروهًا، ولا خلاف الأولى، وليس كذلك بل هو مكروه للمرأة، وخلاف الأولى للرجل، كذا قاله الماوردي، وغيره. بل في "شرح المهذب" وجه أنها باطلة. واعلم أن النووي في "الروضة" قد عبر بقوله: ولو ستر اللون ووصف حجم البشرة -أعني بلفظ البشرة- عوضًا عن الأعضاء، وهو تعبير عجيب، فإن البشرة ظاهر الجلد، ولا معنى له هاهنا. قوله: فأما الفسطاط. . . إلى آخره. الفسطاط بيت من شعر، وفاؤه مضمومة، وكسرها لغة، قاله الجوهري. وسمى ساحل مصر فسطاطًا لذلك أيضًا، فإن خيمة عمرو بن العاص كانت منصوبة هناك لما كان أميرًا على الجيش عند فتحها فكانوا يقولون: اذهب بنا إلى الفسطاط، وذهب إلى الفسطاط، ونحو ذلك فغلب على ذلك الساحل ثم غلب على كل ساحل. قوله: ولو وقف في جب ضيق الرأس وصلى على جنازة فقال في "التتمة" يجوز. ومنهم من قال: لا. انتهى. قال الرافعي في "الشرح الصغير": الأشبه أنه لا يجوز. وصحح النووي في "التحقيق" و"شرح المهذب" وزيادات "الروضة" أنه يجوز.

قوله: ولو حضر جمع من العراة فلهم أن يصلوا جماعة، ويجب أن يقف إمامهم وسطهم كالنسوة إذا عقدن الجماعة. انتهى كلامه. والتعبير بقوله: يجب، رأيته كذلك في أصول معتمدة من الرافعي وكان سببه أن التقدم مظنة للرؤية المحرمة، إلا أنه -أعني الرافعي- قد صرح في أوائل صلاة الجماعة بأن مثل هذا في حق النسوة العاريات مستحب، لا واجب. والمقالتان لا تجتمعان فإنهما سواء في هذا المدرك ويحتمل أن يكون لفظ الرافعي إنما هو نحب بنون مضمومة وحاء مهملة، وما في معناه، أو يستحب، ولكن تحرف، ويؤيده تشبيهه بالنسوة. ولم يصرح في "الروضة" هنا بشئ من ذلك بل اقتصر على المساواة بينهما فإنه قال: ويقف إمامهم وسطهم كجماعة النساء، هذا لفظه. قوله: وهل يسن للعراة إقامة الجماعة أم الأولى أن ينفردوا؟ فيه قولان: القديم: أن الانفراد أولى. انتهى كلامه. فيه أمور نبه عليها الأصحاب، ونقلها عنهم النووي في "شرح المهذب" وبعضها في "الروضة". أحدها: أن صورة المسألة أن يكونوا بحيث يتأتى نظر بعضهم إلى بعض، فلو كانوا عميًا أو في ظلمة استحب لهم الجماعة بلا خلاف. الأمر الثاني: أن حكاية القولين هكذا قد ذكرها جماعة فتبعهم الرافعي، والذي حكاه المحققون عن الجديد أن الجماعة والانفراد سواء. الأمر الثالث: إنما عبر الرافعي بالعراة الذي هو جمع عارٍ للاحتراز عن النسوة، فإن الجماعة تستحب لهن بلا خلاف، لأن إمامتهن تقف وسطهن حال اللبس أيضًا. قوله: ولو وهب منه الثوب لم يلزمه قبوله وقيل: يلزمه، وله الرد بعد

الصلاة. وقيل: يلزمه، ولا رد له. انتهى ملخصًا. واعلم أن المتجه -وهو قياس ما ذكروه في التيمم: وجوب قبول الطين والتراب ونحوهما مما يستر وقيمته قليلة غالبًا، وتقييده بالثوب يؤخذ منه ذلك، فتفطن له. قوله: وإذا لم يجد إلا ثوبًا نجسًا ففيه قولان: أصحهما: يصلي عاريًا بلا إعادة. ولو لم يجد إلا ثوب حرير فوجهان: أصحهما: أنه يصلي فيه لأنه يباح لبسه للحاجة انتهى. وهذا الذي ذكره في الحرير مسلم إذا كان الثوب قدر العورة، فإن كان زائدًا عليها فيتجه أن يقال: إن كان القطع لا ينقص أكثر من أجرة الثوب لزمه قطعه، وإلا لم يلزمه. ولقائل أن يقول: كيف يستقيم الفرق الذكور مع أن لبس النجس يباح للحاجة، بل دونها في غير الصلاة، فإن أراد أن الحرير مباح في الصلاة للحاجة كالحكة ودفع القمل بخلاف النجس قلنا: ممنوع، فإن النجس يباح أيضًا في الصلاة لشدة الحر، والبرد. قوله: يستحب أن يصلي الرجل في أحسن ما يجده من ثيابه يتعمم ويتقمص، ويرتدي فإن اقتصر على ثوبين فالأفضل قميص ورداء أو قميص وسراويل. فإن اقتصر على واحد فالقميص أولى ثم الإزار ثم السراويل، وإنما كان الإزار أولى لأنه يتجافي. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وما ذكره في تقسيم الثوبين كيف يستقيم مع أن السراويل لم يتقدم له ذكر بالكلية، وإنما كان يستقيم الحكم بالتخيير أن لو قال: أو يتسرول بلفظ -أو- ثم إنه لم يذكر حكم العمامة في هذا

التخيير، بل مقتضاه أن القميص والعمامة دون هذين القسمين مع باقي الأقسام الممكنة، وهي العمامة والسراويل. فأما الثاني فواضح. وأما الأول وهو العمامة والقميص، فإن كان عند وجود ما يستر به رأسه من طاقية وقبعة فواضح. وإن كان عند عدمه فممنوع لأنه يكره كشف رأسه بخلاف عدم الارتداء والاتزار. وأما ما ذكره في الثوب الواحد: فجيد، فإنه إنما لم يذكر العمامة والرداء لعدم جواز الاقتصار عليهما، وإنما أخر السراويل لما سبق، لكن فيه أيضًا ما أشرنا إليه من كونه لم يتقدم للسراويل ذكر. ولا شك أن أول كلامه قد سقط منه شئ، وأصله يتعمم ويتقمص ويرتدي ويئتزر ويتسرول فاعلمه. وقد ذكر في "الشامل" ما يدل عليه فقال فأما الفضيلة فأن يصلى الرجل في قميص وإزار وسروايل، هذا لفظه. وذكر غيره مثله أيضًا، وما ذكرناه من تفضيل الإزار هو المنصوص الذي عليه جماعة. وقال المحاملي والبندنيجي السراويل أولى لأنه أستر. وفي "زوائد العمراني": أن الفقيه أبا بكر قال: السراويل الواسعة أولى. واعلم أن عبارة الرافعي في -أحسن ما نجده: يتعمم، أعني: بلا "واو" مع يتعمم، فاقتضى أن ذلك تفسير للأحسنية. وعبارة "الروضة": ويتعمم بالواو، وهي تقتضي أن ذلك مغاير للأحسن المتقدم ذكره [وهو الأقرب] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الشرط الرابع: ترك الكلام ... إلى آخره

الشرط الرابع: ترك الكلام ... إلى آخره اعلم أن النووي -رحمه الله- قد وافق في "الروضة" على [جعل] (¬1) هذا من الشروط، وكذلك الكف عن غيره من المناهي كالأكل وغيره، وأنكر ذلك في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" في باب الاجتهاد، وفي "التحقيق" في أواخر باب صفة الصلاة، وفي "شرح المهذب" في الموضع المذكور أيضًا فقال ما نصه: وضم الفوراني والغزالي إلى الشروط ترك الأفعال في الصلاة، وترك الكلام، وترك الأكل. والصواب أن هذه ليست بشروط، وإنما هي مبطلات للصلاة كقطع النية، وغير ذلك، ولا يسمى شرطًا إلا عند الأصوليين، ولا عند الفقهاء. هذا كلامه. قوله في "الروضة": ولو نطق بحرف ومده بعده فالأصح: البطلان. والثاني: لا. والثالث: قاله إمام الحرمين: إن أتبعه بصوت غُفل لا يقع على صورة المد لم تبطل، وإن أتبعه بحقيقة المد بطلت. انتهى كلامه. وما ذكره من أن الإمام قد ذهب إلى هذا التفصيل غلط؛ فإن حاصل ما ذهب إليه الإمام هو البطلان مطلقًا، إلا أنه جازم بالبطلان عند حقيقة المد، ومصحح له عند الصوت الغفل، فإنه قال: وإن كان بعده صوت غفل موصولًا به قال الإمام: فقد كان شيخي يتردد فيه وهو لعمري محتمل، فإن الكلام حروف، والأصوات المرسلة من مباني الكلام، فالأظهر عندي أنه مع الحروف [كحرف مع حرف] (¬2)، فإن الصوت الغفل مده، والمدات تقع ألفًا أو واوًا أو ياءً، وإن كانت إشباعًا بحركات معدودة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ.

وعندي أن شيخي لم يتردد فيها، وإنما يتردد في صوت غفل لا يقع على صورة المدات. هذا كلامه. وهو كما ذكرته لك، والذي أوقع النووي في هذا الغلط هو الرافعي، فإنه حكى وجهين، وجعل الأظهر البطلان، ثم قال: ومال إمام الحرمين إلى رفع هذا الخلاف بحمل الوجه الأول أي القائل بعدم البطلان على ما إذا أتبعه بصوت غفل لا يقع على صوت المد، والجزم بالمنع إذا أتبعه [بصوت غفل لا يقع على صوت المد، والجزم بالمنع إذا أتبعه بحقيقة المد] (¬1). هذه عبارته. فتعبيره بقوله: بحمل الوجه الأول، وبقوله: والجزم بالمنع] (¬2)، موافق لتعبير الإمام إلا أنه أخطأ في تعبيره برفع الخلاف. وكان صوابه تخصيص الخلاف ثم إن النووي عبر عن تعبير الرافعي بما عبر فزاد المسألة خللًا، ووقع في صريح الغلط. قوله أيضًا فيها: ولو تنحنح فبان منه حرفان بطلت في الأصح، وقيل: لا. وقيل: إن كان فمه منفتحًا بطلت، وإلا فلا، ثم قال في آخر الفصل ما نصه: وأما الضحك والبكاء والنفخ والأنين فإن بان منه حرفان بطلت وإلا فلا. انتهى كلامه. وحاصله أن الأوجه الثلاثة التي في التنحنح لا تأتى في هذه الأشياء وقد صرح بذلك في "التحقيق" فقال: والضحك والبكاء والأنين والتأوه والنفخ ونحوها تبطل إن بان حرفان، وكذا التنحنح، وفي قول: لا، وقيل: إن أطبق فمه فلا. هذه عبارته. وذكر مثلها في "شرح المهذب"، والذي ذكره خلاف ما يقتضيه كلام الرافعي فإنه قال عقب الأوجه في التنحنح ما نصه: والضحك والبكاء والأنين والنفخ كالتنحنح، إن بان منه حرفان بطلت صلاته، وإلا فلا. هذه عبارته. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من ب.

وذكر في "الصغير" ما هو أظهر من ذلك فلما سوى بينهن وبين التنحنح ثم نص على ما عليه الفتوى اقتضى ذلك جريان الخلاف في الجميع وبه صرح في "المحرر" و"المنهاج" وصرح به أيضًا المتولي في "التتمة" إلا أنه حكى الخلاف قولين. قوله: وحيث أبطلنا بالتنحنح فذلك إذا كان بغير عذر، فإن كان مغلوبًا فلا بأس. انتهى كلامه. وهذا الذي أطلقه من عدم الإبطال عند الغلبة قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا. وهو يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون كثيرًا أو قليلًا، وكذلك كلامهما يقتضي عدم التفرقة أيضًا في المسألة الآتية، وهي التنحنح عند تعذر القراءة والجهر كما سنعرفه، إلا أن الرافعي ذكر بعد هذا في الكلام على الأعذار أن غلبة الكلام والضحك والسعال إن كثرت أبطلت على الصحيح، وضم إليها في "شرح المهذب" العطاس أيضًا. وما ذكره في الضحك لا شك فيه، وبه صرح في "التنبيه" لأنه أشد منافاة للصلاة. وأما التنحنح والسعال والعطاس فسواء بلا شك، فإما أن يقولا بعدم الإبطال في الجميع وهو الأقرب لأنه لا يمكن الاحتراز منه، أو بالإبطال فيها إذا كثرت، وهو بعيد لما ذكرناه. قوله: ولو تعذرت القراءة إلا بالتنحنح تنحنح وهو معذور، ولو أمكنته القراءة لكن تعذر عليه الجهر لو لم يتنحنح لم يعذر في أظهر الوجهين لأنه سنة، وقيل: يعذر لإقامة شعار الجهر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من أن تعذر القراءة عذر قد تابعه في "الروضة"

على إطلاقه ويتجه أن يكون محله في القراءة الواجبة، أما المستحبة فإنها كالجهر، وقد صرح بالتقييد المذكور في "شرح المهذب" و"التحقيق" فقال: ولو تعذرت قراءة الفاتحة. هذه عبارته فيهما. الأمر الثاني: أن كلامه في الجهر يقتضي عوده إلى القراءة خاصة، لكن كلامه في "المحرر" و"المنهاج" و"التحقيق" يقتضي جريانه في كل جهر مأمور به، فيدخل فيه الجهر بالقراءة الواجبة والمستحبة، والجهر بالقنوت، والجهر بتكبيرات الانتقالات حيث احتيج إليه في إسماع المأمومين إلا أن المتجه في القسم الأخير أنه عذر والمتجه فيما إذا حصل ذلك في أثناء قراءة السورة الجزم بأنه ليس بعذر، لأن علة ذلك الوجه إنما هي إقامة شعار الجهر، وقد حصل ذلك [بالبعض] (¬1). قوله: وتعذر [ذلك] (¬2) في الكلام بأمور. . . . إلى آخره. أهمل شيئين: أحدهما: النذر فلم يعده من الأعذار، والمسألة فيها وجهان: أصحهما: أنه عذر، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" فقال: الثانية: إذا نذر شيئًا في صلاته، وتلفظ بالنذر عامدًا هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في آخر باب استقبال القبلة في مسألة بلوغ الصبي في الصلاة: أحدهما: وبه قال الداركي، وهو ظاهر كلام أبي إسحاق المروزى: لا تبطل، لأنه مناجاة لله تعالى، فهو من جنس الدعاء. والثاني: تبطل لأنه أشبه بكلام الآدمي، والأول أصح [لأنه] (¬3) يشبه قوله: سجد وجهي للذي خلقه. هذا كلامه. وفيه شيء ستعرفه في أول النذر يتعين الوقوف عليه. ¬

_ (¬1) في أ: بالنقص. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في جـ: لا.

وقياس ما ذكره النووي هنا حكمًا وتعليلًا أن يتعدى ذلك إلى الإعتاق والوصية والصدقة وسائر القرب المنجزة. الأمر الثاني: إذا سلم ساهيًا ثم تكلم عامدًا فإن الصلاة لا تبطل كما ذكره الرافعي في كتاب الصيام في مسائل الجماع، ولم يتعرض هنا لكلام تؤخذ منه هذه المسألة، بل ذكر الجهل بتحريم الكلام، وقيده بقيد يؤخذ منه خلاف ما ذكره هناك فاعلمه. قوله: ومنها الجهل بتحريم الكلام لما روي عن معاوية بن الحكم قال: لما رجعت من الحبشة [صليت] (¬1) مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعطس بعض القوم فقلت: يرحمك الله، فحدقني الناس بأبصارهم فقلت: ما شأنكم تنظرون إليَّ فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يسكتونني فسكت، فلما فرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا معاوية إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن" (¬2)، وهذا عذر في حق قريب العهد بالإسلام. فإن كان بعيد العهد به بطلت صلاته لأنه مقصر بترك التعلم. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لا فرق في بعيد العهد بين أن ينشأ في بادية بعيدة أو لا، وقياس نظائره يقتضي إلحاق من نشأ في البادية المذكورة بقريب العهد، بل حكى الطبري شارح "التنبيه" وجهًا أن البعيد العهد يعذر أيضًا، إذا لم يكن ممن يخالط العلماء. وأما "حدقني" الواقع في الحديث فهي بحاء مهملة ودال مخففة مهملة أيضًا بعدها قاف. هكذا رواه أبو عوانة في "مسنده" (¬3)، والبيهقي في "سننه"، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مسلم (537) وأبو داود (930) والنسائي (1218) وأحمد (23813). (¬3) حديث (3165).

ومعناه أصابوني بحدقتهم كقولهم: عانه أي أصابه بالعين، وركبه البعير أصابه بركبته، وليس معناه نظرًا؛ إنما قالوا: حدّق بالتشديد إذا نظر إليه نظرًا شديدًا لكنه لازم غير متعدٍ، فيقال: حدق إليه، ولا يقال: حدقه. والحديث المذكور أصله في مسلم، وإن كانت الألفاظ مختلفة. قوله في "الروضة": ولو علم تحريم الكلام ولم يعلم أنه يبطل الصلاة لم يكن عذرًا. ولو جهل كون التنحنح مبطلًا فهو معذور على الأصح لخفاء حكمه على العوام انتهى. كلامه. وهو يوهم أن مسألة التنحنح مفروضة مع العلم بالحرمة كالمسألة السابقة وليس كذلك، فإن الغزالي ذكر المسألة في "الوسيط" بلفظ يوهم ذلك، ثم نقلها عنه الرافعي، ونفى الحمل عليه وقال: إن الحمل عليه بعيد، فإنه لا يظهر فرق مع التسوية في الحرمة والجهل، ثم قال: والأقرب شيئان: أحدهما: تصوير ذلك بما إذا علم حكم الكلام وجهل [أن التنحنح ملحق به. والثاني: بما إذا بعد عهده بالإسلام وجهل] (¬1) حكم التنحنح، فعلى رأى لا يعذر فيه كالكلام، وعلى رأى نعم لخفائه. وأشار الرافعي بهذا الأخير إلى أنه لو كان قريب العهد بالإسلام لكان في الكلام يعذر بلا خلاف، فكيف يجئ التردد في التنحنح ولو كان بعيد العهد بالإسلام لم يعذر بذلك لتقصيره بترك التعلم. قوله فيها أيضًا: ولو أكره على الكلام فقولان: أظهرهما: يبطل لندوره، وكما لو أكره على أن يصلي بلا وضوء أو قاعدًا، فإنه يجب الإعادة قطعًا. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أنه قد ذكر في أواخر التيمم من زوائده أيضًا ما يقتضي عكس المذكور هنا في الوضوء، فإن كلامه هنا يقتضي إيجاب القضاء، ولو كان مع البدل وهو التيمم، ويدل عليه القيام فإنه أوجب فيه القضاء مع إتيانه ببدله وهو القعود، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. الأمر الثاني: أن دعوى عدم الخلاف باطلة، ولو كان مع المنع من التيمم فللشافعي قول أن كل صلاة وجبت في الوقت لا يجب فيها الإعادة، وقواه في "شرح المهذب". قوله: حكى في "البيان" عن الشيخ أبي حامد أن الكلام اليسير هو ثلاث كلمات، ونحوها، وعن ابن الصباغ أن اليسير هو القدر الذي تكلم به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ذي اليدين، وكل واحد منهما للتمثيل أصلح منه للتحديد، والأظهر فيه، وفي نظائره الرجوع إلى العادة. انتهى. وقد حذف النووي في "الروضة" مقالة الشيخ أبي حامد، ومقالة ابن الصباغ أيضًا، واقتصر على المقالة الثالثة وكأنه توهم مما قاله الرافعي أنهما مثالان، وليس كذلك، بل مراده أن التحديد بهما ليس بواضح على أن الأصحاب قد سلكوا مثل ذلك في مواطن كثيرة منها ما هو على الراجح، ومنها ما هو على وجه كدخول وقت الأضحية، ووقت الوقوف. وحكى في "شرح المهذب" قولًا أنه ما لا يسع زمانه ركعة؛ ووجها أنه ما لا يسعه قدر تلك الصلاة. قوله: وإذا ناب المأموم شيء في صلاته كما إذا رأى أعمى يقع في بئر، أو استأذنه إنسان في الدخول أو أراد إعلام غيره أمرًا، فالسنة أن يسبح إن كان رجلًا وأن يصفق إن كانت امرأة، ففي الحديث: "إذا ناب أحدكم شيء في صلاته فليسبح الرجال ولتصفق النساء" (¬1). انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6767) من حديث سهيل بن سعد - رضي الله عنه -.

فيه أمران: أحدهما: أن التنبيه قد يكون واجبًا كما في الأعمى ولو أدى إلى الكلام كما سيأتي. وقد يكون مندوبًا، وقد يكون مباحًا كما قاله في "شرح المهذب" فالمندوب صورته أن يكون المنبه عليه مندوبًا، كمن هم بترك التشهد الأول، والمباح كالإذن في الدخول. وإذا علمت الانقسام إلى هذه الثلاث، فإن حملت التنبيه في كلام المصنف على التفرقة بين الرجال والنساء فقط في الحكم المذكور لم يعرف منه كيفية التنبيه. وإن حملته على التنبيه والتفرقة معًا كما هو ظاهر عبارة المصنف ورد قسم الواجب والمباح. الأمر الثاني: أن كلامه ساكت عن حكم الخنثى والقياس أنه يصفق لاحتمال أن تكون امرأة فلا يأتي بالتسبيح جهرًا، وقد رأيت ذلك مصرحًا به في أحكام الخناثى المسمى "بالتحقيق" وهو للقاضي أبي الفتوح المعروف بابن أبي عقامة بفتح العين المهملة وبالقاف، ونقله عنه، في باب نواقض الوضوء من "شرح المهذب" من جملة ما نقله عنه ولقائل أن يقول: قد سبق أن المرأة تجهر خالية وبحضرة النساء، [والمحارم] (¬1) فلم لا أجيز لها، والحالة هذه التسبيح، فإن صح لنا في المرأة ذلك لزم مثله في الخنثى؟ والحديث رواه الشيخان، لكن لا بهذا اللفظ. قوله: والمراد من التصفيق أن تضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر، وقيل: هو أن تضرب أكثر أصابعها اليمنى على ظهر أصابعها اليسرى وقيل: تضرب أصبعين على ظهر الكف. ¬

_ (¬1) في أ: والمحرم.

والمعاني متقاربة، والأول أشهر. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، واعلم أن في معنى الكيفية التي رجحها الرافعي أن تعكس فتضرب ببطن الشمال على ظهر اليمين، وأن تضرب بظهر اليمين على بطن الشمال، وأن تعكس أيضًا. وما وقع في كلام الرافعي وغيره من الاقتصار على بعض هذه الصور فإنه من باب المثال كما سلكه الماوردي وغيره، ولهذا عبر في "التحقيق" بقوله: تصفق بظهر كف على بطن أخرى ونحوه، لا بطن على بطن، فقوله: "بظهر كف على بطن أخرى" دخل فيه الصورتان الأخيرتان، وقوله: ونحوه، دخل فيه الأولتان. وعبر في "شرح المهذب" بعبارة أخرى يمكن تنزيلها على ما ذكره في "التحقيق". وتعبير الرافعي بقوله: الأيمن والأيسر خطأ، وصوابه اليمين واليسرى لأن الكف مؤنثة. قوله: ومنها لو أشرف إنسان على الهلاك فأراد إنذاره، ولم يحصل إلا بالكلام تكلم. وفي بطلان صلاته وجهان: أصحهما عند الأكثرين: نعم. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على تصحيح البطلان إلا أنه لم ينقله عن الأكثرين، ثم صحح في "التحقيق" عدم البطلان فقال ما نصه: ولو رأى مشرفًا على الهلاك كأعمى وصبي لا يعقل فخاف وقوعه في بئر [أو نار] (¬1) أو غافل أو نائم قصده سبع أوحية أو ظالم لقتله، ولم يكن إنذاره إلا بكلام وجب، والأصح: لا تبطل. هذا لفظه بحروفه؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وذكر في "الشرح" ما يقتضيه أيضًا. فإنه نقل عن أبي إسحاق المروزي عدم البطلان ونقل تصحيحه عن القاضي أبي الطيب في "التعليق" وعن الشيخ في "المهذب"، والمتولي في "التتمة" ولم ينقل البطلان إلا عن تصحيح الرافعي فقط. ورأيت في "الترغيب" للشاشي أن أصح الوجهين عدم البطلان، وصححه أيضًا في "البيان" والماوردي في "الحاوي". الأمر الثاني: أنه احترز بقوله: "ولم يحصل إلا بالكلام"، عن الفعل، ولم يصرح هو ولا النووي بحكمه، ولا شك أنه إن كان قليلًا كخطوة وخطوتين أتى بهما، ولا إشكال. وإن كان كثيرًا فله حالتان: إحداهما: أن لا يحصل الإنذار إلا بالفعل كما في الصغير الذي لا يميز، والأعمى الأصم، فإذا مشى إليه خطوات فيحتمل أن يقال لا يلحق بالقول، بل تبطل الصلاة قطعًا لأن الإجابة بالكلام خرجت بالنص، وهو جواب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبقى ما عداها من البطلان على الأصل، ولأن الفعل أقوى من القول، ويحتمل إلحاقه [به] (¬1) وهو المتجه، لأن الكلام أشد منافاة للصلاة من الفعل بدليل اغتفار الفعل اليسير كقتل الحية والعقرب والخطوة والخطوتين، وحمله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمامة، وغير ذلك، وقد صرح الأصحاب بهذه الأولوية، وحينئذ فإذا ثبت عدم الإبطال بالقول فبالفعل أولى. وعلى هذا يتم صلاته في الموضع الذي انتهى إليه ولا يعود إلى مكانه إلا في الموضع الذي يجوزه في سبق الحدث، وقد رجح الطبري شارح "التنبيه" الاحتمال الثاني فقال: إنه الظاهر، إلا أنه لم يقرره بما ذكرته، ويأتي أيضًا ما ذكرناه فيما إذا استدعى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عصره رجلًا، وقريب ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

مما نحن فيه ما ذكره في "الشامل" وهو أنه لو فعل فعلًا واجبًا في الصلاة من رد وديعة وتفرقة زكاة بطلت صلاته إذا كان كثيرًا لإمكانه قبلها أو بعدها بخلاف القول، وفي تعليله نظر. الحالة الثانية: أن يمكن حصوله بالقول وبالفعل، فإن أبطلنا تخير، وإلا فيحصل على التفريق السابق ثلاث احتمالات. أظهرها: نفي الفعل. والثاني: القول. والثالث: التخير. ومما يتعلق بهذا الفصل إذا ناداه أحد الوالدين في الصلاة ففيه وجوه حكاها الروياني في باب إمامة المرأة من "البحر": أحدها: تلزمه الإجابة وتبطل الصلاة، [وقيل: تبطل إذا قصد] (¬1). والثاني: تلزم ولا تبطل. والثالث: لا تلزم بالكلية، قال: وهو أصح عندي، وذكر ابن الرفعة في "المطلب" أنه لم ير في المسألة نقلًا. قوله: فإن أتى بشئ من نظم القرآن قاصدًا به القراءة أو القراءة مع شئ آخر كتنبيه الإمام أو غيره أو الفتح على من ارتج عليه أو تفهيم أمر، لم تبطل صلاته، وقيل: تبطل إذا قصد مع القراءة شيئًا آخر. [ولو قصد الإعلام فقط بطلت صلاته. انتهى. أهمل قسمًا آخر] (¬2) وهو ما إذا لم يقصد شيئًا بالكلية، وكذلك أهمله في "الروضة" أيضًا وقد اختلف فيه كلام المتأخرين، فالذي دل عليه كلام "الحاوي الصغير" أنها لا تبطل فإنه قال: تبطل الصلاة بكذا ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من ب.

وكذا، ثم قال: وبالقراءة والذكر لمجرد التفهيم. هذا لفظه. وبه جزم الحموي شارح "الوسيط" قال: لأن الظاهر القراءة، وجزم في "التحقيق" بأنها تبطل فقال: ولو نطق بنظم قرآن كـ "ادخلوها بسلام" و"يا يحيى خذ الكتاب" وقصد تلاوة [لم تبطل، وكذا تلاوة] (¬1) وإعلامًا على المذهب أو إعلامًا أو أطلق بطلت. هذا لفظه وصرح بذلك أيضًا في "دقائق المنهاج"، وذكر في "شرح المهذب" نحوه فقال: وإن لم يقصد شيئًا فظاهر كلام المصنف وغيره أنها تبطل، وينبغي أن يفرق بين أن يكون قد انتهى في قراءته إليها فلا تبطل، وإلا فتبطل. انتهى كلامه. واعلم أن هذه الأقسام الأربعة تجري في الجنب أيضًا، فإذا قال مثلًا: "سبحان الذي سخر لنا هذا" ونحوه فحاصل ما ذكره الرافعي فيه أنه يحرم إذا قصد القراءة سواء قصد معه الذكر أم لا، ولا يحرم إذا قصد الذكر، وكذلك أيضًا إذا أطلق تغليبًا للذكر. ويجري أيضًا في الأيمان، فإذا حلف لا يكمله فأتى بآية فهم المحلوف عليه بها ما قصده الحالف، قال الرافعي: فلا يحنث إن قصد القراءة، وإلا حنث. هذا لفظه. وحاصله عدم الحنث عند قصد القراءة سواء كان معه قصد كلامه أم لا، والحنث إذا قصد كلامه وكذا إذا أطلق تغليبًا للكلام، وهو موافق للمذكور في الجنابة. فتلخص لنا أن الإطلاق في المسائل الثلاث على حد واحد عند النووي لأنه غلب هنا كلام الآدمي فحكم بالإبطال، وهو موافق للجواز في الجنب، ولكونه يحنث في اليمين. وأما على ما في [الخلاف] (¬2) من عدم الإبطال هنا فإنه لا يوافق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: الحاوي.

تجويزه للحنث، وقد سبق منه هناك الموافقه عليه. وقد تقدم الكلام على "ارتج" في الكلام على قراءة الفاتحة. قوله: ولو أتى بكلمات لا توجد في [القرآن] (¬1) على نظمها ويؤخذ مفرداتها مثل أن يقول: يا إبراهيم سلام كن، بطلت صلاته. انتهى. ولو فرق هذه الكلمات ولم يصل بعضها ببعض وقصد به القرآن لم تبطل، كذا صرح به المتولي ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره، وتعبير الرافعي بالنظم يدل عليه. وقال الشاشي: عندي أنه مبطل، لأنه لا قرآن ولا ذكر. قوله: نعم ما فيه خطاب مخلوق غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب الاحتراز عنه، فلا يجوز أن يقول للعاطس: رحمك الله. وعن يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي أنه لا يضر ذلك، وصححه الروياني. انتهى. وهذا القول مشهور معروف، وقد نص عليه الشافعي في "الأم" وجزم به، وكذلك في "البويطي". وكلام الرافعي يقتضي استغرابه حتى أن النووي ذكر في "شرح المهذب" أن المنصوص في كتبه كلها أنه يضر، ويدل على صحة هذا القول أنه إذا قال: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} (¬2) بقصد التلاوة والخطاب لا يضر على المشهور، فكذلك "يرحمك الله" بقصد الدعاء. وكلام الرافعي يقتضي البطلان إذا خاطب ملكًا أو نبيًا غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد يقال: إنما اغتفر الخطاب في السلام الواقع في آخر الصلاة لأجل الملائكة. ¬

_ (¬1) في أ: القراءة. (¬2) سورة الحجر (46).

قوله: الثانية: السكوت اليسير في الصلاة لا يضر بحال، وفي السكوت الطويل إذا تعمده وجهان: أصحهما: أنه لا يضر أيضًا. وخص في "التهذيب" الوجهين بما إذا سكت لغير غرض، فأما إذا سكت لغرض بأن نسى شيئًا فوقف ليتذكره فلا تبطل صلاته بلا محالة. انتهى كلامه. والذي ذكره البغوي ليس طريقة مخالفة للأكثرين بل كلام الباقين محمول عليها، كذا سلكه الرافعي -رحمه الله- في "الشرح الصغير" وعبر بقوله: لم تبطل بلا خلاف، ولم يقف النووي على "الشرح الصغير" وفهم أنها طريقة ضعيفة فأثبت الخلاف في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما، وعبر بالمذهب إلا أنه صحح طريقة القطع فقال: لم تبطل على المذهب وبه قطع الجمهور. وحكى جماعة من الخراسانيين في بطلانها وجهين، وهو ضعيف، هذه عبارته في "شرح المهذب" لكن كلام الرافعي يدل إما على نفي الخلاف بالكلية أو على تصحيح طريقة الخلاف فاعلمه. قوله: ولو سكت كثيرًا ناسيًا، وقلنا: عمده مبطل، فطريقان: أحدهما: التخريج على الخلاف في الكلام الكثير ناسيًا. والثاني: لا يضر جزمًا. قال في "الوسيط": وهذا أصح. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الأصح هي الطريقة القاطعة، كذا صححها في "شرح المهذب" فقال: إنها المذهب، ولم يصحح في "الروضة" شيئًا منها. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" لم يبين ما هما الوجهان اللذان خرجت عليهما الطريقة الأولى بل عبر بقوله: على الوجهين، ولم يزد

الشرط الخامس: ترك الأفعال

على ذلك وهو غريب. الثالث: قد سبق في الفاتحة أن السكوت الكبير في أثنائها يضر على الصحيح، فلو كان ذلك ناسيًا لم يضر كما قاله الجمهور، ونص عليه الشافعي ومال الإمام إلى أنه يضر، وتابعه الغزالي فجعل المسألة على التردد، كذا ذكره الرافعي هناك. والمسألة نظير المسألة، ولكن الخلاف هناك غير معروف، ولهذا ادعى في "تصحيح التنبيه" أنه لا خلاف فيحتاج إلى الفرق. قوله: ولو أشار في الصلاة إشارة مفهمة فقد أفتى الغزالى بعدم البطلان، ورأيت لوالدي وجهًا أنها تبطل. انتهى. والأصح منهما عدم البطلان، كذا صححه الرافعي في كتاب الطلاق في الكلام على الكنايات، وعبر بالصحيح، وقال النووي في "التحقيق": إنه المذهب، وفي "شرح المهذب": إنه المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، وصححه أيضًا هنا في "أصل الروضة" فاعلمه. وما نقله الرافعي عن والده من البطلان جزم به القاضي حسين في "فتاويه". الشرط الخامس: ترك الأفعال. قوله: ما ليس من أفعال الصلاة ضربان: أحدهما: ما هو من جنسها، فينظر إن فعله عامدًا بطلت صلاته سواء كثر أو قل كركوع وسجود ونحوهما لأنه تلاعب بالصلاة. انتهى كلامه. وأشار بقوله: ونحوهما إلى القيام وإلى القعود الطويل، واحترز بالقعود الطويل عما إذا هوى للسجود فجلس قبل سجوده جلسة خفيفة أي لا تزيد علي مقدار جلسة الاستراحة، فإن صلاته لا تبطل كما قاله الرافعي في باب سجود السهو، ومثله ما إذا سجد للتلاوة ثم جلس للاستراحة قبل القيام. ولو كان قائمًا فجلس ثم قام بطلت صلاته لا لعين القيام بل لكونه قطع القيام ثم عاد إليه فكأنه أتى بقومتين، قاله الإمام.

نعم لو ركع قبل الإمام أو سجد فإنه يجوز له العود ثانيًا كما تقف عليه إن شاء الله تعالى في صلاة الجماعة مع أنه يصدق أن يقال: قد زاد ركوعًا ونحوه ولو كان قائمًا فانتهى إلى حد الركوع لقتل حية أو عقرب لم يضر، كذا قاله الخوارزمي في "الكافي". وقد دخل في كلام الرافعي ما إذا سجد على مكان خشن فخاف أن تتجرح جبهته فرفع رأسه ثم سجد ثانيًا. وللقاضي حسين فيها احتمالان: أحدهما: البطلان مطلقًا. والثاني: أنه إن كان قد تحامل على الشئ الخشن بثقل رأسه بطلت صلاته بالعود وطريقه فيه أن يزحف جبهته قليلًا، ولا يرفع رأسه، وإن لم يكن قد تحامل لم تبطل لأنه عمل قليل، ويجريان فيما لو سجد على يده ثم رفعها وسجد على الأرض. قوله: الضرب الثاني: ما ليس من أفعال الصلاة فيفرق فيه بين القليل والكثير بلا خلاف لأنه -عليه الصلاة والسلام- صلى وهو حامل أمامة بنت بنته، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها (¬1)، وأخذ بأذن ابن عباس فأداره من شماله إلى يمينه (¬2)، ورد السلام بالإشارة (¬3)، وأمر بقتل الأسودين الحية والعقرب في الصلاة (¬4)، ودخل أبو بكرة المسجد والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع فأحرم منفردًا، وركع خوفًا من فوات الركعة ثم خطا خطوة ودخل ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (410) والبخاري (494) ومسلم (543) وأبو داود (917) والنسائي (827) وأحمد (22577) وابن حبان (1109) والشافعي (76) والطبراني في "الكبير" (22/ 438) حديث (1067) وفي "الصغير" (436) والبيهقي في "الكبرى" (3234) من حديث أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (5957) ومسلم (763) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) أخرجه أبو داود (925) والنسائي (1186) وابن حبان (2259) والطبراني في "الكبير" (7293) والبيهقي في "الشعب" (9104) من حديث صهيب - رضي الله عنه -. قال الشيخ الألباني: صحيح. (¬4) أخرجه أبو داود (921) والترمذي (390) والنسائي (1202) و (1203) وابن ماجة =

الصف فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "زادك الله حرصًا ولا تعد" (¬1). [والمعني] (¬2) فيه أنه يعسر أو يتعذر على الإنسان السكون على هيئة واحدة في زمان طويل، ولا يخلو عن حركة واضطراب، ولابد للمصلي من رعاية التعظيم والخشوع، فعفي عن القدر الذي لا يحمل على الاستهانة بهيئة الخشوع، ثم قال: والكثير بالعرف، وقيل: ما يظن أن فاعله ليس في صلاة، [وضعفوه] (¬3). وقيل: ما يسع ركعة، وقيل: ما يحتاج فيه إلى كلتى اليدين ككور العمامة لا لرفعها [وحل] (¬4) أنشوطة السراويل. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره أولًا في تقرير العفو عن القليل دون الكثير إنما يستقيم على الحد الثاني الذي ضعفه فتأمله. الثاني: أنه يقتضي أن الخشوع شرط، والصحيح على ما ذكره في صلاة الجماعة خلافه. الثالث: أنه قد أعاد الخلاف في حد الطويل والقصير في أثناء سجود السهو قبيل قوله: قال: قواعد أربع، وجعل مقدار الركعة عند من يضبط بها قليلًا، وأن الطويل ما زاد عليها على خلاف ما ذكره هنا، ثم إنه حكاه قولًا لا وجهًا، وستعرف لفظه في موضعه. ¬

_ = (1245) وأحمد (7178) والدارمي (1504) وابن خزيمة (869) وابن حبان (2351) والحاكم (939) وعبد الرزاق (1754) وابن أبي شيبة (1/ 431) والبيهقي في "الكبرى" (3251) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 45) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه. وقال الألباني: صحيح. (¬1) أخرجه البخاري (750) وأبو داود (683) والنسائي (871). (¬2) في أ: والمعتبر. (¬3) في أ: وضعفه. (¬4) سقط من أ.

وكور العمامة سبق إيضاحه في السجود. والأنشوطة: بنون ثم شين معجمة وطاء مهملة قال ابن فارس وغيره: الأنشوطة: العقدة تنحل إذا مدّ طرفها، يقال: أنشطت الحبل إذا عقدت، وأنشطت إذا حللت. ومنه خبر الرُقيا "كأنما أنشط من عقال" فيكون من الأضداد. واعلم أن حمل أمامة وإدارة ابن عباس رواهما البخاري ومسلم. والتسليم بالإشارة، والأمر بقتل الأسودين رواهما الترمذي، وصححهما. وحديث أبي بكرة رواه البخاري، وأبو بكرة بتاء في آخره تقدم الكلام عليه في أوائل المسح على الخف. قوله: فأما الحركات الخفيفة إذا كثرت وتوالت كتحريك الأصابع في تسبيحة أو حكة أو عقد أو حل فلا يضر في أظهر الوجهين. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكر بعد هذا في الكلام على الأكل أن المضغ وحده فعل حتى يكون الكثير منه مبطلًا، وإن لم يصل إلى الجوف شئ مع أن [الذكر] (¬1) الذي ذكره من الأفعال الخفيفة. الأمر الثاني: إذا قلنا بالإبطال في تحريك الأصابع، فهل يكون الذهاب والإياب مرة واحدة أو مرتين؟ لم ينبه الرافعي ولا النووي عليه، وقَلَّ من تعرض له أيضًا. وقد بينه الخوارزمي في "الكافي" فقال: إن ذلك مرة واحدة، قال: وكذا رفع اليد عن الصدر ووضعها في محل الحك. الثالث: أن تقييد الرافعي هذه المسألة بتحريك الأصابع قد يؤخذ منه أن ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

تحريك اليد بذلك مبطل، وقد جزم به الخوارزمي في "الكافي" أيضًا، وأنه لا فرق في الأصابع بين الثلاث، وما زاد، وجعل في "البسيط" محل الخلاف فيما زاد على الثلاث، وجزم في تحريك الثلاث بعدم البطلان. قوله: وقد حكي عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه لو كان بعد الآي في صلاته عقدا باليد لم تبطل صلاته، وإن كان الأولى أن لا يفعله. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وقد رأيت هذا النص في "الأم" في كتاب اختلاف العراقيين وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وهو مذكور بعد باب قطع العبد فقال في باب صلاة الخوف من الكتاب المذكور ما نصه: وذكر عن الحكم أيضًا عن إبراهيم أنه قال: لا بأس بِعَدّ الآي في الصلاة. قال الشافعي: ولو ترك عَدَّ الآي في الصلاة كان أحب إلىّ. هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. ومقتضاه عدم الكراهة، وبه صرح في "شرح المهذب" فقال: مذهبنا أنه لا يكره، بل هو خلاف الأولى، قال: وهو مراد "المهذب" بقوله: إنه يكره ألا ترى إلى قوله بعد ذلك: فكان خلاف الأولى. هذا كلامه. إذا علمت ذلك فقد جزم في "التحقيق" بأن ذلك مكروه ذكر ذلك في آخر [هذا] (¬1) الباب، وهو غريب، وكلام النووي في "شرح المهذب" يوهم أن عدم الكراهة متفق عليه، وليس كذلك، فقد نقل في "البحر" عن "الحاوي" ما يقتضي أنه مكروه، وجزم به الجرجاني في "الشافي". قوله: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا مر المار بين يدي أحدكم وهو في الصلاة فليدفعه فإن أبى فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنه شيطان" (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ. (¬2) انظر الآتي.

وروي البخاري -رحمه الله- في "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان" (¬1). انتهى. وقوله في الحديث الأول وهو الذي ليس فيه ذكر السترة: "فإن أبى فليدفعه" وقع في أكثر نسخ الرافعي تكراره ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي "الوجيز" مرة، والحديث روى الشيخان معناه. قوله: والمستحب للمصلي أن يكون بين يديه سترة من جدار أو سارية أو غيرهما، ويدنوا منها بحيث لا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع. ولو كان في صحراء فينبغي أن يغرز عصا أو نحوها، أو يجمع شيئا من رحله، ومتاعه، وليكن قدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد شيئًا شاخصًا خط بين يديه خطًّا أو بسط مصلي، لما روى عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر بين يديه" (¬2)، وذكر الإمام والغزالي أن الخط لا يكفي لأن الشافعي مال إليه في القديم، ولكن رواه في الجديد ثم خط عليه، ولأنه لا يظهر. انتهى ملخصًا. والسارية هي العمود ونحوه، ومؤخرة الرحل بسكون الهمزة، وكسر الخاء المعجمة، سبق الكلام عليها في استقبال القبلة. إذا علمت ذلك ففيه أمور: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (487) ومسلم (505). (¬2) أخرجه أبو داود (689) وابن ماجه (943) وأحمد (7386) وابن خزيمة (811) وابن حبان (2361) و (2376) والطيالسي (2592) والبيهقي في "الكبرى" (3279) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال الدارقطني: لا يثبت. كما ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي والألباني وغيرهم.

أحدها: أن هذا الترتيب الذي ذكره في السترة قد تابعه عليه في "الروضة"، لكنه خالفه في "المنهاج" فخير بين الجميع فقال: ويسن للمصلى إلى جدار أو سارية أو عصا مغروزة أو بسط مصلي أو خط [قبالته] (¬1) دفع المار. وخالفهما في "التحقيق" فقال: فإن عجز عن سترة بسط مصلي، فإن عجز خط خطًّا على المذهب. هذه عبارته، فرتب حتى بين الخط والمصلى وذكر نحوه في "شرح مسلم" وزاد فقال نقلًا عن الأصحاب: فإن لم يجد عصا ونحوها جمع أحجارًا أو ترابًا أو متاعًا، وإلا فليبسط مصلى، وإلا فليخط خطًّا. وعبارة "المحرر": إذا استقبل المصلى جدارًا أو سارية أو غرز في الصحراء بين يديه خشبة أو بسط مصلى أو خط خطًّا. هذه عبارته. ولا شك أن ما اقتضاه كلام الرافعي من أن شرط الخشبة المغروزة والمتاع الموضوع فقدان الشاخص، لم يرد به حقيقته، وإنما جرى ذلك على سبيل الغالب من أحوال المسافرين في عدم الجدار ونحوه. وأما الخط والمصلي فالحق أنهما في مرتبة واحدة لأن المصلي لم يرد فيه خبر ولا أثر، وإنما أخذوه بالقياس على الخط بجامع أنه [علامة، فكيف يكون مقدمًا عليه، ولهذا قال في "الإقليد": الحق أن] (¬2) مذهب الشافعي أن الخط لا يكفي، قال: ومن يقول بالاكتفاء فيكون هو والمصلي في درجة واحدة، وما عزاه إلى مذهب الشافعي سببه ما اشتهر أن الاكتفاء به نص عليه في القديم، وأنه نص في "البويطي" على أنه لا يكفي، لكن قد نص في "سنن حرملة" على استحبابه، وممن نقله عنه النووي في "الروضة" وغيرها، وهو من الكتب الجديدة. [الأمر الثاني: لم يبين هيئة الخط، وقد اختلفوا فيه فقيل: يجعل مثل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

الهلال، وقيل: يمد يمينًا وشمالًا، وقيل: طولًا إلى جهة القبلة، واختاره في "الروضة"] (¬1). الأمر الثالث: أن الرافعي قد سكت عن قدر المصلي والخط والقياس أنهما كالشاخص. [الرابع: ] (¬2) أن ما ذكره عن الغزالي من عدم الاكتفاء بالخط هو كذلك في "الوسيط" و"الوجيز"، ولكنه قد ذكر بعد ذلك في "الخلاصة" أنه يكفي، وذكر في "الإحياء" ما يدل عليه فقال: وليكن نظره محصورًا على مصلاه الذي يصلي عليه، فإن لم يكن مصلى فليقرب من جدار أو ليخط خطًّا، فإن ذلك يقصر مسافة البصر، ويمنع تفرق الفكر. هذه عبارته، وإن كان قد ساقه لمعنى آخر. والحديث الذي ذكره الرافعي رواه أبو داود، وصححه الإمام أحمد وابن المنذر وابن حبان، وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى. وضعفه الدارقطني وغيره، وجزم به في "الروضة". قوله: وإذا وجدت السترة المذكورة حرم المرور في أظهر الوجهين لأنه صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لو يعلم المار [بين يدي المصلي [ما] (¬3) عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرًا [له] (¬4) من أن يمر] (¬5) بين يديه. . . ." والإثم إنما يلحق بالحرام. انتهى. والحديث مذكور في "الصحيحين" (¬6). وأما التصريح بقوله: "من الإثم" ففي بعض روايات أبي ذر عن أبي ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: الواقع. (¬3) في جـ: ماذا. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ. (¬6) البخاري (488) ومسلم (507).

الهيثم في "صحيح البخاري" وذهل ابن الصلاح عن هذه [الروايات] (¬1) فقال في "مشكل الوسيط": وليس في الحديث لفظ "الإثم" صريحًا. لكن ترجم البخاري وغيره عليه بباب: إثم المار وتابعه أيضًا النووي على هذا الذهول فقال في "شرح المهذب" عقب ذكر أصل الحديث: وفي رواية رويناها في "كتاب الأربعين" للحافظ عبد القادر الرهاوى: "ماذا عليه من الإثم". قوله في "الروضة": وللمصلي حينئذ أن يدفعه ويضربه على المرور وإن أدى إلى قتله. انتهى. وتعبيره بقوله: "وللمصلي" ذكر الرافعي نحوه، وفيه أمران: أحدهما: أنه يشعر بأن الدفع مباح لا مستحب وليس كذلك، فقد جزم الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" باستحبابه وكذلك النووي في "المنهاج" وغيره، ونقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب بل لقائل أن يقول: لم لا يجب عليه الدفع فإن المرور محرم وهو قادر على إزالته، وإزالة المنكر واجبة، وليس كدفع الصائل حتى تخرج على الخلاف، فإنهم إنما لم يوجبوا ذلك على وجه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" (¬2). واعلم أن هذا الذي جزم به من جواز ذلك، وإن أدى إلى القتل، نقله الرافعي عن "الكافي" للروياني، وحكى الماوردي وجهًا، وصححه أنه مضمون، ولابد في الدفع [فقط] (¬3) من مراعاة الأسهل فالأسهل كما في ¬

_ (¬1) في جـ: الرواية. (¬2) أخرجه أحمد (21101) والطبراني في "الكبير" (3630) وأبو يعلى (7215) وابن أبي شيبة (7/ 555)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (283) من حديث عبد الله بن خباب عن أبيه مرفوعًا. وفي الباب عن خالد بن عرفطة، والحديث صحيح. (¬3) سقط من أ.

الصائل، كذا نبه عليه في "شرح المهذب" وهو واضح. الثاني: أن غير المصلي لا يكون حكمه كذلك، والمتجه إلحاقه به فيه وعبروا "بالمصلي" نظرًا إلى الغالب. قوله: وإذا لم تكن سترة أو كانت وتباعد عنها أكثر من ثلاثة أذرع، لم يكن له الدفع في أظهر الوجهين لتقصيره. ورواية الصحيح مقيدة بما إذا صلى إلى السترة والمطلق محمول على المقيد. قال في "الروضة": ولا يحرم المرور حينئذ، ولكن الأولى تركه. انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه لا يجوز المرور في هذه الحالة في حريم المصلى وهو قدر إمكان السجود، كذا نبه عليه الخوارزمي في "الكافي". وقياسه جواز الدفع. الثاني: أن ما ذكره من أن تركه خلاف الأولى قد خالفه في "التحقيق" و"شرح مسلم" فجزم فيهما بالكراهة. الثالث: أن ما ذكره من كون المطلق محمولًا على المقيد، إشارته إلى الحديثين المذكورين في أول الفصل. إذا علمت ذلك فاعلم أن هذا ليس من باب حمل المطلق على المقيد بل الصلاة إلى سترة بعض أفراد الصلاة الداخلة في الحديث الذي لم يذكر فيه السترة، وذكر بعض أفراد العموم لا يقتضي التخصيص على المشهور عند الأصوليين. نعم الحديث الثاني وهو قوله: "إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره. ." إلى آخره. قد وقع فيه التقييد بالسترة في الجملة الواقعة شرطًا

فيدل بمفهومه على أنه لا يجوز الدفع إذا صلى لغير سترة، وتخصيص المنطوق بالمفهوم جائز على الصحيح. قوله: وحكى صاحب "البيان" عن المسعودي أن الخط كالسترة في امتناع المرور، وولاية الدفع. انتهى. والمراد بالمسعودي هنا، وفي كل موضع نقل عنه صاحب "البيان" إنما هو الفوراني، وسببه أن "الإبانة" له -أى: للفوراني- وقعت في إقليم اليمن منسوبة إلى المسعودي، فاغتر به صاحب "البيان" من جملة من اغتر فاعلم ذلك. وقد نبه عليه ابن الصلاح في ["الطبقات"] (¬1) وغيرها، ونقله عنه ابن خلكان أيضًا في "تاريخه". قوله: قال إمام الحرمين: والنهي عن المرور، والأمر بالدفع محله إذا وجد المار سبيلًا سواه، فإن لم يجد وازدحم الناس فلا نهى عن المرور، ولا يشرع الدفع، وتابعه الغزالي عليه، وفيه إشكال لأن البخاري روى في "صحيحه" (¬2) ما يخالفه، وهو ما رواه عن أبي [صالح] (¬3) السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- في يوم الجمعة يصلي إلى سترة، فأراد شاب أن يمر بين يديه فدفعه أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساعًا إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فلما عوتب في ذلك روى الحديث الذي قدمناه في أول الفصل، وأكثر الكتب ساكتة عن تقييد المنع. قال في "الروضة" من زياداته: الصواب أنه لا فرق بين وجود السبيل وعدمه، فحديث البخاري صريح في المنع، ولم يرد شئ يخالفه، ولا في كتب المذهب لغير الإمام. انتهى ما قالاه. ¬

_ (¬1) في جـ: طبقاته. (¬2) حديث (487). (¬3) سقط من جـ.

وفيه أمور: أحدها: أن الإمام -رحمه الله- لم يذكر هذا التقييد من قبل نفسه، بل صرح بنقله عن الأئمة. الأمر الثاني: أن الرافعي قد نقل أنه يجوز المرور بين يدي الصف الثاني لسد الفرجة التي في الصف الأول وعلله بتقصيرهم، ويؤخذ من ذلك أن المصلي إذا كان منسوبًا إلى التقصير بالصلاة في المكان لا يكره المرور بين يديه، وذلك كما إذا صلى في قارعة الطريق، كذا نبه عليه في "الكفاية" وهو واضح، وحينئذ فيصح حمل كلام [الإمام] (¬1) على هذه الصورة التي لابد من استثنائها. وأما التعميم كما يوهمه كلام الرافعي، فلا سبيل إليه. الأمر الثالث: أن ما ذكراه من أن الحديث صريح، ليس كذلك لأن الحجة إنما هي في كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس في الحديث تصريح بالتعميم، بل هو مطلق يحتمل أن يراد به [حالة] (¬2) وجود سبيل آخر فإنه القياس، لاسيما أن العام في الأشياء مطلق في أحوالها. وأما إدخال هذه الصورة فإنه من اجتهاد الراوي، وإنما يرجع إلى الراوي في التفسير ونحوه لا فيما نحن فيه وأمثاله. قوله من "زوائده": وإذا صلى إلى سترة فالسنة أن يجعلها مقابلة ليمينه أو شماله، ولا يصمد لها. انتهى. والصمد هو القصد، يقال: صمد له يصمد -بالضم علي وزن قعد يقعد- إذا جعله تلقاء وجهه. وأطلق الصمد على الله تعالى لأنه الذي يقصد بالعبادة والطلب. وعبر في "شرح المهذب" بالحاجب الأيمن والأيسر، والدليل على هذا الحكم ما رواه المقداد بن الأسود قال: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ.

عود، ولا إلى عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له" (¬1). رواه أبو داود ولم يضعفه، لكن قال البيهقي: تفرد به الوليد بن كامل، وقد قال البخاري: عنده عجائب. قوله: ولو أكل ناسيًا أو جاهلًا بالتحريم، فإن كان قليلًا لم تبطل، وإن كان كثيرًا فوجهان: أصحهما: البطلان، هكذا ذكره الأئمة وجعلوه كالكلام في الصلاة ناسيًا، والأكل في الصوم ناسيًا، ولم يجعلوه كسائر الأفعال في الصلاة إذ الجمهور على أن الفعل لا فرق فيه بين العمد والسهو على ما تقدم. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه لم يفصل هنا بين أن يكون قريب عهد بإسلام ونحوه، وهو الناشئ في البادية وبين أن لا يكون كذلك. وقد ذكر -أعني: الرافعي- هذا التفصيل في نظير المسألة، وهو الأكل في الصوم جاهلًا بتحريمه وسأذكر لفظه هناك -إن شاء الله تعالى- لهذا الغرض ولغيره مما يتعلق بمسألتنا فراجعه. الأمر الثاني: أنه أشار بقوله: "هكذا ذكر الأئمة. . . ." إلى آخره، إلى أن الكثير من الكلام والأكل على سبيل النسيان أو الجهل. وإن كان الأصح فيه أن يكون مبطلًا كما في الفعل الكثير نسيانًا إلا أن الجمهور قطعوا به في الفعل، وحكوا في [الباقي] (¬2) وجهين. هذا من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (693) وأحمد (23871)، والطبراني في "الكبير" (20/ 259) حديث (610) والبيهقي في "الكبرى" (3285) و (3286). قال الألباني: ضعيف. (¬2) في أ: الكافي.

كلامه فتفطن له. الأمر الثالث: أن النووي -رحمه الله- قد رجح في "التحقيق" أن الفعل الكثير سهوًا لا يضر فقال: إنه المختار لحديث ذي اليدين، وصححه في "التتمة"، وحكى في "الذخائر" طريقة قاطعة [به] (¬1). قوله: ولو أكل الصائم كثيرًا ناسيًا، فإن لم تبطل الصلاة بالكثير فالصوم أولى. وإن أبطلنا الصلاة ففي الصوم وجهان، ووجه الصحة أن الصوم ليس فيه أفعال منظومة حتى نفرض انقطاعها، وإنما هو الكفاف مجرد النهي. وما ذكره من كون الخلاف مرتبًا قد خالفه في الصوم فجعله مبنيًا وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. خاتمة: قوله: لنا: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربط ثمامة بن أثال في المسجد (¬2). انتهى (¬3). ثمامة وأثال بضم أولهما وبالثاء المثلثة. قال الجوهري: الثمام بضم الثاء المثلثة نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، الواحدة ثمامة وبه سمى الرجل. قال: وأثال بضم الهمزة، وفتح الثاء المثلثة اسم جبل، قال: وبه سمى الرجل، والحديث المذكور صحيح. قوله: فإن كان الكافر جنبًا فهل يمنع من المكث فى المسجد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. والكافرة الحائض تمنع حيث تمنع المسألة لأن المنع منه لخوف التلوث. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري (450) ومسلم (1764) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) في جـ: انتهى.

وما ذكره من منع الكافرة الحائض من المكث قد صرح بخلافه في كتاب اللعان، وسنقف على لفظه هناك، وتبعه النووي في "الروضة" على الموضعين والمعروف: المنع، وبه جزم في أوائل الحيض من "شرح المهذب" وبالغ فادعى أنه لا خلاف فيه. قوله: وكذا الصبيان والمجانين يمنعون من دخوله. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه وهو يقتضي تحريم إدخالهم كالذي قبله، وليس كذلك مطلقًا، بل إن غلب تنجيسهم له وجب منعهم، وإلا فلا، كذا ذكره في أوائل الشهادات من زوائده. وأطلق في باب ما يوجب الغسل من "شرح المهذب" أنه يجوز مع الكراهة، وستأتي المسألة أيضًا في الشهادات. قوله من زياداته: والبصاق في المسجد خطيئة فإن خالف فبصق فقد ارتكب النهي، ويكره غرص الشجر فيه، فإن غرس قطعه الإمام. قال الصيمري: ويكره حفر البئر فيه، ويكره عمل الصنائع فيه، ولا بأس بالأكل والشرب والوضوء إذا لم يتأذ به الناس. انتهى. وهو مشتمل على مسائل: الأولى: البصاق في المسجد وإنما عبر بكونه خطيئة ولم يصرح بحرمته ولا كراهته لأن الحكم ليس مذكور في الكتب المتداولة غالبًا، ولذلك لم يذكره الرافعي ولا ابن الرفعة أيضًا، فعبر بالخطيئة لأنه لفظ الحديث. وقد تتبعت ذلك فوجدت الأصحاب قائلين بالكراهة كذا صرح به المحاملي في "التجريد" و"المقنع" بعد الكلام على ستر العورة، وسليم الرازي في "التقريب" و"المجرد" في الموضع المذكور أيضًا، وأبو العباس الجرجاني في كتابه "الشافي" وأبو المحاسن الروياني في "البحر"، وأبو الخير اليمني في "البيان"، وقد ذكر النووي في باب ما يفسد الصلاة من

"شرح المهذب" و"التحقيق" أنه حرام وكأنه تمسك بظاهر لفظ الحديث. المسألة الثانية: غرس الشجر في المسجد والحكم بكراهته، قد رأيته أيضًا في "شرح الكفاية" للصيمري وهو مشكل، بل ينبغي تحريمه، فإن البقعة مستحقة للصلاة، وقد صحح الرافعي في الصلح أنه يحرم غرس شجرة أو نصب دكة في الطريق الواسع وتبعه هو عليه -أعني: النووي- وعلله الرافعي بأن الموضع مستحق للمشي، وقد أشغله، وهذا بعينه موجود هنا. وقد جزم البغوي في "فتاويه" بتحريم الغرس كما ذكرته بحثًا، ذكر ذلك في كتاب الوقف، وجزم به أيضًا القاضي الحسين في "تعليقه" في أواخر باب الصلاة بالنجاسة فقال: فرع: لا يجوز للرجل أن يغرس في المسجد غرسًا، ولا أن يحفر فيه بئرًا أو حوضًا، ولا أن يبني فيه منارة، ولا أن يضرب فيه اللبنات ويضعها في زاوية منه، أو يجمع الحشيش في موضع منه لأن هذه الأشياء تشغل موضع الصلاة، وقيل: إن اتخاذ المنارة أخف لأنه يمكن الصلاة على رأس المنارة بخلاف حفر البئر، ونحوه. وهكذا لا يجوز الاستطراق في المسجد من غير غرض صحيح له فيه، ولو اتخذ سردابًا تحت المسجد ليسكن فيه من حر الشمس جاز، لأنه يمكن الصلاة فيه. هذا كلام القاضي الحسين. وهو مشتمل على نفائس وهو الصواب. ثم إن ما ذكره إنما يتخيل عند فقدان الضيق، فإن ضيق على المصلين فلا سبيل إلى غير التحريم وقد ذكر ذلك في الباب الرابع في موجب الدية مع تفصيل آخر يخالف المذكور هنا، فإنه تكلم أولًا على الحفر في الشارع فذكر ما حاصله أن الحفر فيه يمتنع عند الضرر مطلقًا، فإن لم يضر جاز لمصلحة عامة سواء أذن الإمام أم لم يأذن، ويجوز لفرض نفسه بإذن الإمام،

ثم ذكر بعده أن الحفر في المسجد مثله فقال: فرع: الحفر في المسجد كالحفر في الشارع. هذه عبارته. فعلم أن فيه أيضًا هذا التفصيل. المسألة الثالثة: في قطع هذه الشجرة، وما جزم به من جواز ذلك. قد نقل القاضي حسين في كتاب الاعتكاف عن الأصحاب عكسه فقال نقلًا عنهم: إنه لا يجوز ذلك لأنها صارت ملكًا للمسجد. المسألة الرابعة: حفر البئر والكلام فيها كالكلام في الغرس. المسألة الخامسة: عمل الصنائع، وليس الأمر كما أطلقه فيها من الكراهة، بل محله إذا كثر، فإن لم يكثر فلا يكره اللهم إلا إذا قعد لذلك، كذا صرح به في كتاب الاعتكاف، بخلاف البيع والشراء، فإنه قد صحح كراهته مطلقًا، ونقله عن نصه في "البويطي" على خلاف ما جزم به الرافعي من كراهة الكثير دون القليل. نعم نص في القديم "والأم" على عدم كراهتهما مطلقًا. كذا رأيته في كلام جماعة منهم المحاملي في كتاب "القولين والوجهين" أيضًا، فإطلاقه كراهة الصنعة ينبغي أن يحمل على تفصيل ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "الفتاوى الموصلية" فقال: لا يجوز أن يعمل فيه صنعة خسيسة تزري به فقال: وأما الكتابة وغيرها مما لا يزري فإنه إنما يجوز بشرط أن لا يبتذل ابتذال الحوانيت على أن الرافعي قد ذكر في إحياء الموات ما يشعر بتحريم الجلوس لكل ما سبق فإنه قال: الجلوس في المسجد للبيع والشراء والحرفة ممنوع منه إذ حرمة المسجد تأبى اتخاذه حانوتًا. هذا كلامه. وعجب من ابن الرفعة في هذه المسألة حيث لم يطلع على كلام الرافعي في شيء من هذه المواضع ولا على نص الشافعي فإنه قال في كتاب البيع

من "المطلب": البيع في المسجد منهي عنه لحديث في الترمذي، ولم أر لأصحابنا تعرضًا لهذا الفرع وأصول الشافعي تقتضيه لذكره هو وأصحابه إنشاد الضالة فيه، وهي جلب فائت وذلك بالتحصيل أليق. هذا كلامه. المسألة السادسة: الوضوء في المسجد، وحكمه عليه بالجواز عند عدم التأذي يخالف ما نقله في الاعتكاف، فإنه نقل هو والرافعي عن "التهذيب" أنه لا يجوز نضح المسجد بالماء المستعمل لأن النفس قد تعافه، وأقراه على ذلك. ورأيت الجزم به أيضًا في "الكافي" للخوارزمي. والحق ما ذكره في هذا الباب فقد ذكر مثله في "شرح مسلم" في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وكذلك في "شرح المهذب" في باب الاعتكاف وفي أثناء الفصل المعقود لأحكام المساجد أيضًا وهو في باب الغسل فقال: صرح صاحب "الشامل" و"التتمة" في باب الاعتكاف بجواز الوضوء في المسجد. ونقل ابن المنذر إباحته عن كل من يحفظ عنه العلم. وأما الذي قاله البغوي فضعيف. انتهى. وليس للمسألة ذكر في "الشرح الصغير".

السجدات

الباب السادس في السجدات وهي ثلاث: سجدة السهو: قوله: ومقتضيه شيئان: ترك مأمور، وارتكاب منهي. انتهى. تابعه في "الروضة" على حصر المقتضي في الشيئين، وقد أهملا سببًا ثالثًا، وهو إيقاع بعض الفرض مع التردد في وجوبه، وذلك فيما إذا شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ فإنه يقوم إلى الرابعة ويسجد لأجل التردد في وجوبها عليه، كما سيأتي إيضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: أما المأمورات، فإن كانت أبعاضًا وهي التي عددناها في أول باب صفة الصلاة يسجد لتركها سهوًا، وكذا عمدًا في الأصح. انتهى. يستثنى من المتروك عمدًا مسألة ذكرها القفال في "فتاويه" فقال: وإن لم يقنت الإمام وهوى للسجود فوقف المأموم بنية القنوت فقنت بطلت صلاته، لأنه مخالف للإمام إلا أن يخرج نفسه من الجماعة كما في التشهد الأول فإذا تابع الإمام ولم يقنت، فإن سجد إمامه للسهو سجد معه، وإن لم يسجد إمامه سجد هو، فإن كان الإمام حنفيًا لا يرى السجود يترك القنوت لم يسجد المأموم لأن ذلك بسهو من الإمام. هذا كلامه. وما ذكره أولًا من بطلان صلاة المأموم بتخلفه للقنوت، قد جزم الرافعي بخلافه فقال: لا يضر إذا لحقه في السجود، وكان الفرق بين القنوت والتشهد على ما قاله الرافعي أنه لم يحدث فى التخلف للقنوت وقوفًا بخلاف التشهد فإنه يحدث له قعودًا، غير أنه ينتقض بما إذا جلس

للاستراحة إلا أن ينازع منازع ويقول: لا يستحب الجلوس لمن ترك التشهد؛ والمتجه خلافه. قوله: وهى -أى الأبعاض- هى التشهد الأول وبقعود له والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، والصلاة على الآل حيث استجبناها في التشهدين، والقنوت إلى آخره، ثم قال: أما التشهد الأول فللحديث، وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأنه لو تركها في التشهد الأخير عامدًا بطلت صلاته فيسجد لها في الأول كالتشهد. انتهى. فيه أمران مهمان نبه عليهما الطبري شارح "التنبيه": أحدهما: أن ترك حكمة من القنوت كترك جميعه على خلاف ما يوهمه كلام الرافعي، والنووى قال: وحكى عن "فتاوى الإمام" احتمال فيما إذا أتى بأكثره أنه لا يسجد. الثاني: أن المراد بالتشهد هو المقدار الواجب في الأخير، وما كان سنة فيه، فإنه لا يسجد لتركه. وتعليل الرافعي يسير إلى ما ذكره فتأمله. وقياس ما سبق في القنوت من تعلق السجود بكلمة منه أن يأتى [هذا] (¬1) في التشهد الواجب مثله أيضًا، وقد تقدم في أوائل صفة الصلاة أمور مهمة في الكلام على الأبعاض فراجعه. قوله: وحكى ابن يونس القزوينى عن البافي أن الداركى ذكر وجهًا فيمن نسي التسبيح في الركوع والسجود أنه يسجد. انتهى. البافي بالباء الموحدة وبالفاء كما سبق إيضاحه في باب الباء. قوله: وأما النهى عنه فما لا تبطل الصلاة بعمده كالالتفات والخطوة والخطوتين لم يسجد لسهوه، وما يبطل بعمده كالركوع يسجد لسهوه. . . . ¬

_ (¬1) في ب: هنا.

إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن هذه القاعدة التى ذكرها يستثنى منها مسائل: إحداها: القنوت في غير محله كما لو قنت قبل الركوع، فإن عمده لا يبطل الصلاة مع أن سهوه يقتضى السجود على الأصح المنصوص كما ذكره النووي من "زياداته" في باب صفة الصلاة. وصورة المسألة أن يقرأه بنية القنوت، فإن لم ينوه به فلا سجود، قاله الخوارزمى في "الكافي". الثانية: إذا طول ركنًا قصيرًا ساهيًا، وقلنا: لو تعمده لم يضر، فإنه يسجد على الصحيح كما ذكره الرافعي والنووي في هذا الباب. الثالثة: إذا نقل ركنًا ذكريًا فإنه يسجد أيضًا على الصحيح كما ذكره الرافعي في "الشرحين" "والمحرر" وتابعه النووى عليه. الرابعة: إذا قرأ في غير موضع القراءة، وإن لم يكن المقروء ركنًا كسورة الإخلاص فإنه يسجد كما ذكره في "شرح المهذب" وقياس التسبيح في القيام أن يكون كذلك أيضًا، وهو مقتضى ما في "شرائط الأحكام" لابن عبدان، نعم لو قرأ السورة قبل الفاتحة لم يسجد كما قال ابن الصباغ، لأن القيام محل لها من العجلة، هكذا لو كرر التشهد ناسيًا أو شك فيه فأعاده، كما قاله القاضى الحسين. الخامسة: إذا فَرَّقَهم في الخوف أربع فِرَق وصلى بكل فِرْقة ركعة، أو فَرَّقَهم فرقتين فصلى بفرقة ركعة وبالفرقة الأخرى ثلاثة فإنه يجوز على المشهور، لكنه يكره، وليسجد للسهو للمخالفة بالانتظار في غير موضعه، كذا ذكره في "الروضة" هناك ناقلًا له عن النص.

السادسة: إذا ترك التشهد [الأول] (¬1) ناسيًا وتذكره بعد ما صار إلي القيام أقرب، فله أن يعود إليه، ثم إذا عاد سجد علي ما صححه الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" وتبعه النووى في "المنهاج" مع أنه لو تعمده لم تبطل صلاته لأنه يجوز له ترك التشهد الأول، وأن ينتصب فإنَّ فِعْل الموجب للسجود في هذه الصورة إنما هو القيام والقعود، وعلى هذا فلا استثناء لأنه لو قام عمدًا حتى صار إلى القيام أقرب ثم عاد بطلت صلاته، كما هو مجزوم به فى "الشرح" و"الروضة" وغيرهما. فالجواب: أن الموجب هنا هو القيام وحده، لأن العود مأمور به، وقد فعله فلم يرتكب بعوده منهيًا، ولا ترك مأمورًا، وهما سبب السجود، فلم يبق إلا القيام وهو منهى عنه. وفائدة هذا البحث أيضًا: أن الإمام لو فعل ذلك ثم قطع المأموم القدوة قبل القعود، فإنه يسجد -أعنى المأموم- لوجود السبب. واعلم أن ما ذكره في "المنهاج" من كونه يسجد في هذه المسألة، قد خالفه في باقى كتبه فقال في "التحقيق": الأظهر أنه لا يسجد، وقال في "تصحيح التنبيه": أنه الأصح، وقال في "شرح المهذب": صححه الجمهور. وكلام "الكبير" و"الروضة" كالمتعارض. وإذا علمت ما تقدم علمت أن الفتوى على عدم السجود لذهاب الأكثرين إليه كما تقدم التصريح بنقله عن "شرح المهذب". السابعة: استثناها ابن الصباغ في "الشامل" وابن أبي الصيف في "النكت" وهو القاصر إذا زاد ركعتين سهوًا، فإنه يسجد مع أنه يجوز له زيادتهما. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

وقال مجلى: وفيه نظر، لأن تعمد الزيادة لا بنية الإتمام مبطل، ولو عَيَّن في النفل عددًا، وزاد عليه فهو كالقصر فيما ذكرناه، هذه المسائل تستثنى من القسم الأول، وهو عدم السجود لما لا يبطل. وأما الثاني: فيستثنى منه ما إذا تنفل علي الدابة فحولها عن صوب مقصده ناسيًا، وعاد على الفور، فإنه لا يسجد على ما هو مقتضى كلام "الروضة" في استقبال القبلة. وصرح بتصحيحه هناك في "التحقيق" و"شرح المهذب"، وإن كان عمده يبطل، وقد تقدمت المسألة هناك مبسوطة. الأمر الثالث: إذا فعل المنهي عنه جاهلًا فإنه يبطل إما لتقليده لمن يراه أو خطأ منه فهل يسجد لذلك أم لا؟ لم يتعرض له المصنف هنا، وقد بسطت القول فيه في الكلام على سجود المأموم لسهو الإمام فراجعه. قوله: إحداها: الاعتدال من الركوع ركن قصير، أُمر المصلى فيه بالتخفيف، ولهذا لم يسن تكرير الذكر المشروع فيه بخلاف التسبيح في الركوع، والسجود، وكأنه ليس مقصودًا لنفسه، وإن كان فرضًا فإنما الغرض منه الفصل بين الركوع والسجود، ولو كان مقصودًا لنفسه لشرع فيه [ذكر] (¬1) واجب، لأن القيام هيئة معتادة فلابد من ذكر يصرفها عن العادة إلى العبادة، كالقيام قبل الركوع، والجلوس في آخر الصلاة، لما كان كل واحد منهما هيئة تشترك فيها العبادة والعادة، وجب فيهما شئ من الذكر، وبهذا الفقه. أجاب أصحابنا أحمد بن حنبل حيث قال بوجوب التسبيح في الركوع والسجود كالقراءة في القيام، والتشهد في القعود فقالوا: الركوع والسجود لا يشترك فيهما العبادة والعادة، بل هما محض عبادة، فلا حاجة إلى ذكر ¬

_ (¬1) في ب: ركن.

مميز بخلاف القيام والقعود. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كون الركن القصير مقصودًا أم لا؟ وقد ذكره الرافعي في ثلاثة مواضع من كتابه واختلف كلامه فيها، وكذلك كلام النووى أيضًا، وقد تقدم ذلك مبسوطًا في باب صفة الصلاة. الثاني: أن كلامه صريح في تحريم حنى الظَّهر لغيره، والحديث الصحيح يدل عليه أيضًا، وهو: "إن أحدنا يجد أخاه في طريقه انحنى ظهره له، قال: لا" (¬1)، وقد ذهل النووى فقلد المتولى في كراهته كما سنعرفه في السير. قوله: ولو طول الاعتدال عمدًا فثلاثة أوجه: أحدها: لا تبطل لما روى عن حذيفة قال: "صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة فقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، ثم ركع، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم رفع رأسه وقام قريبًا من ركوعه ثم سجد" (¬2). والثانى: أنها تبطل إلا حيث ورد الشرع بالتطويل بالقنوت أو في صلاة التسبيح، لأن تطويله تغيير لموضوعه، وهذا ما أورده في "التهذيب" وقال الإمام: إنه ظاهر المذهب. والثالث: إن قنت عمدًا في اعتداله في غير موضعه بطلت، وإن طول بذكر آخر لا بقصد القنوت لم تبطل. انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه لم يبين هو ولا النووي في "الروضة" حقيقة صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2728) وأحمد (13067) وأبو سعيد النقاش في "فوائد العراقيين" (4) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني: حسن. (¬2) أخرجه مسلم (772) والنسائي (1664).

التسبيح، وقد اختلف كلام النووي في بيان حقيقتها فقال في "شرح المهذب": روى ابن عباس -رضى الله عنهما- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للعباس: يا عباس، يا عماه، ألا أعطيك، ألا أمنحك ألا أحبوك، ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك، غفر الله لك ذنبك كله أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته، أن تصلى أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة من القرآن، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرًا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرًا، ثم تسجد فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، ثم تسجد ثانيًا فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا، فذلك خمس وسبعون، في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة" (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في "صحيحه". هذا كلامه. وذكر هذه الكيفية في "الأذكار" إلا أنه لم يذكر العشر المفعولة بعد السجدة الثانية، بل ذكر عوضها عشرًا قبل قراءة الفاتحة. الأمر الثانى: أن النووي -رحمه الله- قد اختلف أيضًا كلامه في استحبابها، وفي صحة الحديث الوارد فيها فقال في "شرح المهذب" بعد ذكره لهذا الحديث: قال القاضى الحسين وصاحب "التهذيب" و"التتمة" ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1297) وابن ماجه (1387) وابن خزيمة (1216) والحاكم (1192) والطبراني فى "الكبير" (11365) و (11622) والبيهقي فى "الكبرى" (4695) من حديث ابن عباس -رضى الله عنهما-، وصححه أبو عليّ بن السكن والحاكم وابن ناصر الدين الدمشقي والحافظ ابن حجر والألبانى وغيرهم.

والرويانى في أواخر كتاب الجنائز من كتابه "البحر" تستحب صلاة التسبيح للحديث الوارد فيه، وفي هذا الاستحباب نظر، لأن حديثها ضعيف، وفيها تغيير لنظم الصلاة المعروف فينبغي أن لا يفعل لغير حديث صحيح، وليس حديثها بثابت. هذا لفظه في باب صلاة التطوع. وذكر في "التحقيق" هناك مثله أيضًا، فقال: وحديثها ضعيف. هذا لفظه، وخالف في "تهذيب الأسماء واللغات" فقال في الكلام على سبح: وأما صلاة التسبيح المعروفة فسميت بذلك لكثرة التسبيح فيها خلاف العادة في غيرها. وقد جاء فيها حديث حسن في كتاب الترمذى وغيره، وذكرها المحاملي، وصاحب "التتمة" وغيرهما من أصحابنا، وهي سنة حسنة. هذا لفظه. وقال ابن الصلاح: إنها سنة، وإن حديثها حسن، وله طرق يعضد بعضها بعضًا، فيعمل به سيما في العبادات. الأمر الثالث: في ضابط ما يحصل به التطويل، وقد ذكره الخوارزمي في "كافيه" نقلًا عن الأصحاب فقال: هو أن يلحق الاعتدال بالقيام للقراءة ويلحق الجلوس بين السجدتين بالجلوس للتشهد، أى: إذا قلنا: إنه قصير كما ستعرفه بعد هذا. وكلام الرافعي "والروضة" في الكلام على نقل الركن القولي يدل على ما ذكره الخوارزمي، فإنهما صورا النقل مع عدم التطويل بما إذا قرأ بعض الفاتحة أو التشهد فدل على أن الكامل منهما يحصل به التطويل. وحديث حذيفة المذكور رواه مسلم في "صحيحه"، وروى البخارى معناه. الرابع: أن النووي -رحمه الله- قد اختار جواز إطالة الاعتدال بالذكر خاصة فقال في "الروضة": إنه الراجح، وفي "التحقيق": إنه

المختار، وفي "شرح المهذب": إنه الأقوى، ووافق في "المنهاج" رأى الجمهور، وهو الذي اختاره، وهو التفصيل بين الذكر وغيره، لم يختر غيره على الإطلاق ثم إن مسلمًا روى عن أنس ما يقتضى أيضًا جواز إطالة الجلوس بين السجدتين بالذكر، وكان ينبغي طرد اختياره [فيه] (¬1)، والظاهر أنه لم يستحضره. قوله: واحتج إمام الحرمين للوجه الأظهر -أى: القائل ببطلان الصلاة بتطويل الاعتدال- بأنه لو جاز تطويله لبطل معنى الموالاة، فإن سائر الأركان قابلة للتطويل، وإذا طوله أيضًا لم تبق الموالاة، ولابد من الموالاة في الصلاة. ولمن ذهب إلى الوجه الأول أن يقول: إن كان معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين أركان الصلاة بما ليس منها، فلا يلزم من تطويله وتطويل سائر الأركان فوات الموالاة [وإلا فلا أسلم اشتراط الموالاة] (¬2) بمعنى آخر. انتهى. وهذا الكلام قد حذفه من "الروضة"، وفيه دلالة على أن الرافعي لم يتحرر له تفسير الموالاة، وهو من الأمور المهمة، وقد تقدم بسطه في أوائل صفة الصلاة، فراجعه. قوله: الرابعة: الجلوس بين السجدتين وفيه وجهان: أحدهما: أنه طويل، حكاه الإمام عن الجمهور. وأصحهما: أنه قصير، وعلى هذا ففي البطلان بتطويله عمدًا الخلاف في الاعتدال. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح كونه قصيرًا إلا أنه أطلق نقل الطويل عن الجمهور، ولم يعزه إلى الإمام كما عزاه الرافعي، وهو ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

عجيب، فإن التصريح بالأصح في مقابلة الجمهور، غير مستعمل غالبًا، وهذا لا يرد على الرافعي بأن تصحيحه منازعة للإمام في النقل عن الجمهور. وصحح في "المنهاج" أيضًا أنه قصير، وكذلك في كتاب صلاة الجماعة من "شرح المهذب" "والتحقيق"، وصحح في هذا الباب من "التحقيق" أيضًا أنه ركن طويل، ونقله هنا في "شرح المهذب" عن الأكثرين، ولم يخالفهم. قوله: الخامسة: سبق أن نقل الركن القولى كالفاتحة والتشهد وبعضهما إلى الركوع أو غيره لا يضر في أصح الوجهين، فإن قلنا بالإبطال فيه، وفي تطويل الركن القصير فسهى بذلك سجد ولا كلام. وإن قلنا بعدم البطلان فهل يسجد عند السهو؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كسائر ما لا يبطل عمده الصلاة. وأصحهما: نعم، لأن المصلي مأمور بالتحفظ وإحصان الذهن أمرًا مؤكدًا عليه كتأكيد التشهد الأول، فإذا غفل وتركه سجد كالتشهد الأول أو القنوت. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره في النقل يدخل فيه التكبير والسلام، مع أن نقل السلام مبطل جزمًا، وفي التكبير نظر، والظاهر ما اقتضاه كلامه لأنه كالتشهد في وقوعه تارة فرضًا، وتارة سنة، وقد أجروا فيه الخلاف. الثاني: أن الخلاف في السجود لنقل الركن يجري فيما إذا كان المنقول، غير ركن بالكلية، كما إذا نقل سورة الإخلاص مثلًا، كذا جزم به في "شرح المهذب". والقياس أن يكون نقل التسبيح إلى غير موضعه مثله أيضًا. الثالث: أن هذا التعليل الذي ذكره في آخر كلامه وهو قول "التحفظ"

يقتضى أنه لا فرق في السجود بين أن يفعل ذلك عمدًا أو سهوًا، وهو متجه وقد صرح به في "شرح المهذب"، لكن في مسألة النقل، وأشعر كلامه في التطويل بخلافه، والصواب التسوية كما سبق. قوله: قاعدة الفصل: إن الترتيب في أركان الصلاة واجب الرعاية. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى كلامه أنه يجب الترتيب بين التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنهما ركنان كما سبق ذكره في صفة الصلاة، وقد جزم البغوى في "فتاويه" بذلك -أعنى: بوجوب الترتيب بينهما- فيقدم أولًا التشهد ثم الصلاة، وجزم به أيضًا النووي في "شرح المهذب" لكن ذكر الرافعي في "شرح مسند الإمام الشافعي" كلامًا طويلًا حاصله الجزم بأنه كبعض التشهد وحينئذ فيكون الأصح عنده عدم وجوب الترتيب. الأمر الثانى: أن الرافعي -رحمه الله- قد جعل الترتيب من الأركان، وأما النووي فاختلف فيه كلامه فجزم في أوائل باب صفة الصلاة من ["الروضة"] (¬1) وفي آخره من "المنهاج" بأنه من الأركان. وجزم في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" بأنه من الشرائط. قوله: فبقوم إذا تذكر في قيام الثانية أنه ترك سجدة من الأولى، وكان قد جلس عقب السجدة المفعولة بقصد الاستراحة لظنه أنه أتى بالسجدتين جميعًا فوجهان: أحدهما: لا يحسب ذلك الجلوس لأنه قصد به السنة فلا ينوب عن الفرض، كما لو سجد للتلاوة، لا يقوم مقام سجود الفرض. والثانى: -ورجحه الأكثرون- أنه يكفيه كما لو جلس في التشهد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأخير، وهو يظنه الأول: انتهى ملخصًا. ومقتضاه الجزم في التشهد الأخير بأنه يكفي، ولا يخرج علي الخلاف، وإلا لم يصح القياس، ثم إنه خلاف ما ذكره هنا بعد ذلك بسبعة أوراق، قُبَيل كلام أوله قال: السادس: قد ذكر أنه إذا تشهد التشهد الأخير ثم قال ناسيًا، ثم تذكر لم يجب إعادته على الصحيح. ثم قال ما نصه: فهذا كله إذا كان قد تشهد علي قصد التشهد الأخير، فأما إذا تشهد على ظن أنه التشهد الأول عاد الوجهان في تأدى الفرض بنية النفل، هذا كلامه بحروفه، ووقع الموضعان في "الروضة" وغيرها من كتب النووي كذلك، وما ذكره الرافعي أيضًا في سجود التلاوة هو المعروف. وفي "المهذب" وغيره وجه أنه يكفي أيضًا عن سجود الفرض. واعلم أن هذه القاعدة التى ذكرها الرافعي وهى الخلاف في تأدي الفرض بنية النفل قد تكرر استعمالها في هذا الباب، وفي غيره، وليس الأمر فيها على ما يقتضيه ظاهر إطلاق اللفظ، بل لها ضابط خاص، وقد لخصه النووي في "شرح الوسيط" فقال: صورته أن يكون قد سبقت نية تشمل الغرض والنفل جميعًا، ثم يأتي شئ من تلك العبادة ينوي به النفل، ويصادف بقاء الغرض عليه، فهل تجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأن نية النفل موجودة حقيقة وتلك ضمنًا واستصحابًا. وأصحهما: تجزئة، لأن بقاء [نية] (¬1) الفرض الشاملة لها حكم الموجود حقيقة، ولهذا صحت العبادة مع غفلته استصحابًا. قال: والباء باء المصاحبة، أى هل يتأدى الفرض بنيته السابقة الشاملة المستصحبة مع ما صحبها من نية النفل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هذا كلامه -رحمه الله- وسبقه إليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط". قوله: ولو ترك ثلاث سجدات، ولم يعرف موضعهن لزمه ركعتان، فإن أسوأ الأحوال أن يكون قد ترك سجدة من الأولى وسجدة من [الثانية] (¬1)، وسجدة من الرابعة، فتجبر الأولى بسجدة من الثانية وتبطل [الثانية] (¬2) وتجبر الثالثة بسجدة من الرابعة وتبطل الرابعة. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة"، والصواب أنه يلزمه ركعتان وسجدة، فإن أسوأ الأحوال أن يكون المتروك هو السجدة الأولى من الركعة الأولى والسجدة الثانية من الركعة الثانية وواحدة من الرابعة، ويتصور ترك الأولى وغيرها. وأما السجود فيها على كور عمامته أو لنزول عصابته على جبهته أو غير ذلك من الطرق التى ذكروها، وإنما قلنا: إنه الأسوأ، لأنه لما قدرنا أنه ترك السجدة الأولى من الركعة لم يحسب الجلوس الذي بعدها لأنه ليس قبله سجدة، ولكن بعده سجدة محسوبة، فيبقى عليه من الركعة الأولى الجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية. ولما قدرنا أنه ترك السجدة الثانية من الركعة الثانية لم يمكن أن يكمل بسجدتها الأولى الركعة الأولى لفقدان الجلوس بين السجدتين قبلها. نعم بعدها جلوس محسوب فيحصل له من الركعتين ركعة إلا سجدة فيكملها بسجدة من الثالثة، وحينئذ فتفسر الثالثة لأن القيام إليها كان قبل كمال التى قبلها، ثم ترك واحدة من الرابعة فيبقى عليه ركعتان، وسجدة فيسجد ثم يأتي بركعتين، وهذا العمل كله واضح، وهو أمر عقلي لا شك ¬

_ (¬1) في ب: الثالثة. (¬2) سقط من أ.

فيه. فإن قيل: إذا قدرنا أن المتروك هو السجدة الأولى، وأنه يلزم بطلان الجلوس الذي بعدها كما قلتم، فحينئذ لا يكون المتروك ثلاث سجدات فقط. قلنا: هذا خيال باطل، فإن المعدود تركه إنما هو المتروك حسًا، وأما المأتي به في الحس ولكن بطل شرعًا لبطلان ما قبله ولزومه من سلوك أسوأ التقادير، فلا يحسب في ترجمة المسألة، إذ لو قلنا بهذا لكان يلزم في كل صورة، وحينئذ فيستحيل قولنا: ترك ثلاث سجدات فقط أو أربع، لأنا إذا جعلنا المتروك من الركعة الأولى هو السجدة الثانية كما قاله الأصحاب، فيكون قيام الركعة الثانية وركوعها وغير ذلك مما أتاه فيها باطلًا إلا السجود وهكذا في الركعة الثالثة مع الرابعة. وحينئذ فلا يكون المتروك هو السجود فقط، بل أنواعًا أخرى من الأركان، وهو واضح لا شك فيه، وإنما ذكرت هذا الخيال الباطل لأنه قد يختلج في صدر بعض الطلبة، وإلا فمن حقه أن لا يدون، وهذا الاعتراض الذي ذكرته يأتي أيضًا في ما إذا كان المتروك أربع سجدات فإن الرافعي قد ذكر قبل ذلك أنه يلزمه ركعتان وسجدة، وكذا ذكره غيره أيضًا. وجعلوا أسوأ الأحوال أن يكون المتروك سجدتين من ركعة واحدة، وسجدتين من ركعتين غير متواليتين. مثاله: أن يترك من الأولى سجدتين، ومن الثانية سجدة، ومن الرابعة أخرى. والصواب: أنه يلزمه ركعتان وسجدتان بالعمل المتقدم. قوله: ولو قعد الإمام للتشهد الأول، وقام المأموم ناسيًا عاد في أصح الوجهين، لأن متابعة الإمام فرض.

والثاني: يحرم العود، لأنه حصل في فرض ليس فيما فعله إلا التقدم على الإمام بركن، وهو غير مبطل، وإن كان عمدًا فلا حاجة إلى الرجوع إلى سنة، ثم قال: والخلاف عند الإمام والغزالي في الجواز، ولا يجب جزمًا، لكن الشيخ أبو حامد، ومن تبعه جعل الخلاف في الوجوب، وكذلك البغوي. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي في "المحرر" قد جزم بطريقة الإمام والغزالي فقال: وللمأموم أن يعود إلى متابعة الإمام على الأصح. هذا لفظه، فانظر كيف قال: "وللمأموم" ولم يقل: وعلى المأموم. وصحح النووي في "أصل الروضة" وفي كتبه كلها طريقة الوجوب، وكلام "الشرح الصغير" يقتضي أن الأكثرين قائلون بها. الثاني: أن كلام الرافعي في تعليل العود يقتضي أن ترك القعود للتشهد مع الإمام مخالفة فاحشة مع أنه قد صرح هنا أيضًا بأن تخلفه عنه لاشتغاله بالتشهد تخلف فاحش مبطل ولا شك أن التقديم أفحش. الثالث: أنه يدل أيضًا على أن القول بوجوب العدد لا فرق فيه بين القائم عمدًا أو سهوًا وسيأتى ما فيه. قوله في "الروضة": ولو نهض المنفرد ناسيًا وتذكر قبل الانتصاب عاد، وهل يسجد للسهو؟ قولان: أظهرهما: لا، وقال كثير من الأصحاب: إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود ثم عاد سجد، وإن كان إلى القعود أقرب، أو كانت نسبته إليهما على السواء لم يسجد، وهذه الطريقة أظهر، وهى كالتوسط بين القولين وحملها على الحالين. انتهى ملخصًا. فيه أمور:

أحدها: أن كلامه أولًا يقتضي تصحيح طريقة القولين، وآخرًا يقتضي التفصيل، وهو ظاهر التناقض، وكلام الرافعي سالم منه، فإنه نقل الطريقة الأولى عن العراقيين خاصة، ثم ذكر الثانية ورجحها. الثاني: أنه جعل ما إذا كانت نسبته إليها على السواء من جملة مقالة الكثيرين، وليس كذلك فإن الرافعي نقله عن الإمام خاصة. الثالث: أن الرافعي -رحمه الله- قد جزم في "المحرر" بطريقة التفصيل، وقال في "الشرح الصغير": إنها الأظهر، فوافق ما في "الكبير". وأما النووي فذكر في "المنهاج" كما في "المحرر"، ثم خالف في أكثر كتبه فصحح في "التحقيق" أنه لا يسجد مطلقًا، وقال في "شرح المهذب" .. إنه الأصح عند الجمهور، وأطلق في "تصحيح التنبيه" تصحيحه أيضًا. وإذا تأملت ذلك كله علمت أن الفتوى عليه لموافقة الأكثرين. قوله: ولو قام المأموم عمدًا فقطع الإمام فإن العود حرام مبطل كما في نظيره من الركوع والسجود، ثم قال: ولنزاعه مجال ظاهر، لأن أصحابنا العراقيين أطبقوا على أنه لو ركع قبل الإمام عمدًا فينبغي أن يرجع ليركع مع الإمام، فاستحبوا الرجوع. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من إطباق العراقيين على الاستحباب تابعه عليه في "الروضة"، وهو غريب، فقد قطع بالوجوب شيخهم الشيخ أبو حامد شيخ العراقيين، ونقله عن نصه في القديم، وكذلك الشيخ أبو إسحاق في "المهذب"، وهو أشهر العراقيين. الثاني: أن حاصل ما ذكره عدم وجوب العود بالكلية وقد صرح

بتصحيحه في "شرح المهذب" هنا فقال: إلا أنه يستحب، ونص عليه في "الأم". الثالث: أن الرافعي والنووي قد صححا في باب صلاة الجماعة أن المأموم لا يجب عليه العود إذا سبق إمامه بركن سواء كان عمدًا أو سهوًا. قالوا: ويستحب العود عند العمد، وحينئذ فيستحب عند السهو بطريق الأولى لما نقف عليه في موضعه. والذي قالاه هنا مشكل على ما صححوه هنا من الوجوب عند السهو بالقيام عن التشهد كما سبق قبل هذا بدون الورقة، إلا أن يجيب مجيب بأن ترك القعود مع الإمام مخالفة فاحشة. ويمنع ما أشعر به كلام الرافعي فيصح الفرق. قوله في "الروضة": ولو ترك الركوع [ثم تذكره] (¬1) في السجود، فهل يجب الرجوع إلى القيام ليركع أم يكفيه أن يقوم راكعًا؟ وجهان لابن شريح. قلت: أصحهما الأول، والله أعلم. انتهى كلامه. واعلم أن الصحيح في هذه المسألة من حيث الجملة هو عدم الوجوب، وذلك لأن الرافعي فرع هذين الوجهين على قولنا: إنه يجب إعادة التشهد إذا قام إلى خامسة ساهيًا، وتذكر بعدما تشهد. ووجوب الإعادة، والحالة هذه وجه ضعيف فيكون الصحيح أيضًا في مسألتنا عدم الوجوب، فإنه قال: الخامس: إذا قام إلى الخامسة ناسيًا بعد التشهد ثم تذكر جلس وسلم، وهل يحتاج إلى إعادة التشهد فيه وجهان: أصحهما -وبه قال المعظم: لا، لأنه أتى به في موضعه، فلم يعده كالسجود. ¬

_ (¬1) في الأصول: تذكر، والمثبت من الروضة.

والثاني -وبه قال ابن شريح، ونسب إلى النص: إنه يجب؛ وذكر ابن شريح له معنيين. أحدهما: رعاية الموالاة بين التشهد والسلام. والثاني: أنه لو لم يعد التشهد لبقى السلام فردًا غير متصل بركن قبله، ولا بعده. وفرع ابن شريح عليهما ما إذا ترك الركوع ثم تذكر في السجود. إن قلنا بالمعنى الأول فيجب أن يعود إلى القيام ويركع منه؛ وإن قلنا بالثانى كفاه أن يقوم راكعًا، فإنه لا يبقى فردًا لاتصاله بالسجود، وما بعده. انتهى كلام الرافعي. ثم إنه ضعف كلًا من المعنيين، فلما اختصره النووى حذف المفرع عليه، وجعلها مسألة مستقلة وصحح فيها الوجوب، وهو اختصار عجيب يقتضى عكس ما دل عليه كلام الرافعي من عدم الوجوب. نعم إذا فرعنا على الوجه الضعيف يكون الحكم ما قاله النووى. وقد اغتر في "شرح المهذب" بما ذكره في "الروضة" وصحح الوجوب أيضًا، وظن أن ذلك حكم مستأنف متأصل، فعلله بأن شرط الركوع أن لا يقصد بالهوى إليه غيره، وهذا قصد للسجود. قوله: وإن وقع الشك في عدد الركعات أو في ترك ركن من الأركان بعد السلام فينظر إن لم يظن الفصل فقولان: أظهرهما -وبه قطع بعضهم-: أنه لا عبرة به وإن طال فطريقان: أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بأنه لا عبرة به. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وفيه أمور: أحدها: أن النووى في "الروضة" قد جمع بين القسمين،

واختصرهما اختصارًا فاسدًا، فإنه أداه ذلك إلى انعكاس كلام الرافعي عليه في المسألة الأولى، فصحح طريقة القطع لا طريقة القولين، فإنه قال ما نصه: وإن وقع هذا الشك بعد السلام فالمذهب أنه لا شئ عليه ولا أثر لهذا الشك، وقيل: فيه ثلاثة أقوال. . . . إلى آخره. وذكر مثله في "شرح المهذب" و"التحقيق"، وسبب وقوعه في هذا أن الرافعي بعد تفصيله لهذا الكلام قال: وإذا لم نفصل بين طول الزمان وقصره قلت: في الشك الطارئ بعد الفراغ طريقان: أحدهما: أنه لا يعتبر بحال. والثانية: ثلاثة أقوال. . . . إلى آخره. فذكر النووي هذا الكلام، وضم إلى الطريقة الأولى تصحيح عدم الإبطال مع أنه لايمكن إطلاقه، ولا إطلاق قسمه لما علمت من أنها -أى: الطريقة القاطعة- هي الصحيحة في الثانية دون الأولى. الأمر الثاني: أن النووي -رحمه الله- قد جزم في "المنهاج" بطريق الخلاف غير أنه جعله ضعيفًا، فإنه عبر بالمشهور، وذلك مناقض لما صححه في "الروضة" وغيرها من طريقة القطع. الثالث: أنهم إنما قيدوا الشك المذكور بما ذكروه من الأركان، وعدد الركعات للاحتراز عن الشك في الشروط، فإنه يؤثر إذا وقع بعد السلام على الصحيح كما ذكره النووي في "شرح المهذب" في باب المسح على الخفين فقال: لو صلى ثم شك بعد ذلك هل كان متطهرًا أم لا؟ فوجهان: المذهب: أنه يضر، قال: والفرق بينه وبين الأركان من وجهين: أحدهما: أن الأركان يكثر الشك فيها غالبًا لكثرتها بخلاف الطهارة. الثاني: أنه إذا شك في الشروط فقد شك في انعقاد الصلاة، والأصل عدمه. وهذا الذي قاله النووي في الطهارة، نقل القاضي حسين أنه القول

الجديد، وهو يقتضى أن الشروط كلها كذلك، وأن المشكوك فيه لو كان هو النية وجبت الإعادة، وقد صرح به البغوي في "فتاويه"، ويؤيده ما ذكره أيضًا في باب صلاة الجماعة من "شرح المهذب" و"التحقيق" أنه لو شك كل واحد من الإمام والمأموم بعد الفراغ أنه نوى الإمامة والائتمام أوشك أحدهما، ونوى الآخر الاقتداء بطلت صلاتهما، قال: بخلاف ما لو شك في أنه هل كان نوى الاقتداء أم لا؟ فإنه [لا شئ عليه وذكر أيضًا -أعني: النووي- في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما أنه] (¬1) لو شك بعد الفراغ من وضوئه [في غسل بعض أعضائه] (¬2) فإنه [لا] (¬3) يضر [على الصحيح بخلاف ما إذا كان في أثناء الوضوء فإنه يضر] (¬4) فينبغي حمل ما قاله في "شرح المهذب" على ما إذا شك في أصل الفعل، لكن الفرق الثاني من الفرقين المتقدمين يقتضي أيضًا أنه [لا] (¬5) يضر، لأنه شك في هذه الحالة في انعقاد الصلاة. قوله: والأظهر ويحكى عن نصه في "الأم" أن الطول يعتبر [بالعرف] (¬6)، وقيل: قدر الصلاة التي كان فيها، وحكى عن "البويطي" أنه ما يزيد على قدر ركعة، وبه قال أبو إسحاق المروزي. . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أنه قد ذكر في أثناء الباب قبله في الكلام على الشرط الخامس أن مقدار الركعة عند من يعتبرها طويل على خلاف ما ذكره هنا، وقد تقدم ذكر لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من ب. (¬6) في ب: بالعرف.

الأمر الثاني: أن الشافعى في "البويطي" قد نص على أن المعتبر في هذه الركعهّ إنما هو مقدار قراءة الفاتحة فقط، قال -رحمه الله-: قواعد أربع: الأولى: إذا شك في صلاته هل صلى ثلاثا أو أربعًا؟ أخذ بالأقل، وسجد للسهو، ولا يجوز العمل بقول الغير. وقيل: يجوز الرجوع إلى قول جمع كثيرين كانوا يرقبون صلاته، ثم قال: والمشهور الأول، لأنه تردد في فعل نفسه، فلا يرجع إلى قول غيره كالحاكم إذا نسى حكمه لا يأخذ بقول الشهود. انتهى كلامه. وما استدل به على هذا الوجه من القياس المذكور فغير صحيح، لأن الخلاف ثابت في المسألتين، وقد حكاه هو هناك في موضعه. قوله: واختلفوا في سبب السجود فيما إذا شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فقيل: المعتمد فيه الخبر ولا يظهر معناه، وقيل: سببه التردد في الركعة التي يأتي بها هل هى رابعة أم زائدة؟ [ونقضه الإمام بما إذا شك في قضاء الثانية التى كانت عليه، فإنا نأمره بقضائها] (¬1) ولا يسجد للسهو، وإن كان مترددًا في أنها عليه من أول الصلاة إلى آخرها، ويتفرع على الخلاف، ما إذا زال تردده قبل السلام، وعرف أنه لم يزد شيئًا وأنها الركعة الأخيرة. فإن قلنا بالأول فلا يسجد لأنَّ المُتَّبع الحديث، والحديث ورد في دوام الشك. وإن قلنا بالثانى سجد لأن الركعة قد تأدت على التردد وضعف النية، وزوال التردد بعد ذلك لا يرفع ما وقع وضبط أصحاب الوجه الثاني صور ¬

_ (¬1) سقط من ب.

عروض الشك وزواله فقالوا: إن كان ما فعله من وقت عروض الشك إلي زواله ما لابد من على كل احتمال فلا يسجد وإن كان زائدًا على بعض الاحتمالات سجد. مثاله: شك في قيامه من صلاة الظهر أنها ثالثة أم رابعة، فركع وسجد على هذا الشك، وهو على عزم القيام إلى ركعة أخرى فتذكر قبل القيام إليها أنها ثالثة أو رابعة، فلا يسجد لأن ما فعله في زمان الشك لابد منه على التقديرين جميعًا. وإن لم يتذكر أنها ثالثة أو رابعة حتى قام إليها سجد لأن احتمال الزيادة وكونها خامسة كان ثابتًا حين قام. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الأصح هو الثاني، وهو التردد، كذا صححه الرافعي في "التهذيب" و"الشرح الصغير" وصححه أيضًا النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" وغيرهما، وكلام "المحرر" يوافق ذلك أيضًا، فإنه جزم فيه بالضابط المفرع على الوجه الثاني، وتبعه عليه في "المنهاج". الأمر الثاني: أن مسألة القضاء التي نقض الإمام بها كلام الشيخ أبي عليّ مسألة مهمة، وقد أسقطها من "الروضة". الثالث: أنهما قد أهملا قسمًا ثالثًا وهو ما إذا وقع التذكر بعد نهوضه، وقبل انتصابه. والقياس أنه إن صار إلى القيام أقرب سجد وإلا فلا. وقد يقال: يسجد مطلقًا بناء على أن الانتقالات واجبة، وقد سبق إيضاحه في أوائل شروط الصلاة. قوله: والمنفرد إذا سها في صلاته ثم دخل في جماعة -وجوزنا ذلك على ما سيأتي- فلا يتحمل الإمام سهو ذلك. انتهى كلامه.

جزم أيضًا بعدم التحمل في صلاة الجمعة، وقال في صلاة الخوف: ولو فرق الإمام الناس فرقتين وصلى بالفرقة الثانية، ثم فارقته وسهت بعد المفارقة، فالصحيح أن الإمام يتحمله. ثم قال: والوجهان جاريان فيما إذا صلى منفردًا فسهى في حال انفراده، ثم اقتدى بعد ذلك، وضعفه الإمام. انتهى كلامه. ومقتضاه أنها كتلك عند غير الإمام، لكن النووي في "شرح المهذب" لما ذكر هذه المقالة قال: والأظهر ما قاله الإمام من القطع بالسجود. ووقعت هذه المواضع المذكورة أيضًا في "الروضة" كما هى في "الشرح". قوله: ولو تيقن -أى: المأموم- في التشهد أنه ترك الركوع أو الفاتحة من ركعة ناسيًا، فإذا سلم الإمام لزمه أن يأتي بركعة أخرى، ولا يسجد للسهو، لأنه سهى في حال الاقتداء. انتهى كلامه. ذكره مثله أيضًا في "الروضة"، وقد أهملا الكلام على قسم هذه المسألة وهو ما إذا لم يتيقن الترك، بل شك وأتى بعد سلام الإمام بالركعة فهل يسجد أم [لا؟ ] (¬1) وقد ذكرها القاضي الحسين في "تعليقه" فقال: كنت أقول: إنه يسجد، لأن ما يأتى به بعد سلام الإمام زيادة في أحد محتمليه فإن من الجائز أنه لم يتركها، فيخاطب بسجود السهو، ثم رجعت وقلت: لا سجود عليه، لأن هذه الركعة التي يفعلها بعد سلام الإمام صادرة عن تشكيك صدر في حالة الاقتداء فلم يسجد اعتبارًا بتلك الحالة. انتهى كلامه. لكن نقل في "الروضة" عن "فتاوى الغزالي" أن المسبوق إذا شك في إدراك ركوع الإمام، وقام بعد سلام إمامه إلى تدارك تلك الركعة، فإنه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يسجد كما لو شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا، ثم قال: والذي قاله الغزالي ظاهر، ولا يقال: يتحمله عنه الإمام لأنه شاك في العدد بعد سلام إمامه ومسألتنا نظير هذه. قوله: ولو ظن المسبوق سلام الإمام فقام ثم سلم الإمام، وهو قائم، وعلم بالحال، فهل يجوز له أن يمضي في صلاته أم يجب عليه أن يعود إلى القعود ثم يقوم؟ حكى صاحب "التهذيب" وغيره فيه وجهين. انتهى. والأصح هو الثاني، كذا صححه النووي في "التحقيق" "وشرح المهذب"، "وزيادات الروضة"، وتعليل الوجهين يظهر مما سيأتى. قوله: ولو كانت المسألة بحالها، وعلم في القيام أن الإمام لم يسلم بعد، فقال إمام الحرمين: إن رجع فهو الوجه، وإن أراد أن يتمادى وينوي الانفراد قبل سلام الإمام ففيه الخلاف في قطع القدوة. فإن منعنا تعين الرجوع، فإن جوزناه فوجهان: أحدهما: يجب الرجوع، لأن نهوضه غير معتد به فيرجع ثم يقطع القدوة إن شاء. والثانى: لا يجب، لأن النهوض ليس مقصودًا بعينه، وإنما المقصود القيام فما بعده، فلو لم يُرد قطع القدوة بمقتضى كلام الإمام وجوب الرجوع. وقال الغزالى: إن شاء رجع، وإن شاء انتظر سلام الإمام. . . . إلى آخره. والصحيح وجوب الرجوع في الحالتين، كذا صححه في "التحقيق" و"شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وإذا سهى الإمام في صلاته لحق سهو المأموم ثم قال: ويستثنى عنه صورتان: إحداهما: أن يتبين له كون الإمام جنبًا فلا يسجد لسهوه، ولا يتحمل

هو عن المأموم أيضًا. والثانية: أن يعرف سبب سهو الإمام ويتيقن أنه مخطئ في ظنه، كما إذا سجد لترك شئ يظن أنه من الأبعاض، ولا يوافق الإمام إذا سجد. انتهى. تابعه [عليها] (¬1) في "الروضة"، والصورة الأولى فيها إشكال، لأن الصلاة خلاف المُحْدِث والجنب صلاة جماعة لا فرادى على المشهور الذي نص عليه الشافعي. وأما الصورة الثانية فالكلام عليها متوقف على مقدمة، وهى أن المصلى إذا أتى بالفعل المنهي عنه جاهلًا فإنه لا تبطل، إما لتقليده لمن يراه أو للخطأ المحض فإنه يسجد، كذا جزم به الرافعي في الكلام على ترك التشهد الأول، وتبعه عليه في "الروضة"، وذكر مثله في آخر الباب فقال: إنه إذا ظن [سهوًا] (¬2) فسجد ثم تبين عدمه سجد في أصح الوجهين. وإذا علمت ما ذكرناه فقياسه في مسألتنا أن يتوجه السجود على المأموم لأنه قد ثبت أن الزيادة علي وجه الخطأ مقتضية للسجود، وما يفعله الإمام من مقتضيات السجود يخاطب به المأموم أيضًا، فلزم ما ذكرناه. نعم هل له موافقة الإمام في هذا السجود لأنه بمجرد وضع جبهة الإمام توجه عليهما ذلك أو ينوي مفارقته، ثم يأتي به لأن الإمام مخطئ في الإتيان بهذا؟ فيه نظر، وهذا يأتي بعينه في ما إذا تذكر الإمام، وهو في السجود [خطأه فيشرع في الاعتداد بما يأتي به عن السجود] (¬3) المأمور به من غير رجوع إلى القعود، وإن شاء هوى للسجود. والقياس المنع؛ وآخر كلام الرافعي كالصريح فيه وهو دليل على أنه في هذه المسألة قد اختلط عليه المراد بغير المراد، فإن أوله يخالف تصوير آخره، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من أ.

وحينئذ فالحق أنه لا يوافقه، بل يسجد مع نفسه. قوله: وحتى سجد الإمام في آخر صلاته سجدتين وجب على المأموم متابعته حملًا على أنه سهى بخلاف ما لو قال إلى ركعة خامسة، فإنه لا يتابعه حملًا على أنه ترك ركنًا من ركعة، لأنه لو تحقق الحال هناك لم يجز متابعته لأن المأموم أتم صلاته يقينًا. انتهى. وكما لا يتابعه في الخامسة لا ينتظره أيضًا، بل يسلم، كذا ذكره في "شرح المهذب" في باب الصلاة على الجنازة. قوله من "زياداته": ولو كان المأموم مسبوقًا بركعة أو شاكًا في ترك ركن كالفاتحة فقام الإمام إلى الخامسة، لم يجز للمأموم متابعته فيها. انتهى. اعلم أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي في آخر صلاة المسافر. قوله أيضًا من "زياداته": ولو سهى المأموم ثم سبق الإمام حدث لم يسجد المأموم لأن الإمام حمله. انتهى. هذه المسألة التي ذكرها الرافعي في كتاب الجمعة في أثناء الكلام على الاستخلاف. قوله: وكتب الأصحاب ساكتة عن الذكر فيهما -أى: في سجدتى السهو- وذلك يشعر بأن المحبوب فيهما هو المحبوب في سجدات صلب الصلاة كسائر ما سكتوا عنه من واجبات السجود ومحبوباته. انتهى كلامه. وما ذكره من سكوت الأصحاب عليه قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو غريب، فقد صرح المتولي [في "التتمة"] (¬1) بالمسألة فقال: ويسبح فيهما كما ذكرنا في سجدات الصلاة. هذه عبارته. وقد علمت أن أكثر نقل الرافعي منها، ومن "النهاية"، و"التهذيب". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وفي محله ثلاثة أقوال: أصحها: أنه قبل السلام لما روى عن عبد الله بن بحينة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين، ولم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه كبر، وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم (¬1). ولحديث أبى سعيد الخدري (¬2) وعبد الرحمن (¬3) المذكورين في الشك في عدد الركعات، ثم قال: والثاني إن سهى بزيادة سجد بعد السلام. والثالث: يتخير إن شاء قَبْل، وإن شاء بَعْد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي جزم به من حكاية الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة"، ولكنه خالفه في "التحقيق" فحكى طريقة قاطعة بالأول، وزاد على ذلك فصححها، وهذه الطريقة قد أشار إليها في "المهذب" ولم يصرح بها في شرحه. الثاني: أن ما ذكره من دلالة حديث عبد الرحمن على السجود قبل السلام صحيح، وأما دعواه ذلك أيضًا فيما ذكره من حديث أبي سعيد فذهول فإنه قد ذكره في أولى القواعد الأربع فقال: لنا ما روى أبو سعيد الخدري - رضى الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ويسجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة [والسجدتان نافلة، وإن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (795) ومسلم (570). (¬2) أخرجه مسلم (571). (¬3) أخرجه الترمذي (398) وابن ماجه (1209). قال الترمذي: حسن غريب صحيح. وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-.

كانت صلاته ناقصة كانت الركعة] (¬1) والسجدتان ترغيمًا للشيطان". هذا نص ما ذكره قبل ذلك، وليس فيه تعيين محل السجود. ولا شك أن الحديث المذكور فيه روايتان ذكرهما البيهقى في "السنن": إحداهما: فيها تعيين محل السجود قبل السلام وهى التى في "صحيح مسلم". والثانية: بلا تعيين كما ذكره الرافعي، فتوهم الرافعي أن الذي قدمه هو الرواية الأولى، وليس. كذلك واعلم أن بحينة بباء موحدة مضمومة ثم حاء مهملة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة، ثم نون مفتوحة ثم هاء، وبحينة أم عبد الله المذكور، وأبوه اسمه: مالك، وقيل: إن بحينة أم أبيه، حكاه ابن عبد البر. واسم بحينة: عبدة أم الحارث [بن عبد المطلب بن عبد مناف] (¬2). قوله: ثم هذا الاختلاف في الإجزاء على المشهور بين الأصحاب، وحكى القاضي ابن كج وإمام الحرمين طريقة أخرى أنه في الأفضل، ففي قول: الأفضل التقديم، وفي قول: الأفضل التأخير، وفي قول: هما سواء. انتهى كلامه. وهو يوهم أن الإمام حكى قولًا أن التأخير أفضل مطلقًا، وليس كذلك، ومراد الرافعي أنه أفضل في المحل المتقدم ذكره، وهو ما إذا سهى بالزيادة، وقد صرح به الإمام هكذا في هذا الموضع إلا أن الرافعي اختصر لدلالة ما سبق. نعم صرح بهذا القول النووي في "التحقيق" إلا أَنَّا لا نعلم حكايته ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

لغيره، ولا له أيضًا في غير هذا الكتاب. واعلم أن ما ذكره الرافعي من كون المشهور هو جعل الخلاف في الإجزاء سبقه الإمام إليه فقلده فيه؛ لكن ذكر الماوردي أنه لا خلاف بين الفقهاء أن سجود السهو جائز قبل السلام وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى. فمذهب الشافعى، وما نص عليه في القديم والجديد أن الأولى فعله قبل السلام في الزيادة والنقصان. هذه عبارته. وتوسط في "التتمة" فقال: الذين قالوا بأنه قبله لم يصححوه بعده بخلاف العكس. قوله: التفريع إن قلنا: يسجد قبل السلام فسلم قبل السجود عامدًا فات السجود في أصح الوجهين، ثم قال: ولا خلاف في أنه، وإن سجد لا يكون عائدًا إلى الصلاة بخلاف ما لو سلم ناسيًا وسجد، ففيه خلاف سيأتى. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ذكره الإمام فقلده فيه الرافعي، ثم النووي في "الروضة" و"شرح المهذب"، وليس كذلك فإن فيه وجهين صرح بهما الفوراني في "الإبانة" والعمراني في "الزوائد". قوله: وإن سلم ناسيًا نظر إن طال الزمان لم يسجد في الجديد لفوات محله، وتعذر البناء بطول الفصل، والقديم أنه يسجد لأنه جبران عبادة فيجوز أن يتراخى عنها كجبرانات الحج. فإن لم يطل الزمان جاز السجود على المنصوص الذي قطع به الجمهور، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمسًا وسلم، فقيل له في ذلك فسجد للسهو. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الأصحاب قد اختلفوا في مَنْ سَلّم عامدًا أو ساهيًا هل

يفوت السجود في حقه أو لا؟ وفيه الخلاف المذكور، فإن قلنا: يفوت، قال الإمام: ففي قضائه القولان في سجود التلاوة حينئذ فيتلخص في التارك أقوال أو أوجه: أحدها: يأتي به أداء. والثاني: قضاء. والثالث: لا يأتي [به بالكلية] (¬1). والرابع: التفرقة بين طول الزمان وقصره، وقد عبر هنا، وفي "الروضة" في النسيان بالسجود وعدمه كما تقدم، وحينئذ فيؤخذ منه أنه لا يأتي به بالكلية على هذا القول بخلاف تعبير "المنهاج" وغيره. الأمر الثاني: أن قياس الإتيان بالسجود على جبران الحج يقتضي أنه لا يشترط المبادرة إلى السجود عقب التذكر. والحديث المذكور رواه الشيخان من حديث ابن مسعود. قوله: وحيث سجد فهل يكون عائدًا إلى الصلاة؟ فيه وجهان: أرجحهما -عند البغوي-: أنه لا يعود. والثاني: نعم، وبه قال أبو زيد، وذكر القفال أنه الصحيح، وتابعهما إمام الحرمين والمصنف فقطع في "الفتاوى" بذلك، وهكذا ذكر الروياني وغيره. وينبني على الوجهين مسائل: منها: لو تكلم عامدًا أو أحدث في السجود، فإن صلاته تبطل إن قلنا بالعود، وإلا فلا. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما عزاه إلى "فتاوى الغزالي" من القطع قد غيره في ¬

_ (¬1) في أ: بالكلمة.

"الروضة" تغييرًا فاحشًا فعبر بالصحيح فقال: وبه قال أبو زيد، وصححه القفال، وإمام الحرمين والغزالي في "الفتاوى" والروياني وغيرهم. هذه عبارته. وذكر مثلها في "شرح المهذب" ناقلًا له من "الروضة" على عادته. الأمر الثاني: أن تعبيرهم بالسجود يؤخذ منه أنه لا يعود إلى الصلاة بالهوي جزمًا، وأن السجدة الأولى كافية في العود، وأن وضع الجبهة من غير طمأنينة كافٍ فيه أيضًا. وفي الأول نظر، والمتجه القطع بأن الهوي كاف، ويحمل ما ذكروه على الغالب، بل إن الإمام والغزالي وجماعة لم يعتبروا بالسجود وعدمه، بل قالوا: إن عَنَّ له أن لا يسجد تبيّنا أنه وقع موقعه، وما ذكره هؤلاء متجه أيضًا. قوله: ومنها لو كان السهو في صلاة جمعة، وخرج الوقت، وهو في السجود فاتت الجمعة على القول بالعود ولا تفوت على الآخر. انتهى. وما أطلقه هو وغيره من السجود في هذه المسألة محمول على ظن بقاء الوقت، أما العالم به فيحرم عليه السجود بلا شك، لأنه يفوت الجمعة مع إمكانها، ويحتمل أن يقال: لا يعود به إلى الصلاة لأنه ليس مأمورًا به. والحالة هذه للمعنى الذي ذكرناه، وقد صرح البغوي في "فتاويه" بالمسألة فقال: إذا صلى الجمعة أو قصر المسافر فخرج الوقت بعد أن سلموا ناسيين لما عليهم من السهو فلا سجود. انتهى. واعلم أن إخراج بعض الصلاة عن وقتها ممتنع، وإن جعلناها أداء على ما صححه الرافعي والنووي. وحينئذ فيمتنع السجود في الجمعة وغيرها، وفي المقصورة والتامة. قوله: ومنها إن قلنا بالفور فلا يكبر للافتتاح، ولا يتشهد، وإن قلنا: لا

يعود، فيكبر، ولا يأتي بالتشهد في الأصح، قاله في "التهذيب". والصحيح: أنه يسلم سواء قلنا: يتشهد أو لا يتشهد. انتهى. والذي صححه البغوي قد صححه النووي في "التحقيق"، وأما في "الروضة" و"شرح المهذب" فعزاه إليه كما عزاه الرافعي. واعلم أنا إذا قلنا بالعود فلابد من السلام أيضًا، وهو يؤخذ من كلام الرافعي قبل هذا الموضع. قوله: أما إذا قلنا: إن السجود بعد السلام، فقال في "النهاية": حكمه في التحريم والتشهد والتحلل كحكم سجود التلاوة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ولم يزد عليه، وما ذكره الإمام قد خالفه فيه جماعات كثيرة منهم الشيخ أبو حامد فقطع في "تعليقه" بأنه يتشهد ويسلم ونقله عن نصه في القديم، وادعى الاتفاق عليه، ونقله عنه في "شرح المهذب"، وقال الماوردي: إنه مذهب الشافعي وجماعة الفقهاء، وذكر المحاملي نحوه أيضًا. قوله من "زياداته": والسهو في النفل كالفرض على المذهب، وقيل: لا يسجد في القديم انتهى، هذه المسألة ذكرها الرافعي في باب استقبال القبلة في مسائل الانحراف عن القبلة، وتابعه النووي عليها. قوله أيضًا من "زياداته": ولو سلم من صلاة وأحرم بأخرى ثم تيقن أنه ترك ركنًا من الأولى لم تنعقد الثانية، وأما الأولى فإن قصر الفصل بنى عليها، وإن طال وجب استئنافها. انتهى كلامه. وما ذكره يقتضي عدم انعقاد الثانية عند طول الفصل، ولا معنى له، فإنه عند التحريم بها ليس في صلاة غايته أنه اعتقد صحة الأولى، واعتقاد ذلك كيف يكون مانعًا من انعقاد أخرى، ولكن صورة المسألة وهو مراده أيضًا أن يُحْرِم بالثانية عقب سلامه بحيث لم يطل الفصل، ولهذا علله في "شرح المهذب" بقوله: لأنه حين أحرم بها لم يكن خرج من الأولى، ومراده

سجدة التلاوة

بطول الفصل وقصره بالنسبة إلى ما بين السلام، وتيقن الترك فاعلمه. قوله: ولو جلس للتشهد في الرباعية، وشك هل هو التشهد الأول أم الثاني فتشهد شاكًا ثم قام فبان الحال سجد للسهو سواء بأن أنه الأول أو الآخر، لأنه وإن بان الأول فقد قام شاكًا في زيادة هذا القيام، وإن بان الحال، وهو بعد التشهد فلا سجود. انتهى. واعلم أنه إذا بان الحال وهو في التشهد، فإن بان أنه الأول فالأمر كما قاله، وإن بان أنه الثاني فالقياس أنه لم يقرأ شيئًا من ألفاظ التشهد في حال الشك، فكذلك أيضًا، وإن قرأ شيئًا من ألفاظه سجد لإيقاعه إياه مع التردد في وجوبه. قوله من "زياداته": ولو أراد القنوت في غير الصبح لنازلة وقلنا به فنسيه لم يسجد للسهو على الأصح، ذكره في "البحر". انتهى. وقد نقله عنه أيضًا في "شرح المهذب"، والصحيح ما قاله، فقد صححه في "التحقيق" من غير إعزاء إلى أحد. ولقائل أن يقول: ما الفرق بين هذا، وبين قنوت رمضان فإنه يسجد لتركه كما ذكره في "الروضة"؟ ولعل الفرق تأكد أمره بدليل الاتفاق على مشروعيته بخلاف قنوت النازلة. قال -رحمه الله-: السجدة الثانية: سجدة التلاوة. قوله: وسجدات التلاوة في الجديد أربعة عشر سجدة، وأسقط سجدات المُفَصَّل في القديم وهي ثلاثة لما روي عن ابن عباس: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1403) والطبراني في "الكبير" (11924) وابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه" (240) من حديث ابن عباس. قال عبد الحق: إسناده ليس بقوى، ويروى مرسلًا. وضعفه الحافظ ابن حجر، والألباني، وجماعة.

واحتج في الجديد بما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سجدنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في "إذا السماء انشقت" و"اقرأ باسم ربك" (¬1) وكان إسلام أبي هريرة. انتهى كلامه. وما ذكره في تاريخ إسلام أبي هريرة من تعبيره بسنتين على التثنية ذكره الغزالي في "الوسيط" فقلده هو فيه -أعني الرافعي- وليس كذلك، بل الصواب في إسلامه أنه في عام خيبر، وهو [سنة] (¬2) سبع كما هو معروف في كتب الطبقات والسير، كسيرة ابن هشام وغيره، وقد ذكره الرافعي على الصواب في "الأمالي الشارحة لمفردات الفاتحة" من غير حكاية خلاف فيه. وكذلك في "الروضة" من زوائده في كتاب السير [فقالا: أسلم] (¬3) عام خيبر سنة سبع، ويحتمل أن يكون أراد سنين جمع سنة وتحرف على النساخ لكن المذكور في النسخ هو ما ذكرته من تثنيته سنة، وقد نبه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" على هذا الاعتراض والتأويل. واعلم أن دليل القديم رواه البيهقي وضعفه هو وغيره. ودليل الجديد رواه مسلم، وروى البخاري عنه ذلك في "إذا السماء انشقت" (¬4) خاصة. قوله في "الروضة": ولو سجد إمامه في "ص" لأنه ممن يراها فلا يتابعه بل يفارقه أو ينتظره قائمًا، وإذا انتظره قائمًا فهل يسجد للسهو؟ فيه وجهان: قلت: الأصح لا يسجد لأن المأموم لا سجود لسهوه، ووجه السجود أنه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (578) وأبو داود (1407) والترمذي (573) والنسائي (963) وابن ماجة (1058) وأحمد (9939). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من جـ. (¬4) أخرجه البخاري (732).

يعتقد أن إمامه زاد في صلاته جاهلًا، وحكى صاحب "البحر" وجهًا أنه يتابع الإمام في سجود ص، والله أعلم. فيه أمور: أحدها: أن هذا التصحيح الذي ذكره النووي مشكل لا يمشي على القواعد للمعنى الذي ذكره في تعليل السجود. الثاني: أن التعليل الذي ذكره في هذا الحكم، وهو أن المأموم لا سجود لسهوه عجيب جدًا، لأن المأموم لم يحصل له سهو، ولم يزد شيئًا، وليس فعل المأموم هو منشأ هذا الخلاف حتى يقول ما قاله بل السبب إنما هو فعل الإمام. وقد علل في "التتمة" عدم السجود بأن الإمام لا يعتقد وجود خلل في صلاته، فاعتبار اعتقاده أولى لأنه هو المتبوع. هذه عبارته. وذكره في "البحر" مختصرًا فقال: لأن الاعتبار بالإمام المتبوع. الأمر الثالث: أن ما اقتضاه كلامه من تخصيص الخلاف بحالة الانتظار لا وجه له، وكأنه لم يقع على سبيل التقييد، حتى لو نوى المفارقة جرى الخلاف أيضًا للتعليل الذي ذكره. واعلم أنه يجوز قراءة "ص" بالإسكان وبالفتح وبالكسر بالتنوين، وبه مع التنوين، وإذا كتبت في المصحف كتبت حرفًا واحدًا. وأما في غيره فمنهم من يكتبها كذلك، ومنهم من يزيد عليها ألفًا ودالًا، فتصير هكذا "صاد". قوله: ثم مواضع السجود من الآيات بينة لا خلاف فيها إلا في "حم السجدة" ففيها وجهان: أصحهما: أنه عند قوله: {وَهُمْ لا يَسأَمُونَ (38)} (¬1) لأن الكلام يتم ¬

_ (¬1) سورة فصلت (38).

عنده. والثاني عند قوله: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} (¬1). انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فقد اختلفوا في سجدتين أخرتين: إحداهما: في سجدة النمل فالمجزوم به في "شرح المهذب" وغيره أنها عند قوله: {ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمرُونَ (50)} (¬2) وقال الماوردي: عند قوله {وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} (¬3). والثانية: في سجدة النمل، والمعروف فيها أنها عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم (26)} (¬4). وفي "كفاية" العبدري: إن مذهبنا أنها عند قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (¬5) وما قاله شاذ، كما قاله في "شرح المهذب". قوله: وكذا ظاهر اللفظ -يعني: لفظ "الوجيز"- يشمل قراءة المحدث والصبي والكافر، ويقتضي شرعية السجود للمستمع إلى قراءتهم. وقال في "البيان": إنه لا اعتبار بقراءتهم عندنا خلافًا لأبي حنيفة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح هو الأول، كذا صححه النووي في "التحقيق" و"شرح المهذب"، وصححه أيضًا في "الروضة" ولم ينبه ¬

_ (¬1) سورة فصلت (37). (¬2) سورة النحل (50). (¬3) سورة النحل (49). (¬4) سورة النمل (26). (¬5) سورة النمل (25).

فيها على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي فاعلمه. وإثبات الخلاف قد صرح به في "التحقيق" "وشرح المهذب"، والظاهر إسناده إلى ما حكاه الرافعي مع أنه ليس صريحًا في ذلك فينبغي التوقف فيه، ولم يصرح بالمسألة في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير". الأمر الثاني: أن ما نقله عن صاحب "البيان" صحيح بالنسبة إلى المحدث، وأما بالنسبة إلى الصبي والكافر فإن صاحب "البيان" لم يجزم به، بل نقله عن صاحب "العدة" فقط إلا أنه سكت عليه. وقال القاضي الحسين في "فتاويه": إن قراءة الجنب والسكران لا تقتضي سجود التلاوة خلافًا لأبي حنيفة. قوله: ولو قرأ الإمام ولم يسجد فلا يسجد المأموم، فلو فعل بطلت صلاته ويحسن القضاء إذا فرغ، ولا يتأكد. انتهى. وما ذكره من مشروعية القضاء قد تابعه عليه في "الروضة" لكن قد ذكر الرافعي في هذا الباب أن القضاء إنما يتحقق عند طول الفصل، فإن لم يطل فلا فوات وحينئذ فلا قضاء. وإذا تقرر ذلك ظهر لك أن صورة المسألة عند طول الفصل، والذي قاله الرافعي في هذه الصورة هو طريقة صاحب "التهذيب"، فإنه قد ذكر أن القضاء يشرع فيها، وفي غيرها. وقد نقله الرافعي عنه بعد هذا في صورة أخرى. ونقل عن جماعة ما يخالفه، وصرح بتصحيحه في "أصل الروضة"، وكذلك الرافعي قبل الموضع المذكور ثانيًا بقليل، فراجع الرافعي "والروضة" في هذا الفصل يظهر لك ما قلته. فتلخص أن الراجح في هذه المسألة خلاف ما جزم به، وتبعه عليه في "الروضة" فتفطن لذلك.

قوله: ولو كرر الآية الواحدة في المجلس الواحد وسجد للمرة الأولى فوجوه: أظهرها: يسجد مرة أخرى لتجدد السبب. وثالثها: إن طال الفصل سجد، وإلا فلا. والركعة كالمجلس، والركعتان كالمجلسين، ولو قرأ مرة في الصلاة ومرة خارجها في المجلس الواحد وسجد للأولى، فلم أر فيه نصًا للأصحاب. وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه. انتهى. وما اقتضاه كلامه من جريان الخلاف في المسألة مع جزمه بأن الركعتين كالمجلسين، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو عجيب، فإن الحكم على الأخير بالتغاير أولى من الأولى [لقرب الزمان] (¬1) والاجتماع في الصلاة. نعم إنْ فرض ذلك في الركعة الأخيرة ففيه نظر. والظاهر أنها أولى أيضًا بالتغاير. قوله: وإذا قلنا: إن التشهد ليس بشرط، فهل يستحب؟ ذكر [في] (¬2) "النهاية" أن للأصحاب خلافًا. انتهى. والأصح عدم الاستحباب، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" "وزيادات الروضة". قوله: ويفتقر هذا السجود إلى شروط الصلاة كطهارة الحدث والنجس وستر العورة واستقبال القبلة وغيرها بلا خلاف. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه أشار بقوله: "وغيرها" إلى دخول الوقت، وقد صرح به في "شرح المهذب" فقال عقب ذكره الاستقبال ما نصه: ودخول وقت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

السجود بأن يكون قد قرأ الآية أو سمعها، فلو سجد قبل الانتهاء إلى آخر آية السجدة، ولو بحرف واحد لم يجز، وهذا كله لا خلاف فيه عندنا. هذا كلامه. وهو صريح في أنه لا يصح السجود إلا بعد سماع جميع الآية، ولا عبرة بسماع بعضها فتفطن له، وفي كلام الرافعي بعد هذا ما يشعر به. الثاني: سكت الرافعي والنووي في كتبهما عن الإمساك عن الكلام والفعل والأكل، وقد اختلف الناس في عد ذلك من الشروط كما سبق التنبيه عليه في موضعه. فإن قلنا: إنه منها، دخل في العبارة السابقة، وإن قلنا: ليس منها، فمقتضى كلامهما أنه لا يشترط والمتجه الجزم بالاشتراط. قوله في "الروضة": فالأول أي وهو أن يكون في غير الصلاة، فينوي ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه ثم يكبر أخرى للهوي من غير رفع اليد، إلى أن قال: وتكبيرة الافتتاح شرط على الصحيح، وكذا السلام في الأظهر. لم يتكلم -رحمه الله- على أن النية مستحبة أو واجبة، وعلى تقدير الوجوب هل هي متفق عليها أو مختلف فيها؟ وقد تعرض الرافعي للأمرين جميعًا فنقل عن الوسيط" أنها لا تجب إذا لم نوجب التكبير. وذكر بعده بدون صفحة ما يوافقه فقال: في أقل سجدة التلاوة أربعة أوجه: أحدها: أن الأقل سجدة واحدة في صلب الصلاة لا غير. والثاني: سجدة مع التحرم والتحلل والتشهد. والثالث: مع التحرم والتحلل لا غير. والرابع: مع التحرم لا غير.

وجعل -أي الغزالي- أولها أصحها، وهو متأيد بما حكى عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: وأقله سجدة بلا شروع ولا سلام. والظاهر عند الأكثرين اعتبار التحرم والتحلل. هذا كلامه. فحذف في "الروضة" الكلام على النية فلم يذكره بالكلية، بل تكلم على حكم التكبير، وذكر في "الكفاية" أن النية تجب بالاتفاق قال: بخلاف ما إذا كان الساجد في الصلاة، فإنها لا تجب بالاتفاق، وقد ظهر لك أن ما ذكره أولًا ممنوع، وقد أوضحته في كتابنا المسمى "بالهداية". قوله نقلًا عن "الوجيز": ويستحب قبلها -أى: قبل هذه السجدة- تكبيرة مع رفع اليدين إن كان في غير الصلاة، ودون الرفع إن كان في الصلاة، ثم قال بعد ذلك في الكلام على العلامات ما نصه: وأعلم قوله: ودون الرفع إن كان في الصلاة بالواو، لأنه قال في "الوسيط": ولا يستحب رفع اليدين في الصلاة. وقال العراقيون: يستحب رفع اليد، لأنه تكبير التحرم، لكن هذا شئ بدع حكمًا وتعليلًا، ولا يكاد يوجد نقل له لغيره، ولا ذكر له في كتبهم. انتهى كلامه. واعلم أن هذا النقل عن "الوسيط" قد غلط فيه الرافعي، وسببه إسقاط لفظة واحدة من كلام الغزالي، وهي لفظة "غير" فإنه قال: أما المصلى فيكفيه سجدة، ويستحب في حقه تكبيرة الهوي، ولا يستحب رفع اليدين في غير الصلاة، وقال العراقيون: يستحب رفع اليد لأنه تكبيرة التحرم. هذا كلامه. وهو صحيح من جهة المعنى إلا أن طريقة العراقيين هي الطريقةْ المشهورة في المذهب، وقد خالفهم فيها، فأسقط الرافعي من لفظ "الوسيط" لفظة "غير" إما ذهولًا منه أو لغلط في النسخة التي وقف عليها، ثم اعترض عليه بأنه بدع حكمًا وتعليلًا، ولا شك أن الأمر كذلك لو كان الأمر فيه

كما ذكر. أما الحكم فلأن العراقيين لم يقولوا باستحباب رفع اليدين في الصلاة في هذه التكبيرة. وأما التعليل فواضح، وهو ابتغاء التحرم. نعم يقال للرافعي: إذا كان [الذي] (¬1) قاله في "الوسيط" بدعًا -أي منكرًا- خارجًا عن كلام الأصحاب غير معقول فكيف يصح لأجله إعلام لفظ "الوجيز"؟ ! . قوله من "زوائده": ولو أراد أن يقر أآية أو آيتين فيهما سجدة لغرض السجود فقط، فلم أر فيه كلامًا لأصحابنا، وفي كراهته خلاف للسلف أوضحته في كتاب: "آداب القراء"، ومقتضى مذهبنا أنه إن كان في غير الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وفي غير الصلاة لم يكره. وإن كان في الصلاة أو في وقت كراهتها ففيه الوجهان فيمن دخل المسجد في هذه الأوقات لا لغرض سوى صلاة التحية، والأصح أنه يكره له الصلاة. انتهى كلامه. وهذه المسألة التى لم يقف على كلام فيها لأصحابنا قد ذكرها القاضي الحسين والشيخ عز الدين بن عبد السلام. فأما القاضي فمقتضى كلامه جواز ذلك وعدم استحبابه، فإنه قال: لا يستحب له جمع آيات السجود وقراءتها دفعة واحدة من أجل السجود، وأما الشيخ عز الدين فإنه منعه، وأفتى ببطلان الصلاة. قوله فيها أيضًا: قال صاحب "البحر": إذا قرأ الإمام السجدة في صلاة سرية استحب تأخير السجود إلى فراغه من الصلاة. انتهى كلامه. وهذا الإطلاق محمول على ما إذا قصر الفصل كما سبق إيضاحه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله في "الزيادات" أيضًا: قال -يعنى الروياني-: وقد استحب أصحابنا للخطيب إذا قرأ السجدة أن يترك السجود لما فيه من كلفة النزول عن المنبر والصعود. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الروياني وأقره عليه قد ذكر في كتاب الجمعة في الكلام على الخطبة ما يخالفه فقال: ولو قرأ سجدة نزل وسجد، فلو كان المنبر عاليًا لو نزل لطال الفصل لم ينزل، لكن يسجد عليه إن أمكن، [وإلا ترك] (¬1) السجود، وذكر المسألة في "شرح المهذب" في كتاب الجمعة فقط، كما ذكرها في "الروضة" هناك، وزاد فنقلها أيضًا عن الأصحاب كما نقل الأول عنهم، فصار اختلافًا عجيبًا، ولا يصح حمل المذكور هنا على ما إذا لم يمكن السجود على المنبر، وكان هذا النزول يؤدي إلى التطويل لأن الموالاة في الخطبة واجبة على الصحيح، وهو قد حكم في هذه الحالة باستحباب عدم السجود كما [قد] (¬2) تقدم لك من عبارته، ولأجل هذا إنه عدل إلى التعليل بالكلفة في الصعود والنزول. واعلم أن الشافعي -رحمه الله- له نصان متقابلان حكاهما النووي في كتاب الجمعة من "شرح المهذب"، وهما سبب الاختلاف: أحدهما -ما قاله في "المختصر": ولو قرأ الخطيب سجدة فنزل وسجد فلا بأس. والثاني -نقله عن القاضي أبي الطيب: أن الشافعي قال في موضع آخر: أستحب أن لا يفعل، لأن السجود نفل، فلا يشتغل به عن الفرض، وعلى هذا التعليل يسأل عن الفرق بينه وبين ما إذا قرأ السجدة في الصلوات ¬

_ (¬1) في أ: والأول. (¬2) سقط من ب.

سجدة الشكر

الخمس، فإنه لا خلاف في السجود، وإن كان قد اشتغل به عن الفرض. ونقل المحاملي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ السجدة على المنبر فنزل وسجد ثم قرأ دفعة ثانية ولم يسجد (¬1)، قال: فيكون الترك أولى لأنه المتأخر، هكذا رأيته في كتاب الجمعة من كتابه المسمى "بالتجريد" وحينئذ فيمكن أن يكون هذا أيضًا سببًا للاختلاف، ورأيت في "الترغيب" للشاسي الجزم بالاستحباب. قال -رحمه الله-: السجدة الثالثة: سجدة الشكر. قوله: وهو سنة خلافًا لمالك وأبي حنيفة، ولنا ما روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نغاشيًا فسجد شكرًا لله تعالي (¬2). انتهى. والنغاشي بنون مضمومة، وغين وشين معجمتين وبالياء المشددة في آخره، وروى أيضًا بلا ياء على وزن الفؤاد قيل: هو المبتلى، وقيل: ناقص الخلق، حكاهما الماوردي، وقيل: القصير، قاله ابن فارس. قال أبو العباس: النغاشيون هم القصار والضعاف الحركة. والقلطي بالقاف والطاء المهملة فوق النغاشي. وقال النووي في "الخلاصة": النغاشي هو القصير جدًا، الضعيف الحركة، الناقص الخلقة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1410) والدارمي (1466) وابن خزيمة (1795) وابن حبان (2765) والحاكم (1052) والبيهقي في "الكبرى" (3558) من حديث أبي سعيد. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال البيهقي: حسن الإسناد صحيح. وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (5964) والبيهقي في "الكبرى" (3754) بسند ضعيف.

والحديث رواه البيهقي بإسناد ضعيف مرسل. قوله: ولا يسن سجود الشكر عند استمرار النعمة وإنما يسن عند مفاجأة نعمة واندفاع بلية من حيث لا يحتسب، وكذلك إذا رأى مبتلى ببلية أو معصية. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن النووي في "شرح المهذب" قد قيد النعمة والنقمة بكونهما ظاهرتين، ونقل ذلك عن الأصحاب، وهو كذلك في "التنبيه" "والمهذب" ولم يذكر هو ولا غيره ما احترزوا به عنه. والصواب ما اقتضاه كلام الرافعي من عدم التقييد، فإن عدم ظهور ذلك للناس لا أثر له في ما نحن فيه. الأمر الثاني: أن التقييد بكونه من حيث لا يحتسب -أي: يدري-، قد ذكره أيضًا في "المحرر" وفيه أيضًا نظر. وإطلاق الأصحاب يقتضي أنه لا فرق بين أن يتسبب فيه أم لا، ولهذا لم يذكر في "شرح المهذب" هذا القيد، وقد تعرض في "البحر" لأمثلة من ذلك فقال: أما الأول فلحدوث الولد والمال والجاه والنصر على الأعداء. وأما الثاني: فلنجاته من الغرق ونحوه. ومَثَّل في "الكفاية" أيضًا الأول: بقدوم الغائب وشفاء المريض. والثاني: بأن ينجو من مؤذٍ غلب على ظنه وقوعه فيه كالهدم والغرق ونحوهما.

ومَثَّل لهما أيضًا في "شرح المهذب" بحدوث المطر عند القحط وزواله عند خوف التأذي به. ومقتضى ما نقلناه عن "البحر" عدم الفرق بين أن يكون له ولد ومال أم لا، ومقتضى كلام "الكفاية" أن النعمة على الولد ونحوه كهى عليه. والظاهر أن حدوث الأخ ونحوه كحدوث الولد. وقال القاضي الحسين؛ إنما يسجد لنعمة طالما كان يتوقعها أو لانكشاف بلية طالما كان فيها ويترقب انكشافها. الأمر الثالث: أن ما ذكره في الفاسق قد قيده ابن الرفعة في "الكفاية" بكونه يتظاهر بفسقه، ونقله عن الأصحاب، ويدل عليه ما سيأتي في القضاء، أن الحاكم يصغي إلى شهادة الفاسق المستتر دون المعلن. واستحباب السجود لرؤية العاصي يؤخذ منه استحبابه لرؤية الكافر بطريق الأولى، وبه صرح في "البحر". الأمر الرابع: لو حضر المبتلى أو العاصي في [ظلمة] (¬1) أو عند أعمى أو سمع سامع صوتهما، ولم يحضرا عنده فالمتجه استحباب السجود أيضًا، ويأتي مثل هذا النظر واضحًا في الدعاء عند رؤية الكعبة المشرفة فراجعه. قوله: ثم إذا سجد لنعمة أصابته أو بلية اندفعت عنه، ولا تعلق لها بالغير أظهر السجود، وإن كان ليلًا في غير نظر إن لم يكن ذلك الغير معذورًا فيه كالفاسق فيظهر السجود بين يديه تعييرًا له فربما ينزجر ويتوب. وإن كان معذورًا كمن به زمانة ونحوها فيخفي كيلا يتأذى، وكيلا يتخاصما. انتهى. فيه أمور: أحدهما: قال ابن يونس في "شرح التعجيز": عندي أنه لا يظهر ¬

_ (¬1) في جـ كلمة.

السجود لتجدد الثروة بحضرة الفقير لما فيه من الانكسار، والذي قاله حسن. الثاني: أن تقييده بقوله: "ولا تعلق لها بالغير" صريح في أنه لا يظهر لمن لم يندفع عنه ممن شاركه، وهو ظاهر مؤيد لما سبق عن ابن يونس. الثالث: أن إظهاره للفاسق مشروط بأن لا يخاف ضرورة، فإن خاف أخفاه، قاله في "شرح المهذب". الرابع: ذكر القاضي الحسين في "تعليقه" والفوراني في "العمد" وابن يونس شارح "التعجيز" أنه يظهره للمبتلى إذا كان غير معذور كالمقطوع في السرقة ليتوب. ولقائل أن يقول: إن تاب المقطوع فالسجود على البلية خاصة، فلا يظهره، وإن لم يتب سجد وأظهر. وقد يقال: صورته إذا جهلنا هل تاب أم لا؟ قوله من "زياداته": قال أصحابنا: لو سجد في الصلاة للشكر بطلت صلاته، فلو قرأ آية سجدة ليسجد بها للشكر ففي جواز السجود وجهان في "الشامل"، "والبيان": أصحهما: يحرم وتبطل صلاته. وهما كالوجهين في من دخل المسجد في وقت النهي ليصلى التحية انتهى. وهذا الذي نقله عن هذين قد ذكر نحوه في "شرح المهذب" أيضًا، وهو كلام مظلم حكمًا وتنظيرًا، وغلط عجيب حصل من فهم الكلام على غير وجهه، فإن الذي ذكره صاحب "الشامل" ما نصه: إلا أنه إذا تجددت عليه نعمة وهو في الصلاة فإنه لا يسجد فيها، لأن سبب السجدة ليس منها.

فإن قرأ سورة "ص" فإن سجدتها عندنا سجدة شكر، فهل يسجد في الصلاة؟ وجهان: أحدهما: يسجد، أن سببها وجد في الصلاة. والثاني: لا يسجد، لأنها سجدة شكر وليست متعلقة بالتلاوة، وإنما يوجد سببها عند التلاوة، فلم يسجدها في الصلاة كسائر سجود الشكر. هذا لفظه بحروفه. وحاصل الخلاف الذي فيه هو الخلاف المعروف في أنه هل يسجد في الصلاة لقراءة "ص"، وأن في قوله: "فإنَّ سجدتها عندنا سجدة شكر" هي "إنَّ" الناصبة للاسم الرافعة للخبر، واعترض بهذه الجملة بين الشروط وهو قوله: "فإن قرأ سورة ص"، وبين الجزاء وهو قوله: "فهل يسجد. . . ." إلى آخره. واقتضى كلام النووي أنه خلاف غير ذلك الخلاف [ولهذا ذكره] (¬1) من "زوائده" بعد ذكره له في الأصل، وليس كذلك، وأن ذلك يطرد في آيات السجود جميعها وهو غير معقول، وأن محله في ما إذا قرأ بقصد السجود. وقد تقدم من كلامه هو أنه لا نقل في مثل ذلك. نعم إن كان مراده، فلو قرأ آية سجدة للشكر ليسجد بها -أى: وتلك الآية هي ص- خاصة فأخر لفظ الشكر، فإنه محتمل على بُعْدهِ لفظًا ومعنى، ولكنه فاسد من جهة أن ذلك الخلاف ليس خاصًا بما إذا قرأ بقصد السجود. وسبب هذا الغلط الذي وقع للنووي هو نقله من "البيان" فإنه قال: وإن كان في الصلاة لم يسجد لأن سبب السجدة ليس منها، فإن قرأ فيها ¬

_ (¬1) سقط من أ.

سورة فهل يسجد بها للشكر؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ. أحدهما: يسجد، لأن سببها وجد في الصلاة، وهو التلاوة ثم ذكر الئاني بتعليل صاحب "الشامل" وكأنه -والله أعلم- سقط لفظة "ص" بعد التعبير بقوله: "سورة". قوله في أصل "الروضة" فرع في جواز سجود الشكر على الراحلة بالإيماء وجهان كالتنفل مضطجعًا مع القدرة على القيام. . . . إلى آخره. وما جزم به من حكاية الوجهين قد خالفه في آخر هذا الباب من "شرح المهذب" فقال: جاز على المذهب، وبه قطع الجمهور، وفيه وجه شاذ أنه لا يسجد. هذه عبارته. قوله من "زوائده": قال في "التهذيب": لو تصدق صاحب هذه النعمة وصلى شكرًا فحسن انتهى. لم يبين -رحمه الله- أن صورة المسألة أن يفعل ذلك مع السجود أو بدلًا عنه، ومراده هو الأول وقد صرح به في "شرح المهذب"، ولكن الخوارزمي -تلميذ البغوي- قد فهم من كلام شيخه خلافه، فقال في كتابه "الكافي": لو أقام التصدق أو صلاة ركعتين مقام سجود الشكر كان حسنًا. قوله: لو خضع الرجل لله تعالى فتقرب إليه بسجدة ابتداء من غير سبب فهل يجوز ذلك؟ فيه وجهان عن صاحب "التقريب" أنه يجوز، وعن الشيخ أبي محمد أنه لا يجوز، كما لا يجوز التقرب بركوع مفرد، ونحوه، وهذا هو الصحيح عند الإمام والمصنف وغيرهما. انتهى. وما نقله عن الشيخ أبي محمد والإمام وغيرهما من التحريم قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإن الذي اختاره في "النهاية" ونقله عن شيخه إنما هو الكراهة فقال: فرع: ذكر صاحب "التقريب" عن

الأصحاب أن الرجل لو خضع لله تعالى فسجد من غير سبب فله ذلك، ولا بأس؛ وهذا لم أره إلا له. وكان شيخي يكره ذلك، ويشتد نكيره على من يفعل ذلك، وهو الظاهر عندي. هذا كلام "النهاية" ذكره قُبَيْل سجود السهو. والإنكار لا يستلزم التحريم خصوصًا مع التصريح بالكراهة، فقد نصوا على جواز الإنكار في المكروهات للإرشاد والتعليم. وكان الموقع للرافعي فيما وقع فيه إنما هو إيهام وقع في كلام "الوسيط"، فإنه قال: ولو ترك سجود التلاوة حتى طال الفصل ففي قضائها قولان كما في النوافل ذكرهما صاحب "التقريب" وقال: ما لا يتقرب به أيضًا لا يقضي كصلاة الخسوف والاستسقاء، وهذا إشارة إلى أن التقرب بسجدة من غير سبب جائز. وكان الشيخ أبو محمد يشدد النكير على فاعل ذلك، وهو الصحيح. هذه عبارته ولا شك أنه توهم.

صلاة التطوع

الباب السابع في صلاة التطوع قوله: والنفل يطلق على ما عدا الفرائض، واختلفوا في التطوع فقيل: إنه كالنافلة، وقيل: إنه خاص ما لم يرد فيه بخصوصه نقل، وهؤلاء قالوا: ما عدا الفرائض ثلاثة أقسام: سنن: وهي التي واظب عليها [رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومستحبات: وهي التي فعلها أحيانًا ولم يواظب عليها] (¬1). وتطوعات: وهي ما لم يرد فيه بخصوصه نقل. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا التقسيم، وهو تقسيم غير شامل لأن ما أمر به ولم يفعله لا يدخل فيه ولا يعلم أيضًا دخوله في أيِّ الأقسام. وقد صرح به الخوارزمي في "الكافي" وقال: إنه داخل في قسم المستحب. قوله: واختلفوا في الرواتب أيضًا فمنهم من قال: هي النوافل المؤقتة بوقت مخصوص، ومنهم من قال: هي السنن التابعة للفرائض. انتهى كلامه. لم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا منهما. والأصح هو الثاني، كذا ذكره الرافعي في باب صفة الصلاة في الكلام على النية فقال: إنه المشهور، ولم يذكره في "الروضة" هناك. نعم جزم الرافعي بالوجه الثاني في باب صلاة التطوع في باب صلاة العيد في الكلام على التكبير عقب الصلوات. وفائدة الخلاف في النذر، فإذا قال مثلًا: لله تعالى علىّ أن أصلي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

رواتب الغد أو هذا اليوم أو الليلة، ففي لزوم العيد والضحى والوتر هذا الخلاف. قوله: وذهب الأكثرون إلى أن الرواتب عشر ركعات، وهي ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، ومنهم من زاد على العشر ركعتين أخرتين قبل الظهر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ثابر على اثنتى عشر ركعة من السنَّة بنى الله له بيتًا في الجنة" (¬1)، ثم ذكر ما ذكرناه. انتهى. وثابر بثاء مثلثة وباء موحدة أى واظب. قوله: وفي استحباب ركعتين قبل المغرب وجهان، منهم من قال باستحبابهما، وإن لم يكونا من الرواتب المؤكدة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا قبل المغرب ركعتين" ثم قال في الثالثة "لمن شاء" (¬2) كراهة أن يتخذها الناس سنة. ومنهم من قال: لا تستحبان، لما روى عن ابن عمر أنه سُئِلَ عنهما فقال: ما رأيت أحدًا علي عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها (¬3). انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، وكلام "المحرر" يقتضي تصحيح عدم الاستحباب، فإنه عبر بقوله: "واستحب بعضهم" ولهذا صرح به النووي في اختصاره له في كتابه "المنهاج" ثم خالفه فيه وفي باقي كتبه فصحح الاستحباب، وهو الصواب لأحاديث ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (414) والنسائي (1794) وابن ماجة (1140) وأبو يعلي (4525) وابن أبي شيبه (2/ 19) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (60/ 4) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. وقال الألباني: صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (1128) وأبو داود (1281) من حديث عبد الله المزني. (¬3) أخرجه أبو داود (1284) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. قال الألباني: ضعيف.

كثيرة صحيحة. وقال في "الروضة": الصحيح استحبابهما ففي مواضع من "صحيح البخاري" عن ابن مغفل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صلوا قبل صلاة المغرب. . . ." قال في الثالثة: "لمن شاء" (¬1) والله أعلم. والحديث الذي عزاه إلى البخاري هو فيه كذلك أعني من غير تقييد الصلاة بركعتين والتقييد [الواقع في الرافعي رواه أبو داود. ومغفل بميم مضمومة وغين معجمة] (¬2) مفتوحة ثم فاء مشددة. الأمر الثاني: إنما ذكره الرافعي من كونهما ليسا من الرواتب المؤكدة على القول بالاستحباب قد أهمله النووي فلم يذكره في "الروضة" ولا في غيرها. الأمر الثالث: إذا قلنا باستحبابها فيستحب أن تكونا خفيفتين كذا قاله الرافعي في "المحرر". وفي باب المواقيت من "الشرح الصغير" ولم يتعرض له في "الكبير" ولا في "الروضة" "وشرح المهذب" "والكفاية" بخلاف الركعتين بعدها فإنه يستحب تطويلهما كا قاله في "الكفاية" مستدلًا بحديث في أبي داود؛ لكن في زوائد "الروضة": أنه يستحب في الأولى من سنة المغرب {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولم يقيده بالمتقدمة ولا بالمتأخرة [والظاهر إرادة المتأخرة] (¬3) ويدل على استحباب الخفة في الركعتين المتقدمتين ما رواه مسلم كانوا يصلونها عند أذان المغرب وفي ابن حبان: ولم يكن بين الأذان والإقامة شئ (¬4). الأمر الرابع: قال في "شرح المهذب": إن هذه الاستحباب إنما هو ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (599) ومسلم (837). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) صحيح ابن حيان (1589).

بعد دخول وقت المغرب، وقبل شروع المؤذن في إقامة الصلاة، فإن شرع فيها كرهت النافلة في المغرب وفي غيرها. وهذا الكلام مع ما استدللنا به على التحفة يشعر أن يتقدم هذه الصلاة على إجابة المؤذن، والمتجه خلافه. ويدل عليه ما رواه الشيخان (¬1): "بين كل أذانين صلاة" والمراد بالأذانين الأذان والإقامة ولهذا الحديث قال المحاملي في "اللباب" والنووي في "شرح المهذب": يستحب قبل العشاء ركعتان. ونقله الماوردي عن "البويطي". نعم إن كان بحيث لو اشتغل بالركعتين عقب الأذان فاتت فضيلة التحرم فقد دار الأمر بين فوات أحد ثلاثة أشياء مطلوبة وهي: إجابة المؤذن، وصلاة الركعتين، وإدراك فضيلة التحرم. وفيما يفعله إذا نظر، والأولى تأخيرهما إلى ما بعد المغرب، لأن السنة المتقدمة لا تفوت بالتأخير. واعلم أن الحديث المذكور أولًا أخرجه البخاري في "صحيحه" بالمعنى لا باللفظ، والمراد بالسنة المذكورة فيه هو الطريقة اللازمة لا المعنى المصطلح عليه. وأما الحديث الثاني فرواه أبو داود بإسناد حسن وأجاب البيهقي وغيره عنه بأنه ناف وغيره مثبت خصوصًا أن من أثبت أكثر عددًا ممن نفى. قوله: والمذكور في "الكتاب" أن غاية الوتر إحدى عشر وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامد وابن كج ومن تابعهما، وقال صاحب "التهذيب" وآخرون: الغاية ثلاثة عشر. انتهى. وقد اختلف تصحيح الرافعي في هذه المسألة فصحح في "شرح مسند الإمام الشافعي" أن أكثره ثلاثة عشر. ¬

_ (¬1) تقدم.

وصحح في "المحرر" أنه إحدى عشر، وقال في "الشرح الصغير": إنه قول طائفة كثيرة، ولم يذكر ترجيحًا غيره، وصححه النووي في كتبه كلها ولم ينبه في "الروضة" على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: وهل تجوز الزيادة على الغاية المنقولة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن اختلاف فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه السُّنة يشعر بتفويض الأمر إلى خبرة المصلي. وأظهرهما: أنه لا تجوز الزيادة، ولو فعل لم يصح وتره كسائر الرواتب. انتهى كلامه. واعلم أنَّا إذا لم نصحح وتره فهل تبطل الصلاة من أصلها أم لا؟ لم يصرح به الرافعي ولا النووي، والقياس أنه إن علم المنع وتعمد الفعل بطلت وإلا انعقدت نافلة نظرًا إلى عموم الصلاة كما قلنا في الإحرام بالظهر قبل الزوال، ونحو ذلك. ولا شك أن التحريم يأتي فيما ذكرناه أيضًا. وحينئذ فكان الصواب التعبير بقوله: "لم تصح صلاته". قوله: وقول الغزالي: وعدده من الواحد إلى إحدى عشرة، عليه استدراك لفظي من جهة الحساب، وهو أنه جعل الواحد من العدد والحُسَّاب يمتنعون عن ذلك، ويجعلون الواحد أم العدد. ويقولون: العدد نصف حاشيتيه اللتين بعدهما منه سواء، وليس للواحد حاشيتان. انتهى كلامه. هذا الاستدراك ذكره أيضًا في الكفن، ولم يذكر الضابط المذكور هنا، ومثاله: الاثنان له حاشيتان وهي الواحد والثلاثة ومجموعهما أربعة، والاثنان نصفها.

وهكذا الثلاثة لها حاشيتان متصلتان بها وهي الاثنان قبلها والأربعة بعدها، ومجموع الحاشيتين ستة؛ والثلاثة نصفها. فإن لم نأخذ في مثالنا وهو [الثلاثة] (¬1) من الحاشية الأولى ما هو متصل بها وهو الاثنان، بل ما قبل المتصل بها بمرتبة وهو واحد فلا نأخذ في الحاشية الثانية ما هو متصل بها وهو الأربعة بل ما بعد المتصل بها برتبة وهو الخمسة، ومجموع الحاشيتين المذكورتين، وهي الواحد والخمسة ستة والثلاثة نصفها، وإلى هذا أشار بقوله بعدهما: منه على السواء، وهو بضم الباء الموحدة وعلى هذا فقس حتى إذا نزلت عن العشرة إلى الخمسة، فقد نزلت بخمس مراتب فاصعد عنها بخمس مراتب فتكون خمسة عشر، ومجموع الخمسة والخمسة عشر: عشرون، والعشرة نصفها. قوله: وإذا زاد على ركعة أوتر بثلاث فصاعدًا موصولة فله أن يتشهد في الأخيرة لا غير، وله أن يتشهد في الأخيرتين، وقيل: لا يجوز الاقتصار على تشهد واحد. وقيل: لا يجوز لمن أوتر بثلاث أن يأتي بتشهدين في تسليمه والظاهر التخيير، ويرد الخلاف إلى الأولوية، ففي وجه أن التشهد الواحد أولى. واختاره في "الحلية"، وفي وجه أن التشهدين أولى. والثالث: التسوية، وهو مقتضى كلام كثيرين. انتهى ملخصًا. ومقتضاه رجحان الثالث، واقتصر في "الروضة" على نقل ترجيح الروياني ذهولًا منه، واقتصر عليه في "شرح المهذب" أيضًا لأجل اقتصاره عليه في "الروضة"، وصرح بتصحيحه في "التحقيق" ولم يصرح في "الشرح الصغير" بترجيح بالكلية. قوله: وإذا أوتر بالثلاث فالأفضل الفصل لزيادة العبادة، وقيل: الوصل ¬

_ (¬1) في ب: المذكور.

للاتفاق على صحته، وقيل: إن كان إمامًا فالوصل، لأن الجماعة تنظم أصحاب المذاهب، وإلا فالفصل. وعكس الروياني فقال: أصِلُ منفردًا وأفصل في جماعة كيلا يتوهم [خلل] (¬1) فيما صار إليه الشافعي وهو صحيح ثابت بلا شك. انتهى. وما ذكره من فرض الخلاف في الثلاث قد تابعه عليه في "الروضة" وهو يشعر بأن ما زاد عليها مخالف لها، وهو كذلك، فإن الأفضل فيه الفصل بلا خلاف كما نقله في "شرح المهذب" عن الإمام، وأقره عليه، وجزم به في "التحقيق" وحكى في "البيان" وجهًا خامسًا: أن الأفضل الوصل إلا أن يكون ركعتان لصلاة وركعة للوتر فالأفضل الفصل، وهو غريب، يستفاد منه جواز الجمع بين الوتر وغيره. قوله: والثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة لا شئ قبلها في أصح الأوجه لزيادة العبادة. والثاني: أن الركعة الفردة أفضل لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإيتار بواحدة. قال في "النهاية": وغلا هذا القائل فجعل الركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة موصولة. والثالث: الفرق بين المنفرد والإمام كما سبق. انتهى كلامه بحروفه. تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو يوهم أن الركعة التي لا تتصل بنافلة قبلها بالكلية هو محل الخلاف، وليس كذلك، فإن المنقول يخالفه، فقد حكى المتولي عن القفال أنه قال: كل أحد يعلم أن الثلاثة من الجنس أفضل من واحدة منه. زاد الروياني: ولكن صورة المسألة في رجل صلى ركعتين بنية النفل وأوتر بعدها بركعة، وآخر صلى إحدى عشرة ركعة بنية الوتر، وقال البغوي: ليس المراد من قولنا: إن الوتر بواحدة أفضل، أن يقتصر على ¬

_ (¬1) في ب: ذلك.

ركعة واحدة، بل المراد أن إفرادها عما قبلها أفضل من وصلها بما قبلها. قوله: ويستحب أن يكون الوتر آخر الصلاة بالليل، فإن كان رجل ممن لا تهجد له فينبغي أن يوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها وإلا أخره إلى بعد التهجد. انتهى. وما ذكره من فعل الوتر عقب العشاء ممن لا تهجد له تابعه على إطلاقه في "الروضة"، وقال في "شرح المهذب": هذا إذا لم يثق باستيقاظه في أواخر الليل، فإن وثق فيستحب له تأخير الوتر ليفعله في أواخر الليل لأحاديث كثيرة صحيحة. قوله: وقول الغزالي في "الوجيز": ويشبه أن يكون الوتر هو التهجد معناه أن الله تعالى أمر نبيه بالتهجد وأوجبه عليه فقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} (¬1) الآية. ويشبه أن يكون المراد من هذا التهجد الأمور به هو الوتر لأنه -عليه السلام- كان يحيي الليل بوتره وكان واجبًا عليه، وقد ذكر الشافعي في "الأم" و"المختصر" نحو ذلك أيضًا، ويجوز أن يعلم كلام الغزالي بالواو؛ ولأن الروياني حكى أن بعضهم قال: إن الوتر غير التهجد. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أَنَّ ما دَلَّ عليه كلامه هنا من تصحيح الاتحاد قد ذكر ما يخالفه في كتاب النكاح في الكلام على الخصائص فإنه ذكر الخلاف وقد تقدم في هذا الباب، ثم قال: والأرجح أنه غيره، وهو مقتضى كلام "الشرح الصغير" هناك أيضًا، وصرح به هنا في كتابه المسمى "بالتذنيب" فقال: إنه الأظهر. ووقع هذا الاختلاف بلفظ هو أصرح من لفظ الرافعي. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء (79).

الأمر الثاني: أن الغزالي قد صرح بالمغايرة في كتاب النكاح من "الوسيط" فقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختص بواجبات كالضحى والأضحى والوتر والتهجد. وكان الصواب الإعلام به، فمن العجب أن يجعل كلام غيره سببًا لإعلام كلامه مع وجود ذلك بعينه في كلامه. قوله: ويستحب القنوت في الوتر في النصف الأخير من رمضان، وفي باقي السنة وجهان: أظهرهما -وبه قال الجمهور-: لا يستحب. وذكر الروياني أن كلام الشافعي يدل على كراهته أيضًا، ثم حكى عن بعضهم وجهًا متوسطا: أنه يجوز من غير كراهة. انتهى. وهذا الكلام ظاهر في رجحان الكراهة، لكن قال في "الشرح الصغير": أشبه الوجهين أنه لا يكره، ونقل النووي في "شرح المهذب" عن الرافعي أن ظاهر النص أنه مكروه، ولم يذكر غير ذلك. واختار في "التحقيق" أنه يستحب في جميع السنة. قوله في "أصل الروضة": ولنا وجه أنه يقنت في جميع شهر رمضان. انتهى. وهذا الوجه لم يذكره الرافعي في شئ من كتبه ولم يحكه غيره من المطولين كابن الرفعة، ولا من المختصرين. نعم حكاه الرافعي في "الشرحين" رواية عن مالك من جملة ثلاث روايات فتوهم النووي أنه عائد لبعض الأصحاب، فصرح به، وقد وقع في ذلك في "شرح المهذب" أيضًا لأن عادته أن يضع فيه ما لخصه في "الروضة"، ويزيد على ذلك فيعزوه إلى الرافعي مع ما اشتمل عليه من التعبيرات العجيبة والمخالفات الصريحة كما تقدم لك في مواضع كثيرة،

وستعرف أيضًا كثيرًا منها. قوله: وفي موضع القنوت في الوتر وجهان: أصحهما: بعد الركوع فإنَّ ما قبله محل للقراءة والقنوت دعاء فهو موضع الدعاء حيث يقول: سمع الله لمن حمده. والثاني: قبله. وفي "البيان" عن بعض المتأخرين: إنه يتخير. انتهى. وتعبيره بقوله: "سمع الله لمن حمده" سهو، فإن هذا يبتدئ به عند ابتداء رفع الرأس من الركوع وينهيه عند الانتصاب. والصواب أن يقول: ربنا لك الحمد، فإنه الذي يأتي به بعد الرفع. قوله: وإذا قدمه ففي "البيان" عن بعض متأخري الأصحاب: أنه يكبر بعد القراءة ثم يقنت، وفي "التتمة": أنه لا يكبر. انتهى. لم يصحح في "الشرح الصغير" أيضًا، وصحح النووي في كتبه الثاني، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: والقنوت هو الذي تقدم في صلاة الصبح، واستحب الأئمة أن يضيف إليه ما روى عن عمر أنه قنت وهو: اللهم إنا نستعينك إلى آخره. فيه أمور: أحدهما: أن كلامه كالصريح في أن عمر كان يقنت في الوتر بقوله: اللهم إنا [نستعينك] (¬1) وهو الذي رواه البيهقي وغيره (¬2)، ثم قالوا: إن ذلك قد صح عنه إنما هو القنوت في صلاة الصبح، واختلفت الرواية في لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) يأتي تخريجه قريبًا.

والرواية التي أشار البيهقي إلى اختيارها أنه يقنت فقال: اللهم اغفر لنا وللمؤمنين [والمؤمنات] (¬1) والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أوليائك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم لك نعبد ولك نصلى ونسجد، وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك الجد ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق (¬2). هذا لفظ رواية البيهقي. الأمر الثاني: أن شرط استحباب الجمع بينهما أن يكون منفردًا أو إمام محصورين يرضون بالتطويل فإن لم يكن، اقتصر [على واحد منهما. وحيث اقتصر] (¬3) أتى بقنوت الصبح، قاله في باب صفة الصلاة من "شرح المهذب". الأمر الثالث: في الكلام على ألفاظ واقعة في القنوت المذكور فنقول: اعلم أن معنى نستعين ونستغفر ونستهدي: نطلب العون والمغفرة والهداية، لأن السين للطلب، ونؤمن: أى نصدق، والتوكل: الاعتماد، وإظهار العجز، والثناء: المدح. وأما النثاء: بتقديم النون فإنه يطلق على الذم. والشكر: يطلق على العبادة سواء كانت بالقول أم بغيره. والكفر: ستر النعمة والعبادة والطاعة والخضوع. ونحفد: بفتح النون وبالدال المهملة معناه: نسرع، تقول: حفد البعير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (4968) وابن أبى شيبة (2/ 106) والبيهقي في "الكبرى" (2963) والطحاوي في "شرح المعانى" (1370) من حديث عبيد بن عمير. قال الألباني: صحيح. (¬3) سقط من ب.

حفدًا وحفدانًا كما قاله الجوهري، وأحفُد لغة فيه، فعلى هذا يضم مضارعه. والجد: بكسر الجيم معناه الحق؛ قال ابن مالك: في مثلثة الجد بالفتح من النسب، معروف وهو أيضًا العظمة، والجد بالكسر نقيض الهزل، وبالضم الرجل العظيم. وملحق: هو بكسر الحاء على المشهور أى لاحق بهم، ويجوز فتحها، والفتح لأَن الله تعالى ألحقه بهم. والكسر على معنى لحق كما يقال: أنبت الزرع، بمعنى نبت. وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى. قال في "الروضة": وينبغي أن يقول: اللهم عذب الكفرة، ولا يقيده بأهل الكتاب للحاجة إلى التعميم في أزماننا. وأشار بذلك إلى إدخال التتار فإنهم كانوا في زمانه قد استولوا على أكثر أقاليم المسلمين المشرقية، وكانوا إذ ذاك كفارًا لا كتاب لهم. وأما الآن فقد زال هذا المعنى، فينبغي أن يأتي بما ورد في الحديث. والصد: المنع. والأولياء: الأنصار. ومعنى أصلح ذات بينهم أى أمورهم، ومواصلاتهم، وألف أى: اجمع على الخير، والحكمة: كل ما منع القبيح وأصله وضع الشئ في محله. وأوزعهم: أي ألهمهم، والعهد: هو ما ألزم الله تعالى به خلقه من القيام بأوامره واجتناب نواهيه. قوله: وذكر القاضي الروياني أنه يقدم قنوت عمر على قنوت الصبح، وعليه العمل. ونقل في "البيان" عن القاضي أبي الطيب أنه قال: كان شيوخنا

يعكسون. انتهى ملخصًا. والصحيح ما قاله الروياني من تقديم قنوت عمر، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، وجزم به في "المحرر"، وصحح النووي تقديم قنوت الصبح قال: لأنه ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوتر. قوله: وأما القسم الثاني وهو ما لا تشرع فيه الجماعة فينقسم إلى ما يتعلق بوقت أو فعل، وإلى التطوع [المطلق] (¬1). والأول أنواع منها الرواتب. . . . إلى آخره. أراد بالأول المتعلق بالوقت، والمتعلق بالفعل وإن كان خلاف المتبادر فافهمه. وأهمل التصريح بأمور كان من حقه أن ينبه عليها في هذا الباب ويذكرها في هذا القسم، وقد نبه على بعضها في "الروضة" فقال: ومنها ركعتان عقب الوضوء ينوي بها سنة الوضوء قلت: وقياس الغسل كذلك إن قلنا: يندرج فيه الأصغر. ومنها: ركعتا الاستخارة ثبت حديثهما في "صحيح البخاري" (¬2)، ومنها سنة الجمعة على ما هو مشروح في موضعه، ومنها ركعتا صلاة الحاجة. انتهى. وأهمل -أعني النووي- هنا أمرين ذكرهما في "شرح المهذب": أحدهما: ركعتان قبل القتل لمن أمكنه، وقد ثبت حديثهما في "صحيح البخاري" (¬3) في قضية خُبيب -بضم الخاء المعجمة- حين أخرجه الكفار ليقتلوه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: وقد ذكره في "الروضة" في آخر الباب: ركعتان في المسجد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) حديث (1109) من حديث جابر. (¬3) أخرجه البخاري (3858) من حديث أبي هريرة.

لمن قدم من السفر لحديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين" (¬1) رواه البخاري ومسلم. قال في "الأذكار": وكذا يستحب أيضًا الركعتان عند خروجه من منزله للسفر لحديث ورد فيه أخرجه الطبراني، ثم حكى خلافًا لأصحابنا هل يقرأ فيِ هذه الصلاة في الأولى {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، أو يقرأ في الأولى المعوذة الأولى، وفي الثانية الثانية. ومنها: صلاة التسبيح على ما تقدم إيضاحها في باب سجود السهو. ومنها صلاة الغفلة عشرون ركعة بين المغرب والعشاء، قاله الماوردي، وأورد فيه حديثًا فقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها ويقول: "هذه صلاة الأوابين" (¬2). وذكر الروياني مثله. وفي كتاب المحاملي استحباب صلاة التوبة وهي ركعتان لمن أذنب يستغفر الله عقبهما من ذنبه، فإنه إذا فعل ذلك غفر ذنبه، وأورد فيه حديثًا وذكر في "الإحياء" أنه يستحب ركعتان عند دخول الشخص منزله، وعند خروجه منه، وفيه أيضًا أنه يستحب ركعتان بعد طلوع الشمس عند خروج وقت الكراهة قال: وهي صلاة الإشراق المذكورة في قوله تعالى: "يسبحن بالعشي والإشراق" (¬3) أى: يصلين، وجعلها غير صلاة الضحى، لكن ذكر الحاكم في "مستدركه" (¬4) عن ابن عباس أن صلاة الإشراق هي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4156) و (4400) ومسلم (716) و (2769). (¬2) يأتي. (¬3) سورة ص: 18. (¬4) أخرجه الحاكم (6873) والطبراني في "الكبير" (24/ 406) حديث (986) وإسحاق ابن راهوية في "مسنده" (2116) والحميدي (333) بسند ضعيف.

صلاة الأوابين [وهي صلاة الضحى] (¬1)، وسميت بذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، وهي صلاة الأوابين" (¬2)، رواه الحاكم من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي "الكفاية" استحباب ركعتين عقب الأذان. واعلم أن النووي في "شرح المهذب" لم يصرح في صلاة الحاجة باستحباب ولا بعدمه، بل اقتصر على ذكر حديثها وضعفه، وقال في "التحقيق": إنها لا تكره، وإن كان حديثها ضعيفًا إذا لا تعب فيها. وحديثها هو ما رواه الترمذي بإسناد ضعيف عن ابن أبي أوفي -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ثم ليثن على الله تعالى، وليصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا حاجة لك فيها رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين" (¬3). قوله: وأكثر الضحى ثنتا عشرة ركعة ذكره القاضي الروياني، وورد في ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه ابن خزيمة (1224) والحاكم (1182) والطبراني في "الأوسط" (3865) والبيهقي في "الشعب" (3065) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال الألباني: صحيح. (¬3) أخرجه الترمذي (479) وابن ماجة (1384) والحاكم (1199) والبيهقي في "الشعب" (3265). قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث. وقال الألباني: ضعيف جدًا.

الأخبار. انتهى. والذي قاله الروياني قد جزم به الرافعي في "المحرر"، "والشرح الصغير"، وجزم به أيضًا النووي في "المنهاج" و"الروضة"، ولم ينقله في "الروضة" عن الروياني كما نقله عنه الرافعي، ثم خالف ذلك في "شرح المهذب" و"التحقيق" فقال في "الشرح" المذكور ما نصه: أكثرها ثمان كذا قاله المصنف والأكثرون، ورواه الشيخان من حديث أم هانئ. وقال الرافعي والروياني وغيرهما: أكثره ثنتا عشرة ركعة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر "إن صليت الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتًا في الجنة" (¬1) رواه البيهقي وضعفه. وذكره في "التحقيق" كما ذكره في "شرح المهذب"، وقد ظهر بما تقدم أن المذكور في "الروضة" و"المنهاج" ضعيف مخالف لما عليه الأكثرون. وحاصله أن الرافعي لما ظفر بها للروياني فقط حالة تصنيف الشرح جزم به في التصانيف المتأخرة عنه المأخوذة منه، ثم قلده أيضًا فيه النووي غير باحث عن المسألة، وحذف المنقول عنه على عادته فاعلمه. قوله: وروى عن أم هانئ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفتح سبحة الضحى ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين (¬2). انتهى. والسبحة -بضم السين- هي: الصلاة. والحديث في "الصحيحين"، وإن كان بغير هذا اللفظ. قوله؛ ووقتها من حين ترتفع الشمس إلى الاستواء. انتهى. والذي قاله من أن وقتها من حين الارتفاع قد جزم به أيضًا النووي في ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (4685) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثانى" (987). قال الألباني: ضعيف جدًا. (¬2) أخرجه البخاري (1052) ومسلم (336).

"شرح المهذب" و"التحقيق"، وابن الرفعة في "الكفاية"، ثم خالف في "الروضة" فقال: إن الذي قاله الأصحاب: إن وقتها يدخل بطلوع الشمس، ولكن يستحب تأخيرها إلى الارتفاع. قال: وقال الماوردي: إن وقتها المختار إذا مضى ربع النهار، والذي قاله الماوردي قد جزم به في "التحقيق"، والمعنى في ذلك على ما قاله في "الإحياء" أن لا يخلو كل ربع من النهار عن عبادة. قوله: ومنها: تحية المسجد، روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين" (¬1). انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه ليس في كلامه ولا في كلام "الروضة" ما يؤخذ منه الحكم في الزيادة على الركعتين هل هو ممتنع أم لا؟ وكلام "المنهاج" و"المحرر" ظاهر في المنع فإنه قال: "وتحية المسجد ركعتان" وليس كذلك، بل [تجوز] (¬2) الزيادة إذا أتى بسلام واحد كما صرح به في "شرح المهذب"، فإن فصل فمقتضى كلامه المنع، والجواز محتمل. الأمر الثاني: أن مقتضى إطلاق المصنف وغيره أن كل داخل مأمور بهما سواء أراد الجلوس أم لا، وهو مخالف لما دل عليه الحديث. ورأيت في "المقصود" للشيخ نصر تقييد الاستحباب بمريد الجلوس. الثالث: أن التعبير "بالمسجد" يخرج ما ليس بمسجد كالرباط والمدارس ومصلى العيد، وما بنى في الأراضي المستأجرة على صورة المسجد، وأذن بانيه في الصلاة فيه، فكذلك ما بعضه ليس بمسجد بأن وقف حصة مشاعة مسجدًا، وقد تقدم حكم ذلك كله في باب الغسل فراجعه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1110) ومسلم (714) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. (¬2) في أ: يجعل.

الرابع: يكره أن يدخل المسجد على غير وضوء، فإن فعل فليقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، كذا قاله في "الإحياء". وحكى النووي استحباب ذلك عن بعض السلف، ثم قال: لا بأس به، وجزم به ابن يونس في "شرح التنبيه"، وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية" وزاد: ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال النووي: وكذلك لو كان له شغل يشغله عن الصلاة. والحديث المذكور في الرافعي ثابت في الصحيحين وقد نبه في الروضة على كراهية التحية إذا دخل والإمام يصلي، أو دخل المسجد الحرام، وكل هذا مبسوط في موضعه. قوله: ولو صلى الداخل فريضة أو سنة ونوى التحية أيضًا حصلا، ولو لم ينو التحية حصلت أيضًا. كذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، ويجوز أن يطرد فيه الخلاف المذكور فيما إذا نوى غسل الجنابة هل يجزئه عن العيد والجمعة إذا لم ينوهما؟ انتهى كلامه. وهذه المشابهة التي ذكرها الرافعي إن كانت صحيحة فلا اختصاص لها بالصورة الثانية، وحينئذ فيطرد التخريج في الأولى أيضًا وهي ما [إذا] (¬1) نواهما معًا، لأن الخلاف ثابت في الصورتين كما سبق من كلامه في موضعه، وقد نبه ابن الصلاح على ذلك، قال في "شرح المهذب": وليس الأمر كما قالا، بل الأصحاب كلهم مصرحون بأنه لا خلاف في حصول التحية في الصورتين؛ وفَرَّق بأن غسل الجمعة سنة مقصودة، وأما التحية فالمقصود منها شغل المكان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والفرق الذي قاله غير واضح، ولو قيل بسقوط الأمر لا بحصول التحية لاتجه. قوله: وإذا صلى الداخل على جنازة أو سجد لتلاوة أو شكر لم تحصل التحية. قاله في "التهذيب"، وقضية الجبران لا تحصل التحية بركعة واحدة أيضًا، وفيهما جميعًا وجه. انتهى. والصحيح عدم الحصول في المسألتين، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، وصححه أيضًا في "المحرر" ولكن في المسألة الثانية خاصة، ولم يذكر الأولى، وصححه النووي في كتبه، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فاعلمه. قوله من "زوائده": قال المحاملي: وتكره التحية في حالين: أحدهما: إذا دخل والإمام في المكتوبة. والثاني: إذا دخل المسجد الحرام فلا يشتغل بها عن الطواف. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره عن المحاملي في الحالة الأولى وافقه عليه، وقد جزم [به] (¬1) في غير هذا الكتاب، وفيه قصور وإيهام عجيب، فإنه لو دخل في حال إقامة الصلاة كان الحكم كذلك أيضًا كما صرحوا به في صلاة الجماعة، وصرح به في "شرح المهذب" هنا بل ذكره الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب الجمعة أنه إذا دخل والإمام في آخر الخطبة وكان بحيث لو اشتغل بالتحية فاته إدراك فضيلة التحرم لم يشتغل بها، فهذا يتعدى إلى سائر الصلوات. وأما داخل المسجد الحرام ففيه كلام نوضحه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمر الثاني: أن أبا حامد قد ذكر في "رونقه" مثل ما ذكره المحاملي، وزاد: أنها تكره أيضًا عند خوف فوات السنة الراتبة. والمراد كراهة اقتصاره على نية التحية، فأما إذا نواهما أو أطلق فإنهما يحصلان. والذي ذكره صحيح، وقد ذكر في "الروضة" في الحج أنه يؤخر طواف القدوم لأجل ذلك. الأمر الثالث: أن ما قالوه في المكتوبة يظهر اختصاصه بما إذا لم يكن الداخل قد صلى، فإن صلى جماعة لم تكره التحية، أو فرادى فالمتجه الكراهة. ورأيت في كتاب "الوسائل" لأبي الخير سلامة بن إسماعيل بن جماعة المقدسي أنه إذا دخل المسجد والإمام يصلي جماعة في نافلة كالعيد ففي استحباب ركعتي التحية وجهان. قال: والفرق أن فعل الفريضة في الجماعة أفضل من صلاة النافلة. قوله من "زوائده" أيضًا: ومما نحتاج إلى معرفته أنه لو جلس في المسجد قبل التحية وطال الفصل لم يأت بها كما سيأتي أنه لا يشرع قضاؤها، وإن لم يطل فالذي قاله الأصحاب: إنها تفوت بالجلوس فلا يفعلها. وذكر الإمام أبو الفضل بن عبدان في كتابه المصنف في العبادات أنه لو نسى التحية وجلس فذكر بعد ساعة صلاها، وهذا غريب، ففي الصحيحين في حديث الداخل يوم الجمعة (¬1) ما يؤيده، والله أعلم. وهذا الذي نقله عن ابن عبدان واستغربه قد جزم به في "التحقيق" فقال: وتفوت إذا قعد وطال الفصل أو تعمد تركها. هذه عبارته. وذكر في "شرح المهذب" و"شرح مسلم" أن كلام الأصحاب ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (888) ومسلم (875) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

محمول على هذا. قلت: ويؤيده أيضًا ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فإذا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس وحده، فقال: "يا أبا ذر إن للمسجد لتحية، وإن تحيته ركعتان، قم فاركعهما، قال: فقمت فركعتهما ثم عدت. . . ." (¬1) إلى آخر الحديث. قوله أيضًا من "زوائده": ومنه سنة الجمعة قبلها أربع وبعدها أربع كذا قاله ابن القاص وآخرون وتحصل أيضًا بركعتين قبلها وركعتين بعدها، والعمدة فيما بعدها حديث صحيح "إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعًا" (¬2). وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعدها ركعتين (¬3). وأما قبلها فالعمدة فيه القياس على الظهر، ونستأنس فيه بحديث سنن ابن ماجة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبلها أربعًا (¬4). وإسناده ضعيف جدًا. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الشافعي -رحمه الله- قد نص على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ذكر هذا النص في "الأم" في باب صلاة الجمعة والعيدين من كتاب اختلاف علىِّ وابن مسعود، وهو من أواخر كتب "الأم" قبل ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (361) والطبراني في "الأوسط" (4721) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 666) وأبو الفرج المقرئ في "الأربعين في الجهاد" (10). (¬2) أخرجه مسلم (881) بلفظ: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري (895) ومسلم (882) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) أخرجه ابن ماجة (1129) والطبراني في "الكبير" (12674) من حديث ابن عباس -رضى الله عنهما-. قال الألباني: ضعيف جدًا. قلت: فيه الحجاج بن أرطأة، وعطيه العوفي وكلاهما ضعيف.

كتاب سنن الواقدي، ونقل أبو عيسى الترمذي في كتابه (¬1) عن الشافعي أنه يصلي بعدها ركعتين. وإذا علمت ذلك علمت أن اقتصار النووي على نقلها عن بعض الأصحاب مع وجود النصوص الصريحة غريب. الأمر الثاني: أن الظاهر [أن] (¬2) النصين محمولان على الأدنى والأكمل كما في سنة الظهر، وقد صرح به في ["المهذب"] (¬3) وكذلك النووي في "التحقيق" فقال: والجمعة كالظهر. هذه عبارته. وذكر في "شرح المهذب" نحوه أيضًا، وكلام "الروضة" لا ينافيه. وإذا علمت ذلك فاعلم أن النووي في "المنهاج" لما عدد السنن المتأكدة عَدّ منها أربعًا بعد الجمعة فقال: وبعد الجمعة أربع، وقبلها ما قبل الظهر. هذه عبارته. والذي ذكره مخالف لما في هذه الكتب. والصواب هو المذكور فيها. الأمر الثالث: أن دعواه أن العمدة فيما قبلها القياس على الظهر، غريب فقد جاءت فيه أحاديث: أحدها: ما رواه أبو هريرة قال: جاء سليك الغطفاني ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أصليت قبل أن تجئ؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين وتجوز فيهما" (¬4) رواه ابن ماجة في "سننه" عن داود بن رشيد عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وهذا الإسناد قد احتج الشيخان في صحيحيهما بجميع رواته، فقال ¬

_ (¬1) السنن (2/ 399). (¬2) سقط من أ. (¬3) في ب: التهذيب. (¬4) أخرجه مسلم (875) وأبو داود (1116) و (1117) وابن ماجة (1114) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

ابن تيمية في "الإحكام": رجال إسناده ثقات. الحديث الثاني: عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك (¬1) رواه أبو داود بإسناد على شرط الصحيح، وصححه ابن حبان. الحديث الثالث: "بين كل أذانين صلاة" رواه الشيخان كما تقدم، والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة. الحديث الرابع: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان" (¬2) رواه الدارقطني وصححه ابن حبان. قوله: وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وأيهما أفضل؟ قولان: القديم: أن ركعتي الفجر أفضل لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (¬3) وقول عائشة: لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شئ من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر (¬4). والجديد الأصح: أن الوتر أفضل لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من لم يوتر فليس منا" (¬5)، ولأن الوتر مختلف في وجوبه، ولا خلاف في أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1128) وابن خزيمة (1836) وابن حبان (2476) وابن أبي شيبة (1/ 463) والبيهقي في "الكبرى" (5736). قال الألباني: إسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن حبان (2455) و (2488) والدارقطني (1/ 267) والطبراني في "مسند الشاميين" (2265) و (2266) من حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -. قال الألباني: صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (725) والترمذي (416) والنسائي (1759) وأحمد (26329) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬4) أخرجه البخاري (1116) ومسلم (724). (¬5) أخرجه أبو داود (1419) وأحمد (23069) والحاكم (1146) وابن أبي شيبة (2/ 92) والبيهقي في "الكبرى" (4251) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه -. ضعفه البيهقي والحافظ ابن حجر والألباني.

ركعتي الفجر سنة، وقيل: هما سواء. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من نفي الخلاف في سنة الفجر ليس كذلك، فقد ذهب الحسن البصري إلى وجوبهما، كذا نقله في "شرح المهذب" عن حكاية القاضي عياض. الأمر الثاني: في تصوير محل الخلاف، وقد تعرض لذلك في "الكفاية" فقال: واعلم أن الأصحاب أطلقوا الخلاف ولم يبينوا ما أرادوه من الوتر، هل هو أقله أو أكمله أو أدني الكمال منه، والذي يظهر من كلامهم أنهم أرادوا مقابلة الجنس بالجنس، وقد كان يقع لي أنه يختص بأدنى الكمال لأنهم جعلوا علة ترجيح الوتر أنه مما اختلف في وجوبه، والذي اختلف في وجوبه ليس هو الأقل ولا الأكثر، فإن أبا حنيفة هو القائل بوجوبه، وهو عنده ثلاث ركعات لا يجوز الزيادة عليها، ولا النقص منها، فتعين أن يكون ذلك محل الاختلاف، ثم وقع لي أنه لو كان الأمر كذلك لاختص محلة بالثلاثة الموصولة كما صار إليه أبو حنيفة وهو لا يختص. فظهر من ذلك أن المراد من ذلك مقابلة الجنس بالجنس، ولا يبعد أن يجعل الشرع العدد القليل أفضل من العدد الكثير مع اتحاد النوع، دليله القصر في السفر فمع [اختلافه] (¬1) أولى. انتهى كلام "الكفاية". والحديث الأول رواه مسلم. والثاني متفق عليه، والثالث بعض حديث رواه أبو داود. قوله: ثم بعد السنن الراتبة أفضل الصلوات المذكورة صلاة الضحى، ثم ما يتعلق بفعل كركعتي الطواف، والإحرام والتحية. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) في ب: اختلافها.

ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه لم يصرح بدرجة صلاة التراويح، وقد صرح بها في "شرح المهذب" فجعلها بين الرواتب والضحى، وفي كلام الرافعي إشعار به، حيث حكى الخلاف في أن التراويح أفضل لمشروعية الجماعة فيها، أم الرواتب لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها؟ وصحح الثاني. ووجه الإشعار حكاية الخلاف في تفضيلها على الرواتب التي هي أفضل من الضحى فما بعدها. الأمر الثاني: أن من جملة السنن المتعلقة بالفعل: سنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، وصلاة الحاجة. وحينئذ فتكون هذه الثلاثة مع الثلاثة التي مَثَّل بها الرافعي، وهي ركعتا الطواف والإحرام والتحية أفضل من النوافل المطلقة، وحينئذ يبقى النظر في الأفضل منهما. وقد صرح في "شرح المهذب" بسنة الوضوء خاصة وجعلها بعد الثلاثة السابقة فقال: ثم ما يتعلق بفعل كركعتي الطواف وركعتي الإحرام وتحية المسجد ثم سنة الوضوء. هذه عبارته. وفيه نظر وكأنه توهم أن سنة الوضوء مما لا يتعلق بفعل، والمتجه تقديم ركعتي الطواف للاختلاف في وجوبها عندنا، ثم ركعتا التحية ثم الإحرام. لأن سبب التحية قد وقع بخلاف الإحرام، فإنه مستقل قد يقع وقد لا يقع. ولهذا صححوا كراهة ركعتي الإحرام في الوقت المكروه دون التحية والباقية في المعنى متقاربة. قوله: صلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات. انتهى كلامه. وفيه إشعار بأنه لو صلى أربعًا بتسليمة لم يصح، والأمر كذلك، فقد

صرح به القاضي الحسين في "فتاويه" ونقله عنه النووي، وعلله بأنه خلاف المشروع وذكر النووي في "فتاويه" أنه إذا صلى سنة الظهر أو العصر أربعًا بتسليمة واحدة جاز سواء كانت السنة متقدمة أو متأخرة. والفرف بينهما أن [التراويح] (¬1) بمشروعية الجماعة فيها أشبهت الفرائض فلا تغير عما وردت. قوله: واعلم أن تجويز التشهد في كل ركعة لم نر له ذكرًا إلا في "النهاية"، وفي كتب المصنف، ثم ذكر الرافعي في آخر الفصل أن قول الغزالي: أو في كل ركعة يعلم بالواو، قال: لأن كثيرًا من الأصحاب قالوا: إنه بالخيار بين أن يصلي بتشهد واحد، وبين أن يتشهد بين كل ركعتين، والتخيير بين الشيئين ينفي التمكن من شئ ثالث. انتهى كلامه. وذكر في "الشرح الصغير" نحوه أيضًا، ومقتضى ذلك ترجيح المنع من جهة النفل لكنه -أعني: الرافعي- قد جزم [في "المحرر"] (¬2) بالجواز، واستدرك عليه النووي فصحح المنع، وصححه أيضًا في "شرح المهذب" وغيره، قال: لأنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها. ورأيت في "الكافي" للخوارزمي أن في المسألة وجهين. قوله: ولو نوى صلاة تطوع، ولم ينو واحدة ولا عدد فهل يجواز الاقتصار على واحدة؟ حكى في "التتمة" فيه وجهين مبنيين على ما لو نذر صلاة مطلقة، هل يخرج عن العهدة بركعة أم لابد من ركعتين؟ وينبغي أن يقطع بجواز الاقتصار على واحدة، فعند الإطلاق أولى أن نجوزه. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) في أ: المتروح. (¬2) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي نقله الرافعي عن "التتمة" غلط منه -أي: من الرافعي- فإن المذكور فيها هو الجزم بالجواز، وإنما حكى الوجهين في الكراهة فقال ما نصه: فإن أراد أن يسلم عن ركعة فهل يكره أم لا؟ فيه وجهان بناء على أصله، وهو أن الرجل إذا نذر أن يصلى [مطلقًا هل يخرج عن نذره] (¬1) بركعة أم لا؟ . وفيه خلاف سنذكره. فإن قلنا: يخرج عن نذره بركعة، لم يكره أن يسلم عن ركعة. وإن قلنا لا يخرج عن نذره إلا بركعتين، فيكره أن يسلم عن ركعة، فيحمل إطلاق اسم الصلاة على ركعتين، هذا كلام المتولي بحروفه ومن "التتمة" نقلته. وذكر مثله في "البحر" أيضًا، وهذا الاعتراض ذكره في "الروضة" أيضًا. الأمر الثاني: أن هذا البحث الذي ذكره عجيب أيضًا فإن من نوى ركعتين إنما يجوز له الاقتصار على واحدة بشرط تغيير النية، وكلامنا فيما تقتضيه نية الصلاة عند الإطلاق، حتى يجوز له الاقتصار عليه. قوله: المسألة الثانية: النوافل تنقسم إلى ما لا يتأقت وإنما يفعل بسبب عارض، وإلى ما يتأقت. فالأول لا مدخل للقضاء فيه، وهو كصلاتي الخسوف والاستسقاء وتحية المسجد. انتهى. وما ذكره في الاستسقاء مشكل لأن القضاء فرع الفوات، وقد ذكر في باب الاستسقاء أنهم إذا سُقوا قبل الصلاة صلوا على المشهور، حتى [قال] (¬2): ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: قالوا.

إن الخلاف يجري فيما لو لم ينقطع الغيث، وأراد الصلاة للاستزادة. قوله من "زوائده": ويكره قيام الليل كله دائمًا. انتهى كلامه. وتقييده بكل الليل ظاهره انتفاء الكراهة بترك ما بين المغرب والعشاء، وفيه نظر. والمتجه إسقاط هذا التقييد، وتكون الكراهة متعلقة بالمقدار الذي يضر سواء كان هو الجميع أو البعض فقد قال في "شرح المهذب": صلاة الليل كله دائمًا تضر العين وسائر البدن كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا بخلاف صيام الدهر غير أيام النهي، فإنه لا يكره عندنا. والفرق أنه يمكنه في الصوم أن يستوفي ليلًا ما فاته من الأكل بالنهار، ولا يمكنه نوم النهار، إذا صلى بالليل لما فيه من تفويت مصالح دينه ودنياه. فأما بعض الليالي فلا يكره إحياؤها، فقد ثبت في "الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل" (¬1). واتفق أصحابنا على استحباب إحياء ليلتي العيد. هذا كلامه في "شرح المهذب". وإذا علمت ذلك اتجه ما قلناه من تعليقه بالمقدار الذي يضره، وقد ذكر الطبري -شارح "التنبيه"- قريبًا من ذلك في كل الليل فقال: إن لم يجد بذلك مشقة استحب لاسيما المتلذذ بمناجاة الله تعالى وإن وجد نظر: إن خشى منها محذورًا كره، وإلا لم يكره، ورفقه بنفسه أولى. قوله من "زياداته" أيضًا: وفعل النافلة في البيت أفضل من فعلها في المسجد. انتهى. ذكره الرافعي أيضًا كذلك في غير هذا الموضع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1920) ومسلم (1174).

وتستثني منه أمور مذكورة في مواضعها، منها ما هو مشهور كالعيد وغيره، ومنها ركعتا الإحرام، فإنه إذا كان في الميقات مسجد كان فعلهما فيه أفضل، كذا نقله من "زياداته" في الحج عن الأصحاب، وإن كان القياس يقتضي استحبابهما في البيوت والأخبية، ومنها ركعتا الطواف فيستحب فعلهما في المسجد كما هو معروف أيضًا هناك. ومنها النافلة يوم الجمعة، كما نقله الجرجاني في "الشافي" عن الأصحاب فقال: في هذا الباب؛ وقد ذكر بعد صلاة الخوف ما نصه: قال أصحابنا إلا النافلة يوم الجمعة ففعلها في الجامع أفضل لفضيلة البكور. انتهى.

كتاب الصلاة بالجماعة

كتاب الصلاة بالجماعة وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في فضلها قوله: وهل الجماعة في غير الجمعة من الصلوات الخمس فرض كفاية أم سنة؟ فيه وجهان: أظهرهما عند المصنف وصاحب "التهذيب" أنها سنة. والثاني: -وبه قال ابن سريح وأبو إسحاق-: أنها فرض، لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان" (¬1). وذكر المحاملي وجماعة أن هذا ظاهر المذهب، وذهب ابن المنذر وابن خزيمة من أصحابنا إلى أنها فرض عين، وقيل: إنه قول للشافعى. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الصحيح عند الرافعي من هذين الوجهين هو الأول، وهو كونها سنة فقد قال في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين، وقال في "المحرر": إنه الأصح. وصحح النووي في كتبه كلها أنها فرض، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، وهو يوهم الواقف عليه أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (547) والنسائي (847) وأحمد (21758) وابن حبان (2101) والحاكم (900) والبيهقي في "الكبرى" (4708) وابن المبارك في "الزهد" (1306) وفي "المسند" (73) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الألباني: حسن.

كلام الرافعي قد اختلف، وليس كذلك فافهمه. نعم ظاهر كلام الرافعي يقتضي أن الأكثرين على أنها فرض. الأمر الثاني: أن الرافعي هنا قد أطلق هذا الخلاف في الفرائض الخمس وليس كذلك، بل محله إذا كانت مؤداة؛ أما الفوائت فليست الجماعة فيها فرض عين، ولا كفاية، بل ولا تشرع البتة، كذا نبه عليه الرافعي في آخر الباب: وذكر النووي هنا في "شرح المهذب" وفي "الروضة" من زياداته أنها ليست بفرض عين ولا كفاية قطعًا، قال: ولكنها سنة ففي "الصحيحين" أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح بأصحابه جماعة حين فاتهم بالوادي" (¬1). واعلم: أن الرافعي إنما عبر "بالصلوات الخمس" لأنه لو عبر بالصلاة الواجبة لدخلت فيه المنذورة مع أن الجماعة لا تشرع فيها كما نبه عليه في أثناء [باب] (¬2) الأذان. الأمر الثالث: أن ما نقله الرافعي عن ابن خزيمة غير وافٍ بمذهبه، فإنه يقول: إن الجماعة شرط في الصحة، كذا نقله عنه إمام الحرمين. والحديث المذكور قد وقع فيه تغيير في الرافعي في موضع الحاجة ولفظه: "ما من ثلاثة في قرية ولابدو ولا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية" (¬3). رواه أبو داوود والنسائي من رواية أبي الدرداء بإسناد صحيح. فعبر في الحديث بلفظ "الصلاة" وليس فيه دليل على وجوب الجماعة فإن إقامة الصلاة تصدق بفعلها فرادى، فعبر الرافعي "بالجماعة" عوضًا عنه ثم إنه حذف الزيادة المشعرة بإرادة الجماعة وهي: فعليك بالجماعة. . . . إلى آخرها على أن في دلالة هذه الزيادة على جماعة [الصلاة] (¬4) نظر، فإن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (337) ومسلم (682) من حديث عمران - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من ب. (¬3) تقدم. (¬4) سقط من جـ.

الأمر بالجماعة يحتمل النهي عن المخالفة والمشاققة. نعم ذكر أبو داوود عقب روايته لهذا الحديث عن الراوي ما يبين المراد فقال: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة. ثم إن الرافعي أسقط البدو وهي البادية، وأسقط الواو من قوله: "ولا تقام". قوله: فإن قلنا: إنها فرض، فأظهر أعني إقامتها في البيوت، فعن أبي إسحاق أنه لا يسقط الفرض بذلك لأن الشعار في البلد لا يظهر به، ونازعه فيه بعضهم إذا ظهر ذلك في الأسواق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما حكاه الرافعي ذهول من قائله عن مذهب أبي إسحاق، فإن القاضي أبا الطيب في "تعليقه" قد حكاه عنه أنه لا يسقط كما قاله الرافعي، ثم حكى [عنه] (¬1) أنه قال: إن هذا إذا كانت المحلة التي صليت فيها الجماعة في البيوت والأسواق غير ظاهرة، فأما إن كانت ظاهرة كفى ذلك في تحصيل السنة وإقامة الواجب. وذكر الماوردي وابن الصباغ قريبًا منه. الثاني: أن النووي في "الروضة" و"التحقيق" قد صحح عدم السقوط، وقد ظهر أنه مردود، فإن المقالتين محمولتان على حالتين، وليستا بخلاف محقق، وذكر في "الشرح الصغير" كما ذكر في "الكبير". قوله من "زياداته": وأما أهل البوادي فقال إمام الحرمين: عندي فيهم نظر، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين. قال: ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذا إذا قَلَّ عدد ساكني قرية. هذا كلام الإمام. والمختار أن أهل البوادي الساكنين كأهل القرية للحديث الصحيح: ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

"ما من ثلاثة في قرية أو بدو ولا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان" (¬1) والله أعلم. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه هذا يقتضي موافقة الإمام في المسألتين الأخيرتين، وضم في "شرح المهذب" العدد القليل إلى أهل البوادي، وهو يقتضي موافقته في الأخيره خاصة، وبه صرح في "التحقيق" فقال: والجماعة في حق المسافرين سنة قطعًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره الإمام وقلده النووي في بعضه مؤذن بعدم الاطلاع على كلام الشافعي، وقد نص على خلافه، فإنه استدل على وجوب الجماعة من القرآن، والحديث ثم قال بعد ذلك ما نصه: فأشبه ما وصفت من الكتاب والسنة أن لا يحل ترك أن يصلي كل مكتوبة في جماعة حتى لا تخلو جماعة مقيمون ولا مسافرون من أن تصلي فيهم جماعة. هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. ومقتضى كلام الإمام أنه لا فرق في المسافرين بين سفر القصر وغيره وهو ظاهر. قوله: وأما النساء فلا تفرض عليهن الجماعة، وجماعتهن في البيوت أفضل، بل يكره حضور [المسجد] (¬2) للشواب ولا يكره للعجوز؛ روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الخروج إلى المساجد إلا عجوزًا في منقلها. . . . (¬3) والمنقل: الخف. انتهى. ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) في أ: المشي. (¬3) قال الحافظ: لا أصل له، وبيض له المنذري والنووي في الكلام على "المهذب"، لكن أخرج البيهقي بسند فيه المسعودي عن ابن مسعود قال: والله الذى لا إله إلا هو ما صلت امرأة صلاة خيرًا لها من صلاة تصليها في بيتها إلا المسجدين إلا عجوزًا في منقلها. وكذا ذكره أبو عبيد في "غريبه" والجوهري في "الصحاح" عن ابن مسعود.

وتعبيره يوهم أن الخناثا يتعرضون لهذا الفرض والقواعد تأباه، وكلامهم في باب صلاة الجمعة يدل عليه، فإن الجماعة شرط فيها، وقد صرحوا بعدم وجوبها عليه. والحديث المذكور رواه البيهقي بإسناد ضعيف موقوفًا على ابن مسعود. قال في "شرح المهذب": والمنقلان بميم مفتوحة ونون ساكنة وقاف. وذكر في "شرح المهذب" أن الصحيح المعروف عند أهل اللغة أنهما الخفان مطلقًا. قال: وذكر إمام الحرمين أنهما الخفان الخَلِقَان وهو بفتح الميم وكسرها، والفتح أشهر. انتهى كلامه. لكن ذكر الجوهري أنه الخف الخلق، وأورد فيه الحديث [بتثنية] (¬1) المنقل، قال: ومثله النقل بفتح النون وكسرها. قوله: وإمامة الرجال بهن أولى من إمامة النساء، لكن لا يجوز أن يخلو بهن من غير ذي محرم. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من تحريم خلوة الرجل بالنساء قد ذكر ما يناقضه في كتاب العدد والصحيح هو الجواز كما ذكره هناك، وسوف أذكرها في ذلك الموضع مبسوطة إن شاء الله تعالى. قوله: والمسجد الكثير الجمع أفضل إلا أن تتعطل الجماعة في المسجد القريب بعدوله عنه أو يكون إمام الكبير مبتدعًا، ثم قال: قال المحاملي وغيره: وكذا لو كان إمام المسجد البعيد حنفيًا لا يعتقد وجوب [بعض] (¬2) الأركان. انتهى. وما ذكره من التعبير بالحنفي ذكر في "الروضة" مثله وهو من باب ¬

_ (¬1) في جـ: شبه. (¬2) في جـ: نقض.

المثال، فإن التعليل المذكور يقتضي إلحاق المالكي وغيره من المخالفين به وقد صرح في "شرح المهذب" بذلك، وبأن الفاسق كالمبتدع. قوله في أصل "الروضة": فرع: إذا أدرك المسبوق الإمام قبل السلام أدرك فضيلة الجماعة علي الصحيح الذي قطع به الجمهور، وقال الغزالى: لا تدرك إلا بإدراك ركعة، وهو شاذ ضعيف. انتهى. ذكر الرافعي نحوه أيضًا، وقوة ذلك تقتضي انفراد الغزالى بهذه المقالة وهو عجيب، فقد جزم الفوراني بذلك، وقال القاضي حسين في "تعليقه" في باب سجود الشكر: إنه الذي قال به عامة أصحابنا، ولأجل ذلك نقله الجيلي عن المراوزة. وقول "الروضة": "قبل السلام" يدخل فيه ما إذا سلم الإمام [بُعيد] (¬1) إحرام المأموم وقبل قعوده، ولهذا كان أحسن من قول الرافعي في التشهد الآخر. قوله: ثم بماذا تدرك فضيلة التحرم؟ وجوه: أظهرها: بأن يشهد تكبيرة [الإمام] (¬2) ويشتغل عقيبها بالأحرام، فإن أخر لم يدركها. والثاني: بإدراك الركوع الأول. والثالث: بإدراك شئ من القيام. والرابع: إن اشتغل بأسباب الصلاة كالطهارة وغيرها كفاه إدراك الركوع، وإلا فلا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الوجه الثاني والثالث محلهما فيمن لم يحضر إحرام ¬

_ (¬1) في أ: بعد. (¬2) في أ: الإحرام.

الإمام، فأما من حضر وأخر فقد فاتته الفضيلة، وإن أدرك الركعة، كذا قاله الغزالي في "البسيط" ونقله عنه في "الروضة" و"شرح المهذب" وأقره، وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية". الثاني: أنه إذا أخر عن تكبيرة الإمام لأجل الوسوسة كان ذلك عذرًا، وتحصل به الفضيلة كما جزم به في "التحقيق" و"شرح المهذب". ولقائل أن يقول: قد نص هو في الشرح المذكور على أن الوسوسة ليست عذرًا في التخلف عن الإمام بتمام ركنين فعليين فما الفرق بينهما؟ قوله في "الروضة": المستحب للإمام تخفيف الصلاة من غير ترك الأبعاض والهيئات، فإن رضي القوم بالتطويل وكانوا محصورين لا يدخل فيهم غيرهم فلا بأس بالتطويل. انتهى. فيه أمور نبه عليها في "شرح المهذب": أحدها: في ضابط التخفيف، فقال: يخفف في القراءة والأذكار بحيث لا يقتصر على الأقل ولا يستوفي الأكمل المستحب للمنفرد من طوال المفصل وأوساطه، وأذكار الركوع والسجود. هذا كلامه. ولا شك أن الأذكار أنواع، منها التسبيحات، وقد سبق في باب صفة [الصلاة] (¬1) أن الإمام لا يقتصر على أقلها وهو المرة، ولا يزيد على أدنى الكمال وهو الثلاث. وأمأ ذكر الاعتدال ففيه اختلاف في كلام النووي سبق في موضعه. وأما دعاء الجلوس بين السجدتين فمقتضى كلامهم استواء الإمام وغيره فيه، وهو ظاهر، لأن الذكر المشروع فيه قصير. وأما الدعاء في التشهد فقد سبق هناك أنه يكون ناقصًا عن التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

_ (¬1) في أ: الوضوء.

الأمر الثاني: أن التطويل عند رضى الجماعة المحصورين به مستحب، وتعبيره بقوله: "لا بأس" ليس صريحًا فيه. الأمر الثالث: ذكر ابن الصلاح في "فتاويه" أنهم [لو] (¬1) آثروا التطويل إلا واحدًا أو اثنين لمرض ونحوه فإن كان ذلك مرة ونحوها خفف، وإن أكثر طول، ولا يراعى [المفرد الملازم] (¬2). قال -أعني النووي- في الشرح المذكور: إن هذا التفصيل حسن متعين. قوله: ومنها أن يحس في صلاته بمجئ رجل يريد الاقتداء، فله أحوال. أحدها: أن يكون في الركوع، فهل ينتظره ليدرك الركوع؟ فيه قولان: أصحهما عند إمام الحرمين وآخرين: أنه لا ينتظره، ثم قال: واختلفوا في محل القولين على طرق فقال معظم الأصحاب: ليس الخلاف في استحباب الانتظار، ولا في البطلان به، وإنما الخلاف في الكراهة فأحد القولين أنه يكره، واختاره المزني. والثاني: لا يكره، وهو أصح القولين عند الروياني. والطريق الثاني: أن القولين في الاستحباب، ويحكى هذا عن القاضي أبي الطيب. وقال آخرون: في المسألة قولان: أحدهما: يكره. والثاني: يستحب. وهذه الطريقة هي التي أوردها في "المهذب" وقال: الأصح الثاني ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في ب، جـ: الفرد اللازم.

منها، وهى كالمركبة من الطريقين الآخرين. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه قد تلخص من كلامه أن الأكثرين على الكراهة، لأنه نقل عنهم أن الخلاف إنما هو فيها، ثم نقل تصحيح الانتظار على هذه الطريقة عن الروياني فقط، وتصحيح عدمه عن الإمام وآخرين فلزم ما قلناه، وخالف في "المحرر" فصحح عدم الكراهة وعبر بالأصح. الأمر الثاني: أن النووي في أصل "الروضة" قد صحح أيضًا عدم الكراهة، وسببه أنه أطلق تصحيح ما عزاه الرافعي إلى الروياني ذهولًا عن الجماعة السابقين. الثالث: أن النووي في "الروضة" قد وافق الرافعي على تصحيح الطريقة الأولى، وهي أن الخلاف في الكراهة، وإن كان قد زاد على القول الثاني وهو عدم الكراهة فصحح الاستحباب ثم خالف في "شرح المهذب" فصحح الطريقة المنقولة عن "المهذب". والمعروف ما قاله الرافعي وأن الجديد منها هو الكراهة، فقد قال بها أبو إسحاق المروزي والشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي والماوردي وإمام الحرمين والغزالي وصاحب "الفروع" ونقله في "البيان" عن الأكثرين، وبالغ البغوي فجعله في [الجواز] (¬1). والذي وقع للنووي من دعوى استحبابه عند المعظم، غلط، سببه [سوء] (¬2) اختصار كلام الرافعي وكيف وقد صرح الرافعي بنقله عن المعظم؟ وأما ما نقله عن القاضي أبي الطيب من الإنكار على مدعى أن القولين في الكراهة فلا ينفي تصحيح الكراهة. ¬

_ (¬1) في أ، ب: الجواب. (¬2) سقط من ب.

الأمر الرابع: أن ما سبق جميعه وإن كان مساقه في الفرض لكن يأتي بلا شك في كل صلاة شرعنا فيها الجماعة فرضًا كانت أو سنة كالتراويح والعيد والاستسقاء والكسوف إلا أن الركوع الثاني من الكسوف يلحق بالاعتدال لعدم إدراك الركعة به كما تعرفه في بابه. قوله: ثم ذكر الأئمة للقولين شروطًا: أحدها: أن يكون الجائي قد دخل المسجد. الثاني: أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى دون التودد. الثالث: أن لا يفحش في التطويل. ثم قال: وإذا قلنا: لا ينتظر، ففعل لم تبطل صلاته، وقيل: على قولين. انتهى ملخصًا. وإطلاقه يقتضي عدم البطلان عند قصد التودد، وليس كذلك، فقد نقل في "الكفاية" الاتفاق على البطلان في هذه الحالة للتشريك. قوله: وحكى الغزالي قولين في استحباب انتظار الداخل ثم قال: ويمكن إدراك الحاصل من باقي الاختلافات في القول الذي أفهمه كلامه وهو القول بعدم الاستحباب بأن يقال: إذا قلنا: لا يستحب، فهل يكره؟ فيه قولان: إن قلنا: يكره، فهل تبطل الصلاة؟ فيه قولان. انتهى. والذي ذكره عجيب، فإن إبطال الفرض حرام فكيف يفرع على مكروه؟ ! قوله: ويجوز أن يعلم قول الغزالي، ولا ينبغي أن يطول -بالواو- لأن أبا علىّ قال في "الإفصاح": إن كان الانتظار لا يضر بالمأمومين جاز، وإن كان ذلك مما يطول ففيه الخلاف. انتهى. والذي توهمه من كون هذه المقالة طريقة أخرى مخالفة لما سبق، عجيب، فإن المراد بالضرر وعدمه إنما هو فحش التطويل وعدمه، يدل عليه التعبير في قسيمه بقوله: وإن كان مما يطول وحينئذ فليس ذلك خارجًا عما

سبق. قوله: الحالة الثانية: أن يكون الانتظار في التشهد فمعظم الأصحاب ذكروا أن الخلاف مطرد فيه لأن فيه فائدة وهي حصول الفضيلة وقياس قول من يقول: إنه لا يدرك فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة مع الإمام أن يكون الانتظار] (¬1) هاهنا كالانتظار في القيام -أي: وهو ممتنع- قطعًا عند الأكثرين. انتهى. وما اقتضاه كلام الرافعي من الخلاف لم يذكره في "الروضة"، بل جزم بإلحاق التشهد بالركوع، والذي قاله الرافعي لابد منه، إلا أن إلحاقه بالقيام فيه نظر لأن الجماعة تحصل هناك من حيث الجملة بخلاف ما نحن فيه. قوله: ومن انفرد بصلاة من الصلوات الخمس ثم أدرك جماعة فالمستحب له أن يعيدها معهم لينال فضيلة الجماعة، وقيل: لا يعيد الصبح والعصر، لأن النافلة بعدهما مكروهة. وقيل: لا يعيدهما لما ذكرناه ولا المغرب أيضًا لأنها وتر النهار، فلو أعيدت لصارت شفعًا، ولو صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أخرى ففيه وجوه، أصحها عند عامة الأصحاب أنه يعيد لإطلاق الخبر. . . . إلى آخره. فيه أمور: أحدها: اتفقوا -كما [قاله] (¬2) ابن الرفعة في "الكفاية"- على أن من صلى منفردًا أو في جماعة يستحب له أن يعيد مع من فاتته الجماعة لأحاديث وردت في ذلك. الأمر الثاني: سنعرف في صلاة الجنازة أنه لا تستحب إعادتها على الصحيح، وفي صلاة الجمعة أنه لا يجوز إعادتها، لأن الجمعة لا تقام بعد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: قال.

أخرى، فإن فرض الجواز لعسر الاجتماع فالقياس أنها كغيرها. الثالث: تصويرهم يشعر بأن الإعادة [إنما] (¬1) تستحب إذا حضر في الثانية من لم يحضر في الأولى، وهو ظاهر، وإلا لزم استغراق ذلك [للوقت] (¬2) وقد يقال بالمشروعية إذا اختلفت الأئمة. الرابع: أن هذا الكلام صريح في فرض الخلاف في الفرائض. والقياس أن ما تستحب فيه الجماعة من النوافل ملحق في ذلك بالفرائض، وتعليل الرافعي بحصول فضيلة الجماعة يدل عليه. قوله: وإذا أعادها فالجديد أن فرضه الأولى وإذا قلنا به فقال الأكثرون: إنه ينوي الفرض، فاستبعده الإمام وقال: الوجه أنه ينوي الظهر أو العصر، ولا يتعرض للفرضية ويكون ظهره نفلًا كظهر الصبي. انتهى كلامه. وما ذكره من القياس على الصبي يقتضي القطع بأنه لا ينوي الفرضية، وقد تقدم في أول صفة الصلاة من كلامه ما يخالفه، وتقدم الوعد بذكر ما قاله هنا فراجعه. قوله: تفريعًا على الجديد أيضًا: فإن كانت مغربًا فوجهان: أظهرهما: أنه يعيدها كالمرة الأولى. والثاني [يستحب] (¬3) أن يقوم إلى ركعة أخرى إذا سلم الإمام حتى لا يصير وتره شفعًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي حكاه وجهًا وضعفه قد نقله الترمذي في "جامعه" عن الشافعي. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: الوقت. (¬3) سقط من أ.

وقد ذكر الترمذي في آخر كتابه أن ما نقله عن الشافعي في الطهارة والصلاة فبعضه رواه له البويطى وبعضه رواه له أبو الوليد المكي. وأما غير ذلك فنقله له أبو ثور، وحينئذ فيكون الشافعي قد نص عليه في الجديد، لأن أبا الوليد هذا صحب الشافعي بمصر وعاد إلى مكة فتوفي بها سنة تسع عشرة ومائتين، واسمه: عبد الله بن الزبير، كما قاله ابن الصباغ في خطبة "الشامل". الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوسيط" قد علل هذه المقالة بغير تعليل الرافعي فقال: وقيل: إن كان في المغرب فيزيد ركعة حتى لا تبقى وترًا، فإن الأحب في النوافل الشفع. هذه عبارته. وهذا عكس قول الرافعي حتى لا يصير وتره شفعًا، وحينئذ فيكون في كلامه غلطًا. والجواب: أن التعليلين صحيحان، والرافعي قصد معنى آخر غير المعنى المذكور في "الوسيط" وهو أنه إذا لم يزد ركعة أخرى يكون قد صلى أولًا ثلاث ركعات وصلى ثانيًا ثلاث ركعات، ومجموع ذلك ست ركعات، فيخرج المغرب عن أن يكون وترًا، فإذا زاد ركعة صار المجموع سبع ركعات وهي وتر، فالرافعي نظر في تعليله إلى مجموع ما صلى أولًا وثانيًا، والغزالي نظر في تعليله إلى ما صلاه ثانيًا فقط، وعلل صاحب "البيان" بتعليل الرافعي. وقد أبطل الشافعي هذا التعليل فقال: كيف يصير شفعًا وقد فصل بينهما بسلام؟ ! وهو واضح جلي. قوله: ولا رخصة في ترك الجماعة إلا بعذر عام أو خاص، ثم الأعذار العامة: المطر ليلًا كان أو نهارًا لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا ابتلت النعال

فالصلاة في الرحال" (¬1). انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه يشترط في كونه عذرًا أن تحصل مشقة، كما صرح به الرافعي بعد ذلك في الكلام على المرض وصاحب "التنبيه" حيث قال هنا: ومن يتأذى بالمطر، وفي باب الجمعة: من تبتل ثيابة بالمطر، وهو معنى تقييد الماوردي بالمطر الشديد، فعلى هذا لا يعذر بالخفيف ولا بالشديد إذا كان يمشي في كَنٍ. الأمر الثاني: أن هذا الحديث الذي ذكره إنما هو استدلال على كون الوحل عذرًا كما سيأتي، فإن المطر قد يحصل معه ابتلال النعال، وقد لا يحصل؛ وابتلال النعال قد يكون مع انقطاع المطر، وبلا مطر بالكلية كالحاصل من السيول، بل الصواب الاستدلال عليه بأمور منها ما رواه أبو المليح عن أبيه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية فأصابنا مطر لم يبل أسفل نعالنا فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا في رحالكم" (¬2) رواه أبو داوود والنسائي وابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: ومنها الريح العاصفة في الليل دون النهار [لما] روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة والليلة ذات الريح يقول: "ألا صلوا في رحالكم". انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن التعبير بالعاصفة وهي الشديدة قد ذكره أيضًا في "الشرح ¬

_ (¬1) قال الحافظ: لم أره بهذا اللفظ. وقال ابن الملقن: لم أجده بعد البحث عنه كذلك في كتب حديث. وقال ابن الفركاح: لم أجده في الأصول، إنما ذكره أهل العربية. (¬2) أخرجه النسائي (854) وأحمد (20721) وابن خزيمة (1657) وابن حبان (2079) والطبراني في "الكبير" (496) وعبد الرزاق (1924) وابن أبي شيبة (2/ 43).

الصغير" و"المحرر" والنووي في "الروضة"، "والمنهاج" ومقتضاه أنه لا فرق بين أن تكون باردة أم لا؟ وعبر النووي في "شرح المهذب" بالباردة، وجمع المحاملي والماوردي بينهما. وأما الشيخ صاحب "التنبيه" فعبر فيه بالباردة وفي "المهذب" بالشديدة، والظاهر أن الريح الشديدة وحدها عذر بالليل، وإنما عبر من عبر بالباردة لكونه الغالب. وقد صرح باختياره الطبري -شارح "التنبيه"- فقال: المختار أن كلًا من الظلمة والبرد والريح الشديدة عذر بالليل، ويدل على ما قاله ما سيأتي أن شدة البرد عذر مستقل في الليل والنهار. الأمر الثاني: أن التعبير "بالليل" يقتضي أن ذلك لا يكون عذرًا في صلاة الصبح، لأن وقتها عندنا من النهار لا من الليل، والمتجه إخراجها من كلامه وإلحاقها بالليل لأن المشقة فيها أشد من المشقة في صلاة المغرب، ويدل عليه أيضًا ما سبق في صفة الصلاة في الجهر بقضائها. قوله: ومنها أن يخاف على نفسه أو ماله. . . . إلى آخره. هذا الكلام فيه أمور مهمة سبق إيضاحها في كتاب التيمم فراجعها. قوله: أو يخاف من غريم يلازمه أو يحسبه إن رآه وهو معسر لا يجد وفاءًا بدينه. انتهى. وصورة المسألة أن يعسر عليه إثبات إعساره وإلا فلا يعذر، هكذا قاله الغزالي في "البسيط" وهو متجه. ولو ادعى الإعسار فرد عليه اليمين وأمكنه الخلاص بالحلف، فالمتجه أنه لا يعذر أيضًا، بل يحلف. قوله: ومنها أن يكون عليه قصاص وكان يرجو العفو لو غيب الوجه أيامًا وسكن الغليل، وفي معناه حد القذف ونحوه دون حد الزنا، وما لا يقبل

العفو، قال الإمام: وفي هذا العذر إشكال لأن موجب القصاص من الكبائر، فكيف يستحق صاحبه التخفيف؟ ، فكيف يجوز له تغييب الوجه عن المستحق؟ انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "شرح المهذب" قيد ما لا يقبل العفو بكونه قد بلغ الإمام، كأنه يشير بذلك إلى جواز التغييب عن الشهود حتى لا يرفعوا أمره إلى الإمام. الثاني: أن هذا الإشكال الذي نقله عن الإمام وسكت عليه قد أجاب هو أيضًا عنه -أعني: الإمام- فقال: ولعل السبب تعرض القصاص للشبه فإن مستحق القصاص مندوب إلى العفو، وهذا التغييب طريق إليه. واعلم أن القول بكونه عذر قد نقله الإمام عن النص فاعلمه. قوله في "الروضة": ومنها أن يدافع الأخبثين أو الريح، وتكره الصلاة في هذه الحالة، بل يستحب أن يفرغ نفسه ثم يصلي، فلو خاف فوت الوقت فوجهان: أصحهما: تقديم الصلاة. والثاني: الأولى أن يقضي حاجته وإن فات الوقت. ثم قال: ولنا وجه أنه إذا ضاق عليه الأمر بالمدافعة وسلب خشوعه بطلت صلاته. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره في آخر كلامه "بالمدافعة" رأيته بخطه كما هو في النسخ، وصوابه: الدفع. الثاني: أنه لا يؤخذ منه ولا من الرافعي أيضًا أن الذي صححوه وهو تقديم الصلاة هل هو على سبيل الإيجاب أو الاستحباب؟ ألا ترى أن مقابله

وجهان: قائل باستحباب الإزالة، وقائل بإيجابها، فاحتمل أيضًا أن يكون الأول كذلك أيضًا، واحتمال الندب في عبارة "الروضة" أظهر من احتمال الإيجاب. والمسألة في "الشرح الصغير" و"شرح المهذب" و"التحقيق" هكذا، أى من غير تصريح [بإيجاب] (¬1) ولا استحباب. قوله: ومنها أن يكون به جوع أو عطش شديد، وحضره الطعام والشراب وتاقت نفسه إليه فيبدأ بالأكل والشرب. قال الأئمة: وليس المراد أن يستوفي الشبع بل يأكل لقمًا تكسر حدة جوعه، إلا أن يكون الطعام مما يؤتى عليه مرة واحدة كالسويق واللبن، فإن خاف فوت الوقت لو اشتغل فوجهان كمدافعة الأخبثين. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه، وفيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من الجوع والعطش من اشتراط حضور الطعام والتوقان، عجيب، لأن المعنى فيه إنما هو سلب الخشوع فحيث أمكن إزالة ذلك كان التأخير لزواله عذرًا، سواء كان مع الحضور أو الغيبة، وقد أتى به في "المحرر" على الصواب فقال: وجوع وعطش شديدين. هذه عبارته. وتبعه على ذلك في "المنهاج". الأمر الثاني: أن الصلاة تكره مع حضور الطعام الذي تاقت نفسه إليه، كذا ذكره في "المنهاج" قبيل سجود السهو، وإذا كرهت الصلاة معه كان التأخير له عذرًا، فإنهم رخصوا بما لم ينته إلى الكراهة، فبطريق الأولى ما انتهى إليها. ومقتضى إطلاق "المنهاج" أنه لا فرق في ذلك بين الجائع وغيره، وهو ظاهر، فإن كثيرًا من الفواكه والمشارب اللذيذة قد تتوق النفس إليها عند حضورها مع انتفاء الجوع والعطش، ولو لم يحضر الشيء ولكن تاقت ¬

_ (¬1) في جـ: بالإيجاب.

نفسه إليه فإنه يكون في ذلك كما لو حضر المعنى، كذا جزم به في "الكفاية"، وسبقه إليه ابن يونس، واعتذر -أعني: ابن الرفعة- عن الشيخ في تقييده بالحضور بالترك بلفظ الخبر. الأمر الثالث: ثبت في الصحيحين: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه" (¬1). وفي رواية لمسلم: "فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب". ولما تكلم النووي عليه في "شرح مسلم" قال: وفيه دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكمالها، وهذا هو الصواب. وأما ما تأوله بعض أصحابنا على أنه يأكل لقمًا يكسر بها سؤرة الجوع فليس بصحيح. هذا كلامه. فجعل العذر قائمًا إلى شبعه إلا أنه لا يلزم منه بقاء الكراهة إلى الشبع. قوله: ومنها أن يكون عاريًا لا لباس له، فيعذر في التخلف سواء وجد قدر ما يستر به العورة أو لم يجد. انتهى كلامه. علله النووي في "شرح المهذب" بأن عليه مشقة في مشيه بغير ثوب يليق به، ويؤخذ من هذا التعليل أمران: أحدهما: أن المعتبر في هذا اللباس هو عادته التي يشق عليه تركها، حتى لو اعتاد الخروج مع ساتر العورة فقط ككثير من الناس لم تسقط عنه [الجماعة] (¬2) عند فقدان الزائد عليه. الثاني: أن ما لا يليق به كالقباء في حق الفقيه يكون كالمعدوم، وقد صرّح به بعضهم. قوله: ومنها أن يريد السفر وترحل الرفقة. انتهى. سبق الكلام على ذلك في التيمم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (642) ومسلم (559) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) سقط من أ.

قوله: ومنها أن يكون قد أكل بصلًا أو كراثًا أو نحوهما، ولم يمكن إزالة الرائحة بغسل أو معالجة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الذي ذكره يؤخذ منه سقوط الجماعة أيضًا بالبخر والصنان المستحكم بطريق الأولى، وفي الجذام والبرص نظر، والظاهر عدم السقوط. الثاني: أن النووي في "شرح مسلم" قد ذكر أن الفجل يلتحق بما ذكرناه لأن الجشاء الحاصل منه كريه الريح وقد رواه الطبراني في أصغر معاجمه من رواية جابر [ولفظه] (¬1): "من أكل هذه الخضراوات الثوم والبصل والكراث والفجل. . . ." (¬2) إلى آخر الحديث المعروف. الثالث: أن التعبير بقوله: ولم يمكن يقتضي أن الإزالة إذا أمكنت بمشقة شديدة يؤمر بها ولا يعذر في التخلف؛ والقياس الموافق للقواعد خلافه. الرابع: روى البيهقي في "السنن الكبير" (¬3) عن المغيرة بن شعبة قال: أكلت الثوم على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتيت المسجد وقد سُبقْتُ بركعة فدخلت معهم في الصلاة فوجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ريحه فقال: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا حتى يذهب ريحها" فأتممت صلاتي، فلما سلمت قلت: يا رسول الله أقسمت عليك لما أعطيتني يدك، فناولني يده فأدخلها في كمي حتى انتهت إلى صدري فوجده معصوبًا فقال: "إن لك عذرًا، [أو أرى لك عذرًا] (¬4) " هذا لفظ الحديث. ¬

_ (¬1) سقط من أ، وفي ب: بلفظه. (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (191) وفي "الصغير" (37) من حديث جابر - رضي الله عنه -. قال الهيثمى: رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وفيه يحيى بن راشد البراء البعدي وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان وقال: يخطئ ويخالف وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني: ضعيف. (¬3) حديث (4840) وأخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (6132) وهو صحيح. (¬4) سقط من جـ.

فاقتضى هذا استثناء المعذور. قوله: ومنها غلبة النوم عدها صاحب "العدة" وغيره من الأعذار. انتهى. وهذه العبارة فيها إبهام، وقد أوضح ذلك في "شرح المهذب" فقال: ومن الأعذار غلبة النعاس والنوم إن انتظر الجماعة. [ولنختم] (¬1) هذا الفصل بثلاثة أشياء. أحدها: في بيان أعذار أخرى: فمنها الزلزلة عدها الماوردي، ونقلها عنه في "الروضة" و"شرح المهذب". ومنها: السمن المفرط الذي يمنع الشخص من حضور الجماعة، كذا ذكره ابن حبان في "صحيحه" ثم روى بإسناد صحيح إلى أنس بن مالك أن رجلًا من الأنصار كان رجلًا ضخمًا فقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لا أستطيع الصلاة معك، فلو أتيت منزلي فصليت فيه فأقتدي بك [فصنع] (¬2) الرجل له طعامًا، ودعاه إلى بيته فبسط له طرف حصير لهم فصلى عليه ركعتين (¬3)، قال: فقال فلان بن الجارود لأنس: أكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلاها غير ذلك اليوم. الأمر الثاني: أن الأشياء السابقة إنما يتجه عدها عذرًا في حق من لا يتأتى له إقامة الجماعة في بيته فإن تأتى له ذلك لم يسقط عنه الطلب، وإن حصل الشعار بغيره، لاسيما في حق الرجل، فإن الانفراد مكروه بالنسبة إليه. ¬

_ (¬1) في أ: وسنختم. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1125) وأبو داود (657) وأحمد (12351) وابن حبان (2070) وابن الجعد في "مسنده" (1148).

هذا كله على القول بأنها سنة. فإن قلنا: إنها فرض، فينبني على سقوطه بإقامتها في البيوت. وقد يقال: محل ذلك الخلاف عند إمكان فعلها في المسجد، فإن تعذر وجبت إقامتها في البيوت قطعًا لأنه القدر المستطاع. الأمر الثالث: في بيان المراد بكون هذه الأمور مرخصة هل معناه حصول الفضيلة أم سقوط الطلب خاصة؟ وقد اختلفوا فقال النووي في "شرح المهذب": وهذه الأعذار إنما هي مرخصة للترك، وأما فضيلة الجماعة فلا تحصل له بلا شك، وإن تركها لعذر. هذا كلامه. وقال الروياني في "التلخيص": تحصل له الفضيلة إذا كان قصده الجماعة لولا العذر. ونقله عنه في "الكفاية" ووافقه، ونقله في "البحر" عن القفال وارتضاه، وجزم به أيضًا الماوردي في "الحاوي" فقال: صلاة المريض منفردًا كصلاة الصحيح جماعة في الفضل، وكذلك الغزالي في "الخلاصة" فقال: وينال الفضل بالجماعة في البيت وبعذر المطر والمرض. قال في "الكفاية": ويشهد له ما رواه أبو داوود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئًا" (¬1) وأخرجه النسائي أيضًا. قلت: وهذا هو الحق ففي صحيح البخاري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (¬2). وقد ذكر الرافعي في باب كيفية الصلاة في فضل القيام: أن من صلى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (564) والنسائي (855) وأحمد (8934) والبيهقي في "الشعب" (2894) وفي "الكبرى" (4789) وعبد بن حميد (1455) والحاكم (754). (¬2) أخرجه البخاري (2834) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -.

قاعدًا لمرض تحصل له فضيلة القيام. وقال في "شرح مسلم": إنه لا خلاف فيه. وهو يقوي الحصول في مسألتنا، إلا أن بينهما فرقًا ظاهرًا وهو أنه قد أتى عن القيام ببدل بخلاف الجماعة، ولكن الرافعي علله بقوله: لأنه معذور. وتبع على ذلك [النووي] (¬1) في "الروضة". نعم نقل في "شرح المهذب" عن جماعة كلامًا يوهم عدم حصول الفضيلة، فإنه ذكر حديث الأعمى الذي لم يرخص له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ترك الجماعة وأن القائلين بأنها فرض عين استدلوا به، ثم قال: وأما حديث الأعمى [فجوابه ما أجاب به ابن خزيمة والحاكم والبيهقي، وهو أن معناه: أنه لا رخصة لك تلحقك] (¬2) بفضيلة من حضرها. هذه عبارته. ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) سقط من أ.

الفصل الثاني في [صفات] الأئمة

الفصل الثاني: في [صفات] (¬1) الأئمة قوله في "الروضة": فإن صلى الكافر في دار الإسلام لم يصر مسلمًا، وكذا في دار الحرب على المشهور. نعم إن سمعنا منه كلمة الشهادة حكمنا بإسلامه على الصحيح. انتهى. وإطلاقه [الصحيح] (¬2) الحكم بالإسلام إنما يستقيم إذا لم يكن عيسويًا، فإن كان لم يحكم بإسلامه، فإن هذا التفصيل قد ذكره الرافعى في الأذان ثم أحال الكلام في هذه المسألة على ما سبق هناك. قوله أيضًا في "الروضة": فالحاصل في اقتداء الشافعي بالحنفي أربعة أوجه: أحدها: الصحة. والثاني: البطلان. والأصح: إن حافظ [على الواجبات أو شككنا صح وإلا فلا. والرابع: إن حافظ] (¬3) صح وإلا فلا. انتهى. أهمل [هنا] (¬4) -رحمه الله- وجهًا خامسًا حكاه الرافعي قبل ذلك، واستحسنه، وحكاه هو أيضًا: أنه يصح خلاف ولي الأمر أو نائبه، لما في المفارقة من الفتنة وإلا فلا. قوله: وفي اقتداء القارئ بالأمي قولان: الجديد أنه لا يصح، لأنه ¬

_ (¬1) في جـ: صفة. (¬2) في أ: بالصحيح. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من جـ.

بصدد تحمل القراءة عن المأموم فإذا لم يحسنها لم يصلح [للتحمل] (¬1). والقديم: إن كانت الصلاة سرية صح الاقتداء وإلا فلا بناء على القول القديم أن المأموم لا يقرأ في الجهرية بل يتحمل عنه الإمام. وخَرَّجَ أبو إسحاق قولًا ثالثًا على الجديد أن الاقتداء صحيح مطلقًا، لأن المأموم تلزمه القراءة في الحالتين فيجزئه ذلك كما قاله بإجزائه في السرية في القديم، وعكس صاحب "الكتاب" في "الوسيط" فجعل الثاني قولًا مخرجًا، والثالث منصوصه في القديم. انتهى كلامه. وما حكاه الرافعي عن الغزالي قد أنكره أيضًا في "شرح المهذب" وبالغ فيه فقال: وقال إمام الحرمين والغزالي: الجديد أنه لا يصح الاقتداء، والقديم يصح، وهذا نقل فاسد. هذه عبارته. وما ذكره الغزالي تبعًا لإمامه قد نص عليه القاضي الحسين في "تعليقه" في باب صلاة الإمام قاعدًا، فاعلم ذلك. نعم ذكر القاضي أيضًا في التعليقة المذكورة في باب اختلاف نية الإمام والمأموم ما ذكره غيره، وهو أنه قول مخرج. وأما تسمية الغزالي المعروف عن القديم وهو الصحة في السرية دون الجهرية مخرجًا فغير مستنكر لأنهم قالوا: إنه مبني على قول آخر، والبناء غير منافٍ للتخريج، فاستقام ما قاله الغزالي. قوله في "الروضة": ويدخل في الأمي الأرث: وهو الذي يدغم حرفًا في غير موضع الإدغام، والألثغ: وهو الذي يبدل حرفًا بحرف، ومن في لسانه رخاوة تمنع التشديد. انتهى كلامه. وظاهره أن الذي في لسانه رخاوة قسم من أقسام الألثغ، وليس كذلك، بل قسيم له لا قسم منه كما أوضحه الرافعي. ¬

_ (¬1) في جـ: للعمل.

وحينئذ يتعين أن يكون معطوفًا على الذي من قوله "الذي يدغم" فتفطن له. قوله: إن أصحابنا اختلفوا في نص الشافعي إذا خالف الأخير الأول هل يكون الأخير رجوعًا عن الأول أم لا؟ فمنهم من قال: لا، لأنه قد نص في موضع واحد على قولين فيجوز أن يذكرهما متعاقبين. انتهى. هذه المسألة أسقطها من "الروضة". قوله: واعلم أن الخلاف المذكور في اقتداء القارئ بالأمي هو في من لم يطاوعه لسانه، أو طاوعه ولم يمض زمن يمكن التعلم فيه. فأما إذا مضى وقصر بترك التعلم فلا يصح الاقتداء بلا خلاف، لوجوب القضاء. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك؛ ففي "الكفاية" عن ابن يونس طريقة طاردة للخلاف وهي أيضًا في "التهذيب" إلا أن هذا الخلاف خاص بقسمين من أقسام الأمي، وهما الأرث والألثغ. أما من لم يحفظ بالكلية فلا، فتفطن له، فإن كلام ابن الرفعة هنا فيه خلل نبهت عليه في كتاب "الهداية إلى أوهام الكفاية". قوله: وتكره إمامة التمتام والفأفاء، لما فيه من التطويل، ويصح الاقتداء بهما. اعلم أن التمتام هو الذي يكرر التاء، وهو بالتاء المثناة. والفأفاء هو الذي يكرر الفاء وهو بهمزتين بعد كل فاء همزة، وبالمد في آخره على وزن ندمان. ويقال: فيه فأفأة أيضًا، أي بالتاء في آخره، قاله في "تهذيب الأسماء واللغات".

واعلم أن سائر الحروف في تكرارها بمثابة التاء والفاء في الكراهة للمعنى السابق، ولهذا قال صاحب "البيان": تكره إمامة الوأواء، وهو الذي يكرر الواو. قوله: وإمامة من يلحن في القراءة مكروهة ثم ينظر إن كان لحنًا لا يغير المعنى كرفع الهاء من "الحمد لله" فتجوز صلاته وصلاة من اقتدى به وإن كان يغير المعنى كقوله: "أنعمت عليهم" أى بضم التاء أو تبطله كقوله: ["المستقين"] (¬1) أى: بالنون، فإن كان يطاوعه لسانه ويمكنه التعلم فيلزمه ذلك فلو قصر وضاق الوقت صلى وقضى، ولا يجوز الاقتداء به، وإن لم يطاوعه لسانه أو لم يمض ما أمكنه التعلم فيه، فإن كان في الفاتحة فصلاة مثله خلفه صحيحة، وصلاة صحيح اللسان خلفه كاقتداء القارئ بالأمي؛ وإن كان في غير الفاتحة صحت صلاته وصلاة من خلفه. قال الإمام: ولو قيل: ليس [لهذا] (¬2) الذي يلحن في غير الفاتحة أن يقرأ ما يلحن فيه، لأنه يتكلم في صلاته بما ليس من القرآن ولا ضرورة إليه لم يكن بعيدًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: في بيان ابتداء الوقت الذي يمضي فيه إمكان التعلم، فنقول: إن كان الشخص قد طرأ عليه الإسلام فمضى الزمن يعتبر من إسلامه، كما قاله البغوي وغيره. وإن كان مسلمًا أصليًا فالمتجه اعتباره فيه من سن التميز، لكون الأركان والشرائط لا فرق فيها بين البالغ والصبي، وحينئذ فلا تصح صلاة المميز إذا أمكنه التعلم، وإذا لم تصح صلاته لم يصح الاقتداء به. الأمر الثاني: أن اللحن المُحيل للمعنى في غير الفاتحة كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) في أ: المستعين. (¬2) في أ، ب: هذا.

{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] بجر اللام مبطل للصلاة أيضًا، وهذا كله إذا كان قادرًا عالمًا عامدًا. فأما مع العجز أو الجهل أو النسيان، فإن كان في غير الفاتحة فإنه لا يضر، كما قاله الإمام، وذكر نحوه في "البيان"، لأن الكلام اليسير بهذا الشرط لا يقدح في الصلاة، وإن كان في الفاتحة فتضر لأنها ركن، اللهم إذا تفطن للصواب. إذا علمت ذلك فالتقسيم الذي ذكره الرافعي غير محرر، لأن قوله: فإن كان في الفاتحة. . . . إلى آخره، يقتضي أن الحكم المتقدم عليه فيما إذا طاوعه لسانه وأمكنه التعلم وهو وجوب التعلم ووجوب القضاء عند ضيق الوقت، وامتناع الاقتداء به عام في الفاتحة وغيرها، وذلك باطل لأن ما زاد على الفاتحة لا يجب تعلمه، ولا يقتضي قوله القضاء ولا [يمنع] (¬1) الاقتداء، وكأنه سقط [منه] (¬2) شئ بعد قوله: ["المستعين"] (¬3) بالنون وأصله، فإن كان يحسن الصواب لم تصح صلاته، ولا الاقتداء به سواء كان في الفاتحة أم في غيرها كقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (¬4) بالجر، وإن لم يحسن الصواب فإن كان يطاوعه لسانه ويمكنه التعلم، فإن كان في غير الفاتحة لم يصح أيضًا، وإن كان في الفاتحة فيلزمه ذلك، فلو قصر. . . . إلى آخر ما قال. قوله: ويجوز اقتداء السليم بسلس البول. انتهى. السلس هنا بكسر اللام، وهو الشخص؛ وأما بفتحها فهو الحدث. قوله في "الروضة"، ولو اقتدى [بمن ظَنَّه] (¬5) قارئًا فبان أميًا، وقلنا: ¬

_ (¬1) في ب: ينبغي. (¬2) سقط من ب. (¬3) في أ، ب: المستعين. (¬4) سورة التوبة (3). (¬5) سقط من أ.

لا تصح صلاة القارئ خلاف الأمي، قال في "التهذيب": تجب الإعادة، وقال الغزالي: لا إعادة عليه. ووجهه الإمام بأن البحث عن كون الإمام قارئًا لا يجب، لأن الغالب أنه لا يؤم إلا القارئ كما في الطهارة، فإذا بان خلاف الغالب فهو كما لو بان بالحدث؛ قال: وهذا في السِّرِّية، فأما إذا لم يجهر في الجهرية فقد اختلف الأصحاب في وجوب البحث، وما حكاه صاحب "التهذيب" أقرب إلى سياق الأكثرين. وأما إذا اقتدى بالمجهول في الجهرية فحكاية العراقيين فيه عن نصه في "الأم" وجوب الإعادة، لأن الظاهر أنه لو كان قارئًا يجهر، فلو سَلَّم وقال: أسررت نسيانًا، لم تجب الإعادة، ولكن تستحب. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الإمام لما نقل هذا الخلاف قد ذكر أيضًا ما حاصله أن المعروف وجوب البحث موافقًا للنص فقال: وإن كانت جهرية فالذي ذهب إليه أئمتنا أنه يجب البحث عن حاله، فإن إسراره والصلاة جهرية يخيل أنه لو كان يحسنها لجهر بها، فإن صلى خلفه من غير بحث لم تصح صلاته. ومن أصحابنا من قال: لا يجب البحث في هذه الصورة أيضًا، فإن الجهر الذي تركه هيئة من هيئات الصلاة فلا أثر له، وللإسرار محتمل آخر سوى جهل القراءة وهو أنه نسي أن الصلاة جهرية فأسر بها. وعلى هذا يكون الحكم كما [لو] (¬1) كانت سرية. هذا كلام الإمام إذا علمت ذلك فقد أسقط النووي من "الروضة" هذا الوجه واغتر به في "شرح المهذب" فادعى فيه الاتفاق على ذلك فاعلمه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من كونه إذا اقتدى به في الجهرية فأسر، أن الإعادة تجب إلا إذا قال بعد ذلك: أسررت نسيانًا، فإنها تستحب، مشكل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يحتاج إلى تصوير، فإن الإسرار إذا كان دليلًا على كونه أميًا موجبًا للقضاء لم تنعقد صلاته إذا نوى الاقتداء بعد علمه، أى: بالإسرار. وإن علم في أثناء الاقتداء فكذلك أيضًا لاسيما إذا استمر بعد العلم لأن الاقتداء بالأمي لا فرق فيه بين أن [يجهل] (¬1) حاله أو يعلمه. وحينئذ فإذا ثبت في نفسه أنه قارئ بعد أن منعناه من الاقتداء، لم يفد ذلك شيئًا، نفسه كما في نظيره من الخنثى إذا بان رجلًا، فينبغي حمل المسألة على ما إذا لم يعلم بالإسرار إلا بعد السلام لكونه بعيدًا أو أصمًا ثم بعد أن علم بالإسرار بحث عنه فادعى أنه أسر نسيانًا. قوله: ولو بان كافرًا وجب القضاء لمعنيين: أحدهما ذكره الشافعي: أن الكافر لا يجوز أن يكون إمامًا بحال. والثاني: ذكر الأصحاب [في الكافر] (¬2) أمارات نعرفه بها من الغبار وغيره، [فالمقتدي] (¬3) مقصر بترك البحث. ثم قال: فإن كان يظهر الإسلام ويخفي الكفر كالزنديق والدهري والمرتد الذي يخفي ردته من القتل، ففي وجوب القضاء وجهان بناهما العراقيون علي المعنيين، إن قلنا بالأول وجب؛ وإن قلنا بالثاني لم يجب؛ والثاني أصح عند صاحب "التهذيب" وجماعة. [انتهى] (¬4). فيه أمران: أحدهما: أنه فسر الزنديق في كتاب اللعان بتفسير يخالف هذا، وسأنبه على ذلك في باب الردة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في أ: يحتمل. (¬2) في ب: أن الكافر. (¬3) في أ: فالمقضي. (¬4) سقط من أ، ب.

الثاني: في بيان الأصح من هذين الوجهين، وسياق كلام الرافعي يقتضي رجحان الوجوب، فإن المعنى الذي يقتضيه هو الذي قاله الشافعي، وقد نقله في "الروضة" و"شرح المهذب" عن الجمهور، ونقله الشيخ أبو حامد وغيره عن نص الشافعي. وقال صاحب "الحاوي": هو مذهب الشافعي، [وعليه] (¬1) أصحابه؛ لكن صحيح الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" عدم الوجوب، وصححه النووي في "أصل الروضة" ثم استدرك على الرافعي فقال: هذا هو الأقوى في [الدليل] (¬2)، لكن الجمهور خالفوه. قوله: ولو اقتدى برجل ثم بان أنه كان على بدنه أو ثوبه نجاسة، فإن كانت خفية فهو كما لو بان الحدث، وإن كانت ظاهرة فقد قال إمام الحرمين: فيه احتمال عندي لأنه من جنس ما يخفى. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي توقف فيها الإمام لم يتعرض لها [في] (¬3) "الشرح الصغير"، ومقتضى كلامه في "المحرر" أن القضاء يجب فيها، فإنه قال: ولا يجب القضاء إذا بان جنبًا أو محدثًا أو مستصحبًا لنجاسة خفية. هذا لفظه. فشرط في عدم الوجوب أن تكون خفية، وهو كالصريح في إيجابه إذا كانت ظاهرة، وقد تابعه النووي في "المنهاج" على ذلك، وذكر ما يوافقه أيضًا في "تصحيح التنبيه"، فإن الشيخ أطلق وجوب القضاء فيما إذا تبين أن بالإمام مانعًا ما من نجاسة وغيرها، فاستدرك عليه وقال: إنه لا يجب إذا بان عليه نجاسة خفية، ثم خالف ذلك في "التحقيق" فقال: ولو بان على بدن الإمام نجاسة فكمحدث. ¬

_ (¬1) في ب: وعامة. (¬2) في أ: القليل. (¬3) في جـ: من.

وقيل: إن كانت ظاهرة فوجهان. انتهى. فانظر إلى هذا الاختلاف العجيب حيث صحح طريقة القطع بعدم الوجوب في [الظاهرة] (¬1) على العكس مما قدمه فليته مع تصحيحه أنه لا يجب صحح طريقة الوجهين، وذكر في "الروضة" و"شرح المهذب" ما يقتضي موافقة "التحقيق" فإنه قال: قطع صاحب "التتمة" و"التهذيب" وغيرهما بأن النجاسة كالحدث، ولم يفرقوا بين الخفية وغيرها. وأشار إمام الحرمين إلى أنها إن كانت ظاهرة فتخرج على الوجهين في الزنديق. انتهى. وبهذا يعلم أن النووي أثبت مقالة الإمام وجهًا، فإنه حكاه في "التحقيق" حكاية الأوجه. قوله: وإمامة الأعمى صحيحة، وهو والبصير سواء على المذهب عند عامة الأصحاب، وهو المنقول عن نصه في "الأم" وغيره. والثاني: البصير أولى. والثالث: الأعمى أولى. انتهى ملخصًا. ورجح النووي هذا الثالث في كتابه المسمى "بالمنتخب" وهو مختصر "التذنيب" للإمام الرافعي فقال: قلت: الأقوى أنه أولى، واختار في باقي كتبه ما اختاره الجمهور. قوله: وعد صاحب "الإفصاح" من يقول بخلق القرآن أو [بنفي شئ] (¬2) من صفات الله تعالى كافر، وكذا جعل الشيخ أبو حامد ومتابعوه المعتزلة ممن يكفر والخوارج لا يكفرون، ويحكي القول بتكفير من يقول بخلق القرآن عن الشافعي. ¬

_ (¬1) في أ: الطهارة. (¬2) في جـ: ينفي شيئًا.

وأطلق القفال وكثيرون من الأصحاب القول بجواز الاقتداء بأهل البدع فإنهم لا يكفرون. قال صاحب "العدة": هو ظاهر مذهب الشافعي - رضي الله عنه -. انتهى كلامه. قد أعاد -رحمه الله- المسألة في كتاب الشهادات ونقل أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم على عدم التكفير، وبَيَّنَ أن الذين حكوا التكفير عن الشافعي هم العراقيون وزاد على ذلك [ونقل] (¬1) عنهم أنهم حكوا أيضًا عنه تكفير النافين للرؤية، وقيل عن الإمام أنه تأوله فقال: ظنى أنه ناظر بعضهم فألزمه الكفر في الحجاج، فقيل: إنه كفرهم. وصحح النووي هنا من "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" عدم التكفير أيضًا، فقال: إنه الصحيح أو الصواب لأن الشافعي -رحمه الله- قد قال: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطَّابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. قال: وتأول البيهقي وغيره ما ورد عن الشافعي من التكفير بأن المراد كفر النعم، لا الخروج عن الملة وحملهم على هذ التأويل النص السابق، ولأن السلف والخلف لم يزالوا يُجرون عليهم أحكام المسلمين من مناكحتهم وموارثتهم والصلاة خلفهم، إلا أن النووي في "شرح المهذب" قد جزم بتكفير من يصرح بالتجسيم، ومن ينكر العلم بالجزئيات، وجعل من عداهم مبتدعة، ذكره قبيل الكلام على منع اقتداء الرجل بالمرأة. فاعلم ذلك فإن كلام "الروضة" هنا وفي الشهادات أيضًا يوهم خلافه بعمومه. قوله: وفي الأورع مع الأفقه والأقرأ وجهان، قال الجمهور: هما ¬

_ (¬1) في أ: وقيل.

مقدمان عليه. . . . إلى آخره. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن المراد بالفقه هنا هو المتعلق بأبواب الصلاة حتى يرجح العفة فيها على الأفقه في أبواب الجنايات مثلًا. الثاني: أن الرافعي قد نقل عن الشافعي جوابًا يقتضي أن المراد بالأقرأ هو الأحفظ لا الأكثر تلاوة، وهو ظاهر، ولم يذكره في "الروضة"، ويتجه أن يكون الامتياز بقراءة السبع أو بعضها من ذلك أيضًا، ولا شك في عدم اعتبار القراءة المشتملة على لحن يغير المعنى، وفي ما لا يغيره نظر. قوله: وليس المراد من الورع مجرد العدالة، بل ما يزيد عليه من الفقه وحسن السيرة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن التعريف الذي ذكره للورع بعيد عن مفهومه غير مبين أيضًا. والصواب فيه ما ذكره القشيري في "رسالته"، وتابعه عليه النووي في "التحقيق" و"شرح المهذب": أنه عبارة عن اجتناب الشبهات، أى خوفًا من الله تعالى، كما زاده القاضي عياض في "المشارق". الأمر الثاني: أن الزهد ترك ما زاد على الحاجة وإن كان حلالًا، ليس فيه شبهة، وهو أعلا مرتبة من الورع. ولم يذكروه من جملة المرجحات، واعتباره ظاهر، حتى إذا اشتركا في الورع، وامتاز أحدهما بالزهد قدمناه.

قوله: ويقدم أيضًا [بالسنن] (¬1)، والمعتبر منه إنما هو الماضي في الإسلام، حتى يقدم شاب نشأ في الإسلام على شيخ أسلم من يوم أو يومين مثلًا. انتهى. وما أشعر به كلامه من احتياط الشيخوخة مطلقًا قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو ممنوع، بل المتجه أنهما إذا أسلما معًا واستويا في الصفات أنَّا نقدم بالشيخوخة، وقد سبق إلى التنبيه عليه المحب الطبري في "شرح التنبيه". قوله: والهجرة من أسباب التقديم أيضًا، ئم اختلفوا في محل اعتبارها على أقوال: أحدها: أنها مقدمة على السن والنسب. والثاني: أنها مؤخرة عنهما. والثالث: متوسطة، أى بعد السن وقبل النسب، وبعض من توسط عكس. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصحح أيضًا شيئًا من هذه الأوجه في "الشرح الصغير" ولا في "الروضة"، وصحح النووي في "التحقيق" الوجه الأول. وقال: في "شرح المهذب": إنه المختار. الأمر الثاني: ليس فيه ولا في "الروضة" تصريح بالمرجح من الورع مع الهجرة أو السن أو النسب، لكن كلامهما يشعر برجحان الورع على الثلاث، وبه صرح في "الحاوي الصغير". وعكس الشيخ في "التنبيه" فأخره عنهن وارتضاه النووي في تصحيحه، ¬

_ (¬1) في أ: باليقين.

وهو ظاهر ما في "الشامل" وغيره، وبه صرح الروياني في "الحلية"، ولم يتعرض في "المهذب" للورع بالكلية، وهو غريب. قوله: فإن تساويا في الصفات المذكورة قدم بنظافة البدن والثوب [عن الأوساخ وبطيب الصنعة وحسن الصوت وما أشبهها من الفضائل، قال في "التتمة": يقدم بنظافة الثوب] (¬1) ثم حسن الصوت ثم حسن الصورة. انتهى. وما قاله صاحب "التتمة" قد جزم به في "الشرح الصغير"، وقال في "شرح المهذب": المختار تقديم أحسنهم ذكرًا بين الناس، ثم أحسنهم صوتًا ثم هيئة؛ فإن تساويا وتشاحا أقرع. انتهى. وقال في "التحقيق": حسن الذكر ثم نظافة الثوب والبدن وطيب الصنعة والصوت، ثم حسن الوجه. واستفدنا منه أن النظافتين والطيبين على حد سواء، وأشار الرافعي بقوله: ونحوها، إلى ما سبق من كلامه وكلام غيره وهو حسن الصورة وحسن الذكر وحسن الهيئة، وهي أعم من نظافة الثوب. قوله: ويقدم مالك الدار على غيره. انتهى. قال في "البحر": يستثني من ذلك ما إذا وهب السيد عبده دارًا، وقلنا: يملك، فحضر هو والسيد فيها، فإن السيد يقدم. قوله في "الروضة": ولو اجتمع المعير والمستعير فالأصح أن المعير أولى. والثاني: المستعير. ولو حضر السيد وعبده الساكن فالسيد أولى [مطلقًا] (¬2). انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: قطعًا.

وما ذكره من دعوى عدم الخلاف ذكره أيضًا في "شرح المهذب"، وليس كذلك، فقد نقل في "الكفاية" عن "تلخيص الروياني" وجهًا أن العبد يُقَدَّم كما في المستعير. واعلم أن مقتضى إطلاق الخلاف أنه لا فرق في المعير بين أن يكون مالكًا للرقبة أم لا، وهو ظاهر. قوله: [ولو حضر] (¬1) قوم في مسجد له إمام راتب، فهو أولى من غيره، فإن لم يحضر إمامه أستحب أن يبعث إليه ليحضر، فإن خيف فوات أول الوقت أستحب أن يتقدم غيره. انتهى كلامه. وما ذكره من استحباب تقديم الغير محله إذا لم يخف فتنة، فإن خيف صلوا فرادى، ويستحب لهم أن يعيدوا معه إن حضر بعد ذلك، هكذا نبه عليه النووي في "زيادات الروضة"، وخالف في "شرح المهذب" فقال: قال الشافعي والأصحاب: إذا خافوا أن يتأذى أو تحصل فتنة انتظره؛ فإن طال الانتظار وخافوا فوات الوقت كله صلوا جماعة. انتهى. وجزم بمثله أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفصل الثالث في شرائط القدوة

الفصل الثالث: في شرائط القدوة قوله: ولو تقدم المأموم على الإمام في جهة القبلة بطلت صلاته في الجديد، لأن المخالفة في الأفعال مبطلة على ما سيأتي، وهذه المخالفة أفحش. انتهى. وسيأتي أن تقدم المأموم بالركوع أو السجود لا يضر بخلاف [التقدم بركعتين] (¬1)، فإن استدل بالأول منعنا الحكم. فإن استدل بالثاني فلا يسلم أن ذاك أفحش لأن ذلك مخالفة في غير ماهية الصلاة، وهذه مخالفة في حقيقتها مناف للمتابعة المأمور بها في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا ركع فاركعوا. . . ." (¬2) إلى آخره. ويجوز أن يريد بالمخالفة في الأفعال أن يقتدي في الخمس بمن يصلي الكسوف ونحوه، فإذا أراد ذلك فلا يسلم أيضًا أنه أفحش. قوله: والأدب للمأموم أن يتخلف قليلًا. انتهى. والتعبير "بالأدب" ذكر مثله في "الروضة" فهو لا يقتضي كراهة المساواة، وقد جزم في "شرح المهذب" بالكراهة. قوله: فإن ائتم به اثنان فصاعدًا فيصطفون خلفه، ويكون بينهم وبين الإمام قدر من التخلف صالح كما سيأتي. انتهى. والذي ياتى ذكره أنه لا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع. قوله: قال صاحب "النهاية" و"التهذيب" وغيرهما: الاعتبار في مساواة المأموم للإمام وتقدمه عليه بالعقب، فإن المأموم قد يكون أطول ¬

_ (¬1) في جـ: المتقدم بركنين. (¬2) أخرجه البخارى (656) ومسلم (412) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

فيتقدم رأسه عند السجود والقدم وكذلك الأصابع قد تكون أطول أيضًا. فلذلك يقع الاعتبار بالعقب؛ فإن تحاذى عقب الإمام وعقب المأموم، أو تقدم [عقيب الإمام] (¬1) جاز وإن كانت أصابع المأموم متقدمة. ولو تقدم عقب المأموم فهو موضع القولين، وإن كانت أصابعه متأخرة أو محاذية. وذكر في "التتمة" وجهًا آخر أنه تصح صلاته نظرًا إلى الأصابع. وفي "الوسيط" ذكر الكعب بدل العقب والوجه الأول. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من اعتبار العقب له ثلاثة شروط: أحدها: أن يصلي قائمًا، فإن صلى قاعدًا فالاعتبار بمحل القعود وهو الإلية، حتى لو مَدَّ رجليه وقدمهما على الإمام لم يضر. وإن صلى مضطجعًا فالاعتبار بالجنب، ذكره البغوي في "فتاويه" وهو ظاهر. الشرط الثاني: أن تكون رجله موضوعة على الأرض، فلو قدم رجله على رِجْل الإمام وهي مرتفعة عن الأرض لم يضر بلا شك إذا كانت الأخرى وهي التي يعتمد عليها غير متقدمة على إمامه كما أوضحوا ذلك في كتاب الاعتكاف، وكتاب الأيمان، فيما إذا قدم المعتكف أو الحالف إحدى رِجْليه. نعم ينبغي النظر فيما لو لم يعتمد على شئ من رجليه بل جعل تحت إبطه خشبتين أو تعلق بحبل، فالظاهر أن الاعتبار في هذه الحالة الأولى بالجنب، وفي الثانية المنكب، لأنه في الاعتماد [في هذه] (¬2) لهذا الشخص ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

كالجنب للمضطجع. الشرط الثالث: أن يعتمد على رِجْليه، فإن لم يعتمد عليها لم يضر تقدمه بها بدليل ما قالوه في الأيمان ولأن ذلك في المعنى كالصورة السابقة. فإن اعتمد عليهما معًا ففي البطلان نظر، يأتي مثله في [نظيره] (¬1). واعلم أن ما سبق من مراعاة الاعتماد يأتي أيضًا فيما إذا وضع رِجْليه معًا على [الأرض] (¬2) وتأخر العقب وتقدمت رؤوس الأصابع، فإن اعتمد على العقب صح أو على رؤوس الأصابع فلا. الأمر الثاني: أن ما ذكره دليلًا لاعتبار العقب ليس بدليل بل بمجرد دعوى. الثالث: أن كلام الرافعي -رحمه الله- في تعليل [الوجه] (¬3) الذي نقله في "التتمة" يوهم أن العبرة في المحاذاة بالأصابع، وليس كذلك بل حقيقة هذا الوجه أن الواجب في المحاذاة اقتران جزء من رِجْل المأموم بجزء من رِجْل الإمام، وهذا الوجه قد ذهب إليه القفال -رحمه الله- فقال: التقدم على الإمام إنما يحصل بأن يتقدم المأموم بجميع رجله حتى يكون عقبه قدام رؤوس أصابع رِجْل الإمام. كذا رأيته في "فتاويه" قال: وكذلك في الأيمان، أيضًا؛ ثم إن صاحب "التتمة" حكى ذلك فقال: الرابع: إذا كان رجل الإمام أكبر، ورِجْل المأموم أصغر فوقف المأموم بحيث حاذى أطراف أصابعه أطراف أصابع الإمام، ولكن تقدم عقبه على عقب الإمام فقد صار محاذيًا للإمام ببعض بدنه، فهل تصح صلاته أم لا؟ فعلى وجهين بناءً على ما لو استقبل الكعبة ببعض بدنه، وقد ذكرناه ¬

_ (¬1) في جـ: نظائره. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ، ب: للوجه.

هذه عبارته. فحذف الرافعي -رحمه الله- المدرك والتخريج اللذين عرف منهما حقيقة هذا الوجه، وعلل بما ذكره، فأوقع في الغلط فاعلمه. قوله: وإذا لم يحضر مع الإمام إلا واحد فليقف عن يمينه، فإن جاء آخر وقف عن يساره ثم يتقدم الإمام أو يتأخر المأمومان، وهذا في القيام. فأما إذا جاء الثاني في السجود أو التشهد فلا يقدم ولا يأخر حتى يقوموا. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، وهو صريح في أن ذلك في التشهد الأول، وحينئذ فيكون ساكتًا عن الثاني إن لم يكن ظاهرًا في المخالفة. وقد ذكر القاضي أبو الطيب المسألة في "التعليقة" وصرح بأنه لا فرق في ذلك بين التشهدين، وعلله بأنه عمل كبير، وجزم في "الكفاية" أيضًا به حكمًا وتعليلًا. قوله: فإن كانوا عراة وقف [الإمام] (¬1) وسطهم وصاروا صفًا واحدًا. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" هنا، ونبه من "زوائده" في باب ستر العورة على أن محله إذا كانوا نهارًا، وهم يبصرون، فإن كانوا عميًا أو في الليل تقدم الإمام. قوله: وأما النساء الخلص إذا أقمن الجماعة، فقد ذكرنا أنهن كيف يقفن. انتهى كلامه. والموضع الذي تقدم ذكره فيه هو أول الباب، وذكره أيضًا في ستر العورة استدلالًا على مسألة لا مقصودًا، ولا شك أن الأول هو مراد الرافعي، لأن المعتاد في الحوالة على باب آخر أن يصرح به لو كان مقصودًا ¬

_ (¬1) في جـ: إمامهم.

فكيف بغيره. وذهل النووي عن تقدمها في أول الباب فقال: وأما النساء الخلص إذا أقمن جماعة فقد قدمنا في باب ستر العورة كيف يقفن؟ وأن إمامتهن تقف وسطهن. هذه عبارته. ثم إن دعواه تقديم شيئين ليس كذلك، بل هما شئ واحد فتأمله. وقد تقدم الكلام على المسألة في ستر العورة فراجعه. قوله: إذا دخل والجماعة في الصلاة فيكره أن يقف منفردًا، بل إن وجد فرجة أو سعة في [الصف] (¬1) دخلها، وله أن يخرق الصف إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صف قدامه لتقصيرهم بتركها. انتهى. تابعه على إطلاق هذه المسألة النووي في "الروضة" وابن الرفعة في "الكفاية" وغيرهم، وليس الأمر كما أطلقوه، بل صورة المسألة أن يكون التخطي للفرجة بصف أو بصفين؛ فإن انتهى إلى ثلاثة فصاعدًا فالمنع باق، كذا رأيته مصرحًا به في "التهذيب" لأبي على الزُجاجي بضم الزاي، و"التعليق" للشيخ أبي حامد، و"الفروق" للشيخ أبي محمد، و"المجرد" لسليم الرازي، وقيده بذلك أيضًا الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" والمتولى في "التتمة"، والروياني في "الحلية" وغيرهم. ونقل الشيخ أبو حامد والشيخ أبو محمد وغيرهما أن الشافعي نص على كراهة التخطي والحالة هذه، وقد رأيت نصه في "الأم" فقال: فإن كان دون رَجُل زحام، وأمامه فرجة وكان تخطيه إلى الفرجة بواحد أو اثنين [رجوت] (¬2) أن يسعه التخطي، وإن كثر كرهته له. هذا لفظ الشافعي بحروفه. وقال الشيخ محيي الدين في "شرح المهذب": إذا كان أمامه فرجة، فإن ¬

_ (¬1) في أ: الصلاة. (¬2) في أ، ب رجونا، والمثبت من جـ و"الأم".

وجد غيرها [فالمستحب] (¬1) أن يقف فيها ولا يتخطى، فإن لم يجد غيرها نظر، فإن كان لا يتخطى إلا رجلًا أو رجلين تخطى، وإن كان أكثر نظر، فإن رجا تقدمهم انتظر، وإلا تخطى، وهذا التقسيم كله في الاستحباب، ولا يكره التخطي في حالة من هذه الأحوال، سواء كانت الفرجة قريبة أم بعيدة. انتهى كلام النووي في الجمعة. والتفصيل المذكور فيه جعل محله إذا لم يجد فرجة غيرها على عكس ما قاله غيره، وذكره في الجماعة من الشرح المذكور بدون هذا التفصيل، وما زعمه من كونه لا يكره [خلاف] (¬2) ما نص عليه الشافعي، وكأنه لم يقف على [هذا] (¬3) النص. واعلم أن قول الرافعي: "بل إن وجد فرجة أو سعة" قد كتب النووي هنا حاشية بخطه فقال: الفرجة: خلاء ظاهر، والسعة: أن لا يكون خلاء ويكون بحيث لو دخل بينهما لوسعهم. قوله: وفي كلام الشيخ أبي محمد أنه لو كان في جوار المسجد مسجد آخر مفرد بإمام ومؤذن وجماعة فيكون حكم كل واحد منهما بالإضافة إلى الثاني كالملك المتصل بالمسجد، وهذا كالضابط الفارق بين المسجد الواحد والمسجدين. وظاهره يقتضي تغاير الحكم إذا انفرد بالأمور المذكورة وإن كان باب أحدهما [نافذًا إلى الآخر. انتهى كلامه. وما نقله عن الشيخ أبي محمد] (¬4)، قد جزم به في "الشرح الصغير" لكن ذكر النووي في "شرح المهذب" وزيادات الروضة أن الصواب الذي صرح به كثيرون منهم الشيخ أبو حامد، وصاحب "الشامل" و"التتمة" ¬

_ (¬1) في أ: فيستحب. (¬2) في أ: بخلاف. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من أ.

وغيرهم أن المساجد التي يفتح بعضها إلى بعض لها حكم مسجد واحد. قوله في المسألة: وإن كان باب أحدهما لافظًا إلى الثاني. انتهى. هذه اللفظة ذكرها الرافعي أيضًا قُبَيْل كتاب الرجعة بقليل، وتكلمت عليها هناك. قوله: وأما رحبة المسجد فقد عدها الأكثرون منه، ولم يذكروا فرقًا [بين] (¬1) أن يكون بينها وبين المسجد طريق أو لا يكون، ونزلها القاضي ابن كج إذا كانت منفصلة منزلة مسجد آخر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: في بيان حقيقة الرحبة فإنه أمر مهم. والثاني: بيان موضع الخلاف فيها. فأما الأول فقد اختلف فيه الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين بن الصلاح، فقال الشيخ عز الدين: هو ما كان خارجًا من المسجد محجرًا عليه لأجله. وقال ابن الصلاح: رحبة المسجد هو صحن المسجد. وطال النزاع بينهما، وصنفا فيه. قال في "شرح المهذب" في باب الاعتكاف: والصحيح قول ابن عبد السلام، وهو الموافق لكلام الأصحاب، قال صاحب "الشامل"، و"البيان": المراد بالرحبة ما كان مضافًا إلى المسجد محجرًا عليه، قالا: والرحبة من المسجد، قال صاحب "البيان" وغيره: وقد نص الشافعي -رحمه الله- على صحة الاعتكاف في الرحبة. وقال القاضي أبو الطيب في "المجرد": قال الشافعي: يصح الاعتكاف في رحاب المسجد لأنها من المسجد. وقال المحاملي في "المجموع": للمنارة أربعة أحوال: ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

[أحدها: ] (¬1) أن تكون مبنية داخل المسجد فيستحب الأذان فيها لأنه طاعة. الثانية: أن تكون خارج المسجد إلا أنها في رحبة المسجد فالحكم فيها كالحكم لو كانت في المسجد، لأن رحبة المسجد من المسجد، ولو اعتكف فيها صح اعتكافه. هذا كلامه. قال في "شرح المهذب": [ولقد] (¬2) تأملت ما صنفه ابن الصلاح، واستدلاله فلم أر فيه دلالة على المقصود. قلت: قد أطلق الرافعي رحبة المسجد، وأراد بها الصحن، ذكر ذلك في آخر الباب الثاني من إحياء الموات. الأمر الثاني: أن الخارج عن المسجد المحوط عليه لأجله له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعلم أنه قد وقف مسجد. الثانى: أن يعلم أن صاحبه لم يقفه مسجدًا، بل وقفه للصلاة فقط، أو حوط عليه ساكتًا عن حاله، كما يقع ذلك كثيرًا، أو كان شارعًا فحجر عليه وأضافه إلى المسجد صيانة لبعض الرحبة التي هي خارج باب جامع الأزهر بين الطبرسية والأقبغاوية فلا نزاع في أن هذين القسمين ليسا محل الخلاف، بل الأول مسجد قطعًا، والثاني ليس كذلك قطعًا. الحال الثالث: أن يشاهده محوطًا عليه، ولا يدري حاله فهل يكون مسجدًا لأن الظاهر أن حكمه كحكم متبوعه وهو المسجد، أو لا يكون كذلك، لأن الأصل عدم الوقف، أو يفصل بين المتصلة والمنفصلة لأن الانفصال يضعف التبعية؟ هذا محل الخلاف ومدركه، فافهمه. والوجه الثالث قد مال إليه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه حسن، وهو يدل أيضًا لما قاله الشيخ عز الدين. قوله في "أصل الروضة": ولو وقف في فضاء فيشترط أن لا يزيد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: وقد.

ما بينهما على ثلاثمائة ذراع تقريبًا في [الأصح من الوجهين] (¬1)، وقيل: إنه تحديد. انتهى. لم يبين المقدار الذي لا تضر زيادته على القول بالتقريب، وقد بينه البغوي في "التهذيب" فقال: لا يضر ثلاثة أذرع، ويضر ما زاد عليها. وذكر النووي في "شرح المهذب" كلامًا قد يؤخذ منه ذلك، إلا أنه لم يصرح بالمراد فقال: فإذا قلنا: تقريب، فزاد أذرعًا يسيرة ونحوها، لم يضر. هذه عبارته. فعبر بالأذرع التي هي جمع. وقال الدارمي في "الاستذكار": يرجع فيه إلى العرف، قال: وإذا قلنا بالتحديد فلا يضر نقصان ذراعين ونحوهما عند قائله، وهو أبو إسحاق. قوله: ولا فرق في الفضاء بين أن يكون مواتًا أو وقفًا أو ملكًا، أو بعضه مواتًا وبعضه ملكًا. وقيل: يشترط في الساحة المملوكة اتصال الصفوف، ثم قال: وفي وجه يشترط ذلك إن كانت لشخص. انتهى لفظه. وهو يقتضي أنه لا فرق على هذا الوجه بين أن يكون ملكهما سابقًا أو مميزًا، ووقف كل واحد في تلك، وليس كذلك، بل هو خاص بالثاني. كذا صرح به الرافعي فقال: ونقل الصيدلاني وغيره وجهًا آخر، أنه لو وقف أحدهما في ملك زيد، والآخر في ملك عمرو يشترط اتصال [الصفوف] (¬2) من أحد الملكين بالثاني. هذا لفظ الرافعي. واختصار النووي له على الصورة التي ذكرها غريب. قوله: ولو كان بين الإمام والمأموم نهر يحتاج فيه إلى السباحة أو كان بينهما شارع مطروق فوجهان: ¬

_ (¬1) في جـ: أصح الوجهين. (¬2) في جـ: الصف.

أصحهما: أن ذلك لا يضر كما لو كانا في سفينتين. انتهى كلامه. والتعبير بالشارع المطروق ذكره أيضًا في "الروضة" مع أن الشارع لا يكون إلا مطروقًا، وحينئذ فيسأل عن مراده بهذا التقييد. والجواب: [أنه] (¬1) أراد كثير الطروق كما هو المفهوم منه في العرف؛ وإن كان نادر الطروق لم يضر جزمًا. وقد صرح به إمام الحرمين فقال بعد حكاية الوجه بأنه يضر ما نصه: وهذا [مزيف] (¬2) لا أرى له وجهًا إلا أن الصائر إليه في الظن اعتقد أن الشارع قد تطرقه رفاق في أثناء الصلاة، وينتهي الأمر إلى حالة تعسر فيها المتابعة بوقوع الحيلولة عن الإطلاع على أحوال الإمام، وهذا لا أصل له. ثم إن لم يكن من ذكر ذلك بد على بعده وضعفه، فهو في شارع يغلب طروقه. هذا كلام "النهاية". قوله: وذكر الغزالي في "الوجيز" أن المعتبر في الفضاء التقارب بقدر غلوة سهم يسمع فيها صوت الإمام، ثم قال: وسماع صوت الإمام ليس لاشتراط ذلك في الصلاة، وإنما هو إشارة إلى أن القدر المذكور يبلغ فيه صوت الإمام إذا جهر لتبليغ المأمومين الجهر المعتاد في مثله. وإذا كان كذلك كانا مجتمعين متواصلين، فلذلك قدم القرب به. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في شرح كلام الغزالي ليس مراده، وإنما أراد أمرًا ذكره إمام الحرمين احتمالًا لنفسه لم يقل به أحد فجزم به الغزالي، فإنه بعد حكاية الثلاث مائة ذراع قال ما نصه: وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب يرعى [في] (¬3) التواصل مسافة يبلغ فيها صوت الإمام المقتدى لو رفع صوته قاصدًا به تبليغًا على الحد المعهود في مثله. هذا لفظ "النهاية". فعبر الغزالي عن تعبير الإمام بمسافة فقوله: "غلوة سهم" أي: رمية ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: فريق. (¬3) سقط من جـ.

سهم أبعد ما يقدر عليه الرامي، والغلوة غايتها، وهي بفتح الغين، ثم ضبط تلك المسألة بسماع الإمام. قوله: فيقول إذا وقف الإمام في صحن الدار أو في صفتها والمأموم في بيت أو بالعكس فطريقان: إحداهما: لابد من الاتصال، وهي طريقة القفال وأصحابه، وكلام ابن كج يوافقهما. والطريقة الثانية: لا يشترط الاتصال كالصحراء، وبها قال أبو إسحاق المروزي ومعظم العراقيين، واختارها صاحب "الإفصاح". انتهى. صحيح الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" الطريقة الأولى، وصحح النووي الطريقة الثانية. قوله عقب ذكر الطريقة الثانية: هذا إذا كان بين البابين باب نافذ فوقف بحذائه صف أو رجل. . . . إلى آخره. اعلم أن حذاء معناه في اللغة: المقابل للشئ كالمحاذاة، وليس مدلوله اللاصق [به] (¬1) كما هو مستعمل اليوم، فاعلمه وتفطن له، فإن المراد هنا لا يصح إلا بإرادة المعنى اللغوي. قوله: ولو كان بينهما حائل يمنع الاستطراف دون المشاهدة كالمشبكات فقد ذكروا فيه وجهين. انتهى. والصحيح منهما عند الأكثرين عدم الصحة، كذا ذكره بعد هذا بنحو ورقتين. ولو كان على سطح [يرى] (¬2) الإمام منه، ولكن بينهما حائط المسجد فهو على الوجهين. قاله الدارمي في "الاستذكار". قوله: نعم إذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر إما بشرط الاتصال أو ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في أ: فرأى.

دونه فتصح صلاة الصفوف خلفه، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الإمام جدار تبعًا له وهم معه كالمأمومين مع الإمام حتى لا تجوز صلاة من تقدمه. وعن القاضي حسين تفريعًا على هذا الأصل أنه لا يجوز أن يتقدم تكبيره على تكبيره. انتهى. وهذا المنقول عن القاضي صحيح، جزم به في "فتاويه"، وتابعه عليه البغوي فجزم به في "فتاويه" أيضًا، قال: وهو أولى من التقدم في الموقف، لأن التكبير أشد بدليل امتناع المعية دون الموقف. ولكن قد نبه البغوي في "الفتاوى" المذكورة على أمر مهم، كلام الرافعي وغيره يوهم خلافه، وهو أن حضور هذا الشخص الذي حصل به الاتصال إنما هو شرط في ابتداء الصلاة لا في دوامها، حتى لو أحدث أو زال عن موقفه لا تبطل الصلاة، لأن حكم الدوام أقوى، حتى لو وقف المأموم على سطح، وحصل الاتصال بشخص في الصحن، وحصل أيضًا المحاذاة بجزء من البدن على ما ستعرفه في المسألة الآتية عقب هذه، ثم زال هذا الشخص الذي حصل به الاتصال والمحاذاة أيضًا لما ذكرناه. ووجه ما قاله البغوي في هذه المسائل أن ذلك لما لم يكن للمصلي فيه مدخل، وكان إبطال صلاته مضرًا به اغتفرناه بخلاف الابتداء. قوله فيما إذا وقفا في مكانين أحدهما أعلى من الآخر: ذكر الشيخ أبو محمد أنه إن كان رأس الواقف في السفل يحاذي ركبة الواقف في العلو جاز الاقتداء، وإن زاد عليه امتنع. وقال الأكثرون: إن حاذى رأس الأسفل قدم الأعلى صح، وإلا فلا. انتهى.

[والتعبير] (¬1) بقوله: "زاد" ظاهره أنه يعود إلى المحاذاة، وهو باطل، فينبغي تأويله على عوده إلى المكان المرتفع، تقديره: وإن زاد ارتفاعه، أو إلى عدم المحاذاة، [فإن المحاذاة] (¬2) ببعض البدن [تستلزم] (¬3) عدم المحاذاة بالباقي. ومتى زاد عدم المحاذاة على ذلك بأن كانت رأس الأسفل دون الركبة، لم تصح الصلاة عند الشيخ أبي محمد. وقد عدل في "الروضة" عن هذه العبارة الموهمة، وعبر بغيرها، وقد تقدم في المسألة السابقة كلام مهم متعلق بمسألتنا منقول عن "فتاوى البغوي". قوله: في "أصل الروضة": وذكر البغوي أنه لو وقف في دار مملوكة متصلة بالمسجد شرط الاتصال بأن يقف واحد في آخر المسجد متصل بعتبة الدار، وآخر في الدار متصل بالعتبة، بحيث لا يكون بينهما موقف رجل، وهذا الذي قاله هو الصحيح. وقال أبو إسحاق المروزي: جدار المسجد لا يمنع كما قال في الموات. وقال أبو عليّ الطبري: لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل، ويجوز الاقتداء إذا كان في حد القرب. انتهى ملخصًا. وما ذكره النووي من تصحيح المنع لم يتعرض الرافعي له، ولا لتصحيح مقابله، بل ذكر ما حاصله أن يكون الصحيح فيه الجواز على قاعدة النووي. وذلك أنه خَرَّجَ كلام البغوي على الطريقة القائلة بالبطلان فيما إذا وقف في بناء غير بناء الإمام كصفة أو صحن، وهو مختار الغزالي وجمهور الخراسانيين، فقال: وأما [ما] (¬4) في الدور فالذي ذكره البغوي مثل الطريقة ¬

_ (¬1) في جـ: والتعيين. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في أ: تسلم. (¬4) سقط من جـ.

المذكورة في البناءين. هذا لفظه. والصحيح في البناءين عند النووي الجواز، ثم إيراد الرافعي هذا التخريج بأن أبا إسحاق وأبا عليّ الطبري من القائلين بمخالفة الخراسانيين وأنه لا يشترط الاتصال [في البنائين] (¬1) كما تقدم إيضاحه. وقد قالا في [البناء] (¬2) مع المسجد [مثل] (¬3) ذلك، وإن كانا مختلفين، فإن أبا إسحاق يقول: لا يضر حائط المسجد، والطبري لم ينقلوا عنه ذلك. وقد استفدنا بهذا الكلام أنه لا فرق في جريان الطريقين بين أن يجمع المكانين مكان واحد كالصفة ونحوها، فإنهما يجتمعان في إطلاق الدار عليها، أو لا يكون كذلك كالبيت مع المسجد، وهي مسألة نفيسة. قوله: ولو كانوا في البحر والمأموم في سفينة والإمام في أخرى، وهما مكشوفتان، فظاهر المذهب الصحة إذا لم يزد بين الإمام والمأموم على ثلاثمائة ذراع كما في الصحراء، والسفينتان كركبين في الصحراء، يقف الإمام على أحدهما والمأموم على الأخرى. وقال الإصطخري: يشترط أن تكون سفينة المأموم مشدودة بسفينة الإمام ليؤمن من تقدمها عليه وإن كانت السفينتان مسقفتين] (¬4) فهما كالدارين. وحكم المدارس والرباطات والحانات حكم الدور، والسرادقات في الصحراء كالسفن المكشوفة، والخيام كالبيوت. انتهى كلامه. وما ذكره آخرًا من الصحة في السرادقات فنقول: قال الجوهري: السرادق هو الذي يمد فوق صحن الدار وكل بيت من قطن فهو سرادق. قال: والخيمة بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر. وقال الجواليقي في "كتابه المعقود للمعرب من الألفاظ" (¬5) السرادق ¬

_ (¬1) في جـ: بالبنائين. (¬2) في جـ: البنائين. (¬3) في جـ: بمثل. (¬4) في أ: سقفيتين. (¬5) مطبوع باسم: المُعَرَّب.

فارسي معرب، وأصله بالفارسية سرادب، وهو الدهليز. وقال القاضي عياض في "مشارق الأنوار": السرادق: الخباء، وشبهه [وأصله كلامًا أحاط بالشئ، وقيل: ما يدار حول الخباء. هذا كلامه. والذي قاله الرافعي] (¬1) إنما يستقيم على الأخير خاصة. قوله: فمن شرط الاقتداء أن ينوي المأموم الجماعة أو الاقتداء. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، وتصحيح الاقتداء بنية الجماعة مشكل نبه على إشكاله الرافعي في "الشرح الصغير"، وذلك لأن الإمام والمأموم كل منهما يصلي بالجماعة، فليس في نية الجماعة المطلقة نية الاقتداء بالغير، وربط فعله بفعله، وهذا الإشكال ظاهر، ولم يجب عنه الرافعي. قوله: وينبغي أن تكون هذه النية مقرونة بالتكبير، ولو تابع الإمام من غير نية الاقتداء بطلت صلاته على أصح الوجهين. والمراد بالمتابعة أن ينتظر فعله انتظارًا كبيرًا [ليفعل] (¬2) مثله، فعلى هذا لو شك في أثناء الصلاة في نية الاقتداء نظر إن تذكر قبل أن أحدث فعلًا على متابعة الإمام لم يضر؛ وإن تذكر بعد أن أحدثه بطلت صلاته، لأنه في حال الشك في حكم المنفرد، وهو مقيس بما إذا شك في أصل النية، وقياس ما ذكره في "الكتاب" في تلك المسألة أن يفرق بين أن يمضي مع الشك ركن لا يزاد مثله في الصلاة، وبين أن يمضي غيره. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من البطلان عند المتابعة محله إذا لم يجرد هذه النية بعد التكبير، فإن جردها فيأتي فيه القولان في الاقتداء بعد الانفراد: ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ، ب: ليقول.

أصحهما: الصحة. الأمر الثاني: أن قياس مسألتنا بالشك في أصل النية يؤخذ منه مسألة حسنة وهي البطلان أيضًا إذا لم يحدث ركنًا، ولكن طال زمن الشك فإن الرافعي قد صرح به هناك، وهو ظاهر. وقد حذف النووي من "الروضة" هذا القياس الذي قاله الرافعي فلزم ورود [هذا] (¬1) الفرع عليه، ثم وقع له مثل ذلك في "شرح المهذب" [أيضًا] (¬2) لما ذكرته لك مرات من كونه يعتمد في تحرير الأحكام التي يضعها فيه على ما لخصه في "الروضة" من كلام الرافعي، وإن كان الرافعي أيضًا لم يصرح بهذا التفصيل هنا، وذلك يؤدي إلى الوقوع في الخطأ لقلة من يستحضر ذلك التفصيل ممن يطالع كلامه هنا. ويدل عليه ما وقع هنا في "الروضة" و"شرح المهذب". الأمر الثالث: أن الرافعي أشار بالركن الذي يزاد إلى الركن القولي، فإن تكراره لا يضر على المشهور، وإذا [أتى به] (¬3) في حال الشك لم يضر إذا لم يطل، كما قد قالوا به هناك، وهذا الذي استخرجه الرافعي أيضًا من هذه النسبة يرد على "الروضة" و"شرح المهذب" أيضًا. قوله: ولو نوى الاقتداء بزيد فبان أنه عمرو بطلت صلاته، كما لو عين الميت في صلاة الجنازة وأخطأ، ولو نوى الاقتداء بالحاضر واعتقده زيدًا، فكان غيره، رأى إمام الحرمين تخريجه على الوجهين فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس، وأشار إلى حمار. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما أطلقه من بطلان الصلاة بمجرد الاقتداء غير مستقيم، فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في أ: فاته.

هذا لا إمام له في هذه الحالة فتصح صلاته منفردًا، فإن أتى بعد ذلك بالمتابعة التي تقدم [تفسيرها] (¬1) فالأصح البطلان. وإن جدد نية الاقتداء، فعلى القولين في الاقتداء بعد الانفراد. وإن لم يتابع بالكلية استمرت صلاته على الصحة. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الإمام من أنه رأى تخريجه على ذلك، ليس كذلك، بل ذكر من عنده ما حاصله الجزم بأنه لا يضر، ثم ذكر هذا التخريج على جهة الاحتمال، فإنه نقل أولًا عن الائمة إطلاق القول بالبطلان عند التعيين والخطأ. ثم ذكر أن ذلك مُسَلَّم إذا كان بدون الربط بمن حضر [لا أنه] (¬2) [لا] (¬3) يكاد يتصور، ثم قال: وأما مع الربط به فتظهر صحته، وقد يعني للناظر أن يخرج هذا على مسألة في البيع هي كذا. . . . إلى آخره. وعلى الجملة فقد ظهر أن المنقول هو البطلان، وأن الظاهر عند الإمام هو الصحة، ولكن للأصحاب أن يفرقوا بين ما نحن فيه، وبين البيع بأن تأثير القصد في إبطال العبادات آكد من المعاملات، لأن العبادات تشترط فيها النية، وقد ضعف ذلك القصد بوجود معارض له. وقد ذكر ابن الرفعة في "الكفاية" أيضًا أن المنقول عدم الصحة. وإذا علمت ذلك كله ظهر لك أن اقتصار الرافعي على كلام الإمام ليس بجيد فإنه يوهم أنه لم ير لغيره ما يخالفه، وقد اغتر به النووي فصحح في كتبه الصحة، فقال في "شرح المهذب": إنه الأصح. وفي "زيادات الروضة": إنه الراجح. وصححه أيضا في "التحقيق". قوله في "الروضة": ولا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: لأنه. (¬3) سقط من أ، ب.

الإمامة، لكن هل تكون صلاته جماعة أو فرادى؟ وجهان: أصحهما: فرادى. ثم قال: وقال القاضي حسين: فمن صلى منفردًا فاقتدى به جمع، ولم يعلم بهم ينال فضيلة الجماعة لأنهم نالوها بسببه. انتهى كلامه. وما ذكره من نسبة هذه المسألة إلى القاضي سهو فإن المذكور في الرافعي إنما هو نقلها عن القفال فقال: ويقال: إن القفال سُئِل عن كذا وكذا. . . . إلى آخره. قوله: واعلم أن أبا الحسن العبادي حكى عن أبي حفص الباب شامي وعن القفال أن نية الإمامة تجب على الإمام، وأشعر كلامه بأنهما [يشترطاها] (¬1) في صحة الاقتداء، وإن كان كذلك فليكن قول "الوجيز" معلمًا بالواو. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم ير التصريح بالشرطية لأحد، وقد صرح الماوردي بنقله عن أبي إسحاق فإنه نقل عن نص الشافعي أنه لا يشترط، ثم قال ما نصه: وقال أبو إسحاق: صلاة المؤتم باطلة. واعلم أن القاضي حسين قد نقل في تعليقته نحو ذلك عن الأستاذ أبي إسحاق، فيحتمل أن يكون هو أباه، ويحتمل غيره. قوله في "أصل الروضة": ولو اختلفت صلاة الإمام والمأموم في الأفعال الظاهرة [بأن اقتدى] (¬2) مفترض بمن يصلي جنازة أو كسوفًا لم يصح على الصحيح، وإن قلنا بالصحة فاقتدى بمصلي الجنازة لا يتابعه في التكبيرات والأذكار فيها. . . . إلى آخره. وما ذكره من الجزم بحكاية وجهين، ذكر مثله في "المنهاج" أيضًا، وخالف في "شرح المهذب" فقال: فيه طريقان: ¬

_ (¬1) في جـ: يشترطانها. (¬2) سقط من جـ.

أصحهما: القطع بالمنع. قوله وهل صلاة العيدين والاستسقاء كصلاة الخسوف والجنازة؟ اختلف الأصحاب فيه. انتهى. والصحيح عدم الالتحاق بهما، بل يصح الاقتداء في الفريضة [بهما] (¬1)، [هكذا] (¬2) صححه في "زيادات الروضة". قوله: وإن كان عدد ركعات المأموم أقل كالصبح خلاف الظهر، فقيل: يصح قطعًا، وقيل قولان: أصحهما: الصحة. والثاني: لا، لأنه يحتاج إلى الخروج عن صلاة الإمام قبل فراغه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح طريقة القولين، كذا جزم به الرافعي في "المحرر" وتابعه عليه في "المنهاج"، لكنه صحح في "أصل الروضة" طريقة القطع فزاد [عليه] (¬3) وناقض. الثاني: أن تعليل الرافعي بالبطلان باحتياجه إلى الخروج عجيب، فقد ذكر هو عقب هذا بأنه بالخيار إن شاء خرج، وإن شاء انتظره ليسلم معه. بل زاد النووي فقال: إن الانتظار أفضل. واعلم أن منع الاقتداء بمن يخالف أفعاله أفعال إمامه فيه إشكال، بل ينبغي أن يصح، لأن الائتمام به في القيام لا مخالفة فيه، ثم إذا انتهى إلى الأفعال المخالفة، فإن فارقه استمرت الصحة وإلا بطلت. كمن صلى في ثوب تُرى عورته منه إذا ركع، فإن الأصح فيه الصحة، وهكذا نظائر ذلك، كمن تنقضي مدة مسحه، وهو في الصلاة ونحوه مع أن [المنافي] (¬4) حاصل في الصلاة قطعًا، فأولى إذا أمكن الاحتراز منه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: كذا. (¬3) سقط من جـ. (¬4) في أ: الباقي.

فينبغي حمل كلامهم على ما أشرنا إليه. قوله: فلو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح جاز، ثم إذا سلم الإمام قام إلى باقي صلاته، والأولى أن يتمها منفردًا، فلو قام الإمام إلى ركعتين أخرتين من التراويح فاقتدى به مرة أخرى هل يجوز؟ فيه القولان اللذان نذكرهما، فيمن أحرم منفردًا بالصلاة، ثم اقتدي في أثنائها. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، وتجويز الاقتداء فيما بقي قد ذكر ما يخالفه في أوائل الجمعة في الكلام على الاستخلاف، وسأذكره هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: ويجب على المأموم أن يتابع الإمام، ولا يتقدم عليه في الأفعال، روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار" (¬1). والمراد من المتابعة أن يجري على أثر الإمام بحيث يكون ابتداؤه بكل واحد [منها] (¬2) متأخرًا عن ابتداء الإمام ومتقدمًا على فراغه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه صريح في تحريم المعية صراحة لا يمكن تأويلها، ثم جزم بعد ذلك بأسطر قلائل بجوازها فقال: وأما ما عدا التكبير، فغير السلام تجوز المساوقة فيه، وكذا السلام في أصح الوجهين. وذكر صاحب "التهذيب" وغيره أن ذلك مكروه، وتفوت به فضيلة الجماعة. هذا كلامه، وهو غريب. ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" و"المحرر" وفي كتب النووي "كالروضة" و"شرح المهذب" و"المنهاج" و"التحقيق". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (659) ومسلم (427) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في جـ: منهما.

الأمر الثاني: أن مقتضي ما نقله الرافعي من فوات الجماعة بالمعية أن يصير كالمنفرد، ويلزم أن يكون مبطلًا للجمعة لأن الجماعة شرط فيها، وربما تطرق هذا البحث إلى امتناع المتابعة لأنه ليس بإمام، فإن التزموا أنها جماعة لزمهم حصول الفضيلة للأدلة. الأمر الثالث: أنه قد تقرر من حد المتابعة الواجبة أن تقدم المأموم في الأفعال حرام لاسيما وقد صرح به حيث قال: فلا يتقدم في الأفعال. وقد صرح أيضًا بتحريمه النووي في "التحقيق" و"شرح مسلم" و"شرح المهذب" ولم يحك فيه خلافًا. والعجب أن الشيخ محيي الدين في "تصحيح التنبيه" أقر الشيخ [على كراهته] (¬1)، فإن قيل: أراد بها كراهة تحريم. قلنا: كلامه يقتضي خلافه، فإنه قد قال عقبه: ويجوز أن يسبقه بركنين، فعبر بالركن الواحد بالكراهة، وفي الركنين بعدم الجواز، فاقتضى ذلك إرادة المعنى المشهور من لفظ الكراهة. ولو سلمنا صحة إرادته لكان [يلزم] (¬2) التنبيه عليه لكونه خلاف الاصطلاح كما فعل في المواضع التي وقع فيها ذلك. نعم صرح في "المهذب" بأن ذلك لا يجوز، إلا أن الشافعي في "الأم" قد عبر بالكراهة كما عبر به الشيخ، فقد نقله عنه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية"، ونقل في "الشامل" عن النص التصريح بالجواز فقال قبل صلاة المسافر: فصل: ذكر الشافعي -رضى الله عنه- في "الأم" والقديم أن المستحب للمأموم أن يتابع إمامه، ولا يتقدم في ركوعه ولا سجوده. هذه عبارته. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: لزمه.

ونقل غيره عن النص تحريم ذلك، ونقله عنهم النووي في "شرح المهذب". والحديث المذكور متفق عليه. وإنما خص الحمار من بين سائر الحيوانات لما بين الحمار والمتقدم في الأفعال من البلادة، فإن التقدم لا يفيده شيئًا إذ هو محبوس إلى سلامه قطعًا. ومن الإشارة إلى بلادته قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (¬1). قوله: ولو شك في أن تكبيره هل قد وقع مساوفًا لم تنعقد صلاته أيضًا. انتهى. وما ذكره من إطلاق البطلان عند الشك قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، بل إن زال هذا الشك عن قرب صحت صلاته، وإلا فلا فإن الرافعي قد ذكر في هذا التفصيل فيما إذا شك هل أتى بالنية المعتبرة أم لا؟ ، وفيما إذا شك المأموم في نية الاقتداء. وهذه المسألة مثل ذلك. قوله: وما هو طويل فهو مقصود في نفسه والقصير هل هو مقصود في نفسه؟ أشار في "النهاية" إلى تردد فيه للأصحاب فمن قائل: نعم [كالطويل] (¬2)، ومن قائل: لا، [لأن] (¬3) الغرض منه الفصل، فهو إذن تابع لغيره. انتهى كلامه. ذكر الرافعي بعد ذلك بدون ورقة أن الأكثرين جعلوه مقصودًا، وأن الإمام مال إلى الجزم به. إذا علمت ذلك فقد جزم في صفة الصلاة في الكلام على الاعتدال بأنه غير مقصود، فقال ما نصه: الاعتدال في الصلاة ركن لكنه غير مقصود في نفسه ولذلك عُدَّ ركنًا قصيرًا. انتهى. وذكر أيضًا نحوه في أوائل سجود السهو، وفي أوائل صلاة الخوف، وبه جزم في "المحرر" في صلاة الجماعة، ولم يذكره في غيره. وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا في "الشرح الصغير" وكذلك في كتب ¬

_ (¬1) سورة الجمعة (5). (¬2) سقط من جـ. (¬3) في جـ: فإن.

النووي، فجزم في باب صفة الصلاة من "الروضة" و"شرح المهذب" و"التحقيق" [في صلاة الجماعة] (¬1) بأنه غير مقصود، وهو المذكور في "المنهاج" في صلاة الجماعة. وصحح في هذه الكتب الثلاثة في صلاة الجماعة أنه غير مقصود. قوله: ولو اعتدل الإمام والمأموم قائم ففي بطلان صلاته وجهان. انتهى. والأصح عدم البطلان، كذا صححه الرافعي بعد هذا في الكلام على التخلف لقراءة الفاتحة، وصححه أيضًا النووي في "التحقيق" و"شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وإذا هوى إلى السجود ولم يبلغه والمأموم على حاله في القيام ففيه خلاف. . . . إلى آخره. لم يصحح أيضًا في "الروضة" شيئًا، والصحيح: البطلان، كذا ذكره النووي في "التحقيق" وهو مقتضى كلام "المحرر" و"المنهاج". قوله: ولو تأخر المأموم في القيام حتى انتهى الإمام إلى السجود بطلت صلاته وفاقًا. انتهى. وما ادعاه من الوفاق قد تبعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإنه قد تلخصن كلامه أن الركنين هل يشترط أن يكونا مقصودين أم يكفي أن يكون أحدهما مقصودًا؟ فيه وجهان: وعلى كلا الوجهين هل يترتب البطلان على شروعه في الركن الثاني، أو على الفراغ منه؟ فيه وجهان. وقد صرح أيضًا يترتيب الخلاف هكذا ابن الرفعة وغيره، وحكوه في التقدم، وإذا لم تبطل صلاة المأموم بذلك على وجه [مع] (¬2) التقدم فمع التأخر أولى لأن التقدم أفحش. قوله: وإذا أدرك الإمام راكعًا فكبر، ولم ينو تكبيرة الافتتاح، ولا تكبيرة الهوى، لا تصح صلاته عند الجمهور [وهو] الذي نص عليه الشافعي. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ.

وهذا الحكم في غاية الإشكال، وذلك لأنه إذا أتى بالنية المعتبرة، وأتى بالتكبير مقارنًا لها، فلم يفته إلا كون التكبير للتحرم، وقصد الأركان لا يشترط اتفاقًا، فلزمه منه أن تصح كما لو لم يكن مسبوقًا. قوله: ومن الأعذار -أى: في إخراج نفسه عن الجماعة- ما إذا لم يصبر إلى طول القراءة لضعف أو شغل. وعن الشيخ أبي محمد ما ينازع في هذا الأخير لأنه حكى فى "البيان" عنه أنه جعل انفراد الرجل عن معتاد انفرادًا بغير عذر. انتهى. وما نقله عن "البيان" من كونه للشيخ أبي محمد سهو، فإن المذكور فيه إنما هو نقله عن الشيخ أبي حامد. قوله: فرع: إذا أقيمت الجماعة وهو في الصلاة منفردًا نظر إن كان في فرض الوقت استحب أن يقطع الفريضة ويقلبها نفلًا ويسلم من ركعتين، وإن كان في فائتة لم يستحب فعل ذلك، لأن الفائتة لا تشرع لها الجماعة. انتهى. وما ذكره من [عدم] (¬1) الاستحباب إذا كان في فائتة ليس كذلك، بل تستحب، وقد تقدم الكلام عليه في صفة الصلاة في الكلام على النية. وأما قوله: إن الفائتة لا تشرع لها الجماعة، ففيه كلام أيضًا سبق في أول هذا الباب. قوله: ولو لم يسلم عن صلاته التي أحرم بها منفردًا واقتدى في خلالها فطريقان: إحداهما: القطع بالمنع. وأصحهما: أن في المسألة قولين: أصحهما: الجواز. قال: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأصحابه ثم تذكر في صلاته أنه جنب، فأشار إليهم أن كما أنتم، وخرج واغتسل وعاد ورأسه يقطر (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري (271) ومسلم (605) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وتحرم بهم، ومعلوم أنهم أنشأوا اقتداءًا جديدًا إذ يتبين أن الأول لم يكن صحيحًا. انتهى. فيه [أمور] (¬1): [أحدها] (¬2): أنه إنما قيد هذه المسألة بما إذا أحرم منفردًا، لأنه إذا افتتحها في جماعة فتجوز بلا خلاف كما قال النووي في "التحقيق"، وذكر مثله في "شرح المهذب" فقال: وإذا افتتح الصلاة في جماعة ثم نقلها لجماعة أخرى مثل إن أحرم خلاف جنب جاهلًا ثم نقلها عند التبين إليه بعد تطهره أو إلى غيره، أو أحدث إمامه وجوزنا الاستخلاف فاستخلف، فكل هذا يجوز بلا خلاف، وإن كان في جماعة أولًا، صرح به في "البيان"، وذكر جماعة كبيرة نحوه. هذا كلام النووي. الثاني: أن الاستدلال بالحديث المذكور استدلال على غير محل النزاع لما تقدم. الثالث: أن دعوى الرافعي أنا نتبين بطلان الاقتداء بمن تبين أنه جنب ممنوع. فإن الصلاة خلفه جماعة تترتب عليها جميع أحكام الجماعة بدليل صحة الجمعة [خلفه] (¬3) كما صرح به الرافعي في الشرط الخامس من شروط الجمعة، والنووي في مواضع فقالا: إنه أصح، وبه قال الأكثرون، ونص عليه الشافعي في "الأم". وحينئذ فحصول الجماعة دليل على صحة هذا الاقتداء. قوله: ولو أدرك الإمام في الركوع حصلت له الركعة خلافًا لابن خزيمة وأبي بكر الصبغي، ثم قال: ويعتبر فيه أن يكون ذلك الركوع محسوبًا للإمام، فإن لم يكن ففيه كلام قد نعرض له في كتاب الجمعة. انتهى. ¬

_ (¬1) في أ: أمران. (¬2) في أ: أحدهما. (¬3) سقط من أ، جـ.

وهذا الحكم -أعني- اشتراط حسبانه للإمام. قد اختلف فيه كلام الرافعي فصحح في الموضع الذي أشار إليه اشتراطه، وعبر (¬1) [بلفظ الأصح، ذكر ذلك في الباب الأول في الشرط الخامس؛ وصحح في باب صلاة المسافر عكسه، وذكره في الكلام على شروط القصر فيما إذا تبين أن الإمام محدث، وسأذكر لفظه في الموضعين في محلهما فراجعه. واعلم أن النووي في "الروضة" عبر عن قول الرافعي ففيه كلام بقوله: ففيه تفصيل نذكره في الجمعة، ظنًا منه أن الكلام الآتي تفصيل في المسألة، والمسألة لا تفصيل فيها، فغلط في الاختصار. قوله في "أصل الروضة": ويشترط أن يطمئن [من] (¬2) قبل ارتفاع الإمام عن الحد المعتبر، فلو كبر وانحنى وشك هل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الإمام عنه؟ فوجهان، وقيل قولان: أصحهما: لا يكون مدركًا. انتهى. وما صححه من كون الخلاف وجهين صوبه أيضًا في "شرح المهذب"، وخالف في "المنهاج" فجزم بأنه قولان. قوله من "زياداته": وإذا أدركه في التشهد الأخير لزمه متابعته في الجلوس، ولا يلزمه أن يتشهد معه قطعًا، ولكن يسن له ذلك على الصحيح المنصوص. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الوجوب قطعًا ليس كذلك، فقد جزم الماوردي في "الحاوي" أنه يجب عليه الإتيان به. قال: لأنه بالدخول في صلاة الإمام لزمه اتباعه، والتشهد مما يلزم اتباع الإمام فيه كما يلزمه في الأفعال، فيحصل على ثلاثة أوجه؛ ولما حكاها ابن الرفعة قال: يظهر أن ¬

_ (¬1) بداية سقط كبير من جـ. (¬2) زيادة من أ.

يقال: إن الوجهين في الاستحباب يأتيان في القنوت في مسألتنا، وظني أني رأيت ذلك في تعليق القاضي الحسين، قال: ويظهر أن يقال: يستحب وجهًا واحدًا. والفرق أن التشهد ركن في الصلاة، وفي الإتيان به تكرير ركن من غير ضرورة، ولا كذلك القنوت. الأمر الثاني: أن استحباب موافقته إياه في التشهد قد ذكرها الرافعي بعد هذا بأسطر قلائل، وصحح الاستحباب فيه، وفي التسبيحات. قوله: وإذا قام المسبوق بعد سلام إمامه ولم يكن في موضع جلوسه لم يكبر على الأصح، قال: ويحكى عن أبي حامد أنه يكبر. . . . إلى آخره. هكذا صرح الإمام والغزالي بنقله عن أبي حامد فتابعهما الرافعي، وفيه نظر، فإن المذكور في تعليقته هو الجزم بأنه لا يكبر، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب". قوله: والسنة للمسبوق أن يقدم عقب تسليمتي الإمام، فإن الثانية من الصلاة. انتهى. وما ذكره من أن الثانية من الصلاة، قد جزم بما يخالف في موضعين: أحدهما: في أول كتاب الجمعة. والثاني: في أواخر كتاب النذر في الكلام على نذر الحج ماشيًا، وسنعرف لفظه في كل منهما. وقد اختلف كلام النووي أيضًا في هذه المسألة فنقل في باب صفة الصلاة من "شرح المهذب" عن الإمام والغزالي وغيرهما أنها ليست من الصلاة، ولم يزد على ذلك؛ ثم نقل في هذا الباب من "شرح المهذب" أيضًا عن تصريح القاضي والمتولي وآخرين أنها منها، ولم يذكر غيره. وجزم به أيضًا في "الروضة" من زياداته في كتاب التيمم، وحذف

التعليل الواقع في كتاب الجمعة ومما يقوي أنها منها ما ذكره النووي في "التحقيق" أن الصحيح أنه يستحب للمأموم أن لا يسلم التسليمة الأولى حتى يسلم الإمام التسليمة الثانية. وقيل: لا، بل يستحب الأولى عقب الأولى، والثانية عقب الثانية كما يفعله غالب الناس. ونقل الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "الفتاوي الموصلية" استحباب قيام المسبوق عقب التسليمتين عن صاحب "التتمة" فقط، ثم قال: وهذا بعيد لأن الإمام يخرج من الصلاة بالأولى فلا يجوز [له] (¬1) القعود. قال: وإنما يستقيم ذلك على مذهب أحمد فإنها عنده من الصلاة. قوله: ونص الشافعي أنه لو أدرك ركعتين من رباعية ثم قام للتدارك يقرأ السورة بعد الفاتحة فيهما وهذا يخالف قولنا أن ما يأتي به المسبوق يكون آخر صلاته، فمنهم من قال: إن ذلك جواب على قوله: تستحب قراءة السورة في الركعات كلها. ومنهم من قال: لا، وإنما أمره بقراءة السورة لأنه لم يدركها مع الإمام. انتهى ملخصًا. والصحيح هو الثاني، وهو أنه يأتي بهما على القولين جميعًا، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" و"المنهاج"، وكذلك في باب صفة الصلاة من "التحقيق". قوله من "زياداته": ويكره أن يؤم الرجل قومًا وأكثرهم له كارهون. . . . إلى آخره. اعلم أن الرافعي قد ذكر هذه المسألة في كتاب الشهادات في الكلام على الصغائر والكبائر، وجزم فيها بالتحريم ناقلًا له عن صاحب "العدة"، وذكر ¬

_ (¬1) في أ: لعله.

صاحب "العدة" معها أشياء كثيرة من الصغائر، فاعترض عليه الرافعي والنووي في بعضها، وارتضيا بعضًا، وهذه المسألة من المسائل التي ارتضياها. وقد نص الشافعي -رحمه الله- على المسألة، وصرح بالتحريم فقال: ولا يحل لرجل أن يؤم قومًا وهم يكرهونه، هكذا نقله عن الماوردي في "الحاوي". وذكر النووي في أثناء هذا الباب من "شرح المهذب" و"التحقيق" أنه مكروه كما ذكره في "الروضة". والله تعالى أعلم.

كتاب صلاة المسافرين

كتاب صلاة المسافرين وفيه بابان: الباب الأول في القصر قوله: وإذا جاوز السور فلفظ الكتاب كالصريح في أن الترخص لا يتوقف على شيء آخر، ونقل كثير من الأئمة ما يوافقه، لكن في بعض التعاليق للمروزيين أنه إن كان خارج السور أو دور متلاصقة أو مقابر فلابد من مفارقتها، ويقرب من هذا إيراد الكلام في "التهذيب" وهو أوفق لكلام الشافعي. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أنه ليس فيه تصريح بتصحيح غير أنه يؤخذ منه رجحان الاشتراط، وبه صرح في "المحرر" فقال: وإذا كان وراء السور عمارات فالأشبه أنه لابد من مجاوزتها، وذكر ما يخالفه في "الشرح الصغير" فقال: لا يشترط مجاوزة ذلك، على ما نقله كثير من الأئمة وفي كلام بعضهم ما يدل على اشتراطه. هذا لفظه. وهو يقتضي أن الاشتراط ضعيف غير مصرح به، وصحح النووي في "الروضة" أنه لا يشترط، ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له، فإنه غريب على العكس مما يؤخذ منه، وصححه أيضًا في "شرح المهذب" وقال فيه: إنه المذهب الذي قطع به الجمهور. قال: وعجب من الرافعي في "المحرر" حيث رجح الاشتراط مع ترجيحه عدمه في "الشرح". والذي قاله النووي فيه غريب، والسبب فيه أنه لما لخص "الروضة" من

"الشرح" التلخيص المعروف المشتمل على المخالفات المشهورة صار ينقل منها، ويعزي إلى الرافعي ظنًا أنه وفي بكلامه ولم يخالفه. وبالجملة فالفتوى على عدم الاشتراط لذهاب الجمهور إليه كما تقدم. الأمر الثاني: أن ملاصقة الشئ للشئ معناه أن لا يكون بينهما حائل بالكلية، وهذا غير شرط، بل الشرط إنما هو التواصل المعتاد. قوله: إلا إذا كانت تعني البساتين والمزارع فيها قصور ودور يسكنها ملاكها في جميع السنة أو في بعض فصولها فلابد من مجاوزتها حينئذ. انتهى كلامه. تابعه النووي في "الروضة" على اشتراط مجاوزتها أيضًا، ثم خالف ذلك في "شرح المهذب" فقال بعد أن حكى هذه المقالة ما نصه: ولم يتعرض الجمهور لذلك، والظاهر أنه لا يشترط لأنها ليست من البلد، ولا تصير منه بإقامة بعض الناس فيها بعض الفصول. انتهى. وقد فصل الرافعي أيضًا في "الشرح الصغير" كما فصل في "الكبير"، وأطلق في "المحرر" أنه لا يجب مجاوزة البساتين، وتبعه النووي على ذلك في "المنهاج" وإذا علمت ما تقدم علمت أن المعنى عليه عدم الاشتراط. قوله: ولو نوى إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج لم يترخص. تابعه عليه في "الروضة" وشرطه أن يكون ماكثًا فإن كان سائرًا لم يؤثر قطعًا كما قاله في "شرح المهذب". قوله من "زياداته": ولو نوى العبد أو الجيش أو المرأة إقامة أربعة، ولم ينو السيد ولا الأمير ولا الزوج ففي لزوم الإتمام في حقهم وجهان: الأقوى: جواز القصر، لأنهم لا يستقلون فنيتهم كالعدم. انتهى كلامه.

فيه أمران: أحدهما: أن حكاية الوجهين في العبد والمرأة صحيح وأما الجيش فإجزاء الوجهين فيه احتمال لصاحب "البيان" على ما بينه في "شرح المهذب"، فإنه قد قال فيه ما نصه: ولو نوى الجيش الإقامة دون الأمير قال العمراني: احتمل الوجهين في العبد والمرأة. هذا لفظه. وهو يدل على أن المسألة ليس فيها وجهان ثابتان فكيف يجزم بحكايتهما في "الروضة"؟ . الأمر الثاني: أنه قد جزم بعده بنحو ورقة يما يخالف هذا الحكم فقال في ضمن فرع: ولو سار الجندي بسير الأمير، ولم يعرف مقصده فنوى الجندي سفر القصر، فله القصر، لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره بخلاف العبد والمرأة. انتهى. فجعل نية السفر معتبرة من الجندي، وتلزم منه ضرورة تصحيح نية إقامته بل أولى لأنها الأصل. وحينئذ فيناقض قوله أولًا أنه لا يعتبر بنية الإقامة، وسأذكر المسألة أيضًا في موضعها. قوله: فرع: إذا سافر العبد بسير المولى، والمرأة بسير الرجل، والجندي بسير الأمير، ولا يعرفون مقصدهم لم يجزلهم الترخص. انتهى كلامه. قال في "شرح المهذب": كذا أطلقه الرافعي تبعًا للبغوي، ويتعين حمله على ما قيل بمجاوزة مرحلتين، وإن قطعوها قصروا كما قالوه في الأسير في يد الكفار، والذي ذكره النووي بحثًا قد صرح به صاحب "التتمة". قوله: الأمر الثالث: صورة الإقامة فإذا عرض له شغل في موضع فأقام

فيه فله حالان: أحدهما: أن يكون الشغل بحيث يتوقع تنجزه لحظة فلحظة، وهو على عزم الارتحال متى ينجز فأقوال: أصحها: جواز القصر إلى ثمانية عشر يومًا، سواء كان محاربًا أم غيره. انتهى ملخصًا. ويظهر أن يكون الجمع والقصر وغيرهما من الرخص حكمها حكم القصر في جواز تعاطيها في هذه المدة، وإنما عبروا بالقصر هنا لكون الباب معقودًا له. ويدل عليه أن الغزالي في "الوجيز" قد عبر بالترخص وهو شامل للجمع، ويحتمل احتمالًا قويًّا أن يقال: يختص الجواز بالقصر كما صرحوا به، لأن توقع قضاء الحاجة لا يقتضي الترخص مطلقًا، بدليل أنه لا يقصر به بعد ثمانية عشر يومًا، وإنما يقتضي الترخص به فيما ورد، وهو الثمانية عشر لأن الأصل عدمه إذ هو في هذه المدة مقيم. وهذا المعنى تعيينه يدل على امتناع ما عدا القصر، بل أولى لأن القصر قد ثبت جوازه من حيث الجملة فيما نحن فيه، فإذا منعوا القصر لعدم وروده مع ورود أصله فبطريق الأولى أن يمتنع الصوم لعدم [وروده مع] (¬1) ورود أصله [فينظر أصله] (¬2). قوله: الثاني: أن يعلم أن شغله لا يفرغ في ثلاثة أيام كالمتفقه والتاجر في أموال كثيرة. وإن كان محاربًا وقلنا: إن المحارب لا يقصر في الحالة الأولى، فهاهنا أولى، وإلا فقولان: ¬

_ (¬1) زيادة من أ. (¬2) سقط من ب.

فإن قلنا: يقصر، فهل يزيد على ثمانية عشرة؟ فيه قولان كالحالة الأولى. انتهى. وقد اختصره في "الروضة" بقوله: فإن قلنا في الحالة الأولى: لا يقصر، فهاهنا أولى، وإلا فقولان: أحدهما: يترخص أبدًا. والثاني: ثمانية عشر. هذا لفظه. وفيه خلل من وجهين: أحدهما: النقصان، وهو من قوله: "قولان" إلى قوله: "قولان". الثاني: حذف قوله: "كالحالة الأولى" مع أنه يؤخذ منه تصحيح الاقتصار على الثمانية عشر إن قلنا بالقصر، وصحح في "شرح المهذب" الاقتصار عليه، لكنه وقع في الاعتراض الأول، وسببه أنه ينقل فيه ما لخصه في "الروضة" كما ذكرته لك غير مرة. قوله: وأما كون السفر طويلًا فلابد منه، والطويل ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي نسبة إلى هاشم جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان قدر أميال البادية. انتهى كلامه. وما ذكره من نسبة ذلك إلى هاشم المذكور قد تبعه عليه ابن الرفعة أيضًا، وهو غلط، بل منسوب إلى بني هاشم، فإنهم فعلوا ذلك حين أفضت إليهم الخلافة، فإن بني أمية سبقوهم إلى تقديرها بأميال هي أكبر من هذه الأميال الهاشمية فغيروا التقدير، فكذلك قدرها الأصحاب بالهاشمية للاحتراز عن الأموية. وقد نبه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" على ذلك فقال مشيرًا إلى الرافعي: وأخطأ بعض الشارحين "للوجيز" فأفحش فزعم أن ذلك نسبة إلى هاشم جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكأنه لم يدر أن النسبة إلى بني هاشم هاشمي، ثم

إنه لا يخفى أن ذلك لا يلائم حال هاشم، إنما يلائم حال بنيه حين أفضت الخلافة إليهم. قوله: وهذه الأميال ستة عشر فرسخًا، وهي أربعة بُرد، وهي مسيرة يومين معتدلين، والميل أربعة آلاف خطوة، والخطوة ثلائة أقدام. فهل هذا الضابط تحديد أم تقريب؟ وجهان: الأصح على ما قاله الروياني أنه تحديد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: اختلف كلام النووي في هذه المسألة فصحح في "الروضة" ما قاله الروياني، وعبر بالأصح، ولم ينبه على أنه من زوائده، وخالف في "المسائل المنثورة" فصحح أنه تقريب، وعبر أيضًا بالأصح، والأول هو المعروف، فقد جزم به المتولي في "التنبيه" وابن الصباغ في باب موقف الإمام والمأموم. قال ابن الرفعة أيضًا: إنه الأصح. الثاني: إذا قلنا بالتقريب فما المقدار الذي لا يضر نقصانه؟ لم يتعرض له الرافعي والنووي في كتبهما، وقد ذكره ابن يونس شارح "التنبيه" فقال: لا يضر نقصان الميل والميلين، ولم يذكر ابن الرفعة غيره. قوله: واستحب الشافعي -رضي الله عنه- أن لا يقصر إلا في ثلاثة أيام للخروج من خلاف أبي حنيفة في ضبطه به. انتهى. نقل الماوردي في النكاح في الكلام على تزويج ابنته من الزنا عن القاضي أبي حامد أن الشافعي كره القصر في أقل من الثلاثة، وجزم به أيضًا في كتاب الرضاع في أثناء مسألة. وكلام الرافعي المتقدم قاصر عن الدلالة عليه. قوله: ونقل الحناطي وصاحب "البيان" قولًا أنه يجوز القصر في السفر

القصير بشرط الخوف. انتهى. حكاه أيضًا النووي في "شرح المهذب" وغيره، ثم نفاه -أعني: النووي- أيضًا في الحج من "شرح المهذب" فقال في الكلام على الجمع في نمرة ما نصه: وأما القصر فلا يجوز إلا لمن كان سفره طويلًا، وهو مرحلتان، وهذا لا خلاف فيه عندنا. هذا لفظه فاختلف كلامه. قوله: ولو نوى الخروج إلى مسافة القصر [ثم نوى الإقامة في بلد وسط الطريق إن كان من مخرجه إلى المقصد الثاني مسافة القصر ترخص وإن كان أقل فوجهان: أصحهما أنه يترخص ما لم يرحل، لأن سبب الرخصة قد انعقد فيستمر حكمه إلى أن يوجد ما يغير النية إليه] (¬1). انتهى. وما ذكره من تصحيح الترخص تبع فيه البغوي، والمسألة كما قال القاضي حسين في تعليقه: هي نظير ما إذا سافر لمباح، ثم نقله إلى بعضه والصحيح فيها عند الرافعي والنووي منع الترخص. وقياسه تصحيح المنع فيما إذا عَنَّ له في أثناء الطريق نقل القصد الأول إلى ما هو دونه، وصرح بتصحيحه القاضي الحسين في تعليقه، فبنى على قاعدة واحدة. وأما البغوي فإنه لم يصحح شيئًا في النقل إلي المعصية، وصحح في هذا الجواز كما تقدم نقله عنه فليس في كلامه تنافٍ، بل ترجيحه في أحد المسألتين يؤخذ منه ترجيحه في الأخرى. وأما الذي سلكه الرافعي فمتناف خارج عن القواعد وعن المنقول. والصواب الذي يعني به هو المنع فيهما، ثم إن مقتضى كلام الرافعي في نظير المسألة، وهو الجزم بالمنع في العدد إذا بدا له بدون إقامة. قوله: وإذا سافر العبد بسير المولى، والمرأة بسير الرجل، والجندي بسير ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمير، ولا يعرفون مقصدهم لم يجز لهم الترخص. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، لكنه ذكر من زياداته بعد ذلك نقلًا عن الشافعي أن الكفار إذا أسروا رجلًا فساروا به، ولم يعلم أين يذهبون فلا يقصر إلا إذا سار معهم يومين، فإنه يقصر بعد ذلك. وهذا التفصيل الذي ذكره هناك يأتي تعيينه في مسألتنا وقد نبه عليه في "شرح المهذب" فقال: إنه يتعين القول به، وأن يكون كلامهم محمولًا على ما إذا لم يقطعوا مسافة القصر، لكنه قد صرح قبل ذلك في نظيره بعكسه فقال في الفصل المعقود لطول السفر تبعًا للرافعي: ويشترط عزمه في الابتداء على قطع مسافة القصر، فلو خرج لطلب آبق أو غريم، وينصرف متى لقيه، ولا يعرف موضعه لم يترخص، وإن طال سفره كالهائم. انتهى. فجزم بمنع الترخص قطعه سفرًا طويلًا على عكس ما تقدم، وقد سبق قبل هذا بنحو ورقتين من زيادات النووي أن الجندي أيضًا ليس مستقلًا بنفسه. وقد يجاب بأن سفر الأمراء يختلف، فإن سافر للقتال وجبت طاعته، وإن سافر لحاجة نفسه فتبعه أجناده على العادة لم تجب. قوله: ولو أنشأ سفرًا مباحًا ثم نقله إلى معصية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يترخص، لأن هذا السفر انعقد مباحًا. والثاني: لا، كما لو أنشأه بهذه النية، وكلامهم يميل إلى ترجيحه. انتهى ملخصًا. ومحل هذا الخلاف إنما هو عند استمراره قصد المعصية، أما إذا طرأ هذا القصد ثم تاب فلا يأتي الوجهان، كذا نبه عليه الرافعي في [باب] (¬1) ¬

_ (¬1) سقط من أ.

اللقطة، ولولا هذا النقل لكان لقائل [أن يقول] (¬1) الوجهان جاريان تاب أو لم يتب تنزيلًا للطارئ المقتضى لما هو الأصل منزلة المقارن. قوله: حكى عن الشيخ أبي محمد أن المقيم إذا كان يدأب في معصيته ولو مسح على خفيه كان ذلك عونًا عليها فيحتمل منعه، واستحسن الإمام ذلك. انتهى. اختصره في "الروضة" بقوله: وفي وجه شاذ لا يجوز للمقيم العاصي المسح لقدرته على التوبة. انتهى. ودعواه أن الوجه في مطلق العصيان ليس [مطلقًا] (¬2) بل في عصيان خاص، وقد سبق في باب المسح مسألة ثالثة وهو ما لو كان عاصيًا بالإقامة وأنه كالعاصي بالسفر. قوله: فأما الصبح فلا يجوز قصرها بالإجماع. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك. فقد رأيت في "طبقات الفقهاء" للعبادي عن محمد بن نصر المروزي -من أصحابنا- أنه يجوز قصرها في الخوف إلى ركعة قال: كمذهب ابن عباس. قوله في "الروضة": ثم العاصي بسفره لا يقصر، ولا يفطر، ولا يتنفل على الراحلة، ولا يجمع بين الصلاتين ولا يمسح ثلاثة أيام، وليس له أكل الميتة عند الاضطرار، وقيل: وجهان. انتهى. ذكر في باب المسح على الخف من "شرح المهذب" أنه لا خلاف في المنع من الأكل. قوله: ولو سافر، والماضي من [الوقت] (¬3) دون ما يسع الصلاة، فقد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: مطابقًا. (¬3) سقط من أ.

قال في "النهاية": ينبغي أن يمتنع القصر إن قلنا: إنه يمتنع لو كان الماضي قدرًا يسع الصلاة بخلاف ما لو حاضت بعد مضي القدر الناقض، فإنه لا تلزمها الصلاة على المذهب لأن عروض السفر، لا ينافي إتمام الصلاة وعروض الحيض ينافيه. انتهى. قال في "شرح المهذب": هذا الذي ذكره إمام الحرمين شاذ مردود، فقد اتفق الأصحاب على أنه إذا سافر قبل أن يمضي من الوقت زمن يسع تلك الصلاة جاز له القصر. ونقل القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين أنه يقصر. قالوا: وإنما الخلاف إذا مضى قدر الصلاة قبل أن يسافر. والفرق أنه إذا مضى قدرها كان في معنى من فاتته صلاة في الحضر ولا يوجد هذا المعنى فيمن سافر قبل مضي قدرها بكماله انتهى كلامه في "شرح المهذب"، وذكر مثله في "الروضة". وما ذكره فيهما من الاتفاق ليس كذلك، فقد ذكر الماوردي أنه قياس قول البلخي فيما إذا حاضت قبل أن يمضي من الوقت ما يسع الصلاة. قوله: وقول الغزالي أن لا يقتدي بمقيم -في بعض النسخ بمتم [وهو أعم- وإن كان كل مقيم متم، وقد يكون المسافر متمًا أيضًا. انتهى كلامه. ودعواه أن كل مقيم متم] (¬1) ليس كذلك، فإنه إنما يأتي إذا كان المراد من لزوم الإتمام عند الاقتداء بمقيم إنما هو بالنسبة إلى تلك الصلاة أو إلى صلاة الفرض حتى إذا اقتدى به، في نافلة لا يلزمه الإتمام، والمسألة فيها نظر يحتاج إلى نقل. قوله: ولو اقتدى بمن ظنه مسافرًا فبان مقيمًا محدثًا، فإن ثبتت الإقامة وإلا لزمه الإتمام، وإن تبين الحدث أولًا أو بانا معًا فوجهان: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: لا يلزمه الإتمام لأن الاقتداء به لم يصح في الحقيقة. والثاني: يلزمه لأن حدث الإمام لا يمنع صحة اقتداء الجاهل به، ثم قال: وأطبق الأئمة على ترجيح الوجه الأول، وقد ينازعه كلامهم في المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع ثم بان كونه محدثًا فإنهم رجحوا الإدراك، ومأخذ المسألتين واحد. انتهى كلامه. والذي ذكره آخرًا من ترجيح إدراك الركعة بإدراك ركوع الإمام المحدث ليس كما قاله، بل الصحيح عدم الإدراك، كذا صححه هو والنووي في كتاب الجمعة في الشرط الخامس المعقود للجماعة، وعبرا بلفظ الأصح. نعم لو استند الرافعي في النزاع إلى ترجيحهم حصول الجمعة خلف المحدث لكان متجهًا. وقد بسطت ما يقوي كلام الرافعي قبيل هذا الباب.

الباب الثاني في [الجمع]

الباب الثاني في [الجمع] (¬1) قوله: والرخص المختصة بالسفر ثمانية: أربعة منها تخص بالسفر الطويل. . . . إلى آخره. أهمل من رخص السفر ثلاثة أخرى: الرخصة الأولى: إخراج الوديعة من البلد، فإنه إذا سافر ولم يجد المالك ولا وكيله ولا الحاكم ولا الأمين [جاز] (¬2) له أخذها معه على الصحيح. الرخصة الثانية: في تعريف اللقطة، فإذا وجد اللقطة في صحراء، وكان مقيمًا بها فإنه يعرفها في أقرب البلاد إليه بلا نزاع، وإن كان مجتازًا فالأصح على ما يقتضيه كلام الرافعي. وصرح به في "الروضة" أنه لا يلزمه ذلك، بل يعرف في البلد الذي يقصد السفر إليها قربت أم لا. الرخصة الثالثة: عدم القضاء للزوجة التي لم يستصحبها معه إذا كان استصحاب ضرتها بالقرعة، وهذا القسم مختص بالطويل على الصحيح. قوله: وإذا جمع المسافر في وقت الأولى فيشترط أن يبدأ بالأولى، فإن بان فسادها فالثانية فاسدة أيضًا. انتهى. وما أطلقه من فساد الثانية تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، والمراد بذلك فساد كونها عصرًا لا أصل الصلاة، فإن الصواب تخريجه على من أحرم بالفرض قبل وقته جاهلًا بالحال. والأصح فيه انعقاد كونها نافلة، وسيأتي قريبًا هذا التخريج في نظير ¬

_ (¬1) في ب: الجمعة. (¬2) سقط من أ.

المسألة. قوله: أما إذا جمع بتأخير الأولى فلا يجب الترتيب في أصح الوجهين. قال: لأنه لو أخر الظهر عمدًا من غير عذر كان له تقديم العصر عليها، فإذا أخرها مع العذر كان أولى. انتهى. وذكر هذا التعليل أيضًا في "الشرح الصغير"، وهو يخالف ما قرره في كتاب الحج من أن الصلاة المتروكة بغير عذر يجب فعلها على الفور على الأصح. فإن جواز تأخير الظهر في هذه الحالة ينافي القول بأنها على الفور لاسيما وهو عكس المطلوب شرعًا من ترتيب الصلاة، بخلاف ما لو انعكس الحال فترك الظهر سهوًا والعصر عمدًا، فإن الجواز ربما كان يتخيل. وقد حذف النووي التعليل المذكور في صلاة المسافرين من كتبه اتفاقًا فَسَلِم من التناقض. قوله في الكلام على جمع التأخير: وأما نية الجمع عند الشروع، فقد قال في "النهاية": إن شرطنا الموالاة فوجب نية الجمع كما في الجمع بالتقديم، وإلا فلا نوجب نية الجمع، ويحكي هذا النبأ عن القاضي الحسين. انتهى. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، ومقتضاه عدم وجوب النية لأن المرجح عدم وجوب الموالاة، وكذلك صححه النووي في أصل "الروضة"، وجزم في "المحرر" باشتراطها فقال ما نصه: أما إذا أخر الأولى إلى الثانية فلا يشترط الترتيب ولا الموالاة في أظهر الوجهين، ولابد من نية الجمع عند الشروع في الصلاة، ويجب أن يكون تأخيرها بنية الجمع. انتهى لفظه بحروفه، وتبعه صاحب الحاوي الصغير على اشتراطها، وصحح النووي في

"المنهاج" أن النية لا تجب، ولم يجعله من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، واعتذر عنه في "الدقائق" بأن الصحيح خلافه، وهو عجيب. قوله: قال الأئمة: يجب أن يكون التأخير بنية الجمع، فلو أخر من غير نية الجمع حتى خرج الوقت عصى وصارت قضاءًا، وكذا لو أخر حتى ضاق الوقت فلم يبق إلا قدر لو شرع في الصلاة فيه لما كان أداء. انتهى كلامه. تابعه النووي أيضًا على ذلك في "الروضة" و"شرح المهذب" ومقتضاه جواز تأخير الصلاة من غير نية الجمع إلى أن يبقى من الوقت مقدار ركعة، لأنه لو شرع في الصلاة، والحالة هذه لوقعت أداءًا، فإذا انتهى إلى هذه الحالة وجب عليه أن ينوي الجمع أو يشرع في الصلاة، ويؤدي بعضها في الوقت وبعضها خارجة، هذا حاصل كلامه. وهو إنما يستقيم إذا جوزنا إخراج بعض الصلاة عن الوقت، وقد تقدم من كلامه وكلام النووي أن الصحيح المنع، وإن جعلناها أدءًا، ومقتضاه أنه إذا بقى من الوقت مقدار الصلاة يجب عليه إذ ذاك أن يصلي أو ينوي الجمع، وقد صرح به النووي في "شرح مسلم" فقال: يجب عليه أن ينوي بحيث يبقى من الوقت ما يسع مقدار الصلاة، وكذلك ذكره صاحب "التنبيه"، وأقره عليه النووي في "تصحيحه" وهذا أحد الفرعين اللذين قدمنا في كتاب الصلاة أن كلام الرافعي فيهما يدل على جواز إخراج بعض الصلاة عن الوقت إذا جعلناها أداءًا. قوله: وإذا جمع تقديمًا فصار مقيمًا في أثناء الثانية لم يبطل الجمع في الأصح صيانة للفرض عن الإبطال، فإن قلنا بالبطلان فهل تنقلب الثانية نفلًا أم تبطل بالكلية؟ فيه الخلاف في نظائره. انتهى. وأشار بذلك إلى ما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال ونحوه، والصحيح فيه

[التفصيل] (¬1) بنية العلم والجهل وحينئذ فيحتمل أن يقال هنا: إن نوى الإقامة أو علم حصولها بطلت، وإلا انقلبت نافلة. قوده: فأما إذا جمع بالتأخير ثم صار مقيمًا بعد الفراغ منهما لا يضر، ولو كان قبل الفراغ صارت الأولى قضاء كما ذكره في "التتمة" وغيره، أي: بخلاف التقديم كما سبق، وكان المعنى فيه أن الصلاة الأولى تبع للثانية، عند التأخير، فاعتبر وجود سبب الجمع فيها. انتهى كلامه. وحاصله اعتبار الثانية لأنها صاحبة الوقت حتى لو قدم الثانية على الأولى، ثم أقام بعدها، وقبل الفراغ من الأولى لم يضر. وقد حذف في "الروضة" هذا التعليل، وتصرف في العبارة فأوهم العكس، فتفطن له واجتنبه. نعم ذكر في "شرح المهذب" أنه إذا أقام في أثناء الثانية فينبغي أن تكون الأولى أداءًا بلا خلاف، ولم ينقل عن أحد خلافه، فإنه قال: إن أقام قبل فراغ الأولى صارت قضاءًا، قاله المتولي، والرافعي؛ أو في الثانية فينبغي أن تكون الأولى أداء بلا خلاف. قوله: والشَفَّان مطر وزيادة. انتهى. هو بفتح الشين المعجمة وتشديد الفاء، وفي أخره نون. واعلم أن الذي قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة أن الشفان: برد ريح فيها نداوة، وهو صريح في أنه ليس بمطر فضلًا عن كونه مطرًا وزيادة. وقد اعترض النووي بذلك وقال: كأن الرافعي قلد صاحب "التهذيب" في إطلاق هذه العبارة المنكرة وصوابه أن يقال: الشفان له حكم المطر لتضمنه القدر المبيح من المطر، وهو ما يبل الثوب، وهو موجود في الشفان، وهذا في الحقيقة مراد الرافعي لأنه يبين الحكم الشرعي لا اللفظ ¬

_ (¬1) سقط من ب.

اللغوي. قوله: والثلج والبرد إن كانا يدومان فيهما كالمطر وإلا يرخصان في الجمع، وفيه وجه آخر أنهما لا يرخصان بحال اتباعًا للفظ المطر. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية الوجهين في ما إذا كانا يدومان غلط، تبعه عليه في "الروضة"، بل محلهما إذا لم يدوما، كذا صرح به الدارمي في "الاستذكار" والمتولي في "التتمة"، وعلل الجواز بكونه يتأذى بالمشي فيه، ومقابله بكونه لا يسمى مطرًا كما علل الرافعي، ومنه وقع الخطأ. وذكر نحوه أيضًا الإمام في "النهاية" فإنه حكى الوجهين عن الشيخ أبي محمد، وعلل المنع بأنه لا يذوب، وهو صريح فيما قلناه، وكذلك الغزالي في "البسيط" فإنه لما حكى الوجهين علل المنع، بأن دفعه عن الثياب سهل. والحاصل أن من حكى الوجهين لم يذكر إلا ما قلناه إما تصريحًا، واما إشارة. نعم أطلق في "الوسيط" الوجهين بدون تعليل فتوهم الرافعي أن محلهما عند حصول البلل، ولم يمعن في النظر، وصرح بما فهمه فوقع في غلط لم يذكره أحد. ونقل ابن الرفعة عن القاضي الحسين أنه حكى احتمالين في حالة ابتلال الثياب، وهو أيضًا غلط كما أوضحته في "الهداية" فراجعه. قوله: وإذا جوزنا التأخير بعذر المطر فقال العراقيون: يصلي الأولى مع الثانية سواء اتصل المطر أو انقطع، وقال في "التهذيب": إذا انقطع قبل دخول وقت الثانية لم يجز الجمع، ويصلي الأولى في آخر وقتها كالمسافر إذا أخر بنية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت الثانية، لم يجز الجمع، ويصلي

الأولى في آخر وقتها كالمسافر إذا أقام قبل دخول وقت الثانية. [ومقتضى هذا أنه لو انقطع في وقت الثانية] (¬1) قبل فعلها، امتنع الجمع وصارت الأولى قضاء كما لو صار مقيمًا. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، ولك أن تقول: ما فائدة جعلها قضاء، لأن نية القضاء والأداء لا تجب، بل يصح عنده القضاء بنية الأداء، وعكسه ولا يضر في هذه الصورة حتى يقال: لا يقصر إن منعنا [قصر] (¬2) المعصية؟ . قلنا: فائدته في عدم وجوب فعلها في وقت العصر. نعم الفرق واضح، فإن انقطاع السفر إليه بخلاف المطر، ثم إن قول العراقيين: أن يصليهما، صحيح على كل تقدير. والحاصل أنهما ليستا متنافيتين. قوله: وذكر في "الإبانة" أن المطر يرخص في التأخير، وفي التقديم وجهان على عكس ما نقله الجمهور، فإن ثبت ذلك أحوج إلى الإعلام بالواو. انتهى كلامه. وهذا الخلاف الذي توقف الرافعي في إثباته قد صرح النووي بإنكاره فقال: إن ما قاله الفوراني غلط، اتفق الأصحاب على خلافه. كذا قاله في "الروضة" وغيرها، وليس كذلك، فقد ذكر الماوردي ذلك في كتاب الصلاة علي كيفية هي أشد مما قاله الفوراني، فإنه جزم بالجواز في وقت الثانية دون الأولى، وهذا هو المقصود بالإنكار، فإنه قال في أثناء فصل أوله: فإذا ثبت ما ذكرناه ما نصه: ولأن وقت العصر في أداء المعذورين من المسافرين والمطورين وقت للظهر والعصر أداءًا لا قضاءًا، وكان إدراك العصر إدراكًا لهما لاشتراك وقتيهما، ولا يدخل على هذا الاستدلال وقت الظهر أنه لا يدرك به صلاة العصر، لأنه وإن كان وقتًا للمسافرين من ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب.

المعذورين فليس بوقت للممطورين. هذا لفظه. واعلم أن صاحب "الإبانة" قد حكى الطريقتين فجزم أولًا بما نسبه إليه الرافعي وغيره، ثم حكى مقالة الجمهور مضعفًا لها فقال: وقيل: كذا وكذا فتفطن له، فإن بعض من لا اطلاع له قد توهم أن الفوراني قد انقلبت عليه العبارة غلطًا. قوله: والمعروف في المذهب أنه لا يجوز الجمع بالمرض ولا الخوف ولا الوحل، وقال جماعة من أصحابنا: يجوز بالمرض والوحل وممن قاله من أصحابنا أبو سليمان الخطابي والقاضي الحسين، واستحسنه الروياني، فعلى هذا يستحب أن يراعى الأرفق بنفسه في التقديم والتأخير. انتهى. زاد في "الروضة" فقال: القول بجواز الجمع بالمرض ظاهر مختار، فقد ثبت في "صحيح مسلم" أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر (¬1). انتهى كلامه. وهذا الذي اقتضى كلامه الميل إليه، وهو الجواز بالمرض قد ظفرت بنقله عن الشافعي، كذا رأيته في "مختصر المزني"، وهو مختصر لطيف غريب سماه "نهاية الاختصار من قول الشافعي" فقال: والجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض جائز. هذه عبارته. وتاريخ كتابة النسخة التي نقلت منها سنة ثمان وأربعمائة. قوله: وإذا جمع الظهر والعصر صلى سنة الظهر ثم سنة العصر، ثم يأتي بالفريضتين، وفي جمع العشاء والمغرب يصلي الفريضتين ثم سنة المغرب، ثم سنة العشاء، ثم الوتر. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (705) وأبو داود (1211) والترمذي (187) والنسائي (602) وأحمد (1953) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

والذي قاله الرافعي -رحمه الله- في المغرب والعشاء صحيح، وأما في الظهر والعصر فضعيف، نبه على ضعفه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة" فقال: الصواب الذي قاله المحققون أنه يصلي سنة الظهر التى قبلها، ثم يصلي الظهر ثم العصر ثم سنة الظهر التى بعدها، ثم سنة العصر. قال: وكيف تصح سنة الظهر التي بعدها قبل فعلها وقد تقدم أن وقتها يدخل بفعل الظهر، وكذا سنة العصر لا يدخل وقتها إلا بدخول وقت العصر، ولا يدخل وقت العصر المجموعة إلى الظهر إلا بفعل الظهر الصحيحة؟ . قوله: وهل الأفضل القصر أو الإتمام؟ فيه قولان: أحدهما -وبه قال مالك وأحمد: أن القصر أفضل لأنه متفق عليه. وذكر الصيدلانى أن القصر أفضل من الإتمام، وفي الصوم والإفطار وجهان، وهذا يوهم القطع بأفضلية القصر، وكذلك حكاه الإمام عن الصيدلاني واستبعده وأحاله على خطأ النساخ، فأثبت ذلك بقوله: قولان يعلم بالواو. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن المسألة قد وقعت في نسخ الرافعي على هذه الصورة، وفيه بعض علم من "الشرح الصغير" فإنه قال فيه ما نصه: فيه قولان: أحدهما -وبه قال المزني: أن الإتمام أفضل لأنه الأصل كغسل الرجل مع المسح على الخف. وأصحهما: أن القصر أفضل، وبه قال مالك وأحمد. هذه عبارته.

فاقتضى [هذا] (¬1) أن الساقط في "الكبير" من لفظ: "قال" إلى "قال". الأمر الثاني: أن ما توهمه الرافعي من عدم ثبوت هذه الطريقة مغيرًا في ذلك لكلام الإمام حتى أنه لم يذكرها أيضًا في "الشرح الصغير". قد تابعه عليه في "الروضة" فأسقطها بالكلية واقتصر على التعبير بالأظهر، وكذلك في "المنهاج" إلا أنه عبر بالمشهور، وهو عجيب فقد قطع بذلك جماعات كثيرة، حتى نقلها في "شرح المهذب" عن الجمهور من العراقيين وغيرهم، وزاد على ذلك فقال: إنها الأصح. الأمر الثالث: قد تلخص لك مما ذكرناه آخرًا أن النووي قد اختلف كلامه من ثلاثة أوجه، ففي "المنهاج" أثبت خلافًا ضعيفًا حيث عبر بالمشهور في "الروضة" خلافًا قويًا، ونفاه في "شرح المهذب" بالكلية. قوله في "أصل الروضة": واعلم أن صوم رمضان في السفر لمن أطاقه أفضل من الإفطار على المذهب. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بالمذهب يقتضي حكاية الرافعي لطريقتين، وليس في الرافعي شئ من ذلك، وسبب هذا الغلط أن الرافعي عبر بذلك فقال: والصوم أفضل على المذهب المشهور بخلاف قصر الصلاة. والفرق أنه إذا أفطر بقيت الذمة مشغولة بالصوم، وقد يفوت، وأيضًا فإن فضيلة الوقت تفوت بالإفطار، ولا تفوت بالقصر. وفيه وجه آخر رواه القاضي وغيره: أن القصر أفضل. انتهى ملخصًا. فلما اختصره النووي أقر المذهب على حاله ذاهلًا عن اصطلاحه فوقع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيما وقع، وبالغ في "شرح المهذب" فقال: فيه طريقان، قطع العراقيون والجمهور بأن الصوم أفضل، وحكى جماعة من الخراسانيين فيه قولين: هذا كلامه. وهذا غلط سرى إلى الفطر من القصر -أى قصر- الصلاة فإن هذه المقالة مذكورة فيه كما سبق. الأمر الثاني: أن الفرق الثاني الذي ذكره الرافعي نعلم منه أن أداء العبادة أفضل من قضائها، ولم يصرح بذلك في "الروضة"، وفي حفظي عن "القواعد" للشيخ عز الدين أنهما سواء. قوله من "زوائده": وترك الجمع أفضل بلا خلاف. انتهى. قال الإمام: إلا في حق الحاج، فإن إيثار الفراغ عشية عرفة أهم من كل شئ، كذا نقله عنه في "الكفاية"، واقتصر عليه. وينبغي أيضًا استثناء ليلة النحر اقتداءًا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلامهم هناك يقتضيه. قوله في الزوائد أيضًا: وغسل الرجل أفضل من مسح الخف. انتهى. هذه المسألة قد ذكرها الرافعي قبل هذا تعليلًا للقول [الذاهب إلى] (¬1) أن الإتمام أفضل من القصر، ولكن حذفه من "الروضة" لاضطراب في بعض النسخ وذكره أيضًا في "الشرح الصغير". قوله فيها أيضًا: ولو نوى الكافر أو الصبي السفر إلى مسافة القصر ثم أسلم أو بلغ في أثناء المدة فلهما القصر في بقيتها. انتهى. وما ذكره في الصبي يتجه إذا بعثه وليه إلى ذلك، فإن سافر بغير إذنه فلا أثر لما قطعه قبل البلوغ، وإن سافر معه فيتجه أن يجئ فيه ما سبق في غيره من التابعين. ¬

_ (¬1) في أ: الذي.

قوله أيضًا من زياداته: ولو نوى مسافران إقامة أربعة أيام، وأحدهما يعتقد انقطاع القصر بها كالشافعي، والآخر لا يعتقده كالحنفي، كره للأول أن يقتدي بالثاني، فإن اقتدى صح. انتهى كلامه. وتجويز الاقتداء للشافعي، والحالة هذه مشكل خارج عن القواعد، فإن الشافعي يعتقد فساد صلاة الحنفي في هذه الحالة، وإذا اقتدى بمن يعتقد بطلان صلاته لا تصح صلاته. وإنما قلنا: إنه يعتقد بطلانها، وذلك لأنه يعتقد لزوم الإتمام في حقه لكونه قد نوى إقامة أربعة أيام، والمقيم إذا نوى القصر لا تصح صلاته كما ذكره في الكلام على شروط القصر، وعلله بأنه ليس من أهل القصر فثبت ما قلناه.

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول في شرائطها قوله: الشرط الثاني: دار الإقامة، وهي الأبنية التي يستوطنها الناس سواء فيه البلاد والقرى والأسراب التي تتخذ وطنًا. انتهى. الأسراب بالسين المهملة جمع سرب بفتح السين والراء، وبالباء الموحدة هو بيت تحت الأرض، وهذا إنما يتأتى غالبًا في الأراضي المتحجرة. قوله: الخامسة: أن يسبق أحدهما ولا يتعين ففيه قولان: أظهرهما في "الوسيط": يستأنفون الجمعة لأنهما غير مجزئتين. والثاني: يصلون الظهر لأن إحداهما صحيحة، قال الأصحاب: وهو القياس. انتهى. والصحيح هو الثاني، فقد اقتصر الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" على ترجيحه، وقال النووي في "شرح المهذب"، و"زيادات الروضة": إنه الصحيح الذي عليه الأكثرون. قوله: وإن نقصوا في الصلاة، ونقص العدد ففيه أقوال: أصحها: أن الجمعة تبطل. والثاني: يكفي بقاء اثنان مع الإمام. والثالث: يكفي واحد. وهل يشترط أن يكون الواحد أو الاثنان؟ على اختلاف، هذين القولين

على صفات الكمال، قال في "النهاية": الظاهر أنه يشترط، وعن صاحب "التقريب": أنه يحتمل خلافه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الاحتمال وجه ثابت للأصحاب فقد حكى الماوردي، وغيره في المسألة وجهين. الثاني: أن الصحيح ما قاله الإمام، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة"، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فاعلمه. الثالث: سيأتي أن المفارقة هنا في الركعة الثانية على القولين في المفارقة في سائر الصلوات، لأن الجمعة تدرك بركعة. والأصح: الجواز فالانفضاض لابد أن يفصل فيه هل هو بإبطال الصلاة أو بالانفراد. الرابع: أن العدد المعتبر، وهو أربعون لا يتصور انفضاض جميعهم، وبقاء الإمام لأن الصحيح أن الإمام منهم، فتفطن له. قوله: إحداهما: لو كان إمام الجمعة عبدًا أو مسافرًا، وكانوا أربعين دونه ففي "التهذيب": إن الجمعة تصح. وقال في "النهاية": إذا قلنا: الإمام معدود من الأربعين فوجهان: أظهرهما: الصحة، لأن العدد قد تم، وجمعة العبد والمسافر صحيحة. والثاني: لا تصح، لأنه إذا عُدّ من العدد المعتبر فيجب أن يكون على صفات الكمال. واعلم أنه لو كان ذلك الخلاف في أن الإمام هل هو واحد من العدد المشروط أم لا؟ لكان هذا البناء واضحًا، ولكن ذلك الخلاف في أنه هل

يشترط أن يكون زائدًا على الأربعين أم يكتفي بأربعين أحدهم الإمام، ولا يلزم من الاكتفاء بأربعين أحدهم الإمام أن يكون الإمام واحدًا من العدد المشروط إذا زاد على الأربعين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هي المقالة الأولى حتى يكون الأصح القطع بالصحة، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. وصححه أيضًا في أول باب صفة الأئمة في " [شرح] (¬1) المهذب" لكنه نقله عن الرافعي اعتمادًا منه على ما ذكره في أصل الروضة عنه، وهو كثيرًا ما يفعل ذلك. الأمر الثاني: أن الإمام في "النهاية" نقل هذا البناء عن شيخه، ثم أبطله، وبالغ في إبطاله، وكلام الرافعي يقتضي أنه للإمام، وهذا الإشكال لم يذكره في "الروضة"، وما ذكرته أولًا من أن الصحة مذكورة في "التهذيب" هو الصواب الموجود في أكثر نسخ الرافعي، ويقع في بعضها "المهذب" أي تصنيف الشيخ أبي إسحاق، وهو تحريف. قوله: الصورة الثانية: لو بان أن إمام الجمعة كان محدثًا أو جنبًا، فإن تم العدد به لم يصح، وإن تم دونه فقولان. أظهرهما: الصحة، نص عليه في "الأم"، وصححه العراقيون، وأكثر أصحابنا. والثاني: لا يصح، لأن الجماعة شرط، والإمام غير مصلٍ بخلاف سائر الصلوات فإن الجماعة فيها ليست شرطًا، وغايته أنهم صلوها فرادى، والمنع هنا أقوى منه في مسألة الاقتداء بالصبي، وقال الأكثرون المرجحون ¬

_ (¬1) سقط من أ.

للأول: لا يسلم أن حدث الإمام يمنع صحة الجماعة، وينوب حكمها في حق المأموم الجاهل بحاله وقالوا: لا يمنع نيل فضيلة الجماعة في سائر الصلوات ولا غيره من أحكام الجماعة على الأظهر. قال صاحب "البيان": لو صلى الجمعة بأربعين فبان أن المأمومين محدثون صحت صلاة الإمام، بخلاف ما لو بانوا عبيدًا أو نساءًا، فإن ذلك مما يسهل الاطلاع عليه. وقياس من يذهب إلى المنع أن لا يصحح جمعة الإمام لبطلان الجماعة. اننهى كلامه. وما نقله عن صاحب "البيان" وارتضاه، ولكن حاول جريان وجه فيه من قولنا: "إن الجماعة لا تحصل" قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" و"شرح المهذب"، وهو كلام عجيب، نبه عليه أيضًا ابن الرفعة، ولكن في باب صلاة الجماعة فإنه قد تقدم من كلامه في ما إذا بان الإمام محدثًا أن الخلاف مخصوص بما إذا كان الإمام زائدًا على الأربعين، والذي قاله ظاهر، وإلا لزم انعقاد جمعة بما دون الأربعين. وإذا كان هذا محل هذا الخلاف استحال القول بحصولها للإمام لانتفاء العدد المشروط. نعم ما ذكره صاحب "البيان" قد أخذه من صاحب "التتمة"، فإنه قد وقع منه ذلك في صلاة الجماعة، وصرح أيضًا بالخلاف الذي حاوله الرافعي بحثًا، ولم يقف على نقله، إلا أنه لم يخصص الخلاف في حدث الإمام لما إذا زاد على الأربعين بل اقتضى كلامه التعميم. وحينئذ فيكون كلامه في المسألتين منتظمًا من هذا الوجه، وإن كان مشكلًا من جهة فوات العدد، وأما على ما ذكره الرافعي فغير منتظم. قوله في الكلام على الاستخلاف: ولا يشترط كون الخليفة مقتديًا في

الركعة الأولى، بل يجوز استخلاف المسبوق. انتهى. وهذا التعبير يوهم أنه لم يتقدم للمسألة ذكر، وقد سبقت قبل هذا الكلام متصلًا به، وكان حقه أن يقول: وإذا استخلف مسبوقًا، ونحو ذلك من العبادات. قوله: هذا كله -أى استخلاف المسبوق- محله ما إذا عرف المسبوق نظم صلاة الإمام، وإن لم يعرف فقد ذكروا فيه قولين عن حكاية صاحب "التلخيص" وعن الشيخ أبي على أنهما لابن سريج. فإن جوزنا راقب القوم إذا أتم الركعة إن هموا بالقيام قام، وإلا قعد. انتهى كلامه. والصحيح هو الجواز، كذا صححه النووي في صلاة الجماعة من كتاب "التحقيق" فقال: إنه الأظهر، ونقله في "شرح المهذب" و"الروضة" من زياداته عن تصحيح الشيخ أبي على فقط، ثم قال في "الروضة". أرجحهما دليلًا أنه لا يصح. وقال في "شرح المهذب": الأقيس عدم الصحة. ورأيت في "شرح الكفاية" للصيمري الجزم بالجواز أيضًا، وفرع عليه فقال: إنه بالخيار بين أن يقدم من يسلم بهم، وبين أن يقوم فيقضي ما عليه، ثم يسلم بهم إن كان قدر ما يقضيه ركعة. فإن كان أكثر فلا. أي بأن كان في غير الجمعة، أو فيها وكان يصلي الظهر مثلا كالعيد ونحوه، وكان المعني فيه هو التطويل على المأمومين. قوله: والاستخلاف في الجمعة على القولين في غيرها، لكن لا يستخلف إلا من اقتدى به قبل الحدث، ولا يشترط حضوره للخطبة في أصح القولين، ثم قال ما نصه: فإن كان حضر الخطبة أو لم يحضرها، وجوزنا استخلافه نظر، إن استخلف من أدرك معه الركعة الأولى جاز،

وتمت لهم الجمعة سواء أحدث الإمام في الأولى أم الثانية. فإن استخلف من أدركه في الثانية قال الإمام: إن قلنا: لا يجوز استخلاف من لم يحضر الخطبة، لم يجز استخلاف هذا المسبوق، وإلا فقولان: أظهرهما وبه قطع الأكثرون: الجواز. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وهو غير مستقيم، فإنه فرض المسألة في من لم يحضرها إذا جوزناه، فكيف يحسن أن يفصل بعد ذلك بين أن يجوز ذلك أو يمنعه؟ . نعم الحكم في النهاية كما ذكره، لكنه جعلها مسألة مستقلة، ولام يذكر هذا التفريع المتدافع. قوله: فرع آخر: لو أتم الإمام، ولم يتم المأمومون وجوزنا للإمام أن يستخلف، فإن كان في الجمعة لم يجز، لأن الجمعة لا تنشأ بعد الجمعة، والخليفة منشئ. وإن كانوا في غيرها فوجهان: أظهرهما: المنع، لأن الجماعة قد حصلت في كمال الصلاة، وهم إذا أتموا فرادى نالوا فضلها. انتهى كلامه. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح المنع، وعبر بالأصح، ثم ذكر المسألة في صلاة الجماعة من "التحقيق" و"شرح المهذب" على خلاف ما ذكره هنا، فقال في موضعين من "التحقيق": الأصح الجواز. وصححه أيضًا في "شرح المهذب" ثم قال ما نصه: ولا تغتر بما في "الانتصار" لابن عصرون من تصحيح المنع، وكأنه عبر بقول الشيخ أبي حامد في "تعليقه": لعل أصحهما المنع، هذا لفظه، وهو غريب فإنه قد اتفق هو والرافعي في هذا الباب على أن الأصح المنع كما تقدم نقله عنه. واعلم أن الرافعي قد ذكر في صلاة الجماعة قُبَيل الشرط الخامس المعقود

للموافقة أنه إذا صلى العشاء خلف من يصلي التراويح فسلم الإمام فالأولى أن يتمها منفردًا، فإن أحرم الإمام فاقتدى به فهو أيضًا على القولين في من أحرم منفردًا ثم اقتدى. وحاصله تصحيح الجواز، وهو مخالف لما قرره في هذا الباب من شرحيه معًا. قوله: ولو لم يتمكن المزحوم من السجود فأراد أن يخرج عن المتابعة لهذا العذر ويتمها ظهرًا، ففي صحتها قولان، لأنها ظهر قبل فوات الجمعة. قال إمام الحرمين: ويظهر منعه من الانفراد لأن إقامة الجمعة واجبة، فالخروج منها عمدًا [مع] (¬1) توقع إدراكها لا وجه له. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن الكلام في مسألتين: إحداهما: الخروج. والأخرى: إتمامها ظهرًا، ولم يفصح الرافعي عن حكمها، بل نقله بعبارة توهم اشتباه إحداهما بالأخرى وقد أوضح الإمام ذلك، ونقله عنه في "الكفاية" وزاد عليه، فلنذكره ملخصًا فنقول: لم يذهب أحد من الأصحاب إلى انقطاع القدوة بمجرد ذلك، وإن كان محتملًا، واختلفوا في جواز إخراجه نفسه فجوزه جماعة كثيرة منهم الصيدلاني والقاضي الحسين والبغوي، والخوارزمي في "الكافي"، ونقله القاضي الحسين عن نص الشافعي، وهو الذي نقله الإمام لا غير. ثم توقف فيه فقال: ويظهر عندي منعه، قال: بخلاف غير الجمعة، وعلله بما سبق، وقد صرح الماوردي بحكاية وجه موافق لما مال إليه الإمام. وأما المسألة الثانية وهي إتمامها ظهرًا، فقد صرح به الإمام فقال: فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

جوزنا له الخروج فخرج وأراد أن يتمها ظهرًا فهل يصح؟ فيه قولان، لأنه ظهر قبل فوات الجمعة. هذا كلامه. وسبقه إليه القاضي الحسين، وقد ظهر لك أن الرافعي لم ينقل هاهنا إلا بعض كلام الإمام مع مخالفته لنص الشافعي والأصحاب، واقتصاره عليه موقع للعمل به إذا توهم أنه المنقول لا غير. الأمر الثاني: أن القائل بانتظاره كيف يقول: هل ينتظره قاعدًا أو في الرفع من الركوع إن كان الأول لزم زيادة قعود طويل في غير محله، وهو من المبطلات، وإن كان الثاني لزم تطويل الركن القصير، وهو أيضًا مبطل عند الرافعي والجمهور لاسيما أمره بالعود إليه بعد الهوى. قوله في "الروضة": فإذا فرغ المأموم من سجوده فللإمام أحوال: أحدها: أن يكون في القيام فيفتتح المأموم القراءة فإن ركع الإمام قبل إتمامها فهل له حكم المسبوق؟ وجهان: قلت: أصحهما عند الجمهور له حكمه. انتهى. وهذا الترجيح الذي ذكره النووي قد ذكره الرافعي عقب هذه المسألة وأشار هنا إلى أنه يأتي أيضًا في هذه المسألة، فتفطن له. قوله: الحال الثاني: ألا يتمكن [المأموم] (¬1) من السجود حتى ركع الإمام في الثانية فيركع معه وتسقط عنه القراءة في قول يراعي ترتيب صلاة نفسه، فإن قلنا بالأول وهو الراكع معه فخالف وسجد على ترتيب نفسه جاهلًا أو ناسيًا ثم قام بعد السجدتين، وقرأ وركع وسجد فالمفهوم من كلام الأكثرين أنه لا يعتد له بشئ مما يأتي به على غير المتابعة، وإذا سجد الإمام فيسجد سجدتين لتمام الركعة، ولا يكون مدركًا للجمعة، لأن التفريع على ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القول بأنه مأمور بالمتابعة على كل حال، فكما لا يحسب له السجود والإمام راكع لكون فرضه المتابعة وجب أن لا يحسب، والإمام في ركن بعد الركوع. وقال الصيدلاني والإمام والغزالي: إذا فعل ذلك فيتم له من الركعتين ركعة ملفقة، فإن ركوعها من الأولى، وسجودها من الثانية. والأصح: الإدراك بها. انتهى. وما نقله عن هؤلاء الثلاث قد جزم به في "المحرر" وتبعه عليه في "المنهاج" أيضًا، ويترجح الأول بموافقة الأكثرين. وقد نقله عنهم أيضًا النووي في "شرح المهذب" وبالغ فيه فقال: قطع صاحب "المهذب" والجمهور بأنه لا يعتد له بذلك. انتهى. والمتجه كما في "المنهاج" لأنا إنما لم نحسب سجوده والإمام راكع لإمكان متابعته بعد ذلك فيدرك الركعة، ويكون ذلك عذرًا في عدم المتابعة في هذه الحالة، وفي كلامهم شواهد لما ذكرناه. وأما نقله في "شرح المهذب" عن الأكثرين فالظاهر أنه اعتمد على ما في "الروضة" من أنه المفهوم من كلامهم، لا أنهم صرحوا به. واعلم أن صورة المسألة ما إذا لم يزل نسيانه أو جهله حتى أتى بالسجود الثاني، فإن زال قبله فعلى المفهوم من كلام الأكثرين تجب متابعة الإمام في ما هو فيه. قوله في المسألة: وإن قلنا، يراعى ترتيب نفسه، فخالف فرفع، فإن تعمد ذلك بطلت صلاته ويلزمه الإحرام بالجمعة إن أمكنه إدراك الإمام في الركوع. وإن فعله ناسيًا أو جاهلًا لم يحسب سجوده الأول. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران:

أحدهما: أن التعبير بالتعمد غير مستقيم، فإن المتعمد قد يكون عالمًا بالحكم، وقد يكون جاهلًا به، ويدل عليه تقسيم مقابله، فينبغي أن يقول: عامدًا عالمًا، وقد اقتصر في موضع آخر من مسألة الزحام على لفظ "العلم" فتفطن له. الأمر الثاني: أن تقييده وجوب الإحرام بالجمعة بحالة إدراك الإمام في الركوع وقع أيضًا في موضع آخر من المسألة، وهو لا يستقيم، بل يلزمه الإحرام بها ما لم يسلم الإمام، فإن التارك عمدًا يلزمه ذلك على الصحيح كما هو مقرر في موضعه من هذا الباب، لا ما لم يتيقن فوات الجمعة، إذ يحتمل أن الإمام قد نسي القراءة مثلًا فيعود إليها. قوله: وإذا تخلف بالنسيان فالأكثرون على أنه إن سجد في حال قيام الإمام فحكمه حكم الزحام حتى يجئ فيه القولان في أنه يسعى خلفه أو يحبط ما مضى ويركع معه لأنه معذور. وقيل: في إلحاقه بالزحام وجهان، وكذا لو تأخر لمرض، وإن لم يسجد، بل استمر على نسيانه حتى ركع الإمام في الثانية، فقيل: إنه كالمزحوم، وبه قال الشيخ أبو حامد. وقيل: يتبعه قولًا واحدًا لأنه مقصر، فلا يعذر في ترك المتابعة، وهذا هو الأظهر عند الروياني. انتهى ملخصًا. والطريق الأول هو الصحيح، كذا صححه في "المحرر" و"الشرح الصغير"، واقتصر في "الروضة" على نقل ترجيح الروياني، ولم يذكر اختيار أبي حامد الأول. قوله من زياداته: قال إمام الحرمين: لو رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية فسلم الإمام قبل أن يعتدل المزحوم ففيه احتمال. قال: والظاهر أنه مدرك للجمعة. انتهى كلامه.

وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في الحال الرابع في أول المسألة فقال: بخلاف ما لو رفع رأسه من السجود ثم سلم الإمام في الحال، أى فإنه يدرك الجمعة. قوله: وهل الجمعة ظهر مقصور أم هي صلاة على حالها؟ اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- في فروع يقتضي اختلافه في هذا الفصل. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح أنها صلاة على حالها، كذا صححه النووي في "شرح المهذب"، و"زيادات الروضة" ثم قال في الشرح المذكور بعد ذلك: وعبر بعض أصحابنا بعبارة أخرى فقال: في الجمعة والظهر ثلاثة أقوال: أحدها: كل واحد أصل بنفسه. والثاني: الظهر أصل، والجمعة بدل، وهو القول بأنها ظهر مقصورة. والثالث -وهو أصحها- أن الجمعة أصل والظهر بدل، هذا لفظه في "شرح المهذب". نعم سيأتي بعد هذا بقليل ما يؤخذ منه أن الصحيح عند الرافعي أنها ظهر مقصور. قوله: ولو شرعوا فيها في الوقت، ووقع بعضها خارج الوقت فاتت الجمعة، ثم قال: لنا أنها عبادة ولا يجوز الابتداء بها بعد خروج وقتها فتنقطع بخروج الوقت كالحج. انتهى كلامه. وهذا الكلام صريح في أن من فاته الحج يحصل له التحلل بمجرد [الفوات] (¬1)، لكنه قد قال هو وغيره في كتاب الحج: إن صاحب ¬

_ (¬1) في أ: القول.

الفوات يتحلل بأفعال العمرة وهي الطواف والسعى والحلق، وهو يخالف المذكور هنا. والأقرب في تصحيح هذا الكلام أن يقال: أراد بذلك أنه قد حصل له بالفوات التحلل الأول، وهو كذلك، إذا فرعنا على أن الحلق ليس بنسك كما نقله في "شرح المهذب" في موضعه، وعلله بأنه لما فاته الوقوف سقط عنه حكم الرمي فصار كمن رمى، ومن رمى أو طاف تحلل على القول بأن الحلق استباحة محظور. قوله: وإذا وقعت التسليمة الثانية خارجة عن الوقت لا تبطل الجمعة لأنها غير معدودة من الصلاة، بل من متعلقاتها. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الثانية ليست من الصلاة فقد اختلف فيه كلامه، وكلام النووي. وقد تقدم إيضاحه في آخر صلاة الجماعة فراجعه. قوله: فإذا فاتت بعض شرائط الجمعة أتمها ظهرًا إن قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور. وإن قلنا: إنها فرض آخر ففيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنها فرض وقت واحد. والثاني: لا، لأنه يشرع فيها بنية الجمعة، وعلى هذا فهل تبقى صلاته نفلًا أم تبطل من أصلها؟ فيه القولان في ما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال، ونظائره. والظاهر من الخلاف في المسألة أنه يتمها ظهرًا. انتهى ملخصًا. واعلم أن الصحيح من هذين الوجهين المفرعين على أنها فرض آخر أنه لا يتمها ظهرًا، كذا جزم به الرافعي في أول الباب، وهذا الترجيح الذي نقلته عنه هنا في آخر كلامه لا ينافيه، لأنه أجاب عن المسألة من حيث هي

لا عن هذين الوجهين [فيحق] (¬1) أن يكون رجحه لكون الراجح عنده أنها ظهر مقصور، فإنه لم يتقدم له ترجيح ينفيه، بل يتعين هذا لعدم الضرورة إلى دعوى تناقض كلامه. وقد اشتبه ذلك على النووي فظن أن الترجيح الذي قاله الرافعي في آخر المسألة مفرع على أنها فرض آخر، فتفطن لذلك، فإنه موضع مهم. نعم صححه في "شرح التهذيب" في مواضع فيتمسك في الترجيح بكلامه هناك. قوله: وفي "النهاية" حكاية وجهين في أنها تنقلب ظهرًا من غير قصد، أم لابد من قصد الانقلاب. انتهى. وهذان الوجهان نقلهما الرافعي في أول الباب عن صاحب "العدة" ونقل عنه أن الصحيح انقلابها بنفسها، وأقره عليه وصححه أيضًا النووي في "شرح المهذب" وفي أصل "الروضة" هناك، وفي زياداته هنا، قال: وهو مقتضى كلام الجمهور. قوله: وأركان الخطبة خمسة: أحدها: حمد الله تعالى. وثانيها: الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولفظ الحمد والصلاة متعينان. وحكى في "النهاية" عن كلام بعض الأصحاب أنهما لا يتعينان، ولم ينقله وجهًا مجزومًا به. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام في الحمل صحيح، وأما في [الصلاة] (¬2) فغلط تبعه عليه في "الروضة"، فإن الإمام قد قال ما نصه: وفي بعض التصانيف إطلاق القول باستحقاق الثناء على الله تعالى، وهو مشعر بأن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: الصحيح.

الحمد لا يتعين، بل يقوم غيره مقامه، وهذا لا أعده من المذاهب. هذه عبارته. وليست الصلاة في ما نقله عنه، بل زاد على هذا فقال عقبه: واتفقت الطرق على أن الصلاة لابد منها، هذا كلامه. والإمام قد أشار بهذه العبارة إلى الفوراني كما أعلمتك غير مرة، وقد راجعت نسختين من كتاب "الإبانة" له، وهو الذي ينقل منه الإمام عنه فرأيته كذلك فقال: أقل الخطبة خمسة أشياء: الثناء على الله تعالى، والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكر نحوه في كتابه المسمى "العمد" فثبت غلطه فيما نقله. قوله في "أصل الروضة": قراءة القرآن ركن على المشهور، وقيل: على الصحيح. انتهى. خالف في "المنهاج" فجزم بالثاني، وهو أنه وجهان: قوله: ويشترط كون الخطبة بالعربية في أصح الوجهين، فعلى هذا لو لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب بغيرها، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية، فإن مضت مدة إمكان [التعلم] (¬1) ولم يتعلموا عصوا، وليس لهم الجمعة. انتهى. وما ذكره من وجوب تعلم العربية على واحد لا على الجميع هو المذكور أيضًا في "التتمة" وغيرها، وبه جزم ابن الرفعة في "الكفاية". ووقع في "الروضة" بزيادة "كل" فقال: "على كل واحد" وهو غلط، وإن كان له بعض اتجاه من حيث إن الخطاب بلغة لا يفهمها من خوطب مستبعد إذ هو كالعيب. ¬

_ (¬1) في أ: النظم.

وأجاب القاضي الحسين بأن الفائدة معرفة كونه يعظمهم. قوله: وهل يشترط في الخطبة طهارة الحدث، والخبث، فيه قولان: الجديد: نعم. ثم قال: وقال الإمام: الخلاف مبني على أن الموالاة في الخطبة هل هي شرط أم لا؟ إن قلنا: نعم، فلابد أن يكون متطهرًا لأنه يحتاج إلى الطهارة بعد الخطبة فتختل الموالاة. وإن قلنا: لا، فلا. انتهى. أقره الإمام على ما قاله، وفيه أمران: أحدهما: أن هذا المعنى إنما يأتي إذا كان الخطيب هو الإمام. أما إذا خطب واحد، وأمَّ آخر، فلا يأتي، مع أنهم لم يخصوا الخلاف بالصورة الأولى، بل هو عام في الصورتين. الثاني: أن الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى يشترط فيه الموالاة، وقد سلم الإمام والجمهور جوازه بالتيمم، لاسيما والتيمم في هذه المسألة يتوقف على الطلب، وكذلك لو أحدث المتوضئ عقب الأولى فتوضأ، ولم يطل الفصل، فإنه يجوز الجمع أيضًا، فدل على أن الطهارة لا تخل بالموالاة. قوله في المسألة: ثم اختلفوا فقال صاحب "التتمة": إن الخلاف في الحدث يجري في الأصغر والأكبر، وخصه صاحب "التهذيب" بالأصغر، قال: فأما الجنب فلا تحسب خطبته قولًا واحدًا، لأن القراءة شرط، وقراءة الجنب غير محسوبة، وهذا أوضح. انتهى. وما رجحه الرافعي هاهنا من تخصيص القولين بالأصغر قد خالفه في "المحرر" فجزم بالتعميم، وقد اختلف أيضًا تصحيح النووي في هذه المسألة فجزم في "نكت التنبيه" لما قاله الرافعي هنا وخالف في "الروضة" فقال:

الصحيح أو الصواب ما قاله في "التتمة"، وهو جريان القولين في الحدثين. قال: بل قطع الشيخ أبو حامد والماوردي وآخرون بأنه لو بان لهم بعد الفراغ أن الإمام كان جنبًا أجزأهم، ونقلوه عن نصه في "الأم". قوله: ويشترط في الإمام أن يسمع أربعين من أهل الكمال، لأن مقصود الخطبة -وهو الوعظ- لا يحصل إلا بالإسماع، وهو رفع الصوت بحيث يسمعون، وكما يشترط في صحة النكاح سماع الشهود للخطبة، فلو رفع صوته قدر ما يبلغ، ولكن كانوا كلهم أو بعضهم صمًا فوجهان: الصحيح: لا يصح كما لو بعدوا. والثاني: يصح كما لو حلف لا يكلم فلانًا فكلمه بحيث يسمع فلم يسمع لصممه، فإنه يحنث انتهى. كلامه. فيه أمور: أحدها: أن وجوب إسماع الأربعين ذكره الرافعي والنووي في بقية كتبهما، مع أنهما قد صححا أن الإمام محسوب من الأربعين. وقياسه الاقتصار على تسعة وثلاثين، فإن أرادوا إسماع نفسه، ومنع كونه أصم إذا كانوا أربعين فقط كان بعيدًا، ولا معنى له أيضًا. الأمر الثاني: أنه قد تلخص مما ذكره الرافعي وجوب الرفع من الإمام، والسماع من المأمومين، والإسماع شامل لهما وبهذا نفاه الله تعالى عند انعقاد السماع فقال: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} (¬1). الأمر الثالث: أن ما جزم به من الحنث إذا لم يسمع الصممة قد اختلف فيه كلام النووي، وسأذكر ذلك واضحًا مع بيان ما يفتى به في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم أن الكلام جميعه إنما هو في إسماع الأركان فقط لا الخطبة ¬

_ (¬1) سورة الروم (52).

جميعها فتفطن له، فإن الزائد لا يشترط ذكره فضلًا عن إسماعه. قوله: وكلم أيضًا سليكًا. هو بضم السين وفتح اللام. قوله: وإذا قلنا بالجديد وهو أن الكلام لا يحرم فقال في "التهذيب": ففي رد السلام وجهان: أصحهما: وجوبه. وقال الإمام: لا يجب، وفي استحبابه وجهان. وأما التشميت ففي استحبابه الوجهان في رد السلام قاله البغوي. وذكر المصنف في "الوسيط" أن التشميت يجب، وهو خلاف ما أطبق عليه الأئمة، فإنهم قالوا: التشميت محبوب غير واجب بحال، والوجه تأويله. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" لم يصرح أيضًا بتصحيح في مسألة الرد، وقد صحح الرافعي في "الشرح الصغير" أنه لا يجب، بل يستحب. وصحح النووي في "شرح المهذب" وجوبه، ونقل أعني النووي في "التبيان" تصحيحه عن الأصحاب والفتوى عليه، فإنه ظاهر لفظ الشافعي في "المختصر" وغيره. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يصرح بتصحيح في التشميت، وقد صرح [بتصحيح] (¬1) استحبابه في "الشرح الصغير"، وصححه النووي في "شرح المهذب" وفي أصل "الروضة". الأمر الثالث: أن ما نقله الرافعي عن "الوسيط" من وجوب التشميت ¬

_ (¬1) في أ: بتشميت.

غلط، فقد قال الغزالي في "الوسيط" ما نصه: التفريع إن قلنا: يجب الإنصات، ففي من لا يسمع صوت الخطيب وجهان، لأنه ربما يتداعى إلى كلام السامعين، وعلى وجوب الإنصات لا يسلّم الداخل، فإن سلّم لا يُجاب، وفي تشميت العاطس وجهان، لأنه غير مختار. وإن قلنا: لا يجب، فيشمت العاطس، وفي رد السلام وجهان لأنه ترك المستحب اختيارًا. هذا لفظ "الوسيط" وذكر في "البسيط" نحوه أيضًا. قوله: والخطيب إذا صعد المنبر فينبغي لمن ليس في الصلاة من الحاضرين أن لا يفتتحها، سواء صلى السنة أم لا، ثم قال ما نصه: وأما الداخل في أثناء الخطبة فتستحب له التحية خلافًا لمالك وأبي حنيفة حيث قالا: تكره له الصلاة كما للحاضرين. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه من كراهة الصلاة للحاضرين ذكر مثله في "الشرح الصغير"، ولم يذكره في "الروضة" وهو صريح في أن الحاضرين لا تحرم عليهم الصلاة، بل تكره، ويكون ذلك مبينًا لما أراده أولًا بقوله: "ينبغي" فقد تبعه في "الحاوي الصغير" على عدم تحريمه، وذكر النووي في "شرح المهذب" أن المعروف من مذهب الشافعي هو التحريم، فقال: قال أصحابنا: إذا جلس الإمام على المنبر امتنع ابتداء النافلة، ونقلوا الإجماع فيه. قال صاحب "الحاوي": إذا جلس الإمام على المنبر حرم على من في المسجد أن يبتدئ صلاة النافلة، وإن كان في صلاة خفف، وهذا إجماع، هذا كلام "الحاوي"، وهو صريح في تحريم الصلاة بمجرد جلوس الإمام على المنبر وأنه مجمع عليه. وقال البغوي: إذا ابتدأ الخطبة لا يجوز لأحد أن يبتدئ صلاة سواء

كان قد صلى السنة أم لا. وقال الشيخ أبو حامد: إذا جلس الإمام على المنبر انقطع النفل، فمن لم يكن في صلاة لم يجز أن يبتدئها، فإن كان في صلاة خففها. وقال المتولي: إذا قلنا: الإنصات سنة، جاز أن يشتغل بالقراءة، وصلاة النفل؛ وإن قلنا: الإنصات واجب، حرم ذلك. هذا كلامه. والمشهور المنع من الصلاة مطلقًا سواء أوجبنا الإنصات أم لا. انتهى ما قاله في "شرح المهذب"، وكأنه لم يطلع على مقالة الرافعي، وسببه أنه لم يصرح به في "الروضة"، وهو لا ينقل غالبًا عن الرافعي في الشرح المذكور إلا مما لخصه في "الروضة" ثم إن صاحب "التتمة" لم ينفرد بذلك، بل سبقه إليه شيخه القاضي حسين في تعليقته. وجزم الصيمري في "شرح الكفاية" بالتحريم بمجرد الرقي فقال: ولا يجوز لمن رأى الإمام يرقى منبره يوم الجمعة أن يبتدئ صلاة نافلة، هذه عبارته. وقال الشيخ نصر في كتابه المسمى "بالمقصود": ومن كان قاعدًا في المسجد فليس له إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان أن ينشئ صلاة نافلة، ولا يطيلها، بل يخففها انتهى. وقد استفدنا من كلامه أن الإطالة كالإنشاء وهي مسألة حسنة فاعلمها، وتلخص أن المشهور هو التحريم. قوله: وقول الغزالي: وهل يحرم الكلام على من عدا الأربعين؛ يقتضي الجزم بتحريم الكلام على الأربعين، وهو بعيد ومخالف لما نقلوه، أما بعده فلأنه إذا حضر جَمعْ زائدون على الأربعين وهم بصفة الكمال فلا يمكن أن يقال: إن الجمعة تنعقد بأربعين منهم على التعيين حتى يفرض تحريم الكلام عليهم قطعًا، بل الوجه الحكم بانعقادها بهم أو بأربعين لا على التعيين.

وأما مخالفته للنقل فإنك لا تجد إلا إطلاق القولين في السامعين ووجهين في حق غيرهم. انتهى ملخصًا. وما استند إليه في إبطال كلام الغزالي من المعنى، والنقل قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو غريب باطل. أما الأول: وهو فساد ما أبطل به من جهة المعنى فإن الغزالي لم يوجب السكوت على أربعين منهم على التعيين، بل أوجب سكوت أربعين من الحاضرين، وهو أمر معقول كفروض الكفايات كلها، وحينئذ فإن سكتوا ولا كلام، وإلا أتم المتكلمون كلهم. وأما الثاني: وهو دعواه أنه مخالف لما نقلوه وأنك لا تجد ذلك فغريب جدًا، فقد صرح به الإمام في "النهاية" مع أن استمداد كلام المنكر وهو الرافعي، والمنكر عليه وهو الغزالي منهم غالبًا فقال بعد فراغه مما قاله الناس: والآن قد حان [أن] (¬1) ننبه على حقيقة المسألة فنقول: كان شيخي وغيره يجعلون الخلاف في وجوب الإنصات خلافًا في وجوب الإسماع، وأنا أقول: من أنكر وجوب الاستماع والإصغاء فليس معه من حقيقة هذه القاعدة شئ، فيجب القطع على مذهب الشافعي بالوجوب، ولو جاز ترك ذلك لما كان في إيجاب حضور أربعين من أهل الكمال معنى وفائدة. ولو وجب أن يحضروا ويثابوا والإمام رافع صوته، ولا يعتقده ذو بصيرة فيجب القطع بإصغاء أربعين وإسماع الإمام إياهم، وإلا كان قطعًا بمثابة ما لو لم يحضروا، وإذا كان كذلك فنقول: إذا اجتمع في بلده من أهل الكمال مائة ألف مثلًا فيجب الاستماع من أربعين منهم لا بأعيانهم، وفي الباقي ممن أمكن الاستماع منه القولان، ثم قال أيضًا: فنقول: لو تكلم الجميع على وجه انقطعوا به عن السماع خرجوا قطعًا بترك فرض الكفاية، و [لم] (¬2) تتعطل الخطبة، وإن سمعها أربعين صحت الجمعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

ثم في تحريم إقدام آحاد الحاضرين على الكلام القولان. انتهى ملخصًا. وهو كلام حسن مبين قديم منطبق على ما ذكرنا. قوله: ولو دخل في أثناء الخطبة صلى السنة وحصلت التحية. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، ومقتضى إطلاقه أنه يصلي أربع ركعات إما بتسليمة أو بتسليمتين وكلام "التنبيه" ينفيه، فإنه قال: ولا يزيد على تحية المسجد بركعتين، ولفظ الحديث يدل عليه أيضًا، فإن السنة المتقدمة تؤخر وتكون أداء وإنما اغتفرنا ركعتين لأجل التحية. فإن حمل كلامه على المتأكد وهو ركعتان فلا [إشكال] (¬1). قوله: وورائها واجبات أخر منها نية الخطبة وفرضيتها، حكى القاضي حسين اشتراط ذلك في كمال الصلاة. انتهى. نقل عن القاضي أن ذلك تفريع على قولنا: إنها بدل عن الركعتين، وعبر في "الروضة" بقوله: اشترطهما القاضي، وهو غير مطابق، وأيضًا فكلام الرافعي ليس فيه ما يدل على رد ما حكاه القاضي، فإنه حكاه، وسكت عليه، وذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وكلام النووي في "الروضة" يوهم أن الصحيح خلافه. قوله: ومنها الترتيب، ذكر صاحب "التهذيب" وغيره أنه واجب، فيبتدئ بالحمد ثم بالصلاة ثم الوصية، وقال صاحب "العدة" وآخرون: لا يجب. انتهى. جزم الرافعي في "المحرر" بالاشتراط، وصححه أيضًا في "الشرح الصغير"، وصحح النووي في كتبه عدم الوجوب، ونقله الماوردي في "الحاوي" عن نص الشافعي في "المبسوط"، والروياني في "البحر" عن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

نصه في "الأم"، فلتكن عليه الفتوى. واعلم أن النووي في "الروضة" و"المنهاج" وغيرهما صرح بأن الترتيب شرط، وجعله هو وغيره ركنًا في الوضوء والتيمم والصلاة، ويأتي مثله أيضًا في القيام. قوله: ومن السنن أن يسلم على من عند المنبر إذا انتهى إليه، ثم إذا صعد وأقبل عليهم بوجهه سلم. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه قصور، نبه عليه في "شرح المهذب" وحاصله أنه يستحب إذا دخل المسجد أن يسلم لأجل إقباله، فإذا انتهى إلى المنبر سلم ثانيًا لأنه يريد مفارقتهم، ثم إذا صعد سلم للإقبال عليهم ثانيًا. قوله: وقول "الوجيز": ويديم الإمام الجلوس إلى فراغ المؤذن من الأذان، وحد لفظ المؤذن يمكن حمله على ما حكى في "البيان" عن صاحب "الإفصاح" والمحاملي أن المستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحدًا، وفي كلام بعض أصحابنا، ما يشعر باستحباب التعدد. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن نقله استحباب الواحد عن هذين فقط غريب، فقد نص عليه الشافعي في "الأم" كما نقله عنه الشيخ أبو حامد في "التعليق" فقال ما نصه: والأذان المسنون هو أن يؤذن حين يجلس الإمام على المنبر، فإن أذن مؤذن قبل هذا الأذان أو أذن بين يدي المنبر جماعة كرهته وأجزأه، انتهى كلام الشافعي. ونقله عنه أيضًا البندنيجي والمحاملي وغيرهما. الثاني: أن حمل التعبير الواقع في كلام الغزالي على ذلك غير مستقيم

لأنه في "الوسيط" قد عبر بذلك بعد تعبيره بالجميع فقال ما نصه: ويؤذن المؤذنون بين يديه، ثم قال: فإذا فرغ المؤذنون قام الخطيب. هذا لفظه. فبطل إرادة هذا المعنى، ودل على أنه أراد الجنس. الثالث: أن ما نقله من إشارة بعضهم باستحباب التعدد فقد أشار إليه الشافعي في "البويطي" فقال ما نصه: النداء يوم الجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر يكون المؤذنون يستفتحون على المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر حتى يستمع الناس فيأتون إلى المسجد. انتهى. قال في "التتمة": ولو أذن المؤذن في موضع بعيد عن الإمام، ولم يؤذن بين يديه، أو أذن بين يديه لكن الإمام لم يشتغل بالخطبة عقبه لم يكن المؤذن آتيًا بالسنة، وكذا في تعليق القاضي الحسين. قوله في الخطبة: إن المستحب أن لا تكون مؤلفة من الكلمات المبتذلة، ولا من الغريبة الوحشة. اعلم أن المبتذلة بالباء الموحدة قبل التاء المثناة، وبالذال المعجمة هي التي كثر استعمالها وألفت والوحش هو الغريب. قال الجوهري: حوشى الكلام وحشيه وغريبه. هذا لفظه. قوله: وثانيهما يقبض السيف ونحوه، ولم يتعرض الأكثرون لذلك، وذكر في "التهذيب" أنه يقبضه باليسرى. انتهى. وقد تعرض له القاضي حسين أيضًا، وذكر كما ذكر في "التهذيب" وكذلك الخوارزمي في "الكافي". قوله من "زياداته": يكره في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة منها: الدق على درج المنبر، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، ومنها: المجازفة في أوصاف السلاطين.

فأما أصل الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب "المهذب" وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس به. انتهى. وأما ما ذكره في الدق فقد أفتى الغزالي باستحبابه وعلله بأن فيه تنبيهًا للسامعين. وأما الدعاء فقد نص أبو بكر الفارسي البيضاوي صاحب كتاب "التبصرة" على استحبابه فقال: ينبغي للخطيب أن يقف على كل مرقاة وقفة خفيفة يسأل الله تعالى فيها المعونة والتسديد، كذا نقله عنه ابن الصلاح في "طبقاته" التي لخصها النووي، ولعله في غير "التبصرة" فقد راجعت نسختين من الكتاب المذكور فلم أجده فيها، ثم راجعت كتاب "الأدلة على الكتاب" وهو له أيضًا فلم أجده. وأما الدعاء فقد ذكر الشاشي في "الترغيب" أنه لا يجب، ولا يستحب، وهو يوافق ما قاله النووي بحثًا. قوله من "زياداته": وذكر صاحب "العدة"، "والبيان" أنه يستحب للخطيب إذا وصل المنبر أن يصلي تحية المسجد ثم يصعد، وهذا الذي قالاه غريب وشاذ مردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة. انتهى. والذي قاله النووي غريب ضعيف نقلًا وبحثًا، أما بحثًا فلأنه داخل للمسجد فتستحب له التحية وقياسًا على غيره أيضًا، وعدم النفل لا يدل على العدم، فإن الترك قد يكون للعلم بالشئ لأدلة خارجة. وأما نقلًا فإن الموجود لأئمة المذهب هو استحبابه، وصرح به منهم الشيخ أبو حامد في "التعليق" والبندنيجي في "تعليقه" الذي قال في خطبته إنه تهذيب المذهب، والروياني في "البحر" وسليم الرازي في "المجرد" والجرجاني في كتبه "التحرير" و"الشافي" و"البلغه"، وصاحب

"الاستقصاء"، وكذلك صاحب "العدة" و"البيان" كما تقدم. ونقل القمولي شارح "الوسيط" أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان يصليها لما ولى خطابة الجامع العتيق بمصر. فهذه نقول متظافرة على استحبابها، ويؤيده أنه في "شرح المهذب" لم ينقل ذلك عن أحد مع تتبعه فيه للنقول، فيقال للشيخ محي الدين من الذي نص على عكسه حتى تطلق القول بأن ما قالاه شاذ غريب، وكلامه هنا يقتضي أنه لم يرَ استحبابها إلا لهذين المتأخرين صاحب "البيان" و"العدة". نعم في "الحاوي" للماوردي أنها لا تستحب.

الباب الثاني فيمن تلزمه الجمعة

الباب الثاني فيمن تلزمه الجمعة قوله: ولا جمعة على صبي ولا على مجنون ومسافر. اعلم أن شرط السفر المسقط للجمعة أن يكون مباحًا، وقد نبه عليه في "الروضة" من زياداته في باب صلاة المسافرين. والمغمى عليه حكمه حكم المجنون في عدم اللزوم، وقد استدركه النووي في "الروضة" هنا. قوله: وأما [المرضى] (¬1) فقد أطلق كثيرون أنه ليس لهم بعدما حضروا الانصراف. وقال الإمام: إن حضر قبل الوقت فالوجه القطع بأن له ذلك، وإن دخل الوقت وفاتت الصلاة لزمه الجمعة، وإن كان يتخلل زمان بين دخول الوقت وبين الصلاة، فإن لم يلحقه مزيد مشقة في الانتظار حتى تقام الصلاة لزمه ذلك، وإن لم تلحقهم لم تلزمه، وهذا تفصيل فقيه، فلا يبعد أن يكون كلام المطلقين محمولًا عليه. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وهذا التفصيل الذي قاله الإمام قد جزم به في "المحرر" وتبعه عليه النووي في "المنهاج". قوله: فأما إذا أحرم الذين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة ثم أرادوا الانصراف قال في "البيان": لا يجوز ذلك للمسافر والمريض، وفي العبد والمرأة وجهان حكاهما الصيمري. انتهى. والأصح أنه لا يجوز لهما أيضًا الانصراف، كذا صححه النووي في ¬

_ (¬1) في ب: الصبى.

"شرح المهذب" و"زيادات الروضة" وعلله بأن صلاتهما قد انعقدت عن فرضهما فتعين إتمامها، وقد قدمنا أن من دخل في فرض لأول الوقت لزمه إتمامه فهنا أولى. قوله: والوحل الشديد عذر في أصح الوجهين، ثم قال: والثاني ليس بعذر لأن له علة دافعة وهي الخفاف والصنادل. انتهى. الصنادل بالصاد المهملة والنون والمفرد صندل وهو في اللغة البعير الضخم الرأس، كما قاله الجوهري. لكن مرادهم الإبل كيف كانت، والمعنى أن الذاهب إلى الجمعة يمكنه الاستعانة على دفع الوحل بالركوب، وبلبس الخفاف ونحوها. قوله: أما المريض فإن كان للمريض من يتعهده ويقوم بأمره نظر إن كان قريبًا وهو مشرف على الموت فلهما التخلف عن الجمعة، وكذلك إن كان غير مشرف، ولكنه كان يستأنس به كما قاله في "التهذيب"، وإن كان أجنبيًا لم يجز التخلف بحال. انتهى. فأما ما قاله صاحب "التهذيب" من جواز التخلف إذا كان يستأنس به القريب فقد ارتضاه الرافعي وجزم به في "المحرر" و"الشرح الصغير"، وكذلك النووي في "الروضة". وأما المنع عند استئناس الأجنبي [به] (¬1) فقد جزم به الرافعي أيضًا في الكتابين المذكورين، وذكره أيضًا النووي كذلك في "الروضة"، ثم جزم في "المنهاج" بعكسه فقال في باب صلاة الجماعة: وحضور قريب محتضر أو مريض بلا متعهد أو يأنس به. واعلم أن الواقع في "المنهاج" غلط، فإن الرافعي قال في "المحرر": وإنما يكون التمريض عذرًا إذا لم يكن للمريض متعهد، فإن كان له متعهد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بأن كان قريبًا مشرفًا على الموت أو كان يستأنس به فهو معذور في التخلي، وإلا فلا يعذر. هذا لفظ الرافعي في "المحرر". فقوله: "أو كان يستأنس به" معطوف على قوله: "مشرفًا"، فيكون التقسيم في القريب، فتوهم النووي أنه معطوف على قوله قريبًا، فلذلك حصل ما حصل. قوله: فإن دخل أهل القرية المصر فصلوها فيه، سقط الفرض عنهم، وكانوا مسيئين لتعطيلهم الجمعة في قريتهم، وفيه وجه أنهم غير مسيئين. انتهى. تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على التعبير بالإساءة وليس فيها صراحة بكون المراد هو التحريم أو الكراهة إلا أن المفهوم منها عند الرافعي هو التحريم، ذكر ذلك في باب استيفاء القصاص بعد نحو أربعة أوراق من أوله فقال: ولو قتل واحد جماعة مرتبين وجاء ولى الثاني يطلب القصاص، فعن نص الشافعي أنه قال: أحببت أن يبعث الإمام إلى ولى الأول ليعرف أهو طالب أو عافٍ؟ فإن لم يبعث وقتله بالثاني كرهته؛ ثم قال: ويشبه أن تكون الكراهة كراهة التحريم، ويدل عليه ما روى عن الأم، فقد أساء بدل لفظ الكراهة. هذه صيغته. وقد صرح جماعة بالجواز منهم الشيخ أبو حامد في "التعليق" فقال: الأفضل أن يصلوا في قريتهم، وابن الصباغ في "الشامل" فقال: هم بالخيار، وسليم في "المجرد" فقال: يكره دخولهم المصر. وعبارة الخوارزمي في "الكافي" [قربت من عبارة ابن الصباغ. وذهب آخرون إلى المنع] (¬1) فقال البغوي في "فتاويه": فعليهم إقامة الجمعة هناك. وقال المحاملي في "المقنع" و"الروياني" في "الحلية": يلزمهم ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

إقامتهاهناك. قوله: ولو كانت القرية على قمة جبل ويسمع أهلها النداء لعلوها، ولو كانت على استواء الأرض لما سمعوا أو كانت في وهدة من الأرض لم يسمع أهلها النداء لانخفاضها، ولو كانت على استواء الأرض لسمعوا ففيه وجهان: أظهرهما: لا تجب الجمعة في الصورة الأولى، وتجب في الثانية اعتبارًا بالسماع بتقدير الاستواء وإعراضًا عما يعرض. انتهى كلامه. رجح في "الشرح الصغير" عكسه، وهو أن العبرة بنفس السماع لا بحالة الاستواء، وعبر عنه بالأظهر كما عبر هنا، وهو غريب. ولم يتعرض لها في "المحرر"، وصحح النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" كما في "الكبير". قوله: وكذلك يجب السعي إليها -أي إلى الجمعة- لمن بعد داره قبل الزوال. انتهى. هذه المسألة أسقطها النووي هاهنا من "الروضة" لكنه ذكرها في كتاب الجهاد. قوله: ويحرم إنشاء السفر المباح بعد الزوال، وكذا قبله في الجديد، وهل كون السفر طاعة عذر في إنشائه بعد الزوال؟ المفهوم من كلام الأصحاب أنه ليس بعذر، ورووا عن أحمد أنه عذر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا قد ذكر في "الشرح الصغير" ما يقتضيه أيضًا، وخالف في "المحرر" فجزم بمذهب الإمام أحمد فقال: ويحرم إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال إذا كان السفر مباحًا دون ما إذا كان

واجبًا أو مندوبًا. هذا لفظه. وذكر مثله صاحب "الحاوي الصغير"، واستدركه في "المنهاج" فقال: قلت: الأصح أن الطاعة كالمباح، وكذلك في "الروضة" إلا أنه عبر بالأظهر فناقض. الثاني: أن كلامه يشعر بأن المراد بالمباح هو مستوى الطرفين، وبه صرح في "شرح المهذب"، وحينئذ فيكون ساكتا عن المكروه، وخلاف الأولى والقياس امتناع الترك بهما. قوله: وحيث قلنا بالتحريم فله شرطان: أحدهما: أن لا ينقطع عن الرفقة، ولا يناله ضرر [في تخلفه للجمعة، فإن انقطع وفات سيره بذلك أو ناله ضرر] (¬1) فله الخروج بعد الزوال بلا خلاف. وحكى أبو حاتم القزويني وجهين في جوازه بعد الزوال لخوف الانقطاع. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن مقتضى كلامه أن مجرد الانقطاع عن الرفقة إذا لم يحصل منه ضرر، ولا يؤدي إلى ترك السفر لا يكون عذرًا، وبه صرح أيضًا في "المحرر" و"شرح المهذب" وهو مقتضى ما في "الشرح الصغير". والصواب أن مجرد الانقطاع عذر لما فيه من الوحشة وهو المجزوم به هاهنا في "الكفاية". وقد سبق في باب التيمم في الكلام على الذهاب إلى الماء التصريح بما ذكرته. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثاني: أن الوجه القائل بأنه ليس بعذر لا يمكن أن يكون [محله عند حصول الضرر لاستحالة القول به، فتعين أن يكون] (¬1) عند مجرد الانقطاع، وحينئذ فيكون المعروف خلافه وهو المدعى، ووقع في "شرح المهذب" حكايته في المجموع وهو خطأ. قوله: الشرط الثاني: أن لا يمكنه صلاة الجمعة في منزله أو طريقه فإن أمكنت فلا منع بحال. انتهى. والتعبير بالإمكان ذكره أيضًا في "المحرر" و"الروضة" والتعبير به غير مستقيم، فإن الإمكان يصدق عند غلبة الظن لعدم الإدراك، ولا شك في التحريم، وعند التردد على السواء، والمتجه التحريم أيضًا. ولهذا قالوا: إذا خشى المريض الغصب فلا يحل له تأخير الحج، وقالوا: يستحب البداءة بالفائتة إن لم يخش فوات الحاضرة، فإن خشى وجب تقديمها وقد عبر الرافعي في "الشرح الصغير" بالتمكن فقال: إن تمكن منها جاز، وإن لم يتمكن لم يجز، ولا شك أنه المراد من هذه العبارة المحرفة. وبالغ النووي في "شرح التهذيب" فقال: "يشترط فيه العلم بالإدراك"، وفيما قاله نظر، والمتجه الاكتفاء بغلبة الظن. قوله: وإذا اجتمع معذورون استحبت لهم الجماعة في ظهرهم على الأصح. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق الخلاف، ومحله إذا كانوا في البلد، أما إذا كانوا مسافرين فإن الجماعة تطلب منهم بالإجماع، كذا ذكره النووي في "شرح المهذب" في الاستدلال على المسألة. قوله في "أصل الروضة": ومن لا عذر له إذا صلى الظهر قبل فوات ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الجمعة لا تصح صلاته على الجديد، ثم قال: فإن قلنا بالقديم فصلى الجمعة ففي الفرض طريقان: أحدهما: أنه أحدهما لا بعينه ويحتسب الله بما شاء منهما. والطريق الثاني: فيه أربعة أقوال: أحدها: الفرض الظهر. الثاني: الجمعة. الثالث: كلاهما. والرابع: أحدهما لا بعينه. انتهى. والصحيح هو القول الرابع، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": هو الذي أورده أكثرهم، وهو مقتضى كلامه في "الكبير" أيضًا فاعلمه، فإن الرافعي نقل هذه الأقوال عن الشيخ أبي محمد، ثم قال: والذي أورده ابن الصباغ وغيره هو الرابع، فدل على أنه المشهور. قوله في المسألة المذكورة أيضًا: فإن صلى الظهر بعد فوات الجمعة وقبل سلام الإمام فقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي -يعني في الجديد- بطلانها، ومن أصحابنا من يقول بالجواز. انتهى. والأصح هو الأول، كذا قاله النووي في "شرح المهذب" قال: لأنه لم يتحقق فواتها لجواز بطلانها، وقياس ما قاله وجوب الإحرام بالجمعة، وإذا ترك الإحرام حتى سلم الإمام فالقياس وجوب الظهر على الفور. وإن كانت أداءًا لأنه عصى بتأخير الجمعة فأشبه العصيان بخروج الوقت، وفيما قاله إشكال. فقد صرح في كتبه بأن من يرجى زوال عذره إنما يستحب له التأخير إلى الفوات لا إلى الفراغ، واستحباب التأخير هنا هو نظير وجوب التأخير هناك. وقد يصرف بأن الجمعة لما كانت واجبة على الأول لم يرفع هذا الوجوب إلا باليقين احتياطًا.

الباب الثالث في كيفية إقامة الجمعة

الباب الثالث في كيفية إقامة الجمعة قوله: ولو أحدث بعد الغسل لم يبطل الغسل فيتوضأ. انتهى. وكذلك أيضًا لو أجنب بجماع أو غيره لا يبطل الغسل، فيغتسل للجنابة، وقد نبه عليه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب". قوله: فمنها -أى من الأغسال المسنونة- اغتسال الحج. . . إلى آخره. أهمل هو والنووي هاهنا أغسالًا مستحبة منها الغسل للاعتكاف، نص عليه الشافعي، كذا رأيته في كتاب "اللطيف" لابن خيران الصغير، وهو أبو الحسن البغدادي، وليس بأبي على بن خيران المشهور. وهذا الكتاب قد نقل عنه الرافعي في كتاب العدد وفي غيره، ومنها الغسل لكل ليلة من رمضان كما رأيته في "طبقات الفقهاء" للعبادي نقلًا عن الحليمي، وهو كتاب كثير الغرائب، ومنها الغسل لحلق العانة كما رأيته في [لباب] (¬1) المحاملي "ورونق" أبي حامد، ولبلوغ الصبي كما رأيته في "الرونق"، ومنها الغسل لدخول المدينة، ودخول الحرم كما رأيته في "كتاب الخصال" لأبي بكر الخفاف وصرح النووي أيضًا في مناسكه بالاستحباب للمدينة، ومنها الغسل في الوادي عند سيلانه كما ذكروه في الاستسقاء. ومقتضى كلامهم أن هذا الغسل وأمثاله لا يشترط فيه النية، وهو متجه. قال في "الروضة": قال أصحابنا: يستحب الغسل لكل اجتماع، ¬

_ (¬1) في أ: كتاب.

وفي كل حال يغير رائحة البدن، وأما الغسل لدخول الكعبة فقد نقل في "النهاية" هنا استحبابه عن صاحب "التلخيص"، والنقل المذكور غلط، كما أوضحته في كتاب "الهداية إلى أوهام الكفاية" فراجعه. قوله: وأما الغسل من غسل الميت ففيه قولان: القديم: أنه واجب. انتهى. وحكاية هذا القول عن القديم ذكره جماعة منهم الرافعي والنووي وابن الرفعة في كتبهم، وليس كذلك، بل هو جديد فقد نقله المزني عن الشافعي وهو من أجل رواته في الجديد، كذا جزم بنقله عنه في مختصره الذي سماه "نهاية الاختصار من قول الشافعي"، وهو مختصر لطيف غريب، وتاريخ فراغ النسخة التي ظفرت بها سنة ثمان وأربعمائة. قوله في المسألة: وعلى الجديد غسل الجمعة [والغسل من غسل الميت آكد الأغسال المسنونة، وأنهما آكد فيه قولان: الجديد: الغسل من غسل الميت للاختلاف في وجوبه بخلاف غسل الجمعة] (¬1). والقديم: الغسل للجمعة أفضل وهو الراجح عند الأكثرين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف في أن غسل الجمعة مستحب لا واجب قد وافقه عليه النووي وابن الرفعة وغيرهما، وليس كذلك فقد ذهب الشافعي في كتاب "الرسالة" إلى وجوبه فإنه ذكر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخارى (820) ومسلم (846) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

وقوله: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" (¬1)، ثم قال عقبهما ما نصه: قال محمد بن إدريس: وكأن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غسل يوم الجمعة واجب، وأمره بالغسل يحتمل معنيين، الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل، ويحتمل أنه واجب في الاختيار وكريم الأخلاق والنظافة. هذا لفظه بحروفه ومن كتاب "الرسالة" نقلت، وهو من الكتب الجديدة فإنه من رواية الربيع، ثم استدل الشافعي للاحتمال الثاني بقصة عثمان لما دخل وعمر يخطب، وأخبر بأنه لم يزد على الوضوء، ولم يأمره بالرجوع إلى الغسل. وقد استفدنا من كلام الشافعي المتقدم أن الغسل شرط لصحة الجمعة فاعلمه، وهذا الذي نقلناه مذكور قبيل باب النهى عن معنى دل عليه معنى من حديث غيره، وهو نحو نصف الكتاب، ورأيت أيضًا في شرح عتبة بن شريح لأحد تلامذة القفال حكاية قولين فيه، وأن القديم هو الوجوب فقال قبل التيمم بنحو صفحة ما نصه: الغسل للجمعة عندنا سنة مؤكدة. وقال بعض أهل الحديث: واجب، وهو قوله القديم، وقول مالك. هذه عبارته، وتاريخ فراغ النسخة التي نقلت منها سنة سبع عشرة وخمسمائة. فتلخص أن الوجوب منصوص عليه في القديم والجديد معًا. الأمر الثاني: كيف يستقيم أن يكون الغسل من غسل الميت واجبًا على القديم مع كون غسل الجمعة الذي هو سنة آكد منه على هذا القول أيضًا؟ وهذا السؤال متجه على "الروضة". وأما الرافعي فإنه لما استشعر اختلافًا في هذا الكلام احتال في الشرحين على دفعه بإثبات قولين في القديم، وسببه عدم اطلاعه على الخلاف الذي نقلناه في وجوب غسل الجمعة، وبعد ثبوته استقام الكلام. قوله من "زياداته": الصواب الجزم بترجيح غسل الجمعة لكثرة الأخبار ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (837) ومسلم (844) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

الصحيحة فيها، وأما الغسل من غسل الميت فلم يصح فيه شئ. انتهى. قال الماوردي في "الحاوي": خَرَّجَ بعض المحدثين لصحة الحديث الوارد في غسل الميت مائة وعشرين طريقًا. وأما ما استدل به النووي فقد أجاب عنه الشيخ أبو حامد في "التعليق" فقال: ولا شك أن هذا متردد بين أن يصح فنقول بوجوبه، وبين أن لا يصح فيكون على الاستحباب، والمتردد بين فرض وندب آكد من المندوب بكل حال، فصارت صحة هذا مقتضية لما اقتضى ذلك مع ضعفه لأنا لا نقول إلا بالندبية في غسل الجمعة مع ثبوت صحته، ولا ننفي الندبية عن غسل الميت على تقدير ضعفه، بل نثبتها فساوى ضعف هذا صحة ذاك، وبقى احتمال الصحة سالمًا عن المعارض، والأحاديث المشار إليها وهى "من غسل واغتسل" (¬1) ونحوها قد رويت بتخفيف السين من غسل قال الصيدلاني في "شرح المختصر". أشار بذلك إلى الوضوء والغسل. قوله: ومنها الغسل من الحجامة والخروج من الحمام، ذكر صاحب "التلخيص" عن القديم استحبابهما والأكثرون لم يذكروهما. قال صاحب "التهذيب": قيل المراد بغسل الحمام إذا تنور -أى استعمل النورة- لإزالة الوسخ والشعر. قال: وعندي أن المراد به أن يدخل الحمام فيعرق فيستحب أن لا يخرج من غير غسل. انتهى. قال في "الروضة": وقيل الغسل من الحمام هو أن يصب عليه ماء عند إرادته الخروج تنظفًا كما اعتاده الخارجون منه. قال: والمختار الجزم باستحباب الغسل من الحجامة والحمام، فقد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (496) وابن ماجة (1087) وأحمد (16218) والطيالسي (1114) والطبراني في "الكبير" (581) وعبد الرزاق (5570) وابن أبي شيبة (1/ 433) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1573) وتمام في "الفوائد" (1530) من حديث أوس بن أوس الثقفي. قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: صحيح.

نقل صاحب "جمع الجوامع" في منصوصيات الشافعي أنه قال: أحب الغسل من الحجامة والحمام، وكل أمر غيَّر الجسد، وأشار الشافعي إلى أن حكمته أن ذلك يغير الجسد ويضعفه، والغسل يشده وينعشه. قوله في "أصل الروضة": والساعة الأولى أفضل ثم الثانية ثم الثالثة فما بعدها للحديث المعروف (¬1). وتعتبر الساعات من طلوع الفجر على الأصح، وقيل: من طلوع الشمس، وقيل: من الزوال. ثم ليس المراد على الأوجه كلها بالساعات الأربع وعشرين، بل ترتيب الدرجات وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به في تفسير الساعات قد جزم بما يخالفه في "شرح المهذب" فقال: المراد بالساعات الساعة المعروفة خلافًا لما قاله الرافعي، ولكن بدنة الأول أكمل من بدنة الثاني كما يقول في [السبع] (¬2) والعشرين درجة أنها تترتب على مسمى الجماعة، ولكن درجات الأكثر جماعة يكون أكمل من الأقل. انتهى. وذكر مثله في "شرح مسلم" أيضًا، وكلامه يوهم انفراد الرافعي بهذه المقالة، وهو عجيب، فإنها مشهورة بين أهل المذهب، وممن جزم بها الصيدلاني في "شرح المختصر" وهو الذي يعبر عنه ابن الرفعة بالداوودي تارة، وبابن داوود أخرى، فقال: ليس المراد بالساعات هي الساعات الزمنية، ولا الاقتصار على خمس درجات لا غير، وإنما أشار إلى تفضيل السابق على غيره، حتى أن الذي يأتي بعد المقرب للبيضة كالمقرب بقرة بالنسبة إلى من يقرب بدنة. هذا كلامه وهو حسن، وشارح للإجمال ¬

_ (¬1) عند مالك (227) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في أ: السابع.

الواقع في آخر هذه المسألة من كلام الرافعي "والروضة". وحكى أيضًا في الشرح المذكور الأوجه الثلاثة السابقة في أول الساعات، ثم حكى معها وجهًا رابعًا ذهب إليه صاحب "التقريب" أن أولها من ارتفاع النهار وهو عند الضحى، قال: لأنه وقت الهاجرة. وقد ورد في رواية المهجر إلى الجمعة عوضًا عن التعبير بالرواح، وحكى عن العرب أنهم يقولون: راح فلان إلى كذا أى سار إليه سيرًا خفيفًا سواء كان قبل الزوال أو بعده. قوله: ولا بأس للعجائز بحضور الجمعة إذا أذن أزواجهن ويحترزن عن التطيب والتزين، فذلك أستر لهن. انتهى. هذه المسألة ذكرها في "الروضة" بعد هذا بدون ورقة ووافقه في "الروضة" على هذه العبارة، وهو يقتضى أن ذلك لا يستحب، ولا يكره، ولكنهما صرحا في باب صلاة العيدين باستحباب الخروج لهن. قوله: ويستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، ثم قال: وينبغي أن يعلم كلام الغزالي بالواو لأن الصيدلاني نقل عن القديم أنه يقرأ في الأولى سبح، وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية. انتهى. اعترض النووي على هذا الكلام في "شرح المهذب"، "وزيادات الروضة" فقال: عجب من الإمام الرافعي كيف جعل المسألة ذات قولين: قديم وجديد؟ والصواب أنهما سنتان، فقد ثبت ذلك في "صحيح مسلم" (¬1) من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقرأ هاتين في وقت، وهاتين في وقت. [قال] (¬2): ومما يؤيد ما ذكرته أن الربيع وهو راوي الكتب الجديدة ¬

_ (¬1) حديث (465) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من ب.

قال: سألت الشافعي -رحمه الله- عن ذلك فقال: إنه يختار الجمعة والمنافقين، ولو قرأ سبح وهل أتاك كان حسنًا. قوله في "أصل الروضة": فرع: ينبغي للداخل أن يحترز عن تخطي رقاب الناس إلا إذا كان إمامًا، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها بغير تخطٍ. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه لم يبين أن ذلك على سبيل الوجوب أو الندب وقد بينه الرافعي فقال: ومن المندوبات كذا. وصرح به النووي في "شرح المهذب" هنا فقال: مذهبنا أنه مكروه. وقال ابن المنذر: يحرم لأنه صح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال للداخل: "اجلس فقد آذيت" (¬1). الأمر الثاني: أن النووي قد رجح في كتاب الشهادات من "الروضة" أنه حرام فقال من "زياداته": المختار أن تخطي الرقاب حرام للأحاديث الصحيحة. انتهى. ولفظ المختار في "الروضة" ليس هو الراجح من جهة الدليل فقط، بل ذلك اصطلاحه في "التحقيق" و"تصحيح التنبيه" بدليل أن الصواب في "تصحيح التنبيه" لما كان غلطًا لا خلاف فيه مع أنه كثيرًا ما يقول في "الروضة": الصواب، كذا المسألة صرح فيها بوجهين، وقد نص الشافعي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1118) والنسائي (1399) وأحمد (17710) وابن خزيمة (1811) وابن حبان (2790) والحاكم (1061) والبيهقي في الكبرى (5678) من حديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وقال الألباني: صحيح.

-رحمه الله- على المسألة، وصرح بالتحريم، كذا رأيته في تعليق الشيخ أبي حامد في هذا الباب، ونقل عنه في موضع آخر من هذا الباب أنه مكروه، وعلله بالأذى وهو لا ينافي الأول، لأنه كثيرًا ما يطلق الكراهة على التحريم، لاسيما مع التعليل المذكور. الثالث: أن إباحة التخطي للفرجة ليس على إطلاقه بل شرطه أن يكون في صف أو صفين، فإن انتهى إلى ثلاثة كان المنع باقيًا، وقد تقدم إيضاحه في صلاة الجماعة. [قوله] (¬1) من زياداته: والصواب في ساعة الإجابة ما ثبت في "صحيح مسلم" أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "هى ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة" (¬2) انتهى. واعلم أنه ليس المراد أن ساعة الإجابة مستغرقة لما بين الجلوس وآخر الصلاة كما يشعر به ظاهر عبارته، بل المراد على هذا القول وعلى جميع الأقوال أيضًا أن تلك الساعة لا تخرج عن هذا الوقت فإنها لحظة لطيفة. فقي "الصحيحين" (¬3) عند ذكره إياها وأشار بيده يقللها وفي رواية مسلم: "وهي ساعة خفية" (¬4). وهذا الذي ذكرته قد جزم به القاضي عياض في "شرح مسلم"؛ وقال النووي في "شرح المهذب" وبعد نقله إياه عنه: إن الذي قاله صحيح. قوله: يكره البيع بعد الزوال وقبل الصلاة. انتهى. وغير البيع من الصنائع والعقود كالبيع في الكراهة، وقد نبه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مسلم (853) وأبو داود (1049) وابن خزيمة (1739) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -. (¬3) البخاري (893) ومسلم (852) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) صحيح مسلم (852).

قوله: ولو تبايع اثنان أحدهما من أهل فرض الجمعة دون الآخر أثما جميعًا. انتهى. اعلم أن هذه المسألة قد ذكرها كذلك الشيخ في "المهذب" وصاحب "التتمة" والروياني في "البحر" والمعروف أنه لا يأثم إلا من تلزمه الجمعة، كذا نص عليه الشيخ أبو حامد في "التعليق"، والبندنيجي في "تعليقه" أيضًا، وسليم في "المجرد" والمحاملي في "المقنع"، والماوردي في "الحاوي"، وأبو المكارم الروياني في "العدة" وهو مقتضى كلام الروياني في "الحلية"، ونقله الشيخ أبو حامد في "تعليقه" عن النص، فقال ما نصه: قال الشافعي: ولا يكره للعبيد والنساء إذا باعوا من لا جمعة عليهم، ولا يكره ذلك إذا باعه ممن عليه فرض الجمعة لأن فيه إعانة له على البيع، ولا يحرم عليه، وإنما يحرم على من يلزمه فرض الجمعة. انتهى كلامه. ولا تغتر بما وقع هنا، وفي "شرح المهذب" للنووي.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف قوله: وروى عن علىّ - رضي الله عنه - أنه صلى بأصحابه صلاة الخوف ليلة الهرير (¬1). انتهى. الهرير بهاء مفتوحة، وبراءين مهملتين الأولى مكسورة، وبينهما ياء بنقطتين من تحت. تقول العرب: هر فلان الحرب هريرًا أى كرهها. كذا قاله الجوهري. وكأنها سميت بذلك لكراهتهم الحرب في تلك الليلة لكثرة ما وقع فيها من القتل. وقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": كان بعضهم يهر على بعض فسميت بذلك، قال: وهي حرب وقعت بينه وبين الخوارج، وقيل: هي ليلة صفين بينه وبين معاوية. قوله: النوع الأول: صلاة بطن نخل وهي أن يجعل الإمام الناس فرقتين، فرقة في وجه العدو، وفرقة يصلي بها جميع الصلاة، ويكون قد صلى مرتين، واقتدى المفترض بالمتنفل. ولهذه الصلاة ثلاث شروط: أن يكون العدو في غير جهة القبلة، وأن يكون في المسلمين كثرة، والعدو قليلون، وأن يخاف هجوم العدو عليهم في الصلاة. وهذه الثلاث شروط لاستحباب هذه الصلاة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو عجيب، فإن المستحب للمفترض أن لا يصلي خلف المتنفل حتى قال في "الروضة": إن الانفراد أولى منها ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (5804) بسند ضعيف.

خروجًا من خلاف أبي حنيفة، وأيضًا فإنها شرط للجوار، فإن تركها تغرير بهم فتأمله. قوله: النوع الثاني: صلاة عسفان وهي أن يرتب الإمام الناس صفين ويحرم بهما جميعًا فيصلون معه إلى أن ينتهي إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى، فإذا سجد سجد معه الصف الثاني، ولم يسجد الصف الأول، بل يحرسونهم قائمين، فإذا قام الإمام والساجدون سجد أهل الصف الأول ولحقوه وقرأ الكل معه وركعوا واعتدلوا، فإذا سجد سجد معه الحارسون في الركعة الأولى، وحرس الساجدون معه في الأولى، فإذا جلس للتشهد سجدوا ولحقوه ويتشهد الكل معه وسلم بهم. وهذه الكيفية ذكرها الشافعي في "المختصر" وأخذ بها كثيرون. وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: الثابت في السنة أن أهل الصف الأول يسجدون معه في الركعة الأولى وأهل الصف الثاني يسجدون معه في الثانية، والشافعي عكس ذلك، لكن الذي قاله الشافعي: وهذا نحو صلاته عليه السلام يوم عسفان، فأشبه تجويز كل واحد منهما إذا لا فرق في المعنى، وقد صرح به الروياني وصاحب "التهذيب" وغيرهما. انتهى. والصحيح هو التخيير، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأشبه، والنووي في "الروضة": إنه الصحيح المختار. قال: وهو مراد الشافعي فإنه ذكر الحديث كما ثبت في الصحيح، ثم ذكر الكيفية الأخرى فأشار إلى جوازهما معًا. وجزم في "المحرر" بما حاصله ذلك أيضًا فإنه [عبر] (¬1) بقوله: سجد معه أحد الصفين. قوله: قالوا: واختار الشافعي -رضي الله عنه- ما ذكره لأمور: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدها: أن الصف الأول أقرب من العدو فهم أمكن من الحراسة. والثاني: أنهم إذا حرسوا كانوا جُنة لمن وراءهم فإن رماهم المشركون تلقوه بسلاحهم. والثالث: أنهم يمنعون أبصار المشركين عن الاطلاع على عدد المسلمين وعدتهم. انتهى كلامه. واعلم أنا إذا قلنا بما قاله الشافعي فلو تأخر الحارسون أولًا إلى الصف الثاني في الركعة الثانية وتقدمت الطائفة الثانية ليحرسوا جاز إذا لم تكثر أفعالهم، وهل هو أولى؟ قالت جماعة: نعم. وقال أصحابنا العراقيون: الأولى أن يلازم كل منهم مكانه. ولفظ الشافعي في "المختصر" على هذا أدل، هكذا ذكره الرافعي بعد هذا بنحو صفحة، وإذا كان الذي يدل عليه كلام الشافعي هو عدم الانتقال لزم بطلان تعليل ما اختاره الشافعي بالوجوه الثلاثة التي أبداها الرافعي، فراجعه يظهر ذلك لك. قوله: عن صالح بن خوات، وعن سهل بن أبي حثمة. أما خوات فبخاء معجمة وواو مشددة وتاء مثناة وهو في اللغة الرجل الجرئ، كما قاله الجوهرى، وأما حثمة فبحاء مهملة وثاء مثلثة ساكنة. والحثمة هي الأكمة الحمراء، وبها سميت المرأة حثمة، قاله الجوهري. قال: وتقول: حثمت: بمعنى أعطيت وبمعنى دللت. قوله: واختلفوا في اشتقاق ذات الرقاع فقيل: كان القتال في سفح جبل فيه جدد بيض وحمر كالرقاع. انتهى. سفح الجبل: أسفله حيث يسفح فيه الماء أي يراق.

والجدد: الطرق جمع جدة بضم الجيم فيهما. فالجبل المذكور كانت فيه طرائق تخالف لون الجبل. قوله في "أصل الروضة": فرع: إذا قام الإمام إلى الثانية فهل يقرأ في انتظاره مجئ الطائفة الثانية أم يؤخرها ليقرأ معهم، ويشتغل بالذكر فيه ثلاث طرق: أصحها على قولين: أظهرهما: يقرأ. ثم قال: وهل يتشهد في انتظاره فراغ الثانية من ركعتهم؟ فيه طرق: المذهب أن يتشهد، وقيل: فيه الطريقان الأولان. انتهى. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع في التشهد المنقول في "الشرحين" عن الأكثرين، وجزم به في "المحرر"، ووقع في "المنهاج" تصحيح طريقة الخلاف غلطًا فتفطن له. قوله: وإن كانت الصلاة مغربًا صلى بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة، وحينئذ فيجوز انتظار الفرقة الثانية في التشهد الأول، وأن ينتظرهم في القيام الثالث وأيهما أفضل؟ فيه قولان: أظهرهما: في القيام. انتهى ملخصًا. وما ذكره من كون الخلاف قولين ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وكذلك في "الروضة" و"شرح المهذب" وغلط في "المحرر" فجعله وجهين، وتبعه عليه في "المنهاج"، والصواب الأول، فقد صرح الشيخ في "المهذب" بأن الانتظار في التشهد منصوص عليه في "الأم" والآخر في "المختصر". قوله: وإن كانت الصلاة رباعية ففرقهم أربع فرق صحت صلاة الإمام في أصح القولين، فإن جوزنا فمن شرطه أن تمس الحاجة إليه، وإلا فيكون كما لو وقع ذلك في الاختيار، قاله إمام الحرمين. انتهى.

وهذا الذي قد قاله الإمام قد جزم به في "المحرر" وأقره النووي عليه في "الروضة"، وخالف في "شرح المهذب" فقال: لم يذكره الأكثرون، والصحيح خلافه. انتهى. وكلام "المنهاج" يقتضي ذلك أيضًا، فإنه لم يذكره بالكلية، وكان الصواب ذكره والتنبيه عليه، فإن لم يفعل ففي دقائقه. قوله: وفي صحة صلاة المأمومين على هذا القول وهو صحة صلاة الإمام قولان ينبنيان على بطلان صلاة من أخرج نفسه من الجماعة بغير عذر، فإن أبطلناها بطلت صلاة الفرق الأولى والثانية والثالثة لأنهم مفارقون بغير عذر، إذ وقت المفارقة المنقولة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو بعد نصف الصلاة، والفرق الثلاث قد فارقت قبل النصف. انتهى كلامه. فمراده بقوله في آخر كلامه "قبل النصف" إنما هو نصف صلاة الفرق لا صلاة الإمام فاعلمه. قوله: ويجوز إقامة الجمعة على هيئة صلاة ذات الرقاع، فلو نقصت الفرقة عن أربعين لم يجز، ولو نقصت الثانية فقد قيل: لا يضر، وقيل: على الخلاف في الانفضاض. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح القطع بأنه لا يضر، كذا صححه في "شرح المهذب" وصحح في "زيادات الروضة" أنه لا يضر، وليس فيه تصريح بتصحيح طريقة القطع. قوله: ولا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف في أصح القولين، فإن أوجبنا فله شروط: أحدها: أن يكون طاهرًا. والثاني: ألا يكون مما يمنع عن بعض أركان الصلاة كالحديد المانع من الركوع، والبيضة المانعة من مباشرة المصلى الأرض بالجبهة. انتهى.

وما ذكره من عدم جواز لبس البيضة مشكل، بل ينبغي عند خوف الهلاك من تركها جواز لبسها قطعًا، وأن لا قضاء عليه، وإن منعت من استيفاء السجود وكيف لا وقد جعلوا اللصوق للدواء جائزًا، ولا قضاء عليه، مع أنه لا يخاف الهلاك، فجواز هذا وقد خاف الهلاك أولى. قوله: والثالث: ألا يتأذى به الغير كالرمح، فإنَّ حمله في وسط الصف يؤذي القوم، فيكره إلا أن يكون في حاشية الصف، فلا يتأذى بحمله أحد. الرابع: قاله الإمامان: أن يخاف من موضع السلاح خطر على سبيل الاحتمال، فأما إذا تعرض للهلاك ظاهرًا لو تركه فيجب الأخذ قطعًا. انتهى. وما ذكره في الأذى من الكراهة فيها نظر، بل القياس التحريم إن تيقنه أو غلب على ظنه، وهذا الأخير الذي نقله عن الإمام قد جزم به الرافعي في "الشرح الصغير"، وكذلك النووي في "الروضة". قوله: قال الإمام: وليس الحمل معينًا لعينه، بل لو وضع السيف بين يديه، وكان مد اليد إليه في اليسر والسهولة كمدها إليه وهو محمول متقلد كان ذلك بمثابة الحمل قطعًا. انتهى. وما نقله عن الإمام وارتضاه قد تابعه عليه في"الروضة" أيضًا، وهو لا يستقيم على ما ذكره في الشرط الثالث، فإنه لو كان المراد إنما هو الوضع لكان وضع الرمح في وسط الصف بين يديه، أو عن يمينه كوضعه في حاشية الصف، فدل على أن المراد حقيقة الحمل. قوله: فأما لفظ السلاح فقد قال ابن كج: إنه يقع على السيف والمسكين والرمح والنشاب ونحوها أما الترس فليس بسلاح، وكذا لو لبس درعًا لم يكن حاملًا لسلاح. انتهى. وما نقله عن ابن كج من كون الدرع ليس بسلاح قد تابعه عليه أيضًا في

"الروضة" وهو يخالف ما سبق في الشرط الثاني، فإنه جعل البيضة هناك من السلاح والدرع كالبيضة بلا شك. قوله: قال ابن عمر في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1): أى مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. قال نافع: لا أراه ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2). انتهى كلامه. وهذا التفسير قد نص الشافعي في "الرسالة" على أن ابن عمر رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر ذلك في باب فرض الصلاة، وأراه بضم الهمزة، ومعناه: أظن. قوله: قال الإمام: بل الكمي المقنع السكوت أهيب له في نفوس الأقران. انتهى. الكمي: الشجاع الذي كمى نفسه أى سترها باللبس يقال: كمى الشيء إذا ستره. والمقنع: لابس البيضة. قاله الجوهري. قال ابن سيده في خطبة "المحكم": وجمع الكمي: أكماء. وأما الكمأة فجمع كام: أي ساتر. قوله: الخامسة: لو تلطخ سلاحه بالدم واحتاج إلى إمساكه. أمسكه، وهل يقضي؟ حكى إمام الحرمين عن الأصحاب أنه يقضي لندور العذر، ثم منع ندوره، ورأى تخريج المسألة على القولين في من صلى في موضع نجس، وأن هذه أولى بنفي القضاء. انتهى ملخصًا. وحاصله إيجاب القضاء عن الأصحاب، وأنه ليس فيه إلا بحث الإمام، وقد صرح بمثله النووي في "شرح المهذب"، فقال: ظاهر كلام ¬

_ (¬1) سورة البقرة: (239). (¬2) أخرجه البخاري (4261).

الأصحاب القطع بوجوب الإعادة، ونقله الإمام عنهم، ورأى تخريجه على القولين في من صلى في موضع نجس، ورأى هذه أولى بنفي القضاء، وإذا علمت حاصل هذا الكلام ففيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ناقض ذلك في آخر التيمم وصرح بعدم الوجوب، ولم يحك فيه خلافًا، وهو غريب، وذكر نحوه أيضًا في باب شروط الصلاة قبيل ستر العورة، ورجحه أيضًا في "المحرر" في هذا الباب فقال: إنه أقيس الوجهين، وتبعه عليه النووي فصرح بتصحيحه، وقد وقعت هذه المواضع الثلاث في "الشرح الصغير" كما في "الكبير"، وكذلك في "الروضة" أيضًا. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلام الرافعي والنووي من أن غير الإمام من الأصحاب قد قطع بالمسألة ليس كذلك، فقد رأيت في "الإبانة" للفوراني فيها قولين في من صلى في موضع نجس موافقًا لبحث الإمام فقال ما نصه: وإن أمسكه للاحتياج إليه فهل عليه الإعادة؟ فعلى قولين بناء على من صلى في الحبس. انتهى. وصرح في "البحر" فيها بحكاية وجهين أيضًا. الثالث: أن الشافعي -رحمه الله تعالى- قد نص على المسألة، وجزم بالوجوب، كذا رأيته في "مختصر البويطي" في آخر الباب، وحكاه أيضًا ابن الرفعة عن تعليق القاضي الحسين، وحينئذ فتكون الفتوى عليه. قوله: الرابعة: المحرم إذا ضاق وقت وقوفه وخاف فوت الحج إن صلى متمكنًا، فيه أوجه للقفال: أحدها: يؤخر الصلاة ويحصل الوقوف، لأن قضاء الحج صعب. والثاني: يصلي صلاة شدة الخوف فتحصل الصلاة والحج. والثالث: تجب الصلاة على الأرض مستقرًا ويفوت الحج لعظم حرمة

الصلاة، ولا يصلي صلاة الخوف لأنه محصل لا هارب، ويشبه أن يكون هذا الوجه أوفق لكلام الأئمة. انتهى. اعترض عليه النووي في "الروضة" فقال: هذا الوجه ضعيف، والصواب الأول، فإنا جوزنا تأخير الصلاة لأمور لا تقارب المشقة فيها هذه المسألة كالتأخير للجمع. انتهى. وما رجحه النووي قد جزم به القاضي الحسين في باب الأحداث من تعليقه، وليس في كلام النووي تصريح بأن التأخير على سبيل الإيجاب أم لا بل هو إلى الجواز أقرب، وقد صرح في "الكفاية" بالوجوب ذكر ذلك في أوائل كتاب الصلاة. قوله: وللشافعي نصوص مختلفة في جواز استعمال الأعيان النجسة، وحكى "صاحب التهذيب" وغيره فيها طريقين منهم من طرد القولين في وجوه الاستعمال كلها، ومنهم من فصل فقال: لا يجوز استعمال النجاسات في الثوب [والبدن] (¬1) إلا لضرورة، وفي غيرهما يجوز إن كانت النجاسة مخففة، فإن كانت مغلظة، وهي نجاسة الكلب والخنزير فلا، ونزلوا النصوص على هذا التفصيل، وهذا الأظهر، ثم شرع يُفَضِّل فقال: لا يجوز لبس جلد الكلب والخنزير. . . . إلى آخره. فيه أمور: أحدها: أن المراد باستعمال النجاسة في الثوب هو تلطخه بها، وفي البدن استعمالها بحيث يتصل به كالامتشاط بمشط العاج، ونحو ذلك، كذا صرح به الرافعي في الكلام على وصل الشعر، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه، ووقع في باب الأوانى من "شرح المهذب" وهمٌ فاحش، وهو تجوير الامتشاط بمشط العاج فقال: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فرع: العاج المتخذ من عظم الفيل نجس لا يجوز استعماله في شئ رطب، فإن استعمل فيه نجسه. قال أصحابنا: ويكره استعماله في الأشياء اليابسة، ولا يحرم لأنه لا يتنجس به، ولو اتخذ مشطًا من عظم الفيل فاستعمله في رأسه ولحيته، فإن كان مع رطوبة من أحد الجانبين تنجس شعره، وإلا فلا ينجس لكنه يكره ولا يحرم. هذا هو المشهور للأصحاب. رأيت في نسخة من تعليق الشيخ أبي حامد أنه ينبغي أن يحرم، وهذا غريب ضعيف. هذه عبارته والذي ذكره غريب، ووهمٌ عجيب، فإن هذا التفصيل الذي نقله عن الأصحاب صحيح، ولكنهم ذكروه في وضع الشيء في الإناء منه أي من العاج، فالتبس عليه ذلك بالاستعمال في البدن. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" قد تابع الرافعي على تحريم ذلك في الثوب كما يحرم في البدن فقال في "الروضة": إنه المذهب. وقال في "شرح المهذب": إنه المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وغيرهم. ثم خالف ذلك في "التحقيق" فقال في أوائل باب إزالة النجاسة: فرع: المذهب تحريم استعمال النجاسة في البدن دون غيره. انتهى. وهو اختلاف عجيب حيث عبر في الموضعين بالمذهب ولم يذكر المسألة في "التحقيق" في غير هذا الموضع، وكذا فعل في كتاب "مهمات الأحكام" إلا أنه لم يحك فيه خلافًا على قاعدته فيه، وكلام "الروضة" في كتاب الشهادات يقتضيه، فإنه نقل من زياداته تحريم استعمالها في البدن، ولا شك أن تقييده به يقتضي الجواز ظاهرًا في الثوب. الأمر الثالث: أن الرافعي -رحمه الله- قد ذكر في العقيقة أنه يكره

لطخ رأس المولود بالدم، وتابعه عليه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب"، والذي قالاه يستلزم جواز لطخ نفسه لأنه لو كان حرامًا لامتنع عليه فعله مع الغير بطريق الأولى وإن كان صبيًا، كما لا يجوز لطخه بالبول وأيضًا فتنزيهه أولى من تنزيه الثياب، والتحريم في الثياب مع الجواز فيه ما لا يعقل. الأمر الرابع: أن هذه الطريقة التي صححها وهي الرافعة للخلاف المنزلة للنصوص على الأحوال قد خالفها الرافعي في موضعين، فجزم بطريقة القولين أحدهما في شروط الصلاة في الكلام على وصل الشعر، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه، فإنه مفيد لمن يطالع هنا، والثاني في باب المسح على الخفين في الشرط الثاني من شروط الخف فقال: لو اتخذ خفًا من جلد الكلب أو جلد الميتة قبل الدباغ، فهذا الجلد لنجاسة عينه لا يحل استعماله في البدن باللبس وغيره، على أصح القولين. هذا لفظه. الخامس: أن المتولد من الكلب أو الخنزير مع غيره من الحيوانات الطاهرة حكمه حكم أحدهما، ولم يذكره. [قوله: نعم لو جلل كلبًا أو خنزيرًا بجلد كلب أو خنزير فوجهان]: (¬1) أظهرهما: الجواز لاستوائهما في تغليظ النجاسة. انتهى. واعلم أن اقتناء الخنزير حرام، وحينئذ فكيف يأتي مع ذلك تجويز تجليله، لأنه في زمن التجليل ممسك، وتصوير ما قالوه من وجهين: أحدهما: أن تجلله مع كونه ليس ممسكًا له ولا مقتنيًا فإن ذلك ممكن. الثاني: أن تجلله في حال اقتنائه فلا يعصى بالتجليل وإن عصى بالإمساك والاقتناء لأنهما أمران متغايران. قوله: ويجوز الاستصباح بنجس العين كودك الميتة وبالمتنجس وفي قول ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لا يجوز. انتهى. هذا الكلام يدخل في عمومه دهن الكلب والخنزير، وقياس تفاريعه المذكورة في هذا الباب هو المنع. قوله: فإن لم نحكم بنجاسة الدخان فلا بأس به كبخار المعدة لا ينجس الفم، وإن حكمنا بنجاسته وهو الأظهر فقليله معفو عنه، والذي يصيبه في الاستصباح قليل لا يحس غالبًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في بخار المعدة صريح في طهارته، وهذه المسألة قد أسقطها النووي، وهي مهمة، والمذكور في باب طهارة البدن والثوب من "الكفاية" نقلًا عن القاضي والحليمي أنه نجس فقال: قال القاضي الحسين: إن قلنا بنجاسة الدخان، فإن أصاب ثوبًا رطبًا نجسه، وإن كان الثوب يابسًا فوجهان. قال: ومثل ذلك ما إذا دخل الاصطبل وراثت الدابة وخرج منه دخان أو دخل المستحم وبال وتغوط وخرج منه دخان في الحال فأصاب ثوبه، فإن كان رطبًا تنجس، وإن كان يابسًا ففيه وجهان. وأصل هذا ما حكيناه عن الحليمي في كتاب الطهارة أن الإنسان إذا خرج منه ريح، وكانت ثيابه رطبة تنجست، وإن كانت يابسة فلا. هذا كلامه في الباب المذكور. وذكر نحوه في باب الاستطابة فقال: ولا شك في عدم وجوب الاستنجاء من خروج الريح، ولم يفرق الأصحاب بين أن يكون المحل رطبًا أو يابسًا، ولو قيل في ما إذا كان رطبًا في وجوبه خلاف بناء على أن دخان النجاسة طاهر أم نجس كما قيل بمثله في تنجيس الثوب الذي يصيبه إذا كان رطبًا لم يبعد، لكن قد يقال في جوابه: إن ذلك لا يزيد على ما تبقى

على المحل بعد الاستجمار، وذلك معفو عنه، والله أعلم. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تبعه على العفو عما يصيبه في الاستصباح، وهو مخالف لنص الشافعي فقد قال في "مختصر البويطي" في أثناء باب غسل الجمعة في الكلام على الزيت النجس ما نصه: ومن مسه في الاستصباح أو غيره أو أصاب ثوبه فليغسل موضعه قبل أن يصلي، فإن صلى به في ثوب أو بدن غسله وأعاد الصلاة. هذا لفظه بحروفه. قوله في "أصل الروضة": ويجوز لبس الحرير للحاجة كالجرب، وفيه وجه أنه لا يجوز وهو منكر، ويجوز لدفع القمل في السفر، وكذا في الحضر على الأصح. انتهى. وحكايته لهذا الوجه المفصل بين الحاضر والمسافر في القمل غلط، فإن الذي ذكره الرافعي في شرحيه "الكبير" و"الصغير" إنما هو حكايته في الجرب فانعكس على النووي حالة الاختصار، وذكره في الجرب أيضًا الإمام والغزالي وابن الرفعة. ووقع هذا الوهم أيضًا في "شرح المهذب"، وزاد فنقل الوجه المذكور عن الإمام والغزالي مع أنهما ذكراه في الجرب كما تقدم. وهذه المسألة وغيرها من مسائل الحرير ذكرها الرافعي في صلاة العيد فنقلها في "الروضة" إلى هذا الباب وقد تكلمت على ما يختص "بالروضة" هنا، وعلى ما يتعلق بالرافعي هناك. قوله من زياداته: قال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي -رحمه الله- يحرم تنجيد البيوت بالثياب المصورة وبغير المصورة، سواء فيه الحرير وغيره، والصواب في غير الحرير والمصور الكراهة دون التحريم. انتهى لفظه. والتنجيد بتاء بنقطتين من فوق ثم نون ثم جيم هو التزيين، وكلام

النووي في هذه المسألة يشعر بموافقة المقدسي على التحريم في الحرير، لكن كلام الرافعي في الوليمة يشعر بالجواز، وتابعه عليه في "الروضة" فإنه قال ما نصه: ومن المنكرات فرش الحرير، وصور الحيوانات على السقوف. . . . إلى آخره. ذكر ما هو أصرح من ذلك في آخر كتاب النذر فقال: الثانية: ستر الكعبة وتطيبها من القربات ولا فرق بين الحرير وغير الحرير، وإنما ورد تحريم لبس ذلك في حق الرجال. هذا لفظه. وهو صريح في ما قلناه، وقد حذف من "الروضة" الكلام الأخير الذي استفدنا منه هذه المسألة.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين قوله: الثالثة: لفظ الكتاب يقتضي دخول وقت هذه الصلاة بطلوع الشمس، وصرح بذلك كثير من الأصحاب، وإيراد جماعة يقتضي دخول الوقت بالارتفاع قيد رمح منهم الصيدلانى، وصاحب "التهذيب". انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح هو الأول، فقد جزم به الرافعي في "المحرر" وصححه النووي في كتبه. قوله: المذهب المنصوص في الكتب الجديدة كلها أن صلاة العيد تشرع للمنفرد في بيته أو غيره وللمسافر، والعبد والمرأة، والقديم أنه يشترط فيها شروط الجمعة من اعتبار العدد والكمال، إلا أنه يجوز فعلها خارج البلد، وقطع بعضهم بالجديد، وأثبت بعضهم قولين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد صحح طريقة القطع، ولم ينبه على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثاني: أن ما ذكره من اتفاق النصوص في الجديد على مشروعيتها للمنفرد قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإن المزني أجل رواة الجديد، أو من أجَلهم، وقد نقل عن الشافعي ما يخالفه فقال ما نصه: صلاة العيدين سنة لا حتم وليست على من لا جمعة عليه. هذا لفظه. ذكر ذلك في مختصر له لطيف غريب سماه "نهاية الاختصار من قول الشافعي"، وتاريخ كتابة النسخة التي نقلت منها سنة ثمان وأربع مائة. قوله: قال في "الشامل": والذي يقوله الناس اليوم لا بأس به أيضًا

وهو الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر [والله أكبر] (¬1)، ولله الحمد. انتهى. وهذا الذي نقله عن صاحب "الشامل" نص عليه الشافعي في "البويطي"، ونقله النووي عن الروياني عنه، ثم قال -أعنى الرويانى: إن العمل عليه. واعلم أن التكبير المذكور في "الشامل" قبيل قوله: ولله الحمد، إنما هو مرة واحدة على خلاف ما في الرافعي و"الروضة" من ذكره مرتين. كذا رأيته في نسختين منه إحداهما مكتوبة في حياة المصنف، إلا أن البويطي ذكره مرتين. قوله: ولا يأت بالذكر عقب التكبيرة السابعة والخامسة في الثانية، بل يتعوذ عقب السابعة، وكذا عقب الخامسة، إن قلنا: يتعوذ في كل ركعة، ولا يأتي به بين تكبيرة الإحرام والأولى من الزوائد. انتهى. لم يبين الرافعي حكم الابتداء به في الركعة الثانية قال إمام الحرمين: يأتي به قبل الأولى من الخمس، قال النووي في "زيادات الروضة": المختار الذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يأتي به كما في الأولى. قوله من "زوائده": ويجهر بالقراءة والتكبيرات ويسر بالذكر بينهما. انتهى. هذا الكلام لا يمكن حمله إلا على الإمام، وحينئذ فهو يوهم أن المنفرد لا يجهر بالقراءة مع أنه يجهر بها، وإذا كان المسبوق في الجمعة يجهر بالثانية كما نص عليه الشافعي فمسألتنا أولى. قوله: صلاة العيد تجوز في الصحراء، وفي الجامع، لكن إن كان بمكة فالمسجد أفضل وألحق به الصيدلاني بيت المقدس، وإن كان بغيرهما ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فكذلك في الأصح إلا لعذر. انتهى ملخصًا. وما نقله عن الصيدلاني وأقره عليه، قد ذكر مثله أيضًا البندنيجي والغزالي في "الخلاصة" والروياني، قال النووي في "شرح المهذب": ولم يتعرض الجمهور لذلك، وظاهر إطلاقهم أن الأقصى كغيره. قوله: وإذا خرج الإمام إلى الصحراء استخلف من يصلي بضَعَفَةِ الناس. انتهى. وتعبيره بقوله: من يصلي ذكره أيضًا النووي وابن الرفعة في كتبهما، بل عبر الشافعي به أيضًا، وغيره من أصحابه، وفيه إشعار بأنه لا يخطب، وبه صرح الجيلي شارح "التنبيه" وعلله بكونه افتئاتًا على الإمام، وفيه نظر لأن الإمام هو الذي استخلف، وحينئذ فلا افتئات. قوله في "الروضة": والتكبير في غير الصلاة والخطبة مرسل، وهو الذي لا يتقيد بحال، بل يؤتى به في المساجد والمنازل ليلًا ونهارًا، أو المقيد يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة، فالمرسل مشروع في العيدين جميعًا، وأول وقته بغروب الشمس ليلة العيد، وفي آخر وقته ثلاثة أقوال: أظهرها: يكبرون إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد. والثاني: إلى أن يخرج الإمام إلى الصلاة. والثالث: إلى أن يفرغ منها. وقيل: إلى أن يفرغ من الخطبتين، وقطع بعضهم بالأول. انتهى. فيه أمران نبه عليهما الرافعي: أحدهما: أن الثالث والرابع قولان قديمان. الثاني: أن محلهما في غير المصلي. قوله: وأما عيد الفطر فهل يستحب فيه التكبير المقيد وهو الذي يؤتى به

في أدبار الصلوات؟ فيه وجهان: أظهرهما عند الأكثرين: لا يستحب. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وأكثر كتبه على ذلك، وخالف في "كتاب الأذكار" فجزم بالاستحباب. قوله: أحيا ليلتي العيد بالعبادة محبوب عليه. انتهى. قال النووي في "شرح المهذب" و"الروضة" وغيرهما: تحصل هذه الفضيلة بمعظم الليل. وقيل: تحصل بساعة. قال: والمختار الأول. قوله: ويجوز تقديم الغسل على الفجر في أصح القولين، ثم قال: وإذا جوزنا فهل يختص بالنصف الثاني من الليل كأذان الصبح أم يجوز في جميع الليل كنية الصوم؟ عن القاضي أبي الطيب أنه يختص بالنصف الثاني، وهذا ما ذكره في "المهذب". وقال الإمام: المحفوظ أن جميع ليلة العيد وقت له وهذا أبداه صاحب "الشامل" على سبيل الاحتمال وهو الموافق للفظ الكتاب. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وفيه أمران: أحدهما: أن الصحيح من هذا الخلاف هو الاختصاص كذا صححه الرافعي في "المحرر"، والنووي في كتبه. الأمر الثاني: أن ظاهر كلامه يقتضي أن أذان الصبح يدخل بالنصف الثاني، فإن سواه بالغسل على هذا الوجه، ولكن الصحيح عنده كما سبق في موضعه أنه إن كان في الشتاء فتقدم لسبع بقي من الليل، وفي النصف لنصف سبع.

قوله: وإن كان كمد اللون. [هو بكسر الميم وبالدال المهملة، قال الجوهري: الكمده بضم الكاف وسكون الميم] (¬1) هو تغير اللون يقول أكمد القصار الثوب إذا لم ينقه. قوله: وذلك كالخز مبتدأه ابريسم ولحمته صوف. . . إلى آخره. ذكر -رحمه الله- في كتاب السلم أن الخز مركب من الإبريسم والوبر. قوله: وكانت له -عليه الصلاة والسلام- جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج (¬2). انتهى. الجيب هو الطوق، والحديث بهذا اللفظ رواه أبو داوود وروى مسلم معناه. قوله: ويحرم الحرير على [الخنثى] (¬3) أيضًا لاحتمال كونه رجلًا حكاه في "البيان" ويجوز أن ينازع فيه. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد حكى خلافًا في باب زكاة الذهب والفضة في جواز لبسه للحلي، وإذا جاز ذلك له على وجه فجواز الحرير بطريق الأولى فيكون الخلاف الذي لم يطلع عليه الرافعي، وتوقف فيه بائنًا بلا شك. وأما ما نقله عن "البيان" فقد جزم به في "الروضة" ولم يعزه إليه، وقال في "شرح المهذب": إنه المذهب وهو قياس ما صححه الرافعي من تحريم الحلي. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (4054) وابن ماجة (3594) وابن أبي شيبة (5/ 155) والبيهقي في "الشعب" (6109) وفي "الكبرى" (5880) وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (2227) من حديث أسماء بنت أبي بكر، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى-. (¬3) في أ: الجنب.

[قوله] (¬1) الرابعة: هل يجوز للعوام إلباس الصبيان الحرير؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها -ولم يذكر في "التهذيب" سواه- أنه إن كان ابن سبع سنين حرم، وإن كان دون ذلك فلا. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أنه قد ذكر في "الشرح الصغير" أيضًا كما في "الكبير" ثم خالفهما في "شرح مسند الإمام الشافعي" فصحح فيه الجواز مطلقًا فقال فيه ما نصه: ولا يحرم إلباس الحرير للطفل علي الأظهر، وإن جاوز التمييز. انتهى. وهو مقتضى كلام "المحرر" فإنه صحح الجواز، ولم يقيده بسن مخصوص، وصححه أيضًا النووي في كتبه كلها. الأمر الثاني: محل هذا الخلاف في غير يوم العيد أما يوم العيد فيجوز فيه ذلك بلا خلاف، كذا صرح به النووي في هذا الباب من "شرح المهذب" فقال ما نصه: واتفق الأصحاب على إباحة تزيين الصبيان بالحلي والحرير في يوم العيد لأنه يوم زينة، وذكر مثله في "شرح مسلم" أيضًا وقد ذكر في "الروضة" من زياداته جواز ذلك، لكنه لم يصرح بالاتفاق. الأمر الثالث: أن النووي في "شرح المهذب" لما ذكر التفصيل بين السبع وغيره، وقال ما نصه: وهكذا ضبطوه في حكاية هذا الوجه، ولو بسط بالتمييز لكان حسنًا، لكن الشرع اعتبر السبع في الأمر بالصلاة وغيره انتهى لفظه. وهو يقتضي أن ذلك شرط بالسبع، وإن لم يميز وأن التمييز لم يقل به أحد، وكلام ابن الرفعة يقتضي العكس، فإنه لما حكى التفصيل ضبطه بالتمييز ولم يتعرض للسبع، وكلام الرافعي في "شرح المسند" يشعر بذلك أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الرابع: أن عبارة البغوي في هذه المسألة: ويجوز لبس الصبيان الديباج لأنه لا خطاب عليهم، غير أن الصبي إذا بلغ سنًا يؤمر فيه بالصلاة نهى عن لبس الديباج حتى لا يعتاده. هذا لفظه، وليس فيه ما قاله الرافعي من كونه يحرم فاعلمه. وهذا الاستدلال قد سبق إليه النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية". قوله: ويجوز لبسه للضرورة، ومنها لبسه لحر أو برد مهلكين. انتهى. والتقييد بالإهلاك ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" وهو خطأ، فإن الخوف على العضو والمنفعة ومن المرض الشديد مبيح أيضًا. والمتجه إلحاق الألم الشديد ما ذكرناه لأنه أبلغ من المشقة الحاصلة لصاحب الحكة والجرب، ولأجل هذه الأشياء لم يذكر هذا اللفظ في "الروضة" ولا في "شرح المهذب". قوله: السنة لقاصد العيد المشي إن قدر عليه، وكذا الركوب في العدد. انتهى. ذكر بعد هذا تعليل نحوه أيضًا فقال: صح أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يذهب في طريق ويرجع في أخرى (¬1)، واختلف سببه على أقوال: أظهرها: أنه كان يذهب في أطول الطريقين تكثيرًا للأجر، ويعود في أقصرهما، وهذا الذي اقتضاه كلامه من حصول الأجر على الذهاب خاصة قد ذكر أيضًا نحوه في صلاة الجماعة وصلاة الجمعة ذكره غيره أيضًا، لكن في "صحيح مسلم" (¬2) أنهم قالوا لشخص: هلا تشتري لك حمارًا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1156) وابن ماجة (1299) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال الألبانى: صحيح. وفي الباب عن أبى هريرة، وجابر، وابن عباس -رضي الله عنهم-. (¬2) حديث (663) من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -.

لتركبه إذا أتيت إلى الصلاة في الظلماء والرمضاء؟ فقال: إنى أحب أن يكتب لي ممشاي في ذهابي وعودي، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "قد فعل الله له ذلك". قوله في "الروضة": ويستحب للقوم أن يبكروا إلى الصلاة، ويستحب للإمام أن يؤخر الخروج في عيد الفطر قليلًا، ويعجل في الأضحى. انتهى. واعلم أن الرافعي قد نقل عن الغزالي في "الوجيز" أنه طرد هذا التفصيل في المصلين أيضًا، وأن الجمهور على أن سنتهم البكور بلا فرق بين العيدين. قوله: وينادي [لها] (¬1) الصلاة جامعة. قال صاحب "العدة": ولو نوى لها: "حي على الصلاة" جاز بل هو مستحب. انتهى كلامه. والذي قاله صاحب "العدة" من الاستحباب، وأقره عليه الرافعي ليس كذلك، فإن الشافعي قد نص في "الأم" على خلافه فقال: وأحب أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول في الأعياد وما جمع الناس من الصلاة: الصلاة جامعة أو الصلاة، وإن قال: هلم إلى الصلاة لم يكرهه، وإن قال: حي على الصلاة، فلا بأس، وإن كنت أحب أن يتوقى ذلك لأنه من كلام الأذان، وأحب أن يتوقى جميع كلام الأذان، ولو أذن إذا أقام للعيد كرهته له، ولا إعادة. هذا كلام الشافعي. ونقله في "الروضة" على غير وجهه فقال: قال الشافعي: ينادي الصلاة جامعة، فإن قال: هلموا إلى الصلاة فلا بأس، وأحب أن يتوقى ألفاظ الأذان، هذا كلام الشافعي. هذه عبارة "الروضة" فنقل جواز ¬

_ (¬1) سقط من ب.

[حي] (¬1) على الصلاة إلى هلموا إلى الصلاة، وأسقط جواب الأولى، وتصوير الثانية، ونقل عن الدارمي أن الحيعلة مكروهة، وكلام الشافعي يدفعه أيضًا. قوله: وقول الغزالي: ثم يخطب بعد الصلاة، لو حذف بعد الصلاة لكان الباقي كافيًا لأن كلمة ثم تفيد التراخي. انتهى كلامه. وتعبيره بالتراخي ذهول، بل صوابه الترتيب وأما التراخي فقد يكون مع الترتيب، وبدونه، كما لو قال: أكرم زيدًا وقت العصر وعمرًا أى وقت شئت. قوله: ولو بدأ بالخطبة قبل الصلاة ففي الاعتداد بها احتمال للإمام. انتهى. وقد نص الشافعي على المسألة، وصرح بأنه كما لو لم يخطب فقال: لو بدأ بالخطبة قبل الصلاة، رأيت أن يعيد الخطبة بعد الصلاة، فإن لم يفعل لم يكن عليه إعادة صلاة، ولا كفارة، كما لو صلى ولم يخطب. [انتهى] (¬2) ونقله عنه صاحب "البحر"، وذكر في "البويطي" نحوه فقال ما نصه: فإن بدأ بالخطبة قبل الصلاة رأيت أن يعيد الخطبة، فإن لم يفعل لم يكن عليه إعادة. قال النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة"، وغيرهما: الصواب -وهو ظاهر نص الشافعي: أنه لا يعتد بها. [قوله] (¬3): في التكبير وحكم الفوائت والنوافل في هذه المدة على هذا الوجه يقاس بما نذكره إن شاء الله تعالى في الأضحى. انتهى. وتعبيره بقوله في هذه المدة إشارة إلى المدة السابقة، وهي من ليلة الفطر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب.

إلى الإحرام بالعيد فاعلمه. قوله في "أصل الروضة": ويكبر في أيام التشريق عقب الجنازة على المذهب. انتهى. اعلم أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي في الكلام على ألفاظ "الوجيز" فقال: وقوله في العبارة على الوجه الأول عقب كل صلاة تشمل صلاة الجنازة أيضًا، لكن قال في "التتمة": لا يكبر خلفها لأنها مبنية على التخفيف. هذا لفظه من غير زيادة عليه والمفهوم منه إنما هو الاستدراك على لفظ "الوجيز" حتى يكون الرافعي جازمًا بعدم التكبير، ولو اطلع على ما يعضده لكان يذكره على عادته، بل دخوله في لفظ الغزالي ضعيف، لأن المعهود في الصلاة والمفهوم منها عند إطلاق هذا اللفظ إنما هي ذات الركوع، والسجود، فإن تنزلنا وقلنا: ليس هذا استدراكًا فيكون حاكيًا لوجهين من غير ترجيح، واعلم أن في المسألة أربعة طرق: أحدها: الجزم بعدم التكبير كما قاله صاحب "التتمة" ووافقه عليه الدارمي ونقله في "الحلية" عن القاضي حسين فقال: وحكى القاضي الحسين أنه لا يكبر خلفها وجهًا واحدًا. والثاني: الجزم بالتكبير، قاله صاحب "الذخائر" فقال: والأشبه أن يقال: يكبر خلفها وجهًا واحدًا لأنها فريضة مؤداة، وقعت في وقت التكبير. والثالث: حكاه الماوردي: أن فيها وجهين تفريعًا على قولنا: إن ما تشرع له الجماعة من النوافل يكبر خلفه. والرابع: اختاره الشاشي -فقال: عندي ينبغي أن يبني على النفل، فإن قلنا: يكبر خلفه فهذه أولى، وإن قلنا: لا يكبر خلفه بنى على الفوائت المقتضية في أيام التشريق لأنه لا وقت لها.

قوله: فلو شهد عدلان يوم الثلاثين من رمضان قبل الزوال، برؤية الهلال في الليلة الماضية أفطروا، فإن بقى من الوقت ما يمكن جمع الناس، والصلاة فيها صلوها، وكانت أداءًا. فإن لم يبق منه ذلك فهو كما لو شهدوا بعد الزوال حتى تفوت الصلاة على قول، ويجئ الخلاف في أنها هل تقضى أم لا؟ انتهى مخلصًا. ذكر مثله في "الروضة" واشتراط جمع الناس إنما يأتي على القديم، وهو اعتبار شروط الجمعة سلمنا، لكن الصواب على هذا إنما هو اعتبار ركعة فقط بخلاف ما يقتضيه كلامه. قوله في "أصل الروضة" في المسألة: وصارت الصلاة فائتة على المذهب، وقيل: قولان. انتهى. جزم في "المنهاج" بطريقة القولين: قوله: ولو شهدا بذلك بعد غروب الشمس لم تقبل شهادتهما إذ لا فائدة فيها إلا المنع من صلاة العيد، فلا يصغى إليها، ويصلون العيد من الغد أداء، هكذا قال الأئمة، واتفقوا عليه. وفي قولهم: لا فائدة إلا ترك صلاة العيد إشكال بل لثبوت الهلال فوائد أخر كوقوع الطلاق والعتق المعلقين، وابتداء العدة منه، وغير ذلك فوجب أن يقبل هذه الفوائد، ولعل مرادهم بعدم الإصغاء في صلاة العيد جعلها فائتة لا عدم القبول على الإطلاق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله في أول كلامه عن الأئمة من امتناع فعلها ليس كذلك، بل يفعل فضائل في وقت هو أسرع إلى التدارك من فعلها على القول بالأداء، فإنها تقضى بالليل، ولئن سلمنا فواتها فهو مقتضى شهادة البينة كما نقلتها في فوات الجمعة والحج، واستيفاء القصاص ورجم الزاني

وغير ذلك، وكيف يترك العمل بها وينوي الأداء مع علمنا بانقضاء الوقت؟ وكيف يقولون عند بلوغ المخبرين عدد التواتر. الأمرالثاني: أن ما ذكره الرافعي بحثًا قال النووي في "شرح المهذب" "وزيادات الروضة" وغيرهما: إنه المراد قطعًا؟ . وقال ابن الرفعة: الوجه حمله على العموم، فإن التشاغل بذلك، ولا فائدة محققة في الحال عبث؟ والحاكم يشتغل بالمهمات. نعم إن كان موجودًا فالوجه ما قاله. انتهى. والذي قاله مردود. قوله: ولو شهدوا قبل الغروب بعد الزوال أو قبله بيسير بحيث لا يمكن فيه الصلاة قبلت الشهادة في الفطر، ولكن تصير الصلاة فائتة، وفي قول: لا. فإن جعلناها أداءًا فلا يجوز فعلها في اليوم، وإن جعلناها قضاءًا جاز، وهل هو أفضل أم التأخير إلى ضحوة الغد؟ وجهان: أصحهما: التقديم، وهذا إذا أمكن جمع الناس في يومهم لصغر البلد، فإن عسر فالتأخير أفضل قطعًا. انتهى. تابعه في "الروضة" على استحباب التأخير، وهو مشكل، بل ينبغي استحباب فعلها عاجلًا مع من تيسر ومنفردًا إن لم يجد من يصلي معه، ثم يفعلها من الغد مع الإمام. وقد سبق كلام آخر قريبًا متعلقًا بجمع الناس. قوله: وإن جعلناها فائتة جاز تأخيرها عن الحادي والثلاثين، وفي قول: لا يجوز لأن الحادي والثلاثين يجوز أن يكون عيدًا بأن يخرج الشهر كاملًا بخلاف ما بعده، وحكى الإمام عن بعضهم أنَّا إذا قلنا تقضي بعد الحادي والثلاثين فيمتد إلى شهر على وجه، قال: ولعله في شهر شوال نقص أو كمل، وفي بقية ذي الحجة؛ ثم قال الرافعي بعد ذلك في الكلام على ألفاظ

الغزالي: فإن قيل حيث قلنا بتخصيص القضاء بالحادي والثلاثين، فهل يختص بالحادي عشر إذا فرض ذلك في عيد الأضحى، قلنا: نعم، لأنه يجوز أن يفرض يوم عيد، إلا أن يقال: إن الشهادة بعد دخول ذي الحجة غير مسموعة على قياس ما ذكروه في الحادي والثلاثون انتهى. وهذا الكلام الأخير حذفه النووي جميعه، بل حذف أيضًا من كلام الإمام السابق التعرض إلى ذي الحجة فلم يبق في لفظه ما يشير إلى إلحاق صلاة الضحى بصلاة الفطر.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف قوله: وأقلها أن يحرم بنية صلاة الكسوف، ويقرأ الفاتحة ويركع، ثم يرفع فيقرأ الفاتحة ثم يركع ثانيًا ثم يرفع ويطمئن ثم يسجد، فهذه ركعة، ثم يصلى ركعة ثانية كذلك. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لو أراد الاقتصار في كل ركعة على قيام واحد وركوع كسائر الصلوات لم يجز. وقد ذكر بعده ما هو أصرح منه فقال: لو تمادى الكسوف فهل يزيد ركوعًا ثالثًا فصاعدًا حتى تنجلي الشمس؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع، ولو كان في القيام الأول فانجلى الكسوف لم تبطل صلاته؛ وهل له أن يقتصر على قومة واحدة، وركوع واحد في كل ركعة؟ وجهان [بناء] (¬1) على الزيادة عند التمادي. انتهى كلامه. وهو كما قلناه يدل على امتناع الاقتصار على مقدار سائر الصلوات. إذا علمت ذلك فقد ذكر النووي في "شرح المهذب" في آخر الباب ما يخالف ذلك، فإنه ذكر عن أبي حنيفة وجماعة أنهم قالوا: إنها ركعتان كالجمعة والصبح. واستدل لهم بحديثين صحيحين، ثم قال ما نصه: واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المشهورة في الصحيحين وغيرهما. وأجابوا عن هذين الحديثين بجوابين: أحدهما: أن أحاديثنا أشهر وأوضح وأكثر رواة. والثاني: أنا نحمل أحاديثنا على الاستحباب، والحديثين على بيان الجواز. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هكذا ذكر هذين الجوابين أبو إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وسائر الأصحاب، وفيه تصريح منهم بأنه لو صلاها ركعتين كسنة الظهر، ونحوها صحت صلاته للكسوف، وكان تاركًا للأفضل. هذا كلامه في "شرح المهذب" وهو تباين فاحش. نعم الأصحاب مختلفون في ذلك، وممن منعه القاضي الحسين، وممن جوزه الجرجاني في "تحريره". قوله: فلو تمادى الكسوف فهل يجوز أن يزيد ركوعًا ثالثًا ورابعًا وخامسًا حتى تنجلي؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لأنه ورد أنه -عليه الصلاة والسلام- صلى ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات (¬1)، وروى خمسة ولا يحمل له إلا التمادي. وأظهرهما: المنع، كما لا تجوز الزيادة في سائر الصلوات. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن اقتصاره على الخمسة ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ومقتضاه المنع في ما عداها جزمًا، ويؤيده أنها وردت دون ما زاد كما سبق الآن، والصلاة المذكورة على خلاف القياس، فلا يتعدى بها ما ورد، وتعبير الرافعي بقوله: حتى تنجلي لا ينافي المنع في ما زاد على الخمس، كما أن علة أصل الصلاة هو الانجلاء مع قولنا: لا تجوز الزيادة. وذكر في "الكفايهّ" ما يقتضي عدم الحصر، فإنه قال: هل يجوز أن يزيد في كل ركعة قيامًا وركوعًا فأكثر؟ هذه عبارته؛ والأول أوجه. الأمر الثاني: أن تعليل الزيادة بتمادى الكسوف إنما يتجه في الركعة الثانية، وأما الأولى فكيف يعدم فيها التمادي بعد فراغ الركعتين، ولعل صورته أن يكون من أهل هذا العلم، واقتضى حساب علمه ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (999) ومسلم (901) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

نعم الأحاديث الدالة على الجواز في الركعة الأولى وإن كانت دلالتها واضحة، لكنا لا نسلم ما ذكروه من استنادها إلى ذلك، بل إلى أنه لا حصر لعددها كالوتر والضحى إلى اثنى عشر. قوله: ويقول في الاعتدال من كل ركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. انتهى. تابعه في "الروضة" على استحباب ذلك كله، فأما استحبابه في الاعتدال الذي يتلوه السجود فصحيح وأما الاعتدال الذي تليه القراءة وهو الاعتدال الأول من كل ركعة، فقد ذكر الماوردي في "الحاوي" أنه لا يذكر ذلك بالكلية، بل يرفع منه مكبرًا لأنه ليس باعتدال، ونقله عن النص، ولهذا عبر في "المنهاج" عنه بالرفع، وعن الثاني بالاعتدال وبتقدير استحباب ذكره، وهو ظاهر كلام الرافعي فيستحب أن يقول فيه: سمع الله لمن حمده، لأنه ذكر الانتقال. وأما استحباب ما بعدها، وهو ربنا لك الحمد، فقد صرح به الشافعي في "المختصر" وغيره، وهو مشكل لأنه ذكر الاعتدال نفسه لا ذكر الانتقال إلى الاعتدال، ولهذا قال في "التنبيه": فإذا استوى قائمًا [قال] (¬1): ربنا لك الحمد. وقال أيضًا النووي في "شرح المهذب" في باب صفة الصلاة: إن المبلغ خلف الإمام يجهر بسمع الله لمن حمده، ولا يجهر بقوله: ربنا لك الحمد، قال: لأنه ذكر الاعتدال فلم يجهر به كسائر الأذكار المستحبة في الأركان، فإذا تقرر أنه ذكر الاعتدال، فهذا الاعتدال محله القراءة، وليس في الصلاة قيام يستحب فيه الجمع بين ذكر الاعتدال وبين القراءة حتى يلحقه به، وقد ذكر في "شرح المهذب" هنا ما ذكره الرافعي، وزاد فقال: إنه يستحب ربنا لك الحمد. . . . إلى آخره. هذا لفظه. فقوله: "إلى آخره" ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إشارة إلى أنه يقول أيضًا معه: ملء السموات وملء الأرض. . . . إلى آخر الذكر المعروف، وهو أبلغ في الإشكال، وذكر أنه ورد في الصحيحين، لكن الوارد فيهما إنما هو ربنا لك الحمد. واعلم أن كلام الرافعي قد يحمل على ما قاله الماوردي بأن يقال: الرفع الأول قيام، وليس باعتدال في الاصطلاح، إنما الاعتدال هو الثاني. وأغرب العجلي فحكى الخلاف في الاعتدال من الركوع الثاني، وصحح أنه يقوله لصحة الحديث فيه. قوله في "أصل الروضة": وهل يطول السجدة؟ فيه قولان: أظهرهما: لا كما لا يطول التشهد ولا الجلوس بين السجدتين. انتهى. وما جزم به من جعل الخلاف قولين قد خالفه في "المنهاج" فجعله وجهين، والصواب هو المذكور هنا، فإن التطويل منصوص عليه في "البويطي" ومقابله في "الأم" و"المختصر"، والغريب أن الرافعي في "المحرر" قد عبر بالأظهر فعدل عنه إلى لفظ الأصح، وما ذكره الرافعي من عدم التطويل قد خالفه في "الروضة" فقال: الصحيح المختار أنه يطوله، وصححه أيضًا في "شرح المهذب"، وفي "المنهاج" من زياداته، واقتصر في "تصحيح التنبيه" على أنه المختار، وهو يقتضي أن الصحيح خلافه عملًا بما اصطلح عليه في ذلك الكتاب. قوله من زوائده: فإذا قلنا بإطالته فالمختار فيها ما قاله صاحب "التهذيب" أن السجود الأول كالركوع الأول، والسجود الثاني [كالركوع] (¬1) الثاني، وقال الشافعي في "البويطي": يكون نحو الركوع الذي قبله. انتهى كلامه. واعلم أن البويطي قد عبر بقوله: "فيسجد سجدتين تامتين طويلتين ¬

_ (¬1) في ب: كالسجود.

يقيم في كل سجدة نحو ما أقام في ركوعه". هذه عبارته من غير زيادة ولا نقص. ولا شك أن هذا بيان لما يفعله في الركعة الواحدة والسجدتان اللتان في الركعة الأولى قبلهما ركوعان مختلفان في الطول، وظاهر هذا أنه يطول كلًا منهما بقدر الركوع الأول منهما، وهكذا السجدتان في الركعة الثانية يطولهما كذلك، أي كل واحدة بقدر الركوع الأول من تلك الركعة، وكلام "التهذيب" يحتمل أن يريد به ما قاله الشافعي. وحينئذ فيكون مراده بالأول هو الأول من كل ركعة لا الأول مطلقًا، وإلا لزم تطويل سجود الثانية على ركوعها، ويحتمل -وهو الظاهر- أن يريد أن السجدتين من كل ركعة كالركوعين اللذين فيهما فالسجود الأول من الركعة الأولى كركوعها الأول والثاني منه كالثاني، وهكذا الركعة الثانية، وجزم في "المنهاج" بكلام البويطي على إجماله. قوله في "أصل الروضة": ولنا وجه أن الجماعة فيها شرط، ووجه أنها لا تقام إلا في جماعة واحدة، وهما شاذان. انتهى. اعلم أن الأول قد حكاه الرافعي عن الإمام [ثم] (¬1) أنكره عليه فقال: حكاه الإمام عن الصيدلاني، ولم أجده في كتابه هكذا لكن قال: خَرَّجَ أصحابنا وجهين في أنها هل تصلى في كل مسجد أو لا تكون إلا في جماعة واحدة كالقولين في العيد؟ هذا كلام الرافعي. قوله: وذكر أبو سليمان الخطابي أن الذي يجئ على مذهب الشافعي -رضي الله عنه- هو الجهر في صلاة كسوف الشمس. انتهى كلامه. تابعه النووي في "الروضة" على هذا النقل عن الخطابي ثم قال -أعني النووي- في "شرح المهذب": إن ما نقله عن الخطابي لم أره في كتاب له. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قلت: بل نقل المذكور في "معالم السنن" عن الشافعي عكسه وهو الإسرار. قوله: ولو طلع الفجر وهو خاسف أو خسف بعد الفجر صلى على الجديد، وعلى هذا لو شرع في الصلاة بعد الفجر فطلعت الشمس في أثنائها لم تبطل صلاته كما لو انجلى الكسوف في أثنائها. وذكر القاضي ابن كج أن هذين القولين في ما إذا غاب خاسفًا بين الفجر وطلوع الشمس، فأما إذا لم يغب، وبقي خاسفًا فيجوز الشروع في الصلاة بلا خلاف. انتهى. وما قاله ابن كج قد خالفه فيه جماعات كثيرة فقالوا: إن القولين جاريان مطلقًا منهم الشيخ أبو حامد والبندنيجي والدارمي وغيرهم قال في "شرح المهذب": وهو مقتضى إطلاق الجمهور وتعليلهم، وذكر في "الروضة" قريبًا من ذلك. قوله في "الروضة": وإذا اجتمعت صلاتان في وقت واحد قدم ما يخاف فوته، ثم الأوكد، فلو اجتمع عيد وكسوف، أو فرض وكسوف، وخيف فوت العيد أو الفرض لضيق وقته قُدِّم، وإن لم يخف فالأظهر تقديم الكسوف. والثاني: العيد والفرض لتأكدهما. انتهى. وما ذكره من الجزم بطريقة القولين هو المذكور في "المنهاج" أيضًا تبعًا للرافعي في كتبه، وخالف في "شرح المهذب" فقال: الصحيح وبه قطع الاكثرون القطع بتقديم الكسوف. قوله: وروى البيهقي عن أبي قبيل: إن الشمس كسفت لما قتل الحسين. انتهى. قبيل: بقاف مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة بعدها ياء مثناة، ثم لام

ضبطه ابن ماكولا وغيره. قال الذهبي: واسمه حيي مصغرًا، وقيل: حي -مكبرًا- ابن هانيء بن ناصر المعافري المصري، وثقه أحمد وابن معين. قال ابن يونس في "تاريخ مصر": توفي بالبرلس سنة ثمان وعشرين ومائة.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء قوله: أو عارت العيون أو انبثقت الأنهار. انتهى. والكلام هنا في أمرين: أحدهما: في كلمة عارت، ومعناها: ذهاب الماء وهي بالعين المهملة. قال الجوهري في الكلام على عور التي هي بالعين المهملة: وقد عارت العين تعار، قال الشاعر: وسائله بظهر الغيب عني ... أعارت عينه أم لم تعارا والألف في "تعارا" بدل من نون التوكيد الحقيقية، وإن كان إدخالها بعد "لم" شاذًا. وعرت عينه أعورها، وفلاة عوراء لا ماء بها واعورت عينه لغة في عرتها، وعورتها تعويرًا مثله عورت عين الماء إذا كبستها حتى نضب الماء. انتهى ملخصًا. وحاصله أن هذه المادة ثابتة للعين الباصرة، والفوارة، وذكر بعده في الكلام على عير ما يؤيده فقال: وعار في الأرض يعير أي ذهب. وذكر السهيلي في "الروض الأنف" في الكلام علي غزوة بدر في قوله في السيرة فأمر بتلك القلب -أي المياه- التي احتفرها المشركون فعورت كذلك أيضًا فإنه جعله من مادة المهملة، ثم قال: ومن الشاهد بوصف القلب بالعور قول الزاجر: ومنهل أعور إحدى العينين بصيرة الأخرى أصم الأذنين. واعلم أن الغور بالغين المعجمة هو قعر الشيء، والغائر هو الذي سفل وبعد قعره. قال الجوهري: غار الماء غورًا وغؤورًا أي على وزن قعودًا أي سفل في الأرض. هذا لفظه، وهو صحيح لكنه قال بعده: وغارت عينه تغور غورًا وغؤورًا دخلت في الرأس، وغارت تغار لغة فيه، قال الشاعر:

أغارت عينه أم لم تغارا. هذا لفظه، وقد تقدم منه في فصل العين المهملة جعل هذا البيت منها على خلاف المذكور هنا فكان وهم. الأمر الثاني: في الكلام على قوله: انبثقت فاعلم أنه يقال: بثق السيل موضع كذا أي جرفه، وهو بالباء الموحدة والثاء المثلثة والقاف. قوله: وإذا استسقوا فتأخرت الإجابة صلوا ثانيًا وثالثًا حتى يسقيهم الله تعالى. انتهى. والتقييد بالثلاث ذكر مثله في "الروضة"، وهو يوهم عدم الزيادة، وإن كان التعبير بحتى قد يشعر بخلافه، وقد صرح في "شرح المهذب" بأنه لا يتقيد بها، وسبقه إليه الماوردي وغيره. قوله في المسألة: وهل يعودون من الغد أم يصومون ثلاثة أيام قبل الخروج كما يفعلون في الخروج الأول؟ قال في "المختصر": من الغد، وفي القديم: يصومون وقيل: قولان: أظهرهما: الأول. وقيل: على حالين، فإن لم يشق على الناس، ولم ينقطعوا عن مصالحهم عادوا غدًا، وبعد غد، وإن اقتضى الحال التأخير أيامًا صاموا، زاد في "الروضة" فقال: نقل القاضي أبو الطيب عن عامة الأصحاب أن المسألة على قول واحد، فنقل المزني محمول على الجواز، والقديم على الإيجاب. انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن الجمهور على الطريقة الأولى، وهي الحمل علي الحالتين، كذا ذكره في "شرح المهذب" في آخر كلامه على المسألة فتفطن له.

وأما تصحيح الرافعي و"الروضة" ونقل "المختصر" فهو تفريع على طريقة إثبات الخلاف فتأمل ذلك، وتفطن له. الأمر الثاني: أن اقتصاره في إعادة الصوم على القديم غريب فقد نص عليه في "الأم" أيضًا، وممن نقله عنها النووي في "شرح المهذب". الأمر الثالث: إذا قلنا بالخروج في الغد وفي الذي يليه ويكون صائمًا، نبه عليه في "الكفاية". قوله: منها أن يأمر الإمام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل اليوم الذى ميعاد الخروج، وبالتقرب إلى الله تعالى بما يستطيعون من الخير، ثم يخرجون في اليوم الرابع صيامًا. انتهى. ومقتضى هذا الكلام أنهم مأمورون في الاستسقاء بصوم أربعة أيام، وهو كذلك، ولهذا عبر في "البحر" بقوله: ويأمر الناس قبل ذلك أن يصوموا ثلاثًا، ثم يأمرهم أن يخرجوا في اليوم الرابع صيامًا، نص عليه الشافعي في "الأم" لا ما إذا استجبنا لهم أن يقدموا الصيام، فالأولى يوم المسألة. هذه عبارته. وذكر نحوه خلائق كثيرون منهم الشيخ في "المهذب" وأبو خلف الطبري في "شرح المفتاح" وأبو نصر البندنيجي في "المعتمد"، وأوضحه الشيخ نصر المقدسي في كتابه المسمى "بالمقصود" قال: ويأمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، واليوم [الذي يستسقون] (¬1) فيه. هذه عبارته. ثم إن صيام هذه الأيام التي يأمرهم الإمام بها واجب، كذا ذكره النووي في "فتاويه" لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سورة النساء (59).

لكن هل يتعدى ذلك إلى كل ما يأمرهم به من الصدقة وغيرها أم يختص ذلك بالصوم؟ فيه نظر. قوله: وفي إخراج البهائم قصدًا وجهان ذكرهما الإمام أصحهما: أنه يستحب إخراجها لما روى أنها تستسقى، وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لولا رجال ركع وصبيان رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبًا" (¬1) انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ادعاه من حكاية الإمام لوجهين ليس كذلك، بل إنما حكاهما قولين صريحين، فإنه عبر بقوله: وفي استحباب إخراج البهائم تردد في النص. وكذا عبر به أيضًا الغزالي في "البسيط"، ولا شك أن الشافعي قد نص في "الأم" وغيرها على كراهة إخراجهم كما سيأتي إيضاحه. ونقل القفال عن النص أنه يستحب إخراجهم فتبعه على ما نقله تلميذه القاضي الحسين، ثم إمام الحرمين على عادته، وهذا النص غير معروف، حتى أن الروياني في "البحر" لما نقله عنه أنكره مع أن الروياني مشهور بين أهل المذهب بكثرة الاطلاع على نصوص الشافعي حتى حكوا عنه أنه قال: لو ضاعت نصوص الشافعي لأمليتها من صدري. والقفال -رحمه الله- وكثير من أنظاره مع جلالة قدرهم لم يكونوا في النصوص بهذه المثابة إلا صاحب "التقريب" فإنه أعظم من الروياني في ذلك كما تقدم إيضاحه في مقدمة الكتاب. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 309) حديث (785) و"الأوسط" (6539)، والبيهقي في "الشعب" (9820) وفي "الكبرى" (6184) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (965) وابن عدي في "الكامل" (4/ 314) من حديث مالك بن عبيدة الدئلي عن أبيه عن جده، وسنده ضعيف، ضعفه الحافظ، والألباني -رحمهما الله تعالى-.

وكأن قول الشافعي: لا أمنعهم. قد اشتبه على بعضهم فتوهم منه استحباب خروجهم، فقلده القفال فيه. الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوجيز" قد جزم باستحباب إخراج أهل الذمة أيضًا. وذكر الرافعي في شرحه له أن الجمهور سكتوا عنه، وحذف النووي مقالة الغزالي فلم يذكرها في "الروضة" بالكلية. الأمر الثالث: أن تصحيح استحباب إخراج البهائم قد تابعه عليه النووي في "الروضة" والمنهاج، وجزم به في التأليف الذي جمعه في آداب الاستسقاء، وهذه المقالة قد نقلت عن أبي إسحاق المروزي وابن أبي هريرة على كلام فيه يأتي، ورأيتها في تعليق القاضي الحسين وفي الكتاب المسمى "بالطريق السالم" لابن الصباغ، وصرح في هذا الموضع بحوالة فروع وأدعية على كتابه "الشامل"، وفي "التهذيب" للبغوي، و"الوجيز" للغزالي و"الحلية" للروياني، و"الانتصار" لابن عصرون على اختلاف وقع أيضًا في كلام ابن الصباغ والروياني ولم أرَ بعد الفحص من قال بهذه المقالة من المعتبرين غيرها، ولا الثمانية على كلام فيه وقع لثلاثة منهم كما تقدم، وسيأتي ذكره. إذا علمت ذلك فقد نص الشافعي في "الأم" وغيرها على أنه لا يستحب إخراجهم، وذهب إليه جمهور الأصحاب ما بين مقتصر على عدم الاستحباب، ومبالغ يقول بالكراهة، فمنهم الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر"، وأبو القاسم الصيمري في "الكفاية"، وفي شرحها له أيضًا، وأبو على البندنيجي في التعليقة المشهورة المسماة "بالجامع"، وعبر بقوله: السنة أن لا يخرجها، فإن فعل فلا بأس، والمحاملي في "المجموع"، وغيره ناقلًا له عن النص، وجازمًا به، والدارمي في "الاستذكار"، وأبو خلف الطبري في "شرح المفتاح"، وسليم الرازي في "المجرد"، وغيره.

وعبر في "المجرد" بنحو عبارة البندنيجي فقال: وليس في إخراجها استحباب، فإن فعل فلا بأس، والقاضي أبو الطيب في تعليقه، وحكاه عن الأصحاب، وعن نص الشافعي، والماوردي في "الحاوي" فقال: نص عليه الشافعي، وقال به سائر أصحابنا إلا ابن أبي هريرة، ومنهم الشيخ في "المهذب"، وهو مقتضى كلامه، وفي "التنبيه" أيضًا وابن الصباغ والمتولي في "التتمة" وأبو عبد الله الحسين الطبري في "العدة" والروياني في "البحر" والشاشي في "الحلية" ناقلين له عن النص أيضًا، والجرجاني في "الشافي" وذكر في "البحر" نحوه أيضًا، والخوارزمي في "الكافي" ونقله أيضًا عن النص، وأبو نصر البندنيجي في كتاب "المعتمد"، والعمراني في "البيان"، واقتضاه أيضًا كلام ابن أبي هريرة في "شرح المختصر" الذي علقه عنه أبو علي الطبري، فإنه استحب إخراج الشيوخ والعجائز والصبيان، واقتصر على ذلك. وصنع مثله أبو على الزجاجي في "التهذيب" والشيخ نصر في كتابه المسمى "بالمقصود". فهذه نقول الأصحاب متظافرة بعدم الاستحباب على تصريح كثير منهم بالكراهة كما سبقت الإشارة إليه، والقائلون بالاستحباب بالنسبة إليهم في غاية القلة، ولو تساووا لرجحنا بنص إمام المذهب بل يجب المصير إلى النص، ولو كان المخالفون له أكثر، فكيف عند القلة، وكلام النووي هنا في "شرح المهذب" في غاية الاقتصاد أيضًا، ولا شك أن الرافعي والنووي لو اطلعا على هذه النقول لم يذكرا ما ذكراه، إلا أن أكثر هذه الكتب لم يقفا عليها، ومن استقرأ كلامهما وتأمل الكتب التي ينقلان عنها قطع بذلك واعترف به إن كان منصفًا، وأما المعاند أو من لا اطلاع له، المقلد لما يسمعه أو لبعض ما يقف عليه المستريح من مشقة التعب فلا كلام معه، ولله الحمد على التوفيق للصواب.

قال العلماء: والمراد "بالركع" في الحديث: هم الذين قد انحنت ظهورهم من الكبر، ولهذا ورد في رواية أخرى: "لولا شيوخ" بدلًا عن "رجال". وقد نظم بعضهم (¬1) هذا المعنى الوارد في الحديث فقال: لولا عباد للإله ركع ... وصبية من اليتامى رضع ومهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الأوجع قوله: واختلفوا في وقتها فقيل: تختص بوقت العيد، وقيل: تبقى ما لم يصلي العصر، وقيل: لا تختص بوقت. وقد قدمنا عن الأئمة وجهين في كراهتها في الأوقات المكروهة، ومعلوم أن الأوقات المكروهة غير داخلة في وقت صلاة العيد، ولا مع انضمام ما بين الزوال والعصر إليه فيلزم أن لا يكون وقت الاستسقاء منحصرًا في ذلك. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصرح بتصحيح هنا، وقد صرح به في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: وأشبههما أن جميع الليل والنهار وقت لها. وقال في "الروضة": إنه الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأكثرون، وصححه الرافعي في "المحرر" وما نقله عن تصحيح "المحرر" ليس كذلك، فإنه قال: والأشبه أن وقتها لا ينحصر في وقت صلاة العيد. هذه عبارته. ولا يلزم من عدم اختصاصها بوقت صلاة العيد أن لا تختص بوقت، فإن وراء ذلك وجهين آخرين كما تقدم. أحدهما: لا تختص بوقت ويبقى وقتها ما لم يصل العصر، بل مقتضى نقل الرافعي أن القائلين بالأخير أكثر عددًا من القائلين بأنها لا تختص. الأمر الثاني: أن ما قاله من كونه يلزم عدم الانحصار، غريب، فإن ¬

_ (¬1) هو الثعلبي، صاحب التفسير.

وقت الاستواء من أوقات الكراهة بلا نزل، وهو وقت العيد بلا خلاف. وأيضًا فإن الأصح أن وقت العيد يدخل بطلوع الشمس وقد جزم هو به في "المحرر" ووقت الطلوع من أوقات الكراهة. قوله: ويكون في الخطبة الأولى وصدر الثانية مستقبل الناس ومستدبر القبلة، ثم يستقبل القبلة ويبالغ في الدعاء سرًا وجهرًا. انتهى. لم يبين الرافعي ولا ابن الرفعة في كتبهم المراد بالصدر الذي يستقبل عنده، وكذلك النووي في كتبه المطولة وقد بينه في "الدقائق" فقال: هو نحو الثلث. ورأيت في "الكافي" للزبيري أنه عند بلوغ النصف، وقال الروياني في "البحر": يكون عند الفراغ من الاستغفار. واعلم أنه قد ذكر في الدعاء ألفاظًا تحتاج إلى الضبط فنقول: الغيث: المطر، والمغيث: بضم الميم هو المنقذ من الشدة، والهنئ: ممدود مهموز هو الطيب الذي لا ينقصه شئ، وقيل: هو المنمى للحيوان من غير ضرر، والمرئ: بفتح الميم وبالمد والهمز أيضًا هو المحمود العاقبة. والمريع: بميم مفتوحة وراء مكسورة وياء بنقطتين من تحت: هو الذي يأتي بالريع، وهو الزيادة، والنماء: مأخوذ من المراعة وهو الخصب، ويروي بضم الميم مع الباء الموحدة من قولهم: اربع البعير يربع إذا أكل الربيع، ومع التاء المثناة من فوق من قولهم: رتعت الماشية إذا أكلت ما شاءت، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)} (¬1) وتقول العرب: ارتع المطر، إذا أنبت ما ترتع فيه الماشية. والغدق: بالغين المعجمة: الكثير. قال تعالى: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة يوسف (12). (¬2) سورة الجن (16).

والمجلل: بالجيم المفتوحة وكسر اللام وهو الساتر للأفق لعمومه، مأخوذ من تجليل الفرس، أو الساتر للأرض بالثياب. والسيح: بسين مهملة مفتوحة وحاء مهملة أيضًا مشددة هو الشديد الواقع على الأرض أي يسمع له صوت شديد، يقال: سح الماء يسيح إذا سال من فوق إلى أسفل، وساح يسيح إذا جرى على وجه الأرض. وأما طبقًا: فهو بفتح الطاء والباء أى مطبقًا على الأرض يعني مستوعبًا لها يقال: طبق البلاد يطبقها إذا عمها وهو مطابق الدال أي مساوٍ له، والقنوط الناس. واللأواء بالمد: شدة الجوع والجهد، قلة الخير وسوء الحال وهو بفتح الجيم والضم لغة. والضنك: بالضاد المعجمة والنون: هو الضيق. ونشكوا: بالنون في أوله. وبركات السماء: المطر. وبركات الأرض: المرعى. وأما العري: فبعين مضمومة وراء ساكنة ثم ياء مخففة ويجوز فيه كسر الراء وتشديد الياء. قاله الجوهري والمدرار: ففعال من الدر أي القطر، وهو من أبنية المبالغة ومعناه: كثير الدر. قوله من زوائده: قال الشافعي والأصحاب -رحمهم الله-: إذا ترك الإمام الاستسقاء لم يتركه الناس. انتهى. وهذا النص قد بينه في "شرح المهذب" فقال: قال الإمام: إذا صلت الأمصار عن الولاة قدموا أحدهم للجمعة، والعيد والكسوف والاستسقاء. هذا لفظه، ومقتضاه أنهم لا يفعلونه مع وجود الوالي في المصر إذا تركه، وهو متجه للخوف من فوران فتنة.

قوله أيضًا: ولو خطب قبل الصلاة، قال في "التتمة": يجوز، وتصح الخطبة. انتهى. وما نقله عن "التتمة" قد نقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب، وجزم به في "المنهاج"، وأشار ابن المنذر إلى استحبابه. قوله أيضًا من زوائده: ويستحب أن يغتسل في الوادي إذا سال أو يتوضأ. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن التعبير بأو ذكر مثله في "المنهاج" أيضًا، وخالف ذلك في "شرح المهذب" فجزم باستحباب الأمرين معًا فقال: يستحب إذا سال الوادي أن يتوضأ منه ويغتسل، فإن لم يجمعهما فليتوضأ. هذه عبارته. والمتجه الجمع، ثم الاقتصار على الغسل ثم على الوضوء. الأمر الثاني: أن الوضوء والغسل هل هما عبادتان في هذه الحالة حتى ينوي ويغتسل ويتوضأ من لم يكن محدثًا لا ولا جنبًا سواء أدى به صلاة أم لا؟ فيه نظر. والمتجه أن الجملة في ذلك هو الجملة في كشف البدن ليصيبه أول مطر السنة وتناله بركته لأن الاغتسال في السائل كالتكشف للنازل وذاك لا تشرع فيه نية، فكذلك هذا. وإما تشرع فيه النية إذا صادف وقت الوضوء أو غسل، فهل تتوقف النية على الاغتسال فيه ولا تحصل بالاغتسال منه؟ ظاهر الحديث الأول، وقد تقدم الوعد بذكر هذه المسألة. قوله في الزوائد: والسنة أن يقول عند نزول المطر: "اللهم صيبًا نافعًا". رواه البخاري في "صحيحه" (¬1). وفي رواية ابن ماجة: "سيبًا نافعًا" (¬2) مرتين أو ثلاثًا، فيستحب الجمع ¬

_ (¬1) حديث (985) من حديث عائشة -رضى الله عنها-. (¬2) أخرجه ابن ماجة (3889).

بينهما. انتهى كلامه. الصيب: بصاد مفتوحة وبعدها ياء مثناة من تحت مكسورة ثم باء موحدة هو المطر. كذا نقله البخاري في "صحيحه" (¬1) عن ابن عباس. وقال الواحدي: إنه المطر الشديد، وهو مأخوذ من قولهم: صاب يصوب إذا نزل من علو إلى أسفل، وقيل: الصيب: السحاب. والسيب: بسين مفتوحة وياء مثناة ساكنة بعدها باء موحدة هو العطاء. أو المراد بقوله: "يستحب الجمع بينهما" أى بين رواية البخاري وابن ماجة. كذا ذكره النووي في "شرح المهذب". قوله فيها أيضًا: ويستحب أن يقول بعد المطر: مطرنا بفضل الله تعالى ورحمته، ويكره أن يقول: مطرنا بنوء كذا، فإن اعتقد أن النوء هو الممطر الفاعل حقيقة كفر فصار مرتدًا. انتهى. النوء بنون مفتوحة وواو ساكنة بعدها همزة، وقد تكلم الجوهري عليه كلامًا حسنًا فقال: النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع الذي يرقبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يومًا، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها في سلطانه فتقول: مطرنا بنوء كذا، والجمع: أنواء، ونوآن، أى مثل عبد وعُبدان. انتهى كلام الجوهري. وأراد بالمنازل: النجوم وهي ثمانية وعشرون نجمًا. ¬

_ (¬1) (1/ 349).

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز قوله: يستحب لكل أحد ذِكْرُ الموت، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات" (¬1). يعني: الموت. انتهى. الهاذم: بالذال المعجمة هو القاطع كما قال الجوهرى، وهو المراد هنا. وقد صرح السهيلي في "الروض الأنف" بأن الرواية بالذال المعجمة، ذكر ذلك في غزوة أحد في الكلام على قتل وحشي لحمزة. واعلم أن الأصحاب قالوا: إنه يستحب لكل أحد الإكثار من ذكر الموت، وعبارة الرافعي تقصر عن إفادة هذا المعنى. قوله: والمختصر يستقبل به القبلة، وفي كيفيته وجهان: أحدهما: يلقى على قفاه، وأخمصاه إلى القبلة. والصحيح: أنه يضطجع على جنبه الأيمن كالموضوع في اللحد، فإن لم يكن لضيق الموضع أو سبب آخر، فعلى قفاه ووجهه وأخمصاه إلى القبلة. انتهى كلامه. وقد خالف ذلك في "شرح المهذب" فقال: إذا تعذر الوضع على الأيمن وضع على الأيسر، فإن تعذر فعلى قفاه، وحيث وضع على قفاه فيرفع رأسه قليلًا، كذا ذكره البندنيجى، وجزم به في الشرح المذكور. قوله: ويستحب أن يكفنه غير الورثة. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2307) والنسائي (1824) وابن ماجة (4258) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن غريب. وقال الألباني: حسن صحيح.

قال في "شرح المهذب"، هكذا قالوه، وينبغي أن لا يكفنه من سهمه مطلقًا ليدخل فيه الوارث والحاسد والعدو. قوله: واستحب بعض التابعين قراءة سورة الرعد أيضًا عند المحتضر. انتهى. واقتصاره على نقل ذلك عن من ذكره قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو يوهم أنه لا يستحب عندنا، أو أن أصحابنا سكتوا عنه، وليس كذلك، فقد [صرح] (¬1) بها من أصحابنا البندنيجي وصاحب "البيان" وأبو عبد الله الطبري صاحب "العدة"، وصاحب "البحر" وغيرهم. قوله: غسل الميت فرض كفاية، وكذا تكفينه والصلاة عليه ودفنه بالإجماع. اعلم أن هذا الكلام يشعر بأن الغسل مجمع عليه، وليس كذلك، فإن [في] (¬2) وجوبه خلافًا، وقد حكى ابن الحاجب قولين في وجوبه عند المالكية. قوله: وهل يجب غسل الغريق؟ فيه وجهان: الظاهر منهما وهو الذي نص عليه الشافعي أنه يجب لأنا مأمورون بالغسل فلا يسقط الفرض عنا إلا بفعلنا. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" فقال: المرجح وجوبه، ثم عكس ذلك في "المحرر" فقال: ولا يشترط فيه الغسل في أصح الوجهين حتى يجوز أن يغسل الكافر المسلم ولا يجب غسل الغريق. انتهى لفظه بحروفه. وقد استدرك النووي في "المنهاج" على "المحرر" وصحح فيه الوجوب. [قوله] (¬3) ويكره للغاسل أن ينظر إلى شئ من بدنه إلا لحاجة بأن يريد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من جـ.

معرفة المغسول. انتهى. تابعه في "الروضة" على الكراهة، وخالف في "شرح المهذب" فقال: وإن نظر إليه أو مسه بلا شهوة لم يكره، بل هو تارك للأولى. وقال بعض أصحابنا: يكره. هذه عبارته. قوله: ولا يفغر فاه. هو بالفاء والغين المعجمة أى يفتحه. يقال: فغر فاه، أى فتحه، وفُغِر فوه أى انفتح فيستعمل متعديًا وقاصرًا. قاله الجوهري. قوله: والغسلة التي بالماء والسدر، والغسلة الواقعة بعدها، وهي المزيلة لذلك هل يحسبان من الثلاث؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، بل الثلاثة المحسوبة إنما هي بالماء الصرف. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وجزم في "المحرر" بما حاصله الحسبان فقال: ويستحب التثليث وأن يستعان في الأولى بالسدر والخطمي. هذا لفظه، وهو صريح فيما قلناه. وذكر النووي الموضعين كذلك في "الروضة" و"المنهاج" وصحح في "شرح المهذب" كما في "الروضة" وهو الصواب. قوله: ويستحب أن يجعل في كل ماء قراح كافورًا. انتهى. هذه العبارة قاصرة، فإنها لا تقتضي أن تركه مكروه مع أنه يكره الترك كما نص عليه الشافعي في "الأم" فقال في باب عدد غسل الميت وهو بعد أبواب القرعة بين العبيد ما نصه: ولا يغسله بشئ من الماء إلا ألقى فيه كافورًا للسنة فإن لم يفعل كرهته. هذا لفظه بحروفه. قوله في "أصل الروضة": فإن خرجت من الميت نجاسة في آخر الغسلات أو بعدها وجب غسل النجاسة قطعًا بكل حال. انتهى كلامه.

ليس كما قال من دعوى القطع، فقد جزم البغوي في "فتاويه" بأنه لا يجب غسلها إذا كان الخروج بعد التكفين، ولم يصرح الرافعي بدعوى القطع، وإن كان في كلامه إشعار بذلك. قوله في المسألة: وهل يجب مع غسلها شئآخر؟ فيه أوجه: أصحها: لا. والثاني: يجب الوضوء. والثالث: يجب الغسل. ثم قال: فإن أوجبنا الوضوء اختص بالخارجة من السبيلين، وإن أوجبنا الغسل ففي إعادة الغسل لسائر النجاسات احتمال لإمام الحرمين. انتهى. وهذا الاحتمال ضعيف أو باطل كما قاله في "شرح المهذب" لأنه لا فرق بين هذه النجاسة ونجاسة أجنبية تقع عليه. وقد اتفقوا على أنه يكفي غسلها، وذكر في "الروضة" أيضًا أن الصحيح الجزم بأنه لا تجب إعادة الغسل. قوله: ولو وطئت بعد الغسل فإن قلنا بإعادة الغسل أو الوضوء للنجاسة وجب هنا الغسل، وإن قلنا بالأصح لم يجب هنا شئ. انتهى. هكذا أطلقه الأصحاب، وينبغي كما قال النووي في زيادات "الروضة" و"شرح المهذب": أن يكون فيه خلاف ينبني على نجاسة باطن فرجها فإنها خرجت على الذكر وتنجس بها ظاهرًا الفرج. قوله: ولم يتعرض الجمهور للفرق بين أن تخرج النجاسة قبل الإدراج في الكفن أو بعده. وأشار صاحب "العدة" إلى تخصيص الخلاف في وجوب الغسل والوضوء بما قبل الإدراج. انتهى كلامه.

وما قاله صاحب "العدة" قد صرح به أيضًا المحاملي في "التجريد" والقاضي أبو الطيب في "المجرد" والسرخسي في "الأمالي" والروياني في "البحر" فاحتج له السرخسي بأنا لو أمرناه بإعادة ذلك لم يأمن مثله في المستقبل فيؤدي إلى ما لا نهاية له. قال في "شرح المهذب" بعد نقله عن بعض من تقدم: إن إطلاق من أطبق محمول عليه. قوله: والثاني: المحرمية، وسياق الكلام في الكتاب يقتضي تجويز الغسل للرجال المحارم مع وجود النساء؛ لكن لم أرَ لعامة الأصحاب تصريحًا بذلك، وإنما يتكلمون في الترتيب ويقولون: إن المحارم بعد النساء أولى. انتهى كلامه. وحاصله إقرار الغزالي على الجواز، وأنه لم يرَ التصريح بها لأحد، والذي ذكره غريب، فقد صرح هو بعد ذلك بدون ورقتين بنقل المسألة عن جماعة واقتضى كلامه الجزم بالمنع فقال قبيل الكلام على ما يصنع بالمحرم: ولو أن المقدم في أمر الغسل سلمه لمن بعده جاز له تعاطيه بشرط اتحاد الجنس، فليس للرجال كلهم التفويض إلى النساء، وبالعكس ذكره الشيخ أبو محمد وغيره، وقد حكاه المصنف في "الوسيط" بعد إطلاق الغسل المتأخر، وأشعر كلامه بوجهين في اعتبار الشرط المذكور. هذا لفظه. ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير"، وفي "الروضة" نقلهما ابن يونس صاحب "التعجيز" في شرحه للتعجيز وقال: إن الصحيح منهما هو الجواز. وقال الإمام: عندي في جواز تفويض المقدم إلى غيره احتمالان. قوله: وإذا غسل أحد الزوجين صاحبه لف على يده خرقة ولا يمسه، فإن خالف، قال القاضي الحسين: يصح الغسل ولا يبني على الخلاف في

انتقاض طهر الملموس. انتهى. زاد في "الروضة" فقال: وأما وضوء الغاسل فينتقض. قاله القاضي الحسين. وهذا الذي ذكره مكرر ناقص، فقد ذكر الرافعي في باب النواقص أن مس الميتة ناقض على الصحيح. قوله: فإن كن -يعني الإماء- متزوجات أو معتدات لم يكن للسيد غسلهن. انتهى. استدرك في "الروضة"، "وشرح المهذب" فقال: والمستبرأة كالمعتدة في ذلك. هذا كلامه. وما ذكر في المستبرأة غير مستقيم، فإن كان استبراؤها لأجل ملكه لها بالسبي من بلادها فإن الأصح أنه يجوز له أن يستمتع بها جميع الاستمتاعات ما عدا الوطء كالقبلة واللمس والنظر بشهوة. وحينئذ فيجوز له غسلها بطريق الأولى، وإن ملكها بغير ذلك فلا تحرم عليه الخلوة بها ولا اللمس، والنظر بغير شهوة كما ذكروه في بابه. وحينئذ فلا يمتنع أيضًا الغسل. وحكى الرافعي في باب الطهارة وجهًا أنه يجوز للزوج أن يستمتع بزوجته المعتدة عن شبهة غيره. نعم حكى في "البحر" وجهين في جواز تغسيل السيد لهذه الأمة. قوله: وهل يجوز لأم الولد والمدبرة والأمة غسل السيد؟ وفيه وجهان: أظهرهما: المنع. ثم قال: وليس للمكاتبة غسل السيد فإنها كانت محرمة عليه قبل الموت. انتهى.

وهذا التعليل يقتضى أن تكون الزوجة والمعتدة والمستبرأة كالمكاتبة حتى يمتنع جزمًا، وقد صرح به الشيخ أبو على في "شرح التلخيص" والبغوي وغيرهما، واستثناه في "شرح المهذب"، و"زيادات الروضة". قوله: الثانية: الخنثى المشكل إذا مات، وليس هناك محرم له، نظر فإن كان كبيرًا فهل يغسل؟ فيه وجهان كالوجهين في ما إذا مات رجل، وليس هناك إلا امرأة أجنبية أو بالعكس. انتهى. وهذه العبارة مشعرة بأن الصحيح في الخنثى أنه لا يغسل؛ لأنه الصحيح عند الأكثرين في الصورة المشبهة بها. وقد تعرض الرافعي لحكم الخنثي في كتاب النكاح، وصرح بتصحيح الأخذ بالأغلظ في حقه، كما دل عليه كلامه هنا، فيجعل في حق الرجال امرأة، وفي حق النساء رجلًا فقال: فرع: في الخنثى المشكل وجهان: أظهرهما: الأخذ بالاحتياط فيجعل بالإضافة إلى النساء رجلًا، وبالإضافة إلى الرجال امرأة. وعن القفال: الحكم بالجواز استصاحبًا لما كان في الصغر. انتهى. وقد وافق النووي في "الروضة" على ما قاله الرافعي في الموضعين إلا أنه في النكاح نقل من زياداته عن جماعة أنهم قالوا بمقالة القفال. إذا علمت ذلك فقد خالف في "شرح المهذب" فقال بعد حكاية الخلاف والبناء ما نصه: الصحيح منهما باتفاق الأصحاب، أنه يغسل. قال: وإذا قلنا به جاز للرجال والنساء غسله على الصحيح. انتهى. وهذا الذي قاله هو المذكور في "الحاوي الصغير"، ورأيت في "شرح التعجيز" لابن يونس مصنف الكتاب وجهًا أنه لا يغسل، ولا يُيمم وعزاه إلى "البحر"، ولا ذكر له في "البحر" في كتاب الجنائز. نعم في زوائد "الروضة" وجه كذلك في ما إذا مات رجل، وليس

هناك إلا امرأة أجنبية وبالعكس وحينئذ فيجري في مسألتنا عند من ألحقها بذلك. قوله في أصل "الروضة": فإن كان الميت رجلًا غسله أقاربه، وهل تقدم الزوجة عليهم؟ وجهان، ثم ذكر من زياداته أن فيه ثلاثة أوجه: أصحها: يقدم رجال العصبات ثم الرجال الأجانب ثم الزوجة ثم النساء المحارم. . . . إلى آخر ما قال. فية أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكر كلامًا يؤخذ منه الترجيح في مسألة الزوجة فحذفه النووي فإنه قال: فيه وجهان سنظهر توجيههما، وأشار بذلك إلى عكسه، وهو تقديم الزوج على نساء القرابة، ثم صحح الرافعي فيها -أى في مسألة العكس- عدم التقديم. الأمر الثاني: أنه أهمل ذكر الوالي، والصواب أن يقول: ثم الوالي ثم الرجال الأجانب. وقد ذكره كذلك الجرجاني في "التحرير" وفي "الشافي" أيضًا. الثالث: أن هذا الترتيب الذي ذكره غلط، فإن الترتيب هنا كترتيبهم في الصلاة كما صرح به الرافعي في "المحرر" وأشعر به كلامه هنا. وحينئذ فإذا فقدنا العصبات قدمنا المعتق [ثم عصبته ثم ذوي الأرحام فيقدم أبو الأم ثم الأخ للأُم ثم الخال] (¬1) ثم العم للأم. انتهى. فيكون الأجانب متأخرين عن الجميع. قوله: وإن كان الميت امرأة قدم النساء فتقدم نساء القرابة وأولاهن ذات رحم [محرم] (¬2). انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

ذكر مثله في "الروضة" وهو يقتضي أن بنت العم البعيدة إذا كانت أُمًا من الرضاع مثلًا تقدم على بنت العم القريبة، وكلامهم يشعر بخلاقه، وبأن المراد بتحريمها أن يكون من جهة الرحم، ولهذا لم يعتبروا هنا الرضاع بالكلية. قوله في المسألة: وبعد نساء القرابة تقدم الأجنبيات. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، ويرد عليه ذات الولاء، فإنها مقدمة على الأجنبيات، نص عليه الشافعي، وجزم به في "شرح المهذب". قوله في المحرم: ولا بأس بالتجمير عند غسله كما لا بأس بجلوسه عند العطار. انتهى. هذا الكلام يشعر بعدم الكراهة في المسألتين، فإن [الغالب] (¬1) استعمال هذه الصيغة في نفي الكراهة وليس كذلك فقد ذكر الرافعي أن المحرم إذا جلس في دكان عطار أو في موضع تجمير بقصد الرائحة أنه يكره في أصح القولين وأما تجمير الميت المحرم فقياس ما تقدم أن يكره أيضًا لأنهم أقاموا فعلهم به بعد الإحرام مقام فعله في حال الحياة، إلا أن يقال: اغتفر ذلك للرائحة الكريهة. قال في "الروضة": قال أصحابنا: وإذا طيب المحرم أو ألبسه مخيطًا عصى ولا فدية، كما لو قطع عضوًا من ميت. قوله: وهل تقلم أظفار غير المحرم من المولى ويؤخذ من شاربه وشعر إبطه وعانته؟ فيه قولان: القديم: لا كما لا يختن. والجديد: نعم. ثم قال: والقولان في الكراهة، ولا خلاف في أن هذه الأمور لا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تستحب، كذلك ذكره القاضي الروياني. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يوهم الاتفاق على عدم الختان وليس كذلك، بل فيه ثلاثة أوجه مشهورة: أصحها: ما قاله. والثاني: نعم. والثالث: يختن البالغ دون الصبي، وقد حكى النووي هذه الأوجه. الأمر الثاني: أن ما قاله الروياني من كون القولين في الكراهة قد عزاه في "الروضة" إلى الرافعي نفسه ذهولًا ثم استدرك عليه وبالغ في الاستدراك فقال: قلد الرافعي الروياني في قوله: لا يستحب بلا خلاف، وإنما الخلاف في الكراهة وعدمها وكذا قاله أيضًا الشيخ أبو حامد والمحاملي، ولكن صرح الأكثرون أو الكثيرون بخلافه فقالوا: الجديد أنه يستحب، والقديم يكره؛ ممن صرح بهذا صاحب "الحاوى" والقاضي أبو الطيب، والغزالي في "الوسيط" وغيرهم، وقطع أبو العباس الجرجاني بالاستحباب. وقال صاحب "الحاوي": القول الجديد أنه مستحب، وتركه مكروه، وعجب من الرافعي كيف يقول ما قال، وهذه الكتب مشهورة لاسيما "الوسيط"؟ وقال جماعة: إن القديم هنا أصح، وهو المختار؛ إذ لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة فيه شئ معتمد، وأجزاء الميت محترمة فلا تنتهك بهذا. انتهى كلامه في "الروضة". فانظر كيف لم ينقله عن الروياني كما نقله الرافعي عنه، بل أوهم أن الرافعي هو قائل ذلك -ثم شنع عليه هنا وفي "شرح المهذب" وهو

اختصار عجيب، وسببه أنه حالة تصنيف "الروضة" حذف الإعزاء إلى "الروضة" ظنًا منه أن الأمر كما قاله، ثم بعد ذلك نظر فوجد الأمر بخلافه فاستدرك على الرافعي ظنًا منه أنه لم يغير كلامه. نعم صرح بذلك في "الشرح الصغير" ولم ينقله عن الروياني، وما ذكره في "الروضة" أيضًا من كون الإبقاء هو القديم قد عزاه البندنيجي إلى نصه في "الأم" وعامة كتبه. قوله: ونقل -يعني الروياني- تفريعًا على الجديد أنه يتخير الغاسل في شعر الإبط بين النتف والإزالة بالنورة، ويأخذ شعر العانة بالجلم أو الموسى أو النورة. وحكى عن بعض الأصحاب أنه لا يزال إلا بالنورة احترازًا عن النظر إلى الفرج. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح في شعر العانة هو التخيير أيضًا كذا صححه النووي في أصل "الروضة" فافهمه، وصححه أيضًا من زياداته. الأمر الثاني: أنه احترز بشعر الإبط والعانة عن الشارب فإنه يقصه كالحياة ويكره حفه في الحى والميت وقد نبه عليه في "الروضة" أيضًا قال: وتفعل هذه الأمور قبل الغسل، قال: ولم يتعرض الجمهور لدفن هذه الأجزاء معه. وقال صاحب "العدة": ما يأخذه منها يُصَرُّ في كفنه، ووافقه القاضي الحسن، وصاحب "التهذيب" في الشعر المنتف في تسريح الرأس واللحية كما تقدم، وقال به غيرهم. وقال صاحب "الحاوي": الاختيار عندنا أنه لا يدفن معه إذ لا أصل له.

القول في التكفين

والجلم: بجيم ولام مفتوحتين هو المقص الذي يحز به ما على البهائم من صوف وشعر ووبر، ونقول لمجموع الشفرتين: الجلمان كقولك مقصان. قال -رحمه الله-: القول في التكفين قوله: وجنسه في حق كل ميت ما يجوز له لبسه في حال الحياة فيجوز تكفين المرأة بالحرير، لكنه يكره لأنه سرف غير لائق بالحال. انتهى كلامه. ويؤخذ من هذا التعليل بمقتضى كراهة المزعفر، والمعصفر أيضًا، والأمر فيه كذلك على المذهب وقد نبه عليه النووي في "الروضة" فقال: وأما المزعفر والمعصفر فلا يحرم تكفينها فيه، لكن يكره على المذهب، وفيه وجه: لا يكره. هذا كلامه. وذكر مثله في "شرح المهذب" وليس فيها بيان حكم الرجل، ومذهب الشافعي أنه يجوز تكفينه بالمعصفر دون المزعفر، وقد سبق بيان ذلك في باب ما يجوز لبسه وما لا يجوز من "الروضة" على كلام فيه للبيهقي. قوله: ثم شرط صاحب الكتاب في الثوب الأقل أن يكون ساترًا لجميع البدن، وهكذا ذكر الإمام وكثير من الأصحاب، وحكى آخرون من العراقيين وغيرهم أن الواجب قدر ما يستر العورة، وعلى هذا فيختلف الحال باختلاف حال الميت في الذكورة والأنوثة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الراجح هو الوجه الثاني وهو ساتر العورة فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أولاهما لنص الشافعي، وصححه النووي في "شرح المهذب" وفي "زيادات الروضة"، ونقله عن الجمهور، ولم يتعرض لبيان ذلك في "المحرر". واختار صاحب "الحاوي الصغير" الوجه الأول، وما رجحه الرافعي

والنووي هناك يشكل على ما جزما به في كتاب النفقات من أنه لا يجوز الاقتصار في كسوة العبد على ساتر العورة، وإن كان لا يتأذى بالحر والبرد، وعلله الرافعي بقوله: لأن ذلك يعد تحقيرًا وإذلالًا، فإذا امتنع ذلك في الحي الرقيق فامتناعه في الميت الحر بطريق الأولى لأن الناس يتكلفون للميت ما لا يتكلفون للحي، ويعدون ترك [ذلك] (¬1) إزراء بالميت لكونه خاتمة أمره. الأمر الثاني: أن تقييده الاختلاف المتقدم بالذكورة والأنوثة يشعر بأن الاختلاف في الرق والحرية لا أثر له حتى يستوى كفن الحرة والأمة، قال ابن الرفعة في "الكفاية": وهذه المسألة سكت عنها الأصحاب. قال: والظاهر أنه لا فرق بين الحرة والأمة لأن الرق يزول بالموت؛ والذي قاله من التسوية ظاهر، وما ادعاه من كون الرق يزول بالموت والذي قاله قد صرح به الرافعي في كتاب الإيمان في الباب الثاني المعقود للكفارة، غير أن النووي قد ذكر في "شرح المهذب" كلامًا يشعر بعدم التسوية فإنه قال: والأصح أن الواجب هو ساتر العورة وهو جميع بدن الحرة إلا وجهها وكفيها. فانظر كيف قيد التعميم بكونها حرة، إلا أن يقال: إن الأمة لا تخرج عن كلامه لأنها بعد الموت حرة كما قلناه، غير أنه على هذا التقدير لا يبقى معنا شئ خط يخرج بهذا التقييد، ورأيت في "شرح التلخيص" للشيخ أبي علي السنجي الجزم بأن الرق لا يزول بالموت يقال ما نصه: لأن السيد يغسل أمته ومدبرته أم ولده إذا متن لا يختلف أصحابنا فيه لأنهن متن في ملكه فيستبيح غسلهن بعد الموت كما كان يستبيح في حال الحياة، والدليل على بقاء الملك بعد الموت أن على السيد الكفن ومؤنة القبر. هذا لفظه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بحروفه. قوله: الثالثة: الثوب الواحد على ما وصفناه حق الله تعالى لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه [والثاني والثالث حق الميت. انتهى. وحاصله أن الذي لا تنفذ الوصية بإسقاطه] (¬1) إنما هو المقدار الواجب حتى إذا قلنا بالصحيح، وهو الواجب ساتر العورة فقط نفذنا وصيته بإسقاط الزائد. وقد أوضحه في "الروضة" فعبر بقوله: والثوب الواجب -أعني بالجيم والباء- كذا رأيته في "الروضة" التي هي بخطه، وهو القياس أيضًا. ووقع في "شرح المهذب" أنه إذا [أوصى] (¬2) بساتر العورة أنه لا تنفذ وصيته، وكأنه اغتر بجواب الإمام والغزالي بذلك، وهما إنما أجابا به، لأن الواجب عندهما هو ما يعم البدن فتفطن له. قوله: ولو لم يوصِ وأراد بعض الورثة الاقتصار على ثوب واحد فقيل: لا يجاب قطعًا، وقيل: فيه وجهان. وظاهر المذهب أنه لا يجاب. ثم قال: فلو اتفق الورثة على تكفينه في ثوب واحد فقد قال في "التهذيب" يجوز. وطرد صاحب "التتمة" الخلاف فيه. انتهى كلامه. لم يرجح شيئًا من هاتين المقالتين في "الشرح الصغير" أيضًا وقال في "شرح المهذب"، و"زيادات الروضة": إن قول "التتمة" أقيس. ولم يذكر غيره. ومقتضاه ترجيح التكفين في الثلاث، وهو الذي اختاره صاحب "الحاوي الصغير" أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

قوله: الرابعة: محل الكفن رأس مال التركة إن ترك الميت مالا يقدم على الديون والوصايا والميراث. نعم لا يباع المرهون في الكفن ولا العبد الجاني ولا المال الذي فيه الزكاة فإنه كالمرهون، ثم استدرك النووي على هذا الكلام فقال: يلحق بالثلاثة المبيع إذا مات المشترك مفلسًا وقد ذكره الرافعي في الفرائض. انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن الاستثناء خاص بهذه الصورة ولأجل ذلك استدرك النووي صورة أخرى، وليس الأمر على هذا الحصر، فإنهما قد صرحا في كتاب الفرائض بأن كل حق تعلق بعين المال فإنه يقدم. وصرح به أيضًا النووي في "المنهاج" و"تصحيح التنبيه" وحينئذ فتدخل فيه مسائل أخرى. إحداها: ما أورده على الرافعي وهو المبيع إذا مات المشتري مفلسًا. الثانية: إذا مات [رب الدين] (¬1) قبيل قسمة مال القراض فإنه يقدم حق العامل على الكفن لأن الرافعي في كتاب القراض قد صرح بأن حقه متعلق بالعين. الثالثة: المعتدة عن الوفاة بالحمل سكناها مقدم على التجهيز، لأن الرافعي قد نص في كتاب العدد على امتناع بيعها للجهل بمقدار زمن العدة. الرابعة: نفقة الأمة المزوجة وإن كانت ملكًا للسيد قال الرافعي: إلا أن حقها يتعلق بها. قال: كما أن كسب العبد ملك للسيد، ويتعلق به نفقة زوجته. الخامسة: كسب العبد بالنسبة إلى نفقة زوجته كما ذكرناه. السادسة: إذا قبض السيد نجوم الكتابة، ثم مات قبل الإيتاء ومال الكتابة باقٍ، ففي "الشرح" و"الروضة" أن حق العبد يتعلق بعينه. ¬

_ (¬1) في ب: رب المال.

وحينئذ فيقدم. السابعة: إذا أعطى الغاصب قيمة العبد أو غيره للحيلولة ثم قدر على العبد، فإنه يرده ويرجع بما أعطاه. فإن كان المعطي تالفًا تعلق حقه بالعبد وقدم به كما نص عليه في "الأم" في كتاب الإقرار بالحكم الظاهر فقال: وإذا أحضر الغاصب العبد الذي غصبه إلى سيده جبرت سيده على قبضه منه، وزاد الثمن عليه، فإن لم يكن عند سيده ثمنه، قلت له: بعه إياه بيعًا جديدًا إن رضيتما حتى يحل له ملكه، فإن لم يفعل بعت العبد على سيده، وأعطيت الغاصب مثل ما أخذ منه، وإن كان لسيده غرمًا لم أشركهم في ثمن العبد لأنه عبد قد أعطى الغاصب قيمته هذا لفظه، ونقله في "المطلب" في الغصب. قوله: وهل يجب على الزوج تكفين الزوجة ومؤنتها؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، لأنها في نفقته في حال الحياة، فعلى هذا لو لم يكن للزوج مال فحينئذ يجب في مالها. انتهى. وكلامه في "الشرح الصغير" كالصريح أنه إنما يجب على الزوج إذا لم يكن لها مال، على عكس ما جزم به في "الكبير"؛ وذكر مثله أيضًا في "المحرر"، وتبعه عليه النووي في "المنهاج" فقال: ومحله أصل التركة فإن لم يكن فعلى من عليه نفقته من قريب وسيد، وكذا زوج في الأصح. هذا لفظ "المنهاج"، وهو صريح فيما قلناه، مع أنه قد جزم بعكسه في "الروضة"، وكذلك في "شرح المهذب" وبالغ فيه فقال: قيد الغزالي وجوب الكفن على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه. هذا لفظه. وإذا علمت ما تقدم علمت أن ما وقع في "الكبير" و"الروضة" هو الصواب.

قوله: قد ذكرنا أن العدد المستحب في كفن الرجل ثلاثة أثواب، ثم قال: وأما المرأة فيستحب أن تكفن في خمسة أثواب. انتهى. واتفقوا على أن الخمسة في حق المرأة ليست كالثلاثة في حق الرجل حتى نقول: يجبر الورثة على الخمسة كما يجبرون على الثلاثة. كذا قاله إمام الحرمين، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة"، وارتضاه. قوله: وإن كفنت المرأة في خمسة فقولان: الجديد: إزار وخمار وثلاث لفائف. والقديم: وهو الأظهر عند الأكثرين: إزار وخمار وقميص ولفافتان. وهذه المسألة مما يفتى فيه بالقديم. انتهى ملخصًا. وجعله هذه المسألة من المأخوذ فيها بالقديم ليس كذلك فقد قال الشيخ أبو حامد والمحاملي: المعروف للشافعي في عامة كتبه أنه يكون فيها قميص. قالا: والقول الآخر لا يعرف إلا عن المزني، فعلى هذا الذي نقلاه لا يكون التكفين في القميص مختصًا بالقديم، وقد نبه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" على ذلك. قوله: ويبسط أحسن اللفائف وأوسعها، ويدر عليها حنوط، ويبسط الثانية فوقها، ويدر عليها الحنوط، ويبسط الثالثة التي تلي الميت فوقها، ويدر الحنوط أيضًا عليها. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، وإنما كان البسط لأحسن اللفائف أولًا لأنه الذي يعلوا على الكفن إذا لف على الميت والحي يجعل أحسن ثيابه أعلاها، فيفعل ذلك بالميت وأما الأوسع فلإمكان لفه على الأضيق بخلاف العكس. إذا تقرر هذا ففيه أمران:

أحدهما: إنما اعتبر التفاوت في الوسع دون الطول لأن الصحيح استحباب استواء الجميع فيه. نعم إذا لم نجد إلا المتفاوتة فيه أو فرعنا على استحبابه بدأنا بالأطول فالأطول. الأمر الثاني: أن النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية" قد قالا: إن اللفافة التي تلي الأولى في الحسن والسعة تجعل فوق الأولى والتي تلي الثانية في ذلك فوق الثانية، فعلى هذا يكون المراد بالثانية والثالثة إنما هو في المرتبة لا مدلولها من جهة العدد، لأن اللفظ العددي لا إشعار له بحسن ولا سعة. وعلى هذا فلو قرئ فيها بتاء مثناة من فوق ولام بعد الألف ثم بالمثناة من تحت لكان أحسن، والتقدير: ثم اللفافة التي تتلو الأولى في ذلك، ثم التي تتلو الثانية. قوله: ثم يلف الكفن عليه بأن يثني من الثوب التي تلي الميت صنفته التي تلي شقه الأيسر على شقه الأيمن. . . . إلى آخره. الصنفة: بصاد مهملة مفتوحة ثم نون مكسورة، ثم فاء مفتوحة تليها تاء التأنيث هي الطرف الذي لا هدب له من الإزار، قاله الجوهري. وقد كرر الرافعي هذه اللفظة، وأبدلها النووي بالطرف طلبًا للإيضاح. قوله: الثانية: المشي أمام الجنازة أفضل، وبه قال مالك، ويروى مثله عن أحمد، ويروى عنه إن كان راكبًا سار خلفها، وإن كان راجلًا فقدامها. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا ثم خالف -أعني الرافعي- في "شرح مسند الإمام الشافعي"، فجزم فيه بأن الراكب يكون خلفها، وزاد على ذلك فادعى الاتفاق عليه، وهو غلط عجيب، فإنه لا خلاف عندنا

أنه يكون قدامها مطلقًا. وأما التفصيل فهو مذهب أحمد كما ذكر في الشرحين، وقد صرح أيضًا بالمسألة جماعة منهم الماوردي في "الحاوي" والإمام في "النهاية". والذي أوقع الرافعي في هذه الدعوى الفاسدة هو الإمام أبو سليمان الخطابي، فإنه ادعى ذلك فوجده الرافعي في كتابه حالة شرحه للأحاديث، فأخذ منه غير مستحضر ما قرر هو وغيره في التصانيف الفقهية وإلا فهذا الكتاب أعني "شرح المسند" متأخر عن "الشرح الكبير". قوله من "زوائده": قال الصيمري: لا يستحب أن يعد لنفسه كفنًا لئلا يحاسب عليه، وهذا الذي قاله صحيح إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها، أو من أثر بعض أهل الخير من العلماء أو العباد ونحو ذلك، فإن ادخاره حسن وقد صح عن بعض الصحابة فعله. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تصحيح ما قاله الصيمري عجيب لأن أمواله كلها يحاسب عليها، فلو ترك الذي يريد أن يوصي به لانتقل إلى الورثة، وحوسب عليه وعوقب إن كان حرامًا، ولا شئ عليهم. نعم يصح هذا الكلام على صورة وهي السعي في تحصيله بإيهاب أو غيره إذا لم يكن له مال غيره أصلًا، فتفطن لذلك. وقال الروياني: عندي أنه يستحب له ذلك -أي إعداد الكفن- ليعرف خلوه من الشبهة. وهذه المسألة لها التفات إلى مسألة أخرى، وهي ما إذا أوصى بالتكفين في ثوب معين، فهل يجب تكفينه فيه؟ على وجهين حكاهما القاضي الحسين في كتاب السرقة من كتابه المسمى "أسرار الفقه" وهو كتاب صغير الحجم نحو "التنبيه"، ونقلهما عنه في "الكفاية" أيضًا.

قال -أعني القاضي: وهما مبنيان على ما لو قال: اقضِ ديني من هذا المال. وفي تعيينه وجهان ينبنيان أيضًا على ما لو أوصى بقضاء دينه وبخاص أهل الوصايا. الأمر الثاني: أن النووي قد أشار بقوله: "وقد صح عن بعض الصحابة" إلى ما رواه البخاري في "صحيحه" عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عليه بردة فطلبها رجل منه فأعطاه إياها، فقال له الصحابة: ما أحسنت سألته وعلمت أنه لا يرد، فقال: أي والله ما سألته لألبسه إنما سألته ليكون كفنى. قال سهل - رضي الله عنه -: فكانت كفنه (¬1). قوله أيضًا من زوائده: إن المنصوص الذي قال به الأكثرون أنه لا يستحب القيام للميت، نص الأكثرون على كراهته، وانفرد صاحب "التتمة" باستحبابه. انتهى. خالف في "شرح المهذب" فقال: المختار استحبابه. قال -رحمه الله-: القول في الصلاة. قوله: إحداها: إذا وجدنا بعض مسلم علم بموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: وهذا في غير الشعر والظفر ونحوهما وفي هذه الأجزاء وجهان أقربهما إلى إطلاق الأكثرين أنها كغيرها. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وكذلك النووي في "الروضة" وخالف ذلك في "شرح المهذب" فقال: الأكثرون على أنه لا يصلى عليها. قوله: ومتى شرعت الصلاة فلابد من غسل الموجود ومواراته بخرقة. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (1218).

ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وتابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب"، ومحله في ما إذا كان الموجود من العورة فإن كان من غيره لم يجب ستره، فقد تقدم في الكلام على الكفن أن الواجب إنما هو ساتر العورة على الصحيح عند الرافعي والنووي، ولا يستقيم أن يقال: هذا الميت كامل، والميت لابد من ستره لظهور فساده، فإن الذي أوجبنا ستره من الميت إنما هو العورة، وهو مفقود، لا جرم أن الماوردي جزم بتخريج هذه المسألة على أن الواجب ساتر العورة أم التعميم، وإيجاب دفن العضو قد تقدم في فصل الشعر الواعد بذكره هاهنا. قوله: أما إذا احتلج بعد الانفصال وتحرك ففي الصلاة عليه قولان: أظهرهما: أنه يصلى عليه، ومنهم من قطع به. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح طريقة القولين فقال: يصلى عليه على الأظهر، وقيل: قطعًا. وصحح في "شرح المهذب" طريقة القطع فقال ما نصه: فيه طريقان: المذهب -وبه قطع المصنف والعراقيون: يغسل، ويصلى عليه قولًا واحدًا. والثاني: فيه قولان، وقيل: وجهان. قولة في أصل "الروضة": وإن كان الكافر حربيًا لم يجب تكفينه قطعًا، ولا دفنه على المذهب. انتهى. لم يصحح الرافعي في الدفن شيئًا بالكلية، بل حكى فيه عن صاحب "التهذيب" وجهين، وإن كلام الوجهين مشعر بعدم الوجوب، وذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا. وسكت عن المستأمن، وكلام "المحرر" يشعر بعدم الوجوب فيه، وفي الحربي. قوله: ولو استشهد جنب لم يجز غسله في الأصح، ولا خلاف أنه لا يصلى عليه، وإن غسلناه. انتهى.

وما ادعاه من عدم الخلاف تابعه عليه في "الروضة"، واستدرك في "شرح المهذب" على ذلك فقال: قد سبق لنا وجه أن يصلى على كل شهيد فيجئ ذلك هاهنا. قوله: فيقدم على المذهب الأخ الشقيق على الأخ للأب وقيل: قولان. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" و"شرح المهذب" وخالف في "المنهاج" فصحح طريقة القولين، ولا يرد ذلك على "المحرر" فإنه عبر بالأصح فقط. قوله: ثم ابن الشقيق، ثم ابن الأب ثم العم للأبوين ثم للأب، ثم ابن العم كذلك ثم عم الأب ثم ابنه وهكذا. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو يوهم أن ابن ابن الشقيق يقدم على ابن الأخ للأب، وليس كذلك كما بينوه في الفرائض. فإن قلت: يحمل كلامه هنا على ولد الصلب. قلت: فيلزمه الوقوع في خطأ أفحش من الأول وهو أن العم يقدم فروع الأب. قوله: قال الإمام: ولعل الظاهر تقديم المعتق على ذوي الأرحام. انتهى. وهذا الذي نقله عن الإمام بحثًا، واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله، وتابعه عليه النووي في "الروضة" وقد ذكره القاضي أبو الطيب، ونقله عن الأصحاب، ثم إن عصبة المعتق كالمعتق. وقد جزم في "المحرر" و"المنهاج" بالأمرين معًا فتأمله وتفطن له. قوله: فإن كان أحدهما رقيقًا فقيهًا، والآخر حرًا غير فقيه فقد حكى إمام الحرمين فيه وجهين للشيخ أبي محمد لتعارض المعنيين. قال في "الوسيط": ولعل التسوية أولى. انتهى.

ذكر نحوه في "الشرح الصغير" وفيه أمران، الصحيح في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" هنا تقديم الحر، وفي الشرح المذكور في صلاة الجماعة أنهما سواء. قوله: ولو استووا في كل شئ، فإن رضوا بتقديم واحد فذاك، وإلا أقرع. انتهى. اعلم أنه لا جائز أن يرد بقوله: (كل شئ) مفهومه عند الإطلاق، بل المراد الصفات السابقة، وهي السن [والفقه] (¬1) والقراءة والحرية والورع. وقد أوضحه المصنف في تصحيحه فقال: الصواب أنهما إذا استويا في السن المعتبر قدم الأفقه والأقرأ، والأورع قبل الإقراع بينهما. ومقتضى ذلك أنه لا يقدم هنا بنظافة الثوب والبدن وحسن الوجه، وطيب الصنعة والصوت ونحوها مما سبق في كتاب الصلاة، وليس كذلك، بل تقدم هنا أيضًا كما ذكره في "شرح المهذب" فإنه قال: فإن اجتمع رجال أحرار قدم أحقهم بالإمامة في سائر الصلوات على ما سبق تفصيله في بابه، فإن استويا أقرع. قوله: ويقف الإمام عند رأس الرجل وعجيرة المرأة لأنه -عليه الصلاة والسلام- صلى على امرأة فقام وسطها (¬2)، والمعنى فيه محاولة سترها عن أعين الناس. انتهى. سكت عن الخنثى، وهو ملحق في ذلك بالمرأة كما قاله في "شرح المهذب"، والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم. قوله في "الروضة": ولو تقدم على الجنازة الحاضرة أو القبر لم يصح على المذهب. انتهى. ¬

_ (¬1) في أ: والصفات. (¬2) أخرجه البخاري (325) ومسلم (964) من حديث سمرة - رضي الله عنه -.

لم يبين أن الخلاف وجهان أو قولان، ولا الأصح من الطريقين أو الطرق. وحاصل كلام الرافعي أن المشهور تخريجه على القولين في تقديم المأموم [على إمامه] (¬1)، وقيل: يصح قطعًا، وهذه الطريقة حكاها الرافعي بحثًا للإمام، فإنه قال: حكى عن الأصحاب تخريجها على الصلاة. قال: ولا يبعد ترتيب الخلاف. انتهى. والذي بحثه ولم يقف عليه الرافعي -أعني الترتيب- قد جزم به في "التتمة". قوله: ومنها التكبيرات الأربع، فلو كبر خمسًا ساهيًا لم تبطل صلاته، وإن كان عامدًا فوجهان: أحدهما: وهو المذكور في "التتمة" و"الوسيط": أنها تبطل كما لو زاد ركعة أو ركنًا في سائر الصلوات. وأصحها على ما ذكره في "الوجيز"، وبه قال الأكثرون: إنها لا تبطل لثبوت الزيادة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد حكى عن ابن شريح أن الاختلاف المنقول في تكبيرات صلاة الجنازة من الاختلاف المباح، وأن جميعه سائغ. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما اقتضاه كلامه من جزم "التتمة" و"الوسيط" بالمنع فهو صحيح بالنسبة إلى "التتمة". وأما "الوسيط" فلا، فإنه حكى وجهين فيه، وزاد على ذلك فلم يصحح شيئًا فقال: بطلت الصلاة على أحد الوجهين تشبيهًا لكل تكبيرة بركعة. هذه عبارته. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وكأنه ذهل عن آخر كلامه، أو سقط من النسخة التي وقف عليها، وذكر في "البسيط" مقلد أيضًا. الأمر الثاني: أن الفوراني، والإمام الغزالي في البسيط، وغيرهم قد عللوا الصحة بأن التكبير ذكر، وزيادة الذكر لا تضر، وهذا التعليل يقتضي أنه لا فرق بين الخامسة، وما زاد عليها، وهو مقتضى كلام الروياني في "الحلية"، فإنه عبر بقوله: ولو زاد لم تبطل خلافًا لبعض المتأخرين. الأمر الثالث: إن هذه الحكاية عن ابن شريح قد حصل فيها غلط، فإن الماوردي قد نقله عنه فقال: اختلف الصحابة في التكبير على الجنازة فقال قوم. يكبر أربعًا، وقوم: ثلاثًا، وقوم: خمسًا، فجمع عمر الصحابة واستشارهم فأجمعوا على الأربع. وكان ابن شريح يعد ذلك من الاختلاف المباح وليس بعضه بأولى من بعض. وهذا قريب من مذهب ابن مسعود أنه يكبر ما شاء. انتهى كلام الماوردي. وهو صريح في أن ابن شريح يجوز الاقتصار على ثلاثة أيضًا، ولم يصرح به الرافعي، بل كلامه يوهم المنع. وقد جزم المحاملي في "اللباب" بأغرب من هذا فقال: يجوز الاقتصار على تكبيرة واحدة. وادعى في "شرح المهذب" أن الإجماع قد انعقد على وجوب الأربع، ثم إن النووي لما توهم منع الثلاث عند ابن شريح صرح به في "الروضة" فقال: قال ابن شريح: الأحاديث الواردة في تكبيرات الجنازة أربعًا وخمسًا هي من الاختلاف المباح، والجميع سائغ. هذه عبارته، وهي غلط من وجهين:

أحدهما: في التقييد بالأربع والخمس. والثاني: في فهمه أن مراد ابن شريح بالاختلاف هو الاختلاف في الأحاديث لا في المذاهب، والأمر بالعكس كما صرح به الماوردي. قوله: ولو كان مأمورًا فزاد إمامه على الأربع، فإن قلنا: الزيادة مبطلة للصلاة، فارقه. انتهى. وفي إطلاق المفارقة إجمال محلًا وحكمًا، للتوضحة، فنقول: قال الرافعي في سجود التلاوة: إذا سجد للتلاوة في سورة ص بطلت صلاته، فإن كان مأمومًا فسجد إمامه فيها لكونه يعتقدها لم يتابعه بل يفارقه أو ينتظره قائمًا. انتهى. وقال في أثناء سجود السهو: لا يجوز العود إلى التشهد الأول بعد انتصابه، فإن انتصب مع الإمام فعاد الإمام لم يجز للمأموم العود، بل ينوي مفارقته فيه، وهل يجوز انتظاره قائمًا حملًا على أنه عاد ناسيًا؟ وجهان: الصحيح: الجواز. وذكر قبل ذلك بأسطر أن حكم الجاهل كحكم الناسي. إذا تقرر ذلك فنقول: إذا زاد إمامه، وقلنا: الزيادة مبطلة، فقياس ما سبق في هذه المسائل أنه إن نسي أو جهل أو كان قرأ أو احتمل حاله ذلك فالمأموم بالخيار بين أن يفارقه أو ينتظره. قوله في المسألة: وإن قلنا: إن الزيادة لم تبطلها لما يفارقه ولا يتابعه في الزيادة في أصح الوجهين وهل يسلم في الحال أو ينتظر سلامه فيسلم معه؟ فيه وجهان: أظهرهما الثاني. انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن تعبيره بقوله: "لم يفارقه" زيادة يتدافع معها الكلام، فإنه فرع على عدم المفارقة وجهين في أنه هل يسلم أو ينتظره، والسلام

مفارقة وأما المفارقة بالنية فقط فلا معنى لذكره لأن صلاته قد تكملت، فكان الصواب أن يقول: فإن قلنا: الزيادة لا تبطلها فلا يتابعه. . . . إلى آخره، وقد ذكر في "المحرر" و"المنهاج" كما أشرنا إليه. الأمر الثاني: أن ما ذكره هنا من حكاية الخلاف في المتابعة قولين قد ذكر مثله في "الشرح الصغير" وخالف في "المحرر" فحكاه وجهين فقال ما نصه: وأصح الوجهين أنه لو زاد خامسة لم تبطل صلاته، وأنه لو زاد الإمام لم يتابعه المأموم. انتهى. ووقع هذا الاختلاف أيضًا للنووي، فإنه عبر في "الروضة" بالأظهر، وفي "المنهاج" بالأصح فقال: ولو خمس إمامه لم يتابعه في الأصح. الأمر الثالث: أن ما جزم به النووي في هذين الكتابين من الخلاف وجهين كان أو قولين قد خالفه في "شرح المهذب" فإنه حكى طريقة أخرى قاطعة بعدم المتابعة، وصححها فقال: وهل يتابعه؟ فيه طريقان: المذهب: لا يتابعه، وبه قطع كثيرون أو الأكثرون. والثاني: فيه وجهان، وبعضهم يقول: قولان: أصحهما: لا يتابعه. هذا لفظه. الأمر الرابع: أن الخلاف المذكور في المتابعة ليس في التحريم، لأن التفريع على جواز الزيادة. وحينئذ فيحتمل أن يكون في الوجوب لأجل المتابعة وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون في الاستحباب. الخامس: الخلاف في أنه هل يسلم في الحال أو ينتظر سلامه محله في الاستحباب كما ذكره غير واحد منهم الغزالي في "الوسيط"، ولأجل ذلك جزم في "المحرر" و"المنهاج" بأنه مخير بين الأمرين ولم يتعرضا لهذا الخلاف، وقد توهم في "الروضة" أن الخلاف في الجواز، فإنه عبر

بقوله: وهل يسلم في الحال أم له انتظاره ليسلم معه؟ وجهان: أصحهما الثاني. هذه عبارته فتفطن لذلك. وقد ذكر الرافعي في صلاة الجماعة ما يدل لما ذكرناه في هذا، وفي الذي قبله فقال: إذا اقتدى مفترض بمن يصلي على جنازة، وصححنا ذلك فلا يتابعه في التكبيرات والأذكار بينها، بل إذا كبر الإمام الثانية فيتخير بين إخراج نفسه من المتابعة وبين انتظار سلام الإمام. قوله: والسابق إلى الفهم من قول الغزالي في "الكتاب": "والفاتحة بعد الأولى" أنه ينبغي أن يكون عقبها فتقدمه على الثانية. ولكن القاضي الروياني وغيره حكوا عن نصه أنه لو أخر قراءتها إلى التكبيرة الثانية جاز. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" وخالف ذلك في "المحرر" فقلد الغزالي فيما ذهب إليه فقال: الركن الرابع: قراءة الفاتحة بعد الأولى. هذا لفظه. وأما النووي فإنه جزم في كتاب "التبيان في آداب حملة القرآن" بوجوب قراءتها في التكبيرة الأولى، ذكر ذلك في الباب السادس، وخالف ذلك في "الروضة" فتابع الرافعي على جواز تأخيرها إلى التكبيرة الثانية، ثم ذكر في "المنهاج" ما يخالفه فقال مستدركًا على الرافعي: قلت: تجزئ بعد غير الأولى، والله أعلم. ومقتضاه أنه يجوز تأخيرها إلى الثالثة أو الرابعة وذكر في "شرح المهذب" نحوه أيضًا فقال: فإن قرأ الفاتحة بعد تكبيرة أخرى غير الأولى جاز. وذكر فيه أن الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب أن تكون عقب التكبيرة الثانية.

قال: ولا يجزئ الدعاء في غير الثالثة بلا خلاف، وقد استفدنا من مجموع كلامه في "شرح التهذيب" أنه يجوز أن يجمع في التكبيرة الثانية بين القراءة والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي التكبيرة الثالثة بين القراءة والدعاء للميت. وحينئذ فيكون حاصله أنه يجوز إخلاء التكبيرة الأولى عن ذكر، وترك الترتيب، والجمع بين ركنين في تكبيرة واحدة، قد توقف ابن الرفعة في الحكم المذكور آخرًا فقال: قياس ما حكيناه عن النص من جواز تأخير القراءة إلى الثانية أنه إذا فعله يتعين عليه تأخير الصلاة إلى الثالثة والدعاء إلى الرابعة إن كان الترتيب بين القراءة والصلاة والدعاء شرطًا. هذا مجموع ما قاله. فأما تأخير هذين الركنين فقد تقدم أن النووي حكى منعه، حتى ادعى نفي الخلاف في أن الدعاء لا يؤخر عن الثالث. وأما توقف التعيين على وجوب الترتيب فظاهر الفساد؛ إذ لا منافاة بين اجتماع الكل في تكبيرة واحدة مع الإتيان بالترتيب، فإنه إذا أخر القراءة إلى الثانية يمكنه المحافظة على الترتيب بأن يأتي بها ثم بالصلاة. واعلم أن ابن الرفعة قد نقل التصريح بتعين القراءة عقب الأولى عن البندنيجي والقاضي الحسين والإمام والغزالي والمتولي، وكلام الرافعي يوهم انفراد الغزالي به. قوله: السادس: الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الثانية، وفي وجوب الصلاة على الآل قولان أو وجهان كسائر الصلوات وهذه أولى بالمنع. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، فأما ذهابة [إلي] (¬1) طريقة إثبات الخلاف فقد خالفه في "شرح المهذب" فنقل عن الجمهور أنهم قطعوا بعدم الوجوب. ¬

_ (¬1) في أ: على.

وأما التردد بين القولين والوجهين فقد سبق الكلام عليه في صفة الصلاة. قوله: ويستحب أن يكون من دعائه في الثالثة: اللهم هذا عبدك وابن عبدك. . . . إلى آخره. اعلم أن قوله في أوله: هذا عبدك وقع في "الأم" و"المختصر" بخلاف هذا. وحينئذ فيصح رفع العبد على أنه مبتدأ خبره خرج. . . . إلى آخره. ونصبه على إضمار إرحم ونحوه. والتعبير بالعبد محله إذا كان ذكرًا؛ فإن كان أنثى عبر بالأمة كما ذكره من زوائده، وإن كان خنثى، فالمتجه التعبير بالمملوك ونحوه. وقوله: (وابن عبديك) هو بالتثنية على تغليب المذكر على المؤنث. ووقع في بعض نسخ المزني بالإفراد، ومحل هذا إذا كان له أب. فأما ولد الزنا فالقياس أن يقول فيه: وابن أمتك. وقوله: (روح الدنيا) هو بفتح الراء وهو نسيم الريح، ويراد به الفضاء أيضًا. والسعة: بفتح السين: الاتساع، وإنما عطف على الروح على تقدير إرادة الفضاء لتغاير الألفاظ ويحتمل أن يراد بالروح ما يريح به الشخص نفسه من نعيمها. وقوله: (ومحبوبها) هو بضمير المؤنث لتعود على الدنيا. ووقع في "المحرر" بضمير الذكور أي المحبوب الذي للميت. وقوله: (وأحبائه فيها) المشهور قراءة أحبائه بالجر أي خرج من أحبائه في الدنيا وفارقهم، وتصح قراءته بالرفع على أن تكون الواو للحال لا للعطف أي وفيها أحباؤه.

وقوله: (وما هو لاقيه) أي هول منكر ونكير، كذا نقله في "شرح المهذب" عن القاضي الحسين لكن بلفظ يتناول ما يلقى في القبر، وفيما بعده وذكر صاحب "التعجيز" في شرحه له أن اللذين يأتيان المؤمن في قبره مبشر وبشير (¬1) أي بالشين المعجمة لا منكر ونكير. وقوله: (كان يشهد. . . . إلى آخره) هو تمهيد وتوطئة لقبول شفاعته كما هو المعتاد. وقوله: (نزل بك. . . . إلى آخره) أي هو ضيفك وأنت خير من نزله ضيف وأكرمه، وضيف الكرام لا يضام. وقوله: (ولقه) يجوز فيه كسر الهاء مع الإشباع ودونه، وسكونها وكذلك في (قه) أيضًا. وأشار بفتنة القبر إلى الحديث: "إنكم تفتنون في قبوركم" (¬2) أي عند سؤال الملكين. وقوله: (عن جنبيه) هو تثنية الجنب، وفي بعض نسخ المزني بالإفراد، ورأيت في نسخة "الأم" الموقوفة بالمدرسة الشريفية، وهي أصح نسخة بالديار المصرية بالجيم المضمومة، والثاء المثلثة المشددة وهي أحسن لدخول الجنبين والظهر والبطن. قوله: وذكر الغزالي في "الوجيز" أنه يستحب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عند الدعاء للميت، وحكى في "الوسيط" فيه ترددًا، وصحح استحبابه، وهذا التردد ليس له في كتب الأصحاب. لكن ذكر ابن القاص دعاءًا آخرًا، وعليه أكثر أهل خراسان أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته ¬

_ (¬1) لا يصح في هذا خبر. (¬2) أخرجه البخارى (86) ومسلم (905).

منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" (¬1) رواه أبو هريرة. فيجوز أن يحمل ما ذكره الغزالي على هذا الدعاء فإنه دعاء للمؤمنين والمؤمنات، والدعاء المعروف السابق ذكره قريبًا يختص بالميت، ولا يبعد أن يعد وفيه تردد، فإن قول من قال: يخلص الدعاء للميت في الثالثة، ينافي استحباب هذا الدعاء. انتهى ملخصًا. فيه أمران. أحدهما: أن معنى هذا الكلام جميعه، وهو كلام الغزالي، والمحمل الذي حمله عليه الرافعي قد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: يستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات مع دعائه للميت، ويحسن أن يكون ذلك الدعاء: اللهم اغفر لحينا وميتنا. . . . إلى آخره. وحكى في "الوسيط" ترددًا في استحبابه أى الدعاء للمؤمنين. انتهى. وذكر مثله في المحرر فجزم باستحباب الجمع بينهما وزاد على ذلك فقال: يستحب تقديم الدعاء الثاني على الأول المشهور وهو "اللهم إن هذا عبدك. . . ." إلى آخره. وحذف النووى من "الروضة" جميع ذلك، ولم يزد على أنه روى في الباب دعاءًا آخرًا، وهو "اللهم اغفر لحينا. . . . إلى آخره". ولم يتعرض له أيضًا في "شرح المهذب" لعدم وقوفه عليه في "الروضة"، والذي ذكره في "المحرر" متجه، فإن الدعاء بهذا رواه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3201) وابن ماجة (1498) وأحمد (8795) وابن حبان (3070) وأبو يعلى (6010) والبيهقى في "الكبرى" (6762) من حديث أبى هريرة. وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-.

الأربعة، وصححه الترمذي، ثم نقل عن البخاري تصحيحه، وقال الحاكم وابن دقيق العيد في آخر "الاقتراح": إنه على شرط الشيخين، وإذا كان صحيحًا ولا معارض له فيتعين العمل به وإنما قدمه على الدعاء المشهور وهو: "اللهم إن هذا عبدك" ليضمنه الدعاء للميت أيضًا، وثبوت لفظه بخلاف ذلك، فإن الشافعي التقطه من جملة أحاديث بعضه باللفظ وبعضه بالمعنى. الأمر الثاني: أن ما ادعاه الرافعي في آخر كلامه من أن قولهم يخلص الدعاء للميت ينافي الدعاء للمؤمنين، كلام عجيب ظاهر الفساد، فإن إخلاص الدعاء للميت" معناه إفراده بالذكر وتنصيصه عليه، وذلك حاصل سواء دعا مع ذلك لغيره أم لا. قوله: الثاني: إذا لحق المسبوق قبل التكبيرة الثانية وكبر الإمام قبل فراغه من القراءة قطع القراءة في أصح الوجهين ثم قال: وعلى هذا فهل يقرأ بعد الثانية لأنه محل القراءة بخلاف الركوع، أم يقال: لما أدرك قراءة الإمام صار محل قراءته منحصرًا في ما قبل الثانية؟ ذكر في "الشامل" فيه احتمالين، ولعل الثاني أظهر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الشامل قد تبعه عليه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب"، وابن الرفعة في "الكفاية" وهو مردود فإن المذكور في "الشامل" ما نصه: إذا أدرك المأموم الإمام في القراءة دخل معه وقرأ، فإذا كبر الإمام الثانية كبر معه إن كان قد فرغ من القراءة. فإن لم يفرغ فهل يقطع القراءة أو يتمها؟ ينبني على الوجهين في المسبوق إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة، أصحهما: أنه يتبعه ويقطع القراءة، فكذلك هاهنا إلا أن هاهنا بعد التكبيرة الثانية محل القراءة باقٍ لأنه إذا أدركه في الثانية قرأ المأموم بخلاف الركوع.

والذي يقتضيه ما ذكرته أن يأتي بالقراءة بعد الثانية ويمكن أن يقال: لا يأتي بها لأنه لما أدرك قراءة الإمام صار محل القراءة ما قبل الثانية في حقه، فلا يأتي بها بعد الثانية. هذا كلامه. وحاصله أنه لما شبه التكبيرة الثانية هنا بالركوع هناك حتى يأتي الوجهان في أنه يتم الفاتحة أو يقطعها، ويتابع الإمام لاح له بينهما فرق يقتضي ترجيح القراءة هاهنا، وهو أن الإمام بعد التكبيرة الثانية في قيام وهو محل القراءة بدليل ما [إذا] (¬1) أدركه المسبوق فيها، فلا يبعد أن يجب عليه إتمام القراءة بخلاف المسبوق في الصلوات الخمس إذا أدرك الإمام في الركوع فإنه لا يقرأ فيه، ثم شرع يعارض هذا الفرق فإنه لما أدرك قراءة الإمام صار محل قراءته هو ما قبل الثانية. هذا هو المفهوم من كلام "الشامل" فتوهم الرافعي أن المراد بالقول المكرر في آخر كلامه وهو قوله: بعد الثانية، إنما هو ثانية المأموم لا الإمام، والمراد العكس. وكيف يتصور أن يوجب في أثناء الفاتحة ركنًا بل شيئًا قائمًا مقام ركعة، ولا يكون قاطعًا للموالاة فيها. وقد صرح الماوردي وغيره بأنا إذا أمرنا المأموم بالتكبير سقط عنه بقية الفاتحة. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من انحصار القراءة في ما قبل الثانية ليس كذلك، فإن هذا المسبوق وغيره من المأمومين، لو أراد تأخير القراءة إلى التكبيرة الثانية جاز كما تقدم قريبًا، فهذه الدعوى مع تلك متناقضتان. قوله: الثالث: إذا فاته بعض التكبيرات تدارك بعد سلام الإمام، وهل يقتصر على التكبيرات نسقًا أم يأتي بالدعاء والذكر بينهما؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيه قولان: أصحهما الثاني. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن هذا الخلاف جعله الرافعي في "المحرر" وجهين، والصواب المذكور هنا، وفي "الشرح الصغير" أيضًا أنهما قولان. ولهذا عدل النووي في "المنهاج" إلى الوجهين إلا أنه لم ينبه عليه في "دقائقه". الثاني: أن محل هذا الخلاف إذا رفعت الجنازة فإن اتفق بقاؤها لسبب فلا وجه للخلاف بل يأتي بالأذكار قطعًا، قاله المحب الطبري في "شرح التنبيه"، وهو متجه. الثالث: ليس في كلامه ما يدل على أن القولين في الاستحباب أم في الوجوب. وقد صرح صاحب "البيان" بأن القولين في الوجوب، ففي قول: يجب، وفي آخر: لا يجب، وجزم به في "المنهاج"، ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره فيه وفي "الروضة" وقال: إنه ظاهر. قوله: ويستحب أن لا ترفع الجنازة حتى يتم المسبوقون ما عليهم، فلو رفعت لم تبطل صلاتهم، وإن حولت عن القبلة بخلاف ابتداء عقد الصلاة لا يحتمل فيه ذلك والجنازة حاضرة. انتهى. وما ذكره في التحويل عن القبلة ذكر مثله في "الروضة" و"شرح المهذب"، وهو يشعر بأن استقبال الميت للقبلة واجب تنزيلًا له منزلة الإمام كما نزلوه منزلته في امتناع التقديم عليه، ولا شك أن الميت كالعاجز، والعاجز في الصلاة يصلي على جنبه الأيمن، فإن عجز فمستلقيًا علي ظهره ورجلاه إلى القبلة، ولم يشترطوا في الميت شيئًا من ذلك، بل عمل الناس على خلافه.

قوله: ولو تخلف المقتدي فلم يكبر مع الإمام الثانية أو الثالثة حتى كبر الإمام التكبيرة المستقبلة من غير عذر بطلت صلاته كتخلفه بركعة. انتهى. وتقييده بقوله: (حتى كبر) ذكر مثله في "الشرح الصغير" و"الروضة" و"شرح المهذب"، وهو يشعر بأنه إذا تخلف عن الرابعة حتى سلم إمامه لا تبطل، ويتأيد بأن الذكر لا يجب فيها، فليست كالركعة بخلاف ما قبلها، وفيه احتمال. قوله من زوائده: قلت: إذا لم يحضر إلا النساء توجه الفرض عليهن، وإذا حضرن مع الرجال لم يتوجه الفرض عليهن، فلو لم يحضر إلا رجل ونساء، وقلنا: لا يسقط إلا بثلاثة، توجه التيمم عليهن. والظاهر أن الخنثى في هذا الفصل كالمرأة. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه بحثًا قد جزم به القاضي أبو الفتوح في كتابه المعقود للخناثى فقال: فرع: إذا صلى الخناثى لم يسقط فرض الصلاة عن الرجال كما ذكرنا في حق النساء. هذه عبارته. ثم قال: فإذا بان الخنثى رجلًا فهل يعتد به؟ فيه وجهان. وذكره المسألة أيضًا صاحب "البيان" هكذا، وجزم به النووي هاهنا، وفي باب الأحداث من "شرح المهذب"، وقد بسطت المسألة في "الإيضاح". قوله: بخلاف من صلى مرة لا يستحب له إعادتها، فإن المعاد يكون تطوعًا، وهذه الصلاة لا يتطوع بها. انتهى. ومعنى عدم التطوع بها أنه لا يجوز الابتداء بمثلها من غير جنازة بخلاف الظهر ونحوها. إذا تقرر ذلك فهذا التعليل ينتقض بالنسوة والصبيان، فإن صلاتهم تقع نفلًا، سواء وقعت مع صلاة الرجال أم بعدها، لأن الفرض لا يتوجه

عليهم مع وجود الرجال، فإن قيل: المراد أنها لا تقع تطوعًا من الذكور البالغين. قلنا: فيلزم استحباب الإعادة في حق غيرهم. وحينئذ فلا يستقيم الإطلاق المتقدم. قوله: فإن كان قد صلى منفردًا، وأراد إعادتها في جماعة لم يستحب أيضًا في أظهر الوجهين. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن التعبير المذكور فيه قصور عن الحكم، فإن الحكم أن الإعادة خلاف الأولى، ولا يلزم من نفي الاستحباب أولوية الترك لجواز التساوي، ولهذا عبر في "شرح المهذب" بقوله: أصحها: لا يستحب له الإعادة، بل يستحب تركها. هذا لفظه. الثاني: أن هذين الوجهين جاريان في من صلى أولًا منفردًا، ومن صلى في جماعة على خلاف ما يدل عليه كلامه هنا. وقد صرح به في "شرح المهذب" على الصواب، وحكى وجهًا آخرًا أنه يستحب الإعادة لمن صلى منفردًا دون من صلى جماعة، ووجهًا أنها مكروهة مطلقًا، وفي "الحاوي" أن الإعادة لا تجوز. قوله: ولك أن تعلم قول الكتاب فلا يفوت بالدفن بالواو لأن أبا عبد الله الحناطي حكى عن أبي إسحاق المروزي أن فرض الصلاة لا يسقط بالصلاة على القبر، وإنما يصلي علي القبر من لم يدرك الصلاة. انتهى. وقوله: (وإنما. . . . إلى آخره) قد استفدنا منه وجهان أن الصلاة على القبر لا تشرع بالكلية لمن أدرك الصلاة، وقد حذفه من "الروضة" لغلط وقع في كثير من نسخ الرافعي. قوله: وإلى متى تجوز الصلاة على القبر؟ فيه وجوه:

أحدها: إلى ثلاثة أيام. والثاني: إلى شهر لأنه -عليه الصلاة والسلام- صلى على البراء بن معرور بعد شهر. والثالث: ما بقي منه شئ في القبر. والرابع: وهو الأظهر: أنه يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة يوم الموت، ولا يصلي عليه غيره. ومنهم من يعبر عن هذا الوجه بكونه من أهل الصلاة أم لا، ولا يقيده بالفرض، والعبارة الأولى أشهر، والثانية أصح عند الروياني. والخامس: يصلي عليه أبدًا. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الاستدلال بقصة البراء على العكس من الدعوى، لأن الدعوى هو الجواز في مدة الشهر فقط، ثم استدل بالفعل بعده. الثاني: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد رجح العبارة المنقولة هنا عن الروياني، وهي كونه من أهل الصلاة والغريب أنه عبر فيه بالأظهر كما عبر في "الكبير" فقال: والرابع أنه من كان أهلًا للصلاة عليه يوم موته فيصلي على القبر، ومن لا لم يصل، وأهلية الصلاة بالتمييز، فلا أهلية للمجنون والصبي الذي لا يميز، وهذا أظهر الوجوه. هذا لفظه. وصحح في "المحرر" كما في "الكبير" وصححه أيضًا النووي في كتبه، ونقله في "شرح المهذب" عن الجمهور، فليكن هو المعنى به. الأمر الثالث: أن المراد بيوم الموت هو وقت الموت، فإنه هكذا صرح به في "المحرر" و"المنهاج". الأمر الرابع: أن اعتبار الموت يقتضي أنه لو بلغ أو أفاق بعد الموت، وقبل الغسل، لم يعتبر ذلك، والصواب خلافه، لأنه لو لم يكن هناك

غيره لكان يلزمه الصلاة بالاتفاق، وكذا لو كان هناك غيره فترك الجميع فإنهم يأثمون. بل لو زال المانع بعد الغسل أو بعد الصلاة، وأدرك زمنًا يمكن فيه فعل الصلاة لكان كذلك أيضًا. الخامس: أن هذا النقل المذكور عن الروياني غلط، فإن اختياره الجواز ما لم يبل الميت، كذا ذكره في "الحلية"، وفي "البحر" مع كونه نقل فيه أن الأشهر اعتبار أهلية الفرض فقال في "الحلية": والاختيار من الأقوال أنه تجوز الصلاة على قبره إلى أن يصير ترابًا. هذا لفظه. ولم يذكر فيها غير ذلك. وقال في "البحر": ومن أصحابنا من قال: يجوز حتى يعلم أنه بلى في قبره، فلا يجوز حينئذ لأنه ذهبت حرمته، وهذا أصح عندى. ومن أصحابنا من قال: يجوز أبدًا لأن القصد الدعاء حتى يجوز اليوم أن يصلي على قبر آدم -عليه السلام-، وعلى قبر جميع الأنبياء -صلى الله عليهم-. ومن أصحابنا من قال -وهو الأظهر، واختيار الشيخ أبي زيد المروزى- يصلي عليه من كان فرض الصلاة عليه يوم مات. هذا لفظه. وكأن الرافعي وقف على آخر الكلام، وذهل عن أوله فنسب إليه ما نسب. ومعرور السابق ذكره بعين وراءين مهملات، يقال: عره بشر أي لطخه به فهو معرور، وفيه قوله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1). قوله في أصل "الروضة": وهذا كله في قبر غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما قبره الكريم فلا تجوز الصلاة عليه على الأوجه الأربعة قطعًا، ولا على الخامس على الصحيح. ¬

_ (¬1) سورة الفتح: (25).

وقيل: تجوز فرادى. انتهى كلامه. وما ذكره من الامتناع قطعًا مردود، فإن في جواز الصلاة لمن كان من أهل الفرض يوم موته -عليه الصلاة والسلام- وجهين حكاهما البندنيجي في "الذخيرة" مع أن أحد الأوجه الأربعة، بل أصحها هو الجواز لمن كان من أهل الفرض. نعم الامتناع قطعًا إنما محله في هذا الزمان، وقد ذكره الرافعي كذلك. واعلم أن البندنيجي في الكتاب المذكور عبر "بأهل العصر" ثم قال: والمراد بهم أهل الفرض، فافهمه. قوله: لأنه يشترط فيها تقدم غسل الميت حتى لو مات في بئر أو في معدن انهدما عليه، وتعذر إخراجه وغسله لم يصل عليه، ذكره صاحب "التتمة". انتهى كلامه. ذكر في الروضة مثله، وفيه أمور: أحدها: أن كلامه يشعر بعدم اشتراط التكفين في صحة الصلاة، والأمر كذلك؛ وقد جزم به في "الروضة" و"المنهاج" من زياداته فيهما، قال: لكن يكره. الأمر الثاني: أن الفرق بين التكفين والغسل مشكل لا دليل عليه، لأن كلًا منهما واجب، لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن الصحابة فعل الصلاة إلا بعدهما، فلم جوزناها قبل أحدهما، ومنعناها قبل الآخر؟ . فإن كان المعنى في اشتراط الغسل هو وجوبه أو عدم نقل الصلاة عنه -عليه السلام- بدونه، أو أن الصلاة على الميت كصلاة الميت نفسه حتى يتوقف على الطهارة، فالتكفين كذلك. الأمر الثالث: سلمنا أن غسله شرط، لكن إذا تعذر فلم لا يصلى عليه كسائر شروط الصلاة، فإنها إنما تكون شرطًا حال القدرة، وإذا عجز عنها سقط الأمر بها، وبقى الأمر بالصلاة.

القول في الدفن

قال -رحمه الله-: القول في الدفن قوله: فلو بادر بعض الورثة ودفنه في ما خلفه من غير رضى الباقين كان لهم نقله إلى المقبرة، والأولى أن لا يفعلوا لما فيه من الهتك. انتهى. تابعه في "الروضة" على أنه خلاف الأولى، وجزم به في "شرح المهذب" بأنه مكروه، ونقله عن الأصحاب. قوله: ولو أراد بعضهم دفنه في ملك نفسه لم يلزم الباقين قبوله، فلو بادر إليه قال ابن الصباغ: لم يذكره الأصحاب. وعندي أنه لا ينقل، فإنه هتك، وليس في إبقائه إبطال حق الغير. انتهى. قد ذكر صاحب "التتمة" المسألة وجزم بما قاله صاحب "الشامل" ونقله عنه النووي في "زيادات الروضة" ونقله أيضًا في "البحر" عن بعض المتأخرين، ولم يخالفه. قوله: وأقل واجب الدفن حفرة تكتم رائحة الميت وتحرسه عن السباع. انتهى كلامه. وتعبيره بالحفرة للاحتراز عما إذا وضع الميت على وجه الأرض، وجعل عليه أحجارًا كثيرة ونحوها كاتمة للرائحة حارسة عن السباع. فإن الراجح على ما دل عليه كلام "الروضة" في آخر باب السرقة أنه لا يكفي إذا لم يتعذر الحفر، فإنه قال: وفي "فتاوى البغوي": لو وضع ميتًا على وجه الأرض ونُضّدت الحجارة عليه كان ذلك كالدفن حتى يجب القطع بسرقة الكفن لاسيما إذا كان لا يمكنهم الحفر. قلت: ينبغي أن لا يقطع إلا أن يتعذر الحفر لأنه ليس بدفن، والله أعلم. هذا كلام "الروضة".

قوله: والشق أن يحفر وسط القبر كالنهر أو يبني جانباه باللبن أو غيره، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت ويسقف. انتهى. وحاصله أن للشق صورتين، وتوهم النووي في "الروضة" أنهما صورة واحدة، فأسقط الهمزة وأتى بالواو خاصة فلزمه مع ذلك عي في الكلام، وقد ذكر في "الكفاية" هاتين الصورتين، ونقلهما عن الرافعي. وقد اغتر في "شرح المهذب" بما في "الروضة" فأثبتهما صورة واحدة بعبارة لا تحتمل الغلط. قوله: وأولاهم بالدفن أولاهم بالصلاة إلا في المرأة، فإن الزوج أولى، ثم قال: وقدم صاحب "العدة" نساء القرابة على الرجال الأجانب. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه يقتضي أن الأقرب والأسن يقدمان على الأفقه في الدفن لأنهما مقدمان في الصلاة وليس كذلك. فأما المسألة الأولى وهي الأقرب مع الأفقه فقد نص الشافعي -رضي الله عنه- على عكسه فقال ما نصه: وأحب إلىّ أن يدخله قبره أفقههم ثم أقربهم به رحمًا. كذا رأيته في "الأم" بعد أبواب القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في باب من يدخل قبر الرجل، وهذا النص نقله أيضًا صاحب "البيان" في كتاب السؤال عما في المذهب من الإشكال ثم نقل عن الأصحاب كافة الجزم بتقديم الأفقه على الأقرب كما هو مقتضى النص، ولم يصرح في "شرح المهذب" بهذه المسألة، وإنما نقل اتفاق الأصحاب على تقديم البعيد الفقيه على الأقرب الذي ليس بفقيه، ولم يتعرض للأفقه. وأما المسألة الثانية وهي الأفقه مع الأسن فقد صرح بها في "شرح المهذب"، ونقل عن نص الشافعي واتفاق الأصحاب تقديم الأفقه على

الأسن، والفرق بينه وبين الصلاة أن المقصود من الصلاة هو الدعاء. قال صاحب "الحاوي" وغيره: المراد بالأفقه هنا أعلمهم بإدخال الميت في القبر لا أعلمهم بأحكام الشرع. الأمر الثاني: أن النووي مع حكاية الخلاف في "الروضة" قد ادعى في "تصحيح التنبيه" أن الرجال أولى بدفن المرأة من النساء بلا خلاف. واعلم أنه ليس المراد "بالعدة" هنا عدة الطبري، وإن كانت هي المشهورة، فقد رأيت فيها الجزم بالمعروف والمراد "بالعدة" عدة أبي المكارم الروياني ابن أخت صاحب "البحر"، وقد بسطت حال هذا الاصطلاح في الكلام على الأسماء. واعلم أن ما ذكره الرافعي خاص بالرجل، أم المرأة فليس الأولى بإدخالها القبر من يصلي عليها، بل فيه ترتيب آخر. قوله: فإن لم [يكن] (¬1) أحد من المحارم فعبيدها وهم أولى من بنى العم لأنهم كالمحارم في جواز النظر ونحوه على الصحيح. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وهو مشكل حكمًا وتعليلًا فقد قدم أن الصحيح أن الأمة لا تغسل سيدها، وعلله بانقطاع الملك بالموت وانتقاله إلى "الورثة"، وذلك؛ بعينه موجود هاهنا، فالذي قالوه إنما يأتي على وجه ضعيف، وهو تجويز النظر والغسل والخلوة استصحابًا لما كان، وهذا الانتقاد قد استفدناه من كلام الإمام. قوله: ولو ماتت ذمية في بطنها جنين مسلم ميت جعل ظهرها إلى القبلة ليتوجه الجنين إلى القبلة لأن وجه الجنين على ما ذكر إلى ظهر الأم. ثم قيل: تدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار، وقيل: في مقابر المسلمين، فتنزل منزلة صندوق الولد. ¬

_ (¬1) في أ: يدخل.

وقيل: في مقابر الكفار. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن التعبير بالذمية تعبير ناقص موهم، فإن الحربية والمرتدة كذلك بلا شك. فالصواب حينئذ التعبير بالكافرة. الأمر الثاني: أنه لم يبين صورة المسألة فهل محل ذلك إذا نفخ فيه الروح، فإن لم ينفخ دفنت في مقابرهم جزمًا، أو محله إذا لم ينفخ، فإن نفخت فلا يدفن في مقابرهم جزمًا أم لا فرق بين الصورتين؟ وتعبير الرافعي و"الروضة" بالميت يشعر بالأول. وقد تلخص من كلام الإمام وغيره أن وقت التخلق هو وقت نفخ الروح، ونقل -أعنى الإمام- عن الأصحاب أن من لم يتخطط لا يجب تكفينه، ولا دفنه. ولكن الأولى أن يوارى بخرقة، ثم ذكر النصوص المعروفة في أمية الولد، وانقضاء العدة ووجوب العدة. قال: ويبعد عندي أن تثبت أمية الولد ولا يوجب كفنه ودفنه، وإذا تأملت ما نقله علمت أن صورة المسألة ما أشعر به كلام الرافعي، وهو ما إذا نفخ فيه الروح، ويعبر عنه بالتخلق. الأمر الثالث: أن الصحيح هو الأول فقد قال في "شرح المهذب": إنه الصحيح المشهور، وفي "زيادات الروضة": إنه الصحيح الذي قطع به الأكثرون. قال: ونقله صاحب "الحاوي" عن أصحابنا، ثم قال: أعني -صاحب "الحاوي": وكذلك إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين. قوله: وأما الإضجاع على اليمين فليس بواجب، بل لو وضع على

الجنب الأيسر مستقبلًا كره، ولم ينبش لذلك، ذكره في "التتمة". انتهى كلامه. جزم في "الشرح الصغير" و"الروضة" بما قال في "التتمة" وفي الحكم بعدم وجوب ذلك وقفة ظاهرة لأنه الوارد من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة من بعده وسائر المسلمين خلفًا عن سلف. وفي "النهاية" ما يخالف "التتمة" فإنه قال: ثم يكون الميت في قبره على جنبه الأيمن في قبالة القبلة وذلك حتم. هذا لفظه. والصواب موافقته، وجزم في "شرح المهذب" أيضًا بمقالة المتولي من غير إعزائها إليه، وزاد على ذلك فنقل الاتفاق على استحبابه، وكأنه نقل ذلك من "الروضة" على عادته، ولم يتفطن إلى أن الجزم الذي فيها إنما هو من تصرفه. قوله: ويجعل تحت رأسه لبنة أو حجرًا، ويقضي بحده إليه، فذلك أبلغ في الاستكانة، ولا يوضع تحت رأسه مخدة، ولا يفرش تحته فراش؛ لأن فيه تضييعًا للمال. وحكى العراقيون كراهة ذلك عن نص الشافعي، وقال في "التهذيب": لا بأس به؛ إذ روى عن ابن عباس أنه جعل على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطيفة حمراء (¬1). انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الاستكانة هي الخضوع قاله الجوهري. الثاني: أن ما اقتضاه كلامه من مخالفة البغوي فيهما قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس كذلك، بل إنما خالف في الفراش خاصة، فإنه قال: ويجعل تحت رأسه لبنة، ولا بأس أن يبسط تحت جنبه شئ. هذه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (967) والترمذى (1048) والنسائى (2012) وأحمد (2021).

عبارته. الثالث: أن تعبيره بجعل هو بضم الجيم على البناء للمفعول فإن ابن عباس راو لا جاعل، والجاعل إنما هو شقران مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى لا يستعملها أحد بعده، كذا رواه مسلم في "صحيحه". وشقران: بشين معجمة مضمومة، وقاف ساكنة. الرابع: أن التعليل بالتصنيع يقتضي التحريم، ففي الصحيح "نهى عن إضاعة المال" وسيأتي التعرض لمثل هذا في مواضع منها في آخر النفقات. فإن قيل: سكوت الصحابة على ذلك إجماع منهم على جوازه. فالجواب: إن في الجزء الأول من الصحيح تخريج الدارقطني عن وكيع أن ذلك خاص برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأيضًا فقد نقل في "شرح المهذب" أن الصحابة لم يعلموا بما فعله شقران. قوله: ويكره تجصيص القبر والكتابة والبناء عليه، ولو بنى عليه هدم إن كانت المقبرة مسبلة، فإن كان القبر في ملكه فلا. انتهى كلامه. وحاصله أن البناء على القبر مكروه مطلقًا سواء كان في مقبرة مسبلة أم لا. وأما الهدم فيفصل فيه بين المسبلة وغيرها، إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن النووي قد تابعه في "الروضة" على كراهة البناء في المقابر المسبلة، وذكر في "المنهاج" من زياداته مثله أيضًا، وخالف ذلك في "شرح المهذب" فجزم بالتحريم فقال: ولا فرق في البناء بين أن يبني قبة أو بيتًا أو غيرهما، ثم ينظر فإن كانت مقبرة مسبلة حرم عليه ذلك. قال أصحابنا: ويهدم البناء بلا خلاف. قال الشافعي في "الأم": ورأيت من الولاة من يهدم ما يبنى فيها،

ولم أر الفقهاء يعيبون عليه في ذلك، ولأن في ذلك تضييقًا على الناس. انتهى كلامه. وذكر في "شرح مسلم" قبل كتاب الزكاة بنحو ثلاثة أوراق نحوه أيضًا، وجزم به أيضًا في "الفتاوى"، وهو اختلاف عجيب جدًا ولا يمكن حمل الكراهة على التحريم لأنه مع كونه خلاف اصطلاحهم يؤدي إلى تحريم التجصيص والكتابة والبناء في غير المسبلة، ولا قائل به فتعين كونه مكروهًا كراهة تنزيه، ومع ذلك يهدم، ونظير ما قاله في "الروضة" في آخر شروط الصلاة: إن غرس الشجرة في المسجد مكروه، قال: فإن غرست قطعت. وما اقتضاه كلام النووي من نقل الاتفاق على تحريمه فمردود، فقد صرح جماعة بالكراهة، ونقل ابن الرفعة أن البندنيجي نقله عن الأصحاب. ثم قال: وكلام غيره يقتضي أنه لا يجوز لأنهم عللوا المنع بأن فيه تضييقًا على الناس، وقالوا: لو بنى عليه هدم. الأمر الثاني: أن المراد بالمقبرة المسبلة هو المقبرة التي جرت عادة أهل تلك البلد بالدفن فيها، وليس المراد المقبرة الموقوفة، فإن الموقوفة يحرم البناء فيها قطعًا، وقد جزم الرافعي فيه بالكراهة كما تقدم، وتبعه عليه في "الروضة" فدل على ما قلناه، وهذا هو مقتضى كلام ابن الرفعة المتقدم. وإنما يهدم البناء فيها على القول بكراهته أيضًا لأن الموت معلوم عمومه، فيؤدي البناء إلى التضييق أو إلى البعد في الدفن، فيحصل بسببه تغير في الميت، ومشقة على الناس. قوله: عثمان بن مظعون. بالظاء المعجمة المشالة.

قوله: وتسطيح القبر أفضل من تسنيمه لما رواه القاسم بن محمد: قلت لعمتي عائشة: اكشفي [لي] (¬1) عن قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء (¬2). وقال ابن أبي هريرة: الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم، لأن التسطيح صار شعار الروافض. قال: ومثله ما حكي أن الجهر بالتسمية إذا صار في موضع شعارًا لهم، فالمستحب الإسرار بها مخالفة لهم. انتهى. وما نقله الرافعي عنه في التسمية لم يذكره في "الروضة". والمشرف: هو العالي علوًا كبيرًا. واللاطئ: بالهمز هو اللاصق بالأرض يقول: لطئ بفتح الطاء وكسرها. قوله: قال الأصحاب: والانصراف عن الجنازة أربع درجات: إحداها: أن ينصرف عقب الصلاة فله من الأجر قيراط. الثاني: أن يتبعها حتى توارى ويرجع قبل إهالة التراب. الثالث: أن يقف إلى الفراغ من القبر، وينصرف من غير دعاء. الرابع: يقف بعده عند القبر، ويستغفر الله تعالى للميت، وهذا أقصى الدرجات في الفضيلة، وحيازة القيراط الثاني تحصل لصاحب القسم الثالث. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (3220) والحاكم (1368) وأبو يعلي (4571) والبيهقي في "الكبرى" (6549). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الشيخ الألباني: صحيح.

وهل تحصل للثاني؟ حكى الإمام فيه ترددًا، واختار الحصول. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا التردد وجهان للأصحاب حكاهما الماوردي. وقال السرخسي في "الأمالي": فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالوضع في اللحد. والثاني: بنصب اللبن عليه. والثالث: بالفراغ من الدفن. الأمر الثاني: أن الأصح أنه لا تحصل إلا بالفراغ فقد قال الماوردي: إنه الأصح. والنووي في "زيادات الروضة": إنه المختار. وفي "شرح المهذب": إنه الصحيح. قال: [ويحتج] (¬1) له برواية الصحيحين: "ومن تبعها حتى يفرغ من دفنها" (¬2). ويحتج الآخر برواية في "مسلم" (¬3) أيضًا: "حتى توضع في اللحد". الأمر الثالث: أن تقييد القسم الثاني بما إذا كان الرجوع قبل إهالة التراب ليس مطابقًا لكلام الإمام، فإنه يشعر بأنه إذا كان بعده، وقبل تمام الدفن لا يكون الحكم كذلك حتى يحصل جزمًا، وليس كذلك، بل هما سواء، وقد صرح الإمام بذلك فقال: وإن نضد اللبن، ولم يهل التراب بعد أو لم يستكمل بعد، تردد فيه بعض أئمتنا. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه البخاري (47) ومسلم (945). (¬3) حديث (945) من حديث أبي هريرة.

قوله: المستحب في حال الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، وما ذكر من كونه مستحبًا لا واجبًا، محله إذا كان دفنهم في وقت واحد. فأما إذا دفن واحد ثم أريد نبشه لدفن غيره فهذا حرام، وقد صرح بالتحريم في "شرح المهذب" فقال: لا يجوز أن يدفن ميت في موضع ميت حتى يبلى الأول، صرح به أصحابنا. وأما قول الرافعي: المستحب في حال الاختيار أن يدفن كل إنسان في قبر فمتأول على موافقة الأصحاب. هذا كلامه. والتأويل الذي أشار إليه هو ما ذكرناه من دفنهم في وقت واحد، وقد ذكرها في الشرح المذكور بعد ذلك، وحكى فيها وجهين، واقتضى كلامه تصحيح الجواز. قوله: ولا يجمع بين الرجال والنساء في القبر إلا عند شدة الحاجة. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، ولم يبينا أن ذلك على سبيل التحريم أو الكراهة. وقد بينه في "شرح المهذب" فقال: إنه حرام، قال: حتى في الأم مع ولدها. وذكر صاحب "التعجيز" في شرحه له أنه إذا كان بينهما زوجته أو محرمته فلا منع كحال الحياة، ونقله عن ابن الصباغ وغيره، والذي ذكره متجه. بل في "حلية الروياني" ما حاصله الجواز مطلقًا. قوله: وهل يجعل حاجز التراب بين الرجلين المدفونين في القبر، وكذا بين المرأتين؟

قال العراقيون: لا يختص، بل يعم الجميع. وأشار جماعة إلى الاختصاص. انتهى. والصحيح كما قاله في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" هو قول العراقيين. قال: ونص عليه الشافعي في "الأم". قوله في أصل "الروضة": القبر يحترم توقيرًا للميت فيكره الجلوس عليه والإتكاء ووطؤه إلا لحاجة كوصوله إلى قبر ميته. قلت: وكذا يكره الاستناد إليه، قاله أصحابنا، والله أعلم. انتهى كلامه "الروضة". وما ذكره من كراهة هذه الأمور قد جزم به أيضًا في "شرح المهذب" في آخر باب الدفن، ثم أعادها في باب التعزية من الشرح المذكور، وجزم بكراهة الاستناد والاتكاء. ثم قال: وكره الشافعي والجمهور الجلوس عليه ودوسه، وقال الشيخ في "المهذب"، والمحاملي في "المقنع": لا يجوز. إذا علمت ذلك فقد قال في "شرح مسلم" في أواخر كتاب الجنائز قبيل كتاب الزكاة بثلاث أوراق ما نصه: قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه، والقعود عليه حرام، وكذلك الاستناد إليه والاتكاء عليه. هذا لفظه، وهو اختلاف عجيب، ولا يخفى أن الفتوى على المذكور في "الروضة"، وذكر الصيمري في "شرح الكفاية" [مثل] (¬1) ما في "المقنع" و"المهذب" فقال: ولا يحل لأحد أن يمشي على قبر، ولا ينبغي أن يستند إليه. هذه عبارته. قوله: الثانية: تستحب زيارة القبور للرجال، وأما النساء فهل تكره ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لهن؟ فيه وجهان: أحدهما: ولم يذكر الأكثرون سواه: نعم. والثاني: وهو الأصح عن الرويانى: لا تكره إذا أمنت الفتنة. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن إطلاق الكراهة للنساء قد تابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك، بل يستثنى منه قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن زيارته مستحبة لهن بلا نزاع كما اقتضاه كلامهم في كتاب الحج حيث قالوا: يستحب لكل من حج أن يزور قبره -عليه الصلاة والسلام-. وصرح باستثنائه هاهنا بعض المتأخرين ممن تكلم على التنبيه وهو الدمنهوري الكثير الاعتراض على التنبيه، وأضاف إليه قبور الأولياء والصالحين والشهداء. الأمر الثاني: أن الوجه الذي صححه الروياني وهو القائل بعدم الكراهة قد فهم النووي منه أن المراد به الإباحة، فصرح به في "المنهاج" من زوائده، وليس كذلك، فإني قد راجعت كلام الروياني في "البحر" فوجدت حاصله أن حكمهن على هذا الوجه حكم الرجال في الاستحباب، فإنه قال: تستحب زيارة القبور للرجال، ثم تكلم على كراهة ذلك للنساء فقال: وقيل: كانت الكراهة قبل أن يرخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وهذا أصح عندي إذا أمنت الافتتان. هذه عبارته. وحاصلها ما ذكرناه لا ما فهمه عنه النووي، ثم فحصت عن ذلك أيضًا فلم أرَ أحدًا قال بالإباحة. ونقل أيضًا في "زوائد المنهاج" وجهًا لم يذكره في "الروضة" أنه حرام عليهن، وقد ذكره في "شرح المهذب" أيضًا، ونقل عن الشاشي

تفصيلًا استحسنه فقال: إن كانت زيارتهن للبكاء وتجديد الحزن ونحوهما مما جرت به عادتهم حرم؛ فإن كانت للاعتبار كره للشابة دون العجوز، لكن الأحب لهما أيضًا حسم المادة. الثالث: سكت المصنف على الخنثى، والظاهر أنه في ذلك كالمرأة. قوله: ولا يجوز نبش القبر إلا في مواضع منها كذا. . . . إلى آخره. أهمل التصريح هنا بمسائل: إحداها -ذكرها في الطلاق: وهي ما إذا قال: إن ولدت ذكرًا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فطلقتين، فولدت ميتًا لم يعلم حاله ودفن ففي نبشه احتمالان حكاهما الرافعي عن الروياني، وصحح النووي من زياداته نبشه. والثانية: إذا لحق الأرض المدفون فيها سيل ونداوه فالأصح في "شرح المهذب" أنه يجوز النقل وذكر مثله في "زيادات الروضة" فقال: قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": إذا لحق الأرض سيل أو نداوة فقد جوز الزبيري نقله منها، وأباه غيره. وقول الزبيري أصح. هذا كلام "الروضة". فقوله: (إن قول الزبيري أصح) ليس من كلام الماوردي، بل هو من كلام النووي، فإن المسألة مذكورة في آخر "الأحكام السلطانية" بدون هذا التصحيح. وقد أحسن في "شرح المهذب" حيث صرح بأن التصحيح له. الثالثة: ذكرها الغزالي في كتاب الشهادات: وهي إذا شهد عليه بشهادة في حياته وكان يعرفه بصورته لا بالنسب، جاز نبشه إذا عظمت الواقعة واشتدت الحاجة، ولم يتغير الميت. قوله: منها لو وقع في القبر خاتم أو غيره نبش ورد. انتهى.

ومقتضاه أنه لا فرق بين أن يطلبه صاحبه أم لا، وهو مقتضى إطلاق الأصحاب كما قاله في "شرح المهذب"، قال: وقيده في "المهذب" بحالة الطلب ولم يوافقه الأصحاب على التقييد. قلت: ووافقه عليه ابن عصرون. قوله: ولو ابتلع في حياته مالًا ثم مات، وطلب صاحبه الرد شق جوفه ورد. قال في "العدة": إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته فلا يخرج، ولا يرد في أصح الوجهين. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن صاحب "العدة" وسكت عليه قد ذكر مثله في "الروضة" ولم يبينا أنه استدراك معمول به، أو مقالة مرجوحة. والمراد هو الثاني وقد أوضحه في "شرح المهذب" فقال: وهذا النقل غريب، والمشهور للأصحاب إطلاق الشق من غير تفصيل. هذا كلامه. قوله: ولو ابتلع مال نفسه ومات، فهل يخرج؟ فيه وجهان: قال الجرجاني في "الشافي": الأصح أنه يخرج. انتهى. وهذا الذي صححه الجرجاني صححه أيضًا العبدري في "الكفاية"، لكن المشهور خلافه، فقد جزم به المحاملي في "المقنع"، وصححه الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب في "المحرر"، والنووي في "زيادات الروضة"، وهو مفهوم كلام صاحب "التتمة". قوله: فرع: لو مات إنسان في السفينة، فإن كان بقرب الساحل أو بقرب جزيرة انتظروا ليدفنوه في البر، وإلا شدوه بين لوحين كيلا ينتضح وألقوه في البحر ليلقيه البحر إلى الساحل لعله يقع إلى قوم يدفنونه. فإن كان أهل الساحل كفارًا ثقل بشئ ليرسب. انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله الرافعي في ما إذا كان أهل الساحل كفارًا خلاف مذهب الشافعي، وقد أوضحه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" فقال: العجب من الإمام الرافعي مع جلالته كيف حكى هذه المسألة على هذا الوجه، وكأنه قلد فيه صاحبى "المهذب" و"المستظهري"، وهو خلاف نص الشافعي، وإنما هو مذهب المزني لأن الشافعي قال: يلقى بين لوحين ليقذفه البحر. قال المزني: هذا الذي قاله الشافعي محله إذا كان أهل الساحل مسلمين، فإن كانوا كفارًا ثقل بشئ ليرسب إلى القرار. قال أصحابنا: الذي قاله الشافعي أولى لأنه يحتمل أن يجده مسلم فيدفنه إلى القبلة. وعلى قول المزني يتيقن ترك الدفن، وذكر الشيخ أبو حامد وصاحب "الشامل" وغيرهما أن المزني ذكر ذلك في "جامعه الكبير" وأنكر القاضي أبو الطيب عليهم وقال: إنما ذكرها المزني في "جامعه" كما قالها الشافعي. الأمر الثاني: أن الإلقاء بين اللوحين لا يجب، بل يجوز لهم تثقيله وإلقاؤه في البحر. كذا نقله الأصحاب عن الشافعي. قال النووي: وعبارة الشافعي رجوت أن يسعهم قال: وهو بمعناه. قوله من زياداته: قال أصحابنا: ولا يكره الدفن بالليل. قالوا: وهو مذهب العلماء كافة إلا الحسن البصري. قالوا: لكن المستحب أن يدفن نهارًا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن تمكين الذمي من الدفن نهارًا فيه كلام يأتيك في بابه. الثاني: أن الذي قاله من اتفاق العلماء وأنه لم يخالف إلا الحسن ليس

كذلك، وقد رأيت في "الذخيرة" للبندنيجي أن الداركي من أصحابنا قال بالكراهة. الثالث: أن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من النهار لا من الليل، ولا شك في لحاقة بالليل لوجود المعنى، وهو مشقة الإجماع، بل هو في المشقة أشد مما بعد الغروب لاسيما إذا جهز وحمل قبل الغروب، ولم يبق بعد الغروب إلا الدفن أو كان البيت مثلًا في المقبرة لأن البيت لا يؤخر لكثرة المصلين. ولقائل أن يمنع استحباب التأخير إلى النهاية في الصورتين المذكورتين طلبًا للإسراع بالجنازة. قوله: ولا يكره الدفن في الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها بالإجماع، وأجابوا عن حديث عقبة بن عامر في "صحيح مسلم": ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا (¬1). وذكر وقت الاستواء والطلوع والغروب. وأجاب القاضي أبو الطيب وصاحب "التتمة" بأن الحديث محمول على تحري ذلك، وقصده بخصوصه دون ما قبله وبعده. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الجواب قد نقله في "شرح المهذب" عن غيرهما أيضًا، واستحسنه فدل ذلك على موافقته على الكراهة عند القصد المذكور. الثاني: أن المراد بالأوقات التي يكره تحريها، إنما هي الثلاثة المذكورة في الحديث لا الوقتان الآخران المتعلقان بالفعل، وهما ما بعد صلاة الصبح وصلاة العصر، وإن كانت الصلاة فيهما مكروه أيضًا، فاعلمه، وكلام الكتاب والحديث والمعنى يدل على ذلك والمذكور في "المنهاج" في هذا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (831) وأبو داود (3192) والترمذي (1030) والنسائي (560) وابن ماجة (1519) وأحمد (17415).

الموضع غير مستقيم كما ذكرته في شرحه فتفطن له. وقوله في الحديث (نقبر) يجوز فيه ضم الباء وكسرها، قاله الجوهري. قوله فيها: وأما نقل الميت من بلد إلى بلد فقال الشافعى: لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فيجاز. وقيل: يكره. وقيل: يحرم وهو الأصح. انتهى ملخصًا. وفيه أمران: أحدهما: أن إطلاقه يقتضي أنه لا فرق بين أن يتغير أم لا، وينبغي القطع بالتحريم عند التغيير. الثاني: أن التعبير بالبلد لا يمكن الأخذ بظاهرها لا تصريحًا ولا مفهومًا، فإن الصحراء كذلك بلا شك وحينئذ فينتظم منها مع البلد أربع مسائل وهي النقل من بلد إلى بلد، أو إلى صحراء، ومن صحراء إلى بلد أو صحراء. ثم إن البلدين المتصلين أو المتقاربين يجوز فيهما ذلك بلا شك، ولهذا نقل سعد وسعيد من العقيق إلي المدينة لاسيما أن العادة جارية بالدفن خارج البلد، ولعل الاعتبار في كل بلد بمسافة مقبرتها إلا إذا نقل إلى ما هو أقل منها. قوله أيضًا من زياداته: قال الشافعي: ولو أن مجتازين مروا بميت عليه أثر الغسل والكفن والحنوط دفنوه، فإن أرادوا الصلاة عليه صلوا بعد دفنه على قبره، لأن الظاهر أنه صلى عليه. انتهى. لقائل أن يقول: الأصل عدم ذلك كله، فلم لا يخرج على الأصل، والغالب. وحينئذ فيكون المرجح وجوب الغسل والصلاة، وهذا البحث في الصلاة أقوى منه في الغسل.

القول في التعزية

قال -رحمه الله- القول في التعزية قوله: لكن تأخير التعزية إلى ما بعد الدفن أحسن لاشتغال أهل الميت بتجهيزه. انتهى. وما قاله من استحباب التأخير ليس على إطلاقه بل يستثني منه ما إذا رأى من أهل الميت جزعًا شديدًا، فإنه يختار تقديم التعزية ليصبرهم، هكذا قاله الأصحاب، واستدركه النووي في "زيادات الروضة". قوله: وإلى متى تشرع التعزية؟ . فيه وجهان: أظهرهما إلى ثلاثة أيام، فلا يعزى بعدها إلا إذا كان المعزي أو المعزى غائبًا. والثاني: لا أمد لها. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: لم يبين هو ولا النووي في "الروضة" ابتداء هذا الباب، وقد حكى الخوارزمي في "الكافي" وجهين: أحدهما: من حين الموت. والثاني: من حين الدفن. وصحح الأول ونقله في "الكفاية" عن الماوردي واقتصر عليه، وجزم في "شرح المهذب" بالثاني ونقله عن الأصحاب. الأمر الثاني: أن كلامهما يوهم مشروعية الثلاث عند قدوم الغائب، فهل هو كذلك أم يختص بحالة الحضور؟ قال المحب الطبري شيخ مكة: لم أرَ فيه نقلًا، والظاهر مشروعية الثلاث بعد الحضور، ذكره في "شرح التنبيه".

قلت: وقولهم في البيع: إن الخيار يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر، يؤيده. قوله: ويجوز للمسلم أن يعزي الذمي بقريبه الذمي فيقول: أخلف الله عليك ولا نقص عددك. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وعلله الأصحاب بأن فيه تكثيرًا للجزية. إذا تقرر ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بالجواز يشعر بعدم الاستحباب وبه صرح في "شرح المهذب" وبالغ فقال: وما قالوه مشكل لأنه دعاء ببقاء الكافر ودوام كفره، والمختار تركه. هذه عبارته. وكلام جماعة منهم الشيخ في "التنبيه" و"المهذب" كالصريح في أن المسلم تستحب له هذه التعزية بهذا اللفظ فتأمله. الأمر الثاني: أن مقتضى التصوير بالذمي والتعليل بتكثير الجزية عدم المشروعية إذا كان الكافر حربيًا إما تحريمًا، وهو الظاهر، وإما كراهة، فتفطن له. وقد استثناه الجيلي شارح "التنبيه". قوله: والبكاء على الميت جائز قبل الدفن وبعده، وقبله أولى لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا وجبت فلا تبكين باكية" (¬1). وجعل -عليه السلام- ولده إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه فذرفت ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3111) والنسائي (18446) وابن حبان (3189) والحاكم (1300) والشافعي (1666) والطبراني في "الكبير" (1779) والبيهقي في "الشعب" (9880) وفي "الكبرى" (6945) والطحاوي في "شرح المعاني" (6461) وابن المبارك في "الجهاد" (68) من حديث جابر بن عتيك. قال الألباني: صحيح.

عيناه. . . . إلى آخره. فيه [أمور]: أحدهما: أن تعبيره بالجواز يشعر بعدم الكراهة بعد الموت وهو كذلك، فإن الجمهور كما قاله في "شرح المهذب" قالوا بأنه خلاف الأولى. وقيل: يكره للحديث. الثاني: أن تعبيره بقوله: (قبل الموت أولى) ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ومقتضاه طلب البكاء وبه صرح ابن الصباغ فقال: إنه مستحب، وفيه نظر. وعبر الشافعي في "الأم" بعبارة حسنة فقال: أرخص فيه. الثالث: في بيان الألفاظ والأحاديث منها. البكاء: وهو بالقصر اسم للدمع، وبالمد لرفع الصوت، قاله الجوهري. وكلام الرافعي يحتمل الأمرين. ومنها حديث: "فإذا وجبت. . . ." رواه جماعة بأسانيد صحيحة منهم مالك في "الموطأ" (¬1). ومعنى وجبت: أي خرجت روحه؛ وقد ورد الحديث بهذا التفسير. ومنها حديث إبراهيم رواه الشيخان من رواية أنس. ومعنى يجود بنفسه أى: يخرجها كالذي يجود بماله فيخرجه، قال تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (¬2) ومصدره على وزن فعول. وذرفت: بالذال المعجمة أي سالت، يقال: ذرف يذرف ذرفًا كضرب يضرب ضربًا. قوله: والندب حرام، وهو أن يعد شمائل الميت فيقال: والهفاه واجبلاه ¬

_ (¬1) حديث (554). (¬2) سورة الأنعام (93).

ونحو ذلك. انتهى. الشمائل: جمع شِمال بكسر الشين المعجمة على وزن هلال وكتاب، وهو ما اتصف به الشخص من الطباع كالكرم والبخل والشجاعة والجبن ونحو ذلك. قال الشاعر: ألم يعلما أن الملامة نفعها قليل ... وما لومي أخي من شماليا أي من طباعي والبيت ليغوث الحارثى (¬1)، وغلط الجوهري فنسبه لجرير. إذا تقرر هذا فاعلم أيضًا أن مجرد تعداد الشمائل لا يمكن وصفه بالتحريم، وإلا لدخل المؤرخ والمادح ونحو ذلك، بل لابد معه من شئ آخر كبكاء ونحوه. وقد صرح بذلك في "شرح المهذب" أعني بتقييده مع البكاء، وذكر الشيخ في "التنبيه" نحوه أيضًا فقال: ويجوز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة إلا أنه نص على جواز البكاء الغير المقترن بالندب أو النياحة. والنووي عكس، نعم النياحة لا يشترط في تحريمها مقارنتها لشئ، وقد استفدنا من كلام "التنبيه" تحريم البكاء أيضًا عند انضمامه إلى الندب، وإن كان كل منهما جائزًا على انفراده. وما نقلناه عن "شرح المهذب" من اشتراط ضم البكاء إلى الندب في التحريم قد خالفه في "الأذكار" فقال: والندب: تعديد النادبة بصوتها محاسن الميت. ¬

_ (¬1) شاعر جاهلي يماني، وفارس شجاع وهو من أهل بيت عريق في الشعر في الجاهلية والإسلام، توفي سنة 43 ق. هـ.

قوله: ويستحب لجيران الميت والأباعد من قرابته تهيئة طعام لأهل الميت يشبعهم في يومهم وليلتهم والأباعد. انتهى. استدرك في "الروضة" فقال: لو كان الميت في بلد وأهله في غيره استحب لجيران أهله اتخاذ الطعام لهم قال: فلو عبر بقوله: يستحب لجيران أهله اتخاذ الطعام لهم لدخلت هذه الصورة. والتعبير باليوم والليلة هو عبارة الشافعي، وهو ظاهر إذا مات في أوائل اليوم، فإن مات ليلًا فيتجه اعتبار يوم وليلة مستقبلتين، وإن كان في آخر اليوم فقياسه كذلك أيضًا مع الليلة الثانية لاسيما إذا تأخر الدفن تلك الليلة.

باب تارك الصلاة

باب تارك الصلاة قوله: فنقول: تارك الصلاة ضربان أحدهما: تركها جحدًا لوجوبها فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام يجوز أن يخفى عليه وجوبها، ويجري هذا الحكم في جحود كل مجمع عليه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الجحد كافٍ في الحكم بالردة حتى لو أتى بالصلاة، ولكن قال: إنها غير واجبة حكمًا بأنه مرتد. الثاني: أنه يرد على حصره من نشأ [منفردًا] (¬1) في بادية بعيدة فإنه لا يكفر أيضًا، وهكذا سائر أركان الإسلام. وهذا الذي ذكرناه قد استثناه النووي في "تصحيح التنبيه" في الصلاة، وذكر في "شرح المهذب" قبيل صدقة المواشي أنه لا حاجة إلى استثناء الصورتين معًا لأنهما خارجان بلفظ الجحود، فإن أهل اللغة قالوا: إن الجحد إنكار ما اعترف به المنكر. وذكر أيضًا في الصلاة نحوها أيضًا، وهذا يوقع في اعتراض آخر، وهو استثناء ما لا حاجة إلى استثنائه. فالصواب تركها [بناءًا] (¬2) على ما نقله أو ذكرهما [بناء على أن الجحد قد يعم مجازًا. الثالث: أطلق الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه. قال في "الروضة" و"شرح المهذب": وليس هو على إطلاقه، بل ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

من جحد مجمعًا عليه فيه نص وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة أو الزكاة ونحو ذلك فهو كافرا، ومن جحد مجمعًا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وغيره من الحوادث التي يجمع عليها أهل العصر فليس كافر، ومن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نص فيه، ففي الحكم بتكفيره خلاف يذكر إن شاء الله تعالى -هذا كلامه -رحمه الله-. لكن تعليل الرافعي قريب العهد بالإسلام بكونه يجوز أن يخفى عليه يخرج إيراد نحو السدس. ونقل الرافعي في باب حد الخمر عن الإمام أنه خالف في ذلك فقال: ولم يستحسن الإمام إطلاق القول بتكفير المستحل، وقال: كيف يكفر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه ونضلله وأَوَّل ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع، ثم حلله فإنه يكون رادًا للشرع وهذا إن صح فليجر مثله في سائر ما حصل الاجماع على افتراضه وتحريمه. هذا كلامه، ولم يحكه في "الروضة" هناك. قوله: ومتى يقتل؟ فيه أوجه: الصحيح: بترك صلاة واحدة إذا ضاق وقتها. والثاني: إذا ضاق وقت الثانية. والثالث: إذا ضاق وقت الرابعة. والرابع: إذا ترك أربع صلوات. والخامس: إذا ترك من الصلوات قدرًا يظهر به لنا اعتياده الترك، وتهاونه بالصلاة. والمذهب الأول، والاعتبار بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة، فإذا

ترك الظهر لم يقتل حتى تغرب الشمس، وإذا ترك المغرب لم يقتل حتى يطلع الفجر، حكاه الصيدلاني، وتابعه الأئمة عليه. انتهى ملخصًا. وما ذكره في أول كلامه من تصحيح القول بالقتل إذا ضاق وقت الأول مع ما نقله في آخر كلامه قد تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وهو ظاهر التناقض بديهي التنافي، فإن مقتضى الأول أنه يقتل بترك الظهر إذا بقى من وقت العصر مقدارًا يسعها فقط اعتبارًا بالضيق، ولا يتوقف على خروج الوقت، حتى لو بادر شخص فقتله في تلك الحالة فلا قود عليه ولا دية وآخر كلامه يدفع ذلك. وقد اقتصر في "التحقيق" على اعتبار الضيق، ولم يعرج على الإخراج، وفي "المحرر" و"المنهاج" على الإخراج، وعلى هذا فلو أخرجها شرعًا كما لو بقى مقدار لا يسع ركعة فهل هو كالإخراج الحسى؟ فيه نظر، فتلخص أن هنا ثلاث أمور وهي: ضيق الوقت بحيث لا يبقى إلا مقدار الفعل، ونقصانه عن الركعة، وخروجه بالكلية. وللنظر مجال في المعتبر منها، والأوجه الثاني وقد جزم به في "الكفاية" في ذيل كلام نقله عن القاضي أبي الطيب فقال: على أنا نقول: إذا ضاق وقت الصلاة بحيث يتحقق فواتها إذا لم يؤدها توجب عليه القتل في تلك الحالة. هذه عبارته بعد أن نقل عبارة تقتضى الأول، وأخرى تقتضى الأخير. قوله: الثانية: على اختلاف الوجوه لابد من الاستتابة قبل القتل، فإنه ليس أشد حالًا من المرتد، والمرتد يستتاب، وهل تكفي الاستتابة في الحال أم يمهل ثلاثة أيام؟ قولان: قال في "العدة": المذهب أنه لا يمهل، والقولان في الاستحباب، وقيل: في الإيجاب. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تارك الصلاة يقتل حدًا، والحدود لا تسقط في ظاهر الحكم

بالتوبة، والمقتول عليه هنا إنما هو التأخير عن الوقت عمدًا كما صرح به هنا في "الروضة" من زياداته، وإن كان ظاهرًا. وحينئذ فكيف تنفع فيه التوبة؟ وهذا لمن سرق نصابًا ثم رده، فإن القطع لا يسقط. الثاني: أن تعبيره بقوله: (لابد. . . . إلى آخره) قد ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وهو يشعر بأن الصحيح وجوب استتابة تارك الصلاة، ويدل عليه أيضًا دلالة صريحة ما ذكره في آخر المسألة أن القولين في الاستحباب، وقيل: في الإيجاب. إذا علمت ذلك فقد خالف فيه النووي في "التحقيق" فقال: ويستتاب ندبًا، وقيل: وجوبًا في الحال، وقيل في قول: ثلاثة أيام. هذا لفظه. وعلى ما قاله في "التحقيق" فالفرق بينه وبين المرتد حيث صححوا وجوب استتابته أن الردة مقتضية للخلود في النار، فأوجبنا الاستتابة فيها إنقاذًا له من العذاب الأبدي بخلاف ترك الصلاة. واذا علمت هذا علمت أن ما حاوله الرافعي من كون هذا أولى من المرتد بوجوب الاستتابة ممنوع. الثالث: قد تقرر أن تارك الصلاة يقتل حدًا لا كفرًا، والحدود إذا أقيمت كانت مسقطة للعقاب في الدار الآخرة كما صرح به جماعة منهم النووي في "فتاويه"، وحينئذ فلا يبقى على التارك بعد قتله إثم بسبب الترك فاعلمه، فإن كلامهم هنا قد يوهم خلافه، وهذا البحث يؤيد الفرق المتقدم وينفع في الكلام على مسائل من هذا الباب كغسله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وطمس قبره وغير ذلك. قوله: وعن صاحب "التلخيص": أنه ينخس بحديدة ويقال: قم فصل، فإن قام ترك، وإلا زيد في النخس حتى يصلي أو يموت لأن المقصود حمله على الصلاة، فإن فعل فذاك وإلا عوقب كما يعاقب الممتنع من سائر الحقوق ويقاتل. انتهى كلامه.

وهو يقتضي أن الامتناع من الحقوق كالديون والودائع وغيرها يبيح المقاتلة عليها، والعقاب إلى الموت وهو كلام عجيب مخالف للمذكور في التعزير وغيره فليتأمل، ولم يذكر التعليل المذكور في "الروضة". قوله: فرعان: أحدهما: قال حجة الإسلام في "الفتاوي": لو امتنع من صلاة الجمعة وقال: أصليها ظهرًا بلا عذر، لم يقتل لأنه لا يقتل بترك الصوم، فالجمعة أولى لأن لها بدلًا، وتسقط بأعذار كثيرة. انتهى. وهذا الذي نقله عن الغزالي وسكت عليه فقد خالفه فيه الشاشي فجزم في "فتاويه" بأنه يقتل، واختاره ابن الصباغ في "فتاويه" أيضًا لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها هكذا ذكره في "شرح المهذب" حكمًا وتعليلًا، وذكر في "الروضة" نحوه أيضًا، واقتضى كلامه فيهما [الميل] (¬1) إليه، وصرح باختياره في "التحقيق" فقال: ولو امتنع من الجمعة وقال: أصليها ظهرًا فالأقوى قتله. هذا كلامه. وقد ذكر ابن الصلاح في "فتاويه" أن القتل يجب بمجرد ترك الجمعة سواء صلى الظهر أم لا، ولا يسقط القتل إلا بالتوبة لأنه لا قضاء لها بخلاف سائر الصلوات، فإن القتل وإن وجب بمجرد الترك حتى لا يقاد المبادر إلى قتله قبل استتابته لكن يسقط بالقضاء. قوله من زوائده: ولو قال: تعمدت ترك الصلاة بلا عذر، ولم يقل: ولا أصليها، قتل أيضًا على المذهب لتحقق خيانته، وفيه وجه أنه لا يقتل ما لم يصرح بالامتناع من القضاء. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في كتاب الحج في الكلام على الجماع، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة وهي ستة أنواع: زكاة الغنم، ولها شروط: قوله: الزكاة أحد أركان الإسلام، فمن منعها جاحدًا كفر إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور، يتعين ذكرها قد سبق إيضاحها في الباب الذي قبله. قوله: قال الأصحاب: الزكاة نوعان: زكاة الأبدان وهي الفطرة، ولا تعلق لها بمال، إنما يراعى فيها إمكان الأداء. انتهى. تابعه في "الروضة" على اعتبار هذا الشرط في زكاة الفطر وهذا يقتضي أن المال لو تلف قبل إمكان أدائها منه لم تستقر في الذمة والمسألة فيها وجهان في باب زكاة الفطر من "شرح المهذب" و"الكفاية" وغيرها. والصحيح منها على ما نقله في "شرح المهذب" عن غيره ولم ينكره هو عدم الاستقرار كما دل عليه كلام الرافعي هنا، ولكن مقتضى كلام ابن الرفعة أن المشهور عدم السقوط، وبه جزم في الكتاب المذكور أيضًا قبيل باب صدقة المواشي، ويؤيده أن الصحيح في موت المخرج عنه قبل التمكن هو عدم السقوط على ما قاله في "الروضة". قوله في "الروضة": وأما العبد القني فلا يملك بغير تمليك السيد قطعًا، ولا بتمليكه على المشهور. انتهى. وما ذكره من عدم الخلاف ذكره في مواضع منها الوقف والظهار، ويأتي الكلام عليه في الوقف.

قوله أيضًا في "الروضة": فإن ملكه السيد مالًا زكويًا، وقلنا: لا يملك، فالزكاة على سيده. وإن قلنا: يملك. فالزكاة على العبد قطعًا لضعف ملكه، ولا على السيد على الأصح. انتهى. وتعبيره بالأصح يقتضى أن في المسألة وجهين، وقد خالف في "شرح المهذب" فصحح القطع بعدم الوجوب فقال: فيه طريقان: الصحيح منهما، وهو المشهور، وبه قطع كثيرون: لا يلزمه. والثاني: فيه وجهان، وقد جزم الرافعي أيضًا وتبعه عليه في "الروضة" بأنه إذا ملكه عبدًا وقلنا: يملكه أن زكاة الفطر لا تجب على سيده ولم يذكر فيه هذا الخلاف فيحتاج إلى الفرق. وقد خرجه عليه الماوردي وغيره. قال في "شرح المهذب": إن جريان الخلاف شاذ باطل. قوله: اعلم أن الناقة أول ما تلد يسمى ولدها ربعًا، والأنثى ربعة، ثم يقال لها هيع وهيعة، ثم فصيلا إلى تمام سنة، فإذا طعن في السنة الثانية سمى ابن مخاض. . . إلى آخر ما ذكر. اعلم أن هذه الألفاظ الأربعة أولها مضموم، وثانيها مفتوح، وما ذكر الرافعي هنا قد تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية"، وفي غير ذلك من الكتب. وحاصله أن المولود يسمى أولًا ربعًا، فإذا كبر قيل له: هيع، وكذلك الأنثى. كما يسمى بعد ذلك ابن مخاض ثم ابن لبون. . . . إلى آخر الأسنان. وهذا الذي اقتضاه كلامه غلط صريح، بل الذي نص عليه أهل اللغة، ومنهم الأزهري في كلامه على "المختصر"، والجوهري في فصل الراء،

وفصل الهاء من باب العين أن الربع هو الذي ينتج في أول زمان النتاج، وهو زمان الربيع، وجمعه رباع بكسر الراء، وأرباع. والهيع هو الذي ينتج في آخر النتاج في زمان الصيف وسمى بذلك كما قاله الجوهري من قولهم: هيع إذا استعان بعنقه في مشيه، وذلك أن الربع أقوى منه لكونه ولد قبله، فإذا سار الهيع معه احتاج أى الهيع إلى الاستعانة بعنقه حتى لا ينقطع عنه. قال: وهو في جميع السنة يسمى حوارًا أى بضم الحاء وبالراء المهملتين، وسمى فصيلًا لأنه فصل من أمه. قوله: ثم إذا استوفى الولد ثلاث سنين وطعن في الرابعة سمى الذكر حقًا والأنثى حقة. ولم سمى بذلك؟ اختلفوا فيه، منهم من قال: لاستحقاقه الحمل عليه وركوبه، ومنهم من قال: لأن الذكر استحق أن ينزو والأنثى استحقت أن يُنزى عليها. انتهى. وحاصله أن المعنى الذي يحصل معه اسم الحقة الواجبة في هذا العدد الخاص، وهو استحقاق الحمل والنزوان يحصل بالطعن في الرابعة. وجزم في أوائل الأضحية بأن هذا الحيوان لا يهيأ لذلك إلا باستكمال الخامسة، والطعن في السادسة وهو غريب، فإنه إذا انتفى التهيؤ له قبل ذلك ابتغى الاستحقاق بطريق الأولى، وسوف أذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى فراجعه، ولم يتعرض في "الروضة" لبيان ذلك في الموضعين ولا في الأضحية من "شرح المهذب" فسلما من الاختلاف وقد وقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير". قوله: عن سويد بن غفلة، هو بغين معجمة وفاء مفتوحتين. قوله: واختلفوا في تفسير الجذعة والثنية على أوجه: أظهرها: أن الجذعة ما استوفت سنة، ودخلت في السنة الثانية، والثنية ما استوفت سنتين سميت الجذعة جذعة، لأنها تجذع السن أى ليسقط.

والثاني: أن الجذعة ما لها ستة أشهر، والثنية ما لها سنة، وهو الذي ذكره في الثنية. والثالث: أن الجذعة هى التى لها ثمانية أشهر والثنية لها ستة، وهو اختيار الروياني في "الحلية" ويقال: إذا بلغ الضأن سبعة أشهر، وكان بين شاتين فهو جذع، لأنه ينزو على الأنثى، وإن كان بين هرمين فلا يسمى جذعًا حتى يستكمل ثمانية أشهر. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" قد أسقط الوجه الثالث بالكلية، وجعل بدله ما ذكره الرافعي في آخر كلامه معبرًا عنه بقوله: ويقال. . . . إلى آخره وكأنه سقط من النسخة التى وقف عليها من الرافعي فلما حصل هذا السقط مع كون الرافعي قد عبر في أول المسألة بأوجه احتاج إلى تكميلها بقوله: ويقال، مع أن مثل هذا لا يعد وجهًا للأصحاب، ولهذا لم يعده الرافعي، وقد وقع هذا الغلط للنووى في "شرح المهذب" أيضًا بزيادة أخرى، وهو أنه عزى ما نقله الرافعي عن "التنبيه" للشيخ أبي إسحاق إلى "حلية الروياني"، وتابعه ابن الرفعة في "الكفاية" على هذا الغلط، ونبهت عليه في كتاب "الهداية". الأمر الثاني: أن ما نقله في آخر كلامه وهو يقال. . . . إلى آخره. نقله اللغويون وأصحابنا عن ابن الأعرابى، وممن حكاه عنه ابن الرفعة في "الكفاية" فقالوا: إنه إذا كان بين شاتين فيجذع لستة أشهر إلى سبعة أشهر، وهو مخالف لما ذكره الرافعي، وتابعه عليه في "الروضة" من كونه لا يحصل إلا بسبعة. الأمر الثالث: أن ما ذكره من الاختلاف محله إذا لم يحصل الإجذاع قبل هذا السن، فإن حصل أجزأت كما هو مقتضى كلامه في كتاب الأضحية فإنه بعد أن ذكر ما حكاه هنا قال ما نصه: نعم.

ذكر أبو الحسن العبادي أنه لو أجذع قبل تمام الستة كان مجزءًا كما لو تمت السنة قبل الجذع، ونزل ذلك منزلة البلوغ بالسن أو الاحتلام إن استوفى السن، ولم يحتلم كان بلوغًا، وإن احتلم قبل استيفاء السن كان بلوغًا، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" فقال: الجذعة هي التي استكملت سنة وطعنت في الثانية، أو جذعت سنها من قبل ذلك. هذا كلامه. واعلم أن الجذعة: بالذال المعجمة. قوله: والوقص: منهم من يفتح قافه، ومنهم من يسكنها، والشنق بمعناه. . . . إلى آخره. الفصيح من هاتين اللغتين هو الفتح، وهو المشهور في كتب اللغة، وقد نبه عليه النووي في كتبه والشنق: بشين معجمة ونون مفتوحتين. قوله في "الروضة": والأصح أنه يتخير في شياه الإبل بين الضأن والمعز، ثم قال بعد ذلك: والمذهب أنه لا يجوز العدول عن غنم البلد. وقيل: وجهان. انتهى. مراده بالثاني في أنواع الضأن وأنواع المعز فاعلمه. ثم إن الرافعي لم يصرح في هذه المسألة بحكاية طريقين، ولا بتصحيح. نعم عبر بقوله: يشبه كذا. قوله: فإذا أخرج بعيرًا عن خمس، فهل نقول: كله فرض أم الخمس فقط، والباقي تطوع؟ فيه وجهان. . . . إلى آخره. هذا قد سبق الكلام عليه مبسوطًا في صفة الصلاة وعلى نظائره، وما وقع فيه من الاختلاف في التصحيح فراجعه. قوله: واعلم أن الشاة الواجبة في الإبل يجب أن تكون صحيحة، وإن

كان الإبل مراضًا لأنها في الذمة. ثم فيها وجهان: أحدهما: وهو الذي أورده كثيرون: أنه يؤخذ من المراض صحيحة بمراعاة القيمة. والثاني: يجب فيها ما يجب في الإبل الصحاح بلا فرق، قال في "المهذب": وهذا ظاهر المذهب، ونسب الأول لأبي على بن خيران. انتهى. والصحيح هو الثاني، كذا صححه في "شرح المهذب". قوله: وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم يجدها وعنده ابن اللبون جاز دفعه عنها، فإن لم يكن في إبله بنت مخاض ولا ابن لبون فالأصح أنه يشترى أيهما شاء ويخرجه. والثاني: تتعين بنت مخاض. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ومحل الوجهين إذا لم يرد الصعود إلى فرض أعلى منه، ويأخذ الجبران، فإن أراد ذلك جاز، كذا نقله ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: الثانية: لو كانت عنده بنت مخاض كريمة، فأراد إخراج ابن اللبون فوجهان: أظهرهما عند الأكثرين، وبه أجاب الشيخ أبو حامد أنه لا يجوز. انتهى ملخصًا. وتبعه عليه في "الروضة"، وهذا الذي نقله عن الشيخ أبي حامد هو الذي كان يراه أولًا، ولكنه قد رجع عنه، وجوز إخراج ابن اللبون، كذا ذكره تلميذه سليم الرازي في "تعليقه" قبيل باب زكاة البقر. قوله: ولو فقد بنت المخاض ووجد ابن اللبون وبنت اللبون، فأراد إخراج بنت اللبون وأخذ الجبران لم يكن له ذلك في أصح الوجهين. قاله في "العدة". انتهى كلامه.

والصحيح ما قاله صاحب "العدة"، فقد قال البندنيجي في "تعليقه" والروياني في "البحر": إنه المذهب. وصححه النووي في "شرح المهذب"، وفي أصل "الروضة" أيضًا. قوله: الرابعة: لو أخرج حقًا بدلًا عن بنت مخاض عند فقدها فلا شك في جوازه، لأن إخراج ابن اللبون جائز، فالحق أجوز وأولى. انتهى كلامه. وما اقتضاه تعبيره من عدم الخلاف قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس كذلك، ففيه وجه أنه لا يجوز إخراجه لأنه لا مدخل له في الزكاة. كذا حكاه الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر"، ونقله عنهما في "الكفاية"، وخصص الوجهين بحالة وجود ابن اللبون. قال: وجزم الأصحاب عند فقده بالجواز، والذي قاله مردود، فراجعه من "الهداية". قوله: ولو ملك مائتين من الإبل فقد نص في الجديد على أن الواجب أربع حقاق أو خمس بنات لبون، لأن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات، ونص في القديم على أنه يجب أربع حقاق، فمنهم من أثبت قولين، ومنهم من قطع بالجديد. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: لم يصحح في "الروضة" شيئًا من الطريقين، والأصح طريقة القولين، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، وقال في "شرح المهذب": إنها أصح الطريقين وأشهرهما، ولا يؤخذ من "المحرر" و"المنهاج" ترجيح لشئ من الطريقين. الثاني: أن القائلين بتعين الحقاق اختلفوا، فمنهم من قال: يعينها سواء وجدا النوعان أو فقدا وهو الصحيح، ومنهم من قال: محل ذلك إذا وجدا خاصة، فإن فقدا، أخرج ما شاء. كذا حكاه الرافعي في آخر

المسألة في الكلام على ألفاظ "الوجيز"، ولم يحك في "الروضة" الوجه الثاني. قوله: فإذا أوجبنا في المائتين من الإبل إخراج الأغبط من الحقاق أو بنات اللبون فأخرج [غيره] (¬1)، نظر إن وجد تقصير منه بأن أخذه مع العلم بحالة أو أخذه من غير اجتهاد، ونظر في أن الأغبط ماذا أو أخذه بتقصير من المالك بأن دلس، وأخفى الأغبط لم يقع المأخوذ عن الزكاة، وإن لم يوجد تقصير من واحد منهما وقع. انتهى كلامه. واعلم أن النووي قد عبر في "الروضة" بقوله: إن كان بتقصير إما من الساعي بأن أخذه مع علمه أو أخذه بلا اجتهاد، وظن أنه الأغبط، وإما من المالك بأن دلس وأخفى الأغبط لم يقع المأخوذ عن الزكاة، وإن لم يقصر واحد منهما وقع. هذا لفظه وذكر مثله في "شرح المهذب" بقوله: وظن أنه الأغبط لا يفهم منه المعنى الذي ذكره، فينبغي حمل ظن على أنه مصدر إما منون أو مضاف، لا على أنه فعل. قوله: وإن لم يوجد منه تقصير أجزأ ويجب قدر التفاوت، ثم إن شاء أخرجه دراهم، وإن شاء اشترى به شقصًا، فإن أخرج الشقص صرفه إلى الساعي على قولنا: يجب الصرف إلى الإمام في الأموال الظاهرة. وإن أخرج الدراهم فوجهان: أحدهما: لا يجب الصرف إليه لأنها من الأموال الباطنة. والثاني: يجب لأنها جبران المال الظاهر. انتهى ملخصًا. والأصح الثاني، وهو الوجوب، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله في المسألة: وإطلاق الأصحاب الدراهم هنا يشبه أن يكون مرادهم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

به نقد البلد سواء كان دراهم أو دنانير، وبه صرح الشيخ إبراهيم المروروذي. انتهى. وهذا الذي قاله الرافعي بحثًا ونقله عن المروروزي فقط قد صرح به القاضي الحسين، والقاضي أبو الطيب في "المجرد" وإمام الحرمين والماوردي والروياني في "البحر". قوله: ولو أخرج عن أربعمائة أربع حقاق وخمس بنات لبون فالأصح وبه قال الجمهور: يجوز، لأن كل مائتين أصل على الانفراد. وقال الاصطخري: لا يجوز كما في المائتين، ثم قال بعد ذلك: ولعلك تقول: قد سبق أن الساعي يأخذ الأغبط عند اجتماع الحقاق وبنات اللبون. وإذا كان أغبط الصنفين هو المخرج فكيف يخرج البعض من هذا، والبعض من ذاك؟ وأجاب ابن الصباغ: بأنه يجوز أن يكون لهم حظ ومصلحة في اجتماع النوعين، وهذا يفيد معرفة شئ آخر، وهو أن جهة الغبطة غير منحصرة في زيادة القيمة وحينئذ فإذا كان التفاوت لا من جهة القيم يتعذر إخراج [القصد] (¬1). انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الروضة"، والاعتراض المذكور باطل من أصله لا يحتاج معه إلى الحمل المذكور. وإن كان الحكم الذي تضمنه صحيحًا فقد يكون عنده أربع حقاق مما يؤمر بإخراجها هي خير من كل خمس يخرجها مما عنده من بنات اللبون، ويكون في بنات اللبون خمس هي خير من كل أربع يخرجها مما بقى عنده من الحقاق، والعجب من توهم الرافعي ثم النووي صحة الاعتراض على أن اللفظ الذي نقله الرافعي عن الشامل لا ينافي الجواب الذي ذكرناه، إلا ¬

_ (¬1) في ب: الفصل.

أننى راجعت الشامل فوجدت فيه زيادة تأبي ذلك، وتقتضي ما فهمه الرافعي من عدم إرادته، ولو ذكرها الرافعي لكان أصوب. قوله: ومن وجبت عليه بنت مخاض، وليست عنده جاز أن يخرج بنت لبون، ويأخذ شاتين أو عشرين درهمًا. . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ذكر قبل هذا الفصل بنحو ورقتين كلامًا يقتضي أن الانتقال والحالة هذه إلى بنت لبون غير واجب، بل يجوز أن يعطي قيمة بنت المخاض فقال في الكلام على إجماع الحقاق وبنات اللبون عند ملكه لمائتين ما نصه: وقد يعدل إلى غير جنس الواجب لضرورة تعرض. ألا ترى أنه لو وجبت عليه شاة في خمس من الإبل، ولم يوجد جنس الشاة يخرج قيمتها، ولو لزمته بنت مخاض فلم يجدها ولا ابن لبون لا في ماله، ولا بالثمن يعدل إلى القيمة. هذا لفظه، وذكر في "الروضة" مثله أيضًا. وإذا ثبت هذا في بنت المخاض لزم القول به في سائر أسنان الزكاة. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي ذلك -أعني الإعطاء- مع الجبران عند وجود ابن لبون. والمسألة فيها وجهان: أصحهما في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة": المنع. قوله: إحداها: لو وجب عليه جذعة فأخرج مكانها ثنية ولم يطلب جبرانًا جاز، وقد زاد خيرًا، ولو طلبه فوجهان: أحدهما: يجوز، وإليه ميل العراقيين، وهو ظاهر النص. وأظهرهما عند الغزالي وصاحب "التهذيب": المنع. انتهى.

ومقتضاه رجحان الجواز لكنه رجح عكسه في "الشرح الصغير" فقال: أظهر الوجهين: المنع، وكذلك في "المحرر" فقال: إنه أحسن الوجهين. ورأيته في "التقريب" منقولًا عن الأكثرين، لكن صحح النووي في كتبه كلها الجواز، ونقله عن الجمهور كما يشعر به كلام الرافعي. قوله: الثانية: يجوز الصعود والنزول بدرجتين مع جبرانين. نعم لو رقا من بنت لبون إلى الجذعة، أو نزل عن الجذعة إلى بنت لبون مع وجود الحقة في الصورتين فلا يجوز ذلك في الأصح عند الأكثرين، ثم قال: ولو لزمته بنت لبون فلم يجدها في ماله ولا حقه، وفي ماله جذعة وبنت مخاض، فهل يجوز أن يترك النزول إلى بنت المخاض، ويرقا إلى الجذعة؟ فيه وجهان مرتبان وأولى بالجواز، وبه أجاب الصيدلاني، لأن بنت المخاض وإن كانت أقرب إلا أنها ليست في الجهة المعدول إليها. انتهى كلامه. والتعبير بالأولوية ذكره في "الروضة" أيضًا، ولا يؤخذ من ذلك تصحيح في المسألة، كما صرح به الرافعي في مواضع من هذا الكتاب، بل حاصلها أنا إن جوزنا هناك [جوزنا هنا] (¬1)، وإن منعنا هناك فهاهنا وجهان، فاعلمه. نعم الأصح في المسألة هو الجواز. كذا ذكره في "شرح المهذب"، ولكن مقتضى كلام "المحرر" و"المنهاج" هو المنع. قوله من زياداته: ولو وجبت عليه بنت مخاض فلم يجدها، ووجد ابن لبون وبنت لبون فأخرجها، وطلب الجبران لم يقبل على الأصح. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي قبل هذا الموضع في الكلام على ما إذا ملك خمسًا وعشرين من الإبل، وحكى فيها وجهين، وصحح عدم القبول كما هو مذكور هنا من زياداته. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قوله: روى أن عمر -رضي الله عنه- قال لساعيه: لا تأخذ الأكولة والربا، ولا الماخض، ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية فذلك عدل بين غذاء المال، وخياره (¬1). فالأكولة هي المسمنة للأكل في قول أبي عبيد، وقال شمر: إنها الخصي والهرمة العاقر. والربا: هي الشاة الحديثة العهد بالنتاج، يقال: هي في رباها، كما يقال: المرأة في نفاسها، والجمع: رباب بالضم. والماخض: الحامل. والغذاء: السخال الصغار جمع غذى. نعم لو تبرع المالك بشئ من هذه فإنها تؤخذ. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الأربعة المنهي عن أحدها لم يذكرها في "الروضة"، [مع] (¬2) ذكره لها في "المنهاج"، وكذلك كرائم الأموال، حتى إنه حذف أيضًا ما يفرع عليها. وهو جواز الأخذ عن تبرع المالك، وقد حكى في الكفاية وجهين في جواز أخذ الكريمة عند التراضي للنهي عن أخذها، وكذلك في جواز أخذ الربا لما يحصل لها من الهزال عقب الولادة. الثاني: أن ما ذكره من تفسير الهرمة بالعاقر أى التي لا تحمل عجيب، فإنه لم يتقدم للهرمة ذكر بالكلية، وكأنه نسى ذكرها أولًا، أو سقطت من الناقل من المسودة. نعم وقع ذكرها في حديث آخر في الصحيحين، وهو "لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار" (¬3) فيجوز أن يكون سري ذهنه إليه، وهو ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (601) والشافعي (401) والطبراني في "الكبير" (6395) وعبد الرزاق (6808) وابن أبي شيبة (2/ 368) والبيهقي في "الكبرى" (7093). قال النووي: سنده صحيح. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه البخاري (1387).

الظاهر. الثالث: في إيضاح ما وقع فيه من الألفاظ: فأما شمر: فبشين مكسورة وميم ساكنة وراء مهملة، وهو من أئمة اللغة. وأما قولهم: (هي في رباها) فهو مصدر على وزن الكتاب وأما الواقع جمعًا فإنه على وزن البكاء والدعاء كما أشار إليه بقولهم: بالضم. وأما الغذا: الواقع جمعًا فبغين معجمة مكسورة، وذال معجمة بعدها ألف ممدوة مفردة غذى لفصال وفصيل وصغار وصغير. قوله: ولو كانت غنمه صغارًا ففي ما يؤخذ وجهان. وقال صاحب "التهذيب" وغيره: قولان: الجديد: جواز أخذ الصغيرة. انتهى. ومقتضاه ترجيح كون الخلاف وجهين، وخالف في "المحرر" فجزم بأنه قولان، وتابعه في "الروضة" و"المنهاج" على الموضعين. قوله: والماشية إن اتخذ نوعها بأن كانت إبله كلها أرحبية أو مهرية أو كانت غنمه كلها ضأنًا أو معزًا أخذ الفرض منها، وذكر في "التهذيب" ثلاثة أوجه في أنه هل يجوز أخذ ثنية [من] (¬1) المعز باعتبار القيمة عن أربعين ضأنًا أو جذعة من الضأن عن أربعين معزًا، أصحها الجواز لاتفاق الجنس كالمهرية مع الأرحبية. والثاني: المنع كالبقر مع الغنم. والثالث: لا يؤخذ المعز عن الضأن، ويجوز العكس كما يؤخذ في الإبل المهرية عن المجيدية ولا عكس. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو ظاهر أو كالظاهر في مخالفة البغوى، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولهذا منع إجزاء المجيدية عن المهرية ولم يجوزها باعتبار القيمة، لكنه في "المحرر" و"المنهاج" جزم بطريقة صاحب "التهذيب". قوله: وإن اختلف نوع الجنس الذي يملكه كالمهرية والأرحبية، والمجيدية من الإبل، والعراب والجواميس من البقر، والضأن والمعز من الغنم ففيه قولان: أحدهما: أن الزكاة تؤخذ من الأغلب، فإن استويا فكاجتماع الحقاق، وبنات اللبون حتى يؤخذ الأغبط على المشهور. وأظهرهما: أنه يؤخذ من كل نوع بالقسط، ثم قال: وليس معناه أن يؤخذ شقص [من هذا، وشقص] (¬1) من ذاك، فإنه لا يجزئ بالاتفاق، ولكن المراد النظر إلى الأصناف باعتبار القيمة كما سيأتي. انتهى ملخصًا. وما ذكره من الاتفاق على امتناع التبعيض في الزكاة قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو غريب، فقد حكى الخلاف جماعة كثيرة من أصحابنا منهم الجرجاني في كتاب الزكاة من المعاياه فقال: مسألة: لا يجوز إخراج نصفي شاتين عن شاة في الزكاة على أصح الوجهين، ويجوز مثله في الهدي والأضحية وكفارات الحج. ثم بعد أن فرق قال: وأما إخراج نصفي رقبتين في الكفارة، فإن كان باقيها حرًا جاز، وإن كان الباقي رقيقًا فإنه يجوز أيضًا علي أصح الوجهين. هذا لفظه ومنهم الروياني في كتاب الظهار من "البحر" في الكلام على الكفارة فقال: فرع: لو أخرج في الزكاة نصفي شاتين بدل شاة هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو قول عامة أصحابنا. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

والثاني: يجوز. وهو اختيار الاصطخري. هذا لفظه. ومنهم الماوردي في الموضع المذكور من "الحاوي" فقال: ففي إجزائه ثلاثة أوجه، ثم قال: والثالث: إن كان باقي الشاتين للفقراء أجزأه لارتفاع الضرر عنهم؛ وإن كان لغيرهم لم يجز لدخول الضرر عليهم. هذا لفظه. والأرحبيه: بالحاء المهملة والباء الموحدة منسوبة إلى أرحب قبيلة من همذان. والمهرية: بفتح الميم جمعها مهاري منسوبة إلى مهرة بن حيدان أبو قبيلة. قاله الجوهري. وأما المجيدية فميم مضمومة وجيم بعدها ياء بنقطتين من تحت، ودال مهملة، وهي إبل دون المهرية منسوبة إلى فحل إبل يقال له مجيد؛ والجميع لقبائل من اليمن كما قاله في "البحر". قوله في المسألة: ويوضح القولين بمثالين: أحدهما له خمس وعشرون من الإبل، عشرة مهرية وعشر أرحبيه وخمس مجيدية، فعلى القول الأول تؤخذ بنت مخاض أرحبية أو مهرية بقيمة نصف أرحبيه ونصف مهرية، لأن هذين النوعين أغلب ولا ينظر إلى المجيدية. وعلى الثاني يؤخذ بنت مخاض من أى الأنواع أعطى بقيمة خمس مهرية وخمس أرحبية وخمس مجيدية. فإذا كانت قيمة بنت مخاض مهرية عشرة، وقيمة بنت مخاض أرحبية خمسة، وبنت مخاض مجيدية دينارين ونصفا أخذ بنت مخاض من أي أنواعها شاء قيمتها ستة ونصف. انتهى كلامه. وما ذكره في التفريع على القولين تابعه عليه في "الروضة" وهو غير مستقيم، فإنه قد تقدم عند حكاية القولين أنا إذا فرعنا على القول الأول

وهو اعتبار الغالب فاستويا فإنا نوجب الأغبط على المشهور. وحينئذ فقياس ذلك هنا أنا ننظر إلى الأغبط منها فنأخذها، لا إلى ما ذكره، وهو إعطاء ما شاء باعتبار التوزيع على قيمتها. فائدة: ذكر في الباب ألفاظًا منها: العوار: وهو العيب، وهو بفتح العين والراء المهملتين. وحكى أبو زيد ضم العين. ومنها ألفاظ سبق ذكرها.

باب صدقة الخلطاء

باب صدقة الخلطاء وفيه فصول: الفصل الأول: في حكم الخلطة قوله: ثم الخلطة قد تكثر الزكاة كما لو كان جملة المال أربعين من الغنم يجب فيها شاة، ولو انفرد كل بنصيبه لم يجب شئ، وقد يقال. . . . إلى آخره. اعلم أن الخلطة قد توجب الزكاة، وقد تكثرها، وقد تقللها، وهذا المثال الذي ذكره الرافعي مثال لإيجاب الزكاة لا لتكثيرها، فإنها لم تجب على واحد منهما قبل الخلطة حتى يقال: كثرت بها. بل الخلطة هى الموجبة والصواب أن تمثل الكثرة بما إذا خلط مائة شاة وشاة بمثلها، فإنه يجب على واحد شاة ونصف، ولو انفرد لزمه شاة فقط. وكذلك إذا خلط خمسًا وخمسين بقرة بمثلها لزم كل واحد مسنة ونصف تبيع، ولو انفرد كفاه مسنة، وقد وقع في "الروضة" هنا بعض تغيير لكلام الرافعي. قوله: وأما شروط خلطة الجوار فأربعة متفق عليها منها اتحاد المشرب بأن يسقي غنمها من ماء واحد نهر أو عين أو بئر أو حوض أو مياه متعددة حيث لا يختص غنم أحدهما بالشرب من موضع، وغنم الآخر من غيره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما حكاه من الاتفاق في الشرب ليس كذلك، ففي "البحر" وجه أنه إن لم يكن بين المنهلين مسافة فهما كالمنهل الواحد. الأمر الثاني: أنه يشترط أيضًا شرطان عدم التمييز في الموضع الذي تجتمع فيه إذا أريد سقيها والذي تنحى إليه إذا شربت ليشرب غيرها، ذكره

المتولي في "التتمة"، وهو في المعنى نظير المسرح وهو الموضع الذي تجتمع فيه لتستاق إلى المرعى وقد شرطه الرافعي. الشرط الثاني: أن يكون الذهاب من الموضع الذي تجتمع عند خروجها، وهو المسمى بالمسرح إلى أن تصل إلى المرعى واحد، كذا جزم به النووي في "شرح المهذب". قوله: ومنها اشتراك المالك في الراعى، حكى المصنف وشيخه فيه وجهين: أظهرهما: أنه يشترط. ويجوز أن يعلم كلامه بالواو لأن كثيرًا من الأصحاب نفوا الخلاف في اشتراطه. انتهى. لم يصرح بالأصح من هاتين الطريقتين، وإن كان كلامه ربما يؤخذ منه رجحان طريقة القطع، لكون القائلين بها أكثر عددًا. والأصح عند الرافعي طريقة الوجهين، كذا صححها في "الشرح الصغير"، وجزم بها في "المحرر". وأما النووي فاختلف كلامه، فذكر في "شرح المهذب" أن الأكثرين على القطع باشتراطه، ولم يخالفهم. وجزم في "المنهاج" بطريقة الوجهين، وكذلك في "الروضة" أيضًا، ونسى طريقة القطع فأسقطها من كلام الرافعي، فتوجه على "الروضة" ثلاث اعتراضات المناقضة والإسقاط وتصحيح ما لم يصححه الرافعي، بل في كلامه إشعار برجحان خلافه. قوله: ومنها الاشتراك في الفحل، وفيه وجهان كما في الراعي: أظهرهما -ولم يذكر الجمهور سواه: أنه يعتبر. والمراد أن تكون الفحول مرسلة بين ماشيتها لا يختص أحدهما بفحل سواء كانت الفحول مشتركة أو مملوكة لأحدهما أو مستعارة.

وفيه وجه يشترط أن تكون مشتركة بينهما. انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن اتخاذ الفحول محله إذا كانت الماشية من نوع واحد، فإن اختلفت كالضأن والمعز، لم يشترط ذلك لأن فحل كل واحد منهما لا ينزو على غنم الآخر، كذا جزم به النووي في "شرح المهذب"، وزاد فقال: لا خلاف فيه للضرورة كما لو خلط ذكورًا بإناث وكلام ابن الرفعة يوهم جريان خلاف فيه، وليس كذلك كما أوضحته في "الهداية". الأمر الثاني: أنه قد تلخص مما قاله أن الجمهور على القطع لا على إثبات الوجهين، وقد خالف "المحرر" و"الشرح الصغير" فجزم بطريقة الوجهين وقد تبعه النووي على هذا الاختلاف، وعبر بلفظ هو أصح من لفظ الرافعي فقال في "المنهاج": وكذا الراعي والفحل في الأصح. وقال في "الروضة": السادس اتخاذ الفحل، والمذهب أنه شرط، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان [أصحهما] (¬1) اشتراطه. هذا لفظه، وذكر مثله في "شرح المهذب". الأمر الثالث: أن حاصل كلامه في حكاية الوجه المذكور آخرًا أنه لا يكفي المستعار ولا المملوك لأحدهما. وهو غلط، تابعه عليه في الروضة وغيرها. ويوضح الغلط عبارة الإمام فإنه ذكر أن بعضهم يشترط الاشتراك في الراعي على معنى أنه لا يختص راعٍ برعاية غنم أحد الخليطين، بل إن اتخذ الراعي راعي المالين، وإن تعدد راعي كل واحد جميعه على العادة. ثم ذكر الفحل فقال ما نصه: فذهب بعضهم إلى أنه يجب أن يكون مشتركًا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بين الخليطين، وقال: إن كان مملوكًا فليكن مشتركًا، وإن لم يكن مملوكًا يجب أن يشتركا في استعارته، وإن تعدد الفحل فالمطلوب الاشتراك كما ذكرناه في الراعي. انتهى كلامه. فعبر بعضهم بالمشترك، ولم يوضحه كما أوضحه الإمام فقلده فيه الرافعي، وإلا فأى فرق بين المملوك والمستعار والموقوف مع اشتراكهما في المعنى. قوله: أما موضع الحلب فلابد من الاشتراك فيه، فلو حلب هنا ماشيته في أهله وذاك ماشيته في أهله فلا خلط. انتهى. تابعه عليه النووي في أكثر كتبه "كالروضة" و"شرح المهذب" وخالف في "تهذيب الأسماء واللغات" مخالفة عجيبة، فإنه جزم بعدم الوجوب، وزاد فادعى نفي الخلاف فقال في باب الحاء ما نصه: المحلب المذكور في زكاة الخلطة هو بفتح الميم وهو موضع الحلب، وهذا لا يشترط الاتخاذ فيه في ثبوت الخلطة بلا خلاف. وأما المحلب بكسر الميم فهو الإناء الذي يحلب فيه وفي اشتراط الإيجاد فيه لثبوت الخلطة وجهان: أصحهما: لا يشترط. هذا لفظه. وقد عبر النووي في "تحرير التنبيه" وتصحيحه بقوله: الأصح اشتراطه. قال في "الكفاية": وظاهر كلام النووي يفهم خلافه فيه حيث عبر بالأصح. انتهى. وهذا الوجه الذي حاول ابن الرفعة إثباته، ولم يقف على التصريح به، قد صرح به الروياني في "البحر". قوله: كما يخلط المسافرون أزوادهم، وفيهم الزهيد والرغيب. انتهى.

أما الزهيد -أي بالزاي المعجمة- فهو القليل. قال الجوهري: والزهيد: القليل، يقال: رجل زهيد الأكل. هذا لفظه. وحينئذ فتعبير الرافعي لابد فيه من تقدير لأن الزهيد هو القليل، والمراد هنا قلة خاصة، وهي قلة الأكل. وأما الرغيب فهو الواسع الجوف. قاله الجوهري: قال: ويقول: حوض رغيب وسقاء رغيب، أي بالراء المهملة، والغين المعجمة. قوله: لا خلاف عندنا في تأثير الخلطة في المواشى وأما غيرها ففيه أربعة [أقوال] (¬1): أصحها عند الأكثرين ثبوتها أيضًا لأنهما يرتفعان باتخاذ الجرين والناطور والدكان والحارس والمتعهد، وكذا البيت والنهر الذي يسقي منه، وغير ذلك. وثانيها: لا. وثالثها: تثبت خلطة الشيئين دون الجوار. ورابعها: لا تثبت خلطة الجوار في النقدين وأموال التجارة، وتثبت فيهما خلطة الشيوع. وأما الثمار والزروع فتثبت فيها الخلطتان جميعًا. وصورة ذلك بأن يكون لكل واحد صنف نخيل أو زرع في حائط، أو كيسان من الدراهم في صندوق واحد أو متعة تجارة في جرابه واحدة. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدهما: أن هذا القول الرابع هو خلاصة طريقة نقلها الرافعي عن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القفال وجماعة، فأسقطها في "الروضة" وسبب غلطه ذهول وقع أيضًا للرافعي فإنه في آخر الكلام عبر بقوله: واعلم أنا حيث أثبتنا الخلاف وتركنا الترتيب حصلت ثلاثة أقوال. هذه عبارته، فقلده فيه المصنف فحصل ما حصل. الأمر الثاني: أن ما قاله الرافعي من نفي الخلاف في المواشي قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك، فقد تقدم في أول الباب أن الحناطي حكى وجهًا أن خلطة الشيوع لا تؤثر فيها أيضًا. الأمر الثالث: أن هذه الشروط التي ذكرها الرافعي على سبيل التعليل قد صرح أيضًا في "المحرر" باشتراطها فقال: ويشترط أن لا يتميز الماء لأن في الناطور والجرين والدكان والحارس ومجان الحفظ ونحوها. هذه عبارته. وذكر مثله في "المنهاج"، ولم يتعرض في "الروضة" لشئ من ذلك بالكلية لا شرطا ولا تعليلًا، وقد ذكرها في "شرح المهذب" فقال: والارتفاق هنا موجود باتخاذ الجرين والبندر والماء والحراث والناطور والحارس والدكان والميزان والوزان والكيال والحمال والمتعهد وجذاذ النخل وغير ذلك. هذا كلامه. وصرح في "الكفاية" باللقاط وكذا بالملقح، وإن كان الملقح قد يدخل في المتعهد، وصرح أيضًا في أموال التجارة في النقاد والمنادي والمطالب بالأثمان، ونقله عن البندنيجي. تنبيه: الجرين بجيم مفتوحة موضع تجفيف الثمار، وقيل غير ذلك. قال النووي في "دقائقه": وقال الثعالبي: الجرين يكون للزبيب خاصة. والبندر: بفتح الباء الموحدة للحنطة.

والمربد: بميم مكسورة وراء مهملة ساكنة لثمر النخيل وهو التمر. وأما الناطور: فهو حافظ النخل والشجر، وطاؤه مهملة وحكي إعجامها، وقيل بالمهملة كحافظ الكرم. وأما بالمعجمة فللحافظ مطلقًا. وأما لفظ الصف ففي بعض النسخ بفتح الصاد كما في قوله تعالى: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} (¬1)، وفي بعضها بكسر الصاد، وبعدها نون، وهو المذكور في "تهذيب البغوي"، ومنه أخذ الرافعي وهو أحسن. قوله: ومنها لو وقف أربعين شاة على جماعة معينين إن [قلنا] (¬2): الملك في الموقوف لا ينتقل إليه فلا زكاة وإن قلنا: يملكونه، فوجهان: الأصح: لا زكاة أيضًا لضعف ملكهم. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه وهو توهم جواز إخراج الزكاة من عين الموقوف، وليس كذلك، بل يجب الإخراج من غير رعاية لحق الوقف كذا رأيته في كتاب "القولين والوجهين" للمحاملي. وحينئذ فيبقى نظير المرهون، وقد صرح الرافعي بأنه لا يخرج منه إذا ملك غيره. ¬

_ (¬1) سورة الصف (4). (¬2) سقط من ب.

الفصل الثاني: في التراجع

الفصل الثاني: في التراجع قوله: ولو كان بينهما سبعون من البقر لأحدهما أربعون وللآخر ثلاثون فأخذ الساعي المسنة من صاحب الأربعين والتبيع من صاحب الثلاثين رجع صاحب الأربعين بقيمة ثلاثة أسباع [المسنة] (¬1) على الآخر، ورجع الآخر عليه بقيمة أربعة أسباع التبيع. انتهى. فيه أمران: أحدهما: وهو مبني على مقدمة، وهي أن نصف قيمة الشيء مثلا أو ثلث قيمته أكثر من قيمة نصفه أو قيمة ثلثه لأجل الشقص. إذا علمت هذا فقد أوجب الرافعي المعنى الثاني في هذا المثال، وكذلك فعل في سائر أمثلة البقر وفي بعض أمثلة الغنم أيضًا، وفي بعضها إيجاب الأول فقال فيما إذا خلط عشرين من الغنم بعشرين بقرة إن المأخوذ منه يرجع على صاحبه بنصف قيمة الشاة، والذي ذكره في هذا المثال هو الصواب فإنا لو قلنا: يرجع بقيمة النصف مثلًا لكان قد غرم زيادة على صاحبة؛ ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" أيضًا، وأصلح النووي في "الروضة" مقالة الرافعي وعبر بما نقلناه هنا في الغنم فسلم من الاختلاف، وصنع ذلك في "شرح المهذب" أيضًا وبسط فيه الكلام عليه فقال: الصواب أنه يرجع بنصف القيمة مثلًا أو بثلثها [لا] (¬2) بقيمة النصف أو ثلثه، فإن نصف القيمة أكثر من قيمة النصف لأجل الشقص. فلو قلنا: يرجع المأخوذ منه بقيمة النصف لأجحفنا به هذا كلامه في "شرح المهذب"، وللمسألة نظائر أذكرها إن شاء الله تعالى مبسوطةً في ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب.

الصداق. الأمر الثاني: أن إثبات التراجع عند أخذ الساعي من كل واحد ما عليه ذكره الإمام وبعضهم، فجزم به الرافعي هنا، وقبيل هذا الموضع أيضًا، وهو مخالف لنص الشافعي، فقد قال ما نصه: ولو كانت غنماها سواء وأوجبنا شاتين، فأخذ من غنم كل واحد شاة، وكانت قيمة الشاتين المأخوذتين مختلفة لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشئ لأنه لم يؤخذ منه إلا ما عليه في غنمه لو كانت منفردة. انتهى كلامه. قال في "الروضة" بعد أن نقل هذا النص: إن هذا هو الظاهر. وقال في "شرح المهذب": إن العراقيين صرحوا به أيضًا. قوله: فلو أخذ من أحد الخليطين القيمة في الزكاة تقليدًا لأبي حنيفة، أو كبيرة من السخال تقليدًا لمالك رجع في أصح الوجهين، ومنهم من قال: يرجع في أخذ الكبيرة قطعًا. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" على تصحيح طريقة الوجهين، وصحح في "شرح المهذب" الطريقة القاطعة فقال ما نصه: ولو أخذ كبيرة عن السخال على مذهب مالك فطريقان: أصحهما -وبه قطع في "المهذب" وسائر العراقيين وجماعة من غيرهم- يرجع بنصف قيمة ما أخذ لأنه مجتهد فيه. والطريق الثاني -حكاه الخراسانيون: أن فيه وجهين. قوله: وأما خلطة الشيوع فإن كان الواجب من جنس المال وأخذه الساعي منه، فلا يراجع، فإن المأخوذ مشاع بينهما. انتهى. تابعه في "الروضة" على أنه لا يتصور التراجع، قال ابن الرفعة: وليس كذلك، بل يتصور كما إذا كان بينهما أربعون من الغنم لأحدهما في عشرين منها نصفها، وفي العشرين الأخرى نصفها وربعها.

الفصل الثالث: في اجتماع الخلطة والانفراد [في الحول الواحد]

الفصل الثالث: في اجتماع الخلطة والانفراد [في الحول الواحد] (¬1) قوله: فأما إذا انعقد الحول على الانفراد ثم طرأت الخلطة، فإن اتفق حولاهما فالجديد أن حكم الخلطة لا يثبت في السنة الأولى لأنها عارضة. انتهى كلامه. ومحل القولين إذا خلط في زمن لو علف فيه سقط حكم السوم، كذا رأيته في "مشكلات المهذب" لصاحب "البيان"، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب"، وأقره وارتضى مقالته في "الروضة" فجزم بها، وادعى الاتفاق على أن اليومين لا أثر لهما. قوله: ولو ملك ثمانين شاة فباع نصفها مشاعًا في أثناء الحول لم ينقطع حول البائع عن النصف الباقي قطعًا، وفيما يجب عليه عند تمام حوله وجهان: أحدهما: شاة تغليبًا للانفراد. وأصحهما عند صاحب "التهذيب": نصف شاة. انتهى. والأصح ما صححه صاحب "التهذيب"، كذا صححه في "شرح المهذب"، وفي أصل "الروضة". قوله في الفصل الرابع: ولو اجتمع في ملك الواحد ماشية مختلطة وماشية منفردة من جنسها كما لو خلط عشرين شاة بعشرين لغيره، وله أربعون ينفرد بها فقولان: أصحهما: أن الخلطة خلطة ملك أي تثبت الخلطة في كل ما في ملكه، فيجعل كأن لصاحب الستين خلط جميعها بعشرين، فيلزمها شاة، ثلاثة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أرباعها على صاحب الستين وربعها على صاحب العشرين. والثاني: أن الخلطة خلطة عين أي يقتصر حكمها على قدر المخلوط، فعلى هذا يجب على صاحب العشرين نصف شاة، وفي صاحب الستين وجوه: أصحها: شاة تغليبًا للانفراد. والثاني: ثلاثة أرباع شاة تغليبًا للاختلاط. والثالث: عليه خمسة أسداس شاة ونصف سدس، وذلك بأن يجمع بين اعتبار الخلطة والانفراد فتوجب في الأربعين المنفردة حصتها من الواجب [لو انفرد بالستين وهو ثلثا شاة وتوجب في العشرين المختلطة حصتها من الواجب] (¬1) لو خلط الكل، وذلك ربع شاة. والرابع: أن الخلطة تثبت في الأربعين، ولا تتعداها وحينئذ فتوجب عليه نصف شاة في العشرين المختلطة، وثلثا شاة في الأربعين المنفردة، فإنه حصة الأربعين لو انفرد بجميع ماله وذلك شاة وسدس. انتهى ملخصًا. وإنما ذكرت هذا الكلام كله توطئة لما سيأتي من المسائل بعد هذا. إذا] (¬2) علمت ذلك فقد قال في الفصل السادس: الثانية: ملك خمسًا وعشرين من الإبل فخالط بكل خمس منها خمسًا لرجل، فإن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب الخمس وعشرين نصف حِقّه لأن الكل خمسون، وفيما على كل واحد من خلطائه وجهان: أحدهما: عُشر حقة. والثاني: سدس بنت مخاض، لأنه خلط خمسًا بخمس وعشرين لا غير. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) نهاية سقط من جـ نحو 80 ورقة.

والأصح هو الوجه الأول، كذا صححه في "شرح المهذب"، وصححه أيضًا في أصل "الروضة" من غير تنبيه عليه، فافهم ذلك. قوله: الرابعة: إن أردت أن تفرع صورة على هذه الاختلافات من عند نفسك فقدر أن لك عشرين من الإبل خلطت كل خمس منها بخمس وأربعين لرجل. فإن قننا بخلطة الملك فعليك الأغبط من نصف بنت لبون أو خُمسى حقة. وإن قلنا بخلطة العين فعلى كل واحد من خلطائك سبعة أعشار حقة لأن المبلغ خمسون. وفيما تلزمه الوجوه السابقة على الأول يلزمك أربع شياه كأنك منفرد بالعشرين أي بالتفسير المذكور في الصور قبله. وعلي الثاني يلزمك الأغبط. . . . إلى أن قال ما نصه: وعلى الرابع يلزمك أربع شياه كما في الوجه الأول كما لو كانت كل خمس لرجل. انتهى كلامه. وما ذكره في التفريع على الوجه الرابع، تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو غلط. والصواب: أنه يلزمه أربعة أعشار حِقّة، لأن الوجه الرابع يثبت حكم الخلطة فيما وقع فيه الاختلاف ثم إنه إن كان هناك من جنسه شئ آخر منفرد أوجبنا حصته لو كان منفردًا بجميع ماله، وإن لم يكن كهذا المثال اقتصرنا على إيجاب ما تقتضيه الخلطة، وقد أوضح ذلك كله بمثل كثيرة ذكرها قبيل هذا المثال. وحينئذ فيجب عليه في كل خمسين عُشر حِقّة لأن واجبها حِقّة، وله منها خمس فقط بمجموع ما يجب عليه أربعة أعشار حِقّة.

وأما ما ذكره من أربع شياه فغلط عجيب سببه أن الفرع الذي ذكره قبل هذا مَثَّلَ له بمثال يلزم منه أن يكون التفريع على الرابع كالتفريع على الأول، فأجاب به أيضًا في الفرع الذي يليه. قوله: فرع: لو خالط خمسة عشر من الغنم بخمسة عشر لغيره ولأحدهما خمسون منفردة، وقلنا بخلطة الملك ففي ثبوت الخلطة وجهان. . . . إلى آخره. والأصح ثبوتها، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قال -رحمه الله-: [النظر] (¬1) الثالث. . . . إلى آخر ما ذكر. قوله: وإنما تضم السخال إلى الأمهات بثلاثة شروط: أصحها: أن يحدث قبل تمام الحول سواء كثر الباقي من الحول أو قل. . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أنه أهمل شرطًا آخر ذكره صاحب "التتمة" وهو أن يكون ملكه للنتاج بالسبب الذي ملك به الأمهات، حتى إن الموصي له بالحمل لو أوصى به لمالك الأمهات، ومات الموصى، ثم نتجت فلا ضم. الأمر الثاني: قد علمت أن السيوم شرط في النتاج في باقي السنة، وبه صرح الرافعي. وحينئذ فلا تضم السخال إلى الأمهات ما دامت تقتات بألبانها لأنها تقتات بشئ من أموال المالك والسائمة هي التي ترعى في الكلأ المباح، ثم إنها إن استقلت بعد ذلك بالرعي فلا ضم أيضًا إلا إذا مضى عليها حول من حين الاستقلال، لأن حول السخال عند الضم كحول الأمهات، والأمهات ¬

_ (¬1) في جـ: الشرط.

إذا اعتلفت في أثناء الحول ينقطع حولها، فكذلك السخال، نعم إن فرضنا أن المدة التي اقتاتت فيها اللبن مدة يسيرة على ما هو مذكور في موضعه لم يمنع. قوله: والمستفاد في أثناء الحول لا يضم في الحول إلى ما عنده، بل يضم إليه في النصاب خلافًا لابن شريح فإذا ملك عشرين من الإبل في أول محرم ثم اشترى عشرة في أول رجب، فإذا جاء المحرم فعليه أربع شياه في العشرين، وإذا جاء رجب فعليه خُمس بنت مخاض لأجل العشر ثم عليه بعد ذلك في كل حول يمضي على العشرين أربعة أخماس بنت مخاض، وقس على ذلك، وعلى ما قاله ابن شريح يجب في العشرين أربع شياه دائمًا وفي الخمس شاة أبدًا، ثم قال ما نصه: ورأيت في بعض الشروح حكاية وجه آخر أن الخمسة لا تجري في الحول حتى يتم حول الأصل، ثم ينعقد الحول على جميع المال، وهذا يطرد في العشر في الصورة السابقة بلا شك. انتهى كلامه. وهذا الوجه الذي حكاه عن هذا الشرح المجهول ولم يعلله وطرده بحثًا من عنده قد صرح في "التتمة" بنقله وصرح أيضًا باطراده في كل مثال وعلله أيضًا بقوله: حتى لا يؤدي إلى تبعيض ملك الشخص الواحد المقتضي للعُشر. قوله: فإن كان صيرفيًا اتخذ الصرف في النقد متجرًا ففيه وجهان في رواية ابن كج والحناطي وصاحب "المهذب" وغيرهم، وقولان في رواية الشيخ أبي محمد وصاحب "التهذيب" وآخرين: أحدهما: لا ينقطع كالعروض. وأصحهما: ينقطع لأن التجارة فيها ضعيفة نادرة. وخص الصيدلاني وطائفة الخلاف بما إذا غلبنا زكاة العين عند اجتماعها

مع التجارة. فإن غلبنا التجارة لم ينقطع جزمًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد جزم بأن الخلاف قولان. وأما النووي فاختلف كلامه، فنقل في "شرح المهذب" عن الأكثرين أن الخلاف وجهان، ولم يخالفهم، وصحح في "الروضة" أنه وجهان، ولم ينبه فيها على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. ونقل ابن الرفعة في "الكفاية" عن النووي أنه صحح في هذه المسألة أن حول التجارة لا ينقطع، وهو غلط ليس موجود في شئ من كتب النووي، فاعلمه. الأمر الثاني: أن هذا المنقول عن الصيدلاني قد حذفه النووي فلم يذكره في "الروضة" مع أنه يتلخص منه مع ما قبله طريقان في المسألة: قاطعة بالوجوب، وحاكيه للخلاف. قوله: وإن أسيمت في بعض الحول وعلفت في بعضه، وهو دون المعظم ففيه وجوه، ثالثها وهو الأفقه عند الغزالي، وذهب إليه أبو إسحاق ومال إليه ابن كج أنها إن علفت قدرًا يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق السائمة فلا زكاة، وإن استحقر بالإضافة إليه وجبت الزكاة. وفسر الرفق بدرها ونسلها وأصوافها وأوبارها. ويجوز أن يقال: المراد فيه رفق إسامتها فإن في الرعى تخفيفًا عظيمًا. ورابعها: وهو الذي ذكره الصيدلاني، وصاحب "المهذب" وكثير من الأئمة أنها إن علفت قدرًا تعيش الماشية بدونه لم يؤثر وجبت الزكاة، وإلا فلا.

وقد قيل: إن الماشية تصبر اليومين، ولا تصبر الثلاثة. انتهى ملخصًا. وليس فيه تصريح برجحان واحد منها عنده، وقد اختلف فيه كلامه فرجح في "الشرح الصغير" الوجه الثالث، وعبر بالأفقه، ورجح في "المحرر" الوجه الرابع وعبر بالأشبه، وكلامه هنا -أعني في "الكبير"- يشعر به. وقال النووي في "شرح المهذب": إنه الأصح. قوله في المسألة المذكورة: قال في "النهاية": ولا يبعد أن يلحق الضرر البين بالهلاك في هذه الطريقة أي في طريقة من اعتبر الهلاك. انتهى. لم يصرح هو ولا النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" بموافقة الإمام ولا مخالفته، والأمر كما قاله الإمام، فقد جزم به في "المحرر" وتبعه عليه النووي في "المنهاج". قوله: ولعل الأقرب تخصيص هذه الأوجه لما إذا لم يقصد شيئًا. أما إذا علف على قصد قطع السيوم فينقطع الحول لا محالة، كذا أورده صاحب "العدة" وغيره. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وعبر في "الشرح الصغير" بقوله: بلا خلاف، والذي قاله مردود، فقد رأيت في "الشافي" للجرجاني التصريح بالخلاف في ما إذا علق على قصد القطع فقال ما نصه: وإن علقها الحول، أو بعضه ولم ينو تعليقها إلى العلف فلا حكم له، وإن نواه انقطع حولها في أصح الوجهين. قوله من زوائده: ولو أسيمت في كلأ مملوك فهل هي سائمة أو معلومة؟ وجهان كلاهما في "البيان". انتهى. وهذه المسألة قد تكلم عليها القفال في "فتاويه" كلامًا حسنًا ينبغي الأخذ به فقال: إذا كان له غنم فاشترى حشيشًا في مكانه فرعاها فيه فإنها

تكون سائمة كما لو وهب له حشيش فأطعمها فإنها تكون معلوفة؛ فلو جز الحشيش وأطعمها في المرعى أو في البلد كانت معلوفة، ولو رعاها أوراقًا تناثرت كانت سائمة، فلو جمعت الأوراق وقدمت إليها كانت معلوفة. هذا كلامه. والمسألة شبيهة بالمعشرات في أنه إن سقى بماء السماء ففيه العشر لخفة المؤنة، وإن سقى بالناضج ونحوه ففيه نصف العشر لكثرتها. وقد ذكر الرافعي هناك أنه إذا سقاه بما ملكه بالشراء فيكون كالناضح وإن ملكه بالهبة ففيه وجهان حكاهما ابن كج عن ابن القطان ورجح وجوب نصف العشر للمئة، وهذا الكلام موافق لبعض ما قاله القفال. قوله: وفي وجوب الزكاة في السائمة التي تعمل كالنواضح وغيرها وفي السائمة إذا اعتلفت بنفسها وجهان: أصحهما: المنع. انتهى ملخصًا. جزم في المنهاج بطريقة الوجهين، ثم خالف في "شرح المهذب" فقال: قطع الأكثرون [بعدم الوجوب، وبين التعبير بالأصح المقتضي للجزم بالخلاف وقوته وبين قطع الأكثرين] (¬1) تباين كبير. قوله في الشرط السادس: وفي الضال والمغصوب والمجحود ونحوها قولان: أصحهما: الوجوب. وقيل: إن عادت بتمامها وجب، وإلا فلا. وذهب مالك إلى أنه تجب زكاة السنة الأولى ولا يجب ما عداها، ثم قال الرافعي في آخر المسألة: إن الأئمة ذكروا أن مذهب مالك مبني على أصل له، وهو أن الإمكان من شرائط وجوب الزكاة فلا يبتدئ الحول ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثاني إلا من يوم الإمكان، ويوم الإمكان هاهنا هو يوم الوجدان. وهذا الذي ذكروه يقتضي أن يكون للشافعى قول مثل مذهبه؛ لأن له قولًا كمذهبه في أن الإمكان من شرائط الوجوب. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي بحثًا من ثبوت قول ثالث، ولم يقف على نقله، قد صرح به أبو علي الزجاجي في كتابه المسمى "بالتهذيب" وهو زيادات على "المفتاح" لابن القاص فقال: ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: لا زكاة عليه لما مضى، ويبتدئ الحول من يوم الوجود. والثاني: علية زكاة السنين كلها. والثالث: لا تجب إلا لسنة واحدة. هذه عبارته، ومن كتابه نقلت، وقد نقله عنه أيضًا الروياني في "البحر" ونص -أعني الزجاجي- في خطبة كتابه على أنه إذا أطلق قولًا فيكون إما منصوصًا للشافعي أو من تخريج المزني أو أبي العباس بن سريج. وقد أسقط النووي من "الروضة" ما قاله الرافعي هنا لتوهمه أنه مجرد بحث، لم يقل به أحد. قوله: الثالثة: لو رهن ماشية أو غيرها من الأموال الزكوية فقد حكى الإمام والمصنف في وجوب الزكاة فيها وجهين لامتناع التصرف وقطع الجمهور بالوجوب. ثم قال: نعم يجئ الخلاف بجهة أخرى، وهي أن الرهن لابد وأن يكون بدين، فيأتي فيه الخلاف الذي سنذكره في الدين هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟ والذي قاله الجمهور جواب على القول المشهور وهو أنه لا يمنع. انتهى كلامه. وما ادعاه من أن مجئ الخلاف سببه أن الرهن يستلزم الدين لا يستقيم

لأن الرهن وإن استلزم الدين لكن لا يستلزم أن يكون على مالك الرهن لأنه قد يستعير شيئًا ويرهنه فلا يأتي المعنى الذي قاله في هذه الصورة. والأصحاب لم يخصوا الخلاف بما عداها. وفي هذه المسألة كلام آخر يأتيك في زكاة الفطر في الكلام على فطرة العبد المرهون. قوله: وإن كان الدين مؤجلًا ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه تجب فيه الزكاة قولًا واحدًا [كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره. والثاني: لا تجب قولًا واحدًا] (¬1) لأن من له دين مؤجل لا يملك شيئًا قبل حلول الأجل. والثالث -وهو الأظهر: أنه على القولين في المغصوب. انتهى. وما قاله في تعليل الثاني من كونه لا يملك الدين المؤجل قبل حلوله قد صحح خلافه في كتاب الأيمان فقال في من حلف لا مال له: إنه يحنث بالدين الحال والمؤجل في أصح الوجهين. فإذا حنث في التعبير بالمال فبالملك أولى لما ذكروه هناك. قوله: فإن أوجبناها لم يجب الإخراج حتى يقبضه على الأصح، وعلى الثاني يجب في الحال. انتهى. والتعبير بالقبض وقع أيضًا في "الروضة" وفي غيرهما من كتبهما، وهو غير مستقيم، بل الصواب التعبير بالحلول، فإن الخلاف محله إذا كان على ملى مقر ولا مانع سوى الأجل. وحينئذ فمتى حَلّ وجب الإخراج، قبض أم لا. قوله: الخامسة: المال الغائب إن لم يكن مقدورًا عليه لانقطاع الطريق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أو لانقطاع خبره فهو كالمغصوب والمجحود. ثم قال: وإن كان مقدورًا عليه معلوم السلامة وجب إخراج زكاته في الحال، وينبغي أن يخرج في بلد المال، فإن أخرج في غير ذلك البلد ففيه خلاف نقل الصدقة، وهذا إذا كان المال مستقرًا في بلد، فإن كان سائرًا، قال في "العدة": لا تخرج زكاته حتى يصل إليه، فإذا وصل زكى لما مضى بلا خلاف. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، قال في "شرح المهذب": وما ذكره في "العدة" وكلام الأصحاب محمول عليه. واعلم أن ما ذكره هنا من وجوب الإخراج في الحال قد ذكر بعد ذلك في الكلام على تأخير الزكاة ما يخالفه، وسأذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: واللقطة في السنة الأولى باقية على ملك [المالك] (¬1) وفي وجوب زكاتها عليه الخلاف في المغصوب ثم إن عرفها الملتقط نظر إن اختار التملك. . . . إلى آخر ما قال. واعلم أنه إذا ملك أربعين شاة مثلًا وحال عليها الحول فهل وجب للفقراء شاة مبهمة أم وجب لهم جزء شائع من أربعين جزءًا منها؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي من غير ترجيح. إذا علمت ذلك فالذي قاله الرافعي وغيره من اختيار التملك يتجه إذا قلنا: الواجب شاة شائعة فإن الذي يملكه، والحالة هذه يكون معينًا وهو تسعة وثلاثون جزءًا من أربعين جزءًا منها. وأما إذا قلنا: الواجب شاة مبهمة، فيكف يصح من الملتقط اختيار تملك الباقي مع أنه غير معين؟ قوله: والدين لا يمنع وجوب الزكاة على الجديد لأنا إن علقنا بالذمة، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فالذمة لا تضيق عن ثبوت الحقوق، وإن علقناها بالعين فالدين المتعلق بالذمة لا يمنع الحق [المتعلق] (¬1) بالعين؛ ألا ترى أن عبد المديون لو جنى تعلق أرش الجناية برقبته. انتهى كلامه. وقد اختلفت النسخ في التعبير عن الكلام الأخير ففي بعضها عبد المديون كما ذكرناه، أي عبد من عليه دين [وفي بعضها العبد المأذون أي إذا كان عليه دين] (¬2) فجنى، والاستشهاد به أبلغ، لأن الدين لم يمنع من تعلق الحق بالمديون نفسه. واعلم أن الضامن لا يثبت عليه للمضمون له مال، بل الثابت إنما هو حق المطالبة والإبراء، كذا ذكره الشيخ عز الدين في قواعده، ثم قال: ويحتمل ثبوته في ذمته، ولكن لا يثبت له جميع أحكام الديون من وجوب الزكاة فيه وغيره، وينبغي استحضار هذا الفرع في هذه المسائل. قوله: التفريع إن قلنا: الدين لا يمنع الزكاة، فلو أحاطت بالرجل ديون، وحجر عليه القاضي فله ثلاثة أحوال، ثم قال: الثاني: أن يعين لكل واحد منهم شيئًا من ماله على ما يقتضيه التقسيط ويمكنهم من أخذه فحال الحول، ولم يأخذه قال معظم الأصحاب: لا زكاة عليه أيضًا لأن ملكه قد ضعف، وصاروا أحق به، ولم يحكوا فيه [خلافًا] (¬3) وحكى الشيخ أبو محمد في هذه الصورة عن بعض الأصحاب أن وجوب الزكاة يخرج على الخلاف في اللقطة في السنة الثانية. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره هاهنا عن المعظم من وجوب الزكاة ومن نفيهم الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب، فقد أعاد المسألة في أوائل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

كتاب التفليس في الكلام على تصرفات المفلس، وقال: إن أظهر القولين عدم الوجوب، وذكر أيضًا أن ذلك هو الأشهر، وستعرف كلامه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. الأمر الثاني: أنه ينبغي أن تكون صورة هذه المسألة فيما إذا كانت أمواله من جنس ما عليه وإلا فكيف يعطيها الحاكم من غير بيع ولا تعويض، وقد صورها بذلك الشيخ أبو محمد في كتاب "السلسلة". الأمر الثالث: أن النووي -رحمه الله- قد حصل له في "الروضة" هنا غلط فاحش فإنه جعل هذه الأحوال كلها مفرعة على أن الدين يمنع الوجوب فقال ما نصه: فإذا قلنا: الدين يمنع فأحاطت هذه عبارته، ومن خطه نقلت. ثم عزاه منها إلى "شرح المهذب" على عادته وهو مع كونه خلاف ما في الرافعي، وما في الأصول المأخوذة من كتب المذهب "كالنهاية" و"البحر" وغيرهما واضح البطلان. فإنا إذا قلنا: إن الدين يمنع فأحاطت به ديون فلا يأتي بعد ذلك خلاف وجوب الزكاة سواء حجر عليه الحاكم أم لم يحجر أرصده للغرماء أم لم يرصده. قوله: ولو قال: لله علىّ أن أتصدق بهذا المال، فمضى الحول قبل التصدق، فإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة؛ فهاهنا أولى بأن لا يجب لوجوب صرفه إلى ما نذر. وإن قلنا: لا يمنع فوجهان: ويخرج مما حكيناه طريقان: القطع بالمنع، والتخريج على الخلاف السابق أي في الدين هل يمنع؟ انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الأصح من هذين الوجهين المفرعين على عدم المنع هو عدم

الوجوب، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر. الأمر الثاني: لم يبين الأصح من الطريقين هنا ولا في "الشرح الصغير"، وصحح النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" الطريقة القاطعة، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثالث: ولنقدم عليه ما ذكره الرافعي في كتاب الضحايا قبيل الكلام على أحكام الأضحية فقال: وقد صرح الأصحاب بزوال الملك عن الهدي والأضحية المعينين، وكذا لو نذر أن يتصدق بمال بعينه زال ملكه عنه بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد بعينه لا يزول ملكه عنه ما لم يعتقه لأن الملك في الهدي والأضحية، والمال المعين ينتقل إلى المساكين، وفي العبد لا ينتقل الملك إليه. انتهى ملخصًا. وإذا تقرر أن نذر التصدق ونحوه بنقل الملك فلا يتصور أن تجئ هذه المسألة بالكلية. نعم حكى الرافعي هناك وجهًا بعد هذا الكلام بقليل أن هذه الأشياء لا تتعين ويكون الواجب في ذمته، ولا يستقيم أن يكون المذكور هنا تفريعًا عليه، فإن القائل به لم يوجب صرف المعين له. والرافعي قد صرح في هذا الكلام بوجوب صرفه وهذا الإشكال الذي ذكرته يأتي أيضًا في مسألة سأذكرها عقب هذه المسألة ناقلًا لها عن "الروضة" لغرض آخر. قوله في "الروضة": ولو قال: جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا أو لله على أن أضحى بهذه الشاة، وقلنا: تتعين للتضحية بهذه الصيغة، فالمذهب لا زكاة. وقيل: على الخلاف. انتهى كلامه. ويأتي في هذه المسائل من إشكال التصوير ما سبق في المسألة السابقة.

واعلم أن لفظ التضحية هنا مجرور بلام الجر هكذا رأيته بخط المصنف، وهو الصواب كما أوضحه هو في كتاب الأضحية فقال: ولو قال ابتدأ: على بالتضحية بهذه البدنة أو الشاة، لزمه التضحية قطعًا، وتتعين تلك الشاة على الصحيح. انتهى. فنفى الخلاف عن وجوب [التضحية] (¬1)، وإنما حكى الخلاف في تعيين التي أشار إليها. قوله: وإذا اجتمع الدين والزكاة في تركة ففيه ثلاثة أقوال: أظهرها: أن الزكاة تقدم لأن الزكاة متعلقة بالعين، والدين مسترسل في الذمة. ولهذا تقدم الزكاة في حال الحياة ثم يصرف الباقي إلى الغرماء. وثالثها: يستويان. ثم قال: ولك أن تعلم كلامه بالواو لأنه قد حكى عن بعضهم طريقة قاطعة بتقديم الزكاة المتعلقة بالعين، والأقوال إنما هي في اجتماع الكفارات وغيرها مما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدميين، وقد تفرض الزكاة من هذا القبيل بأن يتلف ماله بعد الحول والإمكان، ثم يموت وله مال. انتهى. وحاصله أن الأصح جريان الأقوال، وإن كان الزكوى باقيًا؛ إذا تقرر هذا ففيه أمور: أحدها: أنه قد ذكر ما يخالفه في موضعين من هذا الكتاب، وأن الأقوال لا تجري إذا كان الزكوى باقيًا: أحدهما: في زكاة المعشرات قبل الكلام على ضم حمل النخلة إلى حملها الثاني فقال فيه فيما إذا وجب عليه أداء دين فبدى الصلاح في ثمارٍ له، وهل تؤخذ الزكاة منها؟ إن قلنا: إنها تتعلق بالعين أخذت سواء قلنا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

: تعلق الشركة أو تعلق الأرش. وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة والمال مرتهن بها فطريقان: أحدهما: أنه على الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمى. والطريق الثاني: وهو الأصح -أن الزكاة تؤخذ بكل حال، لأن حق الزكاة أقوى تعلقًا بالمال من حق الرهن. ألا ترى أن الزكاة تسقط بتلف المال بعد الوجوب وقبل إمكان الأداء أو الدين لا يسقط بهلاك الرهن، ثم حق المرتهن يقدم على حق غيره فحق الزكاة أولى أن يكون مقدمًا. انتهى. وحاصله أنا إن قلنا: يتعلق بالعين تعلق الشركة أو الأرش فلا تجرى الأقوال قطعًا. وإن قلنا: يتعلق بالذمة فهو محل الطريقين والأصح عدم الجريان أيضًا، وهو تباين فاحش. والموضع الثاني: في كتاب الأيمان قبيل الباب الثالث بنحو ورقة فقال فيه ما نصه: وعندنا إذا وفت التركة بما على الميت من حقوق الله تعالى وحقوق العباد قضيت جميعًا؛ وإن لم تفِ به وتعلق بعضها بالعين وبعضها بالذمة فيقدم ما يتعلق بالعين سواء اجتمع النوعان أو تجرد أحدهما. وإن اجتمع النوعان والكل متعلق بالعين أو بالذمة فيقدم حق الله تعالى أو حق الآدمي أو يتساويان فيه ثلاثة أقوال ذكرناها. انتهى. ووقعت هذه المواضع الثلاث في "الروضة" كما في الرافعي، وأجاب هنا النووي في "شرح المهذب"، والرافعي في "الشرح الصغير" بأن الأقوال جارية مطلقًا، ولم يقع فيهما غير ذلك، والصواب خلاف ما قاله هنا لأن الأصحاب قد صححوا أن الزكاة متعلقة بالمال تعلق الشركة حتى أن

الفقراء ينتقل إليهم مقدار الزكاة، ويصيرون شركاء رب المال، وفي قول أن التعلق كالرهن، وفي قول كالجناية، وكل واحد منهما مقتضٍ للتقديم فكيف يعقل مع ما صححوه جريان الخلاف في تقديم الدين، وأن يقضي مما ليس بملك للمديون. الأمر الثاني: إذا اجتمع في التركة جزية ودين فإن الأصح عند الرافعي والنووي أنهما يستويان مع أن الجزية حق الله تعالى. فإن قيل: ليست عبادة. قلنا: لا أثر له إذ المعنى في التقديم كونه حقًا لله تعالى، وأيضًا فينتقض بالكفارة على الذمي. الأمر الثالث: أن ما ذكره أولًا من تقديم الزكاة في حال الحياة محله إذا لم يحجر الحاكم عليه، فإنه قد جزم في كتاب الأيمان بأن هذه الأقوال لا تجري في المحجور عليه بفلس، بل تقدم حقوق الآدمي، وتؤخر حقوق الله تعالى ما دام حيًا. وتبعه عليه في "الروضة" فاعلمه فإن المتبادر من كلامه هنا ما يخالفه، لكن رأيت في كتاب الأيمان من "شرح المختصر" لأبي علي بن أبي هريرة الذي علقه عنه أبو علي الطبري الجزم بجريانها في الحياة، والتوقف في إجرائها بعد الموت فقال: وهذه الأقوال هي في حال الحياة وكذلك بعد الموت على الصحيح. ويحتمل أن يقال: المقدم بعد الموت حق الآدمي قولًا واحدًا. هذا كلامه. ولم يتعرض ابن الرفعة لاجتماع الزكاة والدين على المحجور عليه، وحكى في اجتماع الكفارات والديون ترددًا للإمام موجهًا لعدم الجريان وتقديم الدين بأن الكفارات على التراخي، وللجريان بأن المرعي حق من عليه الكفارة.

الأمر الرابع: أن زكاة الفطر حكمها فيما ذكرناه حكم زكاة المال على الصحيح، وسيأتي الكلام عليه في آخر زكاة الفطر، بل هذه الأقوال جارية في كل حق لله تعالى يجتمع مع الدين سواء كان نذرًا أو كفارة كما تقدم أو خبراء صيد. كذا ذكره في آخر قسم الصدقات من "شرح المهذب"؛ وذكره أيضًا في أثناء الحج من الشرح المذكور أنها تجرى أيضًا في الحج مع الدين. قوله حكاية عن إمام الحرمين: فإن قلنا: إن الغنيمة تملك قبل القسمة ففي وجوب الزكاة ثلاثة أوجه: أحدها: لا لضعف الملك. والثاني: [نعم] (¬1) اكتفاء بأصل الملك. والثالث: إن كان في الغنيمة ما ليس بزكاتي فلا يجب لجواز أن يجعل الإمام الزكوى سهم الخمس، وإن كان الكل زكويًا وجب. ثم قال الرافعي: وكان الأحسن بصاحب هذا الوجه أن يقول: إن كان الزكوى بقدر خمس المال لم يجب، وإن زاد وجب زكاة القدر [الزائد] (¬2). انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على نقل الوجه الثالث عن الإمام على الكيفية التي نقلها عنه الرافعي، وعلى الاستدراك الذي أورده عليه، وهو غريب، فإن الإمام لم يطلق القول بعدم الوجوب فيما إذا كان فيها غير زكوى حتى يتوجه عليه الاعتراض، بل قيد ذلك بما إذا كان الزكوى قدر الخمس فقال ما نصه: والثالث: إن كان فيما غنموه ما ليس بزكاتي ويجئ بقدر أن يقع الزكاتي خمسًا ولا زكاة في الخمس، فلا زكاة أصلًا؛ فإن للإمام أن يوقع القسمة على الأجناس على شرط التعديل فيوقع [الزكاتي في الخمس. هذا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

لفظه. وقول الإمام: (ولا زكاة في الخمس) هي جملة في موضع] (¬1) الحال فاعلمه. قوله: ولو أصدق زوجته أربعين شاة فحال عليها الحول وأخرجت الزكاة منها ثم طلقها قبل الدخول ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: تأخذ نصف الصداق من الموجود، ويجعل المخرج من نصيبها، فإن تساوت قيمة الشاة أخذ عشرين منها، وإن تفاوتت أخد النصف بالقيمة. والثاني: يأخذ نصف الأغنام الباقية، ونصف قيمة الشاة المخرجة. والثالث: أنه بالخيار بين هذا وبين أن يترك الجميع، ويرجع بنصف القيمة. انتهى. والصحيح هو القول الثاني، كذا صححه الرافعي في كتاب الصداق والنووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة"، وقول الرافعي في آخر القول الأول: أخذ النصف بالقيمة، مراده بالنصف نصف الصداق لا نصف الموجود فاعلمه. وتقديره أخذ النصف الذي يستحقه باعتبار القيمة، وقد عبر في "الروضة" أيضًا بهذه العبارة الموهمة، وزاد على ذلك إيهامًا آخر فقال: أحدهما: ترجع بنصف الجملة، فإن تساوت قيمة الغنم أخذ عشرين منها، وإن اختلفت أخذ النصف بالقيمة. هذا لفظه. ومراده بالجملة التي يرجع بنصفها هو الذي أعطاه لا الموجود فاعلم هذين الإيهامين. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قوله: وإذا أَجَّر دارًا أربع سنين بمائة دينار معجلة وقبضها فقولان: أحدهما: يلزمه عند تمام الأولى زكاة جميع المائة لأنه ملكها ملكًا تامًا. ولهذا لو كانت الأجرة أمة جاز له وطؤها. والثاني: وهو الراجح عند الجمهور -أنه لا يلزمه أن يخرج عند تمام كل سنة إلا زكاة القدر الذي استقر ملكه عليه لأن الملك قبل ذلك ضعيف إذ يسقط بانهدام الدار. ثم قال: والقول بثبوت الملك التام في الأجرة ممنوع على رأى بعضهم، فإن صاحب "النهاية" حكى طريقة أن الملك يحصل في الأجرة شيئًا فشيئًا، فمن قال بذلك لا يسلم ثبوت الملك في الأجرة فضلًا عن ثبوت الملك التام. انتهى كلامه. وهذا النقل عن "النهاية" ليس مطابقًا لما فيها، وقد أوضحه ابن الرفعة في "الكفاية" فقال: الذي فيها حكاية خلاف في أنه مستقر أو موقوف فإن مضت المدة سالمة عما يوجب الانفساخ تبينا بالأجرة أنها ملكت بنفس العقد، وإن ظن انفساخ تبينا أنه لم يجد ملك إلا فيما مضت مدته. انتهى. وقد حكاه الماوردي أيضًا، وصحح الثاني فقال: وقد اختلف قول الشافعي في أنه هل ملكها بالعقد ملكًا مستقرًا منبرمًا كثمن المبيع أو ملكها ملكًا موقوفًا مراعًا كلما مضى زمان من المدة بان استقرار ملكه على ما قابله من الأجرة. نعم الخلاف في أصل الملك ثابت؛ صرح به في "التتمة" فإنه حكى في ملكها طريقين: إحداهما: أن فيه قولين. والثانية: القطع بالملك.

ورد الخلاف إلى الاستقرار، فلو تمسك الرافعي بهذا لاستقام. قوله: التفريع إن قلنا بالقول الأول فيخرج عند تمام السنة الأولى زكاة المائة، وكذا كل سنة إن أخرج [من] (¬1) غيرها، فإن أخرج منها زكى كل سنة ما بقى، وإن قلنا بالثاني، وهو الراجح فيخرج عند تمام الأولى زكاة ربع المائة [وهي] (¬2) خمسة وعشرون دينارًا وزكاتها نصف وثُمن دينار، لأن ملكه قد استقر عليه. فإذا مضت السنة الثانية فقد استقر ملكه على خمسين دينار، وكانت في ملكه سنتين فعليه زكاة خمسين لسنتين وهي ديناران ونصف، لكنه قد أدى زكاة خمس وعشرين لسنة فيحط ذلك ويخرج الباقي وهو ديناران إلا ثمن. فإذا مضت الثالثة فقد استقر ملكه على خمسة وسبعين، وكانت في ملكه ثلاث سنين وزكاتها للثلاث خمسة دنانير ونصف وثمن دينار أخرج منها للسنتين الماضيتين دينارين ونصفًا تبقي ثلاثة دنانير [وثمن] (¬3)، فإذا مضت الرابعة فقد استقرت المائه أربع سنين، وزكاتها عشر دنانير أخرج منها خمسة ونصفًا وثمنًا فيخرج الباقي وهو أربعة دنانير وثلاثة أثمان، وقد يعبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى فيقال: يخرج عند تمام السنة الأولى زكاة خمسة وعشرين لسنة، وعند تمام الثانية زكاة خمسة وعشرين لسنتين، وزكاة الخمسة وعشرين الأول لسنة، وعند تمام الثالثة زكاة الخمسين [السنة] (¬4) و [زكاة] (¬5) لخمس وعشرين الأخرى لثلاث سنين وعند تمام الرابعة زكاة الخمس والسبعين لسنة وزكاة خمس وعشرين لأربع سنين. انتهى كلامه ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في جـ: وهو. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ. (¬5) سقط من أ.

ملخصًا. وقد استدرك الرافعي بعد هذا بأسطر استدراكًا صحيحًا سببه أن الزكاة تتعلق بالمال تعلق الشركة على الصحيح. وحينئذ فلا إشكال في أنه يزكي لتمام السنة الأولى عن خمسة وعشرين وهي حصة السنة الأولى من الأجرة. وأما إذا تمت السنة الثانية فلا إشكال أيضًا في إخراج الزكاة ثانيًا عن الخمسة والعشرين التي كان قد أخرج عنها في السنة الأولى، ثم إنه قد استقر ملكه أيضًا على ربع المائة التي هي حصة السنة الثانية، ولها في ملكه سنتان، وإنما لم يخرج عنها زكاة السنة الأولى عقب انقضائها لعدم استقرارها إذ ذاك. وحينئذ فيكون قد انتقل إلى الفقراء [منها] (¬1) نصف دينار وثمن دينار، فلما حال الحول الثاني على الآخرة بجملتها، واستقرت حصة ذلك الحول منها لم تكن تلك الحصة كلها أعني الخمسة وعشرين في ملكه، لأن الفقراء قد ملكوا منها نصف دينار وثمنه من أول الحول كما سبق فتسقط حصة ذلك، وهكذا قياس السنة الثالثة والرابعة، وقد بسط الرافعي القول في هذا الاعتراض فقال: ثم القاطعون بالوجوب الحاكون للخلاف في الإخراج قد غاضوا فقالوا: كذا وكذا. . . . إلى آخره. وقد ذهل في "الروضة" عنه واقتصر على ما سبق فحصل الغلط، ثم إنه عزاه إلى "شرح المهذب" إلا أنه في "الروضة" ذكر إحدى العبارتين، وحذف الأخرى ولا حرج عليه في ذلك. قوله: والقولان عند الجمهور في الإخراج، وأما الوجوب فثابت قطعًا، وعن القاضي أبي الطيب أنهما في الوجوب نفسه وبه يشعر كلام طائفة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

انتهى. وهذا النقل عن أبي الطيب ذكره في "الشامل"، ولما لم يقف عليه الرافعي عبر بقوله: وعنَّ احتياطًا وتورعًا لاحتمال خطأ الناقل، وقد ظهرت بركة الرافعي في ذلك فإن القاضي المذكور قد جزم في تعليقته بأنهما في الإخراج، ونقله عنه أيضًا في "الكفاية". واعلم أن النووي في "الروضة" قد جزم في أول المسألة بأن القولين في الإخراج، ثم حكى بعد هذا ترددًا في أنهما في الإخراج أو في الوجوب، وهو ظاهر التدافع فإن المتردد فيه غير المجزوم به فتأمله. قوله: ولعلك تبحث فتقول: هل المسألة فيما إذا كانت المائة في الذمة ثم نقد أم فيما إذا كانت معينة أم لا فرق؟ أما كلام النقلة فإنه يشمل الحالتين جميعًا، وأما التفصيل والنص عليها، فلم أرَ له تعرضًا إلا في فتاوى القاضي الحسين، قال في الحالة الأولى: الظاهر أنه تجب زكاة كل المائة إذا حال الحول لاكن ملكه مستقر على ما أخذ. وفي الحالة الثانية قال: حكم الزكاة حكمها في المبيع قبل القبض. . . . إلى آخر ما قال. والذي ذكره القاضي في "فتاويه" قد نص عليه أيضًا في "تعليقه" ونقله عنه ابن الرفعة.

قال -رحمه الله-: النظر الثاني للزكاة طرف الأداء وله ثلاثة أحوال الحالة الأولى: الأداء في الوقت. قوله: وأظهر الوجهين عند أكثرهم أن صرف الزكاة الباطنة إلى الإمام العادل أفضل من تفريقها بنفسه، وعبر صاحب "الكتاب" في قسم الصدقات عن هذا الخلاف بالقولين على خلاف المشهور. فإن كان جائزًا فأصح الوجهين أن تفريقها بنفسه أفضل. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على جعل الخلاف في المسألتين وجوهًا ثم خالف في "المنهاج" فجعل الخلاف أقوالًا، فإنه عبر بالأظهر، واصطلاحه فيه أن يكون الأظهر من القولين أو الأقوال والسبب في هذا الاختلاف العجيب أن الرافعي في "المحرر" عبر بهذه العبارة، وليس له فيها ولا في غيرها من الألفاظ اصطلاح، فقلده فيها النووي حالة الاختصار، غير باحث عن المراد بها فلزم منه اختلاف كلامه. قوله: ويؤيد أفضلية التفريق بنفسه في الأموال الباطنة قوله في "المختصر": وأحب أن يتولى الرجل قسمتها بنفسه، ثم قال: والقائلون بالأول وهو أفضلية الإعطاء إلى الإمام العادل، حملوا قول الشافعي على أنه أولى من التوكيل. ومنهم من قال: أراد به في الأموال الباطنة. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: (الأموال الباطنة) سهو، فإن الكلام فيها، والصواب في الأموال الظاهرة. واعلم أن السهمان: هو بضم السين، وهو جمع سهم كركب وركبان ولحم ولحمان.

قوله في أصل "الروضة": فإن كانت الأموال ظاهرة فالصرف إلى الإمام أفضل قطعًا، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور، وطرد الغزالي فيه الخلاف. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه جزم في "المنهاج" بطريقة إثبات الخلاف وزاد فجعله قولين، فإنه عبر بالأظهر كما سبق التنبيه عليه. الثاني: أن ما نقله عن الغزالي من طرد الخلاف وقع أيضًا في "شرح المهذب" وهو غلط، فإنه قد صرح بأنه لا يجري فيه فقال في "الوسيط": فإن كان المال باطنًا جاز التسليم إلى الإمام أو إلى المسلمين وأيهما أولى؟ فيه وجهان، وإن كانت ظاهرة ففي وجوب تسليمها إلى الإمام قولان، ولا شك أن التسليم أولى للخروج عن الخلاف، هذا لفظ "الوسيط". وذكر في "البسيط" أيضًا مثله، وعبر بقوله: ولا خلاف. وأما في "الوجيز" فإنه لم يفصل، بل أطلق الخلاف ولم يقف الرافعي من كلام الغزالي هنا إلا على "الوجيز" فنقل عنه أنه أطلق الخلاف، ثم نقل عن المحاملي أنه عمم الخلاف فقال: ورأيت المحاملي قد صرح في القولين والوجهين بطرد الخلاف، فتوهم النووي أنه يلزم من إطلاق الخلاف أن يكون قائلًا بالتعميم غير مستحضرٍ لكلامه في "المبسوط" فصرح به فوقع في الغلط، ثم عداه من "الروضة" إلى "شرح المهذب" على عادته، ويحتمل أن يكون قد غلط من المحاملي إلى الغزالي، وتعبير الرافعي بقوله في "القولين والوجهين" هو كتاب للمحاملي سماه بذلك، وهو من الكتب التي وقفت عليها، ونقلت عنها بالمباشرة، كما نبهت عليه في الخطبة. وإذا قلنا بوجوب الدفع إلى الإمام فلم يكن أو كان فاسقًا فقيل: يصبر

سنة، وقيل: شهر أو شهرين ونحو ذلك، حكاه الدارمي في "الاستذكار". قوله فيها أيضًا: ومحل أفضلية الدفع إلى الإمام في المال الباطن والظاهر هو إذا كان عادلًا، فإن كان جائرًا فأصح الوجين أن التفريق بنفسه أفضل. انتهى. وما ذكره من أن الصحيح أفضلية التفريق بنفسه في الأموال الظاهرة إذا كان الإمام جائرًا قد خالفه في "شرح المهذب" فصحح أن الإعطاء له أفضل. قوله أيضًا في "الروضة": لو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الخلاف قد صرح به أيضًا الرافعي قبيل كتاب النكاح بأوراق قلائل في المسألة الخامسة فنقله المصنف إلى هنا، وليس الأمر فيه كما قالاه، فقد حكى الجرجاني في كتاب "الشافي" فيه وجهين، وحكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" ذلك أعني الوجوب عن بعضهم، ثم خالفه وقال: إن قتال أبي بكر كان على المنع والجحود، وبالغ فيه -أعني القاضي المذكور- فنقل عن بعض أصحابنا أنه ليس للإمام حق القبض ونقل الروياني أيضًا وجهين في جواز المطالبة ونقل أيضًا في "البحر" في باب النية في إخراج الصدقة وجهين في أنه هل له مطالبة من يعلم أنه يؤديها بنفسه أم لا؟ ، فتحصلنا على ثلاثة أوجه. قوله: ثم إذا فرق رب المال زكاة ماله الظاهر فجاء الساعي مطالبًا صدق رب المال بيمينه، واليمين واجبة أو مستحبة؟ وجهان. انتهى. صحح في "الروضة" من زوائده استحبابها. قوله: فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤدي زكاة أمواله الباطنة بنفسه،

فهل له أن يقول: إما أن تدفع بنفسك، وإما أن تدفع إلىّ حتى أفرق؟ فيه وجهان في بعض الشروح يجريان في المطالبة بالنذور والكفارات. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي قبيل صدقة التطوع وهو قبل النكاح بقليل فنقلها في "الروضة" إلى هذا الموضع فتبعته عليه. إذا علمت ذلك فاعلم أنه قد تلخص من كلام الرافعي أن المسألة مفروضة فيما إذا كان المالك يؤديها لكن لا بنفسه، بل بوكيله، وفهم النووي الخلاف على غير وجهه، فظن أن الصورة عند امتناعه من الأداء بالكلية فقال ما نصه: ولو علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها فهل له أن يقول. . . . إلى آخر ما سبق. ثم اعترض بقوله: قلت: الأصح وجوب هذا القول إزالة للمنكر. هذه عبارته. وسبب غلطه أنه حذف لفظ النفس المذكور في أوائل كلام الرافعي، فظن أن التصوير عند الامتناع فصحح الوجوب معللًا له بإزالة المنكر، وقد ذكر المتولي المسألة على وجه صحيح يظهر منه تحريف الشارح الذي نقل عنه الرافعي فقال في الباب العاشر من أبواب الزكاة في الفصل الثالث منه: الرابعة: إذا علم الإمام من أرباب الأموال أنهم يخرجون الزكاة هل له أن يطالبهم؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: ليس له أن يطالبهم كما إذا علم أنهم يصلون لا نتعرض لهم. ومنهم من قال: يطالبهم إن أدى اجتهاد الإمام إلى ذلك لا بطريق الولاية على الفقراء، ولكن نيابة عن الفقراء وحثًا على الخروج عن حقوقهم. هذا كلامه. نعم الخلاف في النذور والكفارات عند الامتناع من إخراجها قد حكاه

المتولي قبل هذه المسألة متصلًا بها، فإنه جزم كما جزم غيره بأن الإمام يخير الممتنع عن الزكاة، واختلفوا في علته فقيل: لأن الزكوات كلها كانت تحمل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى خلفائه إلا أن عثمان فوض ذلك إلى أرباب الأموال، فإذا ظهر منهم التقصير كان له أن يطالب وقيل: لأنها حق الله تعالى، والإمام نائبه. فإذا علم الترك طالبه بها كما يطالب بالصلاة عند الامتناع، ثم قال: فإن قلنا بالأول لم يطالب بالنذور والكفارات، وإن قلنا بالثاني طالب. واعلم أن الخلاف فيهما قد حكاه الرافعي في آخر باب الظهار على كيفية أخرى، وهو صحة قبضه برضى من عليه، وإطلاق الخلاف هنا إنما يصح إذا كانا على الفور، فتفطن له. قوله: وأيضًا فإن الزكاة تجري فيها النيابة، وإن لم يكن النائب من أهلها. انتهى. هذا التعليل لم يذكره النووي في "الروضة" ويؤخذ منه جواز توكيل الكافر في تفرقه الزكاة، والأمر كذلك فقد صرح بجوازه القاضي الحسين في "تعليقه"، والبغوي في "التهذيب" والروياني في "الحلية" و"البحر"، والرافعي في كتاب الأضحية في الكلام على توكيل الكافر في ذبحها، وحذفه أيضًا هناك من "الروضة"، ونقله النووي في "شرح المهذب" عن "التهذيب" فقط وأقره. لكن جواز ذلك ليس على إطلاقه، بل شرطه تعيين المدفوع إليه. كذا صرح به الروياني في "الحلية" وهو متعين لأن التوكيل في هذه الحالة مجرد إعانة واستخدام بخلاف ما إذا لم يعين، فإن فيه ولاية الإعطاء لمن شاء والمنع لمن شاء فيمتنع.

وذكر الماوردي قريبًا منه فقال كما نقله عنه الرافعي في قسم الصدقات: إنه لا يشترط فيه الإسلام والحرية إلا إذا كان التفويض عامًا فإن عين له الإمام شيئًا يأخذه لم يشترط واحد منهما. قال النووي من "زياداته": وفي عدم اشتراط الإسلام نظر، واعلم أنه يجوز أيضًا توكيل السفيه فيها كما ستعرفه واضحًا في كتاب الحجر، وكذلك توكيل الصبي كما صرح به القاضي في "تعليقه" والبغوي في "فتاويه"، وصححه الروياني في "البحر" و"الحلية" وحكى فيها وجهًا أنه لا يجوز توكيله، وزاد في "البحر" امتناع توكيل الكافر في وجه. قوله في "الروضة": ولا يكفي مطلق الصدقة على الأصح. انتهى. واعلم أن هاهنا مسألتين: إحداهما: أن يقتصر على نية الصدقة، وهو المذكور في "الشرحين" و"الروضة" و"الكفاية". والثانية: أن تقيد الصدقة بالمال. وقد أوضحهما في "شرح المهذب" فقال: ولو نوى الصدقة فقط لم يجزئه على المذهب الذي قطع به الجمهور، وحكى الرافعي فيه وجهًا ضعيفًا. ولو قال: صدقة مالي أو صدقة المال فوجهان أصحهما لا يجزئه. انتهى ملخصًا. وحاصله أن المعروف في الأولى نفي الخلاف، وأما الثانية فجازم فيها بإثبات الخلاف وقوته. وتعبير "الروضة" لا يوافق واحدة منهما لأن صدر كلامه يقتضي تصوير المسألة بالأولى، وعجزه يقتضي التصوير بالثانية، فإنه عبر فيها بالأصح.

قوله: ولو قال: هذه عن مالي الغائب إن كان سالمًا، فبان تالفًا فهل له الصرف إلى الحاضر؟ حكى في "العدة" فيه وجهين، قال: والأصح أنه لا يجوز. انتهى. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، والذي صححه صاحب "العدة" هو الصحيح، ففي "شرح المهذب" أنه المذهب، وفي أصل "الروضة" أنه الصحيح. قوله: لأن التعيين ليس بشرط حتى لو قال: هذه الخمسة عن الحاضر أو الغائب أجزأه، وعليه خمسة للآخر بخلاف ما لو نوى الصلاة عن فرض الوقت إن كان قد دخل، وإلا فعن الفائتة لا تجزئه لأن التعيين في العبادات البدنية شرط. انتهى كلامه. واعلم أن مراده باشتراط التعيين إنما هو تعيين كونها ظهرًا أو عصرًا. وأما تعيين الأداء أو القضاء فليس بشرط على الصحيح وحينئذ فتكون صورة المسألة هنا في الصلاة محله فيما إذا كانت الفائتة مخالفة للحاضرة. أما إذا كانتا متحدتين كظهرين أو عصرين، فإنه يلزم مما قاله الصحة فاعلمه. قوله: وتجويز الإخراج عن النائب في مسائل الفصل جعله الكرخي جوابًا على جواز نقل الصدقة قال: ويصح تصوره بما أشار إليه في "الشامل"، وهو أن يفرض الغيبة عن المنزل لا عن البلد. انتهى. وهذا الذي صور المسألة به خروج عن ظاهر اللفظ ولا حاجة إليه، بل يتصور بما إذا كان ماله الغائب في موضع ليس فيه فقراء وكان الموضع الذي هو فيه أقرب موضع إليه. قوله: وينوب الولي عن الصبي والمجنون في إخراج الزكاة، ويجب عليه أن ينوي. انتهى.

علله الأصحاب، ومنهم ابن الرفعة في "الكفاية" بأن المؤدى عنه ليس أهلًا للنية، والتعليل المذكور يقتضي أن السفيه يتعاطى النية لأنه من أهلها. قال ابن الرفعة: وفي الاعتداد بنيته نظر. وكلامه يقتضي عدم الوقوف عليها، وقد صرح بها الجرجاني في "الشافي" فقال بعد أن ذكر وجوبها على الصبي والمجنون والسفيه: ويخرجه الولي عنهم وينوي لهم. هذه عبارته. وصرح به أيضًا النووي في "شرح المهذب" وحكى فيه الاتفاق، ونقله عن الرافعي وغيره مع أن الرافعي لم يذكره في السفيه كما قدمناه، بل ذكر الصبي والمجنون خاصة. قوله: فإن لم [ينو] (¬1) صاحب المال عند دفعه إلى السلطان ونوى السلطان أو لم ينو هو أيضًا ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر كلامه في "المختصر"، ونص عليه في "الأم"، ولم يذكر كثير من العراقيين سواه -أنه يجزئ لأنه لا يدفع إلى السلطان إلا الفرض. والثاني: لا يجزئ، وهو الأصح عند صاحب "المهذب" و"التهذيب" وجمهور المتأخرين واختاره القاضي أبو الطيب. انتهى. لم يصرح في "الروضة" أيضًا بتصحيح واحد منهما، والأصح هو الثاني. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" والنووي في "شرح المهذب" وغيره، وعبرا جميعًا بلفظ الأصح. قوله: لما روى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون من أعطاها موتجرًا بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وشطر ماله" (¬1). انتهى. الموتجر: بكسر الجيم على وزن المقتدر والمنتقم طالب الأجر. والحديث رواه أبو داوود وضعفه الشافعي، ونقله عنه في "الروضة". قوله في "الروضة": وإذا أخذ الإمام زكاة الممتنع، فإن نوى الإمام أجزأه ظاهرًا وكذا باطنًا في الأصح كولي اليتيم، وإن لم ينو الإمام لم يسقط الفرض باطنًا قطعًا، ولا ظاهرًا على الأصح، ثم قال: والمذهب أنه تجب النية على الإمام، وأن نيته تقوم مقام نية المالك. وقيل: إن قلنا: لا تبرأ ذمة المالك باطنًا، لم تجب النية على الإمام، وإلا فوجهان: أحدهما: تجب كالولي. والثاني: لا، لئلا يتهاون المالك فيما هو متعبد به. [انتهى] (¬2). وتعبيره بقوله: (وأنه يقوم بنيته مقام نية المالك) خطأ من وجهين سَلِمَ منهما الرافعي: أحدهما: أنه عين الكلام السابق، وهو أن نية الإمام هل تجزئه ظاهرًا وباطنًا أم لا؟ فكرر وغاير في العبارة، وأدخله بين شقي مسألة واحدة. الثاني: أنه عطفه على ما عبر عنه بالمذهب مع أن الرافعي لم يحكِ فيه طريقين. والذي أوقع المصنف في هذا أن الرافعي عبر بظاهر المذهب فحذف ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1575) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه الشيخ الألبانى -رحمه الله تعالى-. (¬2) سقط من ب.

الظاهر، وأبقى المذهب فحصل ما حصل، وقد وقع له أيضًا في مواضع نظير هذا الموضع. قوله: هل يجزئه تقديم النية على التفرقة؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على إطلاق المسألة، وصورتها أن ينضم إلى النية عزل المقدار المخرج، فإن لم يقترن العزل بها لم يجز بلا خلاف، صرح به المتولي والروياني في هذا الباب، والماوردي في كتاب الأيمان ونقله النووي في "شرح المهذب" عن جماعة وأقره ثم نقل عن الأصحاب أن الزكاة والكفارة في ذلك سواء. نعم لا فرق بين أن تكون النية مقارنة للعزل أو بعده. وقيل: التفريق كما ذكره في "شرح المهذب" في الكلام على ما إذا دفع إلى الوكيل من غير نية. ووقع لابن الرفعة هنا أمران نبهت عليهما في "الهداية" فتفطن لهما. قوله في أصل "الروضة": ينبغي للإمام أن يبعث السعاة لأخذ الزكوات. انتهى. لم يصرح الرافعي أيضًا في هذا الباب بأن هذا البعث واجب أو مستحب، والمراد به الوجوب، كذا صرح به الرافعي في كتاب قسم الصدقات في الكلام على العامل. [قوله: ] (¬1) ثم إن كانت المواشي ترد الماء أخذ الزكاة [على] (¬2) مياههم ولا يكلفهم ردها إلى البلد، ولا يلزمه أن تتسع المراعي، بهذا فسر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: عن.

قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا جلب ولا جنب" (¬1) أى لا يكلفوا أن يجلبوها إلى البلد، وليس لهم أن يجنبوها الساعي فيشقوا عليه. انتهى. الجلب: بجيم ولام مفتوحتين، وقد فسره الجوهري بما ذكره المصنف. وأما الجنب: فبفتح الجيم والنون أيضًا وهو ربط الحيوان إلى جانبه في حال سيره، ومنه قولهم: جاء الأمير تقاد الجنائب بين يديه. وقد أشار الرافعي إلى تفسيره بأنه لا يكلف الساعي بأن يجنبها معه أي من المرعى. والحديث المذكور رواه أبو داوود بإسناد حسن، ولفظه: "لا جلب ولا جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم". قوله: وهل يكره ذلك أى إطلاق لفظ الصلاة على أحد؟ أطلق القاضي الحسين لفظ الكراهة، وكذلك الغزالي في "الوسيط" ووجهه الإمام بأن المكروه يتميز عن ترك الأولى بأن يفرض فيه نهي مقصود وقد ثبت نهي مقصود عن التشبيه بأهل البدع وإظهار شعارهم والصلاة على غير الأنبياء مما اشتهر به الرافضة. وظاهر كلام الصيدلاني أنه خلاف الأولى وبه يشعر كلام "الوجيز" وصرح بنفي الكراهة في "العدة"؛ وقال أيضًا: الصلاة بمعنى الدعاء تجوز على كل أحد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1591) وأحمد (6692) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال الألبانى: حسن صحيح. وأخرجه الترمذى (1123) والنسائي (3335) وأحمد (19868) من حديث عمران بن حصين. وقال الترمذي: حسن صحيح. وفى الباب عن أنس وأبي ريحانة وابن عمر وجابر ومعاوية وأبى هريرة -رضى الله عنهم- أجمعين.

أما بمعنى التكريم والتعظيم فيختص به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، والمشهور ما سبق. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن المراد بالنهي المقصود كما قاله الإمام في "النهاية" أن يكون مصرحًا به لقوله: لا تفعلوا كذا أو نهيتكم عن كذا، بخلاف ما إذا أمر بمستحب فإن تركه [لا يكون] (¬1) مكروهًا، وإن كان الأمر بالشئ نهيًا عن [ضده] (¬2) لأنا استفدناه باللازم، وليس بمقصود وذكر -أعني الإمام- أيضًا في كتاب الجمعة أن كل مسنون صح الأمر به مقصودًا كان تركه مكروهًا. ثانيها: أنه يستثني من كلام الملائكة، فإن حكمهم في الصلاة كحكم الأنبياء، كذا صرح به الرافعي في "الشرح الصغير" ولم يستثنه أيضًا في "الروضة". ثالثها: أن قول الرافعي: (والمشهور ما سبق) يحتمل أن يكون ردًا على ما قاله صاحب "العدة" من التفصيل وهو الفرق بين أن يقصد به الدعاء أو التكريم. فكأنه قال: المشهور ما سبق من الاطلاق، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى الوجه الأول المذكور في أصل المسألة، وهو الوجه الذاهب إلى الكراهة، والاحتمال الأول أظهر لمعنيين. أحدهما: أن تفصيل صاحب "العدة" أقرب إلى هذه المقالة لكونه أخر الكلام فرجوع الكلام إليه أولى. الثاني: أن الرافعي صرح في "الشرح الصغير" برجحان عدم الكراهة فقال: أشبه الوجهين أنه لا يكره، والكلام يبين بعضه بعضًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: صدقه.

وجعله النووي في "الروضة" عائدًا إلى الوجه القائل بالكراهة فقال في اختصاره ما نصه: فيه وجهان: الصحيح الأشهر أنه مكروه، وإنما عدل عن قول الرافعي المشهور إلى الأشهر، لأنه قد اصطلح على التعبير بالمشهور عن القولين. وعلى كل حال فهو إما اختلاف في كلام الرافعي، وإما غلط في فهم النووي، وهو الأقرب. رابعها: أن النووي قد حذف من "الروضة" ما ذكره صاحب "العدة"، وهو التفصيل بين أن يقصد بالصلاة الدعاء أم لا. قوله: ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعًا لهم فيقال: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وأتباعه، لأن السلف لم يمتنعوا منه، وقد أمرنا به في التشهد وغيره. انتهى كلامه. وهذا الكلام مشعر باستحباب الصلاة على الأصحاب وذكر في أوائل كتابه المسمى "بالتذنيب" نحوه أيضًا. وكذا رأيت في "شرح المختصر" للداوودي -وهو المعروف بالصيدلاني- فقال: وأما نحن فإنما نصلي علي غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبعًا فيقال: اللهم صلِ على محمد وآله وأزواجه وأصحابه وأتباعه وأهل ملته، وعلينا معهم. هذا لفظه. وقال الشيخ عز الدين في "الفتاوي الموصلية": لا يستحب أن يذكر منهم إلا من صح ذكره وهم الآل والأزواج والذرية بخلاف من عداهم صحابيًا كان أو غيره. هذا كلامه.

قال -رحمه الله- القسم الثاني: التعجيل قوله في "الروضة": وحكى الموفق بن طاهر عن أبي عبيد بن خربويه من أصحابنا منع التعجيل، وليس بشئ. انتهى. وإطلاق المنع عن المذكور باطل، بل هو مجوز للتعجيل، ولكن قبل الحول بيوم أو يومين، وهو حاصل ما في الرافعي أيضًا، فإنه حكى عن مالك أنه منع التعجيل إلا في هذه الحالة، ثم حكى عن أبي عبيد أنه وافق مالكًا، فلزم ما قلناه. قوله: ولو عجل صدقة عامين فصاعدًا فهل يجزئ المخرج عما عدا السنة الأولى، فيه وجهان: أحدهما: نعم، لما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسلف من العباس صدقة عامين (¬1)، وبه قال أَبو إسحاق. والثاني: لا، لأن زكاة السنة الثانية لم ينعقد حولها، والأولى أصح عند صاحب "الكتاب" ذكره في "الوسيط"، وكذا قال الشيخ أَبو محمد وصاحب "الشامل" والأكثرون على ترجيح الوجه الثاني، ومنهم معظم أصحابنا العراقيين، وصاحب "التهذيب". انتهى كلامه. وذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وفيه أمران: أحدهما: أن مفهوم هذا الكلام حصول الإجزاء بالسنة إلى السنة الأولى، وبه صرح الإمام فقال: فإن منعنا فذلك في الزائد، أما ما يقع لسنة فمجزئ. وهذا الحكم مسلم إن كان المخرج قد ميز حصة كل سنة، فإن لم يميز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1399) ومسلم (983) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فينبغي أن لا يجزئ لأن المجزئ عن خمسين شاة مثلًا إنما هو [شاة] (¬1) كاملة لا مشاعة ولا مبهمة، وهاهنا ليست كذلك. الأمر الثاني: ولابد من تقديم مقدمة عليه فنقول: الأصحاب في هذه المسألة على أربعة أقسام، منهم من لم يتعرض لها بالكلية وهم خلائق كثيرون، ومنهم ابن سريج في "الودائع" والقفال الشاشي في "المحاسن" وأبو على في "الافصاح" والزبيرى في "الكافي" وجماعة آخرون. ومنهم من تعرض لها، وحكى فيها خلافًا من غير ترجيح منهم القفال المروزي في "شرح التلخيص"، والشيخ أَبو حامد في "التعليق"، والشيخ أَبو على السنجي في "شرح التلخيص" أيضًا، والداوودي شارح "المختصر" وهو المعروف بالصيدلاني والمحاملي في كتاب "القولين والوجهين"، وفي كتاب "المجموع" وغيرهما، والقاضي الحسين في "التعليق"، والشيخ نصر في "التهذيب"، والدارمي في "الاستذكار"، والفوراني في "الإبانة"، والجرجاني في "الشافي"، وأبو عبد الله الطبري في "العدة"، والشيخ في "المهذب"، ومجلى في "الذخائر"، والعمراني في "البيان" والجاجرمي في "الكفاية". ومنهم من ذهب إلى الجواز فمن هؤلاء أَبو إسحاق على ما نقله الرافعي عنه كما سبق. وقال البندنيجي في "تعليقه": إنه المذهب، والقاضي أَبو الطيب في "تعليقه" أيضًا إنه المشهور من مذهبنا، وابن الصباغ في "الشامل" إنه المذهب المشهور، وسليم الرازي في "مجرده" إنه أشبه الوجهين، والماوردي في "الحاوي" إنه أظهر الوجهين، والشيخ أَبو محمد في "المختصر"، والغزالي في "الوسيط" و"الخلاصة"، والمتولي في ¬

_ (¬1) سقط من ب.

"التتمة" إنه الصحيح، والروياني في "البحر" إنه ظاهر المذهب، وفي "الحلية" له إنه القول الذي عليه الاختيار، وقال الخوارزمي في "الكافي" والجرجاني في "التحرير"، والشاشي في "الحلية" وفي كتابه المسمى "بالترغيب" أيضًا: إنه الأصح، وقال في الاستقصاء: إنه أظهر الوجهين، وجزم به ابن عصرون في "المرشد" وفي كتابه المسمى "بالتنبيه" وصححه في "الانتصار"، وصححه أيضًا ابن التلمساني في "شرح التنبيه"، وابن الصلاح في "مشكل الوسيط"، فإنه بعد نقله لتصحيح "الوسيط" قال: إن الأمر فيه كما قاله، ومال إليه إمام الحرمين، فإنه بعد حكاية الوجهين قال: ويشهد للجواز قصة العباس. ونقل في "شرح المهذب" أن العبدري صححه أيضًا، ورأيت في "التقريب" لابن القفال أن أبا ثور نقله عن الشافعي، ونقله أيضًا عن نصه ابن الرفعة في باب قسم الصدقات من "الكفاية" قبيل قول الشيخ قال: وإن هلك الفقير. ذكر ذلك في ذيل كلام نقله عن الشيخ أبي حامد. وأما القسم الرابع وهو القائل بالمنع فلم أظفر بأحد صححه إلا البغوي بعد الفحص البليغ والتتبع الشديد فتلخص أن العراقيين وهم الشيخ أَبو حامد وأتباعه قائلون بالجواز إلا من لم يصحح منهم شيئًا، وكذلك جمهور الخراسانيين، والمراد بهم القفال وأتباعه ما عدا البغوي. فإذا استحضرت جميع ما ذكرناه علمت أن كلام الرافعي في هذه المسألة قد حصل فيه اختلاط في حال التصنيف وانعكاس في النقل، وهو إعزاء قائلين بوجه [إلى] (¬1) الوجه الآخر، وكان الصواب أن يقول: والأكثرون على تصحيح الجواز ومنهم معظم العراقيين. والحاصل من مجموع ما نقله النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في "الكفاية" أن القائلين بالجواز سبعة وهم البندنيجي، والغزالي، وأبو الطيب، وابن الصباغ، والجرجاني، والشاسي والعبدري، اتفقا على الأولين وهما البندنيجي والغزالي، وانفرد ابن الرفعة بأبي الطيب وابن الصباغ، والنووي بالثلاثة الباقية، ثم إنهما معًا مع تتبعهما واطلاعهما لم ينقلا المنع إلا عن تصحيح البغوي خاصة، وأردفاه بأن الرافعي نقله عن الأكثرين، ولم يطلقا النقل عنهم مع تقليدهما له في النقول غالبًا. وحاصله أنهما توقفا في ثبوته لأجل ما وقفا عليه من العدد، ولو فحصا كما فحصت واطلعا من هذه النقول على ما ذكرت لقطعا برده كما قطعت، فلله الحمد والفضل على تيسير مثل هذه الأمور. قوله: وذكر أَبو الفضل تفريعًا على جواز تعجيل صدقة عامين أنه هل يجوز أن ينوي تقديم زكاة السنة الثانية على الأولى؟ فيه وجهان كالوجهين في تقديم الصلاة الثانية على الأولى في الجمع. انتهى كلامه. والوجهان المشار إليهما محلهما في جمع التأخير، وقد صرح في أصل "الروضة" و"شرح المهذب" هنا بذلك أى بجمع التأخير، والصحيح منهما الجواز، فيكون الصحيح هنا أيضًا الجواز فاعلمه. لكن لقائل أن يقول: إن صح تشبيه صدقة العامين بالجمع بين الصلاتين فهو إنما يشبه الجمع في وقت الأولى بالضرورة، وحينئذ فيمتنع جزمًا. قوله: ولو عجل شاة عن أربعين فولدت أربعين فهلكت الأمهات، فهل يجزئه ما أخرج عن السخال؟ نقل في "التهذيب" فيه وجهين. انتهى. والأصح عدم الإجزاء، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: والإخراج بعد تصيير الرطب تمرًا والعنب زبيبًا ليس بتعجيل، بل هو واجب حينئذ، ولا يجوز التقديم قبل خروج الثمرة، وفيما بعده أوجه:

أظهرها عند المعظم، وبه قطع ابن القطان وصاحب "العدة" جوازه بعد بدو الصلاح لا قبله. والثاني: يجوز قبله من حين خروج الثمرة. والثالث: لا يجوز قبل الجفاف. وهذه الأوجه تجري أيضًا في الحب بعد تسنبله، وانعقاد حبه، وقبل تنقيته أصحها الجواز بعد الاشتداد والإدراك، ومنعه قبله. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن صورة المسألة أن يعرف حصول نصاب منهما، كذا ذكره الرافعي في أثناء الاستدلال، وعبر بلفظ العرفة، وحذفه من "الروضة"، وذكره أيضًا في "البحر"، وعبر عنه بغلبة الظن. الأمر الثاني: أن هذه الطريقة القاطعة بالصحيح قد أسقطها أيضًا النووي من "الروضة". قوله: وإن قال: إن شفي الله مريضي فلله تعالى علىّ عتق رقبة، فأعتق قبل الشفاء لا تجزئه على الأصح. انتهى. وما ذكره هاهنا من تصحيح عدم الإجزاء قد خالفه في الباب الثاني من كتاب الأيمان مخالفة عجيبة، وتبعه عليه في "الروضة"، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه. قوله في الكلام على استقراض الإمام: وهل يكون للإمام طريقًا في الضمان حتى يؤخذ منه، ويرجع هو على المساكين أم لا؟ إن علم المأخوذ منه أنه يستقرض للمساكين بإذنهم فلا يكون طريقًا على أظهر الوجهين، بل يرجع عليهم. والثاني: أنه يكون طريقًا كالوكيل بالشراء يكون مطالبًا على ظاهر المذهب.

وإن ظن المأخوذ منه أنه يستقرض لنفسه أو للمساكين من غير سؤالهم فله أن يرجع على الإمام والإمام يقضيه من مال الصدقة، أو يجعله محسوبًا عن زكاته المفروضة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما صححه هنا من عدم مطالبة وكيل المستقرض وأنه بخلاف الشراء قد صحيح خلافه في الباب الثاني من أحكام الوكالة، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من حسبانه عن الزكاة كيف يستقيم مع أنه لم يؤخذ منه إعطاء ولا نية؟ قوله: ولو استغنى قبل الحول بالمدفوع إليه لم [يضر] (¬1) انتهى. يستثني ما لو استغنى بزكاة إما معجلة أو غير معجلة فإنه يكون كما لو استغنى بغير الزكاة. هذا حاصل ما رأيته في "فوائد المهذب" للفارقي. قوله: وإذا أعطى الزكاة إلى الفقير، واقتصر على قوله: زكاة معجلة، أو علم القابض ذلك، ولم يذكر الرجوع ففيه وجهان: أحدهما: لا يرجع، بل تقع صدقة لأن العادة جارية أن المدفوع إلى الفقير لا يسترد، فكأنه أعطاه بهذه الجهة إن حصل شرطها، وإلا كان تطوعًا. وأصحهما -ولم يذكر المعظم سواه: أنه يرجع كما لو عجل أجرة دار فانهدمت. ثم قال: والوجهان محلهما فيما إذا دفع المالك بنفسه، فأما إذا دفع ¬

_ (¬1) في أ: يصح.

الإمام، فلا يمكن جعله نافلة فلا حاجة إلى شرط الرجوع. انتهى. اعلم أن الداخل على لا النافية في المرتين هو فاء التعقيب ومعناه أن الإمام إذا دفع فلا يمكن جعله نافلة لأن الملك ليس له، وإذا لم يكن جعله نافلة فلا حاجة إلى شرط الرجوع لأنه لو لم يرجع مع أنه قد تبين أنه لا زكاة لوقع تطوعًا. قوله في المسألة: لكن لو لم يعلم القابض أنه زكاة غير معجلة فيجوز على الوجه الأول أي القائل بعدم الاسترداد أن يقال: سلمنا أنه لا يسترد، ولكن على الإمام الضمان للمالك لتقصيره بترك اشتراط الرجوع. انتهى. هذا استدراك على ما ذكره من تخصيص الوجهين بالمالك، ولكنه تعبير ملبس لا يكاد أحد يتفطن له وقد أوضحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: فأما إذا دفع الإمام فلا يمكن جعله نافلة، فلا حاجة إلى شرط الرجوع، هكذا ذكر. وليكن هذا الجواب فيما إذا علم الآخذ أنه زكاة غيره، فإن لم يعلم فيجئ على الوجه الأول أن يقال لا يسترد، وعلى الإمام الضمان للمالك. هكذا لفظه. وحاصله أنه إذا علم الآخذ أنه زكاة غير الإمام فيرجع، وإن لم يعلم ذلك بأن اعتقد الفقير أن الإمام أخرجها عن نفسه، أو لم يعلم الحال فلا يرجع على ذلك الوجه، بل يغرمها الإمام لتقصيره. وإذا علمت هذا فنرجع إلى لفظ الرافعي فنقول تعبيره بقوله: (زكاة) هو مجرور بالإضافة إلى غير ولفظ (غير) إما منون وهو الثابت في أكثر النسخ، وإما مضاف إلى هاء عائدة على الإمام. "ومعجلة" إما صفة لزكاة، وإما خبر ثان لأن، ويجوز نصبه على الحال، ولما أشكل هذا الموضع على الواقفين عليه ضرب بعضهم على لفظ

غير فأفسد المعنى وحذف بعضهم الكلام برمته، ومنهم النووي في "الروضة". وأبقاه بعضهم مصرحًا بإشكاله، وقد اتضح ذلك بمراجعة "الشرح الصغير"، ولله الحمد. وقد استفدنا أيضًا من الشرح المذكور الجزم بما بحثه في "الكبير" من تخصيص الخلاف بما إذا علم الأخذ أنه زكاة غير الإمام. قوله في "الروضة": ولو دفع المالك أو الإمام، ولم يتعرض للتعجيل، ولا علم به القابض فقد نص في "المختصر" على أن المعطي إن كان هو الإمام رجع وإن كان هو المالك فلا، فقيل فيهما قولان، وقيل بتقرير النصين، وهو الذي ذكره ابن كج وعامة العراقيين. وقيل: لا رجوع قطعًا، وهو الذي أورده الجامعون لطريقة القفال. انتهى. صحح النووي في أصل "الروضة" طريقة التقرير وقد صححها أيضًا في "الكفاية" وعبر بالأصح. قوله في المسألة: والأظهر أنه لا يثبت الرجوع سواء أثبتنا الخلاف أم لا، وهو فيما إذا دفع المالك بنفسه أولى وأظهر. انتهى. وما ذكره من تصحيح عدم الرجوع في المسألتين إذا لم يثبت فيهما الخلاف، بل قررنا النصين عجيب لا ينتظم فتأمله. نعم تستقيم هذه العبارة -أعني التعبير بقوله: -سواء أثبتنا الخلاف أم لا- إذا كانت الطريقة القاطعة موافقة للصحيح، ولا شك أن الرافعي نقلها من مثل ذلك الموطن إلى هاهنا ذهولًا. قوله: وإذا قلنا باشتراط التصريح بالرجوع أو باشتراط علم المالك فتنازعا فيه فالقول قول المسكين في الأصح مع يمينه، وقول المالك في الثاني،

ويجري الوجهان في تنازع الإمام والمسكين. انتهى كلامه. وما ذكره من تصحيح تصديق المسكين تابعه عليه النووي في "الروضة" وذكر مثله في "المنهاج"، وصحح في "شرح المهذب" أن القول قول الدافع، وعبر بالأصح، وقل من ذكر تصحيحًا ممن تعرض للمسألة وحكى الخلاف، بل أرسلوا ذكر وجهين، منهم الماوردي في "الحاوي"، والإمام في "النهاية"، والغزالي في "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز"، والبغوي في "التهذيب"، والروياني في "البحر". نعم أجاب جماعة بتصديق القابض على وفق ما صححه في "الروضة"، وهو ترجيح الفتوى بما فيها منهم البندنيجي وصاحب "العدة" وهو أَبو المكارم لا أَبو عبد الله الحسين، ومنهم المتولي في "التتمة"، وحكى هو والروياني وجهين في أنه هل يحلف أم لا؟ وعللا المنع بأن ذكر التعجيل ليس معتادًا فدعواه بعيدة. قوله: ولك أن تبحث في قول الغزالي، أما إذا لم يتعرض للتعجيل ولا علمه المسكين فنقول: هذا يشمل ما إذا سكت فلم يذكر شيئًا أصلًا، وما إذا قال: هذا زكاتي أو صدقتي المفروضة، ولم يتعرض للتعجيل، ولا علمه المسكين فهل الحكم في الحالتين واحد أم بينهما فرق؟ والجواب [أن] (¬1) فيه طريقين: إحداهما: أنه إذا تعرض للزكاة أو الصدقة المفروضة كان بمثابة ما لو ذكر التعجيل، ولم يصرح بالرجوع. وأظهرهما: أنه كما لو لم يذكر شيئًا أصلًا. انتهى. وهذا الجواب ليس فيه تصريح بالمقصود، فإنه لم يبين فيه حكم السكوت، وقد أوضحه في "الكفاية" فقال: والطرق المذكورة باتفاق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ناقلها جارية، فيما إذا دفع وهو ساكت، وأما إذا قال حالة الدفع: هذه زكاتي أو صدقتي، فإنه يكون بمثابة ما لو ذكر التعجيل. وقال القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين: الحكم كما لو دفع وسكت. وحاصله أن الخلاف ثابت عند السكوت بلا شك، وأن في التحاق القسم الآخر به خلافًا، فكان جريانه في السكوت مقرر في ذهن الرافعي، فلذلك لم يصرح به. وقد ظهر لك بما سبق أن الصحيح عند الرافعي التعميم، وعند ابن الرفعة خلافه. قوله: ولو أتلف المالك المال رجع، وقيل: لا لتقصيره، وقضية هذا التعليل أن لا يجري الخلاف فيما إذا أتلفه بالإنفاق وغيره من وجوه الحاجات. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه استنباطًا من التعليل وأفهم أنه لم يقف في المسألة على نقل قد صرح بنقله في "شرح المهذب" فقال: قال أصحابنا: إن كان لحاجة كالنفقة أو للخوف عليه أو ذبحه للأكل وغير ذلك ثبت الرجوع قطعًا. هذه عبارته. وعبر في "الروضة" بنحوها أيضًا، وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" مثل ما ذكر الرافعي إلا أنه لم يسنده إليه، بل عبر بقوله: قيل: ثم إنه عبر عنه بعبارة ركيكة فإنه قال ما نصه: قيل وقضية هذا التعليل أن لا يجري هذا الوجه فيما إذا أتلفه اتفاقًا أو لحاجة. هذه عبارته. قوله: ولو أتلف بعض ماله حتى انتقص النصاب كان كإتلاف جميع ماله مثل أن يعجل خمسة دراهم عن مائتي درهم ثم يتلف منها درهمًا نقل هذه الصورة والوجهان فيها للاصطخري انتهى كلامه.

وأشار بما ذكره في آخره إلى أن التصوير للاصطخري وأن الوجهين له أيضًا أي من تخريجه، وقد صرح بذلك الروياني في "البحر" فقال ما نصه: خرج أبو سعيد الإصطخري فيه وجهين. أحدهما: له أن يسترجع كما لو تلف بنفسه لأن الزكاة سقطت عنه في الحالتين. والثاني: ليس له ذلك لأنه متهم في إتلاف درهم لاسترجاع خمسة. هذه عبارته. وذكر غيره مثله أيضًا، وقد علم منه أن العلة عند الإصطخري في هذا التصوير ونحوه ليست هي التقصير حتى يطرد في القليل والكثير بل العلة فيه هذه التهمة الخاصة حتى لا يطرد في الكثير. قوله: ولو تسلف للطفل وليه فهو كالرشيد إذا تسلف بمسألته. كذا قالوه، وهو مفرع على جواز صرف الزكاة إلى الصغير، وفيه وجهان لأنه إن كان في نفقة غيره فالخلاف مشهور، وإن لم يكن فقيل لا يصرف إليه لاستغنائه عن الزكاة بسهم اليتامى من الغنيمة. وحينئذ فلا يجوز الصرف إليه من سهم الفقراء والمساكين. انتهى. وما ذكره قد تابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك لأن الصغير قد لا يكون في نفقة غيره، ولا هو ممن يصرف إليه من سهم اليتامى في الغنيمة [شئ] (¬1) بأن يكون له أب فقير. قوله: والمراد بالمساكين في هذه المسائل أهل السهمان جميعًا، وليس المراد جميع آحاد الصنف بل سؤال طائفة منهم وحاجتهم. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" لكن للإمام أن يصرف زكاة الشخص الواحد إلى واحد من الأصناف. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وحينئذ فلا يأتي ما قاله. نعم لا تختص المسألة بسؤال الفقراء، بل بسؤال غيرهم من الأصناف كذلك. قوله: ولو كان الطارئ موت المساكين فهل للمالك أن يستخلف ورثته على نفي العلم بأنها معجلة؟ فيه وجهان. انتهى. قال البندنيجي في "الذخيرة": المذهب أنهم لا يخلفون، ولم يصرح في "الروضة" ولا في "شرح المهذب" بتصحيح. قوله: قال الإمام: وفي احتياج مخرج صدقة التطوع إلى لفظ تردد. قال: والظاهر الذي عليه عمل الناس أنه لا يحتاج. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه، وهذا التردد الذي ذكره الإمام وجهان مشهوران للأصحاب، والصحيح منهما ما أشار إليه بحثًا. كذا ذكره الرافعي في باب الهبة، ثم إن الإمام قد أشار هنا إلى ذلك فقال: فيه تردد للأصحاب مرموز إليه هذه عبارته. قوله: ومتى ثبت الاسترداد فكان المعجل بالغًا ضمنه بقيمته، وفي القيمة المعتبرة وجهان: أحدهما: قيمة يوم التلف كالعارية. والثاني: يوم القبض كالصداق. قال المحاملي: وهذا أشبه. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن المرجح هو الوجه الثاني فقد قال في "المحرر": إنه الأشبه، وصححه النووي في أصل "الروضة" و"شرح المهذب"، وعبر الرافعي في "الشرح الصغير" عنه بقوله: رجح بالبناء للمفعول.

الثاني: [أن ما] (¬1) جزم به هنا من كون الصداق مضمونًا أيضًا بقيمة يوم القبض مخالف لما ذكره في بابه وستعرفه إن شاء الله تعالى واضحًا. قوله في المسألة: وينقدح عند إمام الحرمين وجه ثالث وهو إيجاب أقصى القيم بناء على أن الملك غير حاصل للقابض واليد يد ضمان تبينًا. انتهى. وهذا الذي نقله [احتمالًا عن الإمام فقط واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله] (¬2) وجه ثابت قديمًا حكاه القاضي الحسين في "تعليقه" والسرخسي في "الأمالي"، وحكاه أيضًا النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية". قوله في "الروضة": والمذهب أن القابض يملك المعجل، وفيه وجه شاذ أنه موقوف، فإن عرض مانع تبين عدم الملك، وإلا بان الملك. فلو باعه القابض ثم طرأ المانع، فإن قلنا بالمذهب استمرت صحة البيع وإلا تبينا بطلانه. ولو كانت العين باقية فأراد القابض رد بدلها، فإن قلنا بالوقف لزم ردها بعينها، وإن قلنا بالمذهب ففي جواز الإبدال الخلاف في مثله في الفرض بناء على أنه يملكه بالقبض أو بالتصرف؟ . انتهى. واعلم أن النووي لم يذكر في المعجل أنه كالفرض أم لا حتى يفرع عليه، والرافعي قد ذكره في أثناء قاعدة حسنة مشتملة على فوائد فأهملها النووي ثم فرع عليها فلنذكرها ملخصة فإن كثيرًا من مسائل الفصل تنبني عليها فقال نقلًا عن الإمام حيث لا نثبت الرجوع فالملك حاصل للقابض لكنه متردد بين الفرض والتطوع وحيث نثبته فله تقديران حوم عليهما ¬

_ (¬1) في أ: أنما. (¬2) سقط من أ.

صاحب "التقريب". أحدهما: أن الملك موقوف، فإن حدث مانع تبين استمرار ملك المالك، وإلا فيتبين أن القابض ملكه من يوم القبض. والثاني: أن الملك ثابت للقابض لكن إن استمرت السلامة تبين أن الملك عن الزكاة، وإلا تبين أنه فرض، ويأتي الخلاف في أن الفرض يملك بالقبض أو بالتصرف، وفي أن المراد بالتصرف ماذا؟ . انتهى ملخصًا. واعلم أنه مع قولنا: إن القابض يملك، فإنه كالباقي على ملك المالك تقديرًا، سواء بقى عنده نصاب أو دونه كما سيأتي قريبًا الكلام عليه. قوله: ولو عجل شاة عن مائة وعشرين ثم نتجت واحدة أو عن مائة وحدثت عشرون وبلغت غنمه مع الواحدة المعجلة مائة وإحدى وعشرين لزمه شاة أخرى. انتهى. تابعه في "الروضة" على قوله في المثال الثاني، وحدثت عشرون، وهو سهو، والصواب أن يقول: وحدثت إحدى وعشرون، فتأمله. والمثال الأول يوضح ما ذكرته. قوله: ولو عجل شاتين عن مائتين ثم حدثت سخلة قبل الحول، وقد بلغت غنمه مع المعجلين مائتين وواحدة فيلزمه عند تمام الحول شاة ثالثة. ثم قال ما نصه: فلو كانت المعجلة في هاتين الصورتين معلوفة أو اشتراها وأخرجها لم يجب شئ زائد لأن المعلوفة والمشتراة لا يتم بهما النصاب، وإن جاز إخراجهما عن الزكاة. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، ونقله ابن الرفعة أيضًا عنه، وأقره، وهو غلط فاحش بل يلزمه أيضًا شاة أخرى في الصورتين بلا خلاف وإن كان المخرج معلوفًا أو مشترى لأن المعلوفة والمشتراة لا يتصور أن تكون من المال الذي يزكي عنه لعدم شروط الوجوب فيهما، فيكون المال الذي عجل الزكاة

عنه باقيًا على حاله. وحينئذ فلا يتوقف إيجاب الشاة الثانية في المثال الأول إلا على واحدة فقط لأن الفرض أنه لم ينقص شيئًا، وقد وجدت تلك الواحدة، ولا يتوقف إيجاب الشاة الثالثة في المثال الأخير إلا على واحدة أيضًا لأن المال الذي عجل عنه الشاتين وهو المائتان باقٍ على حاله، وتلك الواحدة التي توقف عليها قد وجدت، وهكذا يفعل في سائر الأمثلة. وإذا فرضنا أنه أخرج من نفس المال فيكون المخرج كالباقي على حاله، وحينئذ فيجب أيضًا بحدوث ما قلناه غير أنه لا يمكن أن يكون المخرج، والحالة هذه معلوفًا ولا مشترًا فظهر أن ما قاله الرافعي في هذا الموضع، وتبعه عليه النووي غلط عجيب ولم أظفر له بمثله، فإنه ليس أمرًا نقليًا، فيحال على الأصل الذي نقل منه إما لإسقاط أو تحريف أو انتقال نظر، بل أمرًا مأخوذًا من قواعد أنتجه عمله وفكرته. قوله: وإذا لم يعرض ما يقتض الرجوع، وكان الباقي عنده دون النصاب كما لو عجل شاة من أربعين فقط فقال صاحب "التقريب" نقدر كأن الملك لم يزل له مقتضى الحول، وفي ملكه نصاب، واستبعد الإمام ذلك فقال: كيف نقول ببقاء ملك المعطي مع نفوذ تصرف القابض بالبيع وغيره، وهذا الاستبعاد حق إن أراد صاحب "التقريب" بقاء الملك حقيقة، وإن أراد أنه نازل منزلة الثاني حتى يكون مكملًا للنصاب ومجزئًا عن الزكاة، فلا استبعاد، والأصحاب مطبقون عليه، وكأنه اكتفي عند التعجيل بمضى ما سبق من الحول على كمال النصاب رفقًا بالفقراء. انتهى ملخصًا. وحاصله الاتفاق على زوال الملك، وعلى تنزيله منزلة الباقي، وليس فيه ما يقتضي إثبات خلاف بل اعتراض الإمام في غاية الضعف، وكان ينبغي للرافعي أن لا يذكره بالكلية أو ينبه على ضعفه.

وقد التبس الكلام على النووي فأثبت في "الروضة" خلافًا ثم نفاه فقال: فيه وجهان: الصحيح الذي قطع به الأصحاب أن المعجل نازل منزلة الباقي، وليس بباقٍ في ملكه حقيقة. هذه عبارته. ثم ذكرنا في الكلام الذي نقلناه عن الرافعي. نعم سبق لنا وجه أن المعجل موقوف، فإن تبين الرجوع تبين عدم الملك، وكلامنا في هذه المسألة في عكس ذلك، وهو إذا لم يحدث سبب يقتضي الرجوع. وقد وقع الرافعي في "الشرح الصغير" فيما وقع فيه "النووي" فقال: ولو ملك نصابًا فقط فعجل عنه فهل يزول ملكه عن المخرج أو يقدر باقيًا في ملكه رعاية للنصاب فيه احتمالان. والظاهر الأول. قوله: وحيث ثبت الاسترداد فقد ذكر العراقيون فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستأنف الحول لنقصان ملكه. والثاني: يبني على ما مضى لأن المخرج للزكاة كالباقي، وهذا هو المذكور في "التهذيب"، هو الظاهر عند المعظم. والثالث: يزكي النقد لما مضى بخلاف الماشية لأن السيوم ممتنع في الحيوان في الذمة هذا إن كان المخرج باقيًا. فإن كان تالفًا نظر إن كان ماشية فلا تجب الزكاة بحال لأن الواجب على القابض هو القيمة ولا يكمل بها نصاب الماشية. وروى ابن كج عن أبي إسحاق إقامة القيمة مقام العين. انتهى ملخصًا. إذا علمت هذا فقد قال بعده نقلًا عن الغزالي: والمخرج للزكاة إذا وقع عن الزكاة كالباقي، فإن طرأ مانع فلا. وهكذا ذكره صاحب "التهذيب" فقال: لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين فبلغت بالتوالد خمسًا وثلاثين خارجًا عما قبضه الفقراء،

وكان ما قبضوه هالكًا لم يجب بنت لبون لأنا إنما نجعل المخرج كالقائم إذا وقع محسوبًا عن الزكاة. والذي قاله في "التهذيب" ينازع فيه ما حكيناه عن العراقيين في توجيه الوجه الثاني، وصرح بكونه كالباقي، وإن لم يقع عن الزكاة. انتهى ملخصًا. وهذه الصورة التي ذكرها البغوي ليس الأمر فيها على ما زعمه الرافعي من ثبوت الخلاف بين البغوي والعراقيين، لأن البغوي فرضها فيما إذا كان المخرج تالفًا. وهذه الصورة لا نزاع فيها بينهما كما تقدم، وأما الأوجه المتقدمة التي استدرك الرافعي بتوجيه الوجه الثاني منهما على نزاع العراقيين للبغوي فمحلها إذا كان المخرج باقيًا كما صرح به الرافعي بعد ذكر الأوجه، وقد تقدم ذكر عبارته. فتلخص أن كلام العراقيين في مسألة، وكلام البغوي في مسألة أخرى، وحينئذ فلا نزاع بينهما.

قال -رحمه الله- القسم الثالث: في تأخير الزكاة قوله: فاعلم أنه ليس المراد من الإمكان مجرد كونه تسييل من إخراج الزكاة، لكن يعتبر معه شئ آخر، وهو وجوب الإخراج، وذلك بأن تجتمع شرائطه، فمنها أن يكون المال حاضرًا عنده. فأما إذا كان غائبًا فلا يوجب إخراج زكاته من موضع آخر، وإن جوزنا نقل الصدقات. انتهى كلامه. وما ذكره ها هنا من عدم وجوب الإخراج عن المال الغائب قد جزم بخلافه قبل ذلك في الكلام علي شروط الزكاة في أثناء الشرط السادس، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. والمسألة فيها وجهان حكاهما القاضي حسين في "تعليقه" والروياني في "البحر" وغيرهما، وحكاهما أيضًا في "الكفاية" في الكلام على الدين. والقياس هو المذكور هنا إلا أن يمضي زمان يمكنه المضى إليه فيه. قوله: ولو أخر لطلب الأفضلية كالتأخير لانتظار قريب أو جار أو أحوج فوجهان: أظهرهما: الجواز. قال الإمام: اللهم إلا إذا كان الحاضرون يتضورون جوعًا، فإن كان لم يجز التأخير بلا خلاف. ثم قال ما نصه: ولك أن تقول إشباع الجائعين وإن وجب، لكنه غير متعين على هذا الشخص ولا من هذا المال ولا من مطلق الزكاة، وإذا كان كذلك فلا يلزم من وجوب الإشباع في الجملة أن لا يجوز التأخير. انتهى.

فيه أمور: أحدها: أن النووي قد اعترض في "الروضة" على بحث الرافعي فقال: هذا النظر ضعيف أو باطل ثم إنه في "شرح المهذب" بين سبب بطلانه فقال لأنه وإن لم يتعين هذا المال لهؤلاء المحتاجين فدفع ضرورتهم فرض كفاية، ولا يجوز إهماله لانتظار فضيلة. انتهى. والذي قاله النووي عجيب سببه عدم فهمه لكلام الرافعي على وجهه، فإن الرافعي قد سلم أن إشباعهم واجب. وحينئذ فإن حصل الإشباع من غير هذه الزكاة الخاصة لزم القول بجواز التأخير للجار ونحوه حتى إذا قال المزكي: أنا أعطيتهم تطوعًا، وانتظر بهذه الزكاة من ذكرناه جاز لأنه [لا] (¬1) مانع حينئذ فإن الشرط وهو اندفاع الحاجة قد حصل، وإن لم يحصل الإشباع إلا من هذه الزكاة فيتعين إعطاؤها ولا يجوز التأخير لأن الواجب على الجملة وهو الإشباع لم يقم به أحد، فانتفي الجواز لانتفاء شرطه، فكيف يصح أن يستدرك النووي بقوله: إن دفع ضرورتهم فرض كفاية ولا يجوز إهماله لانتظار فضيلة؟ . الأمر الثاني: أن تعبيرهما معًا بالإشباع غير صحيح، فقد صرح الغزالي في باب نفقة الأقارب من "الوجيز" بأن الأقارب الذين تجب نفقتهم كالأصول والفروع لا يجب على المنفق إشباعهم ثم إن الرافعي حالة شرحه بينه فقال: ولا يشترط إنتهاء المنفق عليه إلى حد الضرورة، ولا يكفي ما يسد الرمق، بل يعطيه ما يستقل به، ويتمكن معه من التردد والتصرف، هذه عبارته. فإذا لم يجب ذلك للأباء والأولاد فللأجنبي بطريق الأولى. الأمر الثالث: أن التضور في كلام الرافعي هو بالضاد المعجمة والواو، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومعناه الصياح والتلوي عند الجوع ونحوه. كذا قاله الجوهري ولم يتفطن النووي لهذه اللفظة الخاصة المستعملة فيما نحن فيهم، وتوهم أنها الضرر براءين، فعبر به في "الروضة". نعم الصرة بالصاد المهملة المفتوحة والراء المشددة تطلق على الصحة والصيحة وعلى الشدة أيضًا، فيجوز أن يكون اللفظ المذكور هنا من ذلك والإمام -رحمه الله- كثيرًا ما يعبر بهذه الألفاظ العربية. قوله في كيفية تعلق الزكاة بالمال أن الجديد الصحيح هو قول الشركة. . . . إلى آخره. اعلم أن الأصحاب لم يفرقوا في الشركة بين الدين والعين، وحينئذ فيلزم من ذلك أمور كثيرة ينبغي التفطن لها. منها أنه لا يجوز لصاحب الدين أن يدعي تملك جميعه، ولا يجوز له أيضًا الحلف عليه، ولا للشهود أن يشهدوا بذلك، بل طريق الدعوى والشهادة أن يقال: إنه باقٍ في ذمته وأنه يستحق قبضه لأن له ولاية التفرقة في القدر الذي ملكه الفقراء. قوله: وإذا فرعنا على قول الشركة فاستبقى قدر الزكاة وباع الباقي فوجهان: أحدهما: يصح البيع لأن ما باعه حقه. وأقيسهما عند ابن الصباغ المنع لأن حق الفقراء شائع. وهذا الخلاف مبني على كيفية ثبوت الشركة وفيها وجهان: أحدهما: أنها شائعة في كل شاة. والثاني: أن محل الاستحقاق قدر الواجب، ثم يتعين بالإخراج، ويعبر عنه بأن الواجب شاة مبهمة. انتهى ملخصًا. فيه أمران:

أحدهما: أن تخريج الوجهين على كيفية ثبوت الشركة كيف يستقيم مع أنهما جاريان في غير هذا كالحبوب والنقود كما صرح به البندنيجي والماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهم. والشركة في هذه الأنواع بالشيوع قطعًا كما صرح به الأصحاب، وجزم به في "الكفاية" في آخر زكاة النبات. الأمر الثاني: أن تعليل منع ابن الصباغ بكونه شائعًا ظاهره أنه يرى ذلك، وأنه علل به وليس كذلك، فإنه عبر بقوله: فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لأن الزكاة لا تتعين إلا بالدفع. والثاني: يصح لأنه باع حقه. والأول أقيس لأنه يلزم هذا القائل أن يقول إذا عزل الزكاة من غير المال الزكوى أنه يصح بيع الكل لأن الزكاة لا تتعين عليه منه. هذه عبارته. وليس فيها التعليل بالشيوع لا أولًا ولا آخرًا، وكأنه توهم من التعليل الأول، وهو أن الزكاة لا تتعين إلا بالدفع كونها شائعة، وهو توهم عجيب. واعلم أن النووي في "الروضة" لما ذكر الوجهين والبناء لم يبين كيفيته، بل ذكره علي صورة توهم العكس، فتفطن له. قوله: الحالة الثانية: أن يرهن قبل تمام الحول ثم يتم الحول ففي وجوب الزكاة خلاف [مر] (¬1) في الكتاب شرحه والرهن لابد وأن يكون بدين. وفي كون الدَّين مانعًا من الزكاة خلاف مشهور، فإن أوجبنا نظر إن لم يملك هذا الراهن مالًا آخر فيبنى ذلك على كيفية تعلق الزكاة. إن قلنا أنها تتعلق بالذمة والمال مرهون بها، فعن أبي علىّ وغيره أنه قد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

اجتمع هاهنا حق الله تعالى وحق الآدمي فتأتي الأقوال الثلاثة في أنه يقدم الرهن أو الزكاة أو تستوي. وعن أكثر الأصحاب أنه يقدم الرهن لأنه أسبق ثبوتًا، والمرهون لا يرهن. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في توجيه الخلاف من أن الرهن لا يكون إلا بدين، وفي منع الدين خلاف، فقد تقدم الاعتراض عليه من جهة أنه قد يعير ليرَهن. ومحل الخلاف إنما هو في الدين الذي على الراهن خاصة. الأمر الثاني: أن ما ذكره هاهنا عن الأكثرين من عدم التخريج على الخلاف، ومن تقديم الرهن قطعًا قد ذكر ما يشكل عليه قبيل الكلام على أنه لا يضم حمل نخلة إلى حملها الأول، فإنه صحح هناك عدم التخريج، كما صحح هاهنا، لكنه جعل الأصح القطع بتقديم الزكاة، ولم يذكر ما نقله هنا عن الأكثرين فضلًا عن تصحيحه وسأذكر لفظه هناك فراجعه.

زكاة المعشرات

قال -رحمه الله-: النوع الثاني: زكاة المعشرات وفيه أطراف: الطرف الأول: في الموجب: قوله: واللوبيا وتسمى الدخن أيضًا. . . . إلى آخره. وقعت هنا ألفاظ بيّن الرافعي معناها، ولكن نحتاج إلى ضبطها. فأما الدخن فبدال مهملة مضمومة وخاء معجمة ساكنة. وأما الخلر فبخاء معجمة مضمومة ولام مشددة بعدها راء مهملة. وأما الثفاء فبالثاء المثلثة المضمومة بعدها فاء مشددة يليها مد الواحدة ثفاه. وأما الفث فبفاء مفتوحة وثاء مثلثة مشددة كذا ضبطه جميعه الجوهري وغيره. والقنبط بقاف مضمومة ثم نون مشددة مفتوحة ثم باء موحدة وطاء مهملة وهو نبات معروف. قوله: وقال في القديم: تجب الزكاة في الزيتون فإن كان مما لا يجئ زيتًا كالبغدادي أخرج عشره زيتونًا وكذا إن كان يجئ منه على الصحيح عند المعظم، وقيل: يتعين الزيت. ثم قال: وروى إمام الحرمين وجهًا آخر أنه يتعين إخراج الزيتون، وعلل بأن النصاب يعتبر به دون الزيت بالاتفاق. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من دعوى الاتفاق ووافقه هو عليه قد صرح به أيضًا النووي في "الروضة" ولم يعزه إلى الإمام، فإنه لما حكى في المسألة ثلاثة

أوجه قال ما نصه: الثالث: يتعين الزيتون بدليل أنه يعتبر النصاب بالزيتون دون الزيت بالاتفاق. هذا لفظه. وليس كما قالا من دعوى الاتفاق، بل في المسألة قولان للشافعى. أحدهما: هذا. والثاني: أن النصاب إنما يعتبر بالزيت. حكاهما الماوردي في "الحاوي". وحكى الخلاف أيضًا الروياني في "البحر" والشاشي في "الحلية" والنووي في "النكت" له على التنبيه. قوله: ونقل عن القديم أنه يجب فيه الزكاة يعني الورس إن صح حديث أبي بكر، وهو ما روى أنه كتب إلى بنى خفاش بذلك. وقال الصيدلاني وغيره: له في الورس قولان. انتهى ملخصًا. فأما خفاش فهو بضم الخاء المعجمة وتشديد الفاء وبالشين المعجمة، وهذا هو الصواب كما قاله في "شرح المهذب". قال: وضبطه بعض الناس بكسر الخاء وتخفيف الفاء، وهو غلط، وأما الأصح من قولي القديم فهو الوجوب، كذا جزم به الرافعي في "الشرح الصغير" واقتصر في "الروضة" على حكاية التعليق على حديث أبي بكر. قوله: والزعفران باتفاق الأصحاب مرتب على الورس إن لم تجب الزكاة فيه، ففي الزعفران أولى وإن وجبت ففي الزعفران قولان. انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق على الترتيب ليس كذلك فقد حكى ابن الصباغ وغيره طريقة قاطعة بالبناء عليه، أى إن أوجبنا في الورس أوجبنا في الزعفران وإلا فلا. وحكاهما أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية".

قوله: وعن أبي إسحاق أن الشافعي في القديم علق القول في العسل على ثبوت الأخذ من فعل أبي بكر، وذهب الشيخ أبو حامد وغيره إلى أنه قطع القول بنفي الزكاة قديمًا وجديدًا، فتحصل فيه طريقان. انتهى. ومقتضى هذا الكلام رجحان طريقة القطع، وقد ضعفها أعنى الرافعي في "الشرح الصغير" فاعلمه، وكذلك النووي ففي "الروضة"، إلا أن النووي صحح طريقة التعليق. وأما الرافعي فصحح طريقة الجزم بالوجوب في القديم، وهذه الطريقة لم يصرح بها في "الكبير" فضلًا عن تصحيحها. قوله في أصل "الروضة": فالخمسة الأوسق ألف وستمائة رطل بالبغدادي؛ والأصح عند الأكثرين أن هذا القدر تحديد، وقيل: تقريب. انتهى كلامه. وما صححه هنا من كونه تحديدًا قد صحح عكسه في شرحه "لصحيح مسلم" وفي كتاب الطهارة من "شرح المهذب" في الكلام على القلتين فقال: وللقولين نظائر منها الحيض بتسع سنين، والمسافة بين الصفين بثلاث مائة ذراع، ومسافة القصر بثمانية وأربعين ميلًا، ونصاب المعشرات بألف وستمائة رطل بالبغدادي، ففي كل هذه المسائل وجهان: أصحهما: تقريب. والثاني: تحديد. هذا لفظه. وذكر هذه الصور كلها في رؤوس المسائل، وصحح أيضًا فيها التقريب، وعلله بأنه مجتهد فيه. قوله أيضًا في أصل "الروضة": فعلى التقريب يحتمل نقصان القليل كالرطلين، وحاول إمام الحرمين ضبطه فقال: الأوساق: الأوقار، والوقر ثلثمائة وعشرون رطلًا، وكل نقص لو وزع علي الأوسق الخمسة لم يعد

منحطه عن الاعتدال لم يضر، وإن عدت منحطه ضر. انتهى. ذكر في "شرح المهذب" كلامًا آخر مخالفًا لهذا فقال ما نصه: قال المحاملي وغيره: يغتفر على التقريب نقص خمس أرطال، ونقله الإمام عن العراقيين وأنكره عليهم وقال: المعتبر كذا، ثم ذكر ما تقدم والذي صححه أولًا لم يذكره هنا. [قوله] (¬1): وحيث لا يجب الخراج فأخذه السلطان على أن يكون بدلًا عن العشر فهذا كأخذ القيمة في الزكاة بالاجتهاد. وقد حكوا في سقوط الفرض به وجهين. . . . إلى آخره. والأصح منهما السقوط، كذا جزم به الرافعي في أوائل الزكاة في الكلام على اجتماع الحقاق وبنات اللبون. وذكر في باب الخلطة ما يقتضي تصحيحه، وصححه النووي هنا من "زياداته"، قال: ونص عليه الشافعي في "الأم" وقطع به جماهير الأصحاب. قوله في آخر الكلام على رَقْم كلام الغزالي: بل حكى القاضي وابن كج فيما سوى الزيتون طريقة نافية للخلاف قاطعة بالوجوب: انتهى كلامه. وهذه الطريقة أسقطها النووي من "الروضة" فاعلمه. قوله: كما تفسر الحنطة فتجعل حواري. انتهى. هو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وبالراء المفتوحة وهو الدقيق الأبيض من قولهم: حور كذا أي بيض. قاله الجوهري. قوله: وأما الأرز فتعبير بلوغه من العشرة عشرة أوسق، ثم قال ما نصه: وعن الشيخ أبي حامد أنه قد يخرج منه الثلث فيعتبر بلوغه قدرًا يكون ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الخارج منه نصابًا. انتهى لفظه. وذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وهذه العبارة التي عبر بها [عن] (¬1) رأي الشيخ أبي حامد لا تحصل بها معرفة ما ذهب إليه لأنا لا نعلم هل المراد بالثلث الخارج هو القشر أو الحب. وقد بينه البندنيجي في "تعليقته" والروياني في "البحر" وغيرهما، فقال: المراد أنه يخرج منه الثلث قشرًا والثلثان حبًا، فيكون نصابه سبعة أوسق ونصفًا. وذكر الجرجاني في "الشافي" نحوه فإنه قال: نصابه ستة أوسق أو سبعة على العادة، وإلى ذلك أشار الرافعي بقوله: قدر. قوله: وأما السلق فقال العراقيون وصاحب "التهذيب" هو حب يشبه الحنطة في اللون والنعومة، ويشبه الشعير في برودة الطبع. وعكس الصيدلاني وآخرون، وفيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه أصل بنفسه. وثانيها: حنطة. وثالثها: شعير. وقال المتولي: لا خلاف أنه لا يضم إلى الحنطة وإنما الخلاف في أنه أصل أم شعير. انتهى ملخصًا. وهذه الطريقة المحكية عن المتولي لم يذكرها في "الروضة"، وذكر فيها، وفي "شرح المهذب" وغيره أن الصواب الذي ذكره أهل اللغة وقطع به جماهير الأصحاب في صفتها هو مقالة العراقيين. قوله: فأما إذا مات وعليه دين، وخلف نخلًا مثمرة فبدا الصلاح فيها ¬

_ (¬1) في ب: على.

بعد موته، وقبل أن تباع في الدين وجبت فيها الزكاة في أصح القولين ثم إن كانوا موسرين أخذت الزكاة منهم وصرفت النخيل والثمار إلى دين الغرماء. انتهى كلامه. واعلم أنه إذا رهن مالًا زكويًا وحال عليه الحول وهو موسر فالجمهور على أن الزكاة لا تؤخذ من المرهون، بل من سائر أمواله لأنها مؤنة فأشبهت النفقة. وقال أبو على الطبري وآخرون: تؤخذ من المرهون إذا علقناها بالعين، وهذا هو القياس، كما لا يجب على السيد فداء العبد المرهون إذا جنى هذا [كله] (¬1) كلام الرافعي في آخر الباب السابق. فإذا علم ما في هذه المسألة من الاختلاف، وأن القياس كما قاله الرافعي عدم أخذها من الراهن فبطريق الأولى في مسألتنا؛ لأنه لا دين على الوارث بالكلية، فينبغى الجزم بأنها لا تؤخذ منه فكيف يجزم بعكسه. قوله في المسألة: وإن كانوا معسرين أخذت الزكاة منها إن قلنا الزكاة تتعلق بالعين: وإن علقناها بالذمة، وقلنا: المال مرهون بها فطريقان: أحدهما: تخريجها على الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدميين. ثم قال ما نصه: والطريق الثاني وهو الأصح. أن الزكاة تؤخذ بكل حال لأن حق الزكاة أقوى تعلقًا بالمال من حق المرتهن. ألا ترى أن الزكاة تسقط بتلف المال بعد الوجوب وقبل إمكان الأداء، والدين لا يسقط بهلاك الرهن، ثم حق المرتهن مقدم على حق غيره فحق الزكاة أولى بأن يكون مقدمًا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما ذكره هاهنا من القطع بتقديم الزكاة قد تقدم في آخر الباب السابق ما يخالفه، فإنه نقل عن الأكثرين في نظير المسألة وهو المرهون بدين عليه الجزم بتقديم حق المرهون، وقد تقدم ذكر لفظه فراجعه. قوله: وإن أطلع الثاني بعد جذاذ الأول ففيه وجهان: أحدهما -وهو الذي أورده ابن كج وأصحاب القفال وهو المذكور في "الوجيز": أنه لا يضم. والذي قاله أصحاب الشيخ أبي حامد أنه يضم، وهو نص الشافعي. فعلى الأول لو كان أطلاع الثاني قبل الجذاذ وبعد بدو الصلاح فوجهان: أصحهما في "التهذيب": لا ضم أيضًا. وإذا قلنا بقول أصحاب القفال فهل يقام وقت الجذاذ مقام الجذاذ؟ وجهان: أفقههما: يقام انتهى ملخصًا. وحاصل كلامه أنه إذا أطلع المتأخر بعد بدو الصلاح المتقدم فثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان قبل جذاذه ضم، وإلا فلا. واختلف كلام الرافعي في الأصح منها، فصحح في "الشرح الصغير" أنه لا ضم مطلقًا فقال ما نصه: أظهرهما: لا ضم مطلقًا. والثاني: نعم. والثالث: إن أطلع قبل جذاذه ضم إليه، وإلا فلا وصحح في "المحرر" أنه يضم مطلقًا فقال: وثمار العام الواحد يضم بعضها إلى بعض، وإن اختلف إدراكها. وفي وجه إذا أطلع الثاني بعد جذاذ الأول لم يضم انتهى لفظه.

وصححه النووي في "المنهاج"، وقال في "شرح المهذب": إنه الصحيح. وفي "زيادات الروضة": إنه الراجح. وقد نص الشافعي -رحمه الله- على ذلك كله فقال: وإذا كان له حائطان من نخل ببلد أو ببلدين فأطلع أحدهما طلعًا فلم يُجذ حتى أطلع الآخر فهما كثمرة واحدة، وإذا بلغا خمسة أوسق زكيا. وإن كان حدوث الثمرة الثانية بعد تناهي الثمرة الأولى وبلوغها الجذاذ لم يضمها. انتهى. كذا رأيته في كتاب "المسافر" لمنصور التميمي نقلًا عنه، وحاصله التفصيل بين الجذاذ وعدمه، وأن وقت الجذاذ كالجذاذ. قوله: وإذا كانت للرجل نخيل تهامية وأخرى نجدية فاطلعت التهامية ثم أطلعت النجدية لذلك العام. واقتضى الحال ضم ثمرة النجدية إلى ثمرة التهامية فضممناها إليها ثم أطلعت التهامية مرة أخرى فلا تضم ثمرة هذه إلى ثمرة النجدية. وإن أطلعت قبل بدو الصلاح فيها لأن في ضمها إلى النجدية ضمًا إلى ثمرتها المرة الأولى، ولا سبيل إليه، لأن ثمرتها في المرة الثانية إما حمل ثان على تصوير أن تكون تلك التهاميات مما يحمل في كل سنة مرتين، وأما حمل سنة ثانية. وعلى التقديرين فلا ضم على ما سبق، فهذا ما ذكره الأصحاب. ثم قال الصيدلاني وإمام الحرمين: ولو لم تكن ثمرة النجدية مضمومة إلى حمل التهامية أولًا بأن أطلعت بعد جذاذ ذلك الحمل لكنا نضم حملها الثاني المطلع قبل جذاذ النجدية إليها، إذ لا يلزم هاهنا المجذوذ الذي ذكرناه. وهذا قد لا يسلمه سائر الأصحاب لأنهم حكموا بضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، وبأن ثمرة عام لا تضم إلى ثمرة عام آخر، ومعلوم أن

إدراك ثمار التهامية [في كل عام أسرع من إدراك ثمار النجدية فيكون إطلاع التهامية] (¬1) ثانيًا للعام المقبل، وما على النجدية من العام الأول. انتهى كلامه. وهذا البحث الذي ذكره الرافعي ممنوع، وذلك لأن فرض المسألة فيما إذا كانت التهامية تثمر في السنة مرتين، وحينئذ فلا يسلم أن حملها الثاني لعام قابل بالنسبة إلى النجدية، وإن كان بالنسبة إليها نفسها كالعام القابل، فالمحذور إنما هو ضم النجدية إلى الحملين جميعًا للمعنى الذي قلناه. أما ضمها لأحدهما فلا بدليل ضمها إلى الحمل الأول. فإذا امتنع ضمها إلى الأول لأجل الجذاذ لم يمتنع ضمها إلى الثاني لوجودها معه في العام. قوله: والشئ قد يزرع في السنة مرارًا كالذرة تزرع في الخريف والربيع والصيف، ففي ضم بعضها إلى بعض عشرة أقوال: أرجحها عند الأكثرين: إن وقع الحصادان في سنة واحدة ضم وإلا فلا. انتهى. وما نقله عن ترجيح الأكثرين ذكر مثله أيضًا النووي في "الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" وعبر بالأصح، وهو نقل باطل يتعجب منه من تصفح كلامهم، وتفصيل القول فيه يطول. والحاصل أن القول المذكور لم أرَ من صححه بعد التتبع فضلًا عن عزوه إلى الأكثرين، بل رجح كثيرون اعتبار وقوع الزرعين في السنة منهم البندنيجي وابن الصباغ، وصحح في "البحر" اعتبار الحصادين، ولكن في فصل واحد لا في سنة واحدة. قوله في "الروضة" في المسألة: والقول الرابع: إن وقع الزرعان والحصادان أو زرع الثاني وحصد الأول في سنة ضم. انتهى. واشتراطه لوقوع الزرعين والحصادين معًا غلط، بل الصواب التعبير ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بأو، وقد عبر الرافعي بذلك، وأوضحه إيضاحًا بليغًا. وقد وهم ابن الرفعة في "الكفاية" هنا وهمًا أفحش من هذا الوهم فراجعه من "الهداية". قوله: ولو نبتت الذرة فالتفت وغطى بعضها بعضًا وبقى المغطي مخضرًا ثم أثرت الشمس في المخضر فأدرك بعد حصد الأعلى فطريقان: أحدهما: القطع بالضم. والثاني: يتخرج على الأقوال المعروفة في الذرة انتهى ملخصًا. والأصح هي طريقة القطع، كذا صححه النووي في "شرح المهذب"، وفي أصل "الروضة" أيضًا، ويوجد أيضًا ذلك في بعض نسخ الرافعي. قوله: والذرة الهندية تحصد سنابلها، ويبقى ساقها فتخرج سنابل أخرى، وفيها ثلاث طرق: أحدها: القطع بضم الثاني إلى الأول، وهو الأصح عند صاحب "التهذيب". والثاني: القطع بعدمه. والثالث: على الخلاف في حصد الزرع. انتهى ملخصًا. والأصح ما صححه صاحب "التهذيب"، كذا صححه النووي في أصل الروضة، وفي "شرج المهذب" أيضًا، لكنه نقل فيه هذا التصحيح عن الرافعي لوجوده في "الروضة" ظانًا أنه لم يغير كلام الرافعي. واعلم أن في بعض نسخ الرافعي التعبير "بالتهذيب" كما ذكرته هاهنا، وهو كذلك فيه أعني "التهذيب" وفي بعضها "التقريب" بالقاف.

الطرف الثاني: في الواجب

الطرف الثاني: في الواجب قوله: والعثري. . . . إلى آخر ما ذكر من الألفاظ وهي الغرب والسانية والمنجنون. فأما العثري: فبعين مهملة وثاء مثلثة مفتوحتين بعدهما راء مهملة مكسورة ثم ياء مشددة، وتقال بإسكان الثاء، والصحيح المشهور الأول. واختلف أهل اللغة في تفسيره على قولين حكاهما في "المحمل"، فالصحيح الذي ذهب إليه الأزهري وغيره أنه مخصوص بما سقى من ماء السيل فيجعل عاثور وهو شبه ساقية يحفر له تجري فيها الماء إلى أصوله، وسمى ذلك عاثورًا لأنه يتعثر بها [المار] (¬1) الذي لا يشعر بها. والثاني وهو ما قاله الجوهري: أن العثري هو الذي لا يسقيه إلا ماء المطر. وأما الغرب: فبغين معجمة مفتوحة وراء مهملة ساكنة وبالباء الموحدة هو الدلو العظيم. وأما السانية: فبسين مهملة وبعد الألف نون ثم ياء بنقطتين من تحت وهي الناقة التي يستقى عليها ويقال: سنت الناقة، والسحابة تسنو إذا سقت الأرض والقوم يسنون لأنفسهم إذا استقوا، والأرض مسنوة ومسنية. وأما المنجنون فهو الدولاب الذي يستسقي عليه، ويقال فيه المنجنين، قاله جميعه الجوهري. قوله: وإن اختلفت أنواعه كما إذا ملك من التمر البردي والكبيس وهما ¬

_ (¬1) في جـ: الماء.

نوعان جيدان والجعرور ومصران الفأرة وعذق بن حبيق وهي أنواع رديئة انتهى. أما البردي فبضم الباء الموحدة وسكون الراء وكسر الدال المهملة وتشديد الياء في آخره. قال الجوهري بعد ضبطه: هو ضرب من أجود التمر والكبيس بفتح الكاف وكسر الباء الموحدة وبعدها ياء بنقطتين من تحت ثم سين مهملة. والجعرور: بجيم مضمومة ثم عين ساكنة وراءين مهملتين. قاله في "تهذيب الأسماء واللغات". ومصران الفأرة: هو بضم الميم شبهوه بأمعاء الفأرة لحساسيته ورقته. قال الجوهري: المصر: المعاء والجمع المصران مثل رغيف ورغفان، والمصارين جمع الجمع. ومصران الفأرة ضرب رديء من التمر. هذا كلام الجوهري. وأما عذق الحبيق فالعذق بعين مهملة مفتوحة ثم ذال معجمة ساكنة بعدها قاف. قال الجوهري: هو النخلة بحملها. وأما بكسر العين فهو العنقود. وقال في "المحكم": أنه بالفتح يطلق على النخلة وعلى كل غصن له شعت. وأما حبيق فمصغر وهو بحاء مهملة ثم باء موحدة وفي آخره قاف. قال الجوهري: عذق الحبيق: ضرب من التمر رديء. قوله: فإن كثرت الأنواع، وقل مقدار كل نوع فحكى عن صاحب "الإفصاح" فيه ثلاثة أوجه:

أصحها: يؤخذ من الوسط. والثاني: من كل نوع بالقسط. والثالث: من الغالب. وروى ابن كج في المسألة طريقين: إحداهما: القطع بأخذ الوسط. والثانية: أن فيها قولين. أحدهما: الوسط. والثاني: الغالب. انتهى. وحاصله أن في المسألة ثلاثة طرق، ولم يبين الأصح منها، وقد اختلف فيه كلام النووي فصحح في "شرح المهذب" الطريقة القاطعة فقال ما نصه: أصح الطريقين: القطع بأنه يؤخذ الوسط، وبهذا قطع صاحب "المهذب" والجمهور، وهو المنصوص في "المختصر"، ونقل الإمام اتفاق الأصحاب عليه. والطريقة الثانية فيها ثلاثة أوجه. انتهى. وصحح في "الروضة" طريقة الأوجه فقال ما نصه فيه أوجه: الصحيح أنه يخرج من الوسط رعاية للجانبين. والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه. والثالث: يؤخذ من الغالب. وقيل: يؤخذ الوسط قطعًا. انتهى. والحاصل أن كلام "الروضة" عليه ثلاث اعتراضات: أحدها: مناقضته لما في "شرح المهذب". والثاني: إسقاط الطريقة الثالثة، وهي طريقة القولين. والثالث: ترجيحه لأحد الطرق، فإن الرافعي لم يرجح واحد منها.

الطرف الثالث: فى وقت الوجوب

الطرف الثالث: فى وقت الوجوب قوله: ولأن المقاسمة بيع على الصحيح. . . . إلى آخره. هذه المسألة قد اختلف فيها كلامه وكلام النووي، وسأذكر ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه مبسوطًا. قوله: ولو باع النخيل من مسلم قبل بدو الصلاح فبدا الصلاح في [ملك] (¬1) المشتري ثم وجد بها عيبًا، فليس له الرد إلا برضى البائع، لأنه تعلق بها حق الزكاة، وكان كعيب حدث في يده. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: (قبل بدو الصلاح) قد تكرر منه في هذا الفصل، وتبعه عليه في "الروضة"، وهو غير مستقيم. والصواب قبل التأبير، وذلك لأنه يتكلم فيما إذا وجبت الزكاة في الثمرة بعد انتقالها إلى [ملك] (¬2) المشترى، وإنما ينتقل أن لو كان البيع قبل التأبير، وليس دائرًا مع بدو الصلاح وعدمه، وتصور المسألة ببيع الثمار مع الأشجار. واعلم أن الفقراء يصيرون شركاء رب المال بسبب الزكاة. وحينئذ فيكون بعض المبيع في مثالنا حالة الرد خارجًا عن ملك المشترى، وليس كالعيب. وحينئذ يجر ذلك أمورًا: منها: أنه لا يأخذ جميع الثمن، فإنه إذا أدى الزكاة يعود الملك لمن. قوله: فلو أخذ الساعي الرطب لم يقع الموقع ووجب رده إن كان باقيًا، ¬

_ (¬1) في أ-: بلد. (¬2) في أ-: بلد.

فإن كان تالفًا فوجهان، الذي نص عليه وقاله الأكثرون أنه يرد القيمة. . . . إلى آخره. وهذه المسألة أعنى الرطب والعنب مثليان أم لا؟ قد اختلف فيها كلامه، وكلام النووي أيضًا وستقف عليه -إن شاء الله تعالى- مبسوطًا في باب الغصب. قوله: والصحيح المشهور إدخال جميع النخيل في الخرص ثم قال: وعن صاحب "التقريب" أن للشافعي قولًا في القديم أنه يترك للمالك نخلة [أو نخلات] (¬1) يأكل منها أهله، ويختلف ذلك باختلاف العيال. انتهى. وهذا القول الذي نقله عن القديم نقل المستغرب له قد نص عليه الشافعي في الجديد، ولم يحك في "البويطى" غيره فقال فيه ما نصه: ويترك لرب الحائط قدر ما يأكل هو وأهله لا يخرص عليه. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلته. قوله: وهل تعتبر الذكورة والحرية أى في الخرص قال في "العدة": إن اكتفينا بواحد فيعتبران، وإن قلنا: لابد من اثنين جاز أن يكون أحدهما عبدًا أو امرأة. وعن الشاشي حكاية وجهين في اعتبار الذكورة مطلقًا. ولك أن تقول: إذا اكتفينا بواحد فسبيله سبيل الحكم، فتشترط الحرية والذكورة؛ وإن اعتبرنا اثنين فسبيله سبيل الشهادات، فينبغي اشتراط الحرية، وأن تشترط أيضًا الذكورة في أحدهما، وتقام امرأتان مقام [الآخر] (¬2). انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ: الأخرى.

فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من إلحاقه بالحكم علي تقدير الاكتفاء بالواحد مردود، فإن قائل ذلك قد يلحقه بالأخبار، بل هو الظاهر، وكيف يكون الخرص حكمًا مع أنه لا يترتب عليه إلزام إلا إذا وقع تضمين بإيجاب وقبول، ولأنه لو ادعى الغلط في شئ ممكن صدقناه فيه. الأمر الثاني: أن الصحيح في هذه المسألة هو اشتراط الذكورة والحرية، فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه أظهر الوجهين. والنووي في كتبه: إنه الأصح. قوله: وهل الخرص عبرة أو تضمين؟ قولان: أصحهما: تضمين، أي ينقطع به حق المساكين من عين الثمرة، وينتقل إلى ذمة المالك. والثاني: عبرة، ومعناه أنه مجرد اعتبار [للقدر] (¬1)، ولا ينتقل الحق إلى الذمة. وفائدته على هذا جواز التصرف، وأخذ الزكاة منه على حساب الخرص، ولولا الخرص لكان القول قوله. وإذا جعلناه تضمينًا فلابد من تصريح الساعي، وقبول المالك، فإن لم يوجد أبقى حق الفقراء كما كان وقيل: لا بل نفس الخرص تضمين. وقيل: يشترط الإيجاب دون القبول. ثم قال ما نصه: وهل يقوم وقت الخرص مقام الخرص؟ ذكروا فيه وجهين: وجه قولنا: نعم، إن العشر لا يجب [إلا ثمرًا] (¬2)، والخرص يظهر ¬

_ (¬1) في جـ: القدر. (¬2) بياض من جـ.

المقدار لا أنه يلزم بنفسه شيئًا، وينبغي أن يرتب هذا على ما سبق إن قلنا: لابد من التصريح بالتضمن لم يقم وقت الخرص مقامه وإن اغتنيا عنه فحينئذ يأتي فيه الخلاف. انتهى كلامه. وما ذكره في أن وقت الخرص هل يقوم مقام الخرص. . . . إلى آخره قد تابعه عليه [أيضًا] (¬1) في "الروضة"، وهو كلام عجيب نشأ عن الذهول عن حقيقة المسألة، وإيضاح ذلك متوقف على مسألة يأتي بسطها عقب هذه المسألة وخلاصتها أن المالك إذا أتلف الثمرة بعد الخرص فإن قلنا: الخرص تضمين ضمن عشر الثمرة، وإن قلنا عبرة فهل يضمن عشر الرطب أو قيمة عشره؟ وجهان مبنيان على أن الرطب مثلي أو متقوم وهو الصحيح، وإن أتلفها قبل الخرص وجب ضمان الرطب، إن قلنا: لو جرى الخرص لكان عبرة، وان قلنا: إنه تضمين، فكذلك. وقيل: يضمن التمر، وهذا الخلاف الأخير هو المعبر عنه بأن وقت الخرص هل هو كالخرص؟ ومعناه أن وقت الخرص هل يتنزل عند إيجاب الضمان منزلة الخرص في أن الواجب التمر، أو الرطب وفيه وجهان، ومدركهما ما سبق في كلام الرافعي وهذا الذي قررته هو الذي ذكره ابن الرفعة أيضًا، ونقله عن الغزالي فتوهم الرافعي أنهما مسألتان فذكرهما مرتين في موضعين متقاربين لاسيما، والموضع الذي ذكرها فيه هاهنا لا تعلق لها به بالكلية، وكيف يتوهم أن وقت الخرص كالخرص حتى يجب في ذمته الثمر، وحتى يباح له التصرف بما شاء، وحتى يطالب بمقدار معين إلى غير ذلك من الأمور التي لا يعقل القول بها ولا يستقيم أيضًا معه ما ذكره الرافعي بعد ذلك بحثًا في بيان محل الخلاف وقد وقع النووي أيضًا في هذا الموضع العجيب، إلا أنه صحح من زوائده أن وقت الخرص لا يقوم مقامه فوافق الصواب في نفس ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الأمر من غير وقوف على حقيقة ذلك، وكأنه استبعد ما رآه واستنكره فذكر ما ذكر، وقد اتضحت المسألة ولله الحمد. قوله في "أصل الروضة": وإن أتلف المالك الثمرة أو أكلها بعد بدو الصلاح فيضمن ثم له حالان: أحدهما: أن يكون ذلك بعد الخرص. فإن قلنا: إن الخرص تضمين وهو الصحيح ضمن عشر التمر: لأنه قد ثبت في ذمته. وإن قلنا: إنه عبره فهل يضمن عشر الرطب أو قيمة عشره؟ فيه وجهان مبنيان على أنه مثلى أم لا والصحيح الذي قطع به الأكثرون عشر القيمة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما أجاب به هاهنا من كون الرطب متقومًا قد اختلف فيه كلامه، وكذلك كلام الرافعي أيضًا، وسنوضحه في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى فراجعه. الأمر الثاني: أن ما ذكره في ضمان الرطب متدافع لأنه عبر أولًا بقوله: قيمة العشر، وآخرًا بقوله: عشر القيمة، وهما متغايران كما تقدم إيضاحه في زكاة الخلطة فراجعه، فقد سلم الرافعي من هذا الاعتراض، فإنه عبر في الأول بقيمة العشر كما عبر في "الروضة"، وعبر ثانيًا بقوله: والذي أجاب به الأكثرون إيجاب القيمة، وهو تعبير صحيح، فإنه [قد] (¬1) دل علي أنه لا تجب الرطب بل القيمة، وتلك القيمة المعهودة قد تقدم تفسيرها، وهو قيمة عشره لا عشر قيمته، فغلط النووي فعبر بما ذكره. نعم المتجه هاهنا إنما هو عشر القيمة على خلاف ما يقوله الرافعي لأن ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

مؤنة التسليم تجب على المزكى، وفي "شرح المختصر" للصيدلاني، وهو الذي يعبر عنه ابن الرفعة بالداوودي تارة، وبابن داوود أخرى أن الواجب فيما يجف إنما هو التمر سواء جعلنا الخرص عبرة أو تضمينًا. قال: لأنه لو لم يتلفه لكان يخرج ذلك، قال: فإن كان لا يجف أخرج قيمة عشره رطبًا على قاعدة المتقومات. وقال صاحب "التقريب": يضمن العشر بمثله رطبًا؛ لأن له إبداله بمثله من جنسه مع بقاء العين كما لو أتلف الغنم فإنه تلزمه شاة لا قيمتها، والذي نقله عنه متجه حسن. قوله: قال في "التهذيب": ولا يجوز للمالك قبل الخرص أن يتصرف بأكل أو غيره، فإن لم يبعث الحاكم خارصًا أو لم يكن حاكم تحاكم إلى عدلين يخرصان عليه. انتهى. وهذا الذي نقله عن "التهذيب" خاصة وتبعه عليه في "الروضة" قد جزم به الرافعي في "الشرح الصغير" أيضًا، وإطلاقه باطل، فقد سبق في آخر الباب قبله إنه إذا باع الكل أو البعض شائعًا صح فيما عدا نصيب الفقراء، فينبغي حمل ما وقع هنا على التصرف في شئ معين. قوله: وإذا ادعى هلاك الثمرة المخروصة عليه وأسند الهلاك إلى سبب ظاهر كالبرد. فإن عرف وقوع ذلك السبب، وعموم أثره صدق بلا يمين، فإن اتهم في هلاك ثماره به حلف وإن لم يعرف وقوعه فالصحيح أنه يطالب بالبينة لإمكانها، ثم يقبل قوله بيمينه في الهلاك به. والثاني: لا يطالب بها، بل يكفي اليمين، ورأيت في كلام الشيخ أبي محمد أنه لا حاجة إلى اليمين أيضًا إذا كان ثقة. انتهى. فيه [أمور:

أحدها] (¬1): أنه أهمل هاهنا قسمًا ثالثًا، وهو ما إذا عرف وقوعه، ولم يعرف عمومه، وقد ذكره في أواخر الوديعة وقال: إنه يصدق بيمينه إلا أنه هناك لم يذكر ما إذا اتهم فيحتمل أن يكون المراد من الكلامين شيئًا واحدًا علي نوع من [التجوز] (¬2). الثاني: أن النووي قد نقل عن "التتمة" من غير مخالفة له من "زوائده" قبيل باب معاملات العبيد في التفريع على أن الجوائح من ضمان البائع أنهما إذا اختلفا في الهلاك بجائحة، فإن عرف وقوعها وعمومها فالقول قول المشتري بلا يمين والذي نقله هناك واضح، والا فكيف يستقيم التحليف للتهمة مع فرض العموم، فينبغي حمل المذكور هنا على خلاف حقيقته، وأن المراد بالعموم هو الكثرة لا كل نخلة من كل بستان. الثالث: أن ما نقله الرافعي في آخر كلامه عن الشيخ أبي محمد ظاهر في أنه تقييد للمسألة لا حكاية وجه آخر، لكن جزم به في "الروضة" بأنه حكاية لوجه فاعلمه. قوله: أما إذا اقتصر على دعوى الهلاك من غير تعرض لسبب فالمفهوم من كلام الأصحاب قبوله مع اليمين. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو يشعر بأنه لم يقف في ذلك على نقل صريح. وقد جزم المصنف في [آخر] (¬3) الوديعة بهذا الحكم. قوله: واعلم أن من آحادَّ النظر في قول العبرة والتضمين، وتأمل ما قيل فيهما توجيهًا وتفسيرًا ظهر له أنهما مبنيان على تعلق الزكاة بالعين. فأما إذا علقناها بالذمة فكيف نقول بالخرص لا يتعلق حقهم بالعين، ويتعلق بالذمة، وكان قبله كذلك. انتهى. ¬

_ (¬1) في جـ: أمران: أحدهما. (¬2) في جـ: التحرر. (¬3) في جـ: أواخر.

ومراد الرافعي بتعلق الزكاة بالذمة هو القول القائل بأن النصاب خالٍ عن التعلق بالكلية ومراده بتعلقها بالعين هو القائل بالشركة والرهن والجناية، فإن كلًا منها متعلق بالعين فاعلم ذلك وليس مراده بتعلق العين هو الشركة فقط، وإن كان هو المتبادر إلى الفهم من كلامه، فإن الخرص يفيد أيضًا انقطاع الحق عن العين على قول الرهن والجناية على اختلاف فيه مذكور في موضعه. وحينئذ فكان لا يستقيم للرافعي ما يحاوله. قوله: ولو ادعى المالك بعد الكيل أن الخارص غلط عليه بقدر يحتمل الغلط في مثله كخمسة أوسق في مائة قبل. انتهى. ونقصان عشر الثمرة وسدسها مما يحتمل أيضًا. كذا ذكره البندنيجي في "تعليقته" فاعلم ذلك وتفطن له. قوله: هذا إذا كان المدعي فوق ما يقع بين الكيلين كما مثلناه؛ فإن كان بمقدار ما يقع بينهما فهل يحط عنه؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم. انتهى ملخصًا. وما ذكره من تصحيح الحط قد رأيته كذلك في عدة من النسخ الصحيحة وصححه أيضًا في "المحرر" و"الشرح الصغير"، والنووي في "المنهاج". وحكى في "الروضة" [الوجهين] (¬1) من غير ترجيح ثم قال من زياداته: الأقوى أنه يحط. وصحح الإمام عكسه. انتهى. والذي صححه الرافعي وقواه النووي قد صححه أيضًا الماوردي والروياني وغيرهما. قوله: وإذا أصاب النخيل عطش لو تركت الثمار عليها إلى الجذاذ لأضر بها جاز قطع ما يندفع به الضرر، وهل يستقل به المالك أم لابد من ¬

_ (¬1) في جـ: وجهين.

استئذان الإمام؟ فيه خلاف. انتهى ملخصًا. والأصح عدم الوجوب، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وصحح النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما من كتبه وجوب الاستئذان، قال: وبه قطع العراقيون. قوله من زوائده: وإذا خرص عليه فتلف بعضه تلفًا يسقط الزكاة، وأكل بعضه وبقي بعضه، وقال المالك. لا أعرف قدر ما أكلته ولا ما تلف. قال الدارمي: قلنا له: إن ذكرت قدرًا ألزمناك ما أقررت به، فإن اتهمناك حلفناك وإن ذكرت محملًا أخذنا الزكاة بخرصنا. انتهى. وهذا الذي نقله عن الدارمي قد نص الشافعي عليه في "الأم"، ونقله عنه في "البحر".

زكاة النقدين

قال -رحمه الله-: النوع الثالث: زكاة النقدين قوله: ولو أخرج عن مائتي درهم خالصة خمسة دراهم مغشوشة لم يجز، وهل له الاسترجاع؟ حكوا عن ابن [سريج] (¬1) فيما فرع على "الجامع الكبير" لمحمد قولين: أحدهما: لا، كما لو أعتق رقبة معينة. وأصحهما: نعم، كما لو عجل الزكاة فتلف ماله. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على عدم الإجزاء، وذكر الرافعي في "الشرح الصغير" مثله أيضًا وهو مشكل بل ينبغي الاعتداد بالخالص منه. قوله: الدراهم المغشوشة إن كانت معلومة العيار صحت المعاملة على عينها الحاضرة، وفي الذمة. وإن كان مقدار النقرة مجهولًا ففي جواز المعاملة على عينها وجهان: أصحهما: الجواز. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على ذلك، وهو يقتضي أن المعاملة عليها في الذمة لا تجوز، وأنه إنما يجوز على العين خاصة، وهو وجه حكاه النووي في كتاب البيوع من "شرح المهذب"، وصحح جواز التعامل بها، ولم يقيده بالعين وهو الصواب. قوله: ولو كان عنده إناء وزنه ألف: ستمائة من نوع، وأربع مائة من نوع وأشكل عليه الأكثر، فإن احتاط وأخرج ستمائة من كل منهما فواضح، وإلا فيميز بالنار أو يمتحن بالماء. انتهى. ولا يشترط في التمييز بالنار سبك الجميع كما يوهمه كلامه، بل يكفي تمييز شئ يسير، ويقاس به [الباقي] (¬2) كما قاله الإمام، ونقله عنه في ¬

_ (¬1) بياض في جـ. (¬2) في جـ: الثاني.

"الكفاية". قوله: وكيفية الامتحان بالماء أن يوضع قدر المخلوط من الذهب الخالص في ماء ويعلم علي موضع الارتفاع ثم يخرج ويوضع مثله من الفضة الخالصة، ويعلم أيضًا على موضع ارتفاعه، وهذه العلامة تقع فوق الأولى لأن أجزاء الذهب أكثر اكتنازًا ثم يوضع فيه المخلوط، وينظر إلى ارتفاع الماء به أهو إلى علامة الفضة أقرب أم إلى علامة الذهب. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الحال لا يفترق بلا شك بين وضع المختلط أولًا أو آخرًا. الثاني: أن لنا طريقًا آخر هو أسهل من هذه وأضبط منها أن يوضع في الماء ستمائة ذهبًا وأربعمائة فضة، ويعلم ارتفاعه، ثم نعكس ونعلم أيضًا عليه، ثم يوضع المشتبه، ويلحق بالذي وصل إليه. ونقل في "الكفاية" طريقًا آخر عن الإمام وغيره يأتي أيضًا مع الجهل بمقدار كل نوع، وهي أن يطرح المختلط وهو ألف مثلًا في [ماء] (¬1) ويعلم علي موضع ارتفاع الماء، ثم يرفعه ويطرح من خالص الذهب في ذلك شيئًا بعد شئ حتى يرتفع الماء إلى تلك العلامة، ثم يرفعه ويعين وزنه. فإذا كان ألفًا ومائتين مثلًا وضعنا في الماء من الفضة الخالصة شيئًا بعد شئ حتى يرتفع الماء إلى تلك العلامة ثم يرفعها ويعتبر أيضًا وزنها فإذا كانت ثمان مائة مثلًا علمنا أن نصف المختلط ذهب ونصفه فضة، وقس على [هذا التشبيه] (¬2). الثالث: أن الطريقة التي ذكرها المصنف تأتي أيضًا عند مطلق الاختلاط مع الجهل بالوزن بالكلية فإنك إذا وضعت المختلط المذكور تكون علامته بين ¬

_ (¬1) في جـ: نار. (¬2) في جـ: هذه النسبة.

علامتي الخالص، فينظر ما بينهما، فإن كان بين علامة الذهب وعلامة المختلط قدر شعيرة مثلًا، وكذلك بين علامة الفضة والمختلط علمنا أن نصف المختلط ذهب ونصفه فضة. وإن كان بين علامة الذهب والمختلط قدر شعيرتين وبين علامة المختلط والفضة قدر شعيرة علمنا أن ثلثيه فضة، وثلثه ذهب ولو كان بالعكس علمنا أن ثلثيه ذهب وثلثه فضه، وهكذا ينظر في النسبية دائمًا ويرتب الحكم عليها. قوله: فإن تعذر الامتحان وعَسر التمييز وجب الاحتياط، وعُسر التمييز بأن يفقد آلات السبك أو يحتاج فيه إلى زمان صالح، فإن الزكاة واجبة على الفور فلا يجوز تأخيرها مع وجود المستحقين، ذكر ذلك في "النهاية" ولا يبعد أن يجعل السبك أو ما في معناه من شروط الإمكان. انتهى كلامه. وهذا كله حذفه النووي من "الروضة" وهو غريب جدًا. قوله في المسألة: ولو غلب على ظنه أن الأكثر الذهب أو الفضة فهل له العمل بمقتضاه؟ قال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: إن كان يخرج بنفسه فله ذلك، وإن كان يسلم إلى الساعى فالساعي لا يعمل بظنه. وقال الإمام: الذي قطع به أئمتنا أنه لا يجوز اعتماد الظن فيه. انتهى. لم يصحح في "الروضة" ولا في "شرح المهذب" شيئًا منهما أيضًا، والصحيح هو ما نقله الإمام كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير". قوله أيضًا فيها: قال الإمام: ويحتمل أن يجوز له الأخذ بما شاء من النقدين لأن اشتغال ذمته بعد ذلك غير معلوم، وجعل الغزالي في "الوسيط" هذا الاحتمال وجهًا. انتهى. والذي نقله عن الغزالي من جعله ذلك وجهًا قد فعله هو في "الشرح

الصغير" فصرح أيضًا بأنه وجه. قوله: إحداها: لو اتخذ حليًا مباحًا، ولم يقصد الكنز ولا الاستعمال ففي وجوب الزكاة وجهان قال في "العدة": فظاهر المذهب أنها لا تجب. انتهى. لم يصرح بتصحيح في "المحرر" أيضًا، بل عبر بقوله: رجح على البناء للمفعول مشيرًا إلى كلام صاحب "العدة"، والذي قاله في "العدة هو الصحيح، فقد صححه الماوردي، وكذلك الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين. والنووي في أصل "الروضة" و"المنهاج" وغيرهما، وعبر بالأصح، ونقله في "شرح المهذب" عن تصحيح الرافعي، وقد أعلمتك سبب ذلك فيما تقدم، وهو نقله عن "الروضة" ظنًا أنه لم يغير عبارة الرافعي. وقال الإمام: الجاري على القواعد هو الوجوب. قوله: وإذا انكسر الحلي وقصد جعله كنزًا وجبت الزكاة، وإن قصد إصلاحه فلا يجب على أصح الوجهين وإن لم يقصد شيئًا ففيه خلاف، منهم من يجعله وجهين مرتبين على هذين الوجهين، وأولى بالوجوب، ومنهم من يجعله قولين: أحدهما: أنه تجب الزكاة لأنه غير مستعمل في الحال ولا معد له. وأظهرهما: المنع؛ لأن الظاهر استمراره على ما سبق من قصد الاستعمال، ثم قال بعده: وإذا جمعت بين الصورتين قلت: في المسألة ثلاثة أوجه كما ذكر في "الكتاب"، ثالثها -وهو الأظهر- الفرق بين أن يقصد الاصلاح وبين أن لا يقصد شيئًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد صحح أن الخلاف

وجهان، والصواب أنهما قولان كما ستعرفه إلا أن كلًا منهما قد قال به قائل، ولم يصحح في الروضة، ولا في "شرح المهذب" أيضًا شيئًا من ذلك. الأمر الثاني: أن كلام الرافعي هنا كلام عجيب أوله يخالف آخره، فإن حاصل ما قاله أولًا أن الأصح منع وجوب الزكاة، وحاصل ما قاله آخرًا: التفصيل بين أن يقصد الاصلاح أو لا [يقصد] (¬1) شيئًا. والغريب أنه عبر بلفظ الأظهر في الموضعين، وقد تفطن الرافعي لذلك حالة تصنيف "الشرح الصغير" فاقتصر فيه على الأخير. وكذلك النووي في "الروضة" فاقتضى ذلك أنه المعمول به، والصواب هو الأول، وهو عدم الوجوب على خلاف ما في "الروضة" والشرح المذكور، فقد قال الماوردي في "الحاوي": إنه المنصوص. وقال في "البيان": إنه الجديد، ومقابله القديم. وقال البندنيجي: إنه مقتضى نصه في ["الأم"] (¬2). قوله: وقد روى أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب. . . . إلى آخره. أما عرفجة فبعين مهملة، ثم راء ساكنة، وفاء وجيم، العرفج شجر ينبت في السهل، الواحدة عرفجة، وبه سمى الرجل قاله الجوهري. وأما الكلاب فبضم الكاف وفتح اللام المخففة وبالباء الموحدة، وهو اسم ماء كانت فيه وقعتان مشهورتان، قال الشاعر: إن الكلاب ماؤنا فخلوه. قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في جـ: الأصح.

قوله: والرانين. . . . إلى آخره. هذه الألفاظ وهي قبيعة السيف والتعاويذ وسكاكين المهنة. فأما الران فهو بالراء المهملة وبالنون، وهو خف يلبس الساق ليس له قدم، بل يكون ما بين الركبة والكعبين، يلبسه المسافرون المشاة، ومن في معناهم ممن يكثر التردد لأن فيه تقوية للعصب. وأما قبيعة السيف فالبقاف والباء الوحدة وهو ما على طرف مقبضه من فضة أو حديد. وأما التعاويذ فجمع تعويذ بالتاء بنقطتين من فوق والعين المهملة والذال المعجمة وهي الحروز التي تعلق على الصبيان وغيرهم للاستعاذة بالله من كل ما يؤذي، والشاعر المعروف بالتعاويذي منسوب لذلك. وأما المهنة فهي الخدمة، وهي بفتح الميم، وقد تقدم الكلام عليها في التيمم. قوله: وكل حلي حرمناه على الرجال حرمناه علي الخنثى على المذهب، وعليه زكاته على المذهب كغيره من المحرمات، وقيل: في وجوبها القولان في الحلى المباح لأنا إنما حرمناه [للاحتياط] (¬1)، وأشار في "التتمة" إلى الجواز لأنه كان جائزًا له في الصغر. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة"، وهو يشعر بالجواز فيما أبحناه للرجال كتحلية آلات الحرب، مع أنه حرام أيضًا كما نص عليه أبو الفتوح وغيره احتياطًا أيضًا. وقد جزم في "شرح المهذب" بالتسوية بين الأمرين. قوله: وفي تحلية السرج واللجام والنقر وجهان: أصحهما: المنع. . . . إلى آخره. تابعه في "الروضة" على إطلاق الخلاف، ومحله في المقاتل، أما ¬

_ (¬1) في جـ: بالإحتياط.

غيره فلا يجوز له ذلك بلا خلاف، كذا قاله في "البحر"، وعبر بقوله: حرام بلا إشكال. ويستثنى أيضًا البغلة والحمار فلا يجوز ذلك فيهما أيضًا بلا خلاف كما قاله في "الذخائر" لأنهما لا يصلحان للحرب. قوله: ويحرم على النساء تحلية آلات الحرب لأن في استعمالهن لها تشبيهًا بالرجال، هكذا ذكره الجمهور، واعترض عليه صاحب ["العدة"] (¬1) بأن كونه من ملابس الرجال لا يقتضي التحريم، وإنما يقتضي الكراهة، ألا ترى أنه قال في "الأم": ولا أكره لبس اللؤلؤ إلا للأدب ولأنه من زى النساء لا للتحريم، فلم يحرم زى النساء على الرجال، وإنما كرهه فكذلك حكم العكس. انتهى. اعترض النووي على هذا فقال: الصواب أنه تشبه الرجال بالنساء وعكسه حرام للحديث الصحيح: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" (¬2) وقد صرح الرافعي بتحريمه بعد هذا بأسطر، وأما نصه في "الأم" فليس مخالفًا لهذا لأن مراده أنه من جنس زي [الرجال] (¬3) انتهى كلامه. فأما تصويب التحريم فواضح، وأما دعواه أن الرافعي صرح بتحريمه بعد هذا بأسطر، فأشار به إلى الكلام الآتي في التاج، فإن الرافعي ذكر فيه أن التشبه حرام كما ستعرفه، لكن الرافعي نقله أيضًا هناك عن الأصحاب كما نقله هنا عنهم، فالاعتراض الذي أورده عليهم [هناك وارد عليهم] (¬4) هنا، وإنما لم يذكره ثانيًا لقرب ذكره له، وحينئذ فلا اختلاف ¬

_ (¬1) في جـ: المعتمر. (¬2) أخرجه البخاري (5546) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) في أ: النساء. (¬4) سقط من جـ.

في كلامه. قوله: وأما التاج فقد ذكروا أنه جرت عادة النساء بلبسه كان مباحًا، وإلا فهو مما يلبسه عظماء الفرس فيحرم، وكأن هذا إشارة إلى اختلاف الحكم بحسب اختلاف النواحي، فحيث جرت عادة النساء بلبسه جاز لبسه، وحيث لم تجر لا يجوز تحرزًا عن التشبه بالرجال. انتهى. تابعه النووي عليه في "الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" هنا فقال ما نصه: وأما التاج فقال صاحب "الحاوي" والأصحاب: حيث جرت عادة النساء بلبسه جاز لبسه، وإلا فحرام؛ لأنه لباس عظماء الفرس. قال الرافعي: وكان معنى هذا أن يختلف بعادة أهل النواحي، فحيث جرت عادة النساء بلبسه جاز وإلا فلا يجوز تحرزًا عن التشبيه. انتهى كلام النووي. ثم خالف ذلك في الشرح المذكور أيضًا فقال في باب ما يجوز لبسه: الصواب في التاج الجواز مطلقًا من غير ترديد لعموم الحديث، ولدخوله في اسم الحلى، هذا كلامه. قوله في "أصل الروضة": وفي الدراهم والدنانير التي تثقب وتجعل في القلادة وجهان: أصحهما: التحريم. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله من التحريم غلط، بل يجوز للنساء لبس ذلك، ولا تحريم فيه بلا خلاف، بل ولا كراهة فيه أيضًا فاعلمه. ولنوضحه فنقول وبالله التوفيق: هذه المسألة قد صرح الروياني في "البحر" هنا بها، وجزم بأنه لا يحرم لبس ذلك، وبأنه لا يكره أيضًا فقال ما نصه: فرع: الدنانير بالعري إذا طرحنها في القلادة فلبسنها لا يكره. هذا

لفظه، ثم فرع على ذلك بعده بدون ورقتين فرعًا حسنًا. حكى فيه وجهين، وهي أنها هل تلتحق بسبب ذلك بالحلي المباح المسقط للزكاة، لكونه قد أعد للزينة أو لا تلتحق به لأن صورة النقدية باقية فقال ما نصه: فرع: الدراهم والدنانير المثقوبة التي يجعلها في القلادة هل هي من جملة الحلي المباح الذي لا زكاة فيه في أحد القولين اختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: هي من جملته، ومنهم من قال: لا تكون من جملته لأنها لم تخرج بالصنعة عن النقدية وهذا أشبه انتهى كلام الروياني وهو واضح حسن. ثم إن الرافعي نقل عنه هذه المسألة نقلًا يوهم التحريم من جهة العبارة، ومن جهة السياق فقال: فيما يحل للمرأة وما يحرم ما نصه: وفي الدراهم والدنانير التي تثقب وتجعل في القلادة وجهان حكاهما القاضي الروياني: أظهرهما: المنع لأنها لم تخرج بالصوغ عن النقدية. هذا لفظه. فأراد بالمنع منع التحاقها بالحلي المباح المسقط للزكاة ويدل عليه التعليل المذكور لأن هيئة النقدية مناسبة لإيجاب الزكاة لا للتحريم، فتوهم النووي أن المراد بالمنع منع اللبس، فصرح به فقال: أصحهما: التحريم، وهو غلط صريح، ولعمري إنه لمعذور، فإن الواقف على كلام الرافعي ممن لا اطلاع له على أصوله لا يفهم منه غير ذلك، غير أنه كيف استقام له هذا الحكم مع التعليل المذكور، وقد تنبه في "شرح المهذب" إلى الصواب في هذه المسألة فقال في باب ما يجوز لبسه: صحح الرافعي أن ذلك لا يجوز، وليس الأمر كما قال، بل الأصح جوازه. هذا كلامه. فأما ما قاله من الجواز فهو الصواب غير أنه ليس كما زعمه من ثبوت الخلاف.

وأما إعزاءه التحريم إلى الرافعي فغلط حصل من فهمه، وقد عزاه إليه أيضًا في هذا الباب من "شرح المهذب" أيضًا، ولم ينقله عن غيره لأنه لم يظفر لأحد بذلك، غير أنه سكت عليه، ولم يستدركه في هذا الباب كما استدركه قبل ذلك [لعدم] (¬1) إمعانه في المسألة. والحاصل أنه علم الصواب في المسألة من حيث الجملة، وهو يدل على علو قدره، وإن كان لم يدر من الذي وقع في الخطأ، ولا سبب وقوعه. قوله: وكل حلى أبيح للنساء فذلك إذا لم يكن فيه سرف، فإن كان فوجهان، الذي ذكره معظم العراقيين هو المنع. . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح منهما هو التحريم، كذا صححه في "المحرر"، والنووي في "أصل الروضة" وغيرها من كتبه. الثاني: أن الرافعي في "المحرر" قيد التحريم بالمبالغة في السرف، ولم يكتف بالسرف، وتبعه عليه النووي في "المنهاج". قوله: ولو اتخذ الرجل خواتم كثيرة أو المرأة خلاخل كثيرة لتلبس الواحد منها بعد الواحد جاز وقيل: فيه وجهان. انتهى. وتعبيره يشعر بأنه لا يجوز لبس الجميع جملة. قال المحب الطبري في "شرح التنبيه": والمتجه أنه لا يجوز للرجل لبس الخاتمين سواء كانا في يدين أم في يد واحدة، لأن الرخصة لم ترد بذلك، قال: ولم أقف [فيه] (¬2) على نقل. قلت: وقد صرح الدارمي في "الاستذكار" بما توقف فيه، وزاد فقال: يكره للرجل لبس فوق خاتمين فضة. ¬

_ (¬1) في جـ: من عدم. (¬2) سقط من جـ.

وصرح به أيضًا الخوارزمي في باب الآنية من "الكافي"، فقال: يجوز له أن يلبس زوجًا في يد وفردًا في الأخرى، فإن لبس في هذه زوج، وفي الأخرى زوج فقال الصيدلاني في "الفتاوى": لا يجوز. فعلى قياسه لو تختم في غير الخنصر ففي جوازه وجهان. انتهى ملخصًا. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن علىّ كرم الله وجهه قال: نهاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أجعل خاتمن في هذه أو التي تليها، ثم أشار إلى الوسطى والتي تليها. وفي رواية أبي داوود (¬2) بإسناد صحيح: "في هذه أو هذه السبابة والوسطى". قال: شك فيه الراوي. ولا إشكال في أن المرأة يجوز لها أن تتختم في غير الخنصر، وقد صرح به الرافعي في الوديعة. قوله: وفي تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلها فيها وجهان مرويان في "الحاوي" وغيره: أحدهما: الجواز تعظيمًا كما في المصحف، وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج. وأظهرهما: المنع إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف، وحكم الزكاة ينبني على الوجهين. نعم لو جعل المتخذ وقفًا فلا زكاة فيه بحال. هذا لفظه بحروفه. وهو كلام عجيب باطل متهافت يدفع بعضه بعضًا، فإنه صحح ¬

_ (¬1) حديث (2095). (¬2) حديث (4225) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله-.

[التحريم] (¬1) في أول الكلام، ثم جزم في آخره بصحة الوقف تفريعًا عليه أيضًا أي على التحريم، وقد اتفقوا على أن الوقف على الأشياء المحرمة لا يصح، بل اختلفوا في اشتراط القربة. وقد ذكر النووي في هذه المسألة في "الروضة" كما ذكرها الرافعي، وكذلك في "شرح المهذب"، وزاد فيه أن هذا الوقف صحيح سواء فعله ثم وقفه، أو وقف وقفًا ليتخذ منه. ثم بعد تقريره استشكل صحته بنحو ما قلناه. وأعظم من ذلك إشكالًا على النووي أنه صحح في كتاب الوقف من "زيادات الروضة" أن الوقف على تزويق المسجد ونقشه لا يصح وعلله بكونه منهيًا عنه. فانظر كيف أبطل الوقف عليه مع كراهته، وعلله بالنهي، وجزم بصحة الوقف في مسألتنا مع القول بالتحريم وبالجملة فالصواب بطلان الوقف في المسألة المذكورة في هذا الباب للمعنى الذي قلناه أولًا. ¬

_ (¬1) في جـ: التجويز.

زكاة التجارة

قال -رحمه الله-: النوع الرابع: زكاة التجارة قوله: واعتمد الشافعي فيه ما روى عمرو بن حماس أن أباه حماسًا قال: مررت على عمر بن الخطاب وعلى عنقي أدمة أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتك يا حماس فقلت: ما لي غير هذا وأهب في القرص. قال: ذلك مال فضعها. فوضعها بين يديه فحسبتها فوجدت قد وجب فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة. انتهى. حماس بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم، وفي آخره سين مهملة أيضًا، وقد ضبطه بذلك في "شرح المهذب". وأما الأدمة فاعلم أن الأديم يجمع على أدم بفتح الهمزة والدال، [وعلى أدمة بألف بعد الهمزة كرغيف وأرغفة. وأما الأديم بفتح الهمزة والدال] (¬1) وبالياء فهو باطن الجلد الذي يلي اللحم والبشرة ظاهرها. كذا قاله الجوهري. وحينئذ فيتعين على ما نقله أن تكون اللفظة المذكورة في هذا الحديث إنما هي جمع الأديم، [فإن] (¬2) المفتوحة لا تظهر صحتها هنا. وأما الإهاب: فهو الجلد قبل الدباغ، وجمعه أهب بفتح الهمزة وفتح الهاء على غير قياس كأديم وأدم وعمود وعمد، وقد قالوا أيضًا: أهب بالضم. قاله الجوهري. ومقتضى كلامه أن الأول هو المعروف. قوله: ولو باعها في أثناء الحول بالنقد وهو ناقص عن النصاب ثم اشترى به سلعة فتم الحول وهي تبلغ نصابًا ففيه وجهان لتحقق النقصان ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في جـ: لأن.

حسًا. قال الإمام: ورأيت المتأخرين يميلون إلى انقطاع الحول. انتهى. لم يذكر ترجيحًا في "الشرح [الصغير] (¬1) " البتة، وذكر في "المحرر" و"الروضة" كما ذكر في "الكبير" إلا أنه لم ينقله في "المحرر" عن الإمام، وقد أطلق في "المنهاج" تصحيح الانقطاع، واختاره في "الحاوي الصغير". قوله: وينبني حول التجارة على حول التقديم قال بعد ذلك: وهذا فيما إذا كان قد اشترى بعين النصاب. أما إذا اشترى بنصاب من أحد النقدين، وله مائتا درهم أو عشرون دينارًا افتقدها في ثمنه ينقطع حول النقد، ويبتدئ حول التجارة من يوم الشراء. هذا لفظ صاحب "التهذيب" وعلله بأن هذه الدراهم والدنانير لم تتعين للصرف فيه. انتهى كلامه. والذي نقله عن "التهذيب" قد وافقه عليه صاحب "التتمة"، وسبقهما إليه شيخهما القاضي حسين، وجزم به في "الروضة" من غير إعزائه إلى أحد، وصرح في "شرح المهذب" أنه لا خلاف فيه. وإنما ذكرت ذلك لأن في اشتراطه نظر ظاهر، ولهذا لم يعتبره صاحب "الحاوي الصغير"، فإنه لم يشترطه. قوله: ربح مال التجارة إذا حصل من غير نضوض المال يضم إلى الأصل في الحول كالنتاج. قال الإمام: حكى الأئمة القطع به لكن من يعتبر النصاب في جميع الحول قد يمنع ذلك. ومقتضاه أن يقول: إن ظهور الربح في أثنائه كنضوضه، وفيه خلاف يأتى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قال الإمام: وهذا لابد منه، وهو يقتضي إعلام الكتاب بالواو. انتهى. وهذا البحث الذي ذكره الإمام، وارتضاه الرافعي والنووي ضعيف، فإنه موجود بعينه في النتاج. قوله: فأما إذا باع ونض بعد تمام الحول فقد قال الشيخ أبو علي: إن ظهرت الزيادة قبل تمام الحول فلا خلاف في أنه يزكي [إن قلنا] (¬1) بحول الأصل. وإن ظهرت بعد تمامه فوجهان: أحدهما: هكذا. وأظهرهما: أنه يستأنف للربح حولًا. انتهى كلامه. والذي صححه الشيخ أبو علي هو الصحيح، كذا صححه النووي في "أصل الروضة" و"شرح المهذب". قوله: ثم نوضح الفصل بفرعين [آخرهما] (¬2) من مولدات ابن الحداد وهو ما لو ملك الرجل عشرين دينارًا فاشترى بها عرضًا للتجارة، ثم باعه بعد ستة أشهر من ابتداء الحول بأربعين دينارًا واشترى بها سلعة أخرى، ثم باعها بعد تمام الحول بمائة كيف يزكي؟ أما إذا قلنا: إن الربح من الناض لا يفرد بحول فعليه زكاة جميع المائة؛ وأما إذا قلنا: يفرد فعليه زكاة خمسين دينارًا لأنه [لو] (¬3) اشترى السلعة الثانية بأربعين، عشرون منها. . . . إلى آخر كلامه. ثم قال في آخر هذا التفريع ما نصه: هذا جواب ابن الحداد تفريعًا على أن الربح لا يفرد بحول، وحكى الشيخ أبو علىّ فيه وجهين ضعيفين، والذي قاله من كونه تفريعًا على أن الربح لا يفرد غلط. ¬

_ (¬1) في أ: الكل. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من جـ.

وإنما هو تفريع على إفراده كما صرح به هو في أول هذا الكلام الذي نقلته عنه، وقد وقع هذا الغلط أيضًا في "الروضة" و"شرح المهذب" وكأنه نقل المسألة من كلام الرافعي بلفظه. ووقفت على بعض نسخ الرافعي فرأيته قد أزيلت منه لفظة "لا". قوله: ونتاج الحيوان وثمار الأشجار مال تجارة في الأصح ثم قال. وفي حولها وجهان: أحدهما: أنهما على القولين في ربح الناض لأنها زيادة مستقرة. وأصحهما: أن حولهما حول الأصل كالزيادات المتصلة، وكالنتاج في الزكوات العينية. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن مراده بقوله: ربح الناض هو الربح إذا نض، وقد ذكره الإمام كذلك، والتعبير المذكور لا يعطي هذا المعنى وهو عجمة فإنهم ينكرون المعرف كثيرًا. وقد عبر في "الروضة" بتعبير الرافعي، ولا شك أنه ذهل عنه أو توهم أن له معنى صحيحًا. الثاني: أن حكم الصوف والوبر والورق والأغصان ونحوها كحكم هذين بلا شك، وتعليله بالاتصال يشعر به. وقد وقع في كلام الرافعي هنا صيغة عتيد، ومعناها حاضر قال تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}. قوله: وإن كان رأس المال دون النصاب فوجهان: أصحهما: أنه يقوم برأس المال. ثم قال: وموضع الوجهين فيما إذا لم يملك من جنس النقد الذي ملك

به ما يتم به، فإن ملك كما إذا اشترى بمائة درهم عرضًا للتجارة وهو يملك مائة أخرى فلا خلاف في أن التقويم بجنس ما ملك به لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول، وابتداء الحول من يوم ملك الدرهم. انتهى. تابعه في "الروضة" على [دعوى] (¬1) عدم الخلاف وليس كذلك، فقد حكى القاضي حسين في "تعليقه" أن القفال تردد كلامه [فيه] (¬2) فقال مرة: إن ذلك ينبني على الخلاف السابق، فإن قلنا: ثم يقوم برأس المال فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. وقال في المرة الثانية بالمذكور هنا، أعني ما في الرافعي، وقد نقل في "الكفاية" أيضًا هذا التردد عنه. واعلم أن الرافعي حكى عن صاحب "التقريب" قولًا أن التقويم أبدًا يكون بغالب نقد البلد سواء كان رأس المال نقدًا أم لا؛ وهذا القول لابد من جريانه هنا. قوله: فإن اشتراه بعرض قوم بالنقد الغالب فإن غلب نقدان فتساويا في الرواج نظر إن بلغ بأحدهما نصابًا قوم به، وإن بلغ بهما ففيه أربعة أوجه. أحدها -وهو الأصح عند الروياني والعراقيين: أن المالك يتخير ويعتضد بتخير معطي الجبران. والثاني: يراعي الأغبط. وإيراد الإمام وصاحب "التهذيب" يقتضي ترجيحه ويعتضد بوجوب الأغبط عند اجتماع الحقاق وبنات اللبون. والثالث: بتعيين الدراهم لأنها أرفق. والرابع: يعتبر بالنقد الغالب في أقرب البلاد كما لو لم يكن فيه نقد. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

انتهى ملخصًا. فيه [أمران] (¬1): [أحدهما] (¬2): أن كلامه يشعر بأن الأكثرين على الأول، ورجح في "المحرر" الثاني فقال: الأولى اعتبار الأغبط. وقال في "الشرح الصغير": الأرجح أحدهما يعني الأول أو الثاني، ولم يزد على ذلك. وصرح النووي في "الروضة" بتصحيح ما أشعر به كلام الشرح فقال: الأصح التخيير. وصرح في "المنهاج" بما يقتضيه كلام "المحرر" فوقع في صريح التناقض، وكلامه في "شرح المهذب" يشعر برجحان التخيير كما في "الروضة"، وإذا استحضرت كلام أصل هذه الكتب ومبسوطها وهو "الشرح الكبير" علمت أن الأكثرين على التخيير فلتكن الفتوى عليه. الثاني: أن ما ذكره الرافعي في تعليل الوجه الرابع مسألة مهمة، وقد أسقطها النووي من "الروضة" ظنًا منه أنه مجرد تعليل. قوله: وإذا أوجبنا زكاة التجارة في الماشية المشتراة للتجارة لنقصانها عن النصاب فبلغت في أثناء الحول نصابًا بالنتاج، ولم تبلغ بالقيمة نصابًا في آخر الحول فوجهان: أحدهما: لا زكاة؛ لأن الحول انعقد للتجارة، ولا يتغير. والثاني: ينتقل إلى زكاة العين. انتهى. والأصح عدم وجوب الزكاة. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". ¬

_ (¬1) في أ: أمور. (¬2) في أ: أحدها.

قوله في "أصل الروضة": وأما إذا كمل نصاب الزكاتين، وهما زكاة العين والتجارة، واختلف الحولان بأن اشترى بمتاع التجارة بعد ستة أشهر نصاب سائمة أو اشترى به معلوفة للتجارة ثم أسأمها بعد ستة أشهر فطريقان: [أصحهما] (¬1): أنه على القولين في تقديم زكاة العين أو التجارة. والثاني: [أن القولين] (¬2) مخصوصان بما إذا اتفق الحولان بأن يشتري بعرض القنية نصاب سائمة للتجارة. ثم قال ما نصه: فعلى هذا فيه طريقان: أصحهما -وبه قطع المعظم: أن المتقدم يمنع المتأخر قولًا واحدًا، فعليه زكاة التجارة في [الصور] (¬3) المذكورة. والطريق الثاني على وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: أن المتقدم يرفع حكم المتأخر ويتجرد انتهى كلامه. وهذا التعبير الذي ذكره في حكاية الطريقين غلط، فإن معناهما واحد، وكلام الرافعي على الصواب فإنه قال: أحدهما: أن المتأخر يرفع المتقدم ويتجرد قولًا واحدًا. والثاني: أن المتقدم يمنع المتأخر. هذا لفظه. وهو تعبير صحيح، فعدل في "الروضة" إلى تعبير فاسد. قوله: ولو اشترى حديقة أو نخلًا للتجارة فأثمرت، أو أرضًا مزروعة للتجارة فأدرك الزرع وبلغ الحاصل نصابًا فيجئ فيه القولان في أن المغلب ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ: القولان. (¬3) في جـ: الصورة.

زكاة العين أو زكاة التجارة. فإن غلبنا زكاة العين أخرج العشر أو نصفه من الثمار والزروع. وهل تسقط به زكاة التجارة عن قيمة جذع النخيل وتبن الزرع؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا. ثم قال: وفي الإيجاب في أرض الحديقة وأرض الزرع طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في الجذع [والتبن] (¬1). والثاني: القطع بالوجوب. والفرق بُعد الأرض عن التبعية. قال الإمام: وينبغي أن يعتبر ذلك بدخولها في المساقاة فيما لا يدخل من الأرض المتخللة ويجب فيه الزكاة قطعًا، وما يدخل فهو على الخلاف. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصحح هو ولا النووي شيئًا من الطريقين، والأصح هو طريقة القطع، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر. الأمر الثاني: أن هذا الذي نقله عن الإمام بحثًا قد جزم به الماوردي في "الحاوي" ونقله عنه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب". قوله في المسألة المذكورة: فإن أوجبنا زكاة التجارة في هذه الأشياء أي في الأرض والجذع والتبن فلم تبلغ قيمتها نصابًا فهل تضم إليها الثمرة والحب ليكتمل النصاب؟ ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

نقلوا فيه وجهين. انتهى. والأصح منهما عدم الضم. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وإذا دفع الرجل إلى غيره نقدًا قراضًا وحال الحول، وفيه ربح فلا يخلوا إما أن لا يكون واحد منهما من أهل وجوب الزكاة كالذمي والمكاتب أو يكونا جميعًا من أهله، أو يكون أحدهما فقط. أما الحالة الأولى فلا يخفي حكمها. وأما الحالة الثانية فإن قلنا: العامل يملك الربح بالظهور ففي وجوب الزكاة عليه في نصيبه طرق: أحدها ويحكي عن صاحب التقريب: أنه على القولين في المغصوب ونظائره؛ لأنه لا يتمكن من التصرف على حسب مشيئته. والثاني: القطع بالوجوب لأنه يتمكن من التوصل إليه متى شاء بالاستقسام فأشبه الدين الحال على ملى. والثالث: ويحكي عن القفال: القطع بالمنع لأن ملكه غير مستقر. والظاهر الوجوب سواء ثبت الخلاف أم لا. انتهى. وما حكاه عن صاحب "التقريب" من تخريج نصيب العامل على المغصوب ونحوه ليس الأمر فيه كما ذكره، بل جزم بالوجوب عليه تفريعًا على هذا القول، وإنما تردد فيه أي في العامل حيث كان المالك ممن لا تلزمه الزكاة ترددًا من غير ترجيح، ثم إنه في صورة خاصة، وهي ما إذا تلف نصيب العامل فقال في باب زكاة [مال] (¬1) القراض: والقول الثاني: أن الربح إذا ظهر في المال كان بين العامل وبين رب المال على ما تشارطا عليه، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والزكاة عليهما إن كانا معًا في صفة من تجب عليه الزكاة، ثم تكلم فيما إذا كان العامل مسلمًا، ورب المال كافرًا فقال ما نصه: ليس للعامل، ولا عليه أن يؤدي زكاة حصته حتى يتفاضلا. فإذا تفاضلا أدى العامل زكاة ما مضى، كما يؤدي زكاة المال الغائب، وليس كالعامل المسلم ثم قال: فإن قيل: فإذا لم يجعل الشافعي على العامل إذا كان مسلمًا، ورب المال نصرانيًا أن يؤدي زكاة حصته حتى يسلم له ربحه. أفرأيتم إن تلف المال أتقولون أنه لا زكاة عليه كما يقولون في المال الغائب. قيل: قد يجوز أن يقول ذلك لأنه كان ممنوعًا من الزكاة من أجل رب المال، وقد قاله بعض أصحابنا، وهو ظاهر قول الشافعي. ومن أصحابنا من فرق بينه وبين المغصوب، بأن المغصوب ممنوع من ماله، والعامل المسلم قد يقدر على مفاصلة صاحبة، وهذا محتمل. هذا كلامه. وهو كما قد ذكرته لك [مباين] (¬1) لما حكاه الرافعي وإنما ذكرت عبارته مع طولها ليقف عليها من أحب، فإن الكتاب المذكور عزيز الوجود. قوله: الحالة الثالثة: أن يكون أحدهما من أهل الوجوب، فإن كان هو العامل، وقلنا: يملك الحصة بالظهور ففي الزكاة عليه الخلاف الذي سبق في الحالة الأولى. انتهى كلامه. وما ذكره من الإحالة على الخلاف في الحالة الأولى سهو، والصواب أن يقول: ففي الزكاة عليه الخلاف الذي سبق في الحالة الثانية، فإن الخلاف سبق فيها لا في الأولى، كما ذكرته ملخصًا قبيل هذه المسألة فراجعه. ¬

_ (¬1) في أ: قياس.

زكاة المعدن والركاز

قال -رحمه الله-: النوع الخامس: زكاة المعدن والركاز قوله: وقد روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية. انتهى. هو بالقاف والباء الموحدة المفتوحتين وكسر اللام بعدها، وهو موضع من ناحية القرع. والقرع بضم [القاف] (¬1) وإسكان الراء والعين المهملة قرية ذات نخل وزرع ومياه بين مكة والمدينة على نحو أربع مراحل من المدينة، قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات". قوله في "الروضة": وفي زكاة المعدن ثلاثة أقوال: أظهرها: ربع العشر. والثاني: الخمس. والثالث: إن ناله بلا تعب ومؤنة فالخمس وإلا فربع العشر. ثم قال: ثم الذي اعتمد الأكثرون [عليه] (¬2) على هذا القول في ضبط الفرق هو الحاجة إلى الطحن والمعالجة بالنار والاستغناء عنها، فما احتاج فربع العشر، وما استغنى عنها فالخمس انتهى كلامه. ولم يبين الوجه [المقابل] (¬3) لما عليه الأكثرون، وهو غير معروف من هذا الكلام أيضًا. وقد نبه الرافعي فقال: وحكى الإمام مع هذه طريقة أخرى وهي عد الاحتفار من جملة العمل المعتبر، والنظر إلى نسبة النيل إلى العمل أي ¬

_ (¬1) في أ: الفاء. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: القائل.

عمل كان من الحفر والطحن وغيرهما. وإن لم يعد كثيرًا بالإضافة إلى العمل ومقتصدًا ففيه ربع العشر وإن عد كثيرًا ففيه الخمس. وأوضحها بالتصوير فقال: لو استفاد إلى قريب من آخر النهار دينارًا وبعمل قليل في بقية النهار دينارًا ففي الأول ربع العشر، وفي الثاني الخمس. قوله: فإن أوجبنا ربع العشر فلابد من النصاب وفي الحول قولان: أصحهما: لا يشترط. والثاني: نعم. وهذا القول ينقل عن "مختصر البويطي" إيماءً ورواه المزني في "المختصر" عن من يثق به عن الشافعي واختاره، وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك فلم يحب تسميتها. انتهى. وهذا الذي نقله عن هذا الشارح ولم يسمه لعدم شهرته قد صرح به القاضي الحسين في "تعليقته"، والروياني في "البحر". قوله في [المسألة] (¬1) في آخر الكلام على رقم ألفاظ "الوجيز": إن ابن عبدان حكى طريقة أخرى قاطعة بعدم الاعتبار، ولم يثبت ما رواه المزني لإرساله. وحاصله أن في اشتراطه طريقين: أصحهما: طريقة القولين، وقد صرح بتصحيحها أيضًا في "الشرح الصغير"، وصحح النووي في أصل "الروضة" طريقة القطع على عكس ما قاله الرافعي فقال: والمذهب المنصوص عليه في معظم كتب الشافعي أنه لا يشترط الحول. وقيل: في اشتراطه قولان. قوله: وإذا شرطنا النصاب فلا فرق بين أن يناله في دفعة أو دفعات. ¬

_ (¬1) في أ: التكملة.

قال في "التهذيب": ولا يشترط بقاء المستخرج في ملكه. انتهى. وهذا المنقول عن "التهذيب" ذكر مثله الماوردي وغيره. قوله: نعم لو تواصل العمل وانقطع النيل فطال زمن الانقطاع فقولان: الجديد: الضم أيضًا. وإن قطع العمل بغير عذر فلا ضم، وإن كان بعذر ضم. وقيل: لا إن طال الزمان. ثم قال ما نصه: ومتى حكمنا بعدم الضم فمعناه أن الأول لا يضم إلى الثاني، فأما الثاني فيكمل بالأول قطعًا كما يكمل بما يملكه من غير المعدن. انتهى. [واللفظ] (¬1) "للروضة" وما ادعاه من عدم الخلاف في آخر كلامه ليس كذلك، [ففي] (¬2) "الكفاية" عن "البحر" وجه أن الثاني لا يكمل بالأول كما في العكس، وسيأتي في كلام الرافعي نحو ذلك في أمثلة وصور. ¬

_ (¬1) في جـ: واللفظة. (¬2) في جـ: وفي.

الفصل الثاني في [الركاز] (¬1) قوله في "الروضة": ويصرف أي الركاز مصرف الزكوات على المذهب، وحكى قول، وقيل: وجه أنه يصرف مصرف خمس الخمس. اعلم أنه إنما عبر بالمذهب لأمرين: أحدهما: للاختلاف في مقابلة الصحيح، هل هو قول أو وجه؟ وهذا هو المذكور في الشرحين. والثاني: لأجل إثبات الخلاف ونفيه، فإن في المسألة طريقين حكاهما في "شرح المهذب": إحداهما -ونقلها عن الجمهور: القطع بالأول. والثانية: أن فيها قولين، وبها جزم في "المنهاج" إلا أنه جعل مقابله ضعيفًا، فإنه عبر بالمشهور. قوله فيها أيضًا: والمذهب اشتراط النصاب [وكون] (¬2) الموجود ذهبًا أو فضة. وقيل: في اشتراط ذلك قولان: الجديد: الاشتراط. انتهى. وهذا الذي ذكره من تصحيح طريقة القطع سهو علي العكس مما قاله الرافعي، فإن المذكور فيه إنما هو تصحيح طريقة القولين فقال: واختلف الأصحاب علي طريقين: أظهرهما: أن المسألتين على قولين، ثم قال: والطريق الثاني: القطع بالاشتراط. هذا كلامه وذكر مثله أيضًا في ¬

_ (¬1) في جـ: الزكاة. (¬2) في أ: بكون.

"الشرح الصغير"، وقد سرى هذا الغلط من "الروضة" إلى "شرح المهذب". قوله: لو كان الموجود على ضرب الإسلام ولم يعلم مالكه كان لقطة. وقال الشيخ أبو علي: يكون مالًا ضائعًا يحفظ دائمًا. قال الإمام: لو انكشفت الأرض عن كنز بسيل فاللائق بقياس قول الشيخ أن لا يثبت فيه حق التملك اعتبارًا بأصل الوضع. انتهى. وحاصله أن قياس قول الشيخ أبي علي أنه يحفظ دائمًا لأن المالك وضعه، وهو يشعر بأن قياس الجمهور أنه لقطة، وقد صرح الماوردي في "الحاوي" بأنه ركاز، وفرع عليه فقال: ولو شك في أنه أظهره السيل أو كان ظاهرًا فهل يكون لقطة أو ركازًا؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا وقع شك في المدفون، هل هو من دفين الإسلام أو الجاهلية؟ قوله: في الحديث إن وجدته في قرية [مسكونة] (¬1) أو طريق ميتاء فعرفه. . . . إلى آخره. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": طريق ميتاء بكسر الميم وبعدها همزة وبالمد، وتسهل فتقال: ميتاء بتاء ساكنة كما في نظائره. قال صاحب "المطالع": معناه كثير السلوك عليه مفعال من الإتيان. قوله: وإن وجد في شارع ففي ["الوجيز"] (¬2) أنه ركاز ولم يجزم به الإمام هكذا، وإنما أشار إلى خلاف فيه، والذي ذكره القفال والعراقيون أنه لقطة. انتهى. وحاصله إنكار التصريح بكونه ركازًا فضلًا عن الجزم به، وليس كذلك، فقد جزم الماوردي في "الحاوي" أيضًا بما جزم به الغزالي. ¬

_ (¬1) في جـ: مسلوكة. (¬2) في جـ: الشرحين.

قوله: وما يوجد في المسجد ذكر في "التهذيب" أنه لقطة، وقياس المذكور في "الوجيز" أن يكون أيضًا ركازًا. انتهى. وحاصله أن المنقول إنما هو جعله لقطة، وليس فيه إلا بحث الرافعي في مجئ وجه، ولهذا جزم في "الشرح الصغير" بمقالة البغوي، ولم يذكر أيضًا [فيه] (¬1) النووي في "شرح المهذب" إلا البحث المذكور. وإذا علمت ذلك فقد اختصره في "الروضة" بقوله. والموجود في المسجد لقطة على المذهب، ويجئ فيه الوجه الذي في الطريق أنه ركاز. هذا لفظه. فصرح بإثبات الخلاف، وزاد فجعله طريقين. قوله: وإذا وجده في موضع مملوك لغيره لم يملكه الواحد بل إن ادعاه مالكه فهو له بلا يمين كالأمتعة في الدار، وإلا فهو لم تلقى صاحب الأرض الملك منه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى الذي أحيى الأرض فيكون له. انتهى. وتقييد ملك المالك بحالة الدعوى ذكره أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" والنووي في "الروضة" و"المنهاج" و"شرح المهذب"، ولم يشترط ابن الرفعة ذلك، بل شرط أن لا ينفيه وهو الصواب كسائر ما في يده. وحينئذ فيكون تعبيره بقوله بعده: وإلا منعناه، وإن لم يدعه بل نفاه، وإن كان ظاهر اللفظ عوده إلى الدعوى خاصة. قوله: ورأي الإمام تخريج ملك الركاز بالإحياء على ما لو دخلت ظبية دارًا فأغلق عليها المالك الباب لا على قصد ضبطها، وفيه وجهان: أصحهما: أنه لا يملكها، لكن يصير بها أولى. ثم فرع عليه فقال: إذا قلنا: إنه لا يملك الكنز فلا يبعد أن يقال: إذا زال ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ملكه عن رقبة الأرض بطل اختصاصه. انتهى ملخصًا. وما نقله في آخر كلامه بحثًا عن الإمام، وتابعه عليه في "الروضة" فيه وجهان صرح بنقلهما صاحب "الذخائر" فقال: إذا قلنا: لا يملك الركاز بالإحياء فباع الأرض فهل ينتقل هذا الحق إلى المشتري؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: . . . . إلى آخر ما ذكر. قوله في "الروضة": وإن وجد الكنز في بلاد الكفار في موضع مملوك لهم فينظر إن أخذ بقهر وقتال فهو غنيمة كأخذ متاعهم من بيوتهم وإلا [فئ هكذا] (¬1) قاله الإمام، ثم قال: وفي كونه فيئًا إشكال لأن من دخل بغير أمان وأخذ مالهم بلا قتال فإما أن يأخذه خفية فيكون سارقًا، وإما جهارًا فيكون مختلسًا، وهما خاص ملك السارق والمختلس ولهذا أطلق كثيرون أن الركاز المأخوذ غنيمة. انتهى كلامه. وما ذكره من كون المأخوذ على جهة الاختلاس والسرقة يختص به من أخذ خلاف الصحيح. فإن الأكثرين على أنه غنيمة مخمسة، كذا ذكره في الباب الثاني من كتاب السير في الطرف الرابع منه، وسوف أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. والمذكور هنا غير مطابق لكلام الرافعي، فإن الرافعي لما ذكر هذا الإشكال أسند حكمه إلى الغزالي فقط فحذفه النووي حالة الاختصار، وأبقاه في صورة المجزوم به ظنًا منه أن الحكم كما قاله الغزالي فلزم منه [المعارضة] (¬2). نعم ما قاله الإمام هنا من كونه فيئًا مردود بما قاله في "السير" فإنه حكى وجهين: ¬

_ (¬1) في أ: ففي هذا. (¬2) في جـ: المناقضة.

أحدهما: أنه مختص. قال: وهو المذهب المشهور. والثاني: أنه غنيمة مخمسة ثم ضعفه، كذا حكاه عنه الرافعي، ولم يذكر الفئ بالكلية. قوله: حكم الذمي في الركاز حكمه في المعدن، فإن وجده ملكه. قال الإمام: وفي الركاز احتمال عندي؛ لأنه كالحاصل في قبضة المسلمن. . . . إلى آخر ما قاله. وكلامه يشعر بأن المعادن ليس فيها نزاع أصلًا وبأنه ليس في الركاز إلا هذا الاحتمال، وليس كذلك، ففى المعادن والركاز وجه أن الذمي لا يملكها، حكاه الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" كلاهما في باب الركاز لا في باب المعدن فاعلمه. [قوله] (¬1) في "الروضة"، ويملك الركاز بإحياء الأرض ورأى الإمام تخريجه على وجهين ثم قال: التفريع إن قلنا: المحيى لا يملكه بالإحياء، فإذا دخل في ملكه أخرج الخمس، وإلا فإذا احتوت يده على الكنز. . . . إلى آخره. واعلم أن معنى قوله: (وإلا) أي وإن قلنا: [يملكه] (¬2) بالإحياء فاعلمه. قوله: ولو فرض النزاع بين المكري والمكتري أو بين المعير والمستعير بعد رجوع الدار إلى يد المالك، فإن قال: المعير أو المكري: أنا دفنته بعدما رجعت الدار إلى يدك فالقول قوله، وإن قال دفنته قبل خروج الدار عن يدي ففيه وجهان للشيخ أبي محمد: أظهرهما عند الإمام: أن القول قول المكتري والمستعير؛ لأن المالك قد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: يملك.

سلم له اليد، وحصول الكنز في يده ويده تنسخ اليد السالفة. انتهى. والصحيح ما رجحه الإمام فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين، والنووي في "شرح المهذب" وأصل "الروضة": إنه الأصح. يتلوه في الرابع باب زكاة الفطر.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء الرَّابع مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بسم الله الرحمن الرّحيم

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (4)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

زكاة الفطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر قال -رحمه الله-: النوع السادس: زكاة الفطر. قوله: وفي وقت وجوبها ثلاثة أقوال: أصحها -وهو الجديد-: أن وقته وقت غروب الشمس ليلة العيد. واحتجوا له بأنها مضافة إلى الفطر، وقد روي أن ابن عمر قال: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين" (¬1). وعن ابن عباس: "أنه -عليه الصلاة والسلام- فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين" (¬2). والثاني -وهو القديم-: أن وقته طلوع الفجر يوم العيد؛ لأنها قربة متعلقة بالعيد؛ فلا يتقدم وقتها على العيد كالأضحية. والثالث: أنها تجب بمجموع الوقتين. قال الصيدلاني: خرجه صاحب "التلخيص" واستنكره الأصحاب. انتهى. فيه أمور: أحدها: أنا هل نعتبر على الجديد إدراك الجزء الأخير من رمضان مع ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (626) والبخاري (1433) ومسلم (948). (¬2) أخرجه أبو داود (1609) وابن ماجة (1827) والحاكم (1488) والدارقطني (2/ 138) والبيهقي في "فضائل الأوقات" (147)، وقال الشيخ الألباني: حسن.

أول جزء من ليلة العيد، أو إدراك الجزء الأخير من رمضان فقط، أو الجزء الأول من ليلة العيد فقط؟ عبارة الرافعي -رحمه الله- محتملة للثلاث ويظهر أثرها فيما إذا قال لعبده: أنت حر مع أول جزء من ليلة العيد، أو مع آخر جزء من رمضان، أو قاله لزوجته، وتفريعه لا يخفى. إذا علمت ذلك فاعلم أن تعليل الرافعي يشير إلى اعتبار الاحتمال الثالث. وقد صرح به الإمام في "النهاية" فقال: المنصوص عليه في الجديد أن الفطرة تجب مع أول جزء من الليلة الأولى من شوال. انتهى. وذكر في "الوسيط" نحوه فقال: الجديد أنها تجب بأول جزء من ليلة العيد؛ وهو وقت [الغروب] (¬1) آخر يوم من رمضان، فإنه منسوب إلى الفطر. وذكر أيضًا في "البسيط" نحوه. ولكن المعروف إنما هو الاحتمال الأول وهو إدراك الوقتين كذا جزم به أبو علي الطبري في "الإفصاح"، والماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الرفعة في "الكفاية" [ونقلوه] (¬2) عن نص الشافعي، وجزم به أيضًا صاحب "التنبيه" حيث قال: وتجب صدقة الفطر إذا أدرك آخر جزء من رمضان وغربت الشمس في أصح القولين. قال النووي في "نكت التنبيه": هذان شرطان للوجوب؛ وهو أن يدرك جزءًا من شهر رمضان وجزءًا من أول شوال. انتهى. وذكر في "التتمة" مثله فقال: المذهب الصحيح أنه يتعلق بغروب الشمس آخر يوم من رمضان؛ فمن أدرك جزءًا من الزمان قبل الغروب ¬

_ (¬1) في أ: غروب. (¬2) سقط من أ.

وجزءًا بعد الغروب لزمته الفطرة. هذا لفظه. وقال ابن عبدان في "شرائط الأحكام": شرط وجوب زكاة الفطر أن يكون قد أدرك جزءًا من آخر شهر رمضان على القول الجديد، وما ذكره الرافعي من التعليل المشير إلى مراده لم يذكره في "الروضة" ووقع في التعبير عن القديم من الاختلاف قريب مما وقع في الجديد. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي في تعليل القديم من التعبير بالعيد أراد به يومه، إلا أن الأولى له أن يقلب هذا القياس فيقول: فوجب أن لا يتعلق بالفجر كالأضحية. الأمر الثالث: أن ما ذكره من أن هذا القول قد خرجه صاحب "التلخيص" ذكره النووي أيضًا في "الروضة" ولم يعزه إلى أحد، ونقله في "شرح المهذب" عن نقل أصحابنا وليس كذلك؛ فإن ابن القاص في "التلخيص" لم يذكر أنه مخرج، بل حكاه حكاية الأقوال المنصوصة فقال بعد ذكره للقول الجديد ما نصه: وفيه قول آخر: أنها لا تجب على من مات من ليلته إلا أن يدرك غروب الشمس ليلة الفطر وطلوع الفجر من يوم الفطر. هذا لفظه ومن "التلخيص" نقلت ذكر ذلك في الباب المعقود لأوقات وجوب الزكوات، لا في باب زكاة الفطر. ونقل أبو علي الطبري في "الإفصاح" عن أصحابنا أنهم اختلفوا في المراد من نصه في القديم؛ فمنهم من قال: [معناه أنه يعتبر غروب الشمس وطلوع الفجر، ومنهم من قال] (¬1): العتبر الفجر فقط، وحديث ابن عمر رواه الشيخان بهذا اللفظ، وحديث ابن عباس رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط البخاري. قوله في "الروضة": ولو زال الملك في العبد بعد الغروب وعاد قبل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفجر وجبت على الجديد والقديم. وأما على المخرج فوجهان كالوجهين في أن الواهب هل يرجع فيما زال ملك [المتهب عنه] (¬1) عنه ثم عاد إليه؟ . انتهى كلامه. والصحيح في الرافعي و"الروضة" أنه لا يرجع في مسألة الهبة، وهو ترجيح لكون الزائل العائد في هذه المسألة كالذي لم يعد. وقياس مسألتنا منه أن يكون الصحيح عدم وجوب الفطرة، لكنه في "شرح المهذب" لما حكى الوجهين صرح بأن الأصح هو الوجوب، والرافعي نقل الوجهين والتشبيه بالواهب عن الإمام. قوله: والأصل فيه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أدوا صدقة الفطر عن من تمونون" (¬2). والجهات التي يصير بها الشخص في نفقة الغير ثلاث: النكاح، والملك، والقرابة، وكلها تقتضي لزوم الفطرة في الجملة. انتهى. والحصر في الثلاث يرد عليه الاحتياج؛ فإنه يوجب الإنفاق على بيت المال وعلى من وجد من الموسرين إن تعذر، ولا فطرة في هذه الحالة. والحديث المذكور رواه البيهقي وقال: إسناده ليس بالقوي. قوله: وحيث أوجبنا نفقة زوجة الأب على الابن ففي وجوب فطرتها وجهان. . . . إلى آخر ما قال. لم يصرح بتصحيح هنا ولا في "الشرح الصغير"، والأصح: عدم الوجوب كذا صححه هو في "المحرر"، وقال في "المنهاج" و"زيادات ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الشافعي (413) والدارقطني (2/ 140) والبيهقي في "الكبرى" (7471). قال الشيخ الألباني: حسن.

الروضة": إنه الأصح، وفي "شرح المهذب": إنه المختار. واعلم أن الرافعي هنا قد قال: إن الصحيح وجوب إعفاف الأب على الابن؛ فعبر في الروضة عن الصحيح بالمذهب فاقتضى ذلك حكاية الرافعي لطريقتين وليس كذلك، بل الذي ذكره في موضعه عن النص: أنه يجب، وعن تخريج ابن سريج أنه لا يجب. قوله: وإذا وجبت نفقة الابن على أبيه فملك -أعني الابن- قوت ليلة العيد ويومه؛ فإن كان كبيرًا لم تجب فطرته على الأب لسقوط نفقته، وإن كان صغيرًا فقال الصيدلاني: لا تسقط؛ لأن نفقة الكبير لا تثبت في الذمة بحال ونفقة الصغير قد تثبت بالاستقراض. . . . إلى آخره. واعلم أن مقتضى هذا الكلام الجزم بأن نفقة القريب لا تستقر بفرض الحاكم -أعني بالفاء-، وهذه المسألة مسألة مهمة عظيمة، والمذكور هنا هو الصواب نقلًا ودليلًا على خلاف ما اقتضاه كلام الرافعي والنووي في النفقات، وسنقف عليه هناك مبسوطًا متقنًا إن شاء الله تعالى. قوله: الفطرة الواجبة على الغير قيل: تلاقي المؤدي عنه ثم يتحمل عنه المؤدي للحديث السابق، وقيل: تجب على المؤدي ابتداء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة إلا صدقة الفطر عنه" (¬1). قال الروياني وغيره: ظاهر المذهب هو الأول، ثم قال بعد ذلك: [ثم] (¬2) الأكثرون طردوا الخلاف في الزوج والسيد والقريب. قال الإمام: وذكر طوائف من المحققين أن هذا الخلاف في فطرة الزوجة، فأما فطرة القريب والمملوك فتجب على المؤدي ابتداء بلا خلاف؛ لأن المملوك لا يقدر على شيء والقريب المعسر نحوه. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1394) ومسلم (982) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أنه ينبغي استثناء الزوجة المعسرة وإلحاقها بالقريب والمملوك في مجيء الطريقين، بخلاف ما أطلقه هو وغيره للمعنى الذي ذكره. الثاني: أن الزوجة إذا كانت أمة كان سيدها هو المتحمل عنه على القول بالتحمل لا الأمة؛ لأن نفقتها تجب على السيد بحكم الملك والنفقة التي تجب على الزوج هو المالك لها. والحديث رواه مسلم، وروى البخاري أيضًا أصله. قوله: وحيث قلنا بالتحمل فهل هو كالضمان أو كالحوالة؟ حكى أبو العباس الروياني في "المسائل الجرجانيات" فيه خلافًا. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف من غير تصحيح، والمعروف في المذهب وهو مقتضى نص الشافعي كما سيأتي: أنه كالضمان؛ فقد جزم به البندنيجي والماوردي وصاحب "البحر"، فقالوا: إن قلنا بالتحمل كان المخرج كالضامن، وإن قلنا بالملاقاة ابتداء كان كالمحال عليه، وجزم به أيضًا السرخسي في "الأمالي" كما سيأتي نقله عن "شرح المهذب". وذكر صاحب "التقريب" نحو ما سبق فقال في الكلام على إخراج المرأة الفطرة بغير إذن الزوج وكذلك القريب ما نصه: فإن كان بغير أمرهما احتمل وجهين: أحدهما: أن ذلك جائز، وهذا على معنى من قال: إن الأب والزوج إنما يخرجان عن من يمونان بمعنى الضمان. والثاني: لا يجوز أن يكون بإذنهما، وهذا على قول من قال: إنهما يخرجان بمضي الحوالة، هذا لفظه.

والصحيح المنصوص جواز الإخراج بغير الإذن، كذا قاله الرافعي بعد هذا فقال: إن قلنا الزوج متحمل أجزأ وإلا فلا، والأولى هو المنصوص عليه. هذه عبارته؛ وحينئذ فيكون الراجح عند صاحب "التقريب": أنه ضمان، إلا أن كلامه لا ينافي كلام البندنيجي ومن تبعه؛ لجواز أن يكون الضمان لكونه متحملًا. نعم صرح صاحب "الإفصاح" بحكاية الخلاف على القول بالتحمل على وفق ما نقله الرافعي فقال: فقد خرج أصحابنا وجهًا: يحتمل الزوج ذلك عنها على وجهين: أحدهما: أن ذلك تحمل حوالة. والثاني: أن ذلك تحمل ضمان، هذا لفظه بحروفه. والحاصل أنَّا إذا قلنا بالتحمل فطريقان: المشهور: القطع بأنه كالضمان، والثاني: على وجهين، وذكر في "شرح المهذب" عكس ذلك فقال: هذا الذي نقله الروياني والرافعي غريب، والصحيح الذي يقتضيه المذهب وكلام الشافعي والأصحاب: أنه كالحوالة؛ بمعنى أنه لازم للمؤدي لا يسقط عنه بعد وجوبه، ولا مطالبة على المؤدي عنه. ووجه القول بالضمان -وبه جزم السرخسي-: أنه لو أداها المتحمل عنه بغير إذن المؤدي أجزأه على هذا القول، ولولا أنه كالمضمون عنه لما أجزأه. انتهى كلامه. وقد ظهر لك بما ذكرناه أنه مردود، وأن استغرابه للخلاف غريب عجيب فإنه ثابت قديما، وأن الذي استغربه هو المشهور، وأنه لم يظفر بأحد يقول بما صححه -وهو الحوالة- إذ لو ظفر به لذكره بلا شك.

وقد استفدنا من كلام السرخسي أن فائدة الخلاف في جواز الإخراج بغير الإذن. قوله: وأما خادم الزوجة فإن كانت مستأجرة لم تجب فطرتها، وإن كانت من إماء الزوج فعليه فطرتها، وإن كانت من إماء الزوجة والزوج ينفق عليها لزمته فطرتها، لأنه يمونها، نص عليه الشافعي في "المختصر"، وقال الإمام: الأصح عندي أنها لا تلزمه. انتهى. وقد بقي من الأقسام ما إذا أخدمها حرة [صحبتها] (¬1) لتخدمها وينفق عليها، وقد ذكرها في "شرح المهذب" وجزم بأن فطرتها لا تجب؛ وعلله بأنها في معنى المستأجرة، ولكن ذكر الرافعي في كتاب النفقات ما حاصله أن هذه الصورة ملحقة بالمملوكة، وتبعه عليه في "الروضة" فقال بعد أن ذكر أمته والمستأجرة ما نصه: إن أخدمها بكفاية من صحبتها من حرة أو أمة فهذا موضع نفقة الخادم. هذا لفظه، وهو يدل لما قلناه؛ لأن الفطرة تتبع النفقة؛ ولأجل ذلك صرح ابن الرفعة في كتاب النفقات بنقله عن الرافعي، وصرح أيضًا به في هذا الباب -أعني: زكاة الفطر- المتولي في "التتمة" فقال: تجب فطرتها أيضًا هذا لفظه. قوله: وتجب فطرة العبد المرهون والجاني والمستأجر؛ لوجود الملك ووجوب النفقة، وقال الإمام والمصنف في "الوسيط": يحتمل أن يجري فيه الخلاف المذكور في زكاة المال المرهون. ثم قال: واعلم أن الخلاف في زكاة المال المرهون لم نلقه إلا في حكاية هذين الإمامين. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تابعه في "الروضة" أيضًا على إنكار ثبوت الخلاف، وزاد فقال: بل قطع الأصحاب بالوجوب هنا وهناك، وليس الأمر كما قالا من عدم ثبوته، بل هو ثابت صرح به القاضي الحسين في "تعليقه" والمتولي في "التتمة"، وحكاه عنهما ابن الرفعة في "الكفاية" فقال: فيه طريقان حكاهما القاضي الحسين في موضع من "تعليقه"، والمتولي عن الأصحاب. أحدهما: تخريجه على القولين في المغصوب والضال، وهي التي ذكرها في موضع آخر قبل ذلك احتمالًا لنفسه. هذا كلام "الكفاية". قوله: وأما المغصوب والضال ففي فطرته طريقان: أحدهما: أنه على القولين في زكاة المغصوب. وطرد ابن عبدان على هذه الطريقة الخلاف فيما إذا حيل بينه وبين زوجته عند الاستهلال. وأصحهما القطع بالوجوب اتباعًا للفطرة و [النفقة] (¬1). انتهى. وما ذكره في مسألة الحيلولة قد ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا، وأوضحه في "شرح المهذب"، فنقل هذه المقالة ثم قال: إن الذي يقتضيه إطلاق الأصحاب وجوب فطرتها على الزوج كالمريضة، ولكن تتأيد مقالة ابن عبدان بأنها لو وطئت بشبهة فاعتدت عنها لا نفقة لها في مدة العدة؛ لأنه نادر، بخلاف المرض فإنه عام. انتهى ملخصًا. وحاصله أنه تجب فيها الفطرة والنفقة، وما ذكره الرافعي فيها وتبعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" قد ذكر الرافعي في كتاب النفقات ما يخالفه؛ فإنه جزم بوجوب نفقة المريضة، ثم قال: قال البغوي: ولو غصبت فلا نفقة وإن كانت معذورة بخروجها عن قبضته وفوات الاستمتاع بالكلية، بخلاف المريضة هذا كلامه، وتبعه عليه في "الروضة" وزاد عقبه: فجزم بما ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يوافقه فقال: قلت: ولو حبست ظلمًا أو بحق فلا نفقة. هذه عبارته؛ فعدم إيجاب النفقة يقتضي عدم إيجاب الفطرة، وأما إيجاب الفطرة دون النفقة فلا يستقيم، ومع ذلك فمخالف لما اقتضاه كلامهما. قوله: وأما الآبق ففي الطريقان في المغصوب، وللخلاف فيه مأخذ آخر حكاه الإمام؛ وهو أن إباق العبد هل يسقط نفقته كنشوز الزوجة أم لا؟ ، وفيه خلاف، فإن أسقطها أسقط الفطرة أيضًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الخلاف الذي ذكره في سقوط نفقة العبد بإباقه قد حذفه النووي من "الروضة". الأمر الثاني: أن ما نقله عن الإمام من حكاية الخلاف قد حكاه -أعني الإمام- هنا، وذكر أنه يأتي في كتاب النفقات، ولم يذكره، وذكره في زكاة الأموال بحثًا فقال: وليس إباق العبد بمثابة نشوز المرأة؛ إذ نشوز المرأة يضاد التمكين، ونفقة المملوك في مقابلة الملك، ويجب أن يقال: لو وجد الآبق طعامًا لسيده في إباقه حل له أن يأكل منه. وهذا فيه نظر ظاهر؛ فليتأمل الطالب، وبالجملة: إن اتجه سقوط نفقة الآبق، ففي فطرته تأمل، هذا كلامه. قوله: وإن لم يعلم حياته وانقطع خبره مع تواصل الرقاق ففي فطرته طريقان. ثم قال: وكيف ما قدر فالأظهر: وجوب الفطرة وعدم الإجزاء في الكفارة, والمذهب: أنه يجب إخراج الفطرة في الحال، وقيل: يجوز التأخير إلى عود العبد كما في زكاة المال. انتهى ملخصًا.

فيه أمران: أحدهما: أن محل هذا الخلاف فيما إذا لم تنته الغيبة إلى مدة يجوز للحاكم أن يحكم فيها بموته وأن مثله يورث، فإن انتهى إلى ذلك فلا خلاف في عدم الوجوب، قاله الرافعي في الفرائض. الثاني: أنه كيف يؤمر بإخراج زكاة الفطر في هذه الحالة مع أنه يجب إخراجها من قوت بلد العبد لا بلد السيد، ويجب صرفها إلى قرابتهم أيضًا. وذلك كله متعذر، فهل نقول: إن هذه الصورة مستثناة من القاعدة أم لا؟ وإذا لم نقل بالاستثناء فماذا نصنع؟ فيه نظر. وهذا الإشكال يأتى أيضًا في العبد الضال والآبق. وأقرب شيء فيه أن يقال: العبرة بآخر بلد وصل خبره منها؛ إذ الأصل بقاؤه فيها. وقد يقال: يتعين عليه إعطاؤها إلى القاضي؛ لأن نقل الزكاة عن بلد المال جائز بالنسبة إليه كما تقرر في بابه. قوله بعد الكلام في المغصوب والضال والغائب ونحوهم: ثم إذا أوجبنا الفطرة في هذه الصور فهل يجب إخراجها في الحال أم هل يجوز التأخير إلى عود العبد كما في زكاة المال في نظائرها؟ المذهب الأول؛ لأن المهلة ثم شرعت لمعنى النماء وهو غير معتبر هاهنا، وروى ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد أن الشافعي نص في "الإملاء" على قولين في ذلك؛ قال: وهذا بعيد؛ لأن إمكان الأداء شرط في الضمان في زكاة

المال، والمال الغائب متعذر الأداء، وليس كذلك الفطرة. هكذا ذكره. لكن قال صاحب "التهذيب": لو دخل الوقت ومات المؤدي عنه قبل إمكان الأداء ففي سقوط الفطرة وجهان؛ فألحقوها في أحد الوجهين بزكاة المال. وحكى الإمام هذا الخلاف أيضًا، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من حكاية هذين القولين في جميع الصور ذكره أيضا في "الروضة"، وكذلك في "شرح المهذب" بعبارة هي أوضح من هذه فقال: إذا أوجبنا الفطرة في الآبق والضال والمغصوب ومنقطع الخبر وجب إخراجها في الحال على المذهب، وبه قطع البغوي وآخرون. وقال صاحب "الشامل": حكى الشيخ أبو حامد فيه قولين عن "الإملاء". انتهى. إذا علمت ذلك فاعلم أن صاحب "الشامل" إنما حكى القولين في العبد الغائب فقط ولم يحكهما في جميع الصور. ووقع في بعض نسخ الرافعي التعبير بقوله في هذه الصورة أعني بالتاء الدالة على المرة، لكن في أكثرها ما ذكرناه، وهو الموجود في "الروضة". الأمر الثاني: أن الوجهين في سقوط الفطرة بموت العبد قد حكاهما ابن الصباغ أيضًا عن ابن سريج. والعجب من ذهول الرافعي عنهما حتى أنه شرع يرد على ما قاله بحكاية غيره لهذين الوجهين. وقد وقع النووي بسبب هذا في الغلط، وصحح من الوجهين عدم

السقوط، وستعرف ذلك قبل الطرف الثاني. قوله: ثم إذا كانت زوجة العبد موسرة مسلمة فهل عليها فطرة نفسها؟ منهم من قال: هو على القولين المذكورين فيما إذا كانت تحت زوج معسر، ومنهم من قال: عليها فطرتها بلا خلاف؛ لأن العبد ليس أهلًا للخطاب بالفطرة. وإن كانت أمة فهل على سيدها فطرتها؟ فيه هذان الطريقان؛ والثاني أظهر في هاتين الصورتين. انتهى كلامه. ومقتضاه في هذه المسألة -أي: زوجة العبد- تصحيح القطع بوجوبها على الحرة، وعلى سيد الأمة، وتضعيف طريقة القولين، وقد صرح بذلك في "أصل الروضة", وتبعه عليه، ثم خالفه في "المنهاج" فجزم بإلحاق العبد بالحر المعسر وجعلهما على قولين على عكس ما صححه في "الروضة". ثم استدرك من زياداته فصحح عدم الوجوب على الحرة. وما صرح به في "المنهاج" هو مقتضى ما في "المحرر" أيضًا. وقد اختلف كلامه في "شرح المهذب" فذكر في موضع منه كما ذكر في "الروضة"، ثم قال بعد ذلك فيما إذا تزوج حر معسر أمة أو حرة موسرة: الأصح وجوب الفطرة على سيد الأمة دون الحرة كما نص عليه، ثم قال: ويجري الخلاف فيما لو تزوج عبد بحرة أو أمة، فإنه معسر والأصح وجوبها على سيد زوجته الأمة دون الحرة. هذا لفظه. وهو اختلاف عجيب؛ فإنه جزم بإجراء الخلاف وصح أنه لا تجب على الحرة, وهما جميعًا عكس ما سبق.

قوله: ولو ملك السيد عبده شيئًا وقلنا: إنه يملكه لم يكن له أن يخرجه عن زوجته، ولو أذن له السيد ففيه وجهان للشيخ أبى محمد. انتهى. لم يصحح في "الروضة" شيئًا منهما أيضًا، وصحح في "شرح المهذب" أنه لا يخرج، وعبر بالصحيح وعلله بأنه ليس أهلًا للوجوب. قوله: ومنها إذا أوصى برقبة عبد لرجل وبمنفعته لآخر قال ابن عبدان: فطرته على الموصى له بالرقبة بلا خلاف، ونفقته عليه أو على الموصى له بالمنفعة أو في بيت المال؟ فيه ثلاثة أوجه، انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن ابن عبدان من نفي الخلاف وأقره عليه ليس كذلك فقد نقل هو -أعني الرافعي- في كتاب الوصية أن أبا الفرج السرخسي وطائفة خرجوا الفطرة على الخلاف في النفقة، ولم ينقل ما نقله هنا عن ابن عبدان إلا عنه وعن البغوي خاصة. ولما اختصر النووي كلام الرافعي هنا لم ينقل نفي الخلاف عن ابن عبدان بل أطلقه لتوهمه أن الأمر كذلك، ثم ظفر به فاستدركه وصحح أن الفطرة كالنفقة، وصححه أيضا في "شرح المهذب". الأمر الثاني: أن الصحيح من الأوجه الثلاثة في النفقة وجوبها على مالك الرقبة. كذا صححه الرافعي في كتاب الوصايا، والنووي في "شرح المهذب" وزيادات الروضة. الأمر الثالث: أن الوجه القائل بأن نفقته في بيت المال ليس على إطلاقه؛ بل محله إذا لم يكن له كسب أو كسب لا يفي.

كذا صرح به الرافعي في كتاب الوصية، ثم النووي في "الروضة" هناك وفي "شرح المهذب" هنا. الأمر الرابع: أن ما حكاه الرافعي في الوصية وصححه النووي هنا من أنها تابعة للنفقة قد أطلقه الأصحاب. قال في "شرح المهذب": ومرادهم إذا قلنا بالوجهين الأولين، أما إذا قلنا بالثالث أنها في بيت المال فلا تجب؛ لأن عبيد بيت المال لا تجب فطرتهم؛ فهذا أولى، والذي قاله في عبيد بيت المال هو المشهور كما سيأتى. قوله: ومنها عبد بيت المال والعبد الموقوف على المسجد في فطرتهما وجهان حكاهما عن "البحر". الأظهر -وبه أجاب في "التهذيب"-: أنها لا تجب. انتهى كلامه. أما عبد بيت المال فلم أر له في "التهذيب" ذكرًا بالكلية. وأما العبد الموقوف على المسجد فلم يصرح به أيضًا البغوي، بل ذكر أنه لا تجب فطرة العبد الذي اشتراه القيم للمسجد، وستأتي هذه الصورة. والعبد المذكور لا يصير وقفًا بالشراء بل هو مملوك للمسجد، غير أن نفي الوجوب في هذه الصورة يستلزم نفيه عن الموقوف بطريق الأولى، والوجهان المحكيان عن "البحر" قد رأيتهما مذكورين فيه، لكنه صحح الوجوب في الصورتين على عكس ما قاله الرافعي وعبر بالمذهب. قوله: والعبد الموقوف على رجل معين ذكر في "العدة" أن فطرته تنبني على أن الملك فيه لمن هو؟ إن قلنا الملك للموقوف عليه فعليه فطرته، وإن قلنا: لله تعالى فوجهان، ونفى صاحب "التهذيب" في باب الوقف وجوب

فطرته على الأقوال كلها؛ لأنه ليس فيه ملك محقق، والأول أشبه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الأصح من الوجهين المفرعين على الصحيح -وهو أن الملك لله تعالى- أنه لا فطرة، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". الأمر الثاني: أنهما لم يبينا من الذي يجب عليه الإخراج على القول بالوجوب تفريعًا على أنه لله تعالى هل هو بيت المال أو الواقف أو الموقوف عليه؟ الأمر الثالث: أن الرافعي -رحمه الله- لم يمعن النظر في هذه المسألة؛ ولهذا لم ينقل التخريج إلا عن "العدة"، والنفي مطلقًا إلا عن "التهذيب" في كتاب الوقف. والمعروف في المذهب هو الثاني وهو عدم التخريج؛ فقد جزم به أيضًا في "التهذيب" في هذا الباب. واقتصار الرافعي على ذلك الباب غريب مفهم بأنه لم يطلع عليه هنا وأن البغوي أيضًا لم يذكره إلا هناك، وصرح به أيضًا الخوارزمي في باب الوقف من "الكافي"، وصححه أيضًا صاحب "التتمة" ونقل أنه المذهب، ثم قال: ومن أصحابنا من بنى فطرته على أقوال الملك، وذكر مثله القاضي الحسين في "تعليقه" فقال: ولو وقف عبده على أقوام معينين فالمذهب أن صدقة الفطر لا تجب على أحد ويمكن بناؤه على أقوال الملك. هذا لفظه. وقد اغتر في "الروضة" بالترجيح الضعيف الذي وجده الرافعي -وهو

الأشبه- فعبر عنه بالمذهب فزاد الأمر خللًا وغلطًا. قوله في "أصل الروضة": فرع: إذا مات المؤدي عنه بعد دخول الوقت وقبل إمكان الأداء لم تسقط الفطرة على الأصح، وبه قطع في "الشامل". انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذين الوجهين حكاهما الرافعي -رحمه الله- من غير تصحيح بالكلية لا تصحيحًا مطلقا ولا منقولًا عن غيره، والتصحيح من كلام النووي، وقد صححه أيضًا في "شرح المهذب"، والأمر كما ذكره من التصحيح، فقد قال سليم الرازي في "مجرده": إن المذهب من الوجهين عدم السقوط، وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" ما يدل [على] (¬1) أنه المشهور. الأمر الثاني: أن ما حكاه عن "الشامل" من القطع بالوجوب ذكره أيضًا في "شرح المهذب"، وهو غلط؛ فإن ابن الصباغ قد حكى الخلاف في ذلك فقال: فرع: إذا كان له عبد فأهل شوال ووجبت عليه زكاته فمات العبد قبل أن يتمكن من أداء زكاة الفطر عنه فهل تسقط زكاة الفطر؟ قال أبو العباس: فيه وجهان. هذا لفظه في "الشامل"، ولم يصرح الرافعي بهذا النقل عن "الشامل"، ولكن عبارته توهم ذلك فصرح به النووي، وهذه المسألة ذكرها الرافعي عند الكلام على فطرة العبد الغائب فنقلها النووي إلى هذا الموضع وعبر عنها بما أوقعه في الأمرين المذكورين. وقد ذكرت لفظ الرافعي هناك فراجعه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الطرف الثاني: في صفات المؤدي

أين الطرف الأول الطرف الثاني: في صفات المؤدي قوله: وهى: الإسلام .. إلى آخرها. فيه أمران: أحدهما: أن المصنف -رحمه الله- حصر شروط المؤدي في الإسلام، والحرية، واليسار. وهذا الكلام يقتضي أن الجنين إذا وضع مثلًا ليلة الفطر تجب عليه فطرة نفسه وعبيده الذين كانوا في ملكه وقت الغروب. لكن ذكر الرافعي عند الكلام على فطرة المطلقة البائن أن الجنين لا تجب عليه فطرة نفسه، فإذا لم يكلفوه الإخراج عن نفسه فبطريق الأولى عن غيره. وأيضًا فإن زكاة المال لا تجب عليه على الصحيح؛ فكذلك زكاة الفطر. وتلخص من ذلك أنه لابد من زيادة قيد في المسألة. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الكافر محله في الأصلى، فأما المرتد فتأتي فيه الأقوال في زكاة ماله، كذا نقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب. قوله: ولو كان في نفقة الكافر مسلم، ففي وجوب فطرته عليه خلاف في أنها هل تجب ابتداء أو بطريق التحمل. ثم قال: فإن قلنا بالوجوب فقد قال الإمام: لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوى والكافر لا تصح منه النية؛ وذلك يدل على استقلال الزكاة بمعنى المواساة. انتهى.

ذكر مثله في "الروضة"، وهو كلام مجمل، وقد ذكر في الظهار في الكلام على الكفارات كلامًا لابد منه فقال في الكلام على تكفير الكافر: ويشترط أن ينوي الكافر بالإعتاق والإطعام نية التمييز دون نية التقرب. هذا كلامه. واعلم أن المتولي قد ذكر أن الإمام يأخذها من ماله كزكاة الممتنع وهذا الكلام يشعر بإلحاقه به في النية، والأصح [هناك] (¬1) وجوبها. قوله: ولو أسلمت ذمية تحت ذمي واستهل الهلال في تخلف الزوج ثم أسلم قبل انقضاء العدة؛ ففي وجوب نفقتها في مدة التخلف خلاف يأتى في موضعه. ثم ذكر بعد ذلك ما حاصله أن الفطرة كالنفقة. واعلم أن تقييده بما قبل العدة [حاصله أن الفطرة كالنفقة] (¬2) ويوهم أن ما بعدها لا يجري فيه خلاف وليس كذلك بل فيه خلاف، والصحيح أيضًا أن حكمه حكم ما قبله؛ لأنها محبوسة بسببه فتفطن له. قوله في "الروضة": وفي المكاتب ثلاثة أقوال أو أوجه: أصحها: لا فطرة عليه ولا على سيده. والثاني: تجب على سيده. والثالث: تجب عليه في كسبه كنفقته. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الإيجاب على السيد لم يحكه الرافعي وجهًا بل قولًا قديمًا عن رواية أبي ثور فقال: روى أبو ثور عن القديم: أنها تجب على السيد؛ ¬

_ (¬1) في حـ: هنا. (¬2) سقط من جـ.

لأنه عبد ما بقي عليه درهم. وأنكر الشيخ أبو علي أن يكون هذا قولًا للشافعي وقال إنه مذهب أبي ثور نفسه، هذا لفظ الرافعي. وإنما تردد الرافعي في المقالتين النافيتين فنقل عن صاحب "التهذيب" أنهما وجهان، وعن الإمام وغيره أنهما قولان، وأن الإمام قال: إن الأول منصوص عليه، والآخر مخرج. وما ذكره الإمام من كون الأول منصوصًا عليه هو الصواب فقد نص عليه في "الأم" في موضعين، وقال في "شرح المهذب": إنه المنصوص عليه في كتب الشافعي. الأمر الثاني: أن هذا الكلام الذي نقله الرافعي عن الشيخ أبي علي حاصله حكاية طريقة قاطعة بنفي هذا القول حتى لا يبقى إلا قولان أو قول ووجه؛ لأن تفردات أبي ثور لا تعد وجهًا فأسقط النووي هذه الطريقة. الأمر الثالث: أن هذا الخلاف محله في المكاتب كتابة صحيحة، أما المكاتب كتابة فاسدة ففطرته على سيده. كذا جزم به الرافعي في باب الكتابة. وذكر قبله بقليل أن نفقته لا تجب على سيده؛ لأنه استقل بالكسب كذا نقله عن الإمام والغزالي ولم يخالفه، ذكر ذلك جميعه في الباب الثاني من أبواب الكتابة مفرقًا وقد علمت منه أن الفطرة في هذه الصور ليست تابعة للنفقة، فتفطن له. قوله: الأمر الثالث: اليسار؛ فالمعسر لا زكاة عليه وكل من لم يفضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه ما يخرجه في الفطرة فهو معسر، ومن فضل عنه ذلك فهو موسر. انتهى كلامه.

وهو يقتضي أن القدرة على الكسب لا تخرجه عن الإعسار، وقد صرح بذلك في الكلام على الاستطاعة في الحج فقال: كما أن القدرة على الكسب في يوم الفطرة لا تجعل كحصول النصاب، هذه عبارته. قوله: وهل يشترط كون الصاع فاضلًا عن مسكنه وعبده الذي يحتاج إليه للخدمة؟ فيه وجهان. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف من غير تصحيح، والأصح هو الاشتراط، كذا صححه الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير". وكلامه في "الكبير" في بيع جزء من العبد في فطرته يدل عليه، وصححه أيضًا النووي في "المنهاج" و"شرح المهذب" و"نكت التنبيه". واعلم أن النووي في "الروضة" نقل الاشتراط عن الإمام، ثم قال: وإذا نظرت كتب الأصحاب لم تجد ما ذكره. وهذا التعبير مع حكاية الخلاف عقبه تعبير متهافت. وكلام الرافعي صحيح؛ فإنه عبر بقوله وجدت أكثرهم ساكتين فاعلم ذلك. قوله: وربما استشهدت بكونهم لم يذكروا دست ثوب يلبسه، ولا شك في اعتباره. انتهى. وهذا الكلام من الرافعي يوهم أنه لم يجد لأحد تصريحًا باعتبار الكسوة، وهو غريب فقد صرح به في "التتمة" فقال: المعتبر عندنا أن يملك صاعًا فاضلًا عن قوته وقوت من تلزمه نفقته في يوم العيد وكسوتهم. وصرح به أيضًا في "النهاية" فقال: ولا شك أنه لا يحسب عليه دست ثوب يليق بمنصبه ومروءته. هذا لفظه، وكذا النووي في "نكت التنبيه"،

وعبر بقوله: قال أصحابنا، إلا أن تعبير الرافعي يحتمل عود الضمير فيه إلى الأكثر. قوله: وهل يعتبر الدين؟ إلى آخره. اعلم أن الرافعي قد ذكر في ذلك خلافًا بعضه هنا وبعضه في آخر الباب، ولم يصرح فيه بترجيح. وكذا النووي في "الروضة"، وقد رجح في "الشرح الصغير" أنه لا يعتبر فقال: في كلام الشافعي والأصحاب ما يدل على أن الدين لا يمنع وجوب الفطرة، وهو الأشبه بالمذهب، وكلامه في "المحرر" يقتضيه أيضًا، فإنه لم يشترطه ورجح صاحب "الحاوي الصغير" اعتباره وهو الذي جزم به النووي في "نكت التنبيه" ونقله عن الأصحاب. قوله: حتى لو انتهى في الكفارة إلى المرتبة الأخيرة وهى الإطعام ولم يجد إلا إطعام ثلاثين قال الإمام: يتعين عندى إطعامهم قطعًا. انتهى. وهذه المسألة التى اقتضى كلامه عدم الخلاف فيها قد ذكرها في آخر الظهار، وحكى فيها خلافًا وتفريعًا مع أمور أخرى تتعلق بها؛ ولهذا أسقطها من "الروضة" هنا، فاعلم ذلك وراجعه. قوله: وإذا فضل صاع وله عبد صرفه عن نفسه، وهل يلزمه أن يبيع في فطرة العبد المحتاج إليه جزءًا منه في فطرته -أي: في فطرة العبد-؟ فيه وجهان. ثم قال: ويحسن أن يرتب فيقال: إن قلنا: إنه لا يباع في الفطرة فلا يباع الجزء المذكور، وإن قلنا: يباع فهاهنا وجهان. انتهى. وهذا الذي ذكره قد صرح به في "التتمة"، ونقله عنه في "الكفاية".

قوله في المسألة: ويتلخص في بيع جزء من العبد لفطرته ثلاثة أوجه: أصحها: الفرق بين أن يحتاج إليه أو يستغنى عنه، وصور المسألة في "الوسيط" بما إذا كان العبد مستغن عنه, والخلاف ليس مختصًا به بلا شك. انتهى. واعلم أن هذا الثالث لا يأتي مع التصوير المنقول عن "الوسيط"، بل حكى الثالث على كيفية غريبة فقال: هل له أن يبيع جزءه فيها؟ ثالثها: الأعدل إن استغرق الصاع قيمته لم يخرج عنه، وإن كان عشره مثلًا يشتري تسعة أعشار صاع فليخرجه عن الباقي بعد بيع العشر؛ لأن من لا يملك إلا تسعة أعشار عبد إنما يلزمه تسعة أعشار صاع، ثم وجه المنع باتحاد المخرج والمخرج عنه. انتهى. وهذا قد ذكره الإمام احتمالًا. قوله: ولو فضل صاع وله زوجة وأقارب فأراد أن يوزع الصاع لم يجز في أصح الوجهين. ثم قال: وأورد المسعودي وجه التوزيع إيرادًا يشعر بأنه يتعين ذلك محافظة على الجواب. انتهى. وهذه الطريقة التي للمسعودي أسقطها النووي فلم يذكرها في "الروضة"، ثم إنها هى الطريقة المعروفة فقد نقله الإمام عن الصيدلاني، وجزم بها القاضي الحسين، والفوراني، وصاحب ["البحر"] (¬1) و"التتمة" و"البيان" و"الذخائر"، وابن يونس شارح "التنبيه" (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في حـ: تقديم وتأخير بين الأقوال.

قوله: فإن فضل صاع واحد واجتمع في نفقته جماعة واستووا فهل يتخير بينهم أو يقسط؟ فيه وجهان. ويتأيد وجه التقسيط بالنفقة فإنها توزع في مثل هذه الحالة, ولم يتعرضوا للإقراع هاهنا وله مجال في نظائره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تأييد الرافعي لوجه التقسيط فيه إشعار برجحانه، ولم يذكره في "الروضة" أعني [التأييد] (¬1) -بل صحح من زياداته، وفي "شرح المهذب" أنه يتخير، وكذلك صاحب "الحاوي الصغير". الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من كونهم لم يتعرضوا للقرعة قد تابعه عليه في "الروضة". وليس كذلك، فقد جزم به أبو الحسن منصور التميمي تلميذ الربيع صاحب الشافعي؛ كذا رأيته في كتابه المسمى "بالمسافر" مستدركًا به على ما نقله عن الشافعي فقال: وإذا كان عنده بعد نفقة يومه ما يزكي به عن [بعض من يمون زكى به عن من شاء منهم، قال منصور: بل يقرع بينهم فيزكي عمن] (¬2) قرع أصحابه منهم؛ لأن كلًا ذو حق. هذه عبارته. قوله: ولو كان في نفقته جماعة وفضل عن كفايتهم ما يؤدى في فطرة بعضهم قدم فطرة من تقدم نفقته على الوفاق والخلاف المذكور في كتاب النفقات. ثم قال: وظاهر المذهب من الخلاف الذي ذكرناه وما أجريناه إلى النفقات أنه يقدم نفسه ثم زوجته ثم ولده الصغير ثم الأب ثم الأم ثم ولده الكبير. ¬

_ (¬1) في أ: الثانية. (¬2) سقط من أ.

هذا لفظه. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله من كون المذكور في النفقات أن الأب يقدم في النفقة على الأم ليس كذلك؛ بل الذي صححه هناك هو العكس. والذي قاله هنا من تقديم الأب قد وقع أيضًا في "الروضة" وفي "المحرر" و"مختصره" و"تصحيح التنبيه". وتفطن النووي في "شرح المهذب" لهذه المناقضة فحاول [الجمع] (¬1) بينهما فقال: إنما قدموا في النفقات الأم لعجزها، وأما الفطرة فإنها لتطهير المخرج عنه وتشريفه، والأب أحق بهذا؛ فإنه منسوب إليه ويشرف بشرفه، ومراد الأصحاب بقولهم كالنفقة أي: في الترتيب، وقد شاركته في المعظم. انتهى كلامه. وهذا الطريق الذي سلكه في الجمع بين الكلامين فاسد لوجوه: أحدها: أن المعنى الذي ذكره وهو مراعاة الشرف ذهول عجيب؛ فإنا لو راعيناه لم نقدم فطرة الابن الصغير على الأبوين؛ فدل على إلحاقها بالنفقة في تقديم الأحوج فالأحوج. ثانيها: أن هذا الطريق إنما يستقيم التمسك به لو تكلموا هنا على المقدم منهما في الفطرة ولم يتكلموا في النفقة، وليس كذلك، بل قد صرحوا تصريحًا لا احتمال فيه ولا وقفة بأنا إنما قدمنا الأب في الفطرة؛ لأنه المقدم في النفقة، بل صرحوا بأنه المقدم فيها فراجع العبارة المتقدمة. ثالثها: أن الرافعي لما تكلم هنا في "الشرح الصغير" على المقدم في الفطرة ذكر أن الأصح أنه يقدم فيها من تقدم نفقته، ولم يذكر مراتب من ¬

_ (¬1) في حـ: أن يجمع.

يقدم بل أحاله على الترتيب المذكور في النفقات من غير استثناء، إلا أن الشيخ محيي الدين لم يطالع "الشرح الصغير"، ولهذا فاته منه مواضع كثيرة من مقاصده في "الروضة" وغيرها، ولو وقف عليه لم يذكر هذا التأويل، واختار صاحب "الحاوي الصغير" تقديم الأب في الموضعين. رابعها: أن الشاشي قد صرح في "الترغيب" بتقديم فطرة الأم على فطرة الأب. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أيضًا أنه صحح في كتاب النفقات تقديم الأب على الابن الكبير، وليس كذلك، بل حكى فيها ثلاثة أوجه: ثالثها: التساوي، ثم قال: والتساوي هو اختيار القفال. ولم يذكر هو ولا النووي كلامًا آخر. وهذا إن لم يشعر بترجيح الثالث فلا ترجيح فيه أصلًا.

الطرف الثالث: في صفات المخرج

الطرف الثالث: في صفات المخرج قوله من زياداته: والصواب ما قاله أبو الفرج الدارمي من أصحابنا أن الاعتماد في الصاع على الكيل دون الوزن. . . . إلى آخره. وهذا الذي استدركه قد صححه الرافعي في زكاة المعشرات، وعجب من إعزائه إلى الدارمي مع التصريح بالتصحيح منه ومن الرافعي. وفي المسألة كلام آخر أذكره إن شاء الله تعالى -في كفارة الظهار يتعين الوقوف عليه فراجعه. قوله: أما الأول فلأن الأقوات النادرة كالفث .. إلى آخره. هذه اللفظة قد تكررت في هذا الباب، وهى بالفاء والثاء المثلثة، وقد سبق إيضاح ذلك في زكاة المعشرات. قوله: وحكى الموفق ابن طاهر أن صاحب "الإفصاح" حكى عن القديم قولًا: إنه لا يجزئ إخراج العدس والحمص في الفطرة؛ لأنهما إدامان. انتهى كلامه. واعلم أن صاحب "الإفصاح" لم يحكه عن القديم، بل ولا جزم بحكايته، بل تردد في إثباته فقال: وقد حكى أصحابنا أن الشافعي قال في موضع آخر: وإن كان قوته عدسًا أو حمصًا لم أر أن يخرج منه الزكاة لأني أراهم يقتاتونه؛ فيحتمل هذا وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: لم أستحب له ذلك، لا أنه إذا أراد إخراجه لم يجز، فهذا موافق لما ذكرنا. ويحتمل أن يكون معناه لم [يجزئه] (¬1) ذلك ويكون الاعتبار بغالب ¬

_ (¬1) في أ، ب: يحرم.

الأقوات التي تجري فيها الزكاة دون ما لم يكن غالبا. هذا لفظ "الإفصاح" بحروفه، ومنه نقلت. قوله في "الروضة": وفي الأقط طريقان: أحدهما: القطع بجوازه، والثاني: على قولين؛ أظهرهما جوازه. انتهى. لم يبين الأصح من الطريقتين؛ والأصح هى طريقة القولين. كذا صححه الرافعي في الشرحين "الكبير"، و"الصغير"، وجزم به في "المحرر"، وحذفه النووي في "الروضة". وعبارته في "الكبير": أظهرهما أنه على قولين. قوله في "الروضة": فإن جوزنا الأقط، فالأصح أن اللبن والجبن في معناه، والثاني: لا يجزئان. والوجهان في إخراج من قوته الأقط: اللبن والجبن. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما جزم به من حكاية الوجهين قد خالفه في "شرح المهذب"؛ فإنه حكى طريقين وصحح القطع بالجواز فقال: فيه طريقان: أصحهما -وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين وآخرون-: يجزئه؛ لأن الجبن مثلة واللبن أكمل منه. والثاني: حكاه الخراسانيون على وجهين: أصحهما: يجزئه. الأمر الثاني: أن ما ذكره في اللبن من الجواز قد ذكر في "تصحيح التنبيه" في الظهار ما يخالفه، وقد بسطت الكلام عليه هناك فراجعه. الثالث: أن تخصيص الوجهين في إجزاء اللبن والجبن بمن قوته الأقط يقتضي أنهما [لا] (¬1) يأتيان فيمن قوته اللبن، وأنه يجوز إخراجهما جزمًا؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

تفريعًا على ما نحن نفرع عليه؛ وهو إجزاء الأقط، وقد صرح به في "شرح المهذب" فقال: الخلاف مخصوص بمن قوته الأقط هل له إخراج اللبن والجبن؟ هكذا قاله الماوردي والرافعي وغيرهما. هذا لفظه، وليس الأمر على ما اقتضاه كلام "الروضة" وسرى منها إلى "شرح المهذب" فإن في الرافعي نقلًا عن البغوي من غير مخالفة: أن الوجهين جاريان فيمن قوته اللبن أيضًا؛ فكان صوابه أن يقول: والوجهان في إخراج من قوته الأقط واللبن اللبن والجبن أي: بتكرار اللبن. الأمر الرابع: إذا صححنا إجزاء الجبن فكيف نصنع بالمقدار الذي هو الكيل؟ والذي يظهر هاهنا أنه يتعين الرجوع إلى الوزن. وقد ذكر الرافعي في زكاة المعشرات عند ذكره الاختلاف في أن المعتبر الكيل أو الوزن قال أبو العباس الجرجاني: إلا العسل إذا أوجبنا فيه الزكاة فالاعتبار فيه الوزن. قوله: واتفقوا على أن إخراج المختض والمصل والسمن لا يجزئ. انتهى. والمصل: بميم مفتوحة وصاد مهملة ساكنة بعدها لام، قال في "المجمل": هو ماء الأقط. وقال النووي في "لغات التنبيه" وغيرها: إذا أرادوا أقطا أو غيره جعلوا اللبن في وعاء من صوف أو خوص أو كرباس ونحوه فينزل مائيته منه فهى المصل. وفي "الاستقصاء" و"البيان": أن المصل لبن منزوع الزبد. وفي "النهاية": أن المصل هو المختض.

قوله: ولا يجزئ المسوس. اعلم أن المسوس والمدود بكسر الواو. قال الجوهري: في باب السين: السوس: دود يقع في الصوف والطعام، تقول منه: ساس الطعام يساس سوسًا بالفتح إذا وقع ذلك فيه، وكذلك أساس الطعام بالهمز وسوس. قال الراجز: قد أطعمتني دقلًا حولنا ... مسوسًا مدودا حجرنا وذكر نحوه في باب الدال فقال: داد الطعام يداد، وكذلك أداد بالهمز، ودود بالتشديد إذا وقع فيه السوس وأنشد البيت السابق وضبطه فيهما بالكسر، وصرح به -أعني بالكسر- من الفقهاء جماعة منهم صاحب "الاستقصاء"، وابن الصلاح. قوله: ويجزئ القديم وإن قلت قيمته بسبب القدم ما لم يتغير طعمه ولونه. انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير في التعبير بما ذكره؛ وهو يقتضي أن الرائحه لا اعتبار بها، وأنه لابد من اجتماع الطعم واللون، وليس كذلك، بل كل واحد من الثلاثة مانع من الإجزاء وحده، وقد صرح في "شرح المهذب" بذلك ونقله عن الماوردي وغيره، ولم يحك فيه خلافًا, وجزم به أيضًا الروياني في "البحر" ناقلًا له عن نص الشافعي، وذكر نحوه في "الكفاية". قوله ناقلًا عن "الوجيز": ثم يتعين من الأقوات القوت الغالب يوم الفطر في قول، وجنس قوته على الخصوص في قول، وقيل: يتخير في الأقوات.

ثم قال: ودليل الأول قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" (¬1). انتهى. اعترض الرافعي بعد هذا بنحو ورقتين على كلام "الوجيز" فقال: وتسمية الأول والثاني قولين لا يكاد يوجد لغيره، وإنما حكاهما الجمهور وجهين، وإنما قوله: وقيل: يتخير فمنهم من حكاه قولًا على ما سبق. انتهى كلامه. وما ذكره من الإنكار على الغزالي وأنه غير موجود لغيره فليس كذلك؛ فقد صرح الماوردي في "الحاوى" بحكايته وبحكاية جميع الخلاف أقوالًا؛ فقال: اختلف قول الشافعي في الأقوات المدخرة هل هى على الترتيب أو التخيير فيه قولان، ثم قال: فعلى هذا -أي: الترتيب- هل يعتبر غالب قوت بلده أو غالب قوته في نفسه؟ على قولين. هذا لفظه. والحديث المذكور رواه البيهقي، وقال: إنه ضعيف. قوله: وأما لو عدل إلى القوت الأعلى فهو جائز بالاتفاق. انتهى. تابعه في "الروضة" أيضًا على دعوى الاتفاق. وليس كذلك؛ بل في الجواز وجهان مشهوران حكاهما الماوردي في "الحاوى"، والروياني في "البحر"، والشاشي في "الحلية"، وابن يونس في "شرح التنبيه". وحكى أيضًا -أعني الماوردي- في الكفارات وجهين في ما إذا عدل عن الواجب إلى ما هو دونه في الكفارة. ثم جعل الفطرة كالكفارة، وهذا هو الخلاف الذي حكاه الشيخ في ¬

_ (¬1) أخرجه: الدارقطني (67) والبيهقي (7528) وابن عدي في "الكامل" (7/ 55) قال الألباني -رحمه الله- ضعيف.

"التنبيه" في هذا الباب وأنكروه عليه إلا أنه جعله قولين. وإنكاره باطل؛ فقد حكاهما أيضًا أبو إسحاق المروزي في "الشرح"، والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب "البحر". قوله: والنظر في الأعلى إلى الاقتيات وقيل: إلى القيمة؛ لأنه أرفق بالمساكين وأشق على المالك. وعلى هذا يختلف الحال باختلاف البلاد والأوقات، إلا أن تعتبر زيادة القيمة في الأكثر. انتهى. وما ذكره تفريعًا على الثاني معناه أن الاختلاف المذكور إنما نأخذ به إذا لم يكن المعتبر عند الأصحاب زيادة القيمة في أكثر الأوقات بل وقت الإخراج، فإن كان الأكثر هو المعتبر عندهم أخذنا به، وهو الذي ذكره بحثا متوقفًا فيه، وتابعه عليه في "الروضة" قد جزم به النووي في "شرح المهذب"، وخالف فيه القاضي حسين في "تعليقه"، ونقله عنه في "الكفاية". قوله: ورجح صاحب "التهذيب" الشعير على التمر، وعن الشيخ أبي محمد: أن التمر خير منه، وله في الزبيب مع الشعير أو التمر تردد، قال الإمام: والأشبه تقديم التمر على الزبيب. انتهى كلامه. لم يرجح النووي في "الروضة" شيئا في هذه المسائل أيضًا، والراجح أن الشعير خير من التمر، وأن التمر خير من الزبيب، كذلك رجحه الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" وعبر فيهما بالأشبه. وقال النووي في "المنهاج" و"شرح المهذب": إنه الأصح، وبالغ في الشرح المذكور بالنسبة إلى تقديم التمر [والشعير] (¬1) على الزبيب فقال: إنه الصواب. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

واختاره أيضًا فيهما صاحب "الحاوي الصغير"، ولم يزد في "الروضة" في الشعير مع الزبيب على أنه فيه تردد للجويني. قوله: ولا يجوز عن شخص واحد فطرة من جنسين وإن كان أحدهما أعلى من الواجب. هذا هو المعروف، ورأيت لبعض المتأخرين تجويزه. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وهو يقتضي عدم الوقوف على الجواز، إلا لهذا المتأخر الذي لم يصرح باسمه لعدم شهرته؛ ففي المسألة وجوه مشهورة: أحدها: هذا الوجه صرح به إمام الحرمين، والغزالي في "البسيط"، وكلاهما قبل كتاب الصيام بقليل نظرًا إلى المعنى، لكن لو استوى الجزءان امتنع عند هذا القائل كما قاله الإمام. والثاني: إن كان عنده صاع من جنس واحد لم يجز البعض وإلا جاز تكميله بالأعلى. حكاه السرخسي في "الأمالي" وحكاه عنه النووي في "شرح المهذب". والثالث: يجوز مطلقا، حكاه ابن يونس شارح "التنبيه". قوله في "أصل الروضة": وإن كان السيدان في بلدين مختلفي القوت، أو اعتبرنا قوت الشخص بنفسه فاختلف قوتهما فأوجه: أصحها: يخرج كل واحد نصف صاع من قوته، وقيل: من قوت بلد العبد. انتهى. وهذا الوجه الذي ضعفه هو الصحيح في المسألة فاعلمه.

وأما الأول فمخالف لما ذكره قبل ذلك فإنه قال: ولو ملك رجلان عبدًا وأوجبنا الغالب من قوت البلد ومكان العبد في بلد آخر بني على أن الفطرة تجب على المالك ابتداء أم بطريق التحمل؟ انتهى. ومقتضاه أن الصحيح وجوبها من بلد العبد على عكس ما سبق نقله الآن عن "الروضة". وقد ذكر الرافعي المسألة على الصواب؛ فإنه بعد ذكره لما قاله النووي نقل عن الشيخ أبي عليّ أن هذا إذا قلنا بوجوبها على المخرج ابتداءا، فإن قلنا بالتحمل تعين قوت بلد العبد، وهكذا ذكره الرافعي في "الشرح الصغير" من غير نقله عن الشيخ أبي عليّ؛ بل جزم به. وكذلك النووي في "شرح المهذب"، ولكنه في "الروضة" أهمل ذكر هذا التفريع نسيانًا، وجعلها مسألة مستقلة فحصل من الغلط ما حصل، ثم إنه أخذ مما قرره في "الروضة" وجعله في "المنهاج" من زياداته، وفي "تصحيح التنبيه". وذلك كله خطأ فاعلمه، ولم يتفطن له في شيء من كتبه إلا في "شرح المهذب" كما أشرنا إليه. قوله: فهل يتخير بين الأقوات؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لظاهر حديث أبي سعيد. وأصحهما: لا؛ بل يتعين الغالب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" (¬1)، ولو صرف إليه غير القوت الغالب لما كان يغني عن الطلب؛ فإن الظاهر أنه يطلب القوت الغالب في البلد. ثم قال: وقول الغزالي في "الوجيز"، ثم يتعين من الأقوات القوت ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7528)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 55) من حديث ابن عمر، وفيه محمد بن عمر الواقدي وهو متروك، وقال الألباني: ضعيف.

الغالب يوم الفطرة: التقييد بيوم الفطر لم أظفر به في كلام غيره، وبين لفظه هاهنا [ولفظ] (¬1) "الوسيط" بعض المباينة؛ لأنه قال: المعتبر فيه غالب قوت البلد في وقت وجوب الفطرة لا في جميع السنة. انتهى كلامه. وذكر مثله في "الشرح الصغير"، وتابعه النووي على ذلك في "الروضة"، وليس فيه بيان للوقت المعتبر. وذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا، إلا أنه تعرض لبيان الوقت بكلام لا إيضاح فيه أيضًا فقال ما نصه: هذا النقل غريب كما قال الرافعي، والصواب: أن المراد قوت السنة كما سنوضحه في الفرع الذي بعد هذا، انتهى كلامه. ثم ذكر بعده الفرع الذي أشار إليه فقال: فرع إذا اعتبرنا قوت البلد أو قوت نفسه وكان القوت مختلفا باختلاف الأوقات ففي بعضها يقتاتون أو يقتات جنسًا وفي بعضها جنسًا آخر. قال السرخسي في "الأمالي": إن أخرج من الأعلى أجزأه وكان أفضل، وإن أخرج من الأدنى فقولان: أحدهما: لا يجزئه احتياطًا للعبادة. قال: وأصحهما: يجزئه؛ لدفع الضرر عنه، ولأنه يسمى مخرجًا من قوت البلد أو من قوته هذا كلامه. وحاصله: تصحيح اعتبار الغلبة في وقت من أوقات السنة، والتقييد الذي ذكره الغزالي في "الوسيط" قد ذكره أيضًا صاحب "الذخائر" وهو القياس. ¬

_ (¬1) في جـ: ولفظه في.

والاستدلال الذي تقدم الآن نقله عن الرافعي كالصريح فيه. قوله: وإن مات بعد استهلال الهلال عن عبد؛ فتقدم فطرة العبد على [الوصايا] (¬1) والميراث. وفي تقديمها على الديون طريقان: أظهرهما: أنه على ثلاثة أقوال على ما قدمناها في زكاة المال. والثانى: القطع بتقديم الفطرة [لأنها] (¬2) متعلقة بالعبد واجبة بسببه فصار كأرش جنايته. وأما فطرة نفسه فهى على الأقوال، وحكى القاضي الروياني -رحمه الله- طريقة أخرى قاطعة بتقديم فطرة نفسه أيضًا لقلتها في الغالب. انتهى كلامه. والذي حكاه الروياني في "البحر" وسبقه إليه الماوردي أن أبا الطيب ابن سلمة قال: زكاة الفطر تقدم على الديون قولًا واحدًا لقلتها في الغالب وتعلقها بالرقبة، وزاد الماوردي على هذا: فاستحقت كأرش الجناية. وهذا الطريق هو غير الطريق السابق المذكور في العبد، ولا يتصور أن يكون في المالك كما فهمه الرافعي؛ لأن التعليل بالتعلق بالرقبة وبالتشبيه بأرش الجناية يدفع ذلك، ولم يتعرض له في "الحلية". قوله من زوائده: ولو أخرج الأب من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز كالأجنبي إذا أذن، بخلاف الابن الكبير. انتهى. ¬

_ (¬1) في أ: القضاء. (¬2) في حـ: لا.

فيه أمران: أحدهما: أن محل المنع في الكبير ما إذا كان عاقلًا رشيدًا، فإن كان مجنونًا جاز. وكذلك السفيه على ما دل عليه كلامه في "شرح المهذب"؛ لأن الفارق بين الصغير والكبير هو استقلال الأب بتمليك الصغير، وهذا موجود في المجنون والسفيه، وما ذكره في السفيه هو قياس ما ادعاه من كونه ينوي عنه وفيه كلام سبق. وعلل المحب الطبري في "ألغازه" عدم الإجزاء عن الكبير بكونه قادرًا على النية، وهذا يقتضي التفرقة بين السفيه والمجنون. الأمر الثاني: أنه سكت عن الوصي وحكمه أنه لا يجوز له ذلك إلا بإذن القاضي. كذا قاله البغوي، ونقله أيضًا الماوردي.

كتاب الصيام

كتاب الصيام قوله: ويجب صوم رمضان بأحد أمرين: إما باستكمال شعبان، أو برؤية الهلال؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (¬1). [انتهى] (¬2). وما نقله من إكمال العدة ثلاثين ليست في رواية ابن عمر، والذي رواه: "فإن غم عليكم فاقدروا له". قوله: وإن شهد واحد فقولان: أحدهما: أن الرؤية لا تثبت. وهى رواية البويطي؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا إلا أن يشهد شاهدان" (¬3). وأصحهما وهو الذي نص عليه في كتبه وقطع به بعضهم: أنها تثبت؛ لما روي عن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني رأيت الهلال فقال: "تشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم. قال: "وأن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم. قال: "فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (1808) ومسلم (1080). (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) أخرجه البخارى (1810) ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه أبو داود (2340) والترمذي (691) والنسائي (2113) وابن ماجة (1652) والدارمي (1692) وابن خزيمة (1923) وابن حبان (3466) والحاكم (1543) والدارقطنى (2/ 158) وأبو =

وعن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته فصام وأمر الناس" (¬1). انتهى ملخصًا. وما صححه الرافعي وغيره من قبول قول الواحد خلاف مذهب الشافعي فإن المجتهد إذا كان له قولان وعلم المتأخر منهما كان مذهبه هو المتأخر، وقد نص في "الأم" على أن اشتراط الاثنين متأخر عن هذا فقال في أول كتاب الصيام الصغير ما نصه: قال الشافعي -رحمه الله-: وبهذا نقول، فإن لم ترى العامة هلال رمضان ورآه رجل عدل أن أقبله للأثر والاحتياط. قال الشافعي (¬2) -رحمه الله-: أخبرنا الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أمه فاطمة بنت الحسين -عليه السلام- أن رجلًا شهد عند على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يومًا من شعبان أحب إلى من أن أفطر يومًا من رمضان. قال الشافعي -رحمه الله- بعد: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان. ¬

_ = يعلى (2529) وابن أبى شيبة (2/ 320) والبيهقى في "الكبرى" (7762) وابن الجارود في "المنتقى" (379) من حديث ابن عباس -رضى الله عنهما-. قال الترمذي: روى مرسلًا. وقال النسائي: إنه أولى بالصواب وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة. عن عكرمة. وقال أبو داود: رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلًا. وقال الألبانى: ضعيف. (¬1) أخرجه أبو داود (2342) والدارمي (1691) وابن حبان (3447) والبيهقى في "الكبرى" (7767) بسند صحيح. (¬2) أخرجه الشافعى (467) والدارقطني (2/ 170) والبيهقي في "الكبرى" (7770). قال الحافظ: فيه انقطاع.

هذا لفظ الشافعي بحروفه، ومن "الأم" نقلته. واعلم أن من جملة الفوائد المهمة الجليلة التي اشتمل عليها [مقدمة] (¬1) هذا الكتاب وسبق هناك إيضاحه أن "الأم" رواية البويطي عن الشافعي وأن البويطي مات قبل ترتيبها فرتبها الربيع واستدرك فيها أشياء فصرح فيها باسمه تارة فيقول: قال الربيع، وتارة لا يصرح به اعتمادًا على القرينة. ومنه هذا الموضع. والحديث الأول: ما عدا الاستثناء -رواه الشيخان عن اختلاف في بعض الألفاظ وهو إلى لفظ البخاري أقرب، وأما الاستثناء فضعيف، ويغني عنه ما رواه حسين بن الحارث قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ننسك للرؤية، فإن لم نره فشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما. رواه أبو داود، والدارقطني والبيهقي. وقالا: هذا إسناد صحيح متصل. وينسك: بضم السين وكسرها من النسك وهو العبادة. وأما حديث ابن عباس فرواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، صححه ابن حبان والحاكم، وقال النسائي: والأولى بالصواب أنه مرسل. وأما حديث ابن عمر فرواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم، وقال الدارقطنى: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب، وهو ثقة، كذا نقله في "شرح المهذب" وأقره، وما ادعاه من التفرد ليس كذلك؛ فقد تابعه هارون بن سعيد الأيلي فرواه عن ابن وهب، كما أخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. قوله: فإن قبلنا الواحد فهو شهادة في أصح الوجهين، وقيل: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

رواية، ثم قال: وهل يشترط لفظ الشهادة؟ قال الشيخ أبو علي وغيره: هو على الوجهين، ومنهم من قدر اشتراطه متفقًا عليه. انتهى. لم يبين هنا ما صيغة هذه الشهادة فهل يقال يشهد بطلوع الهلال ونحوه لا بالرؤية؛ لكونها من فعله أو تصح الشهادة وإن كانت بالرؤية، وقد تعرض هو لذلك في صلاة العيدين في الكلام على لفظ "الوجيز"، وذكر ما حاصله أن الشهادة بصيغة الرواية صحيحة فقال ما نصه: فنقول: لو شهد شاهدان يوم الثلاثين من رمضان [إننا] (¬1) رأينا الهلال البارحة، وكان ذلك قبل الزوال، وقد بقى من الوقت ما يمكن جمع الناس فيه وإقامة الصلاة أفطروا. انتهى لفظه. ورأيت في "شرح الفروع" للقفال المروزي الجزم بمثله أيضًا فقال في هذا الباب: إذا كانت السماء مصحية فشهد شاهدان: إننا رأينا الهلال ليلة الثلاثين قبلنا قولهما وأفطرنا. هذا لفظه. ورأيت في "أدب الشهود" لابن سراقة ما هو أصرح منه فقال: يقول: أشهد أيها القاضي أني رأيته. هذه عبارته، ذكر ذلك في باب تأدية الشهادة. وخالف ابن أبي الدم فقال: إن الشهادة برؤيته لا تقبل؛ لأنها شهادة على فعل نفسه. وقد اشتهرت هذه المقالة على الألسنة غير مستحضرين لخلافها؛ فلذلك صرحت بهذه النقول. قوله: وهل يقبل قول الصبي المميز الموثوق به إذا جعلناه رواية؟ قال الإمام: فيه وجهان مبنيان على قبول رواية الصبيان، وجزم في ¬

_ (¬1) في حـ: أنا.

"التهذيب" بعدم القبول مع حكاية الخلاف في روايته، وهو المشهور. انتهى كلامه. وحاصله: أن في المسألة طريقين: المشهور: طريقة القطع، والثاني: التخريج على الخلاف. وقد صرح النووي بذلك في "الروضة". إذا علمت ذلك فالمذكور هنا قد خالفه الرافعي في "الشرح الصغير" فجزم بطريقة الوجهين. ثم إنه أيضًا يشكل على سائر الإخبارات، فقد حكى الرافعي وجهين في قبول إخباره بنجاسة الماء وبالمرض المخوف وبجهة القبلة وغيرها، ولم يحك طريقة قاطعة بالمنع فضلا عن تصحيحها فأي فرق بين ما يجئ فيه وبين هذه الأبواب. نعم إن أشار الرافعي بقوله وهو المشهور إلى عدم القبول لا إلى الجزم به استقام وتوجه على "الروضة" اعتراضان، لكنه بعيد جدًا. وفي المسألة أمور أخرى سبق ذكرها في باب الاجتهاد في المياه فراجعها. قوله: وإذا أخبر موثوق به بالرؤية فهل يجب الصوم مطلقا أم يتخرج على هذا الخلاف؟ .. إلى آخره. فيه كلام يتعين الوقوف عليه مذكور في الكلام على النية. قوله في "أصل الروضة": واتفقوا على أنه لا يقبل قول الفاسق على القولين جميعًا. اعلم أن في قبول إخبار الفاسق بجهة القبلة وجهين مذكورين في الرافعي فإما أن نقول بجريانهما هاهنا، وإما أن نلزمه أن يفرق، بل سبق في

التيمم أن في قبوله خبر الكافر بالمرض المخوف وجهين أيضًا. ولم يصرح الرافعي هنا بالقطع بعدم القبول وإنما جزم به. قوله أيضًا في "أصل الروضة": ولكن إن اعتبرنا العدد اشترطنا العدالة الباطنة. انتهى. لم يبين المراد هنا بالعدالة الباطنة وهو أمر مهم ضروري، وقد بينه الرافعي عقب هذا الكلام فقال: وهى التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين. هذا لفظه. والعجب من حذف النووي له. قوله: وإن لم يعتبر العدد ففي اعتبار العدالة الباطنة وجهان [جاريان] (¬1) في رواية المستور. قال الإمام: وأطلق بعض المصنفين الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، وهو بعيد. نعم قد تقول: يأمر القاضي بالصوم بظاهر العدالة كى لا يفوت الصوم ثم يبحث بعد ذلك. انتهى كلام الرافعي. فيه أمور: أحدها: أن الأصح من هذين الوجهين هو القبول، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" فقال: الأصح قبول رواية المستور، والأصح قبول قوله هنا والصيام به، وبه قطع صاحب "الإبانة"، و"العدة"، والمتولي. هذا كلامه، ولم يصحح في "الروضة" شيئًا. وتصحيح القبول متجه على القول بأنه رواية، وأما على القول بالشهادة فبعيد. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمر الثاني: أن نقل الرافعي عن الإمام يقتضي أن البحث لابد منه. وليس كذلك بل المذكور في "النهاية" ما حاصله أنهم إن صاموا ثلاثين يومًا ولم يروا الهلال فلابد من البحث وإلا ففيه تردد؛ فإنه قال عقب ما نقله الرافعي ما نصه: ولا يبعد أن يقال: إذا أمر استمروا ولم يبحث. نعم إذا استكملنا العدة ثلاثين فلم يروا هلال شوال فلابد الآن من البحث عن العدالة فتأملوا ترشدوا. انتهى كلامه. الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" قد أسقط ما نقله الرافعي عن الإمام فلم يذكره بالكلية، وجزم الغزالي في "البسيط" بأنه ينبغي للإمام أن يأمر وبأن يبحث أيضًا، ولم يفصل. قوله في "أصل الروضة": ولو صمنا بقول عدلين ولم نر الهلال بعد ثلاثين فإن كانت السماء مغيمة أفطرنا قطعًا، وإن لم تكن مغيمة أفطرنا أيضا على المذهب الذي قطع به الجماهير. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من قطع الجمهور قد خالفه في "شرح المهذب" مخالفة عجيبة فحكى أن الأشهر طريقة الخلاف فقال: وإن كانت مصحية فطريقان أحدهما: نفطر قولًا واحدًا، وبه قطع كثيرون. وأشهرهما -وبه قطع المصنف وكثيرون: فيه وجهان: الصحيح- وقول جمهور أصحابنا المتقدمين: نفطر. قوله: فالأصح القطع بثبوت الهلال بالشهادة على الشهادة كالزكاة وإتلاف بوارى المسجد؛ فعلى هذا إذا فرعنا على الصحيح وهو عدم العدد، فإن قلنا: إن طريقه طريق الرواية ففي الاكتفاء بواحد وجهان: أصحهما في "التهذيب": لا يكفي؛ لأنه ليس بخبر من كل وجه. وإن قلنا: طريقه طريق الشهادة فهل يكفي واحد أم لابد من

اثنين؟ فيه وجهان؛ المذكور في "التهذيب" منهما هو الثاني. انتهى ملخصا. تابعه في "الروضة" على ذلك. فأما المسألة الأولى: فالأصح فيها هو الاكتفاء بالواحد؛ فقد قال ابن الرفعة في "الكفاية": إنه المشهور. وذكر النووي في "شرح المهذب" نحوه؛ فإنه قال بعد ذكره ما ذكره هاهنا من غير زيادة عليه، وقال الشيخ أبو علي، وإمام الحرمين: الأصح الاكتفاء بواحد عن واحد، وبها قطع الدارمي. هذا كلامه. وهذا الخلاف كالخلاف السابق في قبول رواية الصبي. والبغوي بنى على قاعدة واحدة في الموضعين. وأما في المسألة الثانية فالأصح فيها ما قاله البغوي، كذا صححه في "شرح المهذب" وعبر بالأصح. والبواري: بالباء الموحدة والراء المهملة والياء المشددة المثناة من تحت: نوع ينسج من القصب كالحصير. قوله: وما يقتضيه حساب المنجم لا يوجب الصوم عليه ولا على غيره. قال القاضي الروياني: وكذا من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به في أصح الوجهين. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والذي صححه الروياني هو الصحيح، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير". قال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط": ومعرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلة، وهو غير [المعرفة] (¬1) بالحساب على ما أشعر به كلام الغزالي ¬

_ (¬1) في أ: المعروف.

في الدرس؛ فالحساب أمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، والمعرفة بالمنازل كالمحسوس يشترك في دركه الجمهور ممن يراقب النجوم. هذا كلامه. وقد سبق في كتاب الصلاة فيما إذا علم المنجم دخول وقتها بالحساب كلام آخر فلينظر مع هذا. قوله: وأما الجواز فقد قال في "التهذيب": لا يجوز تقليد المنجم في حسابه لا في الصوم ولا في الإفطار. وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه؟ فيه وجهان ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف إلى غيره. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح في هذه المسألة هو الجواز في حق الحاسب والمنجم، والمنع في حق غيرهما، كذا صححه النووي في "شرح المهذب". وسنذكر لفظه مع زيادة أخرى في الكلام على جزم [النية] (¬1)، لكن نقل ابن الصلاح أن الجمهور على المنع في حق أنفسهما أيضًا. الثاني: أن هذا الذي نقله عن بعض المسودات المجهولة، وتابعه عليه النووي هو مذكور في عدة من الأصول المشهورة منها "الشامل" لابن الصباغ وكذلك ["التهذيب"] (¬2) و"التعليق" للشيخ أبي حامد حتى جعله بمنزلة الشهادة في حقه وحق غيره. قوله: واعلم أن صاحب "التهذيب" ذكر تفريعًا على الحكم بقبول قول الواحد أنا لا نوقع به الطلاق والعتق المعلقين بهلال رمضان، ولا نحكم بحلول الدين المؤجل إليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) سقط من جـ.

ولو قال قائل: هلا ثبت ذلك ضمنًا كما سبق نظيره لأحوج الفرق. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب"، وما نقله الرافعي عن البغوي ذكر مثله الخوارزمى، وفي ما ذكره الرافعي أمور: أحدها: أن الطلاق والعتق المعلقين إنما لا يحكم بوقوعهما إذا سبق التعليق على الشهادة، فأما إذا وقعت الشهادة أولًا وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق المذكور فقال: إن كان قد ثبت رمضان فعبدي حر أو فأنت طالق فإن الطلاق والعتق يقعان، وذلك لأن الرافعي في الباب الثاني من كتاب الشهادات نقل عن ابن سريج والجمهور هذا التفصيل فيما إذا علق العتق أو الطلاق على الغصب، فثبت بشهادة رجل وامرأتين. ثم قال: وقياسه أن يكون الحكم هكذا إذا علق برمضان فشهد به واحد. انتهى. واعلم أن ابن سريج قد نص على هذا التفصيل الذي ذكرناه في "التعليق" بالغصب فتابعه عليه الأصحاب. وقد نص -أعني: ابن سريج- على التفصيل المذكور في التعليق برمضان أيضًا هكذا، حكاه عنه القاضي الحسين في هذا الباب من "تعليقه". وكلام الرافعي يقتضي أنه لم يجده منقولًا؛ ولهذا أثبته قياسًا. الأمر الثاني: أن الرافعي قد أشار بقوله: كما سبق نظيره: [أي] (¬1) فيما إذا صمنا بقول الواحد ثلاثين ولم نر هلال شوال فإنا نفطر على الأصح وإن كان شوال لا يثبت بالواحد، ومثله النسب والميراث فإنهما لا يثبتان بشهادة النساء إلا عند شهادتهن بالولادة فإنهما يثبتان تبعًا وضمنا. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وقد ذكر الرافعي في كتاب الشهادات أن في الموضع السابق ذكره قريبًا فرقًا بين ثبوت النسب والميراث، وبين عدم حلول الدين وعدم وقوع الطلاق والعتاق بما حاصله أن النسب ونحوه لازم للمشهود به، والطلاق والعتاق والحلول ليس بلازم لاستهلال الشهر، وقد ذكرت لفظه هناك. الأمر الثالث: [(¬1) أن عدم حلول الدين ونحوه محله إذا لم يتعلق ذلك بالشاهد، فإن تعلق به ثبت بلا شك؛ لاعترافه بذلك. قوله: وإذا رؤي الهلال في بلد ولم ير في أخرى فإن تقاربتا تعدى الحكم إليها، وإن تباعدتا فلا في أظهر الوجهين؛ لما روي عن كريب قال: رأينا الهلال بالشام ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فقال ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة. قال: أنت رأيت الهلال؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه. قلت: أو لا يكتفى برؤية معاوية؟ فقال: هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. (¬2) انتهى. والحديث المذكور رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وكريب: بكاف مضمومة على التصغير، وفي آخره باء موحدة، وهو مولى ابن عباس. واعلم أن الذي صححه الرافعي قد سبقه إليه الشيخ أبو حامد والشيخ أبو إسحاق والغزالي والشاشي، لكن ذهب إلى الوجوب القاضي أبو ¬

_ (¬1) بداية سقط كبير من ج. (¬2) أخرجه مسلم (1087) وأبو داود (2332) والترمذي (693) وابن خزيمة (1916) والدارقطني (2/ 171) والبيهقي في "الكبرى" (7994).

الطيب، والروياني وقال: إنه ظاهر المذهب، واختاره جمع من أصحابنا، ونقله ابن المنذر عن أكبر الفقهاء، ونقله البغوي عن الشافعي. قوله: وضبط العراقيون والصيدلانى وغيرهم البعد باختلاف المطالع، وضبطه الغزالي وصاحب "التهذيب" بمسافة القصر، وتحدى الإمام وادعى أنه لا قائل بالأول قال: وقد يوجد ذلك مع قصور المسافة عن مسافة القصر للارتفاع والانخفاض، وقد لا يوجد مع مجاورتها لها. ومنهم من ضبطه -يعني: البعد- باختلاف الإقليم. انتهى ملخصًا. وفيه أمور: أحدها: أنه ليس فيه تصريح بترجيح، وقد صرح بترجيح الثاني وهو مسافة القصر في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، وكذلك في "المحرر" فقال: إنه أشهر الوجهين. واختلف تصحيح النووي فقال من زياداته في "الروضة" و"المنهاج": الأصح أن العبرة باختلاف المطالع، وذكر نحوه في "شرح المهذب"، ثم صحح عكسه في "شرح مسلم" في الباب الثالث من أبواب الصيام فقال ما نصه: والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس بل تختص بمن قرب على مسافة كما يقوله أبو حنيفة، وكأنه ظفر به بعد ذلك فألحقه ذاهلًا عما سبق فقدم في "الروضة" هذا الوجه فذكره مع المسألة. الأمر الثاني: أن الرافعي قد نقل في الظهار في آخر الخصلة الثانية أنه إذا صام رمضان عن فرض رمضان وعن الكفارة أجزأه عنهما عند ابن خربويه. قال: والمعروف أنه لا يجزئه عن واحد منهما. إذا علمت ذلك فإن أراد الرافعي بالتعرض لكونه من رمضان خلوص

الصوم له وحده، وهو الظاهر لم يستقم نفي الخلاف لمقالة ابن خربويه. وإن أراد التعرض له سواء كان مع غيره أو وجه كان أفحش في الاعتراض؛ لكونه خلاف المشهور. الثالث: أن يعتبر العد أيضًا من الواجبات لا من الكمال فكان ينبغى أن يقول: فأما قصد صوم العد والتعرض .. إلى آخره. قوله: وأما الأداء والفرضية والإضافة إلى الله تعالى ففيها الخلاف المذكور في الصلاة. انتهى كلامه. وذكر مثله في "الشرح الصغير" و"المحرر"؛ ومقتضاه أن الأصح وجوب التعرض للفرضية؛ لأنه الأصح في الصلاة. وقد تابعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" عليه وعبر بعبارته، وخالف في "شرح المهذب" فقال ما نصه: والأصح عند البغوي اشتراطها، والأصح عند البندنيجي وصاحب "الشامل" والأكثرين عدم الاشتراط وهو الأصح، بخلاف الصلاة. والفرق أن صوم رمضان من البالغ لا يكون إلا فرضًا، وصلاة الظهر من البالغ قد تكون نفلًا في حق من صلاها ثانيا. هذا كلامه. وإذا علمت ذلك علمت أن الفتوى على خلاف ما يقتضيه كلام الشرحين و"الروضة" وفروعهما ترجيحًا بكلام الأكثرين. قوله: وأما رمضان هذه السنة فقد حكى الإمام، والغزالي وجهًا أنه لابد منه، ويغرب منه وجهان حكاهما البغوي في أنه هل يجب أن يقول: من فرض هذا الشهر أو يكفي أن يقول: من فرض رمضان؟ وقال: الأصح الوجوب، وزيفه الإمام بأنه إذا حصر الأداء بالليالى فقد حصر التعرض للوقت المعين.

وقد يزيف أيضًا بأن التعرض لليوم المعين لابد منه وذلك يغنى عن كونه من هذا الشهر وهذه السنة فإن هذا اليوم لا يكون إلا كذلك. انتهى. ورمضان المذكور في أول هذا الكلام مضاف إلى ما بعده وهو اسم الإشارة. إذا علمت ذلك ففي كلامه أمور: أحدها: أن الرافعي لم يصرح هنا بتصحيح في التقييد بالسنة ونحوها، وقد صحح في "الشرح الصغير" و"المحرر" أنه لا يشترط، وعبر فيهما بالظاهر، وصححه النووي أيضًا في "أصل الروضة" وغيرها من كتبه، وقد تلخص مما ذكره هو والرافعي أنه لا يشترط ذكر الأداء ولا كونه من السنة ونحوها كالشهر، بل يكفيه أن ينوى صوم الغد عن فرض رمضان، وفيه كلام سأذكره. الثاني: أن ما ذكره أولًا في تزييف الوجوب بدخوله في الأداء صحيح لكن الأداء لا يجب أيضًا عنده. وما ذكره ثانيًا في تزييفه من أن التعرض لليوم المعين -وهو الغد- يستلزم السنة والشهر ذهول عجيب؛ فإن من نوى صوم الغد من هذه السنة عن فرض رمضان يصح أن يقال له: صيامك لليوم المذكور هل هو عن فرض هذه السنة أو عن سنة أخرى؟ إذ هنا أمران؛ اليوم الذي يصومه واليوم الذي يصوم عنه؛ فالحاصل أن ذكر هذه السنة في قلب الناوي إنما ذكروه آخرًا ليعود إلى المؤدي عنه لا المؤدي به. الثالث: أن البغوي قد عبر بقوله: فيقول: نويت أن أصوم غدًا من فرض هذا الشهر، فإن قال: نويت أن أصوم غدًا من الفرض أو من فرض رمضان فالأصح أنه لا يجوز؛ لأنه لم يعين هذا الشهر، وقيل: يجوز؛

لأن هذا الشهر لا يقبل غير فرضه. هذه عبارة "التهذيب". وقد علمت منها أن الوجه المرجوح عنده لا يوجب تقييد الفرض برمضان، بل لو قال من الفرض صح على خلاف المذكور في الرافعي و"الروضة". وقد حذف في "الروضة" ما نقله عنه الرافعي من تصحيح البطلان في هذا التصوير، وأوهم كلامه تبعًا للرافعي أنها صورة واحدة، وليس تصحيح البغوي هذا لأجل التعرض للأداء؛ فإن الصحيح -عنده كما ذكره في الصلاة- عدم اشتراطه. قوله: والتعيين واجب في صوم الفرض. ثم قال: وأما صوم التطوع فيصح بنية مطلق الصوم كما في الصلاة. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة"، على إطلاق صحة التطوع بالنية المطلقة، لكنه قد تقدم في صفة الصلاة أن النفل إن كان راتبًا أو كان له سبب فلابد من تعيين النية فيه، وقياسه اشتراط التعيين أيضًا في الصوم الراتب كصوم عرفة، والذي له سبب كصوم الاستسقاء إذا لم يأمر به الإمام كما قلنا باشتراطه في الصلاة لاسيما وقد صرح الرافعي بإلحاق الصوم بها كما تقدم، وقد تعرض النووي في "شرح المهذب" لهذا البحث فقال: ينبغي وجوب ذلك، إلا أنه فرض الإشكال في النفل المؤقت ولم يتعرض لما له سبب. قوله: الرابع: التبييت: وهو شرط في صوم الفرض. انتهى. وتعبيره بالفرض تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، ويرد عليه صيام الصبي في رمضان فإنه نفل ومع ذلك لا يصح إلا بنية من الليل كما قاله الروياني والنووي، وكذلك ابن أبي الدم، وحكى الوجهين في أنه هل يقع نفلًا

موصوفًا بصفة الرمضانية أو غير موصوف بها ولا إدخال للصبي، عبر الشيخ في "التنبيه" بقوله: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل فنص على رمضان بخصوصه، وقيل غيره بكونه واجبًا, وهو من محاسن كلامه، وهذا الاعتراض يأتي في المسألة السابقة أيضًا. قوله في "الروضة": ولا تبطل النية بالأكل والجماع بعدها على المذهب، وحكى عن أبى إسحاق بطلانها، وأنكر ابن الصباغ نسبته إليه. وقال الإمام: رجع أبو إسحاق عن هذا عام حج وأشهد على نفسه. فإن ثبت أحد هذين فلا خلاف في المسألة. انتهى ملخصًا. وفيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن الإمام من كونه قائلا برجوع أبي إسحاق ليس كما نقله عنه، بل إنما حكاه الإمام في "النهاية" عن غيره حكاية مضعف له؛ فإن عبارته: وقيل: إنه رجع. والسبب في حصول هذا الوهم في "الروضة" أن الرافعي عبر عن قول الإمام، وقيل بقوله وحكى الإمام، وهى عبارة مجملة. ثم عبر النووي عن قول الرافعي، وحكى بقوله، وقال غير مراجع لما في "النهاية". نعم قول الرافعي فإن ثبت يشير إلى المراد بقوله وحكى فإن الإمام لو جزم لم يحسن أن يقابل. الأمر الثاني: أن الرجوع ثابت؛ فقد جزم به الفوراني في "الإبانة"، ورأيت في نسخة من "المقنع" للمحاملي أن الداركي قال: سمعت ابن القطان يقول: سمعت أبا سعيد القفال يقول: إن أبا إسحاق رجع عن هذا. قال ابن القطان: فحججت فقلت لأبي إسحاق: حكى لى أبو سعيد

القفال عنك أنك رجعت فقال: بلى كنت أذهب إليه ثم رجعت عنه. هذا كلامه. الثالث: أنه لا يلزم من ثبوت أحد هذين نفي الخلاف في المسألة، بل لابد مع ذلك أن لا ينقل الوجه إلا عنه؛ ولهذا عبر الرافعي بقوله: فإن لم ينقل الوجه إلا عنه وثبت أحد الكلامين فلا خلاف، وفي المسألة إجماع سابق، ويثبت خلاف أبي إسحاق ثم رجوعه، فإنه يتخرج على الاتفاق بعد الاختلاف هل هو إجماع رافع للخلاف السابق أم لا؟ ومذهب الشافعي أنه لا يكون كما أوضحته في "شرح منهاج الأصول"، وقد نقل الإصطخري أن مقالة أبي إسحاق مخالفة لإجماع المسلمين. الرابع: لما تقرر أن الخلاف في هذه المسألة باطل مردود عبر في "الروضة" بالمذهب؛ إشارة إلى تصحيح طريقة القطع، لكنه ذكر عقبه أنه إذا نوى ثم نام لا يجب تجديد النية على الصحيح؛ فتعبيره بالصحيح جزم منه بإثبات الخلاف مع أن البطلان عند الأصحاب هنا أضعف من الأكل ونحوه؛ لأن النوم غير مناف. قوله: ويصح النفل بنية قبل الزوال، وفيما بعده قولان: أحدهما: يصح؛ تسوية بين أجزاء النهار كما سوينا بين أجزاء الليل في محلية نية الفرض. والأصح: عدم الصحة. وفرقوا بأن الناوي قبل الزوال مدرك لمعظم العبادة فجعل الأقل تبعًا له، بخلاف ما بعده. قال الإمام: وإذا حسب النهار من شروق الشمس فالزوال منتصفه فتكون النية المتقدمة عليه مدركة للمعظم؛ لأن النهار الشرعي محسوب

من طلوع الفجر فيتقدم منتصفه على الزوال. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلام الإمام من البطلان عند من يعلل بالمعظم كالرافعي وغيره صحيح. وقد حذفه من "الروضة" بالكلية. وأما ما أشار إليه من تخريجه على أول النهار، وتسليم الصحة عند من قال أوله طلوع الشمس فظاهر الفساد؛ فإن الكلام على جعل المعنى المعتبر هو اقتران النية بمعظم العبادة وأولها من طلوع الفجر بلا نزاع سواء سميناه نهارًا أو يومًا. وقد نقل الإمام مع هذا تردد الشيخ أبي محمد في الصحة لفوات اقترانها بالمعظم، ثم قال: ولعل من اعتبر الزوال إنما اعتبره؛ لأنه مضبوط بنية. الثاني: أن المحلية في كلامه بياء مشدودة ومعناه كونه محلًا، والشروق هو الطلوع؛ يقال: شرقت الشمس شروقًا أي: طلعت وأشرقت إشراقًا أي: أصاب. قوله في "الروضة": فرع: ينبغي أن تكون النية جازمة؛ فلو نوى ليلة الثلاثين من شعبان أن يصوم غدًا إن كان من رمضان فله حالان: أحدهما: أن لا يعتقده من رمضان فينظر إن ردد نيته فقال: أصوم غدا عن رمضان إن كان منه، وإلا فأنا مفطر، أو أنا متطوع: لم يقع صومه عن رمضان إذا بان منه؛ لأنه صام شاكًا. وقال المزني: يقع عنه. وإن لم يردد نيته بل جزم بالصوم عن رمضان فلا يصح صومه؛ لأنه إذا لم يعتقد كونه من رمضان لم يتأت له الجزم بصوم رمضان حقيقة بل

الحاصل حديث نفس، وقيل: يصح. انتهى كلامه. وقد تحصل من تقسيمه المذكور في أول هذا الكلام أنه إذا نوى صوم الغد إن كان من رمضان لا ترديد فيه، بل إن زاد عليه فقال: وإلا فأنا مفطر أو فأنا متطوع كان ترديدًا، وإلا فلا؛ فلزم من كونه ليس بترديد سكوته عما إذا لم يأت بالشرط بالكلية، بل إيهامه الصحة في التصوير المذكور في الحالة المذكورة وهى ليلة الثلاثين من شعبان. وذلك كله باطل نقلًا وعقلًا. وهذا الخلل نشأ من تعبيره في أول الكلام بقوله إن كان من رمضان، وهو زيادة لم يذكرها الرافعي. قوله: فإن اعتقد كون الغد من رمضان واستند عقده إلى ما شرطنا كما إذا اعتمد على قول من يثق به من حر أو عبد أو امرأة أو صبية ذوى رشد ونوى صومه عن رمضان أجزأه إذا بان أنه منه. انتهى كلامه. فيه أمور. أحدها: أن ما ذكره في هذه الأمثلة من صحة الصوم قد ذكر بعد ذلك في الشرط الرابع من شروط الصحة ما يناقضه مناقضة عجيبة فقال: وأما يوم الشك فلا يصح صومه عن رمضان ولا يجوز أن يصوم فيه التطوع الذي لا سبب له، فإن فعله لم يصح في أصح الوجهين. ثم قال: ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في الألسن أنه رؤي ولم يقل عدل: أنا رأيته، أو قال ولم يقبل الواحد، أو قاله عدد من النساء أو العبيد أو الفساق وظن صدقهم. وأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم شك. وفي وجه لابن طاهر: يوم الشك ما تردد بين الحائرين من غير ترجيح،

فإن شهد عبد أو صبي أو امرأة ترجح أحد الجانبين؛ فليس بشك. انتهى كلامه. فانظر إلى هذا الاختلاف الغريب كيف قطع أولًا بصحة الصوم عن رمضان إذا أخبره من يظن صدقه من حر أو عبد أو امرأة أو صبيان، وذكر ثانيًا أنه لا يصح بإخبار هؤلاء، بل ولا بإخبار العدل الواحد. وذلك غريب جدًا، ولا ينفع في الجمع بينهما ذكره الاعتقاد أولًا، فإن إرادة معناه عند أهل المعقول مستبعد هنا قطعا، فإن إخبار العدل الواحد غايته أنه يفيد الظن. ومما يستتبع هذا الاختلاف أنه قد قال في أول الباب: قال ابن الصباغ: والإمام إذا أخبر موثوق به بالرؤية لزم قوله إن قلنا: إنه رواية وإن لم يذكره عند القاضي. وقالت طائفة: يجب، ولم يفرعوه على شيء، ومن هؤلاء ابن عبدان والغزالي في "الإحياء" وصاحب "التهذيب"، واتفقوا على عدمه في الفاسق. انتهى كلامه. وذكر البندنيجي أيضًا مثله. واستفدنا منه أن القائلين بالوجوب أكثر عددًا من القائلين بخلافه؛ فصار متناقضًا من ثلاثة أوجه؛ ففي موضع: يجب، وفي موضع: يجوز، وفي موضع: يمتنع. وقد وقعت المواضع الثلاثة في "الروضة" و"شرح المهذب"، والموضعان الأولان في "الشرح الصغير"، وكذلك في "المحرر" لكن بالإيماء لا بالتصريح. الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر في موضعين من "شرح المهذب" أن الصبي الواحد يكفي على عكس ما اقتضاه كلامه في "الروضة" وغيرها. والفتوى على المنع؛ ففي "البحر" ما حاصله: أن الجمهور عليه، وما

ذكره الرافعي هنا في صوم يوم الشك يأتي الكلام عليه مبسوطًا في موضعه. الأمر الثالث: أن المراد بالرشد هو الاختبار بالصدق ولا يبعد اعتبار اجتناب النواهي خصوصًا الكبائر، ويدل عليه تعبير بعضهم بالموثوق به، والظاهر أن الرشد قيد في الصبيان ويحتمل عوده إلى البواقي. قوله في الكلام على ما إذا استند اعتقاده إلى شرطنا: فإن قال في نيته -والحالة هذه-: أصوم عن رمضان فإن لم يكن من رمضان، أو تطوع فقال الإمام: ظاهر النص أنه لا يصح صومه إذا بان رمضان للتردد. وقيل: يصح لاستناده إلى أصله. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من رجحان عدم الصحة قد خالفه في "المحرر" فجزم بالصحة، وهو الذي اقتصر عليه الرافعي في أواخر الكلام على المسألة نقلًا عن "الوجيز"، وهو المتجه؛ فإن النية معنى قائم بالقلب لا يشترط فيه التلفظ. ولا شك أن التردد في هذه الحالة حاصل في القلب ذكره أم لم يذكره، وقصده للصوم إنما هو على تقدير كونه من رمضان فصار كالتردد الواقع في القلب بعد حكم الحاكم. قوله: ويدخل في قسم انتقاد الاعتقاد إلى ما شرطنا بناء الأمر على الحساب حيث جوزنا على التفصيل الذي سبق. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من الإجزاء على القول بالجواز قد تابعه عليه النووي في "الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" في هذا الموضع وصححه في الشرح المذكور في الكلام على ثبوت رمضان عكس ما جزم به هاهنا فقال في الكلام على المنجم والحاسب ما نصه: فيه خمسة أوجه: أصحها: لا يلزمهما ولا غيرهما بذلك -يعني بالتنجيم والحساب-

ولكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما. والثاني: يجوز لهما ويجزئهما. والثالث: يجوز للحاسب ويجزئه، ولا يجوز للمنجم. والرابع: يجوز لهما ويجوز أيضًا لغيرهما تقليدهما. والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم. انتهى كلامه، ونظير المسألة ما إذا عرف المنجم دخول وقت الصلاة بالحساب، وقد تقدم ذلك مبسوطًا في كتاب الصلاة، وما ذكره النووي من عدم الإجزاء مع القول بالجواز بعيد مخالف لكلامهم؛ ولهذا اقتصر ابن الرفعة على الإجزاء نقلًا عن جماعة. قوله: فرعان: أحدهما: لو نوى الانتقال من صوم إلى صوم لم ينتقل. وهل يبطل صومه أم يبقى نفلًا؟ فيه وجهان، كذا لو رفض نية الفرض عن الصوم الذي هو فيه. انتهى ملخصًا. وهذا الكلام يقتضي الجزم ببطلان صوم الفرض إذا كان فيه وإنما الخلاف في أنه هل يبطل أم ينقلب نفلًا؟ ، وهذا لا يستقيم مع ما قاله في أول صفة الصلاة من أن نية الخروج من الصوم لا تبطله على الصحيح. ثم إن الرافعي قد نقله بعدها عن "التهذيب" وليس هو في "التهذيب" كذلك فإنه قال: لو نوى الصائم الخروج عن الصوم أو قال: أبطلت الصوم وترك النية هل يبطل صومه؟ فيه وجهان: أصحهما: يبطل كالصلاة. والثاني: لا يبطل.

ثم قال: فإن قلنا: يبطل، فإن كان هذا في خلال الصوم قضاء أو منذورًا فرفض نية الفرضية هل يبقى نفلًا؟ فيه وجهان. وكذلك لو نوى الانتقال من صوم إلى صوم آخر لا ينتقل إليه. هل يبطل ما هو فيه؟ فيه وجهان. فإن قلنا: يبطل الصوم، فإن كان في غير رمضان هل يبقى نفلًا؟ فيه وجهان. انتهى كلام "التهذيب". والبغوي -رحمه الله- -فرع الوجهين في انقلابه نفلًا على الوجه القائل ببطلان الصوم -وهو كلام صحيح- فحذف الرافعي المفرع عليه وجعلها مسألة مستقلة فوقع في الغلط، وحذف أيضًا تخصيص الوجهين بما عدا رمضان. وقد تفطن النووي للأمرين فقال عقب الكلام الذي تقدم: قلت: الأصح بقاؤه على ما كان عليه. واعلم أن انقلابه نفلًا على أحد الوجهين إنما يصح في غير رمضان، وإلا فرمضان لا ينقلب نفلًا عندنا ممن هو من أهل الفرض بحال، والله أعلم. هذا كلامه. إلا أنه لم يصحح واحدًا من الوجهين. وأيضًا فما ذكره من تخصيص الوجه بغير رمضان لا يستقيم إلا على تقدير الاتفاق على عدم صيروة رمضان نفلًا. وليس كذلك فقد حكى الرافعي بعد هذا قبل الكلام على إيجاب الكفارة على المجامع أن أبا إسحاق ذهب إلى أن من أصبح غير ناو في رمضان فنوى التطوع قبل الزوال صح صومه. ثم حكى عن إمام الحرمين أن قياس هذا الوجه أنه يجوز للمسافر التطوع به. قوله في "أصل الروضة": فرع: لو قال: إذا جاء فلان خرجت من

صومي فهل يخرج عند مجيئه؟ فيه وجهان. فإن قلنا: يخرج، فهل يخرج في الحال؟ وجهان، والمذهب: لا يبطل في الحالين كما سبق بيانه في صفة الصلاة. انتهى كلامه، وفيه أمور: أحدها: أن ما جزم به من حكاية الوجهين: في المسألة الأولى قد ضعفه في صفة الصلاة من "الروضة"، وصحح طريقة القطع بعدم البطلان فقال: لو تردد الصائم في الخروج من صومه أو علقه على دخول شخص ونحوه لم يبطل على المذهب الذي قطع به الجماهير وقيل: وجهان. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن تعبيره بالمذهب بعد حكاية الوجهين لا يستقيم؛ فإن المذهب عنده من الطريقين، ولم يتعرض لهما هاهنا، وكأنه أخذ الترجيح من صفة الصلاة ذاهلًا عن صدر المسألة. الأمر الثالث: أن المسألة الثانية وهى حكاية الخلاف في البطلان عند مجيئه لم يسبق لها ذكر في صفة الصلاة بالكلية لا من كلامه ولا من كلام الرافعي، وليس في كلام الرافعي هنا ما يقتضي تقدم ذكره، فإنه قال: الثاني لو قال: إذا جاء فلان خرجت من صومي فهل هو خارج عن الصوم عند مجيئه؟ فيه وجهان. إن قلنا: نعم فهل يخرج في الحال؟ فيه وجهان، وكل ذلك كما في الصلاة، أورده في "التهذيب" وغيره. هذا لفظ الرافعي. ومراده بالتشبيه بالصلاة إنما هو في جريان الخلاف لا في الصحيح. وهذا الترتيب الذي نقله الرافعي عن البغوي، وتبعه عليه في "الروضة"، وهو ذكر الخلاف عند مجيء زيد.

فإن أبطلناه فهل يبطل في الحال؟ فيه خلاف، وقد ذكره -أعني البغوي- في هذا الباب، وذكر أيضًا -أعنى: البغوي- هذه المسألة بعينها في كتاب الصلاة ورتب الخلاف بالعكس فإنه حكى في البطلان خلافًا ثم قال: فإن قلنا: لا يبطل، فهل يبطل إذا وجدت الصفة؟ فيه خلاف وعليه اقتصر في "شرح المهذب" هنا.

الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات

الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات قوله في "أصل الروضة": ويدل عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في بطلان الصوم بوصول الواصل إليه. انتهى. وما ذكره من كون الحلق من الباطن قد خالفه بعد ذلك في الكلام على قلع النخامة فقال: منعتها لكلام الرافعي. قلت: المختار أن الحاء المهملة أيضًا من الظاهر، وعجب كونه ضبطها بالمهملة التى هى من وسط الحلق ولم يضبطه بالهاء أو الهمزة؛ فإنهما من أقصى الحلق. انتهى. فانظر كيف جعل الحاء المهملة من وسط الحلق وحكم مع ذلك بأنها من الظاهر حتى لا يفطر بالوصول إليه، وهو عكس ما جزم به أولًا, والرافعي نقله عن البغوي وابن القاص. قوله: ثم في الفصل صور: إحداها: الحقنة مبطلة للصوم لحصول الواصل إلى الجوف المعتبر، وعن القاضي الحسين: أنها لا تبطله، وهو غريب. انتهى كلامه. وهذا النقل عن القاضي الحسين لم يثبت؛ فقد صرح القاضي في تعليقه بعكس ذلك فقال: أما إذا احتقن سواء احتقن في قبله أو دبره أفطر. وقال أبو حنيفة: من ناحية القبل لا يفطر ومن ناحية الدبر يفطر. هذا لفظه في إحدى "تعليقتيه". وما ذكره الرافعي أخذه من "المعتمد" للشاشي على عادته في كثرة النقل عنه؛ فإنه قال -أعني الشاشي: ذكر القاضي الحسين أن الحقنة لا تفطر، وهذا الذي ذكره القاضي سهو؛ فإنه اعتقد أن الحقنة التقطير في الإحليل، وليست كذلك وإنما الحقنة عبارة عما يدخل في الدبر من الدواء وذلك ينفذ إلى الجوف، وما يحصل في الإحليل يقال له تقطير. هذا لفظه، وهو أيضًا إنما يقتضي الخلاف في القبل خاصة، والخلاف فيه مشهور، ذكره الرافعي وغيره.

وذكر القاضي الحسين في "تعليقه" أيضًا أنه لو أدخل أصبعه في دبره أفطر، وهو يؤيد ما ذكرناه عنه في الحقنة. نعم اختار في "تعليقته" الأخرى التفصيل كما قاله أبو حنيفة فقال: لو قطر شيئًا في إحليله أو أدخل فيه قطنه: قال أصحابنا: يبطل صومه كما لو احتقن. وعندي أنه لا يفسد؛ لأنه لم يصل إلى جوف التغذي؛ إذ لا منفذ له إلى الجوف. وهذا مذهب أبي حنيفة أيضًا. هذا كلامه. ولا شك أن الوهم وقع للشاشي من هذا الموضع. وذكر الرافعي هنا الغلصة وهى بغين معجمة مفتوحة ولام ساكنة وصاد مهملة. قال الجوهري: هذا الموضع الثاني في الحلق. قوله: السادسة: لا يفسد الصوم بالفصد والحجامة, لكن يكرهان. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على الجزم بالكراهة وبه جزم في "التنبيه"، وأقره عليه النووي في تصحيحه، ثم جزم -أعني: النووي- في "شرح المهذب" بأنهما خلاف الأولى ولم يذكر الكراهة أصلًا. وقد نص الشافعي في "البويطي" على ما يعضد هذا فإنه قال: وللصائم أن يحتجم وتركه أحب إلى. هذا لفظه بحروفه، وكذلك في "الإملاء" في باب نهى المعتكف فقال: ولا بأس أن يحتجم الصائم. هذا لفظه أيضًا، ومن "البويطي" و"الإملاء" نقلته. وعن "الأم" كما في "البويطي"، وذكر الروياني في "البحر" مثله فقال: ظاهر المذهب أن الحجامة لا تكره، وقال بعض أصحابنا بكراهتها، وجزم الجرجاني في "التحرير" بأنهما لا تكرهان، وصرح به أيضًا في كتابه "الشافي" لكنه اقتصر على ذكر الحجامة. وذكر مثله الماوردي أيضًا؛ فثبت أن الفتوى على خلاف المذكور في الرافعي و"الروضة".

قوله: ولو وجأ نفسه فوصل السكين إلى جوفه أفطر. وحكى الحناطي وجهين في من دخل طرف الخيط في دبره أو في جوفه وبعضه خارج هل يفطر؟ فيجوز أن يعلم لأجله قول الغزالي وإن كان بعض السكين خارجًا بالواو. انتهى. وهذا الوجه قد أسقطه من "الروضة" حتى ادعى لأجل ذلك في "شرح المهذب" أنه لا خلاف فيه مع حكايته للخلاف في نظيره من الخيط، وليت شعري ما الفرق الذي تخيله بينهما، وقد صرح في "الشرح الصغير" بالوجه فيهما. وأما وجأ -فبالجيم وبالهمز في آخره، ومعناه: ضرب؛ تقول: وجأت عنقه وجًا بالسكون أي: ضربته. قوله في "الروضة": ولو ابتلع طرف خيط بالليل وطرفه الآخر خارج فأصبح كذلك، فإن تركه لم تصح صلاته وإن نزعه أو ابتلعه لم يصح صومه فينبغي أن يبادر غيره أو هو إلى نزعه وهو عاقل، فإن لم يتفق ذلك فالأصح أنه يحافظ على الصلاة فيبتلعه أو ينزعه. والثاني: يتركه محافظة على الصوم. انتهى. فهذه المسألة قد ذكرها في نواقض الوضوء من "شرح المهذب"، واقتضى كلامه رجحان المحافظة على الصوم؛ فإنه قال: فيه وجهان: أرجحهما عند القاضي وغيره: أن مراعاة صحة الصوم أولى؛ لأنها عبادة دخل فيها فلا يبطلها. هذا لفظه من غير معارض له بالكلية، وحكى معه وجهًا آخر أن الطاهر الواصل إلى محل النجاسة لا يضر حمله. قوله: بل لو فتح فاه عمدًا حتى وصل الغبار إلى جوفه فقد قال في "التهذيب": في أصح الوجهين أنه يقع عفوًا، وشبهوا هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا قتل البراغيث عمدًا وتلوث بدمائها هل يقع عفوًا؟ انتهى. فأما ما ذكره صاحب "التهذيب" فقد صححه النووي في "فتاويه"، وعبر في "الروضة" و"شرح المهذب" كما عبر الرافعي.

وأما قتل البراغيث عمدًا فقد أسقطه من "الروضة" هنا ولم يذكره أيضًا في موضعه، وكأنه توهم تقديمه إياه فأسقطه، وقد صرح به في "التحقيق" في أبواب الصلاة فقال بعد تصحيحه: إن دم البراغيث لا يضر قليله ولا كثيره ما نصه: ولو قتل قملا ونحوه في ثوبه أو بدنه أو حمل ثوب براغيث أو صلى عليه إن كثر ضر وإلا فلا في الأصح. هذا لفظه، وذكر قريبًا منه في "شرح المهذب" فاعلمه. قوله: نعم لو كان مغمي عليه فأوجر معالجة وإصلاحًا ففيه وجهان: أحدهما: أنه يفطر؛ لأنه لمصلحته فكأنه بإذنه. وأصحهما: لا يفطر كإيجار غيره بغير اختياره، وهذا الخلاف كالخلاف في المغمى عليه المحرم إذا عولج بدواء فيه طيب هل تلزمه الفدية؟ انتهى. وظاهر هذا الكلام أن الثانية كالأولى في إلحاقه بفعل الغير حتى لا تلزمه الفدية. إذا علمت ذلك فقد ذكر المسألة قبيل باب محرمات الإحرام، وصحح أنه كفعله حتى تلزمه الفدية ثم شبه بهما الوجهين في الصوم وهو عكس ما ذكره هنا، وستعرف لفظه إن شاء الله تعالى هناك. قوله: ولو أخرج لسانه وعليه الريق ثم رده وابتلع ما عليه ففيه وجهان: أظهرهما -وهو المذكور في "النهاية"- أنه لا يبطل صومه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد صحح البطلان على عكس المذكور هنا، وعبر بالأصح. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تابع الرافعي على الجزم بطريقة الوجهين، ثم إنه في "شرح المهذب" حكى فيه طريقين وصحح

طريقة القطع بعدم الإفطار فقال فيه طريقان حكاهما البغوي وغيره: المذهب وبه قطع المتولي أنه لا يفطر وجهًا واحدًا؛ لأنه لم ينفصل. والثاني: في إفطاره وجهان. هذا لفظه. وقد جزم الغزالي في "البسيط" بأنه لا يفطر، وكذلك الإمام في "النهاية"، ونقله عن الأئمة، وما نقله في "شرح المهذب" عن البغوي من حكاية الطريقين ليس كذلك، بل فيه الجزم بحكاية وجهين فاعلمه، إلا أن يريد أن "المجموع" حكى المجموع. قوله: قال الشافعي: وأكره العلك؛ لأنه يحلب الفم. قال بعض الشارحين: كأنه حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة، وقال آخرون: أراد بقوله يحلب الفم أنه يطيب النكهة ويزيل الخلوف فلذلك كرهه. وهذا كله إذا كلان العلك صلبًا مستعملًا لا ينفصل منه شئ، فإن كان جديدًا متفتتًا فوصل منه شيء إلى الجوف أفطر. انتهى ملخصًا. والعلك: بفتح العين مصدر علك يعلك بضم اللام أي: مضغ، كذا قاله النووي في "لغات التنبيه"، وفي "الكفاية": أن التقدير مضغ العلك. قال: وهو كما قال البندينجي: أي الذي كلما مضغته صلب وقوي. هذا كلامه. ومقتضاه أنه اسم للشيء لا مصدر. وقد جمع النووي في "شرح المهذب" بينهما فقال: العلك بكسر العين هو هذا المعروف، ويجوز بفتح العين ويكون المراد الفعل وهو مضغ العلك وإدارته. هذا كلامه.

وأما قول الشافعي: يحلب، فنقل النووي في "تهذيبه" و"شرح المهذب" عن "البحر" أنه يروى بالجيم وبالحاء المهملة؛ فمن قال بالجيم فمعناه: يجمع الريق فربما ابتلعه وذلك يبطل الصوم في أحد الوجهين ومكروه في الآخر. وقيل: معناه يطيب الفم ويزيل الخلوف. ومن قال بالحاء قال معناه: يمص الريق ويجهد الصائم. وأما قوله: حاذر بالحاء المهملة: أي: خشى منه. وهذا الكلام الذي ذكره الرافعي قد أسقطه في "الروضة" ثم ذكر بعد هذا استحباب ترك العلك، وسأذكر لفظه هناك. قوله: الثانية: النخامة إذا حصلت في حد ظاهر الفم بانصبابها من الدماغ ثم نزلت إلى الباطن، فينظر إن لم يقدر على ردها لم يضر، وإن قدر ولكن ابتلعها قصدًا ضر، وإن تركها حتى نزلت بنفسها ففيه وجهان؛ أوفقهما لكلام الأئمة أنه يضر. ثم قال: ونقل عن "الحاوي" وجهان مطلقًا في الإفطار بالنخامة، والوجه تنزيلهما على الحالة التي حكينا الخلاف فيها. انتهى كلامه. وما حاوله الرافعي من رد هذا الخلاف إلى النزول بنفسها، والجزم بالبطلان عند الابتلاع ليس كذلك؛ فقد صرح الماوردي بهما في حال الابتلاع وزاد على ذلك وصحح أنه لا يضر فإنه قال: فأما النخامة إذا ابتلعها ففيه وجهان، ثم قال: والصحيح أنه أخرجها من صدره ثم يبلعها فقد أفطر كالقيء، وإن أخرجها من حلقه أو دماغه لم يفطر كالريق. هذا كلامه.

ثم إن شيخه الشيخ أبا حامد قد صرح بحكايتهما في هذه الحالة ونقله عن الغزالي في "الزوائد" وكذلك في "البيان" أيضًا، وعلل عدم البطلان بأن جنسهما معفو عنه. وحذف النووي مقالة "الحاوي" ظنًا منه أن الأمر على ما فهمه الرافعي، وقد تبين بطلانه. وهذه المسألة قد ذكر في "شرح المهذب" ما يشكل عليها فقال: فرع: لو طعنه غيره طعنة وصلت جوفه فغير أمره لكن أمكن دفعه فلم يدفعه ففي فطره وجهان حكاهما الدارمي، أقيسهما: أنه لا يفطر؛ لأنه لا فعل له. قوله في "أصل الروضة": فرع: إذا تمضمض ذاكرًا للصوم فسبق الماء إلى جوفه. أو استنشق فسبق إلى دماغه فالمذهب أنه إن بالغ فيهما أفطر وإلا فلا. وقيل: يفطر مطلقًا، وقيل عكسه. انتهى كلامه. اعلم أن منقول المزني أنه يفطر، ومنقول الربيع عكسه، والمذهب على اصطلاح النووي من الطرق لا من الأقوال ولا من الوجوه، وكلامه يقتضي أن في المسألة ثلاث طرق كل منها يأتي للخلاف: أصحها حمل النصين على حالين. والثانية: القطع بالفطر بالغ أم لا. والثالثة: القطع بعدمه مطلقًا. فهذا الاختصار مخالف لكلام الرافعي زيادة ونقصانًا فإنه ذكر ما ملخصه منقول المزني في "المختصر" أنه يفطر، ومنقول الربيع في اختلاف العراقيين عدم الفطر؛ فقال بعضهم: ولا يفطر قطعا وأول من نقله المزني.

وقال بعضهم: إن بالغ أفطر قطعًا وإلا فلا قطعًا، وحمل النصين عليهما. والأصح أن المسألة على قولين، وفي محلهما طرق: أصحها: أنه عند المبالغة، وإن لم يبالغ لم يفطر جزمًا. والثانية: إذا لم يبالغ فإن بالغ أفطر قطعًا والثالثة: أنهما جاريان في الحالين. انتهى ملخصًا، وقد علمت منه أن القطع بالفطر -أي: عند المبالغة وعدمها- ليس في الرافعي وأن في الرافعي طرق أخرى ليست في "الروضة". منها: أن المسألة على قولين إذا لم يبالغ، فإن بالغ أفطر قطعًا. ومنها: أن محلهما إذا بالغ وإلا لم يفطر قطعا. ومنها: أن القولين جاريان مطلقًا. فإن كان مراد النووي بما صدر به كلامه أولا هي طريقة القولين فيرد عليه أن القولين ليسا في الحالين كما بيناه، هذا مع أن اللفظ أيضًا لا يقتضي هذا الحمل بل تتعذر إرادته، وبالجملة فقد صرح بعد هذا من زوائده بما اقتضاه كلامه فقال: المختار في الرابعة الجزم بالإفطار كالمبالغة هذه عبارته. نعم الذي ذكره في "الروضة" هو حاصل الأقوال، المستفادة من هذه الطرق، فلو عبر بقوله، ففيه طرق حاصلها أقوال ثم يذكر ما ذكر فيها لاستقام. وكأنه أراد أن يذكر هذا فنسيه في الاختصار ثم اغتر به فذكر بعد هذا من "زوائده" ما نقلناه عنه. واعلم أن الرافعي في "المحرر" قد جزم بأن القولين فيما إذا لم يبالغ،

فإن بالغ أفطر قطعًا على عكس ما صححه الرافعي في "الشرح الكبير" و"الشرح الصغير". قوله: وسبق الماء عند غسل الفم لنجاسة كسبقه في المضمضة والمبالغة هاهنا للحاجة ينبغي أن تكون كالسبق في المضمضة أي: لا مبالغة. انتهى. وهذا الذي ذكره هنا بحثا قد جزم به في "الشرح الصغير". قوله من "زوائده": ولو جعل الماء فيه لا لغرض فسبق فقيل: يفطر، وقيل بالقولين. انتهى. ومراده بالقولين هما القولان في مسألة المضمضة، وقد تقدم أن كلامه لا يدل على قولين فيهما بالكلية، وقد تبين في "شرح المهذب" أن ناقل الطريقين هو المتولي، والمتولي لما حكاهما جعل الطريقة الثانية على الخلاف الذي في المضمضة ولم يخصه بقولين، وهذا هو الصواب. قوله: لو بقي طعام في خلل أسنانه فجرى به الريق من غير قصد فمنقول المزني أنه لا يفطر، ومنقول الربيع أنه يفطر؛ وقيل: قولان، والأصح أن المسألة ليست على القولين، واختلف القائلون بهذا، فمنهم من قال ورواية المزني: ، فيما إذا لم يقدر على تمييزه ومجه، ورواية الربيع: فيما إذا قدر. وتوسط الإمام والغزالي فقالا: إن لم يتعهد تنقية الأسنان ولم يخلل فهو كصور المبالغة في المضمضة، وإن نقاها على الاعتياد فهو كغبار الطريق. انتهى ملخصًا. والأصح من الطريقين المفرعين على الطريقة الثانية هى الطريقة الأولى -أعني: المفصلة بين القدرة على التمييز وعدمه- فقد صححها في "الشرح الصغير" وجزم بها النووي في "أصل الروضة" ولم يذكر المقالة الثانية فتوجه عليه اعتراضان: إسقاط طريقة، وزيادة تصحيح.

قوله: الخامسة: إذا خرج المني بالاستمناء أفطر، وإن خرج بمجرد الفكر والنظر بشهوة لم يكن مفطرا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن خروجه بالنظر وإن لم يكن مفطرا لكنه يأثم بتكرر النظر كذا جزم به القاضي الحسين والشيخ أبو حامد في "تعليقه" الذي علقه عنه البندنيجي، والماوردي في "الحاوي"، والقاضي أبو الطيب في "تعليقه"، والروياني في "البحر" وفي "المختصر" المسمى "بكتاب المبتدئ" -بكسر الدال- ونقله في "شرح المهذب" عن الماوردي فقط ولم ينقل خلافه، وجزم البندنيجي في "الذخيرة" وأبو الخير سلامة بن جماعة المقدسي في "شرح المفتاح" بأن التكرار مكروه. الثاني: أن ما ذكره في إنزال المني محله في الواضح، أما المشكل فلا يفطر بإنزاله من أحد الفرجين لاحتمال الزيادة، قاله في "البيان"، ونقله النووي في باب نواقض الوضوء من "شرح المهذب". وهكذا حكم الجماع والحيض، وقد أوضحته في "كتاب الإيضاح". قوله: وإن خرج بمباشرة فيما دون الفرج أو لمس أو قبلة أفطر، وحكى إمام الحرمين عن شيخه أنه حكى وجهين فيما إذا ضم امرأة إلى نفسه وبينهما حائل فأنزل قال: هو عندي كسبق ماء المضمضة. فإن ضاجعها متجردًا فكمبالغة في المضمضة. انتهى ملخصًا. وقد علمت منه أنه إذا تعاطي هذه الأمور بلا حائل فأنزل أفطر، وفيه الخلاف الذي ذكره الإمام، وإن كان مع الحائل، فإنه لا يفطر على الترجيح الذي ذكره الإمام ولم يذكر ما يوافقه ولا ما يخالفه.

والذي اقتضاه كلام الإمام من عدم الفطر عند الحائل قد ذكر الغزالي أيضًا نحوه، وجزم به أيضًا المتولي والروياني ونقله في "الكفاية" عن الجمهور، فتفطن لما ذكرته، والتعبير بالمباشرة يدل عليه؛ فإن مدلولها التقاء البشرة. قوله: وتكره القبلة للشاب الذي تحرك القبلة شهوته ولا يأمن على نفسه، ولا تكره لغيره، وإن كان الأولى الاحتراز. ومن كرهنا له القبلة فهل ذلك على سبيل التحريم أو التنزيه؟ حكى في "التتمة" فيه وجهين؛ والأول هو المذكور في "التهذيب". انتهى. لم يرجح شيئًا منهما أيضًا في "الشرح الصغير" ولا تعرض لبيان هذه الكراهة في "المحرر". والأصح أنها كراهة تحريم، كذا صححه النووي في "أصل الروضة" وفي غيرها من كتبه، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له؛ فإن هذا الوهم قد سرى إليه هو في "شرح المهذب" فقال: قال الرافعي وغيره: الأصح أنها كراهة تحريم. وما صححه النووي من التحريم قد نص عليه الشافعي كما نقله القاضي أبو الطيب في "تعليقه" فإنه قال ناقلًا عن المزني: مسألة قال -يعني الشافعي: ومن حركت القبلة شهوته كرهناها له، وإن فعل لم ينتقض صومه، وتركها أفضل. وهذا الكلام ليس على ظاهره، وقد ذكره الشافعي في "الأم". ثم إن المزني نقل بعضه وأخل بالبعض؛ وذلك أن الشافعي قال في

"الأم": ومن حركت القبلة شهوته فالقبلة محرمة عليه، ومن لم تحرك القبلة شهوته كرهناها له وإن فعل لم ينتقض صومه. فنقل المزني المسألة الأولي دون حكمها ونقل حكم الثانية هذا كلام القاضي. وقد علم منه أيضًا كراهتها عند الأمن على خلاف ما جزم به الرافعي والنووي. واعلم أن ذكر الشاب إنما هو؛ لأن الغالب أن خوف الإنزال إنما يحصل له، ولا فرق في الحكم بين الشاب والشيخ كما قاله في "شرح المهذب"؛ ولذلك حذف لفظ الشاب من "الشرح الصغير" و"الروضة". وإسقاطه يؤخذ منه أيضًا التسوية بين الرجل والمرأة، وهو متجه. وقوله: ولا يأمن على نفسه أي: من الجماع أو من الإنزال كما صرح بهما في "التتمة"، وإن كان في كلام بعضهم الاقتصار على أحدهما، ولكن المراد ما ذكرناه. قوله: السادسة: لو أكره حتى أكل بنفسه، ففيه قولان: أحدهما: لا يفطر؛ لأن حكم اختياره ساقط وأكله ليس منهيًا عنه؛ فأشبه الناسي. والثاني: يفطر؛ لأنه أتى بضد الصوم ذاكرًا له غايته أتى به لدفع الضرر عن نفسه، ولا أثر له في دفع الفطر كما لو أكل لدفع الجوع، وهذا أصح عند صاحب الكتاب. انتهى كلامه. وقد اختصر هذا الكلام في "الروضة" بقوله: فلو أكره على الأكل لم يفطر على الأظهر.

هذه عبارته، وحاصله أنه انعكس عليه تصحيح الغزالي، ثم إنه أطلق التصحيح على عادته في عدم الإعزاء فوقع الغلط. وقد ذكر في "المحرر" أيضًا نحو ما ذكره في "الشرح" فقال: قولان رجح منهما البطلان، وقال في "الشرح الصغير": أصح القولين عند الغزالي أنه يفطر، ولا يبعد ترجيح الصحة. انتهى. وهذا النقل عن الغزالي هو في "الوجيز" خاصة، وجزم في "الخلاصة" في الكلام على الجماع بأنه لا يفطر، وحكى في "البسيط" و"الوسيط" قولين من غير ترجيح. وقد نقل -أعني النووي- في "شرح المهذب" عن الرافعي أنه صحح عدم الفطر فقال ما نصه: أصح القولين أنه لا يبطل وممن صححه الرافعي في "الشرح الكبير"، ولا يعتبر بتصحيح الرافعي في "المحرر" البطلان وقد نبهت عليه في "مختصر المحرر". انتهى. وكلا النقلين عن الرافعي غير مسلم، أما نقله عن "الشرح" فغلط صريح، وأما عن "المحرر" فقريب من ذلك؛ لأن عبارة "المحرر": رجح بالبناء للمفعول كما تقدم؛ فكأنه قال رجحه بعضهم. وسبب وقوع هذا الوهم للنووي أنه لما صنف "الروضة" وحصل له فيها هذا الوهم وصنف "المنهاج" فعبر فيه بالصحيح بدلًا عن قول الرافعي رجح صار يأخذ منهما ويعزوه للرافعي. قوله في المسألة: ويجري القولان في ما لو أكرهت المرأة حتى مكنت، وكذلك في ما إذا أكره الرجل حتى وطأ إن قلنا بتصور الإكراه على الوطء نعم لا تجب الكفارة وإن حكمنا بالإفطار للشبهة، فإن قلنا: لا يتصور، بطل الصوم ولزمته. انتهى.

فيه كلام مذكور في الجنايات يتعين الوقوف عليه. قوله: ولو نسى فأكل أكلًا قليلًا لم يفطر، وإن كثر ففيه وجهان كالوجهين في بطلان الصلاة بالكلام الكثير. انتهى. وما ذكره من كون الوجهين هنا كالوجهين هناك قد سبق منه في الصلاة ما يخالفه؛ فإنه جعل الوجهين مرتبين فراجعه. قوله في المسألة: قلت: الأصح هنا أنه لا يفطر، والله أعلم. انتهى كلامه. وما جزم به في هذه المسألة من إثبات الخلاف وقد خالفهما معًا في "شرح المهذب" فإنه حكى فيه طريقين: أحدهما: هذه. والثانية، القطع بعدم الفطر، ثم صححها فقال: المذهب المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه لا يفطر وجهًا واحدًا، وقيل: وجهان. قوله: فإن أكل جاهلًا بكونه مفطرًا، فإن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ ببادية، وكان يجهل مثل ذلك لم يفطر، وإلا أفطر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن التعبير بالجهل بالإفطار قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وهي عبارة مدخولة؛ فإنها تقتضي أن من جهل الإفطار به لم يفطر وإن علم التحريم، وليس كذلك؛ فإن نظيره من الكلام في الصلاة مبطل لها كما تقدم في موضعه، وبه صرح الإمام هناك فقال: لو تكلم الرجل عالمًا بأن الكلام محرم في الصلاة ولكن لم يعلم كونه مفسدًا؛ فتفسد صلاته به وفاقًا. وهذا يطرد في الصوم وغيره. هذا لفظ "النهاية".

فثبت أنه دائر مع الجهل بالتحريم لا مع الجهل بالإفطار، وبذلك عبر في "شرح المهذب". نعم إن علم أن جنس الأكل محرم ولم يعلم أن ما أتى به محرم من ابتلاع درهم أو حصاة أو تراب أو نحوها مفطر فهو نظير ما إذا علم المصلي أن جنس الكلام محرم ولم يعلم أن ما أتى به محرم، وقد قال النووي في "أصل الروضة": إنه معذور على الأصح، وقد صرح القاضي حسين في "تعليقه" في الكلام على خيط الخياطة بحكاية وجهين في أمثال هذه الأشياء فقال: كل مسألة تدق وتغمض معرفتها هل يعذر فيها العامي؟ على الوجهين. الأمر الثاني: أن مقتضى كلام الرافعي أنه لا فرق في عدم الفطر في حق الجاهل بين قليل الأكل وكثيره، وهو متجه. وكلامه في "الشرح الصغير" يقتضي جريان الخلاف المذكور في الناسى؛ فإنه قال بعد حكايته: والجاهل القريب العهد بالإسلام كالناسي. هذا لفظه، ومقتضاه البطلان بالكثير على الصحيح عنده. وقد صرح بذلك في نظير المسألة وهو الجاهل بتحريم الأكل في الصلاة، وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. بل بطلان الصوم به أولى من بطلان الصلاة؛ لأنه عكسه، وحقيقة الصوم وهو الإمساك، وحقيقة الصلاة أفعال وأقوال والإمساك ليس منها. قوله: ولو جامع ناسيًا لم يفطر، وقيل قولان كجماع المحرم ناسيًا. انتهى.

تبعه عليه في الروضة، وهو يقتضي أنه لا فرق بين أن يطول زمن الجماع أم لا. وقياس ما سبق في الأكل عند الرافعي من التفصيل المذكور أن يأتي هنا أيضًا، بل أولى؛ لأنه دائر بين اثنين إن نسى أحدهما فيذكره الآخر، بخلاف الأكل. وقد عبر في "المحرر" بعبارة صريحة في مجيء التفصيل، فإنه بعد إيضاحه في الأكل عبر بقوله: والجماع كالأكل على الأصح. وذكر مثله في "المنهاج" إلا أنه عبر بالمذهب. قوله في "أصل الروضة": ولو كل ظانًا غروب الشمس فبانت طالعة، أو ظن أن الفجر لم يطلع فبان طالعًا أفطر على الصحيح. انتهى. وتعبيره في المسألة الثانية بقوله أفطر تعبير غير مستقيم فإنه لم يزل مفطرًا؛ إذ لم ينعقد صومه، وتعبير الرافعي صحيح، فإنه عبر بقوله: لم يجزئه. قوله فيها أيضًا: فلو هجم في الطرفين فأكل بلا ظن فإن تيقن الخطأ فحكمه ما سبق في الفرع قبله. انتهى كلامه. ذكر الرافعي نحوه أيضًا. ويعني بالفرع الذي قبله ما إذا أكل ظانًا غروب الشمس فبانت طالعة، لكنه قد تقدم فيه خلاف في أنه هل يفطر أم لا؟ ولا يمكن القول به فيما إذا هجم في آخر النهار وبان أنها لم تغرب؛ لأن الرافعي قد جزم في الحال المذكور وهو الهجوم في آخر النهار بأن

القضاء يجب إذا لم يتبين الحال فكيف يجئ مع الجزم عند الجهل أن يتردد مع تبين الخطأ؟ . قوله من "زوائده": والأكل هجوما بلا ظن حرام في آخر النهار وجائز في أوله, وقال الغزالي في "الوسيط": لا يجوز، ومثله في "التتمة"، وهو محمول على أنه ليس مباحًا مستوي الطرفين بل الأولى تركه. ثم قال: ولا خلاف في الجواز لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ}. . . . إلى آخره. وهذا التأويل الذي ذكره النووي مع كونه مخالفًا لمدلولات الألفاظ ومؤديًا إلى عدم الوثوق بما يقع في عبارتهم ذهول عما ذكره في "التتمة": فإن هذه المسألة قد ذكرها في المسألة الثانية من الباب الثالث من كتاب الصوم وبعد ذكره لها ذكر في المسألة الثالثة ما ينفي هذا التأويل فإنه ذكر أن القضاء يجب على كل من أكل شاكًا في طلوع الفجر ثم تبين له طلوعه، وعلله بقوله: لأن التقصير منه حيث اشتغل بالأكل مع علمه بأن الأكل بالنهار حرام من غير أن يتحقق بقاء الليل. هذا لفظه، فصرح بالتحريم. ونقل ابن الرفعة عن البغوي أنه يكره، وحينئذ فيكون فيه ثلاثة أوجه. قوله: ولو طلع عليه الفجر وفي فيه طعام فلفظه في الحال فسبق شيء إلى جوفه بغير اختياره فوجهان مخرجان من سبق الماء في المضمضة. انتهى ملخصًا. والأصح منهما أنه لا يفطر، كذا صححه في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة".

قوله في "أصل الروضة": أما إذا طلع الفجر وعلمه بمجرد الطلوع فمكث بطل صومه قطعًا وتلزمه الكفارة على المذهب، وقيل: قولان. انتهى. واعلم أن الرافعي أيضًا قد عبر بقوله: فسد صومه، وكلا العبارتين مشعرة بانعقاد الصوم وطروء الفساد عليه، وهو الذي جزم به أبو علي الطبري في "الإفصاح"، والقاضي الحسين في "تعليقه"، ونقله في "النهاية" عن شرذمة وادعى أنه خيال ومحال، والمعروف في المذهب أنه لم ينعقد، فقد قال في "النهاية": الذي ذهب إليه معظم الأئمة في المذهب أن الصوم لم ينعقد، وسبب وجوب الكفارة منع عقد الصوم بالجماع، والمنع في معنى القطع. . . . إلى آخر كلامه. وقال الشيخ أبو حامد: إن من قال: انعقد ثم فسد لا يعرف في مذهب الشافعي. وذكر مثله البندنيجي ونقله عنه في "شرح المهذب" واقتصر عليه، وصرح أيضًا بأن الكفارة لأجل عدم الانعقاد جماعة كثيرة منهم: الماوردي في "الحاوي"، والمتولي في "التتمة"، وسليم الرازي في "رؤوس المسائل"، وذكر القاضي أبو الطيب في "تعليقه" نحوه أيضًا. وهذا الخلاف الذي ذكرناه في انعقاد الصوم، وقد صرح به أيضًا الرافعي في كتاب الحج قبيل الكلام على سنن الإحرام بنحو ورقة وصفحة، وسوف أذكره هناك إن شاء الله تعالى.

القول في شرائط الصوم

القول في شرائط الصوم: وهى أربعة: الأول: النقاء من الحيض والنفاس: فلا يصح صوم الحائض ولا النفساء. انتهى. هذا الكلام يوهم أن الصائمة إذا ولدت ولم تر نفاسًا لا يبطل صومها، والصحيح بطلانه كما قاله في "شرح المهذب" هنا وفي باب الغسل. قوله: ولو نوى بالليل ثم شرب دواء فزال عقله نهارًا، قال في "التهذيب": إن قلنا: لا يصح الصوم في الإغماء فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والأصح: لا يصح؛ لأنه بفعله. انتهى. وقد أطلقوا هذا الكلام ولم يفصلوا بين أن يكون الشرب لحاجة أو لا لحاجة، وقد جعلوا في الصلاة شرب الدواء للحاجة بمثابة الإغماء حتى إن القضاء؛ فينبغي هنا أيضًا إلحاقه به حتى يصح الصوم، إلا أن يقال: الفارق بينهما مشقة قضاء الصلاة دون الصوم؛ ولهذا الفرق أوجبوا القضاء هنا في الإغماء إذا استغرق الوقت، بخلاف الصلاة، وهذا أيضًا خيال ضعيف؛ فإنهم لم يجعلوا المدرك هنا المشقة وعدمها بل عللوه بكونه من فعله. وقد صرح في "التتمة" بأنه يعذر كما ذكرته؛ فيتعين المصير إليه، وسأذكر لفظه. هذا التصحيح السابق من كلام البغوي لا من كلام الرافعي فاعلمه. وقد ذكر مثله الخوارزمي في "الكافي" حكمًا وتعليلًا وتصحيحًا، وفيه

كلام آخر يأتي عقب هذا. قوله: قال في "التتمة": ولو شرب المسكر ليلًا وبقي سكره جميع النهار لزمه القضاء، وإن صحا في بعضه فهو كالإغماء في بعض النهار. انتهى. وإطلاق النقل السابق يقتضي أن زوال العقل بشرب الدواء في بعض النهار ليس كالإغماء يقتضي الإبطال؛ والقول به مع القول بما صرح به هنا؛ وهو أن زواله في بعض النهار بالسكر كالإغماء في غاية التباين، اللهم إلا أن تكون المسألة السابقة مفروضة فيما إذا كان الزوال في جميع النهار، فإن حمل على هذا استقام، وهذا هو الكلام الذي تقدم الوعد بذكره، وهذا الكلام الذي نقله الرافعي عن "التتمة" ذكره في المسألة السادسة من الباب الخامس فقال: إذا شرب بالليل وبقي سكران طول نهاره فعليه قضاء الصوم، وإن امتد السكر في بعض النهار فهو كالإغماء. فأما إذا شرب دواء حتى زال عقله فإن شربه للتداوي فهو كالمجنون، وإن شربه سفاهة فهو كالسكران. هذا كلامه. وقد تقدم الوعد في المسألة السابقة بذكر ما ذكره في الدواء، وهذا الذي ذكره فيه -أعني في الدواء- يقتضي أنه إذا زال العقل به في بعض النهار فإن كان لحاجة أبطل لأنه جعله كالمجنون، وإن كان لا لحاجة بل سفهًا صح الصوم؛ لأنه جعله كالإغماء، وهذا واضح الإشكال. والمسألة جميعها مشكلة؛ فقد رأيت مسألة السكر في جميع النهار في "فتاوى القفال"، وجزم بأن القضاء لا يجب، على عكس ما نقله الرافعي عن "التتمة" وسكت عليه، وعلله -أعني: القفال- بأن السكران مخاطب. قوله: أما إذا ارتد ثم جن أو سكر ثم جن، ففي وجوب القضاء وجهان. ولعل الظاهر الفرق بين اتصاله بالردة وإتصاله بالسكر كما سبق في

الصلاة. انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير بقوله: ولعل الظاهر، وصرح في "شرح المهذب" بأنه الصحيح. قوله: وذكر الإمام أن القاضي الحسين سلك مسلكًا يفضي إلى تنزيل يوم العيد منزلة يوم الشك. قال: وما يراه قاله عن عقد. انتهى. وهذه المقالة تقتضي إثبات خلاف في صحة صومه، وقد حذفها النووي من "الروضة". وقوله: عن عقد: هو بالدال بعد القاف؛ أي: عن اعتقاد بلا شك وإظهارًا للملكة في المباحث فاعلمه. فإن نسخ الرافعي وقع فيها عقل باللام، وعبارة الإمام ترشد إلى ما قلنا، وصرح به الغزالي في "البسيط" فقال: إن قاله القاضي عن اعتقاد فعلى خلاف المذهب. قوله: وهل يجوز للمتمتع العادم للهدى صوم أيام التشريق عن الثلاثة اللازمة عليه؟ فيه قولان: القديم: أنه يجوز؛ لما روى عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة في العشر أن يصوم أيام التشريق (¬1). والجديد -وبه قطع بعضهم-: أنه لا يجوز؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال" (¬2). انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1894). (¬2) أخرجه أبو داود (2419) من حديث عمرو بن العاص وفى الباب عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

وهذه الطريقة النافية للقديم نقلها الرافعي في أواخر الكلام؛ لأجل ذلك لم يتفطن لها النووي فأسقطها من "الروضة". والحديث الأول رواه البخارى، والحديث الثاني -وهو النهى عن صيامها- رواه أبو داود بإسناد صحيح من رواية عمرو بن العاص، وفي "صحيح مسلم" (¬1): "إنها أيام أكل وشرب وذكر لله" والبعال: بكسر الباء الموحدة وبالعين المهملة: هو الجماع؛ ومن هاهنا نقل ابن حزم عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد. ذكر ذلك في حديث النهى عن صوم المرأة إلا بإذن بعلها إذا كان حاضرًا. ولكن المعروف في كتب اللغة أن البعل هو الزوج، على خلاف ما قاله. قوله: وإذا جوزنا للمتمتع العادم للهدي صوم أيام التشريق فهل يجوز صومها لغيره؟ فيه وجهان: الأكثرون على أنه لا يجوز. . . . إلى آخره. استدرك عليه في "الروضة" فقال من "زياداته": وإذا جوزناه لغير المتمتع، فهو مختص بصوم له سبب من واجب أو فعل. فأما ما لا سبب له فلا يجوز عند جمهور من ذكر هذا الوجه. هذا الذي استدركه قد صرح به الرافعي عند الكلام على صوم المحبوس إذا اجتهد فوافق ذا الحجة؛ فالغريب أن الرافعي قد صرح به أيضًا هنا في التعليل فإنه قال ما نصه: قال أبو إسحاق: نعم؛ لأن تجويز صومها للمتمتع إنما كان؛ لكونه صومًا له سبب، فيجوز مثل هذا الصوم لكل أحد دون التطوعات المحضة. ¬

_ (¬1) حديث (1441) من حديث نبيشة الهذلي - رضي الله عنه -.

هذا لفظه فحذفه النووي حالة الاختصار ظنًا منه أنه تعليل محض لا تقييد للمسألة، ثم رأي بعد ذلك أنه لابد منه فاستدركه على الرافعي ظنًا أنه لم يذكره. قوله: وأما يوم الشك فقد روي عن عمار بن ياسر أنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم (¬1). ثم قال: فلا يجوز صومه عن رمضان ويجوز صومه عن قضاء ونذر وكفارة، وكذا إذا وافق ورده في التطوع بلا كراهة. روى عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تستقبلوا رمضان بيوم أو يومين إلا أن يوافق ذلك صيامًا كان يصومه أحدكم" (¬2). وعن القاضي أبي الطيب أنه يكره أن يصومه عما عليه من فرض. قال ابن الصباغ: هذا خلاف القياس، لأنه إذا لم يكره فيه ما له سبب من التطوعات فلأن لا يكره فيه الفرض كان أولى. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه لم يبين الورد، وقد أوضحه في "شرح المهذب" فقال: فإن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2334) والترمذى (686) والنسائي (2188) وابن ماجه (1645) والدارمى (1682) وابن خزيمة (1914) وابن حبان (3585) من حديث عمار - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وعلقه البخاري في "صحيحه" عن صلة. وقال الألبانى: صحيح. (¬2) أخرجه الترمذى (1684) وأحمد (10455) والشافعى (908) والدارقطنى (2/ 159) من حديث أبى هريرة. قال الترمذى: حسن صحيح. وقال الدارقطنى: كلهم ثقات. وقال الألباني: صحيح.

كان له سبب بأن كان عادته صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كيوم الاثنين فصادفه جاز صومه بلا كراهة. انتهى. وفي تجويزه في القسم الأول نظر. الثاني: أن مقتضى كلامه رجحان عدم الكراهة في قيامه عن الفرض، وقد صرح بذلك في "شرح المهذب" فقال: إنه مقتضى كلام الجمهور. واعلم أن ما قاله القاضي أبو الطيب من الكراهة ظاهر، وما نقله الرافعي عن ابن الصباغ من قياسه على التطوع وأقره عليه، عجيب؛ لأنه إذا صام فيه الفرض لم تبرأ ذمته بيقين لاحتمال أن يكون من رمضان ورمضان لا يقبل غيره. وهذا المعنى لا يأتي في التطوع؛ ولأجل هذا جزم الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" بالكراهة، وقال في "الحاوي": إنه مذهب الشافعي، وجزم به أيضًا الجرجاني في "الشافي" والماوردي في "المقنع"، وعزاه إلى التطوع أيضًا. وأظن أن القائلين به أكثر عددًا وهذا على تقدير تفرقة القاضي بين الفرض والنفل ذي السبب، وكلام القاضي في "التعليق" يقتضي أنه لا فرق، وابن الصباغ في نقله هنا عن القاضي قد صرح بأنه ينقل عن "تعليقه". الأمر الثالث: أن الرافعي قد ذكر في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها أنه لو أخر الفائتة ليقضيها فيها كره له ذلك، وقياسه أنه يأتى مثله هنا في قضاء الصوم وفي المنذور والكفارة. الأمر الرابع: أن إطلاقه جواز القضاء فيه يقتضي أنه لا فرق بين قضاء الواجب والمستحب، وهو نظير ما قالوه في الأوقات المكروهة للصلاة أن

قضاء الفائتة فيها جائز، وإن كانت نافلة من صور قضاء المستحب هنا أن يشرع في نافلة صوم ثم يفسده فإنه يستحب قضاؤه كما قال في "الروضة". الأمر الخامس: قد تقرر أن تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر ممتنع وإطلاق الفرض يقتضي استثناء هذا اليوم وأنه يجوز التأخير عنه، وقد صرح به الروياني في "البحر" فحكى عن القاضي أبي الطيب أنه يكره أيضًا؛ لأن المقصود بالقضاء هو القربة ولا قربة في ذلك، وعن غيره عدم الكراهة، ثم قال: وهذا أصح عندي، وبالغ في "البيان" فحكى في تحريم الفرض مطلقًا وجهين. والحديث الأول أخرجه الترمذي وصححه، والثاني أخرجه الشيخان. قوله: ولا يجوز أن يصوم فيه -أي: يوم الشك- تطوعًا لا سبب له، فإن فعل لم يصح في الأصح. انتهى. اعلم أن ما جزم به الرافعي من التحريم قد قال به البغوي، والشاشي، وصاحب "التهذيب" و"التتمة" و"البيان"، وجزم به أيضًا النووي في "شرح المهذب" تبعًا لأصله، والمعروف إنما هو الكراهة؛ فقد صرح بكراهته البندنيجي في "الذخيرة"، و"التعليقة" ونصر المقدسي في "المقصود" وابن الصباغ في "الشامل"، والروياني في "البحر" و"الحلية"، والقاضي الحسين في إحدى "تعليقتيه"، والفوارني في "الإبانة"، والقاضي أبو الطيب في "تعليقه"، والجرجاني في كتابيه "الشافي" و"البحر"، والمحاملي في "المقنع". وقال الماوردي في "الحاوي": النهي عن صومه للكراهة لا التحريم، وقال الدارمي في "الاستذكار": لا يجب صوم يوم الشك ونكرهه، فإن صامه جاز.

وقسم الصيمري في "شرح الكفاية"، وأبو حامد في "الرونق"، والمحاملي في "اللباب"، والبيضاوي في "التبصرة" و"شرح الكفاية"، والماوردي في "الإقناع" الصوم إلى حرام وغيره، وجعلوا هذا من قسم المكروه لا من الحرام. وذكر نحوه الشافعي في "مختصر البويطي" فقال: ولا أحب أن يعمد أحد إلى صوم يوم الشك نافلة. ومن كان يسرد الصوم أو كان يصوم أيامًا جعلها على نفسه فوافق ذلك اليوم فلا بأس أن يصومه، ومن نواه لرمضان أجزأه، وقد قيل. يعيده وإن كان من رمضان، هذا لفظه بحروفه. ولم يعبر الإمام في "النهاية" بالتحريم بل قال: اعتماد صومه من غير سبب منهي عنه. وكذلك عبر الغزالي في كتبه الثلاثة: "البسيط" و"الوسيط" و"الوجيز"، وكلام الزجاجي في "التهذيب" يقتضي جوازه أيضًا. قوله: فإن نذر صومه ففي صحة نذره الوجهان -أي: المتقدمان في الصحة، وإن قلنا يصح فليصم يومًا آخر، فإن صامه خرج من نذره، قاله في "التهذيب". انتهى. تابعه في "الروضة" عليه ولم يسند النقل المذكور إلى "التهذيب"، ونقله في "شرح المهذب" عن الخراسانيين. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن قول الرافعي فليصم لا شك أنه على سبيل الإيجاب؛ لأن التفريع على أن صومه حرام، والمحرم يجب العدول عنه. وذكر بعض المتأخرين من شراح "الوسيط" أنه على سبيل الأولوية،

وكأنه أخذه من نذر الصلاة في الأوقات المكروهة، وقد سبق إيضاحه مع أمور أخرى تتعلق بما نحن فيه فراجعه. الثاني: أنه كيف يصح نذره والخروج عن العهد به مع القول بتحريمه. قوله: ولو كان في السماء قطع سحاب يمكن أن يرى الهلال من خلالها وأن يخفي تحتها ولم يتحدث برؤيته أحد، فقال الشيخ أبو محمد: هو يوم شك، وقال غيره: إنما يكون كذلك بشرط أن يتحدث برؤيته من لا يقبل قوله. وتوسط الإمام .. إلى آخره. والأصح أنه ليس بيوم شك، كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب".

القول في السنن

القول في السنن قوله: والسنة أن يفطر على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من وجد التمر فليفطر عليه، ومن لم يجد فليفطر على الماء؛ فإنه طهور" (¬1). ثم قال: وعن القاضي الحسين أن الأولى في زماننا أن يفطر على ماء يأخذه بكفه من النهر ليكون أبعد عن الشبهة. انتهى. واعلم أن القاضي لم يتعرض في "فتاويه" للمسألة وذكرها في "تعليقه"، وصرح بخلاف ذلك فقال بعد الكلام على أن الصائم ينزه صومه من الكلام القبيح: إن من سنن الصوم الإفطار على تمر، فإن لم يكن فمذقة لبن، فإن لم يكن فشربة من نهر، وإلا فليصب من الكوز على اليد، هذا كلامه. نعم ذكر ذلك في آخر الصيام من إحدى "تعليقتيه" فقال: والأولى في هذا الزمان أن يفطر على شربة ماء يأخذه من النهر أو يصبه من الكوز على يده حتى يكون أبعد من الشبهة. هذه عبارته، ومع ذلك فليس مطابقًا. الثاني: أنه قد ورد في الحديث ما يقتضي أن تأخر التمر عن الرطب، وهو ما رواه أنس قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن رطبات فتمرات، وإن لم يكن حسا حسوات من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2355) والترمذى (658) وابن ماجة (1699) وأحمد (16270) والدرامى (1701) وابن خزيمة (2067) وابن حبان (3515) والحاكم (1575) والطيالسى (1181) والطبرانى في "الكبير" (6192) وعبد الرزاق (7586) وابن أبى شيبة (2/ 349) والبيهقى في "الشعب" (3898) وفى "الكبرى" (7918) والحميدى (823) وابن الجعد (2153) من حديث سلمان بن عامر - رضي الله عنه - بسند ضعيف للجهالة بحال الرباب. وضعفه الألبانى -رحمه الله تعالى-.

ماء (¬1). رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وقال الدارقطني: إسناده صحيح. الأمر الثاني: أن مقتضى هذا الحديث أيضًا ومقتضى تعبير الرافعي أن لا تحصل السنة إلا بثلاث تمرات؛ لأن التمر جمع وأقله ثلاث. وقد صرح الشيخ عز الدين بذلك في الماء فقال: يحسو حسوات. ونقل أبو الطيب في "تعليقه" عن نصه في "حرملة" نحوه فقال: يستحب أن يفطر على تمرات أو حسوات من ماء، لكن عبارة القاضي الحسين والمتولي تمرة -أعني بالتاء- وكذلك الداودي في باب غسل الجنابة من "شرح المختصر". قال الطبري في "شرح التنبيه": القصد بذلك أن لا يدخل جوفه أولًا ما مسته النار، ويحتمل أن يراد هذا مع قصد الحلاوة بقاؤه. ومن كان بمكة استحب له الفطر على ماء زمزم لبركته، ولو جمع بينه وبين التمر فحسن. هذا كلامه. والحديث الذي ذكره الرافعي رواه أبو داود وبقية أصحاب السنن بمعناه، وصححه الترمذي. قوله: ومنها التسحر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة" (¬2) انتهى. لم يبين هنا الوقت الذي يدخل فيه التسحر، وقد بين ذلك في كتاب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2356) والترمذى (696) وأحمد (12698) والحاكم (1576) والدارقطنى (2/ 185) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 227) وأبو بكر القطيعى في "جزء الألف دينار" (52) والخطيب في "التاريخ" (1/ 243) و (9/ 379) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال الترمذى: حسن غريب. وقال الدارقطنى: هذا إسناد صحيح، وقال الألبانى: صحيح. وقال الألبانى: صحيح. (¬2) أخرجه البخارى (1823) ومسلم (1095) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

الأيمان فقال نقلًا عن العبادي: إنه يدخل فيه بنصف الليل، وجزم به النووي هنا في "شرح المهذب"، وذكر ابن أبي الصيف في "نكت التنبيه" ما حاصله أنه لا يدخل إلا بدخوله السدس الأخير، وفسر السحر بذلك -أعنى: بالسدس الأخير- ثم ذكر ما تقدم على جهة البحث فقال: والعرب تقول أنعم صباحًا من نصف الليل، فلو قيل: إن الآكل في ذلك يكون متسحرًا لم يبعد. هذه عبارته، والحديث الذي ذكره الرافعي رواه الترمذي وصححه. قوله: والوصال أن يصوم يومين فصاعدًا، ولا يتناول بالليل شيئًا. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على تفسير الوصال بذلك، وفيه إشعار بأن ما عدا الأكل والشرب كالجماع والإسقاء والظعن وغيرهما من المفطرات لا تخرجه عن الوصال. وهو مقتضى كلامه في "شرح المهذب" أيضًا، وإنه نقل عن الجمهور أنهم فسروه بصوم يومين وأكثر من غير أكل ولا شرب في الليل. ثم قال: والصواب أن الوصال ترك الأكل والشرب في الليل بين الصومين عمدًا بلا عذر، هذا لفظه. وتخصيص ذلك بالأكل والشرب ونحوهما ظاهر من جهة المعنى؛ لأن النهي عن الوصال إنما هو لأجل الضعف، وهذه الأمور تزيده؛ إذ لا تمنع حصوله. لكن ذكر جماعة خلاف ذلك منهم الروياني فإنه قال: الوصال أن يصل صوم الليل بصوم النهار قصدًا فلو ترك الأكل بالليل لا على قصد الوصال والتقرب إلى الله تعالى لم يحرم. هذا لفظه في "الحلية"، ونقله عنه في "شرح المهذب" لأجل تضعيف القصد ولم يتفطن لما ذكرناه، وقال في "البحر" الوصال الصائمين. هذا لفظه، ثم شرط بعد ذلك ما شرطه في

"الحلية" من القصد. ومنهم الجرجاني فإنه قال في "الشافي": الوصال أن يترك بالليل ما أبيح له من غير إفطار. وقال ابن الصلاح: يزول بما تزول به صورة الصوم. وتعبير الرافعي بقوله: أن يصوم يومين يقتضي أن المأمور بالإمساك كترك النية لا يكون امتناعه بالليل من تعاطي المفطرات وصالًا؛ لأنه ليس بين صومين، إلا أن الظاهر أنه جرى على الغالب. قوله: ومنها أن يصون لسانه عن الكذب والغيبة والمشاتمة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المعروف: "فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" (¬1). قال الأئمة: معناه: فليقل في نفسه ولينزجر، ثم قال بعد ذلك: هذا شرح السنن الثمان التي ذكرها المصنف. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن عد صيانة اللسان عن هذه الأمور من السنن ذكره أيضًا في "المحرر"، وتبعه عليه في "الروضة"، وهو سهو؛ لأن السنة لا يجب الإتيان بها، وصيانة اللسان عن ذلك واجب في حق غير الصائم فضلًا عن الصائم ويمتاز الصائم عن غيره بتأكد إيجابه. وأما دعواه أن الغزالي ذكر ذلك فليس كما قال؛ فإن الغزالي عبر بقوله: (وكف اللسان عن الهذيان). هذا لفظه، ولم يذكر فيه شيئًا من المحرمات. وأشار بالهذيان إلى الكلام الذي له عنه مندوحة لا تتعلق به أغراض شرعية ولا دنيوية، وقد صرح غير الغزالي باستحباب تركه. ولما ذكر الشيخ أبو إسحاق ترك المحرمات عبر بقوله: (وينبغي). وهو ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (682) والبخارى (1795) ومسلم (1151) من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -.

تعبير صحيح؛ فالحاصل أن الرافعي ترك مسألة من كلام "الوجيز" وذكر مكانها ما لا يستقيم ذكره، وقد تفطن لذلك في "الشرح الصغير" فعبر أيضًا بقوله: (ينبغي) ولم يجعله من السنن، وكأنه لما ظن أن مراد الغزالي هو الأمور المحرمة شرح مراده بعبارة لا يرد عليه هو فيها شيء، وذكره على الصواب النووي في "دقائق المنهاج" فقال قول "المنهاج": وليصن لسانه عن الكذب والغيبة، هذه لام الأمر؛ أي: يلزمه ذاك، وهو مراد "المحرر" وإن أوهمت عبارته غيره. هذا كلامه. وقد ذكر جماعة من المصنفين نحو عبارة الرافعي وفيه ما ذكرناه. وينبغي تأويله على الحالة التي يجوز تعاطى هذه الأشياء فيها كالكذب للحاجة والغيبة للتظلم، ونحوه. الأمر الثاني: أن هذه المسألة التي نقلها الرافعي عن الأئمة وهي أن الصائم يقول ذلك بقلبه لينزجر وقد أسقطها النووي من "الروضة"، ثم ذكرها في "الأذكار" و"لغات التنبيه" و"شرح المهذب"، ورجح عكس ما قاله الرافعي فقال في "الأذكار" و"اللغات": أظهر الوجهين أنه يقول بلسانه. وقال في "الشرح": أقوى التأويلين أنه يقوله بلسانه مرتين أو ثلاثًا: إني صائم، ثم قال: فإن جمعهما فحسن. وحكى الروياني في "البحر" وجهًا واستحسنه: أنه إن كان صوم رمضان فيقول بلسانه وإن كان نفلًا فبقلبه. والحديث المذكور رواه الشيخان من رواية أبي هريرة، وفيه تكرار "إنى صائم" مرتين. قوله: حكوا عن أحمد أنه لا يكره السواك بعد الزوال في النفل ليهون العمل عن الرياء، ويكره في الفرض. وحكى صاحب "المعتمد" عن القاضي الحسين مثل مذهب أحمد. انتهى. واعلم أن القاضي الحسين قد صرح في "تعليقه" بخلاف ما نقل عنه

فقال قبيل الكلام على الكبير الذي لا يستطيع الصوم: إن من سنة الصوم ترك السواك بعد الزوال، ولم يفصل بين الفرض والنفل. ثم صرح بعد ذلك بنحو ورقتين بأنه لا فرق بينهما فقال: فأما الصائم فيستحب له ذلك في أول النهار بأي عود كان، ويكره بالعشي سواء كان فرضًا أو نفلًا. هذا لفظه. وذكر أيضًا في الباب نحوه أيضًا. وأما نقل الرافعي عن "المعتمد" فصحيح؛ فإنه قال: ذكر القاضي الحسين أنه في الفرض يكره بالعشي ويستحب قبل الزوال، وفي الزوال يستحب أن يستاك قبل الزوال وبعده، لأنه أبعد من الرياء. هذا لفظ "المعتمد". نعم حكاه القاضي الحسين عن أحمد، والظاهر: أنه مراد المعتمد ولكن سقط منه شيء؛ ولهذا لم يعبر بقوله: ذهب ونحوها، بل بقوله ذكر فغير الرافعي التعبير. قوله في "أصل الروضة": ويستحب أن يحترز عن الحجامة والعلك والقبلة والمعانقة إذا لم نحرمها. انتهى. وهذا الكلام يقتضي سبق الخلاف في تحريم الجميع وذلك محرم مسلم فيما عدا العلك، وأما العلك فلم يسبق له ذكر في كلامه بالكلية ولم يعتبر الرافعي بقوله إذا لم نحرمها، بل بقوله وقد سبق ذكرها، وهو صحيح؛ فإن العلك قدمه الرافعي ولكن أسقطه من "الروضة".

القسم الثاني في مبيحات الإفطار وموجباته

القسم الثاني في مبيحات الإفطار وموجباته قوله: فالمرض والسفر مبيحان بالإجماع والنص؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬1). الآية، وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (¬2) انتهى. واعلم أن كلام الرافعي قد يوهم الإجماع على جواز الأمرين وليس كذلك. أما المسافر ففي "الحاوي" عن قوم من الصحابة أنهم أوجبوا الفطر، وقال القاضي الحسين في تعليقه: روي ذلك عن مالك وأحمد والمزني. وأما المريض فشرطه أنه لا يخشى الهلاك، فإن خشي ذلك فقال الغزالي في "المستصفى" والجرجاني في "التحرير": يجب عليه الأكل. فإن صام قال الغزالي: فيحتمل أن يقال: لا ينعقد؛ لأنه عاص به فكيف يتعرف بما يقضى به، ويحتمل أن يقال إنما عصى بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (184). (¬2) أخرجه أبو داود (2408) والترمذي (715) والنسائى (2276) وابن ماجه (1667) وأحمد (19069) وابن خزيمة (2042) والطبرانى في "الكبير" (763) وعبد الرزاق (4478) والبيهقى في "الكبرى" (5273) وعبد بن حميد (431) وابن الجعد (1205) وابن أبى عاصم في "الآحاد والمثانى" (1493) عن أنس بن مالك رجل من كعب. قال الترمذي: حديث حسن ولا نعرف لأنس بن مالك هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير هذا الحديث الواحد.

والحديث المذكور رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث أنس بن مالك القشيري، وحسنه الترمذي. قوله: وشرط كون المرض مبيحًا أن يجهده الصوم معه ويلحقه ضرر يشق احتماله على عددنا وجوه المضار في التيمم. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" إلا أنه أبدل الواو في ويلحقه بالفاء. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن مقتضى هذا الضابط أن الضرر المذكور لا يبيح وحده، بل لابد معه من كون الصوم يجهده، أي: يحصل معه ألم كبير بسبب عدم الفطر حتى لو لم يجهده الصوم ولكن وصف له دواء أن يفطر به وإلا حصل له الضرر لم يكن له الفطر، وكذلك بالعكس، وهذا لا يأتي القول به. وقد اعتبر في "المحرر" أحد الأمرين فقط فقال: ويباح ترك الصوم للمريض الذي يصعب عليه أو يناله به ضرر شديد. هذه عبارته من غير زيادة عليها. والمذكور فيه هو الصواب، وهو يدل على أن المذكور في الرافعي إنما هو لفظ أولا "الواو". نعم ذكره في "التهذيب" بعينه إلا الحوالة على التيمم، وهو على هذا التقدير صحيح وحينئذ يكون الضرر بائن الجهد، وأيضا حاله فضم إليه الرافعي ما ضم؛ فحصل الخلل، وتبعه عليه في "الروضة"، فلما تفطن له في "المحرر" أصلحه بصيغة "أو" فتلخص أن الكلام يستقيم إما بحذف الزيادة المذكورة وإما بالتعبير بـ"أو"، وقد سلك الإمام في هذه المسألة طريقة حسنة تبعه عليها الغزالي في البسيط وغيره فقال: اعتبر الأصحاب الصورة الظاهرة، وعندي أنه كل مرض يمنع معه الصوم.

الأمر الثاني: أنه قد سبق في التيمم أن في جوازه لأجل زيادة المرض أو بطء البرء الجواز، وكلام الرافعي هنا يشعر بجريان ذلك الخلاف في الفطر أيضًا، وليس كذلك بل يباح بذلك جزمًا، كذا أوضحه الرافعي في باب التيمم فاعلم ذلك فإن كلام "الروضة" أيضًا هنا يوهم جريانه، وزاد فأسقط منها في باب التيمم استثناءه فتفطن له. قوله في "أصل الروضة": لو أصبح مقيمًا صائمًا ثم سافر لم يجز له الفطر، وقيل: يجوز. انتهى. حكى الرافعي طريقين: أصحهما: القطع بالجواز، والثانية: على وجهين، وأسقط الطريقة من "الروضة". قوله: ولو أصبح المسافر صائمًا ثم أقام فوجهان: ظاهر المذهب أنه لا يجوز الفطر. ثم قال: ولو أصبح المريض صائمًا ثم نوى فقطع كثيرون بأنه لا يجوز، وطرد صاحب المذهب حكاية الوجهين فيه، ولعله الأولى. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه وصرح النووي في "شرح المهذب" بأن الصحيح طرد الخلاف، وصحح الرافعي في "الشرح الصغير" طريقة القطع، وقد وافق الشيخ على طريقة الوجهين الجرجاني في كتابيه "التحرير" و"الشافي"، وكذا الشاشي في "الحلية"، وقال في كتابه "المعتمد": لا يجوز الفطر قولًا واحدًا. قوله: والمسافر إذا أصبح على نية الصوم جاز أن يفطر، روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفطر بعد العصر بكراع الغميم (¬1)، وأبدى الشيخ أبو إسحاق والإمام في المسألة احتمالًا. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1114) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

تابعه النووي في "الروضة" على حكاية الوجوب احتمالًا فقط مع أنه وجه ثابت في المذهب حكاه القاضي حسين في باب صوم التطوع من "تعليقه"، ونقله عنه ابن الرفعة، وحكاه أيضًا الدارمي في "الاستذكار" كما نقله عنه النووي في "شرح المهذب"، ونص عليه الشافعي في "البويطي" لكن قال: لا يجوز الفطر إلا أن يثبت حديث الفطر، كذا نقله عنه في "الروضة" من زياداته، ثم قال بعد نقله ذلك: إن الحديث المذكور صحيح، والذي قاله النووي من صحة الحديث هو كذلك؛ فإن مسلمًا قد رواه في صحيحه من حديث جابر. وما نقله عن "البويطي" صحيح أيضًا قد رأيته فيه كذلك. وذهل بعضهم فنسب النووي إلى أنه قد غلط على "البويطي" وسبب ذهول هذا القائل أن "البويطي" عقد للصيام بابين. وهذا النقل مذكور في أحدهما فقط، وإنما عرضت بهذا لئلا يظن صحته وإهماله له. والكراع بضم الكاف وبالراء والعين المهملتين: جبل أسود. والغميم: بغين معجمة مفتوحة وميم مكسورة مخففة، وهو واد بين مكة والمدينة بينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو قدام عسفان بثمانية أميال. والكراع المذكور يمتد إلى هذا الوادى. قاله النووي في "تهذيبه". قوله في المسألة: وإذا قلنا بالمشهور فهل يكره له الإفطار؟ فيه وجهان عن القاضي الحسين. انتهى. لم يصحح منهما شيئًا في "الروضة" أيضًا، وصحح في "شرح المهذب" أنه لا يكره؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله.

واعلم أن الناقل للوجهين عن القاضي هو الشاشي في "المعتمد"، وليس للوجهين ذكر في "تعليقة" القاضي، ولم يحك الوجهين إلا في الجواز كما تقدم نقله عنه. قوله: كل من ترك النية الواجبة عمدًا أو سهوًا فعليه القضاء. وكذا كل من أفطر، لكن لو كان إفطاره يوجب الكفارة ففي القضاء خلاف سيأتي ذكره من بعد. انتهى. واعلم أن الخلاف إنما ذكره بعد هذا في مسألة واحدة وهى الجماع في نهار رمضان، وأما الحامل والمرضع ومنقذ غيره من هلاك إذا أفطروا؛ فإن الكفارة تجب كما سيأتي. ومع ذلك فقد جزم بوجوب القضاء؛ وكأنه توهم أن ذلك الخلاف عام فوقع بسببه في الغلط هنا، وتبعه عليه في "الروضة". قوله: وما فات بالإغماء يجب قضاؤه سواء استغرق جميع الشهر أو لم يستغرق جميعه، لأنه نوع مرض يغشى العقل بخلاف الجنون؛ ولهذا يجوز الإغماء على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ولا يجوز الجنون عليهم. ونقل صاحب "التهذيب" و"التتمة" عن ابن سريج أن الإغماء إذا استغرق أسقط القضاء. انتهى كلامه. وفيه أمور: أحدها: أنه يقتضي أن نقل البغوي والمتولي عن ابن سريج محله في المستغرق لجميع الشهر؛ لأن كلامه -أعني الرافعي- فيه. وليس كذلك بل المراد استغراق اليوم فاعلمه؛ فقد قال البغوي: قال ابن سريج -رحمه الله-: الإغماء كالجنون، وإذا استغرق النهار لا يجب

عليه القضاء يستوي الجنون والإغماء في إسقاط القضاء إذا استغرق الوقت. هذا كلامه. وأما المتولي فقال: إذا أغمي عليه في رمضان وامتد زمان الإغماء فكل يوم استوعب الإغماء جميعه المذهب أنه يلزمه قضاؤه. ثم قال: وقال ابن سريج: لا يلزمه القضاء؛ لأن الإغماء بمنزلة الجنون في إسقاط قضاء الصلاة، وكذا في قضاء الصوم. هذا كلام "التتمة" أيضًا. وقد وقع النووي في "شرح المهذب" في هذا الوهم فنقل عن ابن سريج: أن العبرة بالشهر، وبالغ اعتمادًا على ما في "الروضة" فنسب روايته عنه إلى الجمهور، وليس كذلك. فهذه مصنفات الأصحاب موجودة وهى ما بين ساكتة أو ناقلة عنه وجوب القضاء ما عدا "التهذيب" و"التتمة". الثاني: أن الرافعي ذكر قبل هذا الموضع بنحو خمسة أوراق في الكلام على شروط الصوم أن الإغماء قد يكون عن مرض وقد يكون عن جنون؛ وعلى هذا لا يستقيم إطلاق جواز الإغماء على الأنبياء. الثالث: أن ما أطلقه من جواز ذلك قد نقل القاضي الحسين في هذا الباب تقييده فقال: حكى الداركي أن الإغماء إن يجوز على الأنبياء فساعة وساعتين فأما الشهر والشهران فلا كالجنون. الرابع: أن ما ذكره من كون الإغماء يغشى العقل ولا يزيله هو شيء تبع فيه الإمام. وقد قال في "الشرح الصغير" في شروط الصوم أن هذا ليس باصطلاح

مطرد وأن الأصحاب عدوا الكل زوالا. قوله: أما إذا ارتد ثم جن، أو سكر ثم جن ففي وجوب القضاء وجهان. ولعل الظاهر الفرق بين إيصاله بالردة وإيصاله بالسكر كما سبق في الصلاة. أي: حتى يجب في المرتد قضاء الجميع , ولا يجب في السكران إلا قضاء أيام السكر. قال النووي في "شرح المهذب": هذا الذي أشار الرافعي إلى ترجيحه، وهو الأصح، وفي المسألة كلام آخر سبق ذكره في الصلاة. ولايجب التتابع في قضاء رمضان لكن يستحب. انتهى. اعلم أن التتابع يجب بطريق العرض في صورتين وهما: ضيق الوقت، وتعمد الترك. قوله: والإمساك تشبيها بالصائمين من خواص رمضان فلا إمساك على متعمد بالفطر في نذر أو قضاء. انتهى. وما قاله في النذر والقضاء وإن كان معروفًا في المذهب إلا أن الشافعي قد نص على خلافه في "البويطي". قوله في "الروضة": ثم من أمسك تشبهًا ليس في صوم. انتهى. الصوم نفي العبادة، وحكى النووي في أوائل "شرح المهذب" ثلاثة أوجه: أصحها: أنه يثاب عليه، وليس في صوم شرعي، وقيل: نعم فيهما، وقيل: لا فيهما. وفي "البحر" وجه رابع: أنه إن تعدى بالفطر لم يثب وإلا أثيب. والقواعد تقتضي الجزم بحصول الثواب؛ لأنه قائم بواجب وإذا قلنا بأنه صوم شرعي ولم يكن قد أكل فينبغى وجوب النية، قاله ابن أبي الدم.

قوله في "أصل الروضة": ولو أقام المسافر أو بريء المريض فلهما أحوال: أحدها: أن يصبحا صائمين وداما عليه إلى زوال العذر فقد تقدم في الفصل السابق أن المذهب لزوم إتمام الصوم. انتهى. وتعبيره بالمذهب تبع فيه الرافعي، وهو غير مستقيم من النووي؛ لأنه لم يتقدم له حكاية طريقين في المسافر، بل وجهين: الصحيح منهما عدم جواز الفطر. وأما المريض فقطع كثيرون بالمنع، وطرد في المذهب الوجهين. قال: ولعله الأولى. قوله: الثاني: أن يزول بعدما أفطرا فيستحب لهما الإمساك، فإن أكلا أخفياه؛ لئلا يتعرضا لعقوبة السلطان. انتهى. لم يتعرضا لبيان الإخفاء واجب أو مستحب؛ وقد جزم البغوي في "التهذيب" بوجوبه وهو مقتضى كلام القاضي حسين في "تعليقه" وقع كذلك في بعض نسخ الرافعي فقال في أواخر الكلام على كفارة الجماع: لو رأى هلال شوال وحده وجب عليه أن يفطر وأن يخفي إفطاره عن الناس لئلا يتهم. هذه عبارته، وسقط في بعض النسخ لفظة أن المذكورة ثانيًا فقال ويخفي، فقطعها بذلك عن العطف على الإيجاب وبقي محتملًا. وتبعه عليها في "الروضة"، وجزم باستحبابه في "شرح المهذب" قوله: الثالث: أن يصبحا غير ناويين فيزول العذر قبل أن يأكلا. فإن قلنا في الحال الأول: يجوز الأكل، فهنا أولى، وإلا ففي لزوم

الإمساك وجهان: الأصح لا يلزم. انتهى. صحح في "شرح المهذب" القطع بعدم الوجوب على خلاف ما يتحصل من كلامه هنا. قوله: ولهما الجماع بعد زوال العذر إذا لم تكن المرأة صائمة بأن كانت صغيرة أو طهرت من الحيض. انتهى. والمتجه أن من وجب عليها الإمساك حكمها حكم الصائمة، وأن الكافرة حكمها حكم الصغيرة ومن طهرت من الحيض. ولا يخفى أن كل من أفطرت بعذر كالمسافرة والمريضة والخائفة على الولد لا تمتنع وظهر أيضًا. قوله: الثالثة: إذا أصبح يوم الشك مفطرا ثم ثبت أنه من رمضان فيجب عليه إمساك بقية النهار في أصح القولين تشبهًا بالصائمين. انتهى. لم يتعرض لحكم الإمساك قبل الثبوت، وقد نصت المالكية على استحبابه، والقياس خلافه؛ لأن صومه حرام في تلك الحالة على ما قاله الرافعي والنووي، والتشبيه بالحرام غير مشروع. قوله في المسألة: قال في "التتمة" القولان فيما إذا ثبت أنه من رمضان قبل الأكل، فإن بان بعده فإن قلنا هناك: لا يجب الإمساك، فهنا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما الوجوب. انتهى. وما نقله عن "التتمة" من غير اعتراض عليه حاصله أن القولين محلهما قبل الأكل، فأما بعده ففيه الطريقان، وقد علمت أن تعبيره بقوله مفطرا معناه غير صائم، ويدل عليه تقسيمه.

إذا علمت ذلك فقد جزم في "المنهاج" بأن محلهما بعد الأكل فإنه قال: والأظهر أنه يلزم من أكل يوم الشك ثم ثبت كونه من رمضان. انتهى. والذي اقتضاه كلام "المنهاج" وإن تخالفا فهو الصواب؛ فإن الأكثرين على القطع بالوجوب إذا لم يأكل. هذا حاصل ما في "الكفاية". على أن كلام "المنهاج" ليس مطابقًا لما في "المحرر" فإن عبارته تقتضى أن القولين عامان للحالتين. فإن عبر بالمفطر خاصة كما عبر في "الروضة" فقال: وأصح القولين أنه يجب على من أصبح يوم الشك مفطرا ثم ثبت أنه من رمضان. انتهى. وما اقتضاه كلامه من التعميم قد صرح به الروياني في "البحر". وكأن النووي قد توهم أن المراد بالمفطر هو الآكل فصرح به، وهو خطأ في الظاهر صواب في نفس الأمر. قوله في "أصل الروضة": فرع: إذا بلغ صبي أو أفاق مجنون أو أسلم كافر في أثناء يوم من رمضان فهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه أوجه: أصحها: لا. والثاني: نعم. والثالث: يلزم الكافر دونهما لتقصيره. والرابع: يلزم الكافر والصبي لتقصيرهما دون المجنون. انتهى كلامه. وتعليل الوجه الثالث في كلام النووي كالصريح في عدم تقصير الصبي

فيكون تعليل الرابع مناقضًا له. ولم يعلل الرافعي الصبي بالتقصير وعدمه، بل علل عدم الوجوب عليه بكونه معذورًا؛ لعدم قدرته على إزالة المانع، بخلاف الكافر، وعلل الوجوب بأنه متمكن من الإتيان بالصوم مأمور به. قوله: أما الصبي فينظر إن بلغ صائمًا فالصحيح أنه يلزمه إتمامه ولا قضاء، ثم قال: وفيه وجه يحكى عن ابن سريج أنه يستحب إتمامه ويجب القضاء؛ لأنه لم ينو الفرض. انتهى. وهذا التعليل الذي ذكره الرافعي لوجه ابن سريج ذكره في "التتمة" أيضًا، وهو يقتضي أن الرافعي يقول بأنه لا تجب نية الفرضية في صوم الصبي إذا أوجبناها على البالغ مع أن الرافعي قد سوى بين البالغ والصبي في الاشتراط بالنسبة إلى الصلاة كما سبق إيضاحه، والقياس التسوية بين صوم الصبي وصلاته إما في الاشتراط أو عدمه. قوله: وإن أصبح مفطرًا -يعني: الصبح- ففيه وجهان. وقال في "التهذيب": قولان: أصحهما: لا يلزمه. ثم قال: وهذا الخلاف مفرع على ظاهر المذهب في أنه إذا بلغ صائمًا لا قضاء عليه، فأما من يوجب القضاء ثم فهاهنا أولى بأن يوجب. انتهى كلامه. وهذا البناء الذي ذكره في آخر كلامه قد ذكره صاحب "التتمة" على العكس؛ فإنه ذكر أن الفرق بوجوب الإعادة فيما إذا بلغ صائمًا هو على طريقة من يقول بوجوب الإعادة إذا بلغ مفطرًا. قال: فأما إذا قلنا: لو بلغ مفطرًا لا تجب الإعادة، فإذا كان صائمًا

أولى. هذا كلامه، وهو يقتضي أن وجوب القضاء فيما إذا كان مفطرًا أصل ووجوب القضاء فيما إذا كان صائمًا فرع وهو عكس ما ذكره الرافعي، وقد ذكر أيضًا عكس ما ذكره الرافعي سليم في "المجرد" فقال: إن قلنا لا يلزمه القضاء إذا بلغ مفطرا فبالأولى إذا بلغ صائمًا، وإن أوجبناه هناك فهاهنا وجهان. قوله: وأما إذا أفاق المجنون أو أسلم الكافر ففيهما طريقان: أظهرهما عند الأكثرين: طرد الخلاف أي: السابق في الصبى. والأظهر من ذلك الخلاف: أنه لا قضاء عليه. ثم قال ما نصه: والثاني: القطع بالمنع في حق المجنون؛ لأنه لم يكن مأمورًا بالصوم في أول النهار، وبالإيجاب في حق الكافر؛ لأنه متعد بترك الصوم، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب". انتهى كلامه. وظاهره يقتضي أن البغوي صحح الطريق الثاني القاطع بالمنع في المجنون وبالإيجاب في الكافر. فأما الشق الثاني من هذه الطريقة وهو الإيجاب في الكافر فصحيح؛ فإن البغوي صحح طريقة القطع به. وأما الأول فلم يصحح فيه شيئًا، بل قال: فأما المجنون إذا أفاق في خلال النهار هل يجب عليه قضاء ذلك اليوم؟ فيه قولان كالصبي، وقيل: لا يجب قولًا واحدا. هذا لفظه، فينبغي تأويل قول الرافعي، وهذا أصح على أنه أشار للشق الثاني خاصة؛ فإنه محتمل لكنه بعيد في الفهم لا يعرف إلا بتوقيف؛ ولهذا وقع فيه النووي فإنه قدم الكافر وأخر المجنون فقال في حكايتة للطريق الثاني: وقيل يقضي

الكافر دون المجنون، وصححه صاحب "التهذيب" هذا لفظه. قوله: وتجب الكفارة بإفساد صوم يوم من رمضان بجماع أتم به لأجل الصوم. انتهى كلامه. تابعه النووي على هذا الضابط، وترد عليه أمور: أحدها: إذا طلع عليه الفجر وهو يجامع فاستدام فإن الأصح عند الرافعي والنووي وغيرهما وهو المنصوص وجوب الكفارة مع انتفاء إفساد الصوم في هذه الصورة. ووجه انتفائه أن الصوم لم ينعقد على الأصح كما تقدم إيضاحه قبيل الكلام على شرائط الصوم، وإذا انتفي الانعقاد انتفى الإفساد. الأمر الثاني: لو جامع شاكًا في غروب الشمس فإنه حرام قطعا كما جزم به في "الروضة" من زوائده، ومع ذلك فلا كفارة كما جزم به البغوي في "التهذيب" وفيه كلام يأتي في ما إذا ظن أن الشمس قد غربت فجامع. الثالث: لو أكل ناسيًا فظن بطلان صومه فجامع. وستعرف ذلك مبسوطًا بعد هذا بأوراق. الرابع: لو كان به عذر يبيح الوطء من. . . . أو غيره فجامع امرأته وهى صائمة مختارة، فإنه لا كفارة عليه بإفساد صومها كما ذكره بعد ذلك مع أن الحد المذكور يصدق فيه. نعم لو قيده بصيام نفسه لم يرد عليه شيء. قوله: وإذا مكنت المرأة طائعة ففي قول: تلزمها الكفارة، والأصح: أنه يختص الزوج بلزوم الكفارة. وعلى هذا فهل يقع عنهما جميعا وهو يحمل عنها؟ فيه قولان

مستخرجان من كلام الشافعي. انتهى. فيه أمران: أحدهما: لم يصرح الرافعي بإطلاق ترجيح واحد منهما لا هنا ولا في "الشرح الصغير"، وقد رجح في "المحرر" وقوعهما عنه خاصة فقال: إنه الأقرب، وصححه النووي في "أصل الروضة" وفي غيرها. الأمر الثاني: أن القاضي أبا الطيب في "تعليقه" قد صرح بأن القولين منصوصان على خلاف ما دل عليه كلام الرافعي فقال في ذلك قولان: أحدهما: أن يخرجها جميعها عن نفسه، قاله في اختلاف مالك وأبي حنيفة. ثم قال: والثاني: يخرجها عن نفسه وزوجته، قاله في كتبه القديمة والجديدة. هذا لفظ أبي الطيب. قوله: ويتفرع على القولين صور منها .. إلى آخره. ثم قال: والثانية: لو كان الزوج مجنونًا إن قلنا بالأول وهو وقوع الكفارة عنه خاصة فلا شئ عليها، وإن قلنا بالثاني فوجهان أظهرهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه تلزمها الكفارة؛ لأن التحمل لا يليق بحاله؛ ولهذا لم تجب عليه الكفارة لنفسه. والثاني أنه تلزمه الكفارة لها، لأن ماله يصلح للتحمل. انتهى. وما ذكره في المجنون من عدم الوجوب على نفسه إنما يصح الاستدلال به على تقدير أن يكون في صوم صحيح ثم يطأ، ومجرد الجنون يبطل الصوم على المعروف فقدم الوجوب؛ لكون الوطء لم يفسد الصوم.

ولا يستقيم أيضًا الاستدلال به على قولنا: لا يبطل بالجنون؛ لأنه يخرج أيضًا بقولنا في الضابط أثم به، وهذا الإيراد نبه على أصله الغزالي في "البسيط". قوله: وإن كان نائمًا أو ناسيًا فاستدخلت ذكره أي المجنون. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، ومقتضاه جريان الوجهين في أنه يجب عليهما شيء لأجل ذلك أم على ما سبق إيضاحه في المجنون. وجريان الخلاف في الناسي صحيح الفعل منه، وأما في النائم فلا يصح من جهة المعنى؛ لأنه لم يوجد منه فعل بالكلية ولا من جهة النقل؛ لأن الموجود في كتب المذهب إنما هو الجزم بعدم الوجوب، ولم يخرجه على ذلك أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين مع التتبع والاستيعاب، فقد جزم بعدم الوجوب عليه البندنيجي في "الذخيرة"، والجرجاني في "الشافي" و"التحرير" وصاحب "الشامل" مع جزمهم في المجنون بأنه يتحملها عنها على خلاف ما صححه الرافعي، وجزم به أيضًا أبو علي الطبري في "الإفصاح" ونقل أنه لا خلاف فيه فقال: وأما إذا كان زوجها مغلوبا أو نائمًا فجاءت فأدخلت ذكره في فرجها فلا كفارة على الزوج وجهًا واحدًا؛ لأنه لم يكن من جهته فعل فيخصه. هذا لفظه، ومن "الإفصاح" نقلته، وجزم به أيضًا سليم الرازي في "المجرد"، والشيخ في "المهذب"، والشاشي في "المعتمد"، والطبري صاحب "العدة"، وأبو الفتح سلطان في كتابه "التقاء الختانين"، والعمراني في "البيان" ومجلي في "الذخائر"، وجزم به من الخراسانيين القاضي الحسين في "تعليقه" والمتولي في "التتمة" والبغوي في "التهذيب" وغيرهم، هذا مع حكاية الخلاف في المجنون في كلام كثير منهم كالقاضي مجلي وسلطان المقدسي وصاحب "المهذب" والقاضي الحسين وصاحب "البيان"، وصاحب "المعتمد" والطبري صاحب "العدة"، ولم ينقله

ابن الرفعة إلا عن الرافعي لكنه سكت عليه ولم يتفطن لما وقع منه. قوله: الثالثة: لو كان مسافرًا والزوجة حاضرة فأفطر بالجماع بنية الترخص فلا كفارة. وكذا إن لم يقصد في أصح الوجهين؛ لأن الإفطار مباح له، فتصير شبهة في درء الكفارة، وهكذا حكم المريض. والصحيح إذا مرض في أثناء النهار فإن أوجبنا فهو كغيره وحكم التحمل ما سبق، وحيث قلنا لا كفارة فهو كالمجنون. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن التردد في إيجاب الكفارة وتعليل السقوط بالشبهة كالصريح في أن أصحاب الأعذار إنما يباح لهم الفطر بشرط نية الترخص, وبه جزم صاحب "التتمة"، ونقله المحب الطبري في "شرح التنبيه" عن الأصحاب إلا أنه عبر بنية الخروج، وعلله بأنه عبادة أبيح الخروج منها قبل كمالها فوجهته الخروج كالمحصر يريد التحلل. وعلله أيضًا بعد هذا بتميز الفطر المباح عن غيره. الأمر الثاني: أن الذي سبق في المجنون أنه لا شيء عليه إن قلنا: إن الكفارة على الواطئ فقط. وكذا إن قلنا عنه وعنها في أصح الوجهين؛ وحينئذ فيكون الصحيح أن لا شيء على المسافر في مسألتنا إذا قلنا عنه وعنها. وقد تابعه في "الروضة" على ذلك، وذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا. ثم ذكر في "الشرح" المذكور بعد ذلك بأسطر ما يخالفه فقال: أما إذا

قلنا بأنها عنه وعنها فيلزمه أن يكفر عنها بالإعتاق أو بالإطعام في أصح الوجهين، لكنه فرضها فيما إذا قدم مفطرًا ولا أثر له قطعًا. والصواب هو المذكور ثانيًا في "شرح المهذب"، والفرق بينه وبين المجنون واضح. قوله: وذكر أصحابنا العراقيون فيما لو قدم المسافر مفطرًا فأخبرته امرأته بفطرها وكانت صائمة أن الكفارة عليها إذا قلنا: الوجوب يلاقيها؛ لأنها غرته وهو معذور. ويشبه أن يكون هذا تفريعًا على قولنا: لا يتحمل المجنون، وإلا فليس العذر هنا أوضح منه في الجنون. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على هذا البحث ولم يرتضه في "شرح المهذب"، بل فرق بفرق واضح فقال: قلت: الفرق أنه لا تغرير منها في صورة المجنون. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن ما حاوله الرافعي من حكاية الخلاف قد صرح به الماوردي في "الحاوي"، وزعم في "شرح المهذب" أن ما قاله العراقيون متفق عليه، وفي "الكفاية" أنه لا خلاف فيه، وقد ظهر لك أن الأمر ليس كما قالا. قوله من زياداته: قال صاحب "المعاياة" فيمن وطئ زوجته ثلاثة أقوال: أحدها: تلزمه الكفارة دونها. والثاني: تلزمه كفارة عنهما. والثالث: تلزم كل واحد كفارة.

ويتحمل الزوج ما دخله التحمل من العتق والإطعام. انتهى كلامه. وهو يوهم أن تحمل الزوج لما يقبل التحمل لا يأتي في القول الثاني، وليس كذلك؛ فقد صرح الجرجاني في الكتاب المذكور بجريانه أيضًا فيه، وهو أيضًا يؤخذ من تعبيره بقوله: عنهما. وقد تقدم في هذه المسألة قول آخر أنه يجب على كل واحد في ماله كفارة. واعلم أن الجرجاني في "المعاياة" لما نقل القول الثاني الذي حكاه عنه النووي صرح بأن الكفارة على هذا القول تتبعض، وفي المسألة وجهان حكاهما الروياني في "البحر". أحدهما: أنه وجب على كل منهما النصاب ويحمل الزوج ما وجب عليها. والثاني: أنه يجب على كل منهما كفارة كاملة ثم يتحمل عنها ويتداخلان. وقد حكى ابن الرفعة الأول عن ابن الصباغ وأنه مقتضى كلام القاضي الحسين، وحكى الثاني عن البندنيجي والمتولي والشيخ أبي حامد حتى صرح الشيخ أبو حامد بأن الكفارة تقع كلها عنه وكلها أيضًا عنها. كذا نقله عنه جماعة منهم صاحب "الذخائر"، ونقله في "الكفاية" عن البندنيجي، وهو مقتضى الوجوب على وجوب كل واحد منهما. وفي "الكفاية" عن ابن يونس أن بعض المتأخرين قال: الذي يقتضيه المذهب أن الولاء يكون بينهما؛ لأن العتق أجزأ عنهما. وهذا المتأخر الذي عناه ابن يونس هو صاحب "البيان"؛ فإنه هكذا قال. ولا شك أن هذه المسألة مفرعة على الخلاف السابق.

قوله أيضًا من "زوائده" نقلًا عن "المعاياة": فإذا وطئ أربع زوجات في يوم لزمه على القول الأول كفارة فقط عن الوطء الأول ولا يلزمه شيء بسبب باقي الوطآت. ويلزمه على الثاني أربع كفارات: كفارة عن وطئه الأول عنه وثلاث عنهن؛ لأنها لا تتبعض إلا في موضع توحد تحمل الباقي، ويلزمه على الثالث خمس كفارات: كفارتان عنه وعنها بالوطء الأول. قال: ولو كان له زوجتان مسلمة وذمية فوطئهما في يوم فعلى الأول: عليه كفارة واحدة بكل حال. وعلى الثاني: إن قدم وطء المسلمة فعليه كفارة، وإلا فكفارتان. وعلى الثالث: كفارتان بكل حال؛ لأنه إن قدم المسلمة لزمه كفارتان عنه وعنها ولم يلزمه للذمية شيء، وإن قدم الذمية لزمه لنفسه كفارة ثم للمسلمة أخرى. هذا كلامه، وفيه نظر، والله أعلم. انتهى كلام "الروضة"، والنظر الذي أشار إليه متعلق بما ذكره في "التفريع" على القول الثاني وراجع إليه؛ فإن الروياني فرع عليه تعدد الكفارة إذا كانت الموطوءة مسلمة. وقياس ما سبق في المسافر إذا كان صائمًا فوطئ زوجته أنه لا شئ عليه على الصحيح. قوله: وإذا قلنا الوجوب يلاقيها وكانت أمة فعليها الصوم؛ لأن العتق لا يجزيء عنها. قال في "المهذب": إلا إن قلنا العبد يملك بالتمليك، فإن الأمة كالحرة المخيرة. انتهى ملخصًا.

اعترض في "الروضة" على كلام "المهذب" فقال: هذا الذي قاله في "المهذب" غريب، والمعروف أنه لا يجزيء العتق عن الأمة، وقد قال في "المهذب" في باب العبد المأذون: لا يصح إعتاق العبد سواء قلنا: يملك أم لا؛ لأنه يضمن الولاء وليس هو من أهله، والله أعلم. انتهى كلامه -رحمه الله-، وهو يقتضي انفراد صاحب "المهذب" به وأنه لا يعرف لغيره، وهو غريب؛ فقد صرح في كتاب الكفارات بحكاية ذلك عن غيره فقال: وإن ملكه سيده عبدًا ليعتقه عنها لم يصح؛ لأنه يستحق الولاء وليس العبد من أهل إثبات الولاء. وعن صاحب "التقريب" أنه يصح إعتاقه ويثبت له الولاء، وعن القفال يخرج قول أنه يصح إعتاقه عن الكفارة، والولاء موقوف على أنه إن عتق فهو له وإن دام رقه فلسيده. هذا كلامه، وذكر أيضًا في كفارة اليمين نحوه. وذكر القاضي حسين في البيع في أواخر باب الجراح بالضمان أنه إذا ملكه سيده عبدًا فأعتقه عن نفسه بإذن سيده ففي صحة ذلك قولان؛ فإن صححنا فالولاء للسيد، وذكر الشيخ أبو محمد في أول كتاب الأيمان من "السلسلة" نحوه أيضًا. قوله تفريعًا على التحمل، وإن اختلف حالهما فإن كان أعلى حالًا منها نظر إن كان من أهل العتق وهي من أهل الصيام أو الإطعام فوجهان: أظهرهما: أنه يجزيء الإعتاق عنهما. ثم قال: وإن كان هو من أهل الصيام وهي من أهل الإطعام، فالذي قاله الأئمة أنه يصوم عن نفسه ويطعم عنها؛ لأن الصوم لا يتحمل به.

وقضية من قال بإجزاء العتق عن الصوم في الصورة السابقة إجزاء الصيام عن الإطعام لأن من فرضه الإطعام لو تحمل المشقة وصام أجزأه، والصوم كما لا يتحمل به لا يتحمل. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن القاضي أبا الطيب قد أجاب عما قاله الرافعي فقال: ليس له أن ينتقل من الإطعام هاهنا إلى الصيام الذي هو أعلى منه؛ لأن الإطعام وجب عليه بسبب غيره، وإنما كان ذلك يجوز لو كان بسببه. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن هذا الذي ذكره الرافعي بحثًا قد صرح بنقله الفوراني، وأنه حكى في ذلك وجهين للأصحاب، وصحح التحمل على وفق ما بحثه الرافعي، وحكى ذلك عنه صاحب "الذخائر" أيضًا. الأمر الثالث: أن قول الرافعي: والصوم كما لا يتحمل به لا يتحمل ليس هو استدلالًا على ما يرومه الرافعي من إجزاء الصيام عن الإطعام؛ إذ لو أراد ذلك لقال: ولأن الصوم كما يتحمل يتحمل به؛ أي: كما يتحمل بالإعتاق الذي هو أعلى منه فكذلك يتحمل الإعتاق الذي هو أدنى. وأما مراد الرافعي -والله أعلم- معارضة تعليلهم أن الصوم لا يتحمل به فقال: ما قلتم من أن الصوم لا يتحمل به يلزمكم أن لا يتحمل أيضًا وقد قالوا: إنه يتحمل بالإعتاق. واعلم أنه قد بقي من الأقسام قسم لم يذكره الرافعي ولا النووي في "الروضة" وهو ما إذا كانت من أهل الإعتاق وهو من أهل الإطعام، وقد ذكره النووي في "شرح المهذب" فقال: يطعم ويلزمه الإعتاق عنها. وكذلك

ذكره سليم الرازي في "المجرد". قوله: إذا ظن أن الصبح لم يطلع فجامع ثم بان خلافه فحكم الإفطار قد سبق ولا كفارة لعدم الإثم. قال الإمام: ومن أوجب الكفارة على الناسي يقول مثله هنا لتقصيره في البحث. انتهى. وهذا التعبير عما قاله الإمام يوهم أن ذلك بحث منه لا نقل للأصحاب، وقد اغتر به النووي في "شرح المهذب" فصرح بذلك فقال: فلا كفارة، قطع به المصنف والأصحاب إلا إمام الحرمين فإنه قال في آخره: وليس الأمر كذلك بل نقله عن الأصحاب فقال: ثم إذا ألزمنا الناسي الكفارة عند الحكم بإفطاره فتلك الصورة أولى، وهذا لم أقله احتمالًا بل ذهب إليه طوائف من أصحابنا. هذا لفظ الإمام، فصرح بنقل الخلاف وبالأولوية أيضًا. قوله: ولو ظن أن الشمس قد غربت فجامع ثم بان خلافه، فقد ذكر صاحب "التهذيب" وغيره أنه لا كفارة أيضًا؛ لأنها تسقط بالشبهة. وهذا ينبغي أن يكون مفرعًا على جواز الإفطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط المذكور. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن البغوي في "التهذيب" لم يفرض هذه المسألة فيما إذا ظن الوقت؛ بل فرضها فيما إذا شك فيه فقال بخلاف ما لو أكل شاكًا في غروب الشمس فبان أنها لم تغرب يجب القضاء؛ لأن الأصل هناك بقاء النهار وتحريم الأكل.

ثم قال: وحيث قلنا يجب القضاء فإن كان قد جامع قضى ولا كفارة عليه في الموضعين؛ لأن كفارة الجماع تسقط بالشبهة. هذا لفظه. ذكر ذلك في أثناء فصل أوله قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} (¬1) الآية. وإذا كانت صورة المسألة فيما إذا شك فلا يجيء البحث الذي بحثه الرافعي لأن الشاك يحرم عليه الأكل قطعًا كما جزم به الرافعي وصرح به أيضًا في "الروضة" من "زياداته" بل كلام البغوي صريح في إبطاله حيث حكم بعدم الوجوب عند تحريم الأكل لأجل الشبهة وعند جوازه أولى. الأمر الثاني: أن الإلزام بالضابط المذكور إنما يصح عند من ذكره وارتضاه، وأما من لم يذكره بالكلية أو ذكره ولم يرتضيه فلا يلزمه القول بمقتضاه؛ لأنه قد لا يقول به. إذا علمت ذلك فالبغوي لم يذكر هذا الضابط بالكلية، وإنما ذكره الغزالي، والغزالي لم يذكر هذه المسألة فلم يتوجه الإلزام به على أحد. الأمر الثالث: أن ما تقدم في المسألة التي قبل هذه المسألة عن كلام الإمام تجري في هذه الصورة بطريق الأولى فاعلمه؛ فإن جزم الرافعي بهذه دون تلك قد يوهم خلافه. قوله: ولو أكل الصائم ناسيًا فظن بطلان صومه فجامع فهل يفطر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كما لو سلم عن ركعتين من الظهر ناسيًا وتكلم عامدًا لا تبطل صلاته. وأصحهما -ولم يذكر الأكثرون غيره-: أنه يفطر كما لو جامع على ظن أن الصبح لم يطلع فبان خلافه. وعلى هذا فلا كفارة؛ لأنه وطء وهو يعتقد أنه غير صائم. ¬

_ (¬1) البقرة: (187).

وعن القاضي أنه يحتمل وجوبها؛ لأن هذا الظن لا يبيح الوطء. انتهى كلامه. وهذا النقل عن القاضي قد تابعه عليه النووي وهو يقتضي أنهما لم يقفا في المسألة على خلاف وأنه ليس فيها إلا هذا الاحتمال. وليس كذلك ففيها خلاف قديم رأيته في كلام الإمام محمد بن يحيى في كتاب الصيام من "تعليقه" في الخلاف منقولًا عن الحليمي فقال: ووجبت الكفارة في وجه أورده الحليمي من أصحابنا في "المنهاج". هذه عبارته. واعلم أن سبب التعليل الذي ذكره القاضي -وهو أبو الطيب- أن الإمساك واجب. وإذا علمت ذلك ظهر لك إيراد هذه الصورة على الضابط المذكور قبل هذا بأوراق في وجوب الكفارة وهو قولهم أنها تجب بإفساد صوم يوم من رمضان بجماع أثم به لأجل الصوم. ووجه التقييد الأخير أن الصوم لما كان واجبًا وأوجبنا الإمساك لأجله؛ لكونه يشبهه كان تأثيمه لأجل الصوم وهو وجوب الإمساك على ما في ظنه وإن كان صائمًا حقيقة. وبهذا التقدير جميعه يظهر أن صورة المسألة في ما إذا علم وجوب الإمساك، فإن ظن عدم وجوبه أيضًا فلا كفارة قطعًا. قوله: وهل يلزمه مع الكفارة قضاء اليوم الذي أفسده بالجماع؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: يجب. والثاني: لا.

والثالث: إن كفر بالصيام لم يلزم وإلا لزم. ثم قال بعد ذلك: قال الإمام: ولا خلاف أن المرأة يلزمها القضاء إذا لم تلزمها الكفارة، ولا يتحمله الزوج، فإن الكفارة إذا كانت صومًا لا يتحمل فما ظنك بالقضاء. انتهى كلامه. وهذا الاستدلال لا يثبت للإمام ما يحاوله؛ لأنا إذا قلنا بالوجوب عليها وكانت من أهل الصوم وهو من أهل العتق، فإنه يحمل عنها الصوم بإعتاقه كما قاله الرافعي في موضعه وقد تقدم ذكره. وإن كانا معًا من أهل الصيام ففي الاكتفاء بصومه عن صومها وجهان حكاهما القاضي الحسين في "تعليقه". قوله في "الروضة": لو كان من لزمته الكفارة فقيرًا فهل له صرفها إلى أهله وأولاده؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لحديث الأعرابي المشهور. وأصحهما: لا كسائر الكفارات. وأما رقبة الأعرابي فلم تدفع إلى أهله عن الكفارة. انتهى. واعلم أن الإذن للأعرابي في إطعامه لأهله رواه الشيخان (¬1)، وذكر الرافعي له ثلاثة تأويلات منقولة عن نصه في "الأم" فقال في الثالث منها: إنه يحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تطوع بالتكفير عنه وشرع له صرفه إلى الأهل والعيال؛ فتكون فائدة الخبر أنه يجوز للغير التطوع بالكفارة عن الغير بإذنه وأنه يجوز للمتطوع صرفه إلى أهل المكفر عنه وعياله. هذا كلام الرافعي فيما نقله عن نصه في "الأم"، وهذا الثالث قد أسقطه النووي من "الروضة" مع أنه تؤخذ منه هذه المسألة الحسنة التي ذكرها في كلامه؛ وهي إعطاؤها لأهل الذي يكفر عنه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (1834) ومسلم (1111) من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -.

وقد صرح بجوازه الشيخ أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" نقلًا عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: يجوز للرجل أن يكفر عن ولده الصغير في الموضع الذي يلزمه ويصرفها إليه عند حاجته ليأكل كفارة نفسه كما كفر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأعرابي ودفع إليه كفارته ليأكل هو وأهله. هذا لفظ الشيخ أبي علي، ومن "شرح التخليص" نقلته، وكذا نقله القاضي حسين في "تعليقه" عن أصحابنا. قوله: قال الأصحاب: الحقوق المالية الواجبة لله تعالى على ثلاثة أضرب: أحدها: ما يجب لأسباب مباشرة من العبد كزكاة الفطر؛ فإذا عجز وقت الدخول لم تثبت في ذمته. والثاني: ما يجب بأسباب مباشرة على جهة البدل كجزاء الصيد؛ فإذا عجز وقت وجوبه يثبت في ذمته تغليبا لمعنى الغرامة. والثالث: ما يجب بذلك لكن لا على جهة البدل ككفارة الجماع واليمين والقتل والظهار ففيها قولان: أظهرهما: تثبت في الذمة عند العجز. انتهى. واعلم أن ما وجب في الحج لا عن إتلاف بل عن استمتاع لكفارة اللباس والطيب ونحوهما حكمها حكم ما وجب على جهة البدل على الصحيح؛ كذا ذكر في "شرح المهذب" فاعلمه فإن فيه وقفة، وكلامه هنا يوهم خلافه. قوله: إن الجمهور حكوا الخلاف في استقرار كفارة الجماع قولين، وإنما أطلق صاحب "الكتاب" فيها وجهين تقليدًا للإمام. انتهى.

وهو يوهم انفراد الإمام بحكاية الوجهين، وليس كذلك، فقد جزم بحكاية الوجهين في المسألة جماعة آخرون قدماء أجلاء منهم أبو علي الطبري في "الإفصاح" والقاضي الحسين في "تعليقه". قوله: والفدية مد من طعام لكل يوم من أيام رمضان يصرف إلى الفقراء، وكل مد منهما بمثابة كفارة تامة؛ فيجوز صرف عدد منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكفارة الواحدة يجب صرف كل واحد منها إلى مسكين. ثم قال: ويجب بثلاث طرق منها: التأخير .. إلى آخره. لم يصرح هو ولا النووي بأنه هل يجوز أن يعطي الفقير أقل من مد، وقد صرح به القاضي الحسين في "تعليقه" هنا وجزم بالمنع فقال: إذا لزمه مد التأخير ليس له أن يدفعه إلى مسكين. هذا لفظه. وذكر في "الروضة" من "زوائده" في باب الدماء في الكلام على التصدق بالإطعام بدلًا عن الذبح فرعًا يتعلق بما نحن فيه فقال: قال صاحب "البحر": أقل ما يجزئ أن يدفع الواجب إلى ثلاثة. ثم قال: فإن فرق الطعام فهل يتعين لكل مسكين مد كالكفارة أم لا؟ فيه وجهان: الأصح: لا يتقيد، بل يجوز الزيادة على مد والنقص منه. والثاني: لا يجوز أقل منه ولا أكثر. هذا كلامه، فيحتاج إلى الفرق بين منع إعطاء الكفارة الواحدة هنا -وهى المد- إلى جمع، وبين الجواز في غيرها، فإن قيل: لأن المد في غاية القلة وهو كفاية الشخص غالبًا فلم يوزع؟ قلنا: ينتقض بما نقلناه الآن عن "الروضة" في باب الدماء، بل المنع هناك أولى؛ لأنه لا ضرورة فيه لحصول الإعطاء إلى ثلاثة أشخاص مد، بخلاف

فدية الصوم. قوله: إحداهما: إذا فاته صوم وتمكن من فعله ومات قبل القضاء فالجديد: أنه يطعم من يزكيه لكل يوم مد، روي ذلك عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا. والقديم: أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" (¬1). فعلى القديم لو أمر الولي أجنبيًا فصام عنه بأجرة أو بغيرها جاز كالحج، ولو استقل به الأجنبي جاز على الأصح. انتهى. وظاهر كلامه يشعر بأن المراد بالاستقلال أن يكون بغير إذن الولي لكن شرطه أن لا يكون الذي يصوم عنه قد أذن له؛ فسيأتي في كتاب الوصايا أن الذي وجب عليه الصوم إذا أوصى لأجنبي أن يصوم عنه صح صومه وإن لم يأذن له الولي، وهو واضح. واعلم أمرين: أحدهما: أن الرافعي في "المحرر" قد صرح بأنه يأثم، وتبعه عليه في "المنهاج" ولم يصرح به الرافعي. ولا يؤخذ ذلك من وجوب التدارك؛ ألا ترى أن الحج المتروك عمدًا لا يقضي فيه الميت على رأي جماعة ومع ذلك يفعل عنه. الأمر الثاني: أن النووي قد صرح في "شرح مسلم" بأن الأصح أن الولي يصوم عن الميت، وذكر في "الروضة" وكثير من كتبه نحوه. والحديث الأول قال الترمذي: الصحيح وقفه على ابن عمر؛ ولهذا قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى (1851) ومسلم (1147) من حديث عائشة -رضى الله عنها-.

في "الروضة": إنه ضعيف، والثاني ثابت في الصحيحين. قوله: والمعتبر على قولنا: أن الولي يصوم هل هو الولاية على ما ورد في لفظ الخبر أو مطلق القرابة أو تشترط العصوبة أو الإرث؟ توقف الإمام فيه وقال: لا نقل عندي في ذلك، وأنت إذا فحصت عن نظائره وجدت الأشبه اعتبار الإرث. انتهى. زاد النووي على ذلك فقال: المختار أن المراد مطلق القرابة. قال: وفي "صحيح مسلم" (¬1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر لامرأة أن تصوم عن أمها. وهذا يبطل احتمال العصوبة انتهى. واعلم أن كلام الرافعي والنووي يقتضي أنهما لم يظفرا في المسألة بنقل، المسألة قد صرح بها جماعات كثيرة منهم: القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، والماوردي في "الحاوي"، والبغوي في "التهذيب"، والروياني في "البحر". فأما القاضي فجزم باعتبار القريب كما رجحه النووي فقال: فإذا قلنا: يجب أن يصام عنه، فمن شاء من أقاربه صام عنه. هذا لفظه، وقال ابن الصلاح: إنه الأقرب، وصاحب "الذخائر": إنه الأظهر. وجزم الماوردي باعتبار الإرث، كما رجحه الرافعي فقال في أواخر كتاب الوصايا: وكان الشافعي في القديم يجوز النيابة في صوم الفرض إذا ناب عنه وارثه، وفي نيابة الأجنبي عنه وجهان. هذا لفظه. وذكر البغوي نحوه أيضًا فقال: هل يجوز لوارثه أن يصوم عنه؟ فيه قولان. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) حديث (1148) من حديث ابن عباس -رضى الله عنهما-.

ونقله الروياني في "البحر" عن بعض أصحابنا واقتصر عليه، وقال: لا فرق بين المستغرق وبين وارث شيء، وصححه ابن أبي الصيف في "نكته". وذكر النووي في "شرح مسلم" ما يوهم أن هذه الاحتمالات وجوه فقال: المراد بالولي: القريب سواء كان عصبة أو وارثًا أو غيرهما، وقيل: العصبة، والصحيح الأول. هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. هذا لفظه. قوله: ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف لم يقض عنه وليه، ولا تسقط عنه الفدية. ونقل البويطي أن الشافعي - رضى الله عنه - قال في الاعتكاف: يعتكف عنه وليه. وفي رواية: يطعم عنه. قال صاحب "التهذيب": ولا يبعد تخريج هذا في الصلاة فيطعم عن كل صلاة مد. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن التخريج المذكور يحتمل أن يكون راجعًا إلى الأمرين المتقدمين وهما فعل الاعتكاف وإخراج الطعام بدلًا عنه وأن يرجع إلى الأخير وهو الإطعام. وقد بين الرافعي في كتاب الوصايا المراد وجعله راجعًا إليهما، وذكر ذلك في الكلام على ألفاظ "الوجيز" فقال: ولك أن تعلم قوله وأما الصلاة عنه قضاء لما فاته فلا تنفعه. قالوا: وليخرج من الصوم أشير إليه، وقد ذكرناه الصوم. هذا كلامه فظهر بما قاله، وقد راجحت "التهذيب" فوجدته قد عبر بلفظ: (هذا) أي: اسم الإشارة للقرب كما عبر الرافعي؛ فيكون التخريج في الإطعام خاصة

كما فهم النووي. واعلم أن صاحب "التهذيب" قد ذكر في آخر كتاب أن الأصحاب اختلفوا في جواز الصلاة عن الميت وفي حج التطوع إذا أوصى. انتهى. فإذا جازت الصلاة بالوصية فالقياس جوازها للولي على وفق التخريج السابق فقد ادعى النووي في "شرح المهذب" و"شرح مسلم" الإجماع على أنه لا يصلي عنه. الأمر الثاني: أن الخلاف في التكفير عن الصلاة خلاف قديم فقد رأيته مذكورًا في "فتاوى" القفال فقال: مسألة: إذا مات وعليه صلاة قال بعض أصحابنا: يتصدق عن كل صلاة مد. هذه عبارته. وحكاية الرافعي ذلك احتمالًا عن البغوي عجيب؛ فإنه كثير النقل عن الفتاوي المذكورة، وهو من البغوي أعجب؛ فإن القفال شيخ شيخه. قوله: الحال الثاني: أن يكون موته قبل التمكن من القضاء بأن لا يزال مريضًا أو مسافرًا من أول شوال حتى يموت: فلا شئ في تركته ولا على ورثته كما لو تلف ماله بعد الحول وقبل التمكن. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكر في آخر المسألة في الكلام على ألفاظ "الوجيز" أنه لا فرق في القولين في أنه هل يصام عنه أو يفدي، وبين أن يكون قد ترك الأداء بعذر أو بغير عذر، ونقله في "الروضة" إلى أول الفصل. وإذا علمت ذلك فما ذكره هاهنا من كونه لا شيء في تركته إنما محله

إذا فات بعذر. وتمثيل الرافعي بالمريض والمسافر يدل عليه. فإن فات بغير عذر فيأثم ويتدارك عنه بالفدية، كذا صرح به الرافعي في كتاب النذر في الكلام على نذر صوم الدهر وجعله أصلًا وقاس عليه حكمًا آخر. الأمر الثاني: أن تقييده ذلك بأول شوال لم أره إلا في هذا الكتاب، وتبعه عليه في "الروضة"، حتى إن "الشرح الصغير" و"شرح المهذب" وغيرهما من كتبهما لا ذكر له فيها، وهو الصواب، بل يكفي حصول ذلك قبل الفجر من اليوم الثاني من شوال؛ فإن ما قبل ذلك لا يصح فيه الصوم، بل لو طرأ الحيض أو النفاس أو المرض قبل غروب الشمس من اليوم الثاني لم يحصل التمكن أيضًا. ولو لزمه يوم فسافر مثلًا بعد الفجر من اليوم الثاني واستمر السفر إلى رمضان ففي وجوب الفدية احتمالان حكاهما الروياني عن والده، وقال: الأصح عندي عدم الوجوب واعرف. الأمر الثالث: أنه قد ذكر قبل هذا الكلام من غير فاصل أن صوم الكفارة والنذر حكمهما حكم صوم رمضان، ثم ذكر عقبه هذا الكلام وهو اشتراط التمكن؛ فدل ذلك على اشتراط ذلك أيضًا فيهما، لكنه قد نقل في آخر كتاب النذر عن القفال من غير مخالفة له أنه لا يشترط التمكن في الصوم المنذور. واعلم أنه قد سبق في الزكاة أن التأخير بعد الحول لأجل انتظار القريب والجائز جائز، ويجب به الضمان في الأصح فلم لا جعلنا المسافر هاهنا متمكنًا لاسيما إذا استحببنا له الصوم بأن كان لا يضره؟ قوله من "زياداته": قال أصحابنا: ولا يصح الصيام عن أحد في حياته

بلا خلاف سواء كان عاجزًا أم غيره. انتهى لفظه. والذي ذكره النووي هاهنا من المنع بلا خلاف قد خالفه في موضعين من "الروضة" فقال في الباب الثاني من كتاب الوصية في الكلام على ما ينفع الميت: ولو مرض بحيث لا يرجى برؤه ففي الصوم عنه وجهان. انتهى. ولم يرجح شيئًا منهما. وقال في كتاب النذور: ولو نذر صوم الدهر فأفطر يومًا فلا سبيل لقضائه. ثم قال: فإن كان لعذر مرض أو سفر فلا فدية وإن تعدى لزمه، قال الإمام: وهل يجوز أن يصوم عن المفطر المتعدي وليه في حياته تفريعًا على أنه يصوم عن الميت وليه؟ الظاهر جوازه لتعذر القضاء. وفيه احتمال من جهة أنه قد يطرأ ما يبيح له ترك الصوم فيقضى. انتهى كلامه. فهذه ثلاثة مواضع متعارضة؛ لأنه قد ذكر هنا أنه لا خلاف في المنع وفي النذر نقلًا عن الإمام أنه يجوز وأقره، وفي الوصية وجهين من غير ترجيح. وقد وقع الموضع الأول والثالث في "شرح المهذب" كما في "الروضة"، واقتصر في "شرح مسلم" على الموضع الأول وهو البطلان بلا خلاف. واعلم أن الرافعي قد ذكر أيضًا المنع هنا، وإنما ذكرها النووي في "الروضة" من زياداته لنفي الخلاف فيها كما زعم، وحينئذ فيكون معارضًا لما نقله في النذر. قوله: وليس المراد من القول القديم أنه يلزم الولى أن يصوم، بل المراد أنه يجوز له ذلك إن أراده، هكذا أورده في "التهذيب"، وحكاه الإمام عن الشيخ أبي محمد وهو كالمتردد. انتهى كلامه.

وهذا النقل المذكور يعارضه كلام القاضي أبي الطيب؛ فإنه جزم في "تعليقه" بأن المراد منه الوجوب، وقد ظن النووي أن هذا النقل متفق عليه فجزم به في "الروضة" ولم يعزه إلى أحد، وزاد على ذلك في "شرح المهذب" فقال: إنه لا خلاف فيه. قوله: المسألة الثانية: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم أو تلحقه به مشقة شديدة لا صوم عليه، ولكن تلزمه الفدية في أصح القولين، والقولان جاريان في المريض الذي لا يرجى برؤه. ثم قال: وحكم صوم الكفارة والنذر حكم صوم رمضان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن مقتضى إطلاق الرافعي أنه لا فرق في هذين القولين بين أن يتقدم وجوب الكفارة والنذر على سن الشيخوخة والمرض أو يكون مقارنًا لها. وقد سبقه إلى حكاية القولين في حالة التقدم الشاشي في "المعتمد" فإنه قال بعد ذكره القولين في وجوب الفدية على الشيخ والمريض ما نصه: وهذا حكم صوم النذر والقضاء عند العجز إذا كان قد سبق وجوبه في حقه. هذا لفظه، وسيأتي عقب هذا في انعقاد النذر في حالة المقارنة وجهين، وأن الصحيح منهما عدم الانعقاد؛ فحكاية الخلاف وجهين وتصحيح الانعقاد يمنعان أو يبعدان إرادة هذه الصورة. لكن صرح البغوي في "التهذيب" أن الفدية تجب في حالة التقدم قولًا واحدًا، وأن القولين محلهما في المقارن، وذكر في "التتمة" نحوه إلا أنه لم يصرح بدعوى الاتفاق، بل حكى القولين في المقارن وجزم في المتقدم بالوجوب، وفي عبارة القاضي الحسين بعد الفراغ من هذه المسألة بفرعين إشعار بذلك.

ولا شك أن القولين في صوم رمضان يجريان في المقارن، وفي جريانهما في المتقدم إذا آخره بعد التمكن منه نظر، والقياس فيه القطع بوجوب الفدية ويكون كالميت. الأمر الثاني: أن الإطعام في أكثر الكفارات ثابت بطريق الأصالة، فكيف يأتي فيها ما ذكره الرافعي من الخلاف في الانتقال، وأنه على سبيل البدلية؟ نعم كفارة القتل لا إطعام فيها في أصح القولين فيمكن أن يأتي القولان في الانتقال بدلًا, وقد استثنى الطبري شارح "التنبيه" كفارة الحلق ونحوه على المحرم، فإنها تفدى بمدين، وتصويره بما إذا مات معسرًا وأراد الأجنبي التكفير عنه واضح، إلا أن وجوب المدين فيه نظر، والقياس مد واحد. وكذلك إذا فرعنا على أن الاعتبار بحالة الوجوب، وكان إذ ذاك معسرًا، وأما إذا كان موسرًا فاختار الولي الصوم، لينتقل عنه إلى بدله فيحتمل ما ذكرناه أيضًا، ويحتمل ما ذكره، وهو قريب من الكلام الآتى في الحج في ما إذا حلق شعره أو قلم ظفرًا، فراجعه. الثالث: أن النووي قد أسقط هذه المسألة من "الروضة" من هذا الموضع وذكر صورة المسألة وحكمها قبل ذلك في الكلام على الميت -يعني إذا مات- وقد لزمه صوم كفارة أو نذر، فحكمه حكم رمضان، ولم يتعرض الرافعي هناك لهذه المسألة بالكلية، وحاصله أنها التبست عليه تلك المسألة، فنقلها إلى محلها. قوله: ولو نذر، الشيخ الهم في حال العجز صومًا ففي انعقاده وجهان. انتهى. والأصح عدم الانعقاد، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" وفي "الروضة" من زياداته. والهم: بكسر الهاء.

قوله: وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فلو كان معسرًا هل تلزمه إذا قدر؟ فيه قولان كما ذكرنا في الكفارة. انتهى. هذه العبارة أخذها الرافعي-رحمه الله- من البغوي وتابعه في "الروضة" عليها وذكر مثلها في "شرح المهذب"، ثم قال فيه عقب ذلك: والأصح في الكفارة بقاؤها في ذمته إلى اليسار؛ لأنها في مقابلة حياته فهى كجزاء الصيد، وينبغي أن يكون الأصح هنا أنها تسقط ولا تلزمه إذا أيسر كالفطرة؛ لأنه عجز حال التكليف بالفدية وليست في مقابلة حياته ونحوها. وقطع القاضي أبو الطيب في "المجرد" بأنه إذا أيسر بعد الإفطار لزمته الفدية، فإن لم يفد حتى مات لزم إخراجها من تركته. هذا كلامه في "شرح المهذب". وتوجيه الوجوب أنها بسبب من جهته -وهو الفطر- بخلاف الفطرة. وجزم القاضي الحسين في "تعليقه" بأنه لا تجب على وفق ما رجحه النووي، ثم قال: ويحتمل أن يقال: تجب بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحالة الوجوب أو بحالة الأداء، وفيه خلاف. هذا كلام القاضي. والظاهر أن البغوي أخذ ما تقدم ذكره عنه من هذا الكلام. قوله: وقد قدر الشيخ بعد ما أفطر على الصوم، نقل صاحب "التهذيب" أنه لا يلزمه القضاء، لأنه لم يكن مخاطبًا بالصوم بل بالفدية، ثم قال من عند نفسه: إذا قدر قبل أن يفدي عليه أن يصوم، وإن قدر بعد الفدية فيحتمل أن يكون كالمغصوب إذا حج عنه ثم برئ. واعلم أن صاحب "التتمة" في آخرين نقلوا خلافًا في أن الشيخ هل يتوجه عليه الخطاب بالصوم بالفداء ابتداء؟ فلصاحب "التهذيب" أن يمنع التعليل السابق.

انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله صاحب "التهذيب" من عدم الوجوب قد جزم به أيضًا القاضي الحسين في "تعليقه" والخوارزمي في "الكافي"، ونقل الدارمي فيه وجهين، واقتصر في "شرح المهذب" على كلام البغوي والدارمي. الأمر الثاني: في الأصح من الخلاف المحكي في أنه مخاطب بالفدية ابتداء أم لا؛ فإن مسألتنا التي نحن فيها هى نتيجة. وقد اختلفوا فيه فقال في "شرح المهذب": الأصح الأول، وهو الخطاب بالفدية، وقال ابن الرفعة: الصحيح الثاني، وهو الخطاب أولًا بالصوم. وفي "الروضة": وإذا خافت الحامل والمرضع على ولديهما أفطرتا وقضتا. وهل تلزمهما الفدية؟ فيه ثلاثة أقوال: أظهرها: تجب. والثاني: تستحب. والثالث: تجب على المرضع دون الحامل. ثم قال: فعلى الأظهر لا تتعدد الفدية بتعدد الأولاد على الصحيح، وبه قطع في "التهذيب". انتهى. وما ذكره من تصحيح طريقة الوجهين قد ناقضه في "شرح المهذب" فصحح طريقة القطع، فقال ما نصه: فيه طريقان أصحهما لا، وبه قطع البغوي، والثاني: فيه وجهان، حكاه الرافعي. هذا لفظه، وكلامه يقتضي أنه لم يقف على الوجهين إلا في كلام الرافعي مع أنهما مصرح بهما في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين.

واعلم أن كلام الرافعي والنووي يقتضي أن الوجهين جاريان في المرضع والحامل، وقد صرح بذلك في "التتمة" فقال: إذا كانت حبلى بولدين أو ترضع ولدين فهل تلزمها فدية واحدة أو فديتان؟ في المسألة وجهان. هذا لفظه. وكلام ابن الرفعة يوهم اختصاص الوجهان بالمرضع. وهو غريب؛ فإنه قد نقل أيضًا هذا الموضع عن "التتمة". قوله: ولو كانت المرضع مستأجرة فقال في "التتمة": لها الفطر. وقال الغزالي في "الفتاوى": ليس لها ذلك، قال: ولا خيار لأهل الصبي أيضًا. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح قول صاحب "التتمة" فقد جزم به أيضًا القفال والقاضي الحسين في فتاويهما، وصححه النووي في "شرح المهذب" وزيادات "الروضة"، وزاد فنقل عن القاضي أن الإفطار يجب إن أضر الصوم بالرضيع. قوله: الأمر الثاني: أن الغزالي بعد أن ذكر أنه لا خيار، وعلله بأن وجود الصوم وتأثيره في اللبن ظاهر معلوم استثنى الجاهل فقال: فإن فرض دعوى جهل به ممن يتصور أن يلتبس عليه ذلك فلا يبعد الخيار. قوله في المسألة من زياداته: وفدية الفطر على من تجب؟ قال القاضي: يحتمل وجهين بناء على ما لو استأجر المتمتع فعلى من يجب دمه؟ فيه وجهان. انتهى كلامه. قال في "شرح المهذب" بعد حكايته لهذا الكلام ولعل الأصح أنها عليها

بخلاف دم التمتع فإنه على المستأجر في الأصح؛ لأن الأول من تتمة إيصال المنفعة الواجبة، بخلاف دم التمتع فإنه من تمام الحج الواجب عليه. قوله: ولو كانت المرضع أو الحامل مسافرة أو مريضة فأفطرت على قصد الترخص بالمرض أو السفر فلا فدية عليها، وإن لم تقصد الترخص ففي لزوم الفدية وجهان كالوجهين السابقين في المسافر إذا أفطر بالجماع. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، ولا شك أن هذه المسألة لها أربعة أقسام: أحدها: أن تفطرا بنية الترخص بالسفر أو المرض فقط. والثاني: بنية الخوف على الولد فقط. والثالث: بنيتهما جميعًا. والرابع: أن لا تقصدا شيئًا. إذا عملت ذلك فقول الرافعي: (وإن لم تقصدا الترخص) يحتمل أن يريد أنهما لم تقصداه أصلًا؛ وحينئذ فيكون ساكتًا هنا عن الثاني والثالث. فإن قلت: فما حكمهما؟ قلت: يتجه أن يجزم في الثاني -وهو قصد الخوف على الولد- بالوجوب، وإنما سكت عنه هاهنا لأنه يؤخذ من صدر المسألة. ويجزم في الثالث -وهو قصد الأمرين- بعدمه تغليبًا للمسقط عملًا بالأصل. ويحتمل أن يريد أنهما لم تقصدا الترخص بما ذكر. وعلى هذا فتدخل الأقسام الثلاثة في كلامه حتى يجري فيها الوجهان، والاحتمال الأول أظهر، والحكم الذي ذكرته فيه أقيس.

قوله: إحداهما إذا أفطر بعد الجماع عمدًا في رمضان ففي وجوب الفدية، وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها واجبة على المرضع والحامل مع قيام العذر فغير المعذور أولى. وأظهرهما: لا؛ لأنه لم يرد فيه توقيف وحيث تجب الفدية إنما تجب جائزة وهى لا تخير ما تفدي ولا يليق بعظم حرمته. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن النووي في الروضة قد تبع الرافعي على حكاية الوجهين، ثم حكى في "شرح المهذب" في ذلك طريقتين: إحداهما: هذه. والثانية: قاطعة بعدم الوجوب، وصححها فقال: وهل تلزمه الفدية وهى مد من طعام؟ فيه طريقان: أصحهما -وبه قطع العراقيون-: لا تلزمه. والثاني: حكاه الخراسانيون فيه وجهان: أصحهما عند جمهورهم: لا تلزمه. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر المسألة قبل هذا في الكلام على المجامع في نهار رمضان وحكى فيها ثلاثة أوجه غير هذا الوجه. أصحها: أنه لا يجب عليه شيء. والثاني: تجب كفارة الجماع. والثالث: تجب بالأكل والشرب خاصة كفارة فوق كفارة الحامل ودون كفارة الجماع. وإذا ضممت ما سبق إلى ما حكاه هنا تلخص في المسألة أربعة أوجه. الأمر الثالث: أن التعليل الذي ذكره الرافعي ينتقض بأمور كيمين

الغموس وكفارة القتل العدوان ونحوهما. قوله: الثانية: لو رأى مشرفًا على الهلاك بغرق أو غيره وكان في تخليصه الإفطار فله ذلك ويقضي، وفي الفدية وجهان: أظهرهما الوجوب، والوجهان عند الشيخ أبي محمد مبنيان على المرضع والحامل. ثم قال: وأشار مشيرون إلى تخريج الخلاف هاهنا مع التفريع على وجوب الفدية، ثم فرقوا بأن الإفطار ثم لإحياء نفس عاجزة عن الصوم خلقة فأشبه إفطار الشيخ الهرم، وهاهنا الغريق غير عاجز عن الصوم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بقوله: فله ذلك، تعبير ناقص موهم، والصواب أن يقول: لزمه. وقد نبه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب". الأمر الثاني: أن تصوير الرافعي بالغريق يقتضي أنه لو كان الإفطار لتخليص قال: لم تجب الفدية، وبه صرح القفال في "فتاويه" وعلله بأنه لم يرتفق بهذا الإفطار إلا شخص واحد فلم يكن كالحامل والمرضع. والفرق الذي ذكره الرافعي أيضًا في آخر الكلام يقتضي أن محل الوجهين فيما إذا كان الغريق آدميًا، فإن كان بهيمة لم يجب شئ جزمًا. ولم يتعرض في "الروضة" لهذا الفرق، وقد تعرض في "التتمة" لمسألة البهيمة وقال: إنه يجب الإفطار لتخليصها، ولكن لم يتعرض لوجوب الكفارة، ذكر ذلك في باب الاعتكاف في الكلام على ما إذا دعي لأداء شهادة. قوله: من عليه قضاء رمضان وأخره حتى حصل رمضان السنة الثانية

نظر إن كان مسافرًا أو مريضًا فلا شئ عليه بالتأخير، فإن تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى، وإن لم يكن فعليه مع القضاء عن كل يوم مد. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الوجوب في السفر ونحوه يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون الفوات بعذر أو غير عذر، وقد صرح بذلك في "التتمة" هنا، وكذلك سليم الرازي في "المجرد" في باب صوم التطوع، وبالغ فقال: الأشبه جواز الخروج بذلك منه، أي: من الصوم الذي تعدى بتركه. لكن نقل الرافعي بعد ذلك في صوم التطوع عن البغوي، أنه يحرم عليه تأخيره بعذر السفر، وإذا كان التأخير حرامًا كان التأخير بغير عذر أولى؛ فيلزم وجوب الفدية. واعلم أن الرافعي لو قال: إن كان معذورًا كالسفر والمرض، لكان أعم أو تدخل فيه الحامل والمرضع وغيرهما. قوله: ولو أخر القضاء حتى مضى رمضانان فصاعدًا ففي تكرار الفدية وجهان: أحدهما: لا تتكرر؛ لأنها وجبت في السنة الأولى؛ لأنه أخرج القضاء عن وقته وهو ما بين الرمضانين، وهذا لا يتكرر. والثاني: نعم، قال في "النهاية": وهو الأصح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن محل هذا الخلاف فيما إذا لم يكن قد أخرج الفدية، فإن أخرجها تكررت جزمًا، كذا صرح به البغوي في "التهذيب" فقال: فإن فدى ولم يقض حتى مضى رمضان آخر فعليه القضاء والفدية ثانيًا، فإن لم

يفد ولم يقض حتى مضى رمضانان هل تتداخل الفديتان؟ فيه وجهان: أحدهما: تتداخل كالحدود. والثاني: لا تتداخل، لأنها من الحقوق المالية. هذا لفظه. وذكر مثله أيضًا الخوارزمي في "الكافي". الأمر الثاني: أن النووي أيضًا، في "الروضة" نقل تصحيح التكرر عن الإمام فقط، وكذا في "شرح المهذب" أيضًا وزاد فيه فقال: إن الذي صححه الإمام هو الأصح، وأطلق تصحيحه في "الشرح الصغير" و"المحرر" ووافقه عليه في "المنهاج"، وكأنهما لما لم يجدا التصحيح إلا للإمام أطلقاه. وقد صحح عدم التكرر جماعات منهم الماوردي في "الحاوي" فقال: إنه الأصح، والشيخ أبو حامد، والبندنيجي في تعليقهما، وسليم في "المحرر"، وعبر هؤلاء الثلاثة بقولهم: المذهب، زاد سليم فقال: إن التكرار ليس بشئ. ومنهم الروياني في "البحر" فقال في آخر المسألة: إنه الأظهر. قوله: فإذا لم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء جميع الفائت فهل تلزمه في الحال عما لا يسع الوقت أم لا تلزمه إلا بعد مجئ رمضان؟ فيه وجهان مشبهان بما إذا حلف ليشربن ماء هذا الكوز غدًا فانصب قبل الغد يحنث في الحال أم بعد مجيء الغد؟ . انتهى لفظه. وعبارة "الروضة": فيه وجهان كالوجهين فيمن حلف ليأكلن الرغيف غدًا فتلف قبل الغد. وهذه العبارة أكثر إشعارًا بالمساواة بينها من عبارة الرافعي.

إذا علمت ذلك فاعلم أن الصحيح في الانصباب بنفسه عدم الحنث ونظيره هاهنا إذا لم يزل العذر إلا ذلك الوقت. ولا شك أن الفدية لا تجب عليه في هذه الحالة فيجب فرض المسألة فيما إذا كان التمكن سابقًا وحينئذ فيشبه ما إذا صب هو الماء فإنه يحنث، وفي وقت حنثه الوجهان. واعلم أن الرافعي لما ذكر مسألة الرغيف سوى بين إتلافه عمدًا وتلفه، وقال: فيها قولان أو وجهان، فالذي أورده ابن كج أنه لا يحنث، والخلاف كالخلاف فيما لو حلف ليصعدن السماء غدًا، وقد سبق. انتهى. ومسالة الصعود ذكرها الرافعي في أول النوع الثاني من أنواع المحلوف عليه وهو الأكل والشرب، فقال: فيها وجهان ويشبه أن يرجع الحنث في الغد. انتهى. فتقرر بهذا العمل كله أنه لا يحنث في مسألة الرغيف إلا في الغد، وحينئذ فيكون الراجح أن الأمداد لا تجب إلا بدخول رمضان، فإذا مات قبله فقد مات قبل الدخول فلا يجب بسببه شيء كما صرح به النووي من "زياداته" في مسألة الرغيف، وكذلك غيره أيضًا، وهو واضح لكنه ذكر قبل ذلك بقليل ما يدل على خلافه، فقال: ولو كان عليه عشرة أيام فمات ولم يبق من شعبان إلا خمسة أيام أخرج من تركته خمسة عشر مدًا؛ عشرة لأصل الصوم وخمسة للتأخير؛ لأنه لو عاش لم يمكنه إلا قضاء خمسة. انتهى. وهذا صريح في أن الأيام التي تحققنا فواتها توجب الأمداد التي تجب لفواتها من حين الفوات، ولا يتوقف ذلك على دخول رمضان. واعلم أن هذه المسألة لها نظائر، منها: إذا طول الجمعة حتى تحقق في الثانية أن الوقت يخرج، قال في "البحر" في كتاب الجمعة: عندي أنها

تصير ظهرًا الآن. ومنها: إذا أحرم العبد بحجة وعلم أنه يصير حرًا قبل الوقوف، قال في "البحر" في الجمعة أيضًا: لا ينقلب حجه فرضًا إلا يوم عرفة، قال: لأن ابتداء الفرض لا يصح قبل الحرية، والإحرام بالظهر يصح الآن. ورأيت في "السلسلة" للشيخ أبي محمد أنه إذا أحرم العبد والصبي فهل وقع إحرامهما نفلًا أو موقوفًا على البلوغ والعتق؟ فإن حصل كان فرضًا وإلا وقع نفلًا؟ قال: فيه وجهان. ومنها إذا انقطع المسلم فيه المحل فهل يثبت الخيار من حين الانقطاع أم لا يثبت إلا بعد المحل؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني. ومنها: إذا تفاصلا على أن من أصاب مثلًا ستة من عشرة استحق فاصاب أحدهما وأخطأ الآخر في خمسة، فهل نوجب الجعل من ذلك الوقت أم بعد الفراغ؟ على وجهين: أصحهما: الثاني أيضًا؛ لأن لكل منهما غرضًا في الرمي ومشاهدته من صاحبه التعليم. قوله من "زوائده": وإذا أراد الشيخ الهم إخراج الفدية قبل دخول رمضان لم يجز. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في تعجيل الزكاة موافقًا للمذكور هنا، وذكر مثله أيضًا في الحامل والمرضع. قوله أيضًا من زوائده: قال الإمام الزيادي: ويجوز للحامل تقديم الفدية على الفطر ولا تقدم إلا فدية يوم واحد. انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها أيضًا الرافعي في كفارة اليمين فقال: الحامل والمرضع إذا شرعتا في الصوم ثم أرادتا الإفطار فأخرجتا الفدية قبل الإفطار ففي إجزائها وجهان: أظهرهما: الإجزاء؛ وعلى هذا ففي جواز تعجيل

الفدية لسائر الأيام وجهان بناء على الخلاف في تعجيل الزكاة لعامين. هذا كلامه. قوله: من شرع في صوم تطوع لم يلزمه الإتمام، ولا قضاء عليه لو خرج من صومه؛ لما روي عن عائشة قالت: دخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت إنا خبأنا لك حيسًا، قال: أما إني كنت أريد الصوم ولكن قربيه. (¬1). انتهى. ثم ذكر حديثًا آخر وفيه السؤر. فأما الحيس: فهو بفتح الحاء وبالسين المهملتين بينهما ياء بنقطتين من تحت، وهو تمر يخلط بسمن وأقط، وأصل الحيس الخلط فلذلك سمي هذا به. وقربيه: بالقاف والباء الموحدة: أي: ادنه مني لأشرب منه. والسؤر: بالهمز هو البقية، وقد تقدم في الطهارة. والحديث رواه الدارقطني والبيهقي، وقالا: إسناده صحيح، ولكن لفظه: أنه دخل على عائشة ذات يوم فقال: أعندك شئ؟ قلت: نعم. قال: إذًا أفطر وإن كنت قد فرضت الصوم. قوله: وأما صوم الكفارة فما لزمه منه بسبب محرم فهو كالقضاء الذي على الفور. انتهى. هذه المسألة قد ذكرها الرافعي في مواضع ووقع فيها اختلاف في كلامه وكلام النووي، وسأذكر المسألة إن شاء الله تعالى مبسوطة في كتاب الظهار في الباب المعقود للكفارات. ¬

_ (¬1) تقدم.

قوله: وهذا كله مبني على انقسام القضاء إلى ما هو على الفور وإلى ما هو على التراخى؛ فالأول: ما تعدى فيه بالإفطار، والثاني: ما لم يتعد فيه. . . . إلى آخره. اعلم أن هذا الضابط يرد عليه قضاء يوم الشك؛ فإن حاصل المنقول فيه يقتضي أنه على الفور على الصحيح؛ فقد قال في التتمة: ينبني على أنه هل يلزمه التشبه بالصائمين في بقية نهاره أم لا؟ ؛ فإن قلنا: لا يلزمه، فقد جعلناه كالمعذور فلا يلزم أن يقضي على الفور، وإن قلنا: يلزمه التشبه فقد ألحقناه بمن أفطر بغير عذر فيلزمه أن يبادر إلى القضاء. هذا كلامه. ونقله النووي في "شرح المهذب" عنه وعن غيره أيضًا، ولم ينقل ما يخالفه. واقتصر ابن الرفعة على نقله عنه، ولكنه قال: فيه نظر. واعلم أنا نستفيد من هذا الذي قاله المتولي وغيره وجوب القضاء على من نسى النية على الفور؛ لأن الإمساك واجب عليه كما جزم به الرافعي. ولكن في "شرح المهذب" أن قضاءه على التراخي بلا خلاف. قال: وكذلك من أكل على ظن الليل. واعلم أن الصلاة الفائتة بعذر فيها وجه أن قضاءها على الفور، صرح به الرافعي ولم يحكوه هنا في الصوم بل صرح في "شرح المهذب" بأنه لا خلاف فيها فيحتاج إلى الفرق. قوله في صوم التطوع: فأما الحجيج فينبغي لهم أن لا يصوموا عرفة كيلا يضعفوا عن الدعاء.

وأطلق كثير من الأئمة كونه مكروهًا؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة (¬1). انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وكذلك النووي في الروضة. وفيه أمور: أحدها: أنه لا يعرف منه رجحان الكراهة أو خلاف الأولى، والصحيح أنه خلاف الأولى، كذا صححه النووي في "تصحيح التنبيه"، وذكر نحوه في "شرح المهذب" فإنه قال في أثناء الكلام ما نصه؛ إنما هو خلاف الأفضل كما قاله الشافعي والجمهور. هذا لفظه بعد أن ذكر كلامًا آخرًا يدل عليه. الأمر الثاني: أن مقتضى ما ذكره الرافعي من الحديث والمعنى أنه خاص بالحجيج الذين في عرفة، وقد أوضحه النووي في "نكت التنبيه" فقال: قول الشيخ: إلا أن يكون حاجًا بعرفة احتراز مما إذا كان محرمًا ولم يصل عرفة بعد ويعلم أنه لا يصلها في يوم عرفة بل يصلها بعد غروب الشمس فإنه لا يعرفه ويصح وقوفه ليلًا فلا يكره في هذه الصورة الصوم بل يستحب. هذا لفظه. الأمر الثالث: أن الشافعي في "الإملاء" لما تكلم على استحباب فطره للحاج نص على استحباب ذلك للمسافر أيضًا فقال في باب صيام عرفة: وكذلك أحب للمسافر أن يترك صومه، هذا نصه بحروفه، ومن "الإملاء" ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2440) وابن ماجه (1732) وابن خزيمة (2101) والحاكم (1587) والطبراني في "الأوسط" (2556) وأحمد (8018) والطحاوي في "شرح المعاني" (3017) من حديث أبي هريرة وقال الحاكم: صحيح. وقال ابن خزيمة: صحيح. وقال الشيخ أحمد شاكر: صحيح. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (2327) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

نقلته، ونقله الشيخ أبو حامد أيضًا في "تعليقه" عنه، وهي مسألة حسنة يؤخذ منها الرد على ما نقلناه الآن عن "نكت النووي"، ونقل الرافعي قبل ذلك عن "التتمة" ولم يخالفه أنه إذا سافر في رمضان سفر حج أو غزو وكان يخاف الضعف لو صام فإن الأولى له الفطر؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمر الناس بالفطر عام الفتح وقال تقووا لعدوكم (¬1). والحديث الذي ذكره الرافعي في المسألة رواه أبو داود. قوله: ومنه يوم عاشوراء؛ روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صيام يوم عاشوراء يكفر سنة" (¬2). ويوم عاشوراء هو العاشر من المحرم، ويستحب أن يصوم معه تاسوعاء وهو التاسع منه؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن عشت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع" (¬3)، وفيه معنيان منقولان عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أحدهما: الاحتياط؛ فربما يقع في الهلال غلط فيظن العاشر التاسع. والثاني: مخالفة اليهود؛ فإنهم لا يصومون إلا يومًا واحدًا؛ فعلى هذا لو لم يصم التاسع معه استحب أن يصوم الحادي عشر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه إنما فسر عاشوراء باليوم العاشر؛ لأن ابن عباس -رضي ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (651) وأبو داود (2365) وأحمد (15944) والحاكم (1579) والشافعي (760) والبيهقي في "الكبرى" (7939) عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الحافظ: صححه الحاكم وابن عبد البر. قلت: وصححه أيضًا الألباني. (¬2) أخرجه مسلم (1162) وأبو داود (2425) وأحمد (22588) والنسائي في "الكبرى" (2796) والحميدي (429) وابن أبي الصقر في "مشيخته" وخيثمة في "حديث خيثمة" (ص/ 198) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه مسلم (1134) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

الله عنهما- يرى أن عاشوراء هو التاسع، ثبت ذلك عنه في "صحيح مسلم" قال: لأنه مأخوذ من إظماء الإبل فإن العرب تسمي الخامس من أيام الورد ربعًا -بكسر الراء-، وكذلك تسمي باقي الأيام على هذه النسبة فيكون العاشر تسعًا -بكسر التاء. الأمر الثاني: أن الراجح من المعنيين هو الثاني وهو المخالفة؛ كذا رجحه النووي في "شرح مسلم" فقال: السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا. وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى. هذا لفظه. وحينئذ فيكون الراجح استحباب صوم الحادي عشر إذا لم يصم التاسع. على أن الشيخ أبا حامد قد صرح في "تعليقه" باستحباب صوم الثلاثة، ونقله عن نصه في الإملاء فقال: نحن نقول: إنه يصوم يوم عاشوراء لفضيلته ويصوم يوم التاسع والحادي عشر لمخالفة اليهود، وكذلك قال الشافعي في "الإملاء": أستحب أن يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر. هذا لفظه. وذكره غيره أيضًا، ونص عليه أيضًا في "الأم"، وعبارة الشافعي في "الإملاء": ويجب أن يصام قبله يوم ولو زيد فصام بعده يومًا كان أحب إلى. هذا لفظ الشافعي بحروفه ومن "الإملاء" نقلته والحديثان رواهما مسلم. والمراد بقوله: "لأصومن التاسع" أي: منضمًا إلى العاشر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود" (¬1) رواه البيهقي. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (7839) والبيهقي في "الشعب" (3788) وفي "الكبرى" (8187) وفي "فضائل الاوقات" (242) من حديث ابن عباس موقوفًا. قال الترمذي: حديث ابن عباس حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح.

قوله: ومنه ستة أيام من شوال يستحب صومها لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله" (¬1). انتهى. واعلم أنه إنما كان هذا المقدار محصلًا لصيام الدهر؛ لأن الحسنة لما كانت بعشرة أمثالها كان مبلغ ما حصل له من الحسنات في صوم الشهر والأيام الستة عدد أيام السنة، وقد جاء هذا مفسرًا في حديث ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين قدر صيام سنة". وفي لفظ: "جعل الله الحسنة بعشر"، ثم ذكر الحديث أخرجه النسائى. قال الشيخ زكي الدين في "حواشي السنن": إن إسناده حسن. فإن قيل: إذا كان معنى الحديث ما ذكرتم فهو لا يختص برمضان وست من شوال، بل من صام هذا العدد من أي زمن أراد كان حكمه كذلك. فالجواب: أن معنى الخبر فكأنما صام الدهر فرضًا، هكذا نقل ابن الرفعة الجواب عن بعضهم، وهو جيد؛ فإن ثواب الواجب يزيد على ثواب النفل فيكون رمضان كعشرة أشهر فرضًا لا نفلًا. ثم إن الله تعالى من كرمه أراد تكميل السنة كذلك فجعله لمن بادر إلى صيام ستة من الشهر الذي يلي رمضان. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (2860) وابن خزيمة (2115) والخطيب في "التاريخ" (2/ 362) والدارمي (1755) والبيهقي في "الشعب" (3736) وفي "الكبرى" (8216) من حديث ثوبان بسند صحيح.

قوله: والأيام البيض؛ وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى أبا ذر بصيامها. قال في "الروضة" من زوائده: هذا هو المعروف، ولنا وجه غريب حكاه الصيمري والماوردي والبغوي وصاحب "البيان": أن الثاني عشر بدل الخامس عشر، والاحتياط صومها والله أعلم. وذكر النووي مثله في "لغات التنبيه" وعبر بالصواب عوضًا عن الاحتياط. وكذلك في "شرح المهذب" إلا أنه لم يتعرض لجمعها لا بلفظ الاحتياط ولا بلفظ الصواب. إذا علمت هذا فقوله في هذا الوجه أن الماوردي حكاه، غلط؛ فإنه لم يحك الخلاف عندنا بل حكاه عن الناس؛ فإنه قال في رابع فصل من كتاب الصيام: اختلف الناس في شهر رمضان هل كان ابتداء فرض الصيام أو ناسخًا لصوم يقوم على مذهبين، ثم قال: ولهم في الأيام البيض مذهبان: أحدهما: أنها الثاني عشر وما يليه. والثاني: أنها الثالث عشر وما يليه. هذا لفظه. ثم قال أيضًا في باب صيام عرفة: اختلف الناس فيها -أي: أيام البيض- هل كانت فرضًا ثم تستحب. ثم قال: واختلفوا في زمانها فقال بعضهم: الثاني عشر وما يليه، وقال آخرون: الثالث عشر وما يليه. هذه عبارته. وأما نقله ذلك عن البغوي فمردود أيضًا فإنه في "التهذيب" جازم بالمقالة المشهورة فقال: يستحب صيام أيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر

والخامس عشر. هذا لفظه. وأما نقله ذلك عن "البيان" فصحيح، إلا أنه نقله عن الصيمري فقال: وقال الصيمري: وقيل: هي الثاني عشر. . . . إلى آخره. والنووي لم ينقل عن الصيمري من كلامه بل تقليدا لصاحب "البيان". والحديث المذكور رواه النسائي، وابن حبان وصححه. قوله: ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده" (¬1). وكذا إفراد يوم السبت، فإنه يوم اليهود، وقد روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" (¬2). انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعليل الرافعي كراهة السبت لكونه يوم اليهود يقتضي كراهة الأحد أيضًا فإنه يوم النصارى. وقد صرح بكراهته ابن يونس صاحب التعجيز في مختصر "التنبيه" المسمى "بالتنبيه". ونقل البيهقي في كتاب "المعرفة" عن الشافعي أن كراهة إفراد الجمعة مقيدة بمضعفة الصوم عن القيام بالوظائف المطلوبة فيه، أما غيره فلا يكره له ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1884) ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه الترمذي (744) وابن ماجه (1726) وأحمد (17722) والدارمي (1749) وابن خزيمة (2163) وابن حبان (3615) والحاكم (1592) والبيهقي في "الكبرى" (8276) والنسائي في "الكبرى" (2759) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 218) والطبراني في "مسند الشاميين" (434) وعبد ابن حميد (508). قال الترمذي: حسن. وصححه الحاكم وابن خزيمة والألباني.

ذلك، وذكر مثله ابن الصباغ في "الشامل"، وقال الماوردي وصاحب "البيان": إنه مذهب الشافعي. الأمر الثاني: أنه أطلق الكراهة ولم يفصل بين أن يوافق عادة أن لا. وقد ذكر هذا التفصيل في "شرح المهذب" إلا أنه فسر العادة بأن يكون قد نذر صوم يوم شفاء مريضه أو قدوم غائبه أبدًا فوافق يوم الجمعة. لكن الكلام في صوم يوم الجمعة نفلًا، والمثال الذي ذكره إنما يقع الصوم فيه فرضًا؛ فالصواب أن يمثل بما إذا كانت عادته صوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوم الجمعة فإنه يكون مفطرًا قبله وبعده قطعًا. نعم يستقيم المثال إن كان النهي شاملًا للفرض والنفل حتى يكره إفراده بالقضاء، وفيه نظر. والحديث الدال على السبت يدل على خلافه. الأمر الثالث: أن مقتضى كلام الرافعي أنه لا يكره صومهما معًا؛ ويؤيده أن المجموع لم يعظمه طائفة منهما. وفي "النسائي" و"صحيح ابن حبان" و"المستدرك" للحاكم: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد وكان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم" (¬1)؛ فيحتمل أن يكون المراد المجموع كما ذكرناه. الرابع: ذكر في "البحر" أنه لا يكره إفراد عيد من أعياد الكفار بالصوم كالنيروز والمهرجان. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (2776) وابن خزيمة (2167) والحاكم (1953) والطبراني في "الكبير" (23/ 283) حديث (616) و (964) وفي "الأوسط" (3857) والبيهقي في "الكبرى" (8280) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-. صححه الحاكم وابن خزيمة والألباني.

الخامس: إذا أراد الاعتكاف في يوم من هذه الأيام التي يكره إفرادها بالصوم فهل يستحب له الصوم أم يكون باقيًا على الكراهة؟ توقف فيه النووي في "النكت" التي ذكرها على "التنبيه". والحديث الأول رواه الشيخان، والحديث الثاني رواه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: إنه حديث حسن، وقال الحاكم في المستدرك: إنه على شرط الشيخين، ونقل أبو داود عن مالك أنه قال: إن هذا الحديث كذب. قوله: وقال الغزالي: صوم الدهر مسنون، وأطلق صاحب "التهذيب" في آخرين القول بكراهته؛ واحتجوا بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن عمرو: "لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر" (¬1) وبما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام الدهر (¬2)، وفصل الأكثرون فقالوا: إن كان يخاف منه ضررًا أو يفوت به حقا فيكره وإلا فلا، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه في الوجه الثالث لا يؤخذ منه استحباب الصوم إذا لم يخف ضررا ولم يفوت به حقا وإنما يؤخذ منه عدم الكراهة، وكذلك تعبير "الروضة" "وشرح المهذب" أيضا. وقد صرح بالاستحباب في "المحرر" و"المنهاج". الأمر الثاني: في البحث عن المراد بالحق هنا، هل الواجب أو كل مطلوب فيحتمل أن يكون المراد المطلوبات كلها وهو المتجه؛ وتدل عليه كراهة قيام كل الليل لهذا المعنى كما سبق في موضعه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1878) ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه مسلم (1162) من حديث أبى قتادة - رضي الله عنه -.

ويحتمل التخصيص بالواجب ولكن الواجب تفويته حرام، فيكون الاقتصار على الكراهة محله إذا كان الموجود الخوف دون العلم والظن أو في تفويت واجب مستقبل وتفويت الحق هنا، وفي "الروضة" و"المحرر" مجزوم به وليس على الخوف، وفي "المنهاج" عطفه عليه وهو الصواب. وحديث النهي عن صوم الدهر رواه مسلم. قوله: ولو نذر صوم الدهر لزم وكانت الأعياد وأيام التشريق مستثناة منه، وكذا شهر رمضان وقضاؤه إذا فرض ففات بعذر أو غير عذر وهل تجب الفدية لما أخل به من النذر بسبب القضاء؟ حكى أبو القاسم الكرخي فيه وجهين، والذي أجاب به صاحب "التهذيب": أنه لا فدية. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أنه ينبغي استثناء قضاء النذر وبعده، وقد صرح بذلك ابن الصباغ في "الشامل". قوله: ولو لزمه صوم كفارة صام عنها وفدى عن النذر. انتهى. وهذا الكلام ظاهر في أن المسألة مصورة بما إذا لزمته الكفارة بعد النذر، والأمر كذلك؛ فإنها إذا كانت عليه حالة النذر كانت مستثناة حتى لا تجب الفدية عن الأيام التي صرفها إليها، وقد صرح بذلك الرافعي في كتاب النذر. قوله: ولو أفطر يومًا من الدهر فلا سبيل إلى قضائه ولا فدية وإن كان بعذر، وإلا فتجب الفدية. انتهى كلامه. هذه المسألة قد بسطها -رحمه الله- في كتاب النذر فلتطلب منه. قوله من زياداته: وأفضل الأشهر للصوم بعد رمضان الأشهر الحرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم، ويلي المحرم في الفضيلة شعبان.

وقال صاحب "البحر": رجب أفضل من المحرم، وليس كما قال. انتهى كلامه. وما نقله النووي عن صاحب "البحر" هنا وقد نقله عنه في "شرح المهذب" أيضا وهو غلط على "البحر"؛ فإن فيه الجزم بالمقالة المشهورة وهي المقالة الأولى الذاهبة إلى تفضيل المحرم على رجب فقال في أواخر كتاب الصيام في باب صوم عرفة ما نصه: قال أصحابنا: ومن أراد أن يصوم شهرًا فأفضل الشهور بعد المحرم شهر رجب، هذا لفظه من غير نقل شئ آخر يوافقه ولا يخالفه. ثم ذكر بعده أن شعبان يلي رجبًا في الفضيلة، ولم يتعرض لباقي الأشهر الحرم. وسكت -أعني: الروياني- في "الحلية" عن المسألة، ورأيت في "البلغة" للجرجاني الجزم بأن أفضلها ذو الحجة فقال: ذو الحجة أفضلها. هذه عبارته. وذكر المذكور مثله في "التحرير" أيضًا وزاد أن العشر الأول أفضله. رأيت في كتاب "تعظيم قدر الصلاة" لمحمد بن نصر المروزي نقلًا بسنده إلى كعب نحوه أيضًا من غير مخالفة، وجزم في "الإحياء" بنحوه وعلله بأن فيه الحج والأيام المعلومات والمعدودات، وفي كتاب "فضائل الأوقات" للبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "سيد الشهور شهر رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة" (¬1)، والمنقول عندنا أن أفضل الشهور على الإطلاق هو شهر رمضان، كذا جزم به الشيخ عز الدين في أوائل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (3637) و (3755) وفي "فضائل الأوقات" (167) وقال: إسناده ضعيف. وضعفه الألباني -رحمه الله-.

"القواعد". قوله أيضًا في الزوائد: قال أصحابنا: لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في "مبسوطه" في كتاب النفقات.

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف قوله: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اعتكف فواق ناقة فكأنما أعتق نسمة" (¬1). انتهى. قال الجوهري: الفواق والفواق بالضم والكسر: ما بين الحلبتين من الوقت؛ لأنها تحلب ثم تترك سويعة ترضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. فيقال: ما أقام عنده إلا فواقًا. وفي الحديث: "العيادة قدر فواق ناقة" (¬2). هذا كلامه. قوله: وعلامة ليلة القدر أنها طلقة لا حارة ولا باردة. انتهى. الطلقة: بفتح الطاء وسكون اللام وتفسيرها ما ذكره الرافعي، ويجوز فيها إثبات التاء وحذفها، قاله ابن الأثير في غريبه، ولم يذكر الجوهري إلا الحذف فقال: يقول: يوم طلق وليلة طلق. قوله: وقول الغزالي: وقيل: إن ليلة القدر في جميع الشهر. وكذلك لو قال لزوجته في منتصف رمضان: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق إلا إذا مضت سنة: قال الرافعي: ولا تكاد تجد رواية احتمالها في جميع ليالي الشهر عن الأصحاب في شئ من كتب المذهب. قال: وأما مسألة الطلاق فإنه نقلها في "الوسيط" عن الشافعي كذلك ¬

_ (¬1) قال ابن الملقن: هذا حديث غريب لا أعرفه بعد البحث الشديد عنه. وقال الحافظ: منكر. (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (9222) وابن أبي الدنيا في "المرضى والكفارات" (176) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال الحافظ الطرافي: فيه جهالة.

أيضًا وهو مخالف لنقل الأئمة فإنهم قالوا: إن قال ذلك قبل مضى شئ من ليالي العشر طلقت بانقضاء ليالي العشر، وإن قاله بعد مضى بعض لياليها لم تطلق إلى مضى سنة. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما ادعاه من أنك لا تكاد تجد احتمال ذلك في شئ من الكتب غريب؛ ففي "التنبيه" أنه يطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان، وذلك يدل على أنها في جميع الشهر. وذكر مثله المحاملي في "المقنع"، وبالغ في كتابه المسمى "التجريد" فنسبه إلى الشافعي فقال: مذهب الشافعي أن ليلة القدر تلتمس في جميع شهر رمضان وآكده العشر الأواخر، وآكده ليالي الوتر من العشر الأواخر. هذا لفظه، ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" إلا أنه جزم في "المجموع" بأنها في العشر الأواخر كما قاله غيره. وقال الإمام: ذكر صاحب "التقريب" في كتابه ترددًا في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان، وهذا متروك عليه ولا نعرف له متعلقًا. انتهى. قلت: وقد روى أبو داود: هي في جميع رمضان (¬1)، وروي أيضًا: اطلبوها ليلة سبع عشر. وهما يدلان للمقالتين السابقتين؛ وبذلك يصير في المسألة ثلاثة أوجه. الأمر الثاني: أن ما أنكره على "الوسيط" في نقله عن الشافعي قد علمت صحته بما نقلناه عن المحاملي. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1387) مرفوعًا بسند ضعيف، والصحيح موقوفًا.

الثالث: أن ما ادعاه من توقف طلاقها على انقضاء العشر ممنوع؛ لأن العشر إنما تنقضي بانقضاء اليوم الأخير، والطلاق يقع بالطعن في الليلة الأخيرة لا بانتفائها حصول ليلة القدر. وأما قوله: بعد سنة فليس كذلك أيضًا؛ لأنه مثلًا إذا قال ذلك في أواخر اليوم الحادي والعشرين فلا يتوقف وقوعه على سنة كاملة بل يقع في أول ليلة الحادي والعشرين لما قلناه، وإن قاله في اليوم الثلاثين فيقع في أول ليلة الثلاثين، وكذلك حكم ما بينهما. وهذا كله واضح، وقد صرح به على الصواب في الموضع القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والنووي في "شرح المهذب" ونبه عليه في "الروضة". قوله في "الروضة": أركان الاعتكاف أربعة: اللبث في المسجد، والنية، والمعتكف، والمعتكف فيه. انتهى. وتقييده اللبث بكونه في المسجد لا حاجة معه إلى ذكر المعتكف فيه؛ لأنه هو بعينه؛ فالصواب حذف التقييد بذلك؛ ولهذا لم يذكره الرافعي. قوله: وفي اعتبار اللبث وجهان: أظهرهما: أنه لابد منه. انتهى. فيه كلام مذكور في كتاب النذر في أوائل الكلام على أحكامه؛ فليراجع. قوله: ولو نذر اعتكافًا مطلقًا خرج عن عهدة النذر بأن يعتكف لحظة، واستحب الشافعي - رضي الله عنه - أن يعتكف يومًا وذلك للخروج من الخلاف. انتهى. واعلم أن الشيخ أبا حامد قد نص في تعليقه على استحباب ضم الليلة إليه، ونقله عن نص الشافعي في "الإملاء" فقال: المستحب أن لا ينقص

عن يوم وليلة، وذكر مثله في "البحر"، وكذلك القاضي الحسين في تعليقه أيضًا إلا أنه لم ينقله عن النص. قوله: فلا يجوز للمعتكف الجماع ولا سائر المباشرات بالشهوة؛ فلو جامع بطل اعتكافه سواء جامع في المسجد أو حين خرج لقضاء الحاجة إذا كان ذاكرًا للاعتكاف عالمًا بالتحريم. انتهى. وهذا الكلام بمجموعه إنما ينتظم في الاعتكاف الواجب، أما التطوع به فلا يتجه تحريم هذه الأشياء فيه خارج المسجد؛ فإن غاية ذلك أن يكون قد خرج من العبادة وهو جائز له. وأما فعلها في المسجد فإن كان جماعًا فتحريمه واضح؛ أما في الاعتكاف فلقطعه ولإقامته في المسجد، وأما في التطوع فلإقامته فقط. وإن كان مباشرة فالمتجه أن يفصل في إباحته بين الواجب والتطوع. قوله: فأما إذا جامع ناسيًا للاعتكاف أو جاهلًا بالتحريم فهو كنظيره في الصوم. انتهى. تابعه في "الروضة" و"المنهاج" عليه، وخالف في "شرح المهذب" فصحح أنه لا يتخرج على خلاف الصوم فقال: لم يبطل على المذهب وبه قطع العراقيون وجماعات من الخراسانيين، وقال أكثر الخراسانيين: فيه الخلاف السابق في نظيره في الصوم. هذا لفظه. وحكى القاضي الحسين في "تعليقه" طريقة قاطعة بالبطلان هاهنا بخلاف الصوم؛ فيتلخص في المسألة ثلاث طرق. قوله: ولو لمس أو قبل بشهوة أو باشر فيما دون الفرج متعمدًا فهل يفسد اعتكافه؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين، ثم قال: والثاني: القطع بأنها تفسده؛ حكاه الشيخان: أبو محمد، والمسعودي. انتهى.

واعلم أن النسخ قد اختلفت في حكاية هذه الطريقة؛ ففي عدة من النسخ المشهور بالصحة أنها تبطل كما تقدم، وفي بعضها لا تبطل وهذه النسخة هي الصواب؛ فقد ذكر في "الشرح الصغير" ما يوافقها، وعبر بلفظ هو أوضح من لفظ "الكبير"، والكلام يبين بعضه بعضًا. ولم يتعرض النووي في "الروضة" لحكاية الطرق في هذه المسألة، بل حكى ما يتلخص منها من الأقوال فقال: ففيه نصوص وطرق مختلفة مختصرها ثلاثة أقوال أو أوجه: أصحها عند الجمهور: إن أنزل بطل وإلا فلا. وتعبيره بنصوص يقتضي أن الرافعي حكى في ثلاثة نصوص فصاعدًا، والرافعي لم يحك إلا نصان فقط؛ فاعلمه. قوله: والاستمناء باليد يرتب على ما إذا لمس فأنزل؛ إن قلنا: إنه يبطل الاعتكاف فهذا أولى، وإن قلنا: لا يبطله ففيه وجهان. والفرق أن كمال الاستمتاع والالتذاذ تمت باصطكاك البشرتين. انتهى. لم يصحح أيضًا في "الروضة" شيئًا، وصحح في "شرح المهذب" البطلان وعبر بالأصح، وصحح أن القاضي الحسين في تعليقه عدم الإبطال، وعبر أيضًا بالأصح، وقد نقل البغوي من شيخه هذا الخلاف إلا أنه حكاه بلا ترجيح، ووقف النووي على كلامه خاصة؛ فإنه لما نقل الوجهين حكاهما عن البغوي والرافعي فقط؛ فدل على ما قلناه. قوله: للمعتكف أن يبيع ويشتري ويخيط ويكتب، وما أشبه ذلك، ولا يكره شئ من هذه الأعمال إذا لم يكثر؛ فإن أكثر أو قعد يحترف بالخياطة ونحوها كره ولم يبطل اعتكافه. انتهى. استدرك في "الروضة" فقال: قلت: الأظهر كراهة البيع والشراء في

المسجد وإن قل للمعتكف وغيره إلا لحاجة، وهو نصه في "البويطي"، وفيه حديث صحيح في النهى، والله أعلم. وما أطلقه الرافعي في الكتابة وتبعه عليه في "الروضة" يستثني منه نسخ كتب العلم، فإنه لا يكره سواء قل أم كثر، كذا ذكره في آخر باب ما يوجب الغسل من "شرح المهذب"، وذكر في كتاب البيع من "المطلب" أنه لم ير لأصحابنا كلامًا في كراهة البيع والشراء في المسجد، والذي ذكره غريب. قوله في "الروضة": ونقل عن القديم أنه إذا اشتغل بحرفة بطل اعتكافه، وقيل: بطل اعتكافه المنذور. انتهى. واعلم أن الرافعي حكى عن مالك أن الاشتغال بالحرفة يبطله. ثم قال: وعن القديم قول مثله في الاعتكاف المنذور، ورواه بعضهم في مطلق الاعتكاف. هذا لفظه. فالحاصل أنهما قولان يعزيان إلى القديم، وكلام "الروضة" قد يوهم أن الثاني وجه ولكن مراده أن بعضهم قال: إن القول القديم ليس هو الإبطال مطلقًا بل في إبطال المنذور خاصة؛ ولهذا عبر في الثاني بالفعل الماضي كما عبر به في الأول فقال: وقيل: بطل، وذلك للإشارة إلى تفريعه على القديم. نعم كلام "الروضة" يقتضي أن المشهور عدم التقييد بالمنذور، وكلام الكبير يقتضي عكسه، إلا أن الرافعي في "الشرح الصغير" ذكر كما في "الروضة". قوله: ولهذا قال في "التهذيب": لا يجوز نضح المسجد بالماء المستعمل لأن النفس قد تعافه. وهذا الذي نقله هو والنووي عن "التهذيب" وأقراه ليس هو المذهب وقد

سبق الكلام عليه قبل سجود السهو. قوله: ويجوز الفصد والحجامة في المسجد بشرط أن يأمن التلويث، والأولى الاحتراز عنه. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذه العبارة وفيه إشعار بعدم الكراهة، لكن صرح في "شرح المهذب" هنا وفي آخر باب ما يوجب الغسل بكراهة ذلك وهو واضح، بل جزم البندنيجي في كتابه المترجم في خطبته بـ"تذهيب المذهب" -وهو الذي ينقل عنه ابن الرفعة- بتحريمه فقال في باب الخروج للشهادة ما نصه: فأما الفصد والحجامة فلا يجوز في المسجد كالبول في الطست. هذا لفظه ومنه نقلت. قوله: وفي البول في الطست احتمالان ذكرهما ابن الصباغ، والأظهر المنع، وهو الذي أورده في "التتمة". تابعه في "الروضة" هنا على جعلهما احتمالين، وكذلك في "شرح المهذب" في باب الاستئجار. وقال في آخر باب ما يوجب الغسل: إنهما وجهان، وكذلك ابن الرفعة، قال في "شرح المهذب" هنا وفي الاستنجاء من "الروضة": إنه حرام على الأصح ولم يبين هل هما وجهان أو احتمالان؟ ، وقد سبق عن البندينجي تحريمه أيضًا. والطست بسين مهملة. قوله: لأن الشيخ أبا محمد وغيره نقلوا عن القديم قولًا أن الصوم شرط في الاعتكاف حتى لا يصح في الليلة المجردة. انتهى. هذا الكلام يوهم أنه يصح فيها بطريق التبعية للنهار، لكن قال إمام

الحرمين في "النهاية": قال الأئمة: إذا فرعنا على القول القديم لم يصح الاعتكاف في الليل لا تبعًا ولا مفردًا. هذا لفظه. قوله: فلو نذر أن يعتكف يومًا هو فيه صائم لزمه أن يعتكف في رمضان أو غيره من أيام صومه، ولا يلزمه بهذا النذر صوم لأنه نذر الاعتكاف على صفة وقد وجدت. ثم قال: ولو نذر أن يعتكف صائمًا أو يعتكف بصوم لزمه الاعتكاف والصوم جميعًا بهذا النذر. وهل يلزمه الجمع بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما وبه قال أبو علي الطبري: لا، لأنهما عبادتان مختلفتان كما إذا نذر أن يصلي صائمًا. وأصحهما: نعم. انتهى. وإسناد عدم الوجوب إلى أبي على الطبري أخذه الرافعي من "المهذب" أو "الشامل" لابن الصباغ فإنهما عزياه إلى "الإفصاح" لأبي على المذكور فقلدهما فيه من بعدهما، وليس كذلك فإن المذكور فيه إنما هو احتمال من احتمالين على السواء فإنه قال: قال الشافعي إنه إن نذر اعتكافًا بصوم فأفطر استأنف. وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يستأنف الصوم والاعتكاف جميعًا لأنه لم يأت به على حسب شرطه. والثاني: بالصيام دون الاعتكاف؛ لأن الصيام ينفرد عن الاعتكاف. فينفرد الاعتكاف عنه وكأنه نذر لشيئين يصح انفراد أحدهما عن الآخر فإن جاء بهما مجتمعين جاز، وإن جاء بهما منفردين لم يبطل. هذا لفظه ومن "الإفصاح" نقلت.

واعلم أن الفرق بين المسألة الأولى وبين مسألتنا مشكل جدًا فإنه التزم في الموضعين الصوم بلفظ يدل على الصفة فإن كلامهما حال إما مفرد أو جملة، والحال وصف في المعنى. قوله: ولو شرع في الاعتكاف صائمًا ثم أفطر لزمه استئناف الصوم والاعتكاف على الوجه الثاني -أي: القائل بالجمع- ويكفيه استئناف الصوم على الأول. ثم قال: ولو نذر اعتكاف؛ أيام وليال متتابعة صائمًا وجامع ليلًا ففيه هذان الوجهان. انتهى لفظه. ذكر مثله في "الروضة"، والوجهين السابقين، أحدهما: لزوم استئنافهما ومجيئه هاهنا واضح. والثاني: لزوم استئناف الصوم وهو لا يمكن إتيانه هنا إنما يأتي عكسه وهو استئناف الاعتكاف؛ لأن الصوم لا يفسد بالوطء ليلًا، وقد اغتر النووي في "شرح المهذب"، والقمولي في "الجواهر" بهذه العبارة فصرحا بأنه يستأنف الصوم على الوجه الثاني، إلا أن النووي ذكر تعليلًا يتفطن معه إلى الوهم. وهذه المسألة لم أرها إلا في كلام الرافعي فمن بعده إلا أن تصويرها واضح وحكمها يؤخذ مما تقدم. قوله: ولو نذر أن يعتكف مصليًا أو يصلي معتكفًا لزمه الصلاة والاعتكاف، وفي لزوم الجمع طريقان: أحدهما: طرد الوجهين. وأصحهما: القطع بأنه لا يجب، والفرق أن الصوم والاعتكاف متقاربان؛ فإن كل واحد منهما كف وإمساك. والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف.

ويخرج على هذين الطريقين ما إذا نذر أن يعتكف محرمًا. فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة فالقدر الذي يلزمه من الصلاة هو القدر الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر، وإن أوجبنا الجمع لزمه ذلك القدر في يوم اعتكافه ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة. انتهى كلامه. واعلم أن المفهوم من الإحرام في قول الرافعي ما إذا نذر أن يعتكف محرما إنما هو الإحرام بالحج، وهي مسألة حسنة استفدناها من كلامه إلا أنه بعد إجراء الخلاف فيها أخذ في التفريع على المسألة الأصلية التي ذكرها الغزالي وهي مسألة الصلاة، والرافعي أخذ المسألة من "التتمة" فإنه ذكر -أعني النووي- مسألة الصلاة والتفريع عليها ثم قال: ولو نذر أن يعتكف عشرة أيام محرمًا فالحكم فيه كالحكم في مسألة الصلاة. هذا لفظه، وهو صريح في إرادة الحج أو العمرة لا الإحرام بالصلاة. وذكر القاضي الحسين في "تعليقه" أيضًا هذه المسألة إلا أنه خالف فلم يوجب عليه الإحرام فقال في استدلاله على أنه لا يجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة: فلا يصير شرطًا في عبادة أخرى كما لو نذر أن يعتكف محرمًا لا يلزمه الإحرام، فأما إذا نذر أن يصلي معتكفًا لزمه أن يصلي ركعتين. هذا لفظه. وظاهره أنه لا يجب الإحرام بالكلية لا منفردًا ولا مجموعًا. إذا علمت ذلك كله فاعلم أن النووي قد توهم أن المراد بالإحرام هو الإحرام بالصلاة، فقيده به في "أصل الروضة" فقال: والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف. ولو نذر أن يعتكف محرمًا بالصلاة، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة فالذي يلزمه من الصلاة هو الذي يلزمه لو أفرد الصلاة إلى آخر التفريع السابق، فانظر كيف قيده به وجعل التفريع الذي قاله الرافعي عائدًا إليه خاصة؛ فلزم منه الخلل من وجوه:

أحدها: إسقاط هذه المسألة المهمة. ثانيها: عدم الاحتياج إلى ما ذكره؛ فإن مسألة الصلاة قد سبقت متصلة بهذا الكلام فيكون تكرارًا عجيبًا. ثالثها: أن قول الرافعي فإن لم نوجب الجمع .. إلى آخره تفريع على ما إذا نذر أن يعتكف مصليًا أو يصلي معتكفًا، وعلى ما قاله النووي لا يستفاد منه إلا التفريع على ما إذا نذر أن يعتكف مصليًا، ولا يعرف منه التفريع على عكسه، وقد ذكره في "شرح المهذب" على الصواب فإنه عبر كما عبر الرافعي. قوله: ولو نذر أن يصلي صلاة يقرأ فيها سورة كذا، فعن القفال: أن وجوب الجمع على الخلاف في وجوب الجمع بين الصوم والاعتكاف، ووجهه لائح. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، واعلم أنه قد تقدم أنه إذا نذر أن يعتكف صائمًا أن في الجمع وجهين: أصحهما: لزومه، وإذا نذر أن يصوم معتكفًا، ففي الجمع طريقين: أصحهما: إجراء الوجهين، والثانية: القطع بعدمه. ولقائل أن يقول: ما هو الخلاف الذي أراده القفال بقوله على الخلاف في وجوب الجمع بين الصوم والاعتكاف؛ هل هو الصورة التي فيها الوجهان أو الصورة ذات الطريقين؟ . والجواب: أنه محمول على ذات الوجهين وهو ما إذا قال: أعتكف صائمًا؛ وذلك لأن الذاهب إلى تلك الطريقة القاطعة فرق بأنه إذا قال أعتكف صائمًا فقد التزم الاعتكاف بصفة وهي الصوم، وتلك الصفة مستحبة فيه بخلاف العكس وهو ما إذا نذر أن يصوم معتكفًا، فإنه التزم

الصوم بصفة وهي الاعتكاف مع أن الاعتكاف ليس من مستحبات الصوم فلذلك لم نوجب الجمع. فإذا علم هذا فالناذر في مسألتنا التزم الصلاة بصفة وهي القراءة وتلك الصفة مستحبة فصار نظير أعتكف صائمًا. وأما أصوم معتكفًا فإن نظيره في القرآن أن يقول أقرأ مصليًا. وقد صرح الغزالي في "البسيط" والنووي في "شرح المهذب" بأن مسألة القفال على وجهين، إلا أن النووي نقله عن الإمام والإمام لم يذكر إلا كما ذكر الرافعي. قوله: الركن الثاني: فلابد منها ويجب التعرض في المنذور منه للفرضية. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنهم قد جزموا باشتراط نية الفرض، ولم يذكروا فيه الوجهين في الصلوات الخمس وصوم رمضان، وسببه أن تعرض البالغ في صلاته لكونها ظهرًا أو عصرًا يرشد إلى كونها فرضًا بخلاف الاعتكاف. وأما رمضان فكونه لا يقبل غيره بخلاف الزمان بالنسبة إلى الاعتكاف. الثاني: أنهم لم يشترطوا فيه أيضًا تعيين سبب وجوبه -وهو النذر- بخلاف الصلاة والصوم؛ لأن وجوب الاعتكاف لا يكون إلا بالنذر بخلاف ذينك. واعلم أن الوجهين في الإضافة إلى الله تعالى لابد من مجيئهما هاهنا كما أشار إليه الرافعي في الصلاة وغيرها. قوله: وإن نوى الاعتكاف وأطلق وخرج من المسجد ثم عاد احتاج إلى

تجديد النية؛ فإن ما مضى عبادة تامة والثاني اعتكاف جديد. ثم قال عقبه: قال في "التتمة": فلو أنه عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ويعود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية. ولك أن تقول: اقتران النية، بأول العبادة شرط فكيف يحصل الاكتفاء بالعزيمة السابقة على العود؟ انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" أيضًا على نقله عن "التتمة" فقط وعلى استشكال كلامه، وعبر بقوله وفيه نظر فإن اقتران النية .. إلى آخره. وخالف الأمرين في "شرح المهذب"؛ فإنه حكاه عن المتولي وغيره، ثم قال: قلت: وما قالوه هو الصواب، ووجهه أنه لما أحدث النية عند إرادة الخروج صار كمن نوى المدتين بنية واحدة كما قال أصحابنا فيمن نوى صلاة النفل ركعتين ثم نوى في آخرها جعلها أربعًا أو أكثر فإنه يصح. هذا كلامه. وقد وجه غيره أيضًا كلام هؤلاء بأن النية الأولى] (¬1) شاملة بدليل ما إذا لم يخرج، وخروجه بهذه العزيمة قاطع لزمن الخروج فقط فيبقى عوده على النية الأولى. قوله: فإن عين زمانًا كما إذا نوى اعتكاف يوم أو شهر فهل يحتاج إلى تجديد النية إذا خرج وعاد؟ نقل في "الكتاب" فيه ثلاثة أقوال، وسماها في "الوسيط" وجوهًا، وهو الموافق لإيراد الأئمة -رحمهم الله- وهي حاصل ما ذكروه في الطرق. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن "الوسيط" من جعلها وجوهًا غلط؛ فإن الموجود ¬

_ (¬1) نهاية سقط كبير من ج.

في نسخ "الوسيط" إنما هو تسميتها أقوالًا كما ذكر في "الوجيز"، فقال: فأما إذا نوى اعتكاف يوم أو شهر وخرج وعاد ففي التجديد للنية ثلاثة أقوال. هذا لفظ "الوسيط"، وهذه النسخة حاضرة فراجع ما شئت منها. وذكر في "البسيط" نحوه أيضًا. الثاني: أن كلامه يقتضي انفراد الغزالي بذلك، وهو غريب أيضًا؛ فإن الإمام في "النهاية" جعلها أيضًا أقوالًا ومنه أخذ الغزالي ذلك. الثالث: أن دعواه أن الثلاثة هي حاصل ما ذكروه في الطرق يخالفه ما سيأتي عن صاحب "التهذيب" فإنه يقتضي أن الحاصل أربعة أوجه لا ثلاثة، وقد صرح في "الروضة" بحكايتها أربعة وستعرف ذلك إلا أن فيه شيئًا سأذكره بعد هذه المسألة. قوله في المسألة: [أحدها: أنه] (¬1) لا حاجة إلى التجديد. والثاني: أنه إن لم تطل مدة الخروج فلا حاجة إلى التجديد، وإن طالت فلابد منه لتعذر البناء. ولا فرق على هذا بين أن يكون الخروج لقضاء الحاجة أو لغيره. والثالث: إن خرج لقضاء الحاجة لم يجب التجديد، لأنه لابد منه فهو كالمستثني عند النية، وإن خرج لغرض آخر فلابد من التجديد لقطعه الاعتكاف. ولا فرق على هذا بين أن يطول الزمان أو لا يطول. وهذا الثالث أظهر الوجوه. وزاد صاحب "التهذيب" في التفصيل فقال: إن خرج لأمر يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع فلابد من تجديد النية. ¬

_ (¬1) سقط من ج.

وإن خرج لأمر لا يقطعه، نظر إن لم يكن منه بد كقضاء الحاجة والاغتسال عند الاحتلام فلا حاجة إلى التجديد. وإن كان منه بد أو طال الزمان ففى التجديد وجهان. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره في آخر كلامه فيما نقله عن صاحب "التهذيب" بقوله: "أو طال الزمان" بصيغة "أو" ليس كذلك، بل المذكور في "التهذيب" إنما هو بواو العطف حتى يشترط المجموع فقال: وإن كان لأمر له منه بد وطال الزمان ففيه وجهان. ويمكن بناء الوجهين على أنه إذا فرق الوضوء وطال الفصل فعند البناء هل يحتاج إلى تجديد النية؟ فيه وجهان. هذا كلامه، والبناء المذكور مما يؤيد أيضًا أنه بالواو؛ لأن الوضوء كذلك أيضًا، وكلام الخوارزمي في "الكافي" موافق لما نقله [في] (¬1) "التهذيب" وهو تلميذه يسلك فيه طريقه فقال: ولو نوى مدة فخرج قبل قضائها ثم عاد هل يجب عليه تجديد النية؟ إن خرج لأمر لابد له منه كالبول والغائط وغسل الجنابة فلا، وإن خرج لأمر له منه بد، نظر إن كان مما يقطع الاعتكاف على ما سنبينه، قبل، وإن كان مما لا يقطع؛ فإن قصر الفصل فلا، وإن طال فهل يجوز البناء على الأول؟ فعلى قولي تفريق الوضوء، فإن قلنا يجوز ففي تجديد النية وجهان. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" وغيرها قد صرح بجعل ما قاله في "التهذيب" وجهًا رابعًا، وصحح التفصيل بين قضاء الحاجة [وغيرها فيكون حاصل الأصح عنده أنه لا يجب التجديد في قضاء الحاجة] (¬2) ¬

_ (¬1) في ج: عن. (¬2) سقط من أ.

خاصة ويجب في الغسل وفي غيره مما لابد منه أيضًا كما صرح به في أثناء الأوجه، لكنه ذكر في آخر الباب في الكلام على الاعتكاف المنذور أن ما لابد منه كالاغتسال ملحق بقضاء الحاجة في عدم وجوب تجديد النية وكذلك الخروج للأذان. وكلام الرافعي فيما عدا قضاء الحاجة مما لابد منه ليس صريحًا في تصحيح عدم لحاقه بقضاء الحاجة لإمكان أن يكون كلام "التهذيب" تقييدًا لما سبق، وهذا هو المتعين لأمرين: أحدهما: لتوافق كلامه هنا مع المذكور في آخر الباب والكلام يفسر بعضه بعضًا. الثاني: أن ما نقلناه عنه قبل ذلك من أن الحاصل في الطرق ثلاثة أوجه لا أربعة. قوله: ولو ارتد في أثناء اعتكافه فالمنقول عن نصه في "الأم" أنه لا يبطل اعتكافه بل يبني إذا عاد إلى الإسلام، ونص أنه لو سكر في اعتكافه ثم أفاق أنه يستأنف وهذا حكم ببطلان الاعتكاف. وللأصحاب فيهما طريقان: أحدهما: تفريق اللفظين. وأصحهما: التسوية بينهما. وعلى هذا فقيل فيهما قولان وأصحهما الجزم في الصورتين وفي كيفيته طرق: إحداها: أنه لا يبطل بواحد منهما. وثانيها: أن السكر مبطل وكذلك الردة إن طال زمانها. وثالثها: عكس النص. ورابعها -وهو الأصح- أنهما يبطلان. انتهى ملخصًا.

ولما ذكر الطريقة الثانية من هذه الأربعة عبر بقوله: وثانيها أن السكر يبطله لامتداد زمانه، والردة كذلك إن طال زمانها وإلا فيبني. وكلامه في الردة محمول على حالة طول الزمان. هذا كلامه بحروفه. والذي ذكره من حمل النص الوارد في الردة على حالة طول الزمان سهو، والصواب أن يقول: على حالة قصر الزمان؛ لأن النص الوارد في الردة وهو عدم بطلان الاعتكاف، وحينئذ فيتعين على صاحب هذه الطريقة الذي يراعى الطول وعدمه أن يحمل النص على ما إذا قصر الزمان كما قلناه، وهذا هو السهو الذي وقع للرافعي هنا قد وقع له أيضًا في "الشرح الصغير"، وحذف النووي هذا الحمل من "الروضة" فسلم من الاعتراض. قوله في "أصل الروضة": وهذا الاختلاف في الردة والسكر هو في قطعه الاعتكاف الماضي إذا شرط فيه التتابع، وأما زمن الردة والسكر فغير معتد به قطعًا، وفي وجه شاذ يعتد بزمن السكر، وأشار إمام الحرمين إلى أن الخلاف في الاعتداد بزمن الردة والسكر معًا. انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق على عدم حسبان زمن الردة، وصرح به الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: لا خلاف فيه، وهو مقتضى كلام "الكبير"، لكن صرح البندنيجي في "الذخيرة" بالخلاف في احتساب زمنها كما قاله الغزالي والإمام. قوله: ولو جن أو أغمي عليه في أثناء اعتكافه فإن لم يخرج من المسجد لم يبطل لأنه معذور. انتهى. والتعليل بالعذر يقتضي أنه لو حصل ذلك بسبب لا بعذر بطل. وقد صرح بنقله في "الكفاية" عن البندنيجي فقال: إنه كالسكران. قوله: فإن شق حفظه في المسجد فأخرج ففي بطلان اعتكافه الخلاف الذي نذكره في المريض. انتهى.

تابعه في "الروضة" على الجزم بهذا التخريج، وحكى في "شرح المهذب" فيه طريقين: إحداهما: هذه. والثانية: القطع بعدم الإبطال. ثم صحح هذه الطريقة فقال: هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور. وقال المتولي وآخرون: هو كالمريض ففيه القولان: أصحهما: لا يبطل. هذا كلامه. قوله: ثم المحتلم ونحوه إن لم يمكنه الغسل في المسجد فهو يضطر إلى الخروج، وإن أمكنه فيعذر في الخروج أيضًا ولا يكلف الغسل في المسجد؛ فإن الخروج أقرب إلى المروءة وصيانة المسجد. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وهو يقتضي جواز الاغتسال في المسجد سواء كان الماء في إناء أو في بئر وآلة الاستقاء حاضرة. قوله: وقول الغزالي: ويستوي فيه جميع المساجد، يجوز أن يعلم بالواو ولأن صاحب "المعتمد" ذكر أن الشيخ أبا حامد حكى أن الشافعي أومأ في القديم إلى مثل مذهب الزهري وهو اختصاص الاعتكاف بالمسجد الجامع. انتهى كلامه. وهذه الحكاية عن الشيخ أبي حامد غلط عليه حصل فيها التباس فإنه قال في "تعليقه" الذي علقه عنه البندنيجي ما نصه: روي عن الزهري أنه قال: لا يصح الاعتكاف إلا في الجوامع، وأومأ الشافعي في القديم إلى أن الاعتكاف متي زاد على أسبوع فإنه يعتكف في الجامع حتى لا يحتاج لقطع الاعتكاف بصلاة الجمعة. هذا لفظه، وهو صريح في صحة الاعتكاف على القديم في غير الجامع. وهذه الحكاية لم يقع الغلط فيها من صاحب "المعتمد" بل الأصل فيها

صاحب "الشامل"، فانه نقله عن الشيخ أبي حامد فتبعه على نقله عنه من صنف بعده كالشاشي وصاحب "البيان" وصاحب "الذخائر" ولا يوجد ذلك في كلام أحد منهم إلا ناقلًا له عن الشيخ أبي حامد، وعبر بعض المتأخرين بقوله رواه الشيخ أبو حامد وأصحابنا. وهو غلط. قوله: والجامع أولى بالاعتكاف للخروج من الخلاف، ولكثرة الجماعة فيه، وكيلا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة. وهذا أظهر المعاني عند الشافعي إذ لابد منه في ثبوت الأولوية، لأنه نص على أن العبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاؤا من المساجد لأنه لا جمعة عليهم. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي من المعاني [بالأولوية] (¬1) ومن ترجيح الراجح وما ينبني عليها حذفه جميعه من "الروضة"، وقال ابن الرفعة في التفريع على هذه المعاني: إن الكلام يقع في صور: إحداها: إذا كان في جواره مسجد ليس فيه جماعة وكانت تحصل بصلاته فيه أن يكون اعتكافه فيه أفضل نظرًا إلى معنى الجماعة لما تقدم أن الصلاة في مسجد الجوار إذا كان بالصفة المذكورة أفضل. الثانية: إذا كان قصده أن يعتكف دون أسبوع استوى الاعتكاف في مسجد الجامع وفي غيره نظرًا إلى معنى الجمعة، وقد قاله القاضي الحسين. الثالثة: أن اعتكاف المرأة في الجامع وغيره سواء نظرًا للمعنيين فإن صلاتها في بيتها أفضل في حقها، وهذا ينطبق على ما نقله المزني. قوله في "الروضة": لو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها وهو المعتزل المهيأ للصلاة لم يصح على الجديد، ويصح على القديم. قلت: قد أنكر القاضي أبو الطيب وجماعة هذا القديم وقالوا: لا يجوز ¬

_ (¬1) في ج: في الأولوية.

في مسجد بيتها قولًا واحدًا، وغلطوا من قال فيه قولان، والله أعلم. انتهى كلام "الروضة". فيه أمور: أحدها: أن كلامه محتمل لتصحيح طريقة القطع ولطريقة القولين، وقد جزم في "المنهاج" بطريقة القولين، وصحح في "شرح المهذب" طريقة القطع فقال: لا يصح في مسجد بيت المرأة ولا مسجد بيت الرجل وهو المعتزل المهيأ للصلاة، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين. وحكى الخراسانيون وبعض العراقيين قولين: أصحهما -وهو الجديد- هذا. ثم قال: وقد أنكر القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وجماعة هذا القول وقالوا: لا يصح في مسجد بيتها قولًا واحدًا وغلطوا من نقل فيه قولين. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن ما نقله عن القاضي أبي الطيب من إنكار هذا القول قد تبين في "شرح المهذب" محله، فقال: إنه ذكره في "تعليقه"، وهذا النقل غلط على القاضي فقد صرح في "تعليقه" بإثبات القولين فقال: وأما المرأة فالذي نص في عامة كتبه أن اعتكافها لا يصح إلا في المسجد كالرجل سواء. وقال في القديم: يصح اعتكافها في مسجد بيتها. هذا لفظه، ونقله عنه ابن الرفعة أيضًا. الأمر الثالث: أن الجماعة الذين نقل عنهم في "الروضة" إنكار القديم قد بينهم في "شرح المهذب" فقال: إنهم جمهور العراقيين، وما نسبه إليهم ليس بصحيح، ففي "تعليق" الشيخ أبي حامد الذي علقه عنه البندنيجي ما نصه: حكى الشيخ -يعني: أبا حامد- عن القديم أن المرأة يكره لها أن تعتكف إلا في مسجد بيتها. انتهى.

وهذا شيخ العراقيين وقد وافقه أكثر تلامذته، وقال المحاملي في "المجموع": قال أبو حنيفة: يصح منها في مسجد بيتها وبيتها أفضل، ونص الشافعي على هذا في القديم. انتهى. وقال سليم الرازي في "مجرده": قال في القديم: أكره اعتكاف المرأة إلا في مسجد بيتها. انتهى. ونقله أيضًا القاضي أبو الطيب في "تعليقه" كما سبق ذكره، وكذلك ابن الصباغ في "الشامل" والشاشي في "المعتمد" و"الحلية" عن رواية الشيخ أبي حامد وأقراه، ونقله العمراني عن حكاية ابن الصباغ وأقره عليه أيضًا وهو معدود من العراقيين كما قاله في "الروضة" في بيع الفضولى؛ فهؤلاء هم كبار العراقيين وجمهورهم، ولا أعلم أن أحدًا من العراقيين ولا من غيرهم صح عنه أنه نفاه، وهذه الكتب موجودة بحمد الله بين أيدينا، بل لا أعلم أن أحدًا من المشهورين منهم تركه إلا صاحب "المهذب" كما ترك كثيرًا من المسائل والأبواب؛ لأن كتابه ليس من المطولات، والذي أغلط النووي -رحمه الله- أنه رآه متروكًا من كتابه الذي يشرح فيه، ووقع في ذهنه عن أبي الطيب ما نبهنا عليه من الغلط ولم يستوعب باقي كتبهم فأطلق لسانه وقلمه -غفر الله لنا وله-، بل بالغ البندنيجي فقال في تعليقه المسمى "بالجامع": أن الصحيح هو الجديد والقديم عدم صحته، كذا رأيته فيها، ونقله أيضًا عنه في "الكفاية"، ولكن نقلى ونقله من نسخة واحدة. قوله: وعلى هذا -أي: جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها- ففي جواز الاعتكاف للرجل فيه وجهان، وهو أولى بالمنع. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن النووي لم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا منهما، والأصح عدم الصحة فقد صححه في "شرح المهذب" فقال: إذا قلنا بالقديم أنه يصح اعتكافها في مسجد بيتها ففي صحة اعتكاف الرجل في مسجد بيته

وجهان: أصحهما: لا يصح. الثاني: أن الوجهين في اعتكاف الرجل هل هما خاصان بمسجد بيته أو جاريان في مسجد بيت المرأة؟ كلام الرافعي و"الروضة" لا يؤخذ منه شئ بل ربما يوهم جريانهما في بيتها، وقد استفدنا من كلامه في "شرح المهذب" أن المراد الأول، وذكر مثله القاضي الحسين في تعليقه وهو ظاهر. قوله: وإن عين لنذر الاعتكاف غير المساجد الثلاثة ففي التعيين وجهان، وقال الكرخي: قولان عن ابن سريج: أظهرهما: أنه لا يتعين كما لو عينه للصلاة. والثاني: أنه يتعين، لأن الاعتكاف يختص بالمسجد بخلاف الصلاة لا تختص بالمسجد فلا يتعين لها المسجد، ومنهم من قطع بالأول. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تبع الرافعي على تصحيح طريقة الوجهين، ثم خالف ذلك في "شرح المهذب" فصحح طريقة القطع بعدم التعيين. الأمر الثاني: أن هذا الفرق الذي ذكره الرافعي نقله الشاشي في "المعتمد" عن القاضي حسين ثم نقضه -أعني: الشاشي- فقال: قلت: وهذا الفرق ليس بصحيح، لأنه يبطل بالمساجد الثلاث؛ فإن الصلاة يتعين فيها بالنذر كما يتعين الاعتكاف؛ فإن كانت الصلاة لا يتعين لها المسجد الحرام. قوله: ومتى حكمنا بالتعيين فإذا عين المسجد الحرام لم يقم غيره مقامه. انتهى كلامه. وليس فيه تصريح بحكم الكعبة في أنه هل يتعين الفعل فيها على من نذره أو يغني عنها المطاف، ولا في أن الكعبة متعينة على من عبر بالمسجد

الحرام أولا؟ . وهذه المسألة قد ذكرها صاحب "البيان" في استقبال القبلة فقال: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا" (¬1). فسألت الشريف محمد بن أحمد العثماني ما المراد بالمسجد الحرام من هذا الخبر؟ فقال: المراد به الكعبة والمسجد حولها وسائر بقاع الحرم؛ لأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬2)، ومعلوم أنه أسرى به من بيت خديجة وكل موضع أطلق فيه المسجد الحرام فالمراد به جميع الحرام. والذي يتبين لي أن المراد بهذا الخبر الكعبة وما في الحجر من البيت، وهو ظاهر كلام صاحب "المهذب"؛ لأنه قال: الأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت، لأنه يكثر فيه الجمع والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي" (¬3). والدليل على ما ذكرته: ما روي عن عائشة قالت: يارسول الله، إني نذرت أن أصلي في البيت فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلى في الحجر فإنه من البيت" (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1133) ومسلم (1394) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سورة الإسراء (1). (¬3) تقدم. (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6251). وقال: لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عمرو بن الحارث. قلت: عمرو ثقة.

فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم تساوي الكعبة بذلك لم يكن لتخصيصها البيت بالنذر معنى، ولأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصلي في سائر بقاع الحرم. ولا فرق بين أن يقول عليه لله أن يصلي في المسجد الحرام أو في البيت الحرام، إذا ثبت أن البيت الحرام إنما هو الكعبة فكذلك المسجد الحرام. وأما الآية فإنما سمى بيت خديجة بالمسجد الحرام على سبيل المجاز. انتهى كلام صاحب "البيان". وحاصله الجزم بأن الكعبة لا يقوم غيرها مقامها سواء عبر الناذر بلفظ الكعبة أو بالبيت الحرام، وأن الظاهر عنده أن التعبير بالمسجد الحرام كالتعبير بهما حتى تتعين الكعبة أو ما في الحجر منها، فأما التعبير بالكعبة أو بالبيت فالمتجه فيه ما قاله من التعبير؛ وحينئذ تكون المراتب أربعة: الكعبة ونحوها كالبيت، ثم المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم الأقصى. وأما ما قاله في المسجد الحرام من إلحاقه فيدل له ما سبق قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1)، لكن ذكر في "شرح المهذب" في تفسير الحديث ما يخالفه فقال في باب استقبال القبلة: إن المسجد الحرام قد يطلق ويراد به الكعبة والمسجد حولها، ثم جعل ذلك من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (¬2) فالذي ذكره هو الظاهر، فتلخص في المسجد الحرام المشهود له بالفضيلة ثلاث مقالات: أحدها: ما قاله النووي وهو الكعبة والمسجد حولها. والثاني: هذا وسائر بقاع الحرم، وهو مقام الشريف العثماني؛ ويشهد له ما نقله النووي في مناسكه عن الماوردي ولم يخالفه أن الحرم كله في المضاعفة كالمسجد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (144). (¬2) تقدم.

والثالث: أنه الكعبة وما في الحجر من البيت، وهو اختيار صاحب "البيان". قوله في "الروضة": وإن حكمنا بعدم التعيين فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة جاز على الأصح. انتهى. لم يتعرض -رحمه الله- لما إذا كانت المسافة دون ذلك هل يكون فيها الخلاف أو يقطع فيها بالصحة، وقد ذكرها الرافعي -رحمه الله- وحكى فيها الوجهين في المساوي فقال: أى مثل تلك المسافة أو أقرب كان له ذلك في أصح الوجهين. هذا لفظه. فنسيه النووي حالة الاختصار ثم إنه لم يذكره في "شرح المهذب" أيضًا لما ذكرته لك غير مرة أنه يلخص الأحكام غالبًا من "الروضة". قوله: وأما الزمان ففي تعين الاعتكاف فيه بالتعيين وجهان: المذهب: أنه يتعين. ثم قال: والثاني: لا يتعين كما لا يتعين في نذر الصلاة والصدقة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من عدم تعين الوقت في الصلاة قد ذكر ما يخالفه في كتاب النذر وستقف عليه إن شاء الله تعالى هناك مبسوطًا. ونقل أيضًا في "الروضة" من زياداته في باب صدقة التطوع عن صاحب "المعاياة" مثله، فإنه نقل عنه أنه لا يجوز تقديمها -أعني الصلاة عن الوقت المعين- وأقره، وقياسه امتناع التأخير. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي جواز تقديم الصدقة وتأخيرها فقياس

المذهب امتناعه لأنها عبادة مالية فيجوز تقديمها لا تأخيرها بالزكاة وكلامه في تارك النذر يدل عليه، فإنه قال في الكلام على النوع المعقود لالتزام الصوم ولو عين للصدقة وقت قال الصيدلاني: يجوز تقديمها عليه بلا خلاف. هذه عبارته؛ فاقتضى كلامه أن التأخير لا يجوز، وسيأتي في باب الأضحية في الكلام على الأضحية المنذورة فرع متعلق بالمسألة فراجعه. قول في "الروضة" في المسألة: ويجري الوجهان في تعيين زمن الصوم. انتهى. وما جزم به -رحمه الله- من طريقة الوجهين قد خالفه في كتاب النذر ورجح طريقة القطع، وستعرف لفظه هناك، ورجحهما أيضًا هناك في "شرح المهذب". قوله: وإذا قال: لله على أن أعتكف شهرًا لم يلزمه التتابع إلا إذا شرطه. ثم قال: فلو لم يتعرض له لفظًا ولكن نواه بقلبه فهل يلزمه؟ فيه وجهان، قال صاحب "التهذيب" وغيره: أصحهما: أنه لا يلزمه كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه. انتهى كلامه. وقد أطلق الرافعي ترجيح هذا في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، وكذلك النووي في "الروضة". واعلم أن هذه المسألة قد وقع فيها تعارض، والصواب اللزوم، وستعرف ذلك بعد هذا بقليل في الكلام على استتباع الأيام بالليالي. قوله في "الروضة": ولو شرط تفريقه -أى: الاعتكاف- فهل يجزئه المتتابع؟ وجهان: أصحهما: يجزئه لأنه أفضل. انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من طريقة الوجهين قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: وهل يجوز متتابعًا؟ فيه طريقان: أصحهما: القطع بجوازه، وبه قطع المصنف والأكثرون لأنه أفضل. والثاني: فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، أصحهما هذا. انتهى لفظه. الأمر الثاني: أن الغزالي في "الخلاصة" قيد الجواز بما إذا لم يقصد أيامًا معينة. وكذا قال شارح "مختصر الجويني" وهو تقييد، لأنه إذا نذر يومًا بعينه امتنع عليه التقديم والتأخير على الصحيح كما تقدم قريبًا. قوله: ولو نذر اعتكاف يوم فلا تكفي ساعات من أيام في أصح الوجهين لأن المفهوم من اليوم -وهو المحكي عن الخليل- إنما هو المتصل. ولو قال في أثناء النهار: لله تعالى على أن أعتكف يومًا من هذا الوقت فقد أطبق حملة المذهب على أنه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني. ولا يجوز أن يخرج بالليل ليتحقق التتابع، وفيه توقف، لأن البعضين يوم والليلة المتخللة ليست منه, والقياس أن يجعل فائدة التقييد القطع بجواز التفريق. انتهى. وما ذكره من إطباق حملة المذهب قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، وليس كذلك؛ فقد نقل القاضي الحسين في "تعليقه" عن ابن سريج تخريج

هذه المسألة على الخلاف في وجوب التتابع وأن الشافعي إنما قال هذا تفريعًا على ذلك القول فقال -أعني القاضي- بعد تصويره للمسألة ما نصه: ثم إن الشافعي أوجب عليه الليلة التي تخللت نصفي اليوم فاختلف أصحابنا فيه، فذهب ابن سريج إلى أن مطلق النذر يوجب التتابع ولهذه النكتة وجهًا للشافعي على هذا القول، ومنهم من قال: إنما لزم الليلة إلى أخره. هذا لفظ القاضي. وقال الماوردي في "الحاوي": تكون الليلة المتوسطة بين اليومين داخلة في الاعتكاف إلا أن تكون له نية النهار دون الليل. هذا لفظه. قوله: ثم حكى الإمام تفريعًا على جواز تفريق الساعات عن الأصحاب أنه تكفيه ساعات أقصر الأيام؛ لأنه لو اعتكف أقصر الأيام جاز، ثم قال: إن فرق على ساعات أقصر الأيام في سنين فالأمر كذلك، وإن اعتكف في أيام متباينة في الطول والقصر فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه، إن كان ثلثا فقد خرج عن ثلث ما عليه، وعلى هذا القياس نظرًا إلى اليوم الذي يوقع فيه الاعتكاف؛ ولهذا لو اعتكف بقدر ساعات أقصر الأيام من يوم طويل لم يكفه، وهذا الذي ذكره مستدرك حسن وقد أجاب عنه بما لا يشفي. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، وفيه أمران: أحدهما: أن الغزالي في "البسيط" بعد أن ذكر هذا البحث الذي قاله الإمام وعزاه إليه قال ما نصه: ولكن المذهب ما قاله الأصحاب. الأمر الثاني: أن محل الخلاف فيما إذا غاير بين الساعات، أما لو أتى بساعة معينة من يوم أتى بها بعينها من آخر إلى أن استكمل ساعات اليوم فإنه لا يجزئ جزمًا.

كذا قاله القاضي الحسين في "تعليقه" فقال: منهم من قال: لا يجوز تفريق اليوم الواحد بخلاف الأيام، والفرق أن كل يوم مستقل بنفسه فله التفريق بخلاف الساعات؛ ألا ترى أنه لو عين ذلك في ساعة واحدة فاعتكف كل يوم تلك الساعة حتى تم العدد لم يجز. هذا كلامه. قوله: إحداها: لو نذر اعتكاف شهر لزمته الأيام والليالي لأن الشهر عبارة عن الجميع إلا أن يقول أيام شهر أو نهار هذا الشهر فلا تلزمه الليالي، ولو لم يتلفظ بتقييد ولا استثناء ولكن نواه بقلبه ففيه وجهان: أصحهما: لا يؤثر، ذكره في "التهذيب". انتهى كلامه. والذي صححه في "التهذيب" هو الصحيح؛ فقد صححه أيضًا الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" والنووي في "أصل الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" وغلط فنقله فيه عن الرافعي أيضًا فقال: صححه البغوي والرافعي، وقد أعلمتك مرات سبب غلطه. قوله: الثانية: لو نذر اعتكاف يوم لم يلزمه ضم الليلة إليه، وحكى الحناطي فيه قولان. ولو نذر اعتكاف يومين ففي لزوم الليلة التي بينهما ثلاثة أوجه: أحدها: لا تلزمه إلا إذا نواها. والثاني: تلزم، ثم قال ما نصه: والثالث: إن نوى التتابع أو قيد به لفظ الزمن ليحصل التواصل وإلا فلا، وهذا أرجح عند الأكثرين بل لم يحكوا خلافًا في لزومها إذا قيد بالتتابع. وذكر صاحب "المهذب" وآخرون أن الأول أظهر، والوجه التوسط. فإن كان المراد من التتابع توالى اليومين فالحق ما ذكره صاحب "المهذب"،

وإن كان المراد تواصل الاعتكاف فالحق ما ذكره الأكثرون. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام صريح في وجوب التتابع إذا نواه ولم يتلفظ به لأنه نقل عن الأكثرين إيجاب الليلة عند نية التتابع وجعل مستندهم وجوب التواصل فاقتضى هذا الجزم بوجوب التتابع. وهذه المسألة -أعني وجوب التتابع بالنية- موضعها قبل هذا بدون ورقتين، وقد أجاب فيها في ذلك الموضع بعدم اللزوم، وقد ذكرت هناك لفظه فراجعه. ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" وفي "الروضة" و"شرح المهذب"، والصواب نقلًا ومعنًا هو الوجوب. أما الأول فقد قال الإمام في "النهاية": لو نوى التتابع بقلبه فمضمون الطرق أنه يلزم فإن مطلق اللفظ يحتمله وهذا كثير، بل النيات مع الكنايات بمنزلة الصريح، وجزم به أيضًا سليم الرازي في "المجرد"، والغزالي في "البسيط" وكلام الرافعي هنا في نقله عن الأكثرين لا يستقيم إلا بإيجابه. وأما معنًا فلما أشار إليه الإمام. ولأنه إذا كان الراجح إيجاب الليالي بالنية مع أن فيه وقت زائدًا فوجوب التتابع أولى لأنه مجرد وصف. الأمر الثاني: أن هذا التفصيل الذي ذكره الرافعي بحثا قد نقل النووي في "شرح المهذب" عن الدارمي التصريح به. الثالث: أن النووي في "الروضة" قد جزم بهذه الأوجه الثلاثة ولم يذكر مع ذلك ما يشير إلى طريقة أخرى بالكلية، ثم إنه في "شرح المهذب" حكى

في المسألة ثلاث طرق وضعف المذكورة هنا وصحح غيرها فقال: والطريق الثاني طريقة الشيخ أبي حامد وابن الصباغ والمتولي وأكثر أصحابنا المصنفين أنه إن صرح بالتتابع في اليومين أو نواه لزمته الليلة المتخللة وجهًا واحدًا وإلا فوجهان، والطريق الثالث طريقة المصنف وقليليين أن في المسألة ثلاثة أوجه. هذا لفظه. قوله: ولو نذر ثلاثة أيام أو [عشرة] (¬1) أو ثلاثين يومًا ففي لزوم الليالي المتخللة الوجوه الثلاثة، وأشار الشيخ أبو محمد وطائفة إلى طريقة قاطعة، فإن نذر اليومين لا يستتبع شيئًا من الليالى، والخلاف في الثلاثة فصاعدًا، وحكى عن القفال في توجيهه .. إلى آخره. واعلم أن هذه الطريقة قد أسقطها النووي من "الروضة" لكنه ذكرها في "شرح المهذب" نقلًا عن الإمام. قوله: وإنما قال الغزالي: ففي الليالي المتخللة تنبيهًا على أن الخلاف مخصوص بما بين الأيام المنذورة من الليالي وهي تنقص عن عدد الأيام بواحد أبدًا، ولا خلاف في أن الليالي لا تلزم بعدد الأيام، فإذا نذر يومين لم يلزمه ليلتان، وقال أبو حنيفة: يلزمه، وقياس ما نقله الحناطي في اليوم الواحد مثله فاعرفه. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله الرافعي من جريان القول لا شك فيه، وقد حذفه النووي من "الروضة"، ثم إنه في "شرح المهذب" نقل عن الرافعي مما لخصه في "الروضة" ظنًا منه أنه لم يغير كلامه فأسند نفى الخلاف إليه ثم استدرك عليه فقال: وكذا صرح بنفي الخلاف فيه الرافعي وكان ينبغي أن يجئ فيه القول الذي قدمناه عن حكاية الرافعي أن من نذر يومًا لزمته ليلته. قوله: فرع: إذا نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم نهارًا لم يلزمه قضاء ما مضى في أصح القولين. انتهى. ¬

_ (¬1) في ج: عشرين.

وهذا الذي قاله من عدم اللزوم قد ذكر ما يخالفه في كتاب النذر وستعرف ذلك هناك مبسوطًا إن شاء الله تعالى. قوله: ولو كان الناذر وقت القدوم مريضًا أو مجنونًا قضى عند زوال العذر، وعن القاضي أبي حامد وصاحب "الإفصاح" أنه لا شئ عليه لعجزه وقت الوجوب. انتهى كلامه. وقد عبر عنه في "الروضة" بقوله وفيه وجه لا شئ عليه، وهذا الذي حكاه الرافعي واختصره في "الروضة" على ما تراه قد تبع فيه صاحب "الشامل" فإنه قال: حكى أبو حامد في "الجامع" وأبو علي في "الإفصاح" أن فيه وجهًا آخر أنه لا يقضى، وهذا خلاف نص الشافعي. هذا لفظه. إلا أن مدلول كلام الرافعي أنه وجه وأن أبا حامد وصاحب "الإفصاح" ذهبا إليه، وليس الأمر في صاحب "الإفصاح" كما نقله فإنه قال: فإن كان مريضًا أو مجنونًا يوم يقدم كان عليه القضاء إذا قدر، وفيه قول أنه لا يلزمه القضاء. هذا لفظ "الإفصاح" ومنه نقلت، وقد تلخص لك أنه قول لا وجه وأن صاحب "الإفصاح" مصحح لخلافه؛ فاعلم الأمرين، وأما "جامع" أبي حامد فإننا لم نقف عليه. قوله: ولو نذر اعتكافًا متتابعًا وشرط الخروج إن عرض عارض صح شرطه، وفيه قول أنه لا يصح كما لو شرط الخروج للجماع. ثم قال: ولو قال: إن عرض عارض قطعنا الاعتكاف فالحكم كما لو شرط الخروج، إلا أن في شرط الخروج يلزمه العود عند قضاء الحاجة، وفيما إذا شرط القطع لا يلزمه. انتهى. ومقتضى هذا الكلام أنه إذا شرط القطع بالجماع لا يصح؛ لأن اشتراط الخروج له لا يصح كما سبق، وهو مشكل؛ لأن الغرض أن اشتراط قطعه

جائز من حيث الجملة فينبغي جوازه أيضًا بالجماع كما ذكروا أن للمسافر أن يجامع بقصد الترخص، والجماع كما ينافي الاعتكاف ينافى الصوم. قوله: ولو نذر صلاة وشرط الخروج منها إن عرض عارض، أو صومًا وشرط الخروج منه إن جاع أو أضيف فالأكثرون على صحة الشرط كالاعتكاف، وقيل لا يصح النذر لأن نقض الصلاة والصوم ليس يعتاده بخلاف الاعتكاف. انتهى ملخصًا. وظاهر ما ذكره في تعليل الوجه الثاني يقتضي أنه لا يثاب على ما مضى، لكن صرح الشاشي في "المعتمد" بالثواب فقال: ويكون مثابًا على ما مضى ولا يكون لغوًا كما لو مرض في أثناء الصوم فأفطر أو سافر وهو صائم فأجهده الصوم فأفطر فإنه يجوز له ذلك لمكان العذر ويثاب على ما مضى من الإمساك. هذا لفظه بحروفه. قوله: فلو قال: إلا أن يبدو لى، لم يصح في أظهر الوجهين. ثم قال: وإذا لم يصح الشرط فهل يبطل الالتزام من أصله أو يصح ويلغون الشرط؟ حكم صاحب "التهذيب" بالأول، وحكى الإمام فيه وجهين. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا، والراجح بطلان الالتزام من أصله؛ فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أشبه الوجهين. قوله: ولو أخرج رأسه أو يده فلا يبطل اعتكافه؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله (¬1). ولو أخرج إحدى رجليه أو كليهما وهو قاعد مادًا لهما فكذلك وإن اعتمد عليهما فهو خارج. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1924) ومسلم (297) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

أهمل ما إذا أخرج أكثر من رأسه أو أكثر من رجليه وهو مضطجع، أو أخرج إحدى رجليه وهو قائم، وستعرف حكم ذلك في الأيمان. والترجيل: هو التسريح. والحديث رواه الشيخان. قوله: ولو خرج ليؤذن في المنارة الخارجة من المسجد ففيه أوجه: أصحها عند صاحب "التهذيب" وغيره: التفصيل بين الراتب وغيره .. إلى آخر ما قال. اعترض عليه في "الروضة" فقال: قلت: لكن شرطوا كونها مبنية للمسجد احترازًا من البعيدة. والله أعلم. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام قد شاهدته كذلك في "الروضة" التي هي بخط النووي، وهو غير منتظم؛ لأن البعيدة ليست نقيض المبنية للمسجد فكيف يحترز بها عنها. وقد وقع في "شرح المهذب" على الصواب فإنه قال: واعلم أن صورة المسألة في منارة قريبة من المسجد مبنية له، فأما غيرها فيبطل اعتكافه بالذهاب إليها بلا خلاف سواء الراتب وغيره. هذا لفظه. وهو جيد واستفدنا منه أنه يشترط شرطان: أحدهما: كونها مبنية للمسجد فلو بنيت لغيره لم يخرج لها قريبة كانت أو بعيدة. والثاني: أن تكون قريبة فلو كانت بعيدة لم يخرج لها سواء بنيت للمسجد أم لا.

الأمر الثاني: أن اشتراط البناء للمسجد قد ذكره الرافعي -رحمه الله- في التعليل فإنه لما حكى الخلاف قال ما نصه: والثاني لا يبطل لمعنيين: أحدهما: أنها مبنية للمسجد معدودة من توابعه، هذا لفظه فحذفه النووي حالة الاختصار ظنًا منه أنه تعليل لا تقييد للمسألة، ثم رأى بعد ذلك أنه لابد منه فاستدركه على الرافعي ظنًا منه أنه لم يذكره. قوله في "الروضة": فلو خرج لقضاء الحاجة فعاد في طريقه مريضًا نظر إن لم يقف ولا عدل عن الطريق بل اقتصر على السؤال والسلام فلا بأس، وإن وقف فأطال بطل اعتكافه، وإن لم يطل لم يبطل على الصحيح. انتهى. وما ذكره في المسألة الأخيرة -وهي عدم الطول- من جزمه بحكاية وجهين قد خالفه في "شرح المهذب" فحكى طريقة قاطعة بأنه لا يضر، وصححه فقال: فإن لم يطل فطريقان: أصحهما: لا يبطل اعتكافه وجهًا واحدًا وبه قطع البغوي والأكثرون. والثاني: وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: يبطل، وبهذا الطريق قطع المتولي. هذا لفظه. وحكى الشاشي في "المعتمد" طريقة ثالثة وهي القطع بالبطلان وصححها. قوله: ولو صلى في الطريق على جنازة -يعني الخارج لقضاء الحاجة- فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا أزور عن الطريق. وحكى صاحب "التتمة" فيه الوجهين، وقال في "التهذيب": إن كانت متعينة فلا بأس وإلا فوجهان. انتهى كلامه.

وهذه الطريق التي حكاها الرافعي -رحمه الله- عن "التهذيب" غلط من الرافعي عليه؛ فإن المذكور في "التهذيب" عكس ذلك فإنه قال ما نصه: ولو صلى على جنازة في الطريق بطل اعتكافه إن لم تتعين، فإن تعينت ففيه وجهان. هذا لفظ البغوي بحروفه. وذكر الخوارزمي في "الكافي" هذه الطريق كذلك أيضًا، وهو تلميذ البغوي ويسلك طريقه غالبًا فانعكس على الرافعي حال الكتابة، ثم إن الطريق المذكورة لا ثبوت لها في نفسها فإني لم أظفر بها في شئ من كتب الأصحاب بعد البحث الشافى، وقد ذكر في "الروضة" هذه الطريقة إلا أنه لم يعزها إلى أحد. قوله: لكن لو جامع في مروره بأن كان في هودج، أو فرض ذلك في وقفة يسيرة بطل اعتكافه في الأصح. أما إذا قلنا باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء الحاجة فظاهر، وأما إذا لم نقل به فلأن الجماع عظيم الوقع. والثاني: أنه لا يبطل؛ لأنه غير معتكف في تلك الحالة. انتهى موضع الحاجة من كلامه. واعلم أن في الحكم باعتكافه حالة الخروج لقضاء الحاجة وجهين حكاهما في "شرح المهذب" عن جماعة، وكلام الرافعي هذا ظاهر الثاني؛ لأن كلامه في تعليل الوجه الأول يشير إلى الخلاف من غير ترجيح، وفي تعليل الثاني، جازم بأنه غير معتكف، وقد اقتصر في "الروضة" على تعليل الثاني ولم يذكر ما ذكره الرافعي من الإشارة إلى الخلاف في ذلك فسلم من الاعتراض المتوجه على الرافعي لكنه قبل هذا بدون صفحة في الكلام على أن أوقات الحاجة لا يجب تداركها، ذكر أنه معتكف في تلك الحالة؛ فوقع في التناقض، وقال في "شرح

المهذب" في تعليل الثاني لأنه غير معتكف في أحد الوجهين فسلم من الاعتراض، فلو عبر هو بذلك في "الروضة" وكذلك الرافعي لسلمنا أيضًا. قوله في "أصل الروضة": بخلاف ما إذا احتاج إلى الوضوء من غير قضاء حاجة فإنه لا يجوز الخروج له على الأصح إذا أمكن الوضوء في المسجد. انتهى. واعلم أن محل هذا الخلاف في الوضوء الواجب، فأما تجديد الوضوء فلا يجوز الخروج له قطعًا، فإنه قد جزم بذلك ابن الصباغ في "الشامل" والبغوي في "التهذيب" والخوارزمي في "الكافي" والعمراني في "البيان"، وقال في "شرح المهذب" إنه لا شك فيه. وهذه الصورة وإن كانت قد تؤخذ من عبارة "الروضة" إلا أنها ليست صريحة في ذلك، وعبارة الرافعي أوضح منها، وقد سبق أن المحتلم يجوز له الخروج للاغتسال وإن أمكنه فعله في المسجد، والفرق بينه وبين الوضوء لائح. قوله أيضًا في "الروضة": فرع: لو خرج ناسيًا أو مكرهًا لم ينقطع تتابعه على المذهب. وقيل: قولان. انتهى كلامه. وهو مشتمل على مسألتين: إحداهما: الخروج ناسيًا، وقد اقتضى كلامه أن فيها طريقين: أصحهما: القطع بعدم البطلان. والثانية: حاكية بخلاف، وأن ذلك الخلاف عند من حكاه قولان لا وجهان، وما دل عليه من تصحيح طريقة القطع، ومن جعل الخلاف عند مثبته قولين؛ فعكس ما قاله الرافعي في الأمرين جميعًا، فإنه صحح

طريقة الخلاف وأن ذلك الخلاف وجهان لا قولان فقال: لو خرج ناسيًا هل يبطل تتابعه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم: لأن اللبث مأمور به والنسيان ليس بعذر في ترك المأمورات. وأصحهما: لا. ثم قال: واقتصر كثير من الأئمة على إيراد هذا الثاني، ومن أورد خلافًا عبر عنه بالوجهين، ولفظ القولين في الكتاب في هذه الصورة محمول على أن الخلاف مخرج. هذا لفظ الرافعي. وذكر نحوه في "الشرح الصغير" فقال: ولو خرج ناسيًا للاعتكاف فوجهان، ويقال: قولان، هذه عبارته فجزم بطريقة الخلاف، ثم صحح أنه وجهان. وصحح في "شرح المهذب" كما صحح في "الروضة" فقال مشيرًا إلى عدم البطلان ما نصه: هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور. قال الرافعي: وقيل في بطلانه قولان. هذا لفظه، وهو غلط، وقد علمت سبب الغلط في مثل ذلك. واعلم أن الصائم لا يفطر بالأكل يسيرًا ناسيًا بلا خلاف، والفرق بينه وبين خروج المعتكف ناسيًا أن مشاهدة المعتكف للمسجد مذكرة لاعتكافه فبعد وقوع النسيان معه فلم نعذره على وجه بخلاف الصائم. وأما المسألة الثانية وهي مسألة الإكراه فقد اقتضى أيضًا كلام "الروضة" أن فيها طريقين وأن أصحهما القطع بعدم البطلان. والثانية على قولين، وفيه أمران:

أحدهما: أنه مخالف لما ذكره الرافعي؛ فإن المذكور فيه إنما هو طريقة القولين فقال: لو أكره حتى خرج ففيه قولان كالقولين فيما لو أكره وهو صائم. والذي أجاب به الجمهور أنه لا ينقطع به التتابع. هذا لفظه. الأمر الثاني: أنه مناقض لما صححه في "شرح المهذب"؛ فإنه صحح فيه طريقة القولين أيضًا فقال: فطريقان: أصحهما: فيه قولان كالإكراه على الأكل في الصوم. والطريق الثاني: لا يبطل قولًا واحدًا. قوله فيها أيضًا: ومن أخرجه السلطان ظلمًا لمصادرة أو غيرها أو خاف من ظالم فخرج واستتر فكالمكره. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من التسوية بين الإخراج والخروج خلاف ما صححه في "شرح المهذب" فإنه سلم أن الخارج خوفًا مخرج على القولين في المكره، ولم يحك فيه غير ذلك. وأما من أخرج ظلمًا فصحح فيه طريقة القطع بعدم البطلان فقال فيه لم يبطل اعتكافه على المذهب، وبه قطع الشيخ أبو حامد والماوردي في "الحاوي" وابن الصباغ والجمهور، وقيل: هو كالمكره فيكون فيه القولان وبهذا جزم البغوي والمتولي والرافعي. هذا لفظه. قوله: وإذا دعى لأداء شهادة فإن لم يتعين عليه أداؤها انقطع بتابعه، وإن تعين نظر إن لم يتعين عليه التحمل فطريقان: إحداهما: على قولين، والثانية: يبطل قطعًا، وظاهر المذهب هو البطلان.

ثم قال: وإن تعين التحمل فإن قلنا إذا لم يتعين -أي: التحمل- لا ينقطع اعتكافه فهنا اعتكافه أولى، وإلا فوجهان انتهى. فيه أمور: أحدها: أن النووي في "أصل الروضة" قد صحح من الطريقين الأولين طريقة القطع. الثاني: أن الأصح في المسألة الأخيرة عدم البطلان. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". الثالث: أن حاصل ما ذكره الرافعي فيها طريقان: إحداهما: القطع بعدم البطلان. والثانية -وهى الصحيحة-: أن فيها وجهين. وقد تابعه في "الروضة" على ذلك، ثم خالف في "شرح المهذب" فصحح طريقة القطع بأنه لا يبطل ونقله عن الجمهور. قوله في "الروضة": ولو خرجت المعتكفة للعدة لم ينقطع على المذهب، وقيل قولان. انتهى. هذه المسألة لا حاجة إليها لأنه قد ذكرها بعد هذا بنحو سطرين مستوفاة، وسبب وقوعه في هذا التكرار العجيب أن الرافعي ذكرها في هذا الموضع استطرادًا فظن أنه موضعها، ثم ذكرها الرافعي بعد هذا في موضعها فتابعه عليه ناسيًا لما سبق قريبًا. ولقائل أن يقول: لم لا فصلوا بين أن تجب العدة باختيارها لفعلها ما علق عليه الطلاق أو لا تكون كذلك؟ والظاهر أن هذا التفصيل لابد منه. قوله: فإذا خرج لصلاة الجمعة فهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان -ويقال: وجهان- أصحهما: نعم.

ثم قال: وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقل من أسبوع ابتدأ من أول أسبوع، أين شاء من المساجد وفي الجامع متى شاء، وإن كان أكثر من أسبوع فيجب أن يبتدئ به في الجامع. انتهى. والضابط الذي ذكره لما يجب الابتداء به في الجامع وما لا يجب ليس صحيحًا، لأنه إذا نذر اعتكاف ستة أيام وثلثى يوم وربع يوم مثلًا فقد نذر أقل من أسبوع ولا ينفعه الابتداء به من أول الأسبوع في غير الجامع، وهذا على قولنا أول الأسبوع السبت. فإن قلنا: إنه الأحد، فيصير الاعتراض أفحش، وأما تقييده وجوب الابتداء في الجامع بأكثر من أسبوع فلا يستقيم أيضًا بل ينبغي أن يقول: وإن كان أسبوعًا فصاعدًا بل ما دون الأسبوع، وقد يكون حكمه كذلك على ما تقدم. قوله: فإن عين غير الجامع وقلنا بالتعيين لم يخرج عن نذره إلا بأن يمرض وتسقط عنه الجمعة، أو بأن يتركها عاصيًا ويدوم على اعتكافه. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي من أنه لا يخرج عن نذره إلا بأحد هذين الشيئين ذكره البغوي في "الروضة" فقلده فيه الرافعي ثم النووي في "الروضة" و"شرح المهذب". وهو غريب؛ بل يخرج عن نذره بكل ما يسقط الجمعة من الخوف والوحل والمطر والتمريض، وكذلك بالنوم والنسيان. وليت شعري كيف ذهل البغوي عن هذا حتى وقع من بعده فيه. قوله: ولابد من قضاء الأوقات المصروفة إلى ما عدا قضاء الحاجة [إلا] (¬1) من الأعذار فإنه غير معتكف فيها. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من ج.

تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على هذا الإطلاق ولم [أراه في كلام أحد من الأصحاب بل] (¬1) لابد من استثناء أوقات الأكل والوضوء ونحوهما، فقد قال الشيخ أبو علي السنجي في "شرح التلخيص": زمان الغائط والبول محسوب حتى لا يقضى لأنه يسير. وكذلك المؤذن يخرج للأذان والجنب يخرج للغسل. ثم قال: فأما إذا خرج للمرض أو المرأة للعدة والحيض والنفاس أو لانهدام المسجد أن يبنى أو للجهاد فلا يحسب ويقضيه؛ لأن هذه الأشياء تحتاج إلى زمان طويل. هذا لفظه. وقال القاضي حسين في "تعليقه" عند الكلام في الخروج لقضاء الحاجة: لو أجنب في المسجد له الخروج ليغتسل لأنه لا يمكنه أن يتجرد في المسجد ويكون مستثنى من أصل نذره، وقال في "النهاية" في الرد على من قال: إن للجنب أن يغتسل في المسجد: إن الخروج إذا أمر به فهو في معنى الخروج لقضاء الحاجة ثم نفس الخروج مع أنه مباينة للمسجد غير مؤثر فليكن الخروج لأجل الإنزال الواقع من غير قصد بهذه المثابة. وقال الغزالي في "البسيط": فإن قيل حيث يجوز الخروج فهل يجب تدارك أوقات الخروج أم تحسب من الاعتكاف؟ قلنا: لا يحسب شئ من ذلك من مدة الاعتكاف إلا أوقات الخروج لقضاء الحاجة. وفي معناه الأكل والوضوء إن جوزنا الخروج لهما. وقد اختلف الأصحاب في طريقه؛ منهم من قال: هو معتكف في حركاته وحكمه مستمر عليه. ¬

_ (¬1) سقط من ج.

ثم قال: منهم من قال: ليس بمعتكف، وهو الصحيح، ولكن معناه أنه جعل مستثنى فهو كما لو قال أعتكف شهرًا إلا في أوقات قضاء الحاجة. وقال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" بعد أن ذكر أن الخروج لقضاء الحاجة لا يجب تداركه ما نصه: وفي معناه الخروج للأكل والوضوء إن جوزناه، والموقع للرافعي فيما وقع فيه أن الغزالي في "الوجيز" قال: فعليه قضاء الأوقات المصروفة إلى هذه الأعذار، وأشار بالأعذار إلى أمور عددها ليس فيها شئ مما قلنا يجب استثناؤه كما تعرف بمراجعة لفظه، فحمل الرافعي هذا اللفظ على العموم لا على العهد وتصرف فيه فاعلمه. قوله: وأما ما منه بد ففي وجوب تجديد النية له عند العود وجهان: أظهرهما: لا يجب؛ لشمول النية جميع المدة. ثم قال: وأجرى الشيخ أبو عليّ الخلاف فيما إذا خرج لغرض استثناه ثم عاد. انتهى كلامه. وما نقله الرافعي عن الشيخ أبي علىّ تبع فيه الإمام وتبعه عليه النووي من بعده، والشيخ أبو عليّ لم يطلق ذلك بل شرط فيه أن يطول زمن الخروج فقال في "شرح التلخيص": لو عين عشرة أيام ونوى اعتكاف جميعها إذا دخل، فإذا خرج لعارض استثناه ثم رجع لا يحتاج إلى تجديد النية؛ لأنه نوى الكل دفعة واحدة في الابتداء. قلنا: ويحتمل أن ينوي إذا طال الخروج كما أنه يحتاج أن ينوي كل ليلة من رمضان إن كان الزمان متعينا، هذا لفظه بحروفه ومن "شرح التلخيص" نقلت.

قوله: ولو عين مدة ولم يتعرض للتتابع ثم جامع أو خرج من غير عذر ففسد اعتكافه ثم عاد ليتم الباقي فقد أجرى الخلاف في وجوب التجديد. قال الإمام: لكن المذهب هاهنا وجوبه. انتهى: تابعه في "الروضة" على نقل ذلك عن الإمام فقط، وقد صحح في "شرح المهذب" ما صححه الإمام فقال: هو كما قال، والصحيح وجوب تجديد النية هنا للخلل المنافي القاطع للاعتكاف. قوله من زوائده: لو قال لله علىّ اعتكاف شهر نهارًا صح فيعتكف النهار دون الليالي، نص عليه في "الأم". انتهى. هذه المسألة. ذكرها الرافعي قبل هذا الموضع بدون ثلاثة أوراق. قوله أيضًا من زوائده: قال الروياني: قال أصحابنا: لو نذر اعتكافًا وقال: إن اخترت جامعت، أو إن اتفق لي جماع جامعت لم ينعقد نذره، والله أعلم. هذه المسألة قد سبق معناها في كلام الرافعي قبل هذه الموضع بنحو ورقتين وهي أول في فصل.

كتاب الحج

كتاب الحج قوله: فمن حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يلزمه الحج خلافًا لأبي حنيفه. ومأخذ الخلاف أن الردة عنده تحبط العمل، وعندنا إنما تحبط بشرط أن يموت عليها قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). انتهى ما قاله -رحمه الله-، والكلام معه متوقف على إيضاح ما ذكره فلنوضحه فنقول: كلامه فيه أمران: أحدهما: أن أبا حنيفة قد استدل على الإحباط بمجرد الردة لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، ونحو ذلك كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) وأجاب الأصحاب بما ذكره الرافعي؛ وهو أنه قد ورد تقييد ذلك في الآية المتقدمة بالموت على الكفر حيث قال تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (¬4)، والمطلق محمول على المقيد. إذا تقرر ذلك فلك أن تقول: كيف يصح حمل المطلق على المقيد هنا مع اختلاف المحكوم به؛ لأن المحكوم به في تلك الآية من جملته الخلود في النار وذلك خاص بمن مات على الكفر -والعياذ بالله تعالى- بخلاف ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 217. (¬2) سورة المائدة: 5. (¬3) سورة الزمر: 65. (¬4) سورة البقرة: 217.

الآيات المُطْلقة؛ فإن الخلود لم يرد فيها وحينئذ فتكون تلك الآيات دالة على أن الردة وحدها مقتضية للإحباط فقط وتكون الآية الأولى دالة على الردة مع الموت عليها يقتضيان الإحباط والخلود وهو ما تقوله الحنفية، وقد يجيب الأصحاب بأن الخسران من جملة المحكوم به في الآيات المطلقة فقد ورد بعد ذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1)، ولا شك أن ذلك خاص بمن مات على الكفر فلزم التقييد به كما سبق، إلا أن يقال: لما كان ذلك أسوأ الخاسرين حصر الخسران فيه مبالغة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: " أتدرون من المفلس؟ . . . ." (¬2) الحديث، وبالجملة فهذا كله ذهول عن مذهب الشافعي -رحمه الله-؛ فقد نص على حبوط ثواب الأعمال بمجرد الردة كذا نص عليه في "الأم". وهي مسألة نفيسة مهمة غفل عنها الأصحاب. قوله: أما الصحة المطلقة فلها شرط واحد وهو الإسلام. انتهى. وهذا الكلام يؤخذ منه أن ولد المسلم يصح حجه مع اعتقاده الكفر، لأنه محكوم ببقائه على الإسلام، وقد سبق الكلام على المسألة في أوائل الوضوء. قوله: ويجوز للولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز وعن المجنون. . . . إلى آخره. وسكت -رحمه الله- عن العبد وقد تعرض له الإمام فقال: إن كان بالغًا فليس للسيد أن يحرم عنه. ومفهوم كلامه يقتضي الجواز في الصغير. قال ابن الرفعة: والقياس أن يكون كتزويجه. ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 15. (¬2) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قلت: وقد رأيت في "الأم" الجزم بالصحة من غير تقييد بالكبير فقال في أول كتاب الحج: وإذا أذن للمملوك بالحج أو أحجه سيده كان حجه تطوعًا. هذا لفظه. وأحجه بالهمز معناه: صيره حاجًا، والتخريج على التزويج كما قاله ابن الرفعة مردود؛ فإن الوصي والقاضي يحرمان عن الصبي وإن لم يزوجاه؛ وذلك لما فيه من حصول الثواب والتمرين له من غير لزوم مال. قوله: وأما وجوب حجة الإسلام فتعتبر فيه هذه الشرائط؛ فلا يخاطب بالحج كافر أصلي في كفره ولا عبد ولا صبي ولا مجنون. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن إطلاق هذه العبارة بالنسبة إلى الكافر ليس بجيد فقد ذكر في الصلاة أن الكفار مأمورون بالصلاة وغيرها، وعبر باللفظ الذي نفاه هاهنا وهو لفظ الخطاب، والمذكور هناك هو الموافق لقواعد الشافعي -رحمه الله-. نعم: لا يلزم في كفره بإيقاع الفعل، وهو المراد. الأمر الثاني: أن الرافعي -رحمه الله- قد احترز بالأصلي عن المرتد فإنه مخاطب بالحج كما صرح به الشيخ في "التنبيه" فقال: إنه يجب عليه ولا يصح منه، بعد أن ذكر أن الكافر الأصلي لا يجب عليه. فإن قيل: فما فائدة تكليف المرتد بذلك؟ لأنه إن قتل أو مات على الردة فلا يمكن القول بالقضاء عنه لاستحالة وقوع الحج لكافر. وأما النائم فلا فرق فيه عندنا بين المرتد والكافر الأصلي كما تقدم. وإن عاد إلى الإسلام نظر إن لم يكن ماله باقيًا فلا سبيل أيضًا إلى تكليفه بإيقاعه لعدم قدرته عليه، وإن كان باقيًا لم يكن الوجوب عليه بعد

الإسلام من خواصه، بل الكافر الأصلي إذا أسلم كذلك أيضًا. والجواب: أن نقول فائدته فيما إذا استمر بقاء ملكه في حال الردة مدة لو كان مسلمًا لاستقر عليه الفرض ثم أسلم ومات قبل أن يتمكن بعد إسلامه من الحج زمان الردة، والردة لا تسقط الواجبات كما تقدم في الصلاة والزكاة والصوم. وكذلك إذا حصل استمراره في المدة المذكورة ولكن تلف في الردة أو بعد إسلامه وقبل التمكن ثم استفاد مالًا آخر ومات بعد استفادته لكن قبل أن يتمكن. وقد اقتصر النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية" على الجواب الثاني، واقتضى كلام النووي أنه لا فائدة له إلا ذلك، وصرح به ابن الرفعة أيضًا. واعلم أن شرط الوجوب ملك المال، وفي ملك المرتد أقوال، ولابد من تخريج هذه المسألة عليها، وقد صرح بذلك الروياني في "البحر". الأمر الثالث: أن النووي قد حذف من "الروضة" التقييد بالأصلي وأطلق عدم الوجوب على الكافر، وهو غفلة بلا شك مخالف لما قاله في "شرح المهذب". قوله: لكن القادر على المشي يستحب له أن لا يترك الحج. فيه أمران: أحدهما: أن شرط الاستحباب والحالة هذه أن يكون واجدًا للزاد ويكون كسوبا. كذا نص عليه الشافعي في "الأم" و"الإملاء"، ونقله عنه الشيخ أبو حامد، وأصحابه ومنهم المحاملي فقال: قال الشافعي: فإذا لم يجد الزاد ولا كان كسوبًا وإن أراد أن يخرج ويسأل الناس في طريقه فأحب أن لا يفعل؛ لأن كراهة المسألة أبلغ من كراهة ترك الحج.

هذا لفظ الشافعي. . وذكر الشيخ في "المهذب" نحوه. وقال النووي في شرحه له: إنه متفق عليه. الأمر الثاني: أن يقتضي إطلاقه أنه لا فرق في استحباب المشي من الرجل والمرأة، وهو كذلك فقد صرح به جماعة منهم سليم في "المجرد" قال: إلا أن الاستحباب للرجل آكد. نعم رأيت في "التقريب" أن للولي في هذه الحالة منعها، والذي قاله من المنع متجه لا ينافي ما سبق، والظاهر أن الولي في كلامه هو العصبة، ويتجه إلحاق الوحي والحاكم به أيضًا. قوله: ولو لحقه مشقة شديدة في ركوب الراحلة فلابد من وجود المحمل. انتهى: والضابط في ذلك كما نقله في "الكفاية" عن الشيخ أبي محمد أن يلحقه من المشقة بين المحمل والراحلة ما يلحقه بين المشي والركوب. قوله: قال في "الشامل" وعلى هذا لو كان تلحقه مشقة شديدة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة. انتهى. والكنيسة: بكاف مفتوحة ونون مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت بعدها سين مهملة، وهى مأخوذة من الكنس وهو السير، ومنه قوله تعالى: {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} (¬1) أي: المحجوبات. وأما المحمل فهو: الخشبة التي يكون الركوب عليها. قوله: ويشترط شريك يجلس في الشق الآخر وإن قدر على مؤنة المحمل بتمامه؛ وعلله في "الوسيط" بأنه بذل الزيادة وخسران لا مقابل له -أي: فتعسر إحمالها- انتهى. ¬

_ (¬1) سورة التكوير: 16.

وهذا التعليل مقتضاه أن ما يحتاج إليه في سفره من الزاد وغيره يقوم مقام الشريك، وكذا الأمتعة المستأجر على حملها .. فتفطن لذلك فإن كلام كثير من المختصرات يقتضي تعين الشريك وليس توجيهه ببعيد. وقد حذف من "الروضة" هذا التعليل ففاتته هذه المسألة وأوقع في الإلباس. قوله: وحيث اعتبرنا وجدان الراحلة والمحمل فالمراد منه أن يملكهما أو يتمكن من تحصيلهما ملكًا أو استئجارًا بثمن المثل أو أجرة المثل. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة"، وهو يقتضي أن الوقوف على هذه الجهة والموصى بمنفعته لها أيضًا لا يوجبان الحج، والقياس خلافه بخلاف الموهوب ولو وقف ذلك عليه بخصوصه وقبله أو لم يقبله وصححناه فلا شك في الوجوب مع أنه خارج من كلامه. نعم: لو حمله الإمام من بيت المال كأهل وظائف الركب من القضاة وغيرهم، ففي الوجوب نظر. قوله: ولو لم يكن أهل ولا عشيرة ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان. ثم قال: وهل يختص الوجهان بما إذا لم يملك ببلدته مسكنًا أم لا؟ أبدى الإمام فيه احتمالين؛ ورأى الأظهر التخصيص. انتهى. واعلم أن الراجح على ما قد تحرر من كلام الرافعي في الوقف والوصية أن الأهل هو كل من تلزمه نفقته كالزوجة والقريب، وأن العشيرة هم الأقارب سواء كانوا من قبل الأب أو الأم؛ وحينئذ فيكون الجميع هنا سواء في جريان الوجهين، واتفقوا -كما قاله في "شرح المهذب" واقتضاه كلام الرافعي- على اشتراط نفقة الإياب عند وجود أحدهما على خلاف ما يدل عليه كلام "المحرر" و"المنهاج". ولا شك أن الشخص الواحد من أحد

النوعين كاف، وقد أفهم كلام الرافعي وغيره أن الوالي من أعلى ومن أسفل لا يلحقون بذلك، وفيه نظر. وما قاله في المسكن قد صرح به في "البسيط" أيضًا فقال: ولا شك أنه لو كان له مسكن مملوك اعتبر نفقة الإياب ولا يكلف بيعه. قال: وفيه احتمال. قوله: ويشترط -أي: لوجوب الحج- أن يكون الزاد والراحلة فاضلًا عن نفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهاب ورجوعه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يوهم جواز الحج والحالة هذه، وليس كذلك بل لا يجوز حتى يترك لهم نفقة الذهاب والإياب وإلا فيكون مضيعًا لهم، وقد رأيته مصرحًا به في "الاستذكار" للدارمي وغيره، ويأتي في الدين الحال نحوه، وقد أوضحوه في بابه. الأمر الثاني: أن التعبير بالنفقة تبعه عليه في "الروضة"، والصواب التعبير بالمؤنة في الموضعين؛ لأنها تشمل النفقة والكسوة والخدمة والمسكن وإعفاف الأب، وكذلك أجرة الطبيب وثمن الأدوية حيث احتاج إليهما القريب والمملوك، وكذلك الأجنبي إذا تعين الصرف إليه. وقد عبر في "المنهاج" بالمؤنة في الموضع الأول فقط ولابد منهما معًا لأنه قد يقدر على النفقة دون المؤنة فتسقط الأولى عن القريب دون الثانية. قوله: وأظهر الوجهين عند الأكثرين اشتراط كون ذلك فاضلًا عن مسكنه وعبد يحتاج إليه يخدمه لزمانته ومنصبه، لكن لو كان العبد والدار نفيسين لا يليقان بمثله ولو أبدلهما لو في التفاوت بمؤنة الحج فإنه يلزمه

ذلك، هكذا أطلقوه هاهنا لكن في لزوم بيعهما في الكفارة إذا كانا مألوفين وجهان ولابد من عودهما هاهنا. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من لزوم جريانهما ليس بلازم فقد فرق بينهما في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" بأن الكفارة لها بدل بخلاف الحج إلا أن ما قالاه من الفرق ينتقض بالمرتبة الأخيرة من الكفارة فإنه لا بدل لها وأيضًا فالفطرة لا بدل لها مع أنها كالحج على ما نقله هو عن الإمام. الأمر الثاني: أن تمثيل الرافعي بالعبد للاحتراز على الجارية النفسية المألوفة فإنها إن كانت للخدمة فهي كالعبد في جريان الوجهين، وإن كانت للاستمتاع لم يكلف بيعها حفظًا لما يؤدي إليه تعلقه بها من الضرر الظاهر. وهذا التفصيل لم أره ولكن لابد منه. الأمر الثالث: أن مقتضى إطلاق الرافعي وغيره أنه لا فرق في اعتبار المسكن والخادم بين المرأة المكلفة بإسكان الزوج وإخدامه وبين غيرها، وهو متجه؛ لأن الزوجية قد تنقطع فيحتاج إليهما وكذلك اعتبار المسكن بالنسبة إلى المتفقهة الذين يسكنون بيوت المدارس والصوفية المعتادين الربط والحوانك. الأمر الرابع: أن كلامه يقتضي عدم اعتبار الكتب في الفقه المحتاج إليها، وليس كذلك بل الصواب كما قاله في "شرح المهذب" أنها تبقى له. قوله: والأصحاب منقسمون -أي: في ركوب البحر- إلى مثبتين للخلاف وإلى نافين، وللمثبتين طرق: أظهرها أنه إن كان الغالب فيه الهلاك لم يلزمه الركوب، وإن كان الغالب السلامة قولان: أظهرهما اللزوم.

والطريق الثاني قولان مطلقًا، والثالث لا يجب على الجبان، وفي غيره قولان، والرابع يجب على غير الجبان، قولان. وأما النافون للخلاف فلهم طرق أيضًا: أحدها: القطع بعدم اللزوم، وثانيها: القطع باللزوم، والثالث: إن غلب الهلاك لم يلزم وإن غلبت السلامة لزم، والرابع: إن كان جبانًا لم يلزم وإلا لزم. انتهى ملخصًا. والحاصل أن في المسألة ثمانية طرق، فإن الرافعي -رحمه الله- لم يصحح شيئًا في هذه المسألة؛ لأنه وإن صحح التفصيل بين أن تغلب السلامة أو يغلب الخوف فهو إنما صححه على طريقة المثبتين للخلاف ولم يبين هل الأصح طريقة المثبتين أو طريقة النافين. وإذا علمت ما ذكره ففيه أمور: أحدها: أن الأصح من حيث الجملة هو التفصيل المذكور. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، وذكر في "المحرر" نحوه فقال: والأظهر أنه يلزمه ركوب البحر إن كان الغالب السلامة. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن النووي -رحمه الله- قد صحح أيضًا في "الروضة" هذا التفصيل وصحح مع ذلك طريقة القطع به لا طريقة إثبات الخلاف، ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي؛ فتفطن له. ثم إنه لم يذكر من طرق مجئ الخلاف سوى الطريقة الثانية وحذف الثلاثة الباقية؛ فتوجه على "الروضة" اعتراضان؛ وهما إسقاط هذه الطرق وزيادة تصحيحين. الأمر الثالث: ذكر في "الروضة" من زوائده في باب الحجر أنه لا يجوز

المسافرة بمال الطفل في البحر على المذهب وإن أوجبنا ركوبه في الحج. وعلى قياس ما قاله يحرم إركاب الطفل وركوب الحامل بطريق الأولى؛ لأن حرمة النفس أبلغ من حرمة المال؛ فاعلم ذلك فإنه يقع كثيرًا. وحينئذ فيكون من شروط الوجوب وضع الحامل وسقيها الولد اللبان، وكذلك فطام الولد إن تعينت للإرضاع. فإن لم يتعين ففيه نظر. وعلى قياس ما قاله النووي أيضًا يحرم إركاب البهائم، وكذلك الزوجة والأرقاء البالغون إذا لم يكن برضاهم. نعم: إن كان إلى دار الإسلام فيجوز بلا شك. قوله: ولو استوى الهلاك والسلامة فقد تردد كلام الأئمة في وجوب ركوبه فإن لم نوجبه ففي التحريم تردد لهم أيضًا. انتهى ملخصًا. والأصح عدم الوجوب وأنه يحرم؛ كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". وكلام "المحرر" يدل لما صححه في المسألة الأولى، وقد تقدم لفظه فراجعه. قوله: وإذا لم يوجب الركوب فلو توسط البحر هل له الانصراف أم عليه التمادي؟ فيه وجهان، وقيل: قولان، وهما مبنيان عند الأئمة على القولين في المحصر إذا أحاط العدو به من الجوانب هل له التحلل؛ إن قلنا له التحلل فله الانصراف وإن قلنا لا؛ لأنه لا يستفيد به الخلاص فليس له الانصراف. قال في "التتمة": وهو المذهب. انتهى. ثم ذكر أن الخلاف محله فيما إذا استوى ما قطعه مع ما بقي وكان له في الرجوع طريق آخر غير البحر، فإن لم يكن له طريق غيره فلا يجب جزمًا.

فإن تفاوت؛ فإن كان الباقي أقل لزمه جزمًا وإن كان أكثر لم يجب جزمًا. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن ما جزم به من كون الخلاف في المحصور قولين قد صحح خلافه في باب الإحصار من "الشرحين الكبير" و"الصغير"، وحكى جعله قولين عن الإمام، والغزالي فقط. الثاني: أن الصحيح في "الشرحين" و"الروضة" في مسألة الحصر هو جواز التحلل، ومقتضاه جواز الانصراف هنا، إلا أن نقله عن صاحب "التتمة" تصحيح المنع وسكوته عليه يوهم موافقته عليه؛ ولهذا أشار إلى ترجيحه في "الشرح الصغير" فإنه عبر بقوله رجح على البناء للمفعول وسكت عليه. وقد اغتر النووي بالمذكور هنا فصرح بتصحيحه في "أصل الروضة" ذهولًا عما يأتي في الإحصار غير أنه سلم من الاعتراض الأول لكونه لم يتعرض هنا للبناء المذكور، وكذلك لم يتعرض له أيضًا صاحب "التتمة" ولا الرافعي في "الشرح الصغير". الثالث: أن هذه المسألة محتاجة إلى بيان حقيقتها؛ وذلك لأن الحج ليس على الفور فكيف يصح القول بوجوب الذهاب ومنعه من الانصراف؟ وقد يجاب بأمور: منها: أن نقول. صورة المسألة إذا صدر ذلك ممن خشى الغصب فإن الراحج أن الحج يتضيق عليه. ومنها: إذا أحرم بالحج وضاق وقته. ومنها: إذا نذر من لم يحج أن يحج في تلك السنة.

إلا أنه قد تقدم أن محل الوجهين فيما إذا كان له في البر طريق يرجع فيه وحينئذ فلابد أن يزاد في التصوير أن تلك الطريق التي في البر قام بها من يمنع الذهاب دون الإياب أو لو رجع إليها المتوسط وسلكها لم يدرك الحج. ومنها: أن يقال المسألة مفروضة حيث لم يتضيق الحج. ومرادهم بوجوب الذهاب وعدم وجوبه إنما هو استقرار الوجوب وعدم استقراره. قوله: فإن خرج مع المرأة من تأمن معه على نفسها من زوج أو محرم إما بنسب أو غيره فذاك، وإلا فإن وجدت نسوة ثقات فعليها أن تخرج معهن. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن العبد حكمه في النظر إلى سيدته والخلوة بها كحكم المحرم على الأصح عند الإذن وإن لم يكن محرمًا بدليل انتقاض الوضوء بمسه، وإذا كان حكمه حكم المحرم لزم أن يكتفي به هاهنا، وقد رأيته مصرحًا به في "ترتيب الأقسام" للمرعشي وفي "النكت" لابن أبي الضيف؛ وحينئذ فيرد على اشتراط الزوج أو المحرم. الأمر الثاني: أن تعبيره يقتضي اشتراط ثلاث نسوة غيرها، وهذا بعيد لا معنى له، بل المتجه الاكتفاء باجتماع أقل الجمع وهو ثلاث، وأي معنى لاشتراط الأربعة بخصوصها، وأي دليل يدل عليه. الثالث: أن ما شرطه في النسوة من كونهن ثقات يقتضي اشتراط بلوغهن؛ لأن الصبي ليس بثقة كما صرحوا به في مواضع. وهذا الذي اقتضاه كلامه يحتمل أن يكون الأمر فيه كذلك، وهو الظاهر لخطر السفر،

ويحتمل تخريجه على الخلاف المعروف في العدة. ثم إنه لم يشترط ذلك في المحرم وغيره ممن يخرج مع المرأة وفيه نظر سببه أن الوازع الطبيعي أقوى من الوازع الشرعي. الرابع: أنه يشترط في حق الخنثى أيضًا من المحرم ما يشترط في المرأة؛ لاحتمال الأنوثة؛ فإن كان معه نسوة من محارمه جاز، وإن كن أجنبيات فلا؛ لأنه يحرم عليه الخلوة بهن. كذا نقله في "شرح المهذب" عن القاضي أبي الفتوح، وصاحب "البيان"، وغيرهما، واقتصر عليه. وما قاله في الأجنبيات مبني على منع خلوة رجل بنسوة، والمشهور جوازه. واعلم أن مراد الرافعي وغيره هنا بالأمن هو الأمن من خديعة المرأة واستمالتها إلى الفاحشة. قوله: فإن لم تجد نسوة ثقات فأقوال؛ ظاهر المذهب منها أنه لا يلزمها. والثاني: عليها أن تخرج مع المرأة الواحدة. والثالث: واختاره جماعة -أن عليها أن تخرج وحدها؛ لما روي عن عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا عدي، إن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله" قال عدي: فرأيت ذلك. (¬1) انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الذي صححه من كون الواحدة غير كافية إنما هو بالنسبة إلى الاستطاعة وعدمها، وأما جواز الخروج في أداء حجة الإسلام معها -أي: مع المرأة الواحدة- فجائز على الصحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3400) من حديث عدي - رضي الله عنه -.

كذا صرح به في "شرح المهذب" في ثلاثة مواضع من آخر باب الإحصار، وذكره أيضًا في "شرح مسلم" بعبارة أوضح من ذلك فقال ما نصه: فلو وجدت امرأة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها، هذا هو الصحيح. ثم قال: واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر التجارة والزيارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة، فقال بعضهم: يجوز لها الخروج مع نسوة ثقات، وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم. هذا كلامه، وحاصله أنهما مسألتان: إحداهما: شرط وجوب حجة الإسلام. والثانية: شرط جواز الخروج لأدائها فتفطن لذلك فإنه مهم التبس على كثيرين. الأمر الثاني: ما نَبّه عليه الشيخ أبو حامد فقال: ونحن لا نشترط في سفر المرأة مع المرأة ملازمتها إياها بل لو مشت قدام القافلة أو بعدها فإنه يكفي. كذا نقله عنه في "شرح المهذب" وأقره. الثالث: ذكره النووي في "شرح مسلم" في الكلام على حديث الخثعميه التي سألت عن أداء الفرض عن أبيها أن فيه فوائد منها جواز حج المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها وهو مذهبنا. انتهى. وهذه المرأة لا يجب عليها مباشرة هذا الحج، لأن الشخص لا يجب عليه الحج عن غيره فيكون الذي قاله النووي فيها إما مناقض لما تقدم لكونه لم يشترط المحرم، وإن كان سألنا عن النسوة أو جوز ذلك لأنها مؤدية فرضًا فأشبه فرضها.

واعلم أن الظعينة الواردة في الحديث بظاء معجمة مفتوحة ثم عين مهملة مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت ثم نون: هي المرأة تكون في الهودج، فإن لم تكن فيه فليست بظعينة. قاله الجوهري. والحيرة: بكسر الحاء المهملة بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم راء مهملة: مدينة بقرب الكوفة. والحديث المذكور رواه مسلم (¬1). قوله: هذا حكم الفرض، وهل لها الخروج إلى سائر الأسفار مع النساء الخلص؟ فيه وجهان لأنه لا ضرورة إليها، والأصح عند القاضي الروياني المنع. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الروياني قد صحح في "البحر" الجواز فقال إنه الأصح والأقيس، إلا أن ما نقله عنه الرافعي صحيح أيضًا فإنه صحح في "الحلية" وعبر بالأصح أيضًا، والماوردي وغيرهما، ونص عليه الشافعي في كتاب العدد من "الأم" كما نقله أبو حامد والماوردي وصححه النووي في كتبه، وحكى في "شرح المهذب" اتفاق الأصحاب على تصحيحه (¬2). قوله: وفي كون المحرم أو الزوج شرط الوجوب أو التمكن اختلاف رواية عنهما -يعني أبا حنيفة وأحمد. قال الموفق ابن طاهر: ولأصحابنا مثل هذا التردد في النسوة الثقات. انتهى كلامه. وقد أسقط النووي في "الروضة" هذا الخلاف وجزم بأنه شرط للوجوب. وفائدة الخلاف فيما إذا استطاعت المرأة ولم تجد النسوة، فإن جعلناهن ¬

_ (¬1) لم يورده مسلم فلعله سبق قلم منه. (¬2) الأمر الثاني سقط من أوبياض في ج.

شرطًا للتمكن استقر الوجوب عليها حتى يقضى عنها لو ماتت، فإن جعلناهن شرطًا للوجوب فلا. وهذه الفائدة ذكرها الرافعي بعد ذلك في نظير المسألة. وما نقله ابن طاهر في النسوة يطرد كما قاله ابن الرفعة في المحرم والزوج. قوله: أما المال فلو خاف على ماله في الطريق من عدو أو رصدي لم يجب الحج، فإن كان الرصدي يرضى بشيء يسير، لكن إذا كانوا كفارًا فأطاقوا مقاومتهم فيستحب لهم أن يخرجوا ويقاتلوا لينالوا ثواب الحج والجهاد جميعًا، وإن كانوا مسلمين لم يستحب الخروج والقتال، ويكره بذل المال للرصديين لأنهم يحرضون بذلك على التعرض للناس. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن عدم الوجوب محله إذا كان الحاج هو الباذل، فإن بذل الإمام أو نائبه وجب الحج. كذا نقله الطبري شارح "التنبيه" عن "التجربة النظامية" لإمام الحرمين وسكت عن الأجنبي. والقياس وهو مقتضى تخصيص الإمام بالإمام ونائبه: عدم الوجوب، لما فيه من المنة. الثاني: أن مقتضى كلامه تعميمًا وتعليلًا وسياقًا: كراهة البذل للمسلم والكافر معًا، ودلالة لفظه على المسلم أظهر من دلالته على الكافر؛ فإن الكراهة مذكورة عقب ذكره للمسلمين لكنه ذكر في باب الإحصار أن الكراهة مختصة بالكفار، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى، ووقع الموضعات كذلك في "الروضة". قوله: ولو وجدوا من يبدرقهم بأجرة فوجهان: أظهرهما عند الإمام وجوب الحج.

انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي في "المحرر" قد أطلق ترجيح الوجوب تقليدًا للإمام، ثم تبعه في "المنهاج" و"شرح المهذب" على ذلك، والفتوى على عدم الوجوب فقد أجاب به العراقيون وكذلك القاضي الحسين وجزم به صاحب "التنبيه" وأقره عليه النووي فلم يستدركه عليه، ونص عليه الشافعي، وممن نقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" فثبت أن الفتوى عليه؛ ولهذا لم ينقله في "الروضة" و"الشرح الصغير" إلا عن الإمام. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تبع الرافعي في حكاية الخلاف وجهين ثم خالف في "المنهاج" فجعله قولين، وهو ذهول سببه تقليد "المحرر" في تعبيره بالأظهر. الثالث: أن هذا الخلاف فائدته في العصيان بعد الموت ووجوب الحج عنه لا في تعجيل الإعطاء في حال الحياة فإن الحج على التراخي. نعم إن خشي الغصب أو نذر الحج في سنة معينة فواضح. وما ذكرناه في هذه المسألة يأتي مثله في المسألة الآتية أيضًا. واعلم أن البدر بفتح الباء وإسكان الدال مهملة ومعجمة هي الخفارة، وهي عجمية معربة. قاله ابن الصلاح. قوله: وإذا لم يخرج المحرم إلا بأجرة فقد رتب الإمام وجوب استئجاره على وجوب البدرقة، وجعل اللزوم هاهنا أظهر. انتهى. ذكره مثله في "الروضة". وتخصيصهما بالمحرم يشعر بأن الزوج والنسوة ليسوا كذلك، والمتجه إلحاقهم به، كذلك قوام السفينة أيضًا. قوله: ويشترط وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة بحمل

الزاد والماء منها، فإن كان العام عام جدب وخلا بعض تلك المنازل عن أهلها انقطعت المياه لم يلزمه الحج وإن قدر على الحمل؛ لما فيه من المؤنة العظيمة. ثم قال: ويحتمل حملها قدر ما جرت العادة به في طريق مكة كحمل الزاد من الكوفة إلى مكة وحمل الماء مرحلتين أو ثلاثة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره أخيرًا في الماء تبعه عليه في "الروضة". ولقائل أن يقول: إن كانت صورته عند انقطاع بعض المياه مما كان في هذه المسافة فهو مخالف لما تقدم من عدم الوجوب وإن كانت عند عدم الانقطاع فاقتصاره على المرحلتين والثلاث يدل على عدم الوجوب من الزيادة لأجل نقل مؤنته فهل هو كذلك؟ والجواب: أن كلامهم يشعر باغتفارها مطلقًا لحق مؤنته، وألحق به سيلم وغيره علف الدابة في اعتبار هذه المسافة وهو متعين لا شك فيه؛ فقد أشار النووي في "شرح المهذب" لذلك فقال بعد نقل اشتراطه في كل منزلة عن البغوي والمتولي ما نصه: وينبغي أن تعتبر فيه العادة كالماء. هذه عبارته. وقد ظهر أن الذي ذكره بحثًا مصرح به إلا أنه لم يطلع عليه. الأمر الثاني: أن إطلاقه يقتضي أنه لا فرق بين أن يمكنه سلوك طريق آخر أم لا، وقياس ما ذكره في الإحصار خلافه كما ستعرفه. قوله: وذكر في "التهذيب" أنه إذا شرع السفيه في حج الفرض أو في حج نذره قبل الحجر بغير إذن الولي، أو في حج تطوع ثم حجر عليه لم يكن للولي تحليله، وإن شرع في التطوع بعد الحجر كان له التحليل إن كان ما يحتاج إليه للحج يزيد على نفقته المعهودة ولم يكن له كسب. انتهى.

ذكر في الروضة مثله. وقوله فيه بغير إذن الولي هو متعلق بقوله (شرع) لا بقوله (نذره) فاعلمه وتفطن له. إذا علمت ذلك فقد بقي من أقسام المسألة قسم لم يذكراه وهو: ما إذا شرع فيما نذره بعد الحجر، والكلام فيه متوقف على أن هذا النذر هل يصح أم لا؟ وستعرف حكمه في أول النذر إن شاء الله تعالى. قوله: ومن شروط الحج ما ذكره البغوي وغيره أن يجد رفقة يخرج معهم في الوقت التي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه، فإن خرجوا قبله لم يلزمه الخروج معهم، وكذا إن أخروا بحيث لا يبلغوا إلا بقطع أكثر من مرحلة في اليوم، هذا الإطلاق محمول على غالب الحال، فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها فلا حاجة إلى الرفقة، وبه صرح في التتمة. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الإطلاق محمولًا على ما قاله في "التتمة" تبعه عليه في "الروضة" وهو ممنوع؛ فقد صححوا في كتاب التيمم وغيره أن الإنقطاع عن الرفقة عذر وإن كان الطريق آمنًا؛ لما فيه من الوحشة. قوله: ويجب الحج على التراخي، وقال مالك وأحمد والمزني: إنه على الفور، ويروي مثله عن أبي حنيفة. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن العزم شرط في جواز التأخير كما سبق إيضاحه في الصلاة. الأمر الثاني: أنه متى اجتمع عليه مع حجة الإسلام حجة القضاء وجب عليه المبادرة إلى فرض الإسلام وذلك لازم؛ لأنهم صححوا أن القضاء يجب على الفور، وقالوا أيضًا: إن حجة الإسلام يجب تقديمها على حجة القضاء؛ فلزم من هاتين القاعدتين وجوب المبادرة كما قلناه، وهكذا القول

في العمرة أيضًا. ويجب أن يكون الحكم كذلك فيما لو قال وهو في أوائل ستين مثلًا: لله عليّ أن أحج في سنة إحدي وستين حجة ليست حجة الإسلام. الأمر الثالث: أن ما نقله عن أبي حنيفة قد تابعه عليه في "الروضة" وعبر بقوله: وقال مالك وأبو حنيفة، لكن قال المحاملي في "المجموع": قال المزني: ليس لأبي حنيفة في المسألة نص ولكن اختلف صاحباه؛ فقال محمد بن الحسن كقولنا، وقال أبو يوسف: إنه على الفور، فأخذ أصحابه بقوله؛ فاستفدنا منه أنه قول الحنفية لا قول أبي حنيفة، وعبارة الرافعي أبعد عن الاعتراض من عبارة "الروضة". قوله: لنا أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخّره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج، وفتح مكة سنة ثمان، وبعث أبا بكر أميرًا على الحج سنة تسع، وحج هو سنة عشر، وعاش بعدها ثمانين يومًا ثم قبض إلى -رحمة الله تعالى-. انتهى. وهذا الذي جزم به من نزول الفرض سنة خمس قد صحح ما يخالفه في أوائل السير فقال: وفرض الحج سنة ست، وقيل: سنة خمس. هذا لفظه، وتبعه في "الروضة" على الموضعين، وصحح ابن الرفعة أيضًا أنه في ست، ونقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب، وقيل: إنه فرض سنة ثمان قاله الماوردي في "الأحكام السلطانية"، وقيل سنة تسع حكاه في "النهاية". وقوله: (وعاش بعدها) أي: بعد عوده من الحج لا بعد الحج نفسه، فاعلمه؛ فإن الحج انقضى ثالث عشر وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثاني عشر من ربيع الأول.

وهذه الأمور التي نقلها الرافعي هنا عنه -عليه الصلاة والسلام- كلها صحيحة مشهورة. قوله: وإن تخلف من وجب عليه الحج ومات قبل حج الناس تبين عدم الوجوب، وإن مات بعدما حج الناس استقر الوجوب عليه ولزم الإحجاج من تركته. ثم قال ما نصه: قال في "التهذيب": ورجوع القافلة ليس بشرط حتى لو مات بعد انتصاف ليلة النحر ومضى بعد السير إلى مني والرمي بها وإلى مكة والطواف بها استقر الفرض عليه. فإن مات أو جن قبل انتصاف ليلة النحر لم يستقر. انتهى كلامه، وفيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن "التهذيب" من اشتراط المضى إلى منى والرمي بها وأقره عليه وهو كذلك فيه، وقد ذكره أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" وجزم به ولم يعزه إلى أحد، واشتراطه غلط فإن المشروط في استقرار الفرض إنما هو مضى زمن يمكن فيه فعل الأركان دون ما عداها من الواجبات؛ بدليل عدم اشتراط الرمي في أيام منى والمبيت في لياليها وغير ذلك، حينئذ فلا يشترط مضى زمن يسع الذهاب إلى منى ويسع الرمى بها. وهذه المسألة لم يذكرها في "الروضة" بل ذكرها قبيل المواقيت، وعبر عن قول الرافعي، فإن مات أو جن قبل انتصاف ليلة النحر بقوله قبل ذلك مشيرًا إلى أن الطواف والرمى وغيرهما مما ذكر هو تعبير مؤكد للاعتراض ماض على الاشتراط دافع التأويل فإن عبارة الرافعي ربما تقبل التأويل. الأمر الثاني: أنه أهمل الحلق وما يقوم مقامه وهو التقصير، ولابد من

مضى زمن يسعه إذا جعلناه ركنًا. الثالث: أنه لم يذكر السعى ولابد منه. نعم إذا دخل مكة قبل الوقوف فطاف القدوم جاز الإتيان بالسعى عقبة؛ حينئذ فإذا كان دخول الناس قبل الوقوف لم يشترط للسعى زمان بعد الانتصاف. الأمر الرابع: أن المبيت بمزدلفة عند الرافعي لا يجب؛ وحينئذ فيكفي في زمن الطواف وغيره مما شرطناه كالسعي والحلق أن يكون واقعًا عقبة انتصاف الليل، ويشترط مع ذلك أن يكون السير بهذه الأمور واقعًا بعد الانتصاف لإمكان سيره من عرفة إلى مكة خصوصًا إذا لم يشترط الجمع بين الليل والنهار بعرفة. قوله: ولو لم يخرج بحج بعد الوجوب حتى مات فقيل: لا يعصي لأنا جوزنا له التأخير، وأظهرهما: نعم، وإلا ارتفع الحكم بالوجوب والمجوز هو التأخير دون التفويت، وقيل: يعصي الشاب دون الشيخ. انتهى كلامه. فيه أمور مهمة سبق بعضها في أوائل كتاب الصلاة، والذي يخص ما نحن فيه أن اسم الشيخ يطلق عند الفقهاء واللغويين على من جاوز الأربعين والقائل هنا بتعصية الشيخ دون غيره قيده بالشيخ الهرم، كذا نقله القاضي الحسين وغيره، وذكره أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" ولابد منه. قوله: يبدأ بحجة الإسلام ثم بالقضاء. . إلى آخره. اعلم أن هذا الكلام يستثنى منه مسألة ذكرها الروياني في "البحر"

حاصلها تقديم التطوع على النذر فقال: لو حج الفرض ثم نذر الحج في العام الثالث جاز أن يتطوع بالحج في العام الثاني. قال: وفي حجه عن غيره وجهان. هذا كلامه. والسبب في جواز التقديم هاهنا أَنَّا إن أوقعنا المفعول في السنة الثانية عن المنذور لزم تقديم العبادة البدنية على وقتها وهو ممتنع، وإن منعناه بالكلية لزم انسداد في "الروضة" من "زياداته" قبل الكلام على السعي نقلًا عن الروياني أيضًا من غير مخالفة أنه لو نذر طوافًا من زمن معين فطاف في غيره والنذر في ذمته لا يصح على الأصح، وسنذكر لفظه هناك. قوله: ومن عليه فرض ليس له أن يحج عن غيره؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "من شبرمة"؟ قال: أخي أو قريب لي. قال: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حج عن نفسك، ثم عن شبرمة" (¬1). وفي رواية: "هذه عنك ثم حج عن شبرمة". انتهى. شبرمة: بشين معجمة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة ثم راء مضمومة، ذكره ابن منده وأبو نعيم في "الصحابة" وتوفي في حياة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1811) وابن ماجه (2903) وابن خزيمة (3039) وابن حبان (3988) والدارقطني (2/ 267) والطبراني في "الكبير" (12419) وفي "الأوسط" (1440) وفي "الصغير" (630) وأبو يعلي (2330) والبيهقي في "الكبرى" (8458). وابن الجارود في "المنتقى" (499) وتمام في "الفوائد" (1340) من حديث ابن عباس. قال البيهقي: إسناده صحيح، وليس في هذا الباب أصح منه. وقال الألباني: صحيح.

والرواية الأولى من هذا الحديث رواها أبو داود بإسناد على شرط مسلم، وأما الرواية الثانية فرواها البيهقي وقال: إسنادها صحيح، ولفظه: "قال: فاجعل هذه عنك ثم حج عن شبرمة". قوله: وقول "الوجيز" بالقضاء ثم بالنذر يعلم بالواو؛ لأن الإمام أشار إلى تردد في تقديم القضاء على النذر، والصحيح العكس. انتهى. أعلم أن هذا التردد الذي ذكره الإمام ليس هو خلافًا للأصحاب؛ فإن القول بتقديم النذر احتمال لنفسه، كذا قاله النووي في "شرح المهذب" قال: وقد اتفقوا على تقديم القضاء. والذي قاله النووي أولًا من أن تقديم النذر احتمال له مسلم وإن كان الرافعي قد أقامه في "شرح الصغير" أيضًا وجهًا كما دل عليه كلامه هنا حيث ذكر أنه يعلم بالواو. وأما دعواه الاتفاق على تقديم القضاء فمردود ففي تعليق القاضي أبي الطيب الجزم بوجوب الأسبق منهما لأنهما جميعًا من جهته. قوله: ولو استؤجر من لم يحج للحج في الذمة جاز وطريقه أن الحج عن نفسه ثم عن المستأجر في سنة بعدها. انتهى. وهذا الكلام قد تابعه عليه في "الروضة" وهو يشعر بأن الأجير يمتنع عليه استئجار من يقوم بهذا الحج الذي استؤجر عليه وذلك يحتاج إلى نقل صريح، والذي يظهر جوازه كاستئجار الوارث عن مورثه وإن كان لم يحج. قوله: ولو استأجر المغصوب رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة إحداهما حجة الإسلام والأخرى حجة قضاء أو نذر فوجهان: أحدهما، لا يجوز؛ لأن حجة الإسلام لا تتقدم على غيرها.

وأظهرهما -ويحكي عن نصه في الأم: يجوز؛ لأن غيرها لا يتقدم عليها، وهذا القدر هو المرعي؛ فعلى الأول إن أحرم الأجيران معًا صرف إحرامهما إلى نفسهما، وإن سبق أحدهما وقع إحرامه عن المغصوب وانصرف إحرام الآخر إلى نفسه. انتهى. فيه أمور: أحدها: في إيضاح تعليل الوجهين؛ فأما الأول فقد وقع فيه اضطراب في نسخ الرافعي؛ ففي بعضها ما ذكرناه وهو الصواب ومعناه أن حجة الإسلام في مثالنا لا تتقدم على غيرها وتقدمها لابد منه. وأما تعليل الثاني فوجه ما قاله فيه أنه إن أحرم بهما معًا أو بفرض الإسلام أولًا فواضح عدم تقدم غير فرض الإسلام على فرض الإسلام، وأن تقدم إحرام غير الفرض وقع عن الفرض كما تقدم. فإذا أحرم الآخر به -أي بالفرض- وليس هو عليه انصرف إلى ما بقي عليه وهو القضاء أو النذر. الثاني: قد تقرر من كلامه أن الاعتبار بالإحرام مع أن الذي أحرم أولًا قد يتأخر تحلله وأداؤه الأركان عن المتأخر فيؤدي أيضًا إلى المحذور المذكور، بل التقدم حقيقة إنما وجد في مثالنا في الحجة التي تأخر إحرامها؛ لأن الحجة عبارة عن مجموع الأفعال والمجموع قد تأخر عن تلك. ولو قيل بالتعارض ووقوعهما عن الأخير لم يبعد. وفائدة هذا كله فيما إذا فاوت في الجعل فقال: من حج عنى حجة الإسلام فله ألف مثلًا ومن حج القضاء فله خمسمائة، سواء صدر ذلك من مغصوب أو موص.

ولو أحرم أحدهما بالقضاء أو النذر وتحلل منه التحللين ثم شرع الآخر في حجة الإسلام انعكس الحال كما لو فعل المستأجر ذلك، ويحتمل أن يقال: إنه يقع عن الأخير حيث حكمنا بالانعكاس؛ لأنه لم يأت بالمأذون فيه، إلا أن قول الرافعي وإن سبق أحدهما رفع إحرامه عن المغصوب ينفيه. الثالث: أن كلامه في التقدم يحتمل معنيين: أحدهما: مفهومه المطلق وجميع ما سبق إنما هو تفريع عليه. والثاني: أن يريد به بالنسبة إلى سنتين فيكون مراده بقوله في تعليل الأول لأن حجة الإسلام لا تتقدم على غيرها أنها لم تقع في سنة متقدمة على سنة القضاء والنذر، وهكذا أيضًا مراده في تعليل الثاني، وهذا الاحتمال الثاني هو ظاهر كلامه؛ لأنه قد جزم في تعليل الأول بأن حجة الإسلام لم تتقدم على غيرها، وهو صحيح بالنسبة إلى السنة لا إلى التقدم الحقيقي؛ فإن فرض الإسلام قد يقدم على غيره وقد يتقدم غيره عليه وقد يقفان معًا، والرافعي قد سَلّم هذا في تعليل الوجه الثاني ولكن انتقل إلى شئ آخر. قوله: وأما حجة التطوع فهل يجوز الاستنابة من المغصوب فيها واستنابة الوارث للميت؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لبعد العبادات البدنية عن قبول النيابة وإنما جوزنا في الفرض للضرورة، وأصحهما -وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد: نعم؛ لأنه عبادة تدخل النيابة في فرضها فتدخل في نفلها كأداء الزكاة. انتهى كلامه. وما أطلقه هنا من جواز ذلك للوارث محله إذا كان الميت قد أوصى به، أما إذا لم يوص فلا يجوز على المعروف.

هذا حاصل ما ذكره في كتاب الوصية فإنه نقل عن "أمالي السرخسي" خاصة ما يدل على الجواز، ثم قال: لكن العراقيين أطلقوا أنه إن لم يوص بحج التطوع لم يحج عنه. هذا لفظه، وتبعه عليه في "الروضة" على ذلك بعد أن أطلق أيضًا المسألة هنا. نعم؛ صرح هنا بالمنع في "شرح المهذب" وزاد على ذلك فصرح بأنه لا خلاف فيه، ذكر في الكلام على قول "المهذب" وتجوز النيابة في حج الفرض. قوله في المسألة: وإن لم نجوز الاستئجار للتطوع فاستأجر وقع الحج عن الأخير، وفي استحقاق أجرة المثل قولان مرويان عن الأم: أحدهما: أنه لا يستحق لوقوع الحج عنه. وأظهرهما عند المحاملي وغيره أنه يستحقها لأنه دخل في العقد طامعًا في الأجرة وتلفت منفعته عليه وإن لم ينتفع بها المستأجر فصار كما لو استأجر بحمل طعام مغصوب. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعليل الرافعي بقوله لأنه دخل في العقد طامعًا في الأجرة يؤخذ منه أن محل الخلاف فيما إذا جعل الأجير فساد الإجارة، فإن علم فسادها لم يستحق شيئًا بلا خلاف، وقد صرح صاحب التتمة بما اقتضاه كلامه. وحذف النووي هذا التعليل من "الروضة" ثم استدرك ذلك فيها وفي "شرح المهذب" ناقلًا له عن التتمة فقط. الأمر الثاني: وقد استدركه أيضًا النووي في الكتابين المذكورين ناقلًا له عن "التتمة" أيضًا أن القولين إنما هما في المعضوب خاصة، فإن أوصى الميت بحجة تطوع وقلنا: لا تدخله النيابة فحج الأجير وقع عن نفسه ولا أجرة له بلا خلاف لا على الوصي ولا على الوارث ولا في التركة على خلاف ما يوهمه كلام الرافعي من جريانها في الميت أيضًا.

الأمر الثالث: أن ما ذكره الرافعي في آخر كلامه وهو الاستئجار على حمل المعضوب قد حذفه النووي من "الروضة" ففاتته هذه المسألة المهمة، والقياس فيها استحقاق أجرة المثل لا المسمى، وفي كلام الرافعي أيضًا إشعار به. الأمر الرابع: أن مقتضى نقل الرافعي رجحان الاستحقاق، ولهذا أطلق النووي تصحيحه في أصل "الروضة"، والصواب خلافه؛ لأن أصح القولين تقديم المباشرة على الغرور كما أوضحوه في باب الغصب وغيره بل سيأتي بعد هذا بقليل من كلامهما ما يوضحه. قوله: والعليل الذي يرجى زوال علته ليس له أن يحج عن نفسه كما مر، فإن أحج وشفي لم يجزئه ذلك قولًا واحدًا، وإن مات ففيه قولان: أحدهما: يجزئه لأنه تبين أنها كانت غير مرجوة الزوال. وأظهرهما عند الأئمة: لا؛ لأن الاستنابة لم تكن جائزة له؛ وعلى هذا فيكون نفلًا ويقع للأجير. وقيل للعليل: ولو استناب من لا يرجو زوالها؛ ثم شفى فعلى القولين، وقيل: لا يقع عن العليل قطعًا. انتهى ملخصًا. واعلم أن قول الرافعي: (يحج) هو بضم الياء، وقوله: (أحج) هو بالهمزة في أوله ومعناهما استنابة غيره في ذلك، ولهذا عدل عنهما في "الروضة" وعبر بنحو ما ذكرناه. إذا علمت ذلك ففيما ذكره في الصورة الأولى أمور: الأول: أن الخلاف المذكور فيها محله في ما إذا حج النائب في حياة

المريض، فإن حج بعد موته أجزأه بلا خلاف؛ كذا قاله الماوردي في "الحاوي"، ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره. الأمر الثاني: أن تعليل الرافعي قول الإجزاء بأنا تبينا أن العلة غير مرجوة الزوال يقتضي أن محل الخلاف فيما إذا مات بذلك المرض، فلو مات بسبب عارض بأن قتل أو لسعته حية ونحوه أو وقع عليه سقف لم يجزئه قولًا واحدًا؛ لأنا لم نتبين كون المرض غير مرجو الزوال، وهذا التعليل قد أسقطه من "الروضة" ثم اغتر هو في "شرح المهذب" بما ذكره في "الروضة" فقال: وقد أطلق الأصحاب "المسألة"، والظاهر أن مرادهم ما دامت بذلك المرض، ثم ذكر ما تقدم ذكره. الثالث: أن القولين في الإجزاء لا يخصان بحال الموت، بل يجريان أيضًا فيما إذا تفاحش ذلك المرض فصار ميئوسًا منه كما صرح به خلائق كثيرون، وجزم به في "شرح المهذب" أيضًا، وهو واضح. الرابع: أن المرض مانع من تعلق الوجوب بالعليل لأنه لا يمكنه الحج بنفسه ولا بغيره وحينئذ فإذا كان غير مرجو فاستنابه ثم برئ ثم مات منه فلا يجب القضاء من تركته إلا إذا كان قد تمكن قبل ذلك المرض أو بعده، وهكذا قياس عليه، وقد نبه على ذلك الدارمي في الاستذكار ناقلًا له عن النص فتفطن له. قوله في المسألة: فإذا قلنا لا يقع عن المستأجر، فلا يستحق أجره في أصح القولين؛ لأن المستأجر لم ينتفع به. انتهى. وتصحيحهم عدم الاستحقاق هنا مخالف لما سبق قريبًا من تصحيحهم الاستحقاق في الاستئجار للتطوع، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الاختلاف فهل هو أجرة المثل أو المسمى؟ فيه وجهان. فأحدهما أنا هل نتبين فساد

الاستئجار أم لا؟ انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح، والأصح أنه أجرة المثل، كذا صححه في "شرح المهذب". قوله: وإن قلنا بوقوعه عن التطوع المستأجر فعن الشيخ أبي محمد أنه لا يمتنع تخرج ما يستحقه الأجير على هذين الوجهين؛ لأن الحاصل غير ما ابتغاه. انتهى. والأصح هنا استحقاق المسمى؛ كذا صححه في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" واقتضى كلامه في "الشرح" المذكور تصحيح طريقة القطع فإنه قال بعد تصحيح ما نصه: وهذا هو ظاهر كلام البغوي والأكثرين، وقال الشيخ أبو محمد: لا يبعد تخريجه على الوجهين. قوله: وأما المعضوب فيلزمه الاستنابة في الجملة سواء طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوبًا. ثم قال بعد ذلك: ولو امتنع من الاستئجار فهل يستأجر عنه الحاكم؟ فيه وجهان أشبههما: لا. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن شرط الاستنابة أن يكون بين المعضوب وبين مكة مسافة القصر، فإن كان أقل فلا، بل يكلف الحج بنفسه. قاله في "التتمة" ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره عليه وعلله بأن المشقة لا تكثر عليه. الثاني: أن هذا الخلاف الذي ذكره لا يأتي في القسمين المذكورين وهما: من بلغ معضوبًا، ومن طرأ عليه العضب بعد وجوب الحج، بل إنما يأتي في القسم الثاني خاصة؛ وذلك لأن من بلغ معضوبًا لا تلزمه الاستنابة على

الفور بخلاف من طرأ عليه العضب بعد وجوب الحج فإنه تلزمه المبادرة إلى الاستنابة في أظهر الوجهين عند الإمام وغيره كما أوضحه الرافعي في الكلام على أن الحج لا يجب على الفور، وإذا علمت ما ذكرناه علمت أن الخلاف المتقدم لا يمكن إحرازه فيما إذا بلغ معضوبًا لعدم الوجوب على الفور بخلاف من طرأ عليه العضب بعد الوجوب، ولما تكلم الرافعي على المسألة في الكلام على وجوب الحج على التراخي خص الخلاف بالحالة الثانية كما هو الصواب وأشار هناك إلى أن الحاكم على هذا الوجه مخير بين أن يستأجر وبين أن يجيره على الاستئجار بخلاف ما تشعر به عبارته هنا من تعين الاستئجار. الثالث: أن ما ذكرنا في استئجار الحاكم عند امتناع المعضوب من الإجارة يأتي بعينه في الإذن للمطيع، لكن ذكر النووي في "شرح المهذب" أن المعضوب إذا لم يأذن ألزمه الحاكم فإن امتنع فالوجهان. والذي قاله من الإلزام لا يستقيم، ولم أر من قال به، والتعليل المذكور في الاستئجار والنيابة موجود بعينه في الإلزام، وهذا خيروا بينهما على القول بوجوب الاستئجار كما تقدم، فالصواب أنه أيضًا على الوجهين والقول بالتخيير صريح فيه وفي إبطال ما قاله النووي. قوله: ولوجوب الاستنابة على المعضوب طريقان: أحدهما: أن يكون مالكًا لمال يستأجر به من يحج عنه، والثاني: أن يتبرع غيره بالحج عنه. فإن كان المطيع أحد فروعه لزمه القبول ويشترط فيه أن لا يكون المطيع ضرورة ولا معضوبا وأن يكون موثوقًا بصدقه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره -رحمه الله- من كونه غير معضوب قد تابعه

علمه في "الروضة" ومحله إذا كان فقيرًا، فإن كان غنيًا يمكنه الاستئجار عنه لزمه قبوله إذا كان ابنًا؛ كذا ذكره الدارمي في "الاستذكار"، وحكى النووي في "شرح المهذب" عن "التتمة" نحوه، وزاد فحكى في الأجنبي وجهين من غير ترجيح، وعلل عدم اللزوم بأنه في الحقيقة بذل المال. الثاني: أن النووي في "الروضة" قد توهم أن وجوب القبول في الفروع مقطوع به فصرح بنفي الخلاف فقال: فيلزمه القبول والحج قطعًا، ثم اطلع بعد ذلك على خلاف فيه فاعترض به على الرافعي ظنًا منه أنه الذاكر لنفي الخلاف. قوله: فلو بذل الماشي الطاعة وجب القبول إن لم يكن الماشي أبًا أو ابنًا، فإن كان فوجهان. ثم قال: وإذا أوجبنا القبول والمطيع ماشي فهو فيما إذا كان مالكًا للزاد فإن عول على الكسب في الطريق ففي وجوب القبول وجهان أولى بالمنع لأن الكاسب قد ينقطع في الأسفار وإن لم يكن كسوبًا أيضًا، وعول على السؤال فأولى بالمنع لأن السؤال قد يرد. انتهى كلامه بحروفه. فيه أمور: أحدها: أن الراجح من الوجهين المذكورين هو عدم الوجوب. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة"، ورجحه أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: والأشبه المنع؛ لأنه يعسر عليه مشى ولده، فإن كان مع المشي يعول على الكسب فأولى بأن لا يجب القبول لأن المكاسب قد تنقطع في الأسفار وإن كان يعول على السؤال فأولى بالمنع. هذا لفظه. الثاني: أن كلام الرافعي هنا يقتضي أن مسألة المعول على الكسب

والسؤال صورتها في الماشي وقد صرح به في "الشرح الصغير" كما تقدم لك فلا يلزم من عدم الوجوب في هذه الحالة عدمه في الراكب وحينئذ فتكون مسألة السؤال وحدها أو الكسب وحدها ليست في الشرحين ولا في "الروضة". نعم: صرح بها صاحب "الحاوي الصغير" وأجاب بعدم اللزوم كما أجاب في الماشي. الثالث: قد أسلفنا في أول كتاب الحج أن صاحب التقريب قد نص في كتابه على مسألة حسنة، وهي أن المرأة القادرة على المشي لو أرادت أن تحج ماشية كان لوليها منعها من ذلك؛ وحينئذ فلا يجب القبول في مسألتنا على من جوزنا له المنع بطريق الأولى، بل المتجه عدم الوجوب على الولي وعلى غيره. قوله من "زياداته": قال الدارمي: لو بذل لأبويه فقبلا لزمه ويبدأ بأيهما شاء. قال: وإذا قبل الأب البذل لم يجز له الرجوع. وإذا كان على المعضوب حجة نذر فهي كحجة الإسلام. انتهى. فأما المسألتان الأولتان فالذي ذكره فيهما من اللزوم بعد قبول الأبوين ومن عدم جواز الرجوع هو وجه ضعيف؛ فقد ذكر المسألة قبل هذا بدون صفحة وصحح جواز الرجوع فاعلمه وتفطن له. وجزم ابن عبدان في شرائط الأحكام بما قاله الدارمي وقال: إنه لا يجب عليه على الفور، وهو واضح. وأما المسألة الثالثة فقد تقدم ذكر الرافعي لها أيضًا وبسطها، وقد فرع الدارمي على الأولى تفريعًا حسنًا وهو أنه إذا حج الابن عن أحدهما ثم مات ففي وجوب القضاء عنه خلاف.

قوله في "الروضة": والأظهر الجديد أن العمرة فرض والقديم أنها سنة. انتهى. والقول بعدم الوجوب ثابت في الجديد؛ فقد نص عليه الشافعي في أحكام القرآن؛ كذا حكاه عنه جماعة منهم المحاملي والقاضي أبو الطيب، وقد أشار الرافعي إلى ذلك وإن كان غير جازم به فقال عقب ما سبق: وأشار بعضهم إلى ترديد القول فيه قديمًا وجديدًا. قوله: وعندنا يجوز الحج بالرزق كما يجوز بالإجارة؛ وذلك بأن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك. ذكره في "العدة". ولو استأجر بالنفقة لم يصح لأنها مجهولة. انتهى كلامه. والمراد بالرزق أن لا يستأجر، بل يعقد بصيغة الجعالة ونحوها بأن يقول: من حج عني فله ألف، أو حج عني وأعطيك ألفًا. إذا علمت ذلك فما نقله عن صاحب العدة من أصل الجواز صحيح، وأما ما نقله عنه من الجواز بالنفقة وأقره عليه فقد جزم به في "الشرح الصغير" ولم ينقله عنه، وكذلك فعل النووي في "الروضة". والحكم المذكور مردود بحثًا ونقلًا. أما بحثًا: فواضح وهو جهالة العوض. وأما نقلًا: فإن الشافعي قد نص على المسألة وصرح بعدم الصحة فقال في "الأم" ما نصه: قال رجل لرجل: حج عن فلان الميت بنفقتك دفع إليه النفقة أم لم يدفعها هذا غير جائز؛ لأن هذه أجرة غير معلومة، فإن حج أجزأت عنه وله أجرة مثله، وقد نص في الإملاء على مثله فقال: وإن كان لم يكن يؤاجر ودفع إليه مالًا فقال: وقيل: ويجوز أن رجل دراهم فيقال: أنفق منه وحج عن فلان، فحج عن فلان وله أجرة مثله؛ لأن هذه

إجارة فاسدة لأنها غير معلومة فرد الفضل من إجارة مثله. وكذلك إن دفع إليه مالًا فقال أنفق منه وحج عن فلان، فإن خسر فعلينا وإن زاد فلنا هذا لفظ "الإملاء" بحروفه ومنه نقلت. وذكر في "البويطي" مسألة نحوه أيضًا فقال: حج عن فلان وأكثر منها وأنفق فما بقي فرده وما خسر فعلينا. هذا لفظه بحروفه. وقد وقع النووي في "شرح المهذب" في أشد مما وقع فيه في "الروضة" فقال: ويجوز الحج بالرزق كما يجوز بالإجارة، وهذا لا خلاف فيه. صرح به القاضي أبو الطيب في "المجرد"، والأصحاب قالوا: وذلك أن يقول حج من غير عني وأعطيك نفقتك أو كذا وكذا. وهذه عبارته، وهو عجيب جدًا. قوله: والأصح المنصوص صحة الجعالة على الحج وغيره مما تصح الإجارة عليه، وقيل: لإمكان العقد عليه بالإجارة، ثم قال فعلى الثاني قد حج عنه إنسان وقع الحج عن المعضوب الإذن، وللعامل أجرة المثل لفساد العقد، وفيه وجه أنه يفسد الإذن؛ لأنه غير متوجه إلى البيان بعينه فهو كما لو قال وكلت من أراد بيع داري فلا يصح التوكيل. انتهى. وتعبيره في آخر كلامه بالتوكيل ليس بجيد بل ينبغي أن يقول فلا يصح الإذن؛ لأن الكلام في أنا إذا فرعنا على بطلان العقد هل يبطل الإذن أم لا؟ قوله: مقتضى كلام إمام الحرمين والغزالي تجويز تقديم الإجارة على خروج الناس للحج وأن للأجير انتظار خروجهم ويخرج مع أول رفقة، والذي ذكره جمهور الأصحاب على طبقاتهم يقتضي اشتراط وقوع الإجارة العينية في زمان خروج الناس من تلك البلد حتى قال صاحب "التهذيب":

لا يصح إلا وقت خروج القافلة بحيث يشتغل عقب العقد بالخروج أو بأسبابه كشراء الزاد، وسوأء على ذلك أنه لو كان الاستئجار بمكة لم يجز إلا في أشهر الحج ليمكنه الاشتغال بالعمل عقب العقد، وعلى ما قاله الإمام والغزالي لو جري العقد في وقت تراكم الأنداء والثلوج فوجهان: أحدهما يجوز، وبه قطع الغزالي في "الوجيز" وصححه في "الوسيط" لأن توقع زوالها مضبوط. والثاني: لا لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف انتظار خروج الرفقة فإن خروجها في الحال غير متعذر. هذا كله في إجارة العين. أما إجارة الذمة فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك. انتهى ملخصًا. وقد اعترض في "الروضة" نقل ابن الصلاح وأقره عليه فقال: قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح على الإمام الرافعي هذا النقل عن جمهور الأصحاب. قال: وما ذكره عن صاحب "التهذيب" على التوفيق بينه وبين كلام الإمام أم هو شذوذ من صاحب "التهذيب" لا ينبغي أن يضاف إلى جمهور الأصحاب؛ فإن الذي رأيناه في "التتمة" و"الشامل" و"البحر" وغيرها مقتضاه أنه يصح العقد في وقت يمكن فيه الخروج والسير على العادة أو الاشتغال بأسباب الخروج. قال صاحب "البحر": أما عقدها في أشهر الحج فيجوز في كل موضع لإمكان الإحرام في الحال. هذا كلام الشيخ أبي عمرو. انتهى كلام "الروضة"، وفيه أمران:

أحدهما: أن سكوت النووي على كلام ابن الصلاح يوهم صحة ما استدرك على الرافعي، وليس كذلك بل الأمر كما نقله الرافعي عن الجمهور فقد صرحوا أنه في كتبهم المشهورة والمجهورة، ونقل النووي في "شرح المهذب" عبارة جمع كثير منهم. وفي بعض ما نقله كفاية في رد كلام ابن الصلاح فراجعه، ولولا الإطالة والاكتفاء بما ذكرته لذكرت عباراتهم. نعم: جوز ابن المرزبان عقدها قبل الوقت مطلقًا، وقال بعضهم: إن كان قريبًا لم يجز، وإن كان بعيدًا جاز. حكاهما الدارمي بعد تصحيحه المنع كما صححه غيره. وحاصل ما أشرنا إليه من المنقول اعتبار وقت الخروج وأن زمن تحصيل الزاد ونحوه لا يضر إذا كان الخروج عقبه؛ لأنه في العرف ليس بخارج عن وقت الخروج، وهذا الذي تحصل من نقولهم مخالف لكلام الإمام والغزالي قطعًا وموافق لما يقوله الرافعي، بل النقول التي استند إليها ابن الصلاح يوافقه أيضًا فمن أين يجئ الاعتراض على الرافعي؟ . الأمر الثاني: أن هذا الحكم المذكور في الزيادات عن صاحب "البحر" وهو جواز عقدها في أشهر الحج في كل موضع قد صرح به خلائف كثيرون وهو يؤخذ أيضا من كلام الرافعي؛ لأنه جوز ذلك في مسألة، وإذا جاز ذلك فيها جاز في غيرها من الأماكن البعيدة بطريق الأولى. قوله: ففي "التهذيب" وغيره أنه إن قال: ألزمت ذمتك لتحج بنفسك، لم يجز أن يستنيب لأن الأغراض تختلف باختلاف أعيان الأجزاء، وهذا قد ذكره الإمام عن الصيدلاني وخطأه فيه وقال ببطلان الإجارة لأن الدينية مع الربط بمعين تتناقضان فصار كما لو أسلم في ثمرة بستان بعينه، وهذا إشكال

قوي. انتهى. وحاصل الجزم بالصحة أنه ليس فيه إلا كلام الإمام. إذا علمت ذلك فقد جزم بالبطلان في آخر كتاب الإجارة في المسائل المتعلقة بالباب الأول وستعرف لفظه هناك. وتابعه النووي في "الروضة" على الموضعين ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر" وردها النووي في كتاب الحج في "شرح المهذب" كما ذكرها فيه في "الروضة"، ووافق الفوراني في هذا الباب من "العمد" على الصحة أيضًا، وفرق بينه وبين المسلم بأن الحج قربة وإعراض الناس في عين من تحصيل القربة متفاوت؛ لأنه قد يستأجر فاسقًا ويخرج به عن العهد شرعًا، وأما في السلم فلأنه إذا أطلق حمل على الحد. قوله: وهل يشترط تعين الميقات الذي يحرم منه الأجير؟ فيه قولان: أحدهما: يشترط لاختلاف المواقيت. والثاني: لا يشترط، ويعتبر ميقات تلك البلدة على العادة الغالبة، وبهذا أجاب في "المقنع" وصححه ابن عبدان. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، وأطلق تصحيح الثاني وفيه أمران: أحدهما: أنه لم يبين المراد بالبلد هل هي بلد الإجارة أو بلد المحجوج عنه وقد بينه جماعة منهم الغزالي في "البسيط" فقال إن الاعتبار ببلد المحجوج عنه، وكذلك البغوي في "التهذيب". الثاني: إن الأجير إذا عدل عن الميقات الواجب إلى غيره جاز إن كان مثله أو أطول منه. كذا ذكره الرافعي بعد هذا بنحو ثلاثة أوراق فاعلمه؛ فإن كلامه هنا

يوهم خلافه، وستقف على المسألة بعد هذا بقليل. قوله: ووراءه صورة أخرى؛ وهي أن يستأجر المعضوب لنفسه ثم يموت ويؤخر الأجير الحج عن السنة الأولى فهل يثبت الخيار للوارث؟ لم نلقها مسطورة. ولفظ "الوجيز" يشعر بعدم ثبوثه، والقياس الثبوت كخيار العيب. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على دعوى عدم نقلها ولكنه خالفه في الحكم فقال: الظاهر المختار أنه للوارث الفسخ إذ لا ميراث في هذه الأجرهة بخلاف الرد بالعيب. هذا كلامه. والعجب من قول هذين الإمامين أن المسألة ليست مسطورة مع أنها مسطورة في الكتب المشهورة؛ فقد صرح بها المحاملي في "المجموع" في باب الإجارة على الحج وهو في أثناء كتاب الحج فقال: وأما إذا استأجره إجارة في الذمة بأن يستأجره ليحصل له حجه فإطلاق هذه الإجارة يقتضي التعجيل. ثم قال ما نصه: وفرع أبو إسحاق على هذا فقال: إذا استأجره ليحصل له حجه وأطلق فإطلاق العقد حجه في هذه السنة، فإن أخر الحج عن هذه السنة نظر في المستأجر، فإن كان حيًا فله فسخ الإجارة لأنه ينتفع بذلك -وهو أنه يتصرف في الأجرة-، وإن كان ميتًا لم يجز فسخ الإجارة بل ينتظر إلى الثانية ثم يحج الأجير الحج عنه؛ لأنه إذا استرجع منه الأجرة فلا يتمكن الوارث من التصرف فيها ولابد من استئجار غيره ولا يمكن استئجاره قبل السنة الثانية فلا فائدة في استرجاع ذلك، بل يترك حتى يحج

عنه الأجير في السنة الثانية. هذا لفظ المحاملي، وهو يوافق ما أبداه النووي بحثًا. ثم رأيت المسألة في "عدة" الطبري فنقل عن سليم الرازي أنه لا خيار، ونقل عن المحاملي أن المسألة ليست منصوصة للشافعي وأن الذي يجئ على المذهب ثبوته، وهذه "العدة" هي عدة أبي عبد الله الحسين التي ينقل عنها صاحب "البيان" لا عدة أبي المكارم ابن أخت صاحب "البحر" الذي ينقل عنها الرافعي، فاعلم ذلك. قوله: ولو عدل الأجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته مثل ذلك الميقات أو أبعد فالمذهب أنه لا شئ عليه. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه. وتقييده ذلك بالمساوي أو الأبعد يشعر بأن الأقرب إلى مكة لا يجوز له سلوكه ويلزمه الدم لو فعله، وبه صرح البغوي في "التهذيب" فقال عليه دم الإساءة إلا أن يكون الولي استأجره وعين له ذلك فالدم على الولى. قاله في باب الإجارة. وصرح به أيضًا الغزالي في "البسيط" واقتضى كلامه أن العبرة فيما ذكرناه بالمسافة سواء كان ميقاتًا شرعيًا أم لم يكن إذا لم تكن فيه مجاوزة للميقات، لكن في "المهذب" و"التتمة" و"الشامل" و"البيان" وغيرها القطع بالجواز وعدم وجوب الدم لأن الشرع قد جعل هذه المواقيت بعضها يقوم مقام بعض. وهذا الذي ذكروه مناف للتعيين الذي نحن نفرع عليه، وقد فرع الطبري شارح "التنبيه" على ذلك فرعا طويلًا فقال: لو استأجر مكي عن أفقي ليحج عنه أو يعتمر ولم يعين له ميقات وقلنا يصح وينزل على ميقات

المستأجر عنه فأحرم من مكة فوجوب الدم ينبني على الوجهين المتقدمين فيما إذا أحرم من ميقات بلد دون ميقات بلد دون ميقات بلد المستأجر، فإن منعنا ثم كما قال البغوي فهنا أولى، وإن جوزنا ثم كما في "المهذب" و"التتمة" وغيرهما احتمل هنا وجهين: أحدهما: لا شيء عليه؛ لأن مكة ميقات شرعي والشرع أقام المواقيت الشرعية بعضها مقام بعض؛ فعلى هذا لو عين له مكة في الإجارة فلا شئ على المستأجر أيضًا، وأصحهما: عليه دم؛ لأن العبرة بالمستأجر. ولو استأجر أفقي مكيًا للتمتع لزمه دم، ولا نظر إلى كون الآتي به مكيًا. والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أحرم الأجير من ميقات شرعي دون ميقات المستأجر لأن الأجير منزل منزلة المستأجر والمستأجر لو أتى من طريق الميقات الذي أحرم منه الأجير كان ميقاتًا له، وكذلك أجيره. ولو دخل مكة غير محرم وهو مريد للنسك ثم أحرم منها لزمه دم الإساءة ولم يكن ميقاتًا للمار بها بل للمقيم بها بشرط أداء تحية حرمها المشروعة لمريد النسك والمستأجر عنه غير مقيم بمكة وهو مريد للنسك ولم يؤد وظيفة التحية، وأجيره بمنزلته فليقم بما لزمه لو كان ناسكًا فيخرج إلى حيث لزمه الإحرام منه فيحرم منه، ويزيد ذلك بيانًا أنهم اتفقوا على أن الأفقي لو مر بميقات وأراد مجاوزته ليحرم من مكة لكونها ميقاتًا منصوصًا عليه لم يجز قطعًا. واختلفوا فيما سوى مكة كما تقدم في محاذاة الحليفة والجحفة فدل على مغايرتها لغيرها؛ وعلى هذا لو عين له مكة في الإجارة للإحرام لم يصح العقد لكن لو أحرم عنه منها صح وتأثير الفساد في بطلان المسمى ووجوب

أجرة المثل وهل يجب دم؛ لأن التعيين بطل لبطلان العقد وبقى إذن مجرد في النسك فاقتضاه كاملًا، فإذا نقضه وجب جبره أو لا يجب لأنه أتى به كما أمر؟ فيه احتمالان، وعلى الثاني إن كان المستأجر عنه في صورة الغضب وجب عليه دم، وإن كان وليه في صورة الموت احتمل وجهين كقولي دم محظور الصبي؛ فإن قلنا: الدم على الولي ثم، فهنا أولى؛ لأنه المباشر للمحظور، وإن قلنا في مال الصبي ففي التركة، فإن لم يكن فالظاهر أنه لا يتعين الولي ولو قبل بتعيينه لم يبعد ويجعل بشرطه كالملتزم. فإن قيل: اتفق الجمهور على جواز استئجار المرأة للحج عن الرجل فإحرامهما مختلف ولا يجب دم قطعًا للبسها المخيط وتغطية رأسها لا عليه ولا عليها اعتبارًا بحالها لكونها المباشرة، فهلا كان استئجار المكي كذلك بالنسبة إلى الميقات؟ قلنا: الفرق أنهم جعلوا الميقات معتبرًا بالمستأجر ولهذا اختلفوا في وجوب تعيينه في الإجارة لاختلاف الغرض باختلافه وذلك لتمكن الأجير من الإحرام منه وإن شق عليه، ولا كذلك لباس المحرم فإنه معتبر به لا بالمستأجر؛ فلذلك جوزنا في إحرامها ما لم يجز في إحرامه لتعينه في حقها؛ إذ الستر واجب عليها، والله أعلم. وهذا كله إذا استؤجر المكي من تركة الميت. فلو تبرع متبرع بالنسك عنه حيث جاز ففي الدم الاحتمالان فيما إذا عينت مكة للإحرام في الإجارة، وأولى أن لا يجب لأنه جرى ثم التزام نسك متصف بنقص فلما بطل العقد أثر بطلانه في إلغاء الصفة وبقي مجرد النسك والأصل فيه التمام ولا التزام هنا وانما تبرع به ناقصًا فلزمه بالإحرام ما بعده كاملًا حتى لو أساء في شئ منه لزمه جبره وأتى بأصل الإحرام كما تبرع به؛ وعلى هذا يجب الدم في تركه المحجوج عنه؛ لأن الإحرام من الميقات من جملة الواجبات وقد أسقط عنه ما عداه فكان جبره من ماله كما لو قضى عنه بعض دينه وبقي بعضه.

فإن لم يكن له تركه أو كانت ولم يجب عليه الحج لم يجب على واحد منهما. وذكر فقهاء اليمن من أهل العصر أن المحجوج عنه إن كان قد وجب عليه الحج لم يلزم المتبرع عنه شيء وكأنه قضى بعض دينه وإن لم يجب عليه ألحق بالإحرام عن الصبي فيخرج على الوجهين بجامع التوريط فيما لم يلزمهما ولا اختيار لها فيه، وهو قريب ولكن الفرق ممكن وهو المختار، فإن توريط الصبي حقيقة فإنه صار ناسكًا بإحرام الولي عنه، فلو حط المورط فألزم زائد النفقة والكفارات، وهنا إنما ورط نفسه بالتبرع بالإحرام لا المحجوج عنه فيلزمه جبر النقص بعده من ترك مأمور وارتكاب محظور قطعًا بخلاف نقض الإحرام نفسه كما قدمناه، وهذا كله في المتبرع بالنسك من مكة. أما المتبرع بالاستئجار فإن ألحقنا مكة بالمواقيت الشرعية على ما تقدم فلا شيء عليه وإلا فسدت الإجارة لاقترانها بالشرط الفاسد ويبقى مجردًا دون العاقد وفيه الاحتمالات المتقدمان فيما لو عين له مكة في الإجارة. وهذا الفرع لم أر فيه نقلًا. قوله في أصل "الروضة": فلو عينا مكانًا أبعد من الميقات الشرعي بأن عينا الكوفة مثلًا فهل يلزم الأجير الدم بمجاوزته غير محرم؟ وجهان: الأصح المنصوص: نعم. فإن قلنا باللزوم فهل ينجبر به الخلل حتى لا يحط شئ من الأجرة؟ على قولين: أصحهما: لا ينجبر ثم قال: ولو شرط الإحرام من أول شوال فأخره لزمه الدم، وفي الانجبار الخلاف، وكذا لو شرط أن يحج ماشيا فحج راكبًا لأنه ترك مقصودًا. هكذا نقلت المسألتان عن القاضي الحسين ويشبه أن تكونا مفرعتين على أن الميقات المشروط كالشرعي وإلا فلا يلزم الدم كما في مسألة تعيين

الكوفة. انتهى كلام "الروضة". وما ذكره هنا من لزوم الدم والحط فيما إذا حج راكبًا قد صحح خلافه في "شرح المهذب" فقال بعد حكايته لما ذكره في "الروضة" ما نصه: وقطع البغوي بأنه إذا استأجره ليحج ماشيًا فحج راكبًا؛ فإن قلنا: الحج راكبًا أفضل، فقد زاد خيرًا. وإن قلنا: الحج ماشيًا أفضل، فقد أساء بترك المشي وعليه دم، وفي وجوب رد الميقات بين أجرة الراكب والماشي وجهان بناء على ما سبق، وهذا الذي قاله المتولي هو الأصح. هذا لفظه في "شرح المهذب". والأصح عنده -أي: عند النووي- أن الحج راكبًا أفضل؛ فيكون الأصح عنده أنه لا دم ولا حط على خلاف المذكور في "الروضة". ونظير المسألة ما إذا نذر أن يحج ماشيًا فحج راكبًا، وقد صحح فيها في "الروضة" وجوب الدم أيضًا، وستعرف المسألة في موضعها إن شاء الله تعالى. قوله: الأولى إذا استأجره للقران فامتثل فالدم على المستأجر في أصح الوجهين، والثاني: على الأجير. وإن أفرد أو تمتع وأتى بهما معًا من الميقات بأن عاد إليه بعد الفراغ من الأول وكانت الإجارة على الذمة فلا شئ عليه لأنه زاد خيرًا ولا على المستأجر لأن الأجير لم يقرن ولم يتمتع. ثم قال: وذكر أصحاب الشيخ أبي حامد أنه يجب على المستأجر دم لأن القران الذي أمر به يتضمنه، واستبعده ابن الصباغ وغيره. انتهى موضع الحاجة ملخصًا. وما ذكره هنا من عدم وجوب الدم على المستأجر قد تابعه عليه في "الروضة" وموافقته عليه مناقضة لما سيأتي في المجامع فإنه قد صرح من

"زوائده" بأن القارن والمتمتع إذا أفسدا نسكهما وقضياه مفردين يلزمهما دم آخر للقضاء الذي كان في الذمة، ثم إنه لما حكم بالوجوب بالغ فيه فراجعه، وكلام الرافعي هناك وفي باب النذر مقتضاه رجحان عدم الوجوب؛ فهو ماشي على قاعدة واحدة. قوله: المسألة الثانية: إذا أمره بالتمتع فامتثل فالحكم كما لو أمره بالقران فامتثل، وإن أفرد نظر؛ إن قدم العمرة وعاد للحج إلى الميقات فقد زاد خيرًا، وإن أخر العمرة. . . . إلى آخر ما ذكره. واعلم أن ما ذكره هاهنا من أنه إذا قدم العمرة وعاد للميقات فأحرم بالحج يكون مفردًا قد تابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك؛ فإن هذا وجه ضعيف، والمشهور -كما قاله الرافعي في آخر الكلام على شروط التمتع- أن هذا متمتع ولكن لا يلزمه الدم، وسأذكر لفظه هناك. قوله في "الروضة" في المسألة المذكورة -وهي الأمر بالتمتع-: وإن قرن فقد زاد خيرًا. نص عليه؛ لأنه أحرم بالنسكين من الميقات، وكان مأمورًا بأن يحرم بالحج من مكة، ثم إن عدد الأفعال للنسكين فلا شئ عليه وإلا فهل يحط شئ من الأجر لاختصاره في الأفعال؟ وجهان، وكذا الوجهان في أن الدم على المستأجر أم الأجير. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذين الوجهين اللذين حكاهما النووي من غير ترجيح قد ذكر الرافعي بعد حكايتهما كلامًا آخر حاصله تصحيح الحط؛ فإنه قال: نقلوا وجهين في أنه هل يحط شيء من الأجره للاختصار في الأفعال، وفي أن الدم على المستأجر لأمره بما يتضمن الدم أو على الأجير لنقصان الأفعال. وكل ذلك يخرج على الخلاف المتقدم في عكسه وهو ما إذا تمتع المأمور بالقران. هذا لفظه، والصحيح في عكسه أنه مخالف.

الأمر الثاني: أن تعبيره في "الروضة" عن الوجهين المذكورين ثانيًا بقوله: وكذا الوجهان -أعني بصيغة ال- لا يستقيم بعد تنكيره الوجهين المذكورين أولًا؛ فتأمله؛ فالصواب تعريفهما أو تنكيرهما. الأمر الثالث: أن تعبيره بقوله: ثم إن عدد الأفعال للنسكين ظاهره أن يتبرع فيأتي بطوافين وسعيين كما يشترطه أبو حنيفة. وليس كذلك بل المراد تجديد العود إلى الميقات كما سبق في التمتع؛ فإنه ينفع القارن في سقوط الدم على الصحيح كما يأتي في موضعه، إلا أنه لو استحضر أن المراد ما ذكرناه لعبر بقوله ثم إن عاد فإنه أخصر وأقرب إلى المراد، وعبر الرافعي بقوله ثم إن عدد الأفعال. واقتصر عليه فزاد النووي لفظه (النسكين) فزاد الكلام خللًا وإيهامًا، وعبر في "شرح المهذب" بعبارة "الروضة" في المسألة جميعها بل في مسائل الفصل جميعه. قوله: فلو مات في أثناء الحج فهل يجوز البناء على حجه؟ فيه قولان: الصحيح الجديد أنه لا يجوز البناء. ثم قال ما نصه: لأنه لو أحصر فتحلل ثم زال الحصر فأراد البناء لا يجوز، فأما إذا لم يجز البناء على فعل نفسه فأولى أن لا يجوز لغيره البناء على فعله. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي ذكره صريح في أن القولين لا يجريان في المحصر إذا تحلل وهو مخالف لما ذكره في أواخر مواقع إتمام الحج في الكلام على المحصر فإنه قال هناك ما نصه: وهل يجوز البناء لو انكشف الإحصار؟ فيه الخلاف السابق؛ الجديد: لا يجوز، والقديم: الجواز إحرامًا ناقصًا. هذا كلامه. ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "شرح المهذب" فسلم الكتابان من الاختلاف.

قال -رحمه الله-: المقدمة الثانية في: المواقيت قال الشافعي: وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة واعترض ابن داود عليه في تعبيره بالتسع فقال: إما أن يريد به الأيام أو الليالي؛ إن أراد الأيام فاللفظ مختل؛ لأن جمع المذكر في العدد بالهاء كما قال تعالى: {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (¬1)، وإن أراد الليالي فالمعنى مختل؛ لأن الليالي التي يصح الإحرام فيها عنده عشر لا تسع. قال الأصحاب: هاهنا قسم آخر؛ وهو أن يريد الأيام والليالي جميعًا، والعرب تغلب التأنيث في العدد، ولذلك قال تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬2)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "واشترط الخيار ثلاثًا" (¬3). والمواد الأيام والليالي. . . . إلى آخر ما ذكر. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره في القسم الأول من أن جمع المذكر لابد فيه من الهاء إنما محله إذا كان المعدود ملفوظًا به، فإن كان محذوفًا كما وقع في كلام الشافعي فكقولك صمت عشرة -يريد: عشرة أيام- فإنه يجوز له حذف التاء وإثباتها وإن كان الإثبات هو الفصيح. ومما ورد من ذلك ما حكاه الكسائي عن ابن الجراح: صمنا من الشهر خمسًا. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة (7). (¬2) سورة البقرة (234). (¬3) أخرجه مسلم (1524) من حديث أبي هريرة.

وحكى أيضًا الفراء: أفطرنا خمسًا وصمنا خمسًا، ومنه الحديث الصحيح: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال" (¬1). وإذا علمت ذلك علمت أن الكلام الشافعي صحيح على إرادة الأيام. والعجب من سرعة اعتراض ابن داود أو غيره على الشافعي في حكم لغوي وكلامه حجة في اللغة. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من احتمال إرادة الأيام والليالي جميعًا والعرب تغلب المؤنث على المذكر عند اجتماعهما جواب عجيب؛ لأن السؤال باق وهو إخراج الليلة العاشرة. الأمر الثالث: أن القائل مثلًا إذا قال سكنت الدار تسعًا وأراد أيامًا وليالي؛ فإن أراد أن بعض التسع أيام وبعضها ليالي فهذا جمع بين مذكر ومؤنث حقيقة، ولا يستقيم إردة ذلك هاهنا، وإن أراد ما يريده القائل بقوله عشرة أيام بلياليها فالمعدود مذكر وإنما نوى مع المعدود شيئًا آخر مؤنثًا، وكذا عكسه. الأمر الرابع: أن هذا اللفظ الذي جزم به هنا بإسناده إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أنكره غاية الإنكار في كتاب البيع، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: أما المقيم بمكة فميقاته مكة ثم من أي موضع أحرم منها جاز، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن يتهيأ للإحرام ويحرم من المسجد قريبًا من البيت وأظهرهما: الأفضل أن يحرم من باب داره ويأتي المسجد محرمًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ذكر بعد هذا أن المستحب لمن ميقاته خلفه أو ¬

_ (¬1) تقدم.

قريبه أن يحرم من الطرف الأبعد من مكة ليقطع الباقي محرمًا، وقياسه أن المكي يحرم من طرفها الأبعد عن مقصده -وهو عرفات- تعين ما قاله من العلة. الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر من زياداته في الكلام على ركعتي الإحرام أن الأصحاب قالوا: إن كان في الميقات مسجد فالمستحب أن يصلي الركعتين فيه وما تقرر أن ميقات المكي مكة وفيها مسجد فيستحب فعلها فيه وحينئذ فكيف يجتمع ذلك مع ما صححوه هنا من كونه يحرم من باب داره ثم يأتي المسجد؛ لأن الركعتين سابقة على الإحرام. قوله: وميقات المتوجهين من المدينة ذو الحليفة، وهي على ميل من المدينة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: ما نبه عليه العمراني؛ وهو أن عائشة كانت تحرم من ذي الحليفة وبالعمرة من الجحفة. قال: وهو محمول عندنا على أن للمدينة طريقين فمن أي الطريقين سلك أحرم من ميقاتها، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي الزبير أن جابرًا سئل عن المهل -فقال أحسبه رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة (¬1). الأمر الثاني: أن ما ذكره من كون ذي الحليفة على ما ذكره صاحب "الشامل" فقلد فيه الرافعي والحسي يرده، بل الصواب المعروف المشاهد أنها على فرسخ وهو ثلاثة أميال أو يزيد قليلًا، بل ذكر الغزالي في "البسيط" أنها على ستة أميال وصححه في "شرح المهذب"، وقيل على سبعة، ولم يتعرض في "الروضة" لشيء من ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1183) من حديث جابر، والبخاري (133) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

وذو الحليفة: اسم ماء من مياه بني خيثم. والحليفة: تصغير الحلف بفتح الحاء واللام، واحد الحلفا وهو النبات المعروف. قوله: وميقات المتوجهين من المشرق والعراق وخراسان ذات عرق؛ ففي الصحيح عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرنًا وهو جور عن طريقنا، وإنا إذا ردناه شق علينا. قال: فانظروا حذوها، فحد لهم ذات عرق (¬1). والثاني وإليه صيغ الأكثرين أنه منصوص عليه روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل المشرق ذات عرق. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الأكثرين وأقرهم عليه قد ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا فقال إنه الأرجح ثم خالف ذلك في "شرح مسند الإمام الشافي" فقال: ذهب الشافعي إلى أن ذات عرق ليس منصوصًا عليه وإنما هو باجتهاد عمر. هذه عبارته، ولم يحك فيه خلافًا، وهو تباين فاحش؛ فإن حاصله أم مقابله ليس مذهبًا له. الأمر الثاني: أن قول الشافعي قد اختلف في ذات عرق فقال في موضع: هو منصوص عليه، وفي موضع آخر: ليس منصوصًا عليه. كذا ذكره القاضي أبو الطيب في "تعليقه"؛ فثبت إذن أن الخلاف قولان لا وجهان. والحديث الأول رواه البخاري. والمصران: هما البصرة والكوفة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1924) ومسلم (297) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

والمراد بفتحهما: عمارتهما؛ لأنهما إسلاميتان بنيتا في خلافة عمر. وجور: بفتح الجيم وآخره راء مهملة من قولهم: جار يجور إذا مال أي: مائل منحرف. والحديث الثاني رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب"، ورواه مسلم أيضًا في صحيحه من رواية جابر، إلا أن الرواي عن جابر وهو أبو الزبير لم يجزم بأن جابرًا رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحسبه رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورواه عنه جماعة مرفوعًا -يعني شاك-، إلا أن إسناد هذه الرواية ضعيف. والسماع المعتمد عن المنقين في قرن هو التسكين، ورأيته منقولًا عن أبي عبيد وغيره ورواه صاحب "الصحاح" بالتحريك، وادعى أن أويسًا منسوب إليه. انتهى. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": اتفق العلماء على التسكين واتفقوا على تغليط الجوهري في فتح الراء وفي نسبة أويس إليه قال في "شرح المهذب": وانما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد بلا خلاف بين أهل المعرفة. وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أويس بن عامر من مراد ثم من قرن" (¬1). قوله: الثانية: إذا سلك طريقًا لا ينتهى إلى ميقات أحرم عند محاذاة الميقات، فلو حاذى ميقاتين يتوسطهما طريقة نظر إن تساويا في المسافة إلى مكة وإلى طريقه جميعًا أو في المسافة إلى مكة وحدها أحرم عند محاذاتهما، وإن تساويا في المسافة إلى طريقة وتفاوتا في المسافة إلى مكة ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن يحرم عند محاذاة أقربهما. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2542) عن عمر - رضي الله عنه -.

وأظهرهما: يتعين المحاذى الأبعد، وليس له انتظار الوصول إلى محاذاة الأقرب كما ليس للخارج من المدينة أن يجاور ذا الحليفة ليحرم من الجحفة، وقد يتصور في هذا القسم محاذاة الميقاتين دفعة واحدة؛ وذلك بانحراف أحد الطريقين لو عورة وغيرها وحينئذ فلا كلام في الإحرام موضع المحاذاة. لكن هل إحرامه منسوب إلى أبعد الميقاتين أو قريبهما؟ حكى الإمام فيه وجهين. قال: وفائدتهما فيما إذا جاوز موضع المحاذاة وانتهى المكان الذي يسلك منه إلى الطريقين اللذين للميقات فأراد العود لدفع الإساءة ولم يعرف موضع المحاذاة فهل يرجع إلى هذا أم ذاك؟ وإن تفاوت الميقاتان في المسافة إلى مكة وإلى طريقه فالاعتبار بالأقرب إليه، وقيل: إلى مكة. واعلم أن الأئمة فرضوا جميع هذه الأقسام فيما إذا توسط بين طريقين يفضى كل واحد إلى ميقات، ويمكن تصوير القسم الثالث والرابع في ميقاتين على يمينه أو شماله كذي الحليفة والجحفة؛ فإن أحدهما بين يدي الآخر فقد يتساوى قربهما على طريقه وقد يتفاوت. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن المراد بالمحاذاة في هذا الموضع هو المسامته عن اليمين أو الشمال دون الظهر أو الوجه. الثاني: أن الإمام قد احترز بقوله: ولم يعرف موضع المحاذاة عما إذا عرفه فإنه يرجع إليه أو إلى مثل مسافته من أحد الميقاتين كذا صرح به الإمام أيضًا. الثالث: أن تساوى الميقاتين في المسافة إلى مكة واضح، وأما تساويهما بالنسبة إلى طريقه فيحتمل أمور: أحدها: أن يحاذيهما معًا وتكون المسافة من موضعه إلى أحدهما

كالمسافة من ذلك الموضع إلى الآخر. ثانيها: أن يحاذي أحدهما قبل الآخر إلا أن مسافة ما بين الأول وموضع محاذاته كمسافة ما بين الثاني وموضع محاذاة الأول سواء؛ وذلك بأن تكون المسافة من محاذاة الثاني إليه أقل لأجل انحراف ووعورة في طريق الأول. وهذه الأقسام داخله في قول الرافعي أولًا ولو حاذى ميقاتين يتوسطهما طريقة لأنه قسم إلى الثلاثة؛ فإن قوله: فميقاته الموضع الذي يحاذيهما، يقتضي أنه حاذاهما معًا. وقوله في القسم الذي بعده: فيه وجهان. . . . إلى آخره، يقتضي أنه حاذى أحدهما قبل الآخر. وقد أهمل قسمًا آخر؛ وهو أن تكون مسافة أحدهما إلى طريقه أقل من مسافة ذاك، ومسافته إلى مكة أكثر وذاك بالعكس ومجموع المسافتين مساوية لمجموع المسافتين. وإذا علمت ذلك فاعلم أن كلامه قد اشتمل على أربعة أقسام كما ذكره في آخر المسألة: أحدها: أن يتساوي الميقاتان في المسافة إلى مكة وإلى طريقة جميعًا. الثاني: أن يتساويا في المسافة إلى مكة ويتفاوتا في المسافة إلى طريقه. الثالث: عكسه. الربع: أن يتفاوتا في المسافتين جميعًا على عكس الأول. وهذه الأقسام والأحكام التي أجاب بها فيها غير محررة لأن الميقاتين قد يتحاذيان في كل منها، وقد تقدم أحدهما على الآخر، بل الصواب ما سلكه

غيره؛ وهو أن يجعل مورد التقسيم هو المحاذاة وتقسيمها إلى ما يقع على الترتيب أو المعية فيقول: إن حاذا أحدهما قبل الآخر وجب الإحرام من محاذاة الأول على الصحيح قد حاذاهما معًا أحرم من ذلك الموضع ولكن هل ينسب إحرامه إلى الأبعد من مكة أم لا إلى آخر ما ذكره. قوله: وإذا جاوز الموضع الذي لزمه الإحرام منه غير محرم أثم وعليه العود إليه والإحرام منه إن لم يكن له عذر. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن المراد هاهنا بالمجاوزة إنما هو المجاوزة إلى جهة الحرم. فأما إذا جاوز إلى جهة يمينه أو يساره وأحرم من مثل ميقات بلده أو أبعد فإنه يجوز ذكره الماوردي وضرب له مثلًا بذات عرق وذي الحليفة، وقياسه في المكي أن يجاوز مكة إلى غير جهة عرفه ثم يحرم محاذيًا لمكة. كذا نبه عليه الطبري شارح "التنبيه" قال: ولم أره مصرحًا به. الأمر الثاني: أن كلام الرافعي يوهم أن التحريم ثابت عاد أم لم يعد، لكن جزم جماعات كثيرون بأنا حيث أسقطنا الدم بالعود فلا تكون المجاوزة حرامًا، منهم المحاملي في "التجريد" والروياني في "البحر"، وقال في "البيان" إنه ظاهر الوجهين، واقتصر في "الكفاية" على كلام الروياني وتأول كلام من أثبت الخلاف، وفي "شرح المهذب" على كلام "البيان". نعم: صرح المحاملي بأن شرط انتفاء التحريم أن تكون المجاوزة بنية العود والذي قاله لابد منه وما اقتضاه كلام "الكفاية" من إنكار الخلاف ليس كذلك فقد رأيته في كتاب "القولين والوجهين" للمحاملي حكايته بلفظ لا يحتمل التأويل فقال: يسقط عنه الدم، وظاهر المذهب أنه لم يسئ بذلك ولم يأثم، ومن أصحابنا من قال أساء وأثم. هذه عبارته.

الثالث: أن ما قاله من إيجاب الإحرام منه قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وليس كذلك بل إذا قلنا بأن العود بعد الإحرام مسقط للدم -وهو الصحيح- فأحرم من موضعه ثم عاد فإنه يكون جائز بلا شك، وصرح به غيره؛ ويدل عليه تعليله بأن المقصود قطع المسافة محرمًا ويؤيده أيضًا أنهم لما أوجبوا على المكي الخروج إلى أدنى الحل عند إرادة الإحرام بالعمرة صححوا أنه يجوز له أن يحرم من مكة ثم يخرج بعد أن بنوا الخلاف على سقوط الدم، بل صرح المحاملي في "المجموع" والجرجاني في "التحرير" وغيرهما باستحباب ذلك للمكي لأنه شبيه ثم أحرم قبل الميقات. الأمر الرابع: أن هذا التعبير يوهم بحتم العود إلى الميقات الذي أساء بمجاوزته، وليس كذلك بل لو عاد إلى مثل مسافة من ميقات آخر جاز. صرح به إمام الحرمين في الكلام على محاذاة الميقاتين؛ ويؤيده أن المفسد لما أوجبوا عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه في الأداء قالوا إنه يجوز له تركه والإحرام من مثل مسافته من موضع آخر حتى ادعى في "الروضة" عدم الخلاف فيه. قوله: فإن كان له علة كما لو خاف الانقطاع عن الرفعة أو كان الطريق مخوفًا أو الوقت ضيقا لم يعد. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه صريح في أن الانقطاع مع الأمن عذر وسببه مشقة الاستنجائين، وقد تقدم الكلام عليه في التيمم وغيره. الثاني: أن إطلاقهم يقتضي وجوب العود على الماشي إذا لم يحصل له ضرر، وهو محتمل لكونه قد تعدى، والمتجه أن يقال إن كان على دون مسافة القصر وجب وإلا فلا كما قلنا في الحج ماشيًا. قوله: ثم إذا لم يعد فعليه دم. انتهى.

ذكر في "الروضة" نحوه، وليس على إطلاقه بل شرط وجوب الدم أن يكون قد أحرم بعد المجاوزة وأن يكون إحرامه بالعمرة أو بالحج ولكن في تلك السنة، فإن لم يحرم أصلًا لم يلزمه شئ كما صرح به الماوردي وغيره قالوا: لأن الدم إنما يجب لنقصان السبب ولا يجب بدلًا من النسك ويؤيده أنا إذا قلنا بوجوب الإحرام على داخل مكة فتركه فلا شئ فيه كما نقله الرافعي عن ابن كج وأقره. وإن أحرم بالعمرة وجب الدم في أي وقت أحرم لأن العمرة لا يتأقت وقت إحرامها وإن كان إحرامه بالحج فإن كان في تلك السنة وجب؛ لأنه بان أن الحج في هذه السنة كان واجبًا عليه من الميقات، وإن حج في السنة الثانية لم يلزمه؛ لأن إحرام هذه السنة لا يصلح بحج سنة قابله. كذا ذكره القاضي الحسين والمتولي والبغوي والخوارزمي، وفي كلام الرافعي في باب حج الصبي ما يدل له فراجعه. قوله: وأظهر القولين أن الإحرام من دويرة أهله أفضل من الميقات؛ لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحجة أو عمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. والثاني: الميقات أفضل اقتداء به -عليه الصلاة والسلام-. وقطع بعضهم بالأول حتى أطلق مطلقون كراهية الإحرام من الميقات، وقيل: إن أمن على نفسه ارتكاب المحظورات فدويرة أهله وإلا فالميقات. انتهى ملخصًا. وما ذكره من تصحيح الأول يستثني منه الحائض والنفساء. كذا نقله صاحب "التقريب" عن النص فقال: قال الشافعي في "المناسك الكبير": ولا أحب للحائض والنفساء أن يقدما إحرامهما قبل وقتهما. هذه

عبارته، وأراد بالوقت الميقات. وقد ذكر الرافعي بعد هذا في الكلام على سنن الإحرام ما يقوي ذلك. والحديث الأول رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي، وإسناده ليس بقوي كما قاله في "شرح المهذب" ولفظ الحديث: "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، أو "وجبت له الجنة" بلفظ "أو" وهو شك من الراوي. وأما حديث إحرام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الميقات فثابت في الصحيحين. قوله: وأفضل بقاع الحل لإحرام العمرة الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية، وليس النظر إلى المسافة ولكن المتبع سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد نقلوا أنه اعتمر من الجعرانة مرتين: مرة عمرة للقضاء سنة سبع، ومرة عمرة هوازن. ولما أرادت عائشة أن تعتمر أمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، وصلى بالحديبية عام الحديبية وأراد الدخول منها للعمرة فصده المشركون عنها؛ فقدم الشافعي - رضي الله عنه - ما فعله ثم ما أمر به ثم ما هم به. والجعرانة والحديبية على ستة فراسخ من مكة، والتنعيم على فرسخ. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد فضل الإحرام بالحج والعمرة من باب داره على الإحرام بهما من الميقات وإن كان على خلاف ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فيه من طول زمن الإحرام؛ وحينئذ فيقال له لم راعيت ذلك في هذه المسألة ولم تراعه في تعيين ميقات العمرة؛ فإنك قدمت التنعيم على الحديبية والحديبية أبعد كما تقدم لاسيما وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان على عزم الرحيل لما

أرادت عائشة أن تعتمر كما رواه البخاري ومسلم؛ فعين التنعيم لكونه أقرب أماكن الحل؟ الأمر الثاني: أن إحرام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة من الجعرانة (¬1). صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية أنس. وأما ما ذكره من إحرامه -عليه الصلاة والسلام- في عمرة القضاء منها أيضًا فكيف يستقيم مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من المدينة على قصد الإحرام وميقات أهل المدينة ذو الحليفة في الحج والعمرة. الأمر الثالث: أن ما ذكره من كونه -عليه الصلاة والسلام- عام الحديبية أراد الدخول من الحديبية للعمرة (¬2). صحيح فقد رواه الشيخان أيضًا. واحتراز الرافعي بهذه العبارة عن الإحرام بها فإنه لم يقع من الحديبية بل من ذي الحليفة كما رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي ووقع في "البسيط" للغزالي أنه -عليه الصلاة والسلام- هم بالإحرام من الحديبية. قال في "شرح المهذب": وهو غلط صريح لأن ميقاته ذو الحليفة كما سبق. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1741) وأحمد (26600) والدارقطني (2/ 283) والطبراني في "الأوسط" (6515) وأبو يعلي (6927) والبيهقي في "الشعب" (4026) وفي "الكبرى" (8708) من حديث أم سلمة بسند ضعيف. قال البخاري: لا يثبت. وقال الألباني: ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري (687) ومسلم (1253).

الباب الأول: في وجوه أداء النسكين

القسم الثاني في المقاصد: وفيه أبواب: الباب الأول: في وجوه أداء النسكين: قوله: وكل من الإفراد والتمتع والقران جائز بالاتفاق، وأما الأفضل منها فإن قول الشافعي لا يختلف في تأخير القران عن الإفراد والتمتع. . إلى آخره: فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من أن نصوص الشافعي متفقة على تأخير القران غريب؛ فقد حكى جماعة منهم صاحب "البيان" قولًا أنه -أي القران- أفضل منها، وحكوه كما قاله في "شرح المهذب" عن نصه في "أحكام القرآن" بل في "الوسيط" وغيره قول أن القران أفضل من التمتع فقط، وقد ذكره الرافعي بعد هذا في آخر الفصل. الأمر الثاني: أنه إذا قرن واعتمر بعده أيضًا فينبغي أن يكون أفضل من الإفراد لاشتماله على مقصوده مع زيادة عمرة أخرى. وهو نظير ما قالوه في المتيمم أنه إذا رجى الماء فصلى أولًا بالتيمم على قصد إعادتها بالوضوء فإنه أفضل لا محالة، وهكذا إذا اعتمر المتمتع بعد الحج أيضًا خصوصًا إذا كان مكيًا، أو عاد لإحرام الحج إلى الميقات فإن فوات هذه الشروط لا يخرجه عن كونه متمتعًا وإنما يسقط الدم. قوله: ولو أحرم بالعمرة ثم شرع في الطواف لم يجز إدخال الحج عليها، وذكروا في تعليله أربعة معان: أحدها: أنه اشتغل بعمل من أعمال العمرة فيقع عنها ولا ينصرف بعده إلى القران. والثاني: إتيانه بفرض من فروضها لأن الفرائض هي المقصودة.

والثالث: إتيانه بمعظم أفعالها. والرابع: أنه أخذ في التحليل المقتضى لنقصان الإحرام فلا يليق به إدخال الإحرام المقتضى لقوة الإحرام وكماله، وهذا هو الذي أورده أبو بكر الفارسي في "العيون". فإن أدخل العمرة على الحج فالجديد أنه لا يجوز، والقديم جوازه. وعلى هذا فإلى متى يجوز الإدخال فيه أربعة أوجه مفرعة على المعاني الأربعة: أحدها وهو الأصح كما قاله البغوي: يجوز ما لم يشرع في طواف القدوم أو غيره من أعمال الحج. والثاني: ما لم يأت بالسعي أو غيره من الفروض. قاله الخضري. والثالث: ما لم يقف بعرفة. والرابع: ما لم يشتغل بشيء من أسباب التحلل. انتهى، والأصح هو الرابع كذا قاله في "شرح المهذب"، ونقله عن النص وهو مراد الرافعي بقوله أورده الفارسي في "العيون"؛ فإن الكتاب المذكور موضوع لنصوص الشافعي. قوله: فإن أفسد العمرة ثم أدخل عليها الحج ففيه خلاف لعلنا نورده من بعد إن شاء الله تعالى. انتهى. وهذا قد ذكره بعد ذلك كما أشار إليه هنا، وصحح أنه ينعقد إحرامه بالحج ولكن ينعقد فاسدًا. ذكر ذلك قبل الكلام على سنن الإحرام. قوله: وبجب على القارن دم لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أهدى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواجه بقرة وكن قارنات (¬1). ولأن الدم واجب على المتمتع بنص القرآن. وأفعال المتمتع أكثر من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3917) ومسلم (1253) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

أفعال القارن، وإذا وجب عليه الدم فلأن يجب على القارن كان أولى. وصفه دم القران كصفة دم التمتع، وعن مالك أن على القارن بدنه، وحكى الحناطي عن القديم مثله، لنا أن المتمتع أكثر من فيها لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بين النسكين، فإذا اكتفى منه بشاة فلأن يكتفي بها من القارن أولى. انتهى كلامه. وهذان التعليلان لا يمكن القول بصحتهما من قائل واحد؛ لأن الأول يقتضي أن القران أولى بوجوب الدم من التمتع، والثاني عكسه. والحديث المذكور ثابت في الصحيحين. قوله: الثالث: التمتع وهو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويدخل مكة ويأتي بأفعال العمرة ثم ينشئ الحج من مكة. انتهى. وتقييده بميقات بلده ليس بشرط، وسأنقل بعد ذلك في آخر المسألة من كلامه ما يوضحه، وكذلك تقييده أيضًا الحج بكونه من مكة، بل لو أحرم به من ميقات بلده كان متمتعًا أيضًا غير أنه لا يلزمه الدم. وعبارة "الروضة" في هذه المسألة كعبارة الرافعي. قوله: وإنما يجب الدم على المتمتع بشروط: أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام. ثم قال: وحاضروا المسجد الحرام من مسكنه دون مسافة القصر. وهذه المسافة هل تعتبر من نفس مكة أو من الحرم؟ فيه وجهان حكاهما إبراهيم المروزي. والثاني: هو الدائر في عبارات أصحابنا العراقيين. انتهى. وهو يقتضي رجحان الثاني، وصرح بترجيحه أيضًا في "الشرح الصغير"

فقال إنه أشبه الوجهين. ثم إنه في "المحرر" خالف ما ذكره في "الشرحين" فقال: إنما يجب على المتمتع إذا لم يكن من حاضري "المسجد الحرام" وهو من بعد مسكنه عن مكة فوق مسافة القصر. هذا لفظه. والفتوى على ما في "المحرر" فقد نقله صاحب "التقريب" عن نص الشافعي فقال: حاضر المسجد الحرام عند الشافعي من بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة. نص عليه في "الإملاء"، وأيده الشافعي بأن اعتبار ذلك من الحرم يؤدي إلى إدخال البعيد عن مكة وإخراج القريب لاختلاف المواقيت. هذا كلام "التقريب" ومنه نقلت. واعلم أن "المحرر" مخالف "للشرحين" من وجه آخر وهو جعله من كان على مسافة القصر من الحاضرين. وقد غير النووي في "المنهاج" عبارة "المحرر" فقال: وحاضروه من دون مرحلتين من مثله، ثم استدرك عليه في اعتبار المسافة من مكة وقال: إن الأصح اعتبارها من الحرم؛ فاندفعت عنه المخالفة الأولى، لكنه يوهم أن الرافعي جعل من كان على مسافة القصر من الحاضرين، وذكر المسألة في "شرح المهذب" كما ذكرها في "المنهاج". وهاهنا سؤالان: أحدها: أن القادر على المشي يلزمه الحج إذا كان على مسافة لا يقصر فيها الصلاة، والمذكور في "الشرحين" و"الروضة" أن هذه المسافة تعتبر من مكة لا من الحرم، وهو عكس ما تقدم، ويمكن الفرق بأن الحج مضاف إلى البيت فاعتبر بخلاف المسجد الحرام في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ

حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) فإنه جميع الحرم، وفي الفرق نظر. الثاني: وقد أورده النووي في "نكت التنبيه" فقال: جعلوا مكة وما جاورها من الأمكنة التي أهلها معدودون من حاضري المسجد الحرام كالشئ الواحد حتى لا يجب على المتمتع الدم عند عدم عوده إلى الميقات، ولم يجعلوا ذلك كالشئ الواحد فيما إذا جاوزه المريد النسك غير محرم بل أوجبوا عليه الدم إذا لم يعد، ولو جعلوه شيئًا واحدًا لكان يحرم من أيها شاء كما يحرم من أي بقاع مكة شاء مع أن الدم في كل من المسألتين وجب لقول الإحرام من الميقات. قوله: فلو كان له مسكنان أحدهما في حد القرب من الحرم والثاني في حد البعد منه، فإن كانت إقامته في أحدها أكثر فالحكم له، فإن استويا نظر إلى أهله وماله؛ فإن اختص بأحدهما أو كان في أحدهما أكثر فالحكم له، فإن استويا فالحكم للذي خرج منه. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن مراده بالعزم على الرجوع هو الإقامة فإن صاحب "البيان" قد نقل هذا الحكم جميعه عن الشافعي، وعبر بما ذكرته لك وهو الإقامة. الثاني: أنه ساكت عما لو استوت إقامته فيهما ولكن كان أهله في أحدهما، وأما الآخر قد ذكره الطبري شارح "التنبيه" فقال: الذي تبين لي أن النظر إلى مكان الأهل. الثالث: أن المراد بالأهل هم، الزوجة والأولاد الذين تحت حجره، ومن عداهم كالآباء والأخوة فلا ترجيح لهم نبه عليه الطبري أيضًا وهو صحيح. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (196).

قوله: وذكر حجة الإسلام في هذا الشرط صورة هي من مواضع التوقف ولم أجدها لغيره بعد البحث وهي أنه يقال: والآفاقي إذا جاوز الميقات غير مريد نسكًا فلما دخل مكة اعتمر ثم حج لم يكن متمتعًا إذ صار من الحاضرين إذ ليس يشترط فيه قصد الإقامة، وهذه الصورة متعلقة أولا بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزم الإحرام بحج أو عمرة أم لا. ثم ما ذكره من عدم اشتراط الإقامة ما ينازع فيه كلام عامة الأصحاب ونقلهم عن نصه في "الإملاء" والقديم فإنه ظاهر في اعتبار الإقامة بل في اعتبار الاستيطان. وفي "النهاية" و"الوسيط" حكاية وجهين في صورة تداني هذه وهي أنه لو جاوز الغريب الميقات؛ وهو لا يريد نسكًا ولا دخول الحرم ثم بدا له قريبًا من مكة أن يعتمر فاعتمر منه وحج بعدها على صورة التمتع هل يلزمه الدم؟ أحد الوجهين: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يلتزم الإحرام وهو على مسافة بعيدة وحين خطر له ذلك كان على مسافة الحاضرين. وأصحهما: يلزمه لأنه وجد صورة التمتع وهو غير معدود من الحاضرين. انتهى كلامه. زاد النووي على هذا في "الروضة" فقال: المختار في صورة الغزالي أولًا أنه متمتع وليس بحاضر بل يلزمه الدم. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن التصحيح المذكور في مسألة الوجهين اللذين حكاهما الرافعي عن الغزالي هو للرافعي لا الغزالي. الأمر الثاني: أن ما ذكره الغزالي قد سبقه إليه الماوردي ومنه أخذ

الغزالي على كثير من عادته؛ فإن استمداد "الوسيط" من كتب أوضحناها في الخطبة منها "الحاوي". الثالث: أن ترجيح النووي وجوب الدم نفي مسألة الغزالي مع تسليمة للرافعي ما صححه في المسألة الثانية من عدم الوجوب لا يجتمعان، وقد أوضحه صاحب "الذخائر" فقال: الوجهان جاريان في المسألتين؛ إذ لا فرق بين مكة وما دون مسافة القصر في تناول اسم الحاضر؛ ولهذا يستوي المستوطن بها وبما دون مسافة القصر منها في التمتع وفي كل حكم لحاضر المسجد فكذلك من كان فيها غير مستوطن وفي ما دون مسافة القصر منها. وقد سوى بينهما أيضًا الطبري شارح "التنبيه" وقال: قياس المذهب عدم الوجوب واستدل بنحو ما سبق. قال: لكن الوجه في من أحرم قريبًا من مكة أنه متمتع قولًا واحدًا لأن حكم السفر منسحب عليه بدليل جواز القصر، ولو ألحق بأهل ذلك الموضع لامتنع القصر. وكذلك إذا دخل مكة ولم تحصل إقامة متتابعة من الترخيص. الأمر الرابع: أن ما ذكره الرافعي من أن حضور المسجد الحرام الذي هو مسقط لدم التمتع والقران شرطه الاستيطان قد ذكر بعد ذلك بنحو ثلاثة أوراق ما يخالفه فقال ما نصه: ووراءه شرطان: أحدهما: أن يحرم بالعمرة من الميقات، فلو جاوزه مريدًا للنسك ثم أحرم بها فالمنقول عن نصه أنه ليس عليه دم التمتع لكن يلزمه دم الإساءة. وقد أخذ بإطلاقه آخذون، وقال الأكثرون: هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، فإن بقيت مسافة القصر فعليه الدمان معًا. انتهى كلامه. وهو في غاية التباين لأنه ليس بين هذه وبين المتقدمة التي صحح

فيها وجوب الدم فرق، إلا أن هذه الصورة قد جاوز الميقات فيها مريدًا للنسك ثم أحرم وقد حكم بأنه لا دم عليه فيها مع عصيانه لصيرورته من حاضر المسجد الحرام. وزاد فنقله عن الأصحاب. والنص وتلك لا عصيان فيها، وقد صحح فيها وجوب الدم، ويخالف أيضًا ما صححه النووي من "زياداته" في مسألة الغزالي. وقد وقع الموضعان هكذا أيضًا في "شرح المهذب"، وذكر في "الشرح الصغير" الموضع الأول ولم يذكر الثاني. الأمر الخامس: أن ما ادعاه من أن ما نقلوه عن الشافعي ظاهر في اعتبار الإقامة بل في اعتبار الاستيطان عجيب فقد نص على الاستيطان نصًا صريحًا كما نقله عنه في "التقريب" فقال: قال الشافعي في "الإملاء": ومن كان متمتعًا ينوي في سفرة إيطان مكة فعليه دم المتعة لا يسقط عنه الدم حتى يكون متوطنًا قبل العمرة لا أن يكون متوطنًا بالنية حتى معها فعل. هذا لفظه بحروفه. ثم نقل عن حرملة نحوه أيضًا. قوله: وهل يجب على المكي إذا قرن أثناء الإحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة أم يجوز أن يحرم من جوف مكة إدراجًا للعمرة تحت الحج؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني. ويجريان في الآفاقي إذا كان بمكة وأراد القران. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية الوجهين قد تبعه عليه في "الروضة"، واقتضى كلامه قوة الخلاف فإنه عبر بالأصح، وتقوية هذا الخلاف مردودة لأن المعتبر في العمرة أن يجمع فيها بين الحل والحرم، وهذا المعنى موجود في القران لأن الوقوف بعرفة لابد منه وعرفة من الحل فيكون ذلك نظير ما إذا أحرم

بالعمرة من مكة ثم خرج إلى أدنى الحل قبل الطواف فإنه لا دم عليه ولا إساءة إلا على وجه شاط جدًا. والأصح المعروف: القطع بخلاف، كما ذكره الرافعي قبل هذا فراجعه وراجع "الروضة" يظهر لك. قوله: وفي اشتراط نية التمتع وجهان: أصحهما: أنه لا تشترط نية القران، فإن شرطناها ففي وقتها أوجه مأخوذة من الخلاف في نية الجمع بين الصلاتين. أحدها: حالة الإحرام بالعمرة. والثاني: ما لم يفرغ منها. والثالث: ما لم يفرغ من الحج. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من عدم اشتراط نية القران قد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير"، وتابعه النووي في "الروضة" عليه. ولقائل أن يقول كيف يعقل عدم اشتراطها؟ لأنه إذا نوى أحدهما لا يصير قارنًا وإن نواهما صار قارنًا ولا معنى لنية القران إلا ذلك؛ ويؤيده أن القاضي حسين في "تعليقه" استدل على وجوب نية التمتع بوجوب القران. والجواب أن المراد بنية التمتع هو قصد أن الحج في ذلك العام وذلك قصد يكون عند الإحرام بالعمرة أو بعدها على الخلاف المتقدم. ونظير التمتع بل القران أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف وإذا فعل ذلك فإنه يصير قارنًا وإن لم ينو القران حين الإحرام بالعمرة، فتلخص أن هذه الصورة لا تجب فيها نية القران والتمتع أشبه بها

من الصورة الأخرى فليحمل كلام الرافعي ومن تبعه عليها. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من كون الخلاف مأخوذًا من الخلاف في جمع الصلاتين يقتضي أن الأصح هو الوجه الثاني، وهو: ما لم يفرغ، وبه صرح في "شرح المهذب" وذكر في "الروضة" هذه الأوجه بدون هذا التخريج فلزم خلوها من معرفة الراجح. قوله: ووراء الشروط المذكورة في الكتاب شرطان: أحدهما: أن يحرم بالعمرة من الميقات فلو جاوزها مريدًا للنسك ثم أحرم بها فالمنقول عن نصه أنه ليس عليه دم ولكنه يلزمه دم الإساءة وقد أخذ بإطلاقه آخذون. وقال الأكثرون: هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكة مسافة القصر، فإن بقيت مسافة القصر فعليه الدمان معًا. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمران: أحدهما: أن المعنى فيما قاله الأكثرون من عدم وجوب دم التمتع أنه صار من حاضري المسجد الحرام. إذا علمت ذلك فاعلم أن اعتبار هذه المسافة من مكة وجه مرجوح، بل الصحيح عنده وعند النووي اعتبارها من الحرم كما ذكره الرافعي قبل ذلك وتقدم ما فيه. الثاني: أن هذا النص الذي نقله الرافعي إنما هو نصه تفي القديم. كذا ذكره صاحب "التقريب" و"التهذيب" فاعلمه. قوله: والثاني حكى عن ابن خيران اشتراط وقوع النسكين في شهر واحد وأباه عامة الأصحاب. انتهى وهذا الذي ذهب إليه ابن خيران ونوزع فيه، وقد أشار إليه الشافعي في رواية حرملة. كذا رأيته في "العمد" للفوراني.

قوله: واعلم أن الشروط المذكورة معتبرة في لزوم الدم لا محالة. وهل هي معتبرة في تسميته متمتعًا؟ فيه وجهان: الأشهر: لا. انتهى ملخصًا. وما صححه هنا قد جزم بخلافه قبيل الكلام في المواقيت وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجهًا إلى منى؛ لما روي عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج" (¬1). انتهى كلامه. والذي جزم به هاهنا من كونه يتوجه إلى منى بعد الزوال قد ذكر ما يخالفه في باب دخول مكة في أوائل الفصل المعقود للوقوف فقال. المشهور استحباب الخروج بعد صلاة الصبح بحيث يصلون الظهر بمنى، ووقع هذا الاختلاف في "الروضة" أيضًا، والفتوى على ما قاله هناك لتصريحه بأنه المشهور ولهذا اقتصر عليه في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "شرح المهذب". الحديث المذكور رواه مسلم في صحيحه، ولفظه: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى وأهلوا بالحج". فإن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. ثم قال: فإذا تأخرت الثلاثة عن أيام التشريق صارت فائتة لا محالة وإن صدقه عليه أنه في الحج لتأخر طواف الركن لأن تأخره عن أيام التشريق مما ينذر فلا يقع مرادًا من قوله تعالى "ثلاثة أيام في الحج" (¬2)، بل هو محمول على الغالب، كذا حكاه الإمام وغيره، وفي "التهذيب" وجه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1218). (¬2) سورة البقرة (196).

ضعيف ينازع في ذلك. انتهى كلامه. وما أشعر به كلامه من عدم الخلاف لا على الوجه الذي في "التهذيب" في تأخر الطواف قد تابعه عليه في "الروضة"، وصرح بأنه لا خلاف فيه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك فقد حكى صاحب "التقريب" وهو ابن القفال مع هذا الوجه وجهًا آخر أنه لا يفوت ما دام في مكة فقال: وفيه وجه آخر أنهم يصومون في الحج بعد أيام التشريق ويؤخرون طواف الإقامة. وفيه وجه ثالث وهو: أنهم ما لم ينفروا ففي بقية من الحج كان طواف الوداع به يختم. وهذا لفظه بحروفه، ومن "التقريب" نقلت. وإذا جعلنا الحلق ركنًا فيأتي فيه ما سبق في طواف الإفاضة. قوله: وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة والسبعة؟ فيه قولان في رواية الحناطي والشيخ أبي محمد، ووجهان في رواية غيرهما. انتهى. وقد اختلف كلامه في الأصح من هاتين الروايتين فصحح في "الشرح الصغير" أن الخلاف وجهان فقال ما نصه: فيه وجهان، وقيل: قولان، وجزم في "المحرر" بأنه قولان وصححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ففي سقوطه قولان: أصحهما على ما قاله ابن الصباغ وصاحب "التهذيب": أنه يسقط كصوم رمضان. والثاني: لا بل يهدي عنه لأن الصوم قد وجب بالشروع في الحج فلا يسقط من غير بدل، وهذا يتصور بما إذا لم يجد الهدي في موضعه وله ببلده مال وفي ما إذا كان يباع بثمن غال. انتهى فيه أمور:

أحدها: أن المراد بالغلو هنا هو البيع بزيادة على ثمن المثل. فتفطن له؛ فإن الغلو يطلق مرة لهذا ومرة وهو الأغلب على ارتفاع القيم لقلة الأشياء. وقد صرح الرافعي بذلك في أوائل الحج في الكلام على الزاد والماء فقال: وإن وجدها بثمن المثل لزم التحصيل سواء كانت الأسعار رخيصة أو غالية. هذا كلامه، وقد أحسن في "شرح المهذب" فلم يعبر بالغلو بل بالزيادة على ثمن المثل، وإن كان في "الروضة" قد وافق الرافعي على التعبير بالغلو وأطلق في الكتابين تصحيح السقوط، وقد صححه أيضًا الشاشي. الأمر الثاني: أن الصورة الثانية محلها: ما إذا زال الغلو وتركه الرافعي لوضوحه. الأمر الثالث: أن هذه المسألة تتصور أيضًا بما إذا كان له مال يحتاج إليه من ثياب وعبد ودار ونحو ذلك فإن الاحتياج يزول بالموت. قوله: فإن فسرنا الرجوع في الآية بالرجوع إلى الوطن -وهو الصحيح على ما سبق- فلا يمكن صوم السبعة قبله. وإن قلنا: الفراغ من الحج، فلا يمكن أيضًا قبله. ثم دوام السفر عذر على ما قاله الإمام بل قد سبق أنه يستحب التأخير إلى أن يصل إلى الوطن في أصح القولين للخروج من الخروج. وقد نقل عن القاضي الحسين أنا إذا قلنا بالاستحباب فمات في الطريق فهل تجب الفدية؟ فيه وجهان يخرجا من الوجهين فيما إذا ظفر بالمساكين ولم يدفع الزكاة إليهم ليدفعها إلى الإمام فتلف المال هل يضمن أم لا؟ انتهى. ومقتضى هذا التخريج وجوب الفدية على الصحيح على خلاف ما يحاوله الإمام لأن الصحيح في الزكاة هو الضمان وإيجاب الفدية مشكل؛ فإن السفر عذر في صوم رمضان والنذر فكذلك هنا، وقد حذف النووي من "الروضة" هذا التشبيه المقتضى للترجيح.

الباب الثاني: في أعمال الحج

الباب الثاني: في أعمال الحج فيه أحد عشر فصلًا: الفصل الأول: في الإحرام قوله: وإذا أحرم في أشهر الحج إحرامًا مطلقًا فله أن يصرفه إلى ما شاء من الحج والعمرة والقران. انتهى. وما ذكره من الصرف إلى الثلاثة قد تبعه عليه في "الروضة"، وهو واضح إذا كان وقت الحج باقيًا ومتسعًا، فإن انقضى فقد قال القاضي الحسين على ما نقله عنه في "الكفاية": يحتمل أن يقال: لا، بل يتعين كونه عمرة، ويحتمل بقاؤه على التخيير، حتى إذا عينه للحج يكون كمن فاته. وذكر الروياني المسألة وعبر بقوله: صرفه إلى العمرة، وهو موافق للاحتمال الأول ويوهم الاحتياج إلى الصرف. وأما إذا لم ينقض ولكنه ضاق فالمتجه -وهو مقتضى إطلاق الرافعي- لزمه صرفه إلى ما شاء ويكون كمن أحرم الحج في تلك الحالة. قوله: والتعيين بالنية ولا يجزئ العمل قبله. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق عدم الإجزاء قبله، لكن في "البيان" أنه لو طاف ثم صرفه للحج وقع طوافه عن القدوم. وذكر مثله الحضرمي في "شرح المهذب" مع أن طواف القدوم من سنن الحج وقد فعل قبل التعيين. قوله: ولو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج في أشهره فوجهان:

أحدهما: لا يصح، واختاره الشيخ أبو علي وحكاه عن عامة الأصحاب. والثاني: يصح، واختاره القفال، وبه أجاب صاحب الشامل وغيره. انتهى. والأصح هو الصحة. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" وموضع المسألة فيها هو أول الباب الذي قبل هذا. قوله: قال في الإملاء: إطلاق الإحرام أفضل؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم مطلقًا وانتظر الوحي. وقال في "الأم": والأصح أن التعيين أفضل؛ لما روي عن جابر أنه قال: قدمنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نقول: لبيك بالحج (¬1). وعلى هذا فهل يستحب التلفظ بما عينه؟ فيه وجهان: أصحهما -وهو المنصوص- لا، بل يقتصر على النية لأن إخفاء العبادة أفضل. والثاني: نعم؛ لخبر جابر، ولأنه يكون أبعد عن النسيان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الخلاف في التلفظ بالمعين محله في التلبية كما صرح به الأصحاب كلهم. وأما التلفظ به في النية فمحتسب قطعًا لأنه من جملة النية، وقد قال الأصحاب إنه يستحب التلفظ بالنية هنا كما في سائر العبادات، وذكر في "الروضة" أيضًا؛ ولهذا قيد كلام الرافعي بما ذكرناه وأدخله في كلام الرافعي. الثاني: أن ما ذكره من تصحيح عدم الاستحباب قد تابعه عليه النووي في "الروضة". ¬

_ (¬1) تقدم.

وقال ابن الصلاح: إن محل هذا الخلاف فيما عدا التلبية الأولى، فأما الأولى -وهي التي عند الإحرام- فيستحب أن يسمى فيها ما أحرم به من حج أو عمرة بلا خلاف، وذكر مثله النووي في كتاب "الأذكار"، ونقل في "المناسك" و"شرح المهذب" هذا التقييد عن الشيخ أبي محمد ولم يصرح فيهما بموافقة ولا مخالفة، لكن رأيت في "التقريب" عن نص الشافعي في "الإملاء" وغيره أنه لا يستحب التعيين في التلبية الأولى أيضًا؛ فثبت أن الصواب هو الإطلاق فاعلمه. ونقل النووي عن الشيخ أبي محمد أيضًا أنه لا يجهر بهذه التلبية بل يسمعها نفسه بخلاف ما بعدها فإن ظهر بما، ولو عقد إحرامه بالنية والتلبية لم يبعد القطع باستحباب ما ذكره مما نواه فيها. قاله الطبري في "شرح التنبيه" وهو حسن. الأمر الثاني: أن تعليله بإخفاء العبادة الواجبة أفضل، وينبغي التفرقة. وحديث الإطلاق رواه الشافعي في "مختصر المزني" وقال: إنه حديث ثابت، وحديث جابر في الإحرام بالحج ثابت في الصحيحين. قوله: ولو أحرم كإحرام زيد وكان إحرام زيد فاسدًا: هل ينعقد إحرامه مطلقًا أم لا ينعقد أصلًا؟ فيه وجهان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو الانعقاد، كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". الثاني: أن النووي قد ذكر بعد هذه المسألة بقليل أنه إذا لم يكن زيد محرمًا أصلًا فينظر إن كان عمرو جاهلًا به انعقد إحرامه مطلقًا لأنه جزم بالإحرام، وإن كان عالمًا بأنه غير محرم بأن علم موته فطريقان: المذهب

الذي قطع به الجمهور: أنه ينعقد إحرام عمرو مطلقًا، والثاني: على وجهين: أصحهما: هذا، والثاني: لا ينعقد أصلًا. انتهى. وذكر الرافعي نحوه أيضًا، وإذا علمت ما قيل في هذه المسألة علمت أن صورة مسألتنا أن يكون المعلق عالمًا بالفساد، فإن جهل انعقد مطلقًا كما قيد بما إذا لم يكن زيد محرمًا. ثم إنهم جزموا في المسألة الأولى بطريقة الوجهين وصححوا في الثانية طريقة القطع فما الفرق بينهما؟ قوله: ولو أخبره زيد عما أحرم به ووقع في نفسه خلافه فهل يعمل بما أخبر عنه أم بما وقع في نفسه؟ فيه وجهان. انتهى. قال في "شرح المهذب": أقيس الوجهين وجوب العمل بخبره، وقال في "زيادات الروضة": إنه الأصح. قوله: ولو أخبره أنه أحرم بالعمرة ثم بان أنه بالحج فقد بان أن إحرام عمرو بالحج أيضًا. فإن فات الوقت تحلل أو أراق دمًا؟ وهل هو في ماله أو في مال زيد للتغرير؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح وجوبه في ماله. كذا قاله النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وإذا أحرم بنسك معين من النسكين ثم نسيه فقولان: القديم: أنه يتحرى ويعمل. ثم قال ما نصه: والجديد: أنه لا يتحرى؛ لأنه تلبس بالإحرام يقينًا فلا يتحلل إلا إذا أتى بأعمال المشروع فيه فالطريق أن يقرب ويأتي بأعمال

النسكين وهذا كما لو شك في صلاته في عدد الركعات يبني على اليقين لتحقق الخروج عما شرع فيه. انتهى. وهذا الكلام كله فيه إشعار ظاهر بأن الرافعي يقول بوجوب نية القران بل لا يتوقف متوقف في اقتضاء كلامه. إذا علمت ذلك فقد صرح -أعني الرافعي- بعد هذا بنحو أربعة أوراث بعدم وجوب فقال في الكلام على رقم لفظ "الوجيز" ما نصه: لك هذا الإعلام إنما يحسن إن ألزمناه جعل نفسه قارنًا وهو غير لازم، وقد أوضح إمام الحرمين ذلك فقال: ولم يذكر الشافعي القران على معنى أنه لابد منه ولكن ذكره ليستفيد به الشاك التحلل مع براءة الذمة على النسكين. . إلى آخر ما قال. وتابعه النووي في "الروضة" على الموضعين، وجزم في "شرح المهذب" بعدم الوجوب وقال: إنه لا خلاف فيه بل الذي يجب إنما هو نية الحج. والذي قاله غريب مع تقدم الموضع له، ولأنه قد صرح جماعة كثيرة بوجوب ذلك منهم صاحب "التقريب". وقال ابن الرفعة في "الكفاية" بعد نقله ذلك عنهما: إنه المفهوم من كلام الأصحاب. قال: وخالف فيه الإمام ونقله في "المهذب" عن نصه في "الأم"، ونقله أيضًا البندنيجي والروياني عن نصه في "الأم" و"الإملاء"، وصرح به أيضًا الشيخ أبو محمد في كتاب "السلسلة" فقال: مسألة إذا شك في إحرامه وكلفناه القران على المذهب الجديد. هذا لفظه. والغريب أن النووي قد جزم به أيضًا في "الشرح" المذكور قبل الموضع الذي ادعى فيه أنه لا يجب بلا خلاف بنحو ورقتين فقال نصه: أصح الطريقين - وبه قطع الجمهور - أن

المسألة على قولين: القديم: جواز التحري ويعمل بظنه، والجديد: لا يجوز التحري بل يتعين أن يصير نفسه قارنًا. هذا لفظه بحروفه. فتلخص أن الفتوى على القول بالوجوب كما دل عليه كلام الرافعي في الموضع الأول ترجيحًا لنص الشافعي، والظاهر أن الرافعي رأى الإمام بعد ذلك جازمًا بعدمه فجزم به ثانيًا تبعًا له غير مستحضر ما قدمه، وتبعه أيضًا النووي عليه في "الروضة" و"شرح المهذب". واعلم أن هذا الشاك إذا نوى القران فلا يبرأ إلا عن الحج فقط ولا يبرأ عن العمرة كما ستعرفه؛ وحينئذ فلا يصح ما قالوه من إيجاب نية القران بل يكفيه أن ينوي الحج ويأتي بأعماله وحينئذ فتبرأ ذمته فاعلم ذلك. بل ولا يتجه أيضًا ما قدمناه عن النووي من إيجاب نية الحج بل الواجب وهو مقتضى كلام الرافعي أن يأتي بأعماله؛ لأنه إن كان محرمًا به فواضح، وإن كان محرمًا بالعمرة فقد أتى بها وبزيادة؛ ولهذا لم يصرح الرافعي في الموضع الثاني النافي لوجوب نية القران بوجوب نية الحج فاعلمه. قوله: فإن قلنا بالقديم فما غلب على ظنه أنه الذي شرع فيه مضى فيه وأجزأه. ثم قال: وفي "شرح الفروع" ذكر وجه ضعيف أنه لا يجزئه، وفائدة التحري الخلاص من الإحرام. انتهى. تابعه النووي على حكاية هذا الوجه كذلك وهو غير منقول عن وجهه فإنه مخصوص بما إذا ظن القران، أما إذا ظن الحج أو العمرة فإنه يجزئه. كذا نقله في "النهاية" عن الشرح المذكور. قوله: وإن قلنا بالجديد فنوى القران فكان الشك قد عرض قبل الإتيان بشيء من الأعمال برئت ذمته عن الحج، وأما العمرة فإن جوزنا إدخالها على

الحج فكذلك أيضًا، فإن منعنا فوجهان: أصحهما: أنه مما يجزئه؛ ثم قال: ويحكي عن أبي إسحاق أنها تجزئه ويجعل الاشتباه عذرًا في جواز الإدخال. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه ليس كما حكاه عن أبي إسحاق من الجزم بذلك فقد رأيت في "المجموع" للمحاملي ما نصه: قال أبو إسحاق: ويحتمل وجهين: أحدهما: لا يجزئه لأن هذا مصرور للإدخال بسبب القران. الثاني: أن الكلام الذي قدمناه أن الرافعي حكاه عن الإمام وجعله إيضاحًا لكلامه الذي جزم به صرح في براءة الذمة من العمرة على عكس ما صححه هاهنا. قوله في أصل "الروضة": فإن حصل الشك بعد الطواف وقبل الوقوف فنوى القران وأتى بأعمال القارن لم يجزءه الحج لاحتمال أنه كان محرمًا بالعمرة فيمتنع إدخال الحج عليها بعد الطواف. وأما العمرة فإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الطواف، أجزأته وإلا فلا، وهو المذهب. وذكر ابن الحداد في هذه الحالة أنه يتم أعمال العمرة بأن يصلي ركعتي الطواف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يحرم بالحج ويأتي بأعماله، فإذا فعل هذا صح حجه؛ لأنه إن كان محرمًا بالحج لم يضر تجديد إحرامه، وإن كان بالعمرة فقد يمنع ولا تصح عمرته لاحتمال أنه كان محرمًا بالحج ولم تدخل العمرة عليه إذا لم ينو القران. قال الشيخ أبو زيد وصاحب "التقريب" والأكثرون: إن فعل فالجواب ما ذكره، لكن لو استفتانا لم نفته به، لاحتمال أنه كان محرمًا بالحج وأن هذا

الحلق يقع في غير أوانه؛ وهذا كما لو ابتلعت دجاجة إنسان جوهرة لغيره لا نفتي صاحب الجوهرة بذبحها وأخذ الجوهرة، فلو ذبحها لم يلزمه إلا قدر التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة. هذا أو تقاتلت دابتان لشخصين على شاهق وتعذر مرورهما لا نفتي أحدهما بإهلاك دابة الآخر لكن لو فعل خلص دابته ولزمه قيمة دابة صاحبه. واختار الغزالي قول ابن الحداد، ووجهه الشيخ أبو علي بأن الحلق في غير وقته يباح بالعذر لمن به أذى. انتهى كلامه. وما نقله في "الروضة" تبعًا للرافعي عن الأكثرين من عدم الإفتاء به وارتضاه قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: ذهب ابن الحداد إلى أنا نفتيه بذلك وقال القاضي أبو الطيب الطبري وصاحب "الشامل" وآخرون ورجحه الغزالي وهو الأصح. هذا كلامه. قوله: الثاني: إذا أفسد العمرة بالجماع ثم أدخل عليها الحج فهل يصير محرمًا بالحج؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الإحرام الفاسد في حكم المنحل فلا يصح الإدخال كما بعد الطواف. والثاني: نعم، وإليه ميل الأكثرين، ولا أثر لكونها فاسدة كما لا أثر لاقتران المفسد بالإحرام؛ فعلى هذا يكون الحج صحيحًا محرمًا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن المفسد متقدم عليه فلا يؤثر فيه. وأصحهما: لا؛ لأن الإحرام واحد وهو فاسد ومحال أن يؤدي بالإحرام نسك صحيح؛ فعلى هذا ينعقد فاسدًا أو صحيحًا ثم يفسد؟ فيه وجهان: ذكروا نظيريهما فيما إذا أصبح في رمضان مجامعًا وطلع الفجر واستدام أحدهما أنه ينعقد

صحيحًا ثم يفسد لأنه لم يوجد بعد انعقاده مفسدًا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره هاهنا من أن إحرام المجامع ينعقد ثم يفسد قد تابعه عليه في "الروضة" ثم خالفه في باب محرمات الإحرام فصحح من "زياداته" عدم الانعقاد، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أن مقابل هذا في الصوم إنما هو عدم الانعقاد بالكلية لا انعقاده فاسدًا كما يقتضيه كلامه هاهنا حيث شبهه بالحج فإن الفاسد في الصوم غير منعقد بخلاف الحج، وقد سبقت المسألة واضحة في كتاب الصوم قبيل الكلام على الشرائط. الثالث: أن هذا الخلاف المذكور في الصوم لم يذكره الرافعي إلا في هذا الموضع وقد حذفه النووي هنا فلم يذكره في "الروضة" فلزم خلوها عنه، وقد سبق ذكرى له في بابه مستوفي.

الفصل الثاني: في سنن الإحرام

الفصل الثاني: في سنن الإحرام قوله: ويستحب الغسل للإحرام، ويستوي في استحبابه الرجل والصبي والمرأة وإن كانت حائضًا أو نفساء، وقد روي أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر نفست بذي الحليفة فأمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تغتسل للإحرام (¬1) انتهى. عميس: بعين مهملة مضمومة وميم مفتوحة ثم ياء بنقطتين من تحت بعدها سين مهملة أيضًا؛ والعمس: أنك تظهر أنك لا تعرف الأمر وأنت عارف به. قاله الجوهري. والحديث المذكور رواه مسلم. ومقتضى إطلاق الرافعي استحباب الغسل للمجنون والصبي غير المميز، وهو صحيح. قوله: فإن لم يجد الماء أو لم يقدر على استعماله يتيمم؛ لأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب فعن المندوب أولى. نص عليه في "الأم". وقد ذكرنا في غسل الجمعة أن الإمام ذكر احتمالًا في أنه لا يتيمم إذا لم يجد الماء وجعله صاحب الكتاب وجهًا واختاره، وذلك الاحتمال عائد هاهنا بلا شك. انتهى كلامه. وليس جريانه بلازم فقد يفرق بينهما بأن استعمال التراب هاهنا لا ينافي حال المسافر لأن الغالب في حقه الشعث ولو وجد الماء واغتسل لا ينزع الشعث إليه فلم يكن حالة منافيًا له، بخلاف مصلى الجمعة. وفرق ابن الرفعة بأن الغسل هنا مخالف لغيره بدليل صحته من الحائض والنفساء. ¬

_ (¬1) تقدم.

وقوله. فإذا وجد ما لا يكفيه للغسل توضأ. قاله في "التهذيب". انتهى. استدرك النووي في "الروضة" عليه فقال: هذا الذي قاله في "التهذيب" قاله أيضًا المحاملي، فإن أراد أنه يتوضأ ثم يتيمم فحسن، وإن أراد الاقتصار على الوضوء فليس بجيد؛ لأن المطلوب هو الغسل فالتيمم يقوم مقامه دون الوضوء. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد نص عليها الشافعي وصرح بما قالاه من الاستحباب وذكر ما حاصله الاقتصار على الوضوء على خلاف ما ذكره النووي بحثًا. والعجب أن الذي نقل هذه المسألة عنه وهو المحاملي قد نقل هذا النص فقال في "المجموع": قال الشافعي: فإن لم يجد ما يكفيه للغسل توضأ، فإن لم يجد ماء بحال تيمم فيقوم ذلك مقام الغسل والوضوء. انتهى. وقد ذكر الماوردي المسألة كما نقلها المحاملي عن النص. قوله: ويسن الغسل للحاج في مواطن: أحدها: عند الإحرام كما سبق. والثاني: لدخول مكة؛ روى ذلك عن فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن المعتمر يسن له أيضًا الغسل عند هاتين الحالتين بلا نزاع، وإنما عبر بالحاج لأجل ما ذكر بعده من الرمي وغيره. نعم: لو خرج من مكة فأحرم بالعمرة واغتسل لإحرامه ثم أراد دخول مكة، قال الماوردي: إن كان أحرم من مكان بعيد كالجعرانة والحديبية استحب الغسل للدخول، وإن أحرم من التنعيم فلا. قال ابن الرفعة: ويظهر أن يقال بمثل ذلك في الحج إذا أحرم به من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1498) ومسلم (1259) من حديث ابن عمر.

التنعيم ونحوه لكونه لم يخطر له إلا ذلك. الثاني: أن كلام الرافعي وغيره يوهم عدم استحباب الغسل لمن دخل مكة محرم وليس كذلك فقد قال الشافعي في باب الغسل لدخول مكة: وإذا اغتسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح لدخول مكة وهو حلال يصيب الطيب فلا أراه -إن شاء الله تعالى- ترك الاغتسال ليدخلها حرامًا لا يصيب الطيب، أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يغتسل لدخول مكة. هذا لفظ الشافعي ومن "الأم" نقلت، وهي مسألة نفيسه قل من تعرض لها. وحديث الغسل لدخول مكة رواه البخاري في صحيحه من رواية ابن عمر. قوله: وزاد في القديم غسلين آخرين: أحدهما: لطواف الإفاضة. والثاني: لطواف الوداع، لأن الناس يجتمعون لهما، ولم يستحبهما في الجديد لأن وقتهما موسع فلا تغلب الزحمة فيه عليها في سائر المواطن، وحكى عن القديم الاستحباب للحلق أيضًا. انتهى. ذكر النووي في "شرح المهذب" في الكلام على الغسل المسنون أيضًا مثل ما قاله هنا حكمًا وتعليلًا، وذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، وحاصله أن الجديد عدم الاستحباب لهذه الأمور الثلاث وهو مقتضى كلام "المنهاج" فإنه لما عد الأغسال المسنونة لم يعد هذه الأمور معها، ثم جزم في "المناسك الكبرى" باستحباب الغسل للأمور الثلاثة، وحكى في "التحقيق" عن القديم استحبابه لطواف الإفاضة ولطواف الوداع وأهمل الحلق، وحكى ابن الرفعة في "الكفاية" القول القديم في طواف القدوم أيضًا. قوله: قال الإمام: ولم يستحب الشافعي الغسل لرمي جمرة العقبة يوم

النحر لأمرين. أحدهما: اتساع وقته؛ فإن وقته من ائتناف ليلة النحر إلى الزوال. والثاني: أن في غسل العيد يوم النحر والوقوف بعرفة غنية عن الغسل لرمي جمرة العقبة لقرب وقتها منه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره أولًا في بيان وقت الرمي من كونه ينتهى إلى الزوال قد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" ولم ينقله عن الإمام بل جزم به، وهو سهو؛ فإن المنقول أنه يمتد إلى الغروب، وقد جزم به الرافعي في موضعه وهو الكلام على أسباب التحلل، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. وأما نقله ذلك عن الإمام فلم أر له ذكرًا في "النهاية" بالكلية، بل رأيت فيها الجزم بأنه يبقى إلى الغروب وحكى مع ذلك وجهين في امتداده إلى الفجر، وفي بعض نسخ الرافعي قال الأئمة عوضًا عن الإمام. الأمر الثاني: أن كلامه يشعر بمشروعية صلاة العيد في يوم نهى لكن قد نص الشافعي على خلافه؛ كذا نقله عنه الماوردي قبيل قوله: مسألة: ثم يركب فيروح إلى الموقف عند الصخرات فقال ما نصه: قال الشافعي: وليس بعرفة ولا منى ولا مزدلفة جمعة ولا صلاة عيد؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في مجيئه يوم عرفة يوم الجمعة فلم يصل الجمعة. هذا كلامه، وذكر في "الروضة" من زياداته في آخر الأضحية نحوه فقال: إن الحاج بمنى لا يخاطب بصلاة العيد. وذكر الرافعي أيضًا في باب صلاة العيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصلها بمنى إلا أن يقال: لا يلزم من مشروعية الغسل في هذا اليوم مشروعية الصلاة إذ الغسل فيه مستحب لكل أحد سواء فيه الحاضر وغيره، وسواء كان من أهل

الصلاة أم لا، لكون اليوم يوم زينة؛ وعلى هذا فيخاطب به من لم يغتسل للوقوف بمزدلفة، فإن اغتسل لها كفى عنها. الأمر الثالث: أن ما ذكره الرافعي من أن غسل الوقوف بعرفة يستغنى به عن العيد سهو ومراده الوقوف بمزدلفة فإنه مستحب كما مر ووقته أقرب منه. قوله: ويستحب أن يتطيب لإحرامه، ولا فرق بين أن يبقى له أثر وجرم بعد الإحرام أو لا يبقى قالت عائشة: "كأنني أنظر وبيص المسك في مفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). انتهى. الوبيص: بواو مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم صاد مهملة: هو البريق واللمعان، يقال: وبص البرق أي: لمع. والحديث المذكور في الصحيحين. قوله: واستحباب التطيب للإحرام إنما هو في البدن، وفي تطييب إزار الإحرام وردائه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن الثوب ينزع ويلبس، وإذا نزعه ثم أعاده كان كما لو استأنف لبس ثوب مطيب. وأصحهما: أنه يجوز. وفي النهاية وجه ثالث أنه إن بقي عينه بعد الإحرام فلا يجوز وإلا فيجوز. انتهى. تابعه النووي عليه في "الروضة"، وفيه أمران: أحدهما: أن حكاية الخلاف في تطييب الإزار والرداء على هذه الكيفية ذكر مثلها في "الشرح الصغير" أيضًا، وحاصله الجزم بعدم الاستحباب وأن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1190) واللفظ له، والبخاري (268) بلفظ: "الطيب" بدل "المسك".

هذه الأوجه إنما هي في الجواز وبه صرح النووي في "شرح المهذب" فقال ما نصه: اتفق أصحابنا على أنه لا يستحب [تطييب] (¬1) ثوبي المحرم عند إرادة الإحرام، وفي جواز تطييبه طريقان: أصحهما وبه قطع المصنف والعراقيون جوازه. والطريق الثاني: طريقة الخراسانيين فيه ثلاثة أوجه: ثالثها: يجوز بما لا يبقى له جرم ولا يجوز بغيره، وحكى المتولي في تطييب الثياب قولين: أحدهما: يستحب. والثاني: يحرم. وهذا الذي ذكره من الاستحباب غريب جدًا. هذا كلامه. إذا علمت ذلك فاعلم أنه قد خالف في "المحرر" فجزم بأن الخلاف في الاستحباب على عكس ما في "الشرحين" فقال: ويستحب تطييب بدنه للإحرام، وكذا ثوبه في أصح الوجهين. هذا لفظه وتابعه عليه النووي في "المنهاج" مع أنه قد بالغ في إنكاره في "شرح المهذب" على المتولي واقتضى كلامه انفراده به. وليس كذلك فقد سبقه إليه شيخه القاضي الحسين في "تعليقه". وإذا قلنا بالجواز فإنه يكون مكروهًا؛ ذكره القاضي أبو الطيب في "التعليق" أيضًا وكذلك الحضرمي في "شرح المهذب". الأمر الثاني: أنا قد استفدنا من كلامه في "شرح المهذب" أن في المسألة طريقة أخرى قاطعة بالجواز وأنها الطريقة الصحيحة، وهذه الطريقة لم يحكها في "الروضة" فضلًا عن تصحيحها بل جزم بالطريقة التي ضعفها وهي طريقة الأوجه، وهو غريب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ويستحب للمرأة أن تخضب بالحناء يديها إلى الكوعين قبل الإحرام. انتهى. احترز بالمرأة عن الرجل؛ فإنه لا يجوز له الخضاب به إلا لضرورة كما قاله في باب العقيقة من الضرورة. وعن الخنثى فإنه يلحق بالرجل كما قاله في الروضة هنا للاحتياط. وفي الكلام على الخضاب فروع سبق الكلام عليها في شروط الصلاة، وفي الكلام في جبر العظم. قوله في أصل الروضة: فرع: فإذا أراد الإحرام نزع المخيط ولبس إزارًا ورداء. انتهى. وهذا الكلام ليس فيه تصريح بأن النزع هل يجب أم لا؟ ، بل هو إلى الاستحباب أقرب؛ فإنه قد عطف عليه ما هو مستحب، وهكذا عبارة "المحرر" و"الشرح الصغير" أيضًا؛ فإنه قال: وينبغي لمن أراد الإحرام أن يتجرد عن مخيط ثيابه ويلبس إزارًا ورداء ونعلين. وقد صرح -أعني النووي- بذلك في مناسك الحج فقال: فصل في آداب الإحرام، وفيه مسائل. ثم قال: الرقعة تجرد عن الملبوس الذي يحرم على المحرم لبسه. انتهى. فجعل وقته الآذان. إذا علمت ذلك فقد جزم الرافعي في "الشرح الكبير" بوجوبه فقال متعقبًا لكلام "الوجيز" ما نصه: وقوله في "الكتاب": السنة أن يتجرد عن المخيط ينبغي أن يعلم فيه أن المعدود من السنن التجرد بالصفة المذكورة، فأما مجرد التجرد فلا يمكن عده من السنن؛ لأن ترك لبس المخيط في الإحرام لازم ومن ضرورة لزومه لزوم التجرد قبل الإحرام.

وكلام الرافعي هذا قد أسقطه النووي جميعه من "الروضة"، وإسقاطه إياه غريب، وجزم بوجوبه أيضًا في "شرح المهذب" فقال ما نصه: وفي أي شيء أحرم جاز إلا الخف ونحوه والمخيط. انتهى. وعبر في "المنهاج" بقوله: ويسن أن تخضب المرأة للإحرام يديها ويتجرد الرجل لإحرامه عن مخيط الثياب ويلبس إزارًا ورداء. هذه عبارته، وهي توهم استحباب التجرد، لكن نقل عن النسخة التي هي بخطه أنها مضبوطة برفع الدال في قوله: ويتجرد حتى يكون مقطوعًا عما قبله، واعلم أن إيجاب نزع الثياب قبل الإحرام مشكل؛ لأن الموجب له هو الإحرام وقبل ذلك لم يحصل سبب الوجوب. ولهذا لو قال لزوجته: إن وطئتك فأنت طالق، لا يمتنع عليه وطؤها على الصحيح، ويجب النزع بمجرد الإيلاج. ثم إن الرافعي قد ذكر في الصيد أنه لا خلاف أنه لا يجب عليه إزالته عن ملكه قبل الإحرام، ووافقه النووي عليه مع أن المدرس في المسألتين واحد، واستشكله أيضًا الطبري شارح "التنبيه" فقال لا أرى أحدًا من الأصحاب يقول ذلك. قوله: ويستحب أن يصلي قبل الإحرام ركعتين، فإن أحرم في وقت فريضة فصلاها أغنته عن ركعتي الإحرام. انتهى. وقد ألحق القاضي الحسين السنة الراتبة في ذلك بالفرض، وتوقف النووي في "شرح المهذب" في إغناء الفرض عن هاتين الركعتين لأنهما سنة مقصودة، وكلامه في "الأم" يشهد له ويدل على الاكتفاء؛ فإنه قال: أحببت له أن يصلي نافلة، فإن أهل في إثر مكتوبة أو في غير إثر صلاة فلا بأس.

قوله: وتستحب التلبية في مسجد مكة وهو المسجد الحرام ومسجد الخيف بمنى ومسجد إبراهيم -عليه السلام- بعرفة؛ فإنها مواضع النسك. وكذا في سائر المساجد على الجديد لإطلاق الأخبار، والقديم: لا يلبي فيها حذرًا من التشويش على المتعبدين، بخلاف المساجد الثلاثة فإن التلبية فيها معهودة. كذا أورده الأكثرون، وهو مقتضى ما في الوضوء أيضًا. وقالوا: إن استحببنا استحببنا رفع الصوت وإلا فلا، وجعل الإمام محل الخلاف في استحباب رفع الصوت، قال: فإن لم يؤثر الرفع في سائر المساجد ففي الرفع من المساجد الثلاثة وجهان. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وفيه أمور: أحدها: أن كلامه نزل على أنه اعتقد أن المراد بإبراهيم في قولهم مسجد إبراهيم هو الخليل -عليه الصلاة والسلام-، وسيأتي بعد هذا في الكلام على الوقوف مثله لاسيما في "الروضة" فإنه قد ذكر لفظ الصلاة عليه والسلام كما هو مذكور في النسخة التي بخط النووي، وهذا الذي قد توهماه خطأ سبقهما إليه ابن سراقة في كتاب "الأعداد" ومن أصل صحيح مسموع بخط بعض أصحابه نقلت، وإنما هو إبراهيم [. . . .] (¬1). الأمر الثاني: أن الشافعي قد نص على أن مسجد إبراهيم ليس من عرفة وقال الأكثرون: عجزه من عرفة وصدره ليس منها ويميز بينهما أحجار. قالوا: وإنما قال الشافعي ذلك لأنه زيد فيه بعده. هكذا ذكره في "الروضة" عند الكلام على الوقوف؛ فقول الرافعي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والنووي هذا بعرفة خطأ على كل تقدير. الأمر الثالث: أن بعض الأصحاب قد ألحق بهذه الثلاثة مسجد الميقات، وحكى الحضرمي شارح "المهذب" عن بعضهم أنه جعل مسجد المشعر الحرام بمزدلفة مكان مسجد منى. والحق إلحاق هذين بالثلاثة المذكورة، وإن كان مراد الرافعي بكونها مواضع النسك أن عرفة موضع للوقوف ومنى موضع المبيت، وهما من النسك، والمسجد الحرام لا يخفى أمره، وهذا المعنى هو ظاهر كلامه. بل إذا كان هذا هو المراد فيكون كل مسجد في مكة ومنى وعرفات حكمه حكم الثلاث المذكورة. ويحتمل أن يريد بالنسك ما يقع في المساجد الثلاث بخصوصها كالطواف في المسجد الحرام والخطبة والصلاة في مسجد إبراهيم، إلا أن مسجد الخيف لا يلحق هذين في ذلك. الأمر الرابع: أن كلامه يقتضي استغراب مقالة الإمام مع أنها مقالة قديمة رأيتها مجزومًا بها في كتاب "التقريب" لابن القفال الشاشي، وذكر مثله أيضًا الماوردي في "الحاوي"، والغزالي في "البسيط" وزاده أيضاحًا. قوله: وهل تستحب التلبية في طواف القدوم والسعي بعده؟ قولان: الجديد: لا يستحب؛ لأن فيها أدعية وأذكار خاصة فصار كطواف الإفاضة والوداع. والقديم: يلبي ولا يجهر بخلاف طواف الإفاضة فإنه هناك شرع في أسباب التحلل فانقطعت التلبية، وهذا التوجيه يعرفك أن قول "الوجيز": وفي حال الطواف قولان، محمول على طواف القدوم وإن كان اللفظ مطلقًا وفي غيره من أنواع الطواف لا يلبي بلا خلاف. انتهى كلامه. فيه

أمران: أحدهما: أن ذكره طواف الوداع هنا سهو فإن الكلام في تلبية المحرم وطواف القدوم والافاضة صادران منه فيصح قياس أحدهما على الآخر، وأما طواف الوداع فصادر من غير محرم لوقوعه بعد التحللين فليس هو مما يجب فيه شيء. نعم: إن أراد طواف الوداع الذي يقع قبل التحلل كما إذا أحرم بالحج ثم أراد الخروج قبل الوقوف إلى الحل لحاجة فطاف للوداع وخرج فلا يسلم أنه لا يأتي فيه القولان لأن علة الامتناع في طواف الإفاضة إنما هي مشروعيته في أسباب التحلل كما تقدم، وهذا المعنى منتف في هذا الطواف فتعين جريان القولين فيه. فالجديد: لا يلبي؛ لأن له أذكار تخصه، والقديم: نعم؛ لكونه محرمًا فلم يشرع في أسباب التحلل. وكذلك أيضًا يجري القولان في الطواف الذي يتنفل به المحرم لما قلناه أيضًا، وقد نبه عليه الطبري شارح "التنبيه" على طواف النفل فقال: الظاهر جريان القولين فيه. الأمر الثاني: أن ما ادعاه من أن كلام "الوجيز" محمول على طواف القدوم خاصة وأنه لا يلبي في ما عداه من الأنواع بلا خلاف غير مسلم لما عرف من أن طواف النفل يجري فيه القولان. وكذلك طواف الوداع الواقع قبل التحلل، فالحاصل أن كلام الغزالي عام في سائر الأنواع وعمومه مستقيم إلا في طواف الإفاضة، وقد أخرجه بعد في الكلام على أسباب التحلل، وقد عبر النووي في "الروضة" بعبارة دفعت الاعتراض الثاني.

قوله: ويستحب رفع الصوت بالتلبية لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أفضل الحج العج والثج" (¬1). والعج: رفع الصوت. انتهى كلامه. وقد استثنى الشيخ أبو محمد التلبية المقترنة بالإحرام فإنه لا يجهر بها ونقله عنه النووي في شرح المهذب وأقره وجزم في المنهاج بأن عبر بقوله: ويرفع في دوام الإحرام. والحديث الأول رواه الترمذي وقال: إنه حسن صحيح، والثاني رواه أيضًا الترمذي وقال: سألت عنه البخاري، فقال: عندي أنه مرسل. والثج: بالثاء المثلثة والجيم هو إراقة الدم، ومنه قوله تعالى: {مَاءً ثَجَّاجًا} (¬2). قوله: وإنما يستحب الرفع في حق الرجل، والنساء يقتصرن على إسماع أنفسهن ولا يجهرن كما لا يجهرن بالقراءة في الصلاة. انتهى. وإلحاق التلبية بالصلاة يقتضي أن المرأة تجهر بها إذا كانت وحدها أو بحضرة الزوج والمحارم والنساء؛ لأن الصحيح في الصلاة هو الجهر في هذه الأحوال على ما أوضحه في "الروضة" هناك، وحذف النووي هنا القياس المذكور ففاتته هذه المسألة. قوله: قال القاضي الروياني: ولو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم لأن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (827) وابن ماجه (2924) والدارمي (1797) وأبو يعلى (117) والبزار (72) والبيهقي في "الشعب" (7326) وفي "الكبرى" (8798) وبيبي في "جزء بيبي" (75) وأبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" أهـ من حديث أبي بكر -رَضِيَ الله عَنْهُ-، صححه ابن خزيمة والحاكم والذهبي والألباني، وحسنه المنذري. (¬2) سورة النبأ: 14.

صوتها ليس بعورة خلافًا لبعض الأصحاب. انتهى كلامه. زاد في "الروضة" فنقل عن الدارمي أيضًا أنه لا يحرم، بل يكره، فحاصله رجحان الجواز، وقد ذكر في "شرح المهذب" ما هو أصرح منه فقال: ولو رفعت المرأة صوتها بالتلبية ففيه وجهان، صحح الروياني: أنه لا يحرم وصرح به الدارمي والقاضي أبو الطيب البندنيجي. والخنثى هنا كالمرأة. انتهى كلامه. وقال النووي في "شرح مسلم" في باب التلبية ما نصه: والمرأة ليس لها الرفع؛ لأنه يخاف الفتنة بصوتها. انتهى. ومقتضاه التحريم. وفي "الشرح الصغير" ما يوهم ذلك فإنه قال: والنساء لا يرفعن أصواتهن بل يقتصرن على إسماع أنفسهن. انتهى. والفتوى على جواز الرفع كما تقدم إيضاحه في باب الأذان. قوله: وتلبية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك (¬1). وإن هذه تكسر على الابتداء، وتفتح على معنى: لأن الحمد. انتهى. واختيار الشافعي هو الفتح. كذا نقله الزمخشري في "تفسيره" في آخر سورة يس فقال: كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي. وذكر في "الروضة" أن الكسر أصح وأشهر. وحديث التلبية رواه الشيخان من رواية ابن عمر بهذا اللفظ. قوله: فإن رأى شيئًا يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة، ثبت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2) انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (730) والبخارى (5571) ومسلم (1184). (¬2) أخرجه الشافعي (569) عن مجاهد مرسلًا.

ودعوى ثبوته ممنوعة، بل هو مرسل فإن الشافعي رواه بسند صحيح عن مجاهد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا ذكره البيهقي، ورواه أيضًا سعيد بن منصور في "سننه" عن عكرمة قال: نظر النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حوله وهو بعرفة فقال: لبيك اللهم لبيك، إن الخير خير الآخرة. هذا لفظه. ورواه أبو ذر الهروي في "مناسكه" بلفظ آخر، ولفظه كما نقله عنه الطبري شارح "التنبيه": أنه -عليه الصلاة والسلام- لما أحرم ورأى كثرة الناس تواضع في رحله وقال: لا عيش إلا عيش الآخرة. واعلم أن الشافعي في "الأم" نقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك في أسَرّ أحواله، فأما الأشد ففي حالة حفر الخندق، وأما الأيسر فحين وقف بعرفات ورأى جميع المسلمين. وقوله: العيش عيش الآخرة. يعني أن الحياة المطلوبة الهنية الدائمة هي حياة الدار الآخرة. قوله. ولا يتكلم في أثناء التلبية بأمر أو نهي أو غيرهما، لكن لو سَلَّم عليه رد. نص عليه. انتهى. زاد النووي على هذا فقال: ويكره التسليم عليه في حال التلبية، والله أعلم. وليس في كلامهما ولا فيما نقلاه عن الشافعي ما يؤخذ منه أن الرد على سبيل الإيجاب أو الاستحباب، بل ربما يفهم منه الوجوب وليس كذلك بل الرد مستحب. كذا نص عليه الشافعي في "الأمالي" بعد ثلاثة أوراق من كتاب الحج فقال ما نصه: وقال -يعني الشافعي: ولا بأس أن يرد الملبي السلام بين ظهراني التلبية وأن يأمر بالحاجة، ولو ترك الأمر بالحاجة في بعض التلبية

كان أحب إليّ، فأما السلام فأحب إليّ أن يرد ولا يتركه لأنه فرض والتلبية نافلة. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلته. ومراده بكلامه الأخير أن الرد من حيث الجملة فرض بخلاف التلبية. ورأيت في كتاب "التقريب" نصًا آخر ينبغي معرفته فقال عقب ذكره لما نقلناه عن "الأمالي" ما نصه: وفي مسائل حرملة سئل مالك عن الرجل يسلم عليه وهو يلبي أيرد السلام؟ قال: يرد بعد أن يفرغ من تلبيته. قال الشافعي: هكذا أحب. انتهى كلام "التقريب". ويمكن الجمع بين النصين؛ فإن الرد في أثناء التلبية أحب من القول بالكلية وتأخيره إلى الفراغ أحب من فعله في الأثناء. قوله: واعلم أنه يستحب الإتيان بالسنن الخمس على الترتيب المذكور في الكتاب أي: فيبدأ بالغسل ثم التطيب ثم التجرد بالصفة السابقة ثم الصلاة ثم التلبية. نعم لم أر ما يقتضي ترتيبًا بين التطيب والتجرد. انتهى كلامه. وهذه المسألة وهي استحباب الترتيب المذكور لم يتعرض لها في "الروضة". قوله: ويستحب أيضًا أن يتأهب للإحرام بحلق الشعر وتقليم الظفر وقص الشارب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يتعرض لوقت هذه الأشياء. والقياس أن يكون التنظيف بها مقدمًا على الغسل كما في غسل الميت. الثاني: أن ما نقله صاحب عن نص الشافعي فقال: قال في "الإملاء" واجب لمن أراد الإحرام قبل العشر أن يأخذ من شعر جسده ولحيته وشاربه وأظفاره وما سقط على وجهه من رأسه أن يؤخر شعره للحلق. انتهى.

فاستفدنا أن مريد الإحرام في العشر لا يأخذ هذه الشعور إذا أراد الأضحية كما لا يأخذها غيره أيضًا، وأن ما احتاج إلى إزالته من شعر رأسه لا يزيله بل يتركه حتى يحلقه مع رأسه.

الفصل الثالث: في سنن دخول مكة

الفصل الثالث: في سنن دخول مكة قوله في أصل "الروضة": السنة أن يدخل المحرم بالحج مكة قبل الوقوف، ولدخوله سنن منها: الغسل بذي طوي. . . . إلى آخره. ومقتضاه أن استحباب الغسل بذي طوي وما ذكر بعده من الدخول من الثنية العليا خاص بالحاج، وليس كذلك بل يستحب ذلك للمعتمر أيضًا كما صرح به في "شرح المهذب". والعجب أن الرافعي ذكر المسألة على الصواب ولكن غيرها النووي إلى هذه العبارة الغير مستقيمة؛ فإنه قال -أعني الرافعي: ولدخول مكة سنن منها: أن يغتسل بذي طوي وهو من سواد مكة قريب منها. هذا لفظه، وهو يتناول الحاج والمعتمر، بل قد ذكرنا في باب الإحرام أن هذا الغسل يستحب للحلال أيضًا. والدخول من الثنية كذلك أيضًا كما ستعرفه. وقول الرافعي: من سواد مكة: أي: قراها، وهو اليوم خراب. وسُمِّيت بذلك لأنه كان بها بئر مطوية بالحجارة، أي: مبنية لها. قوله: ومنها أن يدخل مكة من ثنية كداء -بفتح الكاف والمد- وهي من أعلى مكة، وإذا خرج فيخرج من ثنية كداء -بضم الكاف. ثم قال: وهو عام يشعر به كلام الأكثرين بالمد أيضًا؛ ويدل عليه أنهم كتبوها بالألف. ومنهم من قال: إنها بالياء، وروى فيه شعرًا، روي أنه -عليه السلام- كان يدخل مكة من الثنية العلياء ويخرج من الثنية السفلى (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1500) ومسلم (1257) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

انتهى. فيه أمور: أحدها: أن استدلاله بالكتابة عجيب فإن الكتابة بالألف لا تستلزم أن يكون ممدودًا، بل كل مقصور لا يمال كالعصا ونحوه يكتب بالألف، وكذلك بالليل أيضًا. وكلامه في "الشرح الصغير" ظاهر في ترجيح القصر: قال النووي: وهو الصواب الذي قطع به المحققون. الأمر الثاني: أن كديا الذي هو بضم الكاف، والياء على التصغير: جبل مرتفع قريب من مكة في صوب اليمن، وفيه أيضًا ثنية ضيقة وقد سلكتها في ذهابي إلى جبلي ثور، وليس بلغة كما توهمه بعضهم. فتلخص أن الألفاظ الثلاث لثلاث جبال في كل منها ثنية. الأمر الثالث: أن الحكمة في هذه المغايرة أنه قاصد عبادة فاستحب الدخول من طريق والرجوع من أخرى لتشهد له الطرقات كما قلنا في العبد. وهذا المعنى حسن صحيح نبه عليه النووي في رياض الصالحين وقال إن سائر العبادات كالجمعة وعيادة المرضى وغيرهما يستحب الذهاب إليها في طريق والرجوع في أخرى. ذكر ذلك في طريق والرجوع في أخرى. في ترجمة من تراجم الأبواب. فإن قيل: فلم اختصت العليا بالدخول والسفلى بالخروج فهذه حاصل مغايرة الذهاب لذهاب كيف اتفق؟ فالجواب: أن الداخل يقصد موضعًا على المقدار فناسب الدخول من العليا والخارج عكسه. وأيضًا فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين قال {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (¬1) كان على كداء ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 37.

الممدود؛ فلذلك استحب الدخول منه. قاله السهيلي. وهذا المعنى الذي ذكرناه يقتضي مغايرة الدخول للخروج الآتي من غير المدينة أيضًا وسيأتي ما فيه، ويقتضي استحباب الدخول من العليا والخروج من السفلى وإن لم يكن حاجًا ولا معتمرًا كاستحباب تقديم اليمنى لداخل المسجد واليسار للخارج منه. وإن لم يقصد عبادة فينبغي القول به إلا أن يرد نقل يدفعه. والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وابن عمر. قوله: قال الأصحاب: وهذه السنة في حق من جاء من طريق المدينة والشام، فأما الجاؤون من سائر الأقطار فلا يؤمرون أن يدوروا حول مكة ليدخلوا من ثنية كداء. وكذلك القول في إيقاع الغسل بذي طوي. وقالوا: إنما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تلك الثنية اتفاقًا فالأفضل لأنها على طريق المدينة، وهاهنا سيأتي. ثم قال: والثاني: أن الشيخ أبا محمد نازع في ما ذكروه من موضع الثنية وقال: ليست هي على طريق المدينة بل هي في جملة المعلى، وهو في أعلى مكة والمرور فيه يفضي إلى رأس الردم وباب بني شيبة، وطريق المدينة يفضي إلى باب إبراهيم -عليه السلام-. ثم ذهب الشيخ إلى استحباب الدخول منها لكل جائى تأسيًا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والإمام هنا عَدّ الجمهور في الحكم الذي ذكروه شهد للشيخ بأن الحق في موضع التنبيه ما ذكره. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله -رحمه الله- عن الإمام من موافقة الجمهور على استحباب الدخول للآتي من طريق المدينة والشام، وقد تبعه عليه أيضًا في

"الروضة"، وهو سهو عجيب؛ فإن الذي ذهب إليه إنما هو عدم الاستحباب مطلقًا على عكس ما نقله عنه فقد قال في "النهاية" بعد ذكر نزاع والده في "التنبيه" ما نصه: والحق ما ذكره الشيخ -يعني: والده- ولكن الوجه عندي أن لا يرى الدخول من هذه الثنية نسكًا فإن الممر والمسلك قبل الانتهاء إلى المسجد لا يتضح تعلق النسك به، ويمكن أن يحمل دخول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على غرض أو سبب متعلق بالعادة لم يسع الرواة نقله. هذا لفظه بحروفه. ثم ذكر بعد ذلك أيضًا ما يؤكده فقال ما قاله شيخي في موضع التنبيه صحيح، وما ذكره من تعلق النسك بالدخول من هذه الثنية لا أرى له وجهًا. الأمر الثاني: لم يبين موضع اغتسال الداخل من غير الثنية، وقد بينه في "شرح المهذب" فقال: يغتسل من نحو مسافة الثنية. الأمر الثالث: أن مقتضى ما ذكروه استدلالًا وتعليلًا جريان الأوجه الثلاثة أيضًا في طلب الغسل من ذي طوي، لكن جزم النووي بأنه يختص بالآتي من طريق المدينة مع تصحيحه استحباب الدخول من الثنية العليا لكل أحد كما قاله الشيخ أبو محمد. ولعل الفرق أن ما ذكرناه في الثنية العليا في المناسبة لا يحصل سلوك غيرها، ومناسبة الغسل وهي التنظيف حاصلة بفعله في كل موضع، إلا أن في التفريق نظرًا من وجه آخر وهو أنا إذا كلفناه الدوران ليدخل فينتهي في دورانه إلى الطريق الذي يدخل منه الآتي من المدينة، وربما يمر أيضًا في أثناء دورانه بذي طوي أو يحاذيه بحيث يبقى قريبًا منه جدًا كالآتي من

اليمن، فإذا كنا نأمر الآتي من طريق المدينة بالذهاب إلى قِبل وجهه حتى يغتسل بذى طوي ثم يعود إلى خلف فأمر اليمنى وقد مر أو قارب بطريق الأولى. قوله: ويسن إذا وقع بصره على البيت أن يقول ما روي في الخبر وهو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه ثم قال: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَه تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا (¬1). ثم قال بعد ذلك في الكلام على لفظ "الوجيز": وضم صاحب "الكتاب" في الدعاء للبيت لفظة البر إلى المهابة ولا ذكر له في الخبر وهو الدعاء المحض المهابة دون البر، والثابت في الخبر إنما هو الاقتصار على البر، ولم يثبت الأئمة ما نقله المزني. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن التعبير بوقوع البصر على البيت قد ذكر مثله في "الروضة" ¬

_ (¬1) قال الحافظ: (أخرجه) البيهقي من حديث سفيان الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول به مرسلًا وسياقه أتم وأبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب كذاب. ورواه الأزرقى في تاريخ مكة من حديث مكحول أيضًا، وفيه مهابة وبرا في الموضعين، وهو ما ذكره الغزالى في الوسيط، وتعقبه الرافعي بأن البر لا يتصور من البيت. وأجاب النووي بأن معناه أكثره بر، ورواه سعيد بن منصور في السنن له من طريق برد بن سنان سمعت بن قسامة يقول: إذا رأيت البيت فقل: اللهم زده، فذكره سواء. ورواه الطبراني في مرسل حذيفة بن أسيد مرفوعًا وفي إسناده عاصم الكوزى وهو كذاب. وأصل هذا الباب ما رواه الشافعى عن سعيد بن سالم عن بن جريج أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان فذكره مثل ما أورده الرافعي إلا أنه قال وكرمه بدل وعظمه وهو معضل فيما بين بن جريج والنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الشافعي بعد أن أورده ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أكرهه ولا أستحبه قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه.

وهو يشعر بأن هذا الدعاء لا يستحب للأعمى ولا لمن دخل في ظلمه. والذي أشعر به كلامهما محتمل متجه، ويحتمل أن يقال أيضًا: يستحب لهما الدعاء به في الموضع الذي يراه منه غيرهما، ويستحب ولكن عند دخول المسجد لأنهما صارا كالحاضرين بين يديه أو عند ملامسة البيت قبل مشروعيتهما في الطواف في أذكاره. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من إنكار ورود البر وإنكار صحة معناه هو المراد كما أوضحه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" في الكلام على لفظ البر فقال بعد نقله لكلام الرافعي: قلت: وإطلاق البر على البيت له وجه صحيح وهو أن بره زيارته كما أن من جملة بر الوالدين والأقارب زيارتهم؛ وحينئذ فمعنى الدعاء بزيادة بره هو الدعاء بكثرة زائريه كأنه قال: اللهم كثرهم. قال: قد روى الأزرقي صاحب "تاريخ مكة" هذا الحديث عن مكحول عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلفظ البر والمهابة في البيت. رواه الغزالي في "الوجيز" إلا أنه مرسل وفي إسناده مجهول وضعيف. انتهى كلامه. الأمر الثالث: أن قول الرافعي في آخر كلامه أن الثابت في الخبر كذا وكذا عجيب؛ فإن المذكور أيضًا ليس بثابت بل رواه الشافعي عن ابن جريج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد مرسل ومعضل كما قاله في "شرح المهذب". قوله: ومنها أن يدخل المسجد من باب بني شيبة وقد أطبقوا على استحبابه لكل قادم لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد منه قصدًا لا اتفاقًا فإنه لم يكن على طريقه وإنما كان على طريقه باب إبراهيم، والدوران حول المسجد لا يشق بخلاف الدوران حول البلد وكأن المعنى فيه أن ذلك الباب في جهة باب الكعبة. انتهى.

فإن طباق الأصحاب هنا على استحباب الدخول من باب بني شيبة وتعليلهم بأنه لم يكن على طريقه إلا باب إبراهيم ينافي كلامهم في المسألة السابقة فإنهم قالوا: إن الثنية العليا على طريق المدينة ويلزم من كونها على طريقها أن يكون باب بني شيبة على طريقه أيضًا لأن الداخل من الثنية يمر على باب المعلى، وأول ما يلقى من الأبواب باب بنيشيبة، وهذا معلوم بالمشاهدة لا مكابرة فيه، وقد تقدم أيضًا في أثناء كلام الشيخ أبي محمد. وحديث الدخول من باب بني شيبة رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس. والمعنى فيه ما أشار إليه الرافعي وإيضاحه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضًا فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع كما قاله ابن عبد السلام في "القواعد" فكأن الدخول من الباب الذي يشاهد منه تلك الجهة أولى. وسكت الرافعي عن الباب الذي يخرج منه عند إرادته الرجوع إلى بلده، ويستحب أن يكون ذلك هو باب بني سهم ففي "النوادر" عن ابن حبيب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد من باب بني شيبة وخرج إلى الصفا من باب بني مخزوم وإلى المدينة من باب بني سهم -بالسين- ويسمى اليوم بباب العمرة. قوله: ويبتدئ كما دخل بطواف القدوم لأنه -عليه السلام- أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت (¬1)، وسمي أيضًا طواف التحية. لأنه تحية للبقعة يأتي به من دخلها سواء كان تاجرًا أو حاجًا أو دخلها لأمر آخر. انتهى. والمراد بالبقعة الذي هذا تحيتها هو البيت؛ فإن الطواف تحية له كما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1536) ومسلم (1235) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

صرح به كثيرون وليس بتحية للمسجد بل إذا فرغ من الطواف فأمرناه بتحيته -أعني المسجد؛ ولهذا قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل: هلا أمرتموه بأن يصلي التحية بعد الطواف؟ فالجواب: أنا نأمره بأن يصلي في المقام ركعتين وتلك الصلاة تجزئه عن تحية المسجد. هذا كلامه، وجزم به أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" فقال: فإن قيل: لم قدم الطواف على تحية المسجد؟ قيل: لأن القصد من إتيان المسجد البيت وتحيته الطواف، ولأنها تحصل بركعتي الطواف. هذه عبارته فتفطن له، وعلم منه أنه لو أخر الركعتين لوقت آخر فقد فوت هذه التحية، وأنه لو اشتغل قبل الطواف بصلاة لغرض من الأغراض لخوف الفوات ونحوه لم يخاطب بتحية المسجد. ويدل على ما قلناه أيضًا: أن المقيمين إذا دخلوا المطاف فيخاطبون بركعتي التحية. والحديث رواه الشيخان عن عائشة. قوله: ولو كان معتمرًا فطاف للعمرة أجزأه على طواف القدوم كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد. انتهى. ذكر مثله أيضًا في الكلام على الطواف الذي يسن فيه الرمل. تابعة في "الروضة" على ذلك وهو مشعر بأن المعتمر مخاطب بطواف القدوم، وليس كذلك وإنما لم يخاطب به لأنه مأمور بطواف الفرض؛ ولهذا ذكر الرافعي قبيل هذا الكلام بقليل أن الحاج إذا دخل مكة بعد الوقوف لا يخاطب به، وعلله بما قلناه. ولا فرق في ذلك بين المعتمر والحاج إذ لا أثر لكون الطواف الذي عليه

من حج أو عمرة. وذكر النووي في "المنهاج" لفظًا جامعًا للمسألتين فقال: ويختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف. والتقييد بالحاج لم يصرح به في المحرر إلا أنه مشعر به. وإذا علمت ذلك فينبغي أن يحمل كلامه أولًا على حصول الفوات، وكلامه ثانيًا على أنه لا يؤمر بطواف يخص القدوم. ووجه حصول الثواب هنا أنه إذا أثيب مصلي الفرض على التحية مع إمكان فعلها لما فيه من شغل البقعة بالعبادة فبالأولى هذه. قوله: واختلفوا في الأولى دخول مكة راكبًا أم ماشيًا؛ فإن دخلها ماشيًا فقد قيل: الأولى أن يكون حافيًا؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لقد حج هذا البيت سبعون نبيًا كلهم خلعوا نعالهم من ذي طوي تعظيمًا للحرم (¬1). انتهى. فأما المسألة الأولى فالأصح فيها تفضيل المشي. كذا صححه النووي في ¬

_ (¬1) قال الحافظ: (أخرجه) الطبراني والعقيلى من طريق يزيد بن أبان الرقاشى عن أبيه عن أبي موسى رفعه لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيًا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت العتيق فيهم موسى. قال العقيلي: أبان لم يصح حديثه. ولابن ماجه من طريق عطاء عن ابن عباس قال: كانت الأنبياء يدخلون الحرم مشاة حفاة ويطوفون بالبيت ويقضون المناسك حفاة مشاة. وقال ابن أبى حاتم في العلل: سألت أبي عن حديث بن عمر وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعسفان. فقال: لقد مر بهذه القرية سبعون نبيًا ثيابهم العباء ونعالهم الخوص. فقال أبي: هذا موضوع بهذا الإسناد. وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: لما مر النبي بوادى عسفان. قال: يا أبا بكر لقد مر هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف وأزرهم العباء أرديتهم النمار يلبون نحو البيت العتيق. وفي إسناده ربيعة بن صالح وهو ضعيف. وأورده الفاكهي في أوائل أخبار مكة من طرق كثيرة.

"شرح المهذب"، ومناسك الحج، و"زيادات الروضة". وأما الثانية وهي دخوله حافيًا فقد جزم به في "شرح المهذب" ولم يتوقف فيه قال: إلا أن تلحقه مشقة أو يخاف نجاسة رجليه. وعبر في "الروضة" و"المناسك" بقوله: "قيل"، كما عبر به الرافعي قوله: ومن قصد دخول مكة لا النسك فإن كان لا يتكرر دخوله ففيه طريقان: أصحهما أنه على قولين: أظهرهما عند الغزالي أنه لا يلزم وبه قال الشيخ أبو محمد، وإليه ميل الشيخ أبي حامد ومن تابعه، ورجحه المسعودي وصاحب "التهذيب" في آخرين أنه يلزم وبه أجاب صاحب "التلخيص" لما روي عن ابن عباس: لا يدخل مكة أحد إلا محرمًا (¬1). والطريق الثاني: القطع بالاستحباب، ويحكى عن صاحب "التقريب" ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح في هذه المسألة هو عدم الوجوب. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" والنووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرهما من كتبه المشهورة ونقله في "الشرح" المذكور عن الأكثرين وعن نص الشافعي في أكثر كتبه، وصحح في "النكت" التي له على "التنبيه" أنه يجب، وقال في "البيان": أنه أشهر القولين. الثاني: أن ما نقلوه عن صاحب "التقريب" ليس له ذكر في كتاب الحج من كتابه فاعلمه. ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (3865).

قوله: وإن كان ممن يتكرر دخوله كالحطابين والصيادين ونحوهم فإن قطعنا بنفي الوجوب في الحالة الأولى فهاهنا أولى. وإن سلكنا طريقة القولين فهاهنا طريقان: أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بنفي الوجوب، وبه أجاب "التلخيص" لما فيه من المشقة. ثم قال: وفي وجه ضعيف أنه يلزمهم الإحرام في كل سنة مرة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما عزاه إلى "التلخيص" من القطع بعدم الوجوب غلط؛ فإن في "التلخيص" الجزم بطريقة القولين، وزاد على ذلك فصحح الوجوب فقال في أول كتاب الحج ما نصه: ويجب على كل من أراد دخول مكة الإحرام بحج أو عمرة إلا على واحد وهو الملوك. وفيه قوله: أنه رخص للحطابين ومن دخله لمنافع أهلها. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلت. الأمر الثاني: أن حكاية الإيجاب في كل سنة وجهًا، واستضعافه إياه ليس هو كما قال فيه، بل هو قول للشافعي منصوص عليه في الجديد، وله توجيه ظاهر. فأما الأول فإن الشيخ أبا حامد في "تعليقه" والمحاملي في "مجموعه". وغيرهما نقلوه عن نصه في "الإملاء". وأما الثاني فإن الجزم يقتضي إيجاب الإحرام إذ التفريع عليه وإيجاب هذا في كل مرة يشق عليهم فأوجبناه في السنة مرة لأنه المقدار الذي عهد وجوبه إحياء الكعبة فيه تعظيمًا لها بالحج أو العمرة. قوله: التفريع إن قلنا بالوجوب فله شروط:

أحدها: إن دخل من خارج الحرم، فأما أهل الحرم فلا يلزمهم بلا خلاف. الثاني: أن لا يدخلها لقتال باغ أو قاطع طريق أو غيرهما أو خائفًا من ظالم. دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح غير محرم (¬1)، لأنه كان مترصدًا للقتال خائفًا غدر الكفار. الثالث: أن يكون حرًا؛ أما العبيد فلا إحرام عليهم بحال لأن منافعهم مستحقة للسادة. فإن دخلوا بإذن لم يجب أيضًا بالاتفاق لأن الإذن في الدخول لا يتضمن الإحرام. كذا قاله الإمام. ومن يلزمه الإحرام بالدخول لا يبعد منه المنازعة في هذا التوجيه. فإن أذن له السيد في الدخول محرمًا لم يلتحق بالإحرام في أقيس الوجهين. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الاستدلال على عدم الوجوب بدخوله -عليه الصلاة والسلام- غير محرم ذهول ومناقض لما ذكر هو وغيره في كتاب النكاح أن من خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخول مكة بغير إحرام على القول بالوجوب على غيره. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أن مكة وغيرها من أرض الحرم كسائر البلاد في جواز القتال بسبب البغاة أو الكفار، وهو كما قاله النووي في "شرح المهذب" ونص عليه الشافعي في "اختلاف الحديث" وفي "سنن الواقدي" من "الأم" فقال: معنى الحديث الناهي عن القتال فيها أن ينصب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1358) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

القتال عليهم ويقاتلهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء. الأمر الثالث: أن تعليل العبد باستحقاق السيد يقتضي استثناء المرأة المزوجة إذا كان سفرها بإذن الزوج ويحتمل خلافه. الرابع: حيث أوجبنا على العبد فكذلك على هذه المرأة؛ فالمتجه تجويز العمرة فقط لأن زمنها أقصر والإذن فيه محقق وما زاد شكوك فيه والحديث المذكور رواه مسلم من رواية جابر ولفظه: دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. قوله: وإذا اجتمعت شرائط الوجوب ودخلها غير محرم فهل عليه القضاء؟ قال الإمام: فيه قولان، وقال غيره: وجهان: أصحهما -وهو الذي أورده الأكثرون: لا يجب. انتهى. والصحيح أن الخلاف وجهان. كذا صححه النووي في أصل "الروضة" و"شرح المهذب". قوله: وذكر القاضي ابن كج تفريعًا على وجوب الإحرام على الداخل أنه إذا انتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة لزمه أن يحرم من الميقات، فلو أحرم بعد مجاوزته فعليه دم بخلاف ما لو ترك الإحرام من أصله. انتهى. وهذا الذي نقله عن ابن كج خاصة وأقره عليه وهو عدم وجوب الدم إذا لم يحرم بالكلية قد تابعه عليه في "الروضة". والمسألة فيها قولان للشافعي حكاهما ابن القاص في "التلخيص" فقال: وقد اختلف قول الشافعي في إيجاب الكفارة على من دخلها بغير إحرام فله فيها قولان: أحدهما: لا شيء عليه.

والآخر: عليه دم شاة. هذا لفظه. وعدم الوجوب فيه نظر ظاهر لكن صرح به أيضًا الخوارزمي في "الكافي" والماوردي في "الحاوي" وعلّله بأن الكفارة إنما تجب جبرًا لنقص دخل على نسك فإذا لم يأت بالنسك لم يلزمه جبران عدم أصله. قوله: وهل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة مما في ما ذكرناه؟ قال بعض الشارحين: نعم. ولا يبعد تخريجه على خلاف ما سبق في نظائره. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تنزيل الحرم منزلة مكة في ذلك نقله المزني في كتاب له لطيف غريب سماه نهاية الاختصار من قول الشافعي فقال: ولا يدخل الحرم إلا محرم. هذه عبارته. والنسخة التي نقلت منها تاريخ فراغها سنة ثمان وأربعمائة، ونقله أيضًا ابن الصباغ عن نصه في القديم. وقد صرح أيضًا بذلك شيوخ المذهب منهم القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين والمحاملي والبندنيجي والماوردي وابن الصباغ وخلائق آخرون، والعجب من اقتصار الرافعي على نقلها عن شارح "الوجيز" غير مشهور مع تنصيص مشاهير أن المذهب عليها ولكن السبب فيه أن أكثر هذه الأصول لم يطالعها على كتابه، وقد استدرك عليه في "الروضة" أيضًا ذلك فقال: الصواب القطع بأن الحرم كمكة في هذا، وقد اتفق عليه الأصحاب. هذا لفظه. وقال في "شرح المهذب": إنه لا خلاف فيه. وليس كما قال من

الاتفاق؛ ففيه خلاف حكاه هو في مناسك الحج فقال: الصحيح أن حكم الحرم كحكم مكة بل كلامه في المنهاج يشعر باختيار ذلك الوجه فإنه قيد محل الخلاف بدخول مكة. الأمر الثاني: في المراد من قول الرافعي ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره وقد تفقه فيه النووي وابن الرفعة؛ فقال النووي في "شرح المهذب" كأنه يشير إلى إباحة الصلاة في أوقات النهي فإن الحرم كمكة على الصحيح. وقال ابن الرفعة في "شرح التنبيه": كأنه يشير إلى أن المكي إذا أحرم بالحج في الحل ثم عاد إلى الحرم هل يسقط عنه الدم كما يسقط عنه إذا عاد إلى مكة. وكذا لو حرم المكي من الحرم. انتهى. وما قاله ابن الرفعة أظهر؛ فإنه نظير في الباب فإرادته أظهر من إرادة باب آخر لاسيما أن العادة التصريح به عند إرادته لبعد استحضاره. ومن نظائر المسألة أيضًا ما إذا ترك طواف الوداع ولم ينته إلى مسافة القصر فإن في لزوم العود خلافًا. وهل تعتبر المسافة من مكة أو من الحرم؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي أيضًا.

الفصل الرابع في الطواف

الفصل الرابع: في الطواف قوله: وتجب فيه الطهارة عن الحدث والخبث وستر العورة؛ لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير". (¬1) انتهى. وما ذكره من اشتراط الطهارة والستارة واضح عن القدرة، فإن عجز فإن كان الطواف نفلًا أو للوداع فلا شك في جوازه فعله بدونهما، وإن كان طواف الركن فيجوز للغازي لأنه لا إعادة عليه على المشهور. وأما المتيمم والمتنجس فالقياس منعهما منه؛ لأنهما لو صليا لوجب عليهما القضاء، والطواف ملحق بالصلاة فيما يتعلق بالطهارة؛ وحينئذ فتكون إعادته واجبة عليها أيضًا، وإذا وجبت الإعادة فلا يكون في فعله -والحالة هذه- فائدة؛ لأن التحلل لا يحصل ما دام الطواف في ذمته. والعنى الذي لأجله أوجبنا فعل الصلاة وهو حرمة الوقت مفقود هنا لأن الطواف لا آخر لوقته؛ ويؤيده أن فائدة الطهورين إذا صلى ثم قدر على التيمم بعد الوقت لا يعيد الصلاة في الحضر لما قلناه من عدم الفائدة. وقد تعرض في "البحر" للمسألة فحكى وجهين في وجوب الإعادة ولم يزد على ذلك وهو يقتضي الجزم بالجواز ولا سبيل إلى القول به، وسيأتي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (960) وأبو يعلى (2599) والدارمي (1847) وابن حبان (3836) والحاكم (1686) و (3058) والطبراني في "الكبير" (10955) والبيهقى في "الكبرى" (9074) والطحاوي في "شرح المعاني" (3545) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 128) وابن الجارود في "المنتقى" (461) وابن عدي في "الكامل" (5/ 364) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا بسند صحيح.

في الكلام على فساد الحج ما يدفعه من جهه النقل. وبتقدير الجواز لا سبيل إلى قضائه لما تقدم. والحديث المذكور رواه البيهقي وقال: الصحيح أنه موقوف على ابن عباس. قوله: لبيت الله تعالى أربعة أركان: ركنان يمانيان وركنان شاميان، وكانت أرضية مساوية لأرض المسجد، وكان له بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم ولم يجدوا من الأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت فأخروا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ووضعوا عرض الجدار الذي بين الركن الأسود والشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعًا وهو الذي يسمى الشاذروان، وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: "لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم وألصقته بالأرض وجعلت له بابان شرقيًا وغربيًا (¬1). ثم إن ابن الزبير هدمه في أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم، فلما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليه اليوم وهو بناء قريش. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من اختصاص المتروك من عرض الجدار وهو المسمى بالشاذروان بالجدار الذي فيه الباب دون ما عداه. أخذه من كلام الإمام، وليس كذلك بل هو عام في الجدر الثلاث كما ذكره الأزرقي في "تاريخ مكة"، وهو ظاهر محسوس. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1506) ومسلم (1333) واللفظ لمسلم.

الأمر الثاني: أن كلامه يوهم أن الحجاج هدم جميع البيت. وليس كذلك ففي التاريخ المذكور أن الحجاج لما استولى على مكة، وقتل ابن الزبير هدم الحائط الذي من جهة الحجر وبناها على أساس قريش وأخرج الحجر من البيت وردم بطن الكعبة بما هدم منها لم يغير منه شيئًا. قال: فكل شيء فيها بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر وما سد به الباب الغربي وما تحت عتبة الشرقي فإنه بناء الحجاج. واعلم أن الدكان في اللغة هي المصطبة، وكذلك الدكة أيضًا. والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة. قوله: ويعتبر في الطواف شيئان: أحدهما: أن يجعل البيت على يساره. . . . إلى آخر ما قال. اعلم أن هذه المسألة تنقسم إلى اثنين وثلاثين قسمًا ويغلب وقوعها في المحمول لمرض أو غيره خصوصًا الأطفال فتأمل ذلك. وجميع هذه الأقسام داخل في كلام الرافعي؛ لأن كلامه يدل بالمنطوق على جعل البيت على يساره. ومفهومه على أنه لا يجعل على غير اليسار؛ وحينئذ فإما أن يجعله على يمينه أو تلقاء وجهه أو وراء ظهره؛ فحصل من منطوقه ومفهومه أربعة أقسام: القسم الأول: وهو ما إذا جعله على اليسار له حالان: أحدهما: أن يذهب إلى جهة الباب، وحينئذ فإما أن يذهب على العادة وإما منكسًا -أي: رأسه- إلى أسفل ورجلاه إلى فوق، وإما مستلقيًا على ظهره، وإما على وجهه. فهذه أربع صور. والأولى هي التي ينبغي فعلها.

وأما الثلاثة الأخيرة فلم يصرح الرافعي ولا المصنف ولا ابن الرفعة فحكمها لا في هذا القسم ولا في باقي الأقسام الآتية إطلاق الرافعي يقتضي جوازها والمتجه خلافه فإنه منابز للشرع كما سيأتي التعليل به. الحال الثاني: أن يقهقر إلى جهتي الركن اليماني، وفيه أيضًا هذه الصور الأربع لأنه إما أن يرجع منتصبًا أو منكسًا أو على الظهر أو الوجه، ولم يصرح من ذكرناه بحكم هذه الأربعة، وإطلاق الرافعي يوهم جوازها لأنه يصدق أن يقال جعل البيت على يساره وطاف، وليس كذلك بل المتجه القطع بعدم الصحة في الكل، ويحتمل تخريج الصورة الأولى منها على الوجهين الآتيين في من طاف معترضًا أو مستدبرًا فكان الصواب أن يزيد قيدًا فيقول: وأن يجعل البيت على يساره ويطوف تلقاء وجهه، وقد تحصلنا الآن على ثمان صور: القسم الثاني: أن يجعل البيت على يمينه فله أيضًا حالان: أحدهما: أن يذهب إلى جهة الركن اليماني ففيه أيضًا الصور الأربع وهي أن يذهب منتصبًا على العادة أو منكسًا أو مستلقيًا على قفاه أو على وجهه، وقد جزم الرافعي بالمنع في المسألة الأولى ويلزم منه المنع في الثلاثة الأخيرة بطريق الأولى. ويؤخذ منع الجميع من عبارته أيضًا. الحال الثاني: أن يرجع القهقري إلى جهة الباب ففيه الأربعة المذكورة أيضًا؛ فأما الأولى وهو أن يذهب منتصبًا ففيه وجهان: أصحهما: البطلان لأنه لم يول الكعبة شقه الأيسر وهذا هو الذي يقتضيه إطلاق الرافعي. والثاني: الجواز لحصول الطواف في يسار البيت وهو من الحجر إلى جهة الباب. هكذا عللهما الرافعي، وقد ظهر من تعليله أن الواجب

حصول الطواف على يسار الكعبة في وجه، وأن يولي الكعبة شقه الأيسر على وجه آخر. وأما الثلاثة الأخيرة فهي ممتنعة من حيث الجملة؛ ويؤخذ أيضًا منعها من إطلاق الرافعي. لكن هل يجزم ببطلانها أو يخرج على هذا الخلاف؟ فيه نظر. فتحصلنا على ثمان صور أخرى تصير مع قبلها ستة عشر. القسم الثالث: أن يجعله تلقاء وجهه فله أيضًا حالان: أحدهما: أن يوالي جهة الباب فيأتي فيه أيضًا أربع صور: أولها: الاعتدال. وثانيها: التنكيس. وثالثها: أن يكون على الجنب الأيمن. ورابعها: على الأيسر. فإن كان منتصبًا ففيه الوجهان السابقان -كما قاله الرافعي- أصحهما: عدم الصحة، وقد سبق تعليلهما. وأما الثلاثة الباقية فيحتمل الجزم ببطلانها ويحتمل تخريجها على الوجهين. وعبارة الرافعي مقتضية الأربعة. الحال الثاني: أن يذهب إلى جهة الركن اليماني ففيه أيضًا هذه الأربعة ومقتضى التعليلين اللذين ذكرهما الرافعي القطع بأن شيئًا منهما لا يجزئ كما هو مقتضى عبارة الرافعي فإنه لم يوقع طوافه في يسار البيت ولا ولي الكعبة بشقه الأيسر. فتحصلنا بهذه الثمانية على أربعة وعشرين. القسم الرابع: أن يستدبر الكعبة وفيه الحالان السابقان:

الأول: أن يمر إلى جهة الباب، وفيه الأربعة المتقدمة؛ فأما الأولى منها: فهو أن يمر على العادة منتصيًا فقال الرافعي: القياس أن يجرى فيه الوجهان السابقان فيما إذا جعله تلقاء وجهه، وما قاله الرافعي قد نقل الإمام عن شيخه ما يوافقه، ولكن ذكر المصنف في "الروضة" وغيرها أن الصواب القطع بأنه لا يصح لكونه منابذًا للشرع. وأما الثلاثة الباقية فلم يصرحوا بحكمها، وقد تقدم نظائر أنها محتملة بجريان هذا الخلاف والقطع بالبطلان، وعبارة الرافعي شاملة لمنع الأربعة. الحال الثاني: أن يمر إلى جهة الركن اليماني فمقتضى ما سبق أن لا يعتد بشيء من صوره الأربعة جزمًا لما تقدم من أنه يولى الكعبة شقه الأيسر ولا طاف في يسار البيت. وقد تكمل لك بهذه الصور الثمانية الداخلة في القسم الرابع اثنتان وثلاثون مسألة. واعلم أن اشتراط جعل البيت على اليسار يستثنى منه مروره على الحجر الأسود؛ فقد قال في "شرح المهذب" في الكلام على المحاذاة وصفة المحاذاة أن يمر بجميع الحجر، وذلك بأن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر إلى جهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن [يساره] (¬1) ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ينوي الطواف لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر مادًا إلى جهة يمينه حتى يتجاوز الحجر، فإذا جاوز انتقل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج. ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز ولكن فاتته الفضيلة ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفًا حول البيت كله. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قال في المناسك الكبرى: وليس شئ من الطواف يجوز مع استقبال البيت إلا ما ذكرنا من مروره في ابتداء الطواف على الحجر الأسود مستقبلًا له وذلك مستحب في الطوفة الأولى لا غير. قوله: وعن المزني أنه سمى الشاذروان تأزيزًا من الإزاز وتأزيز أيضًا بزاءين وهو التأسيس. انتهى ملخصًا. قال الجوهري: أززت الشئ الإزاز أي: بزاءين معجمتين إذا ضممت بعضه إلى بعض؛ فكأن لفظ الرافعي مأخوذ منه. قوله: والثاني: أن يبتدئ بالحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه في مروره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة لها أقسام منها: أن يحاذي ببعض البدن بعض الحجر كما لو استقبله وجعل منكبه الأيسر في وسطه ومنكبه الأيمن خارجًا عنه. وهذا القسم قد ذكره الرافعي وقال فيه: إن الجديد لا يجزئ، ولم يصرح به في "الروضة" فاعلمه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من الابتداء بالحجر الأسود أرادوا به موضعه حتى لو نقل عن موضعه والعياذ بالله فيجب على الطائف محاذاة الموضع كما نقله في "الكفاية" عن القاضي أبي الطيب. قوله: وكره الشافعي إطلاق الشوط على الطوفة الواحدة. انتهى. وهذه المسألة حذفها النووي من "الروضة"، وقال في "شرح المهذب": كره الشافعي والأصحاب تسميتها بالشوط والدور لأن الله تعالى إنما سماها

بالطواف لا بهما. ثم قال: والمختار له أنه لا يكره؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: "أمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرملوا ثلاثة أشواط" (¬1)، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. قوله: فإن جعل سقف المسجد أعلى فقد ذكر في العدة أنه لا يجوز الطواف على سطحه. ولو صح هذا لزم أن يقال إذا انهدمت الكعبة -والعياذ بالله تعالى- لا يصح الطواف حول عرصتها، وهو بعيد. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة". فيه أمران: أحدهما: أن كلامهما يدل على أنهما لم يقفا على حكم الطواف حول العرصة، وقد ذكرها الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" وجزما بالبطلان على عكس ما مال إليه الرافعي بحثا واستبعد خلافه فقال الماوردي: وهكذا لو طاف على سطح المسجد الحرام أجزأه لأن معلومًا أن سقف المسجد اليوم دون سقف الكعبة وكان طائفًا بالبيت. فإن قيل لو استقبلها في الصلاة على ما هو أعلى منها فإن مستقبلًا لها فهلا كان الطائف أعلى منها كالطائف فيها؟ قيل: لأن المقصود في الصلاة جهة بنائها، فإذا علا عليها كان مستقبلًا لجهة بنائها فأجزأه، والمقصود في الطواف نفس بنائها فإذا علا عليها لم يكن طائفًا بنفس بنائها فلم يجزئ هذا لفظه، وموضع الحاجة هو آخر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (687) ومسلم (1253).

كلامه، وذكر في البحر مثله أيضًا. الأمر الثاني: أن مسألة السقف إذا كان أعلى قد جزم القاضي الحسين فيها بالصحة على وفق ما يشير إليه كلام الرافعي، وقال في "شرح المهذب": إن الجواز هو الصواب، ويلزم من تصحيحه في هذه المسألة تصحيحه في المسألة السابقة بطريق الأولى، لكن قد ظهر لك مما نقلته عن الماوردي والروياني أنهما مصرحان بالمنع. قوله: ولو اتسعت حائط المسجد اتسع المطاف. انتهى. هذا الكلام يدخل في عمومه مسألة تذكر على سبيل الامتحان والفرض وإن كانت لا تقع عادة؛ وهي أن المسجد لو وسع حتى انتهي إلى الحل فطاف في الحاشية التي من الحل صح. وفيه نظر، والقياس عدم الصحة. وقد ذكر الرافعي قبل هذا كلامًا حذفه من "الروضة" لكن مكة والحرم، هذه عبارته، إلا أن المتبادر منها إلى الفهم إنما هو حالة الخروج من المسجد. قوله: وقد جعلته العباسية أوسع مما كان في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى. وهذه العبارة ناقصة موهمة إيهامًا شديدًا أن العباسية هم الذين زادوا المسجد على المقدار الذي كان في عهده -عليه الصلاة والسلام-، وليس كذلك فإنه قد وسع أربع مرات فبل خلافتهم كما نقله جماعة منهم الأزرقي في "تاريخ مكة"، ونبه عليه النووي في كثير من كتبه فقال: أول من وسع المسجد الحرام بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ اشترى دورًا فزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد. ثم وسعه عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- كذلك واتخذ له الأزقة؛

فكان أول من اتخذها. ثم وسعه الوليد بن عبد الملك. ثم لما انتقلت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين وسعه المنصور، ثم المهدي وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا. قوله: ويستحب أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام، فإن لم يفعل ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الترتيب أخذه الرافعي من البغوي، ولكن الصلاة في الحرم أفضل منها في غيره؛ فالصواب أن يقول: ثم في الحرم ثم فيما شاء من غيره، وهكذا صرح به الجرجاني في "التحرير". الأمر الثاني: أنا قد استفدنا من كلام الرافعي أن فعل هذه الصلاة في المسجد أولى من المنزل وإن كانت نافلة اتباعًا للحديث. وأشعر كلامه أيضًا بتفضيل فعلها خلف المقام على فعلها في الكعبة. وفيه نظر يحتاج إلى نقل، وقد خرج المصنف وغيره في أبواب الصلاة بأن فعل النافلة في الكعبة أولى من فعلها في المسجد الحرام، ثم إن الصلاة عند البيت إلى وجهة أفضل من سائر الجهات كما قاله ابن عبد السلام في "القواعد"، وذلك محتمل لسائر الأقطار؛ فينبغي أن يراعى ما قاله بحيث لا يخرج عن ما قدمناه. الثالث: إذا حاضت المرأة عقب طوافها فهل تخاطب بهاتين الركعتين أم لا؟

توقف فيه الشيخ محي الدين في الحيض من "شرح المهذب"، ثم قال: بتقدير ثبوتهما ووجوبهما يجب عليها قضاؤهما؛ لأن ذلك لا يتكرر. وهذا الذي ذكره من التعبير بالقضاء والتعليل المذكر كيف يستقيم مع أنه لا آخر لوقت هذه الصلاة كما ذكره هو وغيره في هذا الباب. قوله: ويجهر بالقراءة فيهما ليلًا -يعني: ركعتي الطواف- ويسر بهما نهارًا. انتهى. وما ذكره من الجهر فيهما ليلًا فبكلام سبق ذكره تفي صفة الصلاة في الكلام على الجهر. واعلم أن من طلوع الفجر طلوع الشمس من النهار لا من الليل، ومع ذلك يجهر فيه في الصلوات فلابد من استثنائه. قوله: وإذا لم نحكم بوجوبهما فلا صلى فريضة بعد الطواف حسبت عن ركعتي الطواف اعتبارًا بتحية المسجد. حكى ذلك عن نصه في القديم، والإمام حكاه عن الصيدلاني نفسه واستبعده. انتهى. تابعه في الروضة على نقل هذه العبارة عن الإمام. قال الصيدلاني: لو صلى الفارغ من الطواف فريضة الوقت وقضى فائتة وقع الاكتفاء بما جاء به اعتبارًا بتحية المسجد. وهذا مما انفرد به، والأصحاب على مخالفته؛ فإن الطواف يقتضي صلاة مخصوصة والمسجد حقه أن لا يجلس الداخل فيه حتى يصلي الركعتين، وقال في "شرح المهذب": أن الجماهير على الإجزاء. قوله: والأجير يؤدي ركعتي الطواف عن المستأجر. زاد في "الروضة" فقال: قلت: اختلف أصحابنا فيه؛ فقيل يقع عنه، وقيل: عن المستأجر،

وهو الأشهر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الخلاف الذي ذكره من زوائده قد ذكره الرافعي في باب الوصية فائدة حسنة فقال: وقال بعضهم: يقع عن الأجير وتبرأ ذمة المحجوج عنه بما فعل. هذا كلامه. وهو يقتضي أيضًا أنه يجب فعلهما على الأجير إن قلنا يقعان عنه، وبه صرح القاضي الحسين في "شرح التلخيص" في باب الحيض، وعلله بأنه التزم الطواف. الثاني: ستعرف في باب حج الصبي أن الولي يصليهما أيضًا عن الصبي إن كان غير مميز فيصليهما بنفسه على الصحيح، وإن كان الصحيح جواز إحرام الولي عنه، وقيل: لا يصليهما أيضًا إلا الولي. كذا ذكره الرافعي وتبعه عليه في "الروضة". وإذا علمت ما ذكروه في المميز ظهر لك أن ما أطلقوه في الأجير محله إذا لم يصليهما في بلده لاسيما إن كان بمكة لأن هذه الصلاة لا يشترط فيها الفورية بل لا تفوت ما دام حيًا، وقد صرح الطبري شارح "التنبيه" بما ذكرته، وحكى في "المطلب" عن القاضي الحسين كلامًا حاصله أنها إذا تأخرت فهل يفعل أداء أو قضاء، أو لا يفعل بالكلية؟ فيه أوجه. واعلم أن القياس في غير المميز أن يأتي فيه الوجهان المذكوران في الأجير، وبه صرح في "البيان". قوله في "الروضة": فرع: ركعتا الطواف وإن أوجبناهما فليستا بشرط في صحته ولا ركنًا، بل يصح بدونهما، وفي تعليل جماعة من الأصحاب ما يقتضي اشتراطهما. انتهى.

واعلم أن الرافعي لم يجعل المستفاد من التعليل هو الشرطية لا غير بل ردده بين الشرطية والركنية. قوله: فيها أيضًا: وقال الإمام: لو مات قبل الصلاة لم يمتنع جبرها بالدم. انتهى. واقتصار المصنف على الإمام غريب؛ فإن الرافعي لم يقتصر عليه بل عبر بقوله قاله الإمام وغيره. قوله: وأما السنن فخمس. . إلى آخره. فيه أمور: منها: أنه يستحب أن يكون قائمًا، فإن زحف مع قدرته على المشي كان مكروهًا كما قاله في "شرح المهذب". وأن يكون حافيًا كما نبه عليه بعضهم ولا شك فيه. قال في "الإملاء": وأحب لو كان يطوف بالبيت خاليًا أن يقصد في المشي لكثرة خطاه رجاء لكثرة الأجر له. هذا لفظ "الإملاء" بحروفه ومنه نقلت. وهي مسألة نفيسة. والقصد في كلام الشافعي هو المشار إليه بقوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (¬1) وأصله الرفق. قوله: الأولى أن يطوف ماشيًا لأنه الأكثر من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما طاف في حجة الوداع راكبًا ليراه الناس فيستفتوه. ولو ركب من غير عذر أجزأه ولا كراهة هكذا قال الأصحاب. قال الإمام: وفي القلب من إدخال البهائم المسجد ولابد من تلويثها ¬

_ (¬1) سورة لقمان (19).

شئ. فإن أمكن الاستئناف فذاك وإلا فإدخال البهائم المسجد مكروه. انتهى بلفظه. تابعه عليه في "الروضة" وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وفيه أمور: أحدها: أن كلامه في "شرح مسند الإمام الشافعي" جازم بالكراهة؛ فإنه قال: نص الشافعي في "الأم" على كراهته، قال: وأما طوافه -عليه الصلاة والسلام- راكبًا فروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان لمرض. انتهى. ولم يذكر الرافعي في "الكتاب" ما أشار إليه غير ذلك؛ فدل على ما قلناه. الثاني: أن نقل الرافعي عن الأصحاب عدم الكراهة؛ فقد جزم بها صاحب "التقريب" وهو الإمام الجليل القاسم ابن القفال الشاشي فقال: قال الشافعي: إنما طرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير مرض؛ لأنه أحب أن يشرف للناس ليسألوه، وليس لأحد من الناس هذا الموضع. قال: ولا أكره ركوب المرأة ولا حمل الناس إياها في الطواف من غير علة، وأكره ذلك للرجل. هذا لفظه، ومن "التقريب" نقلت. وجزم به أيضًا القاضي الحسين والبندنيجي والقاضي أبو الطيب في تعاليقهم، والماوردي في "الحاوي"، وسليم الرازي في "المجرد"، والعبيدي في "الكفاية"، وكذلك الدارمي في "الاستذكار" وسوى في ذلك بين الرجل والمرأة. ولم يذكر ابن الرفعة في "الكفاية" غير الكراهة؛ فإنه هنا راجع أصول المذهب ولم يراجع الرافعي وجزم بالكراهة أيضًا النووي في "شرح المهذب"

في الفصل المعقود لأحكام المساجد، وأجاب عن طواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه كان لبيان الجواز. قوله: إن إدخال الصبيان في المسجد حرام إن غلب تنجيسهم له، وإن لم يغلب ذلك فهو مكروه. كذا قاله النووي من "زياداته" في كتاب الشهادات، وادعى أن ذلك مشهور بين الأصحاب. وأقل مراتب البهائم أن تكون كالصبيان في ذلك فيكون إدخالها محرمًا أو مكروهًا؛ فثبت ما ذكرناه نقلًا ومعنى كراهة الطواف راكبًا بغير عذر، وأن ما نقله الرافعي هنا عن الأصحاب من عدم الكراهة غير مقبول فإنه مخالف لما في كتبهم المشهورة والمهجورة ومخالف أيضًا لنص الشافعي. ومما يؤيد الكراهة أن الفعل في هذه العبارة لم يؤخذ حقيقة من الراكب بل من الدابة؛ فصار نظير ما إذا استعان في الوضوء بمن يغسل الأعضاء وهو مكروه قطعًا كما قاله في "الروضة" من "زياداته". وأما طواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبًا فقد تقدم الجواب عنه من أوجه، وما أجاب به الشافعي من كونه فعله لمرض فقد نص عليه أبو داود في سننه، وأشار إليه البخاري بقوله: باب المريض يطرف راكبًا، والحديث الذي ذكره الرافعي رواه مسلم (¬1) منه رواية جابر. قوله: الثانية: أن يستلم الحجر الأسود بيده في ابتداء الطواف ويقبله ويضع جبهته عليه. فإن منعته الزحمة من التقبيل اقتصر على الاستلام، فإن لم يكن اقتصر على الإشارة باليد. انتهى. ¬

_ (¬1) تقدم.

تابعه عليه في "الروضة": فيه أمور: أحدها: أن المراد بالحجر الأسود إنما هو الموضع حتى لو نحى الحجر من موضعه -والعياذ بالله تعالى- استلم الركن الذي كان فيه وقبله وسجد عليه. كذا نقله في "شرح المهذب" عن الداركي ولم يخالفه. وهو نظير ما سبق في البداءة بالطواف إلا أنه هناك إذا صح وأما الاستلام فمشكل. الثاني: أن النووي في المناسك وغيره قد نبه على شئ يغفل عنه كثيرًا فقال: فيحترز عند الاستلام أو التقبيل أن يمر شئ من يديه في الشاذروان عند أخذه في الطواف بل يرجع إلى مكانه قبل الاستلام ثم يطوف. الثالث: أن تعبير الرافعي يقتضي أنه إذا أمكنه الاستلام يأتي به سواء آذى غيره بالزحام أم لا، وليس كما أطلقه بل فيه تفصيل ذكره الشافعي في "الأم" كما نقله عنه البندنيجي؛ فقد قال في الأم: أحب الاستلام ما لم يؤذ غيره بالزحام إلا في ابتداء الطواف ويستحب له الاستلام وإن كان بالزحام أو في آخر الطواف. وذكر في "شرح المهذب" أن الأصحاب أطلقوا أنه لا يأتي به. ثم نقل هذا النص. قوله: ولا يقبل الركنين الشاميين ولا يستلمهما ويستلم الركن اليماني ولا يقبله. انتهى. تابعه عليه في "الروضة". فيه أمران: أحدهما: أن المراد بعدم تقبيل الأركان الثلاثة إنما هو نفي كونه سنة، فإن قبلهن أو قبل غيرهن من البيت لم يكن مكروهًا ولا خلاف الأولى،

بل يكون حسنًا. كذا نقله في الاستقصاء عن نص الشافعي فقد قال الشافعي: وأي البيت قبل فحسن غير أنا أمرنا بالاتباع. هذا لفظه فتفطن له فإنه من الأمور المهمة. الأمر الثاني: أن تعبيره يشعر بأنه إذا عجز عن استلام الركن الثاني لا يشير إليه. وبه صرح ابن أبي الصيف اليمني في نكته على "التنبيه" وفي "مناسكه". وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "مناسكه" أنه يشير إليه. قال الطبري في "شرح التنبيه": وهو أوجه قياسًا على الأسود. قوله: ولو لم يستلم بيده ووضع عليه خشبة ثم قبل طرفها جاز. وروي عن أبي الطفيل قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بالبيت على بعير ويستلم الركن بمحجن ويقبل الحجر (¬1). انتهى. وهذه العبارة قصيرة، بل يستحب فعل ذلك إذا لم يتمكن من الاستلام باليد كما نبه عليه في الروضة. والمحجن: بميم مكسورة ثم حاء مهملة ثم جيم مفتوحة بعدها نون: عصا محنية الرأس كالصولجان. جمعها: محاجن. والحديث ثبت معناه في البخاري. قوله: ويستحب تقبيل الحجر واستلامه واستلام الركن اليماني عند محاذاتهما في كل طوفة، وهو في الأوتار آكد لأنها أفضل. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وهو يوهم أنه لا يستحب في جميعها كما دل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1530) ومسلم (1272) من حديث ابن عباس. وأخرجه مسلم (1275) من حديث أبي الطفيل.

عليه كلام "المحرر" و"المنهاج"، وصرح به غيره، وكلام أبي حامد في "الرونق" يقتضي أنه لا يستحب إلا في الأوتار خاصة فإنه قال: من السنن تقبيل الحجر في كل وتر، ولم يذكر غير ذلك. قوله في أصل "الروضة": ويقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. انتهى. واعلم أن هذا الدعاء رواه أبو داود (¬1) بإسناد لم يضعفه عن عبد الله بن السائب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعدم تضعيفه يدل على أنه حسن عنده كما تقدم مرات، ولفظه: ربنا آتنا. أعني: بلفظ الرب لا بلفظ اللهم. وهكذا ذكره الرافعي في كتبه كلها حتى هذا الكتاب الذي اختصر منه النووي هذه المسألة وهو "الشرح الكبير". ولا شك أنه إنما وقع له ذلك سهو؛ ولهذا ذكره في "شرح المهذب" على الصواب. نعم: وقع له في "المنهاج" لأجل وقوعه في "الروضة" لأنه يأخذ منها ما اصطلح عليه فيه من تخريج الوجهين والقولين ومراتب الخلاف قوة وضعفًا، وغير ذلك. قوله: والرمل هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطي يقال له: الخبب، وهو مسنون في الأشواط الثلاثة الأول. ثم قال: وهل يستوعب الثلاثة بالرمل؟ فيه قولان: أصحهما -وهو المشهور: نعم؛ لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- رمل من الحجر إلى الحجر ثلاثًا ومشى أربعًا (¬2). والثاني: لا، بل يتركه بين الركنين اليمانيين؛ لما روى أن أصحاب رسول ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1892) وسكت عنه وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الألباني. (¬2) أخرجه البخاري (1606) ومسلم (1227) من حديث ابن عمر.

الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يبازون بينهما؛ وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد شرط عام الصد أن يتخلوا عن بطحاء مكة إذا عادوا لقضاء العمرة، فلما عادوا وفوه بالشرط ورقوا جبل قعيقعان وهو جبل في مقابلة الحجر والميزاب، وكانوا يظهرون القسوة والجلادة حيث تقع أبصارهم عليهم، فإذا صاروا بين الركنين اليمانيين كان البيت حائلًا بينهم وبين أبصار الكفار. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من الجزم بطريقة القولين قد تبعه عليه النووي في "الروضة" ثم خالفه في "شرح المهذب" فحكى طريقتين: إحداهما: هذه، والثانية: القطع باستحباب التعميم. ثم قال: وهذا الطريق هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور. الأمر الثاني: أن العمرة التي اعتمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة ست من الهجرة وصده المشركون عنها تسمى عمرة الحديبية، والعمرة التي تليها تسمى عمرة القضاء -أي: الشرط- لأنهم قاضوه -أي: شارطوه- في عام الحديبية على أن يتحلل ويعود في العام القابل، ووقع مع ذلك شروط أخرى. وتسمى أيضًا عمرة القضية كذلك. هكذا قاله العلماء. قالوا: وليس تسميتها هذا الاسم من القضاء بمعنى استدراك العبادة. ومما يؤيده أن القضاء لا يجب على المحصر. إذا علمت ذلك فتعبير الرافعي في الاستدلال بقوله إذا عادوا لقضاء العمرة يعتبر مردود. وصوابه: بعمرة القضاء. والحديثان المذكوران في الرافعي رواهما مسلم في "صحيحه". وإنما أخذ الأصحاب برواية التعميم لأنها واردة في حجة الوداع فوجب

الأخذ بها لتأخرها. واعلم أن البزا بباء موحدة مفتوحة وزاي معجمة بعدها ألف؛ نقول: يبازي فلان في مشيه أي: حرك عجيزته. ويقال أيضًا: بالراء المهملة من المباراة وهي المسابقة والمجاراة، وهذا الثاني مناسب في المعنى لا الدليل فهو لفظ الحديث. قوله: وفيم يسن الرمل؟ فيه قولان: أحدهما: في طواف القدوم لأنه أول العهد بالبيت فيليق به النشاط والاهتزاز. والثاني: أنه إنما يسن في طواف يستعقب السعي لانتهائه إلى مواضع الحركات بين الجبلين. وهذا أظهر عند الأكثرين، ولم يتعرضوا لتاريخ القولين. وقال في التهذيب إن الأصح الجديد هو الأول. انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن المنقول عن الجديد هذا هو المنقول عن الجديد لا غير وأن الفتوى على القديم ليس كذلك؛ فقد نقل البيهقي في "السنن" أن الجديد هو القول الآخر وهو استحبابه في كل طواف يستعقبه السعى، و"البيهقي" أعرف بنصوص الشافعي من البغوي وغيره، وقد راجعت أصل "التهذيب" وهو تعليق القاضي الحسين فلم أر فيه نقل ذلك عن الجديد فلا أدري من أين أخذه. قوله في التفريع على المسألة: وهل يرمل المكي المنشئ حجه من مكة في طوافه أي: الإفاضة؟ إن قلنا بالقول الأول فلا؛ إذ ليس له طواف قدوم. وإن قلنا بالثاني فنعم. انتهى. وما ذكره مسلم فيما إذا لم يسافر ثم يقدم فإن فعل ففي "شرح التنبيه" للطبري أنه يستحب له ذلك بلا شك لتحققه بالقدوم، ولأن طواف القدوم تحية البيت؛ فاستوى فيه كل قادم سواء أحرم من مكة أو من غيرها.

قوله: ليكن من دعائه في الرمل: اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبا مغفورًا وسعيًا مشكورًا. روي ذلك عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (¬1). انتهى. ذكر نحوه في "الروضة". وفيه أمور: أحدها: أن هذا الدعاء محله عند محاذاة الحجر الأسود، وأما فيما عداه فيدعو بما أحب. كذا ذكره الشيخ في "التنبيه"، وأقره عليه النووي في "تصحيحه". الثاني: أنهما أيضًا أهملا التكبير في أول هذا الدعاء مع أنه مستحب، وقد ذكره الشيخ أيضًا في "التنبيه". الثالث: أن هذا الدعاء واضح للحاج. أما المعتمر فالمناسب أن يقول: اللهم اجعلها عمرة مبرورة، ويحتمل أيضًا استحباب التعبير بالحج مراعاة للحديث ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد. الرابع: أنهما سكتا عما يقوله في الأربعة الأخيرة وقد ذكره الشافعي والأصحاب حتى صاحب "التنبيه" فقالوا: يستحب أن يقول: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ولم [. .] (¬2) على "المهذب" والحديث المذكور غريب. وقوله فيه: "وذنبًا" هما منصوبان بإضمار فعل؛ أي: واجعل ذنبي دنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4061) وأبو يعلي (5185) وابن أبي شبية (3/ 260) والبيهقي في "الكبرى" (9332) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه، أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدعو بهذا الدعاء في رمي الجمرات وسنده ضعيف. أما بالسياق المذكور هنا فقد قال الحافظ: لم أجده. (¬2) بياض في أ.

قوله: وليس في حق النساء رمل ولا اضطباع حتى لا ينكشفن ولا تبدو أعضاؤهن. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الخنثى في ذلك كالمرأة قاله في "شرح المهذب". والثاني: أن هذه العبارة ليس فيها تصريح بتحريم ذلك ولا كراهته، والمعنى المقتضى للمشروعية وهو كونه دأب أهل الشطارة يقتضي التحريم فيهن لأن ذلك يؤدي إلى تشبههن بالرجال بل بأهل الشطارة منهم، والتشبه حرام. وعبارة "المحرر" تشعر بذلك فإنه قال: وليس للنساء رمل ولا اضطباع. وقد عدل في "المنهاج" عن عبارة "الشرح" و"المحرر" إلى عبارة "التنبيه" فقال: ولا ترمل المرأة ولا تضبطع. وذكر مثلها في "الروضة" أيضًا وعبر في "شرح المهذب" بقوله: لا يشرع لهن. قوله: ولا تجب نية الطواف في أصح الوجهين لأنه في الحج والعمرة أحد الأعمال فتكفي نية النسك في الابتداء؛ على هذا يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر من طلب غريم ونحوه في أظهر الوجهين. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الصرف قد ذكره في مسائل من الحج فقال في الكلام على الوقوف: الخامسة لو حصر بعرفة في طلب غريم له أو دابة نادة كفاه. قال الإمام: ولم يذكروا هنا الخلاف الذي سبق في صرف الطواف. ويعد الفرق أن الطواف قربة برأسها بخلاف الوقوف قال: ولا يمتنع

طرد الخلاف فيه والمراد أن الطواف يتقرب به وحده: بدون الحج والعمرة. وقال في الكلام على ما لو ترك الرمي في أيام التشريق، وزاد الإمام فقال: لو صرف الرمي في قصده إلى غير النسك كما لو رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف. انتهى. وهذا الذي ذكره في صرف الرمي قد ذكر النووي مثله في "شرح المهذب" وغيره، ولا شك أنه كالوقوف، وما نقله عن الإمام فيه هو عين ما تقدم نقله عنه في الوقوف فيكون الصحيح خلافه؛ فاعلمه. وقال في الكلام على صفة الرمي ما نصه: ويشترط قصد الرمي؛ فلو رمي في الهوى فوقع في المرمي لم يعتد به. انتهى. وهو مخالف للمذكور في الوقوف. وقد سكت الرافعي عن السعى؛ قال الطبري شارح "التنبيه" إنه كالوقوف. الثاني: أن الإمام لما ذكر في صرف الوقوف أنه لا يمتنع تخريجه على صرف الطواف زاد بعده زيادة لابد من معرفتها فقال: ولكن الظاهر أنه لا يجزئ. هذه عبارته. الثالث: أنا قد استفدنا من تعليل الرافعي أن الطواف المنذور وما يتنفل به الحلال والمحرم وما يأتي به الكي عند مفارقته مكة لابد فيه من النية وهو واضح. وكلامه وكلام النووي في "شرح المهذب" يقتضي جريان الخلاف في طواف القدوم لأنه من سنن الحج، وتوقف فيه ابن الرفعة. قال: وأما طواف الوداع المفعول عقب الحج والعمرة فقال أعني ابن الرفعة: تجب فيه النية بلا شك لوقوعه بعد التحلل التام. وفيما قاله نظر، والقياس تخريجه

على الخلاف الآتي في أنه من المناسك أم لا؟ ، والصحيح أنه منها كما ستعرفه. قوله: فلو أن الرجل حمل محرمًا من صبي أم مريض أو غيرهما وطاف به نظر إن كان الحامل حلالًا أو محرمًا ولكن طاف عن نفسه حسب الطواف للمحمول بشرطه وإن كان محرمًا ولم يطف به عن نفسه نظر إن قصد الطواف للمحمول فثلاثة أوجه: أظهرها: يقع له دون الحامل وينزل الحامل منزلة الدابة، وهو تخريج على قولنا يشترط أن لا يصرف الطواف إلى غرض آخر. والثاني: يقع عن الحامل فقط تخريجًا على قولنا لا يشترط ذلك. والثالث: تحسب لهما جميعًا؛ لأن أحدهما قد دار والآخر قد دير به وأن قصده الطواف عن نفسه وقع عنه. وهل يقع عن المحمول أيضًا؟ قال الإمام: لا يقع. وحكى وفاق الأصحاب عليه، وبمثله أجاب فيما إذا قصد الطواف لهما معًا. وصاحب "التهذيب" حكى وجهين في الحصول لهما. ولو طاف ولم يقصد واحدًا من الأقسام فهو كما لو قصد نفسه أو كليهما. انتهى كلامه. وهو مشتمل على خمسة أقسام فلنتكلم على الترتيب المذكور في الكتاب: القسم الأول: أن يكون الحامل حلالًا أو محرمًا ولكن طاف عن نفسه. وقد أجاب فيه بأن الطواف يقع للمحمول بشرطه، وفيما ذكره في هذا

القسم أمور: أحدها: أن ما قاله من حصول للمحمول صحيح إذا لم ينو الحامل شيئًا أو نوى الطواف عن المحمول. فأما إذا نواه لنفسه فلا؛ لأن الطواف يصح من غير المحرم. وإذا كان يصح منه ونواه فكيف يتصور عنه بكونه قد حمل المحرم، بل ينبغي تخريجه على الخلاف الآتي في أنه هل يقع عن الحامل فقط لكونه الفاعل له وهو الصحيح أو يقع لهما. وهذا الإشكال ذكره ابن الرفعة في "الكفاية"، وهو إشكال صحيح، وكلام المصنف كالصريح في خلافة لأنه ذكر هذا التفصيل فيما سيأتي ولم يذكره في هذه المسألة فاقتضى ذلك إرادة التعميم هنا. وكذا فعل الرافعي والمصنف في كتابهما. ثانيها: أنه إذا أحرم بالحج من مكة ثم حمل قبل انتصاف ليلة النحر محرمًا بالعمرة كان حكم هذا المحرم الحامل حكم الحلال بلا شك فكان ينبغي أن يقول: قد طاف عن نفسه أو لم يدخل وقت طوافه. ثالثها: أن المراد بالحسبان هنا عن المحمول إنما هو الحسبان قد طاف عن نفسه كما كان لو حمل حلال حلالًا بلا شك. وتعليلهم يدل عليه. وهذا الكلام يأتي أيضًا في قول الرافعي ولكن قد طاف عن نفسه؛ أي: الطواف الذي يضمنه إحرامه. وما ذكرناه من أن طواف القدوم فيما يجب فيه ملحق بالفرض لم يصرحوا به هنا ولكنه قياس ما سبق من التحاقه به من عدم الاحتياج إلى النية. رابعها: أن قوله يشترطه يتناول الطهارة والستر والنية أو عدم العارف

على الخلاف المتقدم. فإن فقد شئ من هذه الشروط وقع عن الحامل. وكذلك أيضًا يتناول دخول وقت الطواف كما لو كان محرمًا بالعمرة أو بالحج أو انتصف ليلة النحر، وإنما ذكر المصنف هذا الشرط في أول القسم ليعلم منه إحالة ما بعد عليه؛ فاعلمه. القسم الثاني: أن يكون الحامل محرمًا ولم يطف عن نفسه وقصد الطواف للمحمول، وقد أجاب فيه الرافعي بأنه قطع الطواف للمحمول في أصح الأوجه، وهو واضح. القسم الثالث: كالثاني إلا أنه قصد الطواف لنفسه. وكلام الرافعي يقتضي أن المشهور فيه وقوعه عن نفسه فقد جزم في "الشرح الصغير"، وذكر نحوه في "المحرر"، وكذلك النووي في "المنهاج" وغيره من كتبه. وكلام الرافعي يقتضي أنه لا فرق في هذا القسم بين أن ينوي المحمول أيضًا الطواف عن نفسه أم لا، وهو كذلك كما صرح به في "شرح المهذب" وغيره. القسم الرابع: كالثاني أيضًا، إلا أنه قصد الطواف لهما معًا. وليس في الرافعي هنا ولا في "الروضة" تصريح بتصحيح إلا أنه صحح في "الشرح الصغير"، "المحرر" وقوعه عن نفسه كالقسم الذي قبله، وتبعه عليه النووي في "المنهاج" وغيره، ولكن نص الشافعي في "الأم" و"الإملاء" على وقوعه عنهما على خلاف ما قالاه إلا أنه نص في "الأم" على وقوعه عن المحمول في الإملاء على وقوعه عنهما كذا نقله الروياني عن "البحر"؛ فالنصان متفقان على نفي ما صححاه، وهو هاهنا بخصوصه أظهر من نصه في الإملاء فيجب الأخذ به.

ولا شك أن الرافعي لم يمعن النظر في كتاب الحج خصوصًا في هذه المسألة. وإنما ظفر فيها بكلام بعض المتأخرين وهو الإمام والبغوى؛ فتفطن لذلك وما نقله عن البغوي هنا عائدًا إلى القسم الثالث والرابع فاعلمه فقد صرح البغوي به، وكلام الرافعي موهم أو محتمل. القسم الخامس: أن لا يقصد شيئًا، وقد أجاب فيه الرافعي بأنه قد يكون كما لو قصد نفسه أو كليهما. وهذا الجواب بناه على ما قدره هو من أنه لا فرق بين القسمين، وأما على ما نقلناه من افتراقهما فلا يلحق لها معًا، بل كما إذا قصد نفسه خاصة لأن الشرط عدم الصارف ولم يوجد. قوله: وقول الغزالي: ولو طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه، الأولى فيه قرأه أحرم على المجهول لأنه لا فرق بين أن يكون وليه الذي أحرم به أو غيره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن التعبير بالمجهول قد رأيته كذلك في عدة من نسخ الرافعي وهو تحريف، وصوابه: على المفعول؛ أي: بضم همزة أحرم على البناء للمفعول للعلة التي ذكرها. الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على أنه لا فرق في الحامل بين الولي وغيره لكن المنقول فيما إذا طاف الصغير راكبًا أنه لا يجزئه إلا إذا كان الولي سابقًا أو قائدًا. كذا قاله صاحب "البحر" وغيره، وهو هاهنا أولى؛ فتقييد الغزالي بالولي للاحتراز عن غيره فإن فيه هذا التفصيل.

قوله من زوائده: ولو نذر أن يطوف فطاف عن غيره، قال الروياني: إن كان زمن النذر معينًا لم يجز أن يطوف فيه عن غيره، وإن طاف في غيره أو كان زمنه غير معين فهل يصح أن يطوف عن غيره والنذر في ذمته؟ وجهان: أصحهما: لا، كالإفاضة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من كونه لا يصح في غير الوقت المعين قد ذكر أعني الروياني أيضًا ما يخالفه في الكلام على تقديم حجة الإسلام على غيرها، وقد ذكرته هناك فراجعه. والمتجه الماشي على القواعد أنه يصح. الأمر الثاني: أنهما لم يصرحا بحكم انصرافه إلى النذر. وقياسه على الإفاضة يوهم الانصراف مطلقًا. وليس كذلك بل القياس انصرافه إذا طاف في وقت النذر المعين أو كان النذر مطلقًا دون ما إذا عينه وطاف قبله.

الفصل الخامس في السعي

الفصل الخامس: في السعي قوله: إذا فرغ من الطواف وركعتيه فينبغي أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ليكون آخر عهده بالبيت كما افتتح طوافه به. انتهى. وما ذكره من الاقتصار على الاستلام ذكر مثله في بقية كتبه، وكذلك أيضًا النووي وابن الرفعة، وهو الذي رواه مسلم من حديث جابر (¬1) أيضًا، وذلك كله يقتضي أنه لا يستحب تقبيله ولا السجود عليه. فإن كان الأمر كذلك فلعل سببه المبادرة إلى السعي. قوله: ثم يخرج من باب الصفا للسعي ويبدأ بالصفا لأن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدأ به وقال: "ابدؤا بما بدأ الله به" (¬2). انتهى. واعلم أن هذه اللفظة -أعني: ابدؤا رواها مسلم في صحيحه على أنها مضارع للمتكلم، ورواها النسائي بلفظ الأمر؛ فإسناد هذه الرواية صحيح على شرط مسلم، إلا أن فابدؤا بزيادة فاء العطف في أوله. واعلم أن من جملة أدلة السعي ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "يا أيها الناس: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعى" (¬3). وقد اختلف كلام النووي في "شرح المهذب" في هذا الحديث فقال في ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) تقدم من حديث جابر. (¬3) أخرجه أحمد (27407) وابن خزيمة (2764) والحاكم (6943) والشافعي في "المسند" (1722) والدارقطني (2/ 255) والطبراني في "الكبير" (24/ 225) حديث (572) والبيهقي في "الكبرى" (9149) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 159) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3296) من حديث حبيبة بنت أبى تجزئة. قال الذهبى: لم يصح. وصححه الحاكم وابن خزيمة والألباني، وهو كما قالوا.

أول الكلام على السعي: رواه الشافعي وأحمد والدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، وقال في آخره: رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن. قلت: وحسنه أيضًا الشيخ زكي الدين في الكلام على أحاديث "المهذب"، إلا أن الحديث المذكور روي بإسنادين فاعلمه. قوله: ويرقى على الصفا بقدر قامة رجل حتى يتراءى له البيت. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على إطلاق استحباب الرقي على الصفا. وليس على إطلاقه بل هذا مخصوص بالرجل، أما المرأة فإنها لا ترقى كما هو مذكور في "التنبيه" وأقره عليه النووي في تصحيحه، ومعناه واضح، ولم يذكره في "المهذب" ولا في شرحه. والعجب من تركهما هذه المسألة. ولا شك أن الخنثى كذلك. ولو فصل فيهما بين أن يكون في خلفه محارم وبين أن لا يكون كما قد قيل به في الجهر في الصلاة لم يبعد. قوله: نعم لا يجوز أن يتخلل بين الطواف والسعي ركن؛ بأن يطوف للقدوم ثم يقف بعرفة، بل عليه إعادة السعي بعد طواف الإفاضة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وهو يقتضي أمرين: أحدهما: أن تخلل الواجب لا يقدح وذلك بأن يطوف للإفاضة ثم يرجع إلى منى ويرمي ثم يعود فيسعى، وما اقتضاه كلامه صحيح حتى لا تجب عليه إعادة شئ مما فعل. الثاني: أن تخلل الحلق لا يضر لأنه ركن على المشهور.

والقول بما دل عليه كلامه يقتضي إما عدم الاعتداد بالحلق وإما وجوب إعادة الطواف وكلاهما بعيد. والمتجه أن التخلل في المسألة المذكورة لا يضر، وأن هذه المسألة إنما هي مفروضة في طواف القدوم خاصة وإن كان اللفظ مطلقًا؛ ولهذا عبر في المنهاج بقوله: وأن يسعى بعد طواف ركن أو قدوم بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة. هذه عبارته فمنع الفصل بالوقوف خاصة، إلا أنه مخالف لما في "المحرر"؛ فإن الذي فيه مثل ما في "الشرح" و"الروضة"، على أن الغزالي في "الوسيط" حكى ترددًا في الفصل بالوقوف أيضًا. والتردد المذكور وجهان رأيتهما في "شرح التلخيص" للشيخ أبي على السنجي فاعلمه. قوله: ولا يشترط وقوعه بعد طواف الركن بل لو سعى عقب طواف القدوم أجزأه. ولا يستحب أن يعيده بعد طواف الإفاضة لأن السعي ليس بقربة في نفسه كالوقوف، بخلاف الطواف فإنه عبادة في نفسه يتقرب بها وحدها. وعن الشيخ أبي محمد أنه يكره إعادته فضلًا عن عدم الاستحباب. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، ومقتضاه أن الصحيح أنه خلاف الأولى، وقد اختلف فيه كلامه في "شرح المهذب" فجزم في الكلام على الإفاضة من منى إلى مكة بأنه يكره، ونقله عن الأصحاب وقال قبل ذلك في الكلام على السعي ما نصه: قال الشافعي والأصحاب: إذا أتى بالسعي بعد طواف القدوم وقع ركنًا ولا يعاد بعد طواف الإفاضة، فإن أعاده كان خلاف الأولى.

وقال الشيخ أبو محمد والإمام وغيرهما: تكره إعادته لأنه بدعة. هذا كلامه، وليس في "المحرر" ولا في "المنهاج" تصريح بشئ بل فيهما أنه لا يعيده. قوله: غير أنه لا يتصور وقوع السعي بعد طواف الوداع فإن طواف الوداع هو الواقع بعد فراغ المناسك، فإذا بقي السعي عليه لم يكن المأتي به طواف الوداع. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمور: أحدها: أن ما قالاه من عدم تصوره وذلك لأن طواف الوداع يؤمر به من أراد الخروج من مكة حلالًا كان أو محرمًا، لكن هل من شرطه أن يخرج إلى مسافة القصر أم لا؟ فيه خلاف مذكور في موضعه؛ وحينئذ فنقول: يتصور ذلك بما إذا أحرم بالحج من مكة ثم أراد الخروج، قيل: فيطوف هذا المحرم للوداع ويخرج لحاجته ثم يعود ويسعى بعد عوده؛ إذ الموالاة بين السعي والطواف غير شرط عندنا. وهذا التصوير واضح جلي، وقد ذكره صاحب "البيان" والشيخ أبو نصر البندنيجى، وزاد على ذلك فجزما بالصحة وقالا إنه مذهب الشافعي ونقله النووي في "شرح المهذب" عنهما وسلم التصوير، لكنه نازع في الصحة فقال: ولم أر لغيرهما ما يوافقه. قال: وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجوز إلا بعد القدوم والإفاضة. وهذا التوقف منه في الصحة مع هذا النقل الصريح مردود. وما ذكر الأصحاب لطواف القدوم والإفاضة دون غيرها فلأن ذلك هو الغالب، وقد ذكر -أعني: النووي- في "شرح المهذب" كلامًا تدخل فيه هذه الصورة فإنه قال الكلام على دخول البيت ما نصه: ويشترط كون السعي بعد

الطواف صحيح. هذا لفظه. وذكر ابن عبدان في شرائط الأحكام مثله. فإن كان بعد الطواف ما أجزأه عن الفرض وإن لم يكن عقب طواف ما لم يجزئه هذه عبارته. وتدخل في هاتين العبارتين صورة أخرى؛ وهي ما إذا أحرم المكي بالحج كما فرضنا ثم ينتقل بالطواف وأراد السعي بعده. وقد صرح الطبري شارح "التنبيه" بالمسألة وجزم بالإجزاء. قال وروى أن ابن عمر وابن الزبير فعلاه، إلا أن فيها نظرًا، وكلام الرافعي في المسألة المتقدمة يقتضي المنع. الأمر الثاني: أن الرافعي لما حكم في الصورة التي ذكرها بأن الطواف الذي أتى به على أنه للوداع لا يقع عنه لم يتعرض لصحة السعي بل كلامه يوهم عدم الاعتداد به. وليس كذلك بل هو صحيح؛ فتفطن له. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون قد طاف للإفاضة أم لا؛ فإن طاف صح هذا السعي لتقدم طواف الإفاضة عليه وتراخيه عنه لا يقدح وإن لم يطف وقع هذا الطواف عنه كما صرح به الرافعي وغيره، ويلزم منه الصحة بطريق الأولى. الأمر الثالث: أن منع الرافعي طواف الوداع عند بقاء شئ من المناسك كيف يستقيم، لأن السعي والحلق لا آخر لوقتهما، ويجوز للحاج أن يخرج من مكة قبل أن يفعلهما؛ وحينئذ فهو محتاج إلى طواف الوداع. فإذا قال: أنا أخرج وأحلق في بلدى؛ فإن صححنا طواف الوداع بطل ما قاله، وإن لم نصححه لزم لخروج بلا وداع أو وجوب الحلق والسعي قبل الخروج.

الفصل السادس في الوقوف

الفصل السادس: في الوقوف قوله: وينبغي للإمام أو منصوبه أن يخطب بمكة في اليوم التاسع من ذي الحجة بعد صلاة الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيه بالغدو إلى منى ويخبرهم بما بين أيديهم من المناسك لأنه -عليه الصلاة والسلام- فعل ذلك. انتهى. والمراد بما بين أيديهم أي: في الخطبة الثانية. كذا ذكره الرافعي بعد هذا في الكلام على الخطبة الثانية المشروعة بنمرة ولكن الصواب عدم التقييد بما بين الخطبتين كما ستعرفه هناك. والحديث المذكور رواه البيهقي بإسناد جيد كما قاله في "شرح المهذب". قوله: ويأمر في خطبته المتمتعين أن يطوفوا قبل الخروج للوداع. انتهى. وهذه المسألة يأتي الكلام عليها في فصل طواف الوداع إن شاء الله تعالى. قوله: ويحرم من كان حلالًا على ما سبق في صورة المتمتع أي: في اليوم الثامن وهو المسمى يوم التروية، ثم يخرج بهم الإمام في ذلك اليوم إلى منى. ومتى يخرج؟ المشهور أنه يخرج بعد صلاة الصبح بحيث يوافقون الظهر بمنى. وحكى القاضي ابن كج أن أبا إسحاق ذكر قولًا أنهم يصلون الظهر بمكة ثم يخرجون. انتهى كلامه. وهذا القول الذي اقتضى كلامه يشعر أنه قد جزم به في أواخر باب وجوب أداء النسكين في أثناء كلام أوله قال: وأما المعسر وقد تقدم ذكر لفظه هناك، وأن الفتوى على المذكور هنا.

واعلم أن الماوردي قد ذكر أن الإمام إذا كان مقيمًا بمنى فيستحب له أن يحرم، ويصعد المنبر محرمًا. وهذا الذي قاله يستثنى منه قولهم يستحب الإحرام يوم الثامن، وقد توقف فيه "شرح المهذب" فقال ما قاله من إحرام الإمام غريب محتمل. قوله: قال الشافعي: فإن بنى بها -أي بعرفة- قرية واستوطنها أربعون من أهل الكمال أقاموا الجمعة والناس تبع لهم. انتهى كلامه. وما ذكره من إقامة الجمعة في القرية المذكورة وإن كان مسلمًا لكن بناؤها هناك ممتنع على الصحيح، وكذلك في مزدلفة ومنى كما ستعرفه في كتاب إحياء الموات؛ وعللوه بالتضييق فلتتفطن لذلك فإنها إن بنيت لانتفاع الواقفين عامة بها فيحتمل الجواز بعدم الاختصاص بكون ذلك مستثنى؛ ويؤيده اتفاقهم على مسجد الحيف، ويحتمل المنع للتضييق بموضع الجدر. قوله: في الكلام على الخطبة بنمرة، ويخفف الخطبة بحيث يفرغ منها مع فراغ المؤذن من الإقامة على ما رواه الإمام وغيره من الأذان على ما رواه صاحب "التهذيب" وغيره. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو الوجه الثاني كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، والنووي في "شرح المهذب" وغيره من كتبه. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" لما اختصر كلام الرافعي فقال من زياداته الأصح الذي قطع به الجمهور هو الثاني فتفطن لما قاله فإنه غريب. قوله: وإذا كان الإمام مسافرًا فالسنة له القصر، وليقل الإمام إذا سلم: أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر كما قاله رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (¬1) انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1229) والطيالسي (840) والطبراني في "الكبير" (18/ 209) حديث (517) وابن أبي شيبة (1/ 336) والبيهقي في "الكبرى" (5170) والطحاوي في "شرح المعاني" (2229) من حديث عمران بن حصين بسند ضعيف لضعف على بن زيد.

السفر: بفتح السين وسكون الفاء. وقد تقدم إيضاحه في مسح الخف والحديث المذكور رواه مالك في "الموطأ" (¬1) من قول عمر نفسه وأنه قاله وهو في مكة، وأما رفعه ووروده في نمرة فغريب. قوله: وأما الأول فلأن صاحب الشامل وطائفة قد ذكروا أن نمرة موضع من عرفات. وقال الأكثرون: ليست منها. . . إلى آخره. تابعه عليه في الروضة فقال: الصواب أن نمرة ليست من عرفات، ولم يذكر غير هذا. وقد بسط هذا الاعتراض في "شرح المهذب" فقال: وإنما نمرة فليست أيضًا من عرفات بل بقربها. هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي في "مختصر الحج الأوسط" وغيره، وصرح به أبو علي البندنيجي والأصحاب، ونقله الرافعي والأكثرون قال: وقال صاحب "الشامل" وطائقة: هي من عرفات. وهذا الذي نقله غريب ليس بمعروف ولا هو في "الشامل" ولا هو صحيح، بل إنكار للحس؟ ، ولما تطابقت عليه كتب العلماء. هذا كلامه، والذي ذكره النووي غلط عجيب؛ فإن النقل في "الشامل" كما قاله الرافعي فإنه قال: مسألة: قال الشافعي: ويخطب يوم السابع، ثم قال بعد ذلك: فإذا طلعت الشمس يوم التاسع على تبير راحوا إلى الموقف في أول طلوعها لما روى جابر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "صلى بمنى صلاة الفجر فلما بزغت الشمس رحل في أول بزوغها إلى عرفات" (¬2) إذا ثبت هذا فإذا وصل إليها ضرب له خباء أو قبة؛ لأنه روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ضرب له فيه من شعر بنمرة"؛ وهو موضع من عرفات. ¬

_ (¬1) حديث (346). (¬2) لم أقف عليه.

هذا لفظ صاحب "الشامل" بحروفه؛ فكأن النووي ذهل عنه لوقوعه ذهولًا. قوله: واعلم أنه يسن في الحج أربع خطب: إحداها بمكة في المسجد الحرام في اليوم السابع من ذي الحجة، والثانية بعرفة وقد ذكرناها، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، ويخبرهم في كل خطبة عما بين أيديهم من المناسك وأحكامها إلى الخطبة الأخرى. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذه العبارة، وفيها أمران: [أحدهما] (¬1): أن ما ذكره في الخطبة الأولى من اقتصار التعليم على ما بينها وبين الثانية من المناسك بخلاف مذهب الشافعي؛ فإنه نص على استحباب تعلم الجميع فقال في "الإملاء" ما نصه: قال الشافعي: وفي الحج أربع خطب: يوم السابع بمكة بعدما يصلي الظهر فيأمر الناس بالمضي إلى منى والإحرام والصلاة بمنى والمسير إلى عرفة وحضور الصلاة بعرفة وغير ذلك من حجة. هذا لفظه ومن "الإملاء" نقلت، والتي بعدها فكلام الشافعي فيها موافق للمذكور هنا. الأمر الثاني: أن الخطبة الرابعة لا تدخل في اللفظ الذي عبر به؛ فإنه ليس بعدها خطبة أخرى، وكان الصواب إفراد الرابع بالذكر فيقول كما قال غيره أنه يعلمهم فيها جواز النفر ويودعهم ويوصيهم بالتقوى. ورأيت في كتاب "الأعداد" لابن سراقة من متقدمي الأصحاب في الباب المعقود -أن خطبة نمرة واجبة، وكذلك ذكره في كتابه المسمى قبل كتاب الزكاة بنحو صفحة فقال: هي وخطبة الجمعة فرضان. ¬

_ (¬1) في أ: أحدها.

قوله: أن يقفوا عند الصخرات. . إلى آخره. هذا في حق الرجل، أما [المرأة] (¬1) فيستحب أن تقف في حاشية الموقف كما تقف في آخر المسجد. هكذا نقله النووي في المناسك وفي آخر باب الإحرام من "شرح المهذب" عن الماوردي وأقره. وقياسه استحباب ذلك في حق الخنثى أيضًا ويكون على الترتيب المذكور في الصلاة، ثم يتعدى النظر إلى الصبيان عند اجتماعهم مع البالغين في وقت واحد. واعلم أنه يتجه أن يقال: أنه لا يستحب للمرأة فصل الوقوف مع الرجال عند الصخرات وأمر أمرها بمفارقة أهلها الخارجين معها وخيامها الساترة لها والوقوف في حاشية الموقف المؤدي غالبًا إلى ضياع بعضهم من بعض؛ فيبعد جدًا وليس نظير الصلاة. قوله: وأظهر القولين أن الوقوف راكبًا أفضل؛ اقتداء به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليكون أقوى على الدعاء. والثاني: هما سواء. نص عليه في "الأم". انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمران: أحدهما: أن المرأة مستثناة من استحباب الركوب؛ فإنه يستحب لها أن تكون قاعدة لأنه أستر لها؛ كذا قاله الماوردي، وجزم به النووي في "تصحيح التنبيه". ولا شك في هذا إذا لم تكن المرأة في هودج ونحوه، فإن كانت كما هو الغالب ففيه نظر، والمتجه الوقوف. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثم إنهما يستثنيا الخنثى ولا شك أنه كالمرأة. الأمر الثاني: أن محل هذا الخلاف فيمن لا يحتاج الناس إلى ظهور [من] (¬1) يستفتي ويقتدي به، فإن كان فالأفضل في حقه الركوب قطعًا. وكذلك إذا شق عليه الوقوف ماشيًا، أو ضعف عن الدعاء. قاله في "شرح المهذب". وحديث وقوفه -عليه الصلاة والسلام- راكبًا في الصحيحين (¬2). قوله: ويؤخرون المغرب إلى أن يصلوها مع العشاء بمزدلفة. ثم قال بعد ذلك: ثم كثر الأصحاب أطلقوا القول بأنه يؤخرهما إلى أن يأتي المزدلفة، ومنهم من قال: ذلك ما لم يخش فوات اختيار العشاء، فإن خاف ذلك لم يؤخر وجمع بالناس في الطريق. انتهى كلامه. وهذا القيد الذي نقله عن بعضهم قد نص عليه الشافعي فقال في "مختصر الحج الأوسط" من "الأم" في باب ما يفعل من دفع من عرفة ما نصه: ولا يصلي المغرب والعشاء حتى يأتي المزدلفة فيصليهما فيجمع بينهما بإقامتين ليس معهما أذان، وإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما دون المزدلفة هذا لفظ الشافعي بحروفه، وذكر مثله في "الإملاء" أيضًا فقال ما نصه: قال الشافعي: وأكره للرجل إذا دفع من عرفة أن يخرج حتى يأتي المزدلفة، فإن فعل لم يصل المغرب والعشاء قبل نصف الليل حيث أدركه. انتهى لفظه بحروفه، ومن "الأم" و"الإملاء" نقلت. ولا اعتبار مع نص صاحبنا بمخالفة غيره فضلًا عن إطلاقه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) تقدم.

وقول الشافعي في "الإملاء": فإن فعل أي: أتى المزدلفة يشعر بأن استحباب التأخير إنما هو لمن كان يقصد الدخول إليها، فإن لم يقصد فلا يستحب له هذا الجمع. وهي مسألة حسنة ومتجهة في المعنى؛ لأنه إن كان يقصد الدخول إليها فإن لم يقصد فلا يستحب له. هذا الأولى، والسنة فيه تقديم الثانية فلا يدخل حتى يصلي. وتأخير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعنى مناسب؛ وهو اشتغاله بفضل النسك، وإن كان مقيمًا فهو إنما يجمع على قول فعله النسك، وهو ما قلناه من قصد مزدلفة، وذلك أيضًا مفقود. قوله: ويسيرون بسكينة ووقار، فإن وجد بعضهم فرجة أسرع؛ روى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يسير حتى دفع العنق، فإذا وجد فرجة نصّ (¬1).انتهى. العنق: بعين مهملة بعدها نون مفتوحتين وبالقاف، وهو ضرب من السير فيه إسراع يسير. والنص: بفتح النون وبالصاد المهملة [على هنه] (*). والفرجة: بضم الفاء وفتحها، ويقال: فرج بلا هاء أيضًا. وروي في الحديث "فجوة" بدل "فرجة" والفجوة: هو المكان المتسع يخرج إليه من مضيق. والحديث في الصحيحين. قوله: ولو فرض النوم في أشواط وبعضها على هيئة لا تنقض الوضوء ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (878) والبخاري (1583) ومسلم (1268) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا في المطبوع، ولم أفهمها، وفي شرح القسطلاني: «(نص): بفتح النون والصاد المهملة المشددة أي سار سيرا شديدا يبلغ به الغاية»

قال الإمام: هذا يقرب من صرف الطواف إلى طلب الغريم. قال: ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه. انتهى ملخصًا. والأصح: صحة الطواف. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة"، ونقل المسألة من هنا إلى فصل الطواف؛ لأنه اللائق بها. قوله في "أصل الروضة": ولو حضرها ولم يعلم أنها عرفة، أو حضر مغمى عليه أو نائمًا أو دخلها قبل وقت الوقوف ونام حتى خرج الوقت أجزأ على الصحيح. قلت: الأصح عند الجمهور: لا يصح وقوف المغمى عليه. والله أعلم. انتهى كلامه. والذي نقله في "الروضة" عن الرافعي من صحة وقوف المغمى عليه سهو فإن المذكور فيه أنه لا يصح، فإنه قال: الرابعة: لو حضر وهو مغمي عليه لم يجزءه؛ لفوات أهليه العادة؛ ولهذا لا يجزئه الصوم إذا كان مغمي عليه طول نهاره. وفيه وجه أنه يجزئه اكتفاء بالحضور. هذا لفظه. وذكر أيضًا مثله في "الشرح الصغير"؛ فانعكس هذا الكلام عليه، ثم ظهر له مخالف للأكثرين فاستدركه عليه ظنًا منه أن الرافعي قاله ونقله عنه أيضًا في "شرح المهذب"، ثم رد عليه فيه أيضًا، وسببه ما تقدم مرات أن "الروضة" لخصها قبل شروعه في "شرح المهذب" فكان ينقل من الرافعي مما لخصه فيها من كلامه معتقدًا عدم تغييره. ووقع ابن الرفعة أيضًا في هذا الغلط، وكأنه اعتمد هنا على "الروضة" في النقل عن الرافعي كما تعمده كثير من الطلبة.

قوله: ولو حضر مجنونًا لم يجزئه. قال في "التتمة": لكن يقع نفلًا كحج الصبي الذي لا يميز. ومنهم من طرد فيه الوجه المنقول في الإغماء. انتهى. وهذا الذي نقله عن "التتمة" وأقره عليه من وقوعه نفلًا قد تابعه عليه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب"، وهو خلاف مذهب الشافعي؛ فقد نص في "الأم" وغيرها على فوات الحج بالإغماء وحينئذ فيلزم الفوات في المجنون بطريق الأولى، فقال في باب الإحصار بالمرض وغيره ما نصه: قال الشافعي: ومن لم يدخل عرفة إلا مغمي عليه لم يعقب ساعة ولا طرفة عين وهو بعرفة فقد فاته الحج. هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلت، ونص عليه أيضًا في "الإملاء" فقال: قال الشافعي: وأقل إدراك الحاج الحج أن يدخل عرفة. ثم قال ما نصه: فإذا دخلها ليلًا أو نهارًا واقفًا أو غير واقف نازلًا وسائرًا في بعض هذه الأوقات فقد أدرك الحج. وإن لم يدخلها في شيء من هذه الأوقات أو دخلها مغمي عليه لا يعقل في شيء من هذه الأوقات فقد فاته الحج. هذا لفظه بحروفه، ومن "الإملاء" نقلت. وجزم الشيخ في "التبيه" بمثله أيضًا فقال: ومن فاته الوقوف بعرفة أو وقف وهو مغمي عليه فقد فاته الحج. ولم يستدرك عليه النووي في تصحيحه. ورأيت في "التقريب" مثله أيضًا، ومقتضى كلامه جريانه في الحلق إذا جهلناه ركنًا. وقد صرح صاحب "التقريب" نقله أيضًا عن الشافعي في المجنون.

قوله: إحداهما: وقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر يوم النحر. وقال أحمد: يدخل وقته بطلوع الفجر يوم عرفة؛ لما روي عن عروة بن مضرس الطائي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من صلى معنا هذه الصلاة يعنى الصبح يوم النحر وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه" (¬1). ثم قال: ولنا وجه أنه يشترط كون الوقوف بعد الزوال وبعد مضى إمكان صلاة الظهر. انتهى. مضرس: بميم مضمومة وضاد معجمة مفتوحة ثم راء مشددة مكسورة بعدها سين مهملة. والتفث: هو المشار إليه بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬2). الآية. وهو ما يفعله المحرم عند تحلله من إزالة الشعث والوسخ والحلق وقلم الأظفار ونحوها. والحديث المذكور رواه أصحاب السنن الأربعة بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: حسن صحيح. واعلم أنا إن تمسكنا بالحديث فيقوى مذهب الحمل، وإن تمسكنا بالفعل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1950) والترمذي (891) والنسائي (3041) وابن ماجه (3016) وأحمد (16253) والدارمي (1888) وابن خزيمة (2821) والحاكم (1700) والدارقطني (2/ 239) والطيالسي (1282) والطبراني في "الكبير" (17/ 149) حديث (377) و"الأوسط" (1296) و"الصغير" (276) وابن أبي شيبة (3/ 226) والبيهقي في "الكبرى" (9251) والطحاوي في "شرح المعاني" (3651) وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 334) والحميدي (900) وابن الجارود في "المنتقى" (467) من حديث عروة - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬2) سورة الحج (29).

فيقوى الوجه الآخر، ويكون نظير ما قالوه في الأضحية فالذي ذهب إليه الجمهور مخالف للدليل القولي والفعلي. قوله في "الروضة": فلو اقتصر على الوقوف ليلًا صح حجه، وقيل: فيه قولان. انتهى. وقد حكى الرافعي -رحمه الله- طريقة ثالثة عن رواية الإمام فقال: وعن شيخه أن الخلاف مخصوص بما إذا أنشأ الإحرام ليلة النحر، فإذا لخص ذلك خرج منه ثلاثة أوجه أصحها: يكون مدركًا سواء أحرم قبل ليلة العيد أو فيها. والثاني: لا على التقديرين. والثالث: أنه مدرك بشرط تقديم الإحرام عليهما. انتهى ملخصًا. فحذف النووي ذلك. قوله: وإن دفع قبل الغروب ولم يعد ليلًا ففي وجوب الدم قولان؛ قال المحاملي والروياني: أصحهما: لا يجب؛ بل يستحب بحديث عروة المتقدم ونقله الكرخي عن الجديد وقطع به بعضهم، وفي "التهذيب" أن الجديد هو الوجوب. انتهى ملخصًا. ليس فيه هاهنا تصريح بتصحيح، وقد صرح في أوائل الفصل الثامن المعقود لمبيت منى بأن الراجح قول الاستحباب، وصرح بتصحيحه هاهنا في "الشرح الصغير" و"المحرر" وعبر فيهما بالأصح وصححه أيضًا النووي في "أصل الروضة" و"شرح المهذب" وفي غيرهما من مشاهير كتبه، ثم خالف في "المناسك الكبرى" وصحح وجوبه مع تصحيحه فيها أن الجمع بين الليل والنهار لا يجب. وهو ذهول.

قوله في أصل "الروضة": وإذا قلنا بالوجوب في مسألتنا فعاد ليلًا فلا دم على الأصح. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا تبعًا للرافعي من طريقة الوجهين قد خالفه في "شرح المهذب" فإنه حكى فيه طريقين وصحح طريقة القطع فقال: ففي سقوط الدم عنه طريقان: أصحهما وبه قطع المصنف والعراقيون وطائفة من غيرهم يسقط؛ لما ذكره المصنف. والثاني حكاه الخراسانيون: فيه وجهان: أصحهما هذا، والثاني: لا يسقط. هذا لفظه. ووقع في "المنهاج" كما وقع في "الروضة". قوله: فإن أخطأوا فوقفوا العاشر نظر إن تبين قبل الزوال فوقفوا بعده فقد قال في "التهذيب": المذهب أنه لا يجزئهم لأنهم وقفوا على يقين الفوات، وهذا غير مسلم لأن عامة الأصحاب ذكروا أنه لو قامت البينة على رؤية الهلال ليلة العاشر وهم بمكة لا يتمكنون من حضور الموقف بالليل يقفون من الغد. فإذا لم يحكم بالفوات فقيام الشهادة ليلة العاشر لزم مثله في اليوم العاشر. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه. وعبارتهما تشعر بأنهما لم يقفا على التصريح بذلك لغير البغوي. وقد صرح القاضي الحسين في تعليقه بالمسألة وخرجها على وجهين في مسألة، ولم يصرح فيها بترجيح.

الفصل السابع في أسباب التحلل

الفصل السابع: في أسباب التحلل قوله: ومبيت مزدلفة نسك، فإن دفع منها بعد انتصاف الليل فلا شيء عليه معذورًا كان أو غير معذور؛ لأن سودة (¬1) وأم سلمة (¬2) أفاضتا في النصف الأخير بإذن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يأمرهما بالدم. وإن دفع قبل انتصاف الليل وعاد قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه أيضًا. انتهى كلامه. وليس فيه تصريح بالمقدار الذي يحصل به المبيت، وفيه أربعة أقوال: أحدها: معظم الليل كما لو حلف لا يبيت في موضع فإنه لا يحنث إلا بأن يقيم فيه المعظم. والثاني: أن المعتبر هو الحصول بها حال طلوع الفجر. وهذان القولان حكاهما الرافعي في الكلام على مبيت منى استطرادًا. وصحح الأول منهما وعبر بالأظهر؛ فاعلمه. إلا أنه استشكله على القول بوجوب المبيت من جهة أنهم لا يصون مزدلفة إلا قريبًا من ربع الليل والدفع منها بعد انتصاف الليل جائز كما سبق فيلزم أن لا يحصل المعظم بالضرورة. والقول الثالث: أن يحصل بلحظة من النصف الثاني لا بكونه يسمى مبيتًا؛ فإن الأمر بالمبيت لم يرد هنا، بل لما تقدم، في تقرير إشكال ¬

_ (¬1) حديث سوده أخرجه البخاري (1596) ومسلم (1290) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) وحديث أم سلمة أخرجه مالك (930) وأبو داود (1942) والحاكم (1723) والدارقطني (2/ 276) والبيهقي في الكبرى (9354) من حديث عائشة. قال البيهقي إسناده صحيح. قال الحاكم: صحيح على شرطها ولم يخرجاه.

الرافعي بخلاف المبيت بمنى فإنه لابد فيه من المعظم. والرابع: يحصل بساعة من نصف الليل وطلوع الشمس. وهذان القولان حكاهما في "الروضة"، وصحح الأول منهما وهو الذي عبرنا عنه هنا بالثالث. وحديث تقديم سودة رواه البخاري ومسلم مع أحاديث تتعلق بتقديم غيرها أيضًا. وحديث تقديم أم سلمة رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم. قوله: فإن لم يعد وترك مبيت مزدلفة أراق دمًا. ثم قال: وهل هو واجب أو مستحب فيه طرق: أظهرها: أنه على قولين كما ذكرنا في الإفاضة من عرفة قبل الغروب. انتهى وفيه أمران: أحدهما: أن هذا التنظير قد ذكره أيضًا في "المحرر" و"الشرح الصغير"، ومقتضاه ترجيح عدم وجوبه لأنه الصحيح في الإفاضة من عرفة. إذا علمت ذلك فقد استدرك النووي عليه في "الروضة" فقال من زياداته: الأظهر وجوبه. ثم إنه ارتضى ذلك في "مختصر المحرر" فلم يستدرك عليه. واعلم أن الرافعي لما ذكر هذه المسألة في "المحرر" قال: وفي كون الدم واجبًا أو مستحبًا مثل الخلاف المذكور في عرفات، فلما اختصره النووي قال: وفي وجوبه القولان. ولم يذكر غير ذلك وهو غريب؛ فإنه ذكر هذه المسألة في أول فصل بحيث لم يتقدم للقولين ذكر في ذلك الفصل، وهو من المواضع التي يسأل عنها في "المنهاج".

الأمر الثاني: أن يقتضي كلامه أنه لا فرق في إيجاب الدم بين المعذور وغيره لأن كلامه في المسألة السابقة يدل على إرادة القسمين. وليس كذلك لما ستعرفه في الكلام على مبيت منى. قوله: وينبغي أن يأخذوا من المزدلفة الحصى للرمي. ثم قال ما نصه: ولو أخذوا من موضع آخر جاز لكن يكره الأخذ من المسجد لأنه فريضة، ومن الحش لنجاسته، ومن المرمي؛ لما قيل: إن من يقبل حجه يرفع حجره وما لقي فهو مردود. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أنه أهمل موضعًا رابعًا يكره الأخذ منه نص عليه الشافعي ونقله عنه النووي في "شرح المهذب" في الكلام على مبيت مزدلفة فقال: قال الشافعي والأصحاب: يكره أخذ حصى الجمار من أربعة مواضع: من المسجد، والحش، والحل، والجمار التي يرمي بها غيره. انتهى. ونص الشافعي في "الأم" على كراهة أخذه من كل موضع نجس سواء كان حشًا أو غيره. انتهى. والحش: بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة: هو المرحاض، وجمعة: حشوش، وأصله في اللغة البستان ثم أطلق على هذا المعنى لأن العرب كانت تقضي حاجتهم في البساتين والحدائق. الأمر الثاني: أن النووي قد جزم في باب الغسل من "شرح المهذب" بتحريم إخراج الحصى من المسجد، فقال في الفصل المعقود لأحكام المساجد ما نصه: ولا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحصاه وحجر وتراب وغيره. وقد يحرم التيمم بترابه. ومثله الشمع والزيت.

وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد" (¬1). هذا كلامه. وهو عكس ما قاله في الحج. إلا أن يقول قائل: مراده أنه إذا أخرجها من المسجد ورمى بها فتتبعها في المرمي بأعيانها ويعيدها إليه. وهو في غاية البعد عن كلامه، وفي نهاية العسر. وبتقديره فنفس الإخراج حرام كما اقتضاه كلامه، وفي نهاية العسر. وبتقديره فنفس الإخراج حرام كما اقتضاه كلامه أولًا ودل عليه الحديث. وقد سبق في كلامه هناك وهنا مصير عجبًا من منعه التيمم وتجويزه أخذ الحصى. وما أشبه هذا بقول الحسن البصري لأهل العراق: تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البراغيث. الأمر الثالث: إطلاقهم يقتضي بقاء الكراهة إذا غسل المأخوذ من الموضع النجس لأخذه إياه من مكان مستقذر ويؤيده أنهم نصوا على استحباب غسل الجمار قبل الرمي بها سواء أخذه من موضع نجس أم لا، فلو لم تبق الكراهة بعد الغسل لكان يلزم أن لا يصح قولهم، ويكره الرمي بها مع قولهم يستحب الغسل، وما أشار إليه الرافعي من رفع الحصى الثقيل فرواه الدارقطني والبيهقي من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعًا لكن بإسناد ضعيف. قال البيهقي: ويروى من وجه آخر ضعيف أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا. قال: وإنما هو مشهور عن ابن عباس موقوفًا عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (460) والبيهقي في "الكبرى" (4113) والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 184) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بسند ضعيف. ضعفه الدارقطني والألباني.

ولأجل ما ذكرناه عبر الرافعي بقوله: لما قيل. قوله: ثم الجمهور قالوا ببرود الحصى ليلًا قبل أن يصلي الصبح. وفي "التهديب": أخر أخذها عن الصلاة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، والذي قاله البغوي هو الصواب نقلًا ودليلًا؛ فقد رأيته منصوصًا عليه في "الأم" و"الإملاء". وروى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قاله في "شرح المهذب" أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: "التقط لي حصى فالتقطت له حصيات مثل حصى الحذف" (¬1). قوله: ويرمون سبع حصيات إلى جمرة العقبة وهي في حضيض الجبل مترقية عن الجادة. انتهى. حضيض: بحاء مهملة وبضادين معجمتين. قال الجوهري: هو قرار الأرض عند منقطع الجبلين. والمترقية، بالتاء المثناة من فوق وبالقاف، من الرقي وهو الارتفاع؛ أي: مرتفعة عن الطريق. والجادة: الطريق التي يسلكها غالب الناس. والجمع: الجواد. قوله: فأحد القولين أن الحلق ليس بنسك وإنما هو استباحة محظور لأن كل ما لو فعله قبل وقته كان استباحة كالطيب واللبس. وأصحهما وبه قال مالك وأبو حينفة وأحمد أنه نسك مثاب عليه؛ لأن الحلق أفضل من التقصير، والتفضيل إنما يقع في العبادات دون المباحات. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (3057) وأحمد (3248) من حديث الفضل.

وهو صريح في أن الطيب مباح لا ثواب فيه وإلا لم يصح قياس القول الأول عليه ليس كما قال، بل المنقول استحبابه بين التحللين؛ لرواية عائشة، ونص عليه الشافعي في "الأم" وجزم به هو أعني الرافعي في آخر المسألة، ووقع هذا الاختلاف للنووي أيضًا؛ فإنه ذكر في "شرح المهذب" ما ذكره الرافعي من القياس المذكور وجزم في "الروضة" باستحبابه. واعلم أنا قد استفدنا من استحباب الطيب أنه لا يلزم من كون الشيء استباحة محظور أن ينتفي عنه الثواب؛ ولهذا قال في "الوسيط": إذا جعلنا الحلق استباحة محظور كان مستحبًا يلزم بالنذر بلا خلاف، وفيه كلام آخر ستعرفه. قوله في "أصل الروضة": فإن قلنا: إن نسك فهو ركن لا يجبر بالدم. انتهى. وحكى الرافعي بعد هذا في الكلام على ما يحصل به التحلل عن الداركي أن الحلق ليس بركن إذا جعلناه نسكًا، وأسقط النووي هذا الوجه، وذهب الشيخ أبو حامد وجماعة إلى أنه ركن في العمرة واجب في الحج. فحصلنا على خمسة أوجه. قوله: لكن الحلق أفضل؛ لقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رحم الله المحلقين. فقالوا يا رسول الله والمقصرين؟ فقال في الرابعة: والمقصرين" (¬1). انتهى. وما أطلقه من تفضيل الحلق قد تبعه في "الروضة" وهو في الحج صحيح. وأما العمرة ففيها تفضيل نص عليه الشافعي في "الإملاء" ذكره في أثناء كتاب الحج قبل آخره بنحو خمسة عشر ورقة فقال ما نصه: قال الشافعي: ومن قدم معتمرًا قبل الحج في وقت إن حلق فيه حمم رأسه حتى لا يأتي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1640) ومسلم (1301) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

عليه يوم النحر إلا وثم شعر يحلق أحببت له أن يبتدئ الحلاق بفصل الحلاق، وإني لا أدري لعله لا يدرك حلاق الحج. وإن قدم يوم التروية أو يوم عرفة في وقت إن حلق فيه لم يحمم رأسه إلى يوم النحر اخترت له أن يقصر ليحلق يوم النحر، ولو حلق لم يكن عليه شيء. هذا لفظه بحروفه ومن "الإملاء" نقلته. وهي مسألة نفيسة. وحمم: بحاء مهملة وميم مفتوحة مشدودة، ومعناه: أسود من الشعر؛ مأخوذًا من الحممة؛ وهي الفحم. ويؤيد التقصير أيضًا أنه إذا تعاطاه المعتمر المذكور لزم أن يقوم في كل نسك بواجب من الحلق أو التقصير فيثاب ثواب الواجب ويدخل في دعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفعلين معًا. بخلاف ما لو حلق في العمرة. والحديث الذي ذكره المصنف رواه الشيخان. قوله: والنساء لا يؤمرن بالحلق؛ لما روي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ليس على النساء حلق وإنما يقصرن" (¬1). انتهى. وتعبيره بعدم الحلق ذكر مثله في "الروضة"، وليس فيه تصريح بكونه حرامًا أو مكروهًا أو خلاف الأولى أو مباحًا، وقد تعرض له في "شرح المهذب" فحكى فيه وجهين: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1869) والدارمي (1905) والدارقطني (2/ 271) والطبراني في "الكبير" (13018) والبيهقي في "الكبرى" (9187) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الألباني: صحيح.

أصحهما: أنه مكروه. والثاني: يحرم لأنه مثلة في حقهن وقد نهي الشارع عنها. وأيضًا فلما رواه على أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نهى أن تحلق المرأة رأسها" (¬1)، رواه الترمذي وقال: أنه مضطرب. ثم نقل أعني النووي على أبي الفتوح أن الخنثى في ذلك كالمرأة، وما أطلقه النووي وغيره من الكراهة يتجه تقييده بثلاث شروط وهي: أن تكون كبيرة حرة خلية عن الأزواج؛ فإن كانت صغيرة لم تنته إلى سن يترك فيه شعرها فالمتجه أنها كالرجل في استحباب الحلق. وإن كانت أمة فإن منعها السيد من الحلق حرم بلا نزاع، ويعدل إلى التقصير؛ لأن الشعر ملكه، ولأنه قد يقصد الاستمتاع بها أو بقصد بيعها والحلق ينقص القيمة. وإن لم يمنع ولم يأذن فالمتجه التحريم أيضًا لما ذكرناه. ثم المتجه فيما إذا قصرت امتناع الزيادة على ثلاث شعرات إلا بإذن وإن كانت حرة إلا أنها متزوجة جاز لها تقصير الجميع وإن منع الزوج؛ لأن لها غرضًا في حصول هذه السنة، ولا ضرر على الزوج فيه. وأما الحلق فيمتنع الجزم بامتناعه لأن فيه تشويهًا، ويحتمل تخريجه على الخلاف في إجبارها على ما يتوقف عليه كما الاستمتاع كإزالة الأوساخ ونحوه. والصحيح أن له إجبارها عليه، وفي التحريم عليها عند منع الوالد نظر. والأوجه. وحكم التقصير فيما زاد على الأنملة كحكم الحلق؛ لأنه لا ينضبط؛ فلو ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (914) والنسائي (5049) وتمام في "الفوائد" (1411) من حديث علي - رضي الله عنه -. وأعله الترمذي، وقال الألباني: ضعيف.

جوزنا زيادة عليه لكان يؤدي إلى ما ذكرناه من التشويه. والحديث الذي ذكره الرافعي رواه أبو داود بإسناد حسن. قوله: وإذا حلق فالمستحب أن يبدأ بالشق الأيمن ثم بالأيسر، وأن يكون مستقبل القبلة وأن يكبر بعد الفراغ وأن يدفن شعره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من البداءة بالشق الأيمن هل المراد أنه يستوعبه من مقدمه إلى مؤخره أم يفعل ذلك أولا بالمقدم ثم يفعله بالمؤخر؟ اختلف فيه كلام النووي فقال في "مناسك الحج الكبرى" ما نصه: والسنة في صفة الحلق أن يستقبل المحلوق القبلة ويبدأ الحالق بمقدم رأسه فيحلق منه الشق الأيمن ثم الأيسر ثم يحلق الباقي. هذا كلامه. وقال في "شرح المهذب": السادسة: قال أصحابنا: يستحب أن يبدأ بحلق شق رأسه الأيمن من أوله إلى آخره ثم الأيسر. هذا لفظه وهو الموافق لكلام الأصحاب وللحديث الصحيح. الأمر الثاني: أن المراد بالذي يستقبل القبلة إنما هو المحلوق له لا الحالق كما صرح به في "شرح المهذب" ولفظ الرافعي و"الروضة" محتمل للمحلوق والحالق، وكذلك لفظ الرافعي بالنسبة إلى الكبير عند فراغه وأن يدفن شعره. ثم قال: التكبير ولم أر فيه نقلًا صريحًا. الأمر الثالث: أن النووي قد نسى التكبير فلم يذكره في "الروضة" ووقع له بسبب نسيانه غلط فأحسن في "شرح المهذب" فإنه ذكر ما في "الروضة" ثم قال بعده: قال صاحب: "الحاوي": في الحلق أربع سنن: أن يستقبل القبلة، وأن يبدأ بشقه الأيمن، وأن يكبر عند فراغه، وأن يدفن شعره.

ثم قال: وهذا كلامه، وهو حسن إلا التكبير عند فراغه؛ فإنه غريب، وقد استحب التكبير أيضًا البندنيجي، ونقله صاحب "البحر" عن أصحابنا. انتهى. فانظر كيف استغرب استحبابه مع أنه مجزوم به في الرافعي؛ وسببه ما أشرنا إليه مرات من كونه ينقل من "الروضة" ويعزوه إلى الرافعي، وقد سري هذا الوهم أيضًا إلى المناسك؛ فإنه عد المستحبات كما وقع في "الروضة" خاصة ولم يذكر التكبير. قوله في "الروضة": ولو حلق ثلاث شعرات في دفعات أو أخذ من شعره واحدة شيئًا ثم عاد ثانيًا فأخذ منها ثم ثالثًا فأخذ، فإن حملنا الفدية به لو كان محصورًا حصل النسك وإلا فلا. انتهى كلامه. ذكر الرافعي نحوه أيضًا. وهذه المسألة المحال عليها وهي تكميل الفدية قد ذكرها الرافعي في آخر النوع السادس من محرمات الإحرام، ونقلها النووي إلى آخر النوع السابع، وصححا معًا أن الدم لا يكمل بل يجب في كل منها ما يجب فيه لو انفرد وهو المدون بالعاقي في ذلك حتى اقتضى كلامهما تصحيح القطع به، وحينئذ فلا يحصل به النسك أيضًا على الأصح المقطوع به. وقد خالف ذلك في "شرح المهذب" فقال: فلو حلق أو قصر ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات أجزأه وفاتته الفضيلة، هذا هو المذهب. انتهى لفظه. ثم نقل بعد ذلك ما قاله هو في "الروضة" تبعًا للرافعي عن الإمام خاصة وأن الرافعي يخصه فقال كذا وكذا، وهو تباين فاحش، على أن الرافعي هنا لم يصرح بالمنع على القول بعدم تكميل الفدية، بل إنما يؤخذ من مفهوم كلامه، وإنما النووي هو الذي صرح به حالة الإحصار.

قوله: ومن لا شعر على رأسه يستحب له إمرار الموسي على الرأس تشبها بالحالقين. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذا التعبير، وهو يقتضي أنه إذا كان على بعض رأسه شعر لا يستحب له إمرار الموسي على الباقي، والقياس خلافه لأنه كما يستحب الحلق في الجميع يستحب إمرار الموسي عليه للمعنى الذي قالوه وهو التشبيه. قوله: أما إذا نذر الحلق في وقته فإنه متعين ولم يقم التقصير مقامه ولا النتف ولا الإحراق. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" نحوه، وعبر في "شرح المهذب" بعدم الإجزاء. وهذه العبارات مجملة إذ يحتمل أن يكون المراد عدم الجواز فقط، ويحتمل عدم حصول التحلل أيضًا. وعلى كل من التقديرين، فإذا زال الشعر جميعه بغير الحلق فهل يبقى الحلق أيضًا في ذمته حتى يتعلق بالشعر المستحلق تداركًا لما التزمه أو لا يتعلق به؛ لأن النسك إنما هو في إزالة شعر اشتمل عليه الإحرام كما قاله الرافعي فيه نظر، والمتجه الأول وهو عدم الجواز؛ فإنه إذا نذر صفة في واجب لم تقدح تلك الصفة في الاعتداد بذلك الواجب كما لو نذر الحج ماشيًا وقلنا بوجوب المشي فركب. قوله في "الروضة": وفي وجه غريب لا يلزم الحلق بالنذر إذا لم يجعله نسكًا. انتهى كلامه. وحاصله أن الصحيح المعروف أن الحلق يلزم بالنذر وإن قلنا: إنه ليس بنسك، وهذا مشكل؛ لأن النووي جازم بأن الحلق لا ثواب فيه إذا فرعنا على هذا القول أي: كونه ليس نسكًا. هكذا قاله في "شرح المهذب" وغيره وصرح به الرافعي أيضًا.

وإذا لم يثبت عليه فكيف يلزم بالنذر مع اتفاقهم على أن النذر لا يصح إلا في قربة. وبالجملة فالذى ذكره في "الروضة" غير مطابق لكلام الرافعي؛ فإن الرافعي قد قال ما نصه: وقوله يعني الغزالي لا خلاف في أنه مستحب يلزم بالنذر ليس صافيًا عن الإشكال لأن التوجيه الذي مر يقتضي كونه من المباحات على قولنا أنه ليس بنسك وقد ذكر غيره أنه إنما يلزم بالنذر على قولنا أنه نسك. هذا لفظ الرافعي، ولم يذكر في هذه المسألة غيره، وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وهو صريح في إنكاره؛ وليوضح ذلك فيقول: قد علمت أن الغزالي ذهب إلى استحبابه على القول بأنه ليس بنسك، ويلزم من استحبابه لزومه بالنذر، ونزاع الرافعي ليس في الوجوب على تقدير تسليم الاستحباب بل إنما نازع في الاستحباب المقتضي للوجوب؛ ولهذا عبر بقوله لأن التوجيه الذي مر يقتضي كونه من المباحات فتأمله. . إلى آخره. وحاصل ما يستفاد من سياقه رجحان الإباحة وعدم الوجوب، وهو كلام صحيح. وأما ما صححه النووي من الوجوب بناء على أنه ليس من المناسك فلا يستقيم؛ لأنه إن كان تفريعًا على أنه مستحب فهو تفريع صحيح غير أنه لا يقول هو به فإنه قد صرح في "شرح المهذب" وغيره فعبر بعدم الثواب كما تقدم نقله عنه في المسائل السابقة، وإن كان مع القول بالإباحة فلا يستقيم لأن اللازم بالنذر إنما هو المستحب دون المباح؛ فالصواب إما أن يقول باستحبابه ولزومه بالنذر أو بإباحته وعدم لزومه.

وأما الجمع بين الإباحة واللزوم فمما لا يعقل. وأما كلام الرافعي فمستقيم كما سبق لأن إشعاره بعدم الوجوب بالنذر موافق لتصريحه بالإباحة تفريعًا على ذلك القول. واعلم أن نذر الحلق له ثلاثة أحوال: أحدها: أن لا يعين مقدارًا، بل يطلق الحلق فيكفي حلق ثلاث شعرات عند من أوجبه. الحال الثاني: أن يصرح بالاستيعاب؛ قال الرافعي: ففيه تردد عن القفال ولها أجوبة تذكر في النذر، وأشار بذلك إلى ما إذا نذر استيعاب الرأس بمسح الرأس في الوضوء ونحوه، والأصح فيه اللزوم. وهذه المسألة لم يذكرها في "الروضة". الحال الثالث: أن يعبر بالحلق مضافًا فيقول لله تعالى على حلق رأسي، والمتجه أنه كتصريحه بالجميع للعرف، ويحتمل إلحاقه بما إذا قال: على الحلق أو أن أحلق. وتدل عليه الآية. قوله: وأعمال الحج يوم النحر أربعة: جمرة العقبة، والذبح، والحلق، والطواف. انتهى. لم يتعرض هنا لصلاة العيد، وقد تقدم الكلام عليها في موضعها فراجعها. قوله: ومتى يخرج وقت هذه الأربعة؟ أما الرمى فيمتد وقته إلى غروب الشمس يوم النحر. وهل تمتد تلك الليلة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. انتهى كلامه فيه أمران:

أحدهما: أن ما ذكره هنا من الامتداد إلى الغروب فقد ذكر ما يخالفه في الكلام على الأغسال المسنونة فقال نقلًا عن الإمام أنه يمتد إلى الزوال، وقد تقدم الكلام عليه. الأمر الثاني: أن تصحيحه عدم الامتداد تلك الليلة قد تابعه عليه في "الروضة" وكذلك في "المناسك الكبرى"، ثم خالف ذلك في المناسك المذكورة أيضًا في الكلام على فوات رمي أيام التشريق فذكر أن هذا الرمي يجوز فعله بالليل وفي باقي أيام التشريق ويكون أداء، ووافقه عليه أيضًا غيره، وسيأتي الكلام عليه هناك مبسوطًا. قوله: وأما الذبح فالهدي لا يختص بزمن لكن يختص بالحرم. انتهى. واعلم أن الهدي يقع على دماء الحيوانات والمحظورات وعلى ما يسوقه المحرم تقربًا إلى فقراء الحرم كما فعل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فالأول لا يختص بزمن قياسًا على الديون وغيرها، وهذا هو المراد هنا. وأما الثاني فيختص ذبحه بوقت الأضحية على الصحيح كما ذكره الرافعي في آخر باب الهدي، وصرح هناك بأن اسم الهدي يقع على الكل وبأن الهدي المذكور هناك الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو الذي يسوقه المحرم. ثم ذكر الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" على مسألة في بابها وحكم عليها بما ذكرته غير أنه عبر في الموضعين بالهدي ولم يفصح عن المراد كما أفصح عنه في الكثير، وظن النووي -رحمه الله- أن المسألة متناقضة فاعترض على الرافعي هنا في "الروضة" و"المنهاج" و"شرح المهذب" وقال: إن المذكور هنا خلاف الصحيح وإن الصحيح ما ذكره هناك،

والعجب من استدراكه مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد؛ فتفطن لذلك؛ وأحد ما وقع فيه النووي من هذا الوهم الفاحش. قوله: وأما الحلق والطواف فلا أحدهما لكن ينبغي أن يطوف قبل خروجه من مكة. وقال في "التتمة". إذا تأخر عن أيام التشريق صار قضاء. انتهى. وكلامه يشعر بجواز تأخير أسباب التحلل إلى خروج أيام الحج، وبه صرح النووي في "شرح المهذب" فقال في هذا الموضع: يكره تأخير الحلق وطواف الإفاضة عن هذا اليوم، وتأخيرها عن أيام التشريق أشد كراهة، وخروجه من مكة قبل ذلك أشد، ولكن لا آخر لوقتها، ولا يزال محرمًا حتى يأتي بذلك. انتهى كلامه وما اقتضاه كلامه في "الروضة" وصرح به في الشرح المذكور يشكل عليه ما ذكره فيه أيضًا في الكلام على الفوات؛ فإنه قال ما نصه: قال الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي وغيرهم: ليس لصاحب الفوات أن يصير على إحرامه إلى السنة القابلة لأن استدامة الإحرام كابتدائه وابتداؤه لا يصح، ونقله أبو حامد هذا عن النص وعن إجماع الصحابة. انتهى. قلت: وجزم به أيضًا صاحب التقريب ونقله عن "النص" أيضًا. وإحصار الحاج بسنة ما نحن فيه فإنه إذا ترك التحلل فاته الحج ولزمه القضاء. وليس في "الشرح" ولا في "الروضة" فيه ولا في الفوات تصريح بوجوب المبادرة إلى التحلل ولا بعدم وجوبها. وقد جزم ابن الرفعة في "المختصر" بأنه لا يجب عليه أن يتحلل بالكلية فقال: كلام الأصحاب دال على أنه غير واجب.

قال: وصرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما. ثم ذكر في مسألة الفوات ما يدل على أن التحلل فيه واجب، ونقله عن الماوردي، وعلله بأن الاستدامة كالابتداء. وذكر في مسألتنا وهي تأخير طواف الإفاضة والحلق ما يوافقه فقال: الذي يظهر لي أن قول: من قال: يجوز تأخيرهما، ليس على إطلاقه بل هو محمول على من يحل التحلل الأول بأن أتى بأحدهما مع الرمي وإلا يصير محرمًا بالحج في غير أشهره. والذي قاله ابن الرفعة حكمًا وتعليلًا مردودًا؛ فقد تقدم عن "شرح المهذب" عكسه، وأما التعليل فلأن وقت الحج يخرج بطلوع فجر يوم العيد والتحلل قبل ذلك لا يجب اتفاقًا بل أن يؤخروه إلى ما بعد طلوع الشمس، وهو نظير ما لو أحرم بالنافلة في غير وقت الكراهة ثم مدها إليه فإنه يجوز وإن كان ابتداؤها فيه لا يصح. قوله: ومن فاته الرمي ولزمه بدله فهل يتوقف التحلل على الإتيان ببدله؟ فيه أوجه: أشبهها: نعم؛ تنزيلًا للبدل منزلة المبدل. والثالث: إن افتدى بالصوم فلا؛ لطول زمانه. انتهى كلامه. والصحيح في هذه المسألة خلاف ما رجحه الرافعي؛ فإن المشهور أنه لا يتوقف، وهو الذي نص عليه الشافعي. وقد تعرض لما ذكرناه ابن الرفعة أيضًا حتى نقل فيه عن بعضهم الإجماع. وتعبير الرافعي بالأشبهه يدل على أنه لم يظفر بترجيح صريح في المسألة لعدم إمعانه فيها.

وقد اغتر النووي بهذا الترجيح الضعيف فعبر عنه في "الروضة" بالأصح، ثم نقل ذلك منها إلى غيرها على عادته. فإن قيل ما الفرق عند الرافعي بين هذا وبين المحصر إذا عدم الهدي؟ فإن أصح القولين أن التحلل لا يتوقف على بدله وهو الصوم مع أن العلة في مسألتنا وهي تنزيل البدل منزلة المبدل لوجوده فيه؟ . قلنا: الفرق أن التحلل إنما أبيح للمحصر تخفيفًا عليه حتى لا يتضرر بالمقام على الإحرام، فلو أمرناه بالصبر إلى أن يأتي بالبدل لتضرر. قوله: ويحل بالتحلل الأول اللبس والتقليم وستر الرأس. روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إذا حلقتم ورميتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء" (¬1). وفي عقد النكاح والمباشرة فيما دون الفرج قولان، واختلفوا في الأصح منهما؛ فذكر صاحب "المهذب" وطائفة أن الأصح منهما الحل. وقال آخرون: بل الأصح المنع ومنهم المسعودي، صاحب "التهذيب". وهؤلاء أكثر عددًا وقولهم أرفق لظاهر النص في المختصر. انتهى. وما اقتضاه كلامه من رجحان التحريم قد خالفه في "الشرح الصغير" فصحح الحل وعبر بالأظهر، وكلامه في "المحرر" يقتضي التفصيل بينهما؛ فإنه صرح بإباحة عقد النكاح بالأول وجعل المباشرة داخلة فيما يحل بالثاني. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2090) من حديث ابن عباس مرفوعًا بسند ضعيف. وأخرجه أبو داود (1978) و (25146) والدارقطني (2/ 276) والبيهقي في "الكبرى" (9379) والطحاوي في "شرح المعاني" (2/ 228) والحارث في "مسنده" (380) من حديث عائشة مرفوعًا. وقال الألباني: صحيح.

وقد استدرك عليه النووي في "المنهاج" وصحح التحريم ونقله في "شرح المهذب" عن الأكثرين. والحديث المذكور رواه الدارقطني من ثلاثة طرق، ولكنه ضم الذبح في الطرق الثلاث إلى الخصلتين المذكورتين وهما الرمي والحلق. غير أن الأصحاب اتفقوا على أنه لا مدخل له في التحلل. وروى النسائي بإسناد جيد كما قاله في "شرح المهذب": إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل [شيء] (¬1) إلا النساء، ونقل أعني النووي في الشرح المذكور أن الحديث الذي ذكره الرافعي رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف وليس كما قال؛ فإن المذكور في أبي داود: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء"، وهو موافق لما رويناه عن النسائي في الاقتصار على خصلة واحدة. قوله في "الروضة": والمذهب حل الطيب بالأول، بل هو مستحب بين التحللين. انتهى. وهذه العبارة لا يعلم منها أن الأصح طريقة القطع أم طريقة القولين، قد بينه الرافعي فقال: وفي الطيب طريقان: أشهرهما أنه على القولين، والثاني: القطع بالحل، وسواء أثبتنا الخلاف أو لم نثبته فالمذهب أنه يحل بل يستحب. هذه عبارته. فاقتصر النووي في "الروضة" على آخر عبارة الرافعي ثم التبس عليه المراد منها في "شرح المهذب" فظن أن مراده رجحان طريقة القطع فصرح به فقال: المذهب الذي عليه الجمهور هو القطع بالحل. هذا لفظه فاحذره. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفصل الثامن في المبيت

الفصل الثامن: في المبيت قوله: وفي الحد المعتبر للمبيت بمزدلفة ومنى قولان: أظهرهما: معظم الليل. انتهى. استدرك عليه النووي فقال ما نصه: المذهب ما نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم" وغيره أن الواجب في مبيت مزدلفة ومنى ساعة في النصف الثاني من الليل. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض يؤخذ منه موافقة الرافعي على اشتراطه معظم الليل في المبيت بمنى، وهو كذلك. وقد صرح باشتراطه في "الروضة" أيضًا من "زيادته" في أواخر تعليق الطلاق، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن مخالفته في مزدلفة يقتضي مخالفته في منى لاتفاقهما في المعنى وأنه إنما أفرد مزدلفة بالذكر لأن نص الشافعي وقع فيها بخصوصها، وقد سبق الكلام في مبيت مزدلفة على هذه المسألة مبسوطًا. قوله في أصل "الروضة": ثم هذا المبيت مجبور بالدم وهل هو واجب أو مستحب أما ليلة المزدلفة فقد سبق حكمها، وأما ليالي التشريق ففيها قولان: أظهرهما الاستحباب، وقيل: يستحب قطعًا. قلت: الأظهر: الإيجاب، والله أعلم. انتهى كلام "الروضة". وهو غير مطابق لكلام الرافعي -فإنه أعني الرافعي- قد عبر بقوله وبسببه ترجيح قول الاستحباب ثم قال عقبة: ولكن كلام الأكثرين يميل إلى ترجيح الإيجاب هذه عبارته فاقتصر النووي على هذا الترجيح الضعيف وعبر عنه بصيغة صريحة، ثم استدرك عليه.

وكلا الرافعي في "المحرر" ظاهر في الإيجاب أيضًا؛ فإنه عبر بلفظ (على) فقال: فعليه المبيت، ذكر ذلك في الكلام على جواز النفر؛ ولهذا عبر عنه في "المنهاج" بلفظ الوجوب. قوله: إذا ترك مبيت ليلة النحر وحدها أراق دمًا، وإن ترك مبيت ليالي التشريق فكذلك على المشهور كان فتتوزع عليها توزيع الرمي على الجمرات الثلاث. وعن صاحب "التقريب" رواية قول أن في كل ليلة دمًا كما أن في رمي كل يوم دمًا. وإن ترك ليلة أو ليلتين فعلى الأقوال في حلق الشعرة والشعرتين. وإن ترك الأربع فدمان: دم لليلة مزدلفة ودم الثاني التشريق لاختلافهما في الموضع وفي الأحكام وفي قول: دم واحد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا في الدليل للقول المروي عن "التقريب" أن في رمى كل يوم دمًا مناقض لما سيأتي بعد هذا في الكلام على ترك الرمي؛ فإن الصحيح المذكور هناك وهو المشهور إيجاب دم واحد لرمي الأيام الثلاث. نعم: يجب في رمي كل يوم دم إذا تركه على انفراده إلا أن الكلام الآن ليس في ذلك بل في ترك المجموع. وينبغي أن يستحضر أن حكم المبيت مخالف لحكم المرمى؛ فسيأتيك أنه إذا ترك رمي الأيام الأربعة لزمه دم واحد عند الجمهور. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" عبر بقوله: وإن ترك الليالي الثلاث لزمه دم على المذهب. هذه عبارته. فاقتضى أن الرافعي حكى في المسألة طريقين. وليس كذلك.

قوله: وأما ترك مبيت مزدلفة أو منى لعذر فلا دم عليه. وهم أصناف: منهم رعاء الإبل، وأهل سقاية العباس؛ فلهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت هنا ليالي التشريق؛ لما روي عن ابن عمر "أن العباس استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية فأذن له" (¬1). وهم عاصم بن عدي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "رخص للرعاة أن يتركوا المبيت بمنى ويرموا يوم النحر جمرة العقبة ثم يرموا يوم النفر الأول" (¬2). انتهى. ذكر مثله في "الروضة". وليس فيه تصريح بجواز ترك مبيت مزدلفة لأهل السقاية والرعاة بخصوصهم؛ فتأمله من أوله إلى أخره، بل كلامه يوهم المنع، والمنقول الجواز؛ فقد حكاه الطبري شارح "التنبيه" عن صاحب "الفروع"، وجزم به في "الكفاية". والحديث الأول رواه البخاري ومسلم. والحديث الثاني رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: حديث حسن. قوله صحيح لو أحدث سقاية للحاج فللمقيم لسقايتها ترك المبيت قاله في التهذيب والحديث الثاني رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1553) ومسلم (1315) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه أبو داود (1976) والترمذي (955) والنسائي (3068) وابن ماجة (3036) وأحمد (23825) والدارمي (1897) وابن خزيمة (2976) وابن حبان (3888) والحاكم (5773) والطبراني في "الكبير" (17/ 173) حديث (455) وابن أبي شيبة (3/ 271) والبيهقي في "الكبرى" (9456) وابن الجارود في "المنتقى" (478) من حديث أبي البراح بن عدي عن أبيه قال الترمذي: حسن صحيح.

قوله: ولو أحدث سقاية للحاج فللمقيم لسقايتها ترك المبيت. قاله في "التهذيب". وقال ابن كج وغيره: ليس له. انتهى. والصحيح المنع؛ فقد نقله صاحب "الحاوي" و"البحر" وغيرهما عن نص الشافعي وهو المشهور كما أشعر به لفظ الرافعي أيضًا، وصحح النووي في "الروضة" وغيرها من كتبه الجواز، وليس كذلك فاعلمه. قوله: ومن المعذورين الذين ينتهون إلى عرفة لئلا يضطر إلى ترك المبيت فخلاف المقيض إلى عليه. انتهى. وهذه المسألة الأخيرة فيها نظر ظاهر، والذي أجاب به القفال فيها قد سبقه إليه صاحب "التقريب"، وقد نقله عنه الإمام من جملة ما نقل ولكن لم يذكره الرافعي. قوله: ومنهم -أي: من المعذورين- من له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو مريض يحتاج إلى تعهده أو كان يطلب عبدًا آبقًا أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته؛ ففي هؤلاء وجهان: أصحهما -ويحكي عن نصه: أنه لا شيء عليهم كالرعاء وأهل السقاية. والثاني: لا يلحقون بهم لأن شغلهم ينفع الحجيج عامة وأعذار هؤلاء تخصهم. انتهى. وفيه أمور: أحدها: أن الماوردي نقل في "الحاوي" عن الشافعي أنه نص على منع لحاق هؤلاء بالمعذورين على خلاف هذا النص المذكور هنا؛ فصار الخلاف في المسألة قولين لا وجهين.

الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي في تعليل الوجه الثاني مقتضاه أن المراد بالإبل هي إبل الحجيج لا إبل غيرهم؛ فتفطن له. ولم يذكر النووي في "الروضة" هذا التعليل. الثالث: أن هذا الخلاف هل هو في جواز ترك المبيت أو في وجوب الدم خاصة مع القطع بجواز الترك؟ كلام الرافعي يحتمل كلام الأمرين، والصواب الذي لا شك فيه هو الثاني فكيف يجب عليه أن يبيت ويترك المريض ضائعًا أو المال تالفًا أو يمكث لمن يقتله ونحو ذلك، وكلام الأصحاب يوهم الأول فاحذره. واعلم أن الثعالبي قد قال في كتاب "سر اللغة" في آخر الفصل الثالث من الباب الثالث أنه لا يقال للعبد آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد في العمل، وإلا فهو هارب.

الفصل التاسع في الرمي

الفصل التاسع: في الرمي قوله: وإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي من الغد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد تابعه في "الروضة" على إطلاق جواز النفر، وليس ذلك على إطلاقه بل تستثنى منه مسألة حسنة نقلها الروياني في "البحر" فقال: قال أصحابنا: محل هذا إذا كان الشخص قد بات الليلتين الأولتين لكونه قد أتى بمعظم المبيت، أو كان من أصحاب الأعذار الذين يجوز لهم ترك المبيت كأهل الرعاء وغيرهم. أما من لا عذر له ولم يبت الليلتين فلا يجوز له أن ينفر. هذا كلامه، ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره. وجزم الماوردي في "الحاوي" بأنه لا يجوز النفر إلا لمن بات الليلتين، ولم يفصل بين المعذور وغيره. الأمر الثاني: أن تقييده بما بعد الرمي يشعر بأنه إذا نفر قبل ذلك لا يسقط عنه مبيت تلك الليلة فقال: لو نفر قبل الزوال فقال الشريف العثماني من أصحابنا: لا يسقطان لأن هذا النفر غير جائز. قال الطبري -شارح "التنبيه": وما قاله العثماني صحيح متجه. وكلام الطبري وصاحب "البيان" مشعر بأنهما لم يقفا في المسألة على نقل، وقد ذكرها في "النهاية" مبسوطة مخالفة لما ذكراه، ونقل في "شرح

المهذب" ذلك بجملته مستحسنًا له فقال: وجمع إمام الحرمين هذه المسألة وفصلها أحسن تفصيل فقال: لو نفر يوم النحر الأول ولم يرم فإن لم يعد استقرت فدية ذلك اليوم عليه، فإن عاد بعد غروب شمسه فقد فات الرمي والاستدراك ولا حكم لمبيته، فإن رمى في النفر الثاني لم يعتد برميه لأنه ينفره أعرض عن منى والمناسك وإن عاد قبل غروبها فحاصل الخلاف فيه على ما لخصه صاحب "التقريب" أربعة أقوال: أحدها: أن الرمي انقطع ولا ينفعه العود. والثاني: يجب عليه العود ويرمي ما عليه ما لم تغرب الشمس. والثالث: أن يتخير بين أن يرجع ويرمي ويسقط عنه الفرض وبين أن لا يرجع ويريق دمًا. وتجري هذه الأقوال في النفر الأول والثاني. والقول الرابع: عن ابن شريح أنه خرج في النفر الأول ثم عاد قبل الغروب ورمى لم يقع رميه موقع وإن خرج في النفر الثاني ولم يرم ثم عاد ورمى قبل الغروب وقع موقعه. ولا خلاف في أن من خرج في اليوم الأول من التشريف ثم عاد قبل الغروب رمى؛ إذ لا حكم للنفر في الأول، فإن عاد بعد الغروب فقد فاته الرمي، وفيه الكلام السابق في التدارك. وبالجملة لا أثر للخروج في هذا اليوم، وكذا لا أثر له في يوم البحر، وانما يؤثر الخروج في التفريق كما مر. قال: ثم إذا قلنا: من خرج في النفر الأول بلا رمي وعاد قبل الغروب يرمي، فإذا رمى وغربت الشمس لزمه المبيت والرمي من الغد.

وإن قلنا لا يرمي لم يلزمه المبيت ولو بات لم يكن لمبيته حكم. ولو خرج في النفر الأول قبل الزوال ثم عاد وزالت الشمس وهو بمنى فالوجه القطع بأن خروجه لا حكم له ولو لم يعد حتى غربت الشمس فقد انقطعت العلائق. وإن كان خروجه قبل دخول وقت الرمي. ولو عاد قبل الغروب فظاهر المذهب أنه يرمي ويعتد برميه، ومن الأصحاب من تركه. فهذه الصورة منزلة صورة الأقوال. انتهى ما نقله في "شرح المهذب" عن الإمام. نعم: إذا تعدى فترك أحدهما فقط فهل يجب عليه أن يأتي بهما معًا، وإن كان الإخلال بالمعظم لم يحصل إلا بترك أحدهما إسقاطًا على المتعجل ووجوبًا على غيره أو يأتي بما تعدى بتركه على غيره أو يأتي بما تعدى بتركه لقيامه بالمعظم في الخصلة الأخرى، أو يفصل فيقال: إن حصل الإخلاص في المعظم بترك المبيت لم يلزمه الرمي فإنهم قد صرحوا بأن المبيت إنما وجب لأجل الرمي فيكون تابعًا، والتابع لا يوجب المتبوع، وإن حصل بترك الرمي وجب المبيت، لما أشرنا إليه من أن إيجاب المبيت لأجله، في كل ذلك نظر. قوله: والسنة أن يرمي بمثل حصى الخذف وهو دون الأنملة طويلًا وعرضًا في قدر الباقلاء، يضعه على بطن الإبهام ويرميه برأس السبابة. روي أنه -عليه السلام- قال: عليكم بحصى الخذف. انتهى كلامه. والحديث المذكور رواه مسلم من رواية الفضل بن عباس (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم.

والخذف: بالخاء والذال المعجمتين، وهو الرمي على الكيفية التي ذكرها. وأما بالحاء المهلمة فهو الرمي من حيث الجملة. وما ادعاه من كونه يرمي بمثل حصى الخذف مسلم، وأما كونه على هيئة الخذف فنازع فيه النووي وقال أنه وجه ضعيف، بل يرميه على العادة. قوله: ولابد مع الرمي من القصد إلى المرمي حتى لو رمى في الهواء فوقع في المرمي لم يتعد به. انتهى. وذكر الطبري شارح "التنبيه" كلامًا حسنًا فيه تقييد وتنبيه لابد منه فقال: أما لو قصد غير المرمي فوقع فيه ثم في المرمي كما يفعله كثير من جهلة الناس يرمون العلم المنصوب في الجمرة والحائط المبني في جمرة العقبة قصدًا ثم ترتد إلى المرمي فالأظهر عندي أنه لا يجزئ؛ لأنه قصد برميه غير المرمي، ويحتمل أنه يجزئ لأنه حصل فيه بفعله مع قصد الرمي. أما من علم المرمي وقصدهما بالرمي لترتد الحصاة بقوة الرمي إليه لم يبعد الجزم بالصحة لمن رمى في الهواء قاصدًا الوقوع في المرمي بقوة رميه فإنه لا ريب في إجزائه. ولم يذكر الأصحاب في المرمي حدًا معلومًا غير أن كل جمرة عليها علم فينبغي أن يرمي تحته على الأرض ولا يبعد عنه احتياطًا. وقد قال الشافعي: الجمرة مجتمع الحصى، لا ما يسأل من الحصى؛ فمن أصاب مجتمع الحصى أجزأه وإن أصاب سائله لم يجزئه. انتهى كلام الطبري المذكور. قوله: ولو وقعت في غير المرمي ثم تدحرجت إلى المرمي أو ردها الريح إليه فوجهان؛ قال في "التهذيب": أصحهما الإجزاء لأنها حصلت منه لا بفعل الغير. انتهى.

تابعه النووي في "الروضة" على نقل تصحيحه عن البغوي، وأطلق تصحيحه في "شرح المهذب" هنا ثم قال فيه أيضًا في آخر صفة الحج في فروع: فرع: إذا رمى حصاة فوقعت فتدحرجت بنفسها فوقعت في الرمي أجزأه بالإجماع؛ نقله العبدري. هذا كلامه. وقال الطبري -شارح "التنبيه": أصح الوجهين أنه لا يجزئ. قلت: وقد يفصل ليجزئ في التدحرج دون حمل الريح؛ لأنه ليس من فعله، وهذا في الريح الشديدة، أما الخفيفة فلا يمنع. قوله: ولا يجزئ الرمي عن القوس والدفع بالرجل. قاله في "العدة". انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن "العدة" فيه نظر لكنه قد ارتضاره النووي فجزم به في "الروضة" ولم ينقله عنه ونقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا. قوله: الثانية: يشترط أن ترمي الحصيات في سبع دفعات. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا لكنه إذا رمى حصاتين دفعة واحدة إذا رمى حصاتين دفعة واحدة إحداهما باليمنى والأخرى باليسرى فإنه لا يحسب له إلا واحدة بالاتفاق كما قاله في "شرح المهذب" فتفطن لهذه المسألة. قوله: ولو رمى حجرًا قد رمى هو به إلى تلك الجمرة في ذلك اليوم فوجهان؛ قال في "التهذيب": أظهرهما الجواز. انتهى كلامه. وما رجحه البغوي هو الراجح. كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير"، وعبر أيضًا بالأظهر، والنووي في "أصل الروضة" و"شرح المهذب"، ونقله فيه عن الجمهور.

قوله: والثابت في الرمي لا يرمي عن المستنيب إلا بعد أن يرمي عن نفسه، فلو فعل وقع عن نفسه فلو فعل وقع عن نفسه كما في الحج. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله، ولا يعلم منه أن المراد التوقف على جميع رمى ذلك اليوم أو على رمى تلك الجمرة حتى إذا رمى الجمرة الأولى فيصح أن يرمي عقب ذلك عن النائب قبل أن يرمي الجمرتين الباقيتين عن نفسه؟ ، وفي المسألة نظر. وقول الرافعي: فلو فعل وقع عن نفسه، يدل على الاحتمال الثاني، وما ذكرناه هنا يأتي أيضًا في الرعاء وأهل السقاية فإنه إذا أخروا رمى يوم ثم أرادوا فعله مع رمى الذي عليه فإنا نأمرهم بالقضاء قبل الأداء. قوله: ولو أغمي عليه ولم يأذن لغيره في الرمي عنه لم يجزء الرمي عنه، وإن أذن فللمأذون الرمي عنه في أصح الوجهين ولا يبطل هذا الإذن بالإغماء لأنه واجب كما لا تبطل به الاستنابة في الحج بخلاف سائر الوكلات. انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن التعبير في أول المسألة بقوله لم يجزء قد تابعه عليه في "الروضة"، وهذه اللفظة ينبغي أن تقرأ بضم الياء بمعنى يكفي، لا بفتحها بمعنى يحل؛ فإن الشافعي قد نص في "الإملاء" على أنه لا يجوز فقال: ومن أغمي عليه فلم يفق حتى مغيب الشمس من آخر أيام التشريف أحببت لمن معه أن يرمي عنه، وعلى المغمي عليه أن يهريق دمًا لأنه لم يأمر بالرمى. هذا لفظه بحروفه. وهي مسألة حسنة لكنها مخالفة للقواعد لأن الرمي إن لم يصح أصلًا -وهو الذي عبر به في "شرح المهذب"- فكيف يؤمر به، وإن صح فكيف صححناه بلا إذن، وأيضًا فصحته عنه تستلزم

براءة ذمته منه. الأمر الثاني: ما نبه عليه في "الروضة" فقال: شرطه أن يكون أذن قبل الإغماء في حال تصح الاستنابة فيه. صرح به الماوردي وآخرون، ونقله الروياني عن الأصحاب. الأمر الثالث: لم يصرحوا بحكم الاستنابة بالنسبة إلى وجوبها، والمتجه فيها الوجوب لضيق الوقت بخلاف المغصوب. واعلم أن ما صححوه من عدم البطلان بالإغماء قد أجاب العراقيون بمثله فيما إذا استناب المغصوب في الحج ثم مات، ونقله عنه عنهم الإمام هنا. ثم قال: وما قالوه محتمل في الإغماء بعيد في الموت. قلت: والذي قاله العراقيون فيهما متجه، والأحسن في تعليله ما ذكره الرافعي في آخر المسألة وهو أن الاستنابة إنما جوزناها للعجز وقد انتهى إلى حالة هو فيها أعجز مما كان. قوله: إحداهما: إذا ترك رمي يوم النفر عمدًا أو سهوًا هل يتداركه في اليوم الثاني والثالث أو ترك رمي اليوم الثاني أو رمى اليومين الأولين هل يتداركه في الثالث: فيه قولان: أصحهما: نعم. ثم قال: التفريع إن قلنا بأنه لا يتدارك فهل يتدارك رمى اليوم في الليلة التي تقع بعده من ليالي التشريق؟ فيه وجهان وهما مفرعان على الصحيح في أن وقته لا يمتد إلى الليلة على ما سبق. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على تفريع هذين الوجهين على الأصح هناك وهو عدم الامتداد، وهو فاسد لأنا إذا فرعنا على أنه لا يمتد ليلًا فكيف يحسن الجزم بأنه لا يتدارك نهارًا وأن يكون في التدارك ليلًا خلاف؛ إذ لا مزية فيه لليل على النهار بل النهار أولى لأنه محل للرمي على الجملة.

والصواب أن يجعل الخلاف مفرعًا على الخلاف لا على الوجه المصحح، وقد ذكره كذلك في "الشرح الصغير". قوله: وإن قلنا بالتدارك فتدارك فهو أداء أو قضاء؟ فيه قولان: أحدهما أنه قضاء لمجاوزته الوقت المصروف له، وأظهرها أنه إذا ولاه لما كان للتدارك فيه مدخل كما لا يتدارك الوقوف بعد فوات التفريع إن قلنا أنه أداء فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد، وكل يوم للقدر المأمور به فيه وقت اختيار كأوقات الاختيار للصلوات. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه قد ذكر قبل الموضع بنحو ثلاثة أوراق ما يخالفه المذكور هنا فقال: وللصنفين جميعًا -يعني: رعاة الإبل، وأهل سقاية العباس- أن يدعوا رمي منى ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم، وليس لهم أن يدعوا رمي يومين على التوالي. انتهى كلامه. وهو في غاية العجب، لأنه قطع هناك بأن أصحاب الأعذار الذي أرخص لهم تأخير صوم رمي يوم واحد ولا يجوز تأخير رمي يومين. وصحح هنا أنه يجوز تأخير رمي يوم ويومين من غير عذر لأنه جعل أيام منى كالوقت الواحد وجعل كل يوم القدر المأمور به وقت اختيار لا وقت جواز كما قلنا في الصلاة أن لها وقت اختيار ووقت جواز. وقد وقع هذا التناقض أيضًا للرافعي في "الشرح الصغير"، والنووي في "شرح المهذب". وهو تناقض عجيب، ومع تناقضه فجوازه مشكل جدًا؛ إذ لم يرد من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا توزيع الرمي على الأيام، فالقول بجواز التأخير وحلق يوم أو يومين عن الرمي لا دليل عليه لاسيما مع قوله -عليه السلام-: "خذوا

عني مناسككم" (¬1). وقد وقع في "الكفاية" لابن الرفعة أن الرافعي والإمام صححا أن الرامي المتدارك فصار وهو غلط. الأمر الثاني: أنه قد تقدم أيضًا عند الكلام على الترخص للرعاة والسقاة أن الصنفين إذا أخروه يقضونه من الغد كما حكيناه من قبل؛ فظاهره يخالف، وإن احتمل القضاء اللغوي فإن اصطلاحهم يدفعه. قوله في التفريع على قول الأداء: ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال. انتهى كلامه. ومعناه أن الرمي الفائت إذا قلنا: يقع أداء فيجوز أن يقدم على الزوال وبه صرح النووي في "شرح المهذب". إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن هذا الحكم الذي اقتضاه كلامه فاسد، والعبارة التي عبر بها عنه فاسدة أيضًا أما قال فلا يجوز أن يرمي قبل الزوال. ثم إن الرافعي لم يوجد في شرحه لهذا الموضع اعتراض عليه ولا حكاية خلاف أصلًا، ولا يتخيل في شارح كتاب أنه يجزم بعكس المشروح من غير تنبيه عليه ولا تعليل لما في الأصل؛ فعلمنا بذلك حصول غلط في نسخ "الشرح الكبير"، وقد علم ذلك من "الشرح الصغير" فإنه قال فيه ما نصه: وإذا قلنا: أنه أداء، فهل يجوز تقديمه على الزوال أم يتأقت بما بعده؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع؛ لأن ما قبل الزوال لم يشرع فيه لأن تعيين الوقت بالأداء أليق. وهذا ما أورده في "الكتاب". ¬

_ (¬1) تقدم.

هذا كلام "الشرح الصغير"، وهو يبين لك أن المذكور في "الكبير" غلط وسببه إسقاط وقع للناقل أولًا من المسودة. وأما الثاني -وهو فساد العبارة- فلأن يوم التدارك مدلوله هو اليوم الذي يتدارك فيه الرمي. ورمى هذا اليوم وغيره من أيام التشريق يقدم على الزوال قطعًا، وقد اتفق عليه الأئمة الأربعة ولم يخالف فيه منهم إلا أبو حنيفة في اليوم الثالث خاصة وقد أوضحه الرافعي قبل هذا بنحو ورقتين. نعم: وقع التردد في تقديمه إلى يوم آخر مع فعله بعد الزوال لكن مراد الرافعي بهذا اللفظ إنما هو الرمي الثابت كما تقدم ذكره للمعنى الذي قلناه ولقرينه تصريح الغزالي في "الوجيز" والنووي في "شرح المهذب" به، وكذلك الرافعي أيضًا في التفريع على القول الآخر وهو القضاء. الأمر الثاني: أنه لم يبين حكم الرمي ليلًا على القول بأنه أداء، وقد ذكره في "الشرح الصغير" وحكى فيه طريقين أصحهما: أنه على الوجهين فيما قبل الزوال، والثانية: القطع بالمنع، وكأنه سقط من جملة ما سقط. وحاصل ما قاله في "الشرح" المذكور امتناع الإتيان به إلا نهارًا بعد الزوال وهو المذكور في "النهاية" فقال: والوجه القطع به، وجزم له الغزالي في "الوسيط"، وابن يونس في "التعجيز" وفي شرحه له، وجوز ابن الصباغ في "الشامل" تفريعًا على هذا القول -يعني قول الأداء- أن يفعل ليلًا ونهارًا، ونص عليه الشافعي في "الأم"، وذكر مثله ابن الصلاح ثم النووي في مناسكهما. الأمر الثالث: أنه لم يصرح بحكم جمرة العقبة وقد صرح به المذكوران أيضًا في مناسكهما وقالا بأن الحكم فيها بالنسبة إلى تداركه ليلًا ونهارًا

والحكم عليه بالأداء كحكم رمي أيام التشريق، وصرح بذلك أيضًا صاحب "الحاوي الصغير" في العجائب، ثم رأيت ذلك -أعني التسوية بين الرميين مجزومًا بها في كتاب "التقريب"، ونقله عن "النص". قوله: ونقل الإمام على هذا القول -أي: القول بكونه أداء- أنه لا يمتنع من تقديم رمي يوم إلى يوم، لكن يجوز أن يقال أن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول فلا يجوز التقديم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله الرافعي عن الإمام من جواز التقديم هو المعروف في المذهب فقد جزم به في "الشرح الصغير" ولم يتوقف فيه كما توقف في "الكبير"، ونقل في "النهاية" وأن الأئمة أجازوه، ولم يحك فيه خلافًا وإن كان نقل الرافعي لا يعطيه، ونقله أيضًا كذلك صاحب "التعجيز" في شرحه غير أنه نقل عن جده أنه توقف فيه، وجزم به الفوراني في "العمد". الأمر الثاني: أن النووي قد استدرك في "الروضة" على ما نقله الرافعي فقال ما نصه: والصواب الجزم بمنع التقديم وبه قطع الجمهور تصريحًا ومفهومًا، والله أعلم. وذكر نحوه في "شرح المهذب" ونسب تجويزه فيه إلى الإمام فقط، وقد ظهر لك أن الأمر ليس كما قال وأنه لم يمعن النظر هاهنا؛ وكأنه أخذ المنع من كلام "الحاوي" للماوردي؛ فإنه استدل في أثناء هذه المسألة بالإجماع على منعه، وتبعه عليه في "البحر" فقال: الصحيح أنه لا يجوز التعجيل قولًا واحدًا. قوله: وإن قلنا: أنه قضاء، فتوزيع الأقدار المعينة على الأيام مستحق، ولا سبيل إلى تقديم رمي يوم على يوم. ثم قال: ولا إلى تقديمه على

الزوال. انتهى لفظه. والممنوع تقديمه على الزوال مراده به الرمي المتدارك، وتعليله للمسألة الآتية يدل عليه، وهو ظاهر أيضًا. ومنعه التقديم تفريعًا على القضاء كيف يستقيم مع جزمه قبل ذلك بجوازه تفريعًا على كونه أداء. وهو في غاية التباين لأن الجواز في القضاء أولى عنه في الأداء بدليل الصلوات الخمس ونحوها. وهو يدل أيضًا على بطلان ذلك الحكم. وقد حكى في "الشرح الصغير" في مسألتنا وجهين عن حكاية الإمام وصحح المنع لكنه ماش على قاعدة واحدة فإنه يمنع التقديم أيضًا على القول بأنه أداء. قوله في التفريع على هذا القول -وهو قول القضاء- وهل يجوز بالليل؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأن القضاء لا يتأقت. والثاني: لا؛ لأن الرمي عبادة النهار كالصوم. هذا لفظه، وما ذكره هنا من تصحيح جوازه بالليل تفريعًا على قول القضاء غريب جدًا؛ فإنه قد تقدم من كلامه في المسألة السابقة الجزم بأنه لا يجوز تقديمه على الزوال تفريعًا على هذا القول؛ وحينئذ فإذا امتنع فعله قبل الزوال على هذا التفريع لزم امتناع بالليل بطريق الأولى: لأن النهار محل للرمي على الجملة بخلاف الليل. لا جرم أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد صحح المنع وعبر بالأصح والمنع هو الصواب. قوله: وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك؟ فيه قولان: إن قلنا قضاء فلا. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما قاله على القول بالقضاء من عدم الوجوب إنما يتجه في

المتروك سهوًا، أما المتروك عمدًا فإنه يجب فعله على الفور، ومن لازم أن لا يتقدم شيء عليه، وهذه الأحكام مفروضة في المتروك سهوًا وعمدًا كما تقدم في صدر المسألة. الأمر الثاني: أن ما صححه من وجوب الترتيب قد تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" وغيرها على إطلاقه. وقال النووي في "المناسك الكبرى": هذا إذا فعله بعد الزوال، فإن فعله قبله لم يجب. الأمر الثالث: أنه لا فرق في وجوب الترتيب من جمرة العقبة ورمى أيام التشريق حتى لو لم يرم في يوم النحر وقلنا بتداركه وجب الترتيب بينه وبين رمى التشريق، كذا صرح به ابن الصلاح ثم المصنف في المسألة التاسعة من مناسكهما؛ فتفطن له فإنه قلَّ من تعرض له. قوله في "الروضة": ولو رمى إلى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه أجزأه إن لم يوجب الترتيب وإلا فوجهان: أصحهما: يجزئه ويقع عن القضاء والثاني: لا يجزئه أصلًا. قال الإمام: ولو حرف الرمي إلى غير النسك بأن يرمي إلى شخص أو دابة في الجمرة ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف؛ فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغى قصده، وإن انصرف فإن شرطنا الترتيب لم يجزءه أصلًا، وإلا أجزأه عن يومه. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره فيما إذا صرف الرمي إلى غير النسك وقلنا: ينصرف، لا يستقيم الأخذ بما دل فيه كلامه عليه -وهو الإجزاء عن اليوم إذا لم يوجب الترتيب- لأنا إذا قلنا ينصرف فلا يتصور القول بأنه يجزئه ولا عن أمسه، وقد ذكر الإمام المسألة على الصواب فإنه ذكر أولًا مسألة الدابة

وحكى ما فيها من الخلاف في الانصراف، ثم فرع عليه فقال: إن قلنا: لا ينصرف، فلو رمى على قصد يومه وقع عن أمسه، وإن قلنا ينصرف فإذا رمى وظيفة يومه فإن لم نوجب الترتيب إجراء عن يومه، وإن أوجبناه لم يجزءه أصلًا. هذا كلامه. فعلمنا أن الإمام جعل مسألة الدابة مقدمة للمسألة المقصودة -وهي الرمي عن اليوم قبل الرمي عن الأمس- وقدمها ليسن بها أن قصد الرمي عن اليوم صرف له عن رمى أمسه. ثم إن الرافعي عبر بعبارة موهمة لكنها صحيحة أيضًا؛ فإنه ذكر كما في "الروضة" إلا أن أراد حكاية كلام الإمام عبر بقوله وزاد الإمام كذا وكذا. فعلمنا بذلك أن مراد الرافعي تتمة المسألة السابقة وأن الإمام رتب فيها ترتيبًا زائدًا. ثم إن النووي حذف هذه اللفظة المرشدة للصواب وجعلها مسألة مستقلة، وصنع ذلك أيضًا في "شرح المهذب"؛ فلزم منه ما لزم من الخلل المذكور، فاعلمه. نعم: يمكن تأويل كلام "الروضة" على بُعد بأن يجعل المراد بقوله: فإن لم ينصرف أوقع عن أمسه؛ أي: فإن ينصرف بالصارف وقع في المسألة السالفة عن أمسه، وكذا فيما بعد أيضًا. فإذا أعدنا الكلام على المسألة السابقة على وفق ما صرح به الإمام استقام. وفي الصرف كلام مهم تقدم في الكلام على صرف الطواف. هذا كله في رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق. قوله: أما إذا ترك رمي يوم النحر ففي تداركه في أيام التشريق طريقان: أصحهما: أنه على قولين. والثاني: القطع بأنه لا يتدارك. انتهى. ولم يتعرض الرافعي -رحمه الله- ولا النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" للحكم على هذا الرمي المتدارك بالأداء والقضاء ولا لفعله بالليل

وما قبل الزوال، وقد أوضحناه قبل ذلك بنحو ورقتين فراجعه. وهذه المسألة التي حكى الرافعي فيها طريقين قد نص عليها الشافعي في "الأم"، ونص على التدارك نصًا صريحًا على وفق ما اقتضاه ترجيح الرافعي. قوله: والسنة أن يرفع يده عند الرمي فهو أهون عليها. انتهى. تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية" على إطلاق الرفع، وهذا في الرجل، أما المرأة فلا يستحب لها ذلك بلا شك لأنه أستر لها. وقد صرح به الطبري -شارح "التنبيه"، وكذلك النووي في تصحيحه إلا أنه عبر بالأصح فاقتضى أن يكون فيها وجهان ولا أعلمه منقولًا. ولا شك أن الخنثى في هذا كالمرأة. وحد الرفع أنه يرى بياض إبطه؛ كذا ذكره في "التنبيه" و"شرح المهذب"، وذكر في "الروضة" في الكلام على الوقوف أن الداعي إذا رفع يديه لا يجاوز بهما رأسه، ويتجه مثله هاهنا أيضًا. واعلم أن الإبط أسود؛ وذلك لما فيه من الشعر فكيف يستقيم أن يقال: حتى يرى بياض إبطه؟ والجواب أن بياض الإبط كان من خواص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فورد التعبير بذلك في حقه فأطلق على غيره ذهولًا. قوله: ويسن أن يكون نازلًا في اليومين الأولين وراكبًا في اليوم الأخير فيرمي وينفر عقبه. هكذا أورده الجمهور ونقلوه عن نصه في "الإملاء" وفي "التتمة" أن الصحيح ترك الركوب في الأيام الثلاثة. انتهى. اعترض في "الروضة" على كلام المتولي فقال ما نصه: هذا الذي في "التتمة" ليس بشيء، والصواب ما تقدم. هذا لفظه، وهو كلام عجيب؛

فقد ثبت فيه الحديث الصحيح من رواية ابن عمر؛ وهو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا" (¬1). رواه الترمذي وقال: إنه حسن صحيح. والعجب أن النووي قد ذكر هذا الحديث في "شرح المهذب" وقال: إنه على شرط البخاري ومسلم. قوله في "الروضة": فإن ترك الرمي يوم النحر وأيام التشريق وقد توجه عليه رمى اليوم الثالث فثلاثة أقوال: أحدها: دم، والثاني: دمان، والثالث: أربعة، وهذا الأخير أظهرها عند صاحب "التهذيب". لكن مقتضى كلام الجمهور ترجيح الأول خاصة عجيب؛ فقد صرح الرافعي في أول المسألة بأن الأصح وجوب دمين، وعلله باختلاف الرميين في الحكم. قوله: الثانية: لو ترك اليوم أو رمي واحد من أيام التشريق. لزمه دم، وإن ترك بعض رمى اليوم نظر إن كان من واحد من أيام نظر إن كان من واحد من أيام التشريق فقد جمع الإمام فيه طرقًا: أحدها: أن الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث فلا يكمل الدم في بعضها، فإن ترك جمرة ففيما يلزمه الأقوال. التي يأتي ذكرها في حلق الشعرة. قال: والطريق الثاني أن الدم يكمل في وظيفة الجمرة الواحدة. وفي الحصاة والحصاتين الأقوال الثلاثة. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي -رحمه الله- ذكر طريقين لا غير مع أنه قد ذكر في أول كلامه أن الإمام حكى فيها طرقًا. ¬

_ (¬1) تقدم.

إذا علمت ذلك فاعلم أن ما ذكره من حكاية الإمام للطرق صحيح. والطريقة الثالثة من الطرق التي حكاها الإمام أن الدم يكمل بثلاث حصيات فصاعدًا وفيما دون ذلك أقوال الشعرة. وهذه الطريقة هي المشهورة المجزوم بها في "المحرر" و"المنهاج"، فنسيها الرافعي أو سقطت من الناقل أولًا من المسودة. وقد أشكل الأمر على النووي فقال في "الروضة": فيها طريقان: وحاصل الطرق الثلاث أن في تكميل الدم ثلاثة أوجه: أحدها: يرمي يوم. والثاني: يرمي جمرة. والثالث: بثلاثة أحجار، وقد ذكره هكذا الرافعي في "الشرح الصغير" والغزالي في "الوجيز". الأمر الثاني: أن ما ذكره من إلحاق الجمرة بالشعرة في مجئ الأقوال صحيح، إلا أن تلك الأقوال مفرعة على اختيار الدم كما سنوضحه في موضعه، وأقوال الجمرة متأصلة ليست مفرعة على شيء؛ لأن الدم الواجب في الحلق وغيره من المنهيات دم تجبير، والواجب في ترك الرمي وغيره من المأمورات دم ترتيب فتفطن له. قوله: وفي ترك الحصاة الأقوال الثلاثة الآتية في الشعرة إذا حلقها ثم قال: واعلم أن الخلاف المذكور وليس في ترك الحصاة والحصاتين مطلقًا، ولكن إن ترك حصاة من الجمرة الأخيرة من آخر أيام التشريق ففيه الخلاف، وإن تركها من الجمرة الأخيرة من يوم النفر أو النفر الأول ولم ينفر، فإن قلنا: الترتيب غير واجب من التدارك ورمي الوقت صح رميه، لكنه ترك

رمي حصاة واحدة ففيه الخلاف. وإن أوجبنا الترتيب فهو على الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم هل يقع عن الماضي؟ إن قلنا: نعم، تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده لكنه يكون تاركًا لرمي الجمرة الأولى والثانية في ذلك اليوم فعليه دم. وإن قلنا: لا، كان تاركًا رمي حصاة ووظيفة يوم فعليه دم إن لم نفرد كل يوم بدم. وإن أفردنا فعليه الوظيفة اليوم. وفيما يجب لترك الحصاة الخلاف المذكور. وإن تركها من إحدى الجمرتين الأولتين في أي يوم كان فعليه دم لأن ما بعدها غير صحيح لوجوب الترتيب في المكان. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" أيضًا. وتعبيره في أثناء الكلام بقوله: لكنه يكون تاركًا لرمي الجمرة الأولى والثانية في ذلك اليوم يقتضي الاعتداد بالجمرة الثالثة؛ وكأنه نظر إلى كونه قد رمى عنها بعد الإتيان بالحصاة التي عليه. وهو سهو. وكأنه نظر إلى كونه قد رمى عنها بعد الإتيان بالحصاة التي عليه، وهو سهو لما ذكره بعد ذلك من وجوب الترتيب في المكان بلا خلاف؛ فالصواب أن يقول كان تاركًا لوظيفة اليوم. قوله: هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق. فإن ترك بعض رمي النحر فقد ألحقه في "التهذيب" بما إذا ترك من الجمرة الأخيرة من اليوم الأخير، وقال في "التتمة": يلزمه دم ولو ترك حصاة لأنها من أسباب التحلل، فإذا ترك شيئًا منها لم يتحلل إلا ببدل كامل. انتهى كلامه.

تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على نقل ذلك من غير ترجيح. وما ذكره في "التتمة" قد نقله في "البحر" عن الأصحاب حكمًا وتعليلًا. وعَبّر بقوله: قال أصحابنا، وهو الصحيح أيضًا لا للمعنى المذكور، بل لأن الصحيح أن رمي يوم النحر حكمه في التدارك كحكم رمي أيام التشريق حتى يجوز تداركه فيها وحينئذ فيكون الحكم هنا كما إذا تركها من الجمرة الأخيرة من اليوم الأول من أيام التشريق وقد سبق أنه يلزمه دم وسبق ما انبنى عليه من القواعد. نعم: طريقة البغوي إنّ رَمْي يوم النحر نوع آخر من الرمي مخالف لرمي أيام التشريق فكذلك وفى بقاعدته هنا. وأما الرافعي والجمهور فيمنعون ذلك. قوله: وحكى في "النهاية" وجهًا غريبًا أن الدم يكمل في حصاة واحدة. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية هذا وجهًا وعلى استغرابه أيضًا، وليس بوجه ولا غريب؛ فإن الشعرة فيها أربعة أقوال، ووجوب الدم الكامل أحد الأربعة كما ذكره الرافعي بعد هذا، غير أنه لم يستحضره هاهنا فاقتصر على حكاية الثلاثة الباقية، وحينئذ فإذا ألحقنا الحصاة بالشعرة جاءت فيها الأقوال الأربعة.

الفصل العاشر في طواف الوداع

الفصل العاشر: في طواف الوداع قوله في "أصل الروضة": وإذا خرج بلا وداع وقلنا: يجب الدم فعاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم، وإن عاد بعد بلوغها فوجهان: أصحهما: لا يسقط. انتهى كلامه: فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به هاهنا من طريقة الوجهين مخالف لما في "شرح المهذب" وأنه حكى فيه طريقين وصحح طريقة القطع فقال: وإن عاد بعد بلوغها فطريقان: أصحهما -وبه قطع الجمهور: لا يسقط. والثاني حكاه الخراسانيون وجهان. هذا لفظه. وقد عبر في "المنهاج": بالصحيح. الأمر الثاني: أن تعبيره بالسقوط ذكره أيضًا الرافعي وهو يقتضي ثبوت الدم بمجرد الخروج، وينبغي أن يأتي فيه ما سبق في مجاوزة الميقات بعد إحرام، فراجعه. قوله: أحدهما: ذكر الإمام والغزالي أن طواف الوداع من مناسك الحج، وليس على الخارج من مكة وداع لخروجه منها، لكن صاحب "التتمة" و"التهذيب" وغيرهما أوردوا أنه ليس من جملة المناسك حتى يؤمر به من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيًا أو آفاقيًا. وهذا أقرب بسببها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله للإحرام، ولأنهم اتفقوا على أن المكي إذا حج وهو على عزم الإقامة بوطنه لا يؤمر

بطواف الوداع، وكذا الآفاقي إذا حج وأراد الإقامة بها ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما قاله من كون طواف الوداع ليس من المناسك مردود؛ فقد تظافر على أنه من المناسك كلام الشافعي والأصحاب؛ فقد قال الشافعي في "الإملاء" بعد تقريره أنه ليس بواجب ما نصه: فإن قال قائل: فلم أمرتموه أن يهريق دمًا. قيل: هو شيء أمر به من الحج والعمرة فتركه. هذا لفظه ومن "الإملاء" نقلت. وقال في "الأم" في باب الطواف بعد عرفة: أعمال الحج منها ما إذا تركه ورجع إليه سقط عنه الدم، ولو لم يرجع لزمه الدم مثل الميقات في الإحرام ومثله والله أعلم طواف الوداع قياسًا على المزدلفة والجمار والبيتوته ليالي منى لأنه نسك قد تركه. هذا لفظه في "الأم"، وصرح به القاضي في "التلخيص" وصاحب "التقريب" والمحاملي والقاضي الحسين، وكذلك القاضي أبو الطيب في استدلاله على وجوبه، وقال الماوردي: أنه من سنن الحج، وكذلك أبو بكر بن لال في "مختصر" له لطيف حنيفة في العبادات خاصة وسماه "شرح ما لا يسع المكلف جهله" وصاحب "التنبيه" أنه من واجباته، ونقله الفوراني في "العمد" عن الأصحاب فقال ما نصه: قال أصحابنا: طواف الوداع من جملة الأبعاض. قال القفال: وهذا غلط. انتهى. وأيضًا فقد اتفقوا على جبره بالدم عند الترك وجوبًا إن قلنا بوجوبه، وهو دليل على أنه من الحج لأن الدم إنما يجب للتحلل الحاصل في الحج لا لترك المأمور به يتجرد بدليل وجوبه إذا ترك الإحرام من الميقات وعدم وجوبه إذا ترك الإحرام لدخول مكة.

الأمر الثاني: أن استدلاله عليه بأنه لو كان من المناسك لعم المقيم والراحل كلام ضعيف كما نبه عليه صاحب "التقريب" وسبب الوقوع فيه ذهولهم عن شرطه؛ لأنه وإن كان من المناسك لكن إنما يشرع لمعنى وهو مفارقة البين وذلك مفقود هنا، ثم إن الاستدلال الذي قبله فيه نظر أيضًا لأنه إن كان اقتضاء الدخول للإحرام فسببه اقتضاء الخروج للوداع فيكونان سواء في الوجوب أو عدمه. وليس كذلك، بل الوداع واجب والإحرام غير واجب. الثالث: أنه قد ذكر في أوائل الفصل المعقود للوقوف ما يخالف ما قاله هاهنا ويوافق كلام الغزالي فقال في الكلام على الخطبة المسنونة يوم السابع ما نصه: وينبغي أن يأمر في خطبته للمتمتعين أن يطوفوا قبل الخروج للوداع. انتهى. وما قاله من أن المتمتع يطوف للوداع دون غيره سببه أن المتمتع قد أراد الخروج بعد تحلله من مناسكه وهي أعمال العمرة. وأما المفرد والقارن فلم يتحللا من مناسكهما. إذا علمت ما ذكره هناك فهو مخالف لما رجحه هاهنا لتخصيصه الأمر عن فرع من المناسك ولانتفاء الخروج إلى مسافة القصر. وقد تابعه النووي في "الروضة" على الموضعين، وعبر عن قول الرافعي هنا أنه أقرب بقوله: أنه أصح، ثم خالف الموضعين معًا في "شرح المهذب" فقال عقب الكلام على هذه المسألة في أثناء فرع ما نصه: والصحيح المشهور أن طواف الوداع يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها، سواء أكانت مسافة قريبة أم بعيدة لعموم الأحاديث وممن صرح به صاحب "البيان" وغيره، انتهى كلامه.

ثم ذكر أيضًا في الشرح المذكور ما يخالف هذا ويوافق كلام "الروضة" فإنه نقل عن الشافعي والأصحاب إيجابه. واعلم أن في نقله ذلك عن صاحب "البيان" نظر؛ لأن صاحب "البيان". ذكر ذلك فيما إذا خرج إلى منزله وهو يقتضي أن من خرج لحاجة ويعود قريبًا لا وداع عليه، بخلاف يقتضيه كلام النووي. ومما يدل عليه أيضًا أن العمراني قال: قال الشيخ أبو نصر في "المعتمد": ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع عندنا خلافا "للبيان" أنه عليه. الأمر الرابع: أنه قد تقرر بما ذكرناه في النصوص السابقة أن الخلاف في كونه من مناسك الحج جار في العمرة أيضًا على خلاف ما يوهمه تقييده المذكور في أول المسألة. قوله: الثانية: ينبغي أن لا يمكث بعد طواف الوداع، فإن مكث نظر إن كان لغير عذر أو اشتغل بغير أسباب الخروج من شراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض فعليه إعادة الطواف. وإن اشتغل بأسباب الخروج من شراء الزاد وشد الرحل ونحوهما فقد نقل الإمام فيه وجهين: أحدهما أنه يحتاج إلى الإعادة ليكون آخر عهده بالبيت. وأصحهما -وبه أجاب المعظم- أنه لا يحتاج لأن المشغول بأسباب الخروج غير مقيم. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أنه قد سبق في باب الاعتكاف أن عيادة المريض إذا لم يخرج

لها بل كانت على طريقه لا تقطع التوالي في الاعتكاف الواجب بل يغتفر صرف قدرها في سائر الأغراض فكذلك القول في صلاة الجنازة أيضًا. وإذا ثبت هذا هناك لزم جريانه هنا بطريق عليه فقال: وأخر عهد معقول؛ وهو أن يفرغ من الرحلة وجميع حوائجه ثم يطوف، فإن أخذه بعد ذلك ارتحالًا أو مقامًا فينزل أو زيارة لأحد أو بيعًا أو شراء على غير طريقه عاد للوداع، وإن مر على طريقه بمنزله وأنقذ رحلته لم يعد. هذا لفظه، ونقله عنه صاحب "التقريب". والأمر الثاني: أنا قد استفدنا من هذا النص أن مذهب الشافعي خلاف ما رجحه الرافعي من كون الاشتغال بشد الرحل في غير طريقه لا يضر. الأمر الثالث: أن الذي حكاه عن "النهاية" مخالف للمذكور فيها؛ فإن التردد الذي حكاه فيها إنما هو في التعريج لأمر قبل طواف القدوم، وقال أنهم قطعوا بأن التعريج في طواف الوداع يفسده ذكر ذلك في الفصل المعقود لأحكام الطواف أن لا يعرج الراجع إلى مكة بعده على أمر، فإن عرج على [أمر] (*) فسد ما جاء به عن الجهة المطلوبة وتعين الإتيان بطواف الوداع مرة أخرى. هذا لفظه. ثم أعاد المسألة بعد ذلك بنحو ورقة في الكلام على طواف القدوم فقال: ثم قال الأئمة: ينبغي أن لا يعرج القادم على أمر حتى يطوف طواف القدوم؛ ففي قوله الأئمة تردد. وقطعوا بأن التعريج نقد طواف الوداع نفسه. هذا لفظه. نعم: صرح الغزالي في "البسيط" بحكاية الوجهين. قوله: الثالثة: هل يجب طواف الوداع أم لا؟ فيه قولان كالقولين في الجمع بين الليل والنهار؛ أصحهما -على ما قاله صاحبا "التهذيب"

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليست بالمطبوع

و"العدة"- وجوبه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينصرفن أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت" (¬1). واحتج للثاني بالقياس على طواف القدوم لكن صاحب "التقريب" ألحق طواف القدوم بطواف الوداع في وجوب الجبر. وعلى التسليم بالفرق أن طواف القدوم تحية البقعة وليس مقصودًا في نفسه؛ ألا ترى أنه يدخل في طواف العمرة وطواف الوداع مقصود في نفسه، وكذلك لا يدخل تحت طواف آخر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التعليل الذي ذكره في طواف الوداع وهو كونه مقصودًا لا يدخل تحت غيره لم يذكره في "الروضة" ولا في "شرح المهذب". وهو حكم مهم بل قاعدة عظيمة حتى لو طاف للإفاضة بعد رجوعه من أيام منى ثم أراد السفر عقبة لم يكف بل لابد أن يطوف للوداع أيضًا. وكذلك لو طاف للعمرة أو عن نذر. ولكن روى البخاري في صحيحه عن عائشة في اعتمارها مع أخيها عبد الرحمن عقب الحج ما يدل على خلاف؛ فإنه لما ذكر الحديث قال في أثنائه: "فنزلنا المحصب فدعا بعبد الرحمن فقال: أخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما انتظركما هاهنا فأتيا في جوف الليل فقال: أفرغتما؟ قال نعم. فنادى بالرحيل في أصحابه بأن يحل الناس" (¬2). هذا لفظه. فلم يأمر بطواف غير طواف العمرة؛ ولهذا ترجم له - ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1227) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه البخاري (1485).

أعني البخاري- بقوله: باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع. الأمر الثاني: أن صاحب "التقريب" قد نقل عن "النص" والأكثرين التفرقة، ونقل المساواة عن بعضهم إلا أنه أيده فقال: ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الذم لترك طواف القدوم، وهو قياس القول بوجوبه في الوداع، لكن نص الشافعي وأكثر الأصحاب على الفرق. هذه عبارته. ثم جزم به -أي: بعدم الوجوب- بعد ذلك بأوراق في الكلام على وجوب الإحرام على داخل مكة فقال ما نصه: وكما خصت مكة نفسها بطواف القدوم لا على أنه واجب بكل حال لكنه سنة؛ فمن تركه فلا قضاء عليه، ولو كان فرضًا أشبه أن يلزم تاركه بعد وجوبه بالإحرام دم، ولا نعلمه أوجبه نصًا إلا أن يقاس على طواف الوداع في أحد القولين. هذا لفظه، ومنه نقلت فثبت بطلان ما نقلوه عنه. والحديث المذكور رواه مسلم ولفظه: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وروى البخاري أيضًا قريبًا منه ولفظه: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" (¬1). والاستدلال إلا للولي لأن لفظ الأمر لا يدل على الإيجاب بخصوصه بل محتمل له وللندب كما أوضحناه في علم الأصول؛ فتفطن له. قوله: الرابعة: إذا خرج من غير وداع وقلنا بوجوبه فعاد وطاف نظر إن عاد قبل الانتهاء إلى مسافة القصر تأدي الواجب به وسقط الدم بلا خلاف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1668) ومسلنم (1328) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

كما لو جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه، وإن عاد بعد الانتهاء إليها فوجهان: أصحهما: أنه لا يسقط لاستقراره بالسفر الطويل فوقوع الطواف بعد العود حقًا للخروج الثاني. والثاني: يسقط كما قبلها. ولا يجب العود في الحالة الثانية وأما الأولى ففيها خلاف. . إلى آخره. وما ذكره -رحمه الله- من نفي الخلاف لم يتعرض له في "الروضة" لكون الرافعي قد ذكره بعد الفراغ من المسألة في الكلام علي ألفاظ "الوجيز" وليس ذلك بصحيح؛ فإن في المسألة ثلاثة أوجه خرجها صاحب "التقريب" من نصوص مختلفة ورأيتها في كتابه: أحدها: يعيده مطلقًا. والثاني: يعيده إن لم يتعد. والثالث: يعيده مطلقًا إن قضى ما تركه بأن يطوف للقدوم ثم للوداع الأول ثم للوداع الثاني. هذا كلامه. قوله: ويقول إذا فرغ: اللهم إن البيت بيتك. . . . إلى آخره. ثم قال ما نصه: ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينصرف. وينبغي أن يتبع نظره البيت ما أمكنه. انتهى. وحاصله أنه يرجع القهقري كما يفعله كثير من الناس، أو يلتفت إليه حال انصرافه، وهو أقرب إلى كلامه. إذا علمت ذلك فقد وافق النووي هنا على ما قاله الرافعي. ثم إنه صحح في "شرح المهذب" خلاف ما جزم به هاهنا فقال ما نصه: قطع جماعة بأنه إذا طاف للوداع وبصره للبيت حتى يكون آخر عهده بالبيت.

وقال القاضي أبو الطيب وآخرون: يلتفت إليه في حال انصرافه كالمتحزن عليه. وقال جماعات: يخرج ماشيًا تلقاء وجهه وهذا الثالث هو الصواب. هذا كلامه. وجزم صاحب "التنبيه" بالوجه الأول فاستدرك عليه النووي في تصحيحه فقال: المختار: أنه لا يلتفت. وهذا الاستدراك يقتضي أن الصحيح ما قاله الشيخ كما اصطلح عليه في خطبة التصحيح.

الفصل الحادي عشر في حكم الصبى

الفصل الحادي عشر: في حكم الصبى قوله: وهل للولي أن يحرم عن الصبي المميز؟ فيه وجهان. قال الإمام: وظاهر المذهب هو الجواز لأنه يولي عليه فيه بدليل عدم استقلاله. انتهى. وما نقله عن الإمام وأقره عليه من ترجيح الجواز قد ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وأطلق النووي تصحيحه في "أصل الروضة"، ثم إنه في "شرح المهذب" نقل هذا التصحيح الذي ذكره من تصرفه في "الروضة" عن الرافعي ولم يصحح هو فيه شيئًا فقال: فيه وجهان مشهوران حكاهما المتولي وآخرون؛ أصحهما عند الرافعي يصح، وقطع البغوي بأنه لا يصح. ثم قال: وقطع به أيضًا صاحب "الشامل". هذا كلامه. قوله في "أصل الروضة": والمجنون كصبي لا يميز يحرم عنه وليه. وفيه وجه غريب ضعيف بأنه لا يجوز الإحرام عنه، إذ ليس له أهلية العبادات. انتهى كلامه. وما ذكره من استغراب هذا الوجه غريب صادر عن غير مراجعة؛ فقد جزم الشيخ في "التنبيه" و"التهذيب" بأنه لا يصح، وعلله بأنه ليس أهلًا للعبادة، وصرح به أيضًا. القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وابن الصباغ في "الشامل" والماوردي في "الحاوي". وفرق بينه وبين الصبي الذي لا يميز بأن إفاقة المجنون مرجوة في كل وقت بخلاف عدم التمييز.

ونقله الرافعي أيضًا عن ابن كج الحناطي. وكلامه في "شرح المهذب" يشعر بأن الخلاف كالمتعادل؛ فإنه قال ما نصه: وجهان: جزم المصنف وآخرون بأنه لا يصح منه، وجزم البغوي والمتولي والرافعي وآخرون بصحته. ثم قال: وهذا هو الصحيح. هذا لفظه، وما ادعاه من جزم الرافعي سهو فإنه قد حكى الخلاف كما تقدم. قوله: فيها أيضًا: وفي الوحي والقيم طريقان قطع العراقيون بجواز إحرامهما عن الصغير، وقال آخرون: وجهان: أرجحهما عند الإمام المنع. انتهى. أهمل طريقة ذكرها الرافعي بعد ذلك في الكلام على ألفاظ "الوجيز" فقال: وعن الداركي طريقة قاطعة تنفي الجواز للقيم ونحوه. قوله: وفيه صور: إحداها: القدر الزائد من التفقة بسبب السفر في مال الصبي أو على الولي؟ فيه وجهان، وقيل قولان؛ والأصح أنه على الولي. انتهى ملخصًا. ئم أعاد المسألة في كتاب قسم الصدقات في الباب الثاني في كيفية الصرف فقال ما نصه: والذي يدفع إلى ابن السبيل تمام مؤنتة أو ما زاد بسبب السفر فيه وجهان: أصحهما أولهما، وهما كالقولين في عامل القراض إذا سافر، وفي الولي إذا حج بالصبي وأنفق من ماله لم يضمن. هذا لفظه. وفيه مخالفتان للمذكور هاهنا. إحداهما: جزمه بأن الخلاف قولان على ما رجح هاهنا من كونه وجهين.

والثاني: جعله الخلاف في غرامة الجميع على خلاف ما جزم به هنا من كونه في الزائد فقط، واقتصر في "الروضة" على ذكر المسألة هاهنا فسلم من الاعتراض، وذكرها في "شرح المهذب" هنا كما ذكره الرافعي، وزاد عليه فقال: لا خلاف أنه لا يغرم الزائد على مؤنة السفر. قوله في المسألة: فإن أوجبناه على الولي فأحرم بغير إذنه وصححناه حلله، فإن لم يحلله أنفق عليه. انتهى. وتعبيره بقوله: أنفق عليه، قد تابعه عليه في "الروضة". وليس فيه تصريح بأنه ينفق من ماله لتقصيره بترك التحليل أو من مال الصبي لعدم إذنه له، وسياق كلامه يشعر بالأول، إلا أنه بعد هذا بقليل حكى فيما إذا تعاطى الصبي موجبًا للفدية قولين، وصحح أنهما من مال الولي. ثم قال: وهذا إذا أحرم بإذنه. فإنه أحرم بغير إذنه وصححناه فالفدية في مال الصبي قطعًا؛ قاله المتولي. هذا كلامه وهو يؤيد الاحتمال الثاني. فإن كان مراد الأول لزمه تقييد المسألة الثانية بما إذا لم يعلم الولي أو علم ولم يمض ومن عليه فيه التحلل، وأجاب ابن الرفعة بالاحتمال الأول، ونقله عن الرافعي. وقد ظهر لك أنه ليس كذلك. وأجاب في "شرح المهذب" بمثله أيضًا لا أنه فرعه على القول بالإيجاب في مال الصبي فقال: والثاني في مال الصبى؛ فعلى هذا لو أحرم بغير إذنه وصححناه حلله، فإن لم يفعل أنفق عليه من مال الولي. هذه عبارته، وهي أجود من الأول. قوله: الثانية: يمنع الصبي المحرم من محظورات الإحرام؛ فلو تطيب أو ليس ناسيًا فلا فدية كالبالغ الناس وإن تعمد فقد بنوه على أصل مذكور في

الجنايات وهو أن عمد الصبي عمدًا وخطأ، فإن قلنا عمد وهو الأصح وجبت، وعن الداركي نقل قول فارق بين أن يكون الصبي ممن يلتذ بالطيب واللباس أم لا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الخلاف المذكور في الجنايات محله في المميز، وفي كلامه هنا إشعار به؛ وعلى هذا فإذا لم يكن مميزًا فلا فدية. وفيه كلام يأتي في أول الجنايات فراجعه. ويدل على عدم الوجوب ما يأتي في باب محرمات الإحرام في النوع الرابع منه أن المجنون والمغمي عليه والصبي؛ الذي لا يميز إذا حلفوا لا كفارة عليهم في أصح القولين. الأمر الثاني: أن القول المعروف فيه إشكال يوهم تعميم الخلاف في المميز وغيره فليتأمل. قوله في "الروضة": وإذا جامع الصبي عامدًا فالأظهر فساد نسكه ووجوب القضاء عليه. ثم قال: ومهما فسد نسكه وأوجبنا القضاء وجبت الكفارة أيضًا وإلا ففي الكفارة وجهان: أصحهما الوجوب. انتهى. وما ذكره من ترتيب الكفارة على القضاء واقتصر عليه قد ذكر معه الرافعي طريقًا آخر على العكس وهي ترتيب القضاء على الكفارة، وعليها اقتصر في "الوجيز" فقال: إن لم تلزم الفدية فالقضاء أولى، وإن لزمت ففي القضاء خلاف. والفرق أن القضاء عبادة بدنية وحال الصبي أبعد عنها. قوله: ولو بلغ الصبي في أثناء الحج بعد الوقوف وقبل خروج وقته، فإن لم يعد إلى الموقف لم يجزئه عن حجة الإسلام لمضي المعظم في حال النقصان، ويخالف الصلاة فإنها تتكرر بخلاف الحج.

وقال ابن سريج: يجزئ البقاء بإدراك الزمان، وإن عاد أو بلغ قبل وقت الوقوف أو في حال الوقوف أجزأه عنها، لكن يجب إعادة السعي إن كان قد سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ في أصح الوجهين لوقوعه في حال النقصان. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ابن سريج لا يقول بمثله في الصلاة، بل يوجب الإعادة كما نقله عنه الرافعي وغيره؛ فتفطن له فإن كلام الرافعي هنا موهم، والظاهر أن ابن شريح إنما قال ذلك تخريجًا لا مذهبًا والفرق على المذهب أن الصلاة تتعلق بالزمان فقط فجعل إدراكه إدراكًا لها، والوقوف يتعلق بالزمان والمكان فلم يكن إدراك أحدهما كافيًا. الأمر الثاني: أنه إذا بلغ بعد الوقوف والوقت باق فعاد ولكن بعد الطواف فينبغي أن تجب إعادته أعني الطواف كما سبق في السعي. ولم أر المسألة مصرحًا بها. الثالث: إذا بلغ في أثناء الوقوف فلم لا يخرجوه على ما إذا طول كالركوع ونحوه هل يقع الكل واجبًا أم لا. الأمر الرابع: إذا عتق في أثناء الوقوف فله حالان: أحدهما: أن يقيم بعد العتق زمانًا يعتد بمثله في الوقوف. والثاني: أن لا يحصل ذلك بأن جن مع آخر لفظ العتق أم انفصل عن الموقف لكونه كفى طرفه. وإطلاق الرافعي يقتضي الإطلاق في القسمين. وقال ابن الرفعة: يظهر أن الثاني لا يكفي. قوله: وقد بنوا الوجهين في إعادة السعي؛ على أنه إذا وقع حجة عن حجة الإسلام فهل نقول بأنه تبين بانعقاده في الأصل فرضًا أو نقول بأنه انعقد نفلًا ثم انقلب فرضًا؟ فإن قلنا بالأول لم يعد وإلا عاد. انتهى.

وهذا الخلاف الذي بنى عليه هذه المسألة لم يذكره في "الروضة". قوله: ولو أن الذمي أتى الميقات مريدًا للنسك فأحرم منه لم ينعقد إحرامه لأنه ليس أهلًا للعبادات البدنية، فإن أسلم قبل فوات الوقوف ولزمه الحج فله أن يحج من سنته وإن يؤخر؛ فإن الحج على التراخى، فإن حج من سنته فعاد إلى الميقات فأحرم منه أو أحرم من موضعه وعاد إليه محرمًا فلا شئ عليه، وإن لم بعد لزمه الدم كالمسلم إذا جاوزه على قصد النسك. ولا يجئ فيه الخلاف المذكور في الصبي إذا وقعت حجته عن حجة الإسلام لأنه حين مر بالميقات كان سبيل من أن يسلم ويحرم بخلاف الصبي. وقال المزني: لا دم عليه. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، وفيه أمران: أحدهما: أنه لم يتعرض للقسم الآخر وهو ما إذا حج من سنة أخرى، والحكم فيه أنه لا يجب الدم مطلقًا كما سبق إيضاحه في فصل المواقيت وسبق أيضًا هناك الوعد بذكر هذا الكلام. الأمر الثاني: أن حكم العبد والصبي في هذا كحكم الكافر. كذا رأيته في "التقريب" منقولًا عن نص الشافعي. قوله: ولو طبيب الولي أو ألبسه أو حلق رأسه فينظر إن فعل ذلك لحاجة الصبي فهو كمباشرة الصبي في أصح الوجهين. والوجهان مشبهان بالوجهين فيما إذا أدخر المغمي عليه معالجة في باب الصوم. انتهى. وهاتان المسألتان قد سبق الكلام عليهما في الركن الثاني من كتاب الصيام فراجعه. قوله: وإن فعله لا لحاجة فالفدية عليه. وكذا لو طيبه أجنبي، وهل يكون الصبي طريقًا؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح أنه لا يكون. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة".

الباب الثالث في محظورات الحج والعمرة

الباب الثالث في محظورات الحج والعمرة وهي سبعة أنواع: النوع الأول: اللبس قوله: ولو استظل بمحمل أو هودج فلا فدية عليه. ثم قال: وخص صاحب "التتمة" عدم الفزية بما إذا لم تمس المظلة رأسه، وحكم بوجوبها إذا كانت تمسه. وهذا التفصيل لم أره لغيره، وإن لم يكن منه بد فالوجه إلحاقه بوضع الزنبيل على الرأس. والأصح فيه عدم الفدية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في "التتمة" وذكر الرافعي أنه لم يره لغيره قد جزم به جماعات منهم الروياني في "البحر" فقال قبيل باب دخول مكة ما نصه: له أن يستظل بما لا يباشر رأسه من الخيمة والمحمل. هذا لفظه، وذكر مثله الخوارزمي في "الكافي" واستدلال القاضي الحسين يقتضيه، وصرح به أيضًا أبو الخير سلامة بن إسماعيل بن جماعة المقدسي في كتاب المسمى "بالوسائل في فروق المسائل" مع حكاية الخلاف في حمل الزنبيل، وفرق بأن المحمل يقصد به السير بخلاف الزنبيل. قوله: ولو وضع على رأسه زنبيلًا أو حملًا فقيل يجوز قطعًا لأن مقصوده نقل المتاع لا تغطية الرأس. وقيل: على قولين. وهو ما أورده في الكتاب. وسواء ثبت الخلاف أم لا فظاهر المذهب أنه لا فدية. انتهى ملخصًا.

فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من الطريقين على ما قاله النووي هي طريقة القطع كذا صححه في "شرح المهذب" وفي "الروضة"، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي، ومقتضي كلام الرافعي في "الشرح الصغير" يرجح طريقة القولين. الأمر الثاني: أن التعليل الذي ذكره الرافعي يؤخذ منه أنه لا فرق بين أن يقصد السير بذلك أم لا، ولم يذكره في "الروضة"، وجعل الفوراني في "العمد" محل الخلاف فيما إذا لم يقصد به الستر وجزم بالوجوب فيما إذا قصد به ذلك. والزنبيل: بكسر الزاي لا غير؛ لأن فعليلا بالفتح مفقود أن نادر. نعم يجوز فتحها مع حذف النون على وزن رغيف. قوله: ولو ألقي على نفسه قبًا أو فرجية وهو مضطجع قال الإمام: إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسًا فعليه الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا. انتهى. ثم أعاد المسألة عد ذلك بأسطر فقال: فلو ارتدي بقميص أو قباء أو التحف بهما أو إتزر بسراويل فلا فدية عليه كما لو اتزر بإزار خيط عليه رقاع. انتهى. والالتحاف إما أن يكون الإلقاء الذي عبر به أولًا فلابد فيه من التفصيل مع ما اشتمل عليه أيضًا من التكرار على قرب، وإما أن يكون هو القسم الثاني من الإلقاء وهو ما لم يستمسك عند القيام، وهذا الثاني هو الأقرب إلى التعبير بالالتحاف، وعلى كل حال فهو كلام عجيب. وذكرها في "الروضة" كما في الرافعي.

قوله: ويجوز أن يجعل لإزاره مثل الحجزة ويدخل فيها التكة، بخلاف الشرح والعري للرداء في أصح الوجهين. انتهى. أما الحجزة: فبحاء مهملة ثم جيم ساكنه بعدها زاي وهي التي فيها التكه. والتكه: بكسر التاء كما قاله في "تهذيب الأسماء واللغات". وأما الشرح فقد تقدم في مسح الخف. قوله من "زياداته": المذهب والمنصوص أنه لا يجوز عقد الرداء .. إلى آخره. اعلم أنه قد ذكر هذه المسألة في باب الكفن من "شرح المهذب" وقال: لا خلاف في المنع مع أنه قد نقل الجواد في الشرح المذكور هاهنا عن جماعة فقال: وقطع بالجواز إمام الحرمين، والغزالي في "البسيط"، والمتولي في "التتمة"، والشيخ أبو نصر وصاحب "المعتمد" وغيرهم. قوله: ولو اتخذ لإزاره شرحًا وعري قال الإمام: وجبت الفدية. انتهى. ذكر البغوي مثله، وحكى صاحب "الذخائر" فيه خلافًا. ثم قال: إن محله فيما إذا تفاوت الشرح والعري بحيث أشبهت الخياطة. فإن قلت: وبعدت عن مشابهة الخياطة، فلا فائدة بلا خلاف. فإن قلت: فهل يتقيد الرداء بذلك أيضًا؟ قلنا: لا. والفرق أن الشرح المتباعد يشبه العقد، والعقد جائز في الإزار ممتنع في الرداء خلافًا للإمام. قوله: وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه أو وجهه فلا فدية لاحتمال أنه امرأة في الصورة الأولى ورجل في الثانية، وإن سترهما معًا وجبت. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وليس فيه تعرض للمقدار الذي يجب ستره منه،

وقد تعرض له في "شرح المهذب" نقلًا عن القاضي أبي الطيب وصاحب "البيان" فقال: قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه": لا خلاف أنا نأمره بالستر ولبس المخيط كما نأمره في صلاته أن يستتر كالمرأة. قال: ولا تلزمه الفدية على الأصح؛ لأن الأصل براءة ذمته، وقيل: تلزمه للاحتياط. وفي "البيان" عن القاضي أبي الفتوح أنه يمتع من ستر الرأس والوجه معًا لأن فيه تركًا للواجب وأنه لو قيل: يوم يكشف الوجه، لكان صحيحًا؛ لأنه إن كان رجلًا فكشف وجهه لا يؤثر ولا يمنع منه، وإن كان امرأة فهو الواجب. ثم قال: وعلى قياس ما قاله يستحب أن لا يلبس المخيط لجواز كونه رجلًا، فإن فعل فلا فدية لجواز كونه امرأة. انتهى كلام "شرح المهذب" ملخصًا. وما نقله عن القاضي أبي الفتوح لعله في كتاب آخر غير المصنف الذي له في أحكام الخناثي، فإن الذي رأيته في التصنيف المذكور إنما هو الاقتصار على ما ذكره الرافعي إلا أنه زاد عدم وجوب الكفارة عليه بلبس المخيط. وقد رأيت التصريح بحكمه مفصلًا في "فتاوى القفال" فقال: يخمر رأسه ولا يخمر وجهه. ورأيت نحوه مبسوطًا بزيادات في كتاب "أحكام الخناثا" تصنيف الإمام أبي الحسن على بن المسلم السلمي الدمشقي تلميذ الغزالي فذكر ما حاصله أنه يجب عليه أن يستر رأسه وأن يكشف وجهه وأن يستر بدنه إلا بالمخيط فإنه يحرم عليه احتياطًا. ثم ذكر أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة بنت زمعة بالاحتجاب من ابن وليدة أمها لأجل شبهة واقتضى كلامه أن الأمر بذلك على سبيل

الإيجاب. وما قاله فيه غريب، وأما في الخنثى فحسن. قوله في "الروضة": ولو اختضبت ولفت على يدها خرقة فوق الخضاب أو لفتها بلا خضاب فالمذهب أنه لا فدية، وقيل: قولان كالقفازين. وقال الشيخ أبو حامد: إن لم تشد الخرقة فلا فدية وإلا فالقولان. انتهى. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع غلط، بل حاصل ما في الرافعي تصحيح طريقة القولين وتضعيف طريقة القطع فإنه جعل القولين تفريعًا على تحريم القفازين وصحح منهما التحريم وجعل الطريقة القاطعة بالجواز تفريعًا على جواز لبسهما، والصحيح تحريم القفازين فيكون الصحيح طريقة القولين. وذكر الرافعي في "الشرح الصغير" أيضًا كما في "الكبير" فانعكس ذلك على النووي، ثم إنه أخذ ما تعكس عليه ووضعه في موضعين في "شرح المهذب" وذلك على عادته التي أعلمتك بها مرات وهي نقل ما في "الروضة" إلى "شرح المهذب". قوله: ولو احتاج الرجل إلى ستر الرأس أو لبس المخيط لعذر حر أو برد أو مداواة جاز له ذلك ولكن تجب الفدية كما إذا احتاج إلى الحلق بسبب الأذي فإنه يجوز وتلزمه الفدية كما ورد في القرآن. انتهى ملخصًا. والقياس المذكور ضعيف؛ إذ لا يلزم من وجوب الفدية في الإتلاف وجوبها في الاستمتاع؛ فقد يفرق بعذر النسيان لكون الإتلاف أعط فيجوز أن يكون المرعى في الحلق كونه إتلافًا.

النوع الثاني: الطيب

النوع الثاني: الطيب قوله في "الروضة": وأما البنفسج فالمذهب أنه طيب، وقيل: لا، وقيل: قولان. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر طرفًا للأصحاب يؤخذ منها ثلاثة أقوال أو وجوه فأسقطها النووي؛ وذلك أن الرافعي نقلا عن "النص" أنه ليس بطيب وصحح القطع بأنه طيب ثم قال ما نصه: واحْتلف الصائرون إليه أي إلى القطع في تأويل النص فقيل: أرأد به البنفسج الجاف فإنه بعد الجفاف لا يصلح إلا للتداوي. وقيل: أراد به بنفسخ الشام والعراق فإنه لا يتطيب به. وقيل: أراد به المربا بالسكر. هذا كلامه. والتفصيل المستفاد عند كل قائل من الثلاثة المذكورين لا يوجد منه شيء من كلام "الروضة" وقد وقعت هنا أشياء للثياب لابد من ضبطها؛ فمنها: الخيري: بخاء معجمة مكسورة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم راء مهملة بعدها ياء مشددة. ومنها: الضميران: اسم للريحان الفارسي. وهو بضاد معجمة مفتوحة بعدها ياء ساكنة ثم ميم مضمومة، هكذا ضبطه النووي في كتبه وفسره في كتاب "الإيمان" بالريحان الفارسي، وفسر الريحان الفارسي هنا به، ولا يعلم من ذلك حقيقته. وما ذكره النووي في ضبطه هو كذلك إلا أنه لغة قليلة حكاها ابن بري في "حواشي الصحاح". والمعروف وهو المجزوم به في "الصحاح" أنه الصومران بالواو وفتح الميم.

ومنها: المرزنجوش: . وهو براء مهملة ثم زاي معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم جيم مضمومة وبالشين المعجمة. ومنها: القيصوم: وهو بالقاف المفتوحة والياء الساكنة بنقطتين من تحت وبالصاد المهملة. ومنها: الخليجين: بالجيم. وهو الورد المربا. قوله: ومنه دهن البان نقل الإمام عن نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه ليس بطيب. وكذا البان نفسه، وكذا ماء الورد. وهذا ما أورد المصنف. وأطلق الأكثرون القول بأن كل واحد منهما طيب ونسبه أن لا يكون هذا خلافًا محققا، بل الكلامان محمولان على توسط حكاه صاحبا "المهذب" و"التهذيب" وهو أن دهن البان المنشوش وهو المغلي في الطيب طيب وغير المنشوش ليس بطيب. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذكر هذا التأويل لكلام الشافعي بحثًا. وقد صرح به الشافعي في "الأم" فقال في باب الطيب للإحرام ما نصه: والادهان دهنان دهن طيب يفتدي صاحبه إذا دهن به من جسده شيئًا قل أو كثر، وذلك مثل البان المنشوش بالطيب والزنبق وماء الورد وغيره. قال: ودهن ليس بطيب مثل سلحه البان غير منشوش. هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلت. والمنشوش: بميم مفتوحة ثم نون ساكنة ثم شينين معجمتين. قال الجوهري: النشيش: صوت الماء وغيره عند غليانه. والزنبق المذكور في كلام الشافعي بزان معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم قاف. قال الجوهري: هو دهن الياسمين، وقد عبره بالياسمين الأبيض.

قوله: ولو داس بنعله طيبًا لزمته الفدية لأنها ملبوسة له. انتهى. تابعه على إطلاقه في "الروضة" وشرط المسألة أن يتعلق به شئ منه. كذا نقله الماوردي عن نص الشافعي. قوله: ولو تطيب ناسيًا لإحرامه أو جاهلًا بتحريم الطيب لم تلزمه الفدية وعذر كما لو تكلم ناسيًا في الصلاة أو أكل ناسيًا في الصوم. انتهى. وقد سبق أن عدم البطلان بكلام المصلي وأكل الناس مقيد بما إذا لم يكثر ذلك منهما. وقياس ذلك أن يأتي مثله في الطيب وهو مقتضى الإلحاق المذكور. قوله: ولو مس طيبًا رطبًا وهو يظن أنه يابس لا يعلق به شئ منه ففي وجوب الفدية قولان: أحدهما: تجب لأنه قصد الطيب مع العلم بكونه طيبًا. وأجاب الغزالي بالأول ورجحه للإمام وغيره، ورجحت طائفة الثاني، وذكر صاحب "التقريب" أنه الجديد. انتهى. وهذا الذي نقله عن صاحب "التقريب" ليس الأمر فيه كما ذكره؛ فقد رأيت "التقريب" فوجدته قد حكى في المسألة وجهين من غير ترجيح ثم نقل عن "المختصر" و"الأم" كلامًا وتردد في حمله فقال بعد حكاية الوجهين وهما رواية المزني، فإن مسه ولا يعلم أنها رطبة فعلق بيده طيب غسله، وإن تعمد ذلك افتدى؛ فقد يحتمل أن يكون معناه وإن مس الكعبة ولا يعلم أنها مطيبة بالخلوق، وأما إذا علمها مطيبة ثم مسها الخلوق افتدى. فظاهر معناه أن يتعمد مس الخلوق عالمًا بأنه رطب. هذا كلام "التقريب" من غير زيادة عليه.

النوع الثالث دهن شعر الرأس واللحية

النوع الثالث دهن شعر الرأس واللحية قوله: فيحرم استعمال الدهن في الرأس واللحية، ويجوز للأقرع والأصلع والأمرد، ونقل المزني أنه لا يمنع من دهن ما لا شعر. ثم قال ما نصه: لكن قال المسعودي في الشرح: ليس الأمر على ما قاله المزني بل هو منهى عن استعمال الدهن في الرأس والوجه كله وإن لم يكن عليه شعر لأنه موضع الشعر. انتهى. فيه أمور: [أحدها] (¬1) قوله: أنه قد تلخص من نقله عن المسعودي بأنه يمتنع في الوجه والرأس وإن كان أقرع أو أصلع، وقد حذف النووي من "الروضة" هذه المقالة. الثاني: أن كلام الرافعي والنووي هنا يوهم جوار استعمال الدهن في ما عدا اللحية من شعر الوجه كالحاجب والشارب والعنفقة والعذارين. القياس التحريم في الجميع. وقد تعرض له الطبري شارح "التنبيه" فقال: الظاهر أن جميع شعر الوجه في معنى اللحية. الثالث: أن إطلاقه يشعر بأنه لا فرق في اللحية بين أن تكون من رجل أو امرأة، وهو كذلك؛ فقد صرح به القاضي الحسين. قوله: ولو اكتحل بما لا طيب فيه فروى المزني أنه لا بأس به، وفي "الإملاء" أنه يكره، وتوسط متوسطون فقالوا: إن لم يكن فيه زينة كالتويتاء الأبيض لم يكره وإن كان فيه زينة كالإثمد كسره. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف من غير تصحيح، والأصح هو التفصيل فقد صححه النووي في "شرح المهذب" وجزم به في "شرح مسلم" وقال: إنه مذهب الشافعي.

النوع الرابع: الحلق والقلم

النوع الرابع: الحلق والقلم: قوله: ولو قطع يده أو بعض أصابعه وعليها شعر وظفر فلا فدية لأنهما تابعان غير مقصودين، وشبهوه بما إذا أرضعت امرأته الكبيرة الصغيرة بطل النكاح ولزمها مهر الصغيرة، ولو قتلهما فلا مهر عليها لا ندارج البضع في الفتل. انتهى. وما ذكره من وجوب المهر تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وهو قول مخرج، والصحيح المنصوص أن الواجب على المرضعة إنما هو نصف المسمى كما سأذكره إن شاء الله تعالى في الباب الثالث في الرضاع القاطع للنكاح فراجعه. قوله: ولا يتوقف وجول كمال الدم على حلق جميع الأظفار بالإجماع بل يكمل الدم في ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار. انتهى. وما ادعاه من الإجماع قد تابعه عليه أيضا في "الروضة"، وليس كذلك؛ لأن مالكًا ذهب في أحد قوليه إلى أنه لا يفتدي إلا بحلق جميع الرأس، فإن حلق بعضه لم يكن عليه شئ. حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح الترمذي". قوله: فإن حلق شعره أو شعرتين فأقوال: أظهرها وهو الذي ذكره في أكثر كتله أن في الشعرة مدًا من طعام، وفي شعرتين مدين؛ لأن تبعيض الدم عسير والشرع قد عدل الحيوان بالإطعام في جزاء الصيد وغيره، والشعرة الواحدة هي النهاية في "القلة" والمد أقل ما وجب في الكفارات فقوبلت به. والثاني: في شعرة درهم وفي شعرتين درهمان؛ لأن التبعيض لما عسر وكانت الشاة تقوم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة دراهم اعتبرنا تلك القيمة.

والثالث: رواية الحميدي عن الشافعي: في شعره ثلث دم وفي شعرتين ثلثان. وهو قسط الواجب في الثلاث. انتهى. وما ذكره الرافعي في هذه المسألة هو المعروف في المذهب والمذكور في كتب النووي أيضًا. وإطلاقهم هذه الأقوال وتصحيح الأول منها مشكل لأنه إذا حلق ثلاث شعرات فيكون مخيرًا بين إخراج الدم أو ثلاثة آصع أو صيام ثلاثة أيام؛ وحينئذ فإذا حلق شعرة أو شعرتين فيكون أيضًا مخيرًا بين يخصها من الخصال الثلاث، فكيف يأتي ما ذكروه؟ والجواب: أن هذه الأقوال ليست على إطلاقها بل إن اختار الإطعام أخرج عن كل شعرة صاعًا بلا نزاع، وإن اختار الصيام صام عن كل واحدة يومًا بلا نزاع، وإن اختار الدم فهو محل الأقوال وتعليلها مذكور في كلامهم. وهذا الذي ذكرته من تصوير المسألة جزم به صاحب "البيان". كذا رأيته في كتابه المسمى "بالسؤال عما في المهذب من الإشكال". والذي قاله متعين لا محيد عنه، وقد تبعه عليه ابن أبي الضيف في "نكت التنبيه" والطبري شارح "التنبيه" وقال أنه مما لا يمكن دفعه. قوله: ولو أغمي عليه مخلق ففيه قولان منصوصان. والمجنون والصبي الذي لا يميز كالمغمي عليه. انتهى ملخصًا. والصحيح في المسائل كلها عدم الوجوب. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" ولم يصحح في "الروضة" شيئا، إلا أن الرافعي لما ذكر هذا الخلاف في قتل الصيد أيضًا صحح هناك من زياداته عدم الوجوب فيه، وهو نظير ما نحن فيه؛ لاشتراك الجميع في الإتلاف.

وهذا الكلام قد سبق الوعد بذكره في الكلام على إحرام الصبي. قوله: وقول الغزالي: إن في الحلق والإتلاف ناسيًا وجهين يدخل فيه قتل الصيد ويقتضي كونه على الخلاف. وهكذا قاله الأكثرون، وأشار مشيرون إلى القطع فيه بالوجوب. انتهى. وما ذكره هاهنا من رجحان طريقة الخلاف قد ذكر ما يناقضه في الكلام على الصيد مناقضة عجيبة، وتابعه في "الروضة" على ذلك، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: ولو حلق الحلال شعر المحرم مكرهًا أو نائمًا أو مغمي عليه ففيه قولان: أصحهما: أن الفدية على الحالق. وبناها الأصحاب على أن الشعر في يد المحرم كالوديعة أو كالعارية وفيه جوابان فإن قلنا كالوديعة وهو الأظهر عندهم؛ فالفدية على الحالق وإلا فعلى المحلوق. ثم قال ما نصه: فإن قلنا على الحالق فامتنع فهل للمحلوق مطالبته بإخراجها؟ فيه وجهان. وجواب الأكثرين أن له ذلك بناء على أن المحرم كالمودع، والمودع خصم فيما يأخذ منه ويتلف في يده. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن مخاصمة المودع قد ذكرها الرافعي في ثلاثة مواضع أخرى وجزم في جميعها بأنه لا يخاصم، على عكس ما ذكره هاهنا: أحدها: في كتاب الرهن في أثناء الباب الثالث. والثاني: في كتاب الإجارة في أوائل الباب الثالث وهو موضع المسألة؛ فإنه قد ذكر هناك من يخاصم من غير المالك كالمستأجر والمرتهن والمودع، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى.

والثالث: في كتاب السرقة في آخر الشرط الخامس. وتبعه النووي في هذه المواضع على عدم المخاصمة وهو المشهور أيضًا في المذهب. وإذا علمت ذلك علمت أن المشهور هنا أنه لا يجوز للمحلوق مطالبة الحالف بإخراجها على خلاف ما ذكره هنا فإنه قد صرح بأن المطالبة مبنية على أنه كالمودع، ثم زاد عليه فقال: إن المودع يخصم، وقد قرر هو أنه ليس الأمر فيه كذلك ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" في هذا الباب، بل ذكرها في الإجارة كما ذكرها في "الكبير"، وصحح النووي في "الروضة" أن للمحلوق أن يطالب ولم يتعرض للبناء والتعليل الذي ذكره الرافعي. وكذلك فعل في "شرح المهذب" وقد اتضح أنه ليس الأمر فيه كما قاله فاعلمه. الأمر الثاني: أن إطلاقه يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون الشعر قد دخل وقت حلقه أم لا، لكن قال الطبري شارح "التنبيه": الظاهر فيما دخل وقته أنه لا فدية فيه قطعا. قال: نعم لا يبعد جعله متعديًا حتى يأثم. قوله في المسألة: وإن قلنا الفدية على المحلوق ففدى بالهدي أو الإطعام رجع على الحالق بأقل الأمرين من الإطعام وقيمة الشاة، وإن فدى بالصوم فلا رجوع في أظهر الوجهين، وقيل يرجع بثلاثة أمداد من طعام لأنها بدل صومه. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه يجوز للمحلوق أن يفدي بالصيام إذا قلنا: أن الفدية عليه، وتابعه النووي في "الروضة" على ذلك.

ليس ذلك على إطلاقه بل محله إذا غاب الحالق أو أعسر، فأما مع حصوره ويساره فلا يجوز للمحلوق الفداء بالصوم. كذا نقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب فقال ما نصه: قال أصحابنا فإن أراد المحلوق إخراجها والحالة هذه كان عليه أن يفدي بالهدي أو الإطعام دون الصيام. هكذا قاله الشيخ أبي حامد والأصحاب لأنه متحمل لهذه الفدية عن غيره والصوم لا يصح فيه التحمل، وإن غاب الحالق أو أعسر لزم المحلوق أن يفدي ليخلص نفسه من الفرض. قال الأصحاب: وله هنا أن يفدي بالهدي والإطعام والصيام. وأطلق البغوي وغيره أن له أن يفدي بالإطعام والهدي والصيام. ولم يفرقوا بين وجود الحالق وعدمه. وقطع الماوردي بأنه لا يجوز الصيام مطلقًا لأنه لا يتحمل. انتهى كلامه. ولا شك أن ما قاله النووي في "شرح المهذب" يستقيم إذا قلنا: إن الوجوب لا يختص بالمحلوق بل يجب على الحالق أيضًا لأن الحالق إذا خوطب بالفدية قبل الإخراج وثبت للمحلوق الرجوع عليه عند إخراجه لزم بالضرورة أن يكون الإخراج بطريق التحمل عنه والصوم لا يتحمل. فأما إذا قلنا: إن الوجوب يختص بالمحلوق، فيصح صومه مطلقًا لانتفاء التعليل المذكور. والصواب: أنه لا يختص به لأن التفريع على قول العارية وضمان العارية كما يجب على المستعير يجب أيضًا على المسلف. قوله: ثم إذا رجع أي: المحلوق فإنما يرجع بعقد الإخراج في أصح الوجهين. والثاني: له أن يأخذ منه ثم يخرج. انتهى كلامه.

تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح امتناع الرجوع قبل الإخراج، وخالفه في "شرح المهذب" فقال ما نصه: وإذا قلنا بهذا فقال المصنف وجمهور الأصحاب: إن كان الحالق حاضرًا وهو موسر فللمحلوق أن يأخذها من الحالق ويخرجها؛ لأنه لا معنى لإلزام المحلوق بإخراجها ثم الرجوع على الحالق مع إمكان الأخذ من الحالق، وهذا قد قطع به العراقيون جميعهم وجماعة من غيرهم. وقال المتولي والبغوي والرافعي: فيه وجهان: أصحهما: لا يرجع. انتهى كلامه. وهو تباين فاحش فإنه يقتضي أن المشهور والمعروف طريقة القطع بالرجوع وأن طريقة الوجهين ضعيف فضلا عن تصحيحها ثم تصحيح عدم الرجوع، وقد اتضح لك أن الفتوى على خلاف المذكور في "الشرح" و"الروضة"، فاعلمه. ومدرك الخلاف في هذه المسألة قد تقدم مبسوطًا في المسألة السابقة، وهو أنه هل يجب على الحالق كما يجب على المحلوق أم لا؟ . وما صححه النووي في "الشرح" المذكور ونقله عن الجمهور من جواز مطالبة الحالق ابتداء موافق للقول بالوجوب عليه، وهو ماش على طريقته في المسألة السابقة. قوله: وهل للحالق أن يفدي على هذا القول أي: قول الوجوب على المحلوق؟ أما بالصوم فلا لأنه متحمل والصوم لا يتحمل، وأما بغيره فنعم ولكن بإذن المحلوق لأن في الفدية معنى القربة فلابد من نية من لاقاه الوجوب.

انتهى كلامه. تابعه أيضًا في "الروضة" عليه، وهو لا يستقيم إلا على الطريقة التي أشرنا إليها من كونه لا يجب على الحالق مع المحلوق. وأما على الطريقة الأخرى التي يقتضيها كلامه في "شرح المهذب" وهي القائلة بأنه تجب عليه فإنه لا يستقيم منعه من التكفير لا بالصوم ولا بالمال. فإذا علمت ذلك فاعلم أنه قد ذكر هذا الفرع في "شرح المهذب" كما ذكره الرافعي وكأنه قلده فيه غير مستحضر ما هو مفرع عليه فخلط طريقة بطريقة، وقياس ما قاله في الشرح المذكور في المسألتين السابقتين مخالفًا للرافعي أن يقول بخلافه أيضًا هنا.

النوع الخامس: الجماع

النوع الخامس: الجماع قوله: ولو جامع بين التحللين فقولان: أظهرهما: تجب شاة. والثاني: بدنة. ثم قال: ونقل الإمام بدل القولين وجهين، ووجهًا ثالثًا وهو أنه لا يجب فيه شئ أصلًا. وهو ضعيف. انتهى. ودعواه أن عدم الوجوب وجه مصرح به وأن الإمام نقله غريب جدا؛ فإن الإمام لم ينقله بل ولا صرح به، وإنما أشار إلى تخريجه، ومع كونه قد أشار إلى ذلك وصرح بأن التخريج بعيد، فاعلم ذلك. وممن نبه عليه ابن الرفعة أيضًا، وقد تبعه في "الروضة" على إثباته وجهًا لكنه لم ينقله عن الإمام. قوله: هل قضاء الحج على الفور؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ كالأداء. وأصحهما أنه على الفور ويضيف بالشروع. ثم قال: عن ابن القفال إجراء هذا الخلاف في كل كفارة وجبت بعدوان انتهى. وهذه المسألة أعني: إيجاب هذه الكفارة على الفور قد وقع فيها اختلاف في كلامه وفي كلام النووي أيضًا، وستعرف ذلك إن شاء الله تعالى مبسوطًا في كتاب الظهار في الباب المعقود للكفارات. فإن قيل: كيف يكون الحج المأتي به في هذه الحالة قضاء مع وقوعه في وقته وهو الغمر؟ قلنا: سنعرف جوابه في المسألة التي بعدها إن شاء الله تعالى.

قوله: وذكر الإمام والغزالي أن المتعدي بترك الصلاة بلزمه قضاؤها على الفور بلا خلاف؛ لأن المصمم على ترك القضاء مقتول عندنا، ولا يتحقق هذا إلا مع توجه الخطاب بمبادرة القضاء. وفي توجيه ما ذكره وقفة لأن أكثر الأصحاب لم يعتبروا فيما يناط به القتل ترك القضاء على ما عرف في باب ترك الصلاة. انتهى ملخصًا. وفيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من حكاية الخلاف هناك في الامتناع من القضاء لم يتقدم له ذكر، بل تقدم ما يشعر بالجزم بعدم اعتباره. نعم: ذكره النووي هناك من زوائده وأسقط من هنا هذا الكلام كله؛ فلزم خلو "الروضة" من نقل الرافعي له في الموضعين، وقد تقدم ذكر لفظ الروجية في موضعه فراجعه. الأمر الثاني: أن هذه الوقفة التي ذكرها الرافعي عجيبة والاستدلال عليها أعجب لأن الإمام والغزالي ادعيا قتل المصمم وهذا مسلم وهو كاف في استدلالهما. والذي استدل به الرافعي إنما هو العكس ولم يدعياه. قوله: والمتعدي بترك الصلاة يلزمه قضاؤها على الفور دون غيره، وقيل: يجب عليهما، وقيل: لا يجب على واحد منهما. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن توجه القضاء واضح إذا كان واجدًا لأحد الطهورين، وإن كان فاقدًا لهما فقد نقل الروياني عن والده أنه لا يجب عليه ذلك لأنه لو قضى لاحتاج إلى الإعادة ثانيًا وثالثًا وهكذا إلى ما لا يتناهى، بخلاف المؤداه في الوقت فإنها تجب مرة واحدة بحرمة الوقت.

قال: وهل يجوز للفاقد المذكور القضاء أي: ويقضي إذا وجد الماء؟ . فيه وجهان. هكذا نقله في باب التيمم من "شرح المهذب". ثم قال أعني النووي: إن الصواب من الوجهين أنه لا يجوز لما ذكرناه. وسكت عن القادر على التيمم في موضع يلزمه القضاء. وفيه نظر. والمجزوم به في باب التيمم من "فتاوى البغوي" أن القضاء يجب في هذه الحالة. الأمر الثاني: أن من دخل في صلاة ثم أفسدها صارت قضاء وإن أوقعها في الوقت؛ لأن الخروج منها لا يجوز فلم يبق للإحرام بها وقت. كذا جزم به القاضي الحسين في تعليقه والمتولي في "التتمة" والروياني في "البحر" وغيرهم، كلهم في باب صفة الصلاة في الكلام على النية؛ وحينئذ فإن قلنا الفائت على الفور فيتجه أن لا يجوز تأخيرها إلى أثناء الوقت. وإن قلنا: إنه على التراخى؛ ففي جواز إخراجه عن الوقت الأصلي نظر، والمتجه المنع. قوله: وإن كان قد أحرم بعد مجاوزة الميقات نظر إن جاوزه مشيًا لزمه في القضاء أن يحرم من الميقات الشرعي وليس له أن ينشئ ثانيًا وإن جاوزه غير مسمى بأن لم يرد النسك ثم بدأ فأحرم ثم أفسد فقد حكى الشيخ أبو علي فيه وجهين: أحدهما وهو الذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره أن عليه أن يحرم في القضاء من الميقات الشرعي لأنه الواجب في الأصل. وأصحهما عند الشيخ أنه لا يلزمه ذلك؛ سلوكًا بالقضاء مسلك الأداء؛ ولهذا لو اعتمر المتمتع من الميقات ثم أحرم بالحج من مكة وأفسده لا يلزمه

في القضاء أن يحرم من الميقات بل يكفي أن يحرم من جوف مكة، ولو أفرد الحج ثم أحرم بالعمرة من أدنى الحل ثم أفسدها يكفيه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل. والوجهان مفروضان فيما إذا لم يوجع إلى الميقات فما فوقه. أما إذا رجع ثم عاد فلابد من الإحرام من الميقات. انتهى كلامه. فيه أمران. أحدهما: أن الأصح هو الوجه الثاني وهو عدم الوجوب. كذا صححه في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح، وصحح النووي في "أصل الروضة" الأول، وكذلك صححه في "شرح المهذب" أيضًا وكأنه تمسك بما تشعر به عبارة الرافعي من رجحانه القائلين به لكن المذكورين في كلامه أكثر عددا. الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه من أن محل الخلاف فيما إذا لم يعد إلى الميقات مع ما نقله عن "التهذيب" أولًا صريح في أن صاحب "التهذيب" فرض المسألة فيما إذا لم يعد وأوجب مع ذلك الإحرام من الميقات. وهو غلط؛ فإن هذه لم يذكرها صاحب "التهذيب" فضلًا عن كونه يكلفه الذهاب إلى الميقات, والذي ذكره إنما هو فيما إذا عاد؛ فإنه قال: فإن كان قد جاوز الميقات غير مريد للنسك ثم بدا له أن يحرم فأحرم ثم أفسد الحج قال -رحمه الله-: يجب أن يحرم من الميقات في القضاء، فإن جاوزه ثم أحرم عليه دم لأنه جاوزه مريدًا للنسك وفي الإحرام لم يجاوزه مريدًا للنسك. هذا لفظه. وما ذكره من التعليل وهو المجاوزة على إرادة النسك يبين أن صورة الوجهن فيما إذا عاد إلى بلده كما هو الغالب أو ما في معنى ذلك مما هو

يحاذي الميقات أو فوقه وانتهى إلى الميقات على قصد النسك وإلا لم يصح تعليله لأنه قد تجاوز الميقات بحاجة ثم يعن له عند انتهائه إلى المكان الذي أحرم منه بالآداء أن يحرم بالقضاء. ثم إن كلام الرافعي نفسه يرشد إلى هذا التصوير فإنه قد علل في أثناء تقسيم المسألة بقوله: وليس له أن ينشئ ثانيًا؛ فصار أول كلامه يخالف آخره. وقد قطع الماوردي بوجوب الدم إذا رجع ثم عاد ومر بالميقات غير محرم، وقطع أيضًا بعدم الدم إذا كان أحرم بالأداء من (*) فخرج بالقضاء من مكة إلى ذلك الموضع فأحرم منه. وحكى الوجهين فيما إذا كان أحرم بالأداء من الحل فخرج من مكة إليه ولم يصل إلى الميقات فيجب عليه الدم على أحد الوجهين؛ لأن له أحد ميقاتين إما الحرم وإما ميقات بلده ولم يحرم من واحد منهما. وهذا الذي قاله الماوردي ظاهر متجه، ويتعين حمل الوجهين في كلام الرافعي وغيره عليه أو على ما إذا عاد على قصد النسك، وتكون مجاوزة الميقات جائزة هنا على وجه لمحاكاة القضاء للأداء. وهذا الحمل هو الأقرب. لاسيما إلى التعليل المذكور في كلام الرافعي، وإلا كيف يستقيم الأخذ بظاهر ما قاله من تكليف الذهاب إلى الميقات إذا كان إحرامه بالأداء من مكة ثم أفسد وأقام به فإن أحدًا لا أظنه يوافق عليه. وبما قاله الماوردي يظهر لك أن ما احتج به الرافعي للوجه الثاني ليس محل النزاع. قوله: ولا يجب أن يحرم بالقضاء في الزمان الذي أحرم فيه بالأداء بل له التأخير عنه مثل أن يحرم مثلًا بالأداء في شوال له أن يحرم بالقضاء في ذي القعدة.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع

وفرقوا بين الزمان والمكان بأن اعتناء الشرع بالميقات المكاني أكمل؛ ألا ترى أن مكان الإحرام يتعين بالنذر وزمانه لا يتعين حتى لو نذر الإحرام بالحج في شوال له أن يؤخره. وظني أن هذا الاستشهاد غريب لا يسلم عن النزاع. انتهى لفظه بحروفه. وما ذكره في المسألة التي استشهد بها غريب جدًا؛ فإن الاستشهاد المذكور وهو نذر الزمان قد ذكره في كتاب النذر وسوى بينه وبين نذر المكان وحكى فيهما معًا وجهين. وزاد على ذلك فصحح أنه يلزمه الوفاء بهما فقال: ولو نذر أن يحرم بالحج من شوال فهو على الخلاف الذي سبق، والأظهر وهو اختيار صاحب "التهذيب" أنه يلزم. وكذا لو نذر أن يحرم من بلد كذا. هذا لفظه، وتبعه في "الروضة" على الموضعين. فإذا ظهر أن الأصح في المسألة التي استدلوا بها هو اللزوم على خلاف ما قرروه هنا وأنه هو المذكور في بابه ظهر أن الأصح في المسألة المستدل عليها وجوب القضاء وأن زمان الإحرام كمكانه، وقد رأيته مجزومًا به في "التتمة" نقلًا عن القاضي الحسين في الكلام على الاستئجار للحج في أثناء الفروع المعقودة لتعيين الميقات، وذكر في "شرح المهذب" ما يوافقه في الكلام على الاستئجار للحج ما نصه: ولو شرط على الأجير الإحرام من أول يوم في شوال جاز ولزم الوفاء به. ذكره القاضي الحسين وغيره. قال القاضي الحسين والمتولي: وعلى هذا لو أحرم في أول شوال وأفسده لزمه في القضاء أن يحرمه في أول شوال كما في ميقات المكان.

هذا لفظه. وقد ذكر الرافعي في النذر أيضًا أنه إذا نذر الحج في سنة تعينت على الصحيح. وهو يشكل على ما قاله هنا أيضًا. ولم يتعرض في "الشرح الصغير" لمسألة الاستشهاد في كتاب النذر، بل ذكرها في هذا الباب، ولم يتوقف فيها كما توقف في "الكبير" فاقتضى أنه لا خلاف فيه، وهو غريب. واعلم أن هذا الاختلاف العجيب قد وقع في كتب منها "شرح المهذب" للنووي و"شرح التنبيه" لابن الرفعة و"شرح التعجيز" لمصنفه فإنه ذكرها في الكلام على الإفساد كما ذكرها غيره وذكرها كذلك قبيل الكلام على الاستئجار للحج، وبالغ فيه فقال: لا يتعين الزمان بلا خلاف. ثم قال في الكلام على الاستئجار له أنه إذا عين الأجير زمانًا تعين كما لو نذر الحج فيه. قوله من "زياداته": ولا يلزم الذي أفسد أن يسلك في القضاء الطريق الذي سلكه في الأداء بلا خلاف لكن يشترط إذا سلك غيره أن يحرم من قدر مسافة الإحرام في الأداء. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه صريح في أنه لا يجب عليه الإحرام من المكان الذي أحرم فيه بالأداء بلا خلاف. وليس الأمر فيه كذلك؛ فقد حكى الماوردي وجها أنه يجب الإحرام منه فقال: فلو كان أحرم في الأداء من البصرة وأحرم في القضاء من مصر والمسافة بينهما إلى الحرم واحدة ففيه وجهان: أحدهما: لا دم عليه، ويكون اختلاف الجهتين كاختلاف الطريقين.

والثاني: عليه دم؛ لأن من شرط القضاء مماثلة الأداء، والإحرام من مصر وإن كان مساويًا لمسافة الإحرام من البصرة فهو غير الإحرام من البصرة؛ فلم يقم مقامه في إسقاط الدم. هذا كلام الماوردي، وهو صريح فيما ذكرته، غير أن كلامه يدل على أنه إذا أحرم من المكان الذي أحرم منه أولا وسلك طريقًا آخر كفى ذلك بلا خلاف. الثاني: أن ما ذكره من الإحرام بقدر مسافة الأداء ليس على إطلاقه فإن المسافة التي أحرم منها أولًا لو كانت فوق الميقات مثلًا أو من الميقات ولكن كانت بالنسبة إلى الطريق التي سلكها بين الميقات ومكة فلا يتصور على ما ذهب إليه من وجوب الإحرام من الميقات إذا كان قد أحرم في الأداء من دون الميقات أن يجوز له مجاوزته هنا حتى يحرم من نظير تلك المسافة. وأما على ما ذهب إليه الرافعي فيتحمل الجواز هنا، ولكن المتجه المنع أيضًا لأنه أحرم في الأداء من الميقات ويريد أن يجاوزه في القضاء. قوله: فإذا خرجت الزوجة للقضاء فهل يجب على الزوج ما زاد على النفقة بسبب السفر؟ فيه وجهان. قال في "العدة": ظاهر المذهب فيها هو الوجوب. انتهى. والذي قاله في "العدة" هو الصحيح. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" وفي أصل "الروضة"، ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير". ولو زمنت الزوجة وصارت معضوبة فهل يلزم الزوج أن يستأجر من ماله من يحج عنها؟ فيه الوجهان في النفقة الزائدة. كذا نقله في "شرح المهذب" عن القاضي حسين والبغوي. قوله: وإذا خرجا معًا ليفترقا في الموضع الذي وقعت فيه الإصابة كيلا

تدعوه الشهوة إلى المعاودة فإن معهد الوصال مشوق. وهل يجب ذلك؟ فيه قولان: الجديد أنه لا يجب كما أنه لا يجب في سائر المنازل. انتهى. لم يبين الغاية التي ينتهى إليها الافتراق، بل كلامه يوهم بأن الافتراق خاص بتلك المنزلة. وليس كذلك؛ فإن المجزوم به في "شرح المهذب" وفي غيره: أن الأمر بالتفريق سواء قلنا بوجوبه أو استحبابه يمتد إلى أن يتحلل التحللين. قال الماوردي: ويعير لها في السير والمنزل وقول الرافعي مشوق هو بكسر الواو المشددة؛ أي: المكان الذي عهد فيه الوصال داع له ومشوق إليه. قوله: ويجوز للمفرد بأحد النسكين إذا أفسده أن يقضيه مع الآخر قارنًا وأن يتمتع بالعمرة إلى الحج، ويجوز للمتمتع والقارن القضاء على سبيل الإفراد ولا يسقط دم القرآن بالقضاء على سبيل الإفراد خلافًا لأحمد. إذا عرف ذلك ففي الفصل مسألتان. إحداهما: إذا جامع القارن .. إلى آخره. ثم قال بعد ذلك: ثم إذا اشتغل بقضائهما فإن قرن أو تمتع فعليه دم آخر، وإلا فقد أشار الشيخ أبو علي إلى خلاف فيه ومال إلى أنه لا يجب شئ آخر. انتهى كلامه. وهو يريد بقوله في أول الكلام: ولا يسقط دم القران بالقضاء على سبيل الإفراد، أن الدم الذي وجب للفوات الواقع في عام الإفساد لا يسقط بالقضاء على سبيل الإفراد.

وهذه غير مسألة الشيخ أبي على المذكور أخيرًا؛ فإن مسألته في الدم الذي وجب للقران المرتب في الذمة، وقد صحح الرافعي قبل ذلك في أوائل الحج في الكلام على الاستئجار للقران والتمتع ما يوافق الشيخ أبا على، وقد تقدم التنبيه عليه، وجزم أيضًا في كتاب النذر في الكلام على نذر الحج بما يقتضيه أيضًا فراجعهما. وقد توهم النووي أن المراد بالأولى هو المراد بالثانية فقال عقب كلام الشيخ أبي على ما نصه: قلت: المذهب وجوب دم آخر إذا أفرد في القضاء، وبه قطع الجمهور، وممن قطع به الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي والقاضي أبو الطيب في كتابيه والمتولي وخلائق أخرون وهو مراد الرافعي بقوله في أوائل هذا النوع، ولا يسقط دم القران لكنه ناقصه بهذه الحكاية عن أبي على، والله أعلم. قال: والحمل على هذه الصورة عجيب لوجوه: منها: أن السياق يدفعه. ومنها: أنه لم يكن قد تكلم على إيجاب الدم للقضاء حتى تكلم بعده على إسقاطه. ومنها: إلزام التكرار والتناقض بعد أسطر. وهذه الأمور ظاهر الكلام وصلا عن غيره، وبالجمله فهو فاسد بلا شك مؤد إلى إسقاط مسألة الرافعي. واعلم أن النووي قد ذكر في أول باب الفوات والإحصار من "شرح المهذب" هذه المسألة أعني القضاء على سبيل الإفراد. وحكى وجها أن الدم يسقط، وذكرها أيضًا في هذا الموضع من الشرح المذكور، وقال: إنه لا خلاف في عدم السقوط.

قال: وقد اتفق عليه الأصحاب في الطريقين لأنه قد أسفر في ذمته قضاء حجه بالصفة الماضية وهي القران، فإذا عدل عنه إلى ما هو أفضل جاز لكن لا يسقط الدم. هذا كلامه. قوله: ولو قدم القارن مكة وطاف وسعى ثم جامع بطل نسكاه وإن كان بعد أعمال العمرة. انتهى. وما ذكره من أن الوطء والحالة هذه وقع بعد أعمال العمرة تبعه عليه النووي. وليس كذلك فإن الحلق من الأركان على المعروف ولم يأت به. قوله: فلو أحرم مجامعًا ففيه وجوه: أحدها: ينعقد صحيحًا ثم إن نزع استمر وإلا فلا. والثاني: ينعقد فاسدًا وعليه القضاء والمضي فيه، ولا كفارة إلا إذا استمر فيكون كمن جامع في الحج الفاسد. والثالث: لا ينعقد كالصلاة مع الحدث. انتهى ملخصًا. والأصح عند الرافعي هو الأول فقد جزم به قبل ذلك في باب الإحرام قبيل الكلام على سنن الإحرام بنحو ورقة وصفحة، وقد سبق ذكر لفظه هناك. وأما النووي فاختلاف كلامه في هذه المسألة في "الروضة" فإنه قد وافق الرافعي في باب الإحرام على ما ذكره هناك وهو كونه ينعقد صحيحًا ثم خالفه فيها هاهنا فصحح من "زياداته" الوجه الثالث وهو عدم الانعقاد.

وقد ذكر الرافعي المسألة في موضع ثالث وهو باب مواقيت الحج قبيل الكلام على الميقات المكانى، وجزم هناك بأنه ينعقد ولم يزد عليه، وهو محتمل لكل من الوجهين الأولين ومخالف على كل حال لما صححه النووي من "زوائده" إلا أن هذا الموضع لم يذكره في "الروضة". ولو أحرم في حال نزعه فقيل: ينعقد صحيحًا، وقيل: فاسدًا، وقيل: لا ينعقد. حكاهن في "الكفاية".

النوع السادس: مقدمات الجماع

النوع السادس: مقدمات الجماع قوله: ويحرم على المحرم المباشرة بالشهوة وحيث ثبت التحريم وباشر شيئًا منها عمدًا وجبت عليه الفدية. ثم قال: وإن كان ناسيًا لم يلزمه شئ بلا خلاف؛ لأنه استمتاع محض. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما قاله من نفي الخلاف غريب جدًا؛ فقد قال إمام الحرمين في "النهاية" قبل باب الصبي يبلغ والمملوك يعتق بنحو خمس ورقات ما نصه: وضبط الأصحاب المباشرة الموجبة للفدية بما يوجب نقض الطهارة. ثم مسائل الملامسة في الطهارة تنقسم إلى خلاف ووفاق، والأمر في الحج ينطبق على قياسها خلافًا ووفاقًا. وأما الصوم فالمباشرة المحضة لا تؤثر فيه، فهذه مراتب المباشرة وحكمها، وانتقاض الطهارة ووجوب الفدية تتجاريان بلا افتراق. انتهى لفظه. وقال أيضًا في كتاب النكاح في باب الربا لا يحرم الحلال ما نصه: ولم أر أحدًا من الأصحاب يشترط قصد الشهوة في الملامسة عند إيجاب الفدية على المحرم. انتهى. وذكر أيضًا الغزالي في "البسيط" أنه ينطبق على مسائل النقض وفاقًا وخلافًا، وذكر في "الوسيط" نحو ذلك، وكذا في "الوجيز" فقال: وكل ما ينقض الطهارة منها يوجب الفدية أنزل أم لم ينزل هذا لفظه -أعني "الوجيز".

والعجب من إهمال الرافعي له مع كونه في الكتاب الذي انتصب لشرحه. الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوجيز" يرى أن المباشرة محرمة مطلقًا سواء كانت بشهوة أم لا؛ فإنه لم يفصل بل أطلق القول بالتحريم. وكذلك أيضًا الشيخ في "المهذب" فإنه لم يقيدها بالشهوة كما قيدها في "التنبيه"؛ فكان ينبغي للرافعي أيضًا التنبيه عليه. واستفدنا من هذا كله أن الغزالي يرى أن التحريم يشترط فيه القصد فقط، وأن إيجاب الفدية لا يشترط فيه شئ، وحاول في "الروضة" من "زياداته" ذكر مقالة الغزالي فلم يذكرها على وجهها. الأمر الثالث: أن جميع ما سبق تحريمه في هذا الفصل من الجماع ومقدماته لا يختص تحريمه بالمحرم والمحرمة كما يوهمه كلام الرافعي؛ بل يحرم أيضًا على المرأة الحلال أن تمكن منه في أصح الوجهين لأن فيه إعانة على المعصية. كذا قاله الرافعي في باب الإيلاء، وقد سبق أيضًا من كلامه في الباب الثالث من أبواب الجمعة ما يدل له. وتحريم المباشرة على الحلال أيضًا حالة إحرام المرأة كما ذكروه في باب الإحصار. قوله: ولو باشر دون الفرج ثم جامع فهل تدخل الشاة في البدنة أم تجبان معًا؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح دخولها. كذا صحح النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة".

قوله: الثانية: لا ينعقد نكاح المحرم ولا إنكاحه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الفعل حرام كما هو معروف حتى ذكره جماعة في مختصراتهم "كالتنبيه" و"الوجيز" و"الإشارة" لسليم، وعبارة الرافعي لا تدل عليه. الثاني: أنه إذا فعل ذلك فلا كفارة عليه وإن كان قد تعاطى محرمًا. صرح به الغزالي في "الوجيز" وأهمله الرافعي فلم يشرحه بل سكت عنه وعن التنبيه الأول هنا وفي النكاح. وقد ظهر من هذا الكلام أن هذه المسألة مستثناة من قولهم من تعاطى محرما بسبب الإحرام لزمته كفارة. وكذلك يستثنى أيضًا الاصطياد إذا أرسل الصيد. وقد استثناهما معًا سليم الرازي في "الإشارة". قوله: وإن تعاطى المحرم محظورين أحدهما من قسم الاستهلاك والآخر من قسم الاستمتاع، واستند إلى سبب واحد كما إذا أصاب رأسه شجة واحتاج إلى حلق جوانبها وسترها بضماد فيه طيب لم تتداخل الفدية في أصح الوجهين. انتهى. الضماد: بكسر الضاد المعجمة هي العصابة. قال الجوهري: ضمد الجرح يضمده ضمدًا أي: شدة بالضماد وهي العصابة. هذا كلامه. قوله: الحالة الثانية: أن يكونا من قسم الاستهلاك فينظر إن اختلف نوعه كالحلق والقلم فلا تداخل. ثم قال ما نصه: ولا فرق بين أن يوجد النوعان بفعلين أو في فعل واحد

كما لو لبس ثوبا مطيبًا تلزمه فديتان. وفي وجه أنه لا تجب إلا فدية واحدة. انتهى كلامه بحروفه. واعلم أن ذكر الثوب المطيب ليس لقصد تمثيل المسألة؛ لأن كلامه في الاستهلاكات لا في الاستمتاعات بل ذكره للقياس عليه. إذا علمت ذلك فاعلم أنه ليس في كلامه ما يدل على أن الوجه هل هو في لبس الثوب الطيب أم في أصل المسألة؟ والسياق يقتضي عوده إلى المسألة المقيسة؛ لأنها المقصودة بالكلام؛ لأن المعهود قياس المختلف فيه على المتفق عليه لا العكس، لكن صرح النووي في "أصل الروضة" بأن الوجه راجع إلى المقيس عليه؛ فاعلمه. فقال: وفي هذه الصورة وجه ضعيف أنه تلزمه فدية واحدة. هذه عبارته، وحينئذ فيتوجه على كلام الرافعي الإشكال المشار إليه وهو قياس المتفق عليه على المختلف فيه، وذكر في "الروضة" من "زياداته" أن هذا الوجه هو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور وذلك بعد أن ذكر هو من عنده في "أصل الروضة" أنه ضعيف كما تقدم. قوله: ولو حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة متفرقة، فإن قلنا: كل شعرة تقابل ثلث دم، فلا فرق بين حلقها دفعة أو دفعات، وإن قلنا: الشعرة بمد أو درهم، والشعرتان بمدين أو درهمين، بني على الخلاف في أن تفرق الزمان هل يؤثر أم لا؟ فإن قلنا: إنه يؤثر وهو الأصح قطعنا حكم كل شعرة عن الأخرتين وأوجبنا ثلاثة أمداد في قول وثلاثة دراهم في قول. انتهى ملخصًا. والذي قاله من كونه لا فرق بين حلقها دفعة أو في دفعات قد تابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك بل إذا قلنا: إن التفريق يؤثر فواجب كل

شعرة ثلث درهم؛ وحينئذ فيكفيه أن يخرج ثلاثة أثلاث ولا يكلف إخراج دم واحد، بخلاف ما إذا حلقها دفعة واحدة. وهذا الاستدلال ذكره صاحب "التعجيز" في "شرحه" له نقلًا عن جده، وهو استدراك صحيح. قوله: الحالة الثالث: أن يكون كلاهما من قسم الاستمتاع؛ فإن اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب ولبس أنواعًا كالعمامة والقميص والسراويل والخف، أو نوعًا واحدًا مرة بعد أخرى نظر إن فعل ذلك في مكان على التوالي لم تتعدد الفدية، ولا يقدح في التوالي طول الزمان في مضاعفة القميص وتكوير العمامة. وإن فعل ذلك في مكانين أو مكان وتخلل زمان نظر إن لم يتخلل التكفير فقولان: الجديد: يجب للثاني فدية أخرى. والقديم: تتداخل. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن اللبس إذا تعدد ولكن في محل واحد كما لو لبس قميصًا فوق قميص أو عمامة فوق القبع فإنه لا يجب للثاني شئ بلا خلاف كما قاله الطبري شارح "التنبيه" لأن المحل قد استتر. قال: ولا يظهر فرق بين أن يلبس فوق ما تجب به الفدية أو تحته؛ إذ المباشرة لا أثر لها بدليل ما لو التف لإحرامه ثم لبس فوقه قميصًا فإن الفدية تجب قطعًا. الأمر الثاني: أنهم لم يفرقوا بين أن يبدأ بالسراويل أو القميص، وظاهره التسوية في طرد القولين، وذلك ظاهر فيما إذا بدأ بالسراويل، ولو عكس لم يتجه الخلاف؛ فإنه لما لبس القميص ستر محل السراويل بالمخيط ووجبت فيه الفدية فلا تتكرر بساتر آخر مع بقاء الأول كما سبق في

القميص فوق القميص. كذا نبه عليه أيضًا الطبري المذكور، وهو متجه. الأمر الثالث: أن ما ذكروه من اختلاف المجلس وإن لم يطل معه الزمان حكمه حكم ما لو طال مخالف لما ذكروه في غير هذه المسألة كما لو يذكر ترك ركن من الصلاة بعد السلام وغيرها. واعلم أن التكوير الذي وقع في كلام الرافعي قد سبق الكلام عليه في شروط الصلاة. قوله: وإن تخلل التكفير بينهما فلا خلاف في وجوب فدية أخرى، فإن كان قد نوى بما أخرجه الماضي والمستقبل جميعًا فيبني على أن تقديم الكفارة على الحدث المحظور هل يجوز أم لا؟ إن قلنا: لا، تعددت، وإن قلنا: نعم فوجهان: أحدهما: أن الفدية تلحقه بالكفارة في جواز التقديم فلا يلزمه للثاني شئ. والثاني: المنع كما لا يجوز للصائم أن يكفر قبل الإفطار. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن السبب الموجب لهذه الكفارة قد يكون محرمًا وقد لا يكون كاللبس للحر والبرد والحلق والطيب للمرض ونحوه. والتخريج الذي ذكره في جواب المسألة إنما هو جواب لأحد قسميها. الأمر الثاني: أن القياس على منع الصائم من التقديم يقتضي الاتفاق على المسألة أو ضعف الخلاف فيها، وليس كذلك فإن في جواز تقديمها خلافًا قويًا قد مر في موضعه وهو باب تعجيل الزكاة؛ ولهذا عبر عنه في "الروضة" بالأصح.

ثم إن محل ذلك في كفارة الجماع دون ما وجب بسبب مباح. النوع السابع: في [إتلاف] (¬1) الصيد. قوله [في الروضة] (¬2): فيحرم عليه كل صيد مأكول أو في أصله مأكول ليس مائيًا، وحشيًا كان أو في أصله وحشي. انتهى. وهذه العبارة هي قريبة من عبارة الرافعي أيضًا وهي عبارة غير صحيحة؛ وذلك لأن المتولد من حيوان البر ستة أقسام: أحدها: المتولد بين وحشيين أحدهما مأكول كالسمع المتولد بين الذئب والضبع. والثاني: المتولد بين مأكولين أحدهما وحشي كالمتولد بين [الظبي] (¬3) والشاة. والثالث: المتولد بين وحشي مأكول وأهلي غير مأكول كحمار الوحش وحمار الأهل. وهذه الأقسام الثلاثة قد اشتركت في أن كلًا منها في أصله المأكول والمتوحش معًا في ذات واحدة، ولا إشكال في تحريمها. وأما الثلاثة الأخرى فمتولدة بين شيئين كل منهما لا يقتضي الإحرام تحريمه: أحدها: عكس المذكور قبله أي: الثالث؛ وهو أن يكون متولدًا بين وحشي غير مأكول وإنسي مأكول كالمتولد بين الذئب والشاة. الثاني: المتولد بين حيوانين لا يؤكلان أحدهما وحشي كالمتولد بين الحمار والزرافة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في ج: الضباع.

الثالث: المتولد بين أهليين أحدهما غير مأكول كالبغل. وهذه الأنواع الثلاثة لا نزاع في عدم تحريمها؛ لأن كل واحد منها لا يحرم التعرض لكل واحد من أصله. وهذه العبارة التي نقلناها عن الرافعي و"الروضة" تقتضي تحريم الأول من هذه الثلاثة الأخيرة. وليس كذلك. وقد عبر في "المنهاج" بعبارة صحيحة تدل على التحريم في الثلاثة الأولى وعلى الإباحة في الثلاثة الأخيرة فقال: الخامس: اصطياد كل مأكول برى. قلت: وكذا المتولد منه ومن غيره. قوله: نعم يجب في الصيد المملوك مع الجزاء ما بين قيمته حيًا ومذبوحًا لحق المالك. انتهى كلامه. وهذا إنما يستقيم إذا قلنا: مذبوح المحرم يحل أكله، أما إذا جعلناه ميتة وهو الأصح فإنه تجب كل القيمة لإتلافه إياه. وهذا الاعتراض قد استدركه النووي عليه أيضًا. قال: وقد أوضحه الرافعي بعد هذا في أثناء الباب. قوله: ولو حلب لبن صيد ضمنه. قاله كثيرون من أصحابنا العراقيين وغيرهم. وقال الروياني: لا يضمن. انتهى. وما اقتضاه كلامه من ترجيح وجوب الضمان مطلقًا تابعه عليه في "الروضة"، وذكر مثله في "شرح المهذب"، واقتضى كلامه أنه لا فرق بين أن تنقضي قيمة الصيد بذلك أم لا؛ فإنه نقل عقب ذلك عن أبي حنيفة

هذا التفصيل فأشعر كلامه أنه لم ير ذلك لأحد من أصحابنا، لكن رأيت في طبقات الموسوي التفليسي في ترجمة إسحاق بن صغير أن الدارقطني ذكره فيمن روى عن الشافعي فقال: سألت الشافعي عمن حلب عنزًا من الظباء وهو محرم، قال: تقوم العنز باللبن وتقوم بلا لبن فينظر نقص ما بينهما فيتصدق به. هذا لفظه. قوله: أما الذي لا يؤكل فلا يحرم التعرض له وهو على أضرب منها ما يستحب قتله للمحرم وغيره وهو المؤذيات؛ كالفواسق الخمس؛ روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" (¬1). وفي معناها: الحية والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هنا من استحباب قتل الفواسق الخمس قد ذكر في أوائل باب الأطعمة ما يقتضي مخالفته، وأن ذلك على سبيل الوجوب فقال: قال صاحب "التلخيص" وساعده الأصحاب: ما أمر بقتله من الحيوان فهو حرام، والسبب فيه: أن الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنع من اقتنائه، ولو كان مأكولًا لجاز اقتناؤه للقسمين وإعداده للأكل فمن ذلك الفواسق الخمس .. إلى آخره. الأمر الثاني: أن النووي قد تابعه في "الروضة" على عد العقاب مما يستحب قتله، وجزم في "شرح المهذب" بأنه من القسم الذي لا يستحب قتله ولا يكره، وهو الذي فيه نفع ومضرة. وهذا الثاني هو الذي جزم به القاضي أبو الطيب في تعليقه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1732) ومسلم (1198) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

والحديث المذكور رواه البخاري ومسلم. [قوله] (¬1): ومنها التي لا تظهر فيها منفعة ولا مضرة كالخنافس والجعلانات والسرطان والرخمة والكلب الذي ليس بعقور فيكره قتلها. انتهى. وما ذكره في الكلب من الكراهة قد وقع فيه اختلاف عجيب في كلامه وكلام النووي، وقد تقدمت المسألة مبسوطة في التيمم. قوله: ولا يجوز قتل النحل والنمل والخطاف والضفدع لورود النهي عن قتلها. انتهى. والمراد بالنمل الوارد هنا إنما هو النمل الكبير المعروف بالسليمانى؛ كذا قاله الخطابي. وكذلك البغوي في "شرح السنة" وفي أواخر الكتاب قال: وأما الصغير المسمى بالنمل فاسمه الذر وقتله جائز بغير الإحراق والذي قالاه ظاهر؛ لأن الصغير منه يؤذي. وقد رأيته أيضًا مصرحًا به في "شرح المهذب" المسمى "بالاستقصاء" نقلًا عن "الإيضاح" للصيمري فقال: إن الذي يؤذي منه يجوز قتله، قال: بل يستحب لأنهم سألوا ابن عباس عن قتلها فقال: تلك ضالة لا شئ فيها. وبالجملة فقد أطلق الشافعي كراهة قتل النمل كما نقله الطبري شارح "التنبيه"، وهو يدل على الجواز على كل حال في الصغير فإنه إما عام أو خاص. قوله: وأما ما يتولد بين الوحش والإنس كالمتولد من اليعقوب ¬

_ (¬1) بياض في أ.

والدجاجة فيجب الجزاء بذبحه. انتهى. اعلم أن يعقوب هذا كيعقوب اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وهو الطائر المعروف بالجحل، وقد عبر عنه في باب الأطعمة من "الروضة" بذلك. نعم عبر الرافعي هناك باليعقوب كما عبر هنا. قوله: إحداها: لو نصب المحرم شبكة فعقل بها صيد وهلك فعليه الضمان. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق وجوب الضمان ومقتضاه أنه لا فرق بين أن يعقل الصيد في حال الإحرام أو بعد التحلل، وقد صرح البغوي في "فتاويه" بذلك وعلله بالتعدي. قوله: فإن لم يكن صيد فأرسل الكلب أو حل رباطه فظهر صيد فوجهان: أظهرهما أنه لا يضمن إذ لم يوجد منه قصد الصيد. وأرجحهما على ما رواه الإمام أنه يضمن لحصول التلف بسبب فعله. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه قد رجح في "الشرح الصغير" عكس ما صححه هنا فقال: أرجحهما: الوجوب ولم يذكر ترجيحًا غيره. الثاني: أنه قد انعكس على النووي ذلك فصحح في "أصل الروضة" أنه يضمن، وعبر بلفظ الأصح واقتصر عليه، ثم إنه في "شرح المهذب" اعتمد على ما في "الروضة" ظنًا منه أنه مطابق لكلام الرافعي فصرح فيه بنقل التصحيح المذكور عن الرافعي فغلط غلطًا آخر، وقد سبق بيان كثير من ذلك في موضعه. قوله: ولو حفرها في ملكه أو في موات فثلاثة أوجه: أصحها: يضمن

في الحرم دون الإحرام. زاد النووي في "الروضة" على هذا فقال: قلت: وقيل: إن حفرها للصيد ضمن وإلا فلا. واختاره صاحب "الحاوي" والله أعلم. هذا كلامه. والذي عزاه إلى "الحاوي" ليس فيه كما نقله عنه، بل هو مخالف لكلامه من وجهين. أحدهما: أنه لم يختر عدم الضمان إذا لم يرد الصيد، بل حكى وجهين من غير ترجيح. الثاني: أن هذا التفصيل إنما ذكره في المحرم. وأما حفر الحلال في الحرم فلم يذكره فقال: فصل: إذا حفر المحرم بئرًا فوقع فيها صيد فمات فهذا على ضربين. ثم قال: والضرب الثاني أن يكون غير متعد بحفرها؛ وذلك أن يحفرها في ملكه أو في صحراء واسعة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يحفرها لأجل الصيد فهذا ضامن لما وقع فيها من الصيد كما لو طرح شبكة أو نصب حالة. والضرب الثاني: أن يحفرها للشرب لا للصيد ففي وجوب الجزاء وجهان: أحدهما: عليه الجزاء لأن موت الصيد كان بسبب منه وإن لم يكن قاصدًا له كالخاطئ. والوجه الثاني: لا ضمان عليه ولا جزاء كما لو صعد صيد إلى سطحه وتردى إلى داره لم يضمنه فكذلك إذا دخل إلى داره وتردى في بئره لم

يضمنه. هذا لفظه بحروفه. قوله: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو دل الحلال محرمًا على صيد فقتله وجب الجزاء على المحرم ولا شئ على الحلال. نعم هو مسئ بالإعانة على المعصية. ولو دل المحرم حلالًا على صيد فقتله نظر إن كان الصيد في يد المحرم وجب الجزاء .. إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن المراد بالإساءة هنا هو التحريم على ما فسره النووي وعبر به في أصل "الروضة". ولابد من مجئ الخلاف في نظائره كما إذا باع من لا تجب عليه الجمعة ممن تجب عليه، وقد سبق بيان ذلك في موضعه، وأن نص الشافعي والجمهور يقتضي اختصاص الإثم بمن تجب عليه. ومثله ما إذا باع العصير ممن يتحقق اتخاذه خمرًا، وغير ذلك. الأمر الثاني: أن المحرم إذا دل الحلال على الصيد يعصي بذلك. كذا صرح به الغزالي في "الوجيز" وأهمله الرافعي فلم يشرحه ولم يتعرض لحكم المسألة، وكذلك النووي أيضًا في "الروضة"، لكن الذي قاله الغزالي مشكل؛ فإن الحلال إذا كان يباح له الاصطياد فدلالة المحرم عليه دلالة على مباح وإن كان هو لا يتعاطاه وليس في القواعد ما يدل على اشتراط جواز تعاطي الشئ في جواز الدلالة عليه. وما ذكره الغزالي من تحريم الدلالة ذكره أيضًا في "شرح المهذب" وزاد

تحريم الإعانة بالإعارة وتحريم التنفير، على أن تحريم التنفير يؤخذ من كلام الرافعي في أثناء الاستدلال. قوله في أصل "الروضة": ولو أكل المحرم من صيد يحرم عليه أكله وكان الذابح غيره ففي وجوب الجزاء قولان. ثم قال ما نصه: ولو أكل المحرم ما ذبحه بنفسه لم يلزمه لأكله بعد الذبح شئ آخر بلا خلاف. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك فقد رأيت في "التحرير" للجرجاني حكاية قولين في هذه المسألة، وجزم بالوجوب في المسألة الأولى؛ وهي ما إذا كان الذابح غيره فقال في تعديد المحرم ما نصه: والرابع عشر: أكل صيد صيد له أو ذبح أو أعان عليه بدلالة أو إشارة أو إعارة سلاح ويضمن الأكل بالجزاء إلا أن يكون ضمنه بالذبح فلا يضمنه بالأكل على أصح القولين. هذا لفظه بحروفه ومنه نقلت، والرافعي سالم من هذا الاعتراض؛ فإنه لم يدع نفي الخلاف. قوله: ولو أمسك محرم صيدًا فقتله حلال وجب الجزاء على المحرم، وهل يرجع به على الحلال؟ قال الشيخ أبو حامد: لا؛ لأنه غير ممنوع. وقال القاضي أبو الطيب: نعم، وهو ما أورده في "التهذيب". انتهى. والصحيح ما قاله النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" هو الأول وهو عدم الرجوع. قال الطبري -شارح "التنبيه": وما قاله الأول من عدم المنع منه ممنوع فإنه ما دام مضمونًا على المحرم فليس لأحد أن يقرر الضمان عليه بإتلافه في يده لأنه إضرار به.

قوله في المسألة: فإن قتله محرم آخر فوجهان: أظهرهما أن الجزاء كله على القاتل لأنه مباشر. والثاني: عليهما نصفين. وقال في "العدة": الصحيح أن الممسك يضمنه بالمسك والقاتل بالإتلاف والقرار على القاتل. انتهى. وحاصله أن في المسألة ثلاثة أوجه: أصحها: أن المطالب هو القاتل وحده. وقد ذكر ما يوافق ذلك أيضا في آخر الباب في الكلام على صيد الحرم، وستعرف لفظه في موضعه. إذا علمت ذلك فقد أعاد المسألة بعد هذا بدون ورقتين فقال: وإن قتله محرم آخر فالجزاء عليهما أو على القاتل ومن في يده طريق؟ فيه وجهان. هذا لفظه. ولم يذكر الوجه الذي صححه أولًا، وهو غريب، على أنه قد وقع له نظير ذلك في مواضع. ثم ذكرها أيضًا في كتاب الجنايات في اجتماع السبب والمباشرة، ورجح أنه على القاتل ومن في يده طريق كما ذهب إليه صاحب "العدة" فقال: قال الإمام وغيره: هذا هو الظاهر. هذه عبارته. ولم يذكر ترجيحًا غيره؛ ولهذا أطلق النووي أنه المذهب. وليس للمسألة ذكر في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". وقد اختلف كلام النووي أيضًا فيها فقال في "شرح المهذب" في باب الإحرام في آخر الكلام على الصيد المأكول: فإذا أمسك المحرم صيدًا فقتله محرم آخر ففيه وجهان: أحدهما: الجزاء عليهما نصفين.

وأصحهما: يجب على القاتل والممسك طريق في الضمان. انتهى كلامه. وقال في باب ما يجب بمحظورات الإحرام في أثناء فرع أوله إذا قتل المحرم صيدًا بعد صيد ما نصه: ولو أمسك المحرم صيدًا فقتله محرم آخر فثلاثة أوجه: أصحها: يجب الجزاء كله على القاتل؛ لأنه وجد من الممسك سبب ومن القاتل مباشرة؛ فوجب تقديم المباشرة كما في قتل الآدمي وغيره. والثاني: يجب الجزاء بينهما نصفين لأنهما من أهل ضمانته. وهذا ينتقض بضمان الآدمي. وبهذا الوجه قطع المصنف في "التنبيه". والثالث: قاله القاضي أبو الطيب وصححه أبو المكارم: يجب على كل واحد منهما، فإن أخرج الممسك رجع على القاتل وإن أخرج القاتل لم يرجع به على الممسك كما لو غصب شيئًا وأتلفه آخر. قال في "الشامل": هذا الوجه أقيس عندي. انتهى لفظه بحروفه. وهو اختلاف فاحش؛ فإن الذي صححه هنا لم يذكره أولًا البتة، وقد وقع له هذا الاختلاف الفاحش في "الروضة" أيضًا؛ فإنه تبع الرافعي على ما ذكره هنا وفي كتاب الجنايات، وصحح من زياداته في الموضع الذي حكى فيه الرافعي وجهين من غير تصحيح ما يوافق المذكور في الجنايات. قوله من "زياداته": قال صاحب "البحر": لو رمى حلال صيدًا ثم أحرم ثم أصابه ضمنه على الأصح. ولو رمى محرم ثم تحلل بأن قص شعره ثم أصابه فوجهان. انتهى.

والأصح من الوجهين الأخيرين هو وجوب الضمان. كذا جزم به الرافعي بعد هذا في الكلام على تحريم صيد الحرم، وجزم أيضًا بالتي قبلها، ونقلهما النووي كذلك أيضًا. قوله: بل لو تولد تلف الصيد ما في يده لزمه الضمان كما لو كان راكبًا دابته فأتلفت صيدا بعضها أو رفسها. وكذا لو بالت في الطريق فزلق به صيد وهلك كما لو زلق به آدمي أو بهيمة؛ أي: فإنه يضمن. انتهى. وما ذكره في الآدمي والبهيمة من الضمان وجزم به قد جزم بما يخالفه في كتاب الجنايات في الكلام على ضمان البهائم. وستعرف لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: فإن كان في ملكه صيد فهل يلزمه رفع اليد عنه؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ كما لا يلزمه تسريح زوجته. والثاني: نعم؛ لأن الصيد لا يراد للدوام فتحرم استدامته كالطيب واللباس. وهذا أصح القولين على ما ذكره المحاملي والكرخي وغيرهما من العراقيين. انتهى. وما ذكره في استدلاله على القول الثاني من تحريم استدامة الطيب عجيب؛ فقد سبق منه في أول باب سنن الإحرام الجزم بجواز ذلك، وهو المعروف. ولم يتعرض في "الروضة" لذلك هنا فسلم من الاختلاف. واقتصر الشيخ في "المهذب" على القياس على اللباس. قوله: في "أصل الروضة": ولو مات الصيد قبل إمكان الإرسال وجب

الجزاء على الأصح. انتهى. والذي قاله من وجوب الجزاء مشكل؛ فإنه قد ذكر هو والرافعي وغيرهما أنه لا يجب تقديم الإرسال على الإحرام بلا خلاف وحينئذ فينبغي الجزم بعدم الضمان؛ لأنه لم يوجد منه إتلاف ولا تقصير في الإرسال؛ يؤيده أنهم قالوا بعدم الضمان فيما إذا نذر التضحية بشاة معينة ثم ماتت يوم النحر وقبل إمكان الذبح، وبالجملة فالرافعي لم يصححه وإنما نقل عن الإمام أنه المذهب. قوله فيها أيضًا: ولو اشترى المحرم صيدًا أو انتهبه أو أوصى له به فقيل: لم يصح ذلك في الأظهر. ويدل على المنع ما روي أن الصعب بن جثامة أهدي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارًا وحشيًا فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم (¬1). ثم قال ما نصه: فإن لم نصحح هذه العقود فليس له القبض، فإن قبض فهلك في يده لزمه الجزاء ولزمه القيمة للبائع. قلت: كذا ذكر الإمام الرافعي هنا أنه إذا هلك في يده ضمنه بالقيمة للآدمي مع الجزاء. هذا في الشراء صحيح، أما في الهبة فلا تضمن القيمة على الأصح؛ لأن العقد الفاسد كالصحيح في الضمان والهبة غير مضمونة. انتهى كلامه. واعتراضه عليه عجيب؛ فإن الرافعي لم يذكر هنا أنه تلزمه القيمة للمالك حتى يدخل فيه الوارث، بل احترز عن الوارث بتعبيره بالبائع، وقد نقله هو عنه كذلك قبل استدراكه عليه بقليل كما تقدم لك من عبارته. ثم إن النووي لما وقع له في "الروضة" ما وقع اعترض عليه في "شرح ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1729) ومسلم (1193).

المهذب" ظنًا منه أن ما في "الروضة" مطابق لكلام الرافعي فقال ما نصه: وأشار جماعة من الخراسانيين إلى القطع بالضمان. وقد اغتر الرافعي بهذا فوافق إشاراتهم فقطع هنا بالضمان مع تصحيحه العكس في كتاب الهبة؛ فكأنه لم يتذكره في هذا الموطن. هذا كلامه. وهو غريب، وأغرب منه دعواه أن الرافعي قطع به. ثم إن دعواه في "شرح المهذب" أن الرافعي قد صحح في كتاب الهبة عدم الضمان، فليس كذلك أيضًا؛ فإنه إنما حكى وجهين من غير ترجيح. واعلم أنه قد عبر في "الشرح الصغير" بالمالك ولم يقيده بالبائع كما قيده في "الكبير"، وهو يقتضي الضمان للواهب. والصعب المذكور في الحديث بصاد مفتوحة وعين ساكنة مهملتين. وجثامة: بجيم مفتوحة ثم ثاء مثلثة مشددة. وحديثه هذا رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس من طرق. قوله في المسألة بعينها: وإن رده عليه سقطت القيمة ولا يسقط ضمان الجزاء إلا بالإرسال، وإذا أرسل كان كما إذا اشترى عبدًا مرتدًا فقتل في يده. وفي أنه من ضمان من يتلف خلاف سنذكره في موضعه. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من أنه إذا أرسل كان كقتل العبد المرتد في يد المشتري سهو؛ فإن كلامه فيما إذا اشترى المحرم الصيد. والمقتضي للإرسال في هذه المسألة إنما وجد في يد المشتري فكيف يتصور تخريجه على الخلاف في المرتد؛ فإن الردة هناك وجدت في يد البائع. وإنما صورة المسألة التي تتخرج على المرتد أن يكون المحرم بائعًا للصيد، وقد أوضحه الغزالي فقال: فإن صححنا الشراء فباعه المحرم حرم

البيع ولكن ينعقد ويجب على المشتري إرساله. فإذا أرسله فهل يكون من ضمان البائع؟ فيه الخلاف فيمن باع مرتدًا فقتل في يد المشترى، وزاده الإمام إيضاحًا فقال: قال الأئمة: إذا باع الحرم صيدًا أمرناه بإطلاقه ووجب على المشتري إرساله. قال: فإن استبعد العقبة ذلك فهو كتصحيحنا من المشتري شراؤه مع أمرنا إياه بإرساله. ثم إذا أرسله المشتري بعد قبضه أيصل هذا بالتفريع فيمن اشترى مرتدًا فقتل في يده بالردة فمن ضمان من هو؟ وفيه خلاف. قال: ولعل الوجه القطع هنا بأن إرساله من ضمان التابع وجهًا المرتد قد تقبل لردة حالته والظهرات تتجدد والسبب الذي علق به وجوب الإرسال دائم لا تجدد فيه هذا كلامه. واعلم أن بيع المرتد الذي أحال الرافعي هنا عليه محله في أوائل خيار العيب. والصحيح فيه أنه من ضمان البائع إن كان المشتري جاهلًا بالحال حتى يرجع على البائع بجميع الثمن. فإن كان عالمًا أو علم ولم يرد لم يرجع بشئ، وقيل: يرجع بالثمن. قوله: الثانية: إذا مات للمحرم قريب وفي ملكه صيد هل يرثه؟ إن جوزنا الشراء وغيره من الأسباب الاختيارية فنعم، وإلا فوجهان؛ والأظهر ثبوته لأنه لا اختيار فيه. انتهى كلامه. واعلم أن النووي لما نقل هذا الكلام في "شرح المهذب" ذكر عقبه عن

المتولي والقاضي أبي الطيب أن القول بالتوريث إنما يتصور على قولنا: إن الإحرام لا يزيل الملك عن الصيد. فأما إذا قلنا بالقول الآخر وهو أنه يزيله فإنه لا يدخل في ملكه. ثم نقل عن الإمام أنه نقل عن العراقيين عكسه فقالوا: إن محل الوجهين إذا قلنا الإحرام يقطع دوام الملك. ثم قال النووي: إن الجمهور لم يتعرضوا لذلك. قال: وما نقله الإمام عن العراقيين غريب. ومقتضى ما قال النووي عدم الإنكار على أبي الطيب والمتولي، ويلزم منه أن يكون الراجح في المسألة من حيث الجملة عدم الإرث. قوله: وعلى هذا يعني القول بالإرث فقد ذكر الإمام وصاحب "الكتاب" أنه يزول ملكه عقب ثبوته بناء على زوال الملك بالإحرام. وفي "التهذيب" وغيره خلافه. وإن قلنا: لا يرثه، فقال في "التتمة": يكون الصيد لباقي الورثة. وقال الكرخي: يكون أحق به فيوقف حتى يتحلل. انتهى ملخصًا. فأما المسألة الأولى -وهي زوال الملك فلم يصحح فيها شيئًا أيضًا في "الشرح الصغير" ولا في "الروضة" ولم يذكرها في "المحرر" والصحيح أنه لا يزول؛ كذا صححه النووي في "شرح المهذب" فقال: وهذا الذي أضافه إلى "التهذيب" وغيره هو الصحيح المشهور الذي قطع به المحاملي وآخرون. قال المحاملي في "المجموع": إذا قلنا أنه يملكه بالإرث كان ملكًا له يتصرف فيه كيف شاء إلا القتل والإتلاف .. هذا كلام النووي.

لكن ذكرها في "الحاوي الصغير" وقال: إنه يزول. وأما الثانية فصحح النووي من "زياداته" قول الكرخي وقال: إنه الصحيح بل الصواب المعروف في المذهب. وذكر مثله أيضًا في "شرح المهذب" وزاد فيه فقال: إنه على هذا القول يكون ملكًا للميت إلى التحلل؛ وحينئذ فمعنى قول الرافعي يوقف أي: يوقف تسليم الصيد إليه، ولا يريد أن الملك يكون موقوفًا. قوله: المسألة الثانية: الناس كالعامد في وجوب الجزاء. ثم قال: وخرج بعض الأصحاب في وجوب الضمان على الناس قولين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تصحيح القطع قد ذكر قبل ذلك في الكلام على الحلق عكسه، وقد تقدم ذكر لفظه هناك، فراجعه، وهو اختلاف عجيب وقع أيضًا في "الشرح الصغير" و"الروضة". والصواب المذكور هناك وهو التخريج فإنه قد نقله هناك عن الأكثرين. الأمر الثاني: أن الصحيح على طريقة القولين هو الوجوب أيضًا. كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، فاعلمه. قوله: ولو أحرم ثم جن فقتل صيدًا ففي وجوب الجزاء قولان. وجه المنع أن الصيد على الإباحة، وإنما يخاطب بترك التعرض له من هو من أهل التكليف. انتهى. والأصح عدم الوجوب. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" وفي "زيادات الروضة"، وفيه إشكال؛ لأن الإتلاف لا فرق فيها بين المجنون

والعاقل؛ ولهذا لما صححه في "شرح المهذب" قال: إن الأقيس خلافه. قوله: ولو ركب إنسان صيدًا وصال على المحرم ولم يمكن دفعه إلا بقتل الصيد فقتله، فالذي أورده الأكثرون أنه يجب عليه الضمان لأن الأذى هاهنا ليس من الصيد. وحكى الإمام أن القفال ذكر فيه قولين: أحدهما: أن الضمان على الراكب ولا يطالب به المحرم. والثاني: يطالب المحرم به ويرجع بما غرم على الراكب. انتهى كلامه. وهذا الخلاف المذكور في الطريقة الثانية قد جعله في "الروضة" وجهين فقال: وذكر القفال فيه وجهين. هذه عبارته. والمذكور في "النهاية" وكتب الغزالي وغيره هو القولان كما ذكره الرافعي. وكلام "الكفاية" أيضًا هنا غير محرر. قوله: ولو أكره المحرم أو الحلال في الحرم على قتل صيد فقتله فوجهان: أحدهما: أن الجزاء على المكره. والثاني: على المكره ثم يرجع على المكره. انتهى. والأصح هو الثاني؛ وهو الوجوب على القاتل ثم يرجع به على الآمر. كذا صححه الرافعي في أوائل الجنايات في الكلام على الإكراه على القتل، وعبر بالأصح. وحكى مع ما قاله هنا وجهين آخرين: أحدهما: أنه عليهما، والثاني: على المتلف فقط. وجعل هذه الأوجه في الصيد وفي سائر الإتلافات التي حصل الإكراه عليها.

وما صححه الرافعي هناك قد صححه أيضًا النووي هنا في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله من "زياداته": قال صاحب "البحر": قال أصحابنا: إذا كسر بيض صيد فحكم البيض حكم الصيد إذا ذبحه فيحرم عليه قطعا، وفي غيره القولان وكذا إذا كسره في الحرم. قال أصحابنا: وكذا لو قتل المحرم الجراد قال: وقيل: يحل البيض لغيره قطعًا بخلاف الصيد المذبوح على أحد القولين لأن إباحته تقف على الذكاة بخلاف البيض؛ ولهذا لو بلعه إنسان قبل كسره لم يحرم. وهذا اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي الطبري. قال الروياني: وهو الصحيح. انتهى. كلام النووي. وليس فيه إطلاق تصحيح شئ من الطريقين، وقد صحح الحل في "شرح المهذب" فقال في الكلام على تحريم ما ذبحه: أما إذا كسر المحرم بيض صيد أو قلاه فيحرم عليه بلا خلاف، وفي تحريمه على غيره طريقان: أشهرهما وهي التي اختارها المصنف في الفصل الذي بعد هذا أنه على القولين كاللحم؛ الجديد: تحريمه، والقديم: إباحته. والطريق الثانية: القطع بإباحته، وهذا الطريق هو الصواب. انتهى ملخصًا. وذكر بعده بنحو سبعة أوراق أن طريقة القطع بالإباحة أصح، ولم يذكر معها أن الأشهر طريقة القولين كما ذكره أولا. قال -رحمه الله-: النظر الثاني في الواجب. قوله في "أصل الروضة": فحصل من هذا أنه في المثلى مخير بين الحيوان والطعام والصيام، وفي غيره مخير بين الطعام والصيام. هذه هو

المذهب والمقطوع به في كتب الشافعي والأصحاب. وروى أبو ثور قولًا: إنها على الترتيب. انتهى كلامه. وما ذكره من القطع به في كتب الشافعي ليس كذلك؛ فقد حكى في "التقريب" عن "المناسك الكبير" للشافعي فيه احتمالين، وهو من الكتب الجديدة فقال: قال في "المناسك الكبير" بعد ذكر الآية في جزاء الصيد: فاحتمل أن يكون بالخيار؛ بأن يفتدي بأي ذلك شاء وهو أظهر معانيه، ويحتمل أن يكون عليه الهدي إن وجده، فإن لم يجده فطعام، فإن لم يجده فصوم. هذا لفظه بحروفه، ومن "التقريب" نقلت. واحتمالات الشافعي عند الأصحاب معدودة من الأقوال على كل حال تثبت بطلان ما ادعاه من القطع؛ ولهذا لم يذكره الرافعي. قوله: وإذا لم يكن الصيد مثليا فالعبرة في قيمته بمحل الإتلاف، وإن كان مثليا وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في القيمة بمكة يومئذ لأنها محل ذبحه، فإذا عدل عن الذبح وجبت قيمته بمحل ذبحه. هذا نصه في المسألتين وهو المذهب وقيل: فيهما قولان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: ولنقدم عليه مقدمة، وهي: أن المذهب المنصوص عليه كما قاله النووي في "شرح المهذب" وابن الرفعة في "الكفاية": أن المعتبر في المثلى والحالة هذه بمكة إنما هو بيوم الرجوع إلى الإطعام لإخراجه أو للصيام بعدله لا بيوم الإتلاف؛ وحينئذ فقول الرافعي يومئذ لا يعود إلى الإتلاف بل ليوم التقويم لإخراج الطعام أو ليصوم.

إذا تقرر هذا فقد عبر عنه في "الروضة" بقوله: وإذا لم يكن الصيد مثليا فالمعتبر قيمته محل الإتلاف وإلا فقيمته بمكة يومئذ. هذه عبارته. فقوله: (وإلا) أي: وإن كان مثليًا كما علم من كلام الرافعي وإن كان يوهم أن المراد أنه إذا تعذر التقويم لمحل الإتلاف فكان الصواب هو التعبير بعبارة الرافعي. وإذا علمت ذلك علمت أن مدلول لفظ "الروضة" أن المعتبر في المثل قيمته بمكة يوم الإتلاف، وهو خطأ مخالف لكلام الأصحاب في اعتبار يوم التقويم ولكلام الرافعي وللذي صححه هو ما تقدم إيضاحه. وقد غلط أيضًا في "شرح المهذب" فإنه فرض الكلام في مكان القيمة ولم يستوفيه ثم انتقل منه إلى الكلام في زمانها. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ترك التصريح بزمان القيمة فيما لا مثل له، والمذهب المنصوص أنه يوم الإتلاف على خلاف ما سبق في المثلى. ولا شك أن في كل من الأمرين نصين وتخريجين؛ فالرافعي استوفاه في المكان ولا يظهر منه حكم الزمان، والنووي عكسه. قوله: وحيث اعتبرنا قيمة مكان الإتلاف فقد ذكر الإمام احتمالين في أن المعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام في ذلك المكان أيضًا أو سعر الطعام بمكة، والظاهر منهما الثاني. انتهى. وذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وكلامهما يشعر بأنهما لم يقفا في المسألة على نقل، وقد صرح بها الفوراني في "العمد" وجزم بالاحتمال الذي رجحه الرافعي، وكذلك الروياني في "البحر" في أول باب جزاء الصيد. قوله: وقد حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع بكبش (¬1). انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3801) والترمذي (851) والنسائي (4323) وابن ماجه (3085) والدارمي =

واعلم أن الضبع في اللغة هو الأنثى من هذا الحيوان، وأما الذكر فإنه ضبعان بضاد مكسورة ثم باء ساكنه وفي آخره نون؛ فيكون واجب الضبع في الحقيقة إنما هو نعجة لا كبش، وأما الحديث فورد فيه التعبير بأحدهما عن الآخر مجازًا. نعم: رأيت في كتاب "الموعب في اللغة" لأبي غالب المعروف بابن [اليماني] (¬1) عن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى، وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي في كتاب "الإفصاح" هو كذا "الإيضاح" للفارس عن أبي العباس وغيره، والمعروف المجزوم به في "الصحاح" و"المحكم" ما ذكره أولًا من اختصاصه بالمؤنث. والحديث المذكور قال البيهقي: قال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: إنه حديث صحيح. قوله: وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه حكم في أم حبين بحلان، ويقال فيه بالميم. انتهى. حبين: بحاء مهملة مضمومة ثم باء موحدة مفتوحة بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم نون: تصغير حبين وهو الذي استلقى ونفخ بطنه. قال الجويني: أرى هذا الحيوان من صغار الضب. وحلان بالمهملة أيضًا وفي آخره نون ذكره الجوهري وغيره، وهو بتشديد ¬

_ = (1941) وابن حبان (3964) والدارقطني (2/ 245) وأبو يعلي (2159) والبيهقي في "الكبرى" (9654) والطحاوي في "شرح المعانى" (3482) وابن الجارود في "المنتقى" (439) وابن الغطريف في "جزء ابن الغطريف" (78) من حديث جابر - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه البخاري فيما نقله الترمذي عنه في "العلل"، قال الحاكم: صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬1) في ج: البيان.

اللام. قوله في "أصل الروضة": أما العناق فالأنثي من المعز من حين تولد إلى أن ترعى، والجفرة: الأنثى من ولد المعز تفطم وتفصل عن أمها فتأخذ في الرعي؛ وذلك بعد أربعة أشهر، والذكر: جفر. هذا معناهما في اللغة. انتهى كلامه. وما ذكره هنا في تفسير العناق قد ذكر ما يخالفه في "لغات التنبيه" وفي "دقائق المنهاج" فقال ما نصه: العناق بفتح العين هي الأنثى من أولاد المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة. انتهى كلامه فيهما، وهو مخالف من وجهين: أحدهما: أنه شرط في إطلاق العناق أن تكون قد قويت، وقال أولًا: إنها تطلق من حين الولادة. الثاني: أنه نقل ثانيًا عنهم إطلاق ذلك إلى سنة، ونقل أولًا إطلاقه إلى أربعة أشهر، وذكر في "تهذيب الأسماء واللغات" في فصل حصر كما ذكر في "الروضة" أعني في العناق، ثم تكلم أيضًا عليها في فصل عنق فقال نقلًا عن الأزهري أن العناق: الأنثى من أولاد المعز إذا أتت عليها سنة. هذا لفظه. واقتصر عليه، والذي نقله عنه سهو على العكس مما ذكره؛ فتذكر كلامه لاحتياجنا إليه في هذا وفي غيره؛ فقال في الزكاة في شرحه لألفاظ "المختصر" ما نصه: وأما أسنان الغنم فساعة تضعها أمها من الضأن والمعز ذكرًا كان أو أنثى: سخلة وجمعها سخال. ثم هي بهمة أي: بفتح الباء الموحدة للذكر والأنثى وجمعها بهم، فإذا بلغت أربعة أشهر فصلت عن

أمهاتها فما كان من أولاد المعز فهي جفار واحدها: جفر، والأنثى جفرة، فإذا رعى وقوى فهو عريض وعتود وجمعهما: عرضان وعتدان، وهو في ذلك كله جدي، والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول، وجمعها عنوق، والذكر تيس إذا أتى عليه الحول، والأنثى عير ثم تجذع في السنة الثانية فالذكر جذع والأنثى جذعة هذا كلام الأزهري. قوله: وعن بعضهم أن في الأيل بقرة. انتهى. الأيل بياء مشددة بنقطتين من تحت قبلها همزة بضم وبكسر والضم أرجح: هو ذكر الوعول. قاله في "تهذيب الأسماء واللغات". قال: ورأيته في المجمل مضبوطًا بكسر الهمزة فقط. قوله: الثاني: قد تجد أن في كتب بعض الأصحاب أن في الظبي كبشا وفي الغزال عنزًا، وهكذا أورده أبو القاسم الكرخي، وزعم أن الظبي ذكر الغزلان وأن الغزال الأنثى. قال الإمام: والذي ذكره هؤلاء وهم، بل الصحيح أن في الظبي عنزًا شديد الشبه بها؛ فإنه أجرد متقلص الذنب، وأما الغزال فهو ولد الظبي فيجب فيه ما يجب في الصغار. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الإمام من نسبة قائل ذلك إلى الوهم وسكت عليه قد جزم به في "الشرح الصغير" من غير تقييد لنقل عن الإمام، وصوبه النووي في "شرح المهذب" وفي "الروضة" فقال: قول الإمام هو الصواب.

قال: ونص أهل اللغة على أن الغزال ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه ثم تسمى الأنثى ظبية والذكر ظبيًا. انتهى. والكلام على ذلك من وجوه: أحدها: أن ما ذكرناه من لفظ الكبش بالكاف والشين المعجمة فقد وقع في الرافعي، وكذلك في "الروضة" وقد تقرر مما سبق أن الغزال اسم للصغير والضبي اسم للكبير، وأن الظبي هو الذكر وأن واجب هذا الجنس هو المعز فيلزم بالضرورة أن يكون الواجب كبيرًا من ذكور المعز فيكون واجبه تيسًا بالتاء والسين المهملة، وهذا هو الذي وقع في كتب بعض الأصحاب؛ فإن الإمام نقله عن العراقيين فقال: وفي طرق العراق كتب وكتب إلا أنه عبر بقوله الكبش فقال في الظبي كبش وفي الغزال عنز، ولما نقل ابن الرفعة ذلك عن العراقيين، وعبر بالتيس فقال نقلًا عنهم وعن الماوردي: وقالوا: يجب في الظبي تيس؛ وهو الذكر من المعز. هذا لفظه. والتيس قريب التحريف بالكبش فتحرف بلا شك؛ فحصل الإنكار ممن صادف تلك النسخة المحرفة، والعجب من الإمام ومن تبعه كالرافعي حيث ذهلا عن ذلك مع أن هذا القائل لما توهم أن الغزالي هي أنثى الظباء أوجب العنز وهي من إناث المعز، ولا يتصور أن يختلف الذكر والأنثى في الجنس الواجب بل متي وجب في الذكر ذكر من ذلك الجنس أيضًا فيكون إيجابه للعنز في الأنثى دليلًا على أن الذي أوجبه في الظبي إنما هو تيس لا كبش، وقد رأيت في "شرح كفاية" الصيمري للبيضاوي التعبير بالتيس -أعني بالتاء- لكنه أوجبه في الغزال وفي الظبي عنز وفي الغزال تيس.

الثاني: أن ما قاله الإمام وارتضاه الرافعي وصوبه النووي من أن الواجب في الظبي إنما هو العنز غلط فاحش؛ فإن الظبي من الذكور والعنز من الإناث كما تقدم من كلام الأزهري في المسألة السابقة، وصرح بهما جميعًا النووي في كتبه "كالتهذيب" و"اللغات" و"الدقائق"، بل الصواب أن في الظبي تيسًا كما قاله القائل المردود عليه بسبب التحريف. الثالث: في تقرير الاعتراض الوارد على إيجاب العنز في الغزال، وهو اعتراض صحيح غير أنه لم يفصح عنه وتقريره أن الغزال يطلق على الذكر والأنثى من صغار هذا الجنس كما تقدم؛ فقد تقدم فيما نقلناه عن الأزهري أن العنز هي الأنثى التي لها سنة ودخلت في الثانية فلا يمكن إيجابها في الغزال لأمرين: أحدهما: كبرها وصغر الغزال. والثاني: أن الغزال قد يكون ذكرًا فلا يمكن إيجاب الأنثى فيه. إذا علمت تقرير الاعتراض وصحته فاعلم أن الرافعي قد خالف ذلك فجزم في "المحرر" بموافقة هذا القائل في إيجابه العنز في الغزال وتبعه عليه النووي في "المنهاج" و"المناسك" فجزم به أيضًا، وأقر الشيخ على ذلك فلم ينبه عليه في تصحيحه هذا مع قوله: إنه وهم. قوله: وأما ما لم ينقل فيه عن السلف شئ فيرجع فيه إلى قول عدلين وليكونا فقيهين كيسين. انتهى. وهذه العبارة ذكرها أيضًا في "الشرح الصغير" وليس فيها تصريح بل ذلك على سبيل الإيجاب أو الاستحباب. فأما الكياسة فهي الفطنة كما قاله في "الروضة" وأبدلها بها؛ فوجوبها ظاهر.

وأما الفقيه فاختلفوا فيه؛ فنقل الماوردي في "الحاوي" عن الشافعي أنه واجب ولم يذكر خلافه فقال: قال الشافعي: ولا يجوز لأحد أن يحكم إلا أن يكون فقيهًا لأنه حكم فلم يجز إلا بقوله من يجوز حكمه. ورأيت في "التقرير" عن "الإملاء" نحوه. وكلامه في "الروضة" يشعر به؛ فإنه قال: يرجع فيه إلى قول عدلين فقيهين فطنين، لكن نقل في "شرح المهذب" عن الشافعي والأصحاب أنه على سبيل الاستحباب. والصواب الأول، وقياسه أن لا يكتفي بالمرأة والعبد أيضًا. وأما على المذكور في "شرح المهذب" ففيه نظر. وقد سكت الرافعي والجمهور عن الرجوع إلى العدلين بالنسبة إلى القيمة، وقد صرح باشتراطه في "التنبيه"، وكذلك الروياني والماوردي أيضًا في الكلام على إتلاف البيض. قوله: ولا يجوز أن يكون قاتل الصيد أحد الحكمين إن قتل عمدًا؛ لأنه فاسق. فإن قتل خطأ أو اضطرارًا إليه جاز في أصح الوجهين. انتهى. وتعليله بالفسق يقتضي الجواز إذا تاب، وهو واضح. قوله: أما الحمام ففيه شاة، وما مستند ذلك ففيه وجهان: أحدهما: أن إيجابها لما بينهما من الشبه فإن كل واحد منهما يألف البيوت ويأنس بالناس. وأصحهما: أن مستنده توقيف تابعهم فيه. ثم قال: والمشهور أن اسم الحمام يقع على كل ما عب وهدر؛ فيدخل

فيه اليمام وهي التي تألف البيوت والقمري والفاختة والدبسي والقطة. انتهى. وهذا الذي رجحه الرافعي قد نص عليه الشافعي في "المختصر"، وكذلك في "الأم" فقال في كتاب "اختلاف مالك والشافعي" في باب ما جاء في الصيد ما نصه: فأما الطير فلا مثل له ومثله قيمته، إلا أن في حمام مكة. انتهى. وذكر مثله أيضًا في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى في باب الحج. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن فائدة الخلاف ما إذا كان الحمام صغيرًا هل تجب فيه سخلة أو شاة. وهذه الفائدة ذكرها الفوراني في "العمد" والماوردي في "الحاوي"، وذكر صاحب "التقريب" هذا التردد مع القول بأن المدرك هو الاتباع، ونقل في "التقريب" عن نصه في "الإملاء" ما يوافقه فقال: قالوا: في حمام مكة شاة فقلنا به اتباعًا وزعمنا أن كل حمام من حمام مكة وغيرها قتل بمكة أو خارجًا منها ففيه شاة إن كان الحمام كبيرًا، وإن كان صغيرًا ففيه شاة صغيرة. هذا كلامه. وجب الشاة الصغيرة وهي السلخة مع القول بأن سببه الاتباع، ونقل الرافعي عن الشيخ أبي محمد أن الخلاف فيما لو قتل طائر أكبر من الحمام أو مثله يبني على هذا؛ فإن قلنا: المستند هو التوقيف أوجبنا الشاة، وإن قلنا: المشابهة أوجبنا القيمة. وإذا أوجبنا الشاة فقال في "التقريب": يجوز أن يجب فيما هو أكبر من الحمام شاة أكبر من الشاة الواجبة في الحمام.

الأمر الثاني: أن النووي -رحمه الله- قد أسقط هذه المسألة من "الروضة" وكأنه ظن أنه خلاف لفظي لا فائدة له. الثالث: أن التعليل الذي ذكره -وهو إلفه البيوت واستئناسه بالناس- لا يستقيم في الحمام مطلقًا؛ لفقدانه في غالب أنواع الحمام كالفواخت وغيرها، وقد تقدم من كلامه أن المشهور إطلاق اسم الحمام على الجميع. قوله: وأما عنزة، فإن كان أصغر من الحمام جثة كالزرزور والصعوة والبلبل والقنبرة والوطواط ففيه القيمة. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من وجوب القيمة في الوطواط قد تبعه عليه في "الروضة"، وهو غير مستقيم؛ وذلك لأن القاعدة التي ذكرها هو وغيره أن ما لا يحل أكله لا يحرم على المحرم التعرض له ولا يجب الجزاء بقتله إلا المتولد من المأكول وغيره تغليبًا للحرمة، والوطواط لا يحل أكله كما قاله في باب الأطعمة، وعبر بالخفاش، ولم يحك فيه خلافًا، إلا أنه حاول جريان وجه ضعيف فيه من مسألة أخرى، وإذا تقرر أنه لا يحل أكله لزم ألا يجب بقتله شئ. وكذلك لم يتعرض لذكره في "الشرح الصغير" على أن الرافعي مسبوق بذلك وأول من ذكره -فيما علمت- صاحب "التقريب"، وأشعر كلامه بأن الشافعي قد ذكره. ورأيت في "اللباب" للمحاملي أن اليربوع لا يحل أكله. قال: ويجب فيه الجزاء في أصح القولين. والذي ذكره غريب. ورأيت في "فروع" ابن القطان التي نقلها عنه ابن كج أن أبا عبد الرحمن

الشافعي -وهو ابن بنت الشافعي- ذهب إلى أن ما لا مثل له لا شئ فيه بالكلية. وتاريخ فراغ النسخة التي نقلت منها سنة ثمانين وأربعمائة. واعلم أن القبرة: بقاف مضمومة ثم باء موجودة مشددة مفتوحة: اسم للطائر المعروف، جمعه: قبر: بحذف الهاء. قال طرفة وكان يصطاد هذا الطائر في صباه: يا لك من قبرة بمعمر ... خلا الجو فبيضى واصفرى ونقري ما شئت أن تنقرى ... قد ذهب الصياد عنك فأبشرى لابد من أخذك يومًا فاحذرى أنشده الجوهري. وقال: إن فيه لغة أخرى؛ وهي القنبرا بنون ثم باء مضمومة وبالمد في آخره، وجمعه: قنابر. وقول طرفة: بمعمر: بميم مفتوحة وعين ساكنة، وهو المنزل الكثير الماء والمرعى. قوله: ويجوز فداء الذكر بالأنثى في أصح القولين. وهل هو أولى؟ قال بعضهم: نعم لأن لحمها أرطب. وقيل: لا، لأن كم الذكر أطيب. انتهى ملخصًا. والأصح أنه ليس أولى، بل الأولى الذكر للخروج من الخلاف. كذا

صححه النووي في كتبه "كشرح المهذب" و"زيادات الروضة" و"تصحيح التنبيه". قوله: وهل يجوز فداء الأنثى بالذكر؟ فيه وجهان، ويقال: قولان. انتهى ملخصًا. ولم يصحح في "الشرح الصغير" أيضًا شيئًا منهما والأصح هو الجواز. كذا صححه النووي في كتبه "كشرح المهذب" و"الروضة"، واختار صاحب "الحاوي الصغير" المنع. قوله: الفرع الثاني: إذا قتل صيدًا حاملًا من ظبية وغيرها قابلناه بمثله من النعم حاملًا. ثم قال ما نصه: فيقوم المثل حاملًا ويتصدق بقيمته طعامًا. وفي وجه: يجوز أن يذبح حاملًا نفيسا بقيمة حامل. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على الاقتصار على التصدق بالقيمة، وهو يشعر بتعين ذلك وأنه لا يجوز له الصيام عن كل مد يومًا، ولا يتأتى القول بذلك فاعلمه، بل يتخير بينهما قطعًا، وقد صرح به في "شرح المهذب"؛ لأن الله تعالى خير في جزاء الصيد بينهما وبين إخراج المثل، فلما تعذر ذبحه وإخراجه لنقصان لحمه فيبقى التخيير بين الخصلتين الباقيتين. قوله في "أصل الروضة": فرع: قال الشافعي - رضي الله عنه - في "المختصر": فإن خرج ظبيا نقص عشر قيمته فعليه عشر قيمة شاة، وقال المزني تخريجًا: عليه عشر شاة. قال جمهور الأصحاب: الحكم ما قاله المزني، وإنما ذكر الشافعي القيمة لأنه قد لا يجد شريكًا في ذبحه شاة فأرشده إلى ما هو أسهل فإن جزاء

الصيد على التخيير؛ فعلى هذا هو مخير إن شاء أخرج العشر، وإن شاء صرف قيمته في طعام وتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يومًا. ومنهم من جرى على ظاهر النص وقال: الواجب عشر القيمة. وجعل في المسألة قولين: المنصوص وتخريج المزني فعل الواجب عشر القيمة. هذا إذا قلنا بالمنصوص فأوجه: أحدها: تتعين الصدقة بالدراهم. والثاني: لا تجزئه الدراهم بل يتصدق بالطعام أو يصوم. والثالث: يتخير بين عشر المثل وبين إخراج الدراهم. والرابع: إن وجد شريكًا في الدم أخرجه ولم تجزئه الدراهم وإلا أجزأته. هذا في الصيد المثلى، فأما غيره فالواجب ما نقص من قيمته قطعًا. انتهى كلامه. وهذه الأوجه التي ذكرها في التفريع على القول المنصوص فيها أمران: أحدهما: أن الأصح منها هو الوجه الأول وهو تعين الدراهم. كذا رجحه الرافعي في "الشرح الكبير" فقال: أنه أشبه الوجوه، وصححه أيضًا النووي في "شرح المهذب" و"نكت التنبيه"، ووقع كذلك في بعض نسخ "الروضة" ففي بعضها أحدها وفي بعضها أصحها، وجمع بخطه بينهما فكتب الصاد والحاء فوق الحاء والدال وأضافهما إلى الثاني؛ وكأنه تردد في كلام الرافعي. الأمر الثاني: أن تعيين إخراج الدراهم مشكل فإن جزاء الصيد على

التخيير، وقد استشكله النووي في "نكت التنبيه" وعلله بما ذكرته. واعلم أن هذا الإشكال سببه أن النووي -رحمه الله- قد غلظ في هذه المسألة في اختصاره لكلام الرافعي، ثم إنه أخذ مما قرره في "الروضة" فذكره أيضًا في "شرح المهذب" و"نكت التنبيه" ثم تفطن لإشكاله في النكت المذكورة ظنًا منه أن الحكم كما ذكره فيه، وأن ما ذكره هو الذي ذكره غيره. ووجه الغلط أن الرافعي جعل هذه الأوجه مفرعة على عدم اختيار الطعام والصيام فلنذكر لفظه لبيان ذلك وبيان اعتراض آخر وهو تداخل الأوجه التي حكاها فقال بعد تعليل المنصوص بما في التبعيض من المشقة ما نصه: وعلى هذا -أي: ظاهر النص- لو لم يرد الإطعام ولا الصيام ما الذي يخرج؟ حكى القاضي ابن كج عن بعضهم أنه وجد شريكًا أخرجه -يعني العشر- ولم يخرج الدراهم وإلا فله إخراجها. وعن ابن أبي هريرة أن له إخراجها وإن وجد شريكًا. وعن أبي إسحاق أنه مخير بين إخراج العشر وبين إخراج الدراهم. فهذه ثلاثة أوجه. ونقل أبو القاسم الكرخي وغيره أنه لا يجزئه إخراج عشر المثل. وقال في "التهذيب": لا يتصدق بالدراهم ولكن يصرفها إلى الطعام ويتصدق به أو يصوم عن كل مد يومًا، وهذا ما أشار إليه في الكتاب حيث قال: فعليه الطعام بعشر ثمن المثل. والأشبه من هذا كله تفريعًا على المنصوص -إن أثبتنا الخلاف- تعين

الدراهم. هذا لفظ الرافعي، وحاصل ما حكاه من الأوجه على ما اقتضاه إيراده سته وهي في الحقيقة أربعة؛ فإن ما حكاه ابن أبي هريرة من جواز إخراج الدراهم إن كان المراد أنه لا يخرج معها عشر المثل فهو الوجه الأخير القائل بتعين الدراهم وإن كان المراد إخراجه معها فهو الثالث. وأما ما نقله عن الكرخي فالظاهر أنه الأخير أيضًا. وبالجملة فقد أحسن النووي في اختصاره للأوجه وإن أخطأ من وجه آخر. قوله من "زيادته": لو قتل نعامة فأراد أن يعدل عن البدنة إلى بقرة أو سبع شياه لم يجزئه على الأصح. ذكره في "البحر". انتهى كلامه. ولم يذكر عكس هذه الصورة في هذا الباب، وقد ذكره في أوائل باب الأضحية وأجاب فيه بمثل ما ذكره في هذه الصورة فقال: ويجوز أن ينحر الواحد البدنة أو البقرة عن سبع شياه لزمته شاتان مختلفة كالتمتع والقران والفوات ومباشرة محظورات الإحرام ونذر التصدق بشاة والتضحية بشاة، لكن في جزاء الصيد يراعى المماثلة ومشابهة الصور، فلا تجزئ البدنة عن سبع من الظباء، ولو وجب شاتان على رجلين في قتل صيدين لم يجز أن يذبحا عنهما بدنة. انتهى كلامه. ولقائل أن يقول: جزمه بجواز إخراج البدنة عن السبع من الغنم في غير جزاء الصيد مشكل لأنهن أفضل منها وكيف ينزل الواجب إلى شئ هو دونه في الفضيلة؟ واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره في باب الأضحية يوهم جواز إخراج

البدنة عن الشاة في جزاء الصيد، وليس كذلك فاعلمه؛ فإنه قد نص على منعه في أوائل باب الدماء، وسيأتي أيضًا ذكره هناك. قوله: فأما إذا اندمل الجرح وصار الصيد ويلزم به وجهان: أصحهما أنه يلزمه جزاء كل مثل. والثاني: أرش ما نقص .. إلى آخره. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف وجهين مع أن المسألة فيها نصان للشافعي على وفق الوجهين. ذكرهما بلفظهما صاحب "الاستقصاء"؛ فيكون الخلاف قولين. وقد صرح بذلك الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" وخالف في "التنبيه" فجعلهما وجهين؛ فإنه عبر بقوله: وقيل: هذا التعبير هو عادته في حكاية الأوجه كما قاله النووي في "شرح المهذب". قوله: وإذا أوجبنا بالأزمان جزاء كاملًا فلو كان للصيد امتناعان كالنعامة لها امتناع نسبة العدو وامتناع بالجناح فأبطل أحد امتناعيه ففيما يلزمه وجهان: أحدهما: أن يتعدد الجزاء لتعدد الأمتاع. وأصحهما أنه لا يتعدد. وعلى هذا فما الذي يجب؟ قال الإمام: الغالب على الظن أنه يتعين ما نقص. . . . إلى آخره. وهذا البحث الذي ذكره الإمام قد جزم به في "الشرح الصغير". قوله: ولو جرح صيدًا فغاب ثم وجده ميتًا ولم يدر أنه مات بجراحه أو بسبب حادث فهل الواجب جزاء كامل أم ضمان الجرح فقط؟

فيه قولان. انتهى. والأصح هو الثاني. كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب". قوله في "أصل الروضة": فرع: سبق أنه يحرم على المحرم أكل الصيد الذي ذبحه وكذا يحرم عليه أكل ما اصطاده له حلال أو بإعانته أو دلالته بلا خلاف. فإن أكل منه فقولان: الجديد: لا جزاء والقديم: تلزمه القيمة بقدر ما أكل. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف فيما إذا صاده له ليس كذلك؛ فقد رأيت في الفروع التي عقلها ابن كج عن شيخه ابن القطان حكاية قولين فقال: وإن كان نوى بصيده المحرم فهل يجوز له أكله أم لا؟ على قولين. هذه عبارته. قوله: ولو رمى إلى صيد بعضه في الحل وبعضه في الحرم وجب الضمان أيضًا تغليبًا للحرمة والاعتبار بالقوائم ولا نظر إلى الرأس. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله، وحكى معه عن المعاناة للجرجاني وجهًا. ثانيًا: أنه لا ضمان. وثالثًا: أن العبرة بالأكثر. ورابعًا: أنه إن كان خارجًا من الحرم إلى الحل ضمنه وإن كان عكسه فلا، والظاهر أن هذا التصوير إنما هو في القائم.

وقد تعرض صاحب "الاستقصاء" للنائم وقال: إن العبرة بمستقره. قوله: ولو نفر صيدًا حرميًا قاصدًا أو غير قاصد فدخل الحل فقتله حلال فعلى المنفر أيضًا الضمان. قاله في "التهذيب"، بخلاف ما لو قتله محرم يكون الجزاء عليه تقديمًا للمباشرة. انتهى لم يبين الوقت الذي ينتهي به الضمان الواجب على المنفر، وقد بينه الفوراني في "العمد" فقال ما نصه: إذا نفر صيدًا محرم فخرج من الحرم فهو في ضمانه إلى أن يرجع سالمًا إلى الموضع الذي نفره منه أو يسكن موضعًا آخر مثل ذلك الموضع ويألفه زمانًا فيزول الضمان حينئذ. هذا لفظ الفوراني. واعلم أن تنفير الصيد الحرمي هو نظير المسك من الحرم؛ لأن كلًا منهما موجب الضمان، وقد تقدم الكلام على ذلك والوعد بذكر هذه المسألة. قوله: فرع: لو دخل الكافر الحرم وقتل صيدًا وجب عليه الضمان كضمان الأموال، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: يحتمل عندي أن لا يجب لأنه غير ملتزم حرمة الحرم. انتهى. والذي حكاه احتمالًا عن الشيخ هو وجه مصرح به. كذا حكاه الجرجاني في "التحرير" ولم يرجح مقابله عليه، بل حكى وجهين من غير ترجيح. قوله: فيحرم التعرض بالقطع والقلع لكل شجر رطب حرمي غير مؤذ فيخرج بقيد الرطب الشجر اليابس؛ فلا شئ في قطعه كما لو قد صير بصفين. انتهى. تابعه في "الروضة" على الحكم بعدم الإيجاب في القطع

خاصة، وسكت عن حكم القلع مع تقدم ذكره، بل كلامه يوهم الإيجاب فيه حتى يكون نظير اليابس من الحشيش كما ستعرفه. لكن صرح النووي في "نكت التنبيه" بأنه لا يجب في قلعه ولا في قطعه شئ، فاعلمه. قوله في "أصل الروضة": ويخرج بقيد غير المؤذي العوسج وكل شجرة ذات شوك فإنها كالحيوان المؤذن فلا يتعلق بقطعها ضمان على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه اختاره صاحب "التتمة" أنها مضمونة؛ لإطلاق الخبر ويخالف الحيوان فإنه يقصد بالأذية. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه قد وافق الرافعي هنا على أنه لا شئ فيه، وخالف في "شرح مسلم" فقال: الصحيح أنه يحرم ويجب الضمان بقطعه، وقال في "تصحيح التنبيه" وتحريزه: إنه المختار. الأمر الثاني: أن استدلاله بإطلاق الخبر يقتضي أنه لم يستحضر دليلًا خاصًا بالمسألة، وهو غريب؛ ففي الصحيحين: "ولا يعضد شوكها"، وقد ذكر هو هذه الرواية في "شرح المهذب" وغيره. قوله: ولو نقل شجرة من شجر الحرم إلى الحل فعليه الرد، وإن نقلها فيسبب فعليه الجزاء، سواء نقل إلى الحل أو الحرم. ثم قال ما نصه: وإن ثبتت في الموضع المنقول إليه فلا جزاء عليه، ولو قلعها قالع لزمه الجزاء إبقاء لحرمة الحرم. انتهى كلامه. وليس فيه تصريح بالذي يعود إليه الضمير لزمه هل هو الأول أو الثاني؟ وقد أمعنت النظر في المسألة فلم أر في كلام الأكثرين تصريحًا بها.

وصرح الجرجاني في "الشافى" بأن الضمان على الأول فقال: ضمنها الناقل لوجود التعدي منه دون المتلف. هذا لفظه. وذكر الخوارزمي في "الكافي" نحوه فقال: وإن ثبتت لا جزاء عليه وتكون في ضمانه، فلو قطع يعود عليه الجزاء. وصرح البندنيجي في "تعليقه" وسليم في "المجرد" والبغوي في "التهذيب" بوجوبه على الثاني، وزاد البندنيجي بمطالبة الأول أيضًا وشبهه بالمعصوب إذا أتلفه فتلف. واقتصر ابن الرفعة على ما قاله البندنيجي وهو واضح متعين، وحمل مقالة سليم والبغوي عليه ممكن؛ فيتعين المصير إليه. وينبغي فيما إذا ثبتت في الحل وتعذر ردها أن الناقل يطالب في الحال لأنه عرضها شرعًا للأيدي بوضعها في الحل فصار كالتعرض الحسي فيما إذا زال امتناع الصيد. وقد جزم بما ذكرته الجرجاني في "التحرير". قوله: وإذا قطع غصنًا من شجرة حرمية ولم يخلف فعليه ضمان النقصان، فإن أخلف في تلك السنة لكون الغصن لطيفًا كالسواك وغيره فلا ضمان. وإذا وجب الضمان فلو نبت مكان المقطوع مثله ففي سقوط الضمان قولان كالقولين في سن البالغ. انتهى. وما ذكره من عدم الضمان في الغصن اللطيف إذا خلف ذكر مثله في "الروضة" أيضًا ولم يؤخذ منه الحكم بجواز الإقدام على قطعه؛ ولهذا اتفقوا على التحريم في الكبير مع الاختلاف في السقوط عند الاختلاف بل كلامه السابق يقتضي تحريم قطعه -أي: قطع الصغير، وليس كذلك؛

فقد جزم بالجواز في "شرح المهذب" في الكلام على جواز أخذ الأوراق. قوله؛ ويجوز أخذ أوراق الأشجار لكنها لا تهشي جذارًا من أن تصيب لحاها. انتهى. والتعبير بالمشي واللحاء أخذه الرافعي من "التهذيب"؛ فأما الهش فهو الضبط قال تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}. واللحاء: بكسر اللام وبالحاء المهملة والمد: هو القشر. قاله الجوهري. إذا علمت مدلول كلامه فليس فيه بيان حكم الضبط هل هو حرام أو مكروه، وقد أوضحه النووي في سرح الحرم وقطع الأغصان الصغار بيده بحيث لا يتأذى نفسي الشجرة. والموضع الذي قال لا يجوز أراد إذا خبط الشجرة حتى تساقط الورق وتكسرت الأغصان؛ لأن ذلك يضر الشجرة. وهكذا ذكر هذا التأويل للنص والجمع بينهما الشيخ أبو حامد في "تعليقه" وأبو على البندنيجي والمحاملي في كتابيه "المجموع" و"التحريد" وآخرون، ونقله صاحب "البيان" عن الأصحاب. انتهى كلامه. والمتجه من جهة الحديث منعه مطلقًا؛ فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح ولا يضبط فيها شجر إلا لعلف" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1374) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

قوله: وأما الشجرة التامة فتضمن ببقرة إن كانت كبيرة وبشاة إن كانت دونها. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن البقرة والشاة هل يتوقف إيجابهما على قلع الشجرة أولًا، بل يجبان بالقطع ليس في كلامه تصريح بذلك، وقد عبر الشيخ في "التنبيه" بالقلع -أعني: باللام. وتعبير الرافعي "بالتامة"، مشعر به، إلا أن يقال التامة للاحتراز عن الغصن. الأمر الثاني: لم يصرح هو ولا النووي ولا ابن الرفعة بسن البقرة، ورأيت في "شرح المهذب" المسمى "بالاستقصاء" بيان ذلك؛ فقال: لا يشترط إجزاؤها في الأضحية بأن تكون لها سنتان بل يكفي فيها التبيع وهو ابن سنة. وأما الشاة فصرح هنا بأنها لابد أن تكون في سن الأضحية، وهو يؤخذ من كلام الرافعي في موضع آخر، وكان سببه أن الشاة لم يوجبها الشرع إلا في هذا السن بخلاف بدليل التبيع في الثلاثين منها. نعم إطلاق الرافعي في أول الباب الثاني في الدماء يقتضي اشتراط ذلك. قوله في "أصل الروضة": أما غير الشجر وكلأ الحرم يحرم قطعه، فإن قلعه لزمه القيمة إن لم يخلف، فإن أخلف فلا قيمة قطعًا لأن الغالب هنا الإخلاف كسن الصبي. انتهى كلامه. وما ادعاه من القطع بعدم إيجاب القيمة غريب لم يذكره الرافعي أيضًا فقد جزم القاضي أبو الطيب في "تعليقه" بأنه لا يسقط، والغريب أنه ادعى

أنه لا خلاف فيه أيضًا على عكس ما ادعاه في "الروضة". قال: والفرق بينه وبين الغصن على أحد القولين: إن الحشيش لا يتخلف في العادة؛ فلو أسقطنا الضمان على قاطعه، بخلاف الغصن فابتعد بعود. هذا لفظه، ونقله منه أيضًا النووي في "شرح المهذب"، وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: ويجوز تسريح البهائم في حشيشه للرعي، وكذا قطعه لتعلقها به في أظهر الوجهين. انتهى. وإذا جوزنا القطع للعلف فأراد قطعه للبيع ممن يعلف فإنه لا يجوز ذلك كما قاله في "شرح المهذب"؛ فلتتفطن له فإنه مهم وكلامهم هنا موهم. قوله: ويستثنى عن المنع الإذخر لحاجة السقوف كما ورد في الخبر. انتهى. ويستثنى أيضًا ما يتغذى به كالرجلة والنبات المسمى في الحجاز بالبقلة ونحو ذلك؛ فإنه يجوز أيضًا لأنهما في معنى الزرع. قاله الطبري شارح "التنبيه". قوله: ولو احتيج إلى شئ من نبات الحرم للدواء فهل يجوز قطعه؟ وجهان: أحدهما: لا لأنه ليس في الخبر إلا استثناء الإذخر. وأصحهما: الجواز لأن هذه الحاجة أهم من الحاجة إلى الإذخر. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن حكاية الوجهين في: جواز القطع مشكل؛ للمعنى الذي ذكره ولما أشكل ذلك علىَّ تتبعت الحاكين لهذا الخلاف فوجدت الإمام في

"النهاية" قد حكاه عن "شرح التلخيص" للشيخ أبي على السنجي فقلده في ذلك من جاء بعده كالغزالي والرافعي والنووي، فراجعت "شرح التلخيص" فلم أجد الخلاف مذكورًا فيه على الوجه الذي نقله الإمام؛ فإنه نقل عن صاحب "التلخيص" جواز قطع الإذخر وما كان للدواء وما أنبته الآدميون. ثم قال ما نصه: فأما الثلاثة التي استثناها فقال: الإذخر أن يقطع لأن في الخبر أن العباس قال: يا رسول الله إلا الإذخر. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلا الإذخر فإنه لقيننا وبيوتنا" (¬1) فاستثنى ذلك لحاجتهم إليه في بيوتهم. والثاني: قال: ما كان لدواء فله قطعه. قلت: يحتمل إذا قطع أن تكون عليه القيمة؛ لأنه قطعه لحاجته فصار كما لو قتل الصيد للمجاعة. واحتمل أن يكون الجواب على ما ذكر لأنه إنما أبيح له قطع الحشيش للقنو والبيوت وعلف الدواب للحاجة، وحاجته إلى الدواء أعظم من حاجته إلى علف الدابة، ولا تكون حاجته دون حاجة دابته؛ فلهذا قلنا: لا شئ عليه. هذا لفظه بحروفه، ومن شرحه نقلته، وحاصله حكاية الخلاف في وجوب الجزاء وأن القطع جائز، وهو صحيح لا شك فيه، ولم يذكر الشيخ أبي على فيه غير ذلك، واحتمالات الأصحاب الوجوه وجوه، فلهذا جعلها الإمام وجهين. الأمر الثاني: أن الخلاف المذكور في قطعه للدواء يجري فيما لو قطع للحاجة التي يقطع لها الإذخر كتسقيفه البيوت ونحوه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3017) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

كذا قاله الغزالي في "البسيط" و"الوسيط"، ومقتضاه رجحان الجواز، وقد تبعه عليه صاحب "الحاوي الصغير" فجوز القطع للحاجة مطلقًا ولم يخصه بالدواء، وقلَّ من تعرض لهذه المسألة. الأمر الثالث: أن تعبيره بقوله: ولو احتج ظاهره أن الأخذ كذلك يتوقف على وجود السبب، ويتجه أن يقال: يجوز قطعه وتحصيله عنده ليستعمله عند وجود سببه لاسيما إذا كان غريبًا. ولو أخذه ليبيعه لمن يحتاجه فهو كأخذ الحشيش كذلك، وقد تقدم. قوله: فرع: يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سائر البقاع. انتهى. وما ذكره من الكراهة قد خالفه في "الروضة" هنا فقال من زياداته: الأصح أنه لا يجوز، وجزم به أيضًا في أواخر صفة الحج من "شرح المهذب" في الكلام على زيارة قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وكذلك حرم المدينة أيضًا. وقال في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام من الشرح المذكور: وقال المحاملي والشيخ في "المهذب": لا يجوز ذلك، وقال الكثيرون أو الأكثرون: يكره انتهى. وقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على المسألة فقال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى المذكور بعد باب قطع العبد في باب الحج ما نصه: قال الشافعي: ولا يخرج من حجارة الحرم ولا ترابه شئ إلى الحل؛ لأن له حرمة ثبتت باين بها ما سواها، ولا أرى -والله أعلم- أن جائزًا لأحد أن يزيله من الموضع الذي باين به البلدان. هذا لفظ الشافعي بحروفه ومن "الأم" نقلته فثبت أن الفتوى على التحريم. قوله: أبو الفضل بن عبدان: ولا يجوز قطع شئ من ستر الكعبة ونقله

وبيعه وشراؤه خلاف ما يفعله العامة فيشترونه من بني شيبة. انتهى. وما نقله هنا عن ابن عبدان وارتضاه قد ذكر في آخر كتاب الوقف ما يخالفه فقال: وحصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابه إذا نخرت، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها جمال ولا منفعة في بيعها وجهان: أصحهما: نعم. قالوا: ويصرف ثمنها في مصالح المسجد. انتهى. وقد استدرك في "الروضة" عليه هنا فقال: قال الحليمي أيضًا: لا ينبغي أن يؤخذ منها شئ، وقال صاحب "التلخيص": لا يجوز بيعها، وقال ابن الصلاح -بعد أن ذكر قول ابن عبدان والحليمي: الأمر فيها إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واحتج بما رواه الأزرقي صاحب كتاب "مكة" أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيفرقها على الحاج، وهذا الذي اختاره الشيخ حسين متعين لئلا يتلف بالبلي، وبه قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة -رضي الله عنهم- انتهى. وذكر مثله في "شرح المهذب" في آخر كفارة الإحرام. والذي قاله في الموضعين مخالف لما وافق عليه الرافعي في الوقف من وجهين: أحدهما: فيما يفعل فيها. والثاني: فيما يفعل في ثمنها. واعلم أن الكسوة لها أحوال: أحدها: أن توقف على الكعبة، وحكمها ما سبق الآن. الثاني: أن يصدر من مالكها تمليكها للكعبة فلقيمها أن يفعل فيها ما يراه

من تعليقها عليها أو بيعها وصرف ثمنها إلى مصالحها. والثالث: أن يوقف شئ على أن يؤخذ ريعه وتكسى به الكعبة كما قد وقع في عصرنا، فإن الإمام وقد وقف على ذلك بلادًا من إقليم مصر ثم فوض بعد ذلك النظر في بلد الأوقاف إلىّ فنظرت عليها مدة طويلة ثم تركتها اختيارًا للانقطاع وإيثارًا للنفع والانتفاع، وقد تلخص لي في هذه المسألة أنه إن شرط الواقف شيئًا من بيع أو إعطاء إلى أحد أو غير ذلك فلا كلام، وإن لم يشترط شيئًا نظر إن لم يقف الناظر تلك الكسوة فله بيعها بلا نزاع وصرف ثمنها في كسوة أخرى، وإن وقفها فسيأتي فيها ما سبق من الخلاف في البيع. نعم: يبقى قسم آخر وهو الواقع اليوم في هذا الوقف وهو أن الواقف لم يشترط شيئًا من ذلك وشرط تجديدها كل سنة مع علمه؛ فإن بني شيبة كانوا يأخذونها كل سنة لما كانت تكسى من بيت المال فهل يجوز لهم أخذها الآن أو يباع ويصرف ثمنها إلى كسوة أخرى؟ فيه نظر، والمتجه الأول. قوله: قال -يعني الغزالي- في "الوجيز": ويلتحق حرم المدينة بمكة في التحريم، وفي الضمان وجهان: أحدهما: لا إذ ورد فيه سلب نبات الصايل فهو جزاؤه. انتهى لفظ الغزالي. ثم قال في أثناء شرحه له: وإذا قلنا بالتحريم ففي ضمان صيدها ونباتها قولان: الجديد: أنه لا يضمن، والقديم الضمان. وعلى هذا فما جزاؤه؟ فيه وجهان: أحدهما: أن جزاءه كجزاء حرم مكة. وأظهرهما: أخذ السلب.

ثم قال بعد ذلك ما نصه: وقوله في الكتاب ففي الضمان وجهان اقتدى فيه بالإمام، والمشهور في المسألة قولان. وقوله: إذ ورد فيه سلب نبات الصايل معناه: أن واجب هذه الجناية هو السلب الذي ورد في الخبر دون الجزاء؛ إذ لو وجب الجزاء لوقع الاكتفاء به كما في صيد مكة. وعنى بالضمان الجزاء دون المشترك بينه وبين السلب، فاعرف ذلك. انتهى لفظه بحروفه، وفيه أمران: أحدهما: أن هذا التقرير الذي ذكره آخر الكلام الغزالي حيث قال: وقوله إذ ورد فيه .. إلى آخره مع الاعتراض الذي أورده عليه قبل ذلك وهو جعل الخلاف وجهين لا يتصور الجمع بينهما؛ فإن التقرير الذي ذكره آخرا يقتضي أن الغزالي أراد بالخلاف أنه هل يجب ما أوجبناه في مكة أم يجب السلب؟ وإذا كان الأمر كذلك كان الخلاف وجهين بلا شك كما قدمه. وأما القولان القديم والجديد فإن بحملهما في أصل الوجوب كما تقدم فحمل ما حكاه الغزالي من الخلاف على أصل الوجوب حتى ورد عليه مناف لما ذكره بعد ذلك، والغريب أن الموضعين لا فاصل بينهما، والصواب ما ذكره آخرًا؛ فإن التعليل الذي ذكره الغزالي صريح فيه ولا يحتمل حمله على حكاية الخلاف في أصل وجوب الضمان؛ فعاود نظرك فيه. وذكر في "الوسيط" نحوه أيضًا، غير أنه في الكتابين المذكورين لم يحك الخلاف في أصل الضمان ولا صرح به فكأنه تركه نسيانًا، وهذا هو الذي يوقع من لم يتأمل كلام الغزالي على حمله على أصل الضمان. نعم حكى في "البسيط" الخلاف فيما يلزمه وجمع بينهما في "النهاية".

الأمر الثاني: أن استدلال الرافعي بالحديث وتصويره المسألة بالثياب يقتضي إجراء الخلاف في الكلام. ولم يتعرض في "الروضة" لذلك فلزم خلوها عن هذه المسألة. وحديث السلب رواه مسلم في صحيحه من حديث سعد. قوله: وج الطائف واد بصحراء الطائف قال الشافعي - رضي الله عنه -: أكره صيده، وعن الشيخ أبي على حكاية تردد في أنه تحريم أو مجرد كراهة. والصحيح عند عامة الأصحاب الأول .. إلى آخره. اعلم أن حكم شجر وج كحكم صيده. كذا صرح به النووي في "شرح المهذب" نقلًا عن الشافعي والأصحاب، وذكره الغزالي أيضًا في "الوجيز"، ولم يتعرض الرافعي -رحمه الله- لشرحه، وكأنه تركه نسيانًا، وبسبب ذلك أغفله النووي فلم يذكره في "الروضة". ووج: بواو مفتوحة ثم جيم مشددة، قال في "تهذيب الأسماء واللغات" نقلًا عن الحازمي: وربما اشتبه هذا بوح بالحاء المهملة المشددة أيضًا اسم لناحية بعمان.

القسم الثالث من كتاب الحج في اللواحق وفيه بابان: الأول: في موانع الحج وهي ستة: قوله: فإذا أحصر العدو المحرمين عن المضي في الحج كان لهم أن يتحللوا، والأولى أن لا يعجل التحلل إن وسع الوقت فربما يزول المنع فيتمون النسك، وإن كان ضيقًا فالأولى التعجيل كيلا يفوت الحج. انتهى: فيه أمور: أحدها: أنه لم يبين أن التحلل واجب أم لا. وقد تقدم الكلام عليه مبسوطا في أعمال يوم النحر فراجعه. الأمر الثاني: أن الإحصار المقتضى للتحلل شرطه أن يكون عن الأركان خاصة، فلو منع من الرمي والمبيت فإنه لا يجوز التحلل كما نقله في "شرح المهذب" عن الروياني وغيره؛ لأنه متمكن من التحلل بالطواف والحلق، ويقع حجه مجزئًا عن حجة الإسلام، ويجبر الرمي والمبيت بالدم. الأمر الثالث: أنه إذا صابر الإحرام متوقعًا زوال حتى فاته الحج فإنه القضاء لا يجب على الأصح كما ستعرفه وحينئذ فقوله: لئلا يفوته الحج؛ أي: فإنه يلزمه القضاء على وجه. الأمر الرابع: أن محل ما ذكره فيما إذا لم يتيقن انكشاف العدو فإن يتقن قال الماوردي: فينظر إن كان في الحج وتيقن انكشافهم في مدة يمكن إدراك الحج بعدها، أو في العمرة وتيقن انكشافهم عن قرب -وهو ثلاثة أيام- لم يجز التحلل.

قوله: إحداها: لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل قال: فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قلَّ؛ إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج، بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارًا؛ لما فيه من الصغار. انتهى كلامه. وتقييد الكراهة بالكفار يقتضي أن المسلمين ليسوا كذلك، وقد تقدم عن الرافعي في أول كتاب الحج ما يخالفه، وتقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: وإن احتاجوا إلى قتال يسير نظر إن كان المانعون مسلمين فلهم التحلل ولا يلزمهم القتال وإن قدروا عليه؛ لما فيه من التغرير بالنفس، وإن كانوا كفارًا فقد حكم صاحب "الكتاب" بوجوب القتال إذا لم يزد عدد القتال على الضعف. وهكذا حكى الإمام عن بعض المصنفين ولم يرتضه على هذا الإطلاق بل شرط فيه وجدانهم السلاح وأهبة القتال، وقال: إذا وجدوا الأهبة وقد قصدهم الكفار فلا قرار ولا سبيل إلى التحلل. والأكثرون قالوا: لا يجب القتال على الحجيج مطلقًا. نعم لو تقاتلوا لم يكن لهم الفرار بالشرط المتقدم. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله. وما أوهمه كلام الإمام في نقله عن بعض المصنفين من المخالفة في اشتراط الأهبة عجيب لا يتصور أن يريده أحد، وكيف يتصور إيجاب المقاتلة بغير آلة؟ إلا أن المراد ببعض المصنفين هو الفوراني، وفي نفس الإمام منه ما في نفسه كما تقدم إيضاحه في أوائل الكتاب، وحبك الشئ يعمي ويصم. قوله: فإذا أحاط العدو بهم من الجوانب كلها ففيه وجهان: أحدهما: ليس لهم التحلل لأنهم يستفيدون به أمنًا فصار من العدو الذي بين يديهم. انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في تعليل الصحيح يقتضي تقييد المسألة فإذا كان المانعون فرقًا متميزة لا تعضد كل واحدة الأخرى، فإن كان المانعون بجميع الجوانب فرقة واحدة لم يجز التحلل، فتفطن له. الأمر الثاني: أن هذا الخلاف إنما يستقيم إذا اتسع الوقت، فإن ضاق بحيث يخشى الفوات تحللوا قطعًا ليستفيدوا به دفع القضاء على ما مر ومصابرة الإحرام إلى التحلل يعمل عمرة. قوله: الثالثة: ليس للمحرم التحلل بعذر المرض خلافًا لأبي حنيفة، فإن شرطه فقولان: أظهرهما: صحة الشرط، وبه قال أحمد؛ لحديث ضباعة بنت الزبير وهو ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "أما تريدين الحج؟ " فقالت: أنا ساكنة. فقال: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستنى" (¬1). والثاني: المنع، وبه قال مالك وأبو حنيفة. انتهى ملخصًا. وضباعة: بضاد معجمة مضمومة ثم باء موحدة. والزبير أبوها هو أحد أعمام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحديثها هذا مذكور في الصحيحين. والمراد بقوله: "محلي حيث حبستني" أي: مكان تحللي هو المكان الذي حبسني فيه المرض. وهذا الذي نقله عن أبي حنيفة عجيب فإنه كيف يتصور الجواز بدون الشرط والمنع عند وجوده. قوله: فنقول: إذا كان المحصر واجدًا للدم فيذبح وينوي التحلل عنده لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره فلابد من قصد صارف، وفي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4801) ومسلم (1207) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

وجوب الحلق خلاف مبني على أن الحلق نسك أم لا. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة". وفيه أمران: أحدهما: أن كلامه يوهم أنه لا يجب مقارنة النية للحلق إذا أوجبناه، والقياس وجوبه لما سبق، وقد جزم به ابن الرفعة نقلًا عن الأصحاب، ويتلخص منه أنه لابد من النية مرتين فاعلمه؛ ولهذا ذكر الرافعي بعد ذلك أنه إذا لم يجد الهدي يتحلل بالنية والحلق، وذكر نحوه في الكلام على تحليل العبد. ويتجه أن يقال: إن لم يقدر على الهدي وجبت مقارنة النية للحلق؛ لما سبق، وإن قدر عليه فتكفي مقارنة النية له كما يكفى اقتران النية بأول الوضوء والصلاة وغيرها. الأمر الثاني: أنه لابد من تقديم الذبح على الحلق كما صرح به الماوردي وغيره؛ ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1). قوله: وإن لم يجد الهدي إما لإعسار أو غيره فهل له بدل؟ فيه قولان يأتي ذكرهما: أصحهما: نعم وهو الإطعام بقيمة الشاة فإن عجز فصوم التعديل. فإن قلنا: إن دم الإحصار له بدل، فإن كان بطعم فيوقف التحلل عليه كتوقفه على الذبح، وإن كان يصوم فكذلك مع ترتيب الخلاف، ومنع التوقف هاهنا أولى لأن الصوم يفتقر إلى زمان طويل فتكون المشقة في الصبر على الإحرام أعظم أي: بخلاف الذبح. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" وتابعه عليه النووي في "الروضة"، وهو كلام غير مستقيم؛ لأنه حكى الخلاف في الصوم وجعله مرتبًا على الخلاف في الذبح ثم فرق، والخلاف في الذبح لم يتقدم له ذكر، بل جزم بتوقف ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 196.

التحلل عليه فبقي مرتبًا على غير مذكور، وقد ذكره الغزالي في "الوجيز" على الصواب فإنه قال: وتحلل المحصر هل يقف على إراقة دم الإحصار؟ فيه قولان. فإن كان معسرًا وقلنا: الصوم بدل ففي جواز توقفه قولان مرتبان وأولى بأن لا يتوقف، لأن الصوم طويل هذا لفظه، فلما شرحه الرافعي نسى القول الأول ثم إنه رتب عليه فلزم ما لزم. قوله: الثانية: لا يشترط بعث دم الإحصار إلى الحرم بل يذبحه حيث أحصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحصر عام الحديبية فذبح بها وهى من الحل. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه. وهو يشعر بأنه لو أراد أن يذبح في الحل أيضًا ولكن في موضع آخر غير الذي أحصر فيه فإنه لا يجوز له ذلك والأمر فيه كما أشعره كلامه فقد جزم به النووي في "شرح المهذب" نقلًا عن الدارمي وغيره. وسببه أن موضع الإحصار قد صار في حقه كنفس الحرم، وهو نظير منع المتنفل إلى غير القبلة من التحول إلى جهة أخرى وحديث الذبح بالحديبية ثابت في الصحيحين من رواية ابن عمر (¬1). قوله: فأما إذا كان مصدودًا عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل؟ ذكر فيه وجهان؛ والأصح أن له ذلك. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله. ومحل هذا الخلاف ما إذا كان الحصر في الحل ولكن أمكنه الذبح في الحرم، فأما إذا كان الحصر في أطراف الحرم فلا يجوز الذبح في الحل بلا خلاف. كذا ذكره في "شرح المهذب". وكلام الرافعي يوهم خلافه. قوله: ولو أذن السيد للعبد في الإحرام بالعمرة فأحرم بالحج فله تحليله، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2554).

قاله في "التهذيب" وظني أنه لا يسلم من الخلاف. انتهى ملخصًا. والأمر كما ظنه الرافعي؛ فقد حكى الدارمي في المسألتين وجهين وصحح أن له التحليل فيهما. كذا رأيته في "الاستذكار" في باب حج الصبي يبلغ والعبد يعتق، ونقله عنه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" قال: لكن الأصح الوجه الثالث المفصل كما قاله صاحب "التهذيب". قوله: وكل دم يلزم بسبب ارتكاب المحظورات كالطيب واللباس وقتل الصيد والفوات فلا يجب على السيد بحال سواء أحرم بإذنه أو بغير إذنه. وأما العبد فلا ملك له حتي يذبح لكن لو ملكه السيد فعلى القديم يملك ويلزمه إخراجه، وعلى الجديد لا يملك، وإذا لم يملك ففرضه الصوم وللسيد منعه منه في حال الرق إن كان إحرامه بغير إذنه، وكذا إن كان بإذنه في أصح الوجهين لأنه لم يأذن في موجبه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما أطلقه من وجوب إخراج العبد عند تمليك السيد قد تابعه عليه في "الروضة"، ومحله إذا ملكه ليكفر أو ملكه مطلقًا ثم أذن له في التكفير به. كذا صرح في الباب الثاني من كتاب "الأيمان"، وذكر نحوه في الظهار، فاعلمه. الأمر الثاني: أن يمنع السيد من الصوم. محله إذا كان الرقيق أمة لما فيه من تفويت الاستمتاع عليه والكفارة على التراخي، أو كان عبدًا يضعف به عن الخدمة أو يناله ضرر، وإلا فلا منع على الأصح. كذا نبه عليه أيضًا في كتاب "الأيمان" ثم قال عقبه: وعلى هذا لا يمنعه من صوم التطوع وصلاة التطوع في مثل هذه الحالة في غير زمان الخدمة.

قوله: وإن قرن العبد أو تمتع بإذن سيده فهل يجب الدم على السيد؟ الجديد: لا يجب، وفي القديم قولان، بخلاف ما إذا أذن له في النكاح فإن السيد يكون ضامنًا للمهر على القديم قولًا واحدًا؛ لأن الدم له بدل وهو الصوم. ثم قال: وإذا لم يوجب الدم على السيد فالواجب على السيد الصوم. انتهى. ولك أن تقول: إذا لم يجب على السيد فلم لا يجب في كسب العبد كما في الصداق وغيره؟ وقد أشار إليه الجرجاني في "التحرير". قوله في "أصل الروضة": وإذا جاز للسيد التحليل جاز للعبد التحلل. انتهى كلامه. وذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا، وهو يوهم أن العبد يجوز له أن يتحلل وإن لم يأمره سيده. وليس كذلك بل المراد إنما هو الجواز عند أمر السيد. وقد صرح الرافعي بمثله في الزوجة، وهو نظير المسألة. وذكر الرافعي أيضًا هنا تعليلًا يشير إلى المقصود فإنه قال عقب هذه العبارة الموهمة: لأن الحصر بغير حق يجوز له أن يتحلل؛ فالمحصر بحق أولى. هذا لفظه. فحذف النووي التعليل المذكور وأبقى هذه العبارة الموهمة بل الدالة على الجواز عند عدم الأمر، ثم إن التحلل يجب عند الأمر؛ فكان حقه أن يقول: وإذا أمر السيد بالتحليل وجب على العبد التحلل. قوله: ولو أحرم المكاتب بغير إذن المولى فمنهم من جعل جواز تحليله

على قولين بناء على قولين في سفر التجارة. وهل يمنعه السيد منه؟ ومنهم من قطع بجواز التحليل لأنه لا منفعة للسيد في سفر الحج. انتهى كلامه. لم يصحح في الروضة شيئًا من الطريقين، والأصح طريقة القطع بالجواز؛ فقد صححها البندنيجي والنووي في "شرح المهذب". قوله: ولو نذر العبد الحج يأتي به في حال الرق فهل يجزئه؟ فيه وجهان. انتهى ملخصًا. والأصح أنه يجزئه. كذا صححه النووي من "زيادات الروضة". قوله: المستحب للمرأة أن لا تحرم دون إذن زوجها. انتهى. وما ذكره هاهنا من كون الإذن مستحبًا لا واجبًا قد ذكر في آخر هذا المانع ما يخالفه فقال ما نصه: الثاني: الأمة المزوجة لا يجوز لها الإحرام إلا بإذن السيد والزوج جميعًا. هذا لفظه، وهو صريح في وجوب استئذان الزوج. وأما كون الزوجة حرة أو أمة فلا أثر له قطعًا بالنسبة إلى وجوب استئذان الزوج لاستوائهما في المقتضى وهو الزوجية. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". وذكر في "شرح المهذب" حكم الأمة كما ذكره في "الروضة" وادعى أنه لا خلاف فيه لكنه لم يصرح في الموضع المذكور أولًا بالجواز بل قال: ينبغي لها أن لا تفعل فليس فيه تناقض صريح، فالمنع من ذلك موافق لما

أفهمه كلام "الروضة" في النفقات من منع الشروع في الصوم فإنه قال: ولا تشرع فيه بغير إذن. وظاهر هذه الصيغة التحريم، وبه صرح فيها أي: في الروضة في صوم التطوع نقلًا عن الأصحاب، لكن عبارة الشرحين "الكبير" و"الصغير": أنه لا ينبغي لها ذلك، وقد حذف في "الشرح الصغير" مسألة الأمة ومع ذلك اختلف كلامه؛ فإنه استدل على جواز تحليلها بأنه حج غير جائز، وعبر في "الكبير" بقوله: غير مشروع. قوله: وهل للزوج منع المرأة من حج الفرض؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنها عبادة مفروضة فأشبه الصوم والصلاة. وأصحهما: نعم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيما امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها زوجها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها" (¬1). ولأن الحج على التراخي وحق الزوج على الفور. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: ليس المراد من الصوم المقيس عليه هو الصوم المضيق؛ لأنه لا يكون نظير المسألة، بل الصوم المتسع لقضاء رمضان، والصحيح فيه أن له المنع منه على خلاف ما جزم به هاهنا. كذا ذكره في كتاب النفقات. الأمر الثاني: أن مقتضى التعليل المذكور امتناع تحليل الصغيرة إذا أحرمت بتطوع أو قضاء، وكذلك الكبيرة إذا سافرت مع الزوج فأحرمت بالفرض وقت إحرامه به. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الصغير" (582) والدارقطني (2/ 223) والبيهقى في "الكبرى" (9906) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال البيهقي: تفرد به حسان، يعني ابن إبراهيم. وأعله عبد الحق بجهل حال محمد بن أبي يعقوب. قال ابن القطان اتبع في ذلك أبا حاتم نصًا والبخاري إشارة.

وفيه نظر يتجه أن يكون محل الخلاف فيما إذا أحرمت من الميقات أو من مكة في الوقت المعتاد وهو يوم التروية، فإن أحرمت قبله كان له المنع جزمًا. الأمر الثالث: أن التعبير بالفرض تدخل فيه مسائل: إحداها: حجة الإسلام ولا إشكال فيها. الثانية: المنذورة، وللنذر حالان: أحدها: أن يتعلق بزمان بعينه فيتجه أن يقال: إن كان قبل النكاح فليسله المنع منه؛ لأن تعينه سابق على حقه، وإن كان بعده نظر إن أذن فيه الزوج فكذلك كما لو أحرمت بإذنه ثم أراد الرجوع، وإن كان بغير إذنه فله المنع. وقد صرح الرافعي بنظير هذا التفصيل في نذر الصوم، ذكره في كتاب النفقات، وهناك ذكر ما يجوز مبسوطًا. الحال الثاني: أن لا يتعلق بزمان بعينه فيتجه أيضًا أن يقال: إن كان قبل النكاح أو بعده ولكن بإذنه فهو على القولين في حجة الإسلام، وإن كان بعده وبغير إذنه فلا يتخرج على القولين لبعدها. وقد أطلق الرافعي في نظير هذا من الصوم أن له المنع على الصحيح. المسألة الثالثة: القضاء: وفي جواز المنع منه وجهان صرح بهما المتولي والبغوي وغيرهما في الكلام على الجماع؛ قال المتولي: والوجهان ينبنيان على أن القضاء على الفور أم لا؟ فإن قلنا: نعم فلا منع، وإلا فيمنع، والمرجح الفورية فيكون المرجح عدم المنع، وهذا متجه إذا وطئها الزوج أو أجنبي ولكن قبل النكاح.

فإن وطئ الأجنبي بعده في نسك لم يأذن فيه الزوج فله في القضاء المنع أو التحليل كما في الأداء، وإن كان قد أذن ففي المنع نظر. والقضاء إذا كان سببه الفوات يجب أيضًا على الفور على الصحيح. ولا يخفى حكمة ما ذكرناه. وقد ذكر النووي مسألة النذر والقضاء في "شرح المهذب" فقال: قال الدارمي والجرجاني في "التحرير": وحجه النذر كالإسلام، فإذا أحرمت بها بغير إذنه فله تحليلها في أصح القولين، وينبغي أن يكون القضاء كذلك. هذا لفظه. وعجب منه في هذا الكلام المخالف للمنقول والمعقول. المسألة الرابعة: الإحرام لدخول مكة: إذا فرعنا على وجوبه فقد تقدم أن مقتضى إطلاق الرافعي وغيره أنه لا فرق فيه بين المرأة المتزوجة وبين غيرها إذا كان سفرها بإذن الزوج؛ وحينئذ فإذا أحرمت لا يحللها، غير أن زوجها إذا كان بمكة مثلا فالمتجه أنه لا يجوز لها العدول عن العمرة إلى الحج؛ لطول زمانه. فإن فعلت فالمتجه جواز التحليل لتقصيرها. ولا قضاء لو دخلت بغير إحرام. والحديث المذكور رواه الدارقطني والبيهقي. قوله: وأما حجة التطوع فله منعها منها، وكذا له أن يحللها على الأصح كما له التحليل في صوم التطوع وصلاة التطوع. انتهى. وما ذكره من المنع في التطوعات محله في النفل المطلق، أما صوم عرفة وعاشوراء والسنن الراتبة للصلاة فليس له منعها في أصح الوجهين كما ذكره في كتاب النفقات، قال: وصوم الاثنين والخميس كالتطوع المطلق وله المنع من الخروج لصلاة العيدين والكسوف.

قوله: وحيث جوزنا للسيد التحلل فمعناه الأمر به، فإن أمرها فلم تفعل فللزوج أن يستمتع بها والإثم عليها. كذا حكاه الإمام عن الصيدلاني ثم توقف فيه؛ لأن المحرمة محرمة لحق الله تعالى كالمرتدة. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله. والذي قاله الصيدلاني هو المذهب كما قاله في "شرح المهذب". قوله: ولم أجد حكاية الخلاف في منع الأبوين الولد في حج الفرض لغير الغزالي إلا للقاضي ابن كج. انتهى. وهذا الخلاف قد صرح به الفوراني من الإبانة والعمد، وأشار إليه القاضي حسين في "تعليقه" فقال: المذهب أنه لا منع, وصرح في كتاب السير بحكايته وجهًا، وقد سبق في أول الكتاب التنبيه على سبب ذلك. قوله: وإذا حصل الفوات فله التحلل كما في الإحصار. وبم يتحلل؟ قال في "المختصر" وغيره: يطوف ويسعى ويحلق، وقال في "الإملاء": يطوف ويحلق ولم يتعرض للسعي. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المراد بالتحلل بما ذكره إنما هو التحلل الثاني، وأما الأول ففي "شرح المهذب" أنه يحصل بواحد من الحلق أو الطواف. يعني مع السعي على ما فيه من الخلاف الآتي ذكره؛ لأنه لما فاته الوقوف سقط عنه حكم الرمي وصار كمن رمى. الأمر الثاني: أنه ليس في كلامه هنا ما يدل على وجوب التحلل على الفور أم لا، وقد سبق الكلام عليه مبسوطًا في أعمال يوم النحر فراجعه. قوله: واتفق الأصحاب على وجوب الحلق إذا جعلناه نسكا وعلى أن الطواف لابد منه, والسعي على طريقين: أشبههما أنه على

قولين: أصحهما: الوجوب. والطريق الثاني: القطع بالوجوب. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على تصحيح طريقة القولين ثم خالف في "شرح المهذب" فصحح طريقة القطع. قوله: ثم من فاته الحج إن كان حجه فرضًا فهو في ذمته كما كان، وإن كان تطوعًا فعليه قضاؤه كما لو أفسده. ثم قال: وفي وجوب الفور في القضاء الخلاف السابق في الإفساد. انتهى. ومقتضى كلامه أن الفرض في الفوات لا يكون قضاء وأنه يبقى في ذمته موسعًا كما كان. وهذا بخلاف ما قاله في نظيره وهو الإفساد؛ فإنه صرح هناك بأن المفسد إذا أتى بالنسك يكون قضاء سواء كان فرضًا أم نفلًا. فإن قيل: الفرق أن المفسد متعد فلهذا جعلنا الفرض فيه قضاء حتى يكون على الفور بخلاف الفوات. قلنا: لا نسلم أن الفوات لا تعدي فيه؛ فإنه قد يترك الوقوف عمدًا حتى يفوت وقته. ولو سلمنا أنه لا تعدي فيه فيكون من فاته النفل ليس متعديًا فيكون تداركه على التراخي. وهو خلاف ما سبق نقله عنه. لا جرم أن المذكور في "التنبيه" و"التعجيز" و"الحاوي" و"المنهاج" وغيرها من المختصرات إطلاق لفظ القضاء على المأتي به لأجل الفوات أيضًا. قوله: الثالثة: لو أحصر فلم يتحلل بل صابر الإحرام متوقعًا زواله ففاته

الحج والإحصار دائم فلابد من التحلل بعد عمرة. وفي القضاء طريقان: أظهرهما وهو المذكور في الكتاب طرد القولين. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذلك، وفيه أمران: أحدهما: أنه يقتضي إيجاب التحلل بالعمرة وإن لم يكن متمكنًا من البيت وذلك بأن يبقى محرما إلى أن يتمكن وهو في غاية البعد والجرح. والقياس جواز التحلل في هذه الحالة لأنه محصر، وستعرف من لفظه بعد هذا ما يدل عليه. الأمر الثاني: أن ظاهر هذا الكلام يقتضي تصحيح عدم القضاء؛ لأنه الأصح من القولين السابقين، لكن ذكر -أعني- الرافعي بعد هذا بقليل ما يخالف ذلك فقال: ثم إن كان الإحصار قبل الوقوف وأقام على إحرامه حتى فاته الحج نظر إن زال الحصر وأمكنه التحلل بالطواف والسعي لزمه ذلك، وعلة القضاء والهدي الفوات. وإن لم يزل الحصر تحلل بالهدي وعليه مع القضاء هديان: أحدهما للفوات، والثاني للتحلل. انتهى كلامه. وتفريعه في جواز التحلل بين زوال الحصر وعدمه لابد منه كما ذكرنا من قبل. وأما إيجابه للقضاء مع دوام الإحصار إلى الفوات فمخالف بإطلاقه ظاهر ما تقدم فينبغي حمله على ما إذا صابر الإحرام غير متوقع للزوال. قوله: وإذا أحصر بعد الوقوف فتحلل ثم زال الحصر فالقديم أنه يجوز البناء على ما مضى ويحرم إحرامًا ناقصًا ويأتى ببقية الأعمال.

ثم قال ما نصه: وعلى هذا فلو لم يبن مع الإمكان فعليه القضاء. نقل الإمام فيه وجهين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد اختصر هذا الكلام في "الروضة" بقوله: وجب القضاء، وقيل: فيه وجهان، فزاد طريقة قاطعة وصححها وسببه إيهام قول الرافعي فعليه. ولا شك أن همزة الاستفهام هنا مقدرة، والأصل: أفعليه، ولكن حذفها جريًا على عادة الناس في تعبيرهم التعبير المتداول الذي لا ينكر، وكيف اختصره على هذا والموجود في نسخ الرافعي نقل بلا واو، ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير". الأمر الثاني: أنه كيف يتأتى التردد في وجوب القضاء؛ لأن صورة المسألة فيما إذا كان الإحصار بعد الوقوف، والحصر المبيح للتحلل حينئذ لا يتأتى إلا بالنسبة إلى الطواف خاصة؛ لأن الحلق لا يختص بمكان ولا زمان والواجبات كالرمي والمبيت تنجبر بالدم فلذلك قالوا: لا يتحلل منها، ولا يأتي فيها القولان في أنه هل ينبني أم لا؟ كما قاله الرافعي في الكلام على الاستئجار للحج. وإذا علم أن المراد بالحصر هنا إنما هو عن الطواف والطواف لا آخر لوقته وإذا لم يكن لوقته آخر لم يتصور فواته، وإذا لم يتصور الفوات لا يتصور الخلاف في وجوب القضاء. فإن قيل: يتكلف ويفرض المسألة فيما إذا تعذر منه الطواف بالموت؟ قلنا: التفريع على جواز البناء؛ وحينئذ فيستأجر الورثة عنه من يقوم بهذا الذي فاته، ويبني فعله على فعله كما لو لم يكن محصرًا وأخر الطواف بلا عذر.

قوله: ثم إذا تحلل بالإحصار الواقع بعد الوقوف فلا قضاء عليه وبه قطع العراقيون. وحكى صاحب "التقريب" في وجوب القضاء قولين وطردهما في كل صورة أتى فيها بعد الإحرام بنسك لتأكد الإحرام بذلك النسك. انتهى ملخصًا. وما حكاه الإمام عن "التقريب" من الاطراد المذكور حاصله جريان الخلاف فيما إذا أتى بطواف القدوم أو الرمي أو الحلق إذا جعلناه نسكا ونحو ذلك. وهذا النقل غلط على "التقريب" ليس له ذكر فيه فإنه ذكر أن المحصر عن البيت يجوز له التحلل، وفي القضاء قولان. ثم ذكر أن المحصر بعد الوقوف يجوز له التحلل. ثم قال ما نصه: ثم يكون الجواب في الإعادة على القولين اللذين ذكرناهما: أحدهما: لا إعادة عليه لأنه إنما حل بعذر الحصر. والثاني: عليه الإعادة لأنه لما وصل إلى البيت خرج عن معنى الحصر. هذا لفظه من غير زيادة عليه، ولم يذكر بعده ولا قبله غير هذا. قوله: ولو صد عن عرفة ولم يصد عن مكة فيدخل إلى مكة ويتحلل بعمل عمرة كمن صد عن طريق وسلك غيره. انتهى. سكت -رحمه الله- عن عكسه؛ وهو ما إذا صد عن مكة ولم يصد عن عرفة، والحكم فيه أنه يجب عليه الوقوف ثم يتحلل. كذا نقله في "شرح المهذب" عن الماوردي ولم ينقل غيره فاعلمه فإن الإطلاقات السابقة في الباب توهم جواز التحلل قبل الوقوف.

الباب [الرابع] في الدماء

الباب [الرابع] (*) في الدماء وفيه فصلان: الفصل الأول في أبدالها قوله: وكل من لزمه شاة جاز له ذبح بدنة أو بقرة مكانها إلا في جزاء الصيد. انتهى. وفي المنع في جزاء الصيد نظر؛ فإن غايته أن يكون كإخراج الحيوان الكبير عن الصغير؛ إذ المماثلة ليست حقيقة. لا جرم أن كلامه في الأضحية ظاهر في الجواز، وقد تقدم نقله في الكلام على الصيد على ما قاله من المنع؛ ففي إلحاق جزاء الشجر به نظر. فقد يقال: يلحق به طلبًا للمماثلة أيضًا، وحينئذ فيكون مرادًا من لفظ الصيد، ويدل عليه أنهم لما ذكروا أن محرمات الإحرام تتبعه لم يفردوا الشجر بل أدخلوه في قسم الصيد، لكن الظاهر لفظًا ومعنى أنه لا يمتنع ذلك في جزاء الشجر؛ إذ المماثلة بين الحيوانات قريبة بخلاف الشجر مع الحيوان، ولأنها إذا أجزأت عن الشجرة الكبيرة فإجزاؤها عن الصغيرة أولى كالبعير في خمس من الإبل؛ ويدل عليه أنه إذا لزمه بقرة لأجل قلع الشجرة الكبيرة فإنه يجوز إخراج بدنة مكانها كما نقله الرافعي في موضعه عن الإمام وأقره وادعى الإمام أنه لا شك فيه. قوله: وإذا ذبح بدنة أو بقرة مكان الشاة فهل الفرض سبعًا فقط حتى يجوز أكل الباقي أم الكل فرض؟ فيه وجهان. انتهى. وهذه المسألة قد سبق الكلام عليها وعلى نظائرها وعلى ما وقع فيها من

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (الثاني)

الاضطراب وعلى فوائد الخلاف في باب صفة الصلاة، فراجعه. قوله: والدم المنوط بين المأمورات كالإحرام من الميقات والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى وطواف الوداع فيه وجهان: أحدهما: أنه دم ترتيب وتعديل؛ فعلى هذا يلزمه ذبح شاة، فإن عجز قوم الشاة بدراهم واشترى بها طعامًا وتصدق به، فإن عجز صام ثلاثة أيام عن كل مد يومًا. والثاني: أنه كدم التمتع في التقدير والترتيب؛ فعلى هذا يلزمه دم، فإن عجز صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع. والثاني أظهر في المذهب، ولم يورد العراقيون وكثير من سائر الطبقات غيره. انتهى ملخصًا. وما ذكره من ترجيح الثاني قد ذكر مثله في "الشرح الصغير" و"التذنيب" فقال فيهما: إنه أظهر الوجهين، وخالف في "المحرر" فصحح الأول وعبر بالأصح، ووقع هذا الاختلاف أيضا بين "الروضة" و"المنهاج"، وقد اتضح أن الفتوى على خلاف ما في "المحرر" و"المنهاج" اعتمادًا على رأى الأكثرين.

الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها

الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها قوله: وأما دم الفوات فهل يجوز إراقته في سنة الفوات؟ فيه قولان: أحدهما -وهو نصه في الإملاء أنه يجوز كدم الإفساد يراق في الحجة الفاسدة. وأصحهما أنه لا يجوز ويجب تأخيره إلى سنة القضاء؛ لظاهر خبر عمر. فإن قلنا بالأول فوقت وجوبه سنة الفوات، وإن قلنا بالثاني ففي وقت الوجوب وجهان: أصحهما أن الوجوب منوط بالتحريم بالقضاء كما أن دم التمتع منوط بالتحريم. ووجه التشبيه أن من فاته الحج يتحلل من نسك ويحرم بآخر كالمتمتع، إلا أن نسكى المتمتع في سنة واحدة والقضاء يقع في سنة أخرى. ولما بينهما من الشبه نقول: لو ذبح قبل التحلل عن الفائت لم يجزئه في الأصح كما لو ذبح المتمتع قبل الفراغ من العمرة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره أولًا من جعل الخلاف قولين قد ذكر مثله في "الروضة"، وجزم في المنهاج بجعله وجهين؛ فإنه عبر بالأصح، وقد صرح الشيخ في "المهذب" بذلك، وهو مقتضى كلام "التنبيه" فإنه عبر بقوله: وقيل، واصطلاحه أن ذلك للوجه.

وحكى النووي في "شرح المهذب" هنا خلافا من غير ترجيح في أنه قولان أو وجهان، وصحح في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام أنه قولان. الأمر الثاني: أن ما ذكره من وجوب تأخيره إلى سنة القضاء قد تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وهو غلط حصل من ذهول وسوء تعبير؛ فإن كلامه صريح في أن هذا الدم قد وجب بشيئين وهما الفوات والإحرام بالقضاء، وإذا وجب المال بشيئين جاز تقديمه على أحدهما، بل قد صرح في آخر كلامه الذي نقله عنه بأنه كالمتمتع؛ وحينئذ فيجوز ذبحه بعد التحلل من الحجة التي فاتت، وقيل: الإحرام بالقضاء في أصح الوجهين كما في نظيره من المتمتع، وقد صرح بذلك القاضي الحسين في التعليق وإمام الحرمين في النهاية؛ فخرجا الذبح قبل سنة القضاء وبعد تحلله على الوجهين في التمتع. الأمر الثالث: أن الوجهين اللذين حكاهما في وقت الوجوب لم يبين الوجه الآخر وهر المقابل للأصح منهما، وكذلك فعل أيضًا في "الشرح الصغير" وتابعه النووي في "الروضة"، وكذلك في آخر باب ما يجب بمحظورات الإحرام من "شرح المهذب"، وبينه في هذا الباب من الشرح المذكور فقال: وفي وقت وجوبه وجهان حكاهما البندنيجي وغيره: أحدهما: يجب في سنة الفوات وإن وجب تأخيره كما يجب فيها القضاء. وأصحهما أن الوجوب في سنة القضاء. هذا لفظه. قوله من "زياداته": قال -يعني: صاحب "البحر"-: فإن فرق الطعام

فهل يتعين لكل مسكين مد كالكفارة أم لا؟ وجهان: الأصح: لا يتقيد، بل تجوز الزيادة على مد والنقص منه. والثاني: لا يجوز أقل منه ولا أكثر. انتهى كلامه. واعلم أن محل هذا الخلاف إنما هو في دم التمتع ونحوه، أما الاستمتاعات كالطيب واللباس والمباشرة بشهوة والادهان والحلق والقلم؛ فإنه إذا اختار فيها الإطعام وجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع كما ذكره قبل ذلك على خلاف فيه غير هذا، وكلام النووي هنا في هذا الباب يوهم خلاف إيهاما كبيرًا؛ فإنه قد ذكر قبل هذا بأسطر أنواع الأشياء التي تجب فيها الدماء، ثم ذكر أنه إذا أطعم بدلًا من الدم وجب تخصيصه بمساكين الحرم. ثم ذكر هذا الفرع، فراجعه. قوله: والدم الواجب على المحرم يجب تخصيصه لحمه بمساكين الحرم. انتهى. والتقييد باللحم تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهي زيادة موهمة مضرة؛ فإن الجلد كذلك بلا شك. قوله: يختص ذبحه بالحرم في أصح القولين. ثم قال: وفي القديم قول أن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفريقه في الحل كدم الإحصار. ثم قال أيضًا بعد ذلك بأسطر: وذكر الإمام أن صاحب "التقريب" حكى وجهًا أن ما لزم بسبب مباح لا يختص ذبحه ولا تفرقة لحمه بمكان، وأن شيخه حكى وجهًا أنه لو حلق قبل الانتهاء إلى الحرم ذبح وفرق حيث حلق، وهما ضعيفان. انتهى كلامه. وهو يوهم أن الوجهين مغايران للقول المحكي أولًا عن القديم. وليس كذلك فإن القديم قائل بالجواز في كل ما أنشئ سببه في الحل ومن جملته

الحلق فلا يكون الثاني من الوجهين مغايران للقول، وإنما يكون كذلك أن لو كان هذا القائل يقول بانتفاء ذلك عن ما عدا الحلق، وليس في كلامه ما يدل عليه بل غايته التمثيل فقط، ولا يصح أيضًا التخصيص من جهة المعنى؛ إذ لا فرق بين الحلق وبين غيره كالقلم، وقيل: الصيد، ونحوهما. قوله من "زياداته": قال القاضي الحسين في "الفتاوى": لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجب نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا؛ لأنه وجب لمساكين الحرم كمن نذر التصدق على فقراء بلد فلم يجدهم يصبر إلى أن يجدهم ولا يجوز نقلها. ويخالف الزكاة على قول؛ لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن القاضي من الصبر في البلد قد جزم في نظيره من الوصية أنه لا يصبر بل تبطل الوصية. ذكر ذلك قبيل المسائل الحسابية، وذكر نحوه الرافعي في الباب الثاني من قسم الصدقات وحذفه من "الروضة"، وسأذكر لفظه في موضعه فراجعه وقد رأيت المسألة -أعني: فقدان المساكين من الحرم في "فتاوى القفال" وأجاب بما ذكره القاضي الحسين من امتناع النقل ومن قياسها على النذر ومن التفرقة بينها وبين الزكاة، كما ذكره تلميذه القاضي المذكور إلا أنه تردد فيما يفعل بالمنذور بين النقلين المتقدمين فقال: فإما أن يبطل وإما أن يصبر حتى يجد القصر. هذه عبارته، وزاد فيه فائدة أخرى وهي: أنه لو نذر لأصناف فقدم

بعضها جاز النقل كنظيره من الزكاة. الأمر الثاني: أن ما نقله عن القاضي صريح في حكاية قولين في نقل الزكاة عند فقدان الأصناف. وهو غلط لا ذكر له في كلام القاضي ولا في كلام غيره؛ فإن الذي في "فتاويه" بعد ذكر جوابه بعدم النقل ما نصه: قيل له على القول الذي يقول لا يجوز نقل الصدقة فإذا عدم المستحق له النقل كذا هاهنا، أجاب: ليس في الكتاب ولا في السنة أن الصدقة يجب صرفها إلى أهل ناحية بعينها؛ فلهذا جاز النقل، وهذا منصوص على أنه مصروف إلى فقراء الحرم. هذا لفظه. فعبر عنه النووي بعبارة أفسدت المعنى فاعلمه. قوله: والهدايا التي يسقها المحرم هل يختص ذبحها بوقت الأضحية؟ فيه وجهان: أظهرهما وهو ما أورده الغزالي والعراقيون أنها تختص كالأضحية. ثم قال بعد ذلك: إن سوق الهدي مستحب لكل من قصد مكة بحج أو عمرة. . . . إلى آخر ما قاله. تابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمران. أحدهما: أن هذا الكلام كالصريح، وأن ما يسوقه المعتمر يختص أيضًا بوقت الأضحية على الصحيح. ولا يمكن القول بذلك؛ فإنا لا نشك أنه -عليه الصلاة والسلام- لما أحرم بالعمرة عام الحديبية وساق الهدي إنما قصد به ذبحه عقب تحلله وأنه لا يتركه بمكة حيًا ويرجع إلى المدينة، وقد أشار الرافعي قبل هذا بقليل إلى ما يعضد ما ذكرناه، فإنه قال في دماء الجبرانات: إن الأفضل للحاج ذبحها

بمنى وللمعتمر ذبحها بالمروة. ثم قال: وكذا حكم ما يسوقانه من الهدي. الأمر الثاني: أن الهدي كما يطلق على ما يسوقه المحرم يطلق أيضًا على ما يلزمه من دماء الجبرانات. وهذا الثاني لا يختص بوقت الأضحية كما سبق في أعمال يوم النحر مبسوطًا، وسبق أيضًا هناك الرد على النووي في توهمه اختلاف كلام الرافعي، فراجعه. قوله: ويستحب أن يشعر الهدي. ثم قال: والإشعار: الإعلام. والمراد هاهنا أن يضرب صفحة سنامها اليمنى بحديدة وهي مستقبلة القبلة فيدميها ويلطخها بدمها ليعلم من رآها أنها هدي فلا يستجيز التعرض لها. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق استحباب الإشعار في الصفحة اليمنى، ويستثنى من ذلك ما إذا أهدى بدنتين أو بقرتين مقرونتين في حبل واحد؛ فإنه يستحب إشعار الأخرى في الصفحة اليسرى لأنها هي التي تشاهد. كذا قاله الروياني في "البحر"، ونقله عنه في "الروضة"، ثم قال: وفيه احتمال. قوله: وإذا عطب الواجب في الطريق فعليه ذبحه، وإذا ذبحه غمس النصل الذي قلده به في دمه وضرب بها صفحة سنامه وتركه ليعلم من يمر به أنه هدي ليأكل منه. وهل تتوقف الإباحة على أن يقول: أبحته لمن يأكل منه؟ قولان: أصحهما عند صاحب "التهذيب" أنه لا حاجة إليه؛ لأنه بالنذر زال ملكه.

انتهى. فيه أمور: أحدها: لم يذكر -رحمه الله- هو ولا النووي تعليل القول الثاني وذكرا تعليل الأول مع وضوحه فنقول: إنما احتيج التفرقة وتخصيصها بمن أراد. ثانيها: أن كلام الرافعي يوهم أنه يكفي وجود الإباحة في نفس الأمر وإن لم يسمع الآكل حتى تكون فائدته دفع الضمان. وليس كذلك؛ بل القولان في أن الإباحة هل تتوقف على سماعه أم لا؟ وفي كلام الرافعي في الباب الذي بعد هذا في الكلام على المعاطاة ما يدل عليه لمن تأمله. ثالثها: أن له إباحة الأكل لا يسوغ الحمل ولا التصرف فكيف اقتصروا هنا عليه مع أن الواجب في أمثال هذا تمليك الفقراء إياه ليتصرفوا فيه بما شاؤوا؟ ! ورابعها: أن الأصح في هذه المسألة هو ما صححه البغوي كذا صححه النووي في أصل "الروضة" و"شرح المهذب". قوله: ولا يجوز للمهدي ولا لأغنياء الرفقة الأكل منه، وفي فقرائها وجهان: أصحهما أنه لا يجوز أيضًا لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: "لا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك" (¬1). انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الاستدلال ضعيف لا حجة فيه؛ لأنه لم يرد النهي عن أكل الرفقة مطلقًا حتى نقول: إنه يعم الأغنياء والفقراء، بل إنما ورد النهي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1326) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

عن أكل بعضه؛ فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد علم أن رفقة هذا الرجل أغنياء فنهاهم. والحاصل أنها واقعة معين لا عموم فيها. الأمر الثاني: أنه لم يبين المراد بالرفقة هنا، وفيه خلاف تعرض له في الروضة فقال: إن الأصح الذي يقتضيه ظاهر الحديث وقول الأصحاب أن المراد بالرفقة الحديث، وقول الأصحاب: أن المراد بالرفقة جميع القافلة، وحكى الروياني في "البحر" وجهًا استحسنه أنهم الذين يخالطونه في الأكل وغيره دون باقي القافلة. الأمر الثالث: حيث وقع الأكل الممتنع في هذه الحالة فهل يغرم لفقراء الموضع أم لفقراء الحرم؟ سكت عنه -رحمه الله-، وقد ذكره صاحب "التقريب" فقال: يغرم قيمته لمساكين الحرم؛ لأنه لهم بطريق الأصالة وإنما أكله فقراء الموضع لتعذر الاتصال. وقال بعضهم: القياس أن يغرمه لفقراء هذا الموضع. هذا كلامه. الأمر الرابع: أن ما جزموا به هاهنا من منع الأكل وادعى في "الروضة" أنه لا خلاف فيه يختص بما فرضوا فيه الكلام وهو ما إذا عطب، فأما إذا وصل إلى موضعه وذبحه ففي الأكل وجوه مشهورة؛ والراجح أنه يجوز في المعين ابتداء دون الواجب عما في الذمة على اضطراب فيه ستعرفه في باب الأضحية. قوله من زياداته: قلت: إذا عطب هديه المتطوع به قال صاحب "الشامل" وغيره: لا يصير مباحًا للفقراء إلا بلفظ؛ وهو أن يقول: أبحته للفقراء وللمساكين. قال: ويجوز لمن سمعه الأكل، وفي غيره قولان: قال في "الإملاء": لا يحل حتى يعلم الإذن، وقال في القديم، والأم: يحل. وهو الأظهر والله

أعلم. انتهى كلامه. وهذا النقل الذي ذكره -رحمه الله- عن صاحب "الشامل" غلط؛ فإن صاحب "الشامل" إنما ذكره في الهدي الواجب فقال: فإن كان تطوعًا فله ذبحه وأكله وإطعام الأغنياء والفقراء. هذا لفظه. ولم يذكر في التطوع غير ذلك. ثم قال: وإن كان واجبًا .. إلى أن قال ما نصه: إذا ثبت هذا فالهدي لا يصير مباحًا للفقراء إلا باللفظ وهو أن يقول: أبحته للفقراء والمساكين؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنًا له ثم قال: "ليقطع من شاء منكم"؛ فدل على أن ذلك لا يصير مباحًا إلا بالقول، وإنما لم يصر مباحًا بالنحر والإعلام؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، وهذا كما قلنا في الزكاة: ليس للفقراء أن يأخذوها إلا بإذن صاحب المال؛ كذلك هذا. إذا ثبت هذا فمن سمع الإذن جاز له أن يأخذ، وأما من لم يسمع إذنه وإباحته فهل يجوز له أن يأكل منه؟ ففيه قولان: قال في "الإملاء": لا يحل له الأكل إذا رأى هديًا مذبوحًا حتى يعلم الإذن فيه، وقال في "القديم" و"الأم": لهم الأكل. هذا كله إذا نحره. فأما إذا تركه ولم ينحره حتى هلك وجب عليه ضمانه. هذا كلام "الشامل"، وقد حكاه عنه الخوارزمي في "كافيه" على الصواب. تم الجزء الرابع بحمد الله وعونه، يتلوه في أول الخامس كتاب البيع.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء الخَامِس مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (5)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب البيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب البيع والنظر في خمسة أطراف: الطرف الأول: في صحته وفساده، [وفيه أربعة أبواب] (¬1). الباب الأول في أركانه قوله: والوجه أن يقال: البيع مقابلة مال بمال. انتهى. وما ذكره -رحمه الله- إن كان حدًا للبيع اللغوى فليس بجامع، بل الصواب أن يقول: مقابلة شيء بشيء كما قاله الماوردى، ليدخل ما ليس بمال كالكلب ونحوه. وإن كان حدًا للبيع الشرعي فيرد عليه أمور: [منها] (¬2): القرض كما لو قال: خذ هذا بمثله، وكذلك الإجارة أيضًا، فإن الحد صادق عليهما وليسا ببيع ولهذا لا ينعقدان بلفظ البيع. فإن توهم [متوهم] (¬3) أن المال لا يطلق على المنفعة، واستند في الجواب عن الإجارة إليه. قلنا: فيلزم أن لا يكون أيضًا جامعًا لأنه [لا] (¬4) يجوز أن يجعل الثمن منفعة. وأيضًا فقد صرح هو في كتاب الوصية بدخول منفعة في المال فقال: الأموال تنقسم إلى: أعيان ومنافع. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ. (¬2) في أ، ب أحدها. (¬3) سقط من جـ. (¬4) سقط من جـ.

ومنها أن المقابلة المطلقة ليس فيها دلالة على المقصود أصلًا، فإنه لم يتعرض لكونها في عقد، ولا أن ذلك العقد يقتضى انتقال الملك، ثم إنه لابد أن يقول على الوجه المأذون فيه ونحو هذا. قوله: ثم أحد الأركان الصيغة وهي الإيجاب من جهة البائع بأن يقول: بعت أو اشتريت أو ملكت، وفي ملكت وجه منقول عن "الحاوى" انتهى كلامه. لم يبين هو ولا النووي في "الروضة" هل الوجه في نفي الانعقاد به بالكلية أو في نفي صراحته فقط؟ وكلام الماوردى يقتضى فيه خلافًا، فإنه قسم الألفاظ إلى ما يصح به العقد، وإلى ما لا يصح به وإلى ما اختلف فيه. ثم قال: ومن المختلف فيه قول البائع قد ملكتك، فيه لأصحابنا وجهان. أحدهما: يصح العقد به لأن حقيقة البيع تمليك المبيع بالعوض، فلا فرق بين ذلك وبين قوله: بعتك. والوجه الثاني وهو الصحيح: لا يصح العقد به لعلتين. إحداهما: أن التمليك هو حكم البيع وموجبه فاحتاج إلى تقديم العقد ليكون التمليك بعقبة. والثانية: أن لفظ التمليك يحتمل البيع ويحتمل الهبة على العوض، فصار من جملة الألفاظ المحتملة. قوله: وسواء تقدم قول البائع: بعته أو قول المشترى: اشتريت، فيصح البيع في الحالتين. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" والتمثيل لتقديم اللفظ الصادر من المشترى باشتريت يشعر بأن لفظ القبول لا يجوز تقديمه، وبه صرح الإمام فقال: والقبول في الحقيقة ما لا يتأتى الابتداء به كقوله: قبلت.

فأما ما يتأتى فيه ذلك كقوله: ابتعت ونحوه، فذاك قائم مقام القبول. هذا كلامه. واقتصر ابن الرفعة في "الكفاية" هنا عليه. قوله: وعن ابن سريج تخريج قول للشافعى أنه يكتفي بها أي: بالمعاطاة في المحقرات وذكروا لمستند التخريج صورًا. منها لو عطب الهدى في الطريق فغمس النعل الذى قلده بها في الدم وضرب بها صفحة سنامه هل يجوز للمارين الأكل منه؟ فيه قولان: ومنها لو قال لغيره: اغسل هذا الثوب فغسله، وهو ممن يعتاد الغسل بالأجرة هل يستحق الأجرة؟ فيه خلاف سيأتى في موضعه. ومنها لو قال لزوجته: إن أعطيتنى ألفًا فأنت طالق، فوضعته بين يديه، ولم تتلفظ بشئ فإنه يملكه ويقع الطلاق. وفي الاستشهاد بهذه الصور نظر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: في بيان النظر الذى أشار إليه الرافعي -رحمه الله- فنقول: قال في "المطلب": أما جواز الأكل من الهدى فلأن الأكل مباح للضيفان بالتقديم، وأيضًا فلأنه انحصر الحال فيه في دلالة [الفعل] (¬1) ولا يلتحق به ما لم ينحصر الحال فيه. نعم نظير الهدى ما إذا عدم النطق، ونحن نقول بانعقاد البيع في تلك الحالة بالإشارة المفهمة قولًا واحدًا. وأما مسألة الغسال فلأن مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه لا يستحق شيئًا، والذهاب إلى الاستحقاق ليس قولًا حتى يخرج منه إلى هنا قول بل هو وجه لبعض الأصحاب. ¬

_ (¬1) في جـ: النعل.

وأما مسألة الإعطاء فإن الملك فيه لم يستند إلى مجرد الوضع، بل إلى اللفظ السابق. وأجاب في "المطلب" عن النظر المذكور في الأخيرة بأن اللفظ وإن كان موجودًا من جانب الزوج فليس من جانب المرأة والحالة هذه لفظ أصلًا، ونحن إذا اعتبرنا اللفظ اعتبرناه من الجانبين. قال: وبهذا يظهر أن التخريج منها أظهر من الصورتين الأخيرتين، ووقع في بعض نسخ الرافعي هنا مخالفة للنسخة التى نقلت منها بالنسبة إلى عود النظر إلى جميع الصور أم إلى بعضها؟ واقتصر الرافعي في "الشرح الصغير" على الاستناد في التخريج إلى مسألة الغسال. الأمر الثاني: أن الأصحاب قد ذكروا للتخريج صورة رابعة، وهي أظهر مما ذكره الرافعي، وهي ما إذا قلّد هديه، هل يصير منذورًا بمجرد التقليد؟ فيه قولان، وقد ذكر النووي في "الروضة" هذه الصورة، واقتصر عليها فأدخلها في كلام الرافعي فافهمه، وتفطن له. وقال بعضهم: لعله خرجه من كل ما أخذ الشافعي فيه بالعرف كحمل الهدية والإذن في دخول الدار وغيرهما، وهو تخريج متجه أيضًا. قوله: المسألة الثانية: ولو قال: بعني، فقال البائع: بعتك. نظر إن قال بعد ذلك: اشتريت أو قبلت. انعقد لا محالة، وإلا فوجهان في رواية بعضهم، وكذلك أورده المصنف هاهنا، وقولان في رواية آخرين. وكذلك أورده في النكاح ثم قال: وعن أحمد روايتان كالقولين. انتهى كلامه. والصحيح عند الرافعي أن الخلاف وجهان. كذا صرح به في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: فوجهان ويقال: قولان. انتهى. ولم يصرح في "المحرر" بشيء، بل عبر بالأصح، وليس له في التعبير به

اصطلاح. واختلف كلام النووي في ذلك فصحح في "شرح المهذب" و"الروضة" أنه وجهان، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي مع أن الرافعي لم يصرح بشئ، بل أول كلامه، وآخره يشعر برجحان أنهما قولان وجزم في "المنهاج" بأن الخلاف قولان وهو الصواب فإن الغزالى في كتاب النكاح من "الوسيط" نقلهما قولين منصوصين فقال: ونص في البيع على قولين. هذا لفظه. واعلم أن الغزالى هاهنا في "البسيط" قد حكى الخلاف قولين. وأما حكايته وجهين فهو في "الوسيط" و"الوجيز" خاصة فاعلمه، فإن كلام الرافعي يوهم خلافه. قوله: ولو قال: سلطتك عليه بألف فهل هو من الكنايات أم لا؟ اختلفوا فيه. انتهى. والأصح أنه كناية. كذا صححه النووي في "الزيادات" قوله: فإن قلنا: ينعقد بالكتب فالشرط أن يقبل المكتوب إليه كما اطلع على الكتاب على الأصح ليقترن القبول بالإيجاب بحسب الإمكان. انتهى كلامه. لم يبين الوجه المقابل للأصح، وقد بينه في الباب الثاني من كتاب الطلاق، فإنه رجح أيضًا هناك انعقاد البيع بالكتابة وأنه يشترط أيضًا القبول لورود الكتاب ثم قال ما نصه: وفي وجه لا يشترط ذلك، ويراعى التواصل اللائق بين المتكاتبين، وقد أشرنا إلى ذلك كله في أوائل البيع. هذا لفظه. واستفدنا منه أن ذلك الوجه هو الذى أشار إليه هنا، وقد ذكر الرافعي في النكاح أنا إذا صححنا انعقاده بالمكاتبة فيكفي وقوع القبول في مجلس الخبر وسأذكره في موضعه إن شاء الله تعالى لكلام فيه ينبغي الوقوف عليه.

وإذا قيل بذلك في النكاح لزم القول به في البيع بطريق الأولى، وحينئذ فيصح أن تكون الإشارة إلى هذين الوجهين. قوله: وفي مسودات بعض أئمة طبرستان تفريعًا على انعقاد البيع بالمكاتبة أنه لو قال: بعت دارى من فلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر قال: قبلت ينعقد لأن النطق أقوى من الكتابة وقال أبو حنيفة: لا ينعقد. انتهى كلامه. والذى تلخص أي: من كلامه وكلام النووي أن الراجح في هذه المسألة هو المنع، وسأذكر ذلك في كتاب النكاح في الكلام على الصيغة فاعلمه. قوله: نعم. لو قال: بعت من فلان وأرسل إليه رسولًا بذلك وأخبره به فقبل انعقد كما لو كاتبه. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد أسقطها النووي من "الروضة". قوله: وذكر في "الوسيط" أن الظاهر انعقاد البيع المقيد بالإشهاد بالكتابة إذا [توفرت] (¬1) قرائن الأحوال وأفادت التفاهم. انتهى. وما نقله عن الغزالى وأقره عليه ذكر مثله أيضًا النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وأنكره ابن الرفعة في "المطلب" فقال: إنه مخالف لكلام الأئمة. قوله من "زياداته": قال الغزالى في "فتاويه": لو قال: باعك الله أو أقالك الله فهو كناية. انتهى ملخصًا. هذه المسألة ذكر الرافعي نظيرها في الكلام على كنايات الطلاق، وحكى فيها وجهين من غير ترجيح فقال: فيما إذا أسند الطلاق إلى الله تعالى، أو أسند العتق أو الإبراء فقال مثلًا: أبرأك الله أنه صريح عند العبادي، وكناية عند البوشنجي، وهذه المسألة مثلها. ¬

_ (¬1) في جـ: قويت.

قوله: وكلام الغزالي يقتضى اعتبار الصيغتين فيما إذا باع الرجل مال ولده من نفسه أو بالعكس، وفيه وجهان ربما نوجههما في غير هذا الموضع، انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصرح أيضًا في "الشرح الصغير" بتصحيح. والأصح: أنه لابد منهما ففي "المحرر" و"المنهاج" اشتراط الصيغتين من غير تفصيل. وصرح بتصحيحه أيضا في "شرح المهذب" وهو المذكور في "الحاوى الصغير" وذكر الماوردي في باب الحجر وجهًا ثالثًا أنه لا حاجة إلى لفظ بالكلية، بل ينعقد بالرضى، وهو قوي. الأمر الثاني: أن هذا الخلاف له شرط نقله الرافعي في باب الهبة عن الإمام وأقره عليه فقال بعد حكاية هذين الوجهين: قال الإمام: وموضع الوجهين في القبول ما إذا أتى بلفظ مستقل كقوله: اشتريت لطفلى أو اتهبت له أما إذا قال: قبلت البيع والهبة، فلا يمكن الاقتصار عليه بحال. قوله في أصل "الروضة" في الوجهين المتقدمين وسيأتيان إن شاء الله تعالى بفروعهما في باب الخيار. انتهى. وهذا الذى قاله من ذكرهما في باب الخيار ليس كذلك، نعم ذكر تفاريع وجه الصحة من غير تعرض إلى خلاف فيه، ولعل السبب في قول النووي ذلك أن الرافعي قال فيه وجهان ربما نوجههما في غير هذا الموضع فرأى النووي تفريع الصحة في باب الخيار فظن أن الرافعي ذكرهما أيضًا: نعم ذكرهما الرافعي في باب الحجر. قوله: يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول ولا يتخللهما كلام أجنبى .. إلى آخره. اعلم أن الحكم بالبطلان عند تخلل الكلام الأجنبى فيه كلام يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في النكاح.

قوله في "الروضة": ولو مات المشترى بين الإيجاب والقبول ووارثه حاضر فقبل فالأصح المنع، وقال الداركى: يصح. انتهى كلامه. وتعبيره هنا بالأصح يقتضى قوة الخلاف، وليس كذلك فقد قال الماوردى والمحاملي: إن الداركى خالف فيه الإجماع. وقال في "شرح المهذب" ما نصه: وبالبطلان قطع الأصحاب في كل الطرق، وحكى الرويانى وجهًا أنه يصح قبول الوارث، وهذا شاذ باطل. هذا لفظه، وهو في غاية التباين. قوله: ويشترط موافقة القبول للإيجاب، ثم قال: ولو قال بعتك هذا بألف فقال: قبلت نصفه بخمس مائة ونصفه بخمس مائة قال في "التتمة": يصح العقد لأنه تصريح بمقتضى الإطلاق، ولك أن تقول إشكالًا سيأتى القول في أن تفصيل الثمن من موجبات تعدد الصفقة. وإذا كان كذلك فالبائع هاهنا أوجب بيعة واحدة والقابل قبل بيعتين لم يوجبهما البائع. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الروضة" وينبغى أن يتفطن إلى أن الرافعي قد ساق مقالة صاحب "التتمة" مساق الأوجه الضعيفة، لأنه نقله عنه بعد أن قرر اشتراط مطابقة القبول للإيجاب في المعنى، وهو منتف هاهنا، لكن في "شرح المهذب" أن الظاهر الصحة، وقد علمت مدرك هذا الوجه ومدرك مقابله. وهذه المسألة لها أصل يستند إليه ذكره الرافعي في كتاب النكاح في الكلام على الموانع قبل الفصل الرابع المعقود للكفر فقال فيما إذا جمع بين حرة وأمة في عقد واحد إن نكاح الأمة يبطل، ويصح نكاح الحرة على الصحيح. وموضع الخلاف فيما إذا قال: زوجتك هذه وهذه بكذا، فقال: قبلت نكاحهما.

فأما إذا قال: زوجتك بنتى هذه، وزوجتك بأمتى هذه فقال: قبلت نكاح بنتك، وقبلت نكاح أمتك، فنكاح البنت صحيح بلا خلاف. ثم قال: ولو فصل المزوج وقال الزوج: قبلت نكاحهما، أو جمع المزوج وفصل الزوج فهو كما لو فصلا جميعًا، أو كما لو جمعا جميعًا؟ وجهان أصحهما الأول. انتهى. قوله: وفي "فتاوى القفال" أنه لو قال: بعتك بألف درهم فقال: اشتريت بألف وخمسمائة صح البيع، وهو غريب. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا النقل عن القفال إنما ساقه الرافعي أيضًا مساق الأوجه الضعيفة فاعلم ذلك، وقد صرح بمسألة القفال في الباب الثاني من أبواب الوكالة قبيل الكلام على ما إذا وكله في شراء شاة فاشترى شاتين، وجزم بالبطلان وكذا جزم به أيضًا في كتاب الخلع في الكلام على جعله طلاقًا، وجزم به الإمام والقاضي الحسين كان في كتاب الخلع والماوردى هنا، والهروى في "الإشراف" ولم يقف النووي هنا على شئ من هذه النقول، ولم يتفطن لكونه سيق مساق الأوجه الضعيفة، ورأى أن المتوجه هو البطلان، فأجاب به تفقهًا، أعنى في "شرح المهذب" فقال: الظاهر فساد العقد، وإذا قلنا بالصحة صح بالألف فقط ولغى ذكر الخمسمائة كما أشار إليه الإمام. ولو ابتدأ المشترى فأجاب البائع بأنقص أو ضم معه عينًا أخرى فهو نظير المسألة، وقد ذكرهما الرافعي في الطريق الثاني من الباب الرابع من كتاب الخلع، وصحح البطلان. وقيل: يصح بما أجاب به البائع منهما، وقيل فيما إذا ضم عينًا أخرى أنه يصح ولكن في المسئول. الأمر الثاني: أن هذا النقل الذى نقله الرافعي عن "فتاوى القفال" وتبعه

عليه النووي في "الروضة" وغيرها غلط، ففي "فتاوى القفال" التصريح بعكسه فقال: مسألة إذا قال بعتك هذا الثوب بألف درهم مؤجلة إلى شهر بشرط خيار الثلاث، فقبل أن يفرع هو قال المشترى اشتريت، فإن ذلك لا يجوز ما لم يتم أخر حرف من كلامه، وعلى هذا لو قال: زوجتك ابنتى بألف مؤجلة إلى شهر. فقبل قبل أن يفرع هو من آخر حرف من هذا الكلام قال: قبلت فإن ذلك لا يصح ولا ينعقد النكاح لأنه من باب الإيجاب والاستيجاب كالبيع، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا بألف، فقال: اشتريته بألف وخمسمائة، لا ينعقد البيع أما إذا وكل وقال بع هذا بألف فباع بألف وخمسمائة جاز، ولو وكله أن يزوج ابنته بألف فروج بخمس مائة، فإن النكاح لا ينعقد. كذا قال الشيخ -رحمه الله- بخلاف ما لو قال: للولى: زوجنى من فلان بألف، فزوج بخمسمائة فإن النكاح ينعقد، ولها مهر المثل. هذا كلام القفال في "الفتاوى" بحروفه ومن نسخة معتمدة كانت لابن الصلاح وعليها خطه نقلت. ذكر ذلك بعد نحو ستة أوراق من أول الكتاب من "الفتاوى" التى ليست مرتبة. نعم ذكر أعنى: القفال بعد هذا بدون الورقتين كلاما يوهم خلافه، فقال: مسألة إذا قال: بعنى هذا بألف درهم. فقال: بعتك بخمس مائة، صح ولا يحتاج أن يقول: قبلت، وكذا لو قال: بعتك بألف. فقال: اشتريت بألف وخمسمائة، جاز إن وجد البيع مرة أخرى. هذه عبارته. فلم يقتصر على الحكم بالجواز. بل جعل الجائز وجدان المبيع مرة غير

هذه، وأشار بذلك إلى اشتراط القبول بعده، فلم يقف الرافعي على المسألة السابقة ووقف على هذه ذاهلًا عن اللفظ المذكور في آخرها وهو عجيب. نعم استغراب الرافعي له يدل على عظم قدره. قوله: في "أصل الروضة": فرع: لو قال: بعتك بألف. فقال: قبلت، صح قطعًا بخلاف النكاح فإنه يشترط فيه على رأى أن يقول: قبلت نكاحها احتياطًا للأبضاع. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من نفي الخلاف قد ذكره أيضًا في "شرح المهذب" بعبارة هى أصرح من هذه فقال: يصح البيع بلا خلاف. هذا لفظه، وليس كما ذكره من نفي الخلاف، وقد أعادها الرافعي في كتاب النكاح في الكلام على الصيغة، وحكى عن الحناطى أنه نقل فيها وجهين، وذكره أيضا النووي في "الروضة" ولم يصرح الرافعي هنا بدعوى القطع. الثاني: أن هذا الكلام ليس فيه تصريح بأن (قبلت) وحدها من الصرائح أو الكنايات؟ وقد ذكر الرافعي في كتاب النكاح ما يدل على أنها كناية، فقال فيما إذا قال: قبلت ولم يقل: "تزويجها" ولا "نكاحها" ما نصه: وأصح الطرق أن المسألة على قولين: أحدهما: الصحة، لأن القبول ينصرف إلى ما أوجبه فكان كالمعاد لفظا. وأظهرهما: المنع، لأن لم يوجد منه التصريح بواحد من لفظى الإنكاح والتزويج والنكاح لا ينعقد بالكنايات. هذا لفظه، وهو صريح في أن للتقدير الواقع بعد (قبلت) ألحقه هناك بالكنايات فيكون أيضًا كناية هنا وهو المدعى. فإن قيل: بل هو صريح للتقدير.

قلنا: المقدر إن كان كالملفوظ به حتى تصير (قبلت) هنا صريحًا كقبلت البيع فيكون المقدر في النكاح أيضا كالملفوظ به حتى تصير (قبلت) صريحًا كقبلت النكاح، وحينئذ فينعقد النكاح به، وإن لم يكن المقدر كالملفوظ به، بل تكون (قبلت) وحدها ملحقًا بالكنايات حتى لا ينعقد بها النكاح، فيلزم أن تكون (قبلت) وحدها في البيع كناية فالقول به في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه، بل هى مسألة واحدة أخذت طرفًا من اللغة وطرفًا من العقل. قوله: ويعتبر في المتعاقدين التكليف .. إلى آخره. أهمل من شروطهما شرطًا آخر، وهو الاختيار فإن بيع المكره بغير حق لا يصح، وقد استدركه في "الروضة" وأهمل أيضا عدم الحجر للاحتراز عن السفيه ونحوه، وعبر في "المنهاج": بالرشيد، وهو تعبير فاسد كما نبهت عليه في شرحى له. قوله: من "زياداته": ولا يصح بيع السكران ولا شراؤه على المذهب، وإن كان غير مكلف كما تقرر في كتب الأصول، وسنوضحه في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن سلب التكليف عن السكران قد تكرر منه في غير موضع وهو كلام ساقط فإن الصحيح عند الفقهاء أن السكران كالصاحى في تصرفاته سواء كانت تنفعه كقبول الهدية والوصية وغيرهما، أو تضره كالطلاق وكذلك موجبات الحدود ونحوها، وهذا هو معنى التكليف، غير أن الأصوليين صححوا أنه ليس مكلفًا حتى أنه يعامل معاملة غير المكلفين في إبطال أثر هذه الأشياء كلها سواء كانت له أو عليه، فخلط النووي طريقة

الفقهاء بطريقة الأصوليين، فإنه نفي التكليف عن السكران ومع ذلك حكم بصحة تصرفاته وهما طريقان لا يمكن الجمع بينهما. وليت شعري ما الذي فهمه من معنى التكليف حتى أنه نفاه عن السكران مع القول بتنفيذ تصرفاته سواء كانت له أو عليه ومؤاخذته بما صدر منه حتى تقام عليه الحدود والتعازير وتوجب عليه الكفارات، ويحكم بالطلاق والعتاق إلى غير ذلك، نعم إبطال الصلاة ونحوها كفقدان النية وهو واضح. الأمر الثاني: أن الشافعي قد نص على أنه مكلف على عكس ما قاله النووي، كذا نقله عنه الرويانى في كتاب الصلاة، ورأيته أيضًا منصوصًا عليه في "الأم" في باب طلاق السكران فقال ما نصه: فإن قال قائل فهذا مغلوب على عقله والمريض والمجنون مغلوب على عقله قيل المريض مأجور ويكفر عنه بالمرض مرفوع عنه القلم إنها ذهب عقله، وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب. انتهى كلامه. واعلم أن هذا النص يدل على فائدة حسنة فلنذكرها وإن كانت أجنبية عما نحن فيه ثم نعود إلى ما نحن فيه، فنقول: اعلم أن الشيخ عز الدين قد ذكر في "القواعد الكبرى" أن المصائب ليس فيها بنفسها أجر. فقال: وظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور على مصيبته وهو خطأ صريح فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب بمباشرة أو تسبب قال الله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) والمصائب ليست منها، بل إن صبر فله أجر الصابرين، وإن رضى فله أجر الراضيين. هذا كلامه، والنص المتقدم عن الشافعي يرد عليه فإنه حكم بأجره مع زوال عقله، ومن المعلوم انتفاء الصبر والرضى في تلك الحالة. الأمر الثالث: أن ما ادعاه من إيضاحه في كتاب الطلاق ليس الأمر فيه ¬

_ (¬1) سورة النمل (90).

كذلك، بل ذكره هناك بعبارة تدل على أنه أضعف إيرادًا وأكثر فسادًا وسنذكره هناك فراجعه. قوله: ولو فتح الصبى بابًا وأخبر بإذن أهل الدار في الدخول أو أوصل هدية وأخبر عن إهداء مهديها نظر إن انضمت إليه قرائن تفيد العلم جاز الاعتماد، وهو في الحقيقة عمل بالعلم لا بقوله، وإن لم تنضم فإن كان عارمًا غير مأمون لم يعتمد، وإلا فطريقان: أصحهما القطع بالقبول. والثانى على وجهين في قبول روايته. انتهى ملخصا. اعلم أن النووي -رحمه الله- قد ذكر المسألة في باب الوكالة واقتصر فيها على طريقة الوجهين وهي الطريقة التى ضعفها في هذا الباب وذكرها أيضًا من زوائده في باب الهبة، وقال: إنه يعتمد على قوله بالاتفاق فاختلف كلامه فيها من ثلاثة أوجه. والعارم بالعين والراء المهملتين قال الجوهرى: وصبي عارم من العرام بالضم في شرس يعنى سيء الخلق كثير الخلاف، وقد عرم يعرم ويعرم أى بالضم والفتح عرامة بالفتح أيضًا. قوله: لكن لو اشترى الكافر عبدًا مسلمًا ففي صحته قولان: أصحهما: أنه لا يصح. ولو اشترى مصحفًا أو شيئًا من أخبار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففيه طريقان: أحدهما: طرد القولين. وأظهرهما: القطع بالبطلان. والفرق أن العبد يمكنه الاستتابة، دفع الذل عن نفسه. . . . إلى آخره. انتهى. فيه [أمران] (¬1): ¬

_ (¬1) في جـ: أمور.

[أحدهما] (¬1): ذكر النووي أن الخلاف في بيع العبد والمصحف و [كتب الفقه] (¬2) إنما هو في صحة العقد. وأما التحريم فلا خلاف في ثبوته، كذا نبه عليه النووي في "الزيادات" و"شرح المهذب". وما قاله مردود، ففي "الإيضاح" للصيمرى بالنسبة إلى كتب الفقه ما يخالفه فقال: وأما إذا اشتروا كتب الفقه والطب والنحو، فلا حرج عليهم. وزعم بعض أصحابنا أن النصرانى إذا ابتاع كتاب المزنى كان كمن ابتاع مصحفًا، والصحيح خلافه. الأمر الثاني: أن ما صححه من طريقة القطع في المصحف وما بعده قد تابعه عليه في "الروضة". ثم إنه جزم في "المنهاج" من زياداته بطريقة القولين وكذلك في باب الأحداث من "شرح المهذب"، ولم يصحح هنا شيئًا من الطريقين. قوله: وامتنع الماوردى في "الحاوى" من إلحاق كتب الحديث والفقه بالمصحف، وقال: إن بيعها منه صحيح لا محالة. انتهى كلامه. والذى نقله "الحاوى" وتابعه عليه في "الروضة" هو مذكور فيه في هذا الباب، لكنه في كتاب عقد الذمة [فقال] (¬3): فصل في كتب الحديث فقال: إن كان المذكور فيها سيرته وصفته فالأمر كذلك أي: من الجواز قطعًا وإن كان فيها كلامه من أمره ونهيه وأحكامه ففي البيع وجهان. قوله في أصل "الروضة": فرع. يجوز أن يستأجر الكافر مسلمًا على عمل في الذمة، ويجوز أن يستأجر عينه على الأصح، حرًا كان أو عبدًا. ¬

_ (¬1) في جـ: أحدها. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من جـ.

فعلى هذا هل يؤمر بإزالة ملكه عن المنافع بأن يؤجره مسلمًا؟ وجهان، قطع الشيخ أبو حامد بأنه يؤمر. انتهى كلامه. فيه أمرأن: أحدهما: أن حكاية الخلاف في جواز الإجارة لم يصرح به الرافعي، وإنما حكى الخلاف في الصحة، ولا يلزم من الصحة الجواز، وقد نقدم في الشراء ما يوضحه أيضًا. الأمر الثاني: أن الصحيح من الوجهين الأخيرين أنا نأمره بالإزالة، كذا صححه النووي في "شرح المهذب". وللماوردي في المسألتين تفصيل حسن ذكره في باب الحكم بين المهاديين فقال: والصحيح عندى أن الإجارة إن كانت معقودة على عمل يعمله الأجير في يد نفسه وراثة كالخياطة صحت وإن كانت كالخرمة فلا. فإن صححنا الإجارة فإن كان مما يعمله الأجير في يد نفسه أخذ بعمله، وإن كان في يد المستأجر وناشئًا عن أمره أمرناه بإجارته. وقال في باب كراء الإبل: إنه إذا لم ينقلها الكافر من نفسه إلى مسلم، وإلا فسخها الحاكم عليه. قوله من زياداته: وإذا صححنا إجارة عينه فهى مكروهة. نص عليه الشافعي. انتهى. وما نقله عن الشافعي من كراهته، ولم يحك فيه خلافًا يشكل على الرهن، فإنا إذا صححنا رهن المسلم والمصحف من الكافر ففي تحريمه وجهان ذكرهما النووي في "الروضة" من "زياداته" واقتضى كلامه أن التحريم أرجح لكون القائلين به أكثر. وأيضًا فقد جزم بتحريم شراء المسلم وغيره كما تقدم على القول

بالصحة. ولهذا قال الصميرى في "الإيضاح" في باب تبديل أهل الذمة: إنهم حملوا الكراهة في كلام الشافعي هنا على التحريم. قوله: ولا خلاف في جواز إعارته منه. انتهى. وليس الأمر كما قال من نفى الخلاف، فقد جزم الشيخ في "المهذب" و"التنبيه" بالتحريم، وكذلك الجرجاني، وقد استدرك النووي في "الروضة" عليه ذلك. واعلم أن ما سبق من أنه إذا استأجره مسلمًا وصححنا الإجارة يجبر على نقلها لغيره بأن يؤجرها كما قاله في "الروضة" بشكل يجوز إعارته ليخدمه، واستعماله فيها، فإنه إذا جاز بلا عوض فبالعوض أولى لأنه حينئذ يكون عاملًا لنفسه. ومعنى الإمتهان موجود في الصورتين. والفرق من جهة المعنى غير واضح. قوله: وإذا باع الكافر عبدًا مسلما بثوب فوجد بالثوب عيبًا رده، وهل له استرداد العبد؟ فيه وجهان: أظهرهما على ما ذكره صاحب "الكتاب" أن له ذلك. انتهى ملخصًا. وما رجحه الغزالى هو الراجح؛ فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين. والنووي في "الروضة" و"شرح المهذب": إنه الصحيح. قوله: ولو وكل المسلم كافرًا ليشترى له عبدًا مسلمًا فإن سمى الموكل في الشراء صح وإلا [فإن قلنا يقع الملك للوكيل أولًا لم يصح] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

قإن قلنا: يقع للموكل صح. انتهى. وهذا الذى ذكره من الجواز عند تسميته [إذا قلنا بالمذهب أنه يقع] (¬1) للموكل ابتداء، فذكر قبل كتاب الصداق في نظيره نقلًا عن البغوى ما يخالفه، فإنه جزم بأنه لا يجوز أن يوكل المسلم كافرًا في قبول نكاح المسلمة، وتبعه في "الروضة" عليه، ونقله في "الروضة" إلى الباب الرابع في بيان الأولياء، وزاد على ذلك فذكره أيضا من "زوائده" في أوائل الوكالة جازمًا به، وستعرف الموضعين في بابيهما. ولا شك أن البضع لا يقع للوكيل بلا خلاف فأقل مراتبه أن يكون نظير ما إذا صرح بالسفارة، أو قلنا: لا ينتقل. وكونه نكاحًا لا أثر له لاسيما وصحة الشراء من الوكيل شرطها توجه الخطاب إليه بأن يقول: بعتك. حتى لو قال: بعت موكلك لم يصح. وأما التزويج فشرط صحته من الوكيل صرفه عنه بأن يقول: زوجت موكلك، فإن قال: زوجتك لم يصح. لا جرم أن الإمام قال في كتاب الخلع: إنه يجوز توكيل الكافر في إيجاب مسلمة على المذهب الظاهر. ويؤخذ من تجويز الإمام ذلك تجويزه في القبول بطريق الأولى. وذكر الإمام أيضًا في كتاب الوصية عند الكلام في الوصية يزوجه وارثه لأجنبى ما حاصله: أنه إذا اشترى زوجته بطريق الوكالة لغيره وقلنا: إن الملك ينتقل للوكيل ثم الموكل لا ينفسخ النكاح. قوله في أصل "الروضة": فرع. لو اشترى كافر مرتدًا فوجهان لبقاء علقة الاسلام كالوجهين في قتل المرتد بالذمى. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من الوجهين في الشراء هو عدم الصحة. كذا صححه هو في "شرح المهذب" وعبر بالأصح فاعلمه. وهذا الكلام مذكور هنا قد ذكره الرافعي أيضا، وهو يشعر بصحة البيع لأن الصحيح في المسألة المشبهة بها هو وجوب القصاص. الأمر الثاني: أن الخلاف في إيجاب القصاص ليس هو وجهين كما قاله هنا، بل هو قولان كما جزم به هو والرافعي في كتاب الجنايات. وهذا الاعتراض لا يتوجه على الرافعي لأنه لم يصرح بقولين ولا وجهين، بل عبر بلفظ الخلاف فغيره النووي إلى ما تراه. قوله: إذا كان في ملك الكافر عبد فأسلم لم يزل ملكه عنه، ولكن لا يقر في يده، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه. ثم قال: ولا تكفي الحيلولة. نعم [لا تكفي] (¬1) الكتابة في أظهر الوجهين. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد جعل الخلاف وجهين أيضًا، ثم خالف في "شرح المهذب" فقال: وفي الكتابة قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما، وحكاهما إمام الحرمين والغزالي وجماعة وجهين: أصحهما باتفاقهم الاكتفاء بها. هذا لفظه. والصواب أنهما قولان فقد نص عليهما الشافعي في "الأم" في كتابة النصراني فقال: ولو أن نصرانيًا ابتاع عبدًا مسلمًا، أو كان له عبد نصراني ¬

_ (¬1) في جـ: تكفي.

فأسلم ثم كاتبه بعد إسلام العبد على دنانير أو دراهم أو شيء تحل كتابة المسلمين عليه أو لا تحل ففيها قولان. أحدهما: أن الكتابة باطلة لأنها ليست بإخراج له عن ملكه. ثم قال: والقول الثاني أن النصرانى إذا كاتب عبده المسلم بشئ يحل فالكتابة جائزة، فإن عجز بيع عليه، وكذا إذا اختار التعجيز بيع عليه. هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. فثبت أن الخلاف في الاكتفاء قولان منصوصان، ومراد الشافعي هنا في القول الثاني بالجائز هو الاكتفاء به بدليل قوله: فإن عجز بيع عليه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من أن الحيلولة لا تكفي، وأنه لابد من إزالة الملك يستثنى منه ما إذا كان قد دبره قبل إسلامه، فإنه لا يكلف إزالة ملكه عنه في أصح القولين، بل تكفي الحيلولة لما فيه من مصلحة العتق. هكذا ذكره [الرافعي في التدبير حكمًا وتعليلًا. فأما إذا وقع التدبير] (¬1) بعد الإسلام ففي الاكتفاء به وجهان نقلهما الإمام في باب المهادنة عن صاحب "التقريب"، ونقلها أيضًا في "الذخائر"، وجزم الرافعي في الشرحين بأنها لا تكفي. وذكر ذلك في باب الكتابة، استدل به للقائل بأن الكتابة لا تكفي في إبقاء المسلم على ملك الكافر فقال: الكتابة لا تزيل الملك فصار كما لو دبره أو علق عتقه بصفة. وقد ذكر المسألتين في "المحرر" فقال: ولو كان للكافر عبد مسلم فدبره ينقض تدبيره، ويباع عليه، وإن دبر عبده الكافر ثم أسلم العبد ولم يرجع السيد عن التدبير فينقص التدبير ويباع أو ينزع من يده، ويصرف كسبه إلى سيده؟ فيه قولان: أحسنهما الثاني. هذا لفظه. وتبعه النووي عليه في "المنهاج". والنقض الذى ذكره في "المحرر" هل معناه إبطاله بعد الحكم بصحته حتى لو مات السيد قبل إبطاله عتق العبد، أو معناه الحكم ببطلانه من أصله ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وعلى الأول فهل يتوقف ذلك على لفظ أم لا؟ فيه نظر. وحكى الإمام في باب المهادنة في تعليق العتق طريقين: أحدهما: أنه كالتدبير. والثاني: لا يكفي قطعًا. وحكاهما أيضًا في "الذخائر". قوله في أصل "الروضة": ولو أسلمت مستولدة كافر فلا سبيل إلى نقلها إلى غيره بالبيع والهبة ونحوهما على المذهب. وهل يجبر على إعتاقها؟ وجهان. الصحيح: لا يجبر، بل يحال بينهما، وينفق عليها وتستكسب له في يد مسلم. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بالمذهب يقتضى أن في المسألة طريقين، فإن هذا هو اصطلاحه مع أن الرافعي لم يحكمها، ولم يصرح أيضًا بهما غيره، فاعلمه. فإن تعبير النووي في غير هذا الموضع قد يوهم ذلك، والسبب في تعبير المصنف بهذا أن الرافعي عبر بالمذهب، ولا اصطلاح له فيه، فتبعه عليه المصنف ذاهلًا عن اصطلاحه. الأمر الثاني: أن هذا الكلام صريح في -استكسابها- في يد رجل، فإنه عبر بقوله: (مسلم) وهذا سهو. وقد ذكره في كتاب أمهات الأولاد على الصواب فقال: تجعل عند امرأة ثقة. هذا لفظه.

والرافعي سالم من هذا الاعتراض، فإنه عبر هنا بقوله: وتسكتسب له في يد غيره. هذا لفظه فغيره النووي إلى ما تراه. الثالث: أن الشيخ في "التنبيه" قد عبر في كتاب النفقات عن هذين الوجهين باحتمالين، وجعل محلهما عند تعذر استكساب الأمة. وصرح به أيضًا النووي في "تصحيحه" على خلاف المذكور هنا من إجراء الخلاف مطلقًا، إلا أن الشيخ لم يصور المسألة بمن أسلمت عند كافر بل فيما إذا عجز السيد عن الإنفاق عليها أي: على أم الولد، ولا فرق بين التصويرين في هذا المعنى. قوله من "زياداته": قال المحاملي في "اللباب": لا يدخل عبد مسلم في ملك كافر ابتداء إلا في ست مسائل: إحداها: بالإرث. الثانية: يسترجعه بإفلاس المشتري. الثالثة: يرجع في هبته لولده. الرابعة: إذا رد عليه بعيب. الخامسة: إذا قال المسلم أعتق عبدك عني فأعتقه وصححناه. السادسة: إذا كاتب عبده الكافر وأسلم العبد ثم عجز عن النجوم فله تعجيزه. وهذه السادسة فيها تساهل، فإن المكاتب لا يزول الملك فيه ليتجدد بالتعجيز، وترك السابعة وهي ما إذا اشترى من يعتق عليه والله أعلم. انتهى كلام النووي. ووافقه عليه ابن الرفعة في "المطلب" وغيره، والعجب منهما في هذا الكلام فقد تركا مع هذه المسألة السابعة التى اعتقدا أن لا ثامن لها مسائل كثيرة تزيد على ثلاثين مسألة: إحداها: وهي في أبواب البيع: أن يرجع إليه بتلف معاملة قبل

القبض، وفي معناه ما إذا أتلفه متلف، فإنا نخير البائع، فإذا خيرناه فاختار الفسخ عاد العبد إلى ملك البائع الكافر. الثانية: أن يبيع الكافر عبدًا مسلمًا بثوب، ثم يجد بالثوب عيبًا فإن له أن يرد الثوب ويسترد العبد على الصحيح كما ذكره الرافعي والنووي في هذا الباب. الثالثة: إذا تبايع كافران عبدًا كافرًا فأسلم العبد قبل القبض، فإن المشترى يثبت له الخيار إذا قلنا: يمتنع عليه قبضه. كذا قاله الإمام. وامتناع القبض قد صححه الرافعي والإمام، فإذا فسخ فقد دخل المبيع المسلم في ملك البائع الكافر. الرابعة: إذا باع الكافر العبد المسلم لمسلم بشرط الخيار للمشترى، فإن الصحيح أن الملك لمن له الخيار، وبالفسخ يدخل في ملك الكافر. [الخامسة: إن تبايع كافران، كافرًا بشرط الخيار للبائع فيسلم العبد فإنه يدخل في ملك الكافر] (¬1) بانقضاء خيار البائع. السادسة: أن يرده عليه لا بالعيب، بل لفوات شرط كالكتابة والخياطة ونحوهما. ولو قيل بأنه يمتنع على المشترى رده بالعيب إذا وقع الإسلام في يده لكان متجهًا لما حدث عنده من السبب المقتضى لرفع يده ويد أمثاله من الكفار عنه. السابعة: إذا اشترى ثمارًا بعبد كافر فأسلم ثم اختلطت الثمار وفسخ العقد كما هو مقرر في بابه. الثامنة: إذا كان للكافر عبد مسلم مغصوب فباعه ممن يقدر على انتزاعه فعجز عن قبضه، فإن للمشترى أن يفسخ. ومثله ما إذا باعه، وهو غير مغصوب فغصب قبل قبضه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

التاسعة: إذا باعه من مسلم رآه قبل العقد ثم وجده المسلم متغيرًا عما كان فله الفسخ. العاشرة: أن يبيعه لمسلم وماله غائب في مسافة القصر فللكافر الفسخ لتضرره بالصبر إلى إحضار الثمن. الحادية عشرة: أن يبيعه بصبرة من طعام، ثم يظهر أن تحتها دكة أو غيرها فله الفسخ لأنه كالتدليس. الثانية عشر: أن يبيع العبد المسلم لمسلم ثم يتقايلا فإنه لا يجوز إن جعلنا الإقالة نفعًا. فإن جعلناها فسخًا وهو الصحيح فعلى الوجهين في الرد بالعيب كما قاله الرافعي. الثالثة عشرة: من باب السلم أن يجعل الكافر عبده المسلم رأس مال سلم أو يجعل عبده الكافر كذلك، ثم يسلم العبد، وينقطع السلم فيه، فإن الفسخ جائز. وحينئذ فيعود المسلم إلى ملك الكافر على قياس ما سبق من المسائل. الرابعة عشر: وهي من باب القرض أن يقرض عبده الكافر فيسلم العبد في يد المقترض فيجوز للمقترض الكافر أن يرجع فيه كما جوزنا له الرجوع في الهبة على ما سبق، بل أولى لأن القرض وضع للرجوع في شيء. أما العن المقترضة أو مثلها بخلاف الهبة فإنها لم توضع لذلك، بل الغالب على الواهبين، وإن كانوا أصولًا عدم الرجوع. وهذه المسألة إنما تستثنى إذا فرعنا على أن ما لا مثل له يرد مثله صور. وعلى أن المقترض يجوز له أن يرجع في غير ما أعطاه وهو الصحيح فيهما. ولو أسلم في ملك الكافر فأقرضه لمسلم أو وهبه لولده المسلم فمقتضى

إطلاقهم الأمر بإزالة الملك أنه يكفي ذلك، وحينئذ فلا يختص جواز الرجوع بالمال المتقدم. نعم في الاكتفاء بهما نظر ظاهر، ويحتمل الاكتفاء ويمتنع الرجوع. الخامسة عشر: وهي من باب الرهن ذكرها الرافعي فيه، وهي ما إذا ورث الكافر عبدًا مسلمًا أو كافرًا فأسلم في يده، ثم باعه، ثم ظهر دين على التركة أو حدث برد مبيع بعيب ونحوه فلم يقض الوارث الدين فإن الأصح فسخ البيع فيه، ويعود إلى ملك الوارث متعلقًا به الدين. السادسة عشر: وهي من باب الوكالة أن يتوكل في شراء كافر معين أو غير معين فاشتراه ثم أسلم، وظهر أنه معيب، وأخر الوكيل الرد فلم يرد المالك أيضا فإنه يقع عن الوكيل كما أوضحوه في باب الوكالة. وحينئذ فقياس ما سبق من الصور عوده إلى ملك الكافر. السابعة عشر: وهي من باب القراض أن يشترى العامل الكافر عبيدًا للقراض ثم يقتسمان بعد إسلامهم، فإن قياس المذهب صحته. وحينئذ فيدخل المسلم في ملكه لأن العامل لا يملك حصته إلا بالقسمة. الثامنة عشر: أن يجعله أجرة أو جعلًا، ثم يقتضى الحال فسخ ذلك بسبب من الأسباب. التاسعة عشر: إذا التقط ملتقط شخصًا محكومًا بكفره بشرطه المعروف، وهو إما عدم التمييز أو في وقت النهب والغارة فأسلم، ثم أثبت كافر أنه كان ملكه، فإنه يرجع فيه، فإنهم قد صرحوا بأن التملك بالالتقاط كالتملك بالقرض. العشرون: وهي من باب الوقف أن يقف على كافر أمة كافرة فتسلم ثم تأتى بولد من نكاح أو زنا فإنه يكون مسلمًا تبعًا لأمه، ويدخل في ملكه لأن نتاج الموقوف ملك للموقوف عليه على الصحيح.

الحادية والعشرون: وهي من باب الوصية أن يوصي لكافر بما تحمله أمته الكافرة من زوجها الكافر فيتقبل الموصى له الوصية بشرطه، ثم تسلم الجارية وتأتى بولد. الثانية والعشرون: وهي من النكاح أن يتزوج المسلم أمة كافرة لكتابى، فإنه يصح على الصحيح بالشروط المعروفة. وحينئذ فإذا أتت بولد فإنه يكون مسلمًا مملوكًا للسيد، وهكذا لو نكحها وهو كافر ثم أسلم. الثالثة والعشرون: إذا وطئ الكافر جارية مسلمة لولده، أو لولده فيها البعض فإنها تنتقل إليه، وتصير مستولدة له. كذا ذكره الرافعي، وهو في "الروضة" مترجم بالباب العاشر. الرابعة والعشرون: إذا وطئ مسلم أمة لكافر على ظن أنها زوجته الأمة فالولد مسلم مملوك للكافر سواء كان الواطئ حرًا أو عبدًا. الخامسة والعشرون: وهي من أبواب الصداق أن يصدق الكافر زوجته عبدًا كافرًا فيسلم العبد ثم يقتضى الحال رجوعه أو بعضه إلى الزوج إما بطلاق أو فسخ بعيب أو إعسار أو إسلام أو فوات شرط أو بالتحالف. السادسة والعشرون: وهي من أبواب الخلع أن يخالع الكافر زوجته الكافرة على عبد كافر فيسلم ثم يقتضى الحال فسخ الخلع فيه إما بعيب أو فوات شرط أو غيرهما، فإنه يرجع إلى الكافرة. السابعة والعشرون: من الجنايات إذا أسلم عبد الكافر بعد أن جنى جناية توجب مالًا يتعلق برقبته، وباعه بعد اختيار الفداء فتعذر تحصيل الفداء أو تأخر لإفلاسه أو غيبته أو صبره على الحبس فإنه يفسخ البيع، ويعود إلى ملك سيده الكافر ثم يباع في الجناية كما قاله الأصحاب. الثامنة والعشرون: إذا حضر الكفار الجهاد بإذن الإمام وكانت الغنيمة

أطفالًا أو نساء أو عبيدًا فأسلموا بالاستقلال أو بالتبعية، ثم اختار الغانمون التملك فقياس المذهب أن للإمام أن يرضخ للكافر مما وجد لتقدم سبب الاستحقاق وهو حضور الوقعة، وحصول الاختيار المقتضى للملك على الصحيح. التاسعة والعشرون: وهي من أبواب القسمة أن يكون بين كافرين أو مسلم وكافر عبيد مسلمون، أو بعضهم مسلم وبعضهم كافر فيقتسمون، وقلنا القسمة اقرار فقياس المذهب يقتضى الجواز. وحينئذ فيدخل المسلم أو بعضه في ملك الكافر. الثلاثون: من أبواب العتق أن يعتق الكافر نصيبه من عبد مسلم. فإن الباقى يدخل في ملكه، ويقوم عليه كما نقله في البيع من "شرح المهذب" عن البغوى وأقره عليه. الحادية والثلاثون: إذا أسلمت أمة الكافر ثم ولدت من غيره بنكاح أو زنا قبل زوال ملكه، فإنه يدخل في ملكه. الثانية والثلاثون: وهي من أبواب الكتابة إن كاتب الكافر عبده المسلم أو كافرًا فيسلم ثم يشترى المكاتب عبدًا مسلما أو تأتى أمته المسلمة بولد من نكاح أو زنا ثم يعجز نفسه، فإن أمواله تدخل في ملك السيد، ومن جملتها المسلم الذى اشتراه وأولاد أمته. الثالثة والثلاثون: وهي من أمهات الأولاد أن تسلم مستولدته ثم تأتى بولد من نكاح أو زنا فإنه يكون مملوكًا له ويثبت له حكم أمه.

الركن الثالث قوله: وللمبيع شروط. . . . إلى آخره. هذه الشروط التى ذكرها موجودة في حريم الملك مع أنه لو باعه وحده لم يصح كما أجاب به العبادى، ونقله عنه الرافعي في باب الإحياء، وأقره. قوله: ويجوز بيع الفيلج، وفي باطنه الدود الميت لأن بقاءه من مصلحته. انتهى. والفيلج بفاء مفتوحة وياء بنقطتين من تحت ولام مفتوحة وجيم وهو القز. قوله من "زياداته": ويجوز بيعه يعنى القز وفيه الدود سواء كان ميتًا أو حيًا، وسواء باعه وزنًا أو جزافًا. صرح به القاضى حسين في "فتاويه". انتهى. وما نقله عن القاضى من جواز البيع وزنًا ونقله عنه أيضًا في "شرح المهذب"، وعن آخرين وادعى أنه لا خلاف فيه، وليس كذلك، بل الصحيح المعروف أنه لا يصح بيعه وزنًا لأن الدود الذي فيه يمنع معرفة مقدار ما فيه من المقصود، وهو القز. وقد جزم به الرافعي في أواخر السلم، وتبعه عليه النووي فقال في الفصل المعقود للإبريسم ما نصه: ولا يجوز السلم في القز وفيه الدود حيًا ولا ميتًا لأنه يمنع معرفة وزن القز، وبعد خروج الدود يجوز. هذا كلامه. وصرح به أيضًا هنا أي: في البيع بخصوصه جماعات كثيرة، منهم إمام

الحرمين في باب النهى عن بيع الغرر عند الكلام على بيع المسك فقال ما نصه: وإنه إن بيع جزافًا جاز تعويلًا على الإشارة، وإن بيع وزنًا لم يجز، فإن الدود لا يقصد بالوزن والقز المقصود بالوزن يكون مجهولًا بسبب الدود. وجزم به أيضًا المحاملى في باب بيع الكلاب فقال: فأما بيع دود القز فإنه ينظر، فإن كان قبل أن ينسج على نفسه القز جاز بيعه جزافًا، وإن كان قد نسجه على نفسه ومات داخله لم يجز بيعه وزنًا، وجاز جزافًا، ومتى نسج ومات ثم عاش ثم نبت له جناح ليثقب القز ثم يطير فلا يجوز بيعه بحال جزافًا ولا وزنًا هذا كلامه، وجزم به أيضًا الرويانى في "الحلية" في باب اختلاف المتبايعين، والعجلى في "شرح الوسيط"، وابن الرفعة في "الكفاية". قوله: وفي بيع بزر القز وفأرة المسك خلاف مبنى على الخلاف السابق في طهارته. انتهى. والبزر بكسر الباء وفتحها، والكسر أفصح هو البيض. ووجه الجواز فيه على القول بالطهارة، وإن كان لا يؤكل لأجل أنه يخرج منه القز، وهو الدود. والقز يجوز بيعه. وهذا الخلاف يطرد في كل بيض لا يؤكل إذا جاز بيع الفرخ الذى يخرج منه كالنسر والصقر بخلاف الرخمة وغيرها لأن هذا البيض لا يؤكل. ويشترط في المبيع أن يكون منتفعًا به، وهذا الذى ذكرته قد صرح به طوائف كثيرون من أصحابنا، منهم ابن الصباغ في "الشامل" في باب النهى عن بيع الغرر فقال: وأما بيض ما لا يؤكل لحمه ففيه وجهان بناء على منبته. أحدهما: أنه نجس، فلا يجوز بيعه.

والثاني: أنه طاهر فيجوز بيعه إذا كان ينتفع به إذا كان يصير فرخًا لأنه لا ينتفع به في الأكل. انتهى. وذكر القاضى أبو الطيب في "تعليقه" نحوه، وكذلك الشاشى في "الحلية" فقال: وفي بيض ما لا يؤكل لحمه من الطيور التى يجوز بيعها وجهان في طهارة منى ما لا يؤكل لحمه، وكذلك المتولى في المسألة الثانية عشر من الباب الثالث فقال: وهكذا بيض ما لا يؤكل لحمه إذا كان فيه نفع، وذلك بأن يحضن تحت طير حي حتى يخرج فيه وجهان بناء على طهارته. انتهى. وهكذا الشيخ في "المهذب" فقال: واختلف أصحابنا في بيع دود القز، وبيض ما لا يؤكل لحمه من الطيور التى يجوز بيعها كالصقر والبازى هذا لفظه وكذلك القاضي مجلي في "الذخائر" فقال: وفي بيض القز وبيض ما لا يؤكل لحمه من الطيور المجوز بيعها كالصقر والبازي .. إلى آخر ما قال. ولما تكلم النووي على هذه المسألة في "شرح المهذب" ومحلها في آخر باب ما يجوز بيعه، وحكى وجهين مطلقين ثم قال: وأما قول المصنف: (من الطيور التى يجوز بيعها) فزيادة لا تعرف للأصحاب، بل الصواب المعروف أنه لا فرق بين بيض ما لا يجوز بيعه، وما لا يجوز مما لا يؤكل لحمه كالرخمة وغيرها، وفي الجميع الوجهان: أصحهما: جواز بيعه لأن الخلاف مبنى كما ذكره المصنف والأصحاب على طهارة هذا البيض ونجاسته، والخلاف فيه شامل. انتهى كلامه. وقد علمت أن ما قاله خطأ صريح مخالف للمنقول والمعقول، وكأنه لم ير في هذه المسألة إلا "النهاية" و"التحرير" للجرجانى، فإنهما أطلقا الخلاف فتوهم أنهما أرادا النوعين ذاهلًا عن اشتراط المنفعة في البيع.

قوله: وهو على ضربين: أحدهما: النجس الذى يمكن تطهيره كالثوب النجس والخشبة النجسة، والآجر النجس بملاقاة النجاسة فيجوز بيعها لأن جوهرها طاهر، وإزالة النجاسة عنه هينة، انتهى. واعلم أنه احترز بقوله: بملاقاة النجاسة عن الآجر المعجون بالزبل فإنه لا يمكن تطهيره كما عرف في كتاب الطهارة. وحينئذ فلا يصح بيعه، ويلزم من ذلك فساد بيع الأشياء المبنية بها كالآدر ونحوها مما عمت به البلوى. ولا فرق فيما تنجس بملاقاة النجاسة وبين المعجون بمائع نجس وبين غيره، لكنه إذا عجن به ثم تحجر بعد الطبخ أي لم يكن رخوًا فإنه لا يطهر إلا إذا دق وصار ترابًا ثم أفيض عليه الماء بخلاف الرخو فإنه يطهر، وهو على هيئته كما ذكروه في الطهارة، ومع ذلك يصح بيع الجميع لإمكان التطهير. قوله: والثاني: ما لا يمكن تطهيره كالخل واللبن والدبس إذا تنجست لا يجوز بيعها. ثم قال: وأما الدهن النجس ففي بيعه خلاف مبنى على أنه هل يمكن تطهيره؟ فإن قلنا: لا يمكن وهو الأظهر امتنع بيعه. وإن قلنا: يمكن، امتنع بيعه أيضًا في أصح الوجهين. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "الشرح الصغير" حكى الخلاف المذكور هنا في طهارة الأدهان في الكلام على إزالة النجاسة، ثم إنه أجراه في كل مائع

تخريجا له على خلاف ما يقتضيه كلامه هنا فقال ما نصه: ولا يبعد أن يطرد الخلاف في الخل والدبس وسائر المائعات لأن إيصال الماء إلى أجزائها بالضرب والتحريك ممكن والغسالة طاهرة على الأصح، فلا يضر بقاؤها. هذا لفظه. وهو ضعيف لأنه إن كان الماء قليلًا فلا يتصور أن يرد على جميع أجزاء المائع المذكور، وهو متغير لاختلاطه به بخلاف الدهن. وإن كان كثيرًا جدًا بحيث يزول اسم المائع خرج عن المقصود، فإن الغرض فيه البيع، وأن يطهره وينتفع به على حاله. الأمر الثاني: في كيفية طهارته على ذلك الوجه. قال الماوردي: وكيفيتها أن يراق الدهن في قلتين من الماء ويحرك أشد تحريك حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه. قال في "شرح المهذب": والصواب أنه إن أورد الدهن على الماء اشترط كون الماء قلتين. وإن أورد الماء لم يشترط كونه قلتين، بل يشترط فيه الغلبة للدهن كما في غسل سائر النجاسات. قوله في المسألة: فهذا ترتيب الأصحاب، وقيل: ما يمكن تطهيره جاز بيعه، وإلا فوجهان. قلت. هذا الترتيب غلط ظاهر، وإن كان قد جزم به في "الوسيط" وكيف يصح بيع ما لا يمكن تطهيره؟ انتهى كلامه. وهذه الطريقة التى ضعفها قوية جدًا، فإن المبيع قد اجتمعت فيه شروط الصحة لأن الفرض أنه طاهر العين غير أنه متجنس، والنجاسة الطارئة لا تمنع الانتفاع به. فقوله: وكيف يصح تطهيره مجرد تهويل ودعوى بلا دليل.

قوله أيضًا من "زياداته": قال المتولى. في بيع الصبغ النجس طريقان. أحدهما أنه كالزيت. والثانى: لا يصح قطعًا لأنه لا يمكن تطهيره، وإنما يصبغ به الثوب ثم يغسل. انتهى. والصحيح هى طريقة القطع، كذا صححها في "شرح المهذب" فقال: إنها المشهور والذي قطع بها الجمهور. قوله: وأما هبة الدهن النجس والصدقة به فعن القاضي أبى الطيب منعهما، ويشبه أن يكون فيهما ما في هبة الكلب من الخلاف. زاد في "الروضة" على هذا فقال: ينبغى أن يقطع بصحة الصدقة به للإستصباح ونحوه. انتهى. اعلم أن التصدق قد يراد به نقل اليد، وقد يراد به نقل الملك. والمراد بما قاله النووي إنما هو نقل اليد، وإن كان كلامه يوهم خلاف ذلك فاعلمه. وقد أوضحه في "شرح المهذب" فقال: وأما قول الرويانى: يجوز نقل اليد عنه فهو كما قال: ولا يجيء فيه خلاف. وأما تمليكه بالهبة والصدقة فينبغى أن يكون على الوجهين في الكلب وأولى بالجواز. قوله من "زياداته": قال الشافعى: لا يجوز اقتناء الكلب إلا لصيد أو ماشية أو زرع وما في معناها، واتفقوا على جواز اقتنائه لتعليم الصيد ونحوه والأصح جواز اقتنائه لحفظ الدور والدروب. انتهى. وأهمل مسألة وهى إتخاذه في السفر للحراسة، فإنه جائز جزمًا على ما قاله الماوردي والعجلى وغيرهما، وجزم به النووي في أوائل مناسك الحج، وجعله مكروهًا.

ونقل في "شرح المهذب" عن القاضي الحسين أنه على الوجهين، واقتصر عليه، وأشار بقوله: وما في معناهما إلى أنه يلتحق النخل والشجر والكرم بالزرع وتلتحق الخيل والبغال والحمير بالمواشي. قاله في "شرح المهذب". قوله من "زياداته": والأصح جواز تربية الجرو كذلك انتهى كلامه. وأشار بذلك إلى الصيد وغيره مما تقدم، وجواز التربية لذلك ليس على إطلاق، بل يشترط أن يكون الجرو من نسك كلب معلم. كذا ذكره البغوى في "التهذيب" ولم يحك فيه خلافًا فقال: فإن جوزنا فإنما نجوز إذا كان من نسك المعلم. وذكر في "النهاية" ما يقتضيه فإنه ترجم المسألة بقوله: ومن اقتنى جرو كلب صيود. قوله: والأصح تحريم اقتنائه قبل شراء الماشية والزرع، وكذا كلب الصيد لمن لا يصيد. انتهى. واعلم أن المسألة الثالثة في كلام المصنف لها أقسام: أحدها: أن يقتضيه من لا ينتفع به بالكلية ففيه وجهان حكاهما الماوردي فقال: فأما ما ينتفع به من كلاب الصيد والحرث والماشية إذا اقتناها ومن لا ينتفع بها ممن ليس له صيد ولا حرث ولا ماشية ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز اعتبارًا بها لما فيها من المنفعة. والثاني: لا يجوز اعتبارًا بأربابها، وأن ليس لهم فيها منفعة. وهكذا لو اتخذ صاحب الحرث كلب الماشية أو صاحب الماشية كلب حرث فإنه على هذين الوجهين. انتهى. وذكر في "شرح المهذب" هذه الصورة، وقال: ظاهر كلام الجمهور القطع بالتحريم، وأن ابن الصباغ حكى فيه وجهين.

القسم الثاني: وقد ذكره في "شرح المهذب" أيضًا فقال ولو أراد اتخاذ الكلب ليصطاد به إذا أراد، ولا يصطاد به في الحال، وليحفظ الزرع والماشية إذا صار له فوجهان: أصحهما: لا يجوز. انتهى والحكم في هذا مشكل جدًا إن كان صحيحًا، فإن الاقتناء للصيد جائز بالاتفاق، وتربية الجرو له أيضًا جائز على المعروف فكيف منعوا هذا. القسم الثالث: ما ذكره في "الاستقصاء" فقال: هل يجوز لمن يصيد كالبزاز، والبياع أن يقتنى الكلب ليصيد به إذا أراد، ولمن لا ماشية له ولا زرع أن يقتنيه لحفظه إذا حصل؟ وجهان. ثم قال: وإن اقتناه ولم يقصد شيئًا من ذلك، فإن قلنا في المسألة قبلها لا يجوز فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: يجوز. فهاهنا وجهان. انتهى وهذا الذي حكاه في "الاستقصاء" حين يتجه ويتعين حمل ما نقله في "شرح المهذب" على هذه المسألة على أنه مريد له، ولكن قصر في التعبير أو على أن يكون قد فهم منه خلاف المراد. فإذا تقرر ما قلناه فقوله في "الروضة": لمن لا يصيد يحتمل أن يريد به من ليس شأنه الصيد سواء كان يحسنه أم لا، وتدخل فيه مسألة "الاستقصاء" ومسألة الماوردي، وامتناعهما واضح، وأنه كانت الثانية أولى بالمنع من الأولى. قوله: ولخلو شيء من المنفعة سببان. أحدهما: القلة كالحبة والحبتين من الحنطة والزبيب وغيرهما، فإن ذلك القدر لا يعد مالًا. انتهى كلامه. وما ذكره من أنها لا تعد مالًا قد جزم بعكسه في أوائل الباب الثاني من كتاب الإقرار، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى.

قوله: ومع هذا فلا يجوز أخذ الحبة والحبتين من صبرة الغير إذ لو جوزناه لانجر ذلك إلى أخذ الكثير. انتهى. ورأيت في "طبقات العبادي" أن الشافعى قال: يجوز أخذ الخلال والخلالين من خشب الغير. قال العتابي: ورأيت للأصحاب ما يدل عليه، ثم استدل وأعني: العبادى بما لا دليل فيه. قوله: فلو أخذ الحبة ونحوها أحد فعليه الرد، فإن تلفت فلا ضمان؛ إذ لا مالية لها. وعن القفال أنه يضمن مثلها. انتهى. فإن أخذ ما لا يتمول مما لا مثل له لم يلزمه شيء عند القفال. كذا نقله الغزالي في "البسيط". واعلم أن عبارة القفال في تلف الحبة والحبتين لم أبعد أن أوجب مثلها. كذا نقله الإمام في باب بيع الكلاب عن شيخه فقال: كان القفال يقول: إن تلفت لم أبعد أن أوجب مثلها. قوله: ومنه ما ينتفع بلونه أو صوته كالطاووس والزرزور. انتهى. وكلامه كالصريح في [أن] (¬1) الزرزور لا يؤكل وهو عجيب فقد جزم في باب الأطعمة بالحل، وحكى الاتفاق عليه في "شرح المهذب"، وضم معه في الشرح المذكور العندليب مع أن الصحيح فيه الحل أيضًا. والزرزور بالضم. قوله: وإن باع النحل وهى طائرة من الكوارة ففي "التتمة" أنه يصح، وفي "التهذيب" أنه لا يصح. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أن شرط هذه المسألة أن تكون الأم حاصلة في الخلية. كذا صور المسألة ابن الرفعة في "شرح الوسيط" فقال: ولو كان البيع وهى طائرة والأم في الكوارة فمنهم من جوزه كبيع النعم السيبة في الصحراء. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن الأصح من هذين الوجهين هو الصحة. كذا صححه النووي في "الروضة" من "زياداته" والفرق بينهما، وبين باقى الطيور حيث كان الأصح الصحة عند النووي وغيره من وجهين. أحدهما: أنها لا تقصد بالجوارح بخلاف غيرها. الثاني: أن هذه لا تأكل في العادة إلا مما ترعاه فلو توقف صحة البيع على حبسها لربما ضر بها أو تعذر بسببه بيعها بخلاف غيرها من الطيور فإنها تعلف. قوله: الضرب الثاني: ما لا ينتفع به فلا يصح بيعه كالحنافس. ثم قال: وفي معناها السباع التى لا تصلح للصيد والقتال عليها كالأسد والذئب والنمر. انتهى كلامه. وما ذكره في النمر قد خالفه في كتاب الصيد فجزم بأنه يصلح لذلك، ونقله عن الشافعى والأصحاب وأنكر على الغزالي في عده إياه مما لا يصلح، وسوف أذكر لفظه إن شاء الله تعالى في موضعه. قوله: ونقل أبو الحسن العبادى وجها أنه يجوز بيع النمل بعسكر مكرم لأنه يعالج به السكر وبنصبين لأنه يعالج به العقارب الطيارة. انتهى. واعلم أن السكر بفتح السين والكاف هو المسكر قال تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النحل (67).

وكان الامتنان بذلك قبل نزول التحريم على أحد الأقوال المشهورة في الآية. وعسكر مكرم مدينة من كور الأهواز، والأهواز من إقليم خراسان، ومكرم الذي نسب إليه هو مكرم الباهلى، وهو أول من اختطها كما نقله ابن خلكان في "تاريخه". إذا علمت ذلك فاعلم أن هذا الكلام الذي نقلناه عن الرافعي ليس محررًا، ويتضح بمقالة الأطباء فيه فقالوا: إن النمل أنواع أجوده الطيار، وهو حار يابس، وله منافع منها: أن بيضه يمنع نبات الشعر، ويعمل منه دهن يدهن به فيزيد في إعطاء التناسل والباه، وإذا شرب بالشراب المسكر نفع من نهش الزبيلا والعقارب الجرارة. وإذا أخذت منه عشرة عدد وطبخ بزيت ودهن به الشعر أفسده وحلقه، وإذا وقع جراحة بمراق البطن، وظهر السرر وعفن، فإذا قطع العفن وأعيد السرر إلى مكانه وذر عليه من رماد النمل المحرق فإنه يبرئ الجراحة. انتهى. فتلخص أن الشراب المسكر ينفع من نهش العقارب الجرارة بعد معالجته أى إصلاحه بالدهن المستخرج من بيض النمل الطيار فيجوز بيعه في البلدين المذكورين لكثرة عقاربهما. هذا معنى كلام الرافعي وتنزيله عليه صحيح، وليس فيه ما لا يستقيم إلا قوله الطيارة، فالصواب تقديمها. قوله: وعن القاضى الحسين وجه أنه يجوز بيع السباع التى لا تصلح للقتال ولا للصيد لأنها طاهرة والانتفاع بجلودها متوقع. ثم قال: ولا يجوز بيع الحدأة والرخمة والغراب فإن كان في أجنحة بعضها فائدة جاء فيه الوجه المتقدم عن القاضى. هكذا قال الإمام. لكن بينهما فرق، فإن الجلود تدبغ فتطهر، ولا سبيل إلى تطهير الأجنحة. انتهى.

والذي قاله الرافعي لا يدفع هذا التخريج لأن المبيع حال العقد كان طاهرًا، والنجاسة العارضة لا تمنع الانتفاع به في الأشياء الجافة كاتخاذ النبل وغيره، وهذا المعنى هو مدرك القاضى في التخريج كما تقدم. وأيضا فإن لنا وجهًا أن الريش لا ينجس بالموت، فيجوز أن يكون هذا من القائلين بذلك وقد أشار النووي إلى الأول. قوله في أصل "الروضة": ويصح بيع العلق على الأصح لمنفعة امتصاص الدم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة فيها طريقان حكاهما في "شرح المهذب" فقال: فيه طريقان: أصحهما وبه قطع إمام الحرمين والغزالي والبغوى في: "شرح المختصر" والأكثرون: يجوز لأن فيه غرضًا مقصودًا، وهو امتصاصه الدم من العضو المتألم. والطريق الثاني: فيه وجهان، وممن حكاهما المتولى أصحهما: يجوز. والثانى: لا لأنه حيوان مؤذ كالحية والعقرب هذا لفظه. وبين الكلامين تباين فاحش، فإن المجزوم به في "الروضة" إنما هو الطريقة الضعيفة وليته مع الجزم بها جعل الخلاف ضعيفًا فعبر بالصحيح، بل جعله قويًا. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الإمام والغزالي من قطعهما بالصحة ليس كذلك، فإن الإمام ذكر المسألة في باب بيع الكلاب فقال: تردد القاضى في العلقة فألحقها في جواب بالديدان ومال في جواب إلى جواز بيعها لما فيها من منفعة مص الدم. وأما الغزالي فلم يذكر المسألة في "الوجيز"، وذكرها في "البسيط" وحكى فيها التردد المذكور من غير ترجيح فقال: ترددوا في بيع العلق

وحكاه في "الوسيط"، ثم قال: والأولى الصحة. قوله أيضًا في أصل "الروضة": ولا يصح بيع الحمار الزمن الذي لا نفع فيه على الأصح. انتهى. هذه العبارة أيضًا موضوعة لإثبات الخلاف القوى، فإن القائل بالصحة هنا هو الذي يجوز الشراء لغرض الجلد كما صرح به الرافعي، وكذلك النووي في "شرح المهذب". وقد صرح فيه أعني في "شرح المهذب" بأنه وجه شاذ ضعيف. هذا لفظه بعد أن نقل عن الجمهور القطع بالبطلان. قوله: إحداها: آلات الملاهى كالمزامير والطنابير وغيرهما إن كانت بحيث لا تعد بعد الرض والحل مالًا فلا يجوز بيعها. وإن كان الرضاض يعد مالًا ففي جواز بيعها قبل الرضاض وجهان: أحدهما: الجواز لما فيها من المنفعة المتوقعة. وأظهرهما: المنع لأنها على هيئتها آلة للفسق، ولا يقصد بها غيره ما دام ذلك التركيب باقيًا. ونجرى الوجهين في الأصنام والصور المتخذة من الذهب والخشب وغيرهما. وتوسط الإمام بين الوجهين فذكر وجهًا ثالثًا، وهو أنها إن اتخذت من جواهر نفيسة صح بيعها لأنها مقصودة في نفسها، وإن اتخذت من خشب ونحوه فلا، وهذا أظهر عنده. وتابعه المصنف في "الوسيط"، ولكن جواب عامة الأصحاب المنع المطلق، وهو ظاهر لفظه هنا، ويدل عليه خبر جابر المروى في أوائل الركن. انتهى كلامه.

فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى هذا الكلام أن تجويز الإمام إنما هو في الذهب والفضة والزمرد ونحوها لأن هذه هى الجواهر النفيسة، وليس كذلك، بل جوزه الإمام في كل ما له قيمة كالنحاس والصفر والعود فإنه قد ذكر هذه المسألة في باب بيع الكلاب فقال: ألحق الأئمة مسائل بما ذكرناه في الحيوان منها بيع المعازف وآلات الملاهى. فإن كانت بحيث لو كسرت الكسر المأمور به لم يكن رضاضها متمولًا، ولا يصح بيعها. وإن كانت بحيث لو كسرت الكسر الواجب لكان رضاضها متمولًا ففي إيراد البيع عليها قبل الرض وجهان. أحدهما: يبطل البيع نظرًا إلى صفاتها، ويعتضد هذا بإطباق الناس على استنكار بيع البرابط والطنابير. والثانى: يصح بيعها لأن جرم الرضاض كائن فيها وهذا وإن كان قياسًا فالعمل على الأول. فأما إذا باع صورًا وأشباحًا كالأصنام وغيرها وكانت متخذة من جواهر ذات قيمة كالصفر والنحاس وغيرها فهى مكسرة على أربابها. [والأصح] (¬1) جواز بيعها قبل التكسير، فإن جواهرها مقصودة بخلاف رضاض المعازف. وذكر القاضى وجهًا في منع بيعها. هذا كلام الإمام وهو كما نبهنا عليه. الأمر الثاني: أن هذا الوجه الذي تكلمنا عليه واختاره الإمام محله في المسألة الثانية، وهي الصور والأصنام. ¬

_ (¬1) في جـ: والصحيح.

وأما الأولى فلم يجزه، وبينهما فرق، فإن آلة الفسق يقصد نهيها أكثر مما تقصد الصور ونحوها. وقد جمع في "الروضة" بين المسألتين، وحكى فيهما الأوجه الثلاثة، وأن الإمام اختاره فيهما، وهو غلط سببه أنه لم يراجع "النهاية" حال الاختصار، وتوهم أن كلام الرافعي عائد إليهما فصرح به، لكنة لو تأمل آخر كلام الرافعي وهو استدلاله بخبر جابر لم يذكره، فإنه ليس فيه إلا الصور. وقد فعل في "شرح المهذب" كما فعل في "الروضة" وزاد فنقل التفصيل المذكور عن صاحب "التتمة" مع أنه لم يذكره بالكلية، فإنه عقد لهما المسألة الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين من الباب الثالث، وحكى وجهين فقط، لكنه صحح في الأولى الجواز، ولم يصحح في الثانية شيئًا. وما نقله عن الغزالي من حكاية الأوجه واختار التفصيل بينهما فصحيح إلا أنه لم يخصه بالجواهر النفيسة، فإنه قال: والأظهر إن كان من ذهب أو فضة أو عود أو شئ نفيس صح. هذا لفظ "الوسيط". قوله: والجارية المغنية إذا اشتراها بألفين، ولولا الغناء لكانت تساوى ألفًا. قال المحمودى: يبطل لأنه بذل مال في مقابلة معصية. وقال الأودى: يصح. وقال أبو زيد: إن قصد الغناء بطل، وإلا فلا. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الراجح هو الصحة. كذا صححه النووي في "زياداته". وقال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه القياس. الأمر الثاني: أنه قد اضطرب التعبير عن الوجه الثالث، ففي نسخ معتمدة من هذا الكتاب إن قبل بالغناء عوضًا عن قصده وفي بعضها قصد

وهو المذكور في "النهاية" و"الروضة". الأمر الثالث: أن هذا التعليل المذكور للبطلان صريح في تحريم غناء المرأة، وقد ذكر ما يوافقه في الغصب أيضا فقال في الباب الثاني في الطوارئ على المغصوب: فرع: لو زادت قيمة الجارية بتعليم الغناء ثم نسيته نقل الرويانى عن النص أنه لا يضمن النقص لأنه محرم، وإنما يضمن المباح. وعن بعض الأصحاب أنه يضمنه، ولهذا لو قتل عبدًا مغنيًا غرم تمام قيمته. قال: وهو الاختيار. انتهى. ثم ذكرها بين المسألتين وهما مسألة الغصب والبيع في كتاب الصداق كما ذكرهما في موضعهما. وإذا علمت ذلك فقد صح في كتاب الشهادات أنه لا يحرم عليها ذلك، وسوف أذكر لفظه في بابه إن شاء الله تعالى. ولا سبيل إلى حمل المذكور في غير الشهادات على ما إذا كانت تغنى بآلة محرمة لأنه يلزم منه الجزم بصحة البيع في كثير من الجوارى المغنيات أو أكثرها حتى يكون إطلاقهم خطأ. ولم يصرح أحد بذلك، بل: ولا أشار إليه، وأيضا فإن الرويانى قد استدل على أنه يضمن نقصانها بسبب الغناء فإنه مضمون في العبد المقتول، كما قدمنا أن الرافعي نقله عنه في كتاب الغصب، فدل ذلك على أن غناء العبد ليس بآلة محرمة إذ لو كانت كذلك لما ضمن فيه أيضًا. ويلزم حينئذ أن لا يستقيم قياس الجارية عليه إلا إذا كان غناؤها بآلة محرمة.

فدل ذلك كله على التحريم مطلقًا. واعلم أن تحريم الغناء إذا كان بألة محرمة فيه نظر أيضًا، بل ينبغى بقاؤه على إباحته عند من يقول بها، وأن لا يحرم إلا الاستماع إلى تلك الآلة والعمل بها فقط ولعل هذا هو المراد من عبارتهم، وإنما ذكر الغناء لملازمة استماعه لها غالبًا عند اجتماعهما. وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا للنووى في "الروضة" وأكد التحريم في باب الغصب فقال من "زياداته" الأصح المختار هو النص لأنها محرمة. الأمر الرابع: أن الأوجه السابقة في بيع الجارية مفرعة على قولنا: إن الغاصب لا يضمن الغناء. فإن قلنا: يضمنه. صح، كذا قاله الرافعي في كتاب الصداق. قوله من "زياداته": ولو باع [إناء] (¬1) من ذهب أو فضة صح قطعًا لأن المقصود الذهب فقط. ذكره القاضى أبو الطيب. انتهى. وما ادعاه هنا من القطع بالصحة ذكره أيضا من غير إعزائه إلى أحد في "شرح المهذب" هنا وفي "الروضة" في باب الآوانى، وهو مشكل، فقد تقدم قبل هذا أن الصحيح الذي عليه عامة الأصحاب أنه لا يجوز بيع آلات الملاهى والأصنام والصور المتخذة من الجواهر النفيسة وغيرها. وعلله الرافعي بأنها على هيئتها آلة الفسق، ولا يقصد بها غيره مادام ذلك التركيب باقيًا، وهذا المعنى موجود في الإناء فكيف يصح فضلًا عن دعوى الاتفاق؟ وقد نقل في باب الآنية من شرح المهذب ما نقله هنا عن القاضى ثم توقف فيه، وقال: إذا قلنا بتحريم إتخاذ الأوانى فينبغى تخريج بيعها على الخلاف المشهور ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في بيع الجارية المغنية، وعلى ما قاله من هذا البحث يكون الصحيح الجواز. لكن إلحاقه بما قلناه أولى لاشتراكهما في تحريم الهبة وهل يلتحق بيع الصليب من النقدين بالأوانى أم بالصنم ونحوه؟ فيه نظر، وقد يلوح الفرق بين مسألتنا، وبين النظائر السابقة. قوله أيضًا من "زياداته" نقلًا عن المتولى: والنرد إن صلح لبيادق الشطرنج فكالشطرنج وإلا فكالمزمار. انتهى كلامه. وما نقله عن المتولي هنا نقله في "شرح المهذب" عنه أيضًا وأقره، وقد علمت مما قاله في المسألة السابقة إطلاق المنع في آلات الملاهى. والصور والأصنام، ولم يذكر هذا التفصيل فقياسه هنا أن لا يصح، وإنما فصل صاحب "التتمة" هنا لأنه ذكر مثله هناك فقال في المسألة الثانية والثلاثين من الباب الثالث من أبواب البيع: بيع المزمار والمعزفة والطنبور، وما جانس ذلك من آلات اللهو إن كان محلوله يصلح لمنفعة مباحة مقصودة ففي جواز بيعه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح: جوازه. هذا كلامه. لا جرم أن البغوى في "التهذيب" لما كان قائلًا بالتحريم في الملاهي أطلق تحريم بيع النرد. هكذا صرح به في باب بيع الكلاب. قوله: إحداهما: إذا باع مال الغير بغير إذن وولاية ففيه قولان: الجديد أنه لاغ. والقديم: أنه ينعقد موقوفًا على إجازة المالك. انتهى. واعلم أن هذا القول منصوص عليه في الجديد أيضًا. كذا نقله الشيخ أبو محمد في كتاب القضاء من "السلسلة" وسليم الرازي في "المجرد" والرويانى في "البحر" كلاهما في باب القراض، ونص عليه في "الأم" في أول كتاب الغصب على ما نقله عنه في "المطلب" فقال: إذا باع الغاصب الجارية المغصوبة كان لرب الجارية أن يجيز البيع إن أحب أن يأخذ الثمن

الذي باع به الغاصب. قال الربيع: فإنه بعد ذلك ليس له إلا جاريته والشراء مردود. وعلق الشافعى في البويطى صحته على صحة الحديث فقال في آخر باب الغصب: إن صح حديث عروة البارقى (¬1)، وكل من باع أو أعتق ملك غيره بغير إذنه ثم رضى فالبيع والعتق جائزان. هذا لفظه. ونقل البيهقى أنه علقه أيضًا على صحته في "الأم". قوله: ولو اشترى الفضولى لغيره نظر إن اشترى بعين مال الغير ففيه قولان. ¬

_ (¬1) قال الترمذى: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمى حدثنا حيان (وهو ابن هلال أبو حبيب البصرى) حدثنا هارون الأعور المقرئ (وهو ابن مرسى القارئ) حدثنا الزبير بن الخريت عن أبى لبيد عن عروة البارقى قال: دفع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأشترى له شاة فاشتريت له شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ما كان من أمره فقال له بارك الله لك في صفقة يمينك فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة الكوفة فيربح الربح العظيم فكان من أكثر أهل الكوفة مالا. حدثنا أحمد بن سعيد الدارمى حدثنا سعيد بن زيد (هو أخو حماد بن زيد) قال حدثنا الزبير بن خريت فذكر نحوه عن أَبى لبيد. قال أبو عيسى: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا به وهو قول أحمد وإسحق ولم يأخذ بعض أهل العلم بهذا الحديث منهم الشافعى وسعيد بن زيد أخو حماد بن زيد وأبو لبيد لمازة بن زياداه. قلت: قوله: إن الشافعى لم يأخذ به، وهم، إنما علق الأخذ به على صحته، وثم فرق بين أن يتركه وأن يعلق الأخذ به على صحته. قلت: والحديث صحيح فقد صححه المنذرى والنووي والألبانى. وقد أعله بعضهم بالجهالة في إسناده، وبعضهم أعله بالإرسال، إلا أن الحافظ ابن حجر قال: والصواب أنه متصل في إسناده مبهم. وقال الشيخ الألبانى: قلت: وتمام هذا التصويب عندى أن يقال: "وهذا لا يضر لأن المبهم جماعة من أهل الحى أو من قومه كما في الرواية الأخرى.

وإن اشترى في الذمة نظر إن أطلق، ونوى كونه للغير فعلى الجديد يقع للمباشر، وعلى القديم يقف على الإجازة، فإن رد نفذ في حق الفضولى ولو قال: اشتريت لفلان بألف في ذمته فهو كاشترائه بعين مال الغير ولو اقتصر على قوله اشتريت لفلان بألف، ولم يضف الثمن إلى ذمته فعلى الجديد وجهان: أحدهما: يلغو العقد. والثاني: يقع عن المباشر. وعلى القديم يقف على إجازة فلان، فإن رد ففيه الوجهان انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" و"شرح المهذب". والصحيح من هذين الوجهين اللذين قد تكرر ذكرهما وقوع العقد عن المباشر، كذا صححه الرافعي في أثناء الباب الثامن من أبواب الوكالة في الكلام على البيع والشراء المخالفين أمر الموكل. قوله: ولو اشترى شيئًا لغيره بمال نفسه نظر إن لم يسمه وقع العقد عن المباشر سواء أذن ذلك الغير أم لا. وإن سماه نظر إن لم يأذن له لغت التسمية وهل يقع عنه أم يبطل؟ وجهان. فإن أذن له فهل تلغو التسمية؟ وجهان فإن قلنا: نعم. فهل يبطل من أصله أم يقع عن المباشر؟ فيه وجهان. وإن قلنا: لا وقع عن الإذن، وهل يكون الثمن المدفوع قرضًا أم هبه؟ وجهان. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" و"شرح المهذب" أيضًا. فأما الوجهان الأولان فالصحيح فيهما على ما ذكرناه في المسألة السابقة

وقوع العقد عن المباشر وأما الخلاف المتأخر، وهو أنه هل يقع عن الآمر عن الإذن أم لا؟ وإذا أوقعناه عنه هل يكون المعطى قرضًا أم هبة؟ فقد تعرض له الرافعي قبيل الباب الثالث من أبواب الوكالة فقال: ولو قال لغيره اشتر عبد فلان لى بثوبك هذا أو بدارهمك ففعل حصل الملك للآمر، ويرجع المأمور على الآمر بالقيمة أو المثل وفيه وجه أنه إذا لم نجر شرط الرجوع لا يرجع. انتهى كلامه. وذكر مثله في "الروضة" و"شرح المهذب"، وصرح بأن الثاني وجه ضعيف، وحاصله وقوع العقد عن الآمر، وأن المعطى يكون قرضًا، ولكنه ذكر بعده بنحو صفحة ما يشكل عليه، وسوف أبين ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: وشرط الوقف عند أَبى حنيفة أن يكون للعقد مجيز في الحال مالكًا كان أو غير مالك، حتى لو أعتق عبدًا لطفل أو طلق امرأته لا يتوقف على إجازته بعد البلوغ. والمعتبر إجازة من ملك التصرف عند العقد حتى لو باع مال الطفل فبلغ وأجاز لم ينفذ وكذا لو باع مال الغير ثم تملكه وأجاز. وقال الشيخ أبو محمد. ولا يخالف في ذلك أبو حنيفة إذا فرعنا على القديم. انتهى كلامه. وهذا الكلام الذي ذكره الرافعي معناه واضح ولكنه غير محرر في التعبير، واشتمل على تكرار، فإن قوله: (والمعتبر إجازته إلى آخره) يعنى غير ما تقدم، والواقف عليه يتوهم غير ذلك. قوله؛ وذكر إمام الحرمين أن العراقيين لم يعرفوا القول القديم، وقطعوا بالبطلان.

وهذا إن استمر اقتضى كلامه إعلامه بالواو وإنما توقف فيه وما ألفيته من كتب العراقيين هو الاقتصار على ذكر البطلان لا نفي الخلاف. انتهى ملخصًا. وما ذكره الرافعي من أن الذي وجده في كتب العراقيين إنما هو البطلان غريب، فقد نص عليه القاضى أبو الطيب في كتاب الوكالة في الكلام على ما إذا وكله في شراء شاة، فاشترى شاتين. وكذا ابن الصباغ في الوكالة أيضًا في المسألة المذكورة في باب الأضحية، وسليم الرازى في كتاب القراض من "المجرد"، وبالغ فنسبه أيضًا إلى الجديد كما تقدم. ولم يذكر النووي في "الروضة" قول الرافعي أنه لم يجده؛ بل ذكر قول الإمام، ثم استدرك عليه فقال: قلت: قد ذكر هذا القديم من العراقيين المحاملى في "اللباب" والشاشى صاحب "البيان"، ونص عليه الشافعى في "البويطى"، وهو قوى في الدليل. وهذا لفظه. وجميع ما ذكره في هذا الزيادة غير صحيح؛ أما المحاملى فلا شك أنه عراقى، لكنه لم يصرح في هذا الكتاب، الذي نقل عنه وهو "اللباب" بالمسألة بخصوصها، فإنه عذذ تنوعًا للشافعى فيها قولان، ثم عبر في أثنائها بقوله: وبيع تعريف الصفقة، وبيع الموقوف. هذا لفظه من غير زيادة عليه. ولا شك أن قولى الوقف يطلقان على هذه المسألة، وعلى من باع مال أبيه ظانًا حياته. وقد صرح هو في "الروضة" بعد هذا بأسطر قلائل بذلك. وإذا كانا يطلقان على كل من الصورتين لم يؤخذ منه حكاية الخلاف في بيع الفضولى، لأنه قد يريد المسألة الأخرى.

وأما صاحب "البيان" فنقله عن الفورانى، وهو من الخراسانيين، والشاشى نقله عن القاضى الحسين وهو منهم أيضًا. وأيضًا فإن هذين لم يلتزما طريقة واحدة حتى ينقص بها، بل خلطا طريقة بطريقة، وأيضًا فإنهما متأخران عن الإمام. وأما النقل عن البويطى فليس فيه الجزم بالصحة بل التعليق كما سبق، وقد سبق من النقول الصريحة ما فيه غنية عنه، وإن كان قد قال في "شرح المهذب": إن جميع من حكاه إنما حكاه عن القديم. وأما دعواه بأنه قوى فباطل، فإن أقوى ما فيه حديث عروة، ولا يمكن حمله على هذه المسألة، فإنه قد باع وسلم. والقائل بالصحة في هذه المسألة لا يجوز عنده التسليم إلا بإذن، كما صرح به في "شرح المهذب"، فتعين حمله على أنه كان وكيلًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيع ما يراه من أمواله الموجودة، والتى ستحدث. ويكون هذا الحديث دليلًا على صحة هذا التوكيل. وقد حكى الرافعي في صحته احتمالين من غير ترجيح مستدلًا للصحة بهذا الحديث، ذكر ذلك في كتاب الوكالة، وثبت هناك أن المنقول هو الصحة. قوله: الثالثة: لو باع مال أبيه على ظن أنه حي فبان ميتًا صح العقد في أصح القولين. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن حكاية الخلاف في هذه المسألة قولين ذكره القاضى أبو الطيب في آخر باب العفو عن المهر من تعليقه، والداوودي في "شرح المختصر" في باب عدة المفقود، وجزم به النووي في "الروضة" وصححه في

"شرح المهذب" هنا فقال ما نصه: فقولان وقيل: وجهان هذا لفظه. وحكاه جماعة وجهين منهم الشيخ أبو حامد في باب عدة المفقود من تعليقه، والبندنيجى والماوردي في الموضع المذكور، والقفال في "شرح التلخيص" في كتاب الوصايا في ذكر [ما يعتد به] (¬1) من أصول الكوفيين. وصححه النووي في "شرح المهذب" في باب المسح على الخفين فقال: ففي صحته وجهان، وقيل: قولان: هذه عبارته. والصواب أنهما قولان فقد قال الإمام في الوكالة في الكلام على افتقار الوكالة إلى القبول إن الشافعى نص عليهما في الجديد، وذكر الشيخ أبو حامد أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو في الباطن، وأما في الظاهر فإنه مؤاخذ به كذا ذكره في آخر باب العفو عن المهر. الأمر الثاني: أن التمثيل بهذا ونحوه إشارة إلى فرع ذكره الإمام في كتاب الرجعة، ونقله عنه في "المطلب" هنا فقال: لو باع عبدًا على أنه ملك لغيره، فبان ملك نفسه صح لأن الجهل لم يستند إلى أصل. ولو باع مال أبيه ظانًا حياته فقولان، ووجه المنع أنه استند إلى أصل، وهو بقاء ملك الأب. قوله: ولو غصب أموالًا وباعها وتصرف في أثمانها مرة بعد أخرى فقولان. أظهرهما: بطلان الجميع. والثانى: للمالك أن يجيزها، ويأخذ الحاصل منها لعسر بيعها بالإبطال. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: ¬

_ (¬1) في جـ: ما شذ.

أحدهما: أن محله إذا تصرف في العين، فإن باع سلما أو اشترى في الذمة وسلم المغصوب فيما التزمه وربح فالربح للغاصب في الجديد، وللمالك في القديم. وعلى هذا فقيل: إنه موقوف على إجازته، والأكثرون قالوا: إنه له جزمًا للمصلحة. كذا ذكره الرافعي في الباب الثاني من أبواب القراض. الأمر الثاني: أن هذين القولين مفرعان على الجديد كما ذكره في "شرح المهذب". قوله: ولا يبعد تشبيه هذا الخلاف، بالخلاف في أن بيع الهازل هل ينعقد؟ وفيه وجهان. انتهى. والأصح في الهازل انعقاد بيعه، وسائر تصرفاته. كذا صححه الرافعي في كتاب الطلاق إلا في الطلاق والعتاق، فإنه جزم فيهما بالنفوذ. قوله: ويجري القولان فيما إذا زوج أمة أبيه على ظن أنه حي ثم بان موته، هل يصح النكاح؟ فإن صح فقد نقلوا وجهين فيما إذا صرح بالتعليق فقال: إن مات أَبى فقد زوجتك هذه الجارية. انتهى. فيه [أمران] (¬1): أحدها: قد استفدنا من هذا الكلام أن الشروط المعتبرة في صحة النكاح لا يشترط علم المتعاقدين بها، بل يكفي وجودها في نفس الأمر. وقد ذكر أيضًا ما يوافقه في كتاب العدد في الكلام على زوجه المفقود فقال: وإذا مضى عليه أربع سنين فاعتدت المرأة، وتزوجت ثم ظهر أن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الزوج كان ميتًا عند التزويج فعلى القديم لا إشكال، وأما على الجديد فإنه يخرج على القولين فيما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حى فبان ميتًا. إذا علمت ذلك فقد ذكر في باب الربا ما يخالفه فقال: ولا يجوز بيع الربوى بجنسه جزافًا ولا بالتخمين والتحرى، فلو باع صبرة بصبرة وخرجتا متماثلتين لم يصح، لأن التساوى شرط، وشرط صحة العقد تعيين العلم به عند العقد. ولهذا لو نكح امرأة لا يعلم أهى أجنبية أم معتدة أم لا؟ لم يصح النكاح. انتهى. وقريب منه ما إذا عقد شهادة خنثيين، ثم تبين أنهما رجلان. الأصح فيه الصحة. كذا قاله النووي من زياداته في النكاح، قال: بخلاف نظيره من الصلاة لأن النية شرط فيها، وهى مترددة بخلاف الشهادة، لكن يشكل على هذا ما جزم به الرافعي في كتاب القضاء قبيل الطرف الثاني، ووافقه عليه النووي أن الإمام لو ولى رجلًا للقضاء وهو لا يعرف حاله لم تصح توليته، وإن ظهر كونه بالصفة المشروطة. الأمر الثاني: أن تصوير المسألة الثانية بقوله: إن مات أى لا يستقيم لأن هذا تعليق على مستقبل وإن كان لفظه ماضيًا، والتعليق على المستقبل لا يصح بالاتفاق كما لو قال: إن قدم زيد أو طلعت الشمس فقد بعتك، فالصواب تصوير هذه المسألة بقوله: إن كان أَبى قد مات، وقد صورها الإمام في كتاب النكاح بذلك. الأمر الثالث: أن الصحيح في هذه المسألة، وهى ما إذا صرح بالتعليق أنه لا يصح. كذا صرح به في "الروضة" في كتاب النكاح فقال: لم يصح النكاح على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: وجهان. هذا لفظه في هذه المسألة، وفي نظائرها، وهو مخالف لما جزم به في

"الروضة" هنا تبعًا للرافعى من طريقة الوجهين. الأمر الرابع: إنه إذا أذن له في الشراء بشئ معين ثم اختلفا، وجعلنا الجارية للوكيل ظاهرًا وهو يزعم أنها للموكل فيقول: إن كنت أمرته أن يشريها بعشرين مثلًا فقد بعتك إياها بعشرين فيقبل الوكيل. وحينئذ فيصح البيع على الصحيح كما قاله الرافعي، وعلله صاحب "الشامل" بأنه أمر واقع يعلمان وقوعه مثل إن اتفقا على أن الشئ المذكور ملك لأحدهما فيقول: إن كان ملكى فقد بعتكه فيصح. وكذا لو شرط علم وجوده لأنه لا يؤدى إلى وقوف البيع. هذا كلامه. إذا علمت ذلك فتكون صورة المسألة هنا أيضًا، وفي جميع نظائرها فيما إذا لم يعلما موت الأب وغيره من الشروط المعلق عليها، فإن علما صح. قوله: وذكر الإمام أن الصحة على قول الوقف بأجرة، لكن الملك لا يحصل إلا عند الإجازة. انتهى. وسيأتى أن الوصية للوارث إذا صححناها موقوفة على الإجازة فهل تكون إجازته تنفيذًا أو ابتداء عطية؟ فيه خلاف، والقياس أن يأتي ذلك بتفاريعه هناك فراجعه. وما نقله عن الإمام وأقره هو والنووي عليه هو معنى ما في "المحرر"، فإنه جزم بأنه ينعقد موقوفًا ولا معنى للانعقاد إلا الصحة. نعم كلام الرافعي في العدد يفهم أن الانعقاد موقوف. قوله: عن الإمام إن الوقف يطرد في كل عقد يقبل الإستنابة كالبياعات والإجارات والهبات والعتق والطلاق والنكاح وغيرها. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله هنا عن الإمام وارتضاه من جريان القولين في العتق والطلاق قد ذكر في موضعين من هذا الكتاب ما يخالفه، وأن القولين لا

يجريان فيهما. أحدهما: في كتاب الضمان في الكلام على ضمان المجهول فقال ما نصه: ومنها لو كان لأبيه دين على إنسان فأبراه، وهو لا يعلم موت مورثه إن قلنا: البراءة إسقاط صح، كما لو قال لعبد أبيه أعتقتك، وهو لا يعلم موت الأب. وإن قلنا: تمليك فهو كما لو باع مال أبيه على ظن أنه حى، وهو ميت. انتهى كلامه. وهذا صريح في أن القولين لا يجريان في العتق وأنهما إنما يجريان في التمليكات لا في الإسقاطات. والموضع الثاني: في أوائل نكاح المشركات فقال ما نصه: وحيث توقفنا في النكاح وانتظرنا الحال إلى انقضاء مدة العدة، فلو طلقها قبل تمام العدة فالطلاق موقوف أيضًا، فإن اجتمعا على الإسلام في العدة تبين وقوعه، وتعتد من وقت الطلاق وإلا فلا طلاق، وحكى الإمام أن من الأصحاب من جعل الطلاق على قولي وقف العقود، وقال: لا يقع في قول، وإن اجتمعا على الإسلام. وأجراهما: فيما إذا أعتق أمة أبيه على ظن كونه حيًا فبان ميتًا. والمذهب الأول، فإن الطلاق والعتاق يقبلان صريح التعليق، فأولى أن يقبلا تقدير التعليق. انتهى. قوله: الشرط الثاني: القدرة على التسليم فلا يجوز بيع الضال والآبق والمغصوب إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن في المنع من بيع هؤلاء إشكالًا، وذلك أن إعتاقهم جائز بلا شك، وصرحوا بأن العبد إذا لم يكن في شرائه منفعة إلا حصول الثواب

بالإعتاق كالعبد الزمن صح بيعه، وإعتاق المبيع قبل قبضه صحيح على الصحيح، ويكون قبضًا فلم لا صح بيع هؤلاء إذا كانوا زمنى، بل مطلقًا لوجود منفعة من المنافع التى يصلح لها الشراء. الأمر الثاني: قال الثعالبى في كتاب "سر اللغة" في آخر الفصل الثالث من الباب الثالث أنه لا يقال للعبد: آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد في العمل، وإلا فهو هارب. قوله: فإن باع المغصوب ممن يقدر على انتزاعه صح في الأصح، ثم قال: لكن لو عجز عن الانتزاع لضعف عرض له أو قوة عرضت للبائع، فله الخيار، وفيه وجه أشار إليه الإمام. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام ليس مطابقًا له، فإن كلام الرافعي في عجز المشتري والإمام فرضها في عجز البائع. قوله: ولو باع السمك في بركه صغيرة يمكن أخذه منها بلا تعب صح، وإن كانت كبيرة فوجهان أظهرهما: المنع. ثم قال: وهذا كله فيما إذا لم يمنع الماء رؤية السمك، فإن منع فعلى قولى بيع الغائب إلا أن لا يعلم قلة السمك وكثرته ولا سيئًا من صفاته فيبطل بلا [محالة] (¬1). انتهى. وعبر في "الروضة" بقوله: فلا يصح قطعًا، وفي "شرح المهذب" بقوله: بلا خلاف وما قالاه من نفي الخلاف ليس بصحيح، فسيأتى بعد هذا في التفريع على صحة بيع الغائب وجه أنه لا يشترط ذكر جنس المبيع، ولا قدره ولا صفته حتى لو قال: بعتك ما في كى أو ميراثى من أَبى وهما لا يعلمانه صح. قوله من "زياداته": ولو باع ثلجًا أو جمدًا وزنًا وكان ينماع إلى أن يوزن ¬

_ (¬1) في جـ: مخالفة.

لم يصح على الأصح. وسيأتى هذا إن شاء الله تعالى في المسائل المنثورة في آخر كتاب الإجارة. انتهى كلامه. واعلم أن هذه المسألة قد ذكرها في الفصل [الأول] (¬1) المعقود للمسائل المتعلقة بالباب الأول فصورتها على ما ذكره هناك [إنما هو في تلف البعض خاصة. وأما إذا كان يتلف كله فيبطل جزمًا. هذا حاصل ما ذكره هناك] (¬2) وسنذكر لفظه في موضعه. وأيضًا فبتقدير ما فرضه، وهو أن ينماع جميعه فله حالان: أحدهما: أن يكون على الأرض، فلا إشكال في البطلان. والثانى: أن يكون في إناء فينظر إن عبر بقوله: بعتك هذا كل رطل بكذا، ولم يذكر الجمد، فلا يتأتى الخلاف، بل يصح جزمًا لأن بيع الماء بالوزن صحيح، وإن عبر بقوله: هذا الجمد فيتجه تخريج الصحة فيه على الخلاف المشهور في الإشارة والعبارة. قوله: وذكر بعض شارحى "المفتاح" أنه لو باع دارًا إلا بيتًا في صدرها لا يلى شارعًا ولا ملكًا له على أنه لا ممر له في المبيع لا يصح البيع. انتهى. وما نقله عن الشارح المذكور وأقره، ولم يذكر ما يوافقه، ولا ما يخالفه، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة". وقد صرح بالمسألة في "شرح المهذب" وحكى فيها وجهين، وقال: أصحهما: البطلان إلا أن الرافعي في الركن الثاني من كتاب الشفعة قد ذكر ما حاصله الجزم بالصحة، وسأذكره في موضعه إن شاء الله فراجعه. قوله: كما لو باع ذراعا معينا من أرض أو دار فإنه يصح. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

اعلم أن بيع الدار يتناول الأبنية بلا شك، فيدخل في الذراع المعين ما يسامته من الأبنية، وسيأتي أن بيع النصف المعين من الجدار لا يصح في بعض الصور فاعلمه. قوله في أصل "الروضة": ولو أعتق الجاني، فإن كان السيد معسرًا لم ينفذ على الأظهر، وقيل: لا ينفذ قطعًا. وإن كان موسرًا نفذ على أظهر الأقوال. والثالث موقوف إن فداه نفذ وإلا فلا. انتهى. حكى الرافعي طريقة قاطعة بالنفوذ في الموسر، ولم يذكرها في "الروضة". قوله: واستيلاد الجارية الجانية كإعتاقها. انتهى. اعلم أن في استيلاد الجارية المرهونة ثلاثة طرق: أحدها: القطع بالنفوذ. والثاني: القطع بعدمه. والثالث: على الأقوال الثلاثة في إعتاقها، والقياس جريان هذه الطرق، واستيلاد الجانية أيضًا. قوله في أصل "الروضة": ومتى فدى السيد الجاني فالأظهر أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش وقيمة العبد، والثاني: يتعين الأرش وإن كثر. انتهى كلامه. وقد تقدم فيما يلزم فيه الفداء ثلاث مسائل وهى: البيع والإعتاق والاستيلاد، وقد جزم فيها بإثبات قولين. وهذا الذي جزم به هو طريقة ضعيفة، والمشهور في المسائل الثلاث إنما طريقة القطع بالأقل ومحل القولين إنما هو في الفداء مع إمكان بيعه هكذا ذكره الرافعي والمصنف في كتاب الجنايات في أواخر باب العاقلة، وستعرف لفظه هناك.

والرافعي -رحمه الله- سالم من هذا الاعتراض، فإنه عبر بقوله: فيه خلاف يأتى في موضعه. والأصح الأول. هذا لفظه. فلم يذكر أن الخلاف قولان ولا وجهان ولا طريقان، وليس له فيه اصطلاح فتصرف النووي في كلامه ذاهلًا عن المذكور هناك، فوقع في الغلط. قوله من "زياداته": ولو ولدت الجارية لم يتعلق الأرش بالولد قطعًا، ذكره القاضى أبو الطيب في نماء الرهن، والله أعلم. وهذا الكلام يقتضى أن هذا النقل غريب مع أن الرافعي قد صرح به في موضعين من كتابه: أحدهما: في النكاح في الكلام على الولاية على الرقيق. والثانى: في أواخر باب العاقلة، وهو الموضع اللائق بالمسألة فإنه هناك ذكر أحكام جناية الأرقاء. قوله: فأما إذا أوجبت الجناية القصاص فطريقان: أحدهما: طرد القولين، ثم قال: وأصحهما: القطع بالصحة. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح طريقة القطع ثم خالف في "المنهاج" فجزم بطريقة القولين، فإنه عبر بالأظهر. قوله: ولو أعتق السيد العبد الجانى جناية توجب المال فأصح [الطريقين] (¬1) نفوذه من الموسر دون المعسر. أما عند اليسار فلأنه بسبيل من نقل حق المجنى عليه إلى ذمته باختيار الفداء. انتهى كلامه. وما ذكره من انتقال الحق إلى ذمته باختياره للفداء قد تكرر منه في هذا ¬

_ (¬1) في ب، جـ: القولين.

الفصل، وعبر عنه بعبارات مختلفة، وتبعه النووي عليه وهو خلاف الصحيح، فقد قال -أعنى: الرافعي- في آخر باب العاقلة: ولو قال السيد: اخترت الفداء، وقال: أنا أفديه فوجهان: أحدهما: يلزمه الفداء ولا يقبل رجوعه. والصحيح: أنه لا يلزمه، بل يبقى خياره كما كان. انتهى واللفظ "للروضة".

الشرط الخامس كون المبيع معلومًا قوله: وعن أَبي حنيفة -رحمه الله- أنه لو قال: بعتك أحد عبدى أو عبيدى الثلاثة على أن تختار من شئت في ثلاثة فما دونها يصح العقد. وغرب المتولى فحكى عن القديم قولًا مثله، ثم قال: ووجه المذهب القياس على ما إذا زاد العبيد [على] (¬1) الثلاثة أو لم يجعل له الاختيار أو زادوا على الثلاث أو فرض ذلك في الثياب والدواب وغير العبيد، وعلى النكاح. انتهى كلامه. وما ذكره عن أَبى حنيفة من البطلان في الثياب قد نقل بعد ذلك عنه عكسه فقال في الكلام على خيار الشرط: الثالثة: لو باع عبدين بشرط الخيار في أحدهما لا على التعيين فسد العقد، وقال أبو حنيفة: يجوز في العبدين والثوبين والثلاثة، ولا يجوز في الأربعة وما زاد كما قال في البيع. هذا كلامه. وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، واعلم أن النووي في "الروضة" لما حكى هذا القول القديم لم يصرح باشتراط هذه القيود كما صرح به الرافعي وإنما ساقها مساق المثال فاعلمه واجتنبه. قوله: ولو لم يكن إلا عبد واحد فحضر في جماعة من العبيد وقال السيد، بعتك عبدى من هؤلاء والمشترى يراهم، ولا يعرف عين عبده فحكمه حكم بيع الغائب. قاله في "التتمة". وقال صاحب "التهذيب": عندى أن هذا البيع باطل لأن المبيع غير متعين. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، والأصح ما قاله البغوى، كذا صححه في "شرح المهذب" وعبر [بالأصح] (¬1). قوله: ولو باع الجملة واستثنى جزءًا شائعًا جاز. مثاله: بعتك ثمرة هذا البستان إلا ربعها وقدر الزكاة منها. انتهى. قال الماوردي في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمر: ولابد من ذكر قدر الزكاة في البيع أعشر هو أو نصف عشر. وقال مالك: ليس يلزم ذكر القدر لأن العلم به شرعًا يغنى عن ذكره شرطًا [وهذا ليس بصحيح لأنه لو كان علمه بالشرع يغنى عن استثنائه بالشرط لكان العلم] (¬2) بوجوب الزكاة يغنى عن اشتراط الزكاة. انتهى. وجزم في "البحر" بوجوب ذكره أيضًا، ثم إذا استثنى قدر الزكاة فأراد المشترى أن يدفع قدر الزكاة من غير تلك الثمرة ففيه وجهان حكاهما الماوردي في الباب المذكور: أحدهما: يجوز لأنه يحل في ذلك محل البائع، وقد كان ذلك جائزًا للبائع. والثانى: لا، لأن المشترى لم يملك قدر الزكاة بعقد ولا غيره، وإنما هو كالوكيل فيها بخلاف البائع، قال الرويانى في "البحر": وهذا هو المذهب الذي لا يجوز أن يقال غيره عندى. وما قالاه يقتضى أنه يجوز للبائع إمساك ذلك المقدار وإخراج الزكاة من غيره. قوله: ولو باع ذراعًا من أرض أو ثوب يعلمان ذرعانه ثم اختلفا فقال المشترى: أردت الإشاعة حتى يصح العقد، وقال البائع: بل أردت معنيًا ¬

_ (¬1) في ب: بالأظهر. (¬2) سقط من أ.

حتى يفسد ففي المصدق منهما احتمالان انتهى. قال النووي في "الزيادات": أرجح الاحتمالين يصدق البائع حتى يفسد. واعلم أنه إذا قال: قارضتك على أن نصف الربح لك صح على الأصح. وإن قال: على أن نصفه لى لم يصح في الأصح على ما تعرفه في القراض، فعلى هذا إذا قال: خذ المال قراضًا بالنصف، فالأشبه كما قاله في "المطلب" أنه يصح تنزيلًا على شرط النصف للعامل، وكلام سليم في "المجرد" يشير فيه إلى الوجهين، ثم قال أعنى سليمًا: وإذا قلنا بالصحة، فقال رب المال: أردت أن النصف لى فيكون فاسدًا، وادعى العامل العكس صدق العامل لأن الظاهر منعه. انتهى. وهذه المسألة هى شبيهة بمسألتنا، وحكمها مخالف لما رجحه في "الروضة" إلا أن المتبادر إلى الفهم من مسألة القراض إنما هو اشتراكهما على السواء. قوله: أما إذا عين الممر من جانب صح البيع. . . . إلى آخره. لم يتعرض -رحمه الله- في هذا الفصل لاشتراط بيان قدر الممر بالذرع، وقد صرح بالمسألة في كتاب الدعاوى فقال: إذا ادعى أن له طريقًا في ملك غيره أو ادعى حق إجراء الماء. قال القاضي أبو سعد: الأصح لا يحتاج إلى إعلام قدر الطريق والمجرى. ثم قال: وقال أبو على السنجي: يشترط إعلام الطريق [والمجري] (¬1) وهكذا لو باع بيتًا من دار، وسمى له طريقًا ولم يبين قدره لا يصح. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو أن الأرض المبيعة كانت ملاصقة للشارع فليس للمشترى طروق ملك [البائع] (¬1) فإن العادة في مثلها الدخول من الشارع فينزل الأمر عليها. ولو كانت ملاصقة لملك المشترى فلا يتمكن من المرور فيما أبقاه البائع لنفسه، بل يدخل فيه من ملكه القديم. وأبدى الإمام -رحمه الله- فيه احتمالًا، قال: وهذا إذا أطلق البيع؛ أما إذا قال بحقوقها فله المرور في ملك البائع. انتهى كلامه. وهذا الذي حكاه احتمالًا هو وجه ثابت في المسألتين جميعًا أعني في الملاصقة للشارع والملاصقة لملك المشتري كذا حكاه فيهما معًا صاحب "التتمة" في الباب الثاني عشر المعقود لبيع الأصول والثمار في المسألة العاشرة من الفصل الثالث، وكذلك القاضي حسين، كما نقله عنه في "الكفاية". ثم إن الاحتمال المذكور خاص بالمسألة الأخيرة كما هو المفهوم من عبارة المصنف، فإن الإمام قد صرح بذلك. وكذلك ما نقله عن الإمام آخرًا من جواز المرور إذا قال: بعتكها بحقوقها، فإنه ذكره في المسألة الأخيرة خاصة. نعم أجراه الغزالي في "البسيط" في المسألتين جميعا، وقد جزم الرافعي في "الشرح الصغير" بما قاله الإمام. ولو كانت الدار ملاصقة لمسجد أو أرض موقوفة على الدفن فهل هو كالشارع؟ فيه نظر، والمتجه في المسجد عدم الالتحاق بخلاف المقبرة. قوله: ولو باع داره واستثنى لنفسه بيتًا فله الممر، فإن بقى نظر: إن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أمكن اتخاذ ممر صح البيع وإلا فوجهان، وجه المنع ما قدمناه عن شارح "المفتاح" انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من استحقاق الممر ينبغى أن يكون محله فيما إذا لم يكن البيت متصلًا بشارع أو بملك البائع، فإن كان كذلك فيكون على الوجهين السابقين في المسألة قبلها. وقد صرح بذلك القاضي الحسين في "تعليقته" في باب الوقت الذى يحل فيه بيع الثمار. وحينئذ فيكون الصحيح عدم الاستحقاق. الثاني: أن الصحيح من الوجهين فيما إذا بقى الممر، ولم يمكن اتخاذه عدم الصحة. كذا صححه في "الروضة" من "زياداته" وقاسه على بيع ذراع من ثوب ينقص بالقطع، وهذا هو التعليل الذي نقله الرافعي عن شارح "المفتاح" والموضع الذي نقله عنه الرافعي هو في أثناء الشرط الرابع، وكلام الرافعي هناك يوهم استغراب ما حكاه عن "المفتاح"، وكذا كلام "الروضة"، بل هو أشد إيهامًا من كلام الرافعي. قوله: وأما القدر فالمبيع قد يكون في الذمة، وقد يكون معينًا، والأول هو السلم. انتهى. ودعواه أن كلما عقد على الذمة سلم ليس كذلك، بل شرطه أن يعقد عليه بلفظ السلم. فاما إذا عقد بألفاظ البيع فقال: اشتريت منك أردبًا في ذمتك، ووصفه فإن الأصح أنه لا يكون تسليمًا، بل بيعًا تثبت فيه أحكامه دون أحكام السلم كما قاله في باب السلم.

قوله: فما كان في الذمة من العوضين فيشرط كونه معلوم القدر، حتى لو قال: بعتك ملء هذا البيت حنطة، أو بزنة هذه الصنجة ذهبًا لم يصح البيع. انتهى. وهذا التمثيل الذي قاله: يشعر بأنه لو لم يكن المعقود عليه في هذين المثالين في الذمة بأن قال: بعتك ملء هذا البيت من هذه الحنطة أو بزنة هذه الصنجة من هذا الذهب أنه يصح، والأمر كذلك على الصحيح فافهمه. وسببه أن الإضافة إلى شيء حاضر لا غرر فيه لإمكان الشروع في الوفاء عقيب العقد. وقد صرح الرافعي بهذا الحكم والتعليل في باب السلم في الكلام على تعيين الميكال، لكنه اقتصر على التمثيل بالمبيع دون الثمن فقال ما نصه: لو عين المكيل بما لا يعتاد الكيل به كالكوز فسد السلم لأن ملاءه مجهول القدر، ولأن فيه غررًا لا حاجة إلى احتماله، فإنه قد يتلف قبل المحل وفي البيع لو قال: بعتك ملء هذا الكوز من هذه الصبرة فوجهان بناء على المعنيين. والأصح الصحة اعتمادًا على المعنى الثاني هذا كلام الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة". قوله: ولو قال: بعت بما باع به فلان فرسه أو ثوبه وأحدهما لا يعلمه لم يصح للجهل. وقيل: يصح للتمكن من العلم، كما لو قال في صبرة مجهولة: بعتكها كل صاع بدرهم. وقيل: إن حصل العلم قبل التفريق صح، وإلا فلا. انتهى كلامه. وليس فيه تصريح بما إذا علما ذلك، إلا أنه مشعر بالجزم بصحة البيع.

وقد صرح بالمسألة في الباب الثاني من كتاب الوصية في الكلام على ما إذا قال: أوصيت له بنصيب ابنى، وحكى فيها وجهين، ولم يصحح منهما شيئًا، وسأذكر لفظه هناك لشيء يتعلق به. قوله: ولو قال: بعت بمائة دينار إلا عشرة دراهم لم يصح إلا أن يعلما قيمة الدنانير بالدراهم. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: ينبغى أن لا يكفي علمهما، بل يشترط قصدهما استثناء القيمة وذكر صاحب "المستظهري" في ما إذا لم يعلما حال العقد قيمة الدينار من الدراهم، ثم علما في الحال طريقين: أصحهما: لا يصح كما ذكرنا. والثاني: على وجهين. والله أعلم. هذا لفظه بحروفه. وما نقله -رحمه الله- عن "المستظهري" من حكاية الخلاف في ما إذا لم يعلما عند العقد، ثم علما سهو فإن هذا النقل الذي عزاه إليه محله في آخر باب الربا، وقد قال هناك ما نصه: فإن اشترى ثوبًا بمائة درهم إلا دينار لم يصح، ومن أصحابنا من حكى أنهما إذا علما قيمة الدينار من الدراهم في الحال كان في صحة البيع وجهان، وما ذكرنا أصح. هذا لفظ الشاشي بحروفه. وحاصله أنه حكم أولًا ببطلان البيع علما أو جهلا، ثم حكى طريقة ضعيفة بإثبات وجهين عند العلم. وهو عكس ما نقله عنه في "الروضة"، ثم إننى راجعت أيضًا كلام الماوردي لعلمى أن غالب ما ينقله الشاشى في الكتاب المذكور فيه فرأيته قد ذكر المسألة في الموضع الذي ذكرها فيه الشاشى، ومثل بالمثال بعينه، وزاد المسألة إيضاحًا فقال: فرع: فإذا باعه ثوبًا بدينار إلا درهم فإن جهلا أو أحدهما قيمة

الدينار في الحال كان البيع باطلًا للجهل بالثمن. وإن علما قيمة الدينار ففي البيع وجهان: أحدهما: أن البيع باطل، لأن الاستثناء من غير جنس الثمن. والثاني: أن البيع جائز لأنهما إذا علما أن قيمة الدينار عشرة دراهم، وقد باعه بدينار إلا درهم كان بمثابة قوله: بعتك بدينار إلا عشر دينار. فيصبر البيع بتسعة أعشار دينار، والأول أصح الوجهين، لأنه استثنى درهمًا، ولم يعين قيمة درهم، فلا يلزم المشترى دفع الدينار كله لموضع الاستثناء ولا يلزم البائع دفع الدرهم لأنه ليس بمشترٍ فتعذر استيفاء العقد فبطل هذا لفظه. ونقله عنه صاحب "البحر" أيضًا، فوضح بذلك بطلان ما نقله في "الروضة". قوله: ولو غلب من جنس العروض نوع فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق؟ فيه وجهان، المحكى عن أبى إسحاق أنه ينصرف كما ذكرنا في النقد. قال في "التتمة": وهو المذهب. ومن صوره أن يبيع صاعًا بصاع من الحنطة أو بشعير في الذمة، ثم أحضر اقبل التفريق. انتهى كلامه. واعلم أن كلام المتولى لا يطابق ما نقله عنه الرافعي فإنه قال: إذا باع صاع حنطة بصاع حنطة فإن كانت أنواع الحنطة في البلد تختلف، وأطلق لا يصح العقد. وإن وصف البدلين، أو كان النوع واحدًا لا يختلف أو حضر البدلين في المجلس وتقابضا فالعقد صحيح على ظاهر المذهب كما ذكرنا في الدراهم بالدنانير.

وقد ذكر في المسألة وجه آخر أن العقد لا يصح حتى يكون أحدهما معينًا حالة العقد، وليس يتضح الفرق بين الطعام والدراهم. وهكذا لو باع صاع حنطة موصوفة بصاع شعير فالحكم على ما ذكرنا .. انتهى كلامه. فالمتولي جازم بأن الغلبة في هذا كافية، وأن العقد ينصرف إلى الغالب. وإنما الخلاف الذي حكاه في اشتراط تعيين أحدهما، ولهذا سوى بينه وبين الموصوف في حكاية الخلاف مع أن الوصف كاف بلا نزاع. فهذا الوجه وهو امتناع بيع الطعام بالطعام إذا كانا معًا في الذمة قد حكاه الرافعي في باب السلم، وبالجملة فالخلاف المذكور في "التتمة" غير ما نقله عنه الرافعي. نعم الخلاف صحيح من غير "التتمة" فإن الغزالي حكاه هو وغيره. وقد صحح النووي في أصل "الروضة" ما نقله الرافعي عن "التتمة". قوله: حتى لو باع بدينار أو بعشرة دنانير، والمعهود في البلد الصحاح انصرف إليها، وإن كان المعهود المكسور انصرف إليه. قال في "البيان": إلا أن تتفاوت قيمة المكسر فلا يصح. انتهى. واعلم أن صاحب "البيان" قال: فرع: إذا قال: بعتك بألف درهم مكسرة فقد قال الصيمري: قال أكثر أصحابنا. يصح. قال: وأظنهم أجازوا ذلك إذا تفاوتت قيمة المكسر. فأما إذا اختلف قيمتها، وهي هكذا في وقتنا مختلفة فلا يصح. هذا لفظه. فقائله إنما هو الصيمري ناقلًا له عن غيره بطريق الظن لا بالجزم.

وقال الروياني في "البحر" في باب الربا: لو قال: بعتك بألف درهم مكسرة جاز، وقيل: إنما يجوز إذا لم تتفاوت القيمة، فإن تفاوتت فلا يجوز. انتهى. وهذا يقتضي تصحيح الجواز. قوله: ولو قال: بعتك بألف صحاح ومكسرة ففيه وجه أنه يصح، ويشبه أن يكون جاريًا فيما إذا قال: بعتك بألف ذهب وفضة. انتهى. اعترض النووي على هذا التخريج فقال: لا جريان له هنا. والفرق أن الغرر يعظم فيه لكثرة التفاوت بين الذهب والفضة. قوله: ولو باع بنصف دينار صحيح بشرط كونه مدورًا جاز إن كان يعم وجوده، وإن لم يشترطه فعليه شق وزنه نصف مثقال. انتهي. تابعه في "الروضة" على تقييد الصحيح بما إذا عم وجوده، ومقتضاه أنه إذا كان عزيز الوجود لا يصح، وهو لا يستقيم، فإنه سيأتي من كلامهما بعد هذا بقليل أنه إذا باع بنقد يعز وجوده، فإنه ينبنى على جواز الاستبدال عن الثمن. فإن جوزناه: صح، ثم إن وجد فذاك، وإلا فيستبدل. وإن لم تجوز الاستبدال: لم يصح. قوله: ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة، كل صاع بدرهم، أو قال مثله في الثوب فخرج ناقصًا أو زائد فقولان. قال في "التهذيب": أصحهما: أنه لا يصح البيع لأن الجمع بينهما محال. والثاني: يصح لإشارته إلى الصبرة. وعلى هذا إن خرج ناقصًا فللمشتري الخيار، فإن أجاز فهل يخير بالجميع أو بالقسط؟ فيه وجهان. وإن خرج زائدًا فلمن تكون الزيادة؟ فيه وجهان.

أظهرهما؛ أنها للمشتري، لأن جملة الصبرة مبيعة منه، فعلى هذا لا خيار له. وفي البائع وجهان: أصحهما: أنه لا خيار له أيضًا. والثاني: أن الزيادة للبائع، وعلى هذا لا خيار له، وفي المشترى وجهان: أصحهما: ثبوت الخيار. انتهى مخلصًا. فيه أمور: أحدها: أن هذا الخلاف قد جعله أيضًا في "الشرح الصغير" قولين، لكنه قد خالف في "المحرر" فجعله وجهين فقال ما نصه: صح البيع إن خرجت كما ذكرنا، وإلا لم يصح في أصح الوجهين. انتهى. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"المنهاج" وقد استفدنا من "المحرر" أيضًا أن الصحيح ما قاله البغوي. وقد صرح بتصحيحه أيضًا في "الشرح الصغير"، وكذلك النووي في أصل "الروضة" هنا وغيرها من كتبه. الأمر الثاني: أن الرافعي -رحمه الله-: قد ذكر بعض أمثلة هذه المسألة في باب الربا، وأجاب على القولين بالصحة بما يخالف المذكور هاهنا فقال في أثناء الطرف الأول: ولو قال: بعتك هذه الصبرة بتلك الصبرة مكايلة أو كيلًا بكيل، أو هذه الدراهم بتلك موازنة أو وزنًا بوزن. فإن كالا أو وزنا وخرجتا متساويتين صح العقد، وإلا فقولان: قال في "التهذيب": أصحهما: البطلان. والثاني: يصح في الكبيرة بقدر ما يقابل الصغيرة ولمشتريها الخيار. ثم قال: ولو باع صبرة حنطة بصبرة شعير جزافًا جاز؛ ولو باعها بها

صاعًا بصاع أو بصاعين فالحكم كما لو كانا من جنس واحد. انتهى كلامه. فأما التفريع الذي ذكره على قول الصحة في المسألة الأولى فواضح لأنه لا يمكن التصحيح في الجميع لأجل الربا. وأما القول به أيضًا في المسألة الثانية، وهي بيع صبرة [القمح بصبرة] (¬1) الشعير فمخالف للمذكور هنا. فإن بيع الصبرة [بالعشرة كل صاع بدرهم قد وجد فيه مقابلة الجملة بالجملة والأفراد بالأفراد وهذا بعينه موجود أيضًا في بيع الصبرة بالصبرة] (¬2) صاعًا بصاع فحاصله أنهما مثالان للمسألة، ونحن نعلم بالضرورة أن الحكم ليس خاصًا بالمثال المذكور. في هذا الباب وهو بيع الصبرة بعشرة بل سائر الأعيان كذلك. الأمر الثالث: أن النووي قد ذكر من "زياداته" في باب الربا عقب المسألة الثانية عكس ما ذكره هاهنا فقال: قال أكثر أصحابنا: إذا باع صبرة الحنطة بصبرة الشعير صاع بصاع، وخرجتا متساويتين صح. وإن تفاضلتا، ورضى صاحب الزائدة بتسليم الزيادة تم البيع، ولزم الآخر قبولها. وإن رضى صاحب الناقصة بقدرها من الزائدة صح؛ وإن تشاحا فسخ البيع. انتهى كلامه. فصحح بيع التفاضل على عكس ما قاله هنا، ثم إنه أيضًا يشكل على بيع صبرة القمح بصبرة القمح إذ لا أثر لاختلاف الجنسين. فإن من صحح أولًا فإنما يصحح مع التماثل، وأثبت له الخيار. الأمر الرابع: أن الصحيح من الوجهين في المقدار الذي يخير به أنه يخير ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بالبعض. قاله في "شرح المهذب". قوله: نعم حكوا قولين في أنه هل يكره بيع الصبرة جزافًا؟ انتهى. والصحيح الكراهة، كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" وسوى في ذلك بين بيعها والبيع بها. وعلل صاحب "التتمة" عدم الكراهة بقوله: ووجه أن شراء المجهول الذرع لا يكره، فكذلك هاهنا هذا لفظه. ومقتضاه الجزم بعدم الكراهة في المذروع. قوله في "أصل الروضة": أما إذا أصدقها عينًا غائبة أو خالعها عليها، أو عفى عن القصاص على عين غائبة، فيصح النكاح وتقع البينونة ويسقط القصاص قطعًا، وفي صحة المسمى القولان. انتهى كلامه. والتعبير بقوله: (قطعًا) راجع إلى الثلاثة فقد صرح بذلك في "شرح المهذب" فقال: ولا خلاف في هذه الثلاثة. هذا لفظه. وما ذكره من نفي الخلاف في النكاح ليس كذلك فإن [في] (¬1) النكاح قولا قديمًا أنه يفسد بفساد الصداق. وقد حكاه هو في مواضع من كتاب الصداق، وكذلك ما ذكره في البينونة أيضًا فإنه صاحب "التتمة" حكى وجهًا أنه لا تحصل عند فساد العوض، وقد ذكره في "الروضة". [قوله أيضًا في أصل الروضة: ] (¬2) في الركن الرابع من كتاب الخلع ويجريان -أي قولا الغائب- في رهنه وهبته وهما أولى بالصحة لعدم الغرر، ولهذا إذا صححناهما فلا خيار عند الرؤية. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من الأولوية قد صحح خلافه في "شرح المهذب" فقال: وفي رهن الغائب وهبته القولان، وقيل: هما أولى بالصحة لعدم الغرر هذا لفظه. الأمر الثاني: أن ما جزم به من عدم الخيار عند الرؤية لم يجزم به الرافعي، وإنما عبر بقوله: ولهذا قيل: إذا صححناهما فلا خيار عند الرؤية إذ لا حاجة إليه، وذكر في "الشرح الصغير" مثله أيضًا. وقد ذكر في "شرح المهذب" هنا أن القولين يجريان في الواقف أيضًا، واقتصر عليه، لكنه ذكر في كتاب الوقف من "زياداته" أن الصحيح صحته، وأنه لا خيار له عند الرؤية فاعلمه، وستقف عليه هناك إن شاء الله تعالى فاعلمه. قوله في أصل "الروضة": الثالثة: إن لم نجوز شراء الغائب وبيعه لم نجوز بيع الأعمى وشراءه وإلا فوجهان: أصحهما: أنه لا يجوز أيضًا إذ لا سبيل إلى رؤيته فيكون كبيع الغائب على أن لا خيار. والثاني: يجوز، ويقوم وصف غيره له مقام رؤيته. انتهى كلامه. وما صححه من منع شراء الأعمى تفريعًا على امتناع بيع الغائب صحيح. وأما ما صححه من امتناع بيعه تفريعًا على هذا القول فمناقض لما صححه بعد هذا، فإنه ذكر في أواخر الكلام على بيع الغائب أن من باع عينًا لم يراها فلا يثبت له الخيار عند رؤيتها على الصحيح بخلاف المشتري. وفرقوا بينهما بان جانب البائع بعيد عن الخيار، ولهذا لو باع شيئًا على أنه معيب فبان صحيحًا لا خيار له.

ولو اشتراه على أنه صحيح فبان معيبًا ثبت له الخيار. إذا علمت ذلك علمت أن ذكره هنا مناقض لما سيأتي. وقد وقع أيضًا هذا الاختلاف في "شرح المهذب" وكلام الرافعي صحيح لا اعتراض عليه، فإنه لم يصحح هنا ولا في "الشرح الصغير" شيئًا من الوجهين في ثبوت الخيار للبائع، وإنما نقل كلًا عن طائفة، والتصحيح المذكور في أصل "الروضة" من تصرفه، فلا اعتداد به. قوله في المسألة: وإذا قلنا: لا يصح بيعه وشراؤه لم تصح منه الإجارة والرهن والهبة أيضًا. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في الرهن والهبة من منعهما إذا جوزنا بيع الغائب، ولكن منعنا الأعمى منه لا يستقيم لأن المقتضى لمنعه بيعه على القول بجواز بيع الغائب، إنما هو تعذر إثبات خيار الرؤية لما تقدم. وقد تقدم من كلام "الروضة" أنه إذا جوزنا رهن الغائب وهبته فلا خيار فيهما عند الرؤية، ولا فرق بين الأعمى والبصير الذي لم تتقدم له رؤية. نعم هذا الاشكال لا يرد على الرافعي لأنه لم يجزم بنفي خيار الرؤية للبصير الذي لم ير الموهوب والمرهون، وإنما عبر بقوله: قيل: إنه لا خيار لهما، وقد تقدم التنبيه على ذلك. قوله: وهل للأعمى أن يكاتب عبده؟ قال في "التهذيب": لا. وقال في "التتمة": المذهب جوازه تغليبًا للعتق. انتهى كلامه. والصحيح ما قاله في "التتمة" فقد جزم أيضًا بجوازه ابن عبدان في كتاب "شرائط الأحكام". وقال النووي في "شرح المهذب" وفي "زيادات الروضة": إنه الأصح.

وسبق البغوي إلى المنع جماعة منهم ابن القاص في "التلخيص"، والقفال في شرح له. قوله: لو اشترى غائبًا رآه قبل العقد نظر إن كان مما لا يتغير غالبًا كالأرض، أو لا يتغير في المدة المتخللة بين الرؤية والشراء صح العقد. ثم قال: وقال الأنماطي لا يصح، وزاد في "الروضة" على هذا فقال: إنه شاذ مردود. وما نقله وجهًا عن الأنماطي خاصة قد نص عليه الشافعي. كذا حكاه الروياني في "البحر" عن البيهقي عن ابن مقلاص تلميذ الشافعي. وقد شرط المارودي في الاكتفاء بالرؤية السابقة أن يكون متذكرا للأوصاف حال البيع، وجزم به الروياني في "البحر" ولم يذكر ابن الرفعة في "الكفاية" غيره، وهو متجه لأن الناسي جاهل به حال العقد وقال في "شرح المهذب" إن ما قاله المارودي غريب لم يتعرض له الجمهور. قوله في أصل "الروضة": الثاني: استقصاء الأوصاف على الحد المعتبر في السلم هل يقوم مقام الرؤية، وكذا سماع وصفه بطريق التواتر؟ وجهان: أصحهما: لا، وبه قطع العراقيون. انتهى كلامه. واعلم أنا إذا فرعنا على الصحة في هاتين المسألتين فإنه لا خيار له عند الرؤية. كذا جزم به الرافعي، ولم يتعرض له المصنف. قوله: وقول "الوجيز" في بطلان بيع الغائب، ولعله أصح [القولين] (¬1) إنما هو مرض القول فيه لأن طائفة من أصحابنا مالوا إلى قول التصحيح. انتهى. ¬

_ (¬1) في أ: الطريقين.

وهذه الصيغة أعني مرض ذكرها في "الشرح الصغير" أيضًا وهو بالميم وتشديد الراء وبالضاد المعجمة وأشار بذلك إلى قوله: (ولعل) فإن التعبير بها يدل على عدم قوته. قوله: فالقوصرة. هي بالقاف المفتوحة والصاد المهملة والراء المشددة وهو: الذي يجعل فيه التمر. قاله الجوهري ومراده الوعاء الذي يملأ من التمر اللين، ويتحامل عليه لينكبس بعضه على بعض وهو المسمى بالعجوة في معظم بلاد مصر وبالكبيس في صعيدها. قوله: وعن الصيمري حكاية خلاف في القطن في العدل أنه يكفي رؤية أعلاه أم لابد من رؤية جميعه؟ قال: والأشبه عندي أنه كقوصرة التمر أي فتكفي رؤية الأعلى. انتهى كلامه. ولم يصرح في "الروضة" أيضًا بتصحيح ولا بيان أن الخلاف قولان أو وجهان، والصحيح ما رجحه الصيمري. كذا صححه في "شرح المهذب" وعبر بالصحيح. وأما الخلاف فإنه قولان، كذا نقله العمراني في "البيان". قوله: ولو أراه أنموذجًا، واستغنى به عن رؤية الباقي فإن أدخله فعن القفال وغيره القطع بالصحة. وقال الإمام: إنه القياس، وعن بعض الأئمة المنع. انتهى كلامه. وصورة المسألة أن يخلط الأنموذج بالصبرة، فإن أدخله [في البيع] (¬1) ولم يخلطه بها فيكون بمنزلة عينين رأى إحداهما لأن المرئي فيه متميز عن غير المرئي. هكذا ذكره البغوي في "فتاويه"، وهو متعين لا شك فيه. قال: وكذلك لو جعل الصبرة صبرتين وأراه إحداهما ثم باعهما. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: بخلاف السمك يراه في الماء الصافي يجوز بيعه، وكذا الأرض يعلوها ماء صافي لأن الماء من مصالحها. انتهى كلامه. وتقييد الصحة في الأرض بالماء الصافي يشعر بأن الماء الكدر يمنع صحتها لعدم الرؤية، لكنه في كتاب الإجارة اشترط رؤية العين المستأجرة، ثم ذكر أن الماء الكدر لا يمنع الصحة. وعلله بأنه من مصالحها، فالتسوية بين البابين في الرؤية، وفي هذا التعليل يقتضي التسوية بينهما في الإبطال بالماء الكدر أو في عدمه فإن الرؤية شرط الشراء والإجارة، فإن قيل إذا عين السمكة بالجنس والوصف فهل يصح بيعها أيضًا في الماء، وإن لم يرها كالأرض؟ قلنا: لا، وذلك لأنه إنما يصح بيع السمكة في الماء إذا أمكن إخراجها بلا صعوبة. وحينئذ فنقول: لما أمكنه رؤيتها وإعادتها إلى الماء بلا مشقة لم نكتف فيها بالرؤية من وراء الماء كغيرها بخلاف إجارة الأرض. قوله: ففي شراء الدار لابد من رؤية البيوت والسقوف والسطوح والجدران داخلًا وخارجًا والمستحم والبالوعة؛ وفي البساتين رؤية الأشجار والجدران ومسايل الماء، ولا حاجة إلى رؤية أساس البنيان وعروق الأشجار ونحوها. وفي "الجرجانيات" لأبي العباس الروياني ذكر وجهين في اشتراط رؤية طريق الدار، ومجرى الماء الذي تدور به الرحى. انتهى كلامه. والأصح في هذين الوجهين الاشتراط. كذا صرح به في "شرح المهذب" فقال: أصحهما: الاشتراط لاختلاف الغرض به. انتهى كلامه. واعلم أن النووي في "الروضة" قد اختصر كلام الرافعي اختصارًا فاسدًا، فإنه ذكر كلام الرافعي بعينه من غير زيادة ولا نقصان، ثم قال: وقيل في اشتراط رؤية طريق الدار ومجرى الماء الذي تدور به الرحى

وجهان. هذا لفظه. وتعبيره بقوله: (وقيل) فاسد لوجهين: أحدهما: أنه يقتضي إثبات طريقين، وأن الرافعي حكاهما مع أن الرافعي لم يحكِ إلا طريقة واحدة، وهي طريقة الوجهين، وكذلك هو في "شرح المهذب"، وقد تقدم ذكر لفظهما. الوجه الثاني: أنه بتقدير ما قاله من [الطريقين فليس في] (1) كلامه ما يبين أن الطريقة الصحيحة وهي طريقة القطع هل هي باشتراط الرؤية أم بعدمها؟ وكلامه إلى عدم الاشتراط أقرب فإن المتبادر إلى الذهن أن ذلك يعود إلى المسائل التي قبلها، بلا فاصل، والرؤية فيها لا تشترط. وقد تقدم من كلامه في "شرح المهذب" أن الصحيح خلافه. قوله: وإذا اشترى عبدًا فلابد أن يرى منه ماعدا العورة على أظهر الوجهين. قال: وفي الجارية وجوه: أحدها: أنها كالعبد. والثاني: يرى ما يبدو عند المهنة. والثالث: تكفي رؤية الوجه والكفين. انتهى ملخصًا. والأصح [إلحاق] (¬1) الجارية بالعبد. كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة". قوله: وفي رؤية الشعر وجهان، قال في "التهذيب": أصحهما: أن لا يشترط. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والصحيح ما قاله البغوي، كذا صححه الرافعي بعد ذلك في أسباب الخيار في أول القسم الثاني المعقود لخيار النقيصة وعبر بالأصح. وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة" هنا، وفي "شرح المهذب" أيضًا. قوله: ولا يشترط رؤية اللسان والأسنان في أحد الوجهين. انتهي. والصحيح عدم الاشتراط. كذا صححه البغوي وتلميذه العماد النيهى -بكسر النون وبالياء بنقطتين من تحت-. على ما نقله عنه ابن الصلاح في فوائد رحلته. وقال في "شرح المهذب" أيضًا: إنه الأصح. وسوى في "التهذيب" بين لسان الدابة ولسان الآدمي في إثبات الخلاف، والقياس التسوية بينهما في الأسنان أيضًا. واعلم أن كلام الرافعي و"الروضة" يوهم أن الخلاف في الأسنان واللسان والشعر خاص بالجارية، فإنهما ذكرا ذلك في تفاريعهما دون العبد ويقويه من جهة المعنى غرض الاستمتاع بها، لكن البغوي والنيهي وغيرهما جعلوا محل الخلاف في الرقيق، فدل على عمومه في الجارية والعبد. وأيضًا فإنه يؤخذ من تصحيح النووي إلحاق الجارية بالعبد. قوله: والثوب المطوي لابد من نشره. قال الإمام: ويحتمل عندي أنه يصح بيع الثياب التي لا تنشر بالكلية إلا عند القطع لما في نشرها من التنقيص. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الجواز احتمالًا عن الإمام وهو يقتضي أنهما لم يظفرا بخلاف في المسألة. وقد صرح بذلك في "شرح المهذب" فقال: هكذا أطلقه الأصحاب

وقطعوا به، ثم نقل احتمال الإمام، ولكن رأيت في "شرح التلخيص" للشيخ أبى علي الجزم بأنه لا يشترط، ونقله أيضًا عنه البغوي في "فتاويه". وجزم به الجرجاني في كتابه المسمى بـ "الشافي" وحكى وجهين من غير ترجيح فيما إذا لم ينقص بالنشر، وعلل الجواز بأن الغرر فعل بمشاهدة ظاهرها، فتحصلنا على ثلاثة أوجه. قوله من "زوائده": قال القفال في "شرح التلخيص": لو اشترى الثوب المطوي، وصححناه ونشره فاختار الفسخ وكان لطيه مؤنة ولم يحسن طيه لزم المشترى مؤنة الطي [انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن التقييد بعدم معرفة الطي] (¬1). يقتضي إيجابه عليه إذا عرفه. والقياس وجوب المؤنة مطلقًا لأن الطي ليس بمثلى. الأمر الثاني: أنه سيأتي في أثناء خيار النقص فيما إذا اشترى ثوبًا مطويًا واطلع على عيب به بعد نشره المنقِص له فرده لا يلزمه شيء في أصح القولين كما في كسر البيض والذبح. ولا شك أن المصلحة في الموضعين قد تكون في الإمساك وقد تكون في الرد. قوله: ولا يصح بيع الثياب التَّوزية في المسوح على هذا القول. انتهى. أما التوزية فبتاء مثناة من فوق مفتوحة ثم واو مفتوحة مشددة ثم زاي معجمة، وهي جنس من الثياب منسوبة إلى توز بلدة من بلاد فارس مما يلي الهند. ويقال لها أيضًا توج بالجيم. قاله ابن الصلاح في "مشكل الوسيط". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما المسوح: فبالسين والحاء المهملتين جمع مسح بكسر الميم وهو الملاس من الشعر، ويجمع أيضًا على أمساح. وقوله: (على هذا القول) أي القول الذي نحن الآن نفرع عليه، وهو اشتراط الرؤية، فاعلم ذلك فإنه بعيد التبادر. قوله: وذكر العبادي أن الفقاع يفتح رأسه وينظر فيه بقدر الإمكان ليصح بيعه. والغزالي أطلق المسامحة به في "الإحياء" فيما أظن. انتهى. والأصح هو الصحة مطلقًا. كذا صححه النووي في "زيادات الروضة"، والأمر كما ظنه الرافعي من إطلاق المسامحة به في "الإحياء"، وإنما توقف فيه الرافعي لأن عبارته فيها إيهام. لكن ما ظهر للرافعي منها هو حاصل ما يدل عليه كلامه عند التأمل. ونقل ابن الصلاح فيما جمعه من الفوائد في رحلته إلى بلاد الشرق عن تصنيف الشيخ عماد الدين بن عبد الرحمن النيهي -بكسر النون- كما سبق ضبطه في الصفحة التي قبلها. أنه لا يصح شراؤه حتى يصبه ويراه. قوله في أصل "الروضة": الخامسة: إذا جوزنا بيع الغائب فعليه فروع: أحدها: بيع اللبن في الضرع باطل. فلو قال: بعتك من اللبن الذي في ضرع هذه البقرة كذا. لم يجز على المذهب لعدم تيقن وجود ذلك القدر، وقيل: فيه قول بيع الغائب. انتهى. ترك وجهًا ذكره الرافعي بعد هذا بأسطر، ونقل عن الإمام أن جماعة قالوا به، وهو أنه إن كان المبيع قدرًا يسيرًا وابتدر الحلب، فإنه يتخرج على بيع الغائب لأنه لا يفرض والحالة هذه ازدياد شيء به مبالاة، فإن كان كثيرًا بطل، ولا يتوهم من كلام الرافعي أن الوجه عائد لغير هذه الصور فاعلمه.

قوله فيها أيضًا: ولو حلب شيئًا من اللبن فأراه ثم باعه شيئًا مما في الضرع فوجهان كما في الأنموذج. وذكر الغزالي الوجهين فيما لو قبض على قدر من الضرع وأحكم شده وباع ما فيه. قلت: الأصح من الصورتين البطلان لأنه يختلط بغيره مما ينصب في الضرع. هذا كلام "الروضة". وهو فاسد لأن المسألة الأولى مفرعة على امتناع بيع الغائب لأن ذلك هو صورة مسألة الأنموذج، وما ذكره ثانيًا لا يستقيم إلا على جواز بيعه أعني الغائب، فليس الوجهان هما الوجهان، بل ولا مناسبة بينهما. وما ذكره من "زياداته" في تعليل البطلان للصورتين مستقيم على الأولى، وكلام الرافعي مستقيم فإنه لما ذكر المسألة الثانية لم يجعل الخلاف الذي فيها هو الخلاف المتقدم، بل خلافًا آخر أسقطه من "الروضة"، وقد تقدم ذكرى إياه. وفي كلام الرافعي بعض غموض، وصحح في "شرح المهذب" في المسألتين كما صحح في "الروضة". قوله في "الروضة": الثاني لا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، وفي وجه يجوز بشرط الجز، وهو شاذ ضعيف. ويجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان بعد الذكاة، وتجوز الوصية باللبن في الضرع والصوف على الظهر. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه جعل هذا الفرع كله فرعًا ثانيًا من فروع القول بعدم اشتراط

الرؤية. وجميع ما في هذا الفرع ليس له تعلق باشتراط الرؤية ولا بعدم الاشتراط. والرافعي -رحمه الله- سالم من هذا الاعتراض، فإنه ذكر بيع اللبن في الضرع، [وذكره صحيح فإنه من تفاريع المسألة ثم قال بعد ذكره له: ونختم المسألة بصور شبهها] (¬1) وذكر ما في هذا الفرع من المسائل، فعبر في "الروضة" بقوله: (الثاني) ذاهلًا عن كونه في تعداد المسائل المفرعة على جواز بيع الغائب. وقد ذكر أيضا في "الروضة" فروعًا أخرى فرعها على امتناع بيع الغائب، ولا تعلق لها به فاعلم ذلك. الأمر الثاني: أنه يستثنى من كلامه ما إذا اقبض على قطعة جمعها وقال: بعتك هذه. قال في "شرح المهذب" فإنه يصح بلا خلاف، وفيه احتمال للغزالي لأنه يتعين به غير المبيع وهو الباقي من الصوف. وذكر الرافعي تعليلًا يخرج هذه المسألة وهو أن مقتضى بيع الصوف هو الاستيعاب، ولا يمكن إلا بإيلام الحيوان فأسقطه من "الروضة" وهذا الوجه الذي قال فيه: إنه شاذ ضعيف قد اختاره الروياني في "الحلية" فقال: إنه القياس والاختيار. وصحح صاحب "الاستقصاء" فيما إذا قبض على قطعة أنه لا يصح كما ذهب إليه الغزالي احتمالًا، وقال: إن قول الصحة ليس بشيء. الأمر الثالث: إذا أوصى بالصوف أو باللبن فجز الموصى له الصوف ¬

_ (¬1) سقط من أ.

على العادة، وما كان موجودًا حال الوصية [يكون] (¬1) للموصي له، وما حدث يكون للوارث. فلو اختلفا في قدره فالقول قول الوارث بيمينه هكذا نقله في "شرح المهذب" عن "شرح المختصر" للبغوي. قوله من "زياداته": قال أصحابنا: لو باع المسك المختلط بغيره لم يصح لأن المقصود مجهول كما لا يصح بيع اللبن المخلوط بالماء. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه يقتضي أن العلة في بطلان المسألتين إنما هو الجهالة حتى لو علم مقدار المسك واللبن صح. لكن كلامه في باب زكاة النقدين صريح أو كالصريح في عدم الصحة وإن علم المقدار، فإنه نقل وجهين في جواز المعاملة بالدراهم المغشوشة إذا كان قدر النقرة مجهولًا. ثم قال: وربما نقل العراقيون الوجهين مطلقًا، ووجهوا المنع بأن المقصود غير معين، فصار كما لو شيب اللبن بالماء وبيع، فإنه لا يصح. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن صور المسألة في المسك أن يكون مخالطًا لغيره لا على وجه التركيب، فإن كان معجونا مع غيره كالغالية والند جاز كما ذكره في "شرح المهذب"، وتدليل المصنف يقتضيه [لأن المقصود والحالة هذه ليس هو المسك بخصوصه بل المقصود هو المجموع. قوله: ] (1) ويجوز بيع الأكارع والرؤوس بعد الإبانة نيئة ومشوية ولا اعتبار بما عليها من الجلد فإنها مأكولة وكذا المسموط نيئًا ومشويًا، وفي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

النيء احتمال للإمام. انتهى. وصورة المسألة كما قاله البغوي في "فتاويه" في رؤوس الغنم: أما رؤوس الإبل والبقر قال: فلا يجوز لأنه بمثابة البيع بعد الذبح وقبل السلخ. أي لأن جلده لا يؤكل. قوله من "زوائده": ولو باع سمنًا في ظرف ورأى أعلاه مع ظرفه أو دونه صح. انتهى. وصورة المسألة أن لا يختلف الظرف بالرقة والغلظ فإن اختلف فقيل: يصح قطعًا، وقيل: يبطل قطعًا وقيل بتخريجه على قولى بيع الغائب وهو الصحيح. هكذا ذكره قبل ذلك بنحو ورقتين في الكلام على بيع الصبرة، وسيأتي في الرهن ما يخالفه. قوله في المسألة أيضا من "زياداته": فإن قال: بعتكه بظرفه كل رطل بدرهم فإن لم يكن للظرف قيمة [بطل. انتهى. وذكر نحوه في "شرح المهذب" فقال: فإن لم يكن له قيمة] (¬1) لم يصح البيع بلا خلاف لأنه لا قيمة له، وأخذ الثمن في مقابلة وزنه. وهذا الكلام ليس فيه تصريح بأنه يبطل في الظرف فقط أم فيه وفي السمن؟ وقد صرح الإمام بالمسألة ونقل أن البطلان فيهما، فقال: قد قطع أصحابنا بفساد البيع في السمن من حيث اشتمل على اشتراط بذل مال في مقابلة ما ليس بمال. والوجه تخريج هذا عندنا على تفريق الصفقة فالرق مع السمن ممتنع جميعًا في القدر وقوبلا في الثمن فكان كصفقة تجمع حرًا وعبدًا وشاة وخنزيرًا. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

والذي قاله بحثًا هو الصواب. ونظير هذه المسألة ما إذا باع القز وفيه الدور وزنًا، وقد تقدم الكلام على ما وقع فيها من الخلل في كلام النووي فراجعها. قوله: وإن كان للظرف قيمة فقيل يصح. وإن اختلفت قيمتها كما لو باع فواكه مختلطة وزنًا أو كيلًا، وقيل: باطل لأن المقصود السمن وهو مجهول بخلاف الفواكه. وقيل: إن علما وزن الظرف والسمن جاز وإلا فلا. وهذا هو الأصح. ذكره البغوي وغيره. انتهى. وما ذكره -رحمه الله- متهافت يدفع أوله آخره، وذلك لأن صورة المسألة إن كانت أعم من كون الظرف مجهولًا أو معلومًا فلا يصح تعليل البطلان بالجهالة، فإن كانت مع جهالته فلا يصح مجيء [الوجه] (¬1) الثالث. قوله: أما إذا كان المبيع شيئين ورأى أحدهما دون الآخر، فإن أبطلنا شراء الغائب لم يصح البيع فيما لم يره، وفي ما رآه قولا تفريق الصفقة، وإن صححنا شراء الغائب ففي صحة العقد فيهما قولان لأنه جمع في صفقة واحدة بين مختلفى الحكم لأن ما رآه لا خيار فيه، وما لم يره يثبت فيه الخيار، فإن صححنا فله رد ما لم يره، وإمساك ما رآه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" و"شرح المهذب" على الجزم بأن له تبعيض هذه الصفقة بالرد، وهو مشكل على ما إذا اشترى عينين صفقة واحدة فاطلع على إحداهما بعيب، فإنه إما أن يردهما أو يمسكهما، وليس له التبعيض، مع أن السبب قد وجد في الصورتين في البعض. لا جرم أن البغوي في "فتاويه" والمتولى في "التتمة" قد جزما بأن ¬

_ (¬1) في ب: القول.

حكمه حكم رد العيب في تفريق الصفقة ولعل الرافعي -رحمه الله- إنما وقف هنا على كلام من جوز التفريق هناك، فتبعه عليه النووي. قوله: الثالثة: إذا لم تشترط الرؤية فيشترط ذكر جنس المبيع في ظاهر المذهب. ثم قال: وعلى قولنا أنه يشترط ذكر الجنس فالظاهر أنه لابد من ذكر النوع أيضًا بأن يقول: عبدي التركي أو فرسي العربي. وأوهم الإمام خلافا فيه فقال: لم يشترط أصحاب القفال ذلك، واشترطه العراقيون. انتهى كلامه. وهو يقتضي إنكار الخلاف في اشتراط النوع، وهو ثابت، فقد صرح به القاضي حسين في "تعليقه" فقال: وهل يشترط ذكر النوع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لأنه إنما يحتاج إليه لتمييز المبيع من غيره، وذلك يحصل بذكر الجنس. والثاني: نعم لأن القيمة تختلف باختلاف الأنواع كما تختلف باختلاف الأجناس. هذا كلام القاضي. قوله: وإذا ذكر الجنس والنوع لم يفتقر إلى ذكر الصفات، وفي وجه يفتقر إلى ذكر [معظم] (¬1) الصفات. وضبط ذلك بما يصف به المدير عند القاضي، قاله القاضي أبو حامد. وفي وجه أضعف منه يفتقر إلى صفات السلم. قاله أبو علي الطبري. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف في أن العبرة بصفات السلم لا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بالصفات التي يدعى بها عند القاضي، وهو غريب، فإنه صريح بأن الصفات المذكورة في الدعوي ليست هي صفات السلم، وليس كذلك فقد جزم هو والنووي بأنها هي، كذا ذكره في موضعين: أحدهما في باب القضاء على الغائب. والثاني في أوائل كتاب الدعوى، ولم يذكرا خلاف ذلك. قوله: ولو باع ما لم يره وصححنا العقد فهل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان: أصحهما عند المراوزة: لا يثبت لأن جانب البائع بعيد عن الخيار. والثاني: يثبت لأنه جاهل بالمعقود عليه فأشبه المشترى، وهذا هو الذي أورده الشيخ أبو حامد ومن تابعه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح هو الثاني. كذا صححه الرافعي في الكلام على شراء الأعمى وتبعه، وقد تقدم ذكره هناك مبسوطًا، وتقدم ما وقع فيه من المخالفة للنووي فراجعه. الأمر الثاني: أن محل هذا الخلاف فيما إذا لم يجده البائع زائد على ما وصفه به. فإن وجده زائدًا ثبت له الخيار بلا خلاف قاله المارودي في "الحاوي" وقاسه على ما إذا وجده المشترى ناقصًا. قوله: ثم خيار الرؤية على الفور أو يمتد امتداد مجلس الرؤية؟ فيه وجهان. قال صاحب "التهذيب": والامتداد أصح. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" والذي صححه البغوي هو الصحيح.

كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو باعه المشتري قبل الرؤية لم يصح، بخلاف ما لو باعه في زمن خيار الشرط، فإنه يصح على [أصح] (¬1) الوجهين لأنه يصير مجيزا للعقد، وهنا الإجازة قبل الرؤية. انتهى. وما ذكره من تصحيح البيع في زمن الخيار صورته إذا أذن فيه البائع أو باعه المشترى منه، فإن باعه من غيره بغير إذن لم يصح قطعًا كما أوضحوه في باب الخيار. قوله: والثاني: نقل القاضي الروياني وصاحب "التتمة" وجهًا أنه يعتبر على قول اشتراط الرؤية الذوق في الخَلِّ ونحوه، والشم في المسك ونحوه، واللمس في الثياب ونحوها. انتهى كلامه. وما نقله -رحمه الله- عن "التتمة" من حكاية هذا الوجه في لمس الثياب ونحوها تابعه عليه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب" وهو غلط. فإن صاحب "التتمة" لم ينقله إلا في الشم والذوق ولم يتعرض للمس بالكلية، ثم إن الذهاب إليه بعيد جدًا، فإن المقصود من الثياب يعرف بالرؤية، وأما الخل والمسك ونحوهما فلا يعرف حالهما إلا بالشم والذوق، ومن جملة الحواس حاسة السمع، ولم يصرح الرافعي بجريان الخلاف فيما إذا باع ما يقصد لسماع صوته فهل يتخرج على الخلاف أم يصح من غير سماعه جزمًا؟ فيه نظر، والمتجه الثاني. والفرق سهولة الشم والذوق بخلاف السماع فإنه إلى اختيار الطائر، وقد يشتريه صغيرًا لأجل فائدة سماعه في المستقبل. قوله: الحادي عشر: ذكر بعضهم أنه لابد من ذكر موضع المبيع الغائب، فلو كان في غير بلد التبايع وجب تسليمه في ذلك البلد، فلا يجوز ¬

_ (¬1) سقط من ب.

شرط تسليمه في بلد البيع بخلاف السلم، فإنه مضمون في الذمة، والعين الغائبة غير مضمونة في الذمة، فاشتراط نقلها [يكون] (¬1) بيعًا وشرطًا. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهذا الذي نقله عن بعضهم ذكره المارودي والروياني في "البحر" ونقله في "شرح المهذب" عن المارودي إلا أن تعبير الرافعي بالموضع ليس مطابقًا لكلامهم فقد قال المارودي: ولابد في بيع العقار من ذكر البلد الذي هو فيه فيقول: بعتك داري بالبصرة أو ببغداد لأن بذكر البلد يتحقق ذكر الجنس ويصير في جملة المعلوم فأما ذكر البقعة من البلد ففيه وجهان: أحدهما: يلزم. والثاني: لا لأن البقعة تجري مجرى الصفة. هذه عبارته، ذكر ذلك بعد نحو كراس من أول البيع. وذكر الروياني والنووي في الشرح مثله. نعم أطلق المارودي أيضًا في آخر باب ثمرة الحائط يباع أصله لأنه لابد في بيع الدار من ذكر حدودها. وذكر الرافعي أيضًا مثله في كتاب الوكالة في التوكيل في شراء دار، وهو يشعر بالاشتراط في شراء الغائب. وقد بسطت المسألة في "الهداية" فلتراجع منها. قوله في أصل "الروضة": ولو رأى ثوبين فسرق أحدهما فاشترى الثاني، وهو لا يعلم أيهما المسروق. قال الغزالي في "الوسيط": إن تساوت صفتهما وقدرهما وقيمتهما ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كنصفى كرباس واحد صح قطعًا. فإن اختلفا في شيء من ذلك خرج على بيع الغائب. انتهى. وما ذكره من تفريع هذا على جواز بيع الغائب ليس بصحيح، بل الصواب تفريعه على امتناعه، [ولم يفرعه الرافعي على شيء، بل ذكره من جملة فروع منشورة بعضها مفرع على امتناعه] (¬1)، وبعضها على جوازه. ثم إن هذا الحكم ذكره الغزالي من جهته، ولم ينقله عن أحد، فإنه ذكره في "الوسيط" أنها وقعت له في "الفتاوي" فأفتى فيها بذلك، وهكذا ذكره الرافعي أيضًا، وكلام النووي [يوهم أن الغزالي ناقل لهذه المسألة عن غيره ولاسيما عبارته في شرح المهذب] (¬2) فإنه نقل عنه أنه قال: يصح البيع بلا خلاف. وسببه أنه ينقل في "شرح المهذب" ما لخصه في "الروضة" وكلما نقل شيئا من كتاب إلى كتاب زاد في التحرير والتعبير. وبالجملة فالذي قاله الغزالي حسن كما قاله في "شرح المهذب". قوله: إذا لم يشترط الرؤية فاختلفا فقال البائع للمشتري قد رأيت المبيع، وقال المشتري: ما رأيته ففيه وجهان: أظهرهما عند العبادي أن القول قول المشتري. انتهى. والذي قاله العبادي هو الصحيح. كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: أما إذا اشترطنا الرؤية وفرض هذا الاختلاف يعني قول البائع للمشتري: إنك رأيت، وقول المشتري: ما رأيت. فقد ذكر الغزالي في "فتاويه" أن القول قول البائع لأن للمشتري أهلية الشراء وقد أقدم عليه فكان ذلك إعترافًا منه بصحة العقد ولا ينقل هذا عن خلاف. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، جـ.

ومقتضاه أنه لم يقف -رحمه الله- في هذه المسألة على خلاف، وهو غريب، فقد جزم صاحب "التتمة" بأن القول قول المشتري [فقال في الباب الثامن المعقود لخيار الرؤية: إذا اختلفا فقال المشتري] (¬1) ما رأيت المبيع قبل العقد. وقال البائع: بل رأيته، فالقول قول المشتري لأن البائع يدعي عليه أمرًا حصل منه، وهو منكر له، وهو أعلم بأحوال نفسه، وأيضًا فإن الأصل عدم الرؤية. هذا كلامه. وذكر الروياني في "البحر" في الموضع المذكور مثله وكذلك القاضي حسين في باب التحالف، وعلله بأن الأصل عدم الرؤية. وقطع به أيضًا الشيخ أبو محمد الجويني في تعليقه على ما نقله عنه الشيخ برهان الدين في "تعليقه على التنبيه"، وجزم به أيضًا الشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" بعد نحو خمسة أوراق من أول البيع في الكلام على ما إذا اشترى ما رآه قبل العقد، وهو قبيل قوله: فإن نظر إلى لحم شاة ما نصه: فإن اختلفا فقال البائع: لم يتغير وهو كما شاهدته. وقال المشتري: هو متغير عما شاهدته. قال الشافعي في "الأم" في كتاب الصرف: القول قول المشتري [لأن الأصل أن البيع غير لازم ما لم يعرف أنه شاهده وهو علي تلك الصفة. ألا تري أنه لو أنكر الرؤية أصلًا فإن القول قول المشتري] (1) ولا يقبل قول البائع عليه. هذا لفظ الشيخ أبي علي بحروفه، ومن شرحه نقلت. ونقله ابن أبي الدم في "أدب القضاء" عن الجرجاني وأنه فرق بينه وبين دعوى الفساد، ونقل القطع به أيضًا عن فتاوي صاحب "البيان"، وجزم به أيضًا البغوي في "فتاويه" في ما إذا كان البائع هو المنكر للرؤية. والمدرك الذي استندا إليه وأبطلا به العقد، وهو كونه لا يعلم إلا من جهته مدرك صحيح فإن المشاهد من الناظر إنما هو تقليب الحدقة نحو المرئي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولا يلزم من ذلك وقوع الرؤية. ويؤيده تصديق المجعول له في السماع عند اختلافه هو والجاعل، فظهر أن ما قاله الغزالي مردود نقلًا وبحثًا، وإن كانت القاعدة تصديق مدعى الصحة على الراجح وسببه أن هذا المفسد الخاص لا يعلم إلا من جهته. ولهذا إن المتولى مع جزمه بما جزم هنا حكى وجهين في تلك القاعدة. ويؤيده أيضًا ما سبق عن الجرجاني وابن أبي الدم، وقد توهم النووي اندراج هذه المسألة في تلك القاعدة فقال عقب كلام الرافعي: هذه مسألة اختلافهما في مفسد العقد، وفيها الخلاف المعروف. والأصح فيها أن القول قول مدعى الصحة وعليه فرعها الغزالي. هذا كلامه، وهو مردود لما تقدم بحثًا ونقلًا.

الباب الثاني في الفساد بجهة الربا

الباب الثاني في الفساد بجهة الربا قوله: علق الحكم باسم الطعام [والحكم] (¬1) المعلق بالاسم المشتق معلل بماهية الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق، والجلد المعلق باسم الزاني. انتهى كلامه. وما ادعاه -رحمه الله- من أن الطعام مشتق وبنى عليه التعليل المذكور ليس كما ادعاه، فإن الطعام اسم جامد. قوله: وعن الأودنى من أصحابنا أنه تابع ابن سيرين في أن العلة الجنسية حتى لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلًا. انتهى كلامه. تابعه النووي في "الروضة" على هذا النقل عن الأودنى، ونقله عنه سهو. ومذهبه أنه يجوز بيع المال بجنسه متفاضلًا إذا لم يكن مطعومًا كما ذهب إليه غيره من الشافعية وبيان سبب الوهم يتضح بذكر خلاف ذكره الأصحاب فنقول: اختلفوا في أن الجنسية هل هي من أجزاء العلة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو حامد وطبقته إلى أنها من أجزائها. وقالوا: العلة على القديم مركبة من ثلاثة [أجزاء] (¬2) الجنس والطعم والتقدير بكيل أو وزن حتى يخرج الزمان ونحوه. وعلى الجديد: مركبة من جزأين فقط وهما الجنس والطعم. ومنهم من قال: الجنسية ليست من أجزاء العلة لأن [جزء] (¬3) العلة لابد أن يترتب عليه شيء من أحكام العلة، فلو كان الجنس منها لأفاد تحريم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: أشياء. (¬3) في ب: جنس.

النساء بمجرده كما أفاد الجزء. والآخر وهو الطعم تحريم النساء بمجرده فمنهم من منع أن جزء العلة لابد أن يترتب عليه شيء من أحكامها، وهو منع متجه. ومنهم من سلمه وهم المراوزة، ومن تبعهم، ثم اختلفوا فقال الحليمي والإمام والغزالي: إن الجنس محل أي متعين بعمل العلة ولا أثر له في الحكم، وقال: ابن كج ومن تبعه: العلة هى الطعم والجنس شرط وعكسه الأودنى كما نقله عنه القاضي حسين في "تعليقه"، والشاشي في "الحلية" فقال: الجنس علة والطعم شرط. انتهى. وقد استفدنا من هذا الخلاف أن الأودني وإن كان يقول: إن العلة في تحريم الربا هو الجنس لكنه يقول: إن الطعم شرط، ونقل عنه بعضهم العلة، وذهل عن شرطها، وتبعه عليه الرافعي فلزم منه من الغلط ما لزم. واعلم أن الخلاف المتقدم جميعه ما عدا الأخير قد حكاه الراعي أيضًا، وأسقطه النووي من "الروضة" لأنه ليست له فائدة حكمية. قوله: والتوابل -هو بفتح التاء المثناء وبالباء الموحدة قبل اللام- جمع تابل، بكسر الباء وفتحها، هو ما يصلح به الطبخ. قاله الجوهري. قال أبو عبيدة: نقول منه توبلت القدر. قوله: ولا فرق بين أن يؤكل نادرًا كالبلوط والطرثوث. أما البلوط فهو بالباء الموحدة المفتوحة واللام المشددة المضمومة، وهو نبات معروف. وأما الطرثوث فبطاء مهملة مضمومة، وراء ساكنة وثاءين مثلثتين الأولي مضمومة معروف أيضًا. قوله: والطين الإرمني.

هو بكسر الهمزة وفتح الميم، وقد سبق إيضاحه في التيمم. قوله: وفي دهن البنفسج والورد والبان وجهان أصحهما أن فيه الربا. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيحه، وذكر مثله في "شرح المهذب" فقال ما نصه أصحهما عند الأصحاب أنها ربوية. ثم ذكر في الشرح المذكور أيضًا بعد ذلك بأسطر قلائل في دهن الورد عكسه فقال ما نصه: فرع: في دهن الورد وجهان حكاهما الصيمري وصاحب "البيان" وغيرهما: أصحهما: ليس بربوي، صححه الرافعي، وهو مقتضى كلام الجمهور. هذا لفظه وهو غلط عجيب. قوله في "الروضة": ودهن الكتان والسمك، وحب الكتان وماء الورد والعود ليس ربويا على الأصح، والزنجبيل والمصطكى ربوي على الأصح. انتهي كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في حب الكتان وماء الورد من كونه ليس ربويًا هو عكس ما قاله الرافعي، فإنه قال ما نصه ونقل صاحب "البيان" وجهين في حب الكتان والزنجبيل ووجهين عن الصيمري] (¬1). في ماء الورد وذكر أنه لا ربا في العود والمصطكى. والأشبه أن ما سوى العود كله ربوي وهذا لفظ الرافعي. والعجب من النووي في تعريفه لكلام الرافعي فإنه اختصر الزنجبيل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والمصطكى كما في الأصل، وعكس حب الكتَّان وماء الورد. الأمر الثاني: أن هذا الخلاف الذي حكاه في العود ليس في الرافعي، فإن فيه الجزم بالمنع، وهذه عبارته قد ذكرتها لك، وذكره غلط فإنه قال في شرح "المهذب" ما نصه: وحكى الرافعي الوجهين في العود المطيب أيضًا. وقطع الأكثرون بأنه ليس ربويًا، هذا لفظه. فانظر كيف لم يجده حالة شرحه "للمهذب" لأحد ووجده في "الروضة" فظن أنه من كلام الرافعي وأنه اختصره على الصواب فنقله عنه منكرًا له. قوله: ولا ربا في الحيوان لأنه لا يؤكل على هيئته نعم ما يباح أكله على هيئته كالسمك الصغير على وجه يجري فيه الربا. هكذا قاله في "التتمة". وحكى الإمام عن شيخه وعن صاحب "التقريب" ترددًا فيه، وقطع بالمنع لأنها لا تعد للأكل. انتهى كلامه. والذي قاله الإمام هو الصحيح. كذا صححه النووي في "الروضة"، ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، وهو غريب فتفطن له ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر" والأصح في ابتلاع السمكة الحية هو الجواز كما هو معروف في موضعه. قوله: فرع حيث اعتبر التقابض فتقابضا بعض كل واحد من العوضين، ثم تفرقا بطل في غير المقبوض، وفي المقبوض قولا تفريق الصفقة. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد أعادها بعد ذلك في تفريق الصفقة، وحكى [فيها طريقتين: إحداهما: هذه.

والثانية: القطع بعدم الانفساخ، واقتضى كلامه] (¬1) تصحيح الطريقة الثانية على عكس ما جزم به هاهنا فإنه قال: ولو اشترى عبدين فتلف أحدهما قبل القبض ففي الثاني طريقان: أحدهما: أنه على القولين. وأظهرهما: القطع بعدم الانفساخ. ثم قال ما نصه: والطريقان جاريان فميا إذا تفرقا [في السلم] (¬2) وبعض رأس المال غير مقبوض، أو في الصرف وبعض العوض غير مقبوض. انتهى. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". قوله: والتخاير في المجلس [قيل التقابض بمثابة التفرق يبطل العقد خلافًا لابن سريج انتهى كلامه. [وهذا] (¬3) الذي ذكره هنا في التخاير مخالف لما ذكره فيه في خيار المجلس في الكلام على ما ينقطع به الخيار، فإنه حكى فيه وجهين لا غير: أحدهما: أن الإجازة لاغية. والثاني: أن العقد يلزم، وعليهما التقابض، ولم يتعرض للوجه الذي جزم به هنا، وهو غريب وليس للمسألة ذكر في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". وقد وقع هذا التناقض أيضًا في "شرح المهذب" على كيفية هي أصرح من المذكور هنا، فإنه قال في كتاب البيوع في أثناء المسألة [الثانية] (¬4) المعقودة لما ينقطع به الخيار ما نصه: فإن تقابضا في الصرف ثم اختارا في ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من أ. (¬4) في جـ: الثالثة.

المجلس لزم العقد. فإن أجازاه قبل التقابض فوجهان: أحدهما: تلغو الإجازة فيبقى الخيار. وأصحهما: يلزم التقابض. فإن تفرقا قبل التقابض انفسخ العقد ولا يأثمان إن تفرقا عن تراض، فإن انفرد أحدهما بالمفارقة أثم هو وحده. وفيه وجه ثالث أنه يبطل العقد بالتخاير قبل القبض. انتهى كلامه. وقال في هذا الباب ما نصه. قال المصنف والأصحاب. وإذا تخايرا في المجلس قبل التقابض فهو كالتفرق فيبطل العقد لما ذكره المصنف هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وقال ابن سريج: لا يبطل لظاهر الحديث فإنه يسمى يدًا بيد انتهى كلامه. وهي أخر مسألة في "شرح المهذب"، فإنه -رحمه الله- أدركته المنية في هذا الموضع. قوله: والجنيب أجود التمر، والجمع كل نوع من التمر لا يعرف له اسم. انتهى. الجنيب بجيم مفتوحة ونون مكسورة وياء بنقطتين من تحت، وفي آخره باء موحدة والجمع بفتح الجيم وسكون الميم. قوله: ولو باعه نصف دينار بخمسة وسلمها فله أن يستقرضها، ويشتري بها النصف الآخر. ثم قال: ولو باع الكل بعشرة وليس مع المشتري إلا خمسة فدفعها إليه، واستقرض منه خمسة أخرى وردها إليه عن الثمن جاز، ولو استقرض الخمسة المدفوعة إليه فوجهان: أصحهما: لا يجوز انتهى كلامه بحروفه.

اعلم وفقك الله أن هذه المسألة الأخيرة من مشكلات كتاب الرافعي قل أن يهتدي الواقف عليها إلى المراد منها، فإنه -رحمه الله- حاول حكما مشكلًا لم يشر إليه بتعليل، ثم عبر عنه بعبارة لا تدل عليه إلا بضرب من التأويل ثم ازداد الأمر إشكالًا باختلاف النسخ لإشكال الحكم وقد يسر الله الكريم ذلك فلنوضحه بعبارة ملخصة فنقول: سر المنع في هذه المسألة وهو الموجود في أكثر نسخ الرافعي و"الروضة" يظهر باستحضار قواعد منها أن فرض هذا الثمن يصرف فيه في زمن خيار الباذل له وهو المشتري، وحكم التصرف في الشيء في زمن خيار باذله أنه إن كان مع غير باذله فهو باطل، وإن كان معه فهو صحيح على المذهب، ويكون إجازة للعقد، كذا ذكره الرافعي في هذا الباب [وفي باب الخيار] (¬1). ومنها أن التخاير في مجلس الصرف كالتفرق على الصحيح كما تقدم الكلام عليه في هذا الباب. ومنها أن] (¬2) التفرق في الصرف بعد قبض البعض يكون مبطلًا للباقي. إذا علمت ذلك فالقائل بالمنع يقول: قد تقرر أن القرض إجازة للعقد، وأن الإجازة كالتفرق وأن التفرق بعد قبض البعض مبطل للباقي فصح أن هذا القرض مبطل للنصف الباقي فلا يصح الأداء عنه لانفساخ العقد فيه، وإن كان القرض صحيحًا. وأما الذي يصحح الجواز، وهو الموجود في كثير من نسخ الرافعي فسببه الخلاف في القاعدة الثانية [وهي أن الإجازة كالتفرق فإن فيها كلامًا تقدم والمنع في مسألتنا] (¬3) لا يستقيم إلا بمنعها فافهمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وقد تلخص في مسألتنا بمقتضى القواعد المقررة في بابها أن القرض صحيح، وإن أعطاه ثانيًا لا يصح وأن العقد قد انفسخ في النصف الثاني، وأن صاحب الدينار بالخيار. وهذه أمور لا يهتدي إليها الواقف على هذا الكلام وإن كان لا ينافيه، فلله الحمد على التوفيق لإدراكها. واعلم أن المنع في هذه المسألة قد صرح بتصحيحه القاضي الحسين ثم الرافعي، ولكن قد نص الشافعي في باب الصرف على الجواز، وصححه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني وابن أبي عصرون.

قال -رحمه الله-: ثم النظر في أطراف ثلاثة: الأول: في طريق المماثلة. قوله: وما لم يكن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو كان ولم يعلم أنه كان يكال أو يوزن أو علم أنه كان يكال مرة ويوزن أخرى، ولم يكن أحدهما أغلب. فقد ذكر المتولي أنه إن كان أكبر جرمًا من التمر فالاعتبار فيه بالوزن لأنه لم يعهد الكيل بالحجاز في ما هو أكبر منه. وإن كان مثله أو أصغر ففيه وجوه إلى آخره. لم يبين هو ولا النووي في "الروضة" هنا هل الأمر كما قاله المتولي من تخصيص الخلاف أم لا؟ وكلامه في "المحرر" يقتضي أن الخلاف عام، فإنه لم يذكر تفصيل المتولي. وتبعه في "المنهاج" لكن بين ذلك في "الشرح الصغير" فجزم بما قاله المتولي ولم يقيده بنقله عنه وجزم به أيضًا في آخر الباب من "الشرح الكبير" فقال: ثم المعتاد في الجوز الوزن لأنه أكبر جرمًا من التمر هذا لفظه. قوله: والوزن بالطيار والقرسطون وزن. اعلم أن الطيار هي الميزان التي لا لسان لها كما قاله إمام الحرمين، والغزالي في "البسيط". والقرسطون بالقاف وبراء وسين وطاء مهملات هو القبان. قال في "المحكم" في الخماسي: القرسطون. القبان أعجمي لأن فعلالا وفعلونا ليسا من أبنيتهم والقفان المنقول هنا عن "المحكم" هو بالفاء بعد القاف وهو معرب عن القفال كما أشار إليه الجوهري. قوله: فمن فروعه أن يريد شريكان في شيء من مال الربا قسمته بينهما وهو مبني على أن القسمة بيع أو إقرار.

فإن قلنا بالأول وهو الأصح فلا تجوز قسمة المكيل بالوزن. . . . إلى آخره. اعلم أن هذه المسألة قد حصل فيها اضطراب شديد في كلامه وكلام النووي، وستعرف ذلك مبسوطًا في باب القسمة إن شاء الله تعالى. قوله: واحتجوا له بأن التساوي شرط، وشرط العقد يعتبر العلم به عند العقد. ألا ترى أنه لو نكح امرأة ولا يدري أهي معتدة أم لا؟ وهل هي أخته من الرضاع أم لا؟ لا يصح النكاح. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد سبق الكلام عليها في الباب المتقدم. قوله: ولو قال: بعتك هذه الصبرة بتلك الصبرة مُكَايلة أو كيلًا بكيل أو هذه الدراهم بتلك موازنة أو وزنًا بوزن. . . . إلى آخره. هذه المسألة أيضًا سبق الكلام عليها في آخر الباب الذي قبل هذا. قوله: ولو باع صبرة حنطة بصبرة شعير صاعًا بصاع فالحكم كما لو كان من جنس واحد. انتهى. الكلام سبق أيضًا على هذه المسألة في آخر الباب السابق. قوله: وأيضًا فلو اشترى شيئين بألف فوجد بأحدهما عيبًا وأراد رده بالعيب وحده يرده بحصته من الألف إذا وزع عليهما باعتبار قيمتهما. انتهى. وصورة هذه المسألة أن يرده بالتراضي، فإن أراد رد المعيب وحده قهرًا فليس له ذلك على المشهور. قوله: ثم الأئمة أطلقوا القول بالبطلان في قاعدة مد عجوة، فذكر أبو سعد المتولي أنه إذا باع مدًا ودرهمًا بمدين بطل العقد في المد المضموم إلى الدرهم، وفيما يقابله من المدين وفي الدرهم وما يقابله من المدين قولا

تفريق الصفقة. وعلى هذا القياس ما لو باعها بدرهمين أو باع صاع حنطة وصاع شعير بصاعى حنطة أو صاعى شعير، ويمكن أن يكون كلام من أطلق محمولًا على ما فصله. انتهى كلامه. ولقائل أن يقول: قد سلم الرافعي في قاعدة (مُدّ عجوة) أن التقسيط لا يعتبر، فإنه صحح أنه لا يجوز بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم إذا كان الدرهمان من ضرب واحد، والمدان من شجرة واحدة. وذهب جماعة إلى الجواز نظرًا للتقسيط. فإذا تقرر أن التقسيط عنده لا يعتبر لزم امتناع هذه المسألة أيضًا. والروياني قد وافق المتولى هنا لكنه قائل عند اتفاق القيمة بالصحة، كما نقله عنه الرافعي، فهو ماشٍ على قاعدة واحدة. قوله: ولو باع دارًا بذهب فظهر فيها معدن الذهب صح البيع على الأصح لأنه تابع بالإضافة إلى مقصود الدار. انتهى ملخصًا. وما ذكره هنا من تصحيح الصحة قد ذكر بعد ذلك في الكلام على الألفاظ التي تطلق في البيع في اللفظ الثالث منه، وهو لفظ الدار ما يعكر عليه فقال ما نصه: إلا أنه لا يجوز بيع ما فيه معدن الذهب بالذهب من جهة الربا. هذا لفظه. وتابعه في "الروضة" على الموضعين، وليس بين الصورتين فرق إلا أن الأولى فرضها عند عدم العلم ولا أثر للجهل بالمفسد في باب الربا مطلقًا. وذكر الرافعي أيضًا في باب إحياء الموات أن المعدن لا يصح بيعه على الصحيح لجهالة مقصودة، ولا ذكر لهذه المسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر".

قوله: ولو باع دارًا فيها بئر ماء [بدار فيها بئر ماء] (¬1)، وفرعنا على أن الماء ربوي ففي صحة البيع وجهان: أحدهما: الصحة لما ذكرناه في المسألة السابقة من التبعية. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من هذين الوجهين هو الصحة. كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي فافهمه. الثاني: أن دعواه أن ماء البئر يدخل بطريق التبع يقتضي أنه لا يشترط التصريح بدخوله لأن التابع هذا شأنه، بل يقتضي أنه لو صرح به لأبطل لأنه علل الصحة بالتبعية. وإذا نص عليه وصرح به صار مقصودًا، وخرج عن كونه تابعًا فيبطل لأجل الربا ولجعله المجهول الذي يحصل بطريق التبع مبيعًا مع المعلوم كما لو قال: بعتك هذه الجارية وحملها. ويؤيده أنه صرح في إحياء الموات بأن بيع ماء البئر والقناة لا يجوز لجهالته. فإذا علمت ذلك فقد ذكر في الكلام على الألفاظ التي تطلق في البيع في اللفظ الثالث منه ما حاصله أنه لابد من التصريح بدخول ماء البئر فقال: ولو كان في الدار المبيعة بئر ماء دخلت في البيع والماء الحاصل في البئر لا يدخل، ثم قال ما نصه. وإن شرط دخوله في البيع صح على قولنا. الماء مملوك. بل لا يصح البيع دون هذا الشرط، وإلا اختلط ماء المشتري بماء البائع وانفسخ البيع، انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

في الحالة التي تعتبر فيها المماثلة

وصرح به أيضًا في آخر باب إحياء الموات نقلًا عن البغوي، [من غير مخالفة وذكر في "الروضة" هذه المواضع كما ذكرها الرافعي غير أنه لم ينقل الأخير عن البغوي] (¬1) بل جزم به، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر" ولا في "شرح الصغير". الطرف الثاني: في الحالة التي تعتبر فيها المماثلة قوله: ونقل الكرابيسي قولًا أنه لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلًا. وجعل الإمام منقول الكرابيسي في أن الحنطة والدقيق جنسان حتى لا يجوز بيعهما متفاضلًا. ويشبه أن يكون الإمام منفردًا بهذه الرواية. انتهي. وما ادعاه الرافعي من انفراد الإمام بها ليس كذلك، فقد نقلها أيضًا الماوردي في "الحاوي" ونقلها عنه ابن الرفعة. قوله: قال الإمام: وفي الجاورس عندى احتمال إذا نحتت قشرتها. انتهى. الجاورس بالجيم والراء والسين المهملتين حب مثل الدخن يؤكل، وهو خير من الدخن في جميع أحواله وهو ثلاثة أصناف، وهو معرب [كاورسي] (¬2). قاله الصاغاني في "مجمع البحرين" وفي "حواشي الوسيط" لابن السكري أنه الدخن نفسه. قوله: ويجوز بيع خل الرطب بخل الرطب. . . . إلى آخره. اعلم أن الخلول التي ذكرها الرافعي هنا أربعة: خل الرطب وخل التمر وخل العنب وخل الزبيب، ويتفرع عليها عشر مسائل: أحدها: بيع خل الرطب بمثله. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، وفي ب: جاوسي.

والثاني: بيع خل التمر بمثله. والثالث: بيع خل العنب بمثله. والرابع: بيع خل الزبيب بمثله. والخامس: بيع خل الرطب بخل التمر. والسادس: بيع خل الرطب بخل العنب. والسابع: بيع خل الرطب بخل الزبيب. والثامن: بيع خل التمر بخل العنب. والتاسع: بيع خل التمر بخل الزبيب. والعاشر: بيع خل العنب بخل الزبيب. فهذه عشرة، وضابطها أنك تأخذ كل واحد مع مثله ثم تأخذه مع ما بعده. فهذه المسائل منها ما يقطع فيه بالجواز، وهو بيع خل الرطب بمثله وبيع خل العنب بمثله، قال الرافعي لأنه على هيئة الادخار، والمعتاد فيه الكيل. ومنها ما يقطع فيه بالمنع، وهو بيع خل التمر بمثله والزبيب بمثله. قال الرافعي: لما فيها من الماء، وهو يمنع معرفة التماثل، وكذا بيع خل الرطب بخل [التمر، وبيع خل العنب بخل الزبيب. قال الرافعي: لأنه في أحد الطرفين ماء فيلزم التفاضل. ومنها ما فيه خلاف وهو بيع خل التمر بخل الزبيب. فإن قلنا الماء ربوي فلا يجوز وإلا فيجوز. وكذا بيع خل الرطب بخل] (¬1) الزبيب، وبيع خل العنب بخل التمر. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في معرفة الجنسية

قال الرافعي: فيجوز لأن الماء في أحد الطرفين والمماثلة بين الخلين غير معتبرة تفريعًا على الصحيح في أنهما جنسان. فهذه تسع مسائل مصرح بها في كلام الرافعي. وأما بيع خل الرطب بخل العنب فليس في "الشرح" ولا في "الروضة" تصريح بحكمها. ومقتضى القواعد القطع بالجواز لأنه لا ماء في واحد منهما وهما جنسان. قوله: وأما الرطب فما يؤكل منه في العادة بعد عجالة نقله. انتهي. قال الجوهري: العجالة بالضم ما تعجلته من شيء. قوله: والمعيار فيه أي في السمن الكيل إن كان ذائبا، والوزن إن كان جامدًا. قاله في "التهذيب"، وهو توسط بين وجهين أطلقهما العراقيون، المنصوص أنه يوزن، وعن أبي إسحاق أنه يكال. انتهى. وهذا التوسط قد استحسنه في "الشرح الصغير" فقال: وحسن كذا وكذا. وذكر المسألة في "الروضة" كما ذكرها الرافعي. الطرف الثالث: في معرفة الجنسية قوله: فإن جعلنا اللحوم جنسًا واحدًا ففي لحوم البريات مع البحريات وجهان، ذهب أبو علي الطبري والشيخ أبو حامد إلى أنهما جنسان. واختار القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي أنهما جنس واحد. انتهي. والأصح هو الوجه الثاني. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر، وصححه النووي أيضًا في أصل "الروضة" و"شرح المهذب" وعبر بالأصح.

قوله: وفي الظبي مع الآيل تردد للشيخ أبى محمد واستقر جوابه على أنهما كالضأن والماعز. انتهى. والأيل الوعل الذكر ويسمى تيس الجبل وهو بفتح الياء المثناة من تحت المشددة، وقبلها همزة تضم وتكسر، لغتان حكاهما الجوهري، وأرجحهما الضم كذا ذكره في مادة أول بالواو. ونقله عنه النووي في "تهذيبه" ثم قال: ورأيته في "المجمل" مضبوطًا بكسر الهمزة فقط. قوله: وعن الربيع أن الحمام بالمعنى المتقدم في الحج، وهو ماعب وهدر جنس فيدخل فيه القمري والدبسي والفاختة، وهذا اختيار جماعة منهم الإمام وصاحب "التهذيب". واستبعده أصحابنا العراقيون، وجعلوا كل واحد منهما جنسًا برأسه. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا والصحيح هو الأول. كذا صححه في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح. قوله في "أصل الروضة": فمن ذلك لحوم الحيوانات هل هي جنس أم أجناس؟ قولان: أظهرهما أجناس. فإن قلنا: أجناس، فحيوان البر مع حيوان البحر جنسان ثم قال ما نصه: وسموك البحر جنس، وأما غنم الماء وبقره وغيرهما فهما مع السمك أو مثلها؟ قولان: أظهرهما أجناس. انتهى لفظه. لفظة "أو" مع "مثلها" لا يصح أن يريد به من حيوان البر لأن الكلام في حيوان البحر. وأيضًا فقد تقدم من كلامه أن حيوان البر مع حيوان البحر جنسان تفريعًا

على هذا القول الذي يفرع هو عليه، وهو أن اللحوم من حيث هي أجناس فحمل هذه الصورة عليها تكرار، وإثبات خلاف لم يتعرض له غيره. وبالجملة فهذه الصورة لم يذكرها الرافعي بالكلية والظاهر أنه إنما أراد مع مثله من حيوان البحر، وهو فاسد فسادًا واضحًا، فإن بقر الماء مع مثله من بقر الماء جنس واحد بلا نزاع، وكذا غنم الماء مع مثله وما أشبه ذلك. واعلم أن كلام الرافعي صحيح، فإنه فرض المسألة في نوع [مع نوع] (¬1) آخر فراجعه. قوله: وفي الجراد أوجه: أحدها: أنه ليس من جنس اللحوم. والثاني: أنه من لحوم البريات. والثالث: من لحوم البحريات. انتهى. والأصح هو الوجه الأول. كذا صححه النووي في "زيادات الروضة". قوله من "زياداته": قلت: المعروف أن الجلد ليس ربويًا فيجوز بيع الجلد بجلود وبغيرها، ولا حاجة إلى قوله: إنها أجناس -يعني- إلى قول الرافعي أن الكبد والكرش والمخ والجلد أجناس. انتهى. ذكر مثله في "شرح المهذب" فقال ما نصه: فرع: لا ربا في الجلود والعظام، وإن كان يجوز أكلها، وهذا بلا خلاف، وممن صرح به الماوردي لأنه لا يؤكل في العادة. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أن ما أشار إليه في "الروضة" وصرح به في "شرح المهذب" من نفي الخلاف غريب. فقد حكى الماوردي وجهين في بيع اللحم بمثله، وعليه جلد يؤكل كجلد الدجاج والجدي. وقال في "البحر": إذا باع جلد البقر بجلد الغنم متفاضلًا فهل يصح؟ يحتمل قولين بناء على القولين في اللحمان، فهذه نقول شهيرة صريحة على وفق ما قاله الرافعي زيادة لما يقوله النووي. الأمر الثاني: أن النووي قد جعله من الربويات في "الروضة" أيضًا فقال في آخر الباب: إنه إذا باع اللحم بالحيوان بطل، وإن باعه بشحم أو إلية أو طحال أو قلب أو كبد أو رئة فوجهان: أصحهما: البطلان. ثم قال: ويجرى الوجهان في بيعه بالجلد قبل الدباغ فإن دبغ فلا منع. هذه كلامه. قوله: وفي البطيخ المعروف مع الهندي والقثاء مع الخيار وجهان، انتهي. والأصح أنهما جنسان. كذا صححه النووي من "زياداته". قوله: والسكر النبات والطبرزد جنس واحد، والأحمر وهو القوالب عكس الأبيض، ومن قصبه ومع ذلك ففي التجانس تردد للأئمة لتخالفهما في الصفة قال الإمام: ولعل الأظهر أنه من جنس السكر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الطبرزد بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وبعدها

زاي معجمة هو السكر المعتاد. فإن ابن الرفعة قد نقل في "شرح الوسيط" أن القطارة تقطر منه وهي -أعني القطارة- تقطر مما قلناه. ويشير إليه أن الرافعي جعله هو والسكر النبات جنسًا واحدًا، وتردد في الأحمر مع الأبيض فانتفى أن يكون الطبرزد هو الأحمر، وأن يكون أيضًا من جنس الأعسال لأن العسل ليس مجانسًا للسكر بلا نزاع. وقد أوضح في "المطلب" كيفية هذه الأعسال فقال: ومن عصير قصب السكر يتخذ العسل المرسل ويتخذ القند، ومن القند ينفصل العسل المسمى بعسل القصب، وهو ما يقطر من أسفل أباليج القند بعد أخذه في الجفان، والقند يختلف في الجودة والرداءة بحسب تربة القصب وجودة الطبخ، ومن الطيب من القند يتخذ السكر، وإذا جمد استقطر ما فيه من العسل من ثقبة من أسفل الإجانة التي يوضع فيها بعد طبخه. وهذا العسل يسمى كما قال أبو الطيب بعسل الطبرزد ونحن نسميه بالقطارة، وهي تتنوع بحسب تنوع السكر، والذي يستقطر منه. وأنواع السكر ثلاثة: الوسط وهو أدونه، ومن أعلى أباليجه يكون الأحمر لأن القطارة تنحبس فيه، والعال وهو فوق ذلك في الجودة، والمكرر وهو أعلى الثلاثة لأنه يطبخ مرة ثانية من السكر الوسط، والسكر النبات يطبخ من السكر الوسط أيضًا لكنه يجعل في قدر من الفخار قد صلب فيه عيدان من الجريد رقاق لينبت فيها السكر، وما يخرج منه عسل عند كمال نباته يسمى بقطر النبات. هذا كلامه. وهو قد كان مطلعًا على حقيقة ذلك، فإنه كان صاحب مطبخ من مطابخ السكر، وكلامه موافق لما قلناه. واعلم أن النووي في "الروضة" عبر بقوله: والسكر الطبرزد والنبات

جنس واحد. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن الذي أشار الإمام إلى ترجيحه هو الصحيح. كذا صححه النووي في "أصل الروضة" فجزم بالتصحيح، ولم يشر إلى التوقف فيه، ثم إنه لم يضفه أيضًا إلى الإمام، وهو اختصار عجيب، وجزم به ابن الرفعة في "المطلب" ولم يحك فيه خلافًا. قوله: وإن باعه -يعني اللحم- بحيوان غير مأكول كعبد أو حمار ففيه قولان: أصحهما عند القفال المنع لظاهر الخبر. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح ما قاله القفال، كذا صححه الرافعي في "المحرر"، وعبر بالأصح وصرح النووي بتصحيحه أيضًا في أصل "الروضة" وفي غيرها من كتبه.

الباب الثالث: في الفساد من جهة النهي

الباب الثالث: في الفساد من جهة النهي المناهي قسمان: القسم الأول: ما حكم فيه بالفساد. قوله: بل إعارة الفحل للضراب محبوبة. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي من الاستحباب لم يتعرض له في "الروضة" وإنما حكم بالجواز فقط. قوله: ومنها بيع السلاح لأهل الحرب لا يصح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يشعر بصحة بيعه لمن دخل إلينا بأمان كالتاجر والرسول، لأنه بالأمان خرج عن الحرابة، وصار معصومًا، وهو محتمل لأنه في قبضتنا كالذمي، ولكن المتجه المنع لأن الأصل إمساكه عنده إلى عوده، ولأن الحرابة فيه متأصلة والأمان عارض يزول. الثاني: أن السلاح على ما نقله الرافعي في صلاة الخوف عن ابن كج يقع على السيف والسكين والرمح والنشاب ونحوها. قال: وأما الترس والدرع فليس بسلاح. انتهى. والمتجه أن يكون المراد هنا ما هو يعد للقتال كالبيضة ونحوها مما سبق لأن الاستعانة علينا كما تكون بفعلهم تكون بدفع فعلنا. وقد صرح به الإمام في كتاب [الرهن] (¬1) قبيل باب [الرهن] (¬2) والعميل بنحو ورقتين فقال: وبيع السلاح من الذمي ورهنه جائز، مات رسول الله ¬

_ (¬1) في أ: السير. (¬2) في أ: الربا.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهون عند أبى سجمة اليهودي (¬1)، هذا لفظه، وفي معنى ما ذكرناه أيضًا الخيل وما يلبس لها. قوله: ولو باع عبده بألف بشرط أن يبيعه داره لم يصح، ثم قال: وإذا أتيا بالبيع الثاني نظر إن كانا يعلمان بطلان الأول صح، وإلا فلا لإتيانهما به على الشرط الفاسد. كذا نقله صاحب "التهذيب" وغيره والقياس صحته، وبه قطع الإمام، وحكاه عن شيخه. انتهى كلامه. اعلم أن هذه المسألة فرد من أفراد قاعدة متكررة في أبواب وهي أنه إذا شرط عليه في شيء من التصرفات عقد لا يلزمه الوفاء به ففعله المشروط عليه جاهلًا ببطلان العقد المشروط فيه، فهل ينفذ لكونه تصرفًا صحيحًا في نفسه أم لا لإتيانهما به وفاء بالشرط الفاسد؟ فيه خلاف. وهذه القاعدة قد حصل فيها اختلاف شديد في هذا الباب فقال في كتاب الرهن في الركن الثالث منه إذا قال: أقرضتك هذه الألف بشرط أن ترهن بالمائة التي لي عندك كذا، فالقرض فاسد، ثم إن رهن بالمائة التي عليه صح إن علم فساد الشرط، وإن ظن صحته فوجهان. قال القاضي: لا يصح، وقال الشيخ أبو محمد وغيره: يصح. انتهى. وكذا لو باع بشرط بيع آخر فاستثناه ظانًا صحة الشرط وقد سبقت هذه الصورة في بابها. انتهى ملخصًا. وليس في هذين الموضعين تصريح بتصحيح. إذا علمت ذلك فقد قال في أوائل الإقالة ما نصه: وتجوز الإقالة في بعض السلم فيه أيضًا، لكن لو أقاله في البعض ليعجل الباقي له أو عجل المسلم إليه البعض ليقيله في الباقي فهي فاسدة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2374) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

انتهى كلامه. فأما الإقالة بشرط التعجيل ففسادها واضح. فأما إذا عجل بشرط الإقالة فأقاله فهو والرهن المشروط في البيع الفاسد سواء. ثم ذكر أيضًا عدم الصحة في كتاب الكتابة فقال في أثناء الحكم الثاني من الباب الثاني: إذا جاء المكاتب بالنجم عند المحل وشرط على السيد أن يبرئه فالشرط لغو، وللسيد أخذه ولا يلزم أن يبرئه من الباقي. وإن عجله قبل المحل على أن يبرئه من الباقي وأخذه وأبرأه لم يصح القبض والإبراء ولو قال: أبرأتك عن كذا بشرط أن تعجل الباقي، أو إذا عجلت كذا فقد أبرأتك عن الباقي فعجل لم يصح القبض ولا الإبراء، هذا هو المذهب. وأشار المزني إلى ترديد قول صحة القبض والإبراء، ولم يسلم له الجمهور إثبات خلاف فيه. انتهي. ثم ذكر ما يخالف الموضعين المذكورين في أوائل الصلح، فقال في المصنف الثاني وهو صلح الحطيطة: ولو صالح من ألف مؤجل على ألف حال فباطل لأن الأجل لا يسقط ولا يلحق، فلو عجل من عليه المؤجل وقبله المستحق سقط بالاستيفاء. انتهى. وتعجيل المؤجل بعد الشرط نظير الإقالة والإبراء والتعجيل بعد الشرط. وقد أجاب فيه بعكس ما ذكره فيهن، ومقتضاه فيهن أن لا يملكه حتى لا يحصل الإبراء. وبالجملة فهو تباين واضح خصوصًا المذكور في الصلح [مع المذكور في] (¬1) الكتابة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ووقع هذا الاختلاف بعينه في "الشرح الصغير" إلا أنه لم يذكر مسألة الإقالة، ووقع أيضًا في "الروضة" وزاد على ذلك فصحح في كتاب الرهن من "زياداته" الصحة فقال: قلت: الثاني أصح -يعني الصحة- واختاره الإمام والغزالي في "البسيط" وزيف الإمام قول القاضي، والله أعلم. وجزم في الركن الثالث من المساقاة بأنه لا يصح، ولم يجزم به الرافعي، بل نقله عن "التهذيب" فقط، ثم ذكر أنه قدم نظيره في الرهن فحذف النووي المنقول عنه وجزم به، فوقع في صريح التناقض. وقد ذكر الشافعي في "الأم" مسألة الكتابة في باب قطاعة المكاتب كما ذكره الرافعي ثم قال بعده ما نصه: وإن فعل هذا على أن يحدث للمكاتب عتقًا فأحدثه له فالمكاتب حُرّ، ويرجع عليه سيده بالقيمة لأنه أعتقه ببيع فاسد كما قلت في أصل الكتابة الفاسدة. انتهى. ونص في البويطي على مسألة الرهن، وحكم فيها بعكس ما صححه في "الروضة" فقال في باب الرهن ما نصه: ولو كان لرجل على رجل دين حال أو إلى أجل ثم قال: بعني بيعة أخرى على أن أرهنك بالأول والآخر لم يجز، وكان البيع الآخر فاسدًا، والرهن باطلًا، وكان حقه الأول على حاله. وقال في "الأم": وإذا كان المدعى عليه منكرًا فالصلح باطل، وهما على أصل حقهما، ويرجع المدعى على دعواه، والمعطى [فيما] (¬1) أعطى وسواء إذا أفسد الصلح قال المدعى: أبرأتك مما ادعيت عليك، أو من بدله من قبل أنه إنما أبرأه على أن يتم له ما أخذ منه، وليس هذا بأكثر من أن يبيعه البيع الفاسد. ¬

_ (¬1) في جـ: على ما.

فإذا لم يتم رجع كل واحد منهما على أصل ملكه كما كانا قبل أن يتبايعا [هذا كلامه. وقد تظافرت نصوص الشافعي على البطلان فلتكن الفتوى عليه] (¬1). ولا عبرة بما عداه. قوله: ولو اشترى حطبًا على ظهر بهيمة مطلقًا فهل يصح العقد ويسلمه إليه في موضعه [أم لا يصح حتى يشترط تسليمه إليه في موضعه] (¬2) لأن العادة قد تقتضي حمله إلى داره؟ حكي صاحب "التتمة" فيه وجهان. انتهى. والأصح منهما هو الصحة. كذا صححه النووي في "زيادات الروضة". قوله: وذكر القاضي الروياني أنه لو أجل الثمن إلى [ألف] (¬3) سنة بطل العقد للعلم بأنه لا يبقى إلى هذه المدة فيسقط الأجل بالموت كما لو أجر ثوبًا ألف سنة لا يصح. فعلى هذا يشترط في صحة الأجل احتمال بقائه إلى المدة المضروبة. انتهى كلامه. اعترض النووي في "الروضة" عليه فقال: لا يشترط احتمال بقائه إليه، بل ينتقل إلى وارثه لكن التأجيل بألف سنة وغيرها مما يبعد بقاء الدنيا إليه فاسد. انتهى كلامه. والذي قاله النووي معترضًا به من أن ذلك لا يشترط، بل ينتقل إلى الوارث غلط، فإن الكلام ليس في مستحق الدين، بل في من هو عليه. ولهذا قال الرافعي: فيسقط الأجل بموته، والأجل يسقط بموت من عليه لا بموت من له. وإذا ظهر هذا ظهر أيضًا ضعف البطلان فيما إذا كان يبعد بقاء الدنيا إليه لأنا نعلم الاستحقاق قبلك بموت من عليه بخلاف الإجارة، فإن بطلانها واضح. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب.

والنووي حذف التصريح بانتقاله إلى الوارث حالة اختصاره لكلام الرافعي ثم توهم بعد ذلك عكسه فأجاب عنه، وقال صاحب رفع التمويه في الإجارة: إن الأرض تؤجر خمسمائة سنة. ثم قال: وأكثر ما يصح أن يبيعه بثمن مؤجل إلى هذا القدر. هذا كلامه وذكر ذلك في ذيل كلام نقله عن الشيخ أبى حامد، واقتضى إيراده أنه منه. قوله: ولو حل الأجل فأجل البائع المشتري مدة لم يتأجل، ولو أوصى من له دين حال على إنسان بإمهاله مدة [فعلى ورثته إمهاله. انتهي. وقد ذكر مثله في "الروضة". والكلام عليه له مقدمة ذكرها ابن الرفعة في "المطلب" فقال: وإنما تنفذ الوصية بعدم المطالبة إلى مدة] (¬1) بشرط أن يخرج منه الدين من الثلث لأنهم قالوا: إن البيع بثمن مؤجل يحسب كله من الثلث إذا لم يحل منه شيء قبل موت الموصى لأنه منع الورثة من التصرف فيه فكان كإخراجه عن ملكهم، وهذا مثله. ثم قال: وأنا أقول: إذا قلنا: إن الملك ينتقل في البيع في زمن الخيار، ويجوز إلحاق الزيادة بالعقد كان ذلك صورة أخرى لأن الدين كان حالًا وقد تأجل قال بل هذه بالذكر أولى لأن ما كان حالًا تأجل، وما عداها قد يقال: إن الدين باق بصفته، وإنما منع من طلبه مانع كالإعسار هذا كلامه. ذكر ذلك في آخر الباب الثالث من أبواب البيع، وهذا الاحتمال الذي أبداه من كونه حالا امتنعت الطالبة به لعارض احتمال ظاهر وله فوائد: منها: إذا عجله المديون قبل المدة لغرض البراءة فهل يجبر رب الدين جزما على أحد الأمرين وهما القبول أو البراءة كسائر الديون الحالة لاسيما أن هذه المدة لم تقع برضا المديون أم يتخرج على الخلاف في الدين المؤجل؟ ومنها: إذا حلف لا مال له وقلنا بالتفصيل بين الحال والمؤجل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومنها: إذا أفلس المديون فهل لصاحبه المطالبة به؟ إن قلنا إنه من باب] (¬1) التأجيل فيأتي فيه الخلاف في حلول المؤجل بالإفلاس. وإن قلنا: إنه حال، منع من المطالبة به مانع فالمتجه عدم المطالبة به لقيام المانع، ويحتمل خلافه لما فيه من الضرر، ويحتمل [التخريج] (¬2) على المؤجل لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب الأصلي، ويحتمل التفصيل بين أن يقول لله عليّ أن لا أستوفيه إلا بعد كذا وكذا ونحو ذلك، فلا يطالبه أو يقول: لله عليّ تأجيله، وهذا كله إذا كان الناذر والمديون حيين. فإن كان المديون ميتًا فلا شك أن المسارعة إلى براءة ذمته واجبة إذا خلف وفاء. وحينئذ فلا يؤثر النذر حتى لو رضي الوارث ورب الدين معًا بالتأخير لم يجز لما ذكرناه. وأيضًا فلأن قصد الناذر التبرع برفق المديون، وقد زال ذلك بموته، وإن كان الناذر ميتًا فالمتجه بقاء المدة سواء كان وارثه رشيدًا أم محجورًا عليه لأن من ورث مالًا ورثه بحقوقه التي عليه والتي له. ويحتمل التفصيل السابق وهو الفرق بين أن يلتزم التأجيل أو عدم مطالبته هو. ومن تفاريع المسألة إخراج الزكاة عن ذلك المال. فنقول: للنذر حالان: أحدهما: أن يكون بعد تمام الحول، فلا إشكال في وجوب [إخراج قدر الزكاة غير أنه هل يستثنى ذلك القدر من وجوب] (¬3) الإنظار لأن الملك فيه لغيره بناء على الصحيح، وهو أن الفقراء شركاء رب المال، أو يجب الإنظار فيه أيضًا، وهو المتجه لكونه قادرًا على تمام نذره لجواز الإخراج من غيره كما قلنا به فيما إذا رهن مالًا زكويًا، وحال عليه الحول، ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في أ: الترجيح. (¬3) سقط من جـ.

بل مسألتنا أولى لأن الرهن سابق على الوجوب بخلاف النذر. الحال الثاني: أن يكون قبل تمام الحول ففي إلحاقه بما بعد الحول احتمال لأن النذر في هذه الحالة يصرف منه قبل تعلق نصيب الفقراء. وقياس مسألة الرهن وجوب الإخراج من غيره عند القدرة، ومنه عند عدمها. واعلم أن ابن الرفعة في باب القرض من "الكفاية" نقل عن صاحب "التتمة" أن الحال يصير مؤجلًا بالوصية، ثم قال عقبه ما نصه: وسمعت من بعض مشايخنا أنه يتأجل بالنذر أيضًا. هذا كلامه. ومقتضاه أنه يقف على نقل في هذه المسألة وهو غريب، فقد ذكرها أيضًا المتولى عقب هذه المسألة التي نقلها هو عنه من غير فصل بينهما فقال في الباب الخامس من أبواب البيع: الثامن: إذا كان له حق حل أجله فقال: إن شفى الله تعالى مريضى أو رجع غائبي فلله عليّ أن لا أطالبه شهرًا، فالحكم فيه كالحكم فيما نذر عيادة المرضى وتشييع الجنائز. هذا كلام المتولي. وقد ذكرها أيضًا الروياني في "البحر" في كتاب البيع قبل باب بيع اللحم بالحيوان بنحو ورقة فقال: إن فيه وجهين كالوجهين في ما إذا نذر تشييع الجنازة، وهذا الكلام يقتضي أن الراجح من الوجهين هو الواجب لأنه الراجح في المحال عليه. قوله ولابد من تعيين الرهن، والكفيل، والمعتبر في الرهن المشاهدة أو الوصف كما يوصف المسلم فيه، وفي الكفيل المشاهدة [أو] (¬1) المعرفة بالاسم والنسب، ولا يكفي الوصف بأن يقول: رجل موسر، ثقة، هذا هو النقل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولو قال قائل: الاكتفاء بالصفة أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله لم يكن مبعدًا. انتهي كلامه. ونظير هذه المسألة في المشاهدة مع عدم معرفة الحال قد ذكره الرافعي في كتاب الصداق، وفي المسابقة فقال: الصداق إذا أصدقها تعليم آيات من القرآن فلابد من علمها، فإن أراها مقدارًا من المصحف فقال: من هاهنا إلى هنا فقال أبو الفرج الزاز: يكفي، ولك أن تقول: لا يكفي هذا إذ لا تعرف به صعوبته وسهولته. زاد النووي في "الروضة" فقال: الصواب أنه لا يكفي. انتهى. والمسألتان في المعنى سواء، فيقال للنووي: لم جعلت هناك الصواب ما قاله الرافعي بحثًا ولم تجعله هنا كذلك؟ وقال في المسابقة: لو تناضل غريبان لا يعرف واحد منهما صاحبه حكم بصحة العقد. فإن بان أنهما أو أحدهما لا يحسن الرمي بطل العقد. وإن بان أن أحدهما قليل المعرفة لا يقاوم الآخر ففيه وجهان. ومقتضى كلام الرافعي في الشرط الخامس من شروط المسابقة ترجيح الصحة. قوله: ولو باع عبدًا بشرط العتق، وأن يكون الولاء للبائع فسد العقد، وفي قول يصح. ثم قال ما نصه: وعلى هذا -يعني الصحة- ففي صحة الشرط وجهان نقلهما الإمام: أحدهما: أنه لا يصح. . . . إلى آخر ما ذكر. ثم قال: إن الجمهور قضوا على هذا القول بفساد الشرط، وقصروا

الصحة على العقد، ولا تكاد تجد حكاية الخلاف في صحة الشرط بعد تصحيح العقد إلا للإمام. إذا علمت ذلك فاعلم أن ما وقع في كلام الرافعي من أن الإمام نقل الوجهين غلط، فإن الذي نقله إنما هو فساد الشرط فقط. وأما تصحيحه فذكره بحثًا فقال تفريعًا على قول الصحة ما نصه: وعلى هذا ففي الولاء المشروط نظر، ذهب بعض الأصحاب إلى أن الوجه فيه إلغاء الشرط، وتصحيح العقد، وهذا فاسد مع أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاشتراط، ومتعلق القول بصحة العقد قضية بريرة، فلا ينبغي أن يعتبر أصلها، ويعطل تفصيل القول فيها، فإذًا الوجه تصحيح الشرط إذا صححنا العقد تعلقًا بقضية بريرة. هذا لفظ الإمام. لا جرم أن ابن الرفعة في "شرح الوسيط" قال: إن أحد الوجهين ذكره الإمام نقلًا والآخر تفقهًا، وإن كان قد وقع هو في "شرح التنبيه" في ما وقع فيه الرافعي. قوله: وما لا يقتضيه العقد من الشروط، ولكن لا غرض فيه كشرط أن لا يأكل إلا الهريسة أو لا يلبس إلا الحرير، وما أشبهه فلا يفسد العقد ويلغو كما قاله الإمام والغزالي. لكن في "التتمة" أنه لو شرط ما يقتضي التزام ما ليس بلازم، فإنه لو باع بشرط أن يصلي النوافل فإنه يفسد العقد لأنه أوجب ما ليس بواجب وقضية هذا فساد العقد في مسألة الهريسة، والحرير أيضًا. انتهى ملخصًا. وكلامه يقتضي أنه لم يجد التصريح بالبطلان منقولًا، وإنما يؤخذ من مقتضى كلام "التتمة" وهو عجيب، فقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على البطلان فقال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى المذكور بعد باب قطع العبد في أواخر باب الغصب منه ما نصه: قال محمد

ابن إدريس: فإذا باع الرجلُ الرجلَ العبدَ على أن لا يبيعه من فلان، أو على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يستخدمه، أو على أن ينفق عليه كذا وكذا، أو على أن يخارجه فالبيع كله فاسد. هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. فتلخص أن مذهب الشافعي في اشتراط ما لا غرض فيه هو البطلان، وأن الرافعي لم يطلع فيه إلا على كلام بعض المتأخرين المعدودين في الصنفين لا في أصحاب الوجوه. ثم إن الرافعي جزم بالصحة في "المحرر" و"الشرح الصغير" لكون القائل بالصحة اثنان؛ وبالبطلان واحد على ما تحصل له في مبسوطه. وهذا أمر صعب يورث ريبة، ووقفه في الإفتاء بكثير من كلامه. قوله: ولو باع الحامل واستثنى حملها ففي صحة البيع وجهان منقولان في "النهاية". أحدهما: أنه يصح كما لو باع الشجرة واستثنى الثمرة قبل بدو الصلاح. وأصحهما -وبه أجاب الجمهور-: أنه لا يصح. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: (قبل بدو الصلاح) سهو، بل الصواب أن يقول: قبل التأبير؛ لأن الثمرة قبل التأبير داخلة في البيع، وإذا استثناها صح الاستثناء، فصح قياس الصحة في استثناء الحمل عليه. وأما بعد التأبير وقبل بدو الصلاح فإنها غير داخلة بالكلية حتى يقال: إن استثناء ما صحيح، ويقاس عليه ما نحن فيه. قوله: ولو كانت الأم لواحد والحمل لآخر فهل لمالك الأم بيعها؟ فيه وجهان. وكذا لو باع جارية حاملًا بُحْر، ففيه وجهان، الذي ذكره المعظم أنه لا يصح لأن الحمل لا يدخل في البيع فكأنه استثناه.

والثاني وهو اختيار الإمام وصاحب "الكتاب" أنه يصح لكونه مستثنى شرعًا. انتهي. فيه أمران: أحدهما: أن تصحيح المنع هنا مشكل على تصحيح الجواز في الدار المستأجرة، فإن الحمل والمنفعة قد اشتركا في دخولهما عند بيع الأصل. وفي الإبطال عند استثنائهما على تقدير ملكه لهما. وحينئذ فيجب استواء الصورتين لأن المالك فيهما لم يستثن شيئًا، بل باع جميع ما يملك، فإن جعل المستثنى شرعًا كالمستثنى شرطًا وجب البطلان وإن جعل غير المملوك كالمعدوم، ونظرنا إلى أنه لم يستثن شيئًا لزم القول بالصحة فيهما بل الصحة في الحامل بحر أظهر من المستأجرة لأن الحر لا يقبل البيع أصلًا فهو كالمعدوم بخلاف المنفعة. الأمر الثاني: أن جواب الإمام والغزالي قد اختلف في ذلك فأما الإمام فقال هنا قبل باب النهى عن بيع وسلف: إن الأصح صحة البيع. وقال في الرهن: [المذهب] (¬1) الذي قطع به الأئمة امتناعه. وأما الغزالي فأجاب بالجواز في موضعين من "الوسيط" أحدهما في البيع والثاني في الرهن على خلاف ما قاله فيه إمامه، وأجاب بالمنع في موضعين منه أيضًا، فإنه جزم به في كتاب النكاح في الكلام على ما إذا وطئ الأب جارية الابن. وقال في كتاب "السير": إنه الأصح ذكر ذلك فيما إذا وطئ جارية من الغنيمة. فتلخص أن الذي استقر عليه رأيهما معًا هو المنع على خلاف ما اقتصر عليه الرافعى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو قال: بعتك الجبة وحشوها ففيه [طريقان] (¬1) منهم من طرد الخلاف أي المذكور في الحمل، ومنهم من قطع بالجواز لأن الحشو داخل في مسمى الجُبَّة، فذكر ذلك ذكر ما دخل في اللفظ فلا يضر التنصيص عليه. والحمل غير داخل في مسمى الشاة فذكره ذكر شيء مجهول مع المعلوم. انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا من الطريقين في "الروضة" أيضًا والأصح طريقة القطع. كذا صححها النووي في "شرح المهذب" وعبر بلفظ الأصح. قوله في أصل "الروضة": ولو شرط كون الشاة تدر كل يوم كذا رطلًا من اللبن بطل البيع قطعًا لأن ذلك لا ينضبط. انتهى. وما ادعاه من القطع ليس كذلك، ولم يذكره الرافعي أيضًا، فإن في المسألة وجهين مشهورين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" في باب الرد بالعيب، والروياني في "البحر" وصاحب "العدة" والشاشى في "الحلية" وصحح الدبيلى في "آداب القضاء" منهما الصحة. والغريب أن النووي ادعى ذلك أيضًا في "شرح المهذب" وعبر بقوله: بطل بلا خلاف. ذكره في باب ما يجوز بيعه في الكلام على بيع الحمل في البطن. قوله: ومنها لو قال لغيره: بع عبدك من زيد بألف على أن على خمسمائة فباعه على هذا الشرط فهل يصح العقد؟ فيه قولان لابن سريج أظهرهما: لا. لأن الثمن يجب جميعه على المشتري، وهاهنا جعل بعضه على غيره. والثاني: نعم، ويجب على زيد ألف، وعلى [الآمر] (¬2) خمسمائة كما لو قال: العد متاعك في البحر وعليّ كذا. انتهي. ¬

_ (¬1) في ب: قولان. (¬2) في جـ: الأخر.

ذكر في "الروضة" من زياداته في آخر الوكالة مسألة أخرى تشبه هذه فقال: لو قال: بع عبدك بألف درهم على زيد وخمسمائة [على فعند ابن سريج العقد صحيح وعلى زيد ألف وعلى الأمر خمسمائة] (¬1)، وعلى الصحيح العقد فاسد قال في "الحاوي": هذا لفظه. وذكر الرافعي أيضًا في الباب الرابع من أبواب الخلع في الطرف الرابع منه مسألة أخرى تشبه هاتين المسألتين فقال: لو قال: بع عبدك من زيد بألف، ولك على خمسمائة فباعه منه لم يستحق على القائل شيئًا عند الجمهور. وقال الداركي: يحتمل أن يستحق كالتماس الطلاق والعتق. انتهى. ولما كانت هذه المسائل الثلاث قد يحصل فيها اشتباه الواقف على بعضها عن البعض الآخر ذكرتها في موضع واحد ليفطن له، فإنه أبطل الأولى، ونقل فيها عن ابن سريج قولين، وأبطل الثانية، ولم ينقل عن ابن سريج فيها إلا قولًا واحدًا، وهو الصحة، وجزم بصحة الثالثة. فأما التي في الخلع فإنه باع من زيد بألف عليه، ولم يشترط في البيع أن له على السائل شيئًا، فهذا صحيح إذ لا مفسد فيه، ولكن النظر وقع في استحقاق ما التزمه السائل. وأما التي في الوكالة فإن البائع صرح بأن الثمن ألف وخمسمائة وبأن ألفًا منها على المشتري وباقيها على السائل، وبطلانه واضح لأن الثمن لا يكون إلا على المشتري، ومقابله ضعيف. وأما المذكورة في هذا الباب، فإنه لم يصرح بأن الثمن خمسمائة حتى يكون بعضه على المشتري بل باع بألف على المشتري ثم شرط في صلب العقد أن يكون على السائل خمسمائة أخرى، ولم يجعلها ثمنًا، وإن كان من جهة المعنى يشبه الثمن على غير البائع فلما شرط في الأولى مالًا خارجًا ¬

_ (¬1) سقط من ب.

عن الثمن بخلاف الثانية نظر ابن سريج إلى هذا المعنى فتردد في صحة الأولى مع تسليمه الصحة في الثانية. قوله: وإن تعلق بالشرط الفاسد غرض فسد البيع بفساده. انتهى. يستثنى منه ما إذا اشترط البراءة من العيوب، وقلنا: إن الشرط لا يصح، فإن الأصح في الرافعي أنه لا يبطل البيع. قوله: ولا يجوز للمشترى حبس المبيع في البيع الفاسد لاسترداد الثمن. وحكى ابن كج عن الإصطخرى جوازه، ونقله القاضي عن النص. انتهى ملخصًا. وما صححه هنا من امتناع الحبس قد جزم في أوائل الضمان بما يخالفه فقال في الكلام على ضمان العهدة: ولو بان فساد البيع بشرط أو غيره ففي مطالبة الضامن وجهان: أحدهما: يطالب كما لو خرج مستحقًا. والثاني: لا لاستغنائه عنه بإمكان حبس المبيع إلى استرداد الثمن. انتهي كلامه. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة"] (¬1) وذكر أيضًا قريبًا من هذا الموضع موضعًا آخر يخالفه أيضًا. قوله: وإن تلف فعليه قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف. وقيل: العبرة بقيمته يوم التلف كالعارية، وقيل: بقيمته يوم القبض. انتهى ملخصًا. أطلق وجوب القيمة ولم يفصل بين المثلى والمتقوم، وكذلك أيضًا أطلقه فيما إذا تلف المبيع في زمن الخيار بعد القبض، وقلنا: إن الملك فيه للبائع فإنه ذكر هناك أن الواجب القيمة، ولم يفصل وتبعه في "الروضة" على ¬

_ (¬1) سقط من ب.

هذا الاطلاق، وليس كذلك، بل محله إذا كان متقومًا. فأما إذا كان مثليًا فإنه يضمن المثل. كذا نص عليه الشافعي في مواضع فقال في الكتابة في أوائل باب بيع المكاتب وشرائه ما نصه: وإذا باع بما لا يتغابن الناس بمثله بغير إذن سيده فالبيع فيه فاسد، فإن وجده بعينه رد، وإن فات كان على مشتريه مثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل فقيمته هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. وذكر بعده بدون ورقة مثله أيضًا فقال في ما إذا باع المكاتب شيئًا بيعًا فاسدًا ما نصه: فإن فات كان للمكاتب اتباعه بقيمته إن كان مما لا مثل له [أو بمثله إن كان مما له مثل] (¬1). وذكر بعد هذا الثاني بأسطر قلائل مثله أيضًا. وقال بعد ذلك بأوراق في باب بيع كتابة المكاتب يعني نجوم المكاتب ما نصه، ويرد مشترى كتابة المكاتب ما أخذ إن كان قائمًا في يده، ومثله إن كان له مثل أو قيمته إن فات ولم يكن له مثل. وقال أيضًا في باب اختلاف المسلف في الثمن بعد أن ذكر صورًا من التخالف قال [فإن كان الثمن في هذا كله دراهم أو دنانير رد مثلها أو طعامًا رد مثله فإن لم] (¬2) يوجد رد قيمته. وقبيل هذا الباب قال الشافعي: إن أسلف سلفًا فاسدًا وقبضه رده، وإن استهلكه رد مثله إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل. ونقل عن أحمد بن بشرى المصري عن الشافعي نحوه. فقال في ما إذا اشترى الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط التبقية وقطع منها شيئًا: قال الشافعي: فإن كان له مثل رد مثله، ولا أعلم له مثلًا، وإن ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

لم يكن فقيمته. انتهى. فهذه نصوص الشافعي قد تظافرت على وجوب المثل، وهو القياس. وذكر الرافعي أيضًا في الإقالة ما يقوي ذلك، فإنه ذكر أن الإقالة جائزة بعد تلف المبيع، ويرد المشتري مثل المثلى وقيمة المتقوم، وعلى هذا اقتصر الرافعي في "الشرح الصغير". والذي اقتضاه اطلاق الرافعي أولا من وجوب القيمة صرح بتصحيحه الماوردي، وجزم به الروياني في "البحر" وادعى أنه لا خلاف فيه، قال: لأن ماله مثل إنما يضمن بالمثل إذا لم يكن مقبوضًا على وجه المعاوضة، فإن ضمن بها كالمقبوض بسوم أو بيع مفسوخ، فلا لأنه لم يضمنه وقت القبض بالمثل. ثم قال: وهذا إذا كان قبل طلب البائع، فإن طلبه فمنعه المشتري ثم تلف فوجهان. وما ادعاه الروياني مع التصريح بهذه النصوص غريب مردود. فائدة في ما يستثنى من هذه القاعدة: فنقول: المتقوم يضمن بالقيمة، ولا يضمن بالمثل إلا في مسائل: أحدها: جزاء الصيد. الثاني: العين المقترضة على الصحيح. الثالث: هدم الحائط كما هو مقتضى كلام الرافعي، وأجاب به النووي في "فتاويه"، ونقله فيها عن النص، وإن كان مردودًا كما تعرفه في باب الغصب. الرابع: طم الأرض كما قاله الرافعي، والمكاتب إذا حبسه مدة وفرعنا على وجوب التخلية.

الخامس: إذا أتلف رب المال الماشية كلها بعد الحول، وقبل الإخراج فإن الفقراء شركاء رب المال على الصحيح، ومع ذلك فإنه يلزمه حيوان آخر لا قيمته. هكذا جزم به الرافعي وابن الرفعة في زكاة المعشرات في الكلام على ما إذا أتلف المالك الثمرة بعد وجوب الزكاة فيها. وعلله في باب قسم الصدقات من "الكفاية" بأن إخراجه جائز مع بقاء المال فتعين عند عدمه لأنه قائم مقامه. وهذا بخلاف ما لو أتلفه أجنبي، وفي المسألة كلام آخر ذكرناه في زكاة المعشرات. وأما المثلى فيضمن بالمثل إلا في مسائل. إحداها: العارية فإنه يضمنها بقيمتها كما هو مقتضى إطلاق الرافعي، وصرح به الشيخ في "المهذب". وجزم ابن عصرون في "المرشد" بوجوب المثلى في المثلى، وكذلك في كتابه المسمى "بالتنبيه والإشارة على الأحكام المختارة". وقال في "الانتصار": إنه أصح الطريقين، قال: والطريق الثاني أنه ينبني على أن المتقوم تعتبر قيمته في أي وقت، فإن اعتبرنا قيمته يوم التلف ضمن المثلى بالقيمة. وإن اعتبرنا بالأكثر من القبض إلى التلف ضمنه بالمثل. فإن قيل: فما صورة المستعار المثلى؟ قلنا: صوره ابن عصرون في "المرشد" بما إذا استعار مثليًا ليرهنه. قلت: وهذا يشعر بأنه لا يتصور في المستعار الانتفاع على العادة، وليس كذلك. بل يتصور فيما إذا استعار آنية من النحاس الذي لا يختلف

كالأسطال المربعة أو كانت مختلفة، ولكنها غير مضروبة بل مصبوبة في قالب كما أوضحوه في السلم. الثانية: إذا أتلف ماءه في مفازة وقدم الحاضرة فلا يجب مثله كما صرح به الرافعي في الغصب، وفي غيره لحقارته في الحضر غالبًا بالنسبة إلى المفازة. الثالثة: المستام. الرابعة: المبيع المفسوخ فلا يضمن الأمرين بالمثل بل بالقيمة بلا خلاف. قاله الروياني في "البحر". الخامسة: اللبن في المصراة فإنه لا يضمنه إذا تلف بمثله، ولا بقيمته، بل بالثمن. السادسة: المبيع بيعًا فاسدًا على ما تقدم. وقد يضمن المتقوم بأكثر من قيمته، وذلك فيما إذا استعار عينًا للرهن، وباعها بأكثر من قيمتها، فإنه يضمنها بما باعها كما صححه جماعة. قال في "الروضة" من "زياداته": وهو الصواب. وحكى الرافعي عن أكثر الأصحاب وجوب القيمة، وقد يختلف المضمون باختلاف الضامن كما إذا افتضى بكرًا بشبهة أو نكاح فاسد، وكان من عادتهم مسامحة العشيرة، فإنه إن كان منهم سومح وإلا فلا. قال الروياني: وليس لنا مضمون يختلف إلا هذا، قوله وإن أنفق على العبد المبيع بيعًا فاسدًا مدة جاهلًا، فعن الصيمري أنه على وجهين. انتهي. والأصح منهما عدم الرجوع [كذا صححه النووي في "زيادات

الروضة"] (¬1). قوله: وإن اشترى جارية شراءًا فاسدًا ووطئها المشتري، فإن كانا عالمين وجب الحد إن اشتراها بميتة أو دم. وإن اشتراها بخمر أو شرط فاسد لم يجب لاختلاف العلماء. انتهي ملخصًا. لقائل أن يقول: قد صحح الرافعي في غير هذا الباب كالخلع والكتابة أن الميتة لا تلحق بالخمر، وقد جزم هنا بالحاقها بالدم. قلت: السبب فيه أن النظر في الخلع والكتابة إلى ورود العقد على شيء مقصود أو غير مقصود كما هو مقرر في موضعه. والميتة مقصودة لإطعام الجوارح، فلهذا ألحقوها بالخمر، وأوجبوا للزوج مهر المثل وللسيد قيمة الرقبة لأنهما لم يرضيا بإخراج ملكهما مجانًا. وأما هذا الباب فإن المدار في إسقاط الحد على الأشياء التي يقول أبو حنيفة: إن الشراء بها يفيد الملك، ولقد ألحقت الحنفية الميتة بالدم في عدم التمليك به كما رأيته في كتبهم، فلهذا ألحقناه أيضًا به في وجوب الحد فاعلمه. قوله في المسألة المذكورة: ثم إن كانت بكرًا وجب مع مهر البكر أرش البكارة. أما مهر البكر فللاستمتاع بها، وأما الأرش فلإتلاف ذلك الجزء. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به هنا قد ذكر ما يخالفه في مواضع من الكتاب: أحدها: في الباب الثاني من كتاب الغصب في أول الفصل الثالث منه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيما إذا اشترى جارية مغصوبة ووطئها، وهما جاهلان فقال: فإن كانت بكرًا فهل عليه مهر مثلها ثيبًا، وأرش البكارة أو مهر مثلها بكرًا؛ ذكروا فيه وجهين، ورجحوا الأول. انتهى ملخصًا. وهذا مع ما تقدم في غاية الغرابة، فإنه جزم في الشراء الفاسد بإيجاب زيادة لم يوجبها في الغصب، ولم يحك في إيجابها خلافًا، مع اختلافهم في أن البيع الفاسد هل يغلظ فيه كما يغلظ في الغصب أم لا؟ وأما كونه أغلظ فلا قائل به. والموضع الثاني: في كتاب الجنايات في أواخر الباب الثاني في دية ما دون النفس في الجناية على الحرة، فذكر فيها كما ذكر في الأمة في الغصب. والموضع الثالث: في أواخر خيار النقض قبيل الإقالة فقال: ولو افتضى أجنبي الجارية المبيعة قبل القبض بغير الذكر فعليه ما نقص من قيمتها وإن افتضها به فوجهان: أصحهما: أنه يجب عليه مهر مثلها. والثاني: يجب أرش البكارة ومهر مثلها ثيبًا. انتهي ملخصًا. وهذا أيضًا مخالف لكل واحد من الموضعين الأولين فتحصلنا في هذه المسألة على ثلاثة [أجوبة] (¬1) متعارضة تابعه عليها النووي في "الروضة"، فالمذكور في هذا الموضع مهر بكر، وأرش بكارة. وفي خيار النقض مهر بكر فقط، وفي الغصب والجنايات مهر وأرش بكارة. وذكر في "المحرر" مسألة الجناية فقط، وفي "الشرح الصغير" الموضعين الأولين. ¬

_ (¬1) في جـ: أوجه.

قوله: وإن استولدها فالولد حر للشبهة، فإن خرج حيًا فعليه قيمته يوم الولادة، وتستقر عليه القيمة بخلاف ما لو اشترى جارية واستولدها فخرجت مستحقة، فإنه يغرم قيمة الولد، ويرجع بها على البائع لأنه غره. انتهى. واعلم أنه سيأتي في ولد المشتري من الغاصب أنه لا يرجع على الصحيح. قوله: وإن خرج الولد ميتًا فلا قيمة له، لكن إن سقط بجناية وجبت الغرة على عاقلة الجاني وعلى المشتري أقل الأمرين من قيمة الولد يوم الولادة والغرة. انتهى. سيأتي أن المغصوبة إذا ولدت من الغاصب أو من المشترى منه ولدًا ميتًا بجناية وجبت فيه الغرة على الجاني، وللمالك عشر [قيمة الأم، وقيل قيمته لو وضع حيًا، فلو زاد عشر القيمة على الغرة اقتصرنا على عشر] (¬1) القيمة على الصحيح. قوله: ولو زاد في الثمن أو زاد اثبات الخيار أو الأجل أو قدرهما نظر إن كان ذلك بعد لزوم العقد لم يلحق بالعقد. وكذا الحكم في رأس مال السَّلم والمُسْلَم فيه والصداق، وكذا الحط لا يلحق شيء من ذلك بالعقد. وإن كان ذلك قبل اللزوم فأوجه: أصحها عند الأكثرين: يلحق مطلقًا لأن الزيادة من أحدهما تدعو الآخر إلى إمضائه. والثاني: لا [يجوز] (¬2) مطلقًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

والثالث: يلحق في خيار المجلس دون الشرط. فإن قلنا بالجواز فقال أبو على الطبري والشيخ أبو علي صاحب "التهذيب" وغيرهم: إنه مُفَرَّع على قولنا: الملك في زمن الخيار للبائع. أو قولنا: موقوف ويفسخ العقد، فأما إذا قلنا: للمشتري فالزيادة في الثمن لا يقابلها شيء من الثمن، وكذا الأجل والخيار لا يقابلهما شيء من العوض. وقال العراقيون: إن الجواز يطرد على الأقوال كلها وفي الحط قبل اللزوم مثل هذا الخلاف. انتهى ملخصا. وحاصله أنا إذا قلنا: إن الملك للبائع صح الإلحاق وإن قلنا: للمشتري: فوجهان. وكلامه يوهم أن الحط أيضًا يجري فيه هذا التفصيل بعينه، ويمكن التمثيل له بالمعني الذي ذكره في الالحاق، ولكنه قد صرح بعكسه في الباب الثاني من كتاب الشفعة فقال: وكنا قد ذكرنا في البيع التفات الخلاف في الإلتحاق إلى الخلاف في الملك في زمن الخيار، [وعلى ذلك جرى الإمام وآخرون هاهنا فقالوا: إن قلنا: إن الخيار] (¬1) لا يمنع ثبوت الملك للمشتري، فكما يملك المشتري المبيع يملك البائع الثمن فينفذ تصرفه فيه بالإبراء لمصادفته ملكه. قال الإمام: وفيه احتمال لأن الثمن متعلق حق المشتري. وإن قلنا: الملك للبائع أو موقوف ففي صحة الحط وجهان عن القاضي. أحدهما: الصحة لجريان الناس عليه في الأعصار الخالية. والثانية: المنع، لأنه تصرف فيما ليس بمملوك له. هذا كلامه. وهو على العكس كما تقدم ذكره، ثم إنه في الشفعة جعل قول الوقف ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

القسم الثاني من المناهي ما لا يدل على الفساد

كقول الملك للبائع على خلاف ما فصله هاهنا. وقد استفدنا أيضًا مما قاله هناك أن الإبراء من أمثلة الحط. واعلم أن ذكر الصداق في هذه الأمثلة إنما هو مفرع على قول ضعيف، وهو إثبات الخيار فيه، والصحيح خلافه. قال -رحمه الله-: القسم الثاني من المناهي ما لا يدل على الفساد. قوله في أصل "الروضة": عند التُنّاء. هو بتاء مضمومة ثم نون مشددة ثم همزة، وهو جمع تانيء، والتانيء من يخزن الأقوات ويجمع أيضًا التانيء على وزن [الفعال بزيادة ألف وكذا كل صفة على وزن] (¬1) فاعل تجمع على الفعل والفعال. قوله: وإذا جوزنا التسعير فسعر الإمام فخالفه استحق التعزير، وفي صحة البيع وجهان مذكوران في "التتمة" انتهى. قوله: في بيع الحاضر للبادي وهو مأثوم بشروط أحدها: أن يكون عالمًا بورود النبي فيه. وهذا شرط يعم جميع المناهي. انتهى كلامه. ويستثنى منه النجش فإنه يحرم على من لا يعلم، ورود النهي كما نقله بعد عن الشافعي والأصحاب وإن كان فيه نزاع قد ذكرته. قوله. روى أن النبي نادى على قدح، وحلس لبعض أصحابه. . . . الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (1641) والترمذي (1218) والنسائي (4508) وابن ماجه (2198) وأحمد (11986) والطيالسي (2146) والطبراني في "الأوسط" (2640) وابن أبي شيبة (4/ 286) والبيهقي في "الشعب" (1201) وفي "الكبرى" (10668) والطحاوي في "شرح المعاني" (3934) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 132) والحارث في "مسنده" (1307) وابن الجارود في "المنتقى" (569) من حديث أنس بسند ضعيف. ضعفه ابن القطان والحافظ ابن حجر والألباني وغيرهم.

الحلس بحاء مهملة ولام ساكنة وسين مهملة كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير. ويقال أيضًا: حلس بفتح الحاء واللام. قاله الجوهري. قوله: وشرط القاضي ابن كج كتحريم البيع أن لا يكون المشتري مغبونًا غبيًا مفرطًا، فإن كان فله أن يعرفه، ويبيع على بيعه لأنه ضرب من النصيحة. انتهى كلامه. قال النووي في "الروضة": هذا الشرط تفرد به ابن كج، وهو خلاف ظاهر إطلاق الحديث، فالمختار أنه ليس بشرط. قوله: واعلم أن الشافعي -رضي الله عنه- أطلق في "المختصر" معصية الناجش. وشرط في معصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالمًا بالحديث الوارد فيه؛ قال الشارحون: السبب فيه أن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، معلوم من الألفاظ العامة، وإن لم يعلم هذا الخبر بخصوصه. والبيع على بيع الأخ إنما يعلم تحريمه من الخبر الوارد فيه، فلا يعرفه من لا يعرف الخبر. . . . إلى آخر ما ذكره. تابعه في "الروضة" على ذلك، وقد نص الشافعي -رحمه الله- على المسألة، وشرط في تحريم النجش أن يعلم بالحديث. كذا نقله البيهقي في "السنن الكبير" فقال: قال الشافعي: فمن نجش فهو عاصٍ بالنجش إن كان عالمًا بنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا لفظه بحروفه. وقد ذكر -أي: الشافعي- في اختلاف الحديث نحوه أيضًا، والحاصل أن مذهب الشافعي في البيع على البيع، وفي النجش واحد، وهو اشتراط العلم، غير أنه سكت عن بيانه في موضع، فعلم بذلك سقوط جميع ما ذكر في هذا الفصل من التوجيه والاعتراض عليه. والغريب أن هذا النص

قد نقله في "التتمة" ومعلوم كثرة نقل الرافعي عنها. قوله: وفي جواز التفريق بين الأم وولدها بالرد بالعيب اختلاف لأصحابنا. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" والأصح فيه المنع، وستعرفه واضحًا في بابه. قوله: وعن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه إذا اشترى جارية وولدها الصغير ثم تفاسخا البيع في أحدهما جاز. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقله عن الشيخ وإقراره عليه، وهذا النقل صحيح، ذكره الشيخ في كتابه المسمى "بالنكت والعيون" المعقود للخلاف بيننا وبين أبي حنيفة، وإنما ذهب إليه لأن اختياره جواز التفريق بالفسخ كما صححه في باب الرد بالعيب من "المهذب"، والصحيح خلافه، فاعلم ذلك. قوله: والتفريق بين البهيمة وولدها هو بعد استغنائه عن اللبن، وعن الصيمري حكاية وجه آخر. انتهى. هذا الوجه على ما قاله النووي في "الروضة" إنما هو في غير الذبح؛ أما ذبح أحدهما فجائز بلا خلاف. قوله: وبيع الرطب والعنب ممن يتحقق أنه يتخذ منها النبيذ والخمر، منهم من قال: مكروه، ومنهم من قال: حرام. انتهى. والذي قاله الرافعي -رحمه الله- مثال للتصرف أو الفعل المفضى إلى المعصية. وقد نص الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (¬1) على المسألة فقال في آخر كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى قبيل كتاب إبطال الاستحسان ما نصه: ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سيفًا، ونوى بشرائه أن يقتل به كان ¬

_ (¬1) انظر الأم (7/ 487).

الشراء حلالًا وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وكذلك لو باع البائع سيفًا من رجل يراه يقتل به رجلًا كان هكذا. هذا لفظه بحروفه. فقد جوز الشراء وهو نظير البيع بلا شك لاسيما وقد ذكر بعد ذلك بأن البيع كالشراء. وقد صحح النووي في "الروضة" التحريم على خلاف هذا النص؛ وللمسألة نظائر: أحدها: إذا تبايع اثنان بعد النداء أحدهما عليه فرض الجمعة دون الآخر فهل يأثمان أم لا يأثم إلا من توجهت عليه الجمعة؟ فيه خلاف. وقد تقدم الكلام عليها مبسوطًا في موضعها. ومنها إذا غلب على ظنه أن المسلم عليه لا يرد السلام ففي "الروضة" من "زياداته" في أثناء كتاب السير أنه يسلم. ومنها: إذا نسج حريرًا خالصًا وكان ذلك لا يستعمله إلا الرجال: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "الفتاوي الموصلية": فيكره ذلك كراهة شديدة لأنه إعانة على المعصية. قال: ولا يبعد تحريمه. وذكر الشيخ تقي الدين ابن رزين هذا المسألة في "فتاويه" أيضًا. وقال: إنه يحرم. وهو مقتضى كلام العماد بن يونس في "فتاويه" أيضًا. ومنها: إذا صلى إلى سترة فإنه لا يجب عليه دفع المار بينه وبينها. بل يستحب وإن كان المرور حرامًا. وقد سبق الكلام عليها في موضعها مبسوطًا] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومنها: قال الإمام: لا يجب اليمين قط. قال الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى": وليس على إطلاقه، بل يمين المدعي عليه إن كانت صادقة وكان المدعي بها مما لا يباح بالإباحة كالربا وكالدماء والأبضاع. فإن علم أن خصمه لا يحلف إذا نكل فيتخير إن شاء حلف، وإن شاء نكل. وإن علم أنه يحلف أو غلب على ظنه فلا يحل النكول. وإن كان يباح بالإباحة، وعلم أو ظن أنه لا يحلف تخير أيضًا، وإلا فالذي أراه أنه يجب الحلف دفعًا لمفسدة كذب الخصم. قال: وهذا التفصيل جارٍ في يمين المدعي. قوله: وليس من المناهي بيع العينة. هو بعين مهملة مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت وبعدها نون. قوله: وعن الصميري أن بيع المصحف مكروه. قال: وقد قيل: إن الثمن متوجه إلى الدفتين لأن كلام الله تعالى لا يباع، وقيل: إنه بدل من أجرة النسخ. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الصميري من كراهة البيع قد نص عليه الشافعي كما قاله النووي من "زياداته" [وصححه في "شرح المهذب"] (¬1) قال: وقال الروياني وغيره: لا يكره. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد أسقط الخلاف في الثمن المأخوذ عن المصحف، ولم يذكره في "الروضة". قوله من "زوائده": قال صاحب "التلخيص": نهى عن بيع الماء، وهو محمول على ما إذا أفردنا ماء عين أو بئر أو نهر بالبيع. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الرابع: من جهة تفريق الصفقة

فإن باعه مع الأرض بأن باع أرضًا مع شربها من الماء في نهر أو وادٍ صح، ودخل الماء في البيع. انتهى كلامه. وما ذكره من صحة البيع فيهما قد ذكر ما يخالفه في أواخر إحياء الموات، فصحح في الأرض دون الماء وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. الباب الرابع: من جهة تفريق الصفقة قوله: وإذا جمع بين شيئين أحدهما: يجوز العقد عليه، والآخر لا يجوز، كمن باع عبده وعبد غيره صفقة واحدة ففي صحة البيع في عبده قولان: أصحهما: أنه يصح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ترجيح الرافعي وغيره الصحة ليس هو مذهب الشافعي -رحمه الله- فإنه إذا كان للمجتهد في المسألة قولان، وعلم المتأخر منهما كان الأول مرجوعًا عنه، والثاني هو مذهبه بلا نزاع. والقول بالصحة قد رجع عنه، واستقر مذهبه على القول بالبطلان. كذا ذكره الربيع في "الأم" بل كتاب اللقطة الصغير وعبر بقوله: إن البطلان هو آخر قوليه، وهذه دقيقة غفلوا عنها ينبغي التفطن لها، لاسيما وهي جارية في أبواب كثيرة. الأمر الثاني: أنه يستثني مما قاله الرافعي في هذه القاعدة مسائل. إحداها: إذا أجر الراهن العين المرهونة مدة تزيد على محل الدين، فإن الصحيح على ما قاله الرافعي في الرهن بطلان الكل. وقال الماوردي والمتولي: يبطل في القدر الزائد وفي الباقي قولا تفريق الصفقة.

وحينئذ يصح على الصحيح بقسطه من الأجرة. الثاني: إذا استعار شيئًا ليرهنه بدين فزاد عليه بطل في الكل على الصحيح في الرافعي، وقيل يخرج على هذا الخلاف. الثالث: إذا فاضل في الربويات حيث منعناه كما لو باع صاعًا بصاعين فإن يبطل في الجميع، وكان القياس تخريجه على القاعدة المعروفة إذا قلنا: يخير بكل الثمن حتى يبطل العقد في صاع، وفي الباقي القولان. الرابع: إذا زاد في العرايا على القدر الجائز، وهو خمسة أوسق أو دونها فإنه يبطل في الكل، ولم يخرجوه على هذه القاعدة. قوله في المسألة المذكورة: واختلف في تعليل [المنع] (¬1) فقيل: لأن اللفظة واحدة لا يتأتى تبعيضها، وقيل: لأنه لا يدري حصة كل منهما عند العقد فيكون الثمن مجهولًا، ويبنى على العلتين ما لو جمع بينهما فيما لا عوض فيه كما لو رهنهما أو وهبهما، أو فيه عوض لا يفسد بفساده كما لو عقد على مسلمة ومجوسية أو يفسد لكن لا جهالة فيه كبيع العبد المشترك. فعلى الأول يأتي القولان في هذه الصورة، وعلى الثاني تكون صحيحة جزمًا. انتهى. لم يصحح أيضًا شيئًا من هذا الخلاف هنا في "الشرح الصغير" ولا في "الروضة"، والصحيح هو الأول فقد جزم بطريقة القولين في الباب الأول من أبواب الرهن، وسأذكر لفظه هناك. وجزم بها أيضًا في "المحرر" فإنه مثل بالعبد المشترك وخرجها على القولين، واختلف فيه كلام النووي في "شرح المهذب" فقال في أوائل باب تفريق الصفقة ما نصه: فإن قلنا: لا يصح ففي عكسه وجهان، وقيل: قولان: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أصحهما: الجمع بين حلال وحرام. والثانية: جهالة العوض المقابل للحلال. انتهى. وحينئذ فمقتضى هذا الكلام أن الصحيح في ما لا عوض فيه هو طريقة القولين. وقال بعد ذلك بنحو ورقة: فرع: لو رهن عبده، وعبد غيره، أو عبده وحرًا أو وهبهما أو زوج موليته وغيرها، أو مسلمة ومجوسية، أو حرة وأمة لمن لا تحل له الأمة، فإن صححنا البيع في الذي يملكه فهاهنا أولى، وإلا فقولان بناءً على العلتين، إن عللنا بجاهلة العوض صح. إذ لا عوض هنا؛ وإن عللنا بالجمع بين حلال وحرام فلا. وإن شئت قلت: فيه طريقان: المذهب: الصحة. والثاني: قولان. انتهى كلامه. فتصحيحه لطريقة القطع مناقض لما قدمه. قوله: ولو اشترى عبدين فتلف أحدهما قبل القبض فطريقان: أحدهما: على القولين. وأظهرهما: القطع بعدم الانفساخ. انتهى ملخصًا. وما صححه هاهنا من طريقة القطع قد جزم بعد ذلك بما يخالفه فقال في الكلام على حكم المبيع قبل القبض ما نصه: إذا اشترى عبدين، وتلف أحدهما قبل القبض انفسخ البيع فيه، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة. هذا لفظه. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"الشرح الصغير" وجزم في "المحرر" بطريقة القولين، لكن عدل النووي في "المنهاج" عن التعبير،

بالقولين، وعبر بالمذهب، وهذه العبارة ليس فيها تصريح بتصحيح أحد الطريقين. ووقع في "الشرح الكبير" و"الروضة" موضع ثالث جزم فيه بطريقة القولين أيضًا، وسلم منه "الشرح الصغير" وهو قبل مداينة العبيد في أول الكلام على وضع الحوائج. قوله في المسألة: والطريقان جاريان فيما إذا تفرقا في السلم وبعض رأس المال غير مقبوض أو في الصرف وبعض العوض غير مقبوض. انتهي. هذه المسألة فيها كلام سبق في باب الربا فليراجع منه. قوله: القسم الثاني: أن يكون اختياريًا كمن اشتري عبدين صفقة واحدة فوجد بأحدهما عيبًا فهل له إفراده بالرد؟ فيه قولان: أظهرهما: لا. ثم قال: فإن لم نجوز الإفراد فقال: رددت المعيب فهل يكون ذلك ردًا لهما؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، بل هو لغو. انتهى كلامه. وما ذكره من كونه لغو حتى يكون رجوعه كعدمه ولا يترتب عليه شيء، قد تابعه عليه في "الروضة" وقياس المذهب أن يكون ذلك مسقطًا لخياره فإنه إعراض واشتغال بما لا يفيد، وتقصير. وحينئذ فلا يتمكن بعد ذلك من الفسخ على خلاف ما يوهمه كلامه. قوله: ولو تلف بعد ذلك أحد العبدين أو باعه، ووجد بالباقي عيبًا ففي إفراده بالرد قولان، ثم قال: فإن قلنا: لا يجوز: فوجهان، ويقال: قولان: أصحهما: أنه لا فسخ. والثاني: أنه يضم قيمة التالف إلى الباقي ويردهما ويفسخ العقد، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، واحتج له بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في المصراة برد الشاة وبدل اللبن الهالك. انتهي كلامه.

وهذا الذي حكاه عن القاضي أبي الطيب غلط، وعلى العكس، مما ذكره في "تعليقه"، فإنه حكى عن بعض أهل خراسان أنه يرد الباقي وقيمة التالف أخذًا من المصراة. ثم رد عليه القاضي فقال في باب الخراج بالضمان في فصل أوله، قد ذكرنا أنه إذا اشترى ما نصه: وقال بعض أهل خرسان بفسخ العقد على هذا القول فيهما جميعًا، ثم يرد الباقي بقيمة التالف ويسترجع كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المصراة أنه يرد الشاة وقيمة اللبن ويسترجع جميع الثمن، وهذا خطأ، ومخالف لنص الشافعي. هذا لفظ القاضي بحروفه ومن "تعليقه" نقلت. واعلم أن صاحب "الشامل" نقل كلام القاضي بعبارة موهمة فقال: حكى القاضي أبو الطيب عن بعض أهل خراسان أنه يفسخ العقد. قال: وهذا هو السنة لحديث المصراة، ثم إن صاحب "البيان" نقل كلام ابن الصباغ متوهمًا أن الضمير في (قال) عائد على القاضي فأبرزه فقال: قال القاضي: وهذا هو السنة فيظهر والله أعلم أن يكون وقوع هذا هو السبب فيما وقع للرافعي لما علم من كثرة نقل الرافعي عن "البيان" وكثرة نقل "البيان" عن "الشامل" ونقل "الشامل" عن تعليق أبي الطيب. قوله في المسألة: فعلى هذا -يعني رد الباقي مع قيمة التالف- لو اختلفا في قيمة التالف فالقول قول المشتري لأنه غارم، وروي في "التتمة" وجهًا أن القول قول البائع. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: إنه وجه شاذ، وما ادعياه من كونه وجهًا وزاد عليه النووي فجعله شاذًا ليس كذلك، فقد نص عليه الشافعي في "البويطي"، فإنه قد نص على أنه يضم قيمة التالف إلى

الموجود ويردهما، وعلى أنهما إن تنازعا في القيمة فالقول قول البائع. وأما نقله ذلك عن "التتمة" فغلط، فإنه عبر بقوله: المذهب المشهور أن القول قول المشتري، وفيه طريقة أخرى أن القول قول البائع. هذا لفظه. والطريقة قد يراد بها القول، وقد يراد بها الوجه. ثم صرح -يعني صاحب "التتمة" بعد ذلك بأسطر أن الخلاف قولان. واعلم أن التفريع أنما هو في منع الرد فيما تلف بعضه، فأما التفريع على الذي قد باع بعضه فلم يذكره هنا، بل ذكره في أواخر الرد بالعيب بنحو خمسة أوراق من "الروضة" تقريبًا. قوله: لو باع شيئًا يتوزع الثمن على أجزائه بعضه له، وبعضه لغيره، كما لو باع عبدًا يملك نصفه ترتب ذلك على ما لو باع عبدين أحدهما له والآخر لغيره. فإن صححنا فيما يملكه فكذلك هاهنا، وإلا فقولان: إن عللنا بالجمع بين الحلال والحرام لم يصح. وإن عللنا بجهالة الثمن صح لأن حصة المملوك هاهنا معلومة. ثم قال: ولو باع جملة الثمار وفيها عشر الصدقة، وقلنا: لا يصح في قدر الزكاة فالترتيب في الباقي كما ذكرنا فيما لو باع عبدًا له نصفه، ولو باع أربعين شاة وفيها قدر الزكاة، وفرعنا على امتناع البيع في قدر الزكاة فالترتيب في الباقي كما مر فيما لو باع عبده وعبد غيره. انتهى. وهذا الذي قاله في الشياه مشكل لأنهم اختلفوا في كيفية الشركة على وجهين حكاهما الرافعي في الزكاة من غير ترجيح: أحدهما: أن الواجب ربع عشر كل شاة.

والثاني: شاة مبهمة. وحينئذ فنقول: إن قلنا بالشيوع فيكون كمن باع عبدًا يملك نصفه لا قلنا باع عبده وعبد غيره كما يقوله الرافعي. وإن مكن بالإبهام فلا يصح قطعًا لعدم التعيين. قوله: ومما يتفرع على هاتين العلتين لو ملك زيد عبدًا وعمرو عبدًا فباعاهما صفقة واحدة بثمن واحد ففي صحة العقد قولان. وكذا لو باع من رجلين عبدين، لهذا عبد، ولهذا عبد بثمن واحد [إن عللنا] (¬1) بالجمع بين الحلال والحرام صح. وإن عللنا بجهالة العوض لم يصح لأن حصة كل واحد منهما مجهولة. انتهى كلامه. وهذا البناء ذكره البغوي فتابعه عليه الرافعي، ثم قال -أعني الرافعي- في الباب الثاني من كتاب الصداق أنه لا فرق بين أن يبيعا بأنفسهما أو بوكيلهما. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن الصحيح من هذا الخلاف هو عدم الصحة كما صححه النووي في "تصحيح التنبيه". الأمر الثاني: أنه يستثنى ما إذا اختلط حمام برج بغيره، ولم يتميز أحدهما من الآخر، فإنه يجوز لأحدهما أن يبيع نصيبه لصاحبه على الأصح، وإن كان مجهول القدر والصفة. كذا قاله الرافعي في كتاب الصيد، وعلل بالضرورة، وكذا البيع لثالث على كلام فيه للرافعي قال: وهكذا إذا انصبت حنطته على حنطة غيره أو مائعه على مائع غيره، لكن لو باع نصيبه لثالث لم يجز. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثالث: لقائل أن يقول: إن هذا يستقيم في العقد الواحد، وهاهنا عقدان لأن الصفقة تتعدد للبائع قطعًا، وتتعدد للمشتري على الصحيح فينبغي الجزم بالبطلان. قوله: ولو اشتري حرًا أو عبدًا، أو خلًا أو خمرًا أو مذكاة وميتة وقلنا: بالأصح، وهو أنه يصح [فيما يصح] (¬1) وأن الإجازة بالقسط ففي كيفية التوزيع وجهان: أصحهما عند الغزالي أنه ينظر إلى قيمتها عند من يرى لها قيمة. والثاني: تقدر الخمر خلًا ويوزع عليهما باعتبار الأجزاء، وتقدر الميتة مذكاة، والخنزير شاة. وقيل: تقدر الخمر عصيرًا والخنزير بقرة. انتهى ملخصًا. اعلم أن هذه المسألة فرد من أفراد قاعدة متكررة في أبواب وهي أنه إذا اشتمل العقد على ما لا قيمة له عندنا فهل تعتبر قيمته عند أهله أو نقدره بما يشبهه مما له قيمة عندنا؟ وإذا قدرنا، فما الذي نقدر به؟ . وهذه القاعدة قد حصل فيها اختلاف شديد في الكتاب، وقد عرفت ما قاله هنا. وقال في أثناء الباب الأول من كتاب الوصية: وإذا خلف ثلاثة كلاب وأوصى بواحد منها ففي كيفية اعتباره من الثلث أوجه: أصحها وبه قطع بعضهم: أنه ينظر إلى عدد الرؤوس وينفذ في واحد منها. والثاني: ينظر إلى القيمة بتقدير المالية. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: تقوم منافعها، ولو لم يخلف إلا كلبًا وطبل لهو وزق خمر محترمة فأوصى بواحد منها فلا يجرى الوجه الأول ولا الثالث لأنه لا تناسب بين الرؤوس ولا بين المنافع فيتعين اعتبار القيمة. انتهى. ثم ذكر المسألة أيضًا في باب نكاح [المشركات في الكلام] (¬1) على ما تستحقه المرأة إذا أصدقها زوجها المشرك صداقًا فاسدًا فقبضت بعضه ثم أسلما فقال: فإن سموا جنسًا واحدًا متعددًا كخنزيرين فهل يعتبر عددهما أو قيمتهما بتقدير ماليتهما؟ فيه وجهان أصحهما: الثاني، وإن سموا جنسين فأكثر كزقى خمر وكلبين وثلاث خنازير، وقبضت أحد الأجناس، فهل ينظر [إلى] (¬2) الأجناس فكل جنس في هذه الصورة ثلث أم إلى الأعداد فكل فرد سبع أو إلى القيمة بتقدير المالية؟ فيه أوجه أصحها الثالث. وإذا قلنا: ففيه أوجه: أصحها: أنه تعتبر قيمتها عند أهلها. والثاني: يتقدر الخمر خلًا، والخنزير بقرة، والكلب شاة. والثالث: يقدر الكلب، فهدًا لاشتراكهما في الاصطياد، والخنزير حيوانا يقاربه في الصورة والفائدة. انتهي. وقال في أوائل الصداق: ولو أصدقها خمرًا أو خنزيرًا أو ميتة فقولان: أصحهما: وجوب مهر المثل. والثاني: يرجع إلى بدل المسمى؛ فعلى هذا تقدر الميتة مذكاة. وأما الخنزير فقال الغزالي هنا: إنه يقدر شاة. وقال الإمام وصاحب "التهذيب": يقدر بقرة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وأما الخمر فتقدر عصيرًا ويجب مثله. وقد حكينا في نكاح المشركات وجهًا أنه يقدر خلًا، ولم يذكروا هناك اختيار العصير، والوجه التسوية. ووجهًا أنه تعتبر قيمة الخمر عند أهلها، وينبغي ترجيحه كما سبق فيه، وفي البيع. انتهى ملخصًا. وقد تابعه النووي في "الروضة" على هذه المواضع وزاد هنا -أعني في البيع- فقال قلت: هذا الذي صححه الغزالي هو احتمال الإمام، والأصح هو الثاني وبه قطع الدارمي والبغوي وآخرون، وحكاه الإمام عن طوائف من أصحاب القفال، والله أعلم. وحاصله ما تقدم من الاختلاف قد وقع في هذه المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أن النووي صحح في البيع التقدير لا تقويمها عند أهلها، وصحح في نكاح المشركات العكس، وأشار في الصداق لترجيحه، وقطع هو والرافعي في الوصية بالتقويم بتقدير المالية. الثاني: أنهما صححا في الجنس الواحد في نكاح المشركات النظر إلى قيمته بتقدير المالية لا إلى العدد، وصححا في الوصية العكس. الثالث: أنا إذا قلنا بالتقدير ففي البيع أن الخنزير يقدر شاة، وقيل: بقرة، وفي الصداق يقتضى ترجيح العكس لأنه نقله عن الإمام والبغوي ونقل التقدير بالشاة عن الغزالي وحده، وفي نكاح المشركات لم يذكر الشاة بالكلية. وأما الخمر ففي البيع أنه يقدر خلًا، وقيل: عصيرًا وهو موافق لنكاح المشركات، لكن في الصداق أنه يقدر بالعصير. ثم قال: وقياسه أن يجئ فيه وجه بتقديره خلًا.

واعلم أن ما نقله عن الإمام في الصداق من تقدير الخنزير بقرة ليس له ذكر في "النهاية" في شيء من هذه المواضع. قوله: ولو اشترى عبدين فتلف أحدهما قبل القبض فأجاز فالواجب قسطه من الثمن، وعن أبي إسحاق المروزي طرد القولين فيه. انتهى. وما ذكره هنا من حكاية الخلاف هو الصواب، وادعى في "المحرر" أنه لا خلاف فيه فقال: وتكون الإجازة بالحصة بلا خلاف، وعبر عنه في "المنهاج" بقوله: قطعًا. وسبب الذي قاله في "المحرر" أن الرافعي لم يحك هذا [الخلاف] (¬1) عند ذكر المسألة في موضعها، بل حكاه في أثناء الباب. قوله: فرع: ولو باع شيئًا من مال الربا بجنسه ثم خرج بعض أحد العوضين مستحقًا، وصححنا العقد في الباقى وأجاز فالواجب حصته بلا خلاف لأن الفصل بينهما حرام، انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس كذلك، فقد رأيت في هذا الباب من "الكافي" للخوارزمي الجزم بتخريج المسألة على القولين المعروفين في أنه يخير بالكل أو بالبعض وكذلك إذا خرج أحدهما لا قيمة له. قوله: فرع آخر: باع معلومًا ومجهولًا، وقلنا بتفريق الصفقة ففي صحته في المعلوم قولان مبنيان على أنه كم يلزمه من الثمن؟ إن قلنا: الجميع صح. وإن قلنا: الحصة فلا لتعذر التوزيع. انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وصورة المجهول أن يقول: بعتك هذا العبد وعبدًا آخر، وبه صور في "شرح المهذب" تبعًا للشيخ أبى حامد، والجرجاني وغيرهما. أما لو كان مجهولًا عند العاقد فقط، ولكنه كان معينًا في نفس الأمر كما لو باع حاضرًا وغائبًا، وقلنا بفساد بيع الغائب، ففي صحة الحاضر القولان المعروفان فيما إذا باع عبده وعبد غيره. قاله البغوي في "فتاويه". قوله في المسائل الدورية فيما إذا باع كرًا جيد بكر رديء يتقابلا لأن البيع لا ينفذ إلا في الثلث، والإقالة إنما تصح في ثلث مال المقيل. انتهى. وهذا التعبير غير مستقيم، والصواب أن يقول: لأن المحاباة فيهما إنما تنفذ في الثلث، وأما ما يصحان فيه فلا، ثم قال: فيأخذ ثلث عشرة ونصف شيء. انتهى. مراده بنصف الشيء ما صحت فيه المحاباة بالبيع وبالعشرة ما يبطل فيه البيع، وما صح فيه زيادة على المحاباة، فكأنه إنما اعتبر ثلث ذلك لأنه قدر محاباة المقيل، وهو مخالف لما في "النهاية"، فإنه اعتبر النصف فقال: تصح الإقالة في شيء، ويرجع إليه نصف ذلك لأن الإقالة إذا صحت في خمسة أثمان فهي عشرة، ورجع إليهم خمسة وكان بقى في أيديهم مما يبطل به البيع سهم ومما بطلت فيه الإقالة أربعة، فقد صح في عشرة ورجع إليهم خمسة فمجموع ما معهم عشرة، ضعف المحاباة وهي خمسة. هذا كلامه. ثم أوضحه الإمام بطريقة الخلاف. قوله: وأما القسم الثاني وهو أن تجمع الصفقة عقدين مختلفين في الحكم كإجارة وسَلَم ففيه قولان: أصحهما: أن العقد يصح فيهما. انتهى.

فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكر في آخر الباب الأول من كتاب المسابقة ما حاصله أن شرط القولين أن لا يكون أحد العقدين لازمًا والآخر جائزًا، فقال: فرع أورده الصيدلاني وغيره أنه لو اشترى منه ربويًا وعَقَدَ عَقْدَ المسابقة بعشرة، فإن جعلنا المسابقة لازمة فهو كما لو جمع في صفقة واحدة بين بيع وإجارة، وفيه قولان. وإن جعلناها جائزة لم يجز لأن الجمع بين جعالة لا تلزم، وبيع يلزم في صفقة واحدة لا يمكن هذا لفظه. الأمر الثاني: أنه يرد عليه ما إذا باع عبدين، وشرط الخيار في أحدهما أو شرط في أحدهما خيار يوم، وفي الآخر يومين، فإنه عقد واحد بلا خلاف، لأن تعدد العقد إما لتعدد البائع أو المشتري أو لتفصيل الثمن، وجميعها منتف هنا، ومع ذلك فهو على القولين كما صرح هو به في الكلام على أسباب الخيار. وكذلك إذا اشتمل العقد على ما يشترط فيه التقابض وما لا يشترط كصاع حنطة، وثوب بصاع شعير فإنه عقد واحد، وفيه القولان. كما ذكره الرافعي في قاعدة مُدّ عجوة؛ قال: ومثله البيع والصرف. الأمر الثالث: أنه لو خلط ألفين بألف [لغيره وقال صاحب الألفين: شاركتك على إحداهما وقارضتك على الأخرى] (¬1) فقيل صح ولا يخرج على الجمع بين مختلفى الحكم، وإن كانا عقدين كما صرح هو به أيضًا في باب القراض. قال: لأنهما راجعان إلى الإذن في التصرف، ثم إن التقييد بكون العقدين مختلفى الحكم، هل هو تكرار أم احتراز عن شيء؟ [فليتأمل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وحذف في "المنهاج" لفظ (عقدين) مع ذكر الرافعي له في "المحرر"] (¬1). وذكره هو له في "الروضة" فقال: وإن جمع بين مختلفى الحكم ويرد عليه ما إذا باع شقصًا وسيفًا فإنه يصح جزمًا كما صرح به الرافعي هنا لكونه عقدًا واحدًا، وإن كان الشقص يؤخذ بالشفعة بخلاف السيف. قوله: ولو جمع بين البيع والنكاح صح النكاح بلا خلاف، وفي البيع والمسمى في النكاح القولان. انتهى. تابعه في "الروضة" على دعوى نفي الخلاف في النكاح وكذا ذكره الرافعي أيضًا في "الشرح الصغير"، وليس كذلك لأن النكاح يفسد بفساد الصداق على قول قديم مشهور مذكور في الصداق وقد فسد. الصداق هنا على قول فيفسد بفساده أيضًا النكاح، وقد صرح بحكايته هنا ابن يونس في "شرح التنبيه". قوله: وتتعدد الصفقة بتفصيل الثمن كقوله: بعتك هذا بكذا، وهذا بكذا، وبتعمد البائع، وكذا بتعدد المشتري في أصح القولين. انتهى ملخصًا. وهذا الذي قرره من الجزم بالتعدد عند تعدد البائع والخلاف عند تعدد المشتري إنما هو خاص بهذا الباب. فأما العرايا والشفعة فبالعكس. أما العرايا فقد تقرر أن الزيادة على خمسة أوسق في عقد واحد ممتنعة، وكذا الخمس على الصحيح، بل لابد من النقصان، ويجوز ذلك في عقود. فإذا اشترى رجلان بسبعة أوسق مثلًا من رجلين فجوازه واضح وإن اشترى رجلان من رجل جاز جزمًا، فإن كان بالعكس كما إذا اشترى رجل من رجلين [فيجوز] (¬2) على الصحيح كما هو مذكور في موضعه، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

بالعكس مما تقدم. وأما الشفعة فقد تقرر أنه لا يجوز للشفيع تبعيض الصفقة الواحدة على المشتري، فلو اشترى رجلان من رجل كان للمشتري أن يأخذ نصيب أحدهما جزمًا. وإن اشترى رجل من رجلين فوجهان، والصحيح الجواز وهو أيضًا عكس ما تقدم، وقد ذكره الرافعي هنا. قوله: وإذا قلنا: تتعدد الصفقة بتعدد المشتري فخاطب واحد رجلين فقال: بعتكما هذا العبد بألف فقبل أحدهما نصفه بخمسمائة فأصح الوجهين أنه لا يصح لأن الايجاب وقع جملة، وهو يقتضي جوابهما جميعًا. انتهى ملخصًا. وعدم الصحة نقله الإمام عن الأصحاب، وصححه البغوي ثم الرافعي؛ لكن الأكثرون على خلافه، فقد جزم بالصحة الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي والبندنيجي والجرجاني. وقال المتولي: إنه المذهب؛ والإمام: إنه أظهر في القياس، ورجحه الغزالي والروياني في "الحلية" وكذلك ابن الرفعة، واستدل عليه بأنه لو توقف صحة قبول أحدهما على قبول الأخر لم يصح العقد. قوله: وقد يعرض للناظر تخريج خلاف في تعدد الصفقة بتعدد البائع من وجهين ذكروهما فيما إذا باع رجلان عبدًا مشتركًا بينهما من إنسان، هل لأحدهما أن ينفرد بأخذ شيء من الثمن؟ وجهان. أحدهما -وبه قال المزني-: أنه لا ينفرد. ولعلنا نذكرهما بتوجيههما في غير هذا الموضع. انتهى كلامه. قد ذكر الرافعي -رحمه الله- هذين الوجهين في آخر كتاب الشركة، وقال: أرجحهما: أن له الإنفراد كما لو انفرد بالبيع. والثاني: لا، بل يشاركه شريكه فيما يقبض كالميراث، وقد ذكر أيضًا

هناك خلافًا وفروعًا متعلقة بالمسألة. قوله أيضًا تفريعًا على القول المتقدم وهو التعدد بتعدد المشتري: ولو وكل رجلان رجلًا أو بالعكس فالأصح عند الأكثرين أن العبرة بالعاقد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "المحرر" صحح أن العبرة بالموكل وغيره النووي في "المنهاج" فعدل إلى التعبير بالوكيل، واعتذر عنه في "الدقائق"، والفتوى على الأول لنقله إياه عن الأكثرين، وكذلك نقله في "الشرح الصغير" و"التذنيب". الثاني: أن هذا الخلاف لا يطرد في سائر الأبواب فإنه إذا وكل رجلان رجلًا في رهن عبدهما عند زيد بما عليهما من الدين له، ثم قضى أحد الموكلين دينه فإن المذهب القطع بانفكاك نصفه، ولا نظر إلى اتحاد الوكيل وتعدده، كذا ذكره في "شرحه الكبير" و"الصغير" ونقل عن الإمام توجيه ذلك فقال: قال الإمام لأن مدار الباب على اتحاد الدين وتعدده، ومتى تعدد المستحق أو المستحق عليه تعدد الدين، ويخالف البيع والشراء حيث ذكرنا خلافًا لأن الرهن [ليس] (¬1) بعقد ضمان حتى ينظر فيه إلى المباشر. هذا كلامه. وفي العرايا والشفعة والرهن كلام في التعدد على غير هذا النحو فراجعه. قوله: ويتفرع على هذه الوجوه فروع: أحدها: لو اشترى شيئًا بوكالة رجلين فخرج معيبًا وقلنا: الاعتبار بالعاقد فليس لأحد الموكلين إفراد نصيبه بالرد كما لو اشترى فمات عن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثاني في لزوم العقد

ابنين، وخرج معيبًا لم يكن لأحدهما إفراد نصفه بالرد، ثم قال بعد ذلك بأسطر ما نصه: ولو وكَّل رجلان رجلًا بشراء عبد أو وكل رجل رجلًا يشتري عبدًا له فيه نصفه، ففعل وخرج العبد معيبًا. . . . إلى آخره. تبعه في "الروضة" على ذلك، وهذا الفرع الذي ذكره ثانيًا هو الفرع الأول بعينه، وإنما التعبير مختلف فاعلمه. قال -رحمه الله-: النظر الثاني في لزوم العقد، والأصل في البيع الرؤية والخيار عارض ثم هو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: خيار التروي وله سببان: الأول: خيار المجلس: قوله: [الثالثة] (¬1): الصحيح أن بيع العبد من نفسه جائز، وعلى هذا فهل فيه خيار المجلس؟ قال في الكتاب: لا. وبمثله أجاب في "التتمة" حيث نزله منزلة الكتابة. وذكر أبو الحسن العبادي مع هذا وجهًا آخر أنه يثبت فيه الخيار، ومال إلى ترجيحه. انتهى كلامه. لم يصحح أيضًا في "الروضة" شيئًا من هذا الخلاف وقد مال القاضي الحسين إلى ترجيح ثبوته أيضًا، والصحيح عدم الثبوت. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "شرح المهذب" ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". قوله: الرابعة: في ثبوت الخيار في شراء الجمد في شدة الحر وجهان لأنه يتلف بمضي الزمان. انتهى. ¬

_ (¬1) في ب: الثالث.

والأصح الثبوت. كذا صححه النووي في "شرح المهذب"، [قوله] (1) ولا يثبت في الشفعة للمشتري وفي ثبوته للشفيع وجهان، قإن أثبتناه فقيل: معناه أنه بالخيار بين الأخذ والترك مادام في المجلس مع تفريعنا على قول الفور قال إمام الحرمين: هذا غلط، بل الصحيح أنه على الفور، ثم له الخيار في نقض الملك ورده. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد اختلف كلامه في هذه المسألة فصحح في كتاب الشفعة من هذا الكتاب أنه يثبت فقال: والأظهر الثبوت، ويحكى عن نصه في اختلاف العراقيين، وصحح عكسه في "المحرر" هنا أي في البيع فقال: الأصح أنه لا يثبت، وهو الذي صححه النووي في كتبه كلها، ونقله في الشفعة من "زوائده" عن الأكثرين. الثاني: أن الأصح من الوجهين الأخيرين هو ما استصوبه الإمام. كذا صرح بتصحيحه في "شرح المهذب"، وهو مقتضى كلام الرافعي في الشفعة. الثالث: سيأتيك في الشفعة أن الشفيع لا يملك بمجرد الأخذ، بل بد معه من أحد ثلاثة أمور: إما بذل الثمن، وإما رضي المشتري بذمة الشفيع، وإما حكم الحاكم بثبوت الشفعة [وفي معناه الإشهاد على وجه وسوف أذكر هذا الموضوع إن شاء الله تعالى في الشفعة] (¬1) للتنبيه فيه على أمر مهم. إذا علمت ذلك فهل المراد بالمجلس المختلف فيه مجلس الأخذ أو مجلس التملك؟ لم يصرح به الرافعي، ولكن المراد الثاني فتفطن له وافهمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ويدل عليه تعبير الرافعي بقوله: ثم له الخيار في نقض الملك، وذكر مثله في "الوسيط" في الشفعة فقال بعد التملك: إذا تقرر ذلك فإن ملك ببذل الثمن فله الخيار ما لم يفارق ذلك المجلس. فإن فارقه المشتري ففي انقطاع الخيار وجهان حكاهما الرافعي في الشفعة من غير ترجيح. وإن ملك بقضاء القاضي أو بالإشهاد فيظهر أن يأتي فيه ما ذكرناه من جريان الخلاف، ومن كونه هل ينقضي بمفارقته خاصة؟ لم تلتحق به مفارقة القاضي والشهود. كذا قاله في "المطلب" في الشفعة، وعلى هذا فهل ينقطع بمفارقة بعض الشهود أم لابد من مفارقة الجميع أم يعتبر النصاب؟ فيه نظر، والمتجه الثاني. قال: وإن ملك بالرضي فالذي يظهر أن خيار المجلس يثبت للمشتري لأنه منزل في هذه الحالة بمنزلة البائع بالنسبة إلى حق الحبس كما صرح به الإمام، فكذلك ما نحن فيه. ويؤيده قول الإمام أن الملك إذا حصل في الشقص المشفوع برضي المشتري، فالأمر في الخيار كما سلف. قال: وإذا أثبتناه في هذه الصورة ففي خيار الشرط احتمالان أشبههما الثبوت لأن الملك لما توقف في هذه الحالة على الاختيار من الجانبين أشبه البيع. الأمر الرابع: أن الخلاف بعد الأخذ وقبل التملك ثابت في وجه آخر وهو أنا إذا قلنا: الشفعة على الفور، ومع ذلك خيرناه في المجلس بين الأخذ والترك كما تقدم من حكايته. فإذا صرح بالأخذ أو بالعفو فهل يثبت له مع ذلك الخيار مادام في المجلس؟

فيه وجهان، المنصوص عليه منهما في اختلاف العراقيين: نعم. وسوف أذكرهما أيضًا في الشفعة لغرض يقتضي الذكر. قوله: وإن وهب بشرط الثواب أو وهب مطلقًا وقلنا: إنه يقتضي الثواب فوجهان: أظهرهما: أن خيار المجلس لا يثبت لأنه لا يسمى بيعًا، والخبر ورد في المتبايعين. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم ثبوت الخيار، ومن تغليب النظر إلى الصيغة على النظر إلى معناها قد ذكر ما يخالفه في موضعين من هذا الكتاب: أحدهما في الركن الثالث من كتاب الشفعة، فإنه ذكر الخلاف في جواز أخذه بالشفعة -أعني الموهوب بشرط الثواب-. وقال: الأصح الجواز. قال: وعلى هذا ففي أخذه قبل قبض الموهوب وجهان: أظهرهما: الأخذ لأنه صار بيعًا. والثاني: لا لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، وهذا هو الخلاف في أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى. هذا لفظه. فرجح هناك كونها بيعًا نظرًا للفظ، وحينئذ فيلزم منه ثبوت الخيار لتصريحه هنا بكونه دائرًا معه. والموضع الثاني: وهو أصرح من هذا، ذكره في آخر الهبة، وسأذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: وفي ثبوت خيار المجلس في الإجارة وجهان: أصحهما عند الأكثرين أنها لا تثبت، ورجح صاحب "المهذب" الثبوت، وعن القفال في طائفة أن الخلاف في إجارة العين، أما إجارة الذمة فيثبت فيها لا محالة. انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد تابعه في "الروضة" وأكثر كتبه "كالمنهاج" "وشرح المهذب" على عدم الثبوت في الإجارة، وخالف في تصحيح التنبيه فصحح الثبوت في الإجارة المعلقة بالزمان. وحينئذ فيلزم منه الثبوت في غيرها بطريق الأولى كما هو مقرر في موضعه؛ ذكر ذلك في باب الإجارة. الثاني: أن ما نقله الرافعي عن صاحب "المهذب" من ثبوت الخيار ليس مذكورًا في "المهذب". وأما "التنبيه" فاختار فيه الثبوت في الإجارة على العمل، ولم يرجح شيئًا في الإجارة على مدة. واعلم أن الشيخ أبا حامد والمحاملي وسليم الرازي والجرجاني والقاضي الحسين والغزالي قد صححوا خيار المجلس في أنواع الإجارات. ونقله الرافعي عن الكرخي، وبه قطع الإمام فيما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، وصحح المنع في إجارة العين. قوله: "فإن قلنا بثبوتها في إجارة العن فابتداء المدة يحسب من وقت العقد على الصحيح. فإن قلنا من حين التفرق فأراد المكري أن يلزمه من غيره في مدة الخيار. قال الإمام: فلا تخير له فيما أظن، وإن كان محتملًا في القياس. انتهى ملخصًا. لقائل أن يقول: قالوا في بيع البائع في زمن الخيار أنه يصح، ويكون فسخًا فلم لا كان هاهنا مثله أيضًا؟ قوله: وإن تقابضا في عقد الصرف ثم أجازا في المجلس لزمه العقد، وإن أجازاه قبل التقابض فوجهان. إلى آخره.

هذه المسألة سبق الكلام عليها في أوائل باب الربا فراجعه. قوله: ولو تناديا متباعدين وتبايعا ففي ثبوت الخيار احتمالان للإمام، قطع صاحب "التتمة" بثبوته. وعلى هذا فإذا فارق أحدهما موضعه فهل يبطل خيار الآخر؟ فيه احتمالان للإمام أيضًا. انتهى ملخصًا. والأصح ثبوت الخيار، وإن إختار الآخر يبطل بالمفارقة كذا صححه في "زيادات الروضة". قوله: ولو مات أحدهما ثبت الخيار لوارثه في أصح القولين. فإن قلنا: لا يثبت فقال في "التهذيب" لا ينقطع خيار الحى. وقال الإمام: يلزم العقد من الجانبين. انتهى ملخصًا. والموجود في أكثر الكتب هو اللزوم من الجانبين كما قاله الإمام. كذا قاله [ابن الرفعة في "المطلب" وصحح النووي في "زياداته" عدم الانقطاع كما قاله] (¬1) في "التهذيب". وعلى كلامه اعتراض [لا يعرف إلا بذكر لفظ الأصل والزيادة فنقول قال في "الروضة"] (¬2): فإن لم يثبت الخيار للوارث فقد انقطع خيار الميت. وأما الحى ففي "التهذيب" أن خياره لا ينقطع حتى يفارق ذلك المجلس. وقال الإمام: يلزم العقد من الجانبين، ويجوز تقدير خلاف فيه لما سبق أن هذا الخيار لا يتبعض سقوطه لثبوته. قلت: قول صاحب "التهذيب" أصح، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الحسين: أنه يمتد حتى يجتمع هو والوارث؛ ورابع حكاه الروياني أنه ينقطع خياره بموت صاحبه. فإذا بلغ الخبر للوارث جذب لهذا الخيار معه، والله أعلم. هذا كلام "الروضة". والاعتراض الذي عليه أن ذكره للوجه الرابع هنا سهو لأنه مفرع على عدم الخيار للوارث. وهذا الذي عده رابعًا قائل بأن الخيار يثبت للوارث فلا يصح تفريعه عليه إلا أنه قد صرح بأنه لا يثبت إلا ببلوغ الخبر، وهذا لا شك فيه. نعم! استفدنا منه وجهًا على القول بثبوت الخيار للوارث أنه ينقطع خيار الحى حتى يعلم الوارث فيثبت لهما، والصحيح خلافه، والصواب تفريعهما على القول بالبقاء. قوله: وإن قلنا: يثبت -أي الخيار- للوارث وكان غائبًا فله الخيار إذا وصل إليه الخبر، ثم هو على الفور أو يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر إليه؟ فيه وجهان. انتهى. والراجح هو الثاني، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه أشبه الوجهين، وصححه النووي في "الروضة" من "زياداته" فقال: حاصل الخلاف في خيار المجلس للوارث الغائب أربعة أوجه: أصحها يمتد الخيار حتى يفارق مجلس الخبر. والثاني: حتى يجتمعا. والثالث: على الفور. والرابع: يثبت له الخيار إذا أبصر المبيع ولا يتأخر. قوله: ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر مع التمكن بطل خيارهما، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب وحده، قاله في "التهذيب". انتهى.

والأصح خلاف ما قاله البغوي، كذا صححه النووي في "الروضة" من "زياداته" فقال: أطلق الفوراني والمتولي وصاحب "العدة" و"البيان" وغيرهم أنه يبطل خيارهما بلا تفصيل، وهو الأصح لأنه متمكن من الفسخ بالقول، ولأن الهارب فارق مختارًا بخلاف المكره، فإنه لا فعل له. هذا كلامه. قوله: ولو جن أحدهما أو أغمى عليه لم ينقطع الخيار بل يقوم وليه أو الحاكم مقامه فليفعل ما فيه الحط ولو خرس أحدهما في المجلس، فإن ضمنت له إشارة مفهمة أو كناية فهو على خياره وإلا نصب الحاكم نائبًا عنه. انتهى. وتعبيره بقوله: (عنه) يقتضي أنه غير محجور عليه لأن المولى عليه لا يستناب عنه، وهو كذلك فتفطن له. وقد صرح ابن الرفعة في باب التدبير من [الكفاية] (¬1) بأنه مكلف رشيد لا يولى عليه. واعلم أن النيابة عنه بالنسبة إلى الإجارة متجهة وأما الفسخ فإنه قادر عليه بمفارقة المجلس. وإنما تستقيم النيابة في الأمرين بالنسبة إلى خيار الشرط. واعلم أن ما ذكرناه قد صرح به الرافعي في الكلام على شروط الذابح، فإنه نقل عن البغوي أن الأخرس إن كانت إشارته مفهمة حلت ذبيحته، وإلا هو كالمجنون. ثم قال: وقيل: سائر تصرفاته على هذا القياس هذه عبارته. فأشعر ذلك بأن فيه وجهين، وأن الأصح هو النفوذ حتى لو تصدق أو أهدى ونحو ذلك نفذناه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما ذكره البغوي سبقه إليه شيخه القاضى الحسين وذكره النووي وقال: الأصح هو الجزم بحل ذبيحته. السبب الثاني الشرط قوله: ويصح خيار الشرط بالإجماع لما روى أن حبان بن منقذ أصابته لهة في رأسه وكان يخدع في البيوع فقال له -عليه السلام-: "إذا بايعت" فقل: "لا خلابة" (¬1) وجعل له الخيار ثلانًا. وفي رواية: [وجعل له بذلك ثلاثة أيام وفي رواية ولك] (¬2) الخيار ثلاثًا. وهذه الروايات كلها في كتب الفقه ولا تلقى في مشهورات كتب الحديث (¬3) سوى الرواية المقتصرة على قوله: "قل لا خلابة". وأما ما ذكره في الكتاب وهو ولى الخيار ثلاثة أيام فلا يكاد يوجد في كتب الحديث ولا الفقه. نعم في شرح مختصر الجويني للموفق بن طاهر: واشترط الخيار ثلاثًا وهما متقاربان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على نقل الإجماع، ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1368) والبخاري (2011) ومسلم (1533) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، بلفظ: "إذا بعت فقل: لا خلابة". وأخرجه الدارقطني (3/ 54) وابن أبي شيبة (7/ 306) والبيهقي في "الكبرى" (10238) والحميدي (662) وابن الجارود (568)، وفيه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل له الخيار ثلاثًا. وقد حسنه الألباني -رحمه الله تعالى-. (¬2) سقط من أ. (¬3) راجع مصادر التخريج السابق.

وليس كذلك فقد رأيت في "الاستذكار" عن قوم أنه لا يجوز فقال: خيار الشرط جائز، وقال قوم: لا يجوز. هذه عبارته. الثاني: هذه الأيام المشروطة يدخل فيها ما اشتملت عليه من الليالي للضرورة. كذا قاله في "شرح المهذب". وتقتضي هذه العلة أنه لو عقد وقت طلوع الفجر لا يثبت له الخيار في الليلة الثالثة بخلاف نظيره من مسح الخف، وكلام الرافعي في أول مواقيت الحج يوهم خلافه فإنه قال: وقال -عليه السلام-: "واشترط الخيار ثلاثًا"، والمراد الأيام والليالي. هذه عبارته. الأمر الثالث: أن حاصل ما قاله -رحمه الله- من إنكار الزيادة على قوله: (قل لا خلابة) وأن ذلك إنما يوجد في كتب الفقه، وما ذكره ليس كذلك، فقد روى البيهقي في "السنن الكبير" عن ابن عمر قال: سمعت رجلًا من الأنصار يشكو إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا يزال يغين في البيع فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاثة ليال. ورواه أيضًا ابن ماجه بإسناد حسن كما قال في "شرح المهذب" والبخاري في تاريخه مرسلًا. وقد ظهر لك أن ما أنكره قد رواه المذكورون بالمعنى وقد ظهر لك أيضًا أن جزمه في الحج بإسناد تلك الرواية إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ما ذكره فيها هاهنا في غاية التباين. وحبَّان بحاء مهملة مفتوحة بلا خلاف وبالباء الموحدة. قاله في "شرح المهذب". قوله: وهذه الكلمة في الشرع عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثًا. فإذا علم بمدلولها البائع دون المشترى ففي ثبوت الخيار وجهان عن ابن القطان. انتهى مخلصًا.

والصحيح عدم الثبوت. كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"شرح المهذب" وقال: إن مقابله شاذ ضعيف، بل غلط. قوله في أصل "الروضة" إذا تبايعا بشرط الخيار ثلاثًا فما دونها فابتداء المدة من وقت العقد، وقيل: من التفرق. ثم قال: وأما ابتداء مدة الأجل، فإن جعلنا الخيار من العقد فالأجل أولى، وإلا فوجهان. انتهى كلامه. وما جزم به في الأجل من حكاية وجهين إذا فرعنا على أن ابتداء المدة في الخيار من حين العقد قد خالفه في "شرح المهذب" فحكى طريقة أخرى قاطعه بأن الأجل كذلك أيضًا، وصححه فقال: إذا باع بثمن مؤجل ففي ابتداء وقت الأجل طريقان: أصحهما: وبه قطع المصنف والعراقيون وجماعة من غيرهم: أنه من حين العقد وجهًا واحدًا. والثاني: أنه مرتب على ابتداء مدة الخيار إن جعلناها من حين العقد فالأجل أولى. وإن قلنا: من التفرق ففي الأجل وجهان. هذا لفظه ولو شرط الخيار في أثناء خيار المجلس وقلنا بالصحيح وهو الصحة، كان ابتداء المدة من حين العقد على ما دل عليه كلام الرافعي. قوله: ولو شرط الخيار إلى مدة يتسارع فيها الفساد إلى المبيع فهل يبطل البيع أو يصح ويباع عند الإشراف على الفساد؟ حكى يحيى اليمني عن بعض من لقيه فيه وجهين. انتهى ملخصًا. والأصح هو البطلان. كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" "وشرح المهذب"، وقال فيه: إن مقابله غلط ظاهر.

قوله: أما جواز اشتراط الخيار للمشتري فلحديث حَبّان، وأما للبائع أولهما فبالقياس عليه. انتهى كلامه. وما ذكره من أن حديث حَبّان ورد في المشتري فليس كذلك، وقد سبق لفظه على ما حكاه هو. قوله: ولا يثبت في الشفعة بلا خلاف، ثم قال وكذا في الحوالة على ما حكاه العراقيون مع نقلهم الخلاف في خيار المجلس. قال الإمام: ولا أعرف فرقًا بين الخيارين. انتهى كلامه. وهو لا يقتضي إثبات خلاف في خيار الشرط، وإنما يقتضي استشكال الفرق فقط. وقد ذكر -أعني الرافعي- في كتاب الحوالة وقوع التردد فيه صريحًا فقال: وقد جمع الإمام الوجوه هكذا وقرب التردد في المسألة من التردد في أن الحوالة هل يلحقها خيار المجلس وخيار الشرط؟ قال: وكل ذلك ينبني على أن الحوالة استيفاء أو اعتياض. هذا كلامه. ولم يذكر في "الروضة" الموضع الثاني فلزم منه إسقاط الخلاف منها في هذه المسألة. قوله: وإذا شرط الخيار للأجنبي، وقلنا بالصحيح وهو أنه يصح ولا يثبت للعاقد، فمات الأجنبي في زمن الخيار ثبت الآن للعاقد في أصح الوجهين، قاله في "التهذيب" انتهى. والذي قاله في "التهذيب" هو الصحيح. كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: وحكى الإمام فيما إذا أطلق الوكيل شرط الخيار بالإذن المطلق من الموكل ثلاثة أوجه وهي أن الخيار يثبت للوكيل أم للموكل أم لهما؟ انتهى ملخصًا.

والأصح الأول، كذا صححه النووي من "زياداته". قوله: واختلفوا في ملك المبيع في زمن الخيار على ثلاثة أقوال: أحدها: للمشتري والملك في الثمن للبائع. والثاني: للبائع، والملك في الثمن للمشتري. والثالث: موقوف، فإن تم البيع بان حصول الملك للمشتري بنفس البيع، وإلا بان أن ملك البائع لم يزل، وكذا يتوقف في الثمن. والأظهر أن الخلاف جار سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما والأشبه توسط ذكره جماعة، وهو أنه إن كان الخيار للبائع فالأظهر بقاء الملك له، وإن كان للمشتري فالأظهر انتقاله إليه، وإن كان لهما فالأظهر الوقوف. ولهذه الأقوال فروع كثيرة منها: هل يحل الوطء للبائع في زمن الخيار إذا كان الخيار له وحده أولهما معًا؟ فيه خلاف، والظاهر الحل إن جعلنا الملك له، والتحريم إن لم نجعله له. ثم قال ما نصه: أما إذا كان الخيار للمشتري وحده فحكم حل الوطء كما مر في حل الوطء للبائع إذا كان الخيار له أولهما. انتهى كلامه. وحاصل ما ذكر أن الصحيح جواز الوطء للمشتري في هذه الحالة لأنه جعل الحكم فيه كالبائع، وحكم البائع الجواز إذا جعلنا الملك له كما تقدم. وحينئذ فيكون الصحيح في المشتري هو الجواز أيضًا عند انفراده بالخيار، لأن الصحيح أن الملك له. إذا علمت ذلك فاعلم أن المشتري لا يباح له الوطء إلا إذا حصل الاستبراء عنده، وتجويزه الوطء له في زمن الخيار يستلزم الاعتداد بالاستبراء في ذلك الزمن. والصحيح على ما قاله في باب الاستبراء أنه لا يكفي لضعف الملك، وقيل: يكفي، وصححه الإمام والغزالي.

وقيل: إن كان بوضع الحمل كفى لقوته، وإن كان بالحيض فلا. واعلم أن هذه المسألة ذكرها الغزالي (¬1) في "الوجيز" هنا كذلك بناء على قاعدته التي أوضحها في باب الاستبراء مخالفًا للأكثرين، فتابعه عليها الرافعي غير باحث عن شرائطها فلزم ما لزم. وقد أجاب ابن الرفعة في "شرح الوسيط" عن هذا الموضع بأن تحريم الوطء قد يكون لعدم الملك أو لعدم الاستبراء أو لغيرهما. وقد ثبت لنا بهذا الملك الذي لم يستقر ثبوت الحل المتوقف على الأملاك، وزال التحريم المستند إلى عدم الملك، وإن حرم من جهة أخرى، ووقع الموضعان في "الروضة" كما وقعا في الكتاب. قوله: ووراءها فروع: أحدها: إذا تلف المبيع بأفة سماوية في زمان الخيار، وكان التلف بعد القبض، فإن قلنا: الملك للبائع انفسخ ويغرم للبائع القيمة، وفي مقدارها ما في المستعير والمستام. وإن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف فوجهان أو قولان: أصحهما: أنه لا ينفسخ. ثم قال: فإن قلنا بالانفساخ فعلى المشتري القيمة. قال الإمام: وهاهنا يجب القطع باعتبار قيمة يوم التلف، لأن الملك قبل ذلك للمشتري وإنما يقدر انتقاله إليه قبيل التلف. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام وأقره إنما يستقيم على قولنا: الملك للمشتري خاصة لا على قول الوقف. وهو مفرع على القولين معًا. قوله: ولو قبض المشتري المبيع في زمن الخيار وأتلفه متلف قبل إنقضائه إن قلنا الملك للبائع انفسخ البيع كالتلف. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وإن قلنا للمشتري أو موقوف نظر إن أتلفه أجنبي بنى على ما لو تلف إن قلنا: ينفسخ العقد هناك فهو كإتلاف الأجنبي المبيع قبل القبض، وسيأتي. وإن قلنا: لا ينفسخ وهو الأصح فكذا هنا، وعلى الأجنبي القيمة والخيار بحاله فإن تم البيع فهو للمشتري، وإلا فللبائع. انتهى. وما ذكره هاهنا من إعطاء القيمة للبائع إذا لم يتم البيع فيه نظر، والقياس إذا قلنا: الملك للمشتري أنه يلزمه للبائع [قيمته] (¬1) يوم التلف، فإن كان ما ضمنه للأجنبي أكثر كانت الزيادة له لكون الملك له. قوله: ولو اشترى زوجته بشرط الخيار ثم خاطبها بالطلاق في زمن الخيار، فإن تم العقد، وقلنا: الملك للمشتري أو موقوف [لم يقع الطلاق وإن قلنا للبائع وقع وإن فسخ وقلنا للبائع أو موقوف] (¬2) وقع. وإن قلنا للمشتري فوجهان. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من [غير] (¬3) تصحيح والأصح منهما عدم الوقوع، كذا صححه الرافعي في كتاب الطلاق في الكلام على التعليقات، وعبر بقوله: (الأصح) إلا أنه فرض المسألة في الطلاق المعلق بالشراء، ولا فرق بينه وبين الإيقاع بعد الشراء، ولنذكر ما قاله، فإن فيه كلامًا آخر ينبغي الوقوف عليه فنقول: قال في القسم الثاني من تعليق الطلاق قبيل قوله ولو قال أنت طالق يوم يقدم فلان ما نصه: فرع: إذا قال الحر لزوجته الأمة إن اشتريتك فأنت طالق، وقال سيدها: إن بعتك فأنت حرة فباعها لزوجها عتقت في الحال لأنا إن قلنا: الملك في زمن الخيار للبائع أو موقوف فالجارية ملكه، وقد وجدت الصفة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وإن قلنا: الملك للمشتري فللبائع الفسخ واعتاقه فسخ فتعود الجارية بالإعتاق إلى ملكه. وأما الطلاق، فقد أطلق ابن الحداد أنه يقع، قال الأصحاب: هذا تفريع على أن الملك في زمن الخيار للبائع، فإن النكاح على هذا القول باقٍ، وقد وجد شرط الطلاق فيقع. وكذا الحكم على قولنا موقوف لأنه لم يتم البيع. وأما إذا قلنا: الملك للمشتري فلا يقع الطلاق على الأصح لمصادفتة حال الملك وقوع الانفساخ. انتهى كلامه. وما ادعاه من كون الجارية ملكه على القول بالوقف ليس كذلك، بل إن انفسخ تبينا [أنها ملكه وإلا تبينا] (¬1) أنها للمشتري. قوله في المسألة: وليس له الوطء في زمن الخيار لأنه لا يدري أيطأ بالملك أم بالزوجية. هكذا حكى عن نصه، وفيه وجه آخر. انتهى كلامه. واعلم أنه ليس المنع هنا لأجل عدم تعيين الجهة المقتضية للحل، فإن عدم تعيينها لا يمنع الحل باطنا، وكذا في الظاهر في أصح الوجهين بل المنع لأن الملك في زمن الخيار للمشتري على قول. وإذا ثبت الملك انفسخ النكاح، والملك الثابت ضعيف لا يفيد حل الوطء. فمعنى كلام الشافعي أنه لا يدري أيطأ بالملك الضعيف الذي لا يبيح له أم بالزوجية؟ وما ذكرته من الحكم والتعليل صرح بجميعه الرافعي في آخر الباب الثالث من أبواب الإقرار. قوله: وعن الصيمري أن قول البائع في زمن الخيار لا أبيع حتى تزيد في الثمن، وقول المشتري: لا أفعل اختيارًا للفسخ .. إلى آخر ما قال. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما ذكره الصيمري قد جزم الرافعي في كتاب الوكالة بما يوافقه، فإنه ذكر في الكلام على القبول أن الوكيل إذا قال: لا أفعل كان ذلك ردًا للوكالة. قوله: ومجرد الإذن في هذه التصرفات -يعني إذن البائع للمشتري- في البيع ونحوه لا يكون إجازة من البائع حتى لو رجع قبل التصرف كان على خياره، ذكره الصيدلاني وغيره. ثم قال: الخامسة في القرض على البيع والإذن والتوكيل فيه وجهان: أحدهما: أن هذه التصرفات فسخ من جهة البائع وإجازة من جهة المشتري. وأظهرهما: لا. انتهى. وما ذكره الرافعي هنا إن أراد به إذن البائع أو المشتري لأجنبي في البيع فهو توكيل له، وذلك عطف للشيء على نفسه، وإن أراد به إذن البائع للمشتري فقد تقدم نقله عن الصيدلاني، وأيضًا فلأن إذن البائع للمشتري تقرير لملكه فلا [يتخيل] (¬1) أن يكون فسخًا منه. قوله: فرع. اشترى عبدًا بجارية ثم أعتقهما معًا نظر إن كان الخيار لهما عتقت الجارية بناء على ما سبق أن اعتاق البائع نافذ متضمن للفسخ، ولا يعتق العبد المشترى، وإن جعلنا الملك فيه لمشتريه لما فيه من إبطال حق صاحبه على الأصح. وعلى وجه القائل بنفاذ إعتاق المشتري تفريعًا على أن الملك للمشتري يعتق العبد ولا تعتق الجارية. وإن كان الخيار لمشتري العبد فثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) في ب: نجيز.

أصحها: يعتق العبد لأنه إجازة، والأصل استمرار العقد. والثاني: تعتق الجارية لأن عتقها فسخ، فقدم على الإجازة، ولهذا لو فسخ أحد المتبايعين وأجاز الآخر قدم الفسخ. والثالث: لا يعتق واحد منهما، وإن كان الخيار لبائع العبد وحده فالمعتق بالإضافة إلى العبد مشترٍ والخيار لصاحبه، وبالإضافة إلى الجارية بائع، والخيار لصاحبه. وقد سبق الخلاف في اعتاقهما، والذي نفتي به أنه لا ينفذ العتق في واحد منهما في الحال، فإن فسخ صاحبه نفذ في الجارية، وإلا ففي العبد. ولو كانت المسألة بحالها وأعتقهما مشتري الجارية فقس الحكم بما ذكرناه وقيل إن كان الخيار لهما عتق العبد دون الجارية، وإن كان للمعتق وحده فعلى الأوجه الثلاثة، ولا يخفى الثالث. انتهى كلامه. وما ذكره في القسم الثالث وهو ما إذا كان الخيار لبائع العبد غير مستقيم لا في حالة الفسخ ولا في حالة الإجازة. أما في حالة الإجازة فواضح البطلان لأنه قد سبق أنه إذا كان الخيار لأحدهما فالملك في المبيع له، وأن الثمن يكون ملكًا لصاحبه، ولا يتصور اجتماع الثمن والمثمن في ملك شخص واحد. وحينئذ فإذا كان الخيار لبائع العبد وحده كان الملك فيه له، وإذا لم ينفسخ ينتقل إلى المشتري بانقضاء الخيار فكيف يحكم بعتق العبد، وعتقه وقع قبل ذلك، وهو في حالة الخيار المحكوم بالملك فيها للبائع؟ والكلام في القول الذي عليه الفتوى لا في قول الوقف مطلقًا. وأما ما ذكره في حالة الفسخ من نفوذ عتق الجارية فكيف يستقيم أيضًا لأنها وإن كانت حالة الإعتاق على ملكه لكون العبد على ملك بائعه لأن

الخيار فيه له، ولا يجتمع الثمن والمثمن في ملك شخص واحد إلا أنه قد حجر على نفسه فيها باشتراط الخيار لصاحبه لا له، فكيف ينفذ العتق، وليس له فيها تصرف، والحجر إنما انقطع عنها بفسخ صاحبه؟ وأما ما ذكره في الحال الذي قبله وهو الحال الثاني وهو أن يكون الخيار لمشتري العبد من تصحيح العتق فيه فغير مستقيم لأن الملك في الجارية له خاصة، وحينئذ يكون الملك في العبد لبائعه فلا يصح إعتاقه إياه. فإن قيل: إذا كان الخيار لواحد، وجعلنا الملك له ومقابله لصاحبه فلم قلنا بالملك فيما بذله دون ما بذله صاحبه، ولم لا كان بالعكس؟ قلنا: لأنه إذا لم يكن بد من تمليكه لواحد فتمليكه لما بذله استصحابًا بالأصل أولى.

قال -رحمه الله-: القسم الثاني خيار النقيصة المنوط بفوات شيء من المعقود عليه كان يظن حصوله، وذلك الظن ينشأ من التزام شرطي أو تقرير فعلي أو قضاء عرفي. قوله: ومن باع عينًا وهو يعلم بها عيبًا وجب عليه أن يبينه للمشتري. انتهى كلامه. وهو يوهم اختصاص الوجوب، [بالبائع وليس كذلك. بل يجب أيضًا على الأجنبي إذا علم العيب أن يبينه للمشتري] (¬1). وقد جزم به النووي في "زيادات الروضة". قوله: وكون الأرض ثقيلة الخراج عيب أيضًا وإن كنا لا نرى أصل الخراج في تلك البلاد. انتهى كلامه. إن قيل: كيف يتصور أن تكون الأرض خراجية ويصح بيعها؟ قلنا: ذكر الرافعي في زكاة النبات ما يؤخذ منه تصويره فقال نقلًا عن بعضهم من غير مخالفة له ما نصه. هل يجوز أن يقال: الظاهر أن اليد للملك والظاهر أن الخراج ما ضرب إلا بحق فلا يترك أحد الظاهرين بالآخر. انتهى. ومقتضى ما قاله تصديقه وأنه يصح بيعها، ويتصور أيضًا بما إذا ضرب الخراج على أملاك ظلمًا. نعم لو صالحنا الكفار على أن تكون الأراضي لهم، وأن يعطوا خراجًا، فإن الخراج جزية تسقط بإسلامهم كما قاله الأصحاب. وحينئذ لو باعوا الأرض والحالة هذه فهل يصح أم لا؟ فيه نظر. وقد اختلفت المالكية في المسألة على قولين. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وقول "الوجيز" واعتياد الزنا والسرقة والإباق عيب مشعر باعتبار الاعتياد، وليس كذلك. أما في الزنا فقد نصوا عليه، ثم قال: وأما الإباق فعن أبي علي الزجاجي أنه لو أبق العبد في يد البائع فللمشتري الرد، وإن لم يأبق في يده، وهذا ما اختاره القاضي الحسين وقال: الفعلة الواحدة في الإباق يجوز أن تعد عيبًا أبدًا كالوطء في إبطال الحضانة والسرقة قريبة منهما. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يشعر بانفراد الغزالي باعتبار الاعتياد أو أنه من سبق القلم، ولأجل هذا لم يحك النووي في "الروضة" مقالته، بل جزم بعدم الاشتراط. فأما ما اقتضاه كلامه في الزنا فمسلم، وأما السرقة والإباق فغريب جدًا، فقد جزم الإمام بما قاله الغزالي في أوائل باب السلم في فصل أوله قال: وإن فسد الرطب، فقال ما نصه: قلنا: اعتياد الإباق [عيب واتفاق الإباق] (¬1) لا يلتحق بالعيوب. انتهى. وذكر نحوه في باب بيع البزاة، وجزم به أيضًا القاضي الحسين في السرقة والإباق معًا، وقد نقله في "الكفاية" عن تعليقه. وأما ما نقله عنه الرافعي من ثبوت الرد بالمرة فقلد فيه الهروي في "الإشراف" فإنه نقل كثيرًا من هذا الفصل عنه، ومن جملة ما فيه هذا الكلام تعليلًا لمسألة أخرى فقال: وإذا أبق العبد في يد البائع قيل: لا يرد المشتري إلا إذا أبق أيضًا عنده. وقال الزجاجي: له الرد، وللشافعي ما يدل عليه، وكان القاضي الحسين يميل إليه ويقول: الفعلة الواحدة، ثم ذكر ما تقدم أن الرافعي نقله ¬

_ (¬1) سقط من أ.

عنه. . . . إلى آخره. ذكر ذلك في أوائل الكتاب في أثناء فصل عبر في أوله بقوله: يشتمل على مسائل في الرد. الأمر الثاني: أن قول الرافعي: (وإن لم يأبق في يده) يدل على أن ثبوت الرد عند الإباق أولى عن عدمه. وقد تقدم إيضاحه فيما نقلناه قريبًا عن الهروي وقد أوضح المسألة بأكثر من ذلك قبيل الكلام الذي نقلناه عنه فقال -أعني الهروي: لو وجد الإباق ونحوه في يد البائع والمشتري جاز الرد لأنه عيب وجد عند البائع، وبقى في يد المشتري وإن لم يوجد في يد المشتري فلا رد لأن العيوب قد ارتفعت، ولو وجدت هذه الأشياء في يد البائع وارتفعت في يده زمنًا بحيث يغلب على الظن زوالها، ثم باعه، ووجدت في يد المشتري قال الثقفي والزجاجي وأبو علي: لا يجوز الرد لاحتمال أن تلك المعاني ارتفعت ثم حدثت في يد المشتري كالمرض. قوله: لو أخفش أو أجهر. . . . إلى آخره. ذكر الرافعي في الديات أن الخفش صغر العين وضعف البصر خلقة، ويقال: الذي يبصر بالليل دون النهار وأن الأعشى هو الذي يبصر بالنهار دون الليل، وذكره غيره، وعليه اقتصر النووي هنا من "زوائده" أن الخفش نوعان، ولم يتعرض لصغر العين. قالوا: ومنه يسمى الخفاش، وهذا الذي ذكره من زوائده مخالف لما ذكره في الديات، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. وأما الأجهر فهو الذي لا يبصر في الشمس. وأما الشاغية فهي بالشين والغين المعجمتين، وبعدها ياء بنقطتين من تحت، وهي السن الزائدة المخالفة لنبات الأسنان.

والدرداء بالمهملات هي التي سقطت أسنانها. والثآليل بالثاء المثلثة ممدودة مهموز جمع تألولة، والوحشى بالحاء المهملة وشين معجمة ثم ياء مشددة هو ظهر الرجل واليد. والحفر بحاء مهملة مفتوحة ثم فاء ساكنة ثم راء مهملة هو فساد أصل الأسنان تقول منه: حفرت أسنانه يحفر حفرًا على وزن كسر يكسر كسرًا وبنو أسد يقولونه على وزن تعب أي بالتاء المثناة يتعب تعبًا. قوله: أو محرمة. قال في "الروضة": هذا إذا كان إحرامها بإذن سيدها فإن كان بغير إذنه فلا خيار للمشتري لأن له تحليلها كالبائع. قال: وقد ذكرنا هذا في آخر الحج، والأمر كما قال من ذكره إياه هناك إلا أنه نقله عن الجرجاني خاصة. قوله: وله الرد بكون الجارية حاملًا ولا رد به في سائر الحيوانات وقال في [التهذيب] (¬1): يثبت به الرد انتهى كلامه. وما ذكره في المسألتين قد ذكر فيهما ما يخالفه في آخر الباب فقال قبيل الكلام على الإقالة: ولو اشترى جارية أو بهيمة حائلًا فحملت عنده ثم اطلع على عيب، فإن نقصت بالحمل فلا رد، وإن لم تنقص فله الرد. وأطلق بعضهم القول بأن الحمل الحادث نقص، أما في الجواري فلأنه يؤثر في النشاط والجمال. وأما في البهائم فلأنه ينقص لحم المأكول ويخل بالحمل عليها والركوب. انتهى ملخصًا. ثم ذكر ما يخالف الموضعين جميعًا في كتاب الصداق فذكر ما حاصله ¬

_ (¬1) في ب: المهذب.

أنه عيب فيهما، وستعرف لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. فتحصلنا على ثلاثة مواضع تابعه عليها [في "الروضة"] (¬1)، وهي لا توافق بعضها بعضًا، ففي [الصداق] (¬2) أنه عيب فيهما، وفى آخر هذا الباب عكسه، وفي أوائله التفصيل. ووقعت هذه المواضع أيضًا للرافعي في "الشرح الصغير" إلا أنه لم يذكر التفصيل بين الجارية والبهيمة في هذا الموضع، بل ذكره في كتاب الحج في الكلام على جزاء الصيد. وبالتفصيل أجاب النووي في "شرح المهذب" في كفارة الإحرام، وفي الزكاة أيضًا في الكلام على إخراج الحامل، وعزاه إلى الأصحاب. واقتصر الرافعي في "المحرر" على المذكور في الصداق. قوله: ولا رد بكون الأمة مخفوضة أو غير مخفوضة. المخفوضة بالخاء المعجمة والفاء والضاد المعجمة أيضًا هى المختونة، قاله الجوهري. قال: واختفضت المرأة أي اختتنت، والخافضة الخاتنة، وتسمى بذلك لأن محل الختان كان مرتفعًا فانخفض. قوله: ولو اشترى شيئًا فبان أن بائعه باعه بوكالة أو وصاية أو ولاية أو أمانة فهل له الرد لخطر فساد النيابة؟ حكى الماوردي فيه وجهين. انتهى. والأصح منهما منع الرد كما قاله في "الروضة" من "زياداته". قوله: والضابط ثبوت الرد بكل ما نقص العين أو القيمة تنقيصًا يفوت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

به غرض صحيح بشرط أن يكون الغالب في أمثاله عدمه فدخل الخصاء في نقصان العين، وإنما شرطنا فيه فوات غرض صحيح للاحتراز عما لو قطع من ساقه أو فخذه قطعة يسيرة وإنما اعتبرنا غلبة العدم لأن الثيابة مثلًا في الإماء تنقص القيمة ولا رد بها إلا إذا كانت صغيرة. انتهى ملخصًا. وقوة كلامه تقتضي أن الغلبة قيد في تنقيص القيمة خاصة، وقد تكون في نقصان العين أيضًا كقلع الأسنان في الكبير، فإنه قد صرح بذلك في البهائم، والقياس في الأدمي مثله، بل كلامه يقتضي عوده إليه أيضًا -أعني الآدمي. قوله: إحداها: بيع العبد المرتد صحيح على المذهب ثم قال: وفي العبد الذي تحتم قتله في المحاربة ثلاثة طرق: أظهرها: عند كثير من الأئمة: أن بيعه كبيع المرتد. والثاني: وهو اختيار أبي حامد وطبقته: القطع بمنعه إذ لا منفعة فيه لاستحقاق قتله بخلاف المرتد فإنه ربما يسلم. والثالث وبه قال القاضي أَبو الطيب: أنه كبيع الجاني. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هي الطريقة الأولى، كذا صححها النووي في أصل "الروضة"، ولم ينبه على أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثاني: أن اعتاق العبد المحارب صحيح بلا شك والبيع لغرض الإعتاق صحيح كم ذكره الرافعي في شراء العبد الزمن. وصرح في "الروضة" بأنه لا خلاف فيه، وحينئذ فكيف يستقيم المذكور هنا لاسيما تعليل الطريقة الثانية؟

قوله من "زياداته" وقال صاحب "التلخيص" كل ما جاز بيعه فعلى متلفه القيمة إلا في مسألة وهى العبد المرتد يجوز بيعه ولا قيمة على متلفه قال القفال: هذا صحيح لا قيمة على متلفه لأنه مستحق الإتلاف. قال: وكذا العبد إذا قتل في قطع الطريق فقتله رجل فلا قيمة عليه لأنه مستحق القتل. قال فهذا يجوز بيعه، ولا قيمة على متلفه فهده صورة ثانية والله أعلم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه أهمل -رحمه الله- صورة ثالثة وهي تارك الصلاة، فإنه قد نقل في الصلاة من "زياداته" عن صاحب "البيان" أن الأصحاب نصوا على أنه لا شيء على قاتله ولا شك أن بيعه لا يتقاعد عن بيع المرتد، وقاطع الطريق. وأهمل أيضًا صورة رابعة وهي الزاني المحصن حيث لا يجب على قاتله شئ، وذلك مبسوط في موضعه فإن قيل: كيف تتصور هذه المسألة مع أن الحرية من شروط الإحصان؟ قلنا: في الكافر إذا زنى وهو محصن ثم التحق بدار الحرب فاسترق. الثاني: أن صاحب "التلخيص" إنما عبر بقوله في أول المسألة فعلى متلفه القيمة، وتبعه الرافعي وغيره على التعبير به للاحتراز عما إذا غصبه غاصب وتلف عنده فإنه يضمنه. وهذه المسألة مهمة نقلها إمام الحرمين في باب الأسير يؤخذ عليه العهد أن لا يهرب فقال: فرع: وذكر الشيخ -يعني أبا علي- في أثناء كلامه في "شرح التلخيص" أن العبد المرتد مال يباع ولو قتله مسلم لم يلزمه بقتله ضمانًا، ولو غصبه غاصب فتلف في يده لزم الضمان فإنه مال تام قابل للتصرفات المتعلقة بالملك التام وما كان كذلك

فهو مضمون باليد العادية، ولا يضمن بالقتل لأن قتله في حكم إقامة الحد، فمن ابتدر قتله من المسلمين كان مقيمًا حدا لله تعالى. وهذا يمثل بعبد مغصوب في يد الغاصب يقول مولاه. اقتله. فلو قتله لم يضمنه، ولو تلف في يده ضمنه هذا لفظه. قوله: الثالثة: لو اشترى جارية متزوجة عالمًا بزواجها أو علم ورضى فلا رد له. فإن وجد بها عيبًا قديمًا بعد أن [افتضت] (¬1) في يده فله الرد إن جعلنا العيب الذي سببه متقدم من ضمان البائع، وإلا يرجع بالأرش، وهو ما بين قيمتها متزوجة ثيبًا سليمة، ومثلها معيبة. انتهى ملخصًا. واعتبار الثيوبة هنا ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وتابعه عليه في "الروضة" وهو غلط لأنا إن جعلناها من ضمان البائع لتقدم سببها فيلزم جواز الرد في هذه الحالة، وهو واضح، ولا كلام فيه وإن لم ينظر إلى سبب الوجود في يد البائع فغايته أن يكون كالثيابة الحادثة للتزويج الصادر منه، ولو كان كذلك لم تعتبر الثيابة عند تقويمها لأجل أرش العيب القديم قطعًا، فكذلك هذا فيثبت أن اعتبار هذه الثيوبة الحادثة بعد العقد والقبض غير مستقيم، وكيف يمكن اعتبارها مع أن المعتبر إما قيمة يوم العقد أو يوم القبض أو أقلهما كما ستعرفه. والسبب المقتضى لوقوع الرافعي في هذا هو أن البغوي في "التهذيب" ذكره كذلك فتابعه عليه الرافعي من غير [إمعان] (¬2) في النظر، وشيخ البغوي وهو القاضي الحسين لما تكلم في "التعليق" على هذه المسألة لم يتعرض للثيوبة. ¬

_ (¬1) فى حـ: أفرعها. (¬2) حـ: إتفاق.

قوله: والتصرية أن يشد أخلاف الناقة. إلى آخره. الأخلاف بالخاء المعجمة جمع خلفه بكسر الخاء، وهي حلمة ضرع الناقة. قاله الجوهري. قوله: وهذا الفعل حرام لما فيه من التدليس. انتهى. وهذا الكلام يوهم اختصاص التحريم بما إذا أراد البيع، وليس كذلك فقد جزم صاحب "التتمة" بأنها حرام سواء أراد البيع أم لا لما فيه من إيذاء الحيوان. قوله: قال أَبو حامد المروروزى: يمتد خيار التصرية لثلاثة أيام لظاهر الخبر (¬1). والأصح وبه قال ابن أبي هريرة أنه على الفور كخيار العيب. انتهى ملخصًا. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح الفورية، وهو خلاف مذهب الشافعي -رحمه الله- فقد نص فى اختلاف العراقيين على أنه يمتد ثلاثًا لما نقله ابن الرفعة عن تعليق القاضي أبي الطيب، وكذلك نص عليه أيضًا في "الإملاء" كما نقله عنه الرويانى. وقال ابن المنذر: إنه مذهب الشافعي. وذهب إليه من الأصحاب الصيمري والماوردي والغزالي في "الخلاصة" وهو مقتضى كلام الروياني والشاشى، وبه قال الجوري بضم الجيم، والفوراني والغزالي في غير "الخلاصة" فيما إذا علم قبل الثلاث قالوا: فإن علم بعدها فيكون على الفور، وصحح البغوي أنه على الفور فتبعه الرافعي. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه وهو صحيح.

قوله: أما الجس ففيه وجهان: أصحهما عند الشيخ أبي محمد وغيره أنه يتعين التمر وعلى هذا لو أعوز التمر قال الماوردي: يرد قيمته بالمدينة. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل هذا فقط عن الماوردي مع أن الماوردي قد حكى فيه وجهين: أحدهما هذا. والثاني: قيمة أقرب بلاد التمر إليه. قوله: وأما القدر ففيه وجهان: أصحهما: أن الواجب صاع، قل اللبن أم كثر. والثاني: أن الواجب يتقدر بقدر اللبن. ثم قال ما نصه: ومتى قلنا بالوجه الثاني فقد قال الإمام تعتبر القيمة الوسط للتمر بالحجاز. وقيمة مثل ذلك الحيوان [بالحجاز (¬1)]، فإذا كان اللبن عشر الشاة أوجبنا من الصاع عشر قيمة الشاة. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وهو تفريع لا يلتئم بعضه ببعض لأنه تفريع على الوجه الثاني، وهو أن الواجب يتقدر بقدر اللبن، وأول هذا التفريع يقتضي اعتبار التمر والحيوان، وآخره يقتضي نسبة اللبن من الحيوان. والذي قاله الإمام: أنا إذا لم نري إيجاب الصاع تعتبر قيمة التمر والحيوان، فإذا فعلنا جرى الأمر في المبذول على الحد المطلوب. هذا كلامه. وهو موهم وقد أوضحه الغزالي في "الوسيط" فقال: إنا نقوم شاة وسطًا وصناعًا وسطًا في أكثر الأحوال فإذا قيل: هو عشر الشاة مثلًا أوجبنا من التمر ما هو قيمة عشر الشاة. هذا كلامه، وليس فيه اعتبار اللبن لا ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

في الأول ولا في الآخر، وقد اختصره الشيخ عز الدين على هذا المعنى أيضًا. قوله: غير المصراة [إذا حلب لبنها ثم ردها بعيب قال في "التهذيب" يرد بدل اللبن كالمصراة] (¬1) وفى تعليق أبي حامد حكاية عن نصه أنه لا يرده لأنه قليل غير معتني بجمعه بخلاف المصراة ورأى الإمام تخريج ذلك على أن اللبن يأخذ قسطًا من الثمن أم لا؟ انتهى. وقد ذكر الرافعي بعد هذا الفرع بنحو صفحة فرعًا آخر قد يشتبه بهذا فقال: إذا رضى بإمساك المصراة ثم وجد بها عيبًا قديمًا نص على أنه يردها ويرد بدل اللبن وقيل: هو كمن اشترى عبدين فتلف أحدهما وأراد رد الآخر. هذا كلامه فاستحضره هنا، ثم إن ما نقله الرافعي عن "التهذيب" في الفرع الأول من وجوب رد بدل اللبن ليس فيه تصريح بأن البدل هو الصاع لأنه أوجب الرد كما يجب أيضًا الرد في المصراة. وقد صرح الماوردي بأنه لا يلزمه رد الصاع لأنه عوض المصراة، قال: وإنما يرد اللبن فإن اتفقا على قدره، وإلا فالقول قول المشتري. قوله: الثالثة: لو لم يقصد البائع التصرية، لكن ترك الحلاب ناسيًا أو لشغلٍ عَرَض أو تَصَرَّتْ هي بنفسها فهل يثبت الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا وبه أجاب في الكتاب لعدم التدليس. والثاني: نعم، للتغرير وهو الأصح عند صاحب "التهذيب" انتهى. لم يصحح شيئًا منهما فى "الشرح الصغير" أيضًا ولا في "الروضة"، واختار في "الحاوي الصغير" أنه لا رد. قوله. ولو اشترى من يعتق عليه ثم وجد به عيبًا ففي وجوب الأرش ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وجهان نقلهما ابن كج عن أبي الحسين -يعني: ابن القطان. قال ابن كج: وعندي أنه يجب. انتهى ملخصًا. وهذا الكلام مقتضاه حصول العتق جزمًا، وإنما التردد في وجوب الأرش. إذا علمت ذلك فقد ذكر في الوكالة ما يخالفه فقال في الباب الثاني منها: فرع: سيأتي في القراض أن الوكيل بالشراء هل يشتري من يعتق على الموكل؟ إن قلنا يشتريه فكان معيبًا فللوكيل رده ولأنه لا يعتق على الموكل قبل الرضى بالعيب، ذكره في "التهذيب"، وليس بين المذكور هنا وفي الوكالة فرق إلا مباشرته، ولا أثر لها قطعًا مع صحة البيع في الموضعين والجهل بالعيب وقد صرح في الوكالة بأنه إذا ثبت الخيار للوكيل ثبت للموكل وهو يقوي الإشكال. والصحيح في الوجهين المحال عليهما في القراض هو جواز الشراء كما صححه هناك، وصورة المسألة الثانية أن يجهل الوكيل العيب. فأما إذا علم به فلا يقع للموكل كما نبه عليه في الوكالة قبيل هذا الموضع المذكور. قوله: وإذا زال ملكه عن المبيع بعوض ثم عرف العيب لم يرجع بالأرش على الأصح. قال أَبو إسحاق وابن الحداد: لأنه استدرك الظلامة وقال ابن أبي هريرة:

لأنه ما آيس من الرد فربما يعود إليه، ويتمكن من رده، وهذا أصح المعنيين عند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب، ونص عليه الشافعي ثم قال: فلو حدث به عيب في يد المشتري الثاني [ثم ظهر به عيب قديم فغرم له الأرش أي للمشتري الثاني] (¬1) ففي رجوعه بالأرش على بائعه وجهان: قال ابن الحداد: لا يرجع لأنه ربما قبله بائعه لو قبله هو فكان متبرعًا بغرامة الأرش. وأظهرهما: أنه يرجع لأنه ربما لا يقبله بائعه فيتضرر، قال الشيخ أبو علي: ويمكن بناء هذين الوجهين على ما سبق من المعنيين إن عللنا بالأول فإذا غرم الأرش زال استدراك الظلامة فيرجع. وإن عللنا بالثانى فلا يرجع لأنه ربما يرتفع العيب الحادث فيعود إليه. قال: وعلى الوجهين جميعًا لا يرجع ما لم يغرم للثاني، فإنه ربما لا يطالبه الثاني بشيء فيبقى مستدركًا للظلامة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد سبق أن ابن الحداد لا يرى التعليل باليأس، فكيف يبني مقالته عليه، وجمهور الأصحاب لا يرون التعليل باستدراك الظلامة، فكيف يخرج مقالتهم أيضًا عليه؟ فالصواب جريان الخلاف مطلقًا، وتعليله ما سبق. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الشيخ أبي عليّ من عدم الرجوع قبل الغرم إنما يستقيم على طريقته من كونه غير آيس. أما الرافعي فإنه لما صحح جواز الرجوع مع أن العلة فيه اليأس لزم منه أن يكون آيسًا. وحينئذ فيرجع غرم أم لم يغرم، وصحح في أصل "الروضة" أن العلة هي اليأس كما هو مقتضى كلام الرافعي. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: القسم الثاني: أن يزول لا بِعوضَ فينظر إن عاد لا بعوض أيضًا ففي جواز الرد خلاف ثم قال: وإن عاد بعوض كما لو استبرأه، فإن قلنا: لا يرد في الحالة الأولى، فكذلك هاهنا. ويرد على البائع الأخير. وإن قلنا: يرد. فهاهنا يرد على الأول أو على الأخير، أو يتخير؟ فيه ثلاثة أوجه خارجة مما سبق. انتهى كلامه. وما ادعاه من امتناع الرد على الثاني هنا ليس كذلك لفقد علته، وذلك لأن العلة على ما قاله هى التطويل لأنه لو رده على الثاني لرده الثاني عليه، وهذا المعنى لا يأتي هنا لأنه أعطاه بلا عوض فلا يرد أن يورد عليه. قوله: باع زيد عمرًا شيئًا ثم اشتراه منه وظهر عيب كان في يد زيد، فإن كانا جاهلين فلزيد الرد إن اشتراه بغير جنس ما باعه أو بأكثر منه، ثم لعمرو أن يرد عليه، وإن اشتراه بمثله فلا رد لزيد في أحد الوجهين لأن عمرًا يرده عليه فلا فائدة، وله الرد في أصحهما لأنه ربما رضى به فلم يرد. انتهى. اعلم أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي في الكلام على القبض، ونقل عن المتولي من غير مخالفة له أن البيع والحالة هذه أي بمثل الثمن الأول إقالة وتبعه عليه في "الروضة" وإذا كان إقالة لزم امتناع الرد. وفي المسألة المذكورة بحث وتنبيه آخر، وسأذكرها هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: فإن تعلق به حق بأن رهنه ثم علم العيب فلا رد في الحال، وهل له الأرش؛ إن عللنا باستدراك الظلامة فنعم. وإن عللنا بتوقع العود فلا. ثم قال: وإن أجره ولم نجوز بيع المسأجر فهو كالرهن، وإن جوزناه فإن رضى البائع به مسلوب المنفعة مدة الإجارة رد عليه، وإلا تعذر الرد ففي الأرش الوجهان. انتهى.

واعلم أن الرافعي قد ذكر في التخالف أن البائع إذا رضى بأخذ المبيع وهو مستأجر أخذه، ولا ينزعه من يد [المستأجر] (¬1) ويكون المسمى للمشتري ويرجع البائع عليه أي على المشتري بأجرة مثل المدة. قوله: ولو عرف [العيب] (¬2) بعد تزويج الجارية أو العبد ولم يرض البائع بالأخذ قطع بعضهم بأن المشتري يأخذ الأرش هنا، واختاره الروياني والمتولي. انتهى. واعلم أن في هذا الكلام إطلاقًا فصله الروياني على خلاف ما أجمله هنا، وسيأتي ذكره بعد نحو ورقتين من كتابنا. قوله: والرد على الفور. . . . إلى آخره. اعلم أن الإمام قد نبه في الباب الثاني من أبواب الكتابة في الحكم الأول منه على فائدة جليلة، واردة على هذا الإطلاق، ونقلها عنه الرافعي هناك جازمًا بها فقال ما نصه: قال الإمام: الموصوف المقبوض إذا وجده معيبًا، فإن قلنا: إنه يملكه بالرضى فلا شك في أن الرد ليس على الفور [والملك موقوف على الرضى، وإن قلنا يحصل الملك فيه بالقبض فيجوز أن يقال الرد على الفور] (¬3) كما في شراء الأعيان. والأوجه المنع لأنه ليس معقودًا عليه. وإنما يثبت الفور في ما يؤدي رده إلى دفع العقد إبقاء للعقد. انتهى كلامه. فاستفدنا من ذلك أن كل حق يثبت في الذمة لا يجب فيه الرد على ¬

_ (¬1) في أ: المشتري. (¬2) في أ: المبيع. (¬3) سقط من أ.

الفور سواء كان [مبيعًا] (¬1) كما إذا أسلم بلفظ البيع أو كان ثمنًا للمبيع أو دين سلم. قوله نقلًا عن "الوجيز": وترك التقصير بأن يرد عليه في الوقت إن كان حاضرًا. وإن كان غائبًا أشهد شاهدين حاضرين. فإن لم يكن حضر عند القاضي. انتهى كلامه. ونقل عن "الوسيط" نحوه أيضًا، وأنه صرح بأنه لو رفع إلى القاضي والمردود عليه حاضر كان تقصيرًا، ثم قال الرافعي بعد ذلك ما نصه: وفي الترتيب المذكور إشكال لأن الحضور في هذا الموضع إما أن يعني به الاجتماع في المجلس أو الكون في البلد. فإن كان الأول فإن لم يكن البائع عنده ولا وجد الشهود لم يسعى إلى القاضي ولا يسعى إلى البائع؟ واللائق بمن يمنع المبادرة إلى القاضي إذا وجد البائع أن يمنع منها إذا أمكنه الوصول إليه. فإن كان الثاني فأي حاجة إلى أن يقول شاهدين حاضرين، ومعلوم أن الغائب عن البلد لا يمكن إشهاده. انتهى. وقول الرافعي: (لم يسعى) تقديره لأي شيء يسعى وهو بكسر اللام بعدها ميم مفتوحة، ثم فعل مضارع في آخره ألف. ووقع في نسخ الرافعي بلم الجازمة وحذف الألف من يسعى على الجزم ولا معنى له، بل هو كما ذكرناه. وأما إيضاحه فهو أن الغزالي قد ذكر أنه لا يجوز العدول إلى الحاكم مع وجود المالك، وأنه إذا لم يجد المالك ولا الشهود يجوز العدول إليه -أعني الحاكم- ويترك المالك: فقال الرافعي: ينبغي التسوية بين حضوره وعدم ¬

_ (¬1) في ب: معيبًا.

حضوره [حتى إذا جعلنا الذهاب إليه عند الوجود] (¬1) تقصيرًا كان ذلك عند عدمه. قوله في الرد على الغائب: قال القاضي في "فتاويه" يدعي شراء ذلك الشيء من فلان الغائب بثمن معلوم، وأنه أقبضه الثمن ثم ظهر العيب، وأنه فسخ [البيع] (¬2)، ويقيم البينة على ذلك في وجه مسخر ينصبه القاضي ويحلفه القاضي مع البينة لأنه قضاء على الغائب ثم يأخذ المبيع منه ويضعه في يدي عدل ويبقى الثمن دينًا على الغائب فيقبضه القاضي من ماله. وإن لم يجد له سوى المبيع باعه فيه. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي في هذه المسألة يوهم أو يقتضي أن المشتري إذا فسخ بالعيب ليس له حبس المبيع لاسترداده الثمن، وليس كذلك، بل له حبسه إلى قبضه. كذا نقله الرافعي في الكلام على حكم المبيع قبل القبض عن صاحب "التتمة" وأقره وبني عليه امتناع تصرف البائع فيه. قوله: وإلى أن ينتهي إلى الخصم أو القاضي هل يلزمه الاشهاد على الفسخ إذا تمكن منه؟ فيه وجهان منقولان عن صاحب "التتمة" وغيره أصحهما اللزوم. انتهى كلامه. ومقتضاه رجحان اللزوم، وقد صرح به في "الشرح الصغير" هنا فقال: فيه وجهان، واللزوم أشبه بالترجيح عندهم، وكذلك في "المحرر" أيضًا فقال: إنه أظهر الوجهين. إذا علمت ذلك فقد ذكر في الشفعة في الكلام على ما إذا بلغه الخبر وهو غائب فسار من غير إشهاد ما يخالفه فإنه قال: والظاهر أنه لا يجب الاشهاد كما لو أنقد وكيلًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: العيب.

وليطرد ذلك فيما إذا كان حاضرًا في البلد فخرج إليه أو إلى مجلس الحكم كما سبق في الرد بالعيب. انتهى كلامه. ذكر مثله أيضًا في "الشرح الصغير" ولم يتعرض لهذا في "المحرر": ولا شك أن البابين من جهة المعنى على حد واحد، وقد صرح الأصحاب بذلك، بل صرح هو به في هذا الباب فقال: واعلم أن القول في كيفية المبادرة وما يكون تقصيرًا وما لا يكون إنما نبسطه في كتاب الشفعة. هذا كلامه. فدل على ما قلناه من استواء البابين، وهو واضح وقد وقع الموضعان كذلك في "الروضة" وصحح في تصحيح التنبيه في مسألة الشفعة أنه يجب على عكس ما ذكره في "الروضة" هناك. ومن نظائر المسألة نفي الولد، وقد رجح فيه الرافعي في كتاب اللعان وجوب الإشهاد إذا كان غائبًا وسار لنفيه، واقتضى كلامه أنه لا يجب على الحاضر. قوله: ولو عجز في الحال عن الإشهاد فهل عليه التلفظ بالفسخ؟ فيه وجهان: أصحهما عند الإمام وصاحب "التهذيب" أنه لا حاجة إليه. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، والراجح في هذه المسألة أنه لابد منه فقد قال صاحب "التتمة": إذا اطلع ليلًا ولم يتمكن من الحاكم والإشهاد والبائع فلابد من الفسخ باللفظ عند عامة الأصحاب، وجوز القفال التأخير. وهذا الكلام صريح في حكايته عن الأكثرين، وليس في كلام الرافعي ترجيح إلا عن الإمام والبغوي، لكنه في "الشرح الصغير" صرح بالتصحيح فقال: الأصح أنه لا حاجة إليه.

فإنه لما لم يجد في "الكبير" إلا هذا الترجيح صرح به. واعلم أن الإمام لم يفرضها في حال العجز كما فرضه الرافعي، بل أطلق، وأيضًا فإنه جازم بعدم الوجوب لا مصحح له. قوله: ولو قال: لم أعلم أن الرد يبطل بالتأخير قبل قوله: لأنه يخفي على العوام. انتهى. استدرك النووي فقال: شرطه أن يكون مثله ممن يخفي عليه؛ قال: وكذلك الشفعة. وهذه المسألة مع نظائرها نذكرها إن شاء الله تعالى مبسوطة في النكاح. قوله: فلو كان المبيع رقيقًا فاستخدمه في مدة طلب الخصم أو القاضي بطل حقه، وإن كان بشيء خفيف. انتهى كلامه. واعلم أن الإستخدام هو طلب الخدمة، وحينئذ فيؤخذ من التعبير به أنه لو خدمه وهو ساكت لم يضر، وهو متجه، وأن مجرد الطلب يؤثر سواء وجد العمل أم لم يوجد، وفيه نظر. قوله: ولو ركب الدابة للانتفاع فاطلع على العيب لم يجز استدامة الركوب، وإن توجه للرد بخلاف ما لو كان لابسًا ثوبًا فاطلع على عيبه في الطريق، فتوجه للرد ولم ينزع فهو معذور، لأن نزع الثوب في الطريق لا يعتاد، قاله المارودي. انتهى كلامه. وما ذكره المارودي في الثوب يتعين تصويره في ذوي الهيئات، فإن غالب المحترفة لا يمتنعون من ذلك، ويأتي أيضًا نحوه في النزول عن الدابة. قوله من "زوائده": قلت لو اشتري عبدًا فأبق قبل القبض فأجاز المشتري المبيع ثم أراد الفسخ فله ذلك ما لم يعد العبد إليه، ذكره الإمام الرافعي في آخر المسائل المنثورة في آخر كتاب الإجارة. انتهى.

وهذه المسألة وأخواتها كالغصب والصباغ. ذكرها الرافعي في الباب الذي يلي ما نحن فيه، وهو باب حكم المبيع قبل القبض، وحكى فيها خلافًا وتفاريع، وبسط الكلام فيها فراجعها. قوله: ولو زال العيب الحادث بعد ما أخذ المشتري أرش العيب القديم فهل له الفسخ ورد الأرش؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع. وإن كان بعد قضاء القاضي فوجهان مرتبان، والأصح كما قاله البغوي أيضًا المنع. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو ما صححه البغوي، كذا صححه النووي في أصل "الروضة"؛ لكن في "الحاوى الصغير" جواز الرد. الثاني: أن ما ذكره الرافعي من ترتيب الخلاف [على الخلاف] (¬1) يؤخذ منه وجه فارق بين المسألتين، ولم يذكره النووي في "الروضة" بل سوى بين المسألتين. قوله: واعلم أن كل ما يثبت الرد على البائع لو كان في يده يمنع الرد إذا حدث في يد المشتري، وما لا رد به على البائع لا يمنع الرد إذا حدث في يد المشتري إلا في الأقل. فلو خصي العبد ثم عرف به عيبًا قديمًا فلا رد، وإن ازدادت قيمته، ولو نسى القرآن أو الحرفة ثم عرف به عيبًا قديمًا فلا رد لنقصان القيمة. انتهى كلامه. ومعنى قوله: (إلا في الأقل) أنه يتصور أن لا يرد المشتري بالشيء على البائع، ومع ذلك يمنع الرد إذا حدث عند المشتري. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قال ابن الرفعة في "المطلب": ولعله احترز به عما ذكره ابن الصباغ من أنه إذا اشترى عبدًا له أصبع زائدة فقطعها فإنه يمنع الرد، وإن زادت به قيمته كما إذا خصي العبد، وإن كان لو اشتراه وقد قطع البائع أصبعه الزائدة قبل البيع ولا شين لا يثبت للمشتري الخيار بخلاف الخصي. وما ذكره ابن الصباغ من امتناع الرد قد سبقه إليه القاضي أَبو الطيب، وخالفهما المتولي فقال: إن له الرد، لكن قال ذلك بعد: إن قرر أن فعل البائع له ليس بعيب، وهو ماشٍ على قاعدته. وأما القاضي أَبو الطيب وابن الصباغ فيحتمل أن [لا] (¬1) يكونا قالا ذلك لأنهما يريان أنه عيب حتى يرد به المشتري لو صدر عند البائع. ويحتمل أن يكون المستند أنه جزء ورد عليه العقد وهو غير موجود حالة الرد. قوله: ولو زوجها ثم عرف بها عيبا فكذلك، أي ليس له الرد لنقصان القيمة. قال الروياني: إلا أن يقول الزوج: إن ردك المشتري بعيب فأنت طالق، وكان ذلك قبل الدخول، فله الرد لزوال المانع بالرد. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حصر الرد فيما ذكره الروياني وليس كذلك، فإن التزويج لو كان من البائع كان كتعليق الطلاق على الرد لأنه بالرد ينفسخ النكاح. ولم أر هذه الصورة مسطورة، وقد توقف ابن الرفعة في "المطلب" فيما ذكره الروياني لأجل مقارنة العيب للرد، والتوقف ضعيف لأن المعنى المقتضي للامتناع وهو نقصان القيمة غير موجود. قلت: ويندفع النظر المذكور بما إذا قال الزوج: فأنت طالق قبيله. ¬

_ (¬1) سقط من أ، حـ.

قوله: وإذا اشترى حليًا بوزنه من جنسه ثم أطلع علي عيب قديم بعد حدوث آخر عنده ففيه أوجه: أحدها: وهو اختيار القاضي الطبري وصاحب "المهذب" ومعظم العراقيين: أنه يفسخ البيع، ويرد الحلي مع أرش العيب الحادث. . . . إلى آخر ما قال. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يصرح هنا بتصحيح، وقد صرح به في "الشرح الصغير" فقال: إن هذا الوجه ذهب إليه الأكثرون، وصححه أيضًا النووي في "أصل الروضة". الثاني: لم يبين الرافعي أن الفاسخ هو الحاكم أو المشتري؟ وقد بينه الشيخ أَبو حامد وصاحب "العدة" فقالا: إن الفاسخ هو الحاكم. قوله في "الروضة": فرع: لو اطلع على عيب الثوب بعد صبغه فأراد البائع إعطاء الأرش وأراد المشتري رد الثوب وأخذ قيمة الصبغ فالأصح أن المجاب هو البائع، ولو كان بالعكس فوجهان، قطع ابن الصباغ والمتولي بأن المجاب هو البائع أيضًا. انتهى ملخصًا. صرح الرافعي بأن الراجح في المسألة الثانية هو ما قالاه، فقال بعد حكاية هذا في أثناء بحث ما نصه: وقضية إيراد الأئمة أنه لا يجاب المشتري إذا طلب الأرش. انتهى. فحذف النووي الترجيح المذكور، مع أن الواقف على هذا الكلام لو لم يظفر به -أعني بهذا: الترجيح- لكان [لا] (¬1) يتوقف في إجابة المشتري ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لأنه طالب لتقرير العقد. والأصح فيه أنه يجاب طالبه كما تكلموا عليه في مسألة امتناع الرد بحدوث العيب إذا لم يرض البائع بأخذه مجانًا، بل مسألة الصبغ أولى بالإجابة لأن في إجابة البائع لما سأله فيها إخراج عين من ملك المشتري لم يرض بإخراجها، ثم إنهم قد قالوا أيضًا بتقديم الإجازة على الفسخ فيما إذا اشترى عبدًا بأمة ثم أعتقهما فإن الأصح تنفيذ إعتاق ما يقتضي إبقاء العقد. وبالجملة فهذه المسألة مشكلة خارجة عن القواعد محتاجة للفرق بينها وبين ما سبق. قوله: ولو اشترى شيئًا مأكوله في جوفه فكسر منه مقدارًا يعرف به العيب فوجده معيبًا ففي رده خلاف. فإن جوزنا ففي تفريعه أرش الكسر خلاف. ثم قال: فإن قلنا بالتغريم غرم ما بين قيمته صحيحًا فاسد اللب ومكسورًا فاسد اللب ولا ينظر إلى الثمن. انتهى كلامه. وحاصل ما ذكره أن العين المبيعة إذا رجعت إلى البائع بانفساخ العقد فوجد بها عيبًا وطالب بالعيب فإنه ينسب الأرش إلى القيمة لا إلى الثمن. والمعني فيه أن العقد قد انفسخ، وصار المقبوض في يده كالمستام. إذا علمت هذا الحكم وتعليله فقد جزم في الفلس بما يخالفه فقال فيما إذا رجع غريم المفلس في العين، وقد نقصت بفعل مضمون أنه يطالب مع الغرماء بأرش النقص من الثمن. ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" و"الروضة"، واقتصر في "المحرر" على ذكرها في الفلس. ولأجل هذا الاختلاف أثبت ابن الرفعة في "الكفاية" في المسألتين خلافًا.

قوله: فإذا باع بعض المبيع ثم اطلع على عيب فهل يرجع بحصة الباقي؟ فيه وجهان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه يرجع. انتهى. والصحيح ما قاله صاحب "التهذيب"، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: فإذا وجد بالمبيع عيبًا يمكن حدوثه فادعى البائع أنه حدث عند المشتري، وأنكر المشتري فالقول قول البائع لأن الأصل لزوم العقد واستمراره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أننا وإن صدقنا البائع فإذا حلف ثم جرى الفسخ بعده فتحالف وطالب المشتري بأرشه، وزعم أنه أثبت حدوثه بيمينه فلا نجيبه إليه لأن يمينه وإن صلحت للدفع عنه فلا تصلح لشغل ذمة المشتري، بل للمشتري أن يحلف الآن أنه ليس بحادث. قاله الغزالي في "الوسيط" هنا، وسبقه إليه القاضي ثم الإمام. الثاني: رأيت فىِ "المطارحات" لابن القطان مسألة حسنة غريبة فيها تقييد لإطلاق تصديق البائع فقال: لو ادعى المشتري عينين في يد البائع فاعترف بأحدهما، وادعى حدوث الآخر في يده حتى يمتنع عليه الرد كان القول قول المشتري، وجعلها قاعدة عامة حيث كان العيب يثبت الرد صدق البائع، وحيث كان يبطله صدق المشتري، وهذا الذي قاله متعين عملًا بالأصل في الموضعين. قوله: ولو اختلفا في بعض الصفات هل هو عيب فقال واحد من أهل المعرفة: إنه عيب، فهل يثبت الرد؟ قال في "التهذيب": نعم. واعتبر في "التتمة" شهادة اثنين. انتهى.

تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح. وقال في "المطلب": القياس ما قاله صاحب "التتمة" وجزم به القفال في "فتاويه" ويشهد له أيضًا ما قاله الرافعي في الديات، وتابعه عليه النووي أيضًا أنّا إذا أوجبنا الخلفات فلابد من معرفة الحمل من قول عدلين من أهل الخبرة، والحمل من جملة العيوب المذكورة. هاهنا وإن لم يكن في البهائم عيبًا. قوله: وفي "التتمة" ذكر وجه أن الفسح يرفع العقد من أصله مطلقًا أي قبل القبض وبعده تخريجًا من القول بوجوب مهر المثل إذا فسخ النكاح بعيب حدث بعد المسيس. انتهى كلامه. وما قاله ليس مطابقا لما في "التتمة"، فإنه قد ذكر أن الرد يرفع العقد من أصله تخريجًا من نص الشافعي في النكاح على أن الرجل إذا وطئ امرأته ثم وجد بها عيبًا يفسخ النكاح يغرم لها مهر المثل. قال: ووجه هذه الطريقة المخرجة أن سبب الفسخ قارن العقد وهو العيب فاستند في الحكم إليه، ويجعل كأنه جمع في العقد بين موجود ومعدوم حتى يصير كأن العقد لم يكن. انتهى كلامه. وهو صريح في اختصاص هذا الوجه المخرج بالعيب المقارن على خلاف ما دل عليه تعبير الرافعي. وعلى هذا فيكون الفسخ بالعيب الحادث مضافًا إلى وقت حدوثه كما ذهب بعض الأصحاب إليه في فسخ النكاح. قوله: وإن افتضها الأجنبي بآلة الافتضاض فعليه المهر، وهل يدخل فيه أرش البكارة أو الرد؟ فيه وجهان: أصحهما: يدخل. انتهى. هذه المسألة سبق الكلام عليها واضحا في آخر باب البيوع المنهي عنها فراجعه.

قوله: لنا ما روى أن مخلد بن خفاف ابتاع غلامًا. . . . الحديث المعروف (¬1). وروى في آخره أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "الخراج بالضمان". أما مخلد فإنه بميم مفتوحة وخاء معجمة ساكنة. وخفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء، وهو غفاري يقال: إن له ولأبيه ولجده صحبة. وحديثه هذا رواه أَبو داود وابن حبان في "صحيحه" وكذلك الترمذي والحاكم وقالا: إنه صحيح. قوله: ولو اشترى جارية فولدت ثم اطلع على عيب بها فهل يتعين الأرش أم يجوز التفريق؟ فيه اختلاف. ثم قال: وسنذكر نظيره في الرهن. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح في هذه المسألة أنه لا يجوز التفريق، وكذا صرح الرافعي بالمسألة، وبالتصحيح في باب الفلس في الكلام على الرجوع وعبر بالأصح فافهمه، فإن المسألة ليس فيها تصحيح في هذا الباب. الثاني: أن الرافعي أشار بقوله: (وسنذكر نظيره في الرهن) إلى أن الأم ¬

_ (¬1) أخرجه أَبو داود (3508) والترمذي (1285) والنسائي (4490) وابن ماجه (2242) وأحمد (25786) وابن حبان (4928) والحاكم (2177) والشافعي (1203) والدارقطني (3/ 53) والطيالسي (1464) وأبو يعلي (4537) وعبد الرزاق (14777) وابن أبي شيبة (4/ 373) والبيهقي في "الكبرى" (10521) والطحاوي في "شرح المعاني" (5133) وإسحاق في "مسنده" (750) وابن الجعد في "مسنده" (2811) وابن الجارود (627). قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح. وقال الألباني: حسن.

إذا رهنت دون الولد أو بالعكس واحتجنا إلى البيع فإنه لا يجوز التفريق على الأصح، غير أنه لا يؤخذ منه امتناع التفريق في هذه المسألة لأن الرافعي لم يجعل المسألة كالمسألة وإنما جعل الخلاف نظير الخلاف، وهو نظيره لكونه أيضًا خلافًا في جواز التفريق. وقد عبر النووي في "الروضة" عن هذه العبارة بتعبير فاسد فقال: وستأتي المسألة مع نظيرها في الرهن. هذا لفظه. والمسألة ليس لها ذكر في الرهن، وليست أيضًا نظير هذه. قوله: فأما إذا اشترى جارية أو بهيمة حاملًا ثم وجد بها عيبًا، فإن كانت حاملًا بعد ردها كذلك وإن وضعت الحمل، ونقصت بالولاة فلا رد. انتهى كلامه. وما قاله -رحمه الله- من امتناع الرد بسبب النقصان الحاصل من الولادة تابعه عليه في "الروضة" وهو صحيح إن كان المشتري عالمًا بالحمل حالة العقد، أو علم به بعد ذلك ورضى. فأما إذا استمر الجهل إلى الوضع فلا، وقد تقدم في أول الباب أن العيب إذا حصل في يد المشتري بسبب موجود في يد البائع كافتضاض البكر وقطع العبد وقتله بما سبق من النكاح والجناية والردة هل يكون من ضمان البائع أو المشتري؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: إن علم المشتري بذلك كان من ضمانه وإلا فمن ضمان البائع. قوله: ولو اشترى جارية أو بهيمة حائلًا فحملت ثم اطلع على عيب، فإن نقصت بالحمل فلا رد إن كان الحمل في يد المشتري، وإن لم تنقص أو كان الحمل في يد البائع فله الرد. وأما الولد فإن قلنا: يعرف ويأخذ قسطًا من الثمن فيبقى للمشتري

فيأخذه إذا انفصل. وحكى الماوردي وجهًا آخر أنه للبائع لاتصاله بالأم عند الرد. وإن قلنا: لا يعرف فهو للبائع، ويكون تبعًا للأم عند الفسخ كما يكون تبعًا لها عند العقد. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الكلام على أن الحمل هل هو عيب أم لا؟ وقد سبق في العيوب ذكره، وذكر ما وقع فيه من المخالفة في كلامه وكلام النووي فراجعه. الثانى: أن الحمل هل يتبع الأم في الفسخ أم لا؟ وحاصل ما ذكره هنا ترجيح عدم الدخول. إذا علمت ذلك فقد ذكر في نظيره من الفلس ما يخالفه فقال في آخر الباب في الكلام على رجوع البائع: ولو كانت حائلًا عند الشراء حاملًا عند الرجوع ففي رجوع البائع في الحمل قولان، والأكثرون مائلون إلى ترجيح قول الرجوع، وذكروا أنه المنصوص لأن الحمل تابع في البيع، فكذا في الرجوع انتهى ملخصًا. ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" و"الروضة" والصواب التسوية بينهما. وحينئذ فينبغي أن تكون الفتوى على انتقال الحمل مع الأم لنقله إياه في الفلس عن الأكثرين، وهو مقتضى كلام "المحرر"، فإنه هنا جعل الزيادات المتصلة للبائع، ولم يستثنى منها شيئًا، وصرح به هناك. ومن نظائر المسألة رهن الجارية أو البهيمة حائلًا ثم تحمل، والأصح أن الرهن لا يتعدى إلى الولد وكذلك رجوع الوالد في الهبة. والصحيح فيها أن الحمل لا يتبع الأم على وفق ما صححوه في هذا

الباب. كذا صححه النووي في "الروضة" وهو مقتضى كلام الرافعي، فإنه بناه على أنه هل يأخذ قسطًا من الثمن كما فعل هنا؟ . الأمر الثالث: إذا قلنا: لا يتبع في الفلس، فقال الشيخ أَبو محمد: يرجع فيها قبل الوضع. وقال الصيدلاني وغيره: لا يرجع في الحال، بل يصبر إلى انقضاء المدة، هكذا قاله الرافعي. ومقتضاه رجحان الثاني، وحينئذ فقياسه أن لا يجوز للمشتري أن يفسخ بالعيب حتى تضع، لكن ذكر النووي هناك من "زياداته" أن قول الشيخ أبي محمد هو ظاهر كلام الأكثرين. وفي "الشرح" و"الروضة" حكاية الوجهين في الواهب من غير ترجيح. وسبب امتناع الرجوع قبل الوضع أنه إدخال ملك اختيارًا فلم يجز عند عدم دخول الحمل كبيع الحامل بحر، فإنهم صححوا امتناعه، وعللوه بأن مقتضى البيع دخول الحمل مع الأم، ولم يوجد فصار نظير ما إذا باع الجارية واستثنى حملها. وقد تقدم [الكلام على] (¬1) هذا التعليل في موضعه. الأمر الرابع: أن النووي قد ذكر أيضًا من "زياداته" في كتاب الفلس نقلًا عن الماوردي من غير مخالفة له أنا إذا قلنا: إن الحمل لا يتبع الأم فلا تسلم الجارية إلى البائع، ولا تبقى في يد المشتري أو الغرماء لأن لكل واحد حقا، وقياس هذا إنما يأتي في الرد بالعيب، وظاهر كلامهم يأباه. واعلم أن الحمل يندرج في المعاوضة قطعًا، وفي اندراجه في غيرها من العقود والفسوخ قولان، حتى الهبة نقل الإمام فيها أن الجديد عدم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الاندراج، وكلام الرافعي يقتضي الجزم فيها بالاندراج، وفي الرهن الأصح الاندراج وفي الفلس والرجوع بالهبة. قوله: لكن لو أقاله في البعض ليعجل الباقي أو عجل المسلم إليه البعض ليقيله في الباقي فهي فاسدة. انتهى كلامه. وهذه المسألة سبق الكلام عليها واضحًا في أول البيوع المنهي عنها فراجعه. قوله من "زياداته": قال القفال في "شرحه في التلخيص": لو تقايلا ثم اختلفا في الثمن ففيه ثلاثة أوجه، سواء قلنا: الإقالة بيع أو فسخ: أصحها -وهو قول ابن المرزبان-: أن القول قول البائع. والثاني: قول المشتري. والثالث: يتحالفان وتبطل الإقالة. انتهى كلامه. وهذه المسألة لم أرها في "شرح التلخيص" المذكور وينبغي تحرير تصويرها لأنه إن كان قبل قبض الثمن فلا فائدة في الاختلاف لأنه ساقط عن المشتري، قليلًا كان أو كثيرًا. فإن قيل: قد يكون معينا وتحصل منه زوائد يطلبها البائع. قلنا: حينئذ لا موجب لتصديق البائع وإعطائه ما يدعيه بمجرد قوله. وإن كان بعد القبض فتصديق البائع واضح لأنه غارم، ومجيء الخلاف بعيد لاسيما التحالف، فإنه يؤول أيضًا إلى النزاع بعد الانفساخ فلا يبقي له فائدة. قوله: ولو رد العقد علي درهمين معينين فخرج أحدهما نحاسًا له قيمة فالعقد باطل لأنه بان أنه غير ما عقد عليه، وقيل: إنه صحيح تغليبًا للإشارة. انتهى كلامه.

وما ذكره هنا من تغليب العبارة على الإشارة، قد ذكر في أوائل كتاب النكاح في الكلام على المعقود عليه ما يعكر عليه فإنه ذكر هناك ما إذا قال: بعتك فرسي هذا، وهو بغل، وذكر فيه ما يقتضي الصحة تغليبًا للإشارة، ونقل هناك أيضًا عن الروياني في "البحر" أنه لو قال: زوجتك هذا الغلام وأشار إلى ابنته صح، وكلامه أيضًا يقتضي صحة البيع في كتاب الخلع، ولم يتعرض في "الروضة" للموضع الثاني. قوله من زياداته: ولو اشترى سلعة بألف في الذمة فقضاه عنه أجنبي متبرعًا فرد السلعة بعيب لزم البائع رد الألف، وعلى من يرد؟ وجهان: أحدهما: على الأجنبي لأنه الدافع. والثاني: على المشتري لأنه تقدر دخوله في ملكه فإذا رد المبيع رد إليه ما يقابله، وبهذا الوجه قطع صاحب المعاياة. انتهى كلامه. وهذا الكلام فيه إشعار برجحان الثاني لأن تصحيح بعض أئمة المذهب معمول به فضلًا عن القطع، لكن نقل في الصداق ما يخالفه فقال في أوائل السبب الرابع من الباب الثاني ما نصه: وإذا كان الابن بالغًا وأدى الأب عنه الصداق فهو كالأجنبي إذا أدى عنه، والأصح في صورة الأجنبي عود النصف إليه لا إلى الزوج، قاله الإمام. انتهى. وذكر أيضًا في كتاب الضمان نحوه فقال: وإذا ضمن الثمن عن المشتري بغير إذنه وأداه فرده المشتري بعيب أو غيره فهل يرجع ما دفعه إليه أم للمشتري؟ قال: على الخلاف المذكور في الصداق ولا ذكر لهذه المسألة في "الشرح الصغير". قوله أيضًا من "زياداته": قال القفال والصيدلاني وآخرون: إذا اشترى ثوبًا وقبضه وسلم ثمنه ثم وجد بالثوب عيبًا قديمًا فرده فوجد الثمن معيبًا ناقص الصفة بأمر حدث عند البائع يأخذه ناقصًا ولا شيء عليه له بسبب

النقص، وفيه احتمال لإمام الحرمين ذكره في باب تعجيل الزكاة. انتهى كلامه. هذه المسألة ذكرها الرافعي في المانع الأول من موانع الرد، وما ذكره هنا أيضًا من جعل الرجوع احتمالًا غريب، فإنه وجه ثابت قوي على ما صرح به هو هناك فقال: لا أرش لنقص صفة المسمى في الأصح.

الثالث في حكم العقد قبل القبض وبعده

قال -رحمه الله-: النظر الثالث في حكم العقد قبل القبض وبعده قوله: الأول أن يتلفه المشتري فهو قبض منه على المذهب -إلى آخره. يستثني من ذلك ما إذا اشترى عبدًا [فارتد] (¬1) قبل القبض وكان المشتري هو الإمام فقتله فإنه لا يكون قبضًا ولا يستقر عليه الثمن بخلاف ما إذا كان غير الإمام فإنه مستقر عليه، كذا نقله الرافعي قبيل باب الديات عن "فتاوى البغوي" وأقره. ويستثني أيضًا ما لو قتله قصاصًا ففى "المطلب" لابن الرفعة أنه يظهر أن يكون كالآفة. والقياس في تارك الصلاة وقاطع الطريق والزاني المحصن أن يكونوا كالمرتدين في هذا الحكم. ويتصور كون الزاني المحصن عبدًا مع أن شرط الإحصان الحرية في الكافر إذا زنى ثم لحق بدار الحرب فاسترق. وقد سبق في أواخر الرد بالعيب كلام آخر متعلق بهذه الصورة. واعلم أن استقرار الثمن على قاتل المرتد إذا كان غير الإمام مشكل، فإنه لو قتله لم يلزمه شيء كما ستعرفه واضحًا في خيار النقص، فكيف يستقر عليه الثمن مع أن هذا القتل غير مضمون، وهكذا القول أيضًا في الثلاثة التي ألحقها. وأما القتل للصيال فسيأتي في كلامه. قوله: والثالث أن يتلفه البائع فطريقان: أظهرهما: أنه على قولين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أصحهما: انفساخ العقد. انتهى كلامه. وما صححه هاهنا من الانفساخ قد صححه أيضًا في باب الفلس في الكلام على رجوع البائع فقال: إنه الأصح عند صاحب "التهذيب" وغيره، وصححه أيضًا هنا في "الشرح الصغير" و"المحرر" [لكنه أعادها في "الشرح الصغير" في أوائل كتاب الصداق وقال: الأصح] (¬1) أنه كإتلاف الأجنبي؛ والفتوى على المذكور هنا وهو الانفساخ. فإن الرافعي نقله في آخر المسألة عند الكلام على رقم كلام الغزالي عن الجمهور. قوله: ولو صال العبد المبيع على المشتري في يد البائع فقتله دفعًا، فعن الشيخ أبي علي ألا يستقر الثمن عليه. وعن القاضي أنه يستقر. انتهى. والأصح عدم الاستقرار، وكذا قال النووي من "زياداته". قوله: ولو أغرق البحر الأرض المشتراة أو وقع عليها صخور عظيمة من جبل بجنبها أو كسيها رمل فهل هو كالمتلف أو أثرها ثبوت الخيار؟ فيه وجهان، الأشبه الثاني. انتهى. وما ذكره هاهنا من ترجيح ثبوت الخيار قد ذكر ما يخالفه في موضعين من هذا الكتاب: أحدهما في كتاب الشفعة [فإنه جزم في أوائل الباب الثاني منها بأن غرق الأرض إتلاف لا تعييب. حتى إنه إذا حصل في بعض الأرض المشتراة] (¬2) فلا يأخذ الشفيع إلا بالحصة. والثاني في آخر الإجارة فقال فيما إذا استأجر أرضًا فغرقت بالماء أنه يكون كانهدام الدار. والصحيح في انهدامها الانفساخ لا الخيار. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ووقعت هذه المواضع أيضًا في "الروضة"، وعبر عن قول الرافعي هنا الأشبه والثاني بقوله: إنه الأصح. وذكر في "الشرح الصغير" الموضع الثاني فقط، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر" ولا في "مختصره". قوله: إذا اشترى عبدين وتلف أحدهما قبل القبض انفسخ البيع فيه، وفي الثاني قولا تفريق الصفقة. انتهى. وهذه المسألة سبق الكلام عليها في تفريق الصفقة فراجعه. قوله: وأصح الأوجه أنه يصح إعتاق المبيع قبل القبض سواء كان للبائع حق الحبس أم لا ثم قال: فلو وقفه ففي "التتمة" أنه ينبني على أن الوقف هل يفتقر إلى القبول؟ إن قلنا: نعم. فهو كالبيع، وإلا، فكالإعتاق وبهذا أجاب صاحب "الحاوي". انتهى. وهذه المقالة التي نقلها هنا عن "التتمة" وارتضاها ولم يردها نقلها عنه أيضًا في وقف الراهن المرهون ثم صحيح القطع، بإنه لا يلتحق بالعتق وأنه يبطل مطلقًا. والقياس التسوية بين البابين وإلا فما الفرق. قوله: ولو باع المبيع قبل القبض من البائع لم يصح في أصح الوجهين، ثم قال: والوجهان فيما إذا باع بغير جنس الثمن أو بزيادة أو نقصان أو تفاوت صفة وإلا فهو إقالة بصيغة البيع. قاله في "التتمة". انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "الروضة". والنقل المذكور قد نقله صاحب "التتمة" عن بعضهم فقال: السابعة: إذا باع المبيع قبل القبض من البائع فمن أصحابنا من قال: إن باع منه بغير جنس الثمن الأول وقدره وصفته فهو إقالة بلفظ البيع.

ومنهم من قال: البيع منه جائز لأن المنع من البيع بحق أو للعجز عن التسليم فأيهما كان ففي حقه معدوم هذا لفظه. وقد ذكر شيخه القاضي الحسين هذه المسألة بزيادة لابد من معرفتها، فإن حكم المسألة متوقف عليها فقال وإن باعه بمثل ذلك الثمن جنسًا وقدرًا إن جوزنا البيع في المسألة الأولى فهاهنا أولى، وإلا فوجهان: أحدهما: لا يجوز كذلك. والثاني: يجوز ويجعل إقالة بلفظ البيع. والوجهان في الحقيقة يبنيان على أن العبرة في العقد باللفظ أو بالمعنى؟ هذا لفظه. وفي المسألة كلام آخر سبق ذكره في الرد بالعيب في الكلام على ما إذا اطلع على العيب بعد زوال الملك فراجعه والأصح كما قاله الرافعي في أوائل السلم أن العبرة باللفظ. وحينئذ فلا يصح هذا على الصحيح. والعجب من إسقاط الرافعي هذه الزيادة. قوله: فلو وهب منه أي من البائع قبل القبض أو رهن فطريقان: أحدهما: القطع بالمنع. وأصحهما في ما نقل عن صاحب "التهذيب": أنه على القولين. انتهى. والصحيح ما قاله صاحب "التهذيب" كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: والأمانات كالوديعة. ثم قال: والمال في يد المستأجر بعد المدة. انتهى. وهذه المسألة فيها كلام يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الإجارة فراجعه.

قوله: فمنها ما حكاه صاحب "التلخيص" عن النص أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها قبل القبض، فمنهم من قال: هذا إذا قرره السلطان فتكون يد السلطان في الحفظ يد المفرز، ويكفي ذلك لصحة البيع. ومنهم من لم يكتف بذلك، وحمل النص على ما إذا وكل وكيلًا في فقبضه الوكيل ثم باعه الموكل، وإلا فهو بيع شيء غير مملوك، وهذا ما أورده القفال في الشرح. انتهى ملخصًا. فيه أمران نبه عليهما في "الروضة": أحدهما: أن الأصح هو الأول، وإن كان على خلاف القاعدة للرفق بالجند. الثاني: أن مراد الرافعي بقوله: وهو الذي أورده القفال في "الشرح" إنما هو عدم الاكتفاء فإنه نقل هكذا في "شرح التلخيص" له، وأما الحمل المذكور على ما إذا وكل فلم يذكره. قال: وصرح القفال بأن مراد الشافعي بالرزق هو الغنيمة. انتهى كلام "الروضة". والذي ذكره الرافعي والنووي هنا كلام غير محرر مخالف للقواعد والنقول في المسألة بعينها، ويصح بما ذكره الرافعي في كتاب السير فإنه قال: وقولنا: تملك الغنيمة بالقسمة، محله إذا رضي الغانم بالقسمة أو قبل ما عينه له الإمام. وأما إذا رد فينبغي أن يصح رده. وذكر البغوي فيه خلافًا فقال: إذا أقر الإمام الخمس وأقرر نصيب كل واحد منهم أو أقرر لكل طائفة شيئًا معلومًا فلا يملكونه قبل اختيار التملك على الأصح حتى لو ترك بعضهم حقه صرف إلى الباقين هذا كلامه.

وحينئذ فيكون ما ذكره هاهنا من صحة البيع في نصيبه وهو في يد الإمام صحيحًا متجهًا ماشيًا على القياس لأنه بيع الغانم المقدار الذي عينه له الإمام قبول منه له لاسيما إذا وجد منه الرضى بقسمة الإمام، ولو أفرز الإمام للأجناد المرتبين في ديوان الجيش شيئًا من مال [الفيء] (¬1) كان بيعه قبل قبضهم له مخرجًا على ما ذكرناه في الغنيمة. قوله: ومنها: الشفيع إذا تملك الشقص قال في "التهذيب": له بيعه قبل القبض. وقال في "التتمة": ليس له ذلك لأن الأخذ بها معاوضة. قال في "الروضة": من "زوائده" إن الثاني أقوى. انتهى. وفيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد صرح بالتصحيح في باب الشفعة فقال: إنه أظهر الوجهين، وعبر عنه في "الروضة" بالأصح. وكلامه هنا يؤذن بعدم استحضاره إياه. الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر هناك تفصيلًا فقال: وفي نفوذ تصرف الشفيع قبل القبض إذا كان قد سلم الثمن وجهان: أصحهما: المنع كالمشتري. والثاني: الجواز لأنه قهري كالإرث. ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي لم ينفذ تصرفه قطعًا، وكذا لو ملك برضى المشتري يكون الثمن عنده. هذا كلام "الروضة" إلا أنه مخالف لكلام الرافعي، فإنه -أعني الرافعي- نقل هذا التفصيل عن الإمام خاصة؛ ثم قال عقب حكايته له: والقياس التسوية. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ومنها إذا استأجر صباغًا ليصبغ ثوبًا وسلمه إليه. . . . إلى آخره. وهذه المسألة فيها كلام يأتي ذكره إن شاء الله تعالى في آخر الفلس فراجعه. قوله: فإذا باع بدراهم أو بدنانير في الذمة جاز الاستبدال عنها في الجديد لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فآخذ مكانها الورق (¬1). وإذا باع بغير الدراهم والدنانير فجواز الاستبدال عنه ينبني على أن الثمن ما ألصق به ثاء الثمنية إن قلنا: إنه هو. فيجوز الاستبدال عنه كالنقدين وإن لم نقل بذلك فلا يجوز. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الجواز إذا لم نقل بهذا الوجه تبعه عليه في "الروضة" وهو لا يستقيم لأن لنا وجهين آخرين: أحدهما: أن الثمن هو النقدان لا غير، وعلى هذا فلا يجوز الاستبدال كما قال. والثاني: أن الثمن هو النقد، فإن لم يكن أو كان العوضان نقدين فالثمن ما اتصل به الباء. وهذا الوجه هو الصحيح، وحينئذ فيجوز الاستدلال، ويكون هو الصحيح لوجود الباء أيضًا مع انتفاء النقدية فاعلمه. والبقيع الوارد في الحديث المذكور هو بالباء الموحدة وهو بقيع الغرقد ¬

_ (¬1) أخرجه أَبو داود (3354) والترمذي (1242) والنسائي (4582) وابن ماجه (2262) وأحمد (5555) والدارمي (2581) وابن حبان (4920) والحاكم (2285) والدارقطني (3/ 23) والبيهقي في "الكبرى" (10893) وابن الجعد في "مسنده" (3338) وابن الجارود في "المنتقى" (655) والنقاش في "فوائد العراقيين" (87). وضعفه الألباني والترمذي، وهو كما قالا والله أعلم.

مدفن أهل المدينة، وكانوا يبيعون فيه الإبل لعدم كثرة الموتى فيه. وفال ابن باطيس: الظاهر أنه بالنون، وحكاه ابن معن قولًا ورد عليهما النووي في "تهذيبه". والحديث رواه أَبو داود. قوله: وإن استبدل عنهما ما لا يوافقهما في علة الربا كما إذا استبدل عن الدراهم طعامًا أو ثيابًا نظر إن عين جاز. وهل يشترط فيه القبض في المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم. وهو اختيار الشيخ أبي حامد ويحكى عن أبي إسحاق وجماعة من الأصحاب، وصححه الغزالي، وهو ظاهر نصه في "المختصر". وأصحهما عند الإمام وصاحب "التهذيب": أنه لا يشترط. انتهى ملخصًا. وكلامه ظاهر في رجحان الاشتراط، وليس كذلك، بل الصحيح عدم الاشتراط. كذا صححه الرافعي في كتاب الصلح من هذا الكتاب، وصححه أيضًا هنا في "المحرر"، وهو مقتضى كلامه في "الشرح الصغير" وصححه النووي في "زياداته". قوله: الضرب الثالث: ما ليس بمثمن ولا ثمن كالقرض والاتلاف، فيجوز الاستبدال عنه إذا استهلكه. أما إذا بقى في يده فلا لأنا إن قلنا: إن القرض يملك بالقبض فبذله غير مستقر في الذمة، لأن للمقرض أن يرجع في عينه. وإن قلنا: يملك بالتصرف فالمستقرض مسلط عليه، وذلك يوجب ضعف الملك في القرض. انتهى كلامه. وما نقله عن "الشامل" إذا ملكناه بالقبض صحيح وأما إذا قلنا: لا يملك

إلا بالتصرف فلا يصح نقلًا ولا معنى. أما الأول فلأن صاحب الشامل إنما نقله عن بعضهم فقال: قال بعض أصحابنا: لا يجوز، وأشعر إيراده بترجيح خلافه. وأما الثاني فلأن كلام الرافعي في الاستبدال عن الدين ولا دين على المقرض إذا قلنا: لا يملك إلا بالتصرف، فهي مسألة أخرى إلا أنها مسألة مهمة، وقد حذفها من "الروضة". قوله: ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال، ويجوز عكسه، ويكون تعجيلًا. انتهى. واعلم أن المسألة لها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون لكل منهما على الآخر دين أحدهما حال والآخر مؤجل فيتبادلان. ثانيها: أن يبادله بدين له على غيره. ثالثها: أن يكون لأحدهما على صاحبه دين فيبادله عنه بدين آخر لم يكن ثابتًا، بل يحدث إثباته، وفي كل من الثلاثة كلام يخصه بالنسبة إلى الجواز، وإلى اشتراط القبض في المجلس وغيرها، وبعضه يعرف مما سبق ومما يأتى. قوله: وأما بيع الدين من غير من عليه، كما إذا كان له على إنسان مائة فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة فقولان: أصحهما: المنع. فإن جوزنا فيشترط أن يقبض مشتري الدين ذلك الدين ممن عليه، ويقبض بائع الدين العوض في المجلس حتى لو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد. انتهى.

وما ذكره هاهنا من تصحيح المنع قد جزم به أيضًا في الكتابة في الحكم الثالث في الكلام على بيع نجوم الكتابة، لكنه ذكر في أواخر الخلع ما حاصله الجواز فقال في أوائل المسألة الخامسة: ولو قال: قبلت الخلع بألف في ذمة فلان فينبنى على أن العقد بألف فى ذمة آخر، هل يجوز؟ فيه خلاف. فإن قلنا: يجوز. تحالفا، وهذا الأصح عند الشيخ أبي حامد وصاحب "المهذب" وابن الصباغ وغيرهم. هذا كلامه. ولم يذكر ترجيحًا غيره، وهو صريح في رجحان الجواز. وقد اختلف كلام النووي أيضًا في المسألة، فإنه قال في "الروضة" هنا من "زوائده": الأظهر الصحة. وصرح بتصحيحه في آخر الخلع فقال في "اختصاره" لكلام الرافعي: والأصح التحالف بناء على صحة بيع الدين. وقال في "المنهاج" هنا: الأظهر أنه لا يجوز، ولم يتعرض لها في الكتابة. قوله من "زياداته": وقد حكى الرافعي بعد هذا وجهًا عند بيع الأرض المزروعة في باب الألفاظ المطلقة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة، وأن إمام الحرمين ادعى أنه ظاهر المذهب. انتهى كلامه. والذي قاله النووي سهو، فإنه الوجه المحكى هناك إنما هو صحة القبض لا في صحة البيع. قوله: وإن كان المبيع من المنقولات لم يكف في قبض التخلية، بل يشترط النقل والتحويل وفي قول رواه حرملة أنها تكفي. وقيل: يكفي لنقل الضمان إلى المشتري، ولا يكفي لجواز تصرفه. فعلى الأول يأمر العبد بالإنتقال من موضعه، ويسوق الدابة ويقودها. انتهى. زاد في "الروضة" على ذلك فقال: قلت: ولا يكفي استعماله

وركوبها بلا نقل، وكذا وطء الجارية على الصحيح، كذا ذكره في "البيان" والله أعلم. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما اقتضاه كلامهما من عدم الاكتفاء بركوب الدابة ليس على إطلاقه، بل صورته إذا كان بغير إذن البائع، فإن ركب بإذنه حصل القبض. كذا جزم به الرافعي في كتاب الغصب في الكلام على ما إذا ركب دابة الغير. فتفطن لذلك، فإنها مهمة. الأمر الثاني: أن المبيع إذا كان خفيفًا يتناول باليد لابد في قبضه من تناوله، كما صرح به الفوراني والمحاملي وصاحب "التنبيه"، وقد استدركه في "الروضة" بعد هذا. الأمر الثالث: إن هذه المسألة التي ذكرها على أنها من زياداته، واقتصر على نقلها عن "البيان" قد سبق ذكرها في كلام الرافعي مجزومًا بها، ذكر ذلك في الرد بالعيب في الكلام على الاستخدام. قوله: ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه فوضعه بين يديه حصل القبض. وإن وضعه ولم يقل شيئًا أو قال: لا أريده. فكذا في الأصح. ثم قال: ولو وضع المديون الدين بين يدى مستحقه ففي حصول التسليم خلاف مرتب على المبيع، وأولى بعدم الحصول لعدم تعيين الدين فيه. انتهي. لم يصحح شيئا في "الروضة"، وقد جزم في الشفعة بما يؤخذ منه ترجيح الحصول فقال: ثم لا يملك الشفيع بمجرد الأخذ، بل تعتبر مع ذلك أمور: الأول: أن يسلم العوض إلى المشتري فيملك به إن سلمه، وإلا خلى

بينه وبينه، أو يرفع الأمر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم، هذا لفظه وسنعيد هذه المسألة إن شاء الله تعالى في بابها لمعنى غير ما ذكرناه. قوله: فلو قبض جزافًا ما اشتراه مكايلة دخل [المقبوض] (¬1) في ضمانه، وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه، فإن باع الكل لم يصح لأنه قد يزيد على القدر المستحق. فإن باع ما استيقن أنه له فوجهان، ذهب الجمهور إلى أنه لا يصح لعدم القبض المستحق بالعقد، وعن أبي إسحاق أنه يصح. انتهى. وما ذكره من بطلان البيع في مقدار حقه وإن قبضه فاسد، قد ذكر عقبه ما يخالفه فقال: ولو قال الدافع: خذه فإنه كذا، فأخذه مصدقًا له فالقبض فاسد أيضًا حتى يجري إكتيال صحيح، فإن زاد رد الزيادة، وإن نقص أخذ الباقي. انتهى. ومقتضاه أنه لا يرد قدر حقه، وهو يستلزم صحة قبضه. واعلم أنه إذا قبض جزافًا ما إذا اشتراه مكايلة فهلك في يده ففي انفساخ العقد وجهان حكاهما الرافعي في الكلام على الجوائح، ولم يرجح شيئًا منهما. قوله: فلو تلف المقبوض فزعم الدافع أنه كان قدر حقه أو أكثر، وزعم القابض أنه كان دون حقه أو قدره فالقول قول القابض. فلو أقر بجريان الكيل لم يسمع منه خلافه. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم قبول قوله عند إقراره بجريان الكيل يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون حقه متعلقًا بالعين خاصة والذمة خلية، كما إذا باعه الصبرة مكايلة وبين أن يكون الحق في الذمة كما إذا أسلم إليه أو اشترى منه صاعًا في ذمته، فإن الرافعي قد ذكر ذلك جميعه في هذا الفصل ثم أتي ¬

_ (¬1) في ب: القبض.

بهذا الكلام عقبه، ولكنه قد صرح في كتاب الضمان بما يخالف ذلك إذا كان الحق في الذمة فقال: لو اختلف البائع والمشتري في نقص الصنجة الموزون بها الثمن صدق البائع بيمينه. وذكر المسألة أيضًا في باب اختلاف المتبايعين، وفصل فيها فقال: لو اشترى طعامًا كيلًا وقبضه بالكيل أو وزنًا وقبضه بالوزن أو أسلم فيه وقبضه ثم جاء وادعى نقصًا. فإن كان قدرًا يقع مثله في الكيل والوزن قبل، وإلا فقولان: أصحهما: عدم القبول. انتهى. ومقتضى قوله: (كيل) أنه يرجع بالنقصان، وإلا لم يكن للقبول فائدة. وهو عكس ما جزم به أولًا، ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" وستكون لنا عودة إلى المسألة بعد هذا بنحو ورقة. قوله: فليس على البائع الرضى بكيل المشتري، ولا على المشتري الرضى بكيل البائع، بل يتفقان على كيال، وإن لم يتراضيا نصب الحاكم أمينًا يتولاه كذا ذكره في "الحاوي". انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وظاهره يقتضي أن كيل المشتري معتد به، لكنه ذكر بعد ذلك بنحو ورقة ما يخالفه فقال: ولو أذن لمستحق الحنطة أن يكتال من الصبرة حقه ففيه وجهان: أصحهما: أنه لا يجوز لأن الكيل أحد ركنى القبض وقد صار ثابتًا فيه من جهة البائع مفاصلًا لنفسه. والثاني: يجوز لأنه المقصود منه معرفة المقدار. قوله: وإن كان لزيد طعام على رجل سلمًا ولآخر مثله على زيد فأراد زيد أن يوفي ما عليه مما له على الآخر فقال: إذهب إلى فلان واقبض

لنفسك ما لي عليه فقبضه فهو فاسد. ثم قال ما نصه: وإذا فسد القبض فالمقبوض مضمون على الآخذ، وهل تبرأ ذمة الدافع عن حق زيد؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم. وهما مبنيان على القولين في ما إذا باع نجوم الكتابة وقبضها المشتري هل يعتق المكاتب؟ . انتهى كلامه. والقولان المبني عليهما محلهما إذا قلنا. لا يصح بيع النجوم. كذا ذكره صاحب "الشامل" و"التتمة" وغيرهما وكلام الرافعي يوهم خلافه فاحذره. قوله: ولو اكتال زيد وقبضه لنفسه، ثم كاله على مشتريه وأقبضه فقد جرى الصاعان، وصح القبضان ثم إن وقع في الكيل الثاني زيادة أو نقصان، فإن كان قدر ما يقع بين الكيلين فالزيادة لزيد والنقصان عليه ولا رجوع له. انتهى. وما ذكره هاهنا من عدم الرجوع قد جزم بما يوافقه في باب زكاة المعشرات في الكلام على الخرص، ثم ذكر ما يخالف الموضعين معًا في باب التخالف، وجزم بما حاصله أنه يرجع، وقد سبق إيضاحه قبل هذه المسألة بقليل مع كلام آخر متعلق بها. قوله: ومؤنة نقد الثمن هل هي على البائع أم على المشتري؟ حكي صاحب "الحاوي" فيه وجهين. انتهى. قال في "الروضة" من "زياداته": ينبغي أن يكون الأصح أنها على البائع، وما ذكره النووي بحثًا هو الأصح عند صاحب "الحاوي" فقد جزم به في كتاب القصاص في مسألة أجرة الجلاد الحدود في أجوبته عن أدلة أبي حنيفة. وجزم به أيضًا الدبيلي في "أدب القضاء" ويتجه أنه إن كان الاحتياج

إلى النفاذ لأجل ظهور حال شيء ادعى البائع رداءته، وعلم به المشتري أيضًا فهو عليه أي على المشتري، وإلا فعلى البائع. قوله: ولو كان عليه طعام أو غيره من سلم أو غيره فدفع إلى المستحق دراهم وقال: اشترِ بها مثل ما تستحقه علي واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك صح الشراء والقبض للموكل، ولا يصح قبضه لنفسه لاتحاد القابض والمقبض وامتناع كونه وكيلًا لغيره في حق نفسه. وقيل: يصح قبضه لنفسه، وإنما الممتنع أن يقبض من نفسه لغيره. ثم قال: ولو قال: اشترِ لنفسك فالتوكيل فاسد إذ كيف يشتري بمال الغير لنفسه؟ وتكون الدراهم أمانة في يده لأنه لم يقبضها ليمتلكها. انتهى. وما ذكره في أواخر كلامه من منع الشراء بمال الغير لنفسه قد ذكر في عكسه خلافه فإنه قال في باب الوكالة: لو قال لغيره اشترِ لي من مالك كذا بكذا صح شراؤه للموكل إلا في السلم فأي فرق بين أن يشتري بمال نفسه لغيره أو يشتري بمال غيره لنفسه. وهذه المسألة قد سبق ذكرها أيضًا في البيع في الكلام على بيع الفضولي، وفصل فيها تفصيلًا آخر. قوله: ولو طلب القسمة قبل القبض قال في "التتمة": يجاب إليها لأنا إن جعلنا القسمة إفرازًا فظاهر، وإن جعلناها بيعًا فإن الرضى غير معتبر فيه لأن الشريك يجبر عليه. وإذا لم نعتبر الرضى جاز أن لا نعتبر القبض كما في الشفعة. انتهى كلامه. والتعبير بقوله: "كما في الشفعة" قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا فإن أراد أنه يجوز للشفيع أن يتصرف في الشقص قبل قبضه فالصحيح المنع كما ذكره في أوائل الباب الثاني من أبواب الشفعة.

وإن أراد أن يجوز للشفيع أن يأخذ قبل قبض المشتري فهو موافق لما يقتضيه كلامه في كتاب الشفعة غير أن النووي صرح بالمسألة في "زياداته"، وحكي فيها وجهين من غير تصريح بتصحيح، لكنه أقر صاحب "التنبيه" على المنع، ولم ينبه عليه في تصحيحه فاقتضى ذلك أن يكون هو الصحيح عنده. وهذا الاحتمال الثاني لعله المراد، فإن صاحب "التنبيه" ذهب إلى أن الشفيع يمنع من التصرف في الشقص إلا بعد قبضه كما نقله عنه الرافعي في هذا الباب. قوله: لكن لو اختلفا فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أؤدي الثمن حتى أقبض المبيع ففيه أربعة أقوال: أحدها: يجبران معًا بأن يأمر الحاكم كل واحد منهما بإحضار ما عليه. فإذا أحضره سلم الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، أو يأمرهما بالوضع عند عدل ليفعل العدل ذلك. والثاني: لا يجبر واحد منهما، لكن يمنعان من التخاصم فإذا سلم أحدهما ما عليه أجبر الآخر. والثالث: يجبر المشتري. والرابع -وهو الأصح-: أنه يجبر البائع. انتهى ملخصًا. وما ذكره في هذه المسألة يستثنى منه مسائل منها إذا كان البائع وكيلًا فإنه لا يجبر على التسليم، بل لا يجوز له ذلك حتى يقبض الثمن كما ذكروه في بابه. ومنها: عامل القراض حكمه حكم الوكيل. ومنها: إذا باع الحاكم أموال المفلس. قال الرافعي: فعن أبي الحسين أنه يجب البدائة بتسليم الثمن بلا خلاف. وعن أبي إسحاق أنه يجيء هاهنا قولان:

أحدهما: إجبار المشتري. والثاني: إجبارهما. ولا يجيء قول الابتداء بالبائع لأن من يصرف لغيره فلابد أن يحتاط، ولا قول الإعراض عنهما لأن الحال لا يحتمل التأخير. قوله: وهذا كله فيما إذا كان الثمن في الذمة، فإن كان معينًا سقط القول الثالث، وإن تبايعا عرضًا بعرض سقط القول الرابع أيضًا، وبقي القولان. أحدهما: يجبران. والثاني: لا يجبران. ويشبه أن يكون الأول أظهر. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من سقوط القول الثالث فقط وإبقاء الرابع وهو إجبار البائع في ما إذا كان الثمن معينًا ولم يكن عوضًا مناقض لما ذكره في "الشرح الصغير" وللمذكور هنا أيضًا فيما إذا كان عرضين، ومخالف لكلام الأصحاب. فأما "الشرح الصغير" فإنه سَوَّى بين العرضين وبين غيرهما في سقوط القولين فقال: فإن كان معينًا فيخاف هلاكه، ويتعين كالمبيع فلا يجيء فيه القول الأول والثاني، وكذا لو تبايعا عرضًا بعرض فيبقى فيهما قولان: أحدهما: يجبران. والأخر: لا يجبران، هذا كلامه. وأما مخالفته لكلام الأصحاب، فإن المحاملي، والإمام والبغوي وغيرهم كما قاله في "الكفاية" قالوا: إن القولين يسقطان حيث كان الثمن معينًا.

وأما مخالفته للمذكور هنا، فإنه قد ذكر في العوضين سقوط الرابع أيضًا، وهو إجبار البائع مع اشتراكهما في التعيين، فإن فرق بأن الأول فيه ثمن وهو النقد، قلنا: الأصح عنده أن الثمن لا يختص به، بل بما دخلت عليه الباء يكون ثمنًا أيضًا. ولهذا قال ابن الرفعة: إنه لا وجه لما قاله الرافعي. وتابعه في "الروضة" على هذا الكلام، ثم تفطن في "المنهاج" فذكره على الصواب. قوله: التفريع إن قلنا: يجبر البائع على التسليم أولا، أو قلنا: لا يجبر، ولكنه تبرع وابتدأ بالتسليم والمشتري قد يكون موسرًا، وقد يكون معسرًا. إلى آخره. لقائل أن يقول: قد تقدم أن محل الأقوال في الإجبار إنما هو عند عدم خوف الفوات. وإذا كان معسرًا لم يحصل بهذا الشرط، فلا يستقيم أن يكون ذلك قسمًا من أقسام محل الخلاف. وجوابه: أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا ظن البائع وظننا أيضًا يساره فأخلق، أو طرأ الإعسار ونحو ذلك. قوله في المسألة: فإن كان ماله في البلد حجر عليه إلى أن يسلم الثمن، ثم قال: وحكى صاحب "الكتاب" هاهنا وفي "الوسيط" وجها: أنه لا يحجر عليه، ويمهل إلى أن يأتي بالثمن، ولم أرَ لغيره نقل هذا الوجه على هذا الإطلاق. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إنكار ذلك، وقد [رده] (¬1) ابن الرفعة في ¬

_ (¬1) في أ: أورده.

"الكفاية" فقال: إن الغزالي لم يطلقه، بل حكاه فيما إذا كان المشترى عينًا، بعد أن حكى أنه إذا تحقق إفلاسه، ولم يكن معه سوى المبيع، أو كان وزادت الديون عليه فللبائع الرجوع. فتعين أن مراده بالمعنى: من يساوى ماله ديونه أو زاد عليها، وإذا كان كذلك فهذا الوجه منقول في "النهاية" عن رواية الشيخ أبي محمد، وبه جزم القاضي الحسين في "التعليق". قوله: وإن كان غائبًا على مسافة القصر، فلا يكلف البائع الصبر إلى إحضاره، بل يفسخ. ثم قال: وحكى الإمام عن ابن سريج: أنه لا يفسخ، ولكن يرد المبيع يرد إلي البائع، ويحجر على [المشتري] (¬1)، ولا يحجر] (¬2) عليه، أو يرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه المشتري ويمهل إلى الإحضار، وادعى في "الوسيط" أنه الصحيح. انتهى. وما نقله عن الإمام من أن ابن سريج قد قال في هذه الحالة: إن المبيع يرد إلى البائع، ويحجر على المشتري، قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وهو غلط، فإن في "النهاية" عن ابن سريج، أنه لا حجر وأما رد البيع فنقله عنه كما ذكره الرافعي، وهو إثباته وقد وقع في "الكفاية" لابن الرفعة هنا غلطان فاحشان نبهت عليهما في "الهداية" فتفطن لذلك. قوله: الحالة الثانية: أن يكون معسرًا فهو مفلس، فالبائع أحق بمتاعه. انتهى. وهذا الكلام جميعه يدل على أن الرجوع إلى العين بالإفلاس لا يتوقف على حكم الحاكم، وليس كذلك فاعلمه، فقد قال الرافعي في أول كتاب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

الفلس: الذي يدل عليه كلام الأصحاب هاهنا تعريضًا وتصريحًا افتقار الرجوع إلى توسط الحجر. ثم قال: وقد حكينا في الكلام على البداءة بالتسليم ما يشعر بخلافه، وأشار إلى ما ذكرناه أولًا فاعلمه، وكلام الرافعي يقتضي أنه لم يظفر بخلاف في المسألة مع أن المسألة فيها وجهان شهيران، ممن حكاهما صاحب "المهذب". نعم في افتقار الرجوع بعد الحجر إلى إذن الحاكم وجهان شهيران أيضًا. قال الرافعي في الكلام على الرجوع، أشبههما: أنه لا يفتقر. قوله: فإن كان في ما دون مسافة القصر، فهل هو كالذي في البلد أو كالذي على مسافة القصر؟ فيه وجهان. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح هو الأول، كذا جزم به في "المحرر"، وصححه في "الروضة" من "زياداته". قوله: ولو لم يتفق التسليم حتى [حل] (¬1) الأجل فلا حبس أيضًا. انتهى. وما جزم به من عدم الحبس هنا قد تابعه عليه في "الروضة"، ثم حكى أعني الرافعي -في كتاب الصداق في حبس المرأة نفسها بذلك وجهين، وصحح الحبس ونقله عن الأكثرين، وأعادها في النفقات فحكى فيها وجهين من غير تصحيح، ثم إنه صحيح في الصداق من "الشرح الصغير": جواز الحبس فقال: وإن حل الأجل قبل [أن تسلم نفسها فأظهر الوجهين: أن لها الحبس لاستحقاقها المطالبة بعد] (¬2) الحلول كما في الابتداء. هذا لفظه والصواب جواز الحبس كما رجحه في الصداق، فقد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

نص عليه الشافعي في مسألة البيع كما نقله القاضي أَبو الطيب في كتاب الصداق عن حكاية المزني في المنثور، ونسب خلافه إلى الخطأ بسبب ذلك، ونقله أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" هناك، ومن نظائر المسألة حلول الأجل قبل إفلاس المشتري، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. قوله: ولو تبرع بالتسليم لم يكن له رده إلى حبسه [وكذا لو أعاره للمشتري على أصح الوجهين] (¬1). انتهى. لقائل أن يقول: ما صورة مسألة إعارة البائع للمشتري؟ فإنه لا جائز أن يكون في زمن الخيار، فإن البائع لا يجب عليه إذ ذاك التسليم، ولو تبرع وسلم كان له الرد كما سبق، ولا جائز أن يكون بعد لزوم البيع لخروج المبيع عن ملك البائع وانتقاله إلى المشتري، وحينئذ فلا إعارة. والجواب: أنه يتصور بما إذا أجر عينًا وباعها لغيره، ثم استأجرها من المستأجر وأعارها للمشتري قبل القبض. ويتصور أيضًا بما إذا باعه نصف عبد، ثم أعاره النصف الذي على ملكه قبل قبض المشتري لما اشتراه هذا إذا أريد مطلق الإعارة كما يدل عليه [اطلاق] (¬2) كلامه. فإن أراد إعارة المبيع فلا تأتي هذه الصورة، وقد يتصور بما إذا أعاره، ثم باعه. ويقال: إن هذه الاعارة مانعة لحق الحبس، وبما إذا أعاره في زمن الخيار ثم انقضى الخيار وفيهما نظر. قوله: فينبغي أن يكون تسليم النصف على الخلاف فيما إذا أخذ البائع بعض الثمن، هل عليه تسليم قطعة من المبيع؟ فيه وجهان ذكرناهما في ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من جـ.

باب التفريق. انتهى. وكلامه هاهنا يقتضي أن هذا الخلاف ثابت فيما يقبل القسمة وما لا يقبلها، لاسيما وقد تقدم التمثيل بالعبد، مع أن الذي قدمه هناك أنه خاص بما يقبل القسمة ذكر ذلك قبيل الكلام على الخيار. نعم أطلق الماوردي حكاية الوجهين عن ابن سريج من غير تفصيل.

الرابع من كتاب البيع ... في موجب الألفاظ المطلقة

قال -رحمه الله-: النظر الرابع من كتاب البيع ... في موجب الألفاظ المطلقة قوله: وإن لم يصرح بالمناصفة، بل أطلق الاشتراك، فقيل: يبطل، وهو ما أورده في ["التهذيب"] (¬1). وقيل: يصح ويحمل على المناصفة، وهو ما أورده في "التتمة"، وصححه الغزالي. انتهى ملخصا. لم يصرح بتصحيح في "الشرح الصغير" أيضًا، والراجح هو الثاني، كذا جزم به في "المحرر"، وصححه في "الروضة" من "زياداته". قوله: يكره أن يواطئ صاحبه فيبيعه بما اشتراه ثم يشتريه منه بأكثر، ليخبر به في المرابحة، فإن فعل قال ابن الصباغ: ثبت للمشتري الخيار. وخالفه غيره أيضًا. انتهى. قال في "الروضة" من "زياداته": قول ابن الصباغ أقوى. قوله: ولو اشترى شيئا بعرض وباعه مرابحة بلفظ الشراء أو بلفظ القيام، ذكر أنه اشتراه بعرض قيمته كذا، ولا يقتصر على ذكر القيمة، لأن البائع بالعرض يسدد فوق ما يسدد البائع بالنقد. انتهى كلامه بحروفه. تابعه عليه في "الروضة" وهو غلط، فإنه يقتضي أنه إذا باعه بلفظ القيام، يذكر أنه اشتراه بعرض قيمته كذا، وهو معلوم الفساد، فإنه يقع بلفظ الشراء لا بلفظ القيام. ويقتضي أيضًا أنه إذا باع بلفظ القيام لا يقتصر على ذكر القيمة، وليس كذلك، فقد قال في آخر الباب: وإذا أجر دارًا بعبد، أو نكحت على عبد، أو خالع زوجته عليه، أو صالح عن النفقة عليه، لم يجز بيع العبد مرابحة ¬

_ (¬1) في جـ: "المهذب".

بلفظ الشراء، ويجوز بلفظ قام علي، ويذكر في الإجارة أجرة مثل الدار، وفي النكاح والخلع مهر المثل، وفي الصلح عن الدم الدية. انتهى. وقد جزم في هذه الأمور بذكر قيمتها دون ذكرها، وهو نظير البيع. وقد ذكر صاحب "التتمة" المسألة بعبارة يظهر منها أنه سقط من كلام الرافعي شيء، فإنه قال: الثانية: إذا اشترى بعرض من العروض، فإن ذكر لفظ القيام وأخبر بقدر قيمة العرض جاز، وإن ذكر عبارة الشراء أو عبارة رأس المال لا يجوز اللهم إلا أن يقول: اشتريته بعرض قيمته كذا، أو رأس مالي فيه عرض قيمته كذا، وبعتك مرابحة، فإن فعل كان كناية لأن في عادة التجار يقع التفاوت بين شراء الشيء بالنقد وبين شرائه بالعرض فيشتري بالنقد بأقل مما يشتري به بالعرض [هذا كلامه. فظهر بذلك أن الرافعي نقل المسألة من هذا الكتاب على عادته فسقط بعضها، وذكر في "التهذيب" نحوه أيضًا فقال: ولو اشتري شيئًا بعرض فباعه مرابحة بلفظ الشراء يقول اشتريته بعرض] (¬1) قيمته كذا. فإن قال بلفظ قام سمي فيه العرض، قال القاضي -رحمه الله-: ويجب [أن يخبر إن اشتراه بالعرض، لأن العادة التشديد إذا اشتراه بالعرض. انتهى كلامه، وحاصله أنه يكتفي بذكر قيمة] (¬2) العرض، وما نقله عن القاضي بعد ذلك فيحتمل أن يكون حكاية لمقالة ضعيفة على خلاف ما قدمه، ويحتمل أن يكون تعليلًا للمسألة [الأولى، لكن بإعادة صورة المسألة، وقد راجعت كلام القاضي المشار إليه] (¬3) وهو القاضي الحسين في تعليقه، فوجدته محتملًا لذلك، فإنه قال: وإذا اشترى [بعرض] (¬4) قال -رضي الله عنه-: يجب أن يخبر به ويقول: اشتريته بعرض، وقيمة ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ. (¬4) سقط من جـ.

العرض، كذا لأن العادة فيما بين التجار أنهم يشددون في ما يبيعون بالعروض ويسامحون في ما يبيعون بالنقود، هذا كلامه. ولا صراحة فيه، وقد ذكر بعد هذا بدون صفحة ما حاصله: أنه لا يجب فقال ما نصه: ففي الصداق أن تقول المرأة: قام عليّ بكذا، وهو [مهر مثلها، كما لو اشترى ثوبًا بثوب يقول قام عليّ بكذا وهو] (¬1) قيمة الثوب الذي اشتراه به، كذا هاهنا، وفي الإجارة أجرة المثل، وفي الصلح عن دم العمد دية المقتول، هذا لفظه. وقد جزم به ابن الرفعة في "الكفاية" بجواز ذكر القيمة من غير شرائه بالعرض، ولم يعرج على ما قاله الرافعي، ولا أثبته وجهًا بالكلية ذهولًا عما وقع في الرافعي وعن سره. قوله: ولو اشترى عبدين أو ثوبين وأراد بيع أحدهما مرابحة فسبيله أن يعرف قيمة كل واحد منهما يوم الشراء ويوزع الثمن على قدر القيمتين، ثم يبيعه بحصته من الثمن. انتهى كلامه. واعلم أنه إذا باع في هذه الحالة لا يقول: اشتريته بكذا، إلا أن يبين حقيقة الحال، هكذا ذكره صاحب "التتمة"، ونقله عنه أيضًا ابن يونس شارح "التنبيه"، وليس في كلام الرافعي، ولا كلام "الروضة" بيان ذلك، بل فيهما ما يوهم خلافه. قوله: إذا قال: اشتريته بمائة فباعه مرابحة، ثم بان أنه اشتراه بتسعين فقولان: أصحهما: أنا نحكم بانحطاط الزيادة وحصتها من الربح. والثاني: لا حط، بل يثبت الخيار. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثم قال: وجميع ما ذكرناه في ما إذا كان المبيع باقيًا، فأما إذا ظهر الحال بعد هلاك المبيع، فإن القاضي الماوردي ذكر أنه يحط الزيادة وربحها قولًا واحدًا؛ والظاهر جريان القولين. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الماوردي فقط قد صرح به أيضًا الشيخ في "المهذب" والشاش في "الحلية" ونقلاه عن الأصحاب. وكلام الرافعي يقتضي أن ما ذكره من إطلاق القولين لم يأخذه من تصريح، بل من تعميم، وهذه النقول تدفع ما قاله. قوله: وقول الغزالي في "الوجيز": فإن كذب في ذكر شيء من ذلك ففي استحقاق [حط] (¬1) قدر التفاوت قولان يقتضي اثبات الخلاف فيما إذا أخبر عن سلامة المبيع وكان معيبًا، أو عن حلول الثمن وكان مؤجلًا كما لو أخبر عن القدر كاذبًا، وقد صرح في "الوسيط" بذلك فيما إذا لم يخبر عن العيب فضلًا عن أن يخبر عن السلامة كاذبا، لكن لم أر لغير المصنف تعرضًا لذلك، فإن ثبت الخلاف فالسبيل على قول الحط النظر للقيمة ويقسط الثمن عليها. انتهى كلامه. وما قاله الرافعي غريب جدًا، فإن الذي قاله الغزالي قد جزم به الإمام في "النهاية". ولما اختصر النووي ما نقله الرافعي عن الغزالي لم يذكر فيه الأجل، وجزم بثبوت الخيار فيه. قوله: ولو أخبر بأن رأس المال مائة وباعه مرابحة، ثم قال: غلطت إنما هو مائة وعشرة وصدقه المشتري، فقيل: يصح البيع، وبه أجاب الغزالي في "الوجيز" والماوردي. وقيل: يبطل، وصححه الإمام وصاحب "التهذيب". انتهى ملخصًا. لم يصرح بتصحيح في "الشرح الصغير" أيضًا، وصحح في "المحرر" ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

البطلان وعبر بالأصح. وصحح النووي في زياداته من "المنهاج" و"الروضة": أنه يصح، قال: وبه قطع المحاملي والجرجاني وصاحب "المهذب" والشاشي وخلائق. قوله: وإن كذبه ولم يبين لغلطه وجهًا محتملًا فلا يقبل قوله، وإن أقام عليه بنية فلا تسمع، فلأن اعترافه بأن الثمن مائة يكذب قوله الثاني ويبينه. انتهى. وما ذكره هاهنا قد تبعه عليه أيضًا النووي، وقد ذكر الرافعي في أواخر كتاب الدعاوي قبيل باب دعوى النسب مما جمع من "فتاوي القفال" وغيره مسألة في دعوى الوقفية فيما باعه قريبة من هذه المسألة، وسأذكرها في ذلك الموضع إن شاء الله تعالى فراجعها. قوله: فإن زعم أن المشتري عالم بصدقه، وطلب تحليفه أنه لا يعلم فهل له ذلك؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يحلفه فنكل، ففي رد الثمن على المدعي وجهان مبنيان على أنها كالإقرار أو كالبينة؟ فعلى الأول: يرد، وعلى الثاني: لا. انتهى ملخصًا. والأصح في المسألة الأولى أن له تحليفه، كذا صححه الرافعي في "المحرر" وعبر بالأظهر، ونقله في باب الرهن والإقرار من "الكبير" على ظاهر النص ولكن في نظير المسألة، وصححه أيضًا النووي في "الزيادات". وأما المسألة الثانية فمقتضى كلام الرافعي فيها تصحيح الرد، لأن اليمين المردودة كالإقرار على الصحيح، وحذف النووي هذه الزيادة التي يؤخذ منها تصحيح الرد، ثم صححه بعد ذلك من "زياداته". قوله: ولم يذكروا خلافًا فيما إذا قال: بعت بما اشتريت، ونظائره. وذكروا فيما إذا قال: أوصيت له بنصيب ابني وجهًا أنه لا يصح.

ولا فرق بين البابين، فكأنهم اقتصروا هنا على الأصح. انتهى ملخصًا. ولقائل أن يقول: الفرق بينهما أن التقدير هنا ظاهر لعدم قدرة المشتري على عين ما اشترى به، ولعدم العرض فيه بخصوصه بخلاف الوصية، فإنه مستولٍ على جميع المال، ولأنه قد يتوهم قدرته على الحرمان لكون المال ملكًا له فيقصده، وهذا الفرق أشار إليه النووي.

[الأول] لفظ الأرض

قال -رحمه الله-: [الأول] (¬1) لفظ الأرض. قوله: وإن كان في الأرض جَزَر أو فجل أو سلق أو ثوم، لم يدخل في بيع الأرض كالحنطة والشعير. انتهى. تابعه في "الروضة" على عد السلق من هذا القسم وهو سهو، بل يكون للمشتري فإنه يحصد مرة بعد مرة. قوله: وما يجز مرارًا كالقضب والقت والطرخون إلى آخره. أما القت فبالقاف والتاء المثناة. والقضب بالقاف والضاد المعجمة وهو القت أيضًا، ويسمى القرط والرطنة. وأما الطرخون فبالخاء والنون، وهو نبت معروف، والجزر بكسر الجيم. قوله: أما إذا كان فوق الأحجار زرع للبائع أو المشتري، ففي "التهذيب": أنه يُترك إلى أوان الحصاد لأن له غاية بخلاف الغراس، ومنهم من سوى بينه وبين الغراس. انتهى. والأصح قول صحاب "التهذيب"، كذا ذكره في "الروضة" من "زياداته". قوله في أصل "الروضة": فرع: هل له الأجرة في مدة بقاء الزرع؟ قطع الجمهور بأن لا أجرة، وقيل: وجهان: الأصح: لا أجرة. . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أنه قد جزم في "المنهاج" بطريقة الوجهين، فإنه عبر بلفظ الأصح. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

اللفظ الثاني: البستان

الثاني: أن محل هذا الخلاف إنما هو فيما إذا جهل المشتري وجود الزرع وأجاز، فإن كان عالمًا فلا أجرة، هذا مقتضى كلام الرافعي إقتضاء كالصريح، فإنه ذكر المسألة في أثناء الكلام على الحجارة، وبه صرح الإمام أيضًا. قوله: تكلم إمام الحرمين في أن الأصحاب لم يوجبوا على هادم الجدار إعادته، بل أوجبوا أرشه، وأجاب عنه بأن طم الحفر لا يكاد يتفاوت، وهيئات الأبنية تختلف وتتفاوت، فشبه ذلك بذات الأمثال وهذا بذوات القيم، حتى لو رفع لبنة أو لبنتين من رأس الجدار، وأمكن الرد من غير اختلاف في الهيئة كان ذلك كطم الحفرة. انتهى. هذا الكلام يقتضي أن هذا الجواب للإمام، وليس كذلك، بل هو للقاضي الحسين ذكره قبيل باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار. نعم، وجدت وضع اللبنة واللبنتين من كلام الإمام. قوله: وفي وجوب إعادة الجدار خلاف نذكره في الصلح إن شاء الله تعالى. انتهى. [وما ذكره من ثبوت خلاف في إعادته، وأنه مذكور في الصلح غلط، ولا خلاف في عدم الوجوب وستعرف ذلك إن شاء الله تعالى] (¬1). اللفظ الثاني: البستان قوله: وفي العريش الذي يوضع عليه القضبان تردد للشيخ أبي محمد، والظاهر عند الإمام: دخوله. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والراجح هو الدخول كما رجحه الإمام، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، والغزالي وابن الرفعة في "الكفاية" فقالا: إنه الأصح، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

اللفظ الثالث: الدار

قوله من "زياداته": قال الغزالي وغيره: إذا قال: بعتك الدسكرة فهو كما إذا قال: بعتك العربة. انتهى. الدسكرة بفتح الدال وسكون السين المهملتين، ثم كاف وراء مفتوحتين أيضًا: هو قصر حوله بيوت وهو أيضًا عربي. اللفظ الثالث: الدار قوله: إلا أنه لا يجوز بيع ما فيه معدن الذهب بالذهب من جهة الربا، وفي بيعه بالفضة قولا الجمع في الصفقة الواحدة بين البيع والصرف. انتهى كلامه. وهذه المسألة فيها كلام سبق ذكره في الربا. فليراجع. قوله: وفي دخول حجر الرحى ثلاثة أوجه: أصحها: يدخلان. وثانيها: يدخل التحتاني دون الفوقاني. ثم قال: وأشار الإمام إلى القطع بدخول الحجرين في بيع الطاحونة، وبدخول الإجانات المثبتة إذا باع باسم المدبغة والمصبغة، وأن الخلاف في دخولها تحت بيع الدار. ثم قال: وفي "التتمة" ما يقتضي التسوية بين اسم الدار والمدبغة. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على القطع بدخول الحجرين معًا عند الإمام، وليس كذلك، بل الذي أشار الإمام إلى القطع به إنما هو التحتاني فقط. وصرح بالخلاف في الفوقاني.

اللفظ الرابع: العبد

اللفظ الرابع: العبد قوله: وإذا باع عبدًا ففي دخول ثيابه ثلاثة أوجه: ثالثها: يدخل ساتر العورة دون غيره، ورجح صاحب "التهذيب" وغيره: أنها لا تدخل مطلقًا. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، ومقتضاه رجحان عدم الدخول، لكن رجح في "المحرر" دخولها فقال ما نصه: والأشبه دخول الثياب في بيع العبد. هذا لفظه. واستدرك عليه في "المنهاج" فصحح عدم الدخول، كما هو مقتضى كلام الشرحين، وصرح بتصحيحه في أصل "الروضة". قوله في أصل "الروضة": ولا يدخل عذار الدابة في بيعها على الأصح كالسرج. انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن الرافعي حكى فيه خلافًا، وليس كذلك، فإن الرافعي لما تكلم عن ثياب العبد قال: لكن صاحب "التهذيب" وغيره رجحوا الوجه الصائر إلى أن شيئًا منها لا يدخل في البيع، وكذا قالوا في عذار الدابة. هذا كلامه. وليس فيه ما يقتضي إثبات خلاف، ولم أره أيضًا إلا أن الغزالي في "الوسيط" أشار إلى ذلك بحثًا فقال: ولعل العذار من الفرس كساتر العورة من العبد، ولم ينقل الرافعي هذا الكلام. اللفظ الخامس: الشجر قوله: شجرة الفرصاد. هو بكسر الفاء وبالصاد المهملة، وهو التوت الأحمر. كذا قاله الجوهري.

قوله: وهل يدخل الغرس في البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه يستحق منفعته لا إلى غاية، وذلك لا يكون إلا على سبيل الملك. وأصحهما: لا. وقد يستحق على المالك المنفعة لا إلى غاية كما لو أعار جداره ليضع غيره الجذع عليه. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في إعارة الجدار من كون المستعير يستحق المنفعة إنما هو اختيار صاحب "التنبيه" وجماعة، لكن الصحيح ما ذكره هو والنووي في كتاب الصلح: جواز الرجوع، ولم يذكر في "الروضة" هذا التعليل فسلم من الاختلاف. الأمر الثاني: لقائل أن يقول: هل محل الخلاف فيما سامت الشجرة من الأرض دون ما تمتد إليه أغصانها، أم الخلاف في الجميع؟ فإن كان الثاني فيلزم أن يتجدد للمشتري في كل وقت ملك لم يكن. قوله: الثانية: لو باع شجرة يابسة ثابتة فعلى المشتري تفريغ الأرض عنها للعادة. قال في "التتمة": فلو شرط إبقاءها فسد البيع، كما لو اشترى الثمرة بعد التأبير وشرط عدم القطع عند الجذاذ. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: (بعد التأبير) [وقع أيضًا في "الروضة" غير أنه عبر بقوله: مؤبرة. وأتى بهذا القيد لأجل تصحيح] (¬1) العقد. وهذا التعبير فاسد، بل صوابه بعد بدو الصلاح، فإن التأبير ليس مقتضيًا لتصحيح العقد عند الإطلاق، بل المقتضى له إنما هو الجذاذ، كما ¬

_ (¬1) في جـ: ليس مقتضيًا لتصحيح.

سنذكره بعد ذلك، حتى لو اشتراها بعد التأبير وقبل بدو الصلاح بدون شرط القطع، لم يصح العقد. قوله: الثالث: قال في "التهذيب": نشقق بعض الجوزق من الكرسف كتشقق الكل، وما تشقق من الورد يبقي للبائع، وما لم يتشقق يكون للمشتري، وإن كانا على شجرة واحدة، ولا يبيع البعض دون البعض بخلاف ثمر النخل لأن المشقق لا يقطع بل يترك إلى إدراك الكل، وما تشقق من الورد يجني ولا يترك إلى تشقق الباقي. وذكر أيضًا أن التين والعنب إن ظهر بعضه دون بعض، فما ظهر يكون للبائع، وما لم يظهر يكون للمشتري، وهذه الصورة الأخيرة محل التوقف. انتهى كلامه. وما نقله عن البغوي في الورد وارتضاه [واقتضى كلامه عدم التوقف فيه أيضًا تابعه أيضًا في "الروضة" عليه، وقد خالفه فيه الشيخ أبو إسحاق فجزم في "التنبيه" بأن الجميع للبائع. وارتضاه] (¬1) النووي فلم يستدركه عليه في تصحيحه، والعجب من إهماله لاسيما من النووي. وما نقله عن البغوي أيضًا آخرًا في التين والعنب وتوقف فيه قد صرح به أيضًا الشيخ في "المهذب"، وصرح به أيضًا المتولي والروياني فقالا: إنه لا خلاف فيه لكنهما إنما تكلما في التين خاصة. [ولم يتعرض في "المحرر" و"الشرح الصغير" للبعض إلا بالنسبة إلى ثمر النخل خاصة] (¬2). قوله: إحداهما: لو تعذر السقى لانقطاع الماء وعظم ضرر النخل بإبقاء [الثمار ففيه قولان منقولان عن "الأم"] (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في جـ: الإمام.

قال أبو القاسم الكرخي: أصحهما: أنه ليس له الإبقاء دفعًا للضرر عن المشتري. انتهى كلامه. والصحيح ما قاله الكرخي، كذا صححه أيضًا الروياني في "البحر"، وابن أبي عصرون، والنووي في أصل "الروضة". قوله: وإذا باع الشجرة وبقيت الثمرة للبائع، وكان السقي يضر بالثمار وينفع الأشجار، فأراد المشتري أن يسقي [ونازعه البائع فوجهان قال ابن أبي هريرة: للمشتري أن يسقي] (¬1) ولا يبالي بضرر البائع، لأنه قد رضى به حين أقدم على العقد. وقال أبو إسحاق: يفسخ العقد، وهو الأظهر، وإن أضر بالأشجار وينفع الثمار فأراد البائع السقي جرى الوجهان، فعند ابن أبي هريرة: للبائع السقي، وقول أبي إسحاق لا يختلف. ثم قال ما نصه: وحكى الإمام وصاحب الكتاب في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها: يجاب المشتري لأنه التزم سلامة الأشجار للبائع. وثانيها: أنه يجاب البائع لاستحقاقه إبقاء الثمار. والثالث: يتساويان. وترجيح الوجه الأول مما لم نره إلا لصاحب الكتاب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله في تعليل الوجه الأول غلط انعكس عليه، والصواب أن يقول: لأن البائع قد التزم سلامة الأشجار له. وقد ذكره في "الشرح الصغير" على الصواب، وذكره في "الروضة" بدون تعليل على عادته فاتفق أن سلم من الاعتراض. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

اللفظ السادس بيع الثمار

الأمر الثاني: أن هذا الترجيح الذي ذكره الغزالي وأنكره عليه قد سبقه إليه الفوراني في "الإبانة" فجزم به، وكذلك الأرغياني في "فتاوى النهاية"، ولم يتعرض في "الشرح الصغير" و"الروضة" لاختصاص الغزالي بهذا الترجيح فسلما من الاعتراض. قوله: الثالثة: لو لم يسق البائع وتضرر المشتري ببقاء الثمار لامتصاصها رطوبة الشجر، أجبر على السقى أو القطع. فإن تعذر السقي لانقطاع الماء ففيه القولان السابقان. انتهى. ومحل هذين القولين كما نقله في "الروضة" من "زياداته" عن الإمام وصاحب "التهذيب" في ما إذا كان للبائع نفع في ترك الثمرة، فإن لم يكن وجب القطع بلا خلاف. اللفظ السادس بيع الثمار قوله: ولا يجوز بيع الثمار قبل بدو الصلاح إلا بشرط القطع. . . . إلى آخره. ثم قال: أما الجواز بشرط القطع فمجمع عليه. انتهى. والمسألة ليست إجماعية، فقد حكى ابن حزم في "المحلى" عن سفيان الثوري ابن أبي ليلى: أنه لا يصح مع هذا الشرط [أيضًا، ونقله الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة". ومحل المنع بدون هذا الشرط] (¬1) كما قاله في "الروضة": ما إذا كانت الشجرة ثابتة، فإن كانت مقطوعة صح بيعها مطلقًا، لأن الثمرة لا تبقى عليها فتصير كشرط القطع. قوله: ولو باع الثمرة قبل بدو الصلاح من مالك الأشجار بأن يبيع إنسانًا ¬

_ (¬1) سقط من ب.

"شجرة" فتبقى الثمرة له، ثم يبيعه الثمرة أو يوصي بالثمرة لإنسان، ثم يبيع الموصي له الثمرة من الوارث، ففي اشتراط القطع وجهان: أصحهما عند الجمهور: يشترط لكن لا يلزمه الوفاء به. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" هنا على تصحيح وجوب الاشتراط، ثم صحح عكسه في كتاب المساقاة، فقال في الباب الثاني منه قبيل الفصل المعقود لموت المالك: أن الأصح أنه لا [يجب اشتراط] (¬1) القطع، وما صححه في هذا الباب هو الذي صححه في باقي كتبه، وهو المعروف أيضًا، فلتكن الفتوى عليه ولم يصحح الرافعي هناك شيئًا. واعلم أنه يتصور أيضًا كون الشجرة للمشتري والثمرة للبائع أن يهبها له أو يبيعها بشرط القطع، ثم يريد شراءها منه. قوله: ولو كانت الثمرة غير مؤبرة فاستثناها لنفسه، لم يجب شرط القطع في أصح الوجهين، زاد على هذا في "الروضة" فقال ما نصه: قلت: قال الإمام: إذا قلنا: يجب شرط القطع فأطلق فظاهر كلام الأصحاب أن الاستثناء باطل والثمرة للمشتري، قال: وهذا مشكل فإن صرف الثمرة إليه مع التصريح باستثنائها محال. قال: فالوجه عند الاستثناء المطلق شرطًا فاسدًا مفسدًا للعقد في الأشجار كاستثناء الحمل. انتهى كلامه. واعلم أن مذهب الشافعي في هذه المسألة هو ما رآه الإمام بحثًا، وهو بطلان المبيع فاعلمه كذا نقله القاضي الحسين في "فتاويه" وعبر بقوله: المنصوص أن البيع باطل، هذا لفظه. وهو جلى مقيس ماشٍ على القواعد فيجب الأخذ به. قوله: الحالة [الثانية] (¬2): أن تباع الثمار مع الأشجار فيجوز من غير ¬

_ (¬1) في جـ: يشترط. (¬2) في جـ: الثالثة.

شرط القطع، لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من باع [نخلًا] (¬1) بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" (¬2). ثم قال: والمعنى فيه: أن الثمرة [هبتها] (¬3) تبع الأصل، والأصل غير متعرض للعاهة وقد يحتمل في الشيء إذا كان تابعًا ما لا يحتمل فيه إذا أفرد بالتصرف كالحمل في البطن، واللبن في الضرع. انتهى كلامه. وهذا القياس باطل لأنه إن كان مراده ما إذا باع الحيوان وسكت عن حمله أو عن لبنه، فإن بيعه صحيح، غير أنه ليس نظير مسألتنا فإن كلامنا فيما إذا باع النخيل والثمار. ولو باع النخيل وسكت عن الثمار لم يدخل، وإن كان مراده ما إذا صرح بالحمل واللبن، وهو نظير المسألة، غير أن البيع باطل على الصحيح كما سبق في البيع فيلزم إما فساد القياس، أو فساد الحكم المقاس عليه فيفسد القياس أيضًا. قوله: فاعلمه [وأعلمه] (¬4). الأولى: أمر من العلم وهمزتها همزة وصل ولامها مفتوحة. والثانية: أمر من الإعلام، وهمزتها للقطع ولامها مكسورة أى فافهمه، واعلم به كلام "الوجيز" بالواو. قوله: ويجوز بيع الشعير أو السلت في سنبله، ثم قال: ولو كان للثمرة أو الحب كمام لا يزال إلا عند الأكل كالرمان والعلس فكمثل. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من جواز بيع العلس في كمامه، جزم به أيضًا في باب بيع ¬

_ (¬1) في الأصول: نخلة، والمثبت من صحيح البخاري، من جـ. (¬2) أخرجه البخاري (2090) ومسلم (1543) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬3) سقط من جـ. (¬4) في جـ: أعلم.

الغرر من "شرح المهذب"، وزاد على ذلك فقال: لا خلاف في جوازه. إذا علمت ذلك فقد جزم في أواخر السلم بخلافه، فقال قبيل الكلام على اشتراط الجودة والرداءة ما نصه: ولا يجوز السلم في العلس والأرز لاستتارهما بالكمام. انتهى. وتابعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: وماله كمامان يزول أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل كالجوز واللوز والرانج لا يجوز بيعه في القشرة العليا، [وفيه قول: أنه يجوز ما دام رطبًا. وبه قال ابن القاصي والإصطخري، ثم قال: بيع الباقلاء في القشرة العليا] (¬1) على هذا الخلاف. ثم قال: وادعى الإمام أن الأظهر في الباقلاء الأخضر: بيعه في قشرته لأن الشافعي - رضي الله عنه - أمر بعض [أعوانه] (¬2) أن يشتري له الباقلاء الرطب. انتهى. زاد النووي في "الروضة" على هذا فقال: قلت: المنصوص في "الأم": أنه لا يصح بيعه، وهذا إذا كان الجوز واللوز والباقلاء رطبًا، فإن بقي في قشره الأعلى فيبس، لم يجز بيعه وجهًا واحدًا إذا لم نجوز بيع الغائب، كذا قاله الإمام وصاحب "التهذيب" وغيرهما. انتهى. إذا علمت الأصل والزيادة ففيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله: (كمامان) غير مستقيم، لأن مراده إنما هو [فردان من أفراد] (¬3) الأكمة بلا شك، وتعبيره ينفيه لأن الكمام جمع، وكذلك الأكمة والأكمام والأكاميم والمفرد كمامة، وكم بكسر الكاف. قاله الجوهري. فكان الصواب كمامتان بالتاء أو كمان. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب. (¬3) في جـ: إخوانه.

الأمر الثاني: أن ما نقله عن ابن القاص من الجواز ليس كذلك، بل صرح بالمنع إلا في الباقلاء فجوزه، فقال في "التلخيص": ولا يجوز بيع شيء وعليه قشرتان حتى ترتفع العليا، إلا واحدًا وهو بيع الفول رطبًا قلته تخريجًا. هذا لفظه. وذكر في "المفتاح" نحوه أيضًا فقال: ولا يجوز بيع الجوز حتى يرفع قشرها، فأطلق ولم يفصل بين الرطب واليابس. نعم اللوز الذي يؤكل قشره نقل فيه عن المروزي، أنه يجوز. الأمر الثالث: أن العون الذي أمره الشافعي بالشراء هو الربيع، كذا ذكره القفال في "شرح التلخيص" في أوائل البيع فقال: وقد حكى عن الربيع أنه قال: مر الشافعي - رضي الله عنه - ببغداد بباب الطاق فأعطاني كسرة فاشتريت له بها الفول الرطب في قشره. هذا لفظه. وذكره القاضي الحسين والشيخ أبو علي في "شرح التلخيص" أيضًا، [والكسرة هي القطعة من الدراهم أو الدينار تكسر منه للحوائج الصغار ومن ذلك] (¬1) قولهم: الكسرة والقراضة. قال الجوهري: الكسرة: القطعة من الشيء المكسور، والجمع: كسر، مثل قطعة وقطع. الرابع: أن بيع قصب السكر وهو مستور في قشره جائز، كما ذكره في "شرح المهذب" المسمى "بالاستقصاء"، ونقله في "المطلب" هنا عن "الحاوي". وعلى هذا فيسأل عن الفرق بينه وبين الباقلاء على أن ما صححه الإمام قد صححه القاضي الحسين فقال: إنه المذهب، والشيخ أبو علي وقال: إنه الأصح، والقفال في "شرح التلخيص" أيضًا. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الخامس: أن ما نقله النووي في "زياداته" عن الإمام والبغوي مقتضاه: تجويز ذلك إذا جوزنا بيع الغائب، لكن سيأتي بعد هذا عن البغوي ما يشكل على ما يقتضيه كلامه هنا. قوله في أصل "الروضة": وأما ما لا يرى حبه في سنبله كالحنطة والعدس والسمسم، فما دام في سنبله لا يجوز بيعه منفردًا عن سنبله قطعًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من القطع ذكره أيضًا في "شرح المهذب" في باب ما نهى عنه من بيع الغرر، وعبر بقوله: بلا خلاف، وهو مردود، لم يذكره الرافعي -رحمه الله- فقد قال القاضي الحسين في تعليقه في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار ما نصه: فأما بيع الحنطة في السنبلة إن باعها بدون السنابل لا يجوز على الصحيح من المذهب. هذا لفظه. قوله: ومعها -أي مع السنبل- قولان: الجديد: المنع لستر المقصود بما لا يتعلق به الصلاح كبيع تراب الصاغة والكدس بعد الدياسة وقبل التصفية. انتهى. الكدس بضم الكاف وبالدال المهملة الساكنة وبالسين المهملة هو المعبر عنه في بلادنا بالجرن بضم الجيم، قال الجوهري: الكدس بالضم واحد أكداس الطعام. قوله في أصل "الروضة": كبيع تراب الصاغة وكبيع الحنطة مع تبنها، فإنه لا يصح قطعًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف لم يذكره الرافعي، وذكر مثله في "شرح المهذب" في باب ما نهى عنه من بيع الغرر، وعبر بقوله: (اتفق أصحابنا) وهو غير مستقيم، فإن بعضهم قد ذهب إلى الصحة فيهما. وممن حكاه ابن الرفعة في "الكفاية"، وصرح بمسألة التراب

بخصوصها، الفوراني في "الإبانة" هنا، وحكى فيها طريقين طريقة جازمة بالبطلان، وأخرى بالتخريج على بيع الغائب، ونقل الإمام الطريقة الثانية عن المحققين، وقال في "الوسيط": إنها الأظهر. قوله: والأرز كالشعير يباع في السنابل، لأنه قد يدخر في قشره، وبهذا قال ابن القاص وأبو علي الطبري، ومنهم من قال: هو كالحنطة. انتهى كلامه. وما صححه من إلحاق الأرز بالشعير، قد ذكر في آخر السلم ما يخالفه فقال قبيل الكلام على اشتراط الجودة والرداءة ما نصه: ولا يجوز السلم في العلس والأرز لاستتارهما بالكمام. انتهى. وقد تقدم ذكر هذا الموضع قبل هذا بقليل، وقد صرح النووي في فتاويه بخلاف ما ذكره في باب السلم فقال: الأصح أنه يجوز السلم فيه. واعلم أن ما جزم به في باب السلم من المنع في العلس، قد تقدم ما يخالفه أيضًا فاستحضره. قوله: ويجوز بيع القنبيط في الأرض، وكذلك نوع من الشلجم يكون ظاهرًا بخلاف الفجل والسلق ونحوهما. انتهى. القنبيط: بقاف مضمومة ثم نون مشددة مفتوحة ثم باء موحدة. والشلجم، بفتح الشين المعجمة والجيم. والسلق: بكسر السين. والفجل: بضم الفاء، كذا ضبطه الجوهري. قوله: وهل القول بالمنع في صور الفصل مقطوع به أم هو مفرع على قول منع بيع الغائب؟ ذكر الإمام أنه مفرع عليه. وفي "التهذيب": أن المنع في بيع الجوز وما في معناه في الأرض ليس

مبنيًا على بيع الغائب، لأن في بيع الغائب يمكن رد المبيع بعد الرؤية بصفته وهاهنا لا يمكن ذلك. انتهى. والصحيح من الخلاف الذي ذكره وهو بيع المستور في الأرض: هو المنع مطلقًا، فقد نقله الماوردي عن الجمهور، وصححه النووي في "الروضة" هنا وفي "شرح المهذب" في باب ما نهى عنه من بيع الغرر. واعلم أن من جملة ما ذكره الرافعي في هذا الفصل بيع الجوز واللوز والباقلاء، ونحو ذلك من الجاف في قشرته. والتعليل الذي ذكره البغوي هنا في منع ما في الأرض على قول بيع الغائب يقتضي المنع فيها أيضًا. فأما الجوز واللوز ونحوهما، فالأمر فيه كذلك على ما دل عليه كلامه في "شرح المهذب". وأما الباقلاء فجزم فيه في "الشرح المذكور" بالجواز على هذا القول -أعني على جواز بيع الغائب-، ولا سبيل إلى الفرق. قوله: والمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة، وهي مأخوذة من الحقل وهو المساحة التي تزرع. . . . إلى آخره. الفرق بالفاء والراء والقاف مكيال معروف، وأما الحقل فهو بفتح الحاء وسكون القاف، وهو جمع حقلة، والحقلة المزرعة الطيبة التي لا بناء فيها ولا شجر. قاله الجوهري. إذا علمت ذلك فكان الصواب أن يقول: من الحقلة وهو الساحة، أو من الحقل وهو الساحات، وأيضًا فليس هو مطلق الساحات بل الساحات الطيبة كما تقدم. قوله: بيع العرايا جائز، وهو أن يبيع رطب نخلة أو نخلتين باعتبار الخرص بقدر كيله من الثمر. انتهى.

تابعه في "الروضة" على تقييد ذلك بالرطب، وهو يوهم المنع في البسر، وليس كذلك، بل حكمه حكم الرطب، كما صرح به الماوردي في "الحاوي". قوله: لنا ما روى عن سهل بن أبي حثمة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر إلا أنه أرخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا ليأكلها رطبًا (¬1). انتهى. حثمة بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة، والثمر المذكور أولًا هو بالثاء المثلثة وهو الرطب، وأما المذكور ثانيًا فهو بالمثناة وهو الجاف. والخرص هنا يجوز فيه فتح الخاء وهو الأشهر وكسرها. قاله في "شرح مسلم"، وعلى التقديرين فالمراد المخروص. قوله: ويجوز فيما دون خمسة أوسق من الثمر لا في ما زاد على الخمسة، وكذا [في الخمسة] (¬2) في أظهر القولين، هذا إذا باع في صفقة. فلو باع قدرًا كبيرًا في صفقات لا تزيد كل واحدة على ما ذكرنا جاز، وكذا لو باع في صفقة لرجلين بحيث خص كل واحد القدر الجائز، فلو باع رجلان لرجل [فوجهان: أصحهما: أنه كبيع رجل لرجلين] (¬3). والثاني: كبيعه لرجل صفقة. ولو باع رجلًا لرجلين صفقة لم يجز في ما زاد على عشرة أوسق، ويجوز فيما دون العشرة، وفي العشرة القولان. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره في صورة بيع الرجلين للرجلين، قد تابعه عليه في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2079) ومسلم (1540). (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

"الروضة"، وقياس ما سبق في هذه المسألة أن لا نعتبر بلفظ العشرة الأوسق كما ذكره، بل العشرين فنقول: لم يجز فيما زاد على عشرين، ويجوز فيما دون العشرين، وفي العشرين القولان فاعلمه. وإنما قلنا ذلك لأن الصفقة متعددة ولكل واحد أن يبيع عند التعدد أكثر من خمسة أوسق، فإذا كان لرجين مثلًا ستة عشر وساقًا فباعاها من رجلين [جاز، لأن كل واحد منهما باع نصيبه وهو ثمانية أوسق من رجلين] (¬1)، فيصير كأنه باع من كل واحد منهما أربعة أوسق. وقد صرح به كذلك مع وضوحه جماعة، وحينئذ فإذا عبر بلفظ العشرين كما أشرنا إليه يصح أن يقول: لا يجوز فيما زاد عليها، ويجوز في [ما نقص، وفي العشرين قولان. وينبغي تأويل قول الرافعي: لم يجز في] (¬2) أكثر من عشرين -أي: لكل منهما- فيكون للاثنين عشرون. قوله: أما لو باع الرطب على النخيل بالرطب على النخيل خرصًا فيهما أو بالرطب على وجه الأرض كيلًا ففي جوازه أوجه: أصحها: لا يجوز. ثم قال: ولو باع الرطب على وجه الأرض [بالرطب على وجه الأرض] (¬3) لم يجز، وذكر القفال في "شرح التلخيص" أنه على الخلاف لأنه إذا جاز البيع وأحدهما أو كلاهما على رأس النخيل خرصًا، واحتملت الجهالة فلأن يجوز مع تحقق الكيل في الجانبين أولى. انتهى كلامه. وهو يوهم أن تحقيق الكيل كافٍ في جواز ذلك عند القفال، وليس كذلك فاعلمه، بل المراد الكيل مع الخرص أيضًا فافهمه، فقد صرح به القفال في "شرح التلخيص"، وقال القاضي حسين: لا خلاف فيه. قوله: فللحوائج حالتان: ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من أ.

إحداهما: أن تعرض قبل التخلية فهي من ضمان البائع، فإن تلف جميع الثمار انفسخ العقد، وإن تلف بعضه انفسخ فيه، وفي الباقي قولا التفريق. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على الجزم بطريقة القولين، والصحيح في تلف بعض المعقود عليه قبل القبض طريقة القطع بعدم الانفساخ، لا هذه الطريقة التي جزم بها كما تقدم بسطه في تفريق الصفقة. قوله في "الروضة": وإن عرضت بعدها، فإن كان باعها بعد بدو الصلاح فقولان: الجديد الأظهر: أن الحوائج من ضمان المشتري، ولا فرق على القولين بين أن يشتري القطع أم لا. وقيل: إن شرطه كانت من ضمان المشتري قطعًا لتفريطه، ويحكى هذا عن القفال. وقيل: إن شرطه كانت من ضمان البائع قطعًا، لأن ما شرط قطعه فقبضه بالقطع والنقل، وقد تلف قبل القبض. انتهى. وما ذكره النووي في هذه المسألة مخالف لتصوير الرافعي، فإنه قال -أعني الرافعي-: والثانية: أن يعرض بعد التخلية فينظر: إن باعها بعد بدو الصلاح فقولان: الجديد: أنها من ضمان المشتري. ثم قال: وإن باع الثمار قبل بدو الصلاح بشرط القطع ولم يقطعها حتى أصابتها جائحة ففيها ثلاثة طرق: أظهرها: أنه على قولين. [والثاني] (¬1): أنها من ضمان المشتري قولًا واحدًا لتفريطه بترك القطع، ويحكي هذا عن القفال. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: أنها من ضمان البائع قولًا واحدًا، لأنه لما شرط القطع كان القبض فيه بالقطع والنقل، هذا كلام الرافعي بحروفه. وإذا تأملته علمت أن كلام "الروضة" عليه مناقشة من وجهين: أحدهما: حكايته للطرق في البيع بعد بدو الصلاح وإنما محلها في البيع قبله، وهكذا ذكره في "الشرح الصغير" أيضًا، وكذلك في "المحرر"، غير أنه مع شرط القطع لا يبقي فرق في المعنى بين ما قبل بدو الصلاح وما بعده. والوجه الثاني: إسقاط القسم الثاني من القسمين المذكورين في المسألة، وهو البيع قبل بدو الصلاح [وتعبيره في "الروضة" بقوله: فإن كان بعد بدو الصلاح] (¬1) يقتضي تقسيم المسألة إلى قسمين، مع أنه لم يذكر الثاني. واعلم أن محل القولين في ضمان الجوائح إنما هو عند بيع الثمار لغير مالك الشجر، فإن باعها له فهي من ضمان المشتري بلا خلاف لانقطاع العلائق كما ذكره في "الروضة" من زياداته. قوله: ولو غابت الثمار بعد القبض بالجوائح فلا خيار أيضًا على الجديد. انتهى ملخصا. وما ذكره هنا من عدم الخيار قد جزم بعكسه في "المحرر" فقال: وإن عرضت جائحة مهلكة كحر أو برد بعد التخلية، فالجديد أنها من ضمان المشتري، وإن تعيبت بها فله الخيار. هذا لفظه بحروفه. وقد غيره النووي في "المنهاج" فقال: ولو تعيبت بترك [البائع] (¬2) السقى فله الخيار. واعتذر في "الدقائق" عن تعبيره، وهو اختصار عجيب. قوله: وإذا ترك البائع السقى فتلفت الثمار بعد التخلية، فالأصح: القطع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، ب.

بالانفساخ، لاستناد هذه الآفة إلى ترك السقي المستحق بالعقد قبل التخلية. ثم قال: وما يستند إلى سبب سابق قبل القبض [قد] (¬1) ينزل منزلة ما لو سبق بنفسه كما ذكرنا في القتل بالردة السابقة، والقطع بالسرقة السابقة وموت العبد من المرض المتقدم على القبض. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن الصور التي استشهد بها يجب الضمان فيها على البائع مطلقًا، لكنه قد سبق في خيار النقص أن العبد إذا مات من المرض السابق فالأشهر: القطع بأنه من ضمن المشتري لأن المرض يتزايد. وأما القتل بالردة، والقطع بالسرقة فالأصح: التفصيل بين العلم والجهل، ولم يتعرض في "الروضة" في هذا الباب لهذه الصور، وذكرها الرافعي في "الشرح الصغير" في الموضعين كما ذكرها في "الكبير"، إلا المرتد فإنه جعله هناك من ضمان البائع، ولم يفصل. قوله: فرع: لو باع الثمار مع الأشجار فتلفت الثمار بجائحه قبل التخلية بطل العقد فيها، وفي الأشجار قولان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح في تلف بعض المعقود عليه قبل القبض هو طريقة القطع بعدم الانفساخ لا طريقة القولين كما تقدم إيضاحه في تفريق الصفقة. الثاني: أن النووي في "الروضة" عبر بقوله: وفي الأشجار القولان بزيادة (ال)، واقتضى كلامه عودهما إلى القولين في ضمان الجوائح فإنهما المقدمان على هذه المسألة لا غيرهما. وقد تكرر منه هنا الإحالة [عليهما] (¬2) وهو سهو فاعلمه. ¬

_ (¬1) في جـ: هل. (¬2) سقط من أ.

قوله: وإذا باع الثمرة [بعد] (¬1) بدو الصلاح وكان تلاحقها نادرًا، فاتفق أن تلاحقت [ولم تتميز أو كان الغالب تلاحقها فشرط القطع فلم يتفق حتى تلاحقت] (¬2) ففي انفساخ العقد قولان. أظهرهما على ما رواه المصنف: أنه لا ينفسخ لبقاء عين المبيع، بل [يثبت] (¬3) الخيار للمشتري لأنه أعظم من إباق العبد. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الأصح هو الانفساخ، فقد صححه الأكثرون منهم القاضى أبو الطيب في "التعليق"، والشيخ أبو إسحاق في "المهذب"، والغزالي في "البسيط"، والشاشي في "الحلية"، وابن أبي عصرون في "الانتصار"، وكذلك الأرغياني في "فتاوي النهاية" لكن فيما قبل القبض خاصة. وصححه أيضًا النووي في "شرح الوسيط" فقال: والأصح من القولين أنه ينفسخ العقد، وممن صححه صاحب "المهذب" وصاحب "الانتصار". هذا لفظ النووي. وأطلق الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير"، والنووي في "الروضة": التصحيح بأن العقد لا يبطل اعتمادًا على ما وقفا عليه من الترجيح المتقدم نقله عن "الوجيز" خاصة، ولهذا عبر الرافعي في الكتابين المذكورين باللفظ الذي عبر به في "الوجيز". الأمر الثاني: أن ثبوت الخيار للمشتري تفريعًا على عدم الانفساخ، ذكره الغزالي فمشي عليه الرافعي ومقتضاه أن له أن يبادر بالفسخ، والمنصوص عليه في "مختصر المزني" تفريعًا على هذا القول، وكذلك في كتب أكثر الأصحاب حتى في "التنبيه"، وأقره عليه النووي في "تصحيحه": أن البائع بالخيار إن سمح بحقه أقر العقد، وإلا فسخناه. ¬

_ (¬1) في جـ: قبل. (¬2) سقط من جـ. (¬3) سقط من جـ.

الأمر الثالث: إذا قلنا بثبوت الخيار للمشتري فمعناه أنه يرفع الأمر إلي الحاكم، ويكون الحاكم هو الذي يفسخ. هكذا صرح به جماعة منهم القاضي أبو الطيب في "التعليق" والماوردي في "الحاوي"، ونقله ابن الرفعة في "الكفاية" عنهما ولم يخالفهما، وهو متجه، فإن هذا الفسخ ليس [بالعيب] (¬1) بل لقطع المنازعة، وكلام الرافعي يوهم خلاف ذلك. فتفطن له. واستفدنا أيضًا من كونه لقطع المنازعة: أن لا يكون على الفور كالفسخ بعد التحالف. قوله: ويجري القولان فيما إذا باعه حنطة أو مائعًا فانصب عليه مثله قبل القبض، بخلاف اختلاط الثوب بمثله أو الشاة بمثلها، فإنه لا يبطل على المذهب كما قاله في "التتمة"، لأنه يورث الاشتباه وهو مانع بخلاف الإشاعة. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وهذا الذي ذكره في "التتمة" قد ذكر مثله في "البحر" وأطلق في "الروضة" تصحيحه أيضًا. قوله: ولو باع جزة من القصب بشرط القطع، ولم يقطعها حتى طالت، وتعذر التمييز جرى القولان، ومنهم من قطع بعدم الانفساخ هاهنا تشبيها لطولها بكبر الشجرة والثمرة وسمن الحيوان وهو ضعيف، لأن البائع مجبر على التسليم في الأشياء المذكورة بزياداتها، وهاهنا لا يجبر على تسليم ما زاد. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه في تضعيف هذه الطريقة من كونه لا يجبر على التسليم تابعه عليه في "الروضة"، وهو يقتضي اعتقاد أن هذا القائل يقول بذلك قطعًا، لكن في "الحاوي" للماوردي: الجزم بأن الزيادة عند هذا القائل [للمشتري] (¬2)، وعلله بأنها زيادة لا تتميز. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

[الخامس من كتاب البيع في مداينة العبيد والتخالف]

باب معاملات العبيد قوله: [يجوز للسيد أن يأذن لعبده في التجارة إلى آخره. قيده الشيخ في "التنبيه" والجرجاني في "التحرير" و"الشافي" بما إذا كان العبد رشيدًا، وسبقهما إليه الماوردي فقال: يشترط أن يصح تصرفه لنفسه لو كان حرًا. ومقتضى ما ذكروه: اشتراط ذلك أيضًا عند شرائه لنفسه، وكتابته عليها وإنجازه وغير ذلك. وفيه نظر. قوله: ] (¬1) ومنها العبد المأذون لا ينعزل بالإباق، بل له التصرف في البلد الذي خرج إليه إلا إذا خص السيد الإذن بهذا البلد. وقال أبو حنيفة: يصير محجورًا عليه. ثم قال: ولو أذن لجاريته في التجارة، ثم استولدها ففيه هذا الخلاف. انتهى كلامه. واعلم أن نسخ الرافعي مختلفة في مسألة الاستيلاد، ففي بعضها التعبير بقوله: ففيه هذا الخلاف كما تقدم. وأشار إلى الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة، [وعلى هذه النسخة فلا ينعزل عندنا، وينعزل عند أبي حنيفة] (¬2)، وفي بعضها التعبير بقوله: ففي هذا اختلاف، وعلى هذا فلا تصحيح في هذه المسألة في الكتاب. وقد اختصر في "الروضة" هذا الموضع فقال: ولو أذن لأمته ثم استولدها لم تنعزل على الصحيح، وهذا الاختصار غير مطابق له. أما على النسخة الأولى: فلا خلاف عندنا، وأما على الثانية: فلا تصحيح. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من جـ.

ولم يذكر المسألة في "الشرح الصغير"، والأقرب ما في النسخة الأولى لبعد ثبوت الخلاف في هذه المسألة لأنه يبعد أن يقع من مصنف لكتاب مبسوط متأخر محرر لاسيما الرافعي، والاستقراء أن يذكر خلافًا في فرع من الفروع النظرية من غير ذكر ترجيح ما، ولا تعليل لشيء من ذلك الخلاف ولا بيان أن الخلاف عند العلماء أو عندنا، وهل هو وجهان أو قولان؟ فظهر بذلك صحة النسخة الأولى، وحينئذ فيكون الحكم هو الجزم بالصحة في هذه المسألة، وقد جزم به صاحب "التتمة" و"التهذيب" وغيرهما. قوله: ومنها: إذا ركبته الديون لم يزل ملك سيده عما في يده، فلو تصرف فيه ببيع أو هبة أو إعتاق بإذن المأذون والغرماء جاز، ويكون الدين في ذمة العبد، وإن أذن العبد دون الغرماء لم يجز، وإن أذن الغرماء دون العبد فوجهان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه قد سوى في النكاح في باب المولى عليه بين إذن الغرماء دون العبد وبين العكس، وحكى في المسألتين وجهين، على عكس ما جزم به هاهنا من المخالفة. الأمر الثاني: أن الصحيح من هذين الوجهين في ما عدا العتق هو عدم الصحة، كذا ذكره الرافعي في النكاح أيضًا في الموضع المذكور، وصححه في "الروضة" هنا من "زياداته" في الجميع. ولنذكر ما قاله الرافعي هناك لتعرف عبارته في الأمرين فقال: وإن كان عليه دين، فإن زوجها السيد بإذن العبد [والغرماء صح، لأن الحق لا يعدوهم، وإن زوجها بإذن العبد] (¬1) دون الغرماء أو بإذن الغرماء دون العبد لم يصح على أظهر الوجهين. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

ثم قال: وبيع السيد وهبته ووطؤه هذه الجارية كالتزويج في حال قيام الدين وعدمه. الثالث: أن ما ذكره في العتق هنا قد ذكر فيه ما يخالفه في النكاح في الموضع المذكور فقال: ولو أعتق عبدًا لمأذون وعلى المأذون دين، أو أعتق الوارث عبدًا من التركة وعلى المورث دين، قال صاحب "التهذيب": قيل في نفوذ العتق [قولان] (¬1) كما في إعتاق المرهون. والمذهب أنه إن كان معسرًا لم ينفذ العتق، وإن كان موسرًا نفذ. انتهى. وهذا التفصيل الذي ذكره [فيه وهو الفرق بين الموسر والمعسر وتابعه عليه في "الروضة" لم يذكره في هذا الباب بالكلية، والذي ذكره هنا إنما يستقيم في المعسر، ثم إن الذي ذكره] (¬2) في النكاح إنما يصح إذا كان بغير إذن فاعلمه. قوله: وإقرار المأذون بدين المعاملة مقبول سواء أقر لأبيه وابنه أو لأجنبي. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، وفيه أمران ذكرهما الرافعي في أوائل كتاب الإقرار، وفيهما شرح لهذا الكلام فقال: إذا أقر المديون بدين لا يتعلق بالتجارة كالقرض ونحوه تعلق بذمته، ولو أطلق ولم يبين الجهة لم ينزل على دين المعاملة على أصح الوجهين لاحتمال أنه إتلاف. ولو أقر بعد الحجر بدين معاملة أضافه إلى حال الإذن، لم تقبل إضافته على الأصح. قوله: فإذا باع المأذون سلعة وقبض الثمن فاستحقت السلعة، وقد تلف الثمن في يد العبد فللمشتري الرجوع ببدله على العبد، لأنه المباشر للعقد. وفي وجه لا رجوع عليه، وفي مطالبة السيد ثلاثة أوجه رتبها الإمام: ¬

_ (¬1) في جـ: وجهان. (¬2) سقط من جـ.

أصحها: أنه يطالب أيضًا، لأن العقد له. والثاني: لا. والثالث: إن كان في يد العبد وفاء فلا يطالب وإلا طولب. ثم قال: ولو اشترى المأذون شيئًا للتجارة، ففي مطالبة السيد بالثمن الأوجه. انتهى. وهو صريح في أن ديون معاملات العبد تجب على السيد، ويؤمر بقضائها. إذا علمت ذلك فقد ذكر بعد ذلك بدون ورقة ما يخالفه فقال: ولا تتعلق ديون معاملة العبد برقبته ولا بذمة السيد. انتهى. وهو غريب جدًا، ولا يستقيم أن يجمع بينهما بأن يقال: لا شيء في ذمته، لكن يطالب ليؤدي من أموال التجارة عنه، لأن أحد الأوجه أنه إن كان في يد العبد وفاء لم يطالب وإلا طولب. وقد وقع هذا الاختلاف في "الشرح الصغير" و"المحرر" و"المنهاج" ووقع أيضًا في "الروضة" على وجه أشد مما وقع في الشرح، فإنه ادعى نفي الخلاف في الموضع الثاني فقال: ولا بذمة السيد قطعًا. قوله في المسألة: والوجه الأول والثاني جاريان في عامل القراض مع رب المال لتنزيل رب المال منزلة العمرة على المال المعين. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي ذكره الرافعي -رحمه الله- تعليل للوجه الثاني، وكأنه ترك تعليل الأول لوضوحه. قوله: ولو اشترى بألف في الذمة، فتلفت الألف قبل أن ينفذها ففي انفساخ العقد وجهان: أصحهما: أنه لا ينفسخ، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه يجب على السيد ألف آخر، لأن العقد وقع له.

والثاني: لا يلزمه، ولكنه إن أخرج ألفا آخر مضى العقد، وإلا فللبائع الفسخ. ويشبه أن يكون هذا أظهر. انتهى ملخصًا. وهذا الوجه الذي رجحه الرافعي بحثًا، قد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، وكذلك النووي في أصل "الروضة" فقال: إنه الأصح. وتصحيح هذا الوجه منهما لا يوافق ما ذكراه في القاعدة المتقدمة، وهي لزوم دين معاملة العبد للسيد، فإنا إن قلنا بلزومه عليه لزم إيجاب الألف هنا، وأن يكون العقد باقيًا. وإن قلنا بعدم اللزوم، لزم الانفساخ فالتخيير لا يوافق تلك القاعدة، والموافق للأصح منها: هو لزوم الألف. لا جرم أن الإمام لما ذكر الخلاف في لزوم دين المعاملة على السيد، وصحح قول اللزوم، وعلله بما علله الرافعي، ثم ذكر هذه المسألة صحح أن العقد باقٍ، ويلزم السيد ألف أخرى. وأيضًا فإن التلف هنا هو نظير التلف في يد الوكيل وعامل القراض. ولما ذكر مسألة القراض في بابها لم يحكِ فيها الوجه الذي رجحه في هذه المسألة فضلًا عن ترجيحه، ولم يرجح فيها أيضًا شيئًا. وأما مسألة الوكيل فحكاه وفيها غير أنه لم يصرح فيها بتصحيح، وتابعه في "الروضة" على ذلك كله، غير أنه صحح في "تصحيح التنبيه" في مسألة القراض انقلاب العقد إلى العامل، وهو أقرب من تصحيح التخيير. قوله: وهل تتعلق ديون التجارة بما يكسبه بعد الحجر؟ فيه وجهان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه لا تتعلق به. انتهى.

وما قاله البغوي هو الصحيح، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله من "زياداته": قال في "التهذيب": لو جنى على المأذون، أو كلانت أمة فوطئت بشبهة، لا تقضي ديون التجارة من الأرش والمهر. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من عدم التعلق بالمهر، وجزم به ولم يذكر في الباب خلافه، قد جزم بعكسه في كتاب النكاح في باب المولى عليه في الكلام على الولاية على الرقيق، وهو من زوائده أيضًا، وستعرف لفظه في موضعه فراجعه. قوله أيضًا من "زياداته": ولو [اشترى] (¬1) المأذون من يعتق على سيده بغير إذنه لم يصح على الأظهر. فإن قلنا: يصح، ولم يكن على المأذون دين عتق على المولى، وإن كان فقي عتقه قولان كما لو اشترى بإذن المولى، وإن اشترى بإذنه صح، فإن لم يكن على المأذون دين عتق وإلا فقولان: أحدهما: لا يعتق. والثاني: يعتق ويغرم قيمته للغرماء. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه الزيادة جميعها قد ذكره [الرافعي في الباب الثاني من أبواب القراض وذكرها] (¬2) في "الروضة" أيضًا تبعًا له. الثاني: أن النووي في "تصحيح التنبيه" قد صحح من القولين في ما ¬

_ (¬1) في أ: ابتدأ. (¬2) سقط من أ.

إذا اشترى بإذن السيد، وكان عليه دين أنه لا يعتق. ونقل ابن الرفعة في باب القراض من "المطلب" عن الأصحاب: أنه كالراهن فقال: نعم قالوا: إن كان عليه دين ففي عتقه عليه الخلاف في عتق الراهن، وأجروه فيما إذا باشر السيد عتق عبد اشتراه المأذون للتجارة، وقد ركبته الديون. هذا كلامه. وأشار إليه الرافعي أيضًا في باب القراض، فإنه شبهه بالمرهون، وحينئذ فيكون الصحيح: التفصيل بين الموسر وغيره، ولا يتجه غيره، هذا كله إذا اشتراه بالإذن. فإن اشتراه بغير الإذن، وكان عليه دين ففي العتق أيضًا قولان. لكن هل هما مخرجان على القولين فيما إذا وقع الشراء بالإذن حتى يكون الصحيح الذي في إحداهما تصحيحًا في الأخرى أو مرتبان وأولى بالبطلان؟ ، اختلف فيه كلام "الروضة"، فالمذكور في هذا الباب كما تقدم نقله عنه هو التخريج، وفي باب القراض هو الترتيب. وينبني على هذا الاختلاف ما إذا قلنا بالترجيح المستفاد من كلام الرافعي و"المطلب"، وهو إلحاقه بالمرهون فكان السيد في مسألتنا وهو الشراء بغير الإذن موسرًا. فعلى المذكور في "الروضة" هنا يستفاد [تصحيح الإعتاق، وعلى المذكور هناك لا يستفاد] (¬1). واعلم أن شراء القريب بإذن السيد بمنزلة إعتاق السيد، وقد تقدم في أول الباب أنه يفصل فيه بين الموسر والمعسر. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: فرع: لو أذن لعبده في التجارة مطلقًا ولم يعين مالًا، فعن أبي طاهر الزيادي: أنه لا يصح هذا الإذن، وعن غيره: أنه يصح، وله التصرف في أنواع الأموال. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، ولا تعرض لها في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير". فمراد الرافعي بقوله: (ولم يعين مالًا) أي نوعًا من المال يتجر منه. قوله: وأصح الوجهين: أنه لا يصح شراؤه دون إذن السيد، لأنه لو صح، فإن أثبتنا الملك له فليس أهلًا لذلك، وإن أثبتناه للسيد بعوض عليه فهو لم يرض به، وإن كان بعوض على العبد فيلزم حصول أحد العوضين لغير من يلزمه مقابله. انتهى ملخصًا. وما صححه الرافعي في هذه المسألة سبقه إليه الإمام والمتولي، وهو مخالف للجمهور. فإن الماوردي والقاضي أبا الطيب قد صرحا بأن الجمهور على الصحة. وما ذكره في دليل [المنع] (¬1) فهو منقوض بالمأذون، فإنهم اتفقوا على أن ما اشتراه يكون ملكًا للسيد مع اختلافهم في من يكون الثمن في ذمته. قوله من "زياداته": ولا يحل للمكاتب التسري بغير إذن سيده، وبإذنه قولان كتبرعه. انتهى. وهذا الكلام يشعر برجحان الجواز، لأنه الصحيح في التبرع بالإذن، لكن الصحيح منع التسري، وسيأتي بسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في أ: القطع.

باب اختلاف المتبايعين

باب اختلاف المتبايعين قوله: مثل أن يختلفا في قدر الثمن فيقول البائع: بعتك هذا بمائة، ويقول المشتري: بخمسين، فينظر: إن كان لأحدهما بينة قضى بها، فإن أقام كل واحد منهما بينة على ما يقوله سمعتا. ثم إن قلنا بالتساقط فكأن لا بينة وإلا توقفنا إلى ظهور الحال. وإن لم يكن لواحد منهما بينة فيتحالفان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل ما ذكره تفريعًا على عدم التساقط وهو [قول] (¬1) الاستعمال مجيء قول الوقف دون قول القرعة والقسمة. وما ذكره هنا مخالف لما ذكره في كتاب الدعاوى والبينات في أثناء الركن الخامس المعقود للبينة، فإنه قال: إن قول القرعة يأتى هنا خلافًا لابن سلمة، وأن قول القسمة والتوقف لا يأتيان على المشهور، فلم يوافق ما ذكره هاهنا إلا في أن قول القسمة لا يأتي. وأما القولان الآخران فذكر كلًا منهما على العكس مما هنا، أما الوقف فبعدم إتيانه، وأما القرعة فبإتيانها، غير أنه مثل هناك بالاختلاف في الإجارة، وسأذكره في موضعه فراجعه. وحكى عن ابن سريج: تقديم بينة مدعى الزيادة. [الأمر الثاني] (¬2): إن الرافعي -رحمه الله- إنما مثل هنا بالمثال المذكور للإشارة إلى أن شرط التحالف أن يكون ما يدعيه البائع أكثر. وقد صرح الرافعي به في الاختلاف في الصداق فقال: وإنما يحسن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: قوله.

وضع المسألة إذا كان ما تدعيه المرأة أكثر. قوله: ولو قال البائع: بعتك العبد، فقال: [بل] (¬1) الجارية ولم يختلفا في الثمن: نظر، إن كان الثمن معينًا تحالفا كما لو اختلفا في جنس الثمن، وإن كان في الذمة فوجهان: أحدهما: يتحالفان، قاله ابن الحداد واختاره القاضى أبو الطيب وابن الصباغ. والثاني: لا، قاله الشيخ أبو حامد واختاره الإمام وصاحب "التهذيب". ونظير المسألة اختلاف الزوجين في أنه أصدقها أباها أو أمها. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وفيه أمور: أحدها: أن الرافعي لم يذكر قسيم قوله: (ولم يختلفا في الثمن) وكان ينبغي أن يقول: فإن اختلفا كان حكمه كذا، ولا يغني عنه ما ذكره هو وغيره من أن الاختلاف في قدر الثمن يوجب التحالف، فإن الصورة المطلوبة أن يختلفا فيه مع الاختلاف في عين المبيع. ولم يذكر الشيخ في "المهذب" و"التنبيه" هذا القيد. [الأمر الثاني] (¬2): أن الأصح من الخلاف عدم التحالف، فقد نص عليه الشافعي في "البويطي" في باب السلم، فقال بعد أن ذكر التحالف في السلم ما نصه: فإن ادعى أحدهما أن البيع إنما كان بشيء وخالفه الآخر، مثل قوله: اسلفني درهمًا في كذا، وقال هذا: بل دينار، فالقول قول البائع مع يمينه. ويفسخ السلم لأنهما لم يجتمعا على أصل واحد. هذا لفظه بحروفه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: قوله.

وصحح الرافعي في "الشرح الصغير" هنا التحالف، وعبر بالأظهر، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة" في الباب الخامس من كتاب الصداق، فإنه صحح التحالف في المسألة المتقدمة، وهي ما إذا قال الزوج: أصدقتك أباك، فقالت: بل أمي. وهذا الخلاف هو الخلاف في مسألتنا بعينه، صرح به الرافعي هناك، وكلامه أيضًا هنا يشعر به، لكنه لم يصرح بتصحيح، بل التصحيح من تصرف النووي. الثالث: أن المنقول عن ابن الحداد إنما هو التحالف في مسألة الصداق، كما نقله عنه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، ولم يتكلم في مسألة البيع، قال في "الكفاية": ومسألة الصداق المذكورة العوضان فيها معينان، فيصح فيها التحالف قطعا كما لو كان الثمن معينًا، وردد في "المطلب" فقال: إما أن يقطع فيها بالتحالف نظرًا لما ذكرناه، أو يقطع بعدمه نظرًا إلى أن الصداق عقد مستقل لكون النكاح لا يفسد بفساده، فلا تحالف جزمًا، فليست نظير مسألة البيع أصلًا حتى يكون قول ابن الحداد بالجواز في هذه يلزم منه الجواز في تلك. الرابع: أن ما نقله عن الإمام أيضًا من المنع ليس في كلامه ما يقتضيه، بل كلامه يؤخذ منه الجواز، لأنه قال: إن الخلاف يلتفت إلى ما لو أقر بألف عن ضمان فقال: المقر له عن جهة أخرى. والأصح في إقرار عبده اللزوم، ولم يتعرض لهذه المسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج". قوله: ولو ادعى صحة العقد والآخر فساده فوجهان: أصحهما عند صاحب "التهذيب": تصديق مدعي الفساد، وأصحهما عند الغزالي، وهو اختيار الشيخ أبى حامد وابن الصباغ: تصديق مدعي

الصحة، لأن الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين صحتها. وأيضًا فلو قال: هذا الذي بعتنيه حر الأصل. وقال البائع: بل هو مملوك، فالقول قول البائع. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من رجحان الثاني، قد صرح به في "المحرر"، وعبر بالأصح، وصححه أيضًا النووي وغيره. ويستثنى من هذه القاعدة مسائل، منها: إذا باع ذراعًا من أرض وهما يعلمان ذرعانها، [فادعى البائع] (¬1) أنه أراد ذراعًا معينًا حتى لا يصح العقد، وادعى المشتري الشيوع حتى يصح ويكون كأنه باعه العشر مثلًا على تقدير أن يكون ذرعها عشرة، ففي المصدق منهما احتمالان ذكرهما الرافعي من غير ترجيح. والأرجح منهما على ما قاله في "الروضة" من "زياداته": تصديق البائع فيفسد. ومنها: لو اختلفا في أن الصلح وقع على الإنكار أو الاعتراف، فإن القول قول مدعي الإنكار حتى يفسد كما ستعرفه في كتاب الصلح فراجعه. ومنها: لو قال السيد: كاتبتك وأنا مجنون أو محجور عليّ، [وقال] (¬2) العبد كنت في حال الكمال، وعرف للسيد جنون أو حجر كان هو المصدق. كذا جزم به الرافعي في الكتابة في أثناء الحكم الثاني. الأمر الثاني: أن استدلاله بما إذا اختلفا في أن المبيع حر أم رقيق؟ يقتضي الاتفاق عليه، لكنه قد ذكر بعد ذلك بنحو ورقة: أنه لو كان في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

يده عصير فوجدناه خمرًا بعد البيع، فقال المشتري: كان عند الشراء خمرًا، وأنكر البائع، كان على الخلاف في مدعي الصحة والفساد. قوله: ولو رد المسلم فيه على المسلم إليه بعيب، فقال المسلم إليه: [ليس] (¬1) هذا هو الذي قبضته مني، فالأصح أن القول قول المسلم لأن اشتغال ذمة المسلم إليه معلوم، والبراءة غير معلومة. والوجهان جاريان في الثمن في الذمة. ثم قال بعد ذلك: ولك أن تقول: الفارق بين الثمن والمسلم فيه ظاهر، فإن الاعتياض عن المسلم فيه غير جائز، وفي الثمن [لو رضي] (¬2) بالمقبوض لوقع عن الاستحقاق، وإن لم يكن من جنسه متى كانت له قيمة لأن الاستبدال عن الثمن جائز. انتهى. ولك أن تقول: الاستبدال لابد فيه من لفظ يدل عليه، إما بالصريح أو بالكناية كسائر العقود، فكيف يكتفي بمجرد الرضا؟ قوله: ولو اشترى طعامًا كيلًا وقبضه بالكيل، أو وزنًا وقبضه بالوزن أو أسلم فيه وقبضه، ثم جاء وادعي نقصانًا فيه، نظر: إن كان قدرًا يقع مثله في الكيل والوزن قبل، وإلا فقولان. . . . إلى آخره. هذه المسألة سبق الكلام عليها في الكلام على حكم المبيع قبل القبض فلتراجع. قوله: ولو باعه عصيرًا وسلمه إليه فوجده خمرًا، فقال البائع: تخمر في يدك، وأنكر المشتري، فأيهما يصدق؟ فيه قولان. انتهى ملخصًا. والأظهر: تصديق البائع، كذا صححه في "الروضة" من "زياداته"، ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

وفي "تصحيح التنبيه". قوله: ولو قال المشتري: بعت العبد بشرط أنه كاتب، وأنكر البائع فوجهان: أحدهما: أن القول قول البائع، كما لو اختلفا في العيب. والثاني: أنهما يتحالفان، قاله في "التتمة" وهذا أصح. انتهى كلامه. والأصح ما قاله صاحب "التتمة"، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ويبدأ في التحالف بالبائع، وفي قول بالمشتري. ثم قال: وتقديم أحد الجانبين مخصوص بما إذا باع عرضًا بثمن في الذمة. فأما إذا تبادلا عرضًا بعرض، فلا يتجه إلا التسوية على ما ذكر الإمام، وينبغي أن يخرج ذلك على أن الثمن ما أدى. انتهى كلامه. وهذا التخريج ليس بلازم، قال في "المطلب": لأن مأخذ البداءة قوة جانب على جانب، كما ذكروه في تعليل الأقوال، وذلك مفقود هاهنا. قوله: ظاهر نص الشافعي - رضي الله عنه - الاكتفاء بيمين واحدة من كل واحد من المتعاقدين يجمع فيها بين النفي والإثبات، فيقول البائع: ما بعته [بخمسمائة] (¬1)، وإنما بعته بألف، ويقول المشتري: ما اشتريته بألف، وإنما اشتريته بخمسمائة. انتهى. تابعه في "الروضة" على الإثبات بصيغة إنما، وهو المذكور أيضًا في "المحرر"، وهذه اللفظة لا حاجة إليها. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قوله: ولو عرض اليمين عليهما فنكلا جميعًا ففيه وجهان للإمام: أحدهما: أن تناكلهما كتحالفهما. والثاني: أنه يوقف الأمر، وكأنهما تركا الخصومة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة قد صرح بها الماوردي في "الحاوي"، وجزم بالاحتمال الثاني وهو التوقف، ونقله الإمام في آخر كلامه عن بعض المتقدمين بعد أن ذكر أن أئمة المذهب لم يتعرضوا للمسألة، وصححه النووي في "الروضة" من زياداته، وخالف الغزالي في "البسيط" فقال: له حكم التحالف على [الظاهر] (¬1). الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي بقوله: فيه وجهان للإمام -يستفاد منه: أنهما احتمالان له، وأن الرافعي يرى أن احتمالات الإمام وجوهًا، وقد صرح بذلك في مواضع كثيرة. ولما اختصر النووي في "الروضة" كلام الرافعي أطلق حكاية وجهين في المسألة، ولم يعزهما إلى الإمام كما عزاه الرافعي، ثم استدرك عليه فقال من "زياداته": هذان الوجهان ذكرهما الإمام احتمالين لنفسه، وإطلاقه أنهما وجهان، ثم استدراكه بأنهما احتمالان غريب. قوله: ومن الذي يفسخه؟ فيه وجهان: أحدهما: الحاكم، كالفسخ بالعنة لأنه فسخ مجتهد فيه. وأظهرهما: أن للمتعاقدين أيضًا أن يفسخا، ولأحدهما أن ينفرد به كالفسخ بالعيب. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: ¬

_ (¬1) في ب: الأظهر.

أحدها: أن ما ذكره في الفسخ بالعنة من تعين الحاكم فيه مناقض لما ذكره في كتاب النكاح، فإنه صحح جواز انفراد المرأة بالفسخ بعد ثبوتها بين يدي الحاكم، وسأذكر لفظه في موضعه. وحذف التعليل من "الروضة" فسلم من الاختلاف. الثاني: أن حكاية الخلاف في جواز الفسخ لأحدهما واضحة. وأما بالنسبة إليهما معًا فسهو، لأن المتعاقدين يجوز لهما الفسخ بلا سبب، بلا خلاف، فما ظنك عند وقوع الاختلاف. وقد صرح بالمسألة في الكلام على الإقالة، وهو في أثناء خيار النقض فقال: إنه يجوز لهما رفع العقد، بلفظ الفسخ، ولم يحك فيه خلافًا، ونقله هو في هذا الباب بعد هذا بقليل، وقال: إنه لا شك فيه، والموقع في هذا الوهم لمن وقع فيه أن بعض الأصحاب عبر بقوله: لأحدهما، وبعضهم عبر بقوله: لهما، وهو يريد ما أراده الأول -أي كل منهما على البدل- فجمع بينهما. فتلخص أن الخلاف إنما هو بالنسبة إلى أحدهما خاصة. الأمر الثالث: أن ما صححه من جواز الفسخ لأحدهما قد سبقه إلى تصحيحه الغزالي والجرجاني. وأما الأول فصححه الأكثرون، منهم القاضي حسين والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والروياني والشاشي في "الحلية" والهروي في "الإشراف" والغزالي في "الخلاصة" وابن أبي عصرون. قوله: قال الإمام: وإذا قلنا: الحاكم هو الذي يفسخ فذاك إذا استمرا على النزاع، ولم يفسخا أو التمسا الفسخ. أما إذا أعرضا عن الخصومة، ولم يتفقا على شيء ولا فسخا ففيه تردد. انتهى.

تابعه في "الروضة" على حكاية هذا التردد، وهو يقتضي أنهما لم يقفا في المسألة على نقل، وقد رأيت المسألة مصرحًا بها في تعليقة القاضي الحسين، وجزم بأنه ليس للقاضي أن يفسخ العقد بينهما. قوله في أصل "الروضة": ثم إذا فسخ العقد ارتفع في الظاهر، وهل يرتفع في الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان البائع صادقًا فنعم لتعذر وصوله إلى حقه، وإن كان كاذبًا فلا. ثم قال: وقال الإمام: إن صدر الفسخ من المحق فالوجه تنفيذه باطنًا، وإن صدر من المبطل [فالوجه منعه باطنًا، وإن صدر منهما فلا شك في الانفساخ باطنًا، وليس ذلك موضع الخلاف ويكون ذلك كما لو تقايلا، وإذا صدر من المبطل] (¬1) ولم ينفذه باطنًا، فطريق الصادق إنشاء الفسخ إن أراد الملك فيما عاد إليه، وإن صدر من القاضي فالظاهر الانفساخ باطنًا لينتفع به المحق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره صريح في أن القياس على الإقالة من كلام الإمام، وكذلك ما بعده أيضًا، وهو خلاف ما في الرافعي، فإنه قد صرح بنقله عن "الوسيط"، وعطف ما بعده عليه، وكذلك هو في "الوسيط". الثاني: أن ما ذكره الغزالي من القياس على الإقالة، ونقله عنه الرافعي مرتضيًا له، وجزم بصحته النووي ليس بقياس صحيح، فإن كلًا من المتبايعين لو قال بعد صدور البيع: فسخت البيع، لم ينفسخ البيع، ولم يجعله إقالة اتفاقًا، سواء قال ذلك بحضرة صاحبه أو في غيبته. وإنما تقع الإقالة، ويحصل الفسخ بها إذا صدرت بالإيجاب والقبول ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بشرطهما المعتبر، وهو أن يكون الثاني جوابًا للأول، وأن يقع على الفور وأن لا يفصل بكلام، وقد يتلفظ كل منهما بذلك بدون شيء من هذه الشرائط. قوله: وإذا انفسخ البيع بالتحالف، أو فسخ فعلى المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، وقيمته إن كان تالفًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن إيجاب القيمة محله إذا كان المبيع متقومًا، فإن كان مثليًا فإنه يأتي فيه ما سبق في البيع الفاسد، والأصح فيه المثل كما سبق. الأمر الثاني: أنه قد ذكر بعد ذلك أنه لا فرق في التلف بين الحسي والشرعي كالبيع والاعتاق وغيرهما. إذا علمت ذلك فقد ذكر في "الروضة" من "زياداته" في الكلام على الإقالة، وهو في أثناء خيار النقض عن القفال في شرحه "للتلخيص": أنهما لو تقايلا ثم اختلفا في الثمن ففيه ثلاثة أوجه، سواء قلنا: الإقالة بيع أو فسخ: أصحها: أن القول قول البائع. والثاني: قول المشتري. والثالث: يتحالفان، وتبطل الإقالة. انتهى. وقد تقدم الكلام على هذه المسألة هناك فراجعه. قوله: وفي القيمة المعتبرة وجوه، وقال الإمام أقوال: أصحها: أن الاعتبار بقيمة يوم التلف. انتهى. وما رجحه هاهنا من كون الخلاف وجوهًا، قد جزم بخلافه في "المحرر" فقال: والاعتبار بقيمة يوم التلف على أصح الأقوال. هذا لفظه.

وتبعه في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. قوله: وإن أجره بني على جواز بيع المستأجر، [إن منعناه فهو كما لو رهنه، وإلا فللبائع أخذه، وإن كان أجره للبائع فله أخذه لا محالة. انتهى. عبر في "الروضة" بقوله: قطعًا وهو بناء منهما على زعمهما أن البيع من البائع لا خلاف في صحته، وليس كذلك كما ستعرفه في الإجارة. قوله: وإذا أخذ قيمة الآبق للحيلولة ثم عاد فأصح الوجهين: أنه يرده ويسترد القيمة: وأما المرهون فالأصح، القطع بأنه لا يرد، وقيل: على الوجهين، ثم قال: وأما المستأجر] (¬1) فإن منعنا بيعه فهل هو كالمرهون أم كالإباق؟ فيه احتمالان للإمام. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، وهو يدل على أنهما لم يظفرا بالمسألة، وقد صرح بها القاضي الحسين في "تعليقه" وألحقها بالآبق. وأيضًا فإن الإمام نفسه قد رجح ذلك، فإنه بعد ذكره لهذا التردد قال: الأظهر أنه كالآبق. قوله: ثم إذا انفسخ العقد ارتفع في الظاهر، وفي الباطن ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان البائع صادقًا ارتفع، وإلا فلا. ثم قال: واعلم أن جميع ما ذكرناه مفرغ في قالب واحد، وهو أن يكون اختلافهما في قدر الثمن. . . . إلى آخره. القالب بفتح اللام، ومراده بهذا الكلام، أن جميع ما تقدم من الخلاف يأتي حيث اختلفا في قدر الثمن، هذا ما ظهر لي من مراده، وإن كان مثل هذا الكلام لا يستعمل لإرادة هذا المعنى، لاسيما أن الكلام والمثال إنما هو في هذه الصورة، فلم نستفد منه شيئًا آخر. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو جرى العقد بين وكيلين ففي تحالفهما وجهان. وجه المنع: أن فائدة اليمين الإقرار، وإقرار الوكيل لا يقبل. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة ذكرها الرافعي في الباب السادس من أبواب الصداق، واقتضى كلامه أن الأصح هو التحالف، فإنه ذكر فيما إذا اختلف الزوج وولي الصغيرة أو المجنونة، أن الأصح عند الأصحاب: هو التحالف. ثم قال: وهذا الخلاف يجري في وكيل البائع ووكيل المشتري، وفي وكيل أحدهما مع الآخر، وفي المسألة كلام آخر نذكره في الدعاوي إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر من "زياداته" هنا: أنه ينبغي أن يكون الأصح هو التحالف. قال: وفائدته الفسخ، أو إن نكل أحدهما فيحلف الآخر، ويقضي له إذا قلنا: حلفه مع النكول كالبينة، وما قاله من القضاء للآخر إذا حلف بعد نكول خصمه ليس كذلك فاعلمه، فإن الصحيح المذكور في الدعاوي: أن الحكم لا يتعدى إلى ثالث إذا جعلنا النكول، ورد اليمين كالبينة. وما قاله هنا هو الوجه المرجوح في بابه حتى نقل -أعني الرافعي- في آخر الشركة اتفاق الأئمة على ضعفه. قوله من "زوائده": ولو باع شيئا ومات، فظهر أن المبيع كان لابن الميت، فقال المشتري: باعه عليك أبوك في صغرك لحاجة، وصدقه الابن أن الأب باعه في صغره، لكن قال: لم يبعه عليّ بل باعه لنفسه متعديًا. قال الغزالي في "الفتاوي": فالقول قول المشتري، لأن الأب نائب الشرع، فلا يفهم إلا لحجة. انتهى كلامه.

باب السلم

هذه المسألة ذكرها الرافعي في أواخر باب الحجر وحكى فيها خلافًا، وصحح ما نقله هنا عن الغزالي، [وسيأتي] (¬1) في أصل "الروضة" هناك. باب السلم قوله: ذكروا في تفسير السلم عبارات متقاربة، منها: أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلًا. . . . إلى آخره. هذه العبارة قد اختارها النووي في "لغات التنبيه" فقال: إنها أحسن العبارات، ويرد عليها وما بعدها أمران: أحدهما: ما إذا وقع بلفظ البيع أو بلفظ الشراء، ولم يقع بعده لفظ السلم، فإنه لا ينعقد سلمًا على الأصح، بل بيعًا كما ذكره هو بعد ذلك، وسنذكره واضحًا. الثاني: أن إعطاءه عاجلًا شرط من شروط الصحة، وليس داخلًا في حقيقة السلم. لا جرم لم يذكر هذه الزيادة في "المحرر"، بل قال: هو بيع موصوف في الذمة، لكن يرد على هذا التعبير ما إذا عقد بلفظ البيع، فإنه ليس بسلم على الصحيح، بل يكون بيعًا. قوله: ويجوز أن يجعل رأس المال منفعة دار أو عبد مدة معلومة، ويسلمها بتسليم العين، انتهى كلامه. هذه المسألة أسقطها النووي فلم يذكرها في "الروضة" هاهنا. قال ابن الرفعة: وإنما قلنا: يحصل التسليم بالعين، لأنه لما تعذر القبض الحقيقي اكتفينا بهذه لأنه الممكن. قلت: وفيه نظر لأن المعتبر في هذا الباب، إنما هو القبض الحقيقي، ولهذا لا تكفي الحوالة كما قاله الرافعي هاهنا، ولا الإبراء كما قاله في باب ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الإجارة وهكذا الحكم في الربا أيضًا. ولو كانت المنفعة متعلقة ببدنه، كما لو جعل رأس المال تعليم سورة أو خدمة شهر وسلم نفسه، فإن أخرج نفسه بعد ذلك من التسليم كما هو الغالب لم يكف بخلاف الدار والعبد، لأنهما مال فيمكن الحكم باستدامة اليد الشرعية عليهما، والحر لا يدخل تحت اليد المتصلة، فكيف في حال الانقطاع، وإن لم يخرج نفسه ففيه نظر لما ذكرناه. والمتجه: الجواز لأن الأجرة تستقر بذلك، وكلام "المنهاج" يقتضي الاكتفاء مطلقًا، فإنه عبر بقوله: ويجوز كونه منفعة، ويقبض بقبض العين. هذه عبارته، والقياس ما ذكرناه. قوله: ولو قبض رأس المال، ثم رده إلى المسلم عن دين، قال أبو العباس الروياني: لا يصح، لأنه تصرف قبل انبرام ملكه، فإذا تفرقا فعن بعض الأصحاب: أنه يصح السلم لحصول القبض، وإلزام الملك، ويستأنف إقباضه للدين. انتهى. والصحيح في هذه المسألة: صحة إقباضه عن الدين، وأن العقد يلزم فافهمه، وذلك لأن التصرف قبل انبرام الملك أي في مدة [خيار البائع، وإنما يمتنع إذا كان مع غير البائع لأن صحته تقتضي اسقاط ما ثبت له من] (¬1) الخيار. فأما إذا كان معه فالأصح فيه الصحة، ويكون ذلك إجازة منهما. كذا ذكره الرافعي في الكلام على الخيار، وفي باب الربا. وحينئذ فيكون إقباضه له عن الدين صحيحًا وإلزامًا للعقد فاعلمه. وسكوت الرافعي والنووي على ما تقدم يشعر بأن الحكم كذلك، وبأنهما قد ارتضياه، وكأنهما لم يستحضرا ما قدماه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو كان له في ذمة الغير دراهم، فقال: أسلمت إليك الدراهم التي في ذمتك على كذا، نظر: إن شرط الأجل فيه فهو باطل لأنه بيع الدين بالدين، وإن كان حالًا ولم يسلم المسلم فيه قبل التفريق فكمثل، وإن أحضره وسلمه فوجهان: أحدهما: يصح كما لو صالح من تلك الدراهم على دنانير وسلمها في المجلس. وأظهرهما: المنع، لأن قبض المسلم فيه ليس شرط، وإن كان المسلم حالًا، فلو وجد لكان متبرعًا به، وأحكام البيع لا تبنى على التبرعات. ألا ترى أنه لو باع طعاما بطعام إلى أجل، ثم تبرعا بالاحضار لم يجز. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من أن قبض المسلم فيه ليس بشرط، إن أراده في هذه المسألة فممنوع، لأن من يشترط إحضار أحد العوضين يشترطه في صحة هذا العقد، وإن أراد في غيرها لم يضر. الأمر الثاني: أنه على تقدير أن لا يكون قبضه شرطًا، لكن لا يقال فيه أنه تبرع، لأنه يجب على المسلم إليه الإعطاء في مجلس [العقد، فكيف يقال: لا يجب وهو حال قادر عليه؟ فإذا كان حالًا فيشترط عند هذا القائل تسليمه في المجلس] (¬1)، فكيف يكون تبرعًا؟ وأما تنظيره بما إذا باع طعامًا إلى أجل فظاهر الفساد، لأن الإحضار هناك تبرع بلا شك. وقوله: (متبرعًا به) هو بفتح الراء على البناء للمفعول. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وأطلق صاحب "التتمة" وجهين في أن تسليم المسلم فيه في المجلس، وهو حال هل يغني عن تسليم رأس المال؟ والأظهر المنع. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق المنع، إلا أنه إنما يتجه إذا ورد بلفظ السلم أو بلفظ البيع، واعتبرنا المعنى. فإن قلنا بالصحيح، وهو اعتبار اللفظ فيتجه أن يكفي، لأن المانع حينئذ كونه بيع دين بدين، [فإذا وجد القبض من أحد الجانبين كفى لزوال المانع. ولعل الرافعي إنما عبر] (¬1) بالمسلم فيه لهذا المعنى. قوله في أصل "الروضة": ولو كان رأس المال عبدًا فأعتقه المسلم إليه قبل القبض لم يصح، إن لم يصح اعتاق المشتري قبل القبض، وإلا فوجهان. والفرق أنه لو نفذ لكان قبضًا حكميًا، ولا يكفي ذلك في السلم. ثم قال ما نصه: فإن صححنا فتفرقا قبل قبضه بطل العقد، وإلا فيصح، وفي نفوذ العتق وجهان. انتهى كلامه. وهذا التفريع الذي ذكره على تصحيح العتق ظاهر الفساد، فإنه كيف يفرع على نفوذه تفريعًا يكون فيه وجهان في عدم نفوذه. وأيضًا فإنا إذا نفذناه يحصل القبض به حكمًا كما أشار إليه، فكيف يقول بإبطال العقد عند عدم قبضه؟ وقد عبر الرافعى بقوله: فعلى هذا -أي فعلى القول بالفرق- وهو الإبطال هنا والصحة في المشتري، وهو تفريع لا وقفة فيه ولا في حكاية الخلاف بعد ذلك في نفوذ العتق، وقد حكاه المتولي في "التتمة" كذلك. وبناء الوجهين على أن الراهن إذا أعتق وقلنا: لا ينفذ اعتاقه، فانفك الرهن هل ينفذ أو لا؟ فاتضح كيفية الخلاف المحكي في ["المهذب"] (¬2) لا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: المذهب.

سيما شرحه إذا وقع في كلام الرافعي من كلام "التتمة" لاستمداد كلامه منها. قوله: ولو أسلم بلفظ الشراء فقال: اشتريت منك ثوبًا أو طعامًا صفته كذا بهذه الدراهم، فقال: [اشتريت منك ما] (¬1) بعته منك انعقد، لأن كل سلم بيع. وهل هو سلم اعتبارًا بالمعنى أو بيع اعتبارًا باللفظ؟ فيه وجهان: الأصح على ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره: أن الاعتبار باللفظ. والصحيح عند ابن الصباغ: اعتبار المعنى. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن ابن الصباغ قد نص عليه الشافعي في "الإملاء" كما نقله [عنه] (¬2) الشيخ أبو حامد، ونقله عن العراقيين، وصححه الروياني والجرجاني، وذكر الرافعي في "الأيمان" ما يقتضيه، فقال فيما إذا حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيد ما نصه: ويحنث بما يملكه بالتولية والإشراك وبما ملكه بالسلم، لأنها شراء في الحقيقة والإطلاق هذه عبارته. وذكر مثله أيضًا في الإجارة، فإنه حكى هذا الخلاف في الإجارة الواردة على الذمة. ونقل عن البغوي: أنه رجح مراعاة المعنى، ثم قال -أعني الرافعي-: إن ما صار إليه البغوي في الإجارة لا يلائم ما صار إليه في السلم. ثم وافقه الرافعي في "المحرر" على ما رجحه هناك، واقتضى كلامه في الشرحين أن الأكثرين عليه، وحينئذ فيقال للرافعي، قد ثبت بقولك أن كلامك أيضًا هنا لا يلائم كلامك هناك. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

وحينئذ فلابد من ترجيح أحد هذين الموضعين فرجحنا بنص الشافعي، فلتكن الفتوى على مراعاة المعنى. وأما نظرهم إلى أن البيع مختص بالأعيان فيجري عليه هنا حكم الأعيان ففاسد، لأنه يلزم منه بطلان العقد بالكلية، وليس كذلك، فثبت رجحان كونه سلمًا لمقتضى الترجيح في الإجارة، ونص الشافعي عليه، وكثرة القائلين به وفساد دليل مقابله. لا جرم أن الرافعي لم يصرح هنا بترجيح لا في "الكبير" ولا في "الصغير"، فإنه عبر بقوله: ورجح أي على البناء للمفعول. نعم ذكر في "المحرر" أنه أقرب، فصرح النووي بتصحيحه في "الروضة" و"المنهاج" جريًا على عادته. الأمر الثاني: أن محل انعقاده بيعًا إذا اقتصر على لفظ الشراء أو البيع، فإن ضم إليه لفظ السلم فقال مثلًا: بعتك أردب قمح في ذمتي سلمًا بكذا، أو قال: اشتريت منك أردبًا في ذمتك سلمًا بكذا، فإنه يكون سلمًا. كذا جزم به الرافعي في الكلام على تفريق الصفقة في اختلاف الأحكام. قوله: ولو قال: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا في ذمتك بعشرة دراهم في ذمتي. فإن جعلناه سلمًا وجب تعيين الدراهم، وتسليمها في المجلس، وإن جعلناه بيعًا لم يجب. انتهى لفظه بحروفه. وتابعه عليه النووي في "الروضة"، ومقتضاه أنه لا يجب التعيين ولا التسليم تفريعًا على الوجه المصحح، وهو جعله بيعًا مراعاة للمعنى. فأما ما قاله في التسليم فمسلم، وأما التعيين فلا بل لابد منه، وإلا لصار بيع الحالي بالحالي أي بيع الدَّين بالدَّين، وقد أجمعوا على منعه للحديث الصحيح.

وممن صرح به المحاملي، ورأيته أيضًا في "فوائد المهذب" لابن عصرون نقلًا عن الفارقي تلميذ الشيخ أبى إسحاق. فينبغي أن يحمل قوله: (لم يجب) على المجموع السابق ذكره، لأن المجموع لم يجب، بل إنما يجب [بعضه] (¬1) غير أن مثل هذا لا يستعمله الفقهاء، ولا يريدونه ولا يفهمه الواقف على كلامهم. قوله: ولو وقت بفصح النصارى، نص الشافعي - رضي الله عنه - على أنه لا يجوز. فأخذ بعض الأصحاب إطلاقه اجتنابًا عن التأقيت بمواقيت الكفار، وعامتهم فصلوا فقالوا: إن اختص بمعرفة وقته الكفار فالجواب ما ذكره، لأنه لا اعتماد على قولهم، وإن عرفه المسلمون أيضًا جاز، وكذلك سائر أعياد أهل الملل، وسواء اعتبرنا معرفتهما أم لا. فلو عرفا كفى على الصحيح، وقيل: يشترط معرفة عدلين من المسلمين سواهما، لأنهما قد يختلفان فلابد من مرجع. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق المنع إذا عرفه الكفار فقط، وليس على إطلاقه، بل يستثني ما إذا كانوا عددًا كثيرًا في البلاد الكبار بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه يكفي لحصول العلم بقولهم، وهذا التنبيه استدركه ابن الصباغ في "الشامل". والفصح بكسر الفاء وإسكان الصاد وبالحاء المهملتين هو عيد النصارى. قال الجوهري: وذلك إذا أكلوا اللحم وأفطروا. قوله: الثالث لو أقتا بنفير الحجيج وقيد بالأول أو بالثاني جاز، وكذا إن أطلقا على الأصح، ويحمل على الأول. ثم قال، وحكى عن "الحاوي" أن التوقيت بالنفير الأول أو الثاني لأهل مكة جائز، لأنه معروف عندهم ولغيرهم وجهان، وأن في التوقيت بيوم ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

القر لأهل مكة وجهين أيضًا، لأنه لا يعرفه إلا خواصهم، وهذا غير فقيه لأنا إن اعتبرنا علم المتعاقدين فلا فرق، وإلا فهي مشهورة في كل ناحية عند الفقهاء وغيرهم. انتهى. اعترض في "الروضة" على كلام الرافعي فقال بعد قوله: إن القر هو الحادي عشر من ذي الحجة، وهذا الوجه الذي ذكره في "الحاوي" قوي. ودعوى الإمام الرافعي شهرته عند غير الفقهاء ومن في معناهم لا يقبل، بل ربما لا يعرف القر كثير من المتفقهين والله أعلم. وهذا الاعتراض الذي ذكره في "الروضة" غلط فاحش، فإن الرافعي يريد أن معرفة الآجال هل يكفي فيها علم المتعاقدين أم لابد من معرفة عدلين؟ فيه خلاف سبق. فإن اعتبرنا علم المتعاقدين فلا فرق بين النفر والقر، إن علما بهما صح، وإلا فلا، وإن لم نعتبر علمهما، وقلنا: لابد من عدلين فكذلك أيضًا لأنه لا يتصور خلو مكة ولا غيرها من النواحي عن عدلين من الفقهاء يعرفان القر فلا فرق أيضًا. قوله: قال الإمام: لو عقدا وقد بقى من صفر لحظة، ونقص الربيعان وجمادى فيحسب الربيعان بالأهلة، ويضم جمادى إلى اللحظة الباقية من صفر، ويكملان بيوم من جمادى الآخرة سوى لحظة. ثم قال: كنت أود في هذه الصور أن يكتفي بالأشهر الثلاثة، فإنها جرت عربية كوامل، وما تمناه هو الذي نقله أبو سعيد المتولي وغيره، وقطعهما بحلول الأجل بانسلاخ جمادى في الصورة المذكورة، وأن العدد إنما يراعى في ما إذا جرى العقد في غير اليوم الأخير، وهو الصواب. انتهى كلام. تابعه في "الروضة" على حصره في اليوم الأخير وليس كذلك، بل لو وقع العقد في الليلة الأخيرة كان كاليوم في أنه لا يراعى فيه العدد أيضًا

للمعنى الذي ذكره. وأشار الرافعي بقوله في الصورة المذكورة [إلى] (¬1) نقصان جمادى، فلو كان تامًا لم يتوقف على انسلاخه بل بإكمال ثلاثين، حتى لو كان العقد وقت الزوال من اليوم الأخير من صفر حل الأجل بزوال اليوم [الأخير] (¬2) من جمادى إذا جاء كاملًا، كما صرح به صاحب "التتمة". قوله: ولو قال: محله في الجمعة أو في رمضان فوجهان: أصحهما: المنع، لأنه جعل اليوم أو الشهر طرفًا فكأنه قال: محله وقت من أوقات يوم كذا، وفرقوا بينه وبين الطلاق بأن الطلاق يجوز تعليقه بالمجاهيل والأغرار، بخلاف السلم، قال ابن الصباغ: نعم، لكن لو كان كذلك لوقع في الجزء الأخير دون الأول، وهذا حسن، والفرق مشكل. انتهى كلامه. وفرق إسماعيل الحضرمي بأن الطلاق لما قبل التعليق بالمجهول قبله بالعام، وتعلق بأوله والسّلم لا يؤجل بقدوم زيد، فلا يؤجل بعام. قوله في أصل "الروضة": ولو قال: إلى أول رمضان أو آخره بطل. كذا قاله الأصحاب، لأنه يقع على جميع النصف الأول أو الآخر. قال الإمام والبغوي: ينبغي أن يصح ويحمل على الجزء الأول. انتهى كلامه. ذكر الرافعي نحوه أيضًا، وما ذكره غريب، فقد قال الشافعي في "البويطي": ويسمى أول الشهر أو كذا وكذا يومًا يمضي من الشهر، [وصرح به أيضًا الشيخ أبو حامد وسوى بين "إلى شهر رمضان" و"إلى غرته" و"إلى هلاله" و"إلى أوله" قال: إنه إذا قال إلى أول يوم من الشهر] (¬3)، فالمحل أول جزء من أول اليوم. ¬

_ (¬1) في جـ: في. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وكذلك الماوردي سوى بين الشهر والأول والغرة، [بل جعل الأول والغرة] (¬1) أصلين، وألحق الشهر بهما. وقال في "الشرح الصغير": الأقوى الصحة. قوله: ولو أسلم في شيء ببلد لا يوجد مثله فيه ويوجد في غيره، قال في "النهاية": إن كان قريبًا منه صح، وإن كان بعيدًا فلا. قال: ولا تعتبر مسافة القصر هاهنا، وإنما التقريب فيه أن يقال: إن كان يعتاد نقله إليه في معرض المعاملة لا في معرض التحف والمصادرات صح السلم، وإلا فلا. ويجئ في آخر الفصل ما ينازع في الإعراض عن مسافة القصر. انتهى كلامه. وقال في آخر الفصل في الكلام على انقطاع المسلم فيه: وإن أمكن نقل المسلم فيه من غير تلك البلدة إليها وجب نقله إن كان في حد القرب وبم يضبط؟ . أما صاحب "التهذيب" في آخرين فإنهم نقلوا وجهين، أقربهما: أنه يجب نقله فيما دون مسافة القصر. والثاني: من مسافة العدوى. وأما الإمام فإنه جرى على الإعراض عن مسافة القصر. إلى آخره. ويؤخذ من مجموع كلام الرافعي أن الراجح في المسألة الأولى اعتبار مسافة القصر أيضًا، على خلاف ما قاله الإمام. إذا علمت ذلك فقد جزم في "المحرر" بما قاله الإمام، وتبعه النووي عليه في "المنهاج". ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

والتحف بضم التاء وفتح الحاء جمعة تحفة ساكن الحاء ومفتوحها أيضًا وهي الهدايا. قاله الجوهري. قوله فيما إذا انقطع المسلم فيه: فإن أجاز ثم بدا له مكن من الفسخ، كزوجة المولى، ووجهه الإمام: بأن هذه الإجازة إنظار، وقد يتوقف الناظر في كونها إنظار أو يميل إلى أنها إسقاط حق كإجازة زوجة العنين. ويجوز أن يقرر فيه وجهان، لأن الإمام حكى وجهين في أنه لو صرح بإسقاط حق الفسخ هل يسقط؟ وقال: الصحيح أنه لا يسقط. انتهى كلامه. اعلم أن النووي قد ذكر هنا كلامًا فيه شيء يظهر [بذكر] (¬1) لفظه فقال: فإن أجاز ثم بدا له مكن من الفسخ كزوجة المولى إذا رضيت ثم أرادت المطالبة كان لها ذلك. قلت: هذا هو الصحيح، وذكر صاحب "التتمة" في باب التفليس وجهين في أن هذا الخيار على الفور أم لا، كالوجهين في خيار من ثبت له الرجوع بالإفلاس، والله أعلم. هذا لفظه بحروفه. ومقتضاه أن هذا الخلاف المحكي عن صاحب "التتمة" هو خلاف في المسألة التي بحث فيها الرافعي، وهو ما إذا أجاز ثم بدا له فتأمله، وليس كذلك، فإنهما مسألتان مستقلتان، ولا يلزم من كونه على التراخي أنه إذا اختار خصلة يجوز له الرجوع عنها كالمفلس. قوله: ولو وجد المسلم فيه عند قوم يبيعونه بثمن غالٍ فليس بانقطاع، بل يجب تحصيله. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد يحصل فيها اشتباه على كثير من الناس، وغلط في فهمها، وذلك لأن الغلاء يطلق، ويراد به الزيادة على ثمن المثل كما يقول الشخص لوكيله: ارددها فإنها غالية، ويطلق ويراد به ارتفاع الأسعار، ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

وأن يبيع بثمن مثله في ذلك الزمان، كما يقال: كان ذلك في زمن الغلاء لا في زمن الرخص. والمراد هنا إنما هو الثانى، وأما الأول فلا يكلف به، لأن فيه إجحافًا زائدًا، وتكليفًا بما لا نهاية له، فإن صاحب السلعة قد يبالغ في الزيادة وقد جعل الشارع الموجود بأكثر من قيمته كالمعدوم بدليل الرقبة وماء الطهارة، وغير ذلك، ومما يدل على ما قلناه من كون المراد هو الثاني أن الغاصب مع تعديه لا يكلف القسم الأول على الأصح، كما قاله في "الروضة" في بابه، فبالأولى هذا، ولم يصحح الرافعي [في "الشرحين"] (¬1) هناك شيئًا. والحاصل أنهما مسألتان، ذكرت إحداهما هنا والأخرى هناك، والبابان محتاجان إلى ذكر كل واحدة من المسألتين. وقد صح في كتاب الكفارات أنه لا يلزمه شراء الرقبة بالثمن الغالي. ولعل الفرق بينه وبين السلم تأكد حق الآدمي إلا أن يقال: المراد بالغلاء هناك الزيادة على ثمن المثل غير أن الخلاف في إيجابه بعيد، وجزم في كتاب الأطعمة نقلًا عن "التهذيب": بأن المضطر يجب عليه أن يشتري بالثمن الغالي، وفسره بالزيادة الكبيرة. قوله في "الروضة": ولو أمكن نقله وجب إن كان قريبًا، وهو ما دون مسافة القصر. وقيل: هي المسافة التي لو خرج إليها بكرة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلًا، ثم قال ما نصه: وقال الإمام: لا اعتبار بمسافة القصر؛ فإن أمكن النقل على غيبته، فالأصح: أنه لا ينفسخ قطعًا، وقيل: على القولين. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: على غيبته تحريف، والصواب وهو المذكور في "النهاية" ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والرافعي على عسر بالسين والراء، ثم إن هذا اللفظ .. إلى آخره هو من تتمة كلام الإمام فاعلمه. قوله: ولو عين موضعًا فخرب وخرج عن صلاحية التسليم فأوجه: أحدها: يتعين ذلك الموضع. والثاني: لا، وللمسلم الخيار. والثالث: يتعين أقرب موضع صالح. انتهى. قال النووي في "زياداته": الأقيس هو الثالث. انتهى. وما ذكره النووي إن كان حاصله متجهًا فناقص موهم، بل لابد أن يقال فيه مع هذا: إن ذلك الأقرب الصالح له حالان: أحدهما: أن يكون أبعد من المعين ابتداءًا فيستحق أجرة الزائد، لأن العقد لم يقتضيه، وإنما أوجبناه لغرض المستحق جمعًا بين المصلحتين، كما ذكروا في نظائر لهذا. الحال الثاني: أن يكون أقرب، فيتجه تخيير المسلم، فيقال له: إن شئت فأسلم لك في المعين ولا كلام، وإن شئت سلم لك في الصالح من غير حط شيء من الأجرة. قوله: وحمل الإمام إطلاق الأصحاب على جواز السلم في الموزون كيلًا على ما يعد الكيل في مثله ضبطًا، حتى لو أسلم في فتات المسك والعنبر ونحوهما كيلًا لم يصح. انتهى كلامه. وليس فيه تصريح بأن الأمر كما قاله الإمام، أو على ما أطلقه الأصحاب، والأمر كما أطلقوه من عدم الاشتراط، كذا صرح به الرافعي بعد ذلك، فقال في أثناء الشرط السادس: ويجوز في اللآلئ الصغار إذا عم وجودها كيلًا ووزنًا.

وجزم النووي في "تصحيح التنبيه": بالاشتراط، كما قاله الإمام، وكأنه إذ ذاك وقف على الموضع الأول فقط، ولم يستحضر ما قاله الرافعي ثانيًا. ولم يصرح في "الروضة" بشيء، غير أنه ذكر عقب الموضع الثاني أن كلام الرافعي هنا مخالف لما تقدم نقله عن الإمام، قال: وكأنه اختار ما أطلقه الأصحاب. هذا كلامه. ولم يذكر غير ذلك، ولم يخالفه أيضًا في اختياره. قوله: ولا يجوز السلم في الجوز واللوز عددًا، ويجوز وزنًا، وفي الكيل وجهان نقلهما صاحب "البيان"، المذكور منهما فى "الشامل": الجواز، وكذا في الفستق والبندق. واستدرك الإمام فقال: قشور الجوز واللوز مختلفة [منها غلاظ، ومنها رقاق والغرض يختلف باختلافهما فيمتنع السلم فيهما] (¬1) بالوزن أيضًا. وليحمل ما أطلقه الأصحاب على النوع الذي لا تختلف قشوره في الغالب. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وفيه أمور: أحدها: أن منع الكيل قد نص عليه الشافعي في "البويطي" فقال: ولا يجوز إلا وزنًا. هذا لفظه بحروفه. ونص في "مختصر المزني" على الجواز، فتلخص أن الخلاف قولان [لا وجهان] (¬2). الثاني: أن الراجح في هذه المسألة هو الجواز، فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه أشبه الوجهين. وصححه النووي في "الروضة" و"المنهاج"، ولم ينبه في "الروضة" ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

على أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له. الأمر الثالث: أن حكم السلم في الجوز واللوز وزنًا، هو كما أطلقه الأصحاب لا كما استدركه الإمام، كذا نبه عليه النووي في "شرح الوسيط" فقال بعد حكايته لمقالة الإمام ما نصه: والمشهور في المذهب هو الذي أطلقه الأصحاب، ونص عليه الشافعي انتهى. وجزم الرافعي في "المحرر" بالتقييد بما استدركه الإمام، وتبعه عليه النووي في "الروضة" و"المنهاج"، والصواب: التمسك بما قاله في "شرح الوسيط"، لأنه متبع لا مختصر. قوله: ولا يجوز السلم في البطيخة الواحدة والسفرجلة الواحدة، ولا في عدد منها، لأنه يحتاج إلى ذكر حجمها ووزنها، وذلك يورث عزة الوجود. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن منعه في البطيخة الواحدة وفي العدد منه، قد سبقه إليه جماعة، لكن نص الشافعي في "البويطي" على الجواز فقال: ويسمى اللون ويصف صغيره وكبيره ووسطه، ولو وصف وزن كل واحدة من هذا كان أحوط، وإلا لم يضره، وكذلك البيض هذا لفظه بحروفه، ومن "البويطي" نقلته. الأمر الثاني: أن الرافعي قد عدى هذا الحكم إلى البيض والباذنجان والرمان. وحذف النووي من "الروضة" ذكره بالنسبة إلى هذه الأمور فاعلمه. قوله من "زياداته" معترضًا على الرافعي: كذا قال أصحابنا

الخراسانيون يشترط في اللبن الجمع بين العدد والوزن، ولم يعتبر العراقيون أو معظمهم الوزن، فقد نص الشافعي -رحمه الله- في آخر كتاب السلم من "الأم" على أن الوزن فيه مستحب و [لو] (¬1) تركه فلا بأس، لكن يشترط أن يذكر طوله وعرضه وثخانته وأنه من طين معروف. انتهى. ومقتضى هذه الزيادة أن يكون الراجح: أنه لا يشترط، وقد نص عليه أيضًا الشافعي في "البويطي" فقال: لا بأس بالسلم في الطوب والحجارة إن ضبط طوله وعرضه، وإلا وزن. هذا لفظه بحروفه. لكن جزم النووي في "المنهاج" تبعًا للمحرر باشتراطه. قوله: لكن في منع السلم في الجارية وولدها أو أختها إشكال، على الإطلاق، لأنهم حكوا عن نصه: أنه لو شرط كون العبد كاتبًا والجارية ماشطة جاز. ولمدعٍ أن يدعى ندرة اجتماع الكتابة والمشط مع الصفات التي يجب التعرض لها، بل قضية ما أطلقوه تجويز السلم في عبد وجارية بشرط كون هذا كاتبًا، وتلك ماشطة، وكما يندر كون أحد الرفيقين ولد الآخر مع اجتماع الصفات المشروطة فيهما، فكذلك يندر كون أحدهما كاتبًا والآخر ماشطًا مع اجتماع تلك الصفات، فلنسوِ بين الصورتين في المنع والتجويز. انتهى كلامه. وما ذكره من المشابهة ضعيف، فإن الفرق بينهما أن اشتراط الكتابة في العبد، والمشط في الجارية يسهل تحصيله بالاكتساب، وليس فيه إلا زيادة وصف على الأوصاف المطلوبة. وإذا أسلم في عبد وجارية بهذه الصفة فلا تعلق لأحدهما بالآخر، ولا هو وصف فيه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أما البنوة والأخوة فوصف غير مكتسب فيعز اجتماعه مع باقي الأوصاف، وكونها ذات ولد وصف فيها. قوله نقلًا عن الصيمري: ولو شرط كونه زانيًا أو قاذفًا أو سارقًا جاز، بخلاف ما لو شرط كون الجارية مغنية أو عوادة لا يصح. وفرق الصيمري بينهما بأنها صناعة محظورة، وتلك أمور تحدث كالقمار، وهذا فرق لا يقبله ذهنك. انتهى. فأما اشتراط الزنا والسرقة ونحوهما، فقد خالف الصيمري فيه غيره فقال: لا يصح اشتراطه. وقد نقل الوجهين معًا الماوردي في "الحاوي"، وأما المنع في المغنية فقال الماوردي أيضًا: إن كان الغناء مباحًا فيجوز، وإن كان محرمًا -أي بأن كان بالعود ونحوه- فوجهان: أصحهما: المنع. واعلم أنه قد وقع في "الروضة" التعبير بالقوادة بالقاف، كذا رأيته بخطه كما هو مذكور في النسخ أيضًا، ولكنك إذا تأملت الفرق المذكور علمت أن الصواب بالعين كما وقع في الرافعي، وأن المتجه على هذا القول إلحاق القوادة -أعني بالقاف- بالسارقة ونحوها. ولم يذكر في "الروضة" الفرق المذكور، واقتصر على الحكم موهمًا تسلميه. قوله: وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة (¬1). انتهى. [والربذة قد سبق الكلام عليها في التيمم] (¬2). قوله: ولو اختلف نتاج بني فلان فكان فيها أرحبية ومهرية ومجيدية. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1331) والبخاري معلقًا والشافعي (678) والدارقطني (3/ 69) وابن أبي شيبة (4/ 305) والبيهقي في "الكبرى" (10311) قال الألباني: إسناده صحيح. (¬2) سقط من أ، ب.

إلى آخره. هذه الألفاظ سبق الكلام عليها في الزكاة. قوله: وأما قول "الوجيز" غير مؤدن، فإن الشافعي - رضي الله عنه - ذكر في "المختصر": أنه يقوله في السلم في البعير غير مؤدن، نقى من العيوب، سبط الخلق، مجفر الجنبين. والمؤدن ناقص الخلقة. والسبط: المديد القامة الوافر الأعضاء. والمجفر الجنبين: عظيمهما وواسعهما، واتفق الأصحاب على أن ذكر هذه الأمور ليس بشرط. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن المودن بفتح الدال المهملة وبالنون هو الناقص الخلق السيء العدا. والسبط قد فسره في "الكتاب" وهو بسين مفتوحة وباء موحدة تسكن وتكسر. والمجفر بميم مضمومة وجيم ساكنة وفاء مفتوحة. الثاني: أن دعواه الاتفاق على عدم الاشتراط ليس على إطلاقه، فقد شرط الماوردي في الإبل والخيل ذكر القد فيقول مربوع أو مشرف. قوله: ولو ذكر معه الشيات، كالأغر والمحجل واللطيم كان أولى. انتهى. الشيات جمع شية وهي كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره، قال تعالى: {لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71] أي ليست متلونة. واللطيم من الخيل الذي سالت غرته في أحد شقي وجهه، يقال منه: لطم الفرس على البناء لما لم يسم فاعله، قاله الجوهري.

قوله: ومنها الطيور: فيجوز السلم فيها، وقال في "المهذب": لا يجوز. انتهى. ذكر مثله أيضًا في "الروضة"، وقريبًا منه في "الشرح الصغير" وفيه إشعار بأن غير الشيخ لم يقله ولاسيما من المتقدمين على الشيخ وهو غريب. فقد نص الشافعي في (البويطي) على المنع فقال ما نصه ولا يجوز السلم في الطير لأنها لا تنضبط بسن ولا ذرع. هذا لفظه بحروفه ومنه نقلت. نعم: نص الشافعي في غيره على الصحة، ونقله الروياني وغيره. قوله: وفي كتب أصحابنا العراقيين اعتبار أمر شائع -أي في اللحم- وهو بيان السمن والهزال. انتهى. وهذا الشرط نقله أيضًا عنهم في "الشرح الصغير" و"الروضة" وليس فيه تصريح بموافقتهم ولا مخالفتهم، وقد أهمله الرافعي في "المحرر" وكذلك النووي في "المنهاج"، وفيه إشعار بعدم اعتباره، ولابد منه فقد نص الشافعي عليه في "البويطي". قوله: ولا يلزم قبول الرأس والرجل من الطير والذنب من السمكة. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذه العبارة] (¬1) وفيها إشعار بأن رأس السمكة يجب قبولها، وليس كذلك فاعلمه، فقد نص الشافعي في "البويطي" على أنه لا يجب، فقال ما نصه: ولا بأس بالسلم في الحيتان، ويسمى أجناسها وصغارها وكبارها وأجلها ووزنها، وحيث يقبض لا يوزن ذنبها ولا رأسها. هذا لفظه. وجزم ابن الرفعة بذلك، ولم يتعرض لكلام الرافعي ولا لهذا النص، ثم حكى فيما إذا كان الحوت صغيرًا وجهًا أنه يجب قبول الرأس والذنب، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لأن العادة أكلهما معه. ثم [قال: والمذهب الأول، وأيضًا فقد نص الشافعي في "الأم" كما] (¬1) قاله في "المطلب" على أنه: إذا كان على الذنب لحم وجب قبوله. قوله في أصل "الروضة": في السلم في الدبس والعسل المصفى بالنار والسكر والفانيد واللبا وجهان استبعد الإمام المنع فيها كلها. قلت: وممن اختار الصحة في هذه الأشياء: الغزالي وصاحب "التتمة" والله أعلم. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الأصح في الجميع هو المنع على ما يقتضيه كلام الرافعي. الثاني: أن في السكر والفانيد طريقة قاطعة بالجواز حكاها الرافعي، ولم يذكرها في "الروضة"، ولنذكر عبارة الرافعي ليعرف منه الموضعان فقال: والسمن والدبس والسكر والفانيد كالخبز، ففي سلمها الوجهان. وأشار الإمام إلى طريقة قاطعة بجواز السلم في السكر والفانيد. هذا لفظه. ثم قال: وفي اللبا والعسل المصفى بالنار الوجهان. وهذا الكلام مقتضاه المنع في جميع هذه الأشياء لأنه الصحيح في الخبز. ويؤيده أن [الأصح] (¬2) في باب الربا إلحاق ما دخلته النار للتمييز عما دخلته، للطبخ حتى لا يجوز بيع بعضه ببعض، فأطلق النووي ذكر الوجهين فقط، ثم حذف هذه الطريقة المنقولة عن الإمام، وحكى عنه شيئًا آخر. الثالث: [أن النووي] (¬3) صحح في "تصحيح التنبيه" جواز الجميع، لكنه لم يصرح فيه بالعسل والسمن غير أنه يؤخذ منه، فإنه لما عدد هذه ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: الصحيح. (¬3) في جـ: أنه.

الأشياء جعل ضابطها أن تكون النار لطيفة، ولا شك أن نار العسل المشار إليه وهو عسل النحل ألطف من نار السكر. ولم يصرح في غير هذا الكتاب بتصحيح، فإنه لم يتعرض لذلك في "المنهاج"، وأما في "الروضة" فكما تقدم. الرابع: أن ما نقله عن صاحب "التتمة" من تجويز السلم في الخمسة المتقدم غلط، إنما اختار الجواز في اللبا قبل أن يخلطه باللبن وتطبخ، أما بعد طبخه، فلا. قوله: وتردد صاحب "التقريب" في السلم في الماء ورد لاختلاف تأثير النار فيما يتصعد ويقطر. انتهى. لم يصحح في "الروضة" شيئًا أيضًا، والراجح هو الجواز، فقد قال الروياني: إنه أصح عندي وعند عامة الأصحاب. قوله: والأكارع كالرؤوس. انتهى. أهمل شرطًا آخر في الأكارع لم يذكره، ونبه عليه النووي في "الروضة"، وهو بيان أنها من الأيدي والأرجل. قوله: وفي كتاب القاضي ابن كج اعتبار شرط آخر -أي لتجويز السلم في الرؤوس على قول-، وهو أن يكون المشافر والمناخر منحاة عنها، وهذا لا اعتماد عليه. انتهى كلامه. وما قاله ابن كج قد وافقه عليه الماوردي في المشافر. قوله: وهل يحتاج في السمن إلى التعرض للحديث والعتيق، قال الشيخ أبو حامد: لا بل العتيق معيب لا يصح السلم فيه. وقال القاضي أبو الطيب: العتيق المتغير هو المعيب لأكل عتيق، فيجب البيان. انتهى كلامه.

وفيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن القاضي أبي الطيب، قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، لكن نقل عنه في "الشامل" أنه إن اختلفت القيمة وجب البيان، وإلا فلا فقال ما نصه: قال القاضي: ونقول حديث أو عتيق إن كان يختلف. الأمر الثاني: أن النووي لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، والراجح عند الرافعي: وجوب البيان، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه أشبه الوجهين، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج"، وما نقله عن الشيخ أبي حامد من الحكم والتعليل قد نص عليه الشافعي. والغريب أن الشيخ أبا حامد قد نقله عنه، فاقتصار الرافعي عليه في غاية العجب. وقد نقله عنه في "الشامل" فقال: وقال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: إطلاقه يقتضي الحديث، فإن العتيق معيب، وإنما يصلح للخراج. انتهى كلامه، فتلخص من ذلك أنه مذهبنا. قوله: وليس في الزبد إلا الوزن. انتهى. تابعه في "الروضة" على أنه لا يصح السلم فيه كيلًا، بل وزنا، لكن نص الشافعي في "الأم" على أنه يصح السلم فيه كيلًا ووزنًا. قوله: ولا يجوز السلم في القز وفيه الدود حيًا ولا ميتًا، لأنه يمنع معرفة وزن القز، وبعد خروج الدود يجوز. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، وذكر قبل ذلك في أوائل البيع في الكلام على شروط البيع من "زياداته": جواز بيع القز وفيه الدود وزنًا، على [خلاف] (¬1) ما جزم به هاهنا من فساد التقدير بالوزن، وذكرت لفظه هناك. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وثبت أن الصواب هو المذكور هنا، وهو المنع فراجعه. قوله: الخامسة: إذا أسلم في الثياب بين الجنس ثم قال: ويبين الغلظ والرقة والنعومة والخشونة .. إلى آخره. ذكر في "الشرح الصغير" و"المحرر": الصفاقة والرقة مع الغلظ والرقة، ولابد من ذلك، فإن الغلظ والرقة راجعان إلى كيفية [الغزل، وقد صرح الرافعي بذلك أيضًا قبل هذا بقليل، والصفاقة والرقة راجعان إلى كيفية] (¬1) النسج. فالصفاقة: انضمام بعض الخيوط إلى بعض، مأخوذ من الصفق، وهو ضرب آلة النسج. والرقة: تباعدها. والحاصل: أن هذين الوصفين لابد من التعرض لهما في العقد، وأن التعبير عنهما بهذه الألفاظ صحيح إلا الرقة، فإن استعماله فيما ذكر ومغاير للرقة مخالف لما قاله الجوهري، فإنه قد صرح بأن الدقيق والرقيق خلاف الغليظ على أن الشيخ أبا حامد قد سبق إلى ذكر هذه الألفاظ، وعبر بعبارة هي أحسن من عبارة الرافعي فقال: الدقة أو الغلظ والصفاقة أو الرقة، ولم يتعرض في "الروضة" للفظتين الأخيرتين تبعًا لما قاله الرافعي. قوله: وعن الصيمري أنه يجوز السلم في القميص والسراويلات إذا ضبطت طولًا وعرضًا وضيقًا وسعة. انتهى كلامه. وما نقله عن الصيمري من الجواز وأقره، ولم يذكر في هذا الباب، بعده ولا قبله ما يخالفه، قد ذكر في آخر الباب الثاني من أبواب الخلع عكسه، فإنه صرح بعدم جواز السلم فيها، ولم يحك فيها خلافًا، وستعرف لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ووقع الموضعان [في الروضة] (¬1) كذلك، وذكرها الرافعي في "الشرح الصغير" في الخلع فقط كما ذكرها في "الكبير"، ولم يذكرها في "المحرر"، والفتوى على خلاف ما قاله هنا. قوله: وكل شيء لا يتأتى وزنه بالقبان لكن يوزن بالعرض على الماء. انتهى. وكيفية الوزن بالماء [ذكرها الرافعي في باب الربا فقال ما نصه: وقد يتأتى الوزن بالماء] (¬2) بأن يوضع الشيء في ظرف، ويلقى على الماء وينظر مقدار غوصه. قوله: وفي الرصاص يذكر نوعه من قلعى وغيره وفي الصفر من شبه وغيره. انتهى. الشبه بشين معجمة وباء موحدة مفتوحتين ضرب من النحاس. قاله الجوهري. قوله: فنقول: السلم في المنافع كتعليم القرآن وغيره جائز، ذكره الروياني. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقل الجواز عنه من غير مخالفة له، وهو الصواب على كلام فيه يأتيك إن شاء الله تعالى في باب القرض. قوله من "زياداته": ولو أسلم الدراهم في الدنانير أو بالعكس سلمًا حالًا، فوجهان محكيان في "البيان"، والأصح المنصوص: المنع. انتهى ملخصًا. وتوجيه المنع كما قاله في "البيان": أن لفظ السلم يقتضي تقديم أحد العوضين، واستحقاق قبضه دون الآخر، والصرف يقتضي تسليم العوضين ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من جـ.

في المجلس فيصادف أحكامها. والعجب من نقل هذا الحكم عن "البيان" بدون نقل تعليله عنه، وفيه غموض ودقة. نعم نقل الرافعي في أول الباب في جعل رأس المال دينًا نحوه، وزاده إيضاحًا فقال: لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط، فلو وجد لكان متبرعًا به، وأحكام البيع لا تبنى على التبرعات. واعلم أن صاحب [البيان] (¬1) نقل عن الشيخ أبي حامد المنع في هذه المسألة، وليست كما قاله، بل إنما نقله أبو حامد المذكور عن النص، ثم قال: وعندي أنه يجوز. قوله: ولا يجوز السلم في الحباب والطساس والطناجير. انتهى. وأما الحباب بكسر الحاء المهملة وبالبائن الموحدتين فهي جمع حب. والطساس: بكسر الطاء جمع طس بفتحها، ويقال فيه: طست بإبدال سينه الثانية تاء. والطناجير: جمع طنجير بكسر الطاء، قاله الصنعاني، قال العسكري في "التلخيص" في كتاب أسماء الأشياء ونعوتها: هو أعجمي يضرب فيه، قالوا: طنجرت اللحم فهو مطنجر إذا طبخته في الطنجير، قال بعضهم: هو الدست. قوله: كما يجوز في مربعات الصرم [وقطع الجلود وزنًا، ولا يجوز في الجلود على هيئتها لتفاوتها دقة وغلظًا. انتهى كلامه. الصرم: ] (¬2) بصاد مفتوحة وراء مهملة ساكنة وفي آخره ميم، هو ¬

_ (¬1) في ب: الشامل. (¬2) سقط من أ.

الجلد بلغة فارس. قاله الجوهري، ولم أرَ هذا كله في "الروضة". قوله: وإذا أسلم في التمر بين النوع. . . . إلى آخره. أهمل هو والنووي شرطًا آخر، وهو كون جفافه على النخل أو بعد الجذاذ، ولابد منه كما قاله الماوردي فإن الأول أنقى، والثاني أصفى. قوله: وفي العسل يبين أنه جبلى أو بلدي .. إلى آخره. قال الماوردي: ولابد أن يبين أيضًا مرعاه وقُوته ورقته. قوله: إحداهما: ذهب العراقيون إلى اشتراط التعرض للجودة والرداءة، وظاهر النص يوافق ما ذكره. وقال غيرهم: لا حاجة إليه، وهو الأظهر. انتهى. ودعواه أن ظاهر النص يوافقهم غريب، فقد نص على اشتراطه في مواضع من "الأم" نصًا صريحًا، لا جرم أن النووي قد اعترض عليه في "الروضة" أيضًا. قوله: ولا يجوز السلم في الأرز والعلس لاستتارهما بالكمام. انتهى. وما ذكره هنا في الأرز والعلس، قد سبق فيهما ما يخالفه في الكلام على بيع الثمار فراجعه.

الباب الثاني في أداء المسلم فيه والعرض قوله: ويجب تسليم التمر جافًا، والرطب غير مشدخ. انتهى. هو بالشين والخاء المعجمتين. قال في "الأم": وهو ما لم يترطب مشدخ، وأراد بذلك أنه عولج بالتغمير ونحوه حتى ترطب، وهو المسمى بالمعمول في بلاد مصر. قوله: ولو أتى بالمسلم فيه قبل المحل، وامتنع المسلم من قبوله فقال الجمهور: إن كان له في الامتناع غرض، كما إذا كان وقت نهب، أو كان مما يحتاج إلى مكان له مؤنة كالحنطة الكثيرة فلا يجبر على القبول. . . . إلى آخره. وهذا الكلام يقتضي أن الحنطة وغيرها من الحبوب إذا كانت قليلة يجبر على قبولها، وأن الحجارة الكبيرة ونحوها لا إجبار فيها، لما فيها من مؤنة المكان وهو عكس ما قاله الشافعي في "الأم"، فإنه قال في باب تعجيل الكتابة ما نصه: قال الشافعي: ولو كاتبه على عرض من العروض، فإن كان لا يتغير على طول الحبس كالحديد والنحاس والرصاص وغيرها مما لا يتغير على طول الحبس، وكالدراهم والدنانير يلزم السيد أن يقبلها منه. ثم قال بعد ذلك: والحنطة والشعير والأرز مما يتغير. ثم قال: وكل موضع [أجبرت السيد على قبضه من المكاتب] (¬1) أخبرت فيه رب الدين، وإلا فلا. انتهى. ومخالفته لكلام الرافعي واضحة، وهذا المعنى الذي اعتبره الشافعي من التغيير على طول الزمان لم يتعرض له الرافعي، ولابد منه فإنه غرض صحيح لاسيما من الذين يطلبون الأسعار في الحبوب ونحوها. وأما المعنى الذي اعتبره الرافعي من مؤنة الموضع، فهو حقير في ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الغالب بالنسبة إلى فائدة التعجيل، فلذلك أهمل الشافعى اعتباره. قوله: فإن كان للمؤدى غرض فى التعجيل سوى براءة الذمة كفكاك الرهن وبراءة الضامن أجبر على القبول. ثم قال: وهل يلتحق بهذه الأعذار خوفه من انقطاع الجنس قبل الحلول؟ فيه وجهان، المذكور منهما فى الكتاب أنه يلتحق. انتهى. لم يصرح بتصحيح فى "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح ما قاله فى "الوجيز"، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: ولو ظفر بالمستقرض في غير مكان الإقراض فأخذ منه القيمة ثم عاد إلى مكان الإقراض فطلب أحدهما رد القيمة والرجوع إلى المثل، ففي إجابته وجهان، انتهى ملخصًا. والأصح عدم الإجابة، كذا قاله النووي من "زياداته". قوله: وكذا فى المسلم يطالب بقيمة بلد العقد إذا جوزنا أخذ قيمته. انتهى. واطلاقه اعتبار قيمة بلد العقد في السلم ذكره أيضًا في "الشرح الصغير"، وليس كذلك، فإن المعتبر فى السلم قيمة الموضع الذي يستحق فيه التسليم، ثم قد يكون بلد العقد، وقد يكون غيره، وقد استدركه عليه في "الروضة". قوله: والبكر الفتى من الإبل، والبازل الذي له ثمان سنين تمامًا. انتهى. والفتى بفاء مفتوحة وتاء مثناه مكسورة وياء بنقطتين من تحت مشددة وجمعه أفتاء كيتيم وأيتام. قال الجوهري: وهو خلاف المسن يعني أنه الصغير. والبازل بالباء الموحدة والزاي المعجمة. قوله: ويعتبر فى القرض أهلية التبرع، لأن القرض تبرع أو فيه شائبة

التبرع. ألا ترى أنه لا يقرض الولى مال الطفل إلا لضرورة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن إطلاقه منع الولى من إقراض مال الطفل ليس كذلك على ما ذكره في كتاب [الحجر] (¬1)، فإنه فصل هناك فجوز للقاضى دون غيره، لكن فيه كلام يذكر هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. الأمر الثاني: أن الرافعي متردد في أن القرض تبرع محض، أو فيه شائبة التبرع؟ . وجزم بعد هذا فى أثناء الباب بالاحتمال الثاني، وجزم به أيضًا في كتاب الضمان، وبالغ في نفي الاحتمال الأول فقال: واعلم أن القول بكون الضمان تبرعًا إنما يظهر حيث لا يثبت [الرجوع] (¬2)، فأما حيث يثبت فهو إقراض لا محض تبرع، هذا لفظه. وذكر فى كتاب الوصية نحوه فقال: أما التبرع فهو إزالة الملك عن مال مجانًا. ووافقه النووي على هذا، ولكن قال: إنه ينبغي أن يضم إليه ما يدخل فى الاختصاصات، فيقال عن مال ونحوه. ثم خالف فى الضمان فقال من "زياداته": إن القرض تبرع. قوله: وأما الصيغة، فالإيجاب لابد منه، وهو أن يقول: أقرضتك أو أسلفتك أو خذ هذا بمثله. . . . إلى آخره. لم يبين هل هذه الصيغ كلها صرائح، أو بعضها صريح وبعضها كناية. وظاهر كلامه أن الجميع صرائح، لكنه قد نص فى البيع على أنه إذا قال: خذ هذا بمثله، يكون كناية فينبغى هنا كذلك، وذكر النووي في "الروضة" هذه الصيغ كما ذكرها الرافعي. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قوله: فإن اختلفا في ذكر البدل، كان القول قول المخاطب. انتهى كلامه. والتعبير بالمخاطب تعبير ملتبس لا يدرى هل هو بفتح الطاء أو بكسرها، وفتح الطاء هو المراد هنا، ولهذا عبر في "الروضة" بقوله: الآخذ، وحكى وجهًا من زياداته أن القول قول الدافع، قال: وهو متجه. قوله من "زياداته": وفي "التتمة" وجه أن الاقتصار على ملكتك، قرض. انتهى. وما حكاه عن "التتمة" لم أرَ له ذكرًا فيها، لا في هذا الباب ولا في غيره. قوله: فأما الجارية المحرمة بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا خلاف فى جواز إقراضها منه. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفى الخلاف ذكره أيضًا في "الشرح الصغير"، وليس كذلك، فقد حكي الماوردي في "الحاوي" في قرضها منه ومن المرأة وجهين لأصحابنا [ونسب الجواز إلى البغداديين، والمنع إلى البصريين قال: وعلى رأيهم] (¬1) يصرف جنسًا لا يجوز إقراضه. وهذا الموضع قد استدركه أيضًا النووي. قوله: وما لا يجوز السلم فيه هل يجوز قرضه؟ إن قلنا: الواجب فى المتقوم القيمة جاز؛ وإن قلنا: المثل فلا. انتهى. ومقتضى هذا تصحيح منع قرضه، لأن الصحيح إيجاب المثل لا القيمة، ويستثني من هذا الإطلاق جزء الدار، فإنه لا يجوز السلم فيها قطعًا كما صرح به الرافعي وغيره. ومع هذا فيجوز قرضه، كما نقله في "المطلب" في كتاب الشفعة عن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأصحاب، وهو مقتضى كلام الرافعي أيضًا هناك، فإنه قال في أوائل الباب الثاني: ومنها: قال في "التتمة": "إذا استقرض شقصًا أخذه الشفيع بقيمته. وإن قلنا: إن المستقرض يرد المثل لأن القرض مبنى على الإرفاق والشفعة ملحقة بالإتلاف هذا لفظه. فجعل القرض مجزومًا به، ففرع عليه هذا التفريع الذي نقله عن صاحب "التتمة"، ولم يرده بل ارتضاه، ثم إنه حكم بجوازه مع قولنا: إنه يرد المثل، فدل ذلك على استثناء هذه المسألة كما قلناه. ونص أيضًا على الجواز في الباب الأول من أبواب الشفعة ناقلًا له عن "التتمة" أيضًا، لكن جزم الماوردي في "الحاوي" بأنه لا يجوز قرض العقار، ويمكن حمله على الدار جميعها، وما قاله أولئك على الجزء فقط. قوله: وفى إقراض الخبز وجهان كما فى السلم، وأصحهما عند البغوي: المنع. واختار ابن الصباغ وغيره: الجواز. انتهى ملخصًا. زاد في "الروضة" عليه أن صاحب "التتمة" و"المستظهرى" قطعا بجوازه. إذا علمت ذلك فاعلم أن الراجح فى هذه المسألة هو الجواز، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: وفي إقراض الخبز وجهان كما في السلم، والمختار الجواز للحاجة وإطباق الناس عليه، هذا لفظه. وعبارة "الكبير" و"الروضة" تقتضى أن القائلين به أكثر من القائلين بالمنع.

وإذا جوزنا إقراض الخبز، فقال الدارمي فى "الاستذكار": إن اتفقا على رد الخبز أو القيمة: جاز، وإن اختلفا فقال ابن المرزبان: الأولى القيمة. فإن شرط عليه رد الخبز فوجهان قالهما ابن القطان. قوله من "زياداته": وفى فتاوى القاضي: أنه لا يجوز إقراض الروبة لأنها تختلف بالحموضة، قال: ولا يجوز إقراض المنافع، لأنه لا يجوز السلم فيها. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الروبة براء مهملة مضمومة وبعدها واو ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة وهى الخميرة التي تلقى من اللبن الحامض على اللبن الحليب ليروب، قاله الجوهرى. الثانى: أن ما نقله عن فتاوى القاضي من امتناع قرض المنافع وأقره عليه هو موجود فى "فتاويه" قبيل الإجارة وبعد القراض، لكن صرح المتولى أيضًا فى هذا الباب بجواز قرض المنافع فقال: السادسة: إقراض المنافع جائز عندنا حتى إذا قال: أقرضتك منفعة عبدى أو دارى شهرًا وسلم العين صار مستحقًا للمنافع يتصرف فيها على حسب اختياره، هذا لفظه. فتعبيره بقوله: (عندنا) يقتضى نقله عن المذهب وشهرته فيه. وسأذكر أيضًا ما يوضح ترجيحه. الثالث: أن ما نقله أيضًا عن القاضى [فى الفتاوى المذكورة من امتناع قرض المنافع قد رأيته أيضًا مصرحًا به فى كتاب الغصب من كتابه المسمى "بالإشراف"، ثم فرع على ذلك فقال فلو قال أقرضتك منافع هذه الدار

احتمل أن يكون إباحة. الأمر الرابع: أن ما حكاه عنه] (¬1) فى تعليل امتناع القرض بامتناع السلم وأقره عليه، واقتضى كلامه الاتفاق عليه عجيب، فقد جزم الرافعي فى الإجارة بالجواز، فقال: إنه يجوز إيرادها على المنافع الكائنة فى الذمة بلفظ السلم، ويكون سلمًا، ونص عليه الشافعي، وقد ذكره الرافعي أيضًا في كتاب السلم نقلًا عن الروياني ولم يخالفه، وتقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. وإذا بطل مستنده فى امتناع القرض، وهو امتناع السلم لزم أن يكون الصواب هو الجواز كما تقدمت الإشارة إليه. وذكر القاضى الحسين فى باب الغصب من تعليقه أن منافع الدور لا يصح السلم فيها. قلت: وسببه أن اختلاف الغرض لمكانها يوجب بالضرورة تعيين الدار، وإذا عين صار نظير السلم فى ثمرة نخلة معينة أو قرية صغيرة، وهو باطل، لأن انقطاعه لا يؤمن. وهكذا القول فى منفعة سائر الأعيان بخلاف المنافع الكائنة في الذمة كالخياطة ونحوها، فتعين حمل المنع على الأول، والجواز على الثانى، ولا خلاف ولا اختلاف، ويكون الجواز فى المعين مستثنى. قوله في أصل "الروضة": ولو أقرضه بلا شرط فرد أجود أو أكثر أو ببلد آخر جاز، ولا فرق بين الربوى وغيره، ولا بين الرجل المشهور برد الزيادة وغيره على الصحيح فيها. انتهى كلامه. ومدلوله أن الوجه المحكي هو في جواز قبول الزيادة، فأما في الربوي فصحيح. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

وأما الوجه في المشهور برد الزيادة فهو في صحة إقراضه، كذا حكاه الرافعي، وما قاله في "الروضة" سهو. قوله: الثانية: يجوز أن يقرضه بشرط الرهن والكفيل، وكذا بشرط أن يشهد أو يقر به عند الحاكم، انتهى. لقائل أن يقول: ما فائدة هذا الشرط حتي يحكم بصحته، لأنه لا يجب على المقترض الوفاء بما شرط عليه من الرهن وغيره، ولا يجب أيضًا على المشروط كفالته أن يتكفل، وقد صرحوا بذلك في البيع المشروط فيه هذه الأمور، وإنما صححنا هذه الشروط في البيع، لأن فيه فائدة وهى الفسخ على تقدير أن لا يحصل سواء كان الثمن حالًا أو مؤجلًا، ثم يأخذ العين إن كانت باقية وقيمتها إن كانت تالفة، وأما المقرض فيجوز له فى كل وقت أن يرجع. قوله: لا شك أن المستقرض يتملك ما استقرضه. انتهى كلامه. وهو يقتضى أنه لا خلاف فيه، وليس كذلك فقد حكي الخوري في "شرح المختصر" قولًا: أنه لا يملكه وإنما سلطه المقرض على إتلافه. قال: وهذا هو المحفوظ للشافعى. قوله: فى أصل "الروضة": وإن قلنا يملك بالتصرف، فمعناه إذا تصرف فتبين ثبوت ملكه انتهى كلامه. وليس فيه بيان الوقت الذي يملك فيه، وقد جزم الرافعي هاهنا بأنه قبيل التصرف، فإنه عبر بقوله: قبيله. وحكي -أعني الرافعي- في الكلام على الزكاة المعجلة عن الإمام بحثًا آخر فقال: ينقدح فيه أمران: أحدهما: [هذا.

والثانى: أن يستند الملك إلى حالة القبض، وقد صرح الغزالي في "البسيط" هنا بحكايته وجهًا. قوله: ] (¬1) وإذا فرعنا على الوجه الأول، وهو أن المراد بالتصرف الذي يتوقف عليه الملك على القول الضعيف وهو المزيل للملك، فهل يكفي البيع بشرط الخيار؟ إن قلنا: إنه لا يزيل الملك فلا. وإن قلنا أنه يزيل فوجهان. انتهى كلامه. واعلم أن خيار المجلس هل يمنع نقل [الملك] (¬2) أم لا؟ فيه الخلاف فى خيار الشرط، فجزمهم بأن البيع يكفى بدون خيار الشرط يقتضي الجزم به مع خيار المجلس أيضًا، وما الفرق بين خيار المجلس والشرط؟ قوله: ولو استقرض من يعتق عليه لم يعتق على القول بأنه يملكه بالتصرف. قال صاحب "التهذيب": ويجوز أن يقال: يعتق عليه [ويحكم بالملك قبيله. انتهى. وما حكاه الرافعي احتمالًا فقط قد جزم به] (¬3) صاحب "التتمة" وقال: وجهًا واحدًا، لأنه لو كان عبدًا أجنبيًا وأعتقه نفذ، وكل سبب يفيد اعتبار عتق الأجنبي يفيد عتق القريب. قوله في أصل "الروضة": وإن اقترض متقومًا، فالأصح عند الأكثرين: أنه يرد مثله من حيث الصورة، والثاني: يرد القيمة يوم القبض إن قلنا: يملك به، وإن قلنا بالتصرف فوجهان: أحدهما: كذلك. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) فى أ: الشرط. (¬3) سقط من أ.

والثاني: تجب قيمته أكثر ما كان من القبض إلى التصرف. انتهى كلامه. والصحيح من هذين الوجهين هو الوجه الثاني وهو وجوب الأكثر. كذا صححه هو -أعني النووي- في "نكت الوسيط"، وصححه أيضًا الرافعي في شرحيه "الكبير" و"الصغير" معًا فقال: فإن قلنا بالأول -أي وجوب القيمة- فالاعتبار بقيمة يوم القبض، إن قلنا: يملك القرض بالقبض. فإن قلنا: يملك بالتصرف فالأكثر من يوم القبض إلى يوم التصرف، وفيه وجه أن الاعتبار بيوم القبض، هذا لفظ الرافعي في "الكبير" بحروفه. وقد ذكر في "الصغير" مثله أيضًا، فعدل النووي عنه، وحكي وجهين من غير ترجيح، وكأنه والله أعلم وقعت له هنا نسخة سقيمة فاختصر منها، ومحل هذه المسألة فى الرافعي قبيل هذا الموضع، ولكن نقله النووي إلى هنا.

كتاب الرهن

كتاب الرهن [وفيه أربعة أبواب] (¬1) الباب الأول: في أركانه قوله: ورهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - درعه من يهودي فتوفي وهى مرهونة عنده (¬2). انتهى. قال الماوردي: اختلف الناس في فكاك الدرع، فقال قوم: افتكه قبل موته، لأنه -عليه الصلاة والسلام- يقول: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى" (¬3). وهذه صفة تنتفى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال آخرون -وهو الصحيح-: "أنه مات قبل فكاكه، فقال: فعلى هذا يكون قوله: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي" محمولًا على من مات ولم يترك وفاءًا. قوله: أما الدين ففي جواز رهنه وجهان: أصحهما: المنع. لأن الدين غير مقدور على تسليمه. انتهى. والقول بالجواز شرطه أن يكون على ملي، كذا نقله النووي فى "نكت الوسيط" عن "الانتصار" لابن عصرون وأقره. قوله: ولو رهن نصيبه من بيت معين من الدار المشتركة بغير إذن ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) أخرجه البخاري (1961) ومسلم (1603) من حديث عائشه -رضي الله عنها-. (¬3) أخرجه الترمذي (1079) وابن ماجه (2413) وأحمد (9677) والدارمي (2591) وابن حبان (3061) والحاكم (2219) والشافعي (1663) والطيالسي (2390) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح.

شريكه فوجهان: أصحهما عند الإمام: أنه يصح. وأرجحهما عند البغوي: أنه لا يصح. انتهى ملخصًا. والراجح علي ما يقتضيه كلام "الروضة": هو الصحة، فإنه قال من "زياداته": قد وافق الإمام على تصحيح صحته الغزالى في "البسيط" وصاحب "التتمة" وغيرهما. وكلام الرافعي أيضًا في "الشرح الصغير" يشعر به، فإنه نقل تصحيح الإمام واقتصر عليه. قوله: والظاهر جواز رهن المسلم من الكافر، ورهن المصحف منه يترتب على رهن العبد، ورهن السلاح من الحربي يترتب على بيعه منه. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وفيه أمور: أحدها: أنه لم يبين كيفية الترتيب هنا، والمراد أنا إن أبطلنا رهن العبد فرهن المصحف أولى، وإن صححنا فوجهان. فيكون المصحف أولى بالبطلان من العبد لا العكس، وقد صرحوا في البيع بذلك. وأما ترتيب رهن السلاح من الحربى على بيعه منه فواضح، يعلم مما تقدم. الثاني: أنه ليس فيه بيان الصحيح في رهن المصحف، والصحيح جوازه كما صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه علي أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الثالث: أن هذا الكلام جميعه إنما هو فى الصحة، كما تقدم التعبير به.

وأما الجواز فقال النووي في "زيادات الروضة" إن المذكور في "تهذيب المقدسي" وغيره: أنه حرام. قال: وفي كتاب الجزية من "تهذيب البغوي": أنه مكروه. قوله فى الكلام علي ألفاظ "الوجيز"، وفي العبارة المذكورة لترجمة هذا الشرط -يعني الشرط الثاني- نظر. انتهى. لم يبين وجه النظر، وقد أوضحه في "الشرح الصغير" فقال: وقول الغزالي في ترجمة الشرط الثاني أنه لا يمتنع إثبات يد المرتهن عليه ليكن المراد منه في الدوام. وأما في الابتداء بقدر ما يلزم الراهن فامتناعه علي الخلاف. قوله: والتفريق بين الأم وولدها الصغير ممنوع، فلو رهن أحدهما دون الآخر جاز، ويباعان معًا، ويوزع الثمن علي قيمتهما، وكيفية التوزيع مبنية على مقدمة، وهى ما إذا رهن أرضًا بيضاء ثم نبت فيها نخل فللأرض حالان: أحدهما: أن يرهنها ثم يدفن النوى. والثاني: أن يكون مدفونًا في الأرض يوم الرهن، فإذا بيعت الأرض مع النخيل وزع الثمن عليهما، والمعتبر في الحال الأول قيمة الأرض فارغة, وفي الحال الثاني قيمة أرض مشغولة. وفي كيفية اعتبار قيمة الأشجار وجهان نقلهما الإمام في الحالين: أظهرهما: أن الأرض تقوم وحدها، فإذا قيل: هى مائة قومت مع الأشجار. فإذا قيل: هى مائة وعشرون فالزيادة بسبب الأشجار عشرون وهى سدس المائة والعشرين، فيراعي في ثمنها نسبة الأسداس. والثاني: أنا كما قومنا الأرض وحدها، نقوم الأشجار وحدها نابتة.

فإذا قيل: هي خمسون عرفنا أن النسبة بالأثلاث، ثم قال: عدنا إلى مسألة الأم والولد، فإذا بيعا معًا وأردنا التوزيع قال الإمام: فيه طريقان: أحدهما: أن التوزيع عليهما كالتوزيع على الأرض والأشجار، فتعتبر قيمة الأم وحدها، وفى الولد الوجهان. والثانى: أن الأم لا تقوم وحدها، بل تقوم مع الولد خاصة، لأنها رهنت وهى ذات ولد، والأرض رهنت بلا أشجار، وهذا ما أورده الأكثرون. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن المراد بالطريق الثاني التي نقلها عن الأكثرين، وهى أن الأم لا تقوم وحدها، بل مع الولد إنما هو تقويمها موصوفة، بأنها ذات ولد، وليس المراد تقويم المجموع قطعًا، لأنا نريد أن نعرف قيمة الأم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة قيمتها دون ولدها، ثم يجيء بعد ذلك الوجهان فى أنا هل نقوم المجموع أم الولد وحده؟ وقد أوضحه في "المحرر" فقال: والأظهر فى كيفية التوزيع أن تقوم الأم وحدها ثم مع الولد، هذا كلامه، إلا أنه أراد بالوحدة خلاف المجموع، وأراد به في [الشرع] (¬1) الخلو عن الحضانة فاعلمه. وعلى هذا فمراده بقوله في الطريق الأول: فتعتبر قيمة الأم وحدها أي خلية عن الحضانة أيضًا، هذا كله متعين لا شك فيه، لكنه قد ذكر في الطريق الأول أن التوزيع عليهما كالتوزيع علي الأرض والشجر، وقد تقدم في الأرض أن المعتبر قيمتها مشغولة، فكيف يفرع على هذا اعتبار خلو الأم عن الولد، لاسيما وقد عبر في الأرض المشغولة بقوله: أظهرهما: تقوم الأرض وحدها -أعنى بصيغة وحدها- وهو يقتضى عوده فى التفريع، وهو فاسد بلا شك إلا أن يلتزم أن مراده بصيغة وحدها ¬

_ (¬1) في جـ: الشرح الصغير.

المذكورة فى الأرض مقابل المجموع، وبالموضعين المذكورين فى الولد والأم الخلو عن الحضانة، وأن المراد بشغل الأرض إنما هو الشغل بالنوى. فحينئذ يصح أن تعتبر قيمة الأم خلية عن الأولاد، وإن فرعنا على أن التوزيع كالتوزيع على الأرض والشجر، لكنه خلاف المنقول، فإن الماوردي والمحاملي وغيرهما قد صرحوا بأن الأرض إذا رهنت وفيها نوى ثم أخرجت نخلًا، أنها تقوم ذات نخل، وبالجملة فلا شك في اشتمال هذا الكلام على خلل. الأمر الثانى: أن هذا الحكم الذي ذكره الرافعي، وهو تقويم الأم وحدها إنما يأتى إذا كان المرهون هو الأم، حتى لو رهن الولد انعكس الأمر، والمسألة قد فرضها هو فى رهن أحدهما كما تقدم فراجع لفظه. وهذا الاعتراض وارد على "الروضة" أيضًا و"المحرر" و"المنهاج"، وكذلك على "الحاوي الصغير"، فإنه قال: وإن رهن واحد وزع بقيمتها وقيمتهما أي إذا رهن واحد من الأم أو الولد وزع بقيمة الأم وبقيمتهما. والسبب فى وقوع هذا الاعتراض الفاحش فى هذه الكتب، أن الغزالى في "الوجيز" مثل برهن الأم، فلما شرحه الرافعي التفت إليه ومشى على حكم المثال بعد أن ذكر هو لفظًا عامًا، ولم يمثل به فلزم وقوع ذلك فيه، وفي فروعه المتقدم ذكرها. الأمر الثالث: أنا إذا فرعنا على أنه يقوم الولد أيضًا، فقال الغزالى: إنه يقوم منفردًا. قال الرافعي: والوجه ما نقله الإمام أنه يقوم الولد محضونًا مكفولًا، كما قومنا في نظيره من الأشجار أنها تقوم ثابتة لا مقلوعة، ثم إن النووي في "الروضة" لما حكي الوجه الثاني في الأشجار لم يقيدها بكونها ثابتة، ثم أحال رهن الأم على ما تقدم في رهن الشجر، فلزم أن يقوم الولد

منفردًا إذا فرعنا على ذلك الوجه، وهو خلاف ما رجحه الرافعي، والعجب من حذف النووى ذلك. قوله: إذا رهن ما يسارع إليه الفاسد بدين حال، فإن بيع في الدين أو قضي من موضع آخر فذاك، وإلا بيع وجعل الثمن رهنًا. فلو تركه المرتهن حتى فسد، قال في "التهذيب": إن كان الراهن أذن له فى بيعه ضمن، وإلا فلا. ويجوز أن يقال: عليه الرفع إلى القاضي ليبيعه. انتهى. قال في "الروضة": هذا الاحتمال الذي قاله الرافعي قوى أو متعين. انتهى. وفيما قاله أمران: أحدهما: أن إذن الراهن للمرتهن في بيع السلعة لا يصح على الصحيح إلا إذا باع والمالك حاضر فينبغى حمل هذا عليه. الثانى: أن هذا الاحتمال الذى ذكره الرافعي وقواه النووي، راجع إلى قول صاحب "التهذيب": أنه إذا لم يأذن الراهن في البيع لا يضمن، وهو الذي فهمه النووي أيضًا، فإنه قال في "الروضة" عقب ذكره أنه قوي أو متعين ما نصه: وقد قال صاحب "التتمة" في هذه الصورة إن سكتا حتى فسد، [أو طلب المرتهن بيعه فامتنع الراهن، فهو من ضمان الراهن] (¬1). وإن طلب الراهن بيعه فامتنع المرتهن، فهو من ضمان المرتهن. هذا كلامه. وهو صريح في إرادة المسألة الثانية غير أنه مخصوص بما إذا لم تكن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

مراجعة الرهن؛ فإن أمكنت مراجعته لم يكن للقاضى أن يبيع، وفهم ابن الرفعة أنه عائد إلى قول البغوي: أنه إذا أذن له ضمن وعلى هذا فمعناه أنه إذا أذن له في بيعه فلم يفعله فعليه أن يرفع الأمر إلى القاضي. ثم قال: ويجوز أن يقال: لا يضمن، لأن البيع لا يجب عليه. قال: بل الولى مع كونه يجب عليه عمارة عقار الطفل، فى وجوب الضمان عليه وجهان إذا أهمله. قوله في المسألة: وإن لم يشترط هذا ولا ذاك -يعنى بيع ما يتسارع إليه الفساد- ولا عدم بيعه، فقولان أصحهما عند أصحابنا العراقيين: أنه لا يصح، وميل من سواهم إلى الصحة، وهو الموافق لنصه في "المختصر" انتهى ملخصًا. وهذا الكلام ليس فيه تصريح بتصحيح واحد من القولين، وقد اختلف كلامه فى الأصح منهما، فقال في "الشرح الصغير" ما نصه: أظهرهما عند الأكثرين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد: يصح الرهن ويباع عند الإشراف على الفساد. انتهى لفظه بحروفه. وقال في "المحرر" ما نصه: وإن لم يشترط لا هذا ولا ذاك لم يصح الرهن في أصح القولين انتهي كلامه. والفتوى على الصحة على خلاف ما في "المحرر" لنقل الرافعي إياه في "الشرح الصغير" عن الأكثرين. ولم يصرح النووي في "الروضة" بتصحيح، غير أنه نقل من "زياداته" أن الرافعي في "المحرر" صحح البطلان واقتصر عليه، وأقر الشيخ في "التنبيه" على تصحيح البطلان، ولم يستدركه في تصحيحه، وهو يشعر برجحان المنع عنده، وقد تقدم أن الأمر على خلافه فاعلمه.

قوله: ولو طرأ قبل القبض ما عرضه للفساد، ففى الانفساخ وجهان كما في حدوث الموت والجنون. انتهى. والصحيح: عدم الانفساخ، فقد جزم في "المحرر" بما يقتضينه، وقال النووي في "زيادات الروضة": إنه الأرجح، والمراد بحدوث الموت والجنون أي فى العاقد فاعلمه فإن فيه خلافًا يأتى في الباب الثاني. قوله: الثانية: رهن العبد الجانى مرتب على بيعه، إن لم يصح بيعه فرهنه أولى، وإلا فقولان. . . . إلى آخره. وهذا الكلام يؤخذ منه رجحان امتناع رهنه إذا كانت الجناية خطأ لأن الراجح امتناع بيعه. وأما حيث يجوز بيعه، وهو ما إذا كانت الجناية عمدًا، فلم يرجح هو ولا النووي في "الروضة" شيئًا. والصحيح الجواز، كذا ذكره في "المحرر" فقال: ورهن العبد المرتد والجاني كبيعهما، هذا لفظه. والصحيح: جواز البيع، فيكون الرهن كذلك. قوله: فإن صححنا رهنه، فقال المسعودى والإمام: يكون مختارًا للفداء كما لو باعه. وقال ابن الصباغ: لا يلزمه الفداء بخلاف البيع، لأن محل الجناية باقى هنا، والجناية لا تنافي الرهن. انتهي. فيه أمران: أحدهما: أن الراجح عدم الوجوب، بل يكون مخيرًا بينه وبين التسليم ليباع، كذا نقله النووي من "زياداته" عن الأكثرين.

الثاني: أن الرافعي ذكر في كتاب النكاح وجهين في جواز تزويج الجارية الجانية، وصحح النووي من زياداته الجواز، وجزم هو والرافعي بأنا إذا صححنا يكون ملتزمًا للفداء، وهو مشكل على هذه المسألة والقياس التسوية. قوله: ولو رهن الثمرة قبل بدو الصلاح بدين مؤجل [يحل] (¬1) قبل الإدراك فقولان: أصحهما: البطلان، لأن العادة في الثمار الإبقاء إلى الإدراك، فصار كما لو رهن شيئًا على أن لا يبيعه عند المحل. وإن شرط القطع عند المحل فقيل: يصح قطعًا، وإليه أشار الشيخ أبو حامد وصاحب "التهذيب"، وقيل: على القولين: انتهى ملخصًا. والصحيح طريقة القطع، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: والأظهر القطع بالجواز. هذا لفظه. وصحح النووي في "زيادات الروضة" الجواز فقال: إنه المذهب، ولم يصرح بالأصح من الطريقين. قوله: وإن استعار شيئًا ليرهنه فتلف في يده، فأطلق الغزالي أنه يضمن لأنه مستعير. وقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إنه ضمان فلا شيء عليه. انتهى ملخصًا. لم يصح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والمذهب الضمان، كذا قاله النووي من "زياداته"، ولا ذكر للمسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج"، وظاهر سياق الرافعي أن محل القولين في ما بعد الرهن. وحينئذ فما سلكنا به مسلك الضمان مطلقًا، ولا مسلك العارية مطلقًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأيضًا فلو تلف في يد المستعير قبل الرهن أو بعده وقبل القبض هل يضمن أم يتخرج على القولين؟ . قوله: ومنها إذا قلنا: إنه ضمان وجب بيان جنس الدين. . . . إلى آخره. سكت عن التفريع على القول بأنه عارية، قال في "الروضة": وإذا قلنا به فله أن يرهن عند الإطلاق بأي جنس شاء وبالحال والمؤجل. قال في "التتمة": لكن لا يرهنه بأكثر من قيمته لأن فيه ضررًا. قال: ولو أذن في حال فرهن بمؤجل لم يصح كعكسه، لأنه قد لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل، ولو استعار ليرهن عند واحد فرهن عند اثنين أو بالعكس لم يجز على الأصح، كذا نقله الرافعي في آخر الباب الثالث، وعلله فاعلمه. قوله: الركن الثاني: المرهون به، وله ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون دينًا ثابتًا لازمًا. . . . إلى آخره. تابعه على ذلك في "الروضة" وقد أهمل شرطًا رابعًا، وهو أن يكون معلومًا لكل منهما، كذا رأيته في "شرائط الأحكام" لابن عبدان، وجزم به ابن الرفعة في "الكفاية" ناقلًا له عن "الاستقصاء"، ورأيت في "المعين على مقتضي الدين" لأبي خلف الطبري أحد أصحاب القفال نحوه أيضًا فقال: الخامس: أن يكون الحق الذي يرهن فيه الرهن يكون معلوم المقدار. ثم قال: والسابع: يجب أن تكون مدة حبس الرهن معلومة، وغاية فكه محدودة، لأنه إذا كانت مجهولة لا يصح الرهن. هذا لفظه بحروفه. وكأنه أراد بالسابع أن يكون الأجل معلومًا. قوله: ولو امتزج الرهن وسبب ثبوت الدين، بأن قال: بعتك هذا

بألف وارتهنت بها عندك، فقال: اشتريت ورهنت، أو قال: أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها عبدك، فقال: استقرضت ورهنت صح الرهن على الأصح، وهو ظاهر النص ولو قال البائع: ارتهنت وبعت وقال المشترى: اشتريت ورهنت لم يصح، لتقدم أحد شقي الرهن على شقي البيع. وكذا لو قال: رهنت وبعت. وقال المشترى: رهنت واشتريت لتقدم شقى الرهن معًا على أحد شقي البيع فالشرط أن يقع أحد شقي الرهن بين شقي البيع، والآخر بعد الشقين معًا. انتهى. وهذا الضابط الذي ذكره في آخر كلامه، واقتضاه كلامه قبل ذلك أيضًا قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو مخالف لما ذكراه في نظير المسألة، وهو مزج البيع بالكتابة، فإن حاصله تجويز المقارنة وغيرها وسيأتيك ذلك واضحًا في أوائل باب الكتابة فراجعه. قوله: ولو قال البائع: بعتك بكذا على أن ترهنى دارك به, فقال المشترى: اشتريت ورهنت، فوجهان: قال بعضهم: يتم العقد بما جرى. وذكر في "التتمة" أنه ظاهر النص، وقال القاضي لا يتم بل يشترط أن يقول بعده: ارتهنت أو قبلت، لأن الذي وجد منه إنما هو شرط إيجاب الرهن لا استحبابه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب". . . . إلى آخره. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، والراجح هو الاكتفاء فإنه المشهور عند الأصحاب، كذا ذكره الإمام في "النهاية" في أول كتاب الرهن مع أنه ذكر هنا أن المحققين على أنه لا يكفي. قوله: قال الإمام: وجواز الرهن بالثمن في مدة الخيار مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع، فإن منعه فالظاهر منع الرهن لوقوعه قبل ثبوت الدين. انتهى كلامه. وتعبير الإمام بالظاهر في هذه الحالة يشعر بخلاف [في المسألة وهو

صحيح، وسببه: اختلافهم فيما لم يجب ولكن جري سبب] (¬1) وجوبه. قوله: وإن كان الأصل فى وضع الدين هو الجواز كالجعل في الجعالة فوجهان: أصحهما: لا يصح الرهن، وموضع الوجهين ما بعد الشروع في العمل وقبل تمامه، أما قبل الشروع فلأنه لا ثبوت للجعل بحال، وأما بعد الفراغ فلأنه لازم. ثم قال ما نصه: [ثم لبان أن يبنى] (¬2) الوجهين على الوجهين في جواز رجوع المالك بعد الشروع في العمل، ويقول: إن لم نجوز الرجوع فقد لزم الجعل من قبله فيصح الرهن به، وإن جوزناه لم يصح الرهن به. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ظاهر كلام كثير من الأصحاب أو أكثرهم أن الخلاف بعد العمل، هكذا قاله في "الروضة"، وإجراء الخلاف في هذه الحالة صحيح، وسببه اختلافهم فى ما لم يجب، ولكن جرى سبب وجوبه، وادعي في "الروضة" أن الصواب [ما قاله الرافعي ذهولًا عن هذا التوجيه، وليس كذلك بل الصواب طريقة إجراء الخلاف مطلقًا. وأما تقييد الخلاف] (¬3)، فذكره القاضي حسين ثم البغوي ثم الرافعي، وتحصل من مجموع ذلك ثلاثة أوجه. الأمر الثاني: وقد نبه عليه بعضهم: أنه لو صح ما قاله الرافعي من البناء لكان الأصح جواز الرهن، وليس كذلك. وأيضًا فلا خلاف في جواز الرجوع، وإنما الخلاف في أثر الرجوع، فقيل: لا يستحق شيئًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: ولك أن تبني. (¬3) سقط من أ.

وحينئذ فلا يصح الرهن، وقيل: يستحق القسط من المسمى، وحينئذ فإن علم صح. وقيل: يستحق أجرة مثل ما عمل، وهو الصحيح، وعلى هذا قد يقال: إن هذا إنما يجب بعد الرجوع أما قبله فالأمر ينتهى إلى استحقاق المسمى فلا يصح. ويحتمل أن يقال: استحق بدل عمله إما من المسمى بقسطه وإما أجرة مثله. وعلى كلا الاحتمالين يبعد تصحيح الرهن أما على الأول فلأنه لم يستحق. وأما على الثاني فلأن المستحق لم يتعين، وأيضًا بتقدير هذا كله فلا يصح ضمان الجميع على مقتضى ما قاله من البناء، مع أن كلامه فيه -أعني في الجميع- قال ابن الرفعة: وصور البندنيجى المسألة بما إذا قال: من جاء بعبدى الآبق فله دينار، فقال له رجل: أعطني به رهنًا وأنا آتيك به، ولو قال: إن رددت عبدي الفلاني فلك كذا، وهذا رهن به فهو بمعناه بلا شك. أما لو قال: من جاء بعبدي الفلاني فله دينار وهذا رهن به، فهل يقال: لا يصح الرهن لكون المرتهن غير معين، أو يصح ويسقط القبول في الرهن تبعًا لمال الجعالة؟ فيه نظر، والأقرب الأول. قوله: فرع: لا يجوز رهن الملاك بالزكاة، والعاقلة بالدية قبل تمام الحول لفوات الشرط الثاني. انتهي لفظه بحروفه. ومقتضي هذا الكلام صحة الرهن بالزكاة بعد تمام الحول، وكيف يصح مع أن الزكاة تجب في العين بحيث يكون الفقراء شركاء رب المال. ولا شيء في ذمة المالك، وشرط الرهن أن يكون على دين، وقد يأول

بأن التقييد بما قبل الحول راجع إلى المسألة الثانية، وهي مسألة العاقلة، وقد ذكروا في الضمان ما يقتضي الصحة أيضًا كما سأذكره هناك، وهو ضعيف التأويل. قوله: فما جاز الرهن به جاز ضمانه، وكذا عكسه إلا ضمان العهدة فإنه جائز، ولا يجوز الرهن به على الصحيح. انتهى. تستثنى أيضًا الأعيان المغصوبة، فإن ضمانها يصح دون الرهن على الصحيح. وقد استثناه في "الروضة"، واعلم أن النووي في "الروضة" هنا قد جعل الخلاف في ضمان العهدة وجهين، وصرح في كتاب الضمان تبعًا للرافعي بقولين، وعنده أن عدم الصحة يتخرج على أن الرافعي هنا لم يبين هل هو قولان أو وجهان؟ . قوله: رهن شيئًا بعشرة، ثم استقرض عشرة ليكون رهنًا بهما، وأشهد شاهدين أنه مرهون بالعشرين، فإن لم يعلم الشاهدان الحال شهدا بما يسمعا، وحكم الحاكم بأنه مرهون بالعشرين. نعم لو قال عند الإشهاد: كان مرهونًا بعشرة فجعلته رهنًا بعشرين، ونقل الشاهدان ما سمعا، فهل يحكم بكونه رهنًا بالعشرين إذا كان الحاكم ممن يذهب إلى القول الجديد؟ حكى الإمام عن صاحب "التقريب" فيه وجهين، وإن عرفا الحال فإن كانا يعتقدان جواز الإلحاق، فهل لهما أن يشهدا بأنه رهن بالعشرين أم عليهما بيان الحال؟ وجهان. وإن كانا يعتقدان منع الإلحاق لم يشهدا إلا بما جرى باطنًا، وفيه شيء بعيد.

وهذا التفصيل فيما إذا شهدا بنفس الرهن، وفيه صور الجمهور، فإن شهدا على إقرار الراهن فالوجه تجويزه مطلقًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد اختصر أوائل هذا الكلام اختصارًا فاسدًا سببه إسقاط شيء منه، فإنه قال: فرع: رهن بعشرة، ثم استقرض عشرة ليكون رهنًا بهما، وأشهد شاهدين أنه مرهون بالعشرين، فإن لم يعلم الشاهدان الحال ونقلا ما سمعا، فهل يحكم بكونه رهنًا بالعشرين إذا كان الحاكم يعتقد القول الجديد؟ وجهان. هذا لفظه. فأسقط ما وقع بعد لفظ الحال إلى قوله: ونقلا، فاجمع بينه وبين كلام الرافعي. وتأمله. الأمر الثاني: أن الأصح من الخلاف الثاني منع الشاهدين من الشهادة بذلك، كذا صححه النووي من "زياداته"، وعلله بأن الاجتهاد إلى الحاكم لا إليهما. وقول الرافعي: (وفيه شيء بعيد) أراد أن فيه خلافًا بعيدًا. وقد صرح به في "الروضة"، وسوف تكون لنا عودة إلى الكلام على هذه المسألة في الباب الثاني من كتاب القضاء إن شاء الله تعالى. قوله من "زياداته": ولو مات وعليه دين مستغرق فرهن الوارث التركة عند صاحب الدين على شيء آخر، ففي صحته وجهان بناء على القولين. انتهى. وتقييد المسألة بالدين المستغرق موهم، ولا فرق بين المستغرق وغيره فاعلمه. قوله: وإن كان الرهن مشروطًا في بيع نظر إن لم يجز الشرط جهالة

كما إذا شرط في البيع رهنًا على أن يبقي محبوسًا عنده بعد أداء الثمن شهرًا، ففي فساد الرهن قولان: أصحهما: الفساد. فإن فسد ففي فساد البيع القولان في أن الرهن وسائر العقود المستقلة إذا شرطت في البيع على نعت الفساد هل يفسد البيع؟ وقد ذكرناهما في باب البياعات. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه هنا وهناك يوهم أن القولين جاريان في ما إذا شرط بيعًا أو إجارة أو غيرهما في بيع وليس كذلك، بل اشتراط صحيحه باطل مبطل فاشتراط فاسده أولى. وإنما القولان اللذان أشار إليهما الرافعي في البابين في ما كان كالصفة في البيع في جواز شرطه معه، ويجوز إفراده، وذلك هو الراهن والكفيل والضمين فقط، وتعليلهما مذكور في كلامه. الأمر الثاني: أن الشرط متى بطل جر جهالة مطلقًا، لأن الرهن يترك لأجله جزء من الثمن، فإذا بطل وجب أن يضم ذلك الجزء المجهول إلى الثمن فيصير مجهولًا، وهذا هو مقتضى كلام الأصحاب، والمعنى يقتضيه أيضًا. نعم إن كان الشرط لا غرض فيه فمسلم، وليس الكلام فيه. قوله في أصل "الروضة": فلو رهن شجرة أو شاة بشرط أن يحدث الثمرة أو الولد مرهونًا لم يصح الشرط على الأظهر، وقيل: يصح قطعًا لأنه مجهول معدوم. انتهى كلامه. وما ادعاه من الصحة قطعًا غلط، بل صوابه عدم الصحة، ولذلك

ذكره الرافعي. قوله في المسألة: لا يصح أيضًا الرهن على الصحيح، ثم قال: فإن كان الرهن بهذا الشرط مشروطا في بيع، فإن صححنا الشرط أو أفسدناه، وصححنا الرهن صح البيع، وللبائع الخيار. انتهى كلامه. وهو صريح في إثبات الخيار مع صحة الشرط، وهو سهو وكأنه نقص منه شيء، ويكون الأصل، وللبائع الخيار في المسألة الثانية. قوله: المسألة الثانية: لو قال: أقرضتك هذه الألف بشرط أن ترهن به وبالألف الذي لي عليك كذا. فرهن بالألف القديم ظانًا صحة ذلك. فعن القاضي أنه لا يصح الرهن. إلى آخره. هذه المسألة سبق الكلام عليها في أول الباب الثالث من أبواب البيع. قوله: فرع: لو قال: رهنتك هذا الحُق بما فيه، أو هذه الخريطة بما فيها، وما فيهما معلوم مرئي صح الرهن في الظرف والمظروف، وإلا لم يصح الرهن في المظروف، وفي الحق والخريطة قولا تفريق الصفقة. انتهى كلامه. وجزمه هنا بطريقة القولين يقتضي أن العلة في جريان القولين في تفريق الصفقة هو تبعيض الصفقة إذ لو كانت العلة هي الجهل بالعوض لزم الصحة هنا قطعًا. وقد تقدم الوعد في باب تفريق الصفقة بذكر هذه المسألة. قوله عقب ما تقدم: وما نص عليه في "المختصر" من الصحة في الحق، وعدمها في الخريطة فسببه أنه وضع المسألة في حق له قيمة يقصد لها بالرهن، وفي خريطة ليست لها قيمة تقصد لها بالرهن. وحينئذ يكون المقصود ما فيها، ولو كان اللفظ مضافًا إليهما جميعًا،

وما فيهما بحيث لا يصح الرهن فيه فيبطل [ما فيها. ولو كان اللفظ مضافًا إليهما جميعًا، وما فيها بحيث لا يصح الرهن فيه فيبطل] (¬1) فيهما جميعًا. وفي وجه يصح الرهن فيها، وإن كانت قليلة القيمة اعتبارًا باللفظ. انتهى كلامه. اعلم أن المسألة لها أربعة أحوال: أحدها: أن يرهنهما جميعًا، وهو المراد من هذا الكلام الذي ذكرته. والثاني: أن يرهن الظرف دون ما فيه. الثالث: أن ينص على الظرف ولا يتعرض لغيره. والرابع: أن ينص على المظروف وحده. وحكم هذا القسم [أنه إن كان المظروف معلومًا صح فيه دون الظرف، وهذا القسم] (¬2) لم يذكره الرافعي، وذكر الثلاثة الأولى، وكلامه في ما إذا رهن الظرف وحده أو رهنه وأطلق واضح. وأما الأول وهو رهنهما فالذي تقدم من أول الفرع إلى آخره مفروض فيه، لكنه عبر في آخره بعبارة مشكلة فلنوضحه فنقول: قوله: (فإن كان اللفظ مضافًا إليهما جميعًا) ليس هو استئناف قسم آخر، بل من تتمة تأويل النص الوارد في الخريطة لا تنتهي قيمتها إلى حيث يقصد بالرهن فافهمه. وقوله: (إليهما) أي إلى الخريطة المذكورة وما فيها. وقوله: (وما فيها) أي وما في الخريطة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ، جـ.

وقوله: (فيبطل فيهما) أي في الخريطة وما فيها. والحاصل أنه أعاد صورة المسألة إيضاحًا وتوطئة للوجه الذي ذكره من بعد، وهو أنه لا يبطل الرهن بانتفاء القيمة التي [يقصد] (¬1) لمثلها الرهن، بل يصح فيهما، وإن كانت قليلة القيمة، وهو وجه متجه جدًا. وظن النووي أن قول الرافعي: (ولو كان اللفظ. . . . إلى آخره) هو القسم الرابع، وهو رهن المظروف وحده، فقال: ولو كان اللفظ مضافًا إلى ما فيهما جميعًا وكان ما فيهما بحيث لا يصح الرهن فيه بطل فيهما جميعًا، وفي وجه يصح فيها، وإن كانت قليلة القيمة اعتبارًا باللفظ. هذا لفظه. وهو غلط فإنه مع مخالفته لتعبير الرافعي لا يتصور مجيء خلاف في الظروف، ولا يصح معه التعليل الذي ذكره، بل الخلاف راجع إلى رهن الظرف والمظروف. وقد صرح به كذلك الغزالي في "البسيط"، غير أنه لم يذكر رهن المظروف وحده ولا الظرف وحده وكأنه تركهما لوضوحهما، وذكر الإمام نحوه أيضًا. قوله من "زياداته": قال إمام الحرمين والغزالي في "البسيط": كل ما ذكرناه في الرهن يجرى مثله في البيع حرفًا حرفًا في ما إذا قال: بعتك الخريطة بما فيها أو وحدها، أو الخريطة لأن مأخذه اللفظ والله أعلم. وهذا الذي ذكره في "زياداته" يقتضي أنه إذا لم يكن للخريطة وغيرها من الظروف قيمة لا يصح البيع في المظروف، ويأتي في الظرف ¬

_ (¬1) في جـ: يفسد.

قولا تفريق الصفقة، وهو مخالف لما ذكره قبل باب الربا من "زياداته" أيضًا، فإنه جزم هناك بالصحة فيهما من غير تفصيل بين أن يكون له قيمة أم لا. ثم ذكر بعده هذا التفصيل فيما إذا باع المظروف والظرف كل رطل بدرهم. فكان ذلك صريحًا في تعميم الأول، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: ومنها -أي من صور الارتهان على مال الطفل- أن يكون دينه مؤجلًا، إما بأن ورثه كذلك، أو بأن باع الولي حالًا ماله نسيئة بالغبطة، ولا يجوز الاكتفاء بيسار المشتري، بل لابد من الارتهان بالثمن. وفي "النهاية" رمز إلى خلاف ذلك أخذًا من جواز إيضاع ماله. انتهي كلامه. وما نقله عن "النهاية" من الرمز إلى خلاف ذلك تابعه عليه في "الروضة"، وقد صرح الإمام في المسألة بوجهين، وصحح الجواز، ونقله عنه الرافعي كذلك في كتاب الحجر فقال: وروي الإمام وجهين في صحة البيع إذا لم يرتهن وكان المشتري مليًا، وقال: الأصح الصحة، هذا كلام الرافعي؛ لكن المذكور في "النهاية" هاهنا هو ما قاله الرافعي.

قوله: الفصل الثاني رهن المكاتب وارتهانه جائز إن شرط النظر والمصلحة كما ذكرنا في حق الطفل. ومنهم من قال: لا يجوز استقلالًا، وبإذن السيد قولان بناء على أن الرهن تبرع؛ وتفصيل صور الارتهان كما في الفصل الأول. وفيه وجه: أنه لا يجوز له الاستقلال بالبيع نسيئة بحال. انتهي كلامه. وما صححه الرافعي هنا من إلحاق المكاتب بالطفل، قد صحح خلافه في أثناء كتاب الكتابة في الحكم الثالث من أحكام الكتابة، ونقله عن إطباق عامة الأصحاب عليه. وكذلك ما صححه من جواز البيع نسيئة قد خالفه هناك فقال: ولا يجوز الرهن (¬1) [ولا الإرتهان ولا البيع نسيئة وتابعة في "الروضة" على الموضعين، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى فاستحضره، واعلم أن الفتوى على خلافه. قال الرافعي: ورهن المأذون أولى بالمنع من جهة أن الرهن ليس من عقود التجارات وشبهه الإمام بإجارة الرقاب. قال في "الروضة": وهذا الترتيب الذي قاله الرافعي ترتيب الإمام، قال: وقطع الشيخ أبو حامد وصاحب "الشامل" و"التهذيب" بأنه كالمكاتب. ¬

_ (¬1) بداية سقط من ب.

الباب الثاني في القبض والطوارئ قبله

الباب الثاني: في القبض والطوارئ قبله قوله: صفة القبض هنا في العقار والمنقول كما سبق في البيع، ويطرد الخلاف في كون التخلية في المنقول قبضًا، وعن القاضي: القطع بأنها لا تكفي هنا، لأن القبض مستحق هناك. انتهى. واعلم أن ما ذكره في تعليل عدم الاكتفاء في [الهبة] (¬1) موجود بعينه في الموهوب، فيكون الحكم فيهما سواء بلا شك. لكنه اقتصر في باب الهبة علي عدم جريان ذلك القول، ناقلا له عن المتولي وهو تلميذ القاضي الحسين. وستعرف لفظه هناك. قوله: وإذا رهن شيئًا عنده فلابد من الإذن في قبضه، وكذا مضي الزمان إليه. وقال حرملة: لا يحتاج إلى مضيه، وفي اشتراط مصيره إليه ومشاهدته أوجه: أصحها: لا. وثالثها: إن شك في بقائه كالحيوان اشترط، لأنه معرض للآفات، وإن تيقن بقاءه فلا. انتهى. ذكره مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن اشتراط عدم الذهاب إليه صححه البغوي فتبعه عليه الرافعي ثم النووي. والأكثرون على الإشتراط، ونقله ابن الرفعة عن ظاهر نص الشافعي. ¬

_ (¬1) في جـ: الرهن.

الثاني: نبه عليه النووي من زياداته فقال: المراد أن حرملة قاله مذهبًا لنفسه لا نقلًا عن الشافعي، كذا صرح به الشيخ أبو حامد وآخرون. فاعلمه. فإن عبارة "المهذب" تقتضي أنه نقله عن الشافعي. قال: فحصل أن المسألة ذات وجهين لا قولين. قوله: المسألة الثانية: إذا باع المالك الوديعة أو العارية ممن هى في يده، فهل يعتبر زمان إمكان القبض بجواز التصرف وانتقال الضمان؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم. وعلى هذا فهل يحتاج إلى الإذن في القبض؟ نظر: إن كان الثمن حالًا ولم يوفيه، لم يحصل القبض إلا إذا أذن البائع فيه، فإن وفاه أو كان مؤجلًا فعن الشيخ أبى علي رواية طريق أنه كالرهن. والمشهور أنه لا يحتاج إليه. والفرق أن البيع يوجب القبض، فدوام اليد يقع عن القبض المستحق. ولا استحقاق في الرهن. انتهى كلامه. وما ذكره من [الجزم باشتراط] (¬1) الإذن في القبض عند ثبوت حق الحبس وأن التردد محله عند عدم ثبوته، كيف يتصور القول به مع أن المبيع لو كان في يد البائع ولم يكن له حق الحبس لكان للمشتري انتزاعه منه قهرًا بلا خلاف، كما أوضحوه في باب القبض، فكيف يترددون مع ذلك في اشتراط الإذن إذا كان في يد المشتري، فإنا قد نحكم بالقبض لأجل اليد وإن لم نجوز الإنتزاع، ولهذا لا يجوز للمرهون عنده والمرهون منه أن ينتزع العين بلا خلاف، وفي افتقارهما إلى الإذن حالة كونها في ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

يدهما ثلاثة أوجه مشهورة. وقد اتضح الأمر وانكشف الحال عن انعكاس هذا الخلاف، وأنه إن لم يكن للبائع حق الحبس فلا يفتقر المشتري إلى إذنه. وإن كان له حق الحبس فهو محل خلاف الشيخ أبى علي، كذا صرح به الغزالي في "البسيط" فقال: وذكر الشيخ أبو علي وجهًا أنه ينزل منزلة الرهن في افتقاره إلى إذن جديد حتي إذا لم يأذن لم يبطل حقه من الحبس ولم يخرج من ضمانه. ولا شك أنه لو وفي الثمن حصل تمام القبض. هذا لفظ الغزالي. وذكر في "النهاية" نحوه فقال: وذكر أبو علي وجهًا أن القبض لا يحصل ولا يبطل حق البائع من الحبس إذا أثبتناه، ما لم ياذن له أو يتوفر عليه الثمن، وهذا غريب. هذا كلامه. وجزم ابن الرفعة بما قلناه من الجزم عند عدم الحبس، وحكاية الخلاف عند ثبوته وصحح حصول القبض كما صححه الإمام والغزالي وغيرهما. قوله في أصل "الروضة": فكل مزيل للملك كالبيع والإعتاق والإصداق وجعله أجرة والرهن والهبة مع القبض، والكتابة والوطء مع الإحبال، يكون رجوعًا. انتهى كلامه. وعده الوطء وما بعده سهو، فإنه لا يزيل الملك، ولم يعبر الرافعي بذلك بل بعبارة مستقيمة. قوله: قال الإمام: وإباق [العبد] (¬1) المرهون قبل القبض مخرج على وجهين. انتهى. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

والأصح منهما أن الرهن] (¬1) لا يبطل، كذا صححه في "المحرر" وعبر بالأصح، وصححه أيضًا في "الروضة" من "زياداته". قوله: والخمر نوعان: أحدهما: المحترمة وهي التي اتخذ عصيرها ليصير خلًا. انتهي. وهذا الذي ذكره في تفسير المحترمة، قد خالفه في كتاب الغصب في أثناء الباب الثاني في الكلام علي ما إذا غصب عصيرًا فتخمر فقال: إن المحترمة هي التي عصرت لغير قصد الخمرية. ويتخرج علي الجوابين ما إذا عصرت لا بقصد، وتبعه النووي في "الروضة" علي الموضعين. قوله: أما إذا طرح في العصير بصلًا أو ملحًا بقصد التخليل فتخمر، ثم تخلل فوجهان. قال في "التهذيب": أصحهما: أنه لا يطهر. انتهى. والصحيح ما صححه صاحب "التهذيب"، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: وحكى الإمام عن بعض الخلافيين أنه لا يجوز إمساك الخمر المحترمة، بل يضرب عن العصير إلى أن يصير خلًا. فإن اتفقت منا اطلاعة وهو خمر أرقناه. انتهى. وإسناده ذلك لبعض الخلافيين وسكوته عليه، قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وهو يشعر بعدم وجوده لأئمة المذهب، وهو غريب. فهذا هو المعروف عن العراقيين، قد نقله عنهم ابن الرفعة في "الكفاية" في باب النجاسات، وفي الغصب. ¬

_ (¬1) نهاية سقط كبير من ب.

قوله: ويطهر ما فوق الخل مما أصابه الخمر في حال الغليان، قاله الفاضي حسين وأبو الربيع الإيلافي. انتهى. وما قالاه من الطهارة قد خالفهما فيه غيرهما من الأصحاب، فقال: إنه نجس معفو عنه. وقال البغوي في "فتاويه" بعد نقله: إنه الصحيح عندي، بل رأيت في كتاب "الحيل" لأبي حاتم القزويني الجزم بأنه نجس غير معفو عنه، إلا أن الصحيح هو الأول، ولهذا جزم به النووي في "فتاويه" ونقله عن الأصحاب.

الباب الثالث في حكم المرهون بعد القبض

الباب الثالث: في حكم المرهون بعد القبض قوله: ولو [أخر] (¬1) المرهون مدة تزيد علي محل الدين بطل على المشهور. ثم قال ما نصه، ثم القائلون بالمنع لم يفصل الجمهور منهم، وقال في "التتمة": يبطل قدر الأجل [وفي] (¬2) الزائد عليه قولا تفريق الصفقة. انتهى لفظه بحروفه. وتبعه عليه في "الروضة" وهو غلط في التعبير والصواب وهو المذكور في "التتمة" أن يقول: بطل الزائد علي الأجل، وفي قدره قولان. ثم إن هذه الطريقة هي قياس ما قالوه في تفريق الصفقة، وإلا فما الفرق؟ . وجزم بها أيضًا الماوردي في "الحاوي" و [في] (¬3) نظير المسألة إجازة الطفل. قوله: وإن أعتقه فأقوال. انتهى. قال القاضي حسين في "فتاويه": محل ذلك إذا لم يعتقه عن كفارة غيره. فإن أعتقه عنها لم يصح، ونقله في "الروضة" عنه وأقره. قوله: التفريع إن قلنا: لا ينفذ إعتاق المرهون فانفك بإبراء أو غيره فقولان أو وجهان: أظهرهما: أنه لا يحكم بنفوذه أيضًا. انتهى. ¬

_ (¬1) في جـ: أجر. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من جـ.

ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وكذلك النووي في "الروضة". والصحيح: أن الخلاف وجهان، كذا جزم به الرافعي في "المحرر"، والنووي في "المنهاج". قوله: ومتي كان الراهن موسرًا وقلنا: ينفذ عتقه مطلقًا، أو من الموسر فقط، ففي وقت نفوذه طريقان. . . . إلى آخره. فيه إشارة إلى أنا إذا نفذنا إعتاق المعسر فيعتق في الحال بلا خلاف. قال النووي في "زياداته": وقد صرح به الشيخ أبو حامد، وصاحب "الشامل" وغيرهما. قوله من "زوائده": إذا أعتق المرهون عن كفارته أجزأه، إن قلنا: ينفذ إعتاقه. وإن أعتقه عن كفارة غيره فلا يعتق لأنه بيع، قاله القاضي حسين في "الفتاوي". انتهى. والمسألة [الأولي] (¬1): قد ذكرها الرافعى في كتاب الظهار أبسط من المذكور هنا، فلا حاجة إلى زيادته إياها. وأما الثانية: وهي التكفير عن الغير فيرد عليه ما إذا مات الراهن فانتقلت العين إلى وارثه فأعتقها عن مورثه، وكذا إذا لم يرهنه، ولكن مات وعليه دين، فإنه ينتقل إلى الوارث مرهونًا. ومع ذلك يجوز إعتاقه عن مورثه، كما هو حاصل كلام الرافعي في باب الوصية، وعلله بأن إعتاقه كإعتاقه. ولو أعتق عنه الوارث عبدًا قد رهنه هو -أي الوارث- وهو موسر ففي [نفوذه] (¬2) نظر يحتمل الجواز، كما لو أعتقه عن نفسه، ويحتمل المنع، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في أ: تركه.

لأن فيه [انتقال] (¬1) المرهون إلى غيره. فإن نفذناه بطل الحكم الذي ادعاه، وإن لم ننفذه بطلت العلة بكونه بيعًا، لقصورها إذ لا عوض هنا بالكلية، ومع ذلك لا يصح. واعلم أن المنقول في باب الوصية أنه يجوز للوارث والأجنبي التبرع بها على الميت على الأصح إن كانت الكفارة مرتبة، وفي المتخيرة خلاف. قوله أيضًا من زوائده: وفي وجه يحرم وطء الحامل من الزنا. انتهى. هذا الوجه ذكره الرافعي في باب العدد وغيره، ونقله عن ابن الحداد. قوله: وهل تصير الجارية المرهونة أم ولد بالإحبال؟ ، فيه الأقوال المذكورة في الإعتاق. ثم منهم من امتنع من الترتيب وسوى بينهما لتعارض المعنيين، وبه قال الشيخ أبو حامد، والأكثرون قالوا بالترتيب، وجعلوا الاستيلاد أولى بالنفوذ، ومنهم من عكس. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، وحاصله تصحيح عدم التسوية، وخالف ذلك في "الشرح الصغير"، ورجح التسوية فقال ما نصه: وفي مصيرها أم ولد الأقوال المذكورة في الإعتاق، وقيل: الاستيلاد أولي بالنفوذ لأنه فعل، والفعل أقوى. وقيل: الاستيلاد أولي بأن لا ينفذ. هذا كلامه، وهو صريح فيما قلناه، وكلام "المحرر" يشعر به أيضًا. ووقع الموضعان في "الروضة" و"المنهاج" كما وقعا في الأصل. قوله: ولو انفك الرهن ولم يتفق بيعها نقد الاستيلاد، ومنهم من خرجه على الخلاف فيما إذا بيعت. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وحاصله تصحيح طريقة القطع، وقد صرح بها في "الروضة" أيضًا، لكن وقع في "المحرر" و"المنهاج" الجزم بطريقة الخلاف. قوله: إذا ماتت الجارية التي أولدها الراهن بالولادة والتفريع على أن الاستيلاء عندنا نافذ، فعليه قيمتها لتكون رهنًا، وعن أبي علي الطبري وغيره وجه أنه لا شيء عليه. انتهى. وما نقله عن أبي علي الطبري قد رأيت في كتابه المعروف وهو "الإفصاح" الجزم بعكسه. قوله: ولو أولد أمة الغير بشبهة وماتت بالولادة، وجبت قيمتها على المذهب بخلاف الحرة على الأصح، لأن الوطء سبب ضعيف، وإنما أوجبنا الضمان في الأمة لأن الوطء استيلاء عليها والعلوق من آثاره، والحرة لا تدخل تحت الاستيلاء، ثم قال: ولو أولد امرأة بالزنا مكرهة فماتت بالولادة حرة كانت أو أمة فقولان: أصحهما: أنه لا يجب الضمان، لأن الولادة غير مضافة إليه لقطع النسب. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه من تصحيح عدم الوجوب تابعه عليه في "الروضة"، ثم ذكر -أعني النووي- في أواخر الغصب في الكلام على وطء الغاصب والمشتري منه ما يشكل على هذا التصحيح، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه. ويؤخذ من تعليل الرافعي في هذا الباب أنه لا فرق في عدم الضمان بين كونها مكرهة أو طائعة [لأن النسب منتف عنه لكنه نص على المكرهة ليؤخذ منه الطائعة] (¬1) إما بطريقة الأولى [وإما لأنه] (¬2) لا فرق. ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من جـ.

وقد علل الرافعي الوجوب في الغصب بمأخذين موجودين في هذه الصورة. قوله: ولو خالف ما ذكرناه فغرس أو زرع حيث منعناه، فلا يقلع قبل حلول الأجل، وبعد حلول الدين ومساس الحاجة إلى البيع يقلع إن كانت قيمة الأرض لا تفي بدينه، وتزداد قيمتها بالقلع. انتهى كلامه. ومحل ما قاله من القلع إذا لم يأذن [الراهن] (¬1) في بيع الغراس والزرع. فإن أذن فيه لم يقلع، بل يباعان ويوزع [الثمن] (¬2). كذا نبه عليه الرافعي في الكلام على رهن الأم دون الولد، وهو واضح فتنبه له. قوله: لا يخرج من يده ولا يوهن. الوهن بالواو وهو الضعف، أي لا يضعف بالإخراج من يده. قوله: وإن أراد الراهن استيفاء المنافع بنفسه، قال في "الأم": له ذلك، ويمنع منه في القديم فحمل حاملون الأول على الثقة المأمون جحوده، والثاني على غيره، وأجراهما مجرون قولين مطلقًا، ووجهوا الثاني بما يخاف من جحوده وخباثته لو سلم إليه. والأول بأن ما له استيفاؤه بغيره له استيفاؤه بنفسه ويشبه أن يكون هذا أظهر، ويتفرع عليه. . . . إلى آخره. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وأطلق الأظهر ولم يتوقف فيه، وقد ظهر من تعبيره أن الإشارة بقوله: (هذا أظهر) إلى جواز الاستيفاء بنفسه مطلقًا، وحينئذ فليس في كلامه تصحيح واحد من الطريقين. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في جـ: الرهن.

إذا علمت ذلك فقد اختصر النووي في "الروضة" هذا الكلام على غير وجهه فقال ما نصه: فحمل حاملون الأول على الثقة المأمون جحوده، والثاني على غيره. وقال آخرون: هما قولان مطلقًا، وهذا أصح. قلت: المذهب جوازه مطلقًا والله أعلم. هذا لفظه، فتوهم أن الترجيح الذي ذكره الرافعي في القولين عائد إلى الطريقين، وإنما هو العكس. وجزم في "المحرر" بالجواز، ولم يحكِ خلافًا بالكلية. قوله: ويتفرع عليه ما نقله إمام الحرمين وصاحب الكتاب، وهو أنه إن وثق المرتهن بالتسليم فذاك، وإلا أشهد عليه شاهدين أنه يأخذه للإنتفاع. فإن كان مشهورًا بالعدالة موثوقًا به عند الناس فوجهان: أشبههما: أنه يكتفي بظهور حاله، ولا يكلف الإشهاد في كل [أخذة] (¬1) لما فيه من المشقة. اعلم أن المراد مما نقله عن الإمام والغزالي وهو أنا إذا أوجبنا الاشهاد أوجبناه في كل أخذة، كذا هو مصرح به في "النهاية" و"الوسيط" وإليه أشار الرافعي في آخر كلامه. فكأنه قال: لا يجب في الموثوق به ما أوجبناه في غيره وكلام "الروضة" يوهم أن ما ذكره الرافعي في آخر كلامه ليس إشارة لذلك، وأن الإشهاد يجب أيضًا في حقه، ولكن الخلاف إنما هو في تعدد الإشهاد لتعدد الأخذ. قوله: ثم إن كان إخراج المرهون من يد المرتهن لمنفعة [يدام استيفاؤها فذاك .. وإن كان لمنفعة] (¬2) تستوفى في بعض الأوقات كالاستخدام أو الركوب فيستوفي نهارًا ويرد إلى المرتهن ليلًا. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: واحدة.

تبعه في "الروضة" على إطلاق الرد في جميع الليل، والصواب ما نبه عليه ابن الرفعة في "شرح الوسيط" أنه لا يرد في جميع الليل، بل في الوقت الذي جرت العادة بالراحة فيه. قال: لأن الشافعي نص في "البويطي" في الأمة المزوجة: على أنها تترك بعد ثلث الليل. قوله: والعبد المحبوس بالثمن، هل يستكسب في يد البائع للمشتري أم تعطل منافعه؟ فيه اختلاف للأصحاب. انتهى. قال في "الروضة" من "زياداته": الراجح استكسابه. قوله: الديون التي على الميت تتعلق بتركته كتعلق المرهون وفى قول: كتعلق الأرش برقبة الجاني. وقد سبق في [الزكاة] (¬1) أن هذا التعلق لا يمنع الإرث على الأصح من الخلاف. انتهي ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن هذا الخلاف في كونه تعلق رهن أو جناية، قد جعله في كتاب العتق وجهين، ذكر ذلك قبيل الولاء بنحو ستة أوراق من جملة فصل مشتمل على مسائل متعلقة بما نحن فيه. وسلمت "الروضة" من هذا الاختلاف، فإنه لم يتعرض هناك للخلاف، والمذكور هنا هو المذكور في "المحرر" وغيره. الثاني: إذا قلنا: إنه يمنع الإرث، فهل يمنع في قدر الدين أم في الجميع؟ فيه وجهان ذكرهما الرافعي في آخر كتاب الشفعة، ولم يصحح منهما شيئًا، وقال: إنهما مذكوران في موضعهما، وموضعهما هو هذا الباب ¬

_ (¬1) في أ: الزاني.

والعتق وآخر زكاة الفطر، وهو المشار إليه بقوله: وقد سبق في الزكاة. وليس للوجهين ذكر في المواضع الثلاثة. الأمر الثالث: أن هذا الخلاف المذكور في منع الإرث، لم يبين هنا هل هو وجهان أو قولان؟ وقد حكاهما الرافعي في زكاة الفطر وجهين، وحكاه في زكاة المعشرات نقلًا عن الشيخ أبي علي أنه [قولان] (¬1) وهو الصواب، فإنه قد نقل في زكاة الفطر أن الشافعي نص على أنه لا يمنع. ونقل الإمام في كتاب الشفعة عن القديم أنه يمنع وأشار الرافعي أيضًا في الفطرة إلى إثباته قولًا فثبت القولان. ورأيت في "الأم" ما حاصله أنه يمنع أيضًا، فقال في الكتابة في باب ميراث سيد المكاتب: فإن كان الورثة محجورين فدفع المكاتب ما عليه إلى وصيهم، وعلى الميت ديون أو لا دين عليه، أوله وصايا أو لا وصايا له، فالمكاتب حر، وإن هلك في يد الوصي لأن الوصي يقوم مقام الميت إذا كان قد أوصي إليه بدينه ووصاياه وتركته. ثم قال: وإن كان الميت مات عن ورثة كبار، وليس فيهم صبي، وعليه دين، وله وصايا لم يبرأ المكاتب بالدفع إلى الورثة حتى [يصل إلى أهل الدين دينهم لأن الميراث لا يكون للورثة حتى] (¬2) يقضي الدين. وإن قضي الدين حتى يصل إلى أهل الوصايا وصاياهم لأن أهل الوصايا شركاء بالثلث. انتهى. ويؤخذ من هذا النص أمران: أحدهما: ما أشرنا إليه. والثاني: أن الوارث ليس له ولاية قبض هذا الدين، لأن الشافعي ¬

_ (¬1) في ب: لا فرق. (¬2) سقط من أ، جـ.

حكم بانتفاء العتق بهذا القبض. فلو ثبت له ولاية القبض لعتق بهذا القبض، فلو ثبت له ولاية العتق لعتق كما تقدم في الوصي وهي مسألة حسنة، وقد ذكرها الرافعي في آخر الكتابة نقلًا عن البغوي فقال: وإن قضى الديون والوصايا عتق، وإلا وجب الضمان على المكاتب، ولم يعتق. ثم نقل عن القاضي أبي الطيب مسألة أخري وهي الدفع إلى الغريم فقال: إنه يبرأ بذلك إن كان الدين مستغرقًا للتركة. قوله في "الروضة": فلو أعتق الوارث، أو باع وهو معسر لم يصح قطعًا، سواء جعلناه كالجاني أو كالمرهون ويجيء في الإعتاق خلاف. انتهى. وما ذكره هنا من نفي الخلاف في بيع الوارث المعسر لم يتعرض له الرافعي، وهو غير صحيح أيضًا، فقد حكى هو في كتاب العتق عن الإمام قولًا أنه يصح إذا جعلناه كالجناية. وحكي عنه أيضًا الرافعي فرقًا يتقوي به ما جزم به الرافعي، وصرح النووي بنفي الخلاف فيه فقال: الوارث يلغي الملك بالخلافة، وهي مشروطة بتقديم حق الميت بخلاف الجاني والمرهون. قوله: فإن كان موسرًا نفذ في وجه بناء على تعلق الأرش، ولا ينفذ في وجه بناء على تعلق حق المرهون، وفي وجه هما موقوفان. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وهذا الكلام يوهم أن الصحيح بطلان العتق، لكونه أشار إلى أن الإبطال مبني على جعله كالمرهون، وهو الصحيح، وليس ذلك مراده. إنما المراد أنه لما ذهب بعضهم إلى أنه كالجاني، وبعضهم إلى أنه كالمرهون لزم أن يجيب بعضهم بالجواز كما قد قيل به في الجاني،

وبعضهم بالمنع كما قيل به في المرهون. ويدل على أنه لم يرد استيعاب الوجوه المفرعة على كل قول، أن الصحيح في الموسر صحة اعتاقه للمرهون، وبالجملة فقد صرح في كتاب النكاح بما يدفع الوهم، فقال قبيل الباب السادس: المذهب أنه ينفذ من الوارث الموسر إعتاق عبيد التركة، وكذلك في كتاب العتق، فقال: الأظهر في الإعتاق النفوذ وفي البيع المنع. ونقل الرافعي هناك خلافًا من غير ترجيح في مسائل متعلقة [بما نحن فيه] (¬1). إحدها: إذا نفذنا العتق هل ينتقل الدين إلى ذمة الوارث أم لا ينقله بل يلزمه القيام بالأقل؟ . الثانية: إذا فرعنا على صحة البيع فتلف الثمن في يد الوارث هل للغرماء تغريم المشتري ثانيًا؟ . الثالثة: إذا صححنا البيع هل يقع [لازمًا] (¬2) أم لا كبيع الجاني؟ والإمام هو القائل بالنفي في المسائل الثلاث. قوله: وفي تعلق حقوق الغرماء بزوائد التركة كالكسب والنتاج خلاف يتفرع على ما مر من أن الدين هل يمنع الميراث؟ إن منعه ثبت التعلق، وإلا فلا. انتهى كلامه. وحاصله أن الصحيح عدم التعلق، لأن الصحيح أنه لا يمنع كما مر. إذا علمت ما قلناه فقد ذكر ما يخالف ذلك في كتاب النكاح في الباب الخامس في المولى عليه في السبب الخامس منه في الكلام على إجبار العبد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

على النكاح، وسأذكره هناك إن شاء الله تعالى. واقتصر الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" على ذكرها في هذا الباب. قوله: وقول "الوجيز": ولو ظهر دين بعد تصرف الورثة في التركة ففي تتبعه [بالنقص] (¬1) خلاف، أراد بالتتبع تبيين الفساد على ما هو مبين في "الوسيط" [انتهى. ودعواه أن ذلك مبين في "الوسيط"] (¬2) ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وليس كذلك، بل إنما بينه في "البسيط". قوله: ولو شرطا وضعه عند اثنين، فإن نصا على أن لكل منهما الانفراد بالحفظ أو على أن يحفظاه معًا في حرز اتبع الشرط، وإن أطلقا فوجهان لابن سريج. أصحهما: أنه ليس لأحدهما أن ينفرد بالحفظ كما لو أوصي إلى رجلن أو وكل وكيلين لا يستقل أحدهما، فعلى هذا يجعلانه في حرز لهما. والثاني: يجوز الانفراد لئلا يشق عليهما. فعلى هذا إن اتفقا على كونه عند أحدهما فذاك، فإن تنازعا والرهن مما ينقسم قسم، وإلا حفظ هذا مدة وهذا مدة، انتهى كلامه. وهو موهم، بل ظاهر في أنه لا يجوز لهما أن يقتسماه، لكنه ذكر في نظيره من الوصية ما يخالفه فقال في الشرحين: وإن اختلفا في الحفظ، ولم يكونا مستقلين فوجهان: أحدهما: أنه لا ينفرد واحد منهما بحفظ شيء. ¬

_ (¬1) في أ: بالقبض. (¬2) سقط من أ.

والثاني: -وبه أجاب الأكثرون-: أنه ينقسم أيضًا، لأنه إذا كان المال في يدهما كان نصفه في يد كل واحد منهما فجاز أن يعين ذلك النصف. قوله: فإن فرعنا على الجواز فقسماه بالتراضي ثم أراد أحدهما أن يرد ما في يده على صاحبه ففي جوازه وجهان لابن سريج، وجه المنع، أن المشقة قد اندفعت بما جرى. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة" من "زياداته": قطع البغوي بأنه لا يجوز. قوله: الثانية: إذا وضعا الرهن عند عدل وشرطا أن يبيعه عند المحل جاز، ولا تشترط مراجعة الراهن في الأصح، لأن الأصل دوام الإذن. ثم قال: وأما المرتهن فجواب العراقيين أنه لابد من مراجعته، ولم يجروا فيه الخلاف. ووجهوه بأن المرهون إنما يباع لإيصال حقه إليه [وذلك] (¬1) يستدعي مطالبته بالحق فليراجع لتعرف أنه يطالب أو يمهل أو يبرء. وقال الإمام: لا خلاف أن المرتهن لا يراجع، لأن غرضه توفية الحق بخلاف الراهن، فإنه قد يستبقي العين لنفسه، فتأمل في بعد إحدى الطريقتين عن الأخرى. انتهى كلامه. واعلم أن الإمام صور مسألة الوجهين بما إذا كان الراهن والمرتهن أذنا للعدل، وعلى هذا التصوير لا يحتاج إلى مراجعة المرتهن بلا نزاع، فلذلك ادعى الإمام نفي الخلاف فيه. وصور العراقيون ذلك بما إذا شرط في الرهن أن العدل يبيع، أو حصل توكيل من الراهن فقط، ولم يأذن المرتهن. وعلى هذا الفرض لابد من إذن المرتهن لأنه لم يأذن قبل ذلك، فلذلك قالوا: لابد من مراجعته، فالحاصل أنهما مسألتان، ذكر العراقيون ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

مسألة، [والإمام أخرى] (¬1) فلا تنافي بين المقالتين ولا بعد. فإن قيل: إذا اشترطا ذلك في العقد، فهل يشترط أيضًا إذن المرتهن؟ قلنا: نعم، لأن إذنه إنما يكون بعد ثبوت حقه، وذلك متوقف على القبض بخلاف الراهن. قوله: ولو عزل الراهن العدل انعزل، ولو عزله المرتهن لم ينعزل في أظهر الوجهين، لأنه وكيل عن الراهن، وإذن المرتهن شرط. ثم قال ما نصه: وإذا قلنا: لا ينعزل بعزل المرتهن، فلو عاد إلى الإذن جاز البيع، ولم يشترط تجديد توكيل من الراهن. قال في "الوسيط": ومساق هذا أنه لو عزله الراهن، ثم عاد ووكل افتقر إلى تجديد إذن للمرتهن، ويلزم عليه أن يقال: لا يعتد بإذن المرتهن قبل توكيل [الراهن، ولا بإذن المرأة للوكيل قبل توكيل] (¬2) الولى إياه، والكل محتمل. انتهى كلامه. واعلم أن كلام "الوسيط" هنا قد حصل فيه أوهام كثيرة، فإن جميعه مبني على أن رجوع المرتهن عزل كرجوع الراهن. ولم يذكره الغزالي، ومع كونه مبنيًا على شيء لم يذكر قد حصل فيه أيضًا تبديل لفظ بلفظ يعلم من "النهاية"، والعجب من سكوت الرافعي عليه، وقد نبه ابن الرفعة على ذلك في "المطلب"، وآخر الرهن من "الكفاية" ناقلًا له عن [شيخه الشريف مدرس المدرسة الشريفية بمصر وبه سميت الشريفية] (¬3) فقال: وكان شيخى السيد الشريف عماد الدين العباسي -رحمه الله- يستشكل كلام الغزالي -رحمه الله- في هذا، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وكتب له ورقة بخطه فيما وقع له فيه، وسأذكر صورة المكتوب فيها، ثم أبدى ما ظهر لي عليه، وصورته التي زعم الشيخ أنه مساق كلام الأصحاب، ليس مساقًا لكلامهم ووقع الغلط في هذا الفرع في ثلاث عشرة كلمة منه، وها أنا أرسمها بالحمرة [بين الأسطر ليتنبه الناظر وأكتب بالحمرة] (¬1) المسألة التي ذكرها الإمام -أعني الوجه الذي نقله الإمام عن الأصحاب، إذ كان الشيخ أراد أن يفرع عليه، لكن كأن الأمر اشتبه عليه فعكس الصواب في تفريعه عليه، ونقل حكم إذن المرتهن إلى توكيل الراهن بالعكس، فأقول بعد أن أعلمك أن المكتتب بالسواد هو نفس كلام الشيخ، والمكتتب بالحمرة فوق الكلمات بعد مسألة الأصحاب هو صوابه، قال: فروع أربعة: الأول: أنه لو رجع أحدهما عن الإذن امتنع البيع، ورجوع الراهن عزل، فإنه الموكل، وإذن المرتهن شرط، وليس بتوكيل، وكذلك لو عاد المرتهن وأذن بعد رجوعه جاز، ولم يجب تجديد التوكيل من الراهن. وذهب بعض الأصحاب إلى رجوع المرتهن يوجب رفع الوكالة، ومساق هذا الكلام من الأصحاب بأنه لو عزل الراهن [المرتهن] (¬2) ثم عاد ووكل [وأذن] (¬3) افتقر المرتهن [الراهن] (¬4) إلى تجديد الإذن [التوكيل] (¬5) وعليه، يلزمه لو قيل به أن لا يعتد بإذنه [بتوكيله] (¬6) للعدل قبل توكيل [إذن] (¬7) الراهن [المرتهن] (¬8)، فليؤخر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في ب: المرتهن. (¬3) في ب: وأذن. (¬4) في ب: الراهن. (¬5) في ب: التوكيل. (¬6) في ب: بتوكيله. (¬7) في ب: إذن. (¬8) في ب: المرتهن.

عنه، ويلزم عليه الحكم ببطلان رضى [توكيل] (¬1) المرأة [الولي] (¬2) بالتوكيل في النكاح قبل توكيل الولي [إذن المرأة] (¬3) وكل ذلك محتمل. ووجه المساهلة إقامة دوام الإذن [التوكيل] (¬4) مقام الإبتداء تعلقًا بعمومه، وأنه إن لم يعمل في الحال فليقدر مضافًا إلى وقت التوكيل [الإذن] (¬5)، هذا آخر ترتيبه. والذي وقع لي عليه أن هذا الوجه الذي بني الشيخ عليه هذا الكلام نسبه الإمام إلي بعض الضعفة، فكيف يمكن التزام الأصحاب بمقتضاه، ثم لو صححناه لم يكن مساقه مشعرًا بما ذكره، بل مصرحًا به، لأن الوكالة إذا ارتفعت علم بالقطع أنها لا تعود إلا بتوكيل جديد. وإذا كان كذلك لم يحسن حمل كلام الغزالي على ذلك. نعم ما ذكره صحيح بناء على اختيار هذا الوجه، هذا آخر كلام ابن الرفعة. وما ذكره من أن الغزالي عبر بقوله: ومساق كلام الأصحاب إذا جعلناه مفرعًا علي ذلك الوجه الضعيف، يكون أخذه منه بالتصريح لا بالإشعار، ومن كلام بعضهم لا كلام جميعهم. فحاصله اعتراض أخر على الغزالي، فإن كلامه لا ينتظم على صورته قطعًا، ولما ذكره الإمام فرعه على ما قلناه فعلمنا أنه مراده. ¬

_ (¬1) في ب: توكيل. (¬2) في ب: الولي. (¬3) في ب: إذن المرأة. (¬4) في ب: التوكيل. (¬5) في ب: الإذن.

قوله: ولو باع بثمن المثل فزاد راغب قبل التفرق فليفسخ البيع. انتهى. والتعبير بقوله: (قبل التفرق) ذكره في "المحرر" و"الشرح الصغير" أيضًا وهو تعبير ناقص، وكان ينبغي أن يقول: قبل انقضاء الخيار ليعم خياري المجلس والشرط، فإن حكمهما في هذا سواء كما نقله النووي عن صاحب "الشامل" وغيره. [قوله: ] (¬1) فعلى هذا لو بدا للراغب نَظر، نُظر إن كان قبل التمكن من البيع منه: فالأول بحاله، وإن كان بعده فقد ارتفع ذلك البيع، فلابد من [بيع جديد، ثم قال بعده من غير فاصل: وفي طريقة الصيدلاني أنه] (¬2) إذا بدا له بأن البيع الأول بحاله كما لو بذل الابن الطاعة لأبيه في الحج وجعلناه مستطيعًا، ثم رجع عن الطاعة قبل أن يحج أهل بلده فإنا نتبين عدم الوجوب. انتهى كلامه. وهذا المنقول عن الصيدلاني محله إذا كان قبل التمكن من البيع، وإلا لم يصح التعليل المذكور. وحينئذ فيصير مكررًا لا وجهًا آخر، فإنه قد جزم أولًا بأنه لا ينفسخ. وحذف في "الروضة" التعليل وأثبت المقالة، فأوهم الواقف عليه أنه وجه آخر فيما إذا تمكن، وليس كذلك. قوله: وأشار الإمام في المسألة إلى شيء آخر، وهو أن الوكيل في البيع لو باع ثم فسخ البيع هل يمكنه من البيع مرة أخرى؟ فيه اختلاف. انتهى. واعلم أن في هذه المسألة -وهي فسخ البيع الصادر من الوكيل- تفصيلًا اذكره في آخر الباب الثاني من أبواب الوكالة، يتعين الوقوف عليه، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

حاصله أن الصحيح في مسألتنا، وهي فسخ البيع قبل انقضاء الخيار جواز البيع ثانيًا فافهمه، فإنه مهم. قوله: وأصح الوجهين، أن مؤنة الرهن على الراهن، يقوم بها من خالص ماله. ثم قال ما نصه، وإذا قلنا بالأصح فلو لم يكن للراهن شيء، أو لم يكن حاضرًا، باع الحاكم جزءًا من المرهون. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على التعبير بذلك أيضًا، والمراد بقوله: أو لم يكن حاضرًا، إنما هو المال فافهمه. ولا يصح عوده على الراهن، وإن كان هو مقتضى الكلام، لأنه يقتضي أنه إذا لم يكن حاضرًا، وكان له مال أن الحاكم لا يقوم بالمؤنة من ماله، بل من المرهون، وهو خلاف القواعد. ولعل أحدًا لا يقول بذلك، ولا يمكن حمل كلامه على ما إذا لم يكن حاضرًا مع كونه لا مال له، لأنه لا أثر مع فقدان المال لحضوره ولا لغيبته، وأيضًا فيكون تكرارًا لا قسمًا آخر. قوله: ولو ذبح الدابة وبزغها. اعلم أن التوديج: فتح الودجين حتي يسيل الدم وهو في الدابة بمنزلة الفصد في الآدميين. والبزغ أصله الشق، ولهذا يقال: بزغت الشمس إذا طلعت، والمراد هنا فتح الماء إذا نزل في الحافر يقال: بزغ البيطار بالتشديد. قوله: وإن كان يخاف من المداواة، فعن أبى إسحاق أن للمرتهن المنع. وقال أبو على الطبري: لا يمنع، واختاره القاضي أبو الطيب. انتهى. والأصح هو الثاني، كذا قاله في "الروضة".

قوله: وله ختان العبد والأمة. قال في "الروضة": كذا أطلق أكثر الأصحاب أو كثيرون، منهم جواز الختان من غير فرق بين الصغير والكبير. وصرح المتولي والشيخ نصر بأنه لا فرق، فقال صاحب "المهذب" ومن تابعه: يمنع من ختان الكبير دون الصغير لخوف التلف. وهذا ظاهر نصه في "الأم" و"المختصر"، ويؤيده أنهم عدوا عدم الختان عيبًا في الكبير دون الصغير، كما سبق هذا كلام "الروضة". قوله: في طلب النجعة. . . . إلى آخره. النُّجعة -بضم النون- هو الذهاب للانتفاع بالكلأ ونحوه. قوله: [الثاني] (¬1): إن كل عقد يقتضي صحيحه الضمان، فكذلك فاسده، وما لا يقتضي صحيحه الضمان فكذلك فاسده. . . . إلى آخره. اعلم أن المراد بهذه القاعدة أن كل ما لا يقتضي صحيحه الضمان بعد التسليم كالرهن والعين المستأجرة والهبة لا يقتضيه أيضًا فاسده، لأنه لا جائز أن يكون الموجب له هو العقد، لأنه لا يقتضيه ولا اليد، لأنها إنما حصلت بإذن المالك، وما يقتضي صحيحه الضمان بعد التسليم كالبيع والقرض والعمل في القراض والإجارة، فيقتضي فاسده أيضًا الضمان، لأنه أولى بذلك. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أنه يستثني من الطرد مسائل. الأولى: إذا قال: قارضتك على أن الربح كله لي، فالصحيح أنه قراض فاسد، ومع ذلك لا يستحق العامل أجرة على الصحيح فيه. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

الثانية: إذا صدر عقد الذمة من غير الإمام فإنه لا يصح على الصحيح، ولا جزية فيه على الذمي في أشبه الوجهين. وعلله الرافعي بأن القبول ممن لا يقبل الإيجاب لغو، وكأنه لم يقبل شيئًا، وهذه العلة [نافعة] (¬1) في مواضع فاستحضرها، ولهذا إذا وهب الغاصب العين المغصوبة لشخص لا يعلم الحال فتلفت، فإن القرار على المتهب في أصح القولين، لأنه أخذه للتملك. والثاني: على الغاصب، لأن يد المتهب ليست يد ضمان، كذا ذكره الرافعي في باب الغصب، بخلاف ما إذا أجر أو رهن، ونحو ذلك، فإن القرار على المؤجر في الأصح لتغريره كما ذكره في الباب الثالث من الرهن. وقد علم بما ذكرناه أن المراد بما ذكره إنما هو عند صدور التصرف الفاسد من المالك. وقيل: لكل سنة دينار كما لو فسد عقد الإمام. الثالثة: إذا استأجر أبو الطفل أمة لإرضاعه وقلنا: لا يجوز، فهل تستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، الأصح في "الروضة": أنها لا تستحق. ذكره قبيل باب الجنايات. الرابعة: إذا ساقاه على أن الثمرة جميعها لرب المال، فإنه كالقراض على ما قاله الرافعي، [وحينئذ] (¬2) فتكون فاسدة ولا يستحق أجرة. الخامسة: إذا ساقاه علي وَدِي (¬3) ليغرسه، ويكون الشجر بينهما أو ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ، جـ. (¬3) اسم لصغار النخل فقط، وهو بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء.

ليغرسه ويبيعهما مدة والثمرة بينهما، فالصحيح فسادها. ثم إن كانت الثمرة لا تتوقع في هذه المدة، ففي استحقاق أجرة المثل الوجهان في اشتراط الثمرة كلها للمالك، كما قاله الرافعي. قال: وهكذا إذا ساقاه علي ودى مغروس وقدر مدة لا يثمر فيها في العادة. السادسة: إذا قال الإمام لمسلم: إن دللتني على القلعة الفلانية فلك منها جارية، ولم يعين الجارية فالصحيح الصحة، كما لو جرى مع كافر. فإن قلنا: لا تصح هذه الجعالة، لم يستحق أجرة، ويستثني من العكس الشركة، فإنها إذا كانت صحيحة لا يكون عمل كل واحد منهما في مال صاحبه مضمونا عليه. وإذا كانت فاسدة يكون مضمونًا كما ذكره الرافعي في بابه. وأيضًا فلو غصب سلعة ورهنها أو أجرها فتلفت في يد الآخذ، كان للمالك مطالبته على الصحيح، وإن كان إقرار الضمان على الغاصب. الثاني: أن ما لا يقتضي صحيحه الضمان إذا صدر من السفيه والصبي، يكون مضمونًا أيضًا مع فساده. الثالث: أن [المراد من هذه القاعدة التسوية بين الصحيح والفاسد في أصل الضمان لا في الضامن ولا في المقدار، فإنهما قد لا يتساويان. أما الضامن فلأن الولي إذا استأجر للصبي على عمل استئجارًا فاسدًا ففعله الأجير للصبي، فتكون الأجرة على الولي لا على الصبى، كما صرح به البغوي في "فتاويه" بخلاف الصحيحة. وأما المقدار فلأن صحيح البيع مضمون بالثمن، وفاسده بالقيمة أو المثل، وصحيح القرض مضمون بالمثل مطلقًا، وفاسده بالمثل أو القيمة.

وصحيح القراض والمساقاة والإجارة والمسابقة ونحوها مضمون بالمسمى وفاسدها بأجرة المثل. قوله: ولو رهنه أيضًا وأذن له في الغراس بعد شهر فهي بعد الشهر عارية، وقيل: أمانة، ثم قال: وقوله في "الكتاب": فهو بعد الغراس عارية، يجب تأويله لأنه بعد الشهر عارية غرس أم لم يغرس. انتهى كلامه. واعلم أن اليد في الرهن للمرتهن، والقبض فيها لا يقتضي الضمان وحينئذ فمجرد إذن المالك في الإنتفاع لا يقتضي كونه مستعيرًا فلا اعتراض إذًا على الغزالي. ولا يصح مع ذلك أيضًا حكمه بالضمان مطلقًا بعد الشهر. ولهذا قال ابن أبى الدم: منقول الأصحاب أنه لا ضمان مطلقًا، ثم حكى احتمالًا أنه إذا قبضه على هذا القصد يكون ضامنًا بعد الشهر مطلقًا. ثم قال: وهذا [خيال] (¬1) باطل. نعم: جزم ابن الرفعة في "المطلب" بهذا التفصيل. قوله في "الروضة": فرع: إذا ادعى المرتهن تلف الرهن في يده، قبل قوله مع يمينه. انتهى كلامه. وإطلاقه دعوى التلف محله إذا لم يذكر للهلاك سببًا، أو ذكر سببًا خفيًا. فإن ذكر سببًا ظاهرًا، فلابد فيه من تفصيل مذكور في الوديعة، كذا قاله الرافعي في آخر الكلام وأهمله المصنف. قوله: وما دام الدين في ذمة الجاني، هل يقال بأنه مرهون؟ فيه خلاف. ¬

_ (¬1) في جـ: الإحتمال.

قال في "الروضة": الأرجح أنه مرهون. قوله: كما لو جني على العبد المستأجر والمودع يكون الخصم فيه المالك. انتهى. وما ذكره في المودع من أن المخاصم المالك دون المودع عنده، قد جزم به أيضًا في أثناء الباب الثالث من أبواب الإجارة، وفي كتاب السرقة، لكنه خالفهما في كتاب الحج في باب محظورات الإحرام في الكلام على الحلف فجزم هناك بأن له المخاصمة، وقد سبق لفظه هناك فراجعه. قوله: فلو قعد الراهن عن الخصومة فقولان في أن المرتهن هل يخاصم؟ قال في "التهذيب": أصحهما [عن الأصحاب] (¬1) وبه قال القفال -رحمه الله- أنه لا يخاصم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هنا من حكاية الخلاف قولين، ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" لكن حكاه في "المحرر" وجهين، فقال: في أصح الوجهين. هذا لفظه. وكذلك في هذا "الكتاب" -أعنى "الشرح الكبير"- في أثناء الباب الثالث من أبواب الإجارة وستعرف لفظه هناك وتقف فيه أيضًا على فائدة أخرى فراجع ذلك. ووقعت هذه المواضع للشيخ محيى الدين كما وقعت للرافعي. الأمر الثاني: أن الرافعي قد جزم في آخر الدعاوى بأن للمرتهن أن يخاصم، علي عكس ما دل عليه كلامه هنا وفي باب الإجارة، ذكر ذلك في الباب الأول المعقود لمسائل منثورة، وسوف أذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فتلخص أنه اختلف كلامه في هذه المسألة من ثلاثة أوجه. واعلم أن غرماء المفلس هل يدعون؟ وإذا ادعى المفلس وامتنع عن اليمين هل يحلفون؟ فيه طريقان: أصحهما: القطع بالمنع. والثاني: فيه قولان، فيسأل عن الفرق بينهم وبين المرتهن. قوله: وإذا ثبتت الجناية، فإن كانت عمدًا فللراهن أن يقبض ويبطل حق المرتهن، وإن عفى عن القصاص ثبت المال، إن قلنا: مطلق العفو يقتضي المال وإلا لم يجب وهو الأصح. كذا قاله في "التهذيب". وإن عفى علي أن لا مال، فإن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين لم يصح عفوه عن المال، وإن قلنا: موجبه القود، فإن قلنا: ] (¬1) العفو المطلق لا يوجب المال لم يجب شيء. وإن قلنا: يوجبه فالأصح: أنه لا يجب أيضًا لأن الفعل لم يوجبه وإنما يجب بعفوه وذلك نوع اكتساب، ولا يجب عليه الإكتساب للمرتهن. ثم قال بعده: وإن لم يقبض ولم يعف فقيل: يجبر على أحدهما، وقيل: إن قلنا: موجبه أحد الأمرين وإلا فلا، لأنه يملك إسقاطه فتأخيره أولى بأن يملكه. انتهى. قال في "الروضة" ينبغي أن يقال: إن قلنا: إذا عفى على أن لا مال، لا يصح أجبر، وإلا فلا. قوله: فأما إذا أحبلت بعد الرهن فإن قلنا: الحمل لا يعلم بيعت حاملا وهو كالسمن. وإن قلنا: يعلم. فلا يكون مرهونًا، ويتعذر بيعها لأن [استثناء] (¬2) الحمل متعذر، ولا سبيل إلى] (¬3) بيعها حاملًا، وتوزيع الثمن، لأن الحمل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: استبقاء. (¬3) سقط من أ.

لا تعرف قيمته. انتهى. وما ذكره من تعذر البيع لأجل عدم دخول الحمل، وتبعه على إطلاقه في "الروضة" عجيب، فإن المديون إذا امتنع من الوفاء من جهة أخرى أجبره الحاكم على بيعها، إن لم يكن له مال غيرها، أو بيع ما شاء من أمواله إما هي أو غيرها، إن كان له ذلك: لأن الحاكم يجبره عليه عند عدم الرهن فمع وجوده أولى، ثم إن تساوى الثمن والدين فلا كلام. وإن فضل من الثمن شئ أخذه المالك، وإن نقص طولب بالباقي، فكيف يجيء إطلاق التعذر؟ ، وقد نص الشافعي في "الأم" على أن الراهن لو سأل بيعها وتسليم الثمن كله إلى المرتهن كان له ذلك. إذا علمت ذلك فنقول: صورة المسألة إذا تعلق بالحمل حق ثالث بفلس أو موت أو وصية به، أو تعلق الدين برقبة الأم دون ذمة مالكها كالجانية والمعارة للرهن ونحوه. قوله: الثانية: لو جنى المرهون خطأ على طرف من يرثه السيد [كأبيه] (¬1) وعمه ثبت المال، فإن مات قبل الاستيفاء وورثه السيد فوجهان: أصحهما عند الصيدلاني والإمام: أنه كما لو انتقل إليه سقط، ولا يجوز أن يثبت له على عبده استدامة الدين كما لا يجوز ابتداؤه. والثاني: -وهو الذي أورده العراقيون-: أنه لا يسقط، وله بيعه فيه كما كان للمورث، ويحتمل في الاستدامة ما لا يحتمل في الابتداء. وشبه الأصحاب الوجهين بالوجهين في ما إذا ثبت له دين على غيره، ثم ملكه هل يسقط؟ انتهي ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ظاهره يشعر برجحان الثاني من جهة النقل في مسألة الجناية، لكنه صرح بتصحيح الأول في "الشرح الصغير" فقال: ¬

_ (¬1) في جـ: كابنه.

أصحهما: أنه يسقط كما انتقل إليه. الأمر الثاني: أن الراجح في المسألة الثانية -وهي ملك المديون- أنه لا يسقط كذا صححه الرافعي في الطرف الخامس من كتاب النكاح في الفصل الخامس منه المعقود لنكاح العبد والأمة. وترجمه في "الروضة" بالباب الحادي عشر، فقال ما نصه: وأصحهما: أنه يبقي كما كان، لأن للدوام من القوة ما ليس للابتداء. هذا لفظه. وذكر في "الشرح الصغير" أيضًا هناك مثله، وفي الفرق بينهما نظر. وقد نص الشافعي - رضي الله عنه - في "البويطي" على ما يوافق كلام الرافعي -أعني في "الكبير"- فقال في باب الرهن الأول ما نصه: قال -يعني الشافعي-: فإن جنى على مكاتبه فقتله، إن كان نفيسًا فسبيله سبيل عبد السيد، وهو رهن بحاله، وإن كان جرحًا فللمكاتب [القود] (¬1) والعفو عن المال، وهو في ذلك كالأجنبي إلا أن يمضي الحكم فيه حتى يعجز المكاتب أو يموت، فيكون للسيد من ذلك ما كان للمكاتب، لأنه إنما ملكت بملك المكاتب. هذا لفظه بحروفه. قوله: ولو قتل المرهون عبدًا للسيد مرهونًا عند آخر وقلنا: موجبه القود، فعفى بغير مال، فإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال، لم يثبت شيء، وكذا إن قلنا: يوجبه في أصح الوجهين في "التهذيب" لأن القتل غير موجب، فعفوه المطلق أو على مال نوع اكتساب للمرتهن، وليس عليه ذلك. انتهى. والصحيح ما قاله البغوي، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو استعار عبدًا من مالكين فرهنه، ثم إذا نصف الدين عن نصيب أحدهما بعينه، ففي انفكاكه ثلاثة أقوال: ثالثها: إن علم المرتهن أن ¬

_ (¬1) في جـ: القصاص.

العبد لمالكين انفك، وإلا فلا. وفي "عيون المسائل" ما يدل على أن الأظهر الانفكاك. انتهى. قال في "الروضة": صرح أيضًا صاحب "الحاوي" وغيره بأن الانفكاك أظهر. قوله: ولو رهن عبدًا بمائة، ثم مات عن اثنين فقضى أحدهما حصته، ففي انفكاك نصيبه قولان: أصحهما: لا ينفك، لأن الرهن صدر أولًا من واحد، ولو مات من عليه دين وتعلق الدين بتركته فقضى بعض الورثة نصيبه. قال الإمام: لا يبعد أن يخرج إنفكاك نصيبه من التركة على قولين، بناء على أن أحد الورثة لو أقر بالدين، وأنكر الباقون هل على المقر أداء جميع الدين من حصته من التركة؟ . وعلى هذا البناء فالأصح الانفكاك، فإن الجديد: أنه لا يلزمه أداء جميع الدين مما في يده من التركة، وأيضًا فإن تعلق الدين بالتركة إذا مات الراهن، إما أن يكون كتعلق الرهن أو كتعلق الأرش بالجاني، إن كان الأول فهو كما لو تعدد الراهن. وإن كان الثاني، فهو كما لو جنى العبد فأدى أحد الشريكين نصيبه ينقطع التعلق عنه. واعلم أن الحكم بانفكاك نصيبه إنما يظهره إذا كان ابتداء التعلق مع ابتداء تعدد الملاك. ولو كان الموت مسبوقًا بالمرض فيكون التعلق سابقًا على ملك الورثة، فإن للدين أثرًا بينًا في الحجر على المريض، فيشبه أن يكون القول بانفكاك نصيبه كما في الصورة السابقة. انتهى كلامه.

وما ذكره من كون الدين يقتضى الحجر على المريض إنما هو في التبرعات لا في مطلق التصرفات، ولهذا يجوز للمريض توفية بعض الديون، وإن أدى إلى حرمان الباقين، وستعرف ذلك مبسوطًا من كلام الرافعي في باب الوصية قبل الكلام على المسائل الحسابية بقليل. واعلم أن النووي قد اعترض في "الروضة" على ما بحثه الرافعي هنا من أن هذا إنما يظهر إذا كان ابتداء التعلق مع ابتداء الأملاك. . . . إلى آخره. فقال: الظاهر أن المسألة على إطلاقها، ثم قرره بتقرير عجيب حاصله: أنه فرق بين مسألتين بصورتهما. قوله: ولو قال الراهن للمرتهن: بع المرهون لى واستوفِ الثمن، ثم أمسكه لنفسك، وقلنا بصحة قبضه لنفسه مما في يده بإذنه بعد قبضه للراهن، فهل يشترط إحداث فعل جديد من كيل أو وزن، كما لو عبرنا بالاستيفاء بدلًا عن الإمساك، فقال: ثم استوفه لنفسك أم لا يشترط ذلك، بل يكفى امساكه لنفسه؟ فيه وجهان: قال الإمام: أظهرهما: أنه لا يصح. انتهى. والصحيح ما صححه الإمام. كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: الرابعة: لو أطلق وقال: بعه، ولم يقل: لي، ولا لنفسك فوجهان: أصحهما: صحة الإذن والبيع ووقوعه للراهن، كما لو قال لأجنبي: بعه. والثاني: المنع، وعللوه بمعنيين: أحدهما: أن البيع مستحق للمرتهن بعد حلول الحق، والكلام مفروض فيه، وإذا كان كذلك [يقيد] (¬1) الإذن به، وصار كأنه قال: بعه ¬

_ (¬1) في أ: يعقد.

لنفسك. الثاني: أنه يتهم في ترك النظر استعمالًا للوصول إلى الدين. وعلى التعليلين لو كان الدين مؤجلًا فقال: بعه، صح الإذن لعدم الاستحقاق والتهمة. فإن قال: مع ذلك واستوف حقك من ثمنه، جاءت التهمة ولو قدر له الثمن لم يصح على التعليل الأول، ويصح على الثاني. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن الحكم بمجيء التهمة فيما إذا أذن في استيفاء حقه من الثمن، كيف يستقيم مع أن غايته أنه وعد لا يجب الوفاء به، كما لو قال لغير المرتهن: خذ هذه العين فبعها واستوفِ دينك من ثمنها، فإن البيع والإذن صحيحان اتفاقًا. فهذا مثله، بل أولى، لأن التهمة فيه أقوى لاستحقاقه المطالبة في هذه الحالة. الأمر الثاني: أن الحكم بالصحة على التعليل بالتهمة، فيما إذا قيد الثمن إنما يستقيم إذا منعه من الزيادة أو كان المشتري معينًا. أما إذا قال مثلًا: بعه بمائة ولم يمنعه من الزيادة، ولم يعين المشتري فوجد راغبًا بأكثر منها فإنه يجب عليه البيع في أصح الوجهين كما رجحه في الوكالة من "الشرح الصغير"، وصححه في "الروضة" هناك من "زياداته" ولم يصحح في "الكبير" شيئًا. قوله: ولو رهن عبدين عند شخص واحد بدينين، فجني أحدهما على الآخر، فإن اختلف الدينان في الحلول أو التأجيل، فله نقل الوثيقة من المقتول إلى القاتل، وكذا إن اتفقا، ولكن اختلفا في القدر، وكان القتيل

مرهونًا بأكثرهما. . . . إلى آخره. ثم قال: وقول الغزالي في "الوسيط": إن اختلاف جنس الدينين كاختلاف القدر، فهو وإن كان متجهًا في المعنى فمخالف لنص الشافعي والأصحاب كلهم، لأنه لا أثر لاختلاف الجنس. انتهى كلامه. واعلم أن الغزالي قد ذكر في "البسيط" ما يقتضي أنه لم يخالف المعروف فقال: وليس من الأعراض اختلاف الجنس مع الاستواء في مقدار المالية. هذا لفظه. وكذا قال في "النهاية" أيضًا، فدل على أن مراده في "الوسيط" إنما هو الغالب، وهو اختلاف القيمة عند اختلاف الجنس. وقد أشار في "الروضة" إلى ذلك من غير أن يقف على كلام "البسيط" فيه، وكلام "الوسيط"، فقال: قلت: المراد باختلاف الجنس أن يكون أحدهما دنانير والآخر دراهم، واستويا في المالية بحيث لو [قوم] (¬1) أحدهما بالآخر لم يزد ولم ينقص، هذا لفظه. وهو يقتضي حمل كلام "الوسيط" على ما إذا اتحدت القيمة، وهو خلاف ما ذكرناه من الجمع بين كلامه. ¬

_ (¬1) في أ: قرن.

الباب الرابع في النزاع بين المتعاقدين

الباب الرابع: في النزاع بين المتعاقدين قوله: ولو ادعى على اثنين أنهما رهنا، فزعم كل واحد منهما أنه ما رهن، وأن شريكه رهن وشهد عليه، فوجهان: أحدهما: لا تقبل شهادة واحد منهما، لأن المدعي يزعم أن كل واحد منهما كاذب. وقال الأكثرون: تقبل، لأنهما ربما نسيا، وإن تعمدا فالكذبة الواحدة [لا توجب الفسق. انتهى. وما ادعاه من أن الكذبة الواحدة] (¬1) لا تقدح، إنما هو عند عدم انضمام غيرها إليها. وأما هنا فعلى تقدير كذبه عمدمًا يكون جاحدًا لحق وجب عليه، فيفسق لذلك. قوله في أصل "الروضة": فرع منصوص عليه في "المختصر": ادعى رجلان على رجل فقال كل واحد: رهنتنى عبدك هذا وأقبضتنيه، فكذب أحدهما وصدق الآخر، قضي بالرهن للمصدق، وفي تحليفه للمكذب قولان: أظهرهما: لا. انتهي كلامه. وما قاله من تصحيح عدم الحلف، قد عداه هنا -أعني في هذا الفصل- إلى مسائل كثيرة وهو سهو أو غلط، فإن الصحيح المذكور في الإقرار والدعاوى أنه يحلف للمكذب لأنه لو أقر له كان يغرم على الأصح فشرعنا تحليفه لاحتمال أن يرجع فيقر أو ينكل فيحلف المدعي، وحينئذ يغرمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

وسبب الوهم الواقع في "الروضة": أن الرافعي قال: أصحهما: لا. قاله في "التهذيب". فأطلق النووي التصحيح على كثير من عادته في ذلك، غير باحث عن المسألة ولا ممعن فيها، فوقع في ذلك. ولما نقل الرافعي عن صاحب "التهذيب" ما نقل، عقبه بما يرشد إلى أن الصحيح خلافه فقال: وهما مبنيان على أنه لو أقر بمال لزيد، ثم أقربه لعمرو هل يغرم قيمته لعمرو؟ فيه قولان. هذا لفظ الرافعي. قوله في المسألة: وإن صدقهما جميعًا، نظر إن لم يدعيا السبق، أو ادعاه كل واحد منهما، وقال المدعى عليه: لا أعرف السابق منكما فصدقاه فوجهان: أحدهما: أنه يقسم الرهن بينهما. وأصحهما: أنه يحكم ببطلان العقد، كما إذا زوج وليان من شخصين ولم يعرف السابق منهما. انتهى كلامه. وما ذكره في النكاح [ليس] (¬1) على إطلاقه، [بل] (¬2) إن لم يعرف السابق منهما بالكلية، فالأمر على الصحيح كما قاله من البطلان، وإن عرف ونسي فالصحيح التوقف، وينبغي إتيان هذا التفصيل أيضًا في الرهن. قوله من "زوائده": ولو قال المدعى عليه: رهنته عند أحدكم ونسيت. حلف على نفى العلم. فإن نكل ردت عليهما، فإن حلفا، أو نكلا يفسخ العقد على المذهب الذي قطع به الجماهير في الطرق، ونقله الإمام وغيره عن الأصحاب، وخرج وجه: أنه لا ينفسخ، بل يفسخه الحاكم، وبهذا الوجه قطع صاحب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

"الوسيط"، وهو شاذ ضعيف. وإن حلف الراهن على نفي العلم، تحالفا على الصحيح كما لو نكل، وفي وجه: أنهيت الخصومة. والله أعلم. وما نقله النووي -رحمه الله- هنا عن الإمام سهو، فإن الإمام لم يذكر ذلك إلا فيما إذا صدقهما جميعًا في الرهن، وادعى نسيان السابق، وتعبيره بقوله: تحالفا موهم، وليس [المراد التحالف المصطلح عليه، بل] (¬1) المراد أن كلًا منهما يحلف. قوله أيضًا في أصل "الروضة": ويجري مثل هذا التفصيل فيما إذا اختلف البائع [والمشتري] (¬2)، حيث كان للبائع حق الحبس وصادفنا المبيع في يد المشتري، وادعى البائع أنه أعاره أو أودعه، لكن الأصح هنا: حصول القبض لقوة يده بالملك. وهذا تفريع على أنه لا يبطل حق الحبس بالإعارة والإيداع، وفيه خلاف سبق. انتهى كلامه. وما ادعاه من بطلان حق الحبس في المبيع بإعارته صحيح، وقد سبق في البيع كما أشار إليه. وأما دعواه أن الخلاف قد سبق أيضًا في الإيداع فغلط، لم يتقدم له ذكر لا في البيع، ولا في غيره. بل المجزوم به هناك: أنه لا يبطل. وعبارة الرافعي لا يرد عليها شيء، فإنه قال: وهذا تفريع على أن حق الحبس لا يبطل بالإعارة والإيداع عند المشتري، وفيه وجهان. هذا ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) في أ: والشريك.

لفظه، ولم يعبر بقوله: (سبق). والخلاف الذي ذكره هنا ثابت، صرح به إمام الحرمين في باب الرهن والحميل، فقال: إن في بطلانه وجهين مرتبين على الوجهين في العارية، فمنهم من يقول: الإيداع أولى بالبطلان، من جهة أنه يبعد أن يحفظ المالك ملكه لغيره. ومنهم من جعل الإيداع أولى بأن لا يبطل، فإنه ليس فيه تسليط أصلًا، وفي الإعارة تسليط. قوله: ولو أقر الراهن بالقبض، ثم قال: لم يكن إقراري عن حقيقة، وطلب يمين المرتهن، فله تحليفه إن ذكر تأويلًا، وإن لم يذكر، ففي تحليفه خلاف. . . . إلى آخره. والصحيح: أن له ذلك، كذا صححه الرافعي في "المحرر"، وقال في "الروضة": إنه أفقه وأصح. قوله: أحدهما: إقرار الراهن بأن العبد المرهون كان قد أتلف مالًا أو جني على نفس جناية توجب المال، إذا صدقه المجني عليه وادعاه، لا يقبل على المرتهن في أصح القولين. ثم قال: ويجري القولان فيما لو قال: كنت غصبته أو اشتريته شراءً فاسدًا، أو بعته قبل أن رهنته أو وهبته وأقبضته. وفيما لو قال: كنت أعتقته، قال الشيخ أبو حامد: ولا حاجة في هذه الصورة إلى تصديق العبد، ودعواه بخلاف سائر الصور. انتهى كلامه. وليس المراد بهذا الكلام الأخير، أن العبد يشترط تصديقه فيما عدا العتق من الدعاوى المتقدمة، فإن ذلك لا يشترط قطعًا، بل المراد أن صاحب الحق لابد من تصديقه إلا في العتق، لما يتعلق بالحرية من حقوق الله تعالى فافهمه.

وقد أحسن في "الروضة" حيث بيّن ذلك، فقال: بخلاف المقر له في سائر الصور. قوله في المسألة: وإذا حلف المرتهن على نفي ذلك، فهل يغرم الراهن للمجني عليه؟ فيه قولان: أصحهما: أنه يغرم. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على أن الخلاف المذكور في الغرامة قولان. وخالف في "المنهاج"، فجعله وجهين، ولم يبين في "المحرر" هل ذلك قولان أو وجهان، غير أنه عبر بالأصح، ولا اصطلاح له فيه كما علمته، فقلده فيه النووي، فوقع في هذا الاختلاف، والصواب المذكور. قوله أيضًا في المسألة: فإن نكل -أى المرتهن- فعلى من يرد اليمين؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: على الراهن لأنه المالك. وأصحهما: على المجنى عليه. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح أن الخلاف قولان، وجزم في "المنهاج" بكونه وجهين تقليدًا لتعبير "المحرر" بالأصح أيضًا. قوله: وإذا رهن جارية موطوءة فأتت بولد يمكن أن يكون منه، فقال الراهن: هذا الولد منى، وكنت وطئتها قبل لزوم الرهن، نظر إن صدقه المرتهن فواضح، وإن كذبه ولا بينة، ففي قبول إقراره لثبوت الاستيلاد قولان كما لو أقر بالعتق. ونظائره. وعلى كل حال فالولد حر ثابت النسب عند الإمكان. انتهى كلامه. وما قاله الرافعي من حرية الولد على كل حال -أى على القولين- تبعه عليه في "الروضة"، وهو إنما يستقيم إذا قلنا: إن الحمل لا يدخل

في رهن الحامل. والصحيح خلافه على ما سبق، أما إذا قلنا: يدخل. وكان الوضع لدون ستة أشهر من حين الرهن، فيكون على الخلاف في أمه، والصحيح أنها مرهونة كما سبق. قوله في "الروضة": [فصل] (¬1): عليه دينان أحدهما حال، أو به رهن أو كفيل، أو هو ثمن مبيع محبوس به فسلم إليه ألفًا وقال: أعطيتك عنه. وقال القابض: بل عن الدين الآخر، فالقول قول الدافع، سواء اختلفا في نيته أو لفظه. انتهى كلامه. سكت عن تحليف الدافع، وحكمه: أنهما لو اختلفا في اللفظ فيحلف بلا نزاع. وإن اختلفا في النية فوجهان حكاهما في "الاستقصاء"، والصحيح: التحليف. وقيل: يقبل بلا يمين. وجزم الرافعي بالتحليف في المسألتين، ولكن حذفه النووي من "الروضة". واعلم أنهما لو تنازعا عند الدفع في المؤدى عنه فالاختيار إلى الدافع. كذا صرح به الرافعي في باب الكتابة، وهو يؤخذ من قوة كلام الرافعي هنا، ولكن تستثنى مسألة واحدة وهي المكاتب. فإن الاختيار إلى سيده لا له، ومع هذا فلو لم يتعرضا للجهة، ثم قال المكاتب: قصدت النجوم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأنكر السيد أو قال: صدقت، ولكن قصدت أنا الدين فوجهان: أصحهما في "زوائد الروضة": تصديق الكاتب، وهو مشكل، لأنه قد جزم بأن الاختيار هنا إلى السيد. قوله من "زياداته": قال أصحابنا: لو كان بالمرهون عيب، ولم يعلم به المرتهن حتى مات، أو حدث به عيب في يده، لم يكن له فسخ البيع المشروط فيه، كما لو جرى ذلك في يد المشتري، وليس له أن يطالب بالأرش ليكون مرهونًا، صرح به القاضي أبو الطيب [وغيره] (¬1). انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في كتاب البيع في الكلام على شروط الرهن. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

كتاب التفليس

كتاب التفليس قوله: أما في الشرع، فقد قال الأئمة -رحمهم الله-: المفلس من عليه ديون لا تفي بماله. انتهى كلامه. وهذا التفسير تبعه عليه في "الروضة"، وهو غير مستقيم لأمرين: أحدهما: أن أهل الشرع متى أطلقوا المفلس، فقالوا: هل يصح بيعه أم لا؟ فيه خلاف. وهل يصح شراؤه؟ أيضًا فيه خلاف، إلى غير ذلك من المسائل، لا يريدون به ما قاله الرافعي قطعًا، فإنه لا خلاف في صحة بيعه وشرائه، بل إنما يريدون المحجور عليه بسبب الديون المذكورة، فالصواب تفسيره بذلك. وقد فسره به الماوردي والبندنيجي والمحاملي وغيرهم. الأمر الثاني: أنه لابد من تقييد الديون، بأن تكون لآدميين فلو كان عليه دين لله تعالى ودين لآدمي والمجموع ناقص عن ماله، ودين الآدمي على حدته لا ينقص، فإنه لا [يحجر] (¬1) لأجله. فإن الرافعي قال في الباب الثاني من كتاب الأيمان بعد ذكره الأقوال الثلاثة في اجتماع حقوق الله تعالى [وحقوق الآدمين ما نصه: ولا تجري هذه الأقوال الثلاثة في المحجور عليه الفلس إذا اجتمعت حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين بل تقدم حقوق الآدميين وتؤخر حقوق الله تعالى] (¬2) ما دام حيًا. هذا لفظه. وهي مسألة نفيسة استفدنا منها: تخصيص قولهم هنا أن ماله يقسم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

على نسبة ديونه. ويلزم من ذلك أن لا يعتبر دخول هذه الديون في الحساب كما ذكرناه، لأنا إذا قدمنا ديون الآدميين وكان مال المفلس وافيًا بها، فكيف يحجر مع إمكان وفائهم؟ قوله: الذي يدل عليه كلام الأصحاب تعريضًا، وتصريحًا. . . . إلى آخره. قد تقدم الكلام عليه في الكلام على القبض. قوله في الضابط المتقدم: وأما الثاني وهو أن يكون ماله قاصرًا عن الوفاء بالديون، فيجوز أن يقال: إنه لا حاجة إليه، بل مجرد الدين يكفي لجواز الحجر منعًا له من التصرف فيما عساه يحدث له باصطياد واتهاب، والظفر بركاز وغيرها. فإن كان كذلك فليفسر المفلس بالذي ليس له مال يفي بديونه لينتظم من لا مال له أصلًا، ومن له مال قاصر. انتهى كلامه. وحاصله أن الرافعي متوقف في هذه المسألة، ولا نقل عنده فيها، ولم يذكر النووي في "الروضة" شيئًا من هذا الكلام، وهو غريب. قوله: لا يجوز الحجر لدين الغائبين، لأنه لا يستوفي ما لهم في الذمم، إنما يحفظ أعيان أموالهم. انتهى. اعلم أن قبض الحاكم أموال الغائبين أعيانًا كانت أو ديونًا، قد ذكرها الرافعي في مواضع متفرقة، وبعض المواضع يخالف بعضًا، أو يزيد عليه، فلنذكر تلك المواضع لعموم الحاجة إلى هذه المسألة، فنقول: قد ذكر ما يوافق المذكور هنا في أوائل استيفاء القصاص، فقال: وذكر ابن الصباغ أن الحاكم ليس له أخذ مال الغائب المغصوب.

وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه، ويشعر بأنه يأخذه له ويحفظه. انتهى. وقال أيضًا في كتاب الوديعة: إن المودع إذا حمل الوديعة إلى القاضي عند تعذر الإعطاء إلى المالك، يجب عليه الأخذ على الأصح. ثم قال: ولو حمل الغاصب المغصوب إلى القاضي، ففي وجوب القبول الوجهان، لكن هذا أولى بالمنع ليبقى مضمونًا للمالك. انتهى. وهذا الكلام مقتضاه الوجوب، لأن قوله: وهذا أولى، لا يقتضي تصحيح العكس، بل يقتضي الأولوية فقط مع الاشتراك في التصحيح. وقد نبه عليه [ابن الرفعة] (¬1) في كتاب التيمم. إذا علمت ذلك كله، فقد قال في أوائل الباب الثاني من أبواب السرقة: ولو أقر بغصب مال غائب لم يحبس، لأن الحاكم لا يطالب بمال الغائبين، هذا كلامه. وقال في باب اللقطة في التقاط العبد: لو أخذ [القاضي] (¬2) المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك، هل يبرأ الغاصب من الضمان؟ فيه وجهان، ظاهر القياس فيهما البراءة، لأن يد القاضي نائبة عن يد المالك. فإن قلنا: لا يبرأ، فللقاضي أخذها. وإن قلنا: يبرأ، فإن كان المالك عرضه للضياع والغاصب، بحيث لا يبعد أن يفلس إن تغيب وجهه فكذلك، وإلا فوجهان. وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب، إذا لم يكن في معرض الضياع، ¬

_ (¬1) في ب: الرافعي. (¬2) سقط من ب.

ولا الغاصب، بحيث تفوت مطالبته ظاهرًا، وإن كان كذلك فوجهان: أظهرهما: المنع، لأن القاضي نائب عن الغائبين. انتهى. واعلم أن العين إذا مات صاحبها ووارثه غائب، فإن القاضي يأخذها نظرًا إلى حق الميت، هكذا نبه عليه الرافعي في استيفاء القصاص، وجعل محل الخلاف فيما عدا ذلك، لكنه ذكرها في أثناء الباب الرابع المعقود للشاهد واليمين. ثم قال: وينبغي أن يجري فيها الخلاف في العين المغصوبة، وهو ذهول عما قرره هناك. واعلم أيضًا أن الرافعي صحح في الباب [الرابع المعقود للشاهد واليمين] (¬1): أن القاضي لا يجب عليه قبول دين الغائب. قال: سواء كان مخلفًا عن ميت أم لا. وصححه أيضًا في كتاب الوديعة، وهو يوهم جواز قبضه، وليس كذلك، فاعلمه لما سبق في هذا الباب، ولما ذكره في الكتابة عقب الكلام على الإيتاء، فإنه قال: ولو أتى بالنجم قبل المحل والسيد غائب قبضه الحاكم إذا علم أن السيد لا ضرر عليه في أخذه. قال الصيدلاني: ومثله لو كان للغائب دين على حر، فأتي به الحاكم، فالأصح منع قبضه منه لأنه ليس للمؤدي غرض إلا سقوط الدين والحظ للغائب في أن يبقي المال في ذمة الملى فإنه خير من أن يصير أمانة عند الحاكم. انتهى. وقد صرح الشافعي في "الأم" أيضًا بمنع ذلك، فقال في أواخر الكتابة في باب ميراث سيد المكاتب ما نصه: فإذا كان الورثة كبارًا فسأل المكاتب أن يدفع الكتابة -يعني النجوم- إلى عدل يقبضه لهم إن لم يكن ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

لهم وكيل كان ذلك له. فإذا دفعه عتق المكاتب، وليس هذا الدين لهم على رجل، ثم غابوا عنه فجاء به إلى الحاكم ليدفعه هذا لا يدفعه إلا إليهم، أو وكيل، فإن لم يكن لهم وكيل تركه الحاكم فلم يأمر بقبضه من صاحبه الذي هو عليه، لأن في الكتابة عتقًا للعبد فلا يحبس بالعتق، وليس في الدين شيء يحبس عنه صاحب الدين. هذا لفظ الشافعي. بحروفه. وهو يدل على أن الدين إذا كان به رهن يقبضه الحاكم فاعلمه. وقال الفارقي: محل الخلاف إذا كان المديون ثقة مليًا، فإن لم يكن كذلك وجب على الحاكم قبضه بلا خلاف. قوله: ولا تحل ديونه بالإفلاس في أصح القولين، وعن الشيخ أبى محمد ترتيب هذين القولين على القولين في أن من عليه الدين المؤجل لو جن، هل يحل الأجل؟ ، وأن الحلول في صورة الجنون أولى، لأن المجنون لا استقلال له كالميت. ورأى الإمام الترتيب بالعكس أولى، لأن قيم المجنون له أن يبتاع له بثمن مؤجل عند ظهور المصلحة. فإذا لم يمنع الجنون الأجل ابتداء فلأن لا يقطع الأجل دوامًا كان أولى. انتهى كلامه. وحاصله أنه لم يصحح في مسألة الجنون شيئًا أصلًا، وقد صحح النووي في أصل "الروضة" الحلول، وجعل مقابله ضعيفًا فقال: ولو جن وعليه دين مؤجل حل على المشهور. هذا لفظه، ومن خطه نقلت. وهو بعيد في المعنى، مخالف لكلام الرافعي، إلا أن خطه الذي نقلت منه وقع فيه كشط قبيل التعبير بالمشهور.

قوله: وإذا اشترى أعيانًا بثمن مؤجل، ثم حجر عليه دخلت الأعيان في البيع. ثم قال: وعلى هذا فإن لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حل الأجل ففي جواز الفسخ الآن وجهان. انتهي كلامه. والصحيح منهما هو جواز الفسخ، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" في أوائل الكلام على الرجوع وعبر بالأصح، ولم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا غير أنه نقل من "زياداته" أن الصحيح في "الوجيز" الجواز. وهذا التصحيح الذي نقله عن "الوجيز" هو مذكور فيه في الكلام على الرجوع على ما نقله [عنه الرافعي هناك فافهمه، فإنه قد يعترض على النووي بعدم وجدانه] (¬1) في موضعه. ولم يذكر المسألة في "المحرر". ومن نظائر المسألة: ما إذا باع بثمن مؤجل وحل الأجل قبل التسليم، ففي الشرح و"الروضة" قبيل الكلام على التولية الجزم بأنه لا حبس. وجزم به الرافعي هنا أيضًا. ومن نظائرها أيضًا ما إذا وقع ذلك في الصداق، فهل للمرأة أن تمنع من تسليم نفسها؟ فيه اضطراب في الترجيح، ستعرفه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله في أصل "الروضة": وإذا حجر عليه في صورة المساواة، فهل لمن وجد عين ماله الرجوع؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح منهما أن له ذلك، كذا صححه الرافعي في "الشرح الكبير" وعبر بالأصح، هذا هو الموجود في النسخ الصحيحة، ويوجد في بعضها بلا تصحيح، ولعلها التى وقعت للنووي. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الحكم الأول: منع التصرف

قال -رحمه الله-: للحجر أربعة أحكام: الحكم الأول: منع التصرف قوله: فلو تصرف في عين من أعيان أمواله، ففيه قولان: أصحهما: أنه لا يصح التصرف في شيء منها. والثاني: أنه موقوف. ثم قال: واختلفوا في محل القولين، فمن قاصرين لهما على ما إذا اقتصر الحاكم على الحجر، ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه، فإن فعل ذلك، لم ينفذ تصرفه قولًا واحدًا. واحتجوا بأن الشافعي - رضي الله عنه - قال: إذا جعل ماله لغرمائه فلا زكاة عليه؛ ومن طاردين لهما في الحالتين، وهو الأشهر. قال هو: لا، وتجب الزكاة عليه في أظهر القولين ما دام ملكه باقيًا، والنص محمول على ما إذا باعه منهم. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من تصحيح وجوب الزكاة في هذه الحالة وأنه هو الأشهر على ما اقتضاه كلامه أيضًا، قد ناقضه مناقضة عجيبة في الكلام على شروط الزكاة، وسبق هناك ذكر لفظه فراجعه. قوله: فإن نفذنا تصرفات المحجور عليه، واحتجنا إلى النقض لقضاء الدين نقضنا الأضعف فالأضعف، ثم قال: والأضعف الرهن والهبة ثم البيع ثم الكتابة ثم العتق. انتهى كلامه. لم يبين حكم الرهن مع الهبة ولا حكم الوقف، وقد بينه في "الروضة"، فقال في الرهن مع الهبة: إن الرهن أضعف، لأنه لا تملك به العين.

وقال في العتق: إن صاحب "الشامل" جعله أضعف من الكتابة، وأن صاحب "البيان" قال: ينبغي أن يكون الأمر بالعكس، ثم قال -أعنى النووي-: إنه أصح. قوله: وإن أقر بدين، فإن أسنده إلى ما قبل الحجر، لزم في حق الغرماء في أصح القولين. وإن أسنده إلى ما بعد الحجر فإن قال: عند معاملة لم يقبل في حقهم. وإن قال: عن إتلاف أو جناية، قبل في أصح الطريقين. ثم قال: وإن أقر بدين ولم يسنده، فقياس المذهب التنزيل على الأقل، وجعله كما لو أسند لزومه إلى ما بعد الحجر. انتهى كلامه. ومعناه أن قياس المذهب هو تنزيل الإقرار على أقل المراتب وهو ما بعد الحجر، لأنه المحقق لا على أعلاها، وهو ما قبله. فعلى هذا إذا أضافه لمعاملة لم يقبل، وإن أضافه لجناية قبل في الأصح. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" قد انعكس عليه هذا الكلام، فجعل مكان (قبل الحجر)، كذا رأيته بخطه كما هو في النسخ أيضًا. ويلزم منه أن يقبل مطلقًا سواء أضافه لمعاملة أم [لا] (¬1)، وهو عكس الحكم. الثاني: وقد نبه عليه في "الروضة" فقال: هذا ظاهر إن تعذرت مراجعة المقر، فإن أمكنت فينبغي أن يراجع لأنه يقبل إقراره، وهذا الذي قاله صحيح لاشك فيه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثالث: أن الرافعي قد ذكر في كتاب الإقرار أن العبد إذا أقر بدين [من إتلاف وكذبه السيد لا يقبل وإن أقر بدين من معاملة وكان مأذونًا له في التجارة قبل، ثم قال: إن المأذون له إذا أقر بدين] (¬1)، ولم يبين جهته، بل أطلق أنه لا ينزل على دين المعاملة في أظهر الوجهين لاحتمال أن يكون عن إتلاف. وهذه المسألة ونحوها هي المقتضية لقول الرافعي: أن قياس المذهب هو التنزيل على الأقل، لأن أقل المراتب هنا هو الإتلاف، لكن قياس المذهب أيضًا إجراء الوجهين. قوله: فرع: لو ادعي مدعي على المفلس مالًا لزمه قبل الحجر، وأنكر المفلس ولم يحلف، فحلف المدعي إن قلنا النكول ورد اليمين كالبينة، فيزاحم الحالف الغرماء، وإن قلنا، كالإقرار فعلى القولين. انتهى كلامه. وما قاله من المزاحمة تفريعًا على جعله كالبينة، تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك فاعلمه، فإن الصحيح المذكور في الدعاوى أن الحكم لا يتعدى إلى ثالث إذا جعلناه كالبينة، بل يكون قاصرًا عليهما. وما قاله هنا هو الوجه المرجوح في موضعه، حتى قال الرافعي في آخر الشركة: إن الأئمة اتفقوا على ضعفه. قوله في أصل "الروضة": ولو اشترى شيئًا في الذمة ففي ثبوت الخيار للبائع أوجه: أصحها: التفصيل بين العلم والجهل. ثم قال: فإن لم نثبته فهل يزاحم الغرماء بالثمن؟ فيه وجهان: ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

أصحهما: [لا] (¬1)، لأنه حادث برضى مستحقه. انتهى. وإذا قلنا بالمزاحمة فإنا نزاحمهم في المنع خاصة، كذا صرح به الإمام والغزالي في "البسيط"، وكلام الرافعي تبعًا "للوسيط" و"الوجيز" يوهم أنه يزاحم على هذا الوجه في جميع أموال المفلس، ولم يتعرض في "الروضة" لذلك كما تراه. قوله: وفيه مسألتان: إحداهما: لو اشترى قبل الحجر شيئًا فوجده بعد الحجر معيبًا فله رده، إذا كانت الغبطة في الرد. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يشعر بعدم وجوب الرد، فإنه عبر بقوله: (فله رده)، لكن سيأتي بعد هذه المسألة نص للشافعي في مسألة تدل على وجوب الرد هنا، كما ستعرفه، وأيضًا فإنه بعد هذا في الكلام على اشتراط الخيار حكى أن في الفسخ والإجارة ثلاثة طرق: أصحها: الجواز مطلقًا. ثم قال: والطريق الثاني: أن تجويز كل منهما تنفيذ بشرط الغبطة كما في الرد بالعيب. هذا لفظه. فاقتضى أن الرد بالعيب لا تجوز فيه الإجارة، ولا الفسخ إلا على وفق الغبطة. لكن صرح القاضي حسين بعدم وجوب الرد، فيحتمل أن يقال بتسليمه وامتناع الإجازة غير أن النص لا يساعده. الأمر الثاني: أن تقييد الجواز بما إذا كان فيه غبطة، يقتضي أنه لا يجوز إذا لم يكن غبطة أصلًا لا في الرد ولا في الإمساك، لكن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المنقول في نظير المسألة أنه يجوز، وذلك لأن الفسخ والإجازة بالخيار فيهما ثلاثة طرق، وقد سبق ذكر طريقين منها، والثالث: أنا لا ننفذ على خلاف الغبطة إخراج شيء عن الملك، ولا يكلف رد شيء إلى الملك. فإن أجاز المشتري على خلاف الغبطة جاز، إن قلنا: الملك في المبيع له. وإن قلنا: للبائع، فلا. وإن فسخ على خلاف الغبطة فلا يجوز إن جعلنا الملك له، وإن جعلناه للبائع جاز، وقس على هذا إجازة البائع وفسخه. إذا علمت ذلك فقد قال الإمام بعد حكاية ذلك ما نصه: والذي دل عليه كلام المشايخ في هذه الطريقة، أنه ينفذ الفسخ والإجازة إذا استوى وجه الغبطة، ولم يترجح وجه على وجه. هذا لفظه فيتجه جريان مثل ذلك في الرد بالعيب، إلا أن يفرق بين ملك المشتري على ما فيه العيب تام ثابت، فيتعلق حق الغرماء به. وحينئذ فلا يجوز للمفلس قطع حقهم إلا عند ظهور الغبطة، بخلاف الملك في زمن الخيار. قوله: فإن كانت الغبطة في إبقائه، بأن كان معيبًا أكثر قيمة من الثمن، لم يكن له الرد لما فيه من تفويت المال لغير عرض، ولهذا نص الشافعي - رضي الله عنه - على أنه إذا اشترى في صحته شيئًا ثم مرض ووجده معيبًا فأمسكه؛ والغبطة في رده كان المقدار الذي ينقصه العيب معتبرًا من الثلث، وكذا ولى الطفل إذا وجد ما اشتراه للطفل معيبًا، لا يرده إذا كانت الغبطة في إبقائه. انتهى كلامه. وهذا النص مشهور في كتب المذهب نقله الإمام وغيره، لكن الاستشهاد به على امتناع الرد حيث كانت الغبطة في الإبقاء سهو، فإنه

إنما يدل على عكسه وهو الامتناع حيث كانت الغبطة في الرد، وكأنه -والله أعلم- أراد أن يستدل به على القسم الأول فاستدل على الثاني سهوًا. وهذا هو النص الذي تقدم أنه يدل على وجوب الرد، ووجه دلالته عليه إن تركه لما حسب على المريض من الثلث لزم أن يمنع المفلس منه، لأنه تفويت، وهذه القاعدة صرح بها جماعة منهم الغزالي في "بسيطه". واعلم أن الرافعي قد ذكر في الوصية مسألة قريبة من مسألة النص في المعنى، ومخالفة لها في الحكم فقال: لو اشترى شيئا محاباة ثم مرض ثم علم عيبه فلم يرد مع إمكانه لا تحسب محاباة من الثلث. قوله: وفرق بينه وبين مسألة المريض بأن حجر المريض أقوى. ألا ترى أن إمضاء الورثة تصرف المريض قبل الموت لا يفيد شيئًا، وإمضاء الغرماء وإذنهم في ما يفعله المفلس يقيده الصحة والاعتبار. انتهي كلامه. وما ادعاه من صحة تصرفه عند إذن الغرماء وعند إمضائهم ما يفعله ليس كذلك كما ذكره في موضعه وهو في الكلام على ما إذا لم يبق له مال فقال: ولو باع من أجنبي بإذن الغرماء لم يصح أيضًا، وقال الإمام: يحتمل أن يصح. هذا لفظه. قوله: من مات وعليه دين فادعى وارثه دينًا على رجل، وأقام شاهدًا ولم يحلف، لم يرد اليمين على الغرماء في الجديد. انتهى. قال الفوراني: محل هذين القولين إذا لم يكن في التركة وفاء من غير هذا الدين، فإن كان لم يحلف قطعًا. قوله: وفرع ابن كج على قول أن غرماء المفلس يحلفون فرعين:

أحدهما: أنه لو حلف بعضهم استحق الحالفون بالقسط. والثاني: لو حلفوا ثم أبرئوا من ديونهم فهل يكون المحلوف عليه لهم، ويبطل الإبراء؟ أم يكون للمفلس أم يبقى على المدعى عليه ولا يستوفى أصلًا؟ فيه ثلاثة أوجه. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد انعكس عليه الوجه الثالث فعبر بقوله: أم يسقط عن المدعى عليه؟ . الأمر الثاني: أن الراجح على ما أشار إليه النووي هو الوجه الثاني فقال: ينبغي أن يكون الأصح كونه للمفلس. قال: ويجيء مثله في غرماء الميت، قال: وأما الفرع الأول فقاله آخرون، منهم صاحب "الحاوي". قوله: من عليه الدين إن أراد أن يسافر، نظر إن كان حالًا فلصاحبه منعه حتى يقضي حقه، وإن كان مؤجلًا. . . . إلى آخره. هذا الكلام تبعه عليه في "الروضة"، وهو يوهم أن صاحب الدين الحال إذا لم يؤخذ منه منع ولا إذن، وذلك بألا يعلمه أو أعلمه فسكت يجوز للمديون السفر، وليس كذلك، فقد قال في أوائل السير: فمن عليه دين حال لمسلم أو ذمي، ليس له أن يخرج في سفر جهاد أو غيره إلا بإذنه، وله أن يمنعه من السفر، هذا كلامه.

الحكم الثاني: في بيع ماله وقسمته

قال -رحمه الله-: الحكم الثاني: في بيع ماله وقسمته قوله في أصل "الروضة": أما الذي له مال وعليه دين، فيجب أداؤه إذا طلب. انتهى. هذه العبارة لم يصرح بها الرافعي، وهى تقتضي أن الدين لا يجب أداؤه قبل طلبه. والمسألة فيها وجهان، نقلهما الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة" في الكلام على قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مطل الغني ظلم" (¬1)، وجزم شيخه الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى" بعدم الوجوب، ذكر ذلك في آخر الفصل المعقود لتنويع العبادات البدنية، وهو نحو نصف الكتاب. قال: فإن ظهرت قرائن خالية تشعر بالطلب، ففي وجوبه احتمال، وتردد، وجزم به أيضًا -أعنى بعدم الوجوب- الإمام أبو المظفر السمعاني في كتاب "القواطع في أصول الفقه"، ذكر ذلك في فصل معقود لبيان ما أسقط من الحقوق بعذر الصبي، وهذا هو المفهوم من كلام الأكثرين أيضًا. إذا علمت ذلك، فقد ذكر -أعني النووي- في أواخر كتاب الحجر كلامًا حاصله الوجوب، وذكر معه صورة لا يجب فيها ذلك، وستعرف لفظه هناك فراجعه. وأطال ابن الرفعة الكلام فيها، فقال في كتاب الرهن من "الكفاية": قال صاحب "البحر" في كتاب الغصب: يحتمل أن يقال: إن كان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2166) ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وجوبه يرضي المالك فهو على التراخي، ويتعين أداؤه بالمطالبة أو الخوف منه على ماله أن يفوت. وإن كان وجوبه بغير رضى المالك فالقضاء على الفور، لأن صاحبه لم يرض بوجوبه في ذمته، وهذا لأنه إن كان برضى المالك فصاحب الدين مندوب إلى ألا يطالب بالدين، ولو كان وجوب القضاء على الفور لكان مندوبًا إلى المطالبة ليخرج من عليه الدين من العصيان بتأخر القضاء. ويحتمل أن يقال: إن كان الوجوب بغير رضاه، نظر إن كان صاحب الحق لا يعلم به فيكون على الفور، وإن كان عالمًا به فإن وجب بتعدٍ منه كان على الفور، وإن كان بغير تعدٍ كان على التراخي. وقال الإمام في كتاب الوكالة: إنه لا يتعين أداؤه إلا بالمطالبة. وقال في كتاب القاضي إلى القاضي، بعد قوله: إن الأداء لا يلزم إلا مع طلبه، وقد يقول [الفقيه] (¬1): من عليه دين حال يلزم أداؤه، وإن لم يطالبه صاحبه. انتهى ما نقله ابن الرفعة. وقال الماوردي في آواخر الوصية: إذا كان على المحجور دين فيجب على الولى قضاؤه إن ثبت وطالب به صاحبه. فإن أمسك عن المطالبة نظر، فإن كان مال المحجور ناضًا ألزمهم الولى قبض ديونهم، أو الإبراء منها خوفًا من أن يتلف المال. وإن كان أرضًا أو عقارًا تركهم على خيارهم في المطالبة إذا شاؤوا. انتهى. وقد سكت عما إذا كان ماله من المنقولات، ويتجه إلحاقه بالناض. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثم إن ما قاله -أعني الماوردي- إنما يأتي إذا كان صاحب الدين رشيدًا، فإن كان أيضًا محجورًا عليه حرم التأخير، لأن [إثم ولى] (¬1) المستحق بالتأخير لا يكون عذرًا لمن يجب عليه الوفاء سواء كان هو المديون أو وليه. واعلم أن الأصحاب قد قالوا في كتاب الجنائز: أنه تجب المبادرة إلى وفاء دين الميت تبرئة لذمته، وخوفًا من تلف ماله. ويتجه تخصيص ذلك بما إذا كان الميت مكلفًا، فإن لم يكن كان على مالكه. ولقائل أن يقول: يعدى ذلك إلى المكلف أيضًا. وإذا علمت جميع ما تقدم فيتلخص منه أن الدين على أقسام: أحدها: أن يكون محجورًا على مثله. الثاني: عكسه. الثالث: لرشيد على محجور. الرابع: بالعكس. وإذا كان على مكلف فقد يكون حيًا، وقد يكون ميتًا كما تقدم. وأيضًا فقد يكون المستحق عالمًا به، وقد لا يكون، والذي لا يعلم به مستحقه يكون الإعلام فيه كالأداء في الجواز وأيضًا فالواجب قد يكون رضي صاحبه بتأخيره بمثابة الأداء أيضًا. وينشأ مما ذكرناه أقسام كثيرة لا يخفى حكمها مما سبق. قوله: وغير المفلس من المديونين إذا امتنع من قضاء الدين وبيع المال فيه يبيع الحاكم ماله ويقسمه بين الغرماء، وعند أبى حنيفة لا يبيعه بل يحبه. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهو يوهم تعين البيع عندنا، والذي قاله الأصحاب كما نقله النووي، أنه مخير بين هذا وبين إكراهه على البيع وتعزيره عليه بالحبس وغيره. قوله "من زياداته": وفي "فتاوى" صاحب "الشامل": أن المحبوس يمنع من الاستمتاع بالزوجة. قال: وفي "فتاوى الغزالي" أن الرأي فيه إلى القاضي. انتهى ملخصًا. وهذه المسألة قد أعادها في الباب الثاني في "جامع آداب القضاء" في آخر الطرف الأول منه، وجزم بالمنع، وهو مخالف لكل من هذين النقلين المذكورين هنا، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: ثم خالف الحاكم وسلم المبيع قبل قبض الثمن ضمن، وكيف يضمن؟ سنذكره إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه. والموضع الذي وعد بذكره هو الوكالة، وقد وقع كذلك في بعض نسخ الرافعي. قوله: وتقدم بيع المرهون والجاني ليتعجل حق مستحقهما. انتهى. ويلحق أيضًا بهما في التقديم المال الذي تعلق به عامل القراض، ويقدم بالربح المشروط. قوله: وذكر صاحب "التقريب": أنه لا يكلف الغرماء عند القسمة، أو أنه ينبه على أنه لا غريم سواهم، وقال الإمام: يكلفون إن كلفنا الورثة, ويفارق إن تفرق فإن الورثة على كل حال أضبط من الغرماء. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": الأصح قول صاحب "التقريب"، وهو ظاهر

كلام الجمهور. قال: ويفرق أيضًا بأن الغريم الموجود تيقنا استحقاقه لما يخصه، وشككنا في مزاحم، ثم لو قدر مزاحم لم يخرج هذا عن كونه يستحق هذا القدر في الذمة، وليست مزاحمة الغرم متجهة، فإنه لو أبرأ أو عوض سلمنا الجميع إلى الآخر، والوارث يخالفه في جميع ذلك. قوله: هذا كله إذا كان الغريم الذي ظهر قديمًا، فإن كان حادثًا بعد الحجر، فلا يشارك الأولين في المال القديم. انتهى كلامه. وما قاله من عدم المشاركة بسبب الدين الحادث ليس على إطلاقه، فقد تقدم أنه لو كان بجناية شارك. وذكر بعد ذلك: أنه لو تقدم سببه لشارك أيضًا، كما إذا انهدمت الدار التى أجرها وقبض أجرتها وتلفت. قوله: وإن ظهر مال قديم وحدث مال باحتطاب وغيره، فالقديم للقدماء خاصة، والحادث للكل. انتهى كلامه. وما ادعاه أن الحادث للجميع، تبعه عليه في "الروضة"، ولا يخلو إما أن يكون حدوثه قبل فك الحجر أو بعده، فإن حدث قبله اختص به أصحاب الديون المتقدمة على حدوثه، لأن [الرافعي] (¬1) قد ذكر أنه لو اشترى سلعة تعدى إليها الحجر ولا يضارب البائع بثمنها على الصحيح. فإذا لم يضارب هذا، فأولى ألا يضارب غيره ممن لم يأخذ الغرماء في مقابلته شيئًا. وإن حدث بعد فك الحجر، فلا يتعلق به حق أحد من الغرماء لا من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأولين ولا من غيرهم، بل يتصرف فيه المديون كيف شاء. وقد ذكر ابن الرفعة الشطر الأول من هذا الاعتراض، وسكت عن الثاني. ونقل عن الشافعي: أنه فرض المسألة بعد فك الحجر، وكذلك الماوردي والروياني. واستشعر الروياني هذا الاعتراض، وصور المسألة بما إذا أعاد القاضي الحجر. فإن قيل: كيف يتأتى الفرق بين المال القديم والحادث لأن القاضي إذا فك فلا فرق أيضًا؟ . قلنا: قد صرح الماوردي بأنه إذا ظهر له مال، يكون الحجر باقيًا فيما ظهر، واقتضى كلامه اختصاص الحجر به. قوله: ولو نصب الحاكم أمينًا حتى باعه، ففي كونه طريقًا في الضمان إذا خرج مستحقًا وجهان كما ذكرنا في نظيره من الرهن. انتهى. والأصح هناك كما قاله الرافعي: أنه لا يضمن، لأنه ثابت الحكم، والحاكم لا يضمن. وذكر في "الروضة" هنا: أن صاحب "التهذيب" صحح عدم الضمان واقتصر عليه. قوله: ينفق الحاكم على المفلس إلى فراغه من بيع ماله وقسمته، وكذا ينفق على من عليه مؤنته من الزوجات والأقارب، لأنه موسر ما لم يزل ملكه. انتهى. تابعه على هذا الاطلاق في "الروضة"، وينبغي استثناء من تزوج بها في حال الحجر، فإنها لا تستحق شيئًا من ذلك المال.

وقد صرح -أعني الرافعي- بذلك في كتاب النكاح، وكذلك الجرجاني في "المعاياة" هنا، وفرق بينها وبين تجدد الولد، بأن الزوجة تجددت باختياره بخلاف الولد. فإن قيل: إن الرافعي قد قال في باب الحجر: إن السفيه إذا أقر بنسب، فإنه يثبت وينفق على الولد المستلحق من بيت المال، فهل يستثني أيضًا ذلك من هذا الباب؟ قلنا: لا، بل الأمر علي ما أطلقوه، ويستحق المذكور النفقة، فإن إقرار السفيه بالمال وبما يقتضيه لا يقبل بخلاف إقرار المفلس، فإنه مقبول على الصحيح فغايته هاهنا أن يكون قد أقر بدين، وإقراره به مقبول، ويجب أداؤه فبطريق الأولى وجوب الإنفاق لأنه وقع بطريق البيع، ويغتفر في الأمور التابعة ما لا يغتفر بطريق الأصالة، لثبوت النسب بشهادة النسوة بالولادة. قوله: وأما قدر نفقة الزوجات، فقال الإمام: لا شك أن نفقته نفقة المعسرين. وقال الروياني: نفقة الموسرين، وهذا قياس الباب إذ لو كان ينفق نفقة المعسر لما أنفق على القريب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: ذكر الشافعي في "المختصر" ما يوافق كلام الإمام فقال: أنفق عليه وعلى أهله كل يوم أقل ما يكفيهم من نفقة، وكسوة، هذا كلامه. ونقله عنه في "الروضة" وقال: إنه يرجح كلام الإمام. الثاني: أن استدلال الرافعي بما قاله استدلال عجيب، لأن اليسار المشروط في نفقة الزوجة غير اليسار المشروط في نفقة القريب، كما ذكره

هو وغيره في موضعه، فلا يلزم من انتفاء الأول انتفاء الثاني. قوله: الرابعة: يترك له قوت يوم القسمة. انتهى. والمراد اليوم بليلته، كذا صرح به البغوي في "التهذيب"، ونقله عنه النووي في تعليقه على "المهذب" وارتضاه. قوله: وذكر الغزالى أنه يترك له سكني ذلك اليوم أيضًا، فاستمر على قياس النفقة، لكن لم يتعرض له غيره. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وما نقله عن الغزالي ولم يذكر معه ما يقتضي موافقة ولا مخالفة، قد جزم به في أوائل العتق في الكلام على السراية. قوله من "زياداته": قال في "البيان": وتسلم النفقة إليه -أى إلى المفلس- يومًا بيوم. انتهى. ذكر مثله أيضًا صاحب "التتمة". قوله: وليس على المفلس أن يكتسب. . . . إلى آخره. هذا إذا لم يلزمه الدين بسبب هو عاص به، فإن كان كذلك وجب عليه الاكتساب لوفائه، كذا ذكره ابن الصلاح فيما جمعه من الفوائد في رحلته إلى بلاد الشرق عن الإمام أبي عبد الله محمد بن الفضل الفزاري من أصحابنا، وهو واضح، لأن التوبة مما فعله واجبة، وهي متوقفه في حقوق الآدميين على الرد. قوله: وهل تؤجر عليه أم ولده وضيعته الموقوفة عليه؟ فيه وجهان، مال الإمام إلى المنع؛ لكن في تعاليق العراقيين: أن الإيجار أظهر. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: قلت: الإيجار أصح، وصححه في "المحرر".

وما نقله عن "المحرر" ليس مطابقًا له، فإنه عبر بقوله: فيه وجهان، رجح منهما الإجارة. هذا لفظه. [بصيغة البناء للمفعول، ومدلوله أن بعضهم رجحه هذا الترجيح دون الترجيح المذكور في "الروضة"] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الحكم الثالث: حبسه

قال -رحمه الله-: الحكم الثالث: حبسه قوله: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليّ الواجد يحل، عقوبته وعرضه. انتهى. اللي بفتح اللام وبالياء المشددة هو المطل. والواجد بالجيم هو القادر. ويحل بضم الياء. ومعناه أن المطل من القادر يبيح العرض كقوله: يا ظالم يا مماطل. وكذلك العقوبة وهي الحبس وغيره من التعزيرات. واعلم أن الذي وقعت الإجارة على عينه لا يحبس في الديون، بل يقدم حق المستأجر كما تقدم حق المرتهن، لاسيما والعمل مستحق في الإجارة بعينه، والحبس ليس مستحقًا في نفسه، وإنما هو وسيلة إلى الحق، كذا قاله الغزالي في "فتاويه". وقياسه ألا يحضر أيضًا مجلس القاضي إذا طلب. وحكى شريح الروياني في إذن القضاء وجهين في تقييد المحبوس إذا كان لجوجًا صبورًا على الحبس. قوله: وإن ادعى المديون أنه معسر لا شيء له، أو قسم مال المحجور على الغرماء ونفي بعض الديون فزعم، أنه لا يملك شيئًا آخر، وكان الدين قد لزم لا في معاملة، قال فثلاثة أوجه: أصحها: أنه يقبل قوله. والثاني: يحتاج إلى التنبيه، لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئًا قل

أو كثر. . . . إلى آخره. وهذا التعليل المذكور للمسألتين لا يستقيم بالنسبة إلى المسألة الثانية، لأنه قد وجد له مال وقسم وقبضه الظاهر الذي قاله قد علمنا به. وهذا الاعتراض حكى، وقد نبه عليه ابن الرفعة في "الكفاية". قوله في شهود الإعسار: ويعتبر مع ذلك كونهم من أهل الخبرة الباطنة، ثم إن عرف القاضي أنهم بهذه الصفة فذاك، وإلا فله اعتماد قولهم أنا بهذه الصفة، ذكره في "النهاية". انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وتابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن الإمام قد صرح بنقل ذلك عن الأئمة، فقال: إن علم أن المشهور من أهل الخبرة الباطنة في الإعسار ونظائره .. إلى آخر ما قاله الرافعي. ثم قال في آخره: وإن أطلق الشهادة على الإعسار، ولم يتبين القاضي من جهة بحثه ولا من جهة ذكر الشاهد أنه من أهل الخبرة، فيتوقف لا محالة. هكذا ذكر الأئمة. هذا لفظ الإمام. الأمر الثاني: أن كلام "النهاية" مستفاد منه جريان هذا التفصيل بعينه في شهود التزكية. ولما تكلم الرافعي على المسألة في كتاب القضاء في فصل القضاء على الغائب، لم يذكر هذا التفصيل المذكور هنا، بل نقل عن "الوسيط" أن للقاضي يجب أن يعرف ذلك، ولم يزد عليه. ثم قال: وإذا علم من عدالته أنه لا يزكى إلا بعد الخبرة فيعتمده، هذا كلامه هناك. وينبغي جريان هذا التفصيل الأخير في المفلس.

قوله: وأما الصيغة فهى أن يقولوا: هو معسر لا يملك إلا قوت يومه، وثوب بدنه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه ينبغي أن يضيف إلى هذا ما يصرفه لسكنى اليوم، فإنه يستثنى أيضًا كما نقلناه قبل هذا الموضع بنحو ورقة عن الرافعي. الأمر الثاني: أنه إذا كان مالكًا لما لا يتأتى مصرفه إلى الدين كالمغصوب والغائب، فإن وجوده كعدمه، ولهذا جوزوا له أخذ الزكاة. وحينئذ فيسمع منه إقامة البينة على الإعسار، فلا تتأتى إقامتها بالصيغة المذكورة هنا لأنه مالك، بل يتعين التعبير بالقدرة والوصول ونحوهما، فالغالب أن الشخص لا يعيش طول عمره من غير ظلامة تتعلق به، فينبغي التعبير بما قلناه. قوله: وحيث قبلنا قوله بيمينه فيقبل في الحال، كما لو أقام البينة تسمع في الحال. قال الإمام: ويحتمل أن يقال: يتأني القاضي ويبحث عن باطن حاله، ولا يقنع بقوله بخلاف ما إذا أقام البينة. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقل ذلك احتمالًا له فقط، وهو يوهم أن الراجح عنده خلافه، أو أنه لم يرجح شيئًا، وليس كذلك، فقد قال الإمام: لست أرى قبول ذلك ويظهر عندي تأني القاضي في إطلاقه مع البحث الممكن من أحواله. [قوله: وفي حبس الوالد بدين الولد وجهان، أصحهما عند الغزالي: بحبس] (¬1) وأصحهما في "التهذيب" وغيره: لا يحبس، ولا فرق بين ¬

_ (¬1) سقط من أ.

دين النفقة وغيرهما. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة"، وهو يشعر برجحان عدم الحبس، والأمر كذلك فاعلمه، فقد صححه الرافعي في كتاب الشهادات [وعبر بالأصح، وتابعه على تصحيحه في "الروضة"، وحكى هناك] (¬1) وجهًا ثالثًا أنه يحبس في دين النفقة دون غيرها. واختار صاحب "الحاوي الصغير" أنه يحبس. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الحكم الرابع: الرجوع إلى عين المبيع

قال -رحمه الله-: الحكم الرابع: الرجوع إلى عين المبيع قوله: ولو صرح الحديث، ذهب الإصطخري إلى أنه لو حكم بالمنع من الفسخ حاكم نقض حكمه. انتهى. وهذا الذي قاله الإصطخري قد صحح في "الروضة" خلافه، فقال: الأصح أنه لا ينقض حكم من حكم بمنع الفسخ لاختلاف فيه. هذا كلامه. والعلة التي قالها باطلة، فإن الذي يمنع النقض إنما هو كون المسألة اجتهادية. وأما الاختلاف فيها فلا، قالا: لكن يؤدي إلى ألا ينقض حكم في مسألة مختلف فيها، بل إن كان الخلاف معارضًا للنص أو القياس الجلي فلا أثر له وينقض حكم من حكم به، وإلا فلا كما أوضحوه في بابه. واعلم أن هذه المسألة ذكرها في "التهذيب"، ونقل عن الاصطخري ما نقله هاهنا، ثم قال: ويحتمل ألا ينقض. قال النووي في الكلام عليه في "تعليقه": صحح ابن عصرون هذا الاحتمال، وحكى صاحب "البيان" و"التهذيب" فيه وجهين، قال: وكأنهما نظرا إلى هذا الاحتمال، فإن صح ما قاله ظهرت المناقشة على إثبات الخلاف، فضلًا عن تصحيحه وتعبيره بالأصح. قوله: ولو كان قد ضمن بالثمن ضامن، فإن ضمن بإذن المشتري فله الرجوع على المشتري، لأنه ليس بمتبرع والوصول من يده كالوصول من يد المشتري.

وإن ضمن بغير إذنه فوجهان: في أحدهما: يرجع كما لو تبرع متبرع بالثمن، وفي الثاني: لا، لأن الحق قد تقرر في ذمته وتوجهت المطالبة عليه بخلاف المتبرع. ولو أعير من المشتري ما يرهنه بالثمن، فرهنه فعلى هذا الخلاف. انتهى كلامه. وما ذكره في العارية من تخريجه على الضمان بغير الإذن، كيف يستقيم مع انتفاء الإذن هناك، ووجوده هنا، بل الصواب إلحاق هذه بالضمان بالإذن، وأن يكون الرهن ابتداءً كالضمان بغير الإذن. وقد ذكر صاحب "التتمة" ذلك على الصواب فقال: الرابعة: إذا أفلس المشتري وبالثمن ضامن هل للبائع الفسخ والرجوع في عين ماله؟ نظر، فإن كان الضامن قد ضمن بإذن المشتري فليس له الفسخ، لأن الضامن ليس بمتبرع، ووصوله إلى الثمن من جهته كوصوله إليه من جهة المشتري. وإن كان قد ضمن بغير إذنه فوجهان: أحدهما: له الرجوع، لأن الضامن متبرع، ولا يلزمه قبول التبرع. والثاني: لا يجوز له [الرجوع، لأن الحق قد ثبت في ذمته، ولهذا يجوز له مطالبته بخلاف المتبرع، فإنه لا يجوز له] (¬1) مطالبته. وهذا الحكم فيما لو كان قد رهن بعض الناس ماله بالثمن، ثم أفلس المشتري. هذا لفظه. وهو كلام صحيح، ولا شك أن الرافعي لما نقل عنه تحرف عليه آخر الكلام. ويؤيده مع كثرة نقل الرافعي عنه أنه نقل عنه في المسألة التي قبل هذه، ثم نقل هذه بالترجيح كما في "التتمة"، وبالتعليل الذي ذكره بعينه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

واعلم أن النووي في "الروضة" لما ذكر المسألة ذكر أحد سببيها خاصة، وهو الضمان بغير الإذن ونسي ذكر الآخر. قوله: ولو انقطع حبس الثمن، فإن جوزنا الاعتياض عنه انتفى التعذر، وإن منعنا كان كانقطاع المسلم فيه. وحينئذ فيثبت له الفسخ. انتهى. وذكره أيضًا كذلك في "الشرح الصغير" وتابعه في "الروضة"، وصرح بامتناع الفسخ إذا جوزنا الاعتياض كما هو مدلول كلام الرافعي، ومنع الفسخ مشكل لا يوافق القواعد، فإن المعقود عليه إذا فات خيار الفسخ لفوات المفقود منه. وقد جزم به الرافعي في فوات المبيع، وذكر أيضًا أن إتلاف الثمن المعين كإتلاف المبيع حتى يقتضي التخيير. وإذا ثبت جواز الفسخ فيه لفوات عينه مع إمكان الرجوع إلى جنسه ونوعه، فبطريق الأولى عند فوات الجنس. ومنقول الأصحاب في هذه المسألة لا يوافق المذكور في الرافعي، فقد قال القاضي الحسين في أواخر باب الربا من "تعليقه" قبل باب اللحم باللحم بنحو ورقة: لا يجوز الاستبدال عنه، ولا يفسد العقد، وإن قلنا: إنه لا يجوز الاستبدال عنه، ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ العقد. والثاني: يثبت له حق الفسخ. هذا لفظه. ففرع على عدم الاستبدال عدم الفساد، وهو صحيح لا عدم الفسخ. وقال الإمام في أوائل الكتابة: ولهذا ذهب معظم الأصحاب إلى

انقطاع حبس الملتزم هنا لا يوجب انفساخ العقد، وفي انقطاع المسلم فيه قولان، وذهب المحققون إلى التسوية. هذا لفظه. وحاصله أنه هل يجيء القولان أو يقطع بأحدهما وهو عدم الانفساخ، والقائل هناك بهذا القول يجوز الفسخ. وذكر في "التتمة" في الباب السابع من أبواب البيع في أواخر الفصل الثالث منه نحوه فقال: والثمن مما يستقر في الذمة من غير قبض، بدليل أنه جنس الثمن إذا انقطع عند أيدي الناس لا ينفسغ العقد. هذا كلامه. واعلم أن الإمام قال في أوائل الفلس: فإن ألحقنا الثمن بالمسلم فيه مع منع الاستبدال عنه، فلو انقطع جنس الثمن كان كما لو انقطع المسلم فيه. هذا لفظه. ولم يتعرض للتفريع على جواز الاستبدال، وذكر مثله الغزالي في "البسيط"، ثم إنه في "الوسيط" ذكره ظانًا أن التقسيم يقتضي عدم الفسخ، وصرح به مع عدم الانفساخ كما ذكره إمامه في الكتابة، وذكره غير إمامه أيضًا، فتابعه عليه الرافعي. وذكر ابن الرفعة في "المطلب" في الكلام على قول الغزالي في البيع: وإن غلب في العروض حبس، وأخذ ما ذكره الإمام ناقلًا له عنه، واقتصر عليه، وذكر هنا ما ذكره الغزالي، ونقله عنه فقط، واستشكله وأشار إلي أنه من تفرداته. قوله: فإذا أجر أرضًا أو دابة، وأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة، ومضي المدة فللمؤجر فسخ الإجارة. . . . إلي آخره. اعلم أن الإجارات المعتادة الآن، وهي التي تستحق فيها أجرة كل شهر عند انقضائه، لا فسخ فيها، لأن الفسخ من شرطه أن يكون العوض

حالًا والمعوض باقيًا، فلا يتأتى الفسخ قبل الشهر، لعدم المطالبة بالأجرة، ولا بعده، لأن منفعته قد فاتت، فهى كالمبيع يتلف، وهكذا العمل في كل شهر. وحينئذ فلا يتصور فيها الفسخ، وإنما يتصور إذا كانت الأجرة كلها حالة فاعلمه، وتفطن له. وقد نبه عليه مع وضوحه ابن الصلاح في "فتاويه". قوله: باع مالًا واستوفى ثمنه وامتنع من تسليم المبيع أو هرب، فهل للمشتري الفسخ كما لو أنفق المبيع أم لا لأنه لا نقص في نفس المبيع؟ فيه وجهان. منقولان في "التتمة". انتهى. لم يصح في "الروضة" شيئًا منهما، والأصح، امتناع الفسخ، كذا صححه الرافعي والمصنف في نظير المسألة، وهو امتناع المشتري وهربه. قوله: ولو استولدها ثم حجر عليه بالفلس، لم يكن للبائع الرجوع. انتهى ملخصًا. وامتناع الفسخ هو الصواب المذكور في أكثر كتب النووي. وادعي في "تصحيح التنبيه" أنه لا خلاف، فإنه عبر بالصواب، ووقع في "فتاوى النووي" أنه يرجع، وهو غلط فاعلمه. قوله: وإن أجره فلا رجوع إن لم نجوز بيع المستأجر، وإن جوزناه فإن شاء أخذه مسلوب المنفعة لحق المستأجر، وإلا ضارب بالثمن. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من التخريج على البيع، قياسه أن يأتي أيضًا في رجوع الواهب، لكنه لم يرتضه، فقال ما حاصله: إن المذهب الذي قطع به

الأكثرون هو الجواز. وقال الإمام: إن جوزنا بيع المستأجر رجع، وإلا فوجهان. قوله: ولو حجر عليه بعد ما زال ملكه، ثم عاد، نظر: إن عاد بلا عوض كالهبة والإرث ففي الرجوع وجهان. ثم قال: وهذا الخلاف كما ذكرنا في مثله من الرد بالعيب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى هذا الكلام تصحيح جواز الرجوع، لأنه الصحيح في الرد بالعيب على ما اقتضاه كلامه في هذا الكتاب، وصرح به في "المحرر"، ولا جزم، وصرح به هنا في "الشرح الصغير" -أعني بجواز الرجوع- وعبر بالأظهر. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" لما اختصر هذا الكلام حكى وجهين، ولم يزد عليهما، ثم ذكر من "زياداته" أن الصحيح عدم الرجوع على العكس هنا، صرح به في "الشرح الصغير"، واقتضاه كلامه هنا. قوله من "زوائده": قلت: لو كن المبيع شقصًا مشفوعًا ولم يعلم الشفيع حتى حجر على المشتري، وأفلس بالثمن، فأوجه: أحدها: يأخذه الشفيع، ويؤخذ منه الثمن، فيخص به البائع جمعًا بين الحقين. والثاني: يأخذه البائع. وأصحها عند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وآخرين: يأخذه الشفيع، ويكون الثمن بين الغرماء، والله أعلم. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في كتاب الشفعة في الكلام على الركن الثالث، وصرح بتصحيح الوجه الثالث، وزاد وجهًا رابعًا: وهو أن

البائع إن كان قد سلم الشقص قبل فلس المشتري لم يكن أولي بالثمن لرضاه بذمته، وإن لم يسلمه فهو أولى بالثمن، ثم إن مقتضى ما ذكره هناك: أنه لا فرق بين أن يعلم الشفيع قبل الحجر أو بعده. نعم إن علم وأخذ قبل الحجر فلا رجوع للبائع جزمًا، وسوف أذكر صور هذه المسألة إن شاء الله تعالي في كتاب الشفعة للتنبيه على غلط وقع في الرافعي و"الروضة". قوله في أصل "الروضة": وإن كان التغييب بجناية المشتري فطريقان: أصحهما عند الإمام: أنه كالأجنبي، لأن جناية المشتري قبض واستيفاء، وكأنه صرف جزءًا من المبيع إلى غرضه. والثاني وبه قطع صاحب "التهذيب" وغيره: أنه كجناية البائع على المبيع قبل القبض، ففي قول كالأجنبي، وعلى الأظهر كالآفة السماوية. قلت: المذهب أنه كالآفة، وبه قطع جماعات، والله أعلم. انتهى كلامه. وما نقله في الأصل عن "التهذيب" من إلحاقه بجناية البائع حتي يجيء فيه القولان غلط، بل صاحب "التهذيب" من الجماعات الذين نقل عنهم من "زياداته" القطع بإلحاقه بالآفة، فإنه قال: ولو جنى عليه المشتري، فهو كما لو حصل النقصان بآفة سماوية، فالبائع إن شاء أخذ المبيع ولا شيء عليه، وإن شاء ترك وضارب الغرماء بالثمن. هذا لفظه. وقد ذكره الرافعي في الشرحين على الصواب، وإنما فهمه على غير وجهه، فإنه لما ذكر القول الثاني من الطريقة الثانية عبر بقوله: وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وغيره، مشيرًا به إلى القول، فظن النووي أنه أشار إلى الطريقة فصرح به فغلط. قوله: أما إذا باع عبدين متساويي القيمة بمائة، وقبض خمسين فتلف

أحدهما في يد المشتري، ثم أفلس فالجديد أنه يرجع، وعلى هذا فإن لم يرجع، نص أنه يرجع في جميع العبد الباقي بما بقي من الثمن. وله فيما إذا أصدقها أربعين شاة وحال عليها الحول فأخرجت شاة، ثم طلقها قبل الدخول، قولان: أحدهما: يرجع بعشرين شاة، وهو قياس نصه هاهنا. والثاني: أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة الشاة المخرجة. واختلفوا هاهنا، وعلى هذا فأظهرهما: المنصوص، والطريق الثاني: القطع بالمنصوص. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الراجح طريقة القولين، فقد جزم بها الرافعي في "المحرر"، وتبعه عليه النووي في "المنهاج"، ولا يؤخذ من كلام "الشرح الصغير" أيضًا تصحيح واحدة من الطريقين. الأمر الثاني: أن النووي صحح في أصل "الروضة" طريقة القطع، فقال ما نصه: هذا هو المذهب والمنصوص، وقيل: فيه قول مخرج. هذا لفظه. فانظر كيف ضعف إثباته فقال: وقيل فيه قولان، ولم يقل: وفيه قول. وهذا واضح، وقد صرح به في أول الإشارات التي جمعها على "الروضة"، "كالدقائق" على "المنهاج" فقال: وقولي: وقيل: تخريجه على القديم، إشارة إلي طريقين: أصحهما: القطع بالثانية إثبات قولين، وقد ذكرت لفظه هناك. وإذا علمت ما قاله في "الروضة"، ظهر لك عليه استدراكان: أحدهما: مخالفته لما في "المنهاج".

والثاني: إدخال تصحيح في كلام الرافعي لما يذكره. قوله: فرعان: أحدهما: إذا غلى الزيت حتى ذهب بعضه، ثم أفلس فوجهان: أحدهما: أنه كما لو تعيب المبيع، وكان الزائل صفة النقل. وأصحهما: أنه بمثابة تلف المبيع. وينبغي أن يطرد الوجه الأول في إغلاء الغاصب الزيت المغصوب، وليس له ذكر هناك، ولم يتعرض له المعظم هاهنا. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من أن الوجه لم يذكروه هناك غريب، فقد ذكره جماعة، وممن ذكره الغزالي في "الوسيط" ناقلًا له عن ابن سريج، وكذلك ذكره هو -أعني الرافعي- ونقله عن صاحب "التلخيص"، وكأن الرافعي -رحمه الله- اغتر بكلام المشروح وهو "الوجيز"، فإنه حكى الوجهين هنا، وجزم هناك. واعلم أن في هذه المسألة ومسألة العصير كلامًا آخر يتعين الوقوف عليه أذكره إن شاء الله تعالى في باب الغصب فراجعه. قوله ولصاحب "التلخيص" في المسألة كلام غلطوه فيه. انتهى. والذي قاله في "التلخيص" أنه نقصان عين أو صفة فيرجع في الذاهب، ويضارب بأرش نقصان الباقي، ثم خطأه الإمام في تغريمه أرش نقصان الباقي، قال: لأن الغليان كالتلف. والذي قاله الإمام غير ظاهر، بل الغليان كإتلاف المشتري، وفيه خلاف مشهور، حتى اختار الإمام أنه كتعييب الأجنبي، وحينئذ فلا يقال في هذا: إنه غلط، بل هو الحق. ونقل الغزالي في "الوسيط" و"البسيط" كلام "التلخيص" على

غير وجهه، ثم نقل في "البسيط" عن الإمام تخطئته فيه، فاعلم ذلك واجتنبه. قوله: إحداها: المتصلة من كل وجه كالسمن وتعلم الحرفة، فلا عبرة بها، وللبائع الرجوع من غير أن يلتزم للزيادة شيئًا. انتهى كلامه. وما ذكره في الحرفة من أن البائع يفوز بها ليس كذلك، بل أصح القولين أن المشتري يكون شريكا بنسبة الزيادة، كذا ذكره الرافعي بعد ذلك في الكلام على القصارة، فقال: وإذا اشتري حنطة يطحنها، أو ثوبًا يقصره وزادت القيمة فأصح القولين أنها تجري مجرى الأعيان، ويصير المفلس شريكًا. ثم قال: وعن أبي إسحاق، أن تعلم العبد القرآن والحرفة والكتابة والشعر المباح ورياضة الدابة لا يلحق بها، ولا يجري مجرى الأعيان قطعًا لأنه ليس بيد المعلم والرائض إلا التعليم، وقد يجتهد فيه ولا يحصل الغرض، فكان كالسمن ونحوه، ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة وابن القطان أيضًا. والأصح، أنها من صور القولين، لأنها أعمال يجوز الاستئجار عليها، وضبط صور القولين أن يصنع بالمبيع ما يجوز الاستئجار عليه، وظهر به أثر فيه دائمًا، وإنما اعتبرنا ظهور الأثر، لأن حفظ الدابة وسياستها على عمل يجوز الاستئجار عليه، ولا تثبت به الشركة، لأنه لا يظهر بسببه أثر على الدابة. هذا كلام الرافعى. والعمدة على الموضع الثاني، لأنه موضع الإمعان في المسألة، وذكر مقالة الناس فيها، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة"، والموضع الأول في "المحرر" و"المنهاج" و"الشرح الصغير" فاعلمه واجتنبه.

قوله في الكلام على ما إذا ولدت الجارية عند المفلس: وهاهنا مباحثة وهي أنهم لم يذكروا هنا احتمال التفريق، وإنما احتالوا في دفعه فيجوز أن يقال به، كما قيل به في الرد بالعيب، ويجوز أن يفرق بأن مال المفلس مبيع كله. انتهي ملخصًا. وليس الأمر كما قال الرافعي من عدم ذكره هنا، بل قد ذكره جماعة، والغريب أن صاحب "التتمة" منهم، وقد علمت استمداد الرافعي منها. وذكره أيضًا الماوردي في "الحاوي"، والشاشي في "الحلية"، وجزم به الإمام في كتاب السير، فقال: جوزوا الرجوع في الأم للضرورة، فتعليله بالضرورة صريح في جواز التفريق. نعم أكثر من نقل هذا الوجه ضعفه، وفرق بما ذكره الرافعي، وقال في "الروضة": الفرق هو الصواب الذي قطع به الجمهور، ثم نقل بعض ما [نقلناه] (¬1). قوله: ولو كان المبيع بذرًا فذرعه، أو بيضة ففرخت ففيه وجهان: الأصح عند أصحابنا العراقيين، وصاحب "التهذيب": الوجه الثاني، وسترى في كتاب الغصب ما يؤيده، واختار صاحب "الكتاب" والقاضيان أبو الطيب وابن كج: أنه لا رجوع. انتهى. والضابط المذكور في المسألة السابقة يقتضي أن البائع لا يفوز بالزيادة فاعلمه. قوله: وإن كانت حاملًا عند الشراء، حائلًا عند الرجوع، أو بالعكس ففي تعدي الرجوع إلى الولد قولان. . . . إلى آخره. هذا سبق الكلام عليه في الرد [بالعيب] (¬2) والرهن فراجعه. ¬

_ (¬1) في جـ: قلناه. (¬2) في أ: بالعيب.

قوله: ذنابة البطن في انفصال الجنين. . . . إلى آخره. هذه اللفظة قد ذكرها أيضًا في أوائل النفقات، في الكلام على نفقة الزوجات في أواخر كتاب القضاء قبيل الكلام على القضاء على الغائب، وهى بضم الذال المعجمة وكسرها، وبعدها نون ثم باء موحدة بينهما ألفًا ومعهما هاء طرف الشيء ومنتهاه. ولو عبر بقوله: تذنبت لكان أظهر، وجعله في "الروضة" فرعًا. قوله: ولو رجع في الأرض المبيعة وهى مزروعة، ترك زرع المشتري إلى الحصاد. . . . إلى آخره. ثم قال: وعن صاحب "التقريب": أن ابن سريج خرج قولًا: أن للبائع طلب أجرة المثل لمدة بقاء الزرع، كما لو بنى المشتري أو غرس كان للبائع الإبقاء بالأجرة على ما سيأتي. انتهى. وما ذكره في استحقاق الأجرة في البناء والغراس، قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب، فإن الرافعي لم يوجبها، بل ولا أثبت إيجابها قولًا ولا وجهًا، فإن الإمام حكى قولًا بإيجابها، فأنكر الرافعي عليه ذلك، وتبعه عليه في "الروضة"، وسأذكر ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. قوله: واعلم أن استتار الثمرة بالأكمة وظهورها بالتأبير قريبان من استتار الجنين وظهوره بالانفصال، وفيها الأحوال الأربعة المذكورة في الجنين: أولها: أن يشتري نخيلًا وعليها ثمرة مؤبرة، وكانت عند الرجوع غير مؤبرة أيضًا [فهى للبائع] (¬1). وثانيها: أن يشتريها ولا ثمرة عليها، ثم كانت لها ثمار عند الرجوع، ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

فعلى الخلاف في الحمل. ثالثها: إذا كانت ثمرتها عند الشراء غير مؤبرة وعند الرجوع مؤبرة، فقيل: على القولين في الحمل، وقيل: يرجع قطعًا. رابعها: أن تكون فارغة عند الشراء فأطلعت عند المشتري، ثم جاء وقت الرجوع وهي غير مؤبرة فقولان. إذا علمت هذه الصور فقد قال بعد ذلك: الثانية: إذا ثبت الرجوع في الثمار، إما بالتصريح ببيعها مع الأشجار وهي مؤبرة، أو على أحد القولين في الحالة الثالثة والرابعة ثم تلفت الثمار بجائحة أو بأكل المشتري, ثم فلس فللبائع يأخذ الأشجار بحصتها من الثمن، ويضارب مع الغرماء بحصة الثمار، وسبيل التوزيع، أن تقوم الأشجار وعليها الثمار، فيقال مثلًا: قيمتها مائة، وتقوم وحدها فيقال: قيمتها تسعون، فيضارب بعشر الثمن. انتهى كلامه. وما ذكره من [أن] القولين فيما إذا كانت الثمرة معدومة عند البيع، موجودة بعد ذلك من تخريجه على الحالة الرابعة في الحمل, قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غلط لأن الكلام فيما إذا تفلت الثمار قبل الفلس، ونظيرها من الحمل أن تكون خلية عند البيع والرجوع حاملًا بينهما، ولا خلاف في أن الولد يفوز به المشتري وهكذا الثمرة، فلا يصح ما قالاه من مجيء القولين في غرم قيمتها بناء على القولين في أخذها عند وجودها فالصواب أن يقول: على أحد القولين في الأولي والثالثة، أما الثالثة فواضح، وأما في الأولي وهي ما إذا كانت حاملًا عند البيع والرجوع، فهو وإن كان يرجع فيها جزمًا، لكن إنما يقابله قسط من الثمن إذا قلنا: له حكم. قوله: قال الأصحاب: إذا اختار البائع الرجوع في الأرض بعد أن بني

أو غرس، نظر إن اتفق الغرماء والمفلس على القلع كان لهم ذلك -رضى البائع أم لا-، فإن حدث في الأرض نقص بالقلع وجب أرش النقص في ماله يقدم به على الغرماء على ما قاله في "المهذب" و"التهذيب"، وذكر الشيخ أبو حامد أنه يضارب مع الغرماء. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل المضاربة عن الشيخ أبي حامد، والمذكور في "تعليقه" إنما هو التقديم على الغرماء. قال ابن الرفعة: وكذلك نقله راوياه البندنيجي والمحاملي، وكذلك الماوردي. نعم لو قلع المشتري قبل الرجوع، ففي وجوب الأرش وجهان نقلهما الماوردي. فإن قيل: فهل يمكن حمل كلام الرافعي عليه؟ قلنا: لا يمكن إذا قلنا بالوجوب في صورة الماوردي، فيضارب به البائع بلا نزاع على قاعدة التعييب بفعل المشتري. وقد صرح به الماوردي أيضًا، وقد علمت مما تقدم أن الرافعي حكى الخلاف في أنه أيضارب أو يقدم بالأرش؟ . لا جرم أن ما ذكره أبو حامد إنما هو في القلع قبل الرجوع. قوله: وإن أراد الرجوع في الأرض وحدها وإبقاء البناء والغراس للمفلس لم يجب إليه في أصح القولين لما فيه من الضرر، وعلى هذا فالبائع يترك الرجوع ويضارب مع الغرماء أو يعود إلي بدل قيمتهما أو قلعهما وغرامة أرش النقص؟ . انتهى كلامه. والتعبير بقوله: (يعود) يدل أنه لا يضر عوده إليه بعد أن نازعه، بل يمكن من ذلك، وقد نبه عليه النووي على حاشية "الروضة" بخطه قلت: قوله: (يعود) إشارة إلي أنه لو امتنع من ذلك، ثم عاد إليه

يمكن، هذا لفظه، ومن خطه نقلت، ولم يصرح ابن الرفعة في "الكفاية" فيها بشيء، وتعرض لها في "المطلب"، ولم ينقل فيها شيئًا، وقال من عنده: يشبه أن يبني على الخلاف في أن حق الرجوع على الفور أم لا. قوله: وأما الإمام فإن محصول ما نقله في المسألة -أي من أصلها- أربعة أقوال: أحدها: أنه فاقد عين ما له ولا رجوع. والثاني: أن الأرض والبناء يباعان معًا كالثوب المصبوغ. والثالث: يرجع في الأرض، ويتخير بين ثلاث خصال في البناء والغراس. والرابع: إن كانت قيمة البناء أكثر فالبائع فاقد عين ماله، وإن كانت قيمة الأرض أكثر فواحدة، ثم قال: وأنت إذا تأملت هذا الكلام بعد وقوفك على المذهب المعتمد وتصفحت عن كتب علمائنا، ورأيت ما بينهما من المخالفة الصريحة قضيت العجب منه، وقلت: ليت شعري من أين أخذت هذه الأقوال، ثم حفظت لسانك استعمالًا للآداب. انتهى كلامه. تابعه النووي في "الروضة" على إنكار ذلك أيضًا، ونقله أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" ساكتًا عليه، وليس الإنكار صحيحًا، بل الأقوال ثابتة، وقد تفطن -أعني ابن الرفعة- في "شرح الوسيط" إلى الصواب فقال: أما القول الثالث والرابع فلا إشكال فيهما، وقد حكاهما [ابن الرفعة] (¬1) قال: وأما الأول فقد نقله القاضي حسين في "تعليقه"، فإنه نقل قولًا في منع رجوع الواهب بعد الغرس أو البناء. ¬

_ (¬1) في جـ: الرافعي.

فقال -أي القاضي-: إنه مثل قول في الفلس إذا غرس وبنى، لا يرجع بائع الأرض فيها، فثبت القول بمنع الرجوع على الإطلاق، ثم إن ابن الرفعة أيده وقواه بأن المشتري بنى في ملكه الذي لا خيار فيه، بخلاف الموهوب له، والمستعير ومشتري الشقص، قال أيضًا في "الكفاية": ثم سلك ابن الرفعة أيضًا في "المطلب" مسلكًا آخر في الجواب عن الإمام فقال: إذا امتنع المفلس والغرماء من القلع والبائع من بذل القيمة وأرش النقصان جاءت الأقوال وكلام الرافعي مشتمل عليها فتأمله، وحينئذ فلا اعتراض على الإمام إلا من جهة الإطلاق، فإذا حملنا كلامه على هذا اندفع ذلك عنه. قوله: وهل للقصار والطحان الحبس لاستيفاء الأجرة؟ إن قلنا: إنها عين فنعم، وبه قال الأكثرون. . . . إلى آخره. نبه في "الروضة" على فائدة حسنة فقال: نص الشافعي في "الأم"، والشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهم: على أنه ليس للأجير حبسه، ولا لصاحب الثوب أخذه، بل يوضع عند عدل حتى يوفيه الأجرة، أو يباع لها. قال: وهذا الذى قالوه ليس مخالفًا لما سبق، فإن جعله عند العدل حبس. انتهى. قوله: اشتري ثوبًا واستأجر قصارًا فقصره ولم يوفه أجرته حتى أفلس. فإن قلنا. القصارة أثر، فليس للأجير إلا المضاربة بالأجرة. وإن قلنا: عين، فله أحوال. فلو كانت قيمة الثوب عشرة والأجرة خمسة والثوب عند القصارة يساوي أحد عشر، فإن فسخ الأجير الإجارة فعشرة للبائع ودرهم [للمفلس ويضارب الأجير بالخمسة، وحكى في "الوسيط" فيها أنه ليس] (¬1) للأجير ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

إلا القصارة الناقصة أو المضاربة، كما هو قياس الأعيان، ولم أرَ هذا النقل لغيره فالمعتمد ما سبق. انتهى كلامه. وما حكاه هنا عن "الوسيط" واستغربه وجعل المعتمد على خلافه تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب، فقد سبق منه قبل هذا بقليل تصحيحه في نظير المسألة، وحكايته عن الأكثرين فقال: ولو اشترى صبغًا وصبغ به ثوبًا، فللبائع الرجوع إن زادت قيمته مصبوغًا على ما كانت قبل الصبغ، وإلا فهو فاقد. زاد في "الروضة" على هذا فقال: وإذا شارك ونقصت حصته عن ثمن الصبغ، فوجهان: أصحهما: وهو قول [الأصحاب] (¬1) على ما حكاه صاحب "البيان": اْنه إن شاء قنع به، ولا شيء له غيره، وإن شاء ضارب بالجميع. والثاني: له أخذه والمضاربة، وبهذا قطع في "المهذب" و"الشامل" وغيرهما، هذا كلامه في "الروضة". قوله: ولو كانت قيمة الثوب عشرة واستأجر على قصارته بدرهم، وصارت قيمته مقصورًا خمسة عشر درهم فبيع بثلاثين، قال الشيخان أبو محمد والصيدلاني وغيرهما تفريعًا على العين: أنه يتضاعف حق كل منهم، كما قاله ابن الحداد في الصبغ. قال الإمام: ينبغي أن يكون للبائع عشرون وللمفلس سبعة وللقصار درهم، كما كان ولا تزيد حصته، لأن القصارة غير مستحقة للقصار، وإنما هى مرهونة بحقه، وهذا استدراك حسن. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على لزوم هذا الاستدراك وهو غريب، فقد تقدم في أوائل الفرع أَنَّا إذا فرعنا على أن القصارة عين، وزادت قيمة الثوب أن لكل واحد من البائع والأجير الرجوع إلى عين ماله، فجعلاه مستحقًا له، فكيف يجئ هذا الاستدراك. ¬

_ (¬1) في جـ: أكثر أصحابنا.

قوله في "الروضة": فرع: لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك ودعنا نكون شركاء صاحب الثوب، أجبر على الأصح كالبائع إذا قدمه الغرماء بالثمن، وكأن هذا القائل يعطي القصارة حكم العين من كل وجه. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا من لزوم الإجابة عند تقديم الغرماء بثمنه غريب، وجعله هذا الحكم أصلًا لمسألة صحح فيها أنه يجبر أغرب، فقد تقدم في الكلام على الرجوع ترجيح جواز الفسخ عند تقديم الغرماء بالثمن، وعبر بالصحيح، واصطلاحه في التعبير به أن يكون مقابله ضعيفًا، وهو تباين فاحش. والرافعي قد ذكر مسألة القصارة على الصواب، ولكن اشتبه كلامه على النووي فأداه ذلك إلى الوقوع في هذا الاختلاف الفاحش، وذلك أن الرافعي قدر أن القصارة مملوكة للمفلس، مرهونة لحق الأجير. ثم قال ما نصه: ذكر القاضي ابن كج أن أبا الحسين -يعني ابن القطان- خرج وجهين في أنه لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك ودعنا نكون شركاء صاحب الثوب، هل يجبر عليه؟ وأن الأصح الإجبار. وهذا الأصح ينطبق على قول أن القصارة مرهونة بحقه، إذ ليس للمرتهن التمسك بعين المرهون إذا أدى حقه. ووجه الثاني: القياس على [البائع] (¬1) إذا قدمه الغرماء بالثمن هذا كلام الرافعي. فقوله: ووجه الثاني -يعني عدم الإجبار- فإنه ذكر أولًا تصحيح الإجبار، وعلله، ثم ذكر الثاني وهو مقابله، وكأن النووي والله أعلم أراد أن يقول: والثاني: لا كالبائع إذا قدمه الغرماء بالثمن فنسي، فذكر التعليل دون الوجه فصار تعليلًا للأصح، فلزم الخلل المذكور. ¬

_ (¬1) في جـ: ما.

كتاب الحجر

كتاب الحجر قوله: والنوع الأول -أى الحجر المشروع لمصلحة الغير- خمسة أضرب: حجر المفلس لحق الغرماء، والراهن لحق المرتهن، والمريض لحق الورثة، والمرتد للمسلمين والعبد لحق السيد سواء كان مكاتبًا أم لا. انتهى. تابعه النووي على حصرها في هذه الخمسة، ويرد عليهما أمور أخري: أحدها: الحجر على السيد في العبد الذي كاتبه لأجل حق العبد. الثاني: الحجر عليه في العبد الجاني لحق المجني عليه. الثالث: الحجر على الورثة في التركة لحق الميت وحق الغرماء. فإن قيل: التركة مرهونة على الصحيح، فدخلت فيما تقدم. قلنا: لو عبر الرافعي بقوله: والحجر على المرهون، وما في معناه لكانت التركة داخلة، لكنه عبر بقوله: والحجر على الراهن، فلا يدخل فيه الوارث، لأنه لم يرهن. وهذه الثلاثة قد استثناها ابن الرفعة في "الكفاية". الرابع: الحجر الغريب السابق ذكره في البيع، وهو الحجر على المشتري في السلعة، وجميع ماله إلى أن يحضر الثمن وكذلك المستأجر. الخامس: الحجر على الأب إذا وجب على الابن اعفافه فملكه جارية حتي لا يعتقها، كما صرح به القاضي حسين والمتولي وغيرهما، وهذان القسمان ذكرهما ابن الرفعة في "المطلب". السادس: الحجر على المؤجر فيما استأجر على العمل فيه، كما ذكره في البيع في الكلام على حكم المبيع قبل القبض في أثناء كلام أوله: قال:

وبيع الميراث، فقال ما نصه: ومنها إذا استأجر صباغًا ليصبغ ثوبًا، وسلمه إليه، فليس للمالك بيعه ما لم يصبغه، لأن له أن يحبسه إلى أن يعمل ما يستحق فيه العوض. وإذا صبغه فله بيعه قبل الاسترداد إن وفي الأجرة. وإلا فلا، لأنه يستحق حبسه إلى استيفائها. هذا كلامه. ثم عدد أيضًا أمثلة أخرى ملحقة بذلك، والإلحاق واضح من التعليل. وقد ذكر في "التتمة" ما ذكره الرافعي، ثم ذكر شيئًا آخر ينبغي معرفته، فقال في الباب السابع من أبواب البيع: الثالث عشر: إذا استأجر إنسانًا شهرًا ليرعى أغنامه أو ليحفظ مالًا له معينًا، ثم أراد أن يتصرف في ذلك المال فالبيع صحيح، لأن حق الأجير لم يتعلق بذلك المال، فإن المستأجر لو أراد أن يستعمله في مثل ذلك العمل لكان جائزًا للبائع الحجر على الممتنع من إعطاء الدين، وماله زائدًا إذا التمسه الغرماء، كما صححه الرافعي في باب الفلس. الثامن: إذا فسخ المشتري بعيب، كان له حبس المبيع إلى قبض الثمن، ويحجر على البائع في بيعه، والحالة هذه، كذا ذكره الرافعي في الكلام على حكم المبيع قبل القبض نقلًا عن "التتمة". التاسع: الحجر على الغانم لمال من استرق، وعليه دين، مثاله: ما إذا كان على حربي دين فاسترق وله مال، ثم غنم الذي أسره أو غيره ذلك المال، فإنه يحجر عليه فيه مراعاة لأرباب الديون كالحجر على الوارث في التركة، لأن الرق كالموت، وتوفى منه ديون العبد، وإن زال ملكه عنه، كذا ذكره الرافعي في "السير". العاشر: ذكره الجرجاني في "الشافي" وهو الحجر على المشتري في

المبيع قبل القبض. الحادي عشر: ذكره المحاملي، وهو الحجر على العبد المأذون لحق الغرماء. الثاني عشر: نفقة الأمة المزوجة ملك للسيد، وليس له أن يتصرف فيها ببيع أو غيره حتي يعطي بدلها للأمة، لأن حقها متعلق بعينها، كذا ذكره الرافعي وغيره. الثالث عشر: إذا أعتق الشريك نصيبه، وقلنا: لا يشتري إلا بدفع القيمة، فتصرف المالك بالبيع وغيره، ففي صحته وجوه: أصحها عند الجمهور كما قال الرافعي، أن لا يصح، لأن صحته تؤدي إلى إبطال ما ثبت للمعتق من الولاء. وثانيها: نعم. وثالثها: يصح العتق دون غيره. الرابع عشر: إذا قال الشريكان للعبد المشترك: إذا متنا فأنت حر، فلا يعتق العبد ما لم يموتا جميعًا. إما على الترتيب أو معًا، لأنهما علقا عتقه بموتهما. ثم فصل الرافعي في ذلك في أوائل التدبير، فقال: وإن ماتا معًا ففي "الكافي" للروياني وجه: أن الحاصل عتق تدبير لاتصاله بالموت. والظاهر: أنه عتق لحصول الصفة كتعلق العتق بموته وموت غيره، والتدبير إن تعلق العتق بموت نفسه. وإن ماتا على الترتيب فعن أبى إسحاق: أنه لا تدبير أيضًا. والظاهر أنه إذا مات أحدهما يصير نصيب الثاني مدبرًا لتعلق العتق بموته؛ وكأنه قال: إذا مات شريكي فنصيبي منك مدبر، ونصيب الميت

لا يكون مدبرًا، وهو بين الموتين للورثة، فلهم التصرف فيه بما لا يزيل الملك كالاستخدام والإجارة، وليس لهم بيعه، لأنه صار مستحق العتق بموت الشريك الآخر. وقيل: لهم بيعه، لأن أحد شرطي العتق لم يوجد. الخامس عشر: الدار التي استحقت للمعتدة بالحمل أو بالأقراء أن تعتد فيها، لا يجوز بيعها لأن حق المرأة يتعلق بها، والمدة غير معلومة بخلاف عدة الوفاة. السادس عشر: إذا اشتري دابة فأنعلها، ثم اطلع على عيب فيها، وكان قلع النعل يؤدي إلى التعييب فردها للمشتري، وترك النعل للبائع فإنه يجبر على قبوله، وليس للمشتري طيلب قيمة النعل، ثم ترك النعل هل هو تملك من المشتري فيكون للبائع لو أسقط، أم إعراض فيكون للمشتري؟ وجهان، أشبههما: كما قاله الرافعي هو الثاني. وإذا علمت ذلك فيمتنع بيعه على المشتري لما تقدم في دار المعتدة. السابع عشر: إذا أعار أرضًا للدفن، فإنه لا يرجع فيها قبل أن يبلي الميت لما فيه من هتك حرمته بالنبش، ولو أراد بيع تلك البقعة لم يجز لجهالة مدة البقاء. الثامن عشر: إذا فعل الغاصب بالمغصوب ما يقتضي انتقاله إليه، كما لو خالطه، بما لا يتميز، ونحو ذلك مما ذكروه في الغصب كالتعييب الساري للهلاك، فإنه يجب عليه البدل، ولا يمكن أن يوجبه عليه مع بقاء المغصوب في ملك المغصوب منه، لئلا يجتمع في ملكة البدل والمبدل فتعين انتقاله إليه، ولا يمكن أن يجوز للغاصب التصرف فيه، لأن المغصوب منه لم يرض بذمته فتعين الحجر عليه. التاسع عشر: إذا أوصى بعين تخرج من الثلث، وباقي ماله غائب

فيحجر على الموصى له في الثلثين لاحتمال التلف. والأصح أن لا ينفذ تصرفه في الثلث أيضًا، وإن تيقنا أنه له كما أن الوارث لم يمكن من التصرف في الثلثين. العشرون: الحجر على من اشترى عبدًا بشرط الإعتاق، فإنه لا يصح بيعه، ولو كان بشرط الإعتاق على الأصح كما قاله الرافعي، لأن العتق مستحق عليه. الحادي والعشرون: الحجر على السيد في بيع أم الولد. الثاني والعشرون: إذا أقام شاهدين على ملك [سلعة] (¬1)، ولم يعدلا، فإن الحاكم يحيل بينهما وبين المدعى عليه على الصحيح، فإذا أحال امتنع عليه بيعها وهبتها وغير ذلك مما بينوه في الباب الثاني من كتاب الشهادات، وفيما قبل الحيلولة وجهان. الثالث والعشرون: إذا اشتري عبدًا بثوب مثلًا، وشرطا الخيار لمالك العبد، فالملك فيه له، ويكون الملك في الثوب باقيًا على من بذله، لئلا يجتمع الثمن والمثمن في ملك رجل واحد، وحينئذ لا يجوز لمالكه التصرف فيه [قبل فسخ مالك العبد لئلا يؤدي إلي إبطال ما ثبت فيه من الخيار] (¬2). الرابع والعشرون: إذا رهن جارية، ثم وطئها فحبلت منه وهو معسر، فإن الاستيلاد لا ينفذ على الصحيح، فلو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها على الأصح، لأنها حامل بحر، وإذا ولدت لا تباع حتى تسقي الولد اللبن ويجد مرضعة، خوفًا من أن يسافر بها المشتري فيهلك الولد، ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من أ، جـ.

كذا قاله الرافعي. ولو قيل بالبيع وإلزام الإقامة كما في الحرة وأمة الغير، لكان متجهًا. الخامس والعشرون: إذا أعطى الغاصب القيمة للحيلولة، ثم [ظفر بالمغصوب] (¬1)، فله حبسه إلي استرداد القيمة، كذا نقله الرافعي في باب الغصب عن نص الشافعي، ثم مال إلى خلافه، ويلزم من حبسه امتناع تصرف مالكه بطريق الأولى. السادس والعشرون: بدل العين الموصي بمنفعتها إذا تلفت حكمه حكمها. السابع والعشرون: أعطى لعبده قوته، ثم أراد عند الأكل إبداله، قال الروياني: ليس له ذلك. وقيده الماوردي بما إذا تضمن الإبدال تأخير الأكل. الثامن والعشرون: إذا نذر إعتاق عبد نفسه، فإنه لا يخرج عن ملكه إلا بالاعتاق، ومع ذلك لا يجوز له التصرف فيه بخلاف ما إذا نذر الصدقة بدرهم بعينه، فإنه يزول ملكه عنه إلي الفقراء. ولو أوصى بإعتاقه أو بوقفه كان كالنذر. التاسع والعشرون: إذا دخل عليه وقت الصلاة وعنده ما يتطهر به، فلا يصح بيعه ولا هبته على الصحيح لحق الله تعالى، وهكذا قياس السترة ونحوها، كالذي يعتمد عليه العاجز عن القيام، والمصحف الذي يقرأ منه غير الحافظ. الثلاثون: إذا وجبت الكفارة على الفور، وكان في ملكه ما يجب عليه التكفير به، فقياس ما سبق امتناع تصرفه فيه، ولا يحضرني الآن ¬

_ (¬1) في أ، جـ: ظهر المغصوب.

نقله. ومن عليه دين لا يرجو وفاءه، أو وجبت عليه كفارة لا يحل له التصدق بما معه ولا هبته، ولكن لو فعل ففي صحة ذلك نظر. قوله: ويدخل وقت إمكان الاحتلام باستكمال تسع سنين، وقيل: بمضي ستة أشهر من العاشرة، وقيل: باستكمالها، وهذه الوجوه كالوجوه في أقل سن الحيض، لكن العاشرة هاهنا بمثابة التاسعة هناك، لأن في النساء حدة في الطبيعة. ولا فرق في إفادة خروج المني البلوغ بين الرجال والنساء. انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على إطلاق الدعوى بأن محل الأوجه في العاشرة، وليس ذلك على إطلاقه، بل محله في الصبي، أما الصبية فوقت احتلامها كوقت حيضها كما صرح به المتولي، وجزم به ابن الرفعة في "الكفاية" وتعليل الرافعي يرشد إليه، وعلى هذا فيأتي فيه ثلاثة أوجه، أول التاسعة، ووسطها، وآخرها. وكلام "الدقائق" للنووي غير مستقيم، فإنه قال: قولهما -يعني "المحرر" و"المنهاج"- وقت إمكان المني استكمال تسع سنين يتناول مني الذكر والأنثى، وهذا هو المذهب، وقيل: منيها كحيضها. هذه عبارته. قوله: وفيه وجه آخر أن خروج المني لا يوجب بلوغ النسوة، لأنه نادر وعلى هذا قال الإمام: الذي يتجه عندي أن لا يلزمها الغسل، لأنه لو لزم لكان حكيمًا بأن الخارج مني، والجمع بين الحكم بأنه مني، وبين الحكم بأنه لا يحصل البلوغ به متناقض. ولك أن تقول: إن كان التناقض مأخوذًا من تعذر التكليف بالغسل مع

القول بعدم البلوغ، فنحن لا نعني بلزوم الغسل سوى ما نعنيه بلزوم الوضوء على الصبي إذا أحدث، فبالمعنى الذي أطلقنا ذلك، ولا يكلف مطلق هذا، وإن كان غير ذلك فلابد من بيانه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن تعليل هذا الوجه بالندور يدل على أن المراد إنما هو الخروج بالاحتلام، فاعلمه فإن خروج المنى بالجماع كثير لا نادر. الثاني: أن النووي قد تابعه في "الروضة" على هذا النقل عن الإمام مقتصرًا عليه، ثم قال: وفيه نظر. لكن الإمام مع قوله ما قال: صرح بأن ظاهر كلام الأصحاب: أنه يجب عليها الغسل منه، فاعلم ذلك. واقتصار الرافعي على ما قاله يوهم أن ذلك هو الموجود في النقل. الأمر الثالث: أن الاعتراض الذي اعترض به الرافعي على الإمام اعتراض ضعيف جدًا، فإن التناقض ليس مأخوذا من التكلف، بل من غيره. وقد أوضح الإمام ذلك إيضاحًا بينًا لا يحتاج إلى إعادته، وحاصله أنه مأخوذ من اللازم للتكليف بالغسل، وهو كونه منيًا. قوله: وفي شعر الإبط وجهان، قال القاضي الحسين والإمام وآخرون: هو كالعانة. وصحح صاحب "التتمة": أنه لا أثر له، ونبات اللحية والشارب فيه هذان الوجهان؛ لكن فرق صاحب "التهذيب" فألحق الإبط بالعانة [دون اللحية والشارب. انتهى. وحاصله أنه ليس فيه تصريح] (¬1) بتصحيح، وكذلك حكى في "الروضة" وجهين فقط. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والأصح في هذه الصور كلها أنها لا تلحق بالعانة. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: في شعر الإبط وجهان: أظهرهما: أنه لا عبرة به، لأنه لو جاز الاعتماد عليه لما كشفوا عن المؤتزر في قصة بني قريظة. هذا لفظه. وإن كان الأصح عدم العبرة بالإبط، فعدم العبرة باللحية والشارب أولى لما تقدم من كلام "التهذيب". قوله: فرع: الخنثي المشكل إذا خرج من ذكره المنى، ومن فرجه الحيض حكمنا ببلوغه على الأصح، لأنه ذكر أمني أو أنثى حاضت. والثاني: لا لتعارض الخارجين وإسقاط كل منهما حكم الآخر، وإن وجد أحد الأمرين فجواب عامة الأصحاب: أنه لا يحكم ببلوغه لجواز أن يظهر من الآخر ما يعارضه. والحق وهو ما قاله الإمام: أنه ينبغي الحكم بذكورته وأنوثته، ثم إن ظهر خلافه غيرنا الحكم. انتهى. زاد في "الروضة" فقال: قال صاحب "التتمة": إذا أنزل الخنثى من ذكره أو خرج الدم من فرجه مرة لم يحكم ببلوغه، وإن تكرر حكم به. وهذا الذي قاله حسن وإن كان غريبًا، والله أعلم. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد صحح في باب الغسل أنه لا فرق في أحكام المنى بين أن يخرج من الفرج المعتاد، أو من غيره كالصلب ونحوه، فلا منافاة بين الحيض وخروج المنى من الذكر. الأمر الثاني: أن الاستدلال بالحيض على الأنوثة وبالمنى عليها أو على الذكورة شرطه التكرار، والرافعي والإمام استندا في تصويب الأخذ بأحد الأمرين إلى القياس على الأخذ بالذكورة والأنوثة، فعلم أن صورة ذلك في التكرار أيضًا.

وإذا علمت جميع ذلك تعجبت لقول النووي إنه غريب، فإن هذا هو المجزوم به، ولا شك أنه توهم عدم اشتراط التكرار هناك لكونهم هنا أهملوه. الأمر الثالث: لا شك أن هذا التوقف إنما هو قبل استكمال خمس عشرة سنة، فإذا استكملها حكم ببلوغه بالسن، وإذا استحضرت ذلك فاعلم أن الشافعي قد نص على المسألة على خلاف ما رجحه الرافعي، وقد سبق إيضاحه في باب الحدث فراجعه، وقد سبق الكلام على كونه حيضًا في باب الأحداث. قوله: ومن التبذير الإنفاق في المحرمات، وأما الصرف إلى الأطعمة النفيسة التى لا تليق بحاله فقال الإمام والغزالي: تبذير، وقال الأكثرون: ليس بتبذير. انتهى ملخصًا. وما قاله من كون الإسراف في النفقة ليس بتبذير، يلزم منه أن لا يكون محرمًا، لأنه قد قرر [أن] (¬1) كل صرف في شيء محرم تبذير بخلاف العكس. إذا علمت ذلك، فقد ذكر بعد هذا في قسم الصدقات ما يخالفه، فقال في الكلام على الغارم: وإذا كان غرمه في معصية كالخمر والإسراف في النفقة لم يعط قبل التوبة انتهى. وقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"الشرح الصغير"، واقتصر في "المحرر" على المذكور في هذا الباب. والسبب في وقوع هذا الاختلاف: أن الغزالي مثل بذلك في قسم الصدقات تبعًا للقاضي حسين، فتبعه الرافعي على المثال غير مستحضر ما قرره في موضعه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: واعلم أن كلام المصنِّف هنا وفي "الوسيط" مصرح بأن عود التبذير أو الفسق لا أثر له، وإنّما المؤثر عودهما جميعًا، وليس كذلك، بل الأصحاب مطبقون على أن عود التبذير كافٍ في الحجر كما سبق. انتهى. واعلم أن أصل الغزالي من "الوسيط" قد وجد على الصواب، فإنّه ضرب على الأوّل وأصلحه بالمقالة المشهورة. كذا نبه عليه ابن الصلاح وتبعه النووي في "الروضة". قوله: وقول "الوجيز": ثم يلي أمره القاضي أم وليه في [الصغر] (¬1)؟ وجهان، وموضع الوجهين ما إذا قلنا: إن الحجر يعود بنفسه، أنها إذا قلنا: إن القاضي هو الذي يعيده فهو الذي يلى أمره بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف ليس كذلك، ففي "الإشراف" للهروى: أن القاضي إذا حجر عليه ففي الولاية والحالة هذه وجهان: أحدهما: أنها للقاضي. والثاني: للأب أو الجد. وحكاهما أيضًا في "الكفاية" عنه، وسلم النووي في "الروضة" من هذا الاعتراض فإنّه لم يصرح بنفي الخلاف. قوله: ولو اشترى -أي المحجور عليه- وقبض أو استقرض، فتلف المأخوذ في يده أو أتلفه فلا ضمان. . . . إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله من عدم الضمان، محله إذا قبضه البائع وهو رشيد. ¬

_ (¬1) في أ: الصدقة.

فأمّا إذا قبضه السفيه بغير إذن البائع، أو أقبضه إياه البائع وهو صبي أو محجور عليه بسفه، فيضمنه بالقبض قطعًا، كذا قاله الأصحاب. ونبه الرافعي على المسألة الثانية في البيع، وقيد ذلك بما إذا لم يكن القبض بإذن الولي، وذكر في "الروضة" هنا المسألتين من "زياداته"، ولم يعز الثّانية إلى كلام الرافعي ولم يقيدها. الأمر الثاني: أنه يشترط في عدم الضمان مع ما تقدم أن لا يطالبه البائع به، فإن طالبه فامتنع ضمن، كذا رأيته في "شرح المختصر" للداوودي، وهو المشهور بالصيدلاني، وهو ظاهر. قوله: أنها إذا أذن له الولى وعين له تصرفًا، وقدر له العوض ففيه وجهان: أظهرهما عند الغزالي: أنه يصح. وأصحهما عند البغوي: المنع. وعلى الوجهين يخرج ما إذا وكله غيره في شيء من هذه التصرفات، وما إذا اتهب أو قبل الوصية لنفسه. انتهى. وهذه المسائل قد ذكرها في "الشرح الصغير" كما ذكرها في "الكبير" وفيها أمور: أحدها: أن الأصح من هذين الوجهين المذكورين في أصل المسألة هو البطلان، كذا صححه الرافعي في "المحرر"، وعبر بالأظهر عند الأكثرين. الأمر الثّاني: أن جريان الوجهين في التوكيل، قد تابعه النووي عليه هنا، وصرح -أعني النووي- في كتاب الضمان بما حاصله أن جريانهما فاسد، وذلك لأن الوكيل يطالب بالثمن بلا خلاف إذا لم يعترف البائع بوكالته، وكذا إن اعترف بها في الأصح. وعلى هذا -أى القول بالمطالبة- يكون الوكيل كالضامن، والموكل

كالمضمون عنه، ويجيء فيه الكلام في اعتبار شرط الرجوع، هكذا قاله الرافعي في كتاب الوكالة. وإذا تقرر أنه كالقياس، فاعلم أن الرافعي خرج إذن الولي للسفيه فيه -أي في الضمان- على الإذن له في البيع، فرد عليه النووي وقال: إن التخريج فاسد. قال: لأن البيع إنما صح على وجه، لأنه لا يأذن إِلَّا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله فلا مصلحة. هذا كلام النووي. فإذا تقرر أن الإذن في التوكيل كالإذن في الضمان، وأن الإذن في الضمان فاسد كما قاله النووي، لزم أن يكون الإذن في التوكيل أيضًا فاسدًا عنده، فموافقته هنا على صحته سهو فتفطن له. الأمر الثالث: أن الأصح من الخلاف في اتهابه هو الصحة كما ذكره في "الروضة"، ونقله في "النهاية" عن الأكثرين. نعم إذا فرعنا على أن الهِبَة تقتضي الثّواب، هل يستثني ذلك هنا أم يخرج على ذلك الخلاف حتّى يبطل إن أوجبنا الثّواب، أم يفصل بين العالم بسفهه والجاهل؟ فيه نظر. الرّابع: أنه إذا وكله غيره في قبول النكاح، فإنه يصح على الصّحيح كما ذكره الرافعي في كتاب الوكالة، بخلاف التوكيل في الإيجاب، فإن الصحيح امتناعه، وكلامه هنا يقتضي امتناعهما معًا. قوله: ولو أقر السفيه بإتلاف أو جناية توجب المال، فقولان: أصحهما: أنه لا يقبل. انتهى. وما ذكره هنا من أن الخلاف قولان، قد ذكر خلافه في كتاب دعوى الدم والقسامة فجزم بأنه وجهان.

وتبعه في "الروضة" على الموضعين، ووقع هنا في "الشرح الصغير" و"المحرر" و"المنهاج" أنه قولان كما في "الكبير". قوله: ولو أقر بنسبه ثبت وينفق على الولد المستلحق من بيت المال. زاد في "الروضة" فقال: كذا قاله الأصحاب في كلّ طرقهم يقبل إقراره بالنسب، وينفق عليه من بيت المال قطعًا، وشذ الروياني فقال في "الحلية": يقبل إقراره بالنسب في أصح الوجهين، وينفق عليه من ماله، وهذا شاذ نبهت عليه لئلا يغتر به. انتهى كلامه. وما ذكره النووي مستدركًا به على "الحلية" من اتفاق الأصحاب في كلّ الطرق على ثبوت الإقرار، وعلى الإنفاق من بيت المال عجيب، فقد صرح بالخلاف في قبوله جماعة، منهم: القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وابن الصباغ في "الشامل" كلاهما في أثناء باب الإقرار في الكلام على مسألة أولها قال الشافعي: ولو أقر لوارث فلم يمت، وصرح بنقل الخلاف فيهما معًا أيضًا في "البحر" في آخر باب الحجر، وبالغ فيه فإنّه حكى في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: لا يقبل بالكلية. ثم قال ما نصه: والثاني: يثبت نسبه وينفق عليه من ماله، لأن الإقرار يثبت النفقة تبعًا لا مقصودًا، وهو الأشهر. هذا لفظه بحروفه. ثم حكى الثالث المعروف: أنه يثبت وينفق عليه من بيت المال، فقد صرح بنقله وزاد عليه فقال: إنّه الأشهر. وإذا تأملت ذلك قضيت العجب مما قاله النووي، فلذلك حكيت ما حكيت حتى لا تغتر بكلامه هو في هذه المسألة، حيث قال في حق الروياني: إنّه نبه على كلامه حتّى لا تغتر به، ولو طالع المبسوطات خصوصًا إذا كان المبسوط لمن يحاول الاعتراض عليه لا نكف عن كثير مما تقدم عليه من التغليط والإنكار للأمور المشهورة، كما أوضحناه في كتابنا هذا.

قوله: ولو نذر التصدق بعين مالٍ لم ينعقد، وفي الذمة ينعقد. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وكلامهما في النذر يقتضي أنه لا يصح منه نذر القرب المالية مطلقًا، وستعرفه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله من "زياداته": وفيه وجه حكاه صاحب "الحاوي" والقاضي حسين والمتولي: أنه يلزمه التكفير بالمال. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن القاضي من الحاكين له وجهًا أيضًا، وليس كذلك، بل هو جازم به كما ذكره في "تعليقه"، وقاسه على المبعض. [قوله: ] (¬1) ولا يبيع عقاره إِلا لحاجة كالنفقة والكسوة، ثم قال: أو بغبطة مثل أن يكون يقبل الخراج أو يرغب فيه شريك، أو جار بأكثر ثمن مثله، وهو يجد مثله ببعض ذلك الثمن. انتهى. وما ذكره من وجدان مثله هو من باب المثال، وليس هو على سبيل الاشتراط، ولهذا لم يشترط في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير" ولا في "التنبيه"، وأقره عليه في تصحيحه، ولم يعتبر أيضًا أكثر الأصحاب، وأوهم ابن الرفعة أن كلام الإمام مصرح به، وليس كذلك. وقوله أيضًا: وهو يجد مثله ببعض ذلك الثمن ليس للتقييد أيضًا، بل لو وجد خيرًا منه بذلك الثمن كان كذلك، صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبغوي والخوارزمي وغيرهم. فإن وجد مثله بمثله فالمتجه المنع [لأنه عيب فتلخص أن المعتبر هو -الحظ والمصلحة] (¬2)، ويبقي النظر فيما إذا لم [يبحث عن وجدان عقار] (¬3) بالصفة المذكورة، فيحتمل أن يقال: إن كان الغالب وجدانه في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الحال أو بعده بقليل لو بحث فيجوز وإلا فيمتنع. قوله: وإذا باع الأب أو الجد عقارًا [للطفل] (¬1)، ورفع إلى القاضي سجل على بيعه، ولم يكلفه إثبات الحاجة أو الغبطة بالبينة، لأنه غير متهم، وفي بيع الوصي والأمين لا يسجل إِلَّا إذا قامت البينة على الحاجة أو الغبطهّ. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: وفي احتياج الحاكم إلى ثبوت عدالة الأب والجد [ليسجل] (¬2) لهما أو ليحكم بالصحة وجهان حكاهما في "البيان"، والله أعلم. وما ذكره هنا من حكاية وجهين من غير ترجيح، قد ذكرهما قبل ذلك من "زوائده" أيضًا بزيادة الترجيح للاكتفاء بالعدالة الظاهرة، وستكون لنا عودة إلى هذه المسألة في باب الحضانة إن شاء الله تعالى فراجعه. ثم إن مقتضى التعليل السابق في الأب: استثناء الأم من الأوصياء، وما كان من هذا القبيل، فتفطن لذلك. قوله: وإذا باع ماله نسيئة زاد على ثمنه نقدًا، وأشهد عليه وارتهن به رهنا وافيًا، فإن لم يفعل ضمن. انتهى. وللمسألة شروط أخرى ذكرها في "الروضة" من "زياداته" في كتاب الرهن فقال: قال صاحب "الحاوي" وشيخه الصيمري وصاحب "البيان" وآخرون من العراقيين: إنا إذا جوزنا البيع نسيئة، فشرطه كون المشتري ثقة موسرًا، ويكون الأجل قصيرًا. قال: واختلفوا في حد الأجل الذي لا يجوز الزيادة عليه، فقيل: ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) سقط من جـ.

سنة، وقال الجمهور: لا يتقدر بها، بل يعتبر عرف الناس. انتهى. قوله: ولا يهب أمواله لا بشرط الثواب ولا دونه، إذ لا يقصد بالهبة العوض. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق المنع، لكن إذا شرط ثوابًا معلومًا كان بيعًا على الأصح، تجرى عليه أحكام البيع كلها نظرًا للمعنى، كذا ذكره في كتاب الهبة. وحينئذ فينبغي أن يجوز ذلك حيث يجوز البيع، ويؤيده تصريح الإمام بذلك في المكان، فإنه لما منعه من الهِبَة لكونها تبرعًا، استثنى هذه المسألة، ونقله عنه الرافعي [هناك وأقره، وجزم به في "الروضة"، ولم يخصه بالإمام كما خصه الرافعي] (¬1) واقتضى ذلك كله وجوب استثنائها. قوله في أصل "الروضة": وإن كان الولي فقيرًا وانقطع نسبه عن الكسب، فله أخذ قدر النفقة وفي "التعليق" له أخذ أقل الأمرين من النفقة وأجرة المثل. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الأخذ لا يحتاج إلى إذن الحاكم، جزم به ابن الصلاح في "فتاويه". الثاني: أنه إنما عبر بالتعليق وأطلق، لأن نسخ الرافعي مختلفة، ففي بعضها أنه تعليق الشيخ أبي حامد، وفي بعضها أنه الشيخ أبى محمد، وحكى في "الروضة" من "زياداته": أن هذا المنقول عن التعليق، نص عليه الشافعيّ، وأنه المعروف في كتب أكثر العراقيين. الأمر الثالث: أن تعبيره بالولى تبع فيه الرافعي، وليس بجيد، والصواب التعبير بالوصي، كما عبر صاحب "التنبيه": لأن الولى ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

يدخل فيه الأب والجد، ولا خلاف أنهما عند الحاجة يأخذان قدر الكفاية، وسواء كانا صحيحين أم لا. قال ابن الرفعة: لأنه وإن كان صحيحًا قادرًا على التكسب، لكنه قد تعذر عليه الكسب بسبب حفظ المال. قوله في المسألة: وهل عليه ضمان ما أخذ كالمضطر، أم لا كالإمام إذا أخذ الرزق من بيت المال؟ فيه قولان. انتهى. والراجح منهما أنه لا يضمن، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أشبه الوجهين، والنووي في "الروضة"، إنه الأظهر، ولم يذكر المسألة في "المحرر". قوله: يجب على الولى أن ينفق عليه ويكسوه بالمعروف، ويخرج من ماله الزكوات وأروش الجنايات، وإن لم يطلب، ونفقة القريب بعد الطلب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من توقف نفقة القريب على الطلب، لا يستقيم إذا كان المنفق عليه مجنونًا أو طفلًا أو زمنًا يعجز عن الإرسال ونحو ذلك كالمعتوه والمبرم ومختلط العقل لهرم. الأمر الثاني: أن هذا الكلام يقتضي وجوب أداء الدين قبل طلبه لتصريحه بوجوب الإخراج، وفيه كلام يتعين الوقوف عليه سبق إيضاحه في كتاب الفلس فراجعه. الأمر الثالث: أن كلامه يوهم أن الضمان يجب بإتلاف الصبي مميزًا كان أو غير مميز، وفيه اضطراب، سوف أذكره إن شاء الله تعالي في أوائل الجنايات فراجعه.

قوله: ومنها: ليس لغير القاضي إقراض مال الصبي، إِلَّا عند [الضرورة بهدٍ] (¬1) أو حريق، وإذا أراد سفرًا، ويجوز للقاضي الإقراض، وإن لم يعرض شيء من ذلك لكثرة أشغاله، وسوى أبو عبد الله الحناطي بين القاضي وغيره. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد حكى في آخر باب القضاء على الغائب عن صاحب "التلخيص": أنه يجوز أيضًا للأب. وظن النووي هناك أنه تقدّم هنا فأسقطه، فلزم خلو"الروضة" عنه. الثاني: أن كلامه ليس فيه بيان أن الحناطي سوى بينهما في الجواز والمنع، والظاهر أنه أراد المنع، ويدل عليه أن الرافعي في آخر القضاء على الغائب، وهو قبيل القسمة حكى عن صاحب "التلخيص": أن الأب يجوز له ذلك كالقاضي، ثم قال: وهذا وجه آخر، أى غير ما تقدّم في الحجر. فلو كان المنع لكان قد سبق، وإن كان أعم، وقد بينه بذلك في أصل "الروضة" فقال: وفي وجه: القاضي كغيره، هذا لفظه. فعلم أن مراد الرافعي التسوية في المنع، وصرح بذلك أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية". الأمر الثالث: أن ما نقله عن الحناطي فيه نظر، فقد ذكر الحناطي المسألة في "فتاويه"، وجزم بالتفصيل، وفرق بكثرة اشتغال القاضي. الأمر الرابع: أن ما قاله الرافعي من جواز القرض للقاضي خاصة سبقه إليه البغوي، لكن نقل صاحب "الشامل" في كتاب الفلس: أن الشافعيّ نصّ على أنه لا يجوز لولى الصبي إقراض ماله، ولم يفصل بين القاضي ¬

_ (¬1) في جـ: ضرورة نهب.

وغيره، فإنه لما تكلم على بيع أموال المفلس، وما يفعل في أثمانها قال ما نصه: مسألة: قال -يعني الشافعي-: وإن وجد الإمام [ثقة يسلفه] (1) المال حالًا لم يجعله أمانة، ثم قال بعد ذلك: فإن قيل: أليس قد قال الشافعيّ: إن ولى الصبي يودع ماله ولا يقرضه؟ ، فالفرق عندي أن مال الصبي معيد لمصلحة تظهر له من شراء عقار أو تجارة، وقرضه يتعذر معه المبادرة إلي ذلك، ومال المفلس وجد للغرماء خاصة فافترقا، هذا لفظه. وذكر الرافعي في باب القراض، أن شرط المقرض أن يكون أهلًا للتبرع، وهو صريح في منع القاضي منه. وقال الهروي في "الإشراف" ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية": إن المذهب أنه لا يجوز أيضًا للقاضي ذلك. وأطلق المنع أيضًا الشيخ أبو حامد والقاضي حسين والمحاملي والفوراني والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ في تجارة الموصي، والإمام والغزالي والجرجاني والمتولي والروياني وصاحب "العدة" وصاحب "البيان". قوله من "زياداته": يستحب للحاكم إذا حجر على السفيه أن يشهد على حجره، وحكي في "الحاوي" و"المستظهري" عن أبى على بن أبي هريرة وجهًا: أنه يجب الإشهاد. انتهى كلامه. واعلم أن قائل هذا الوجه، وهو ابن أبي هريرة يقول: إن الإشهاد شرط في صحة الحجر، كذا صرح به الماوردي، وعلله بأن المقصود من الحجر إظهار منعه من التصرف في ماله ليتحفظ الناس من معاملته، وهذا المعني لا يصح إِلَّا بالإشهاد، وعبارة "المستظهري" أيضًا تشعر به. فإنه عبر بقوله: وهل يفتقر الحجر إلى الإشهاد؟ فيه وجهان، وكلام النووي في حكاية هذا الوجه غير وافٍ، بل هو موهم خلاف المراد. قوله أيضًا من "زياداته": وإذا كان للصبي أو السفيه كسب أجبره

الولى على الاكتساب ليرتفق به في النفقة وغيرها، حكاه في "البيان". انتهى كلامه. وما نقله عن "البيان" في الصبي والسفيه ليس كذلك، بل إنما ذكره في الصبي خاصّة نقلًا عن أبي إسحاق، ولا يلزم من إجباره للصغير، لكونه يستقل بإجارته أن يجبر السفيه، فإن السفيه لو أجر نفسه بغير إذن وليه ففي صحته خلاف، حكاه ابن الرفعة في "الكفاية" عن القاضي وجهين، وعن "الإشراف" للهروى قولين. وقال الماوردي: إن كان فيما هو مقصود من عمله، مثل أن يكون صائغًا وعمله مقصود في كسبه [لم يجز، ويولى الولى العبد عليه، وإن كان غير مقصود الحج أو وكالة وليس عمله مقصودًا في كسبه] (¬1) لاستغنائه صح لأن له أن يتطوع بهذا العمل. هذا كلام الماوردي. ومع ذلك لا يلزم من شيء من هذه النقول أن يجب عليه التكسب، ولا إجباره عليه، وكذلك توقف ابن الرفعة في "المطلب" في وجوب العمل عليه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

كتاب الصلح

كتاب الصلح وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول في أركانه قوله: وهو معاوضة وله حكم البيع إذا جرى على غير المدعي. انتهى لفظ "الوجيز". وهو في غاية الحسن والبلاغة، وقوله: (وهو معاوضة) أي فتكون أركانه أركان المعاوضة، وقد سبقت في البيع، ثم ذكر بعد الأركان أحكامه فقال: وله حكم البيع. . . . إلي آخره. فقد اعترض الرافعي بعد شرح المسألة على كلامه، فقال: أركان الصلح على المعهود من كلامه في المتصالحان، واللفظ والمصالح عليه والمصالح عنه، وليس في اللفظ تعرض لشروطها، فإذن الفصل ببيان الأحكام أشبه منه بالأركان. هذا كلامه، وهو اعتراض عجيب. قوله: وهو ضربان أحدهما صلح المعاوضة، وهو الذي يجري على غير العين المدعاة، ثم إن كان ذلك الغير عينًا كان الصلح تبعًا، وإن كان منفعة كان إجارة. والثاني: صلح الحطيطة، وهو أن يصالح من المدعى به على بعضه، فإن كان عينًا كان هبة للباقي، وإن كان دينًا كان إبراء. انتهى ملخصًا. وحاصله أن الصلح ينقسم إلى أربعة أقسام، وأهمل -رحمه الله- أقسامًا، منها: أن تكون عارية، وقد ذكره بعد ذلك في أثناء فروع، فقال: الثالث: صالحه عن الدَّار المدعاة على أن يسكنها سنة، فهو إعارة للدار منه يرجع فيها متى شاء، وليس بمعاوضة، لأن الرقبة والمنافع ملكه.

ثم حكي وجهًا: أن الصلح لا يصح، ومنها: أن تكون جعالة كقوله: صالحتك من كذا على رد عبدي، أو انتزاع ملكي من فلان، ومنها: أن يكون خلعًا كقول المرأة: صالحتك من كذا على أن تطلقني طلقة، ولو قال الزوج: صالحتك من كذا على طلقة فيتجه أيضًا صحته. ومنها: أن تكون معاوضة عن دم العمد كقوله: صالحتك من كذا على ما تستحقه أنت علىّ، أو على ما أستحقه أنا عليه من القصاص في النفس مثلًا أو الطرف. ومنها: أن تكون فداء كقوله للحربي: صالحتك من كذا على إطلاق هذا الأسير. وهذه المسائل قد أهملها الأصحاب، وهي واردة عليهم جزمًا، وذكر ابن جرير الطبري قسمين آخرين: أحدهما: أن يكون فسخًا كما إذا صالح المسلم المسلم إليه على رأس ماله، والذي قاله صحيح ماشٍ على القواعد، فقد ذكروا في الكلام على أحكام المبيع قبل قبضه أن بيعه قبل القبض للبائع بمثل الثمن الأول وإقالة بلفظ البيع، وهذا مثله لاشتراكهما في الفسخ، بل وقوع الفسخ هاهنا أولى لوقوع العقد فيه على نفس العوض، وهناك على مثله وصورته. [الثاني] (¬1). أن يكون سلمًا بأن يجعل العين المدعاة رأس مال سلم، وهذا إن صرح فيه بلفظ السلم كقوله: صالحتك من كذا على كذا في ذمتك سلمًا فواضح، وإن لم يصرح بل اقتصر على المصالحة، فيحتمل أن يقال فيه الوجهان فيما إذا أسلم بلفظ الشراء والظاهر أنه يكون سلمًا أيضًا كما أطلقه ابن جرير، لأن حد السلم صادق عليه، ولفظ الصلح لا يمنع القول به، لأنه لا يتعين للبيع. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ألا ترى أنه يصلح أيضًا للإجارة والهبة والإبراء والإعارة كما سبق. قوله: المسألة الثانية: ذكر ابن القاص في "التلخيص": أنه إذا صالحه من أرش الموضحة على شيء معلوم جاز إذا علما قدر أرشها، ولو باعها لم يجز، وخالقه معظم الأصحاب في افتراق اللفظين، وقالوا: إن كان الأرش مجهولًا كالحكومة التي لم تقدر ولم تضبط لم يجز الصلح عنه ولا بيعه، وإن كان معلوم القدر والصفة كالدراهم والدنانير إذا ضبطت في الحكومة جاز الصلح عنها، وجاز بيعها ممّن عليه، وإن كان معلوم القدر دون الصفة على الحد المعتبر في السلم كالإبل الواجبة في الدية ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعًا وجهان: أظهرهما فيما ذكره السرخسي: المنع. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله الرافعي من التقسيم لكلام صاحب "التلخيص" لا ينطبق على ما نقله هو عنه، فإنه فرض المسألة في المصالحة على أرش الموضحة إذا علمنا قدر أرشها، وكأنه صالحه على خمس من الإبل، وهو القسم الثالث من تقسيم الرافعي، فلا يجيء القسمان الأولان أصلًا. الأمر الثاني: أن الصحيح من الوجهين هو المنع كما قاله السرخسي كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". قوله: وإن اقصر على لفظ الصلح، وقال: صالحتك عن الألف التي لي عليك على خمسمائة، فوجهان كنظيرها في صلح الحطيطة، والأصح: الصحة ثم هل يشترط القبول؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا قال لمن عليه الدين: وهبته منك، والأظهر: اشتراطه، لأن اللفظ في وضعه يقتضيه. انتهى كلامه. وحاصله ترجيح اشتراط القبول في هبة الدين، لأنه إن كان الأظهر راجعًا إلى الهبة، وهو الظاهر فواضح، وإن كان راجعًا إلى الصلح،

فقد يظن به لاسيما مع [اشتراطهما] (¬1)، وهو اقتضاء اللفظ فيهما لذلك دون المعنى. إذا علمت ذلك، فقد صرح في غير هذا الموضع بأن الأصح عدم الاشتراط، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في كتاب الهبة. قوله في المسألة: ولو صالح منه على خمسمائة معينة فالوجهان جاريان، ورأى الإمام وجه الفساد هاهنا أظهر، لأن تعيين الخمسمائة يقتضي كونها عوضًا، وكون العقد معاوضة فيصير تابعًا للألف بخمسمائة، ولصاحب الوجه الأول أن يمنعه ويقول: الصلح على البعض المعين إبراء للبعض واستيفاء للباقي. انتهى كلامه. وما قاله الإمام من الفساد سبقه إليه أيضًا القاضي حسين، وهو الصواب لأنه إن كان معناه المعاوضة ففساده واضح، وإن كان معناه الإبراء عن الألف بكمالها بشرط أن يملكه الخمسمائة المعينة كان ذلك تعليقًا للإبراء، وهو فاسد. وإن كان معناه الإبراء عن البعض خاصة وهو الخمسمائة بشرط تمليك المعينة لزم المحذور المذكور، وأن لا يبرأ إِلا عن خمسمائة خاصة، لأن الباقي ما أبرأ عنه، ولا اعتاض وإنما جعل المعينة عوضًا عن الإبراء من خمسمائة فقط، فظهر أن الصواب البطلان، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن الخمسمائة معينة، فإنه ليس هناك معاوضة فلا تعليق للإبراء قطعًا، بل حاصله أنه إبراء من البعض وأبقى البعض على حاله. وأما قول الرافعي أن الأول أن يقول: الصلح منه على البعض المعين إبراء للبعض، واستيفاء للباقي إن أراد أن الاستيفاء والإبراء وقع كل منهما منفكًا عن الآخر مستقلًا، فليس كذلك، وإن كان الإبراء وقع بشرط ¬

_ (¬1) في جـ: اشتراكهما.

الاستيفاء، والاستيفاء بشرط الإبراء، لزم أن لا يصحا كما قلناه، فلا وجه في المسألة إلا البطلان، وقد ذكر الرافعي في الصلح على الإنكار ما يعكر على ما قاله هنا، ويقوي رأي الإمام والقاضي فقال: وإن أحضر خمسمائة وتصالحا من الألف عليها فهو مرتب على صلح الحطيطة في العين إن لم يصح ذلك فهذا أولي، وإن صح ففيه وجهان واتفق الناقلون على أن وجه البطلان هاهنا أرجح. والفرق أن ما في الذمة ليس ذلك المحضر المعين، وفي الصلح عليه معني المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الإنكار. قوله: ولو صالح من ألف حال على ألف مؤجل أو من ألف مؤجل على ألف حال فهو لاغٍ. ثم قال: نعم لو عجل من عليه المؤجل وقبل المستحق سقط الأجل بما جري من الإبقاء والاستيفاء. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من تعجيل المؤجل قد ذكر ما يخالفه في مواضع من نظائر المسألة، وقد تقدم ذلك مبسوطًا في أول الباب من أبواب البيوع. قوله: ولو تصالحا ثم اختلفا هل يصالح على الإنكار أم على الإعتراف؟ قال ابن كج: القول قول مدعي الإنكار لأن الأصل أن لا عقد، ولك أن تخرجه على الخلاف الذي سبق في نزاع المتعاقدين في أن العقد الجاري بينهما كان صحيحًا أو فاسدًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التخريج الذي ذكره الرافعي تفقهًا، قد صرح الدبيلي في "أدب القضاء" بنقله عن الأصحاب، وعبر بقوله: قال أصحابنا: المسألة على قولين بناء على كذا وكذا، وذكر مثالًا من أمثلة

القاعدة ذكره الرافعي في باب الراهن، وهو اختلافهما في اختلاف [في الخمر] (¬1) العصير هل كان عند العقد أو بعده. الأمر الثاني: أن هذه المسألة قد نصّ عليها الشافعيّ في "الأم" وأجاب ما قاله ابن كج، فقال في كتاب الصلح المذكور بعد أبواب اللعان ما نصه: فإن أنكر المصالح الأخذ لثمن الدَّار، أن يكون إقراره بالدار، وقال: إنما صالحته على الحجة فالقول قوله مع يمينه، والصلح مردود. هذا لفظه. فثبت بطلان ما حاوله الرافعي من ترجيح الصحة، وأن الصواب هو البطلان، على هذا النص لم يذكروا ما ذكروه ولا شك أن الرافعي قد توهم أن لا كلام فيها إلا لابن كج ولم يقف النووي أيضًا على هذا النص غير أنه قد رجح أيضًا مقالته، فقال في "الروضة": الصواب ما ذكره ابن كج، وقد صرح به أيضًا الشيخ أبو حامد وصاحب "البيان" وغيرهما. قال: والفرق أن الظّاهر والغالب: جريان البيع على الصِّحَّة، والغالب وقوع الصلح على الإنكار. قوله: أما إذا كان المدعي دينًا، وقال الأجنبي: وكلني المدعى عليه بمصالحتك على هذا الثوب وهو ملكي فوجهان: أحدهما: لا يصح، لأنه بيع شيء بدين غيره. والثاني: يصح ويسقط الدين لمن ضمن دينًا وأداؤه. انتهى. والأصح منهما عدم الصِّحَّة، كذا صححه في "الروضة". ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الفصل الثاني في النزاع على الحقوق

الفصل الثاني في النزاع على الحقوق قوله: فإن لم يضر إخراج الجناح، فلا منع منه. انتهى. اعلم أن عدم المنع خاص بالمسلم، فقد قال في "الروضة" في أثناء باب أوله ومن المهمات المستفادة أن أهل الذِّمَّة يمنعون من إخراج الأجنحة إلى شوارع المسلمين النافذة، وإن جاز لهم استطراقها، لأنه كإعلائهم البناء على بناء المسلم أو أبلغ، قال: هذا هو الصّحيح، وذكر الشاشي في جوازه وجهين. قوله: وقال أبو حنيفة: الاعتبار بالضرر وعدمه في إخراج الجناح، ولكن إن خاصمه إنسان فيه نزع، وإن لم يضر وإلا ترك. وقال أحمد: لا يجوز إنتزاعه بحال إلا إذا أذن فيه الإمام، لنا اتفاق الناس عليه، وأيضًا فإن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب بيده ميزابًا في دار العباس (¬1)، وقس الجناح عليه. انتهى. وهذا الدليل الثاني ليس فيه رد على أبي حنيفة، ولا على أحمد، أما أبو حنيفة فلأنه لا يقول بمنع النصب كما تقدّم، وأمّا أحمد، فلأنه إنما يمنع عند عدم إذن الإمام، وفعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له آكد وأبلغ من الإذن فيه. قوله: مع الكنسة المنصوبة على رأس المحمل. . . . إلى آخره. الكنسة بفتح الكاف وكسر النون المخففة هي الأعواد المرتفعة على ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1790) والحاكم (5428) وعبد الرزاق (15264) والبيهقي في "الكبري" (11145). قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن هشام بن سعد لم يسمع من عبيد الله. وقال الألباني: ضعيف.

المحمل، المعدة لأن يوضع عليها السترة التي تقي من الحر والبرد، وسترة الراكب. قال الجوهري: كنس الظبي يكنس بالكسر وتكنس على وزن تكلم أي دخل في كناسه وهو موضعه في السحر يكن فيه ويستتر. قوله: وفي جواز نصب الدكة وغرس الشجر عند عدم الضرر وجهان، أقواهما: المنع. قال: لأن المكان المشغول بالبناء [والشجر لا يتأتى فيه الطروق، وقد يتزاحم المارة، وأيضًا فإنه إذا طالت المدة اشتبه مكان البناء] (¬1) والغراس الأملاك وانقطع أثر استحقاق الطروق فيه. انتهى. فأمّا الدّليل الأول: فينتقض بغرس الشجرة في المسجد، فإنه جائز مع الكراهة كما هو مذكور في آخر شروط الصلاة من "زيادات الروضة"؛ وأمّا الثاني فينتقض بفتح الباب المستمر إلى الدرب الذي لا ينفذ، فإنه رجح الجواز كما سيأتى والدكة هي المسطبة المرتفعة. قال الجوهري: والدكة والدكان ما يجلس عليه. قوله: ولو أشرع جناحًا [لا ضرر فيه، ثم انهدم أو هدمه فأشرع آخر في محاذاته جناحًا] (¬2) لا يمكن معه إعادة الأول جاز، كما لو قعد في طريق واسع، ثم انتقل عنه يجوز لغيره الارتفاق به، ولك أن تقول: المرتفق بالقعود لمعاملة لا تبطل حقه بمجرد الزَّوال عن ذلك الموضع، وإنما تبطل بالسفر والإعراض عن الحرفة، كما سيأتي في إحياء الموات، فقياسه أن لا يبطل حقه لمجرد الانهدام والهدم، بل يعتبر إعراضه عن ذلك الموضع ورغبته عن إعادته. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض الذي [ذكره] (¬3) الرافعي اعتراض صحيح، واعترض ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) في جـ: اعترضه.

عليه في "الروضة" فقال: قلت: إنما قاسه كثيرون على ما إذا وقف في الطريق، ثم فارق موقفه أو قعد للإستراحة أو نحوها، فلا يردّ اعتراض الإمام الرافعي. هذا لفظه. وهو اعتراض عجيب، وذلك لأنه لا يصح القياس على القاعد للاستراحة ونحو ذلك كما فهمه النووي، لأن ما نحن فيه للدوام بخلاف ما ذكره، فتكون المسألة شبيهة بالقاعد للمعاملة، وبتقدير أن يريدوا ما ذكره يقول الرافعي لهم: ليس نظير ما ذكرتموه، ويذكر ما ذكره فسؤال الرافعي، وأراد على كل تقدير، ويلزمهم أن يفرقوا، وفرق في "المطلب": بأن إشراع الجناح إنما كان بطريق البيع لاستحقاق الطروق، وعند السقوط استحقاق الطروق ثابت لكل من المسلمين، فكذلك من سبق إليه كان أحق به لمشاركته في السبب، والانتفاع بالمقاعد ليس بيعًا لغيره، فكذلك من سبق إليه كان أحق به ما لم يعرض، وهذا الفرق ظاهر الضعف، وقول النووي: (إنما قاسه كثيرون على كذا وكذا) فغير مسلم به، بل صرحوا بالقياس على ما ذكره الرافعي، ومنهم الشاشي في "المعتمد" باللفظ الذي ذكره الرافعي بعينه، ومنهم صاحب "البحر" وغيره. قوله في أصل "الروضة" والشوارع منفكة عن الملك والاختصاص، ثم قال: قال الإمام: ومصير الموضع شارعًا له صورتان. إحداهما: أن يجعل الرَّجل ملكه شارعًا وسبيلًا. والثانية: أن يجيء جماعة بلدة أو قرية وتركوا مسلكًا نافذًا من الدور والمساكن، ويفتحوا إليه الأبواب، ثم حكى عن شيخه ما يقتضي صورة ثالثة، وهو أن يصير موضع من الموات جادة يستطرقها الرفاق، فلا يجوز تغييره، وإن كان يتردد في ثنيات الطريق التي يعرفها الخواص ويسلكونها. قال الإمام: ولا حاجة إلي لفظ في مصير ما يجعل شارعًا. انتهى

كلامه. وما حكاه عن الإمام ظاهره أنه راجع إلي الصور الثلاثة وليس كذلك، بل هو راجع إلى الصورتين الأخيرتين، وعدم اشتراط اللفظ فيهما ظاهر، وأما الأولى فلابد فيها من لفظ يقتضي إخراج الملك عنه، وصيرورته وقفًا بلا نزاع على قاعدة أوقاف الأملاك. وقد نبه عليه مع وضوحه ابن الرفعة في "المطلب"، وثنيات بالمثلثة المضمومة جمع ثنية مصغرًا. قوله: ولا يجوز لأهل السكة إخراج الجناح إلا برضاهم، وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: يجوز إذا لم يضر. ثم قال: وشركة كل واحد تختص بما بين رأس السكة وباب داره، وقيل: الشركة في جميعها لجميعهم. وتظهر فائدته على قول الشيخ أبي حامد في أن مستحق المنع إذا أضر الجناح من هو، لكنهم لم يذكروه. انتهى ملخصًا. وما قاله الرافعي من عدم ذكرهم له عجيب، فقد ذكره صاحب "التهذيب"، واستمداد الرافعي من كلامه، وذكر في "الروضة" أيضًا هذا الاعتراض فقال: هذا من أعجب العجب، فقد ذكره صاحب "التهذيب" مع أن معظم نقل الرافعي منه ومن "النهاية". قوله: ولو قال: أفتح إليها بابًا للاستضاءة دون الاستطراق، أو أفتحه وأسمره فوجهان: أصحهما عند الكرخي: لا يمنع. انتهى. قال في "الروضة": صححه أيضًا العمراني، قال: وصحح الجرجاني والشاشي: أنه لا يجوز، ثم قال -أعني النووي- في الروضة: إن الأفقه المنع، ولم يذكر ترجيحًا له غيره، وصحح الرافعي

في "المحرر" الخيار وعبر بالأظهر، وصححه أيضًا النووي في "المنهاج"، و"تصحيح التنبيه"، وعبارة "الشرح الصغير" فيه مثل عبارة "الكبير" [وبالجملة فالنووي على الجواز، فقد نقله ابن جرير الطبري عن الشافعيّ] (¬1). قوله: ولو كان له باب في السكة فأراد أن يفتح آخر أبعد من أولها فشريكه إن كان فوقه فله المنع، وإن كان تحته ففيه الخلاف في كيفية الشركة. . . . إلى آخره. أهمل -رحمه الله- قسمًا ثالثًا، وهو أن يكون تحت شريكه مقابلًا لبابه لا فوقه ولا تحته، وحكمه حكم من هو أقرب إلى رأس السكة ففيه الوجهان، كذا قاله الإمام ونقله عنه في "الروضة"، وهو ظاهر، لكنه عبر هو والرافعي هنا عن الباب القديم الذي للفاتح بالباب المفتوح فافهمه، فإنه قد يتوهم منه أن المراد بالمفتوح الباب الجديد، وليس كذلك، فإنه لو أراد ذلك لكان المنع متفقًا عليه. قوله: ولو كان له داران ينفذ باب أحدهما إلي الشارع، وباب الأخرى إلي سكة مفسرة فأراد فتح باب من أحدهما إلي الأخرى، فليس لأهل السكة المنع في أظهر الوجهين، ولو كان باب كل واحدة في سكة غير نافذة، جري الوجهان أيضًا لأهل السكتين معًا. كذا نقل الإمام، ثم قال: واعلم أن موضع الوجهين فيما إذا سد باب إحدى الدارين، وفتح الباب بينهما لغرض الاستطراق. أما إذا قصد اتساع ملكه ونحوه فلا يمنع. انتهى كلامه. وفيه أمور نبه عليها في "الروضة": أحدها: أن دعوى اختصاص الخلاف إذا سد باب إحداهما خطأ، ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قال: بل الصواب جريان الوجهين إذا بقي البابان نافذين، وكل الأصحاب مصرحون به. نعم إن أراد إزالة الحائط الذى بينهما وجعلهما دارًا واحدة وترك بابيهما على حاليهما جاز قطعًا، وممن نقل الاتفاق عليه القاضي أبو الطيب في "تعليقه". فالصواب أن يقال: موضع الوجهين ما إذا لم يقصد اتساع ملكه. الثاني: أن تعبيره بقوله: هكذا نقله الإمام يوهم الخلاف، والوجهان مشهوران للأصحاب. الثالث: أن دعواه أن الأظهر الجواز، تابع فيه لصاحب "التهذيب"، والجمهور على ما نقله أصحابنا العراقيون على المنع، بل نقل القاضي أبو الطيب الاتفاق عليه، ثم قال: وعندي أنه يجوز، هذا كله هو معني كلام "الروضة". قوله: وذكر الإمام أنه لو فتح من لا باب له في السكة بابًا برضى أهلها كان لأهلها الرجوع متى شاؤوا ولا يلزمون بالرجوع شيئًا بخلاف ما لو أعار الأرض للبناء ثم رجع، فإنه لا يقلع البناء مجانًا، وهذا لم أجده لغيره، والقياس أن لا فرق. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على أنه لا فرق بينهما، قال في "المطلب": والفرق واضح لأنه هنا بنى في ملكه، والبني باقٍ بحاله لا يزال، فلا غرم بخلاف البناء على الأرض، فإن المعير يقلع فغرم الأرش لذلك. وما [ذكره] (¬1) في "المطلب": صحيح إذا فرعنا على أنه يجوز إحداث باب في ملكه لغير الاستطراق. فإن قلنا: لا يمكن منه، كان له مطالبته بسده، وحينئذ فتتجه التسوية ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

بين المسألتين. قوله: فرع: قال القاضي الروياني في "البحر": إذا كان بين داريه طريق نافذ فحفر تحته سردابًا من إحداهما إلى الأخرى، وأحكم بالأزج لم يمنع. قال: وبمثله أجاب الأصحاب فيما إذا لم يكن نافذًا، لأن لكل أحد دخول هذا الزقاق كمطروق الدرب النافذ. وغلط من قال بخلافه، وهذا اختيار منه، لكونها في معني الشارع، والظاهر خلافه، انتهى كلامه. وما نقله الرافعي عن "البحر" غير نافذ، قد غلط فيه عليه فإنه لا ذكر له فيه، بل فيه وفي "الحلية" له ترجيح المنع، وعبر في "البحر" بقوله: والأقيس، وفي "الحلية" بقوله: ظاهر المذهب. وقد تبع النووي الرافعي على هذا الغلط، ثم بعد ذلك أنكر على الروياني مقالته اعتقادًا منه صحة ما نقله الرافعي فقال من "زياداته": وأمّا تجوز الروياني في ذلك فيما إذا لم يكن الطريق نافذًا، ونقله ذلك عن الأصحاب فضعيف، ولا يؤخذ ذلك في كتب معظم الأصحاب، ولعلّه وجده في كتاب أو كتابين، فإني رأيت له مثل ذلك كثير، هذا كلام النووي، وقد علمت أن الغلط منهما لا من الروياني. قوله: والجدار المخصوص بأحد المالكين هل للآخر وضع الجذوع عليه من غير إذن مالكه؟ القديم: الجواز لما روي عن أبي هريرة أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره"، قال: فنكس القوم رؤسهم، فقال أبو هريرة: ما لكم عنها معرضين، والله لأضعن بها بين أكتافكم" (¬1) أي لأضعن هذه السُّنة. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1430) والبخاري (2331) ومسلم (1609).

والجديد: المنع، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه" (¬1). ويشترط على القديم ألا يحتاج مالك الجدار إلي وضع الجذوع عليه، وألا يزيد الجار في ارتفاع الجدار، ولا يبني عليه أزجا وهو العقد، ولا يضع عليه ما لا يحتمله أو يضره، وألا يملك شيئًا من جدار البقعة التي يريد تسقيفها، أو لا يملك إلا جدارًا واحدًا، فإن ملك جدارين فليسقف عليهما، وصاحب "النهاية" لم يعتبر هذا الشرط هكذا، بل قال: الشرط أن تكون الجوانب الثلاثة للجار، فإن كان الجميع للغير لم يصح قولًا واحدًا. ثم نقل عن بعض الأصحاب: أنه لم يعتبر هذا الشرط، واعتبر في "التتمة" مثل ما ذكر الإمام، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبًا أو جانبين. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن القول بالإجبار قد نقله "البويطي" عن الشافعيّ، فيكون القولان في الجديد، ولهذا قال البيهقي في إحياء الموات: لم نجد في سنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يعارض هذا الحديث، ولا يصح معارضته بالعمومات. وقد نص الشافعيّ في القديم والجديد على القول به، فلا عذر لأحد في مخالفته. هذا كلامه، والحديث في الصحيحين. ولكن أجاب الأصحاب بأن الضمير في جداره لصاحب الخشب أي لا يمنعه الجار أن يضع خشبة علي جدار نفسه. وإن تضرر به من جهة منع الضوء والهواء ورؤية المارة والأماكن المستنزهة ونحوها، على خلاف ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (20714) وأبو يعلي (1570) والبيهقي في "الشعب" (5492) وفي "الكبري" (11325) من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه بسند ضعيف.

ما يقوله مالك من المنع في كثير من هذه الحالات، واختاره الروياني عند ظهور تعنت فاعله، ويتأيد بأنه القياس الفقهي والقاعدة النحوية، أنها الأول فواضح، وأمّا الثاني فلأنه أقرب من الأول فوجب عود الضمير إليه، وقوله في الحديث (خشبة) روي بالإفراد والجمع. قال الحافظ عبد الغني: الناس كلهم يروونه بالجمع إلا الطحاوي. وقوله فيه: "أكتافكم"، هو بالمثناة من فوق، أي بينكم، ونقل القاضي عياض عن بعضهم أنه رواه بالنون، ومعناه أيضًا بينكم، فإن الكنف هو الجانب. وفي "تعليقة القاضي الحسين": أن أبا هريرة قال ذلك حين كان متوليًا على مكة والمدينة. الأمر الثاني: أنه يستثني من القولين الساباط، فلو أراد بناءه على شارع أو درب غير نافذ، ويريد أن يضع طرف الأخشاب على حائط جاره المقابل، فلا يجوز ذلك إلا بالرضا قولًا واحدًا، قاله صاحب "التتمة" وغيره، وجرى عليه في "المطلب". الثالث: أن ما نقله الرافعي عن "التتمة" من الجزم بالمنع إذا لم يملك شيئًا، وتخصيص الوجهين بما إذا ملك اثنين أو واحدًا، فذكر -أعني صاحب "التتمة"- في إحياء الموات ما يخالفه، فإنه جزم بالوضع إذا ملك ثلاثة، ثم قال: وإن لم يملك فيها شيئًا أو ملك اثنين أو واحدًا فوجهان. قوله في المسألة: فإن رضي بغير عوض فله الرجوع عنها قبل البناء، وكذا ما بعده في أصح الوجهين. انتهى. وما صححه من جواز الرجوع قد جزم في البيع في الكلام على بيع الشجر بما يخالفه، وقد تقدّم هناك أيضًا أن الصّحيح خلافه.

قوله في المسألة: وما فائدة رجوعه؟ فيه وجهان مذكوران في الكتاب: أظهرهما: أنه مخير بين أن يبقي بأجرة، وبين أن يقلع ويضمن أرش النقصان، كلما لو أعار أرضًا للبناء. قال في "التهذيب": إلا أن في إعارة الأرض له خصلة أخرى، وهي تملك البناء بالقيمة، وليس لمالك الجدار ذلك، لأن الأرض أصل، فجاز أن يستتبع البناء، والجدار تابع فلا يستتبع. والثاني رواه الإمام عن حكاية القاضي: أنه ليس له إلا الأجرة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن "الوجيز" من ذكر وجه التخيير غلط، لم يذكره الغزالي فيه ولا في "البسيط" ولا في "الوسيط"، وإنما ذكر وجهين: أحدهما -وهو ما نقله عن الرافعي-: وهو الإبقاء بالأجرة. والثاني: القلع وغرامة أرش النقص. فقال: فمهما رجع كان له النقص بشرط أن يغرم له النقص. وقيل: فائدة الرجوع المطالبة بالأجرة للمستقبل، هذا لفظ "الوجيز" فأسقط منه وجهًا غيره. نعم التخيير ثابت، ذكره البغوي وغيره، ونقل الغزالي في "الوسيط" أن القاضي قائل بالأجرة، وهو غلط والصواب ما عبر به الرافعي نقلًا عن الإمام. الأمر الثاني: أن ما أجاب به من التخيير بين الأمرين تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، والصّحيح خلافه، وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى مع نظائرها، وما وقع فيها في باب العارية.

قوله: فإذا قلنا: ليس له الرجوع، فلو رفع الجذوع صاحبها، أو سقطت بنفسها لم يملك إعادتها بغير إذن جديد على أصح الوجهين، زاد في "الروضة" على هذا فقال ما نصه: قلت: الخلاف في جواز الإعادة بلا إذن، فلو منعه المالك لم يعد بلا خلاف إذ لا ضرر. كذا صرح به صاحب "التتمة"، وأشار القاضي أبو الطيب أو صرح بجريان الوجهين في منعه. انتهى لفظه. وأوائله غير منتظم، وكأنه سقط منه شيء، ويظهر أن يكون أصله هكذا الخلاف في جواز الإعادة بلا إذن، محله عند عدم المنع، فسبق القلم إلى التعبير بقوله: فلا إذن. قوله في المسألة: ولو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة، فكذلك أي يخرج جواز الإعادة من غير إذن على الوجهين. ثم قال: وإن بناه بغير تلك الآلة، فلا خلاف في أنه لا يعيد إلا بإذن جديد، لأنه جدار آخر. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك بل في المسألة خلاف حكاه الروياني في باب العارية من "البحر"، قال ابن الرفعة في "المطلب". ولعلّ قائله يقول: الأرش أصل فما دام فالاعتبار به، قال: ولهذا قال بعض الأصحاب: إذا سقط جدار الوقف وأعيد بغير نقصه لتلفه لا يحتاج إلى تجديد وقف لأنه وضع موضع الأول. قوله في الجدار المشترك: لو منع أحدهما الآخر من الاستناد فهل يمتنع عن الأصحاب؟ فيه تردد لأنه عناد محض. انتهى. لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح أنه لا يمتنع، كذا قاله في "الروضة"، وقيد في "التتمة" جواز الاستناد بما إذا لم

يجعل ثقله عليه. قوله في الكلام على ألفاظ "الوجيز": ولم يذكر أحد خلافًا في ذلك -أي في جواز قسمة الحائط عرضًا في كمال الطول- وبالعكس، بل أطلقوا الجواز عند التراضي، وحينئذ فيكون بالقرعة. انتهى. وما ادعاه الرافعي من عدم الخلاف ليس كذلك، فقد حكى الفوراني في "الإبانة" وجهين في قسمته عرضًا في كمال الطول من غير قرعة، قال: وبالقرعة لا يجوز وجهًا واحدًا، وجزم الماوردي بأنه لا يجوز قسمته مطلقًا، وعلله بأن ما يضر لكل منهما مضر بصاحبه وبه، لأنه إن أراد هدمه لم يقدر إلا بهدم ما لشريكه أو بهدم بعضه. قوله: وإذا هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن صاحبه لاستهدامه أو من غير استهدامه، ففي "التهذيب": أن النص إجبار الهادم على إعادته، وأن القياس غرامة النقصان، لأن الجدار ليس بمثلي. انتهى. وما فهمه صاحب "التهذيب" من أن المراد الحائط المشتركة يضمن بحائط موضعها، تابعه عليه الرافعي، ثم عداه إلى الجدار الخالصة للغير أيضًا لعدم الفرق بينهما في موضعين: أحدهما: في هذا الباب كما تقدّم قريبًا، الثاني عند الكلام فيما إذا باع أرضًا فيها حجارة، فقال: في وجوب الإعادة على هادم جدار الغير خلاف يذكر في الصلح، وأشار إلى المذكور هنا مع أنه لم يصرح أيضًا بخلاف. وهذا الفهم بعيد مخالف للقواعد، فإن الحائط متقومة بلا نزاع، والصواب ما قاله ابن الرفعة في "الكفاية" و"المطلب": أن المراد من النَّص إنما هو على أن يبني مع شريكه، فإنه قال في "الأم" عند الكلام في سقف بين علو لواحد وسفل لآخر إذا تنازعا فيه وحلفا جعل

بينهما ما نصه: وإذا اصطلحا على أن ينقض العلّو والسفل لعلّة فيهما أو في أحدهما أو غير علة، فذلك لهما ويعيدان معًا البناء كما كان، ويؤخذ صاحب السفل بالبناء إذا كان هدمه على أن يبنيه أو هدمه لغير علة. هذا لفظه. وهو يدل على إجباره على المشاركة في البناء، وإن كان مذهبه الجديد عدم الإجبار في غير هذه الحالة، وكأنه راعى التعدي أو الالتزام، وأمّا وجوب إعادتها على الهادم فلا يمكن، بل تجب قيمتها. قال: لأنَّا لو أجبرنا الهادم على إعادته مستهدمًا، فهو غير منضبط أو غير مستهدم كان زائدًا على ما هدمه، وذلك حيف، وهذا الذي قاله حق لا شك فيه، وهو الذى فهمه صاحب "التعجيز" في اختصاره "للتنبيه"، وليس في النص المذكور ما يدل على أن المراد ما قالوه، بل محتمل له ولنا، وقلنا: السابق والقواعد والأدلة القطعية تقتضي أحد التأويلين، فتعين المصير إليه، ويعلم من ذلك أن الجدار المختص بالغير لا يأتي فيه ذلك، وأنه لا يضمن إلا بالأرش بلا نزاع. وقد جزم الرافعي في الغصب في الكلام على حفر الأرض: أنه إذا هدم حائطًا لغيره لا يلزمه إعادتها، لأنها غير مثلية، ونقله الإمام في الكلام على بيع الأرض وفيها حجارة عن الأصحاب قاطبة، وكذلك القاضي أبو الطيب في كتاب الغصب في الكلام على تسوية الحفر، فإنه نقل عن الشافعيّ وجوبه، ثم قال: فاقتضى ذلك أنه إذا هدم حائطا لغيره لزمه بناؤه، وأصحابنا يقولون لا يلزمه ذلك، وإنما يلزمه رد ما بين قيمته قائمًا ومهدومًا. هذا كلامه. وحاصله أنه مجرد استشكال، أو محاولة تخرج على خلاف ما اقتضى نقله عن الأصحاب، وقد أجاب الأصحاب عن ذلك، وفرقوا بين

المسألتين بإمكان التسوية كما هو معروف هناك، وبالجملة فقد نص الشافعيّ في "البويطي" على هذه المسألة نصًا صريحًا دافعًا لما توهمه الرافعي، فقال: ولو اشترى دارًا وقد غصبها رجل ثم هدمها ثم بناها استحقت قيل له: خذ بنيانًا منها ويؤخذ الكراء، ويؤخذ من الذي في يديه قيمة البنيان الذي هدمه، وصرح بمثله أيضًا في الكتاب المذكور فقال: وإن حبس ربعًا فتعدى فباعه فهلك في يد المشتري رجع على أيهما شاء، المحبس عليهم، فأخذوا قيمة البناء قائمًا وردوه في العرصة على حاله، وإن ولى المشتري بهدمه وإتلافه تقوم قيمته قائمًا، ولا يرجع على البائع بشيء. وإن أدركه منقوصًا أخذ أهل الحبس النقص، وما بين قيمته صحيحًا ومنقوصًا من المشتري، ولم يرجع به على البائع. هذا لفظ الشافعيّ بحروفه، ومن "البويطي" نقلته. ونقل ابن الرفعة هنا وفي الغصب من "المطلب" عن الإمام: أن التسوية في البناء ممكنة إذا كان بغير طين ونحوه من الأحجار، بل بعضها فوق بعض مرصوصًا على هيئة البناء. ثم قال -أعني ابن الرفعة-: إنه يجبر في هذه الحالة على إعادته، كما في طم البئر بترابها، وهذا الذى قاله واضح. قوله: فلو انهدم -أى الجدار المشترك- أو هدماه فامتنع أحدهما من الإعادة فلا يجبر عليها على الجديد، كما لا يجبر على زراعة الأرض المشتركة، ولو كان علو الدار لواحد وسفلها لآخر فانهدمت، فهل لصاحب العلو إجبار صاحب السفل على إعادته ليبنى عليه؟ فيه قولان: ومنهم من قال: القولان فيما إذا انهدم أو هدماه من غير شرط. أنها إذا استهدم، فهدمه صاحب السفل بشرط أن يعيده أجبر عليه قولًا

واحدًا، ويجرى القولان فيما إذا طلب أحدهما إتخاذ سترة بين سطحيهما هل يجبر الآخر على مساعدته؟ انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن القياس على الزرع غير مستقيم، لأنه يجبر الشريك على إجارتها، فيندفع الضرر بذلك. نعم إنما يستقيم القياس على وجه اختاره الغزالي أنه لا يجبر على الإجارة أيضًا. الأمر الثاني: أن هذا القيد الذى قد حكاه الرافعي عن بعضهم في مسألة العلو وساقه مساق الأوجه الضعيفة، لابد من التقييد به، فقد صرح به الشافعيّ في "الأم" وقال في كتاب الصلح المذكور بعد أبواب اللعان ما نصه: ويؤخذ صاحب السفل بالبناء إذا كان هدمه على أن يبنيه، أو هدمه لغير علة، وإن سقط البيت لم يجبر صاحب السفل على البناء. هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. وإذا كان قائل القول قد عين مراده، وصرح بالتقييد، ولاسيما إمام المذهب وجب المصير إليه بلا نزاع، لكن الرافعي -رحمه الله- لم يتيسر له النظر في كثير من الأصول المعتمدة، لاسيما كتب الشافعيّ. الأمر الثالث: أن القولين في السترة محلهما في الإعادة لا في الإنشاء كما يوهم كلامه، فتفطن له. قال في "المطلب": لأن إنشاء الحائط بين الملكين لا يجب على القولين. قوله: فإذا قلنا بالقديم، فأضر الممتنع، أنفق الحاكم عليه من ماله، فإن لم يكن له مال اقترض عليه أو من الشريك في الإنفاق عليه، فلو استقل به

الشريك لم يرجع، وقيل قولان: القديم: نعم، والجديد: لا، وقيل يرجع في القديم وفي الجديد قولان، وقيل: إن لم يمكنه عند البناء مراجعة الحاكم رجع، وإلا فلا. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية الطريق الثانية والثالثة هكذا، وكيف يتصور ما ذكره مع أنه لم يحك عن الجديد إلا عدم إيجاب العمارة؟ ، فكيف يصح ما ذكره في الطريقة الثالثة أنه يرجع عليه على قول؟ ، فلهذا قال في "المطلب": إنه مستنكر في بداية العقول، وكذلك ما ذكره في الثانية، لا يصح أيضًا فتأمله. قوله في "الروضة": فرع: إذا قلنا: لا يجبر الشريك على العمارة فأراد الطالب الانفراد بها، نظر إن أرادها بالنقض المشترك، فللأجير منعه. انتهى كلامه. وما جزم به من المنع غريب، فقد نقل الرافعي عن الإمام والغزالي أنهما صرحا بالجواز، وزاد الإمام على ما نقله عنه الرافعي، فنقل إجماع الأصحاب عليه، وقال في "الكفاية": إنه ظاهر كلام الشيخ في "التنبيه" وغيره من العراقيين والمراوزة، ولم ينقل -أعني ابن الرفعة- مقابله إلا عن "التهذيب"، وفي "المطلب" عن الأول أنه قال: أشبه، والسبب في ذهول الشيخ محيى الدين عن هذا الخلاف أن الرافعي إنما ذكره في آخر المسألة في الكلام على ألفاظ "الوجيز". قوله: وإذا جرت هذه المعاملة -أى بيع حق البناء الجدار-، فلو هدم صاحب السفل أو غيره السفل قبل بناء المشتري، فعلى الهادم قيمة حق البناء، ولو كان الهدم بعد البناء، فالقياس أن يقال: إن من هدم جدار الغير يلزمه إعادته فعليه إعادة السفل والعلو، وإن قلنا: يلزمه أرش

النقض فعليه إعادة أرش نقض الآلات، وقيمة حق البناء للحيلولة. انتهى كلامه. وما ذكره بعد البناء تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: ما سبق في وجوب إعادة الجدار على هادمه. الثاني: أن ما قاله في التفريع على لزوم أرش النقض على الهادم، وهو الصواب كما تقدم، إنما يستقيم إذا كان الهادم غير المالك، وهو قد فرض المسألة في هدم المالك وغيره للإعادة. أما إذا كان الهادم هو المالك، وكان قد هدمه متعديًا فتلزمه الإعادة، وأرش بناء الأعلى، وفى مدة التعطيل تلزمه القيمة للحيلولة، وما قلناه من وجوب الإعادة، قد سبق نقله عن الشافعيّ في المسألة التي قبل هذه، حيث قال: أو هدمه لغير علة، وقياسه أن يأتي أيضًا إذا كان الهدم قبل البناء، المعنى فيه التزام صاحب السفل لصاحب العلو البناء والحمل. قوله: لتكون الإجارة عتيدة. . . . إلى آخره. هكذا عبر به في "الروضة" أيضًا، والعتيد بالعين المهملة والتاء المثناة من فوق هو الحاضر المهيأ. قال الجوهري: ومنه قوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ] (¬1). قوله: وإن أجر أرض غيره لإجراء ماء، وجب بيان موضع البناء فيه، وطولها وعرضها وعمقها، وتقدير المدة. قال في "الشامل": ولابد أن تكون الساقية محفورة، وأن المستأجر لا يملك الحفر. انتهى كلامه. والحفر المذكور في آخر كلامه هو بفتح الحاء وسكون الفاء، على أنه ¬

_ (¬1) سورة ق (23).

مصدر، وقد أوضحه في "الشامل" فقال: قال أصحابنا: وإنما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فأما إذا لم تكن محفورة لم يجز، لأنه لا يمكن المستأجر إجراء الماء بالحفر، وليس له الحفر في ملك غيره، ولأن ذلك إجارة لساقية غير موجودة، فإن حفر الساقية وصالحه جاز. هذا لفظه. ثم نقل عن الأصحاب أيضًا: أنه لا يجوز حفر الساقية في الأرض المستأجرة والموقوفة عليه. وذكر أيضًا: أنه لا يجوز أن يصالح على أن يسقي أرضه من نهر أو عين لأن الماء مجهول. هذا كلامه. وهو مشتمل على فوائد، والعجب من إهمال الرافعي إياها: وتوهم في "الروضة" أن المراد: أن المستأجر لا يملك مكان الحفر، فجعله مسألة مستقلة لا تعليلًا، وضبطه بخطه بضم الحاء وفتح الفاء، فقال: ويشترط كون الساقية، محفورة، وإذا استأجر لا يملك الحفر. هذا لفظه. وهو غريب، فإن المستأجر لا يتخيل إحداث تملك ما استأجره، والمراد من الساقية هو المجراة كما قاله في "الكفاية" وهو واضح. قوله: وتجوز المصالحة عن قضاء الحاجة في حش الغير. انتهى. الحش بالحاء المهملة والشين المعجمة، هو المرحاض وسبق الكلام عليه في باب الاستنجاء.

الفصل الثالث في التنازع

الفصل الثالث في التنازع قوله: ادعى رجل على رجلين دارًا في يدهما، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر ثبت له النّصف بإقرار المصدق، والقول قول المكذب، فلو صالح المدعى المقر على مال، وأراد المكذب أخذها بالشفعة، فإن ملكاها في الظاهر بسببين مختلفين، فله ذلك، لأن لا تعلق لأحد الملكين بالآخر، وإن ملكا بسبب واحد من إرث أو شراء فوجهان: أحدهما: المنع، لأنه يزعم أن الدار ليست للمدعي، وأن الصلح باطل. وأظهرهما: يأخذ لأنَّا حكينا في الظاهر صحة الصلح. انتهي. وما ذكره هنا من إثبات الشفعة مخالف لما ذكره في آخر الإتلافات، قال: ولو وجدنا دارًا في يد اثنين، وادعى أحدهما أن جميعها له، والآخر أنها بينهما نصفين، فصدقنا الثاني بيمينه، لأن اليد تشهد له، ثم باع مدعي الكل نصيبه من ثالث، فأراد الآخر أخذه بالشفعة، وأنكر المشتري ملكه، فإنه يحتاج إلي البينة، ويمينه في الخصومة مع الشريك أفادت دفع ما يدعيه الشريك لا إثبات الملك له. هذا كلامه. والمعنى الذي ذكره في امتناع الشفعة في الموضع الثاني، هو بعينه موجود في المسألة المذكورة في هذا الباب. وقد تلخص من هذا في المسألة خلافًا، وقد صرح به الماوردي فيما إذا شهدت البينة له باليد دون الملك، هل يأخذ بالشفعة أم لا؟ قال في "المطلب": وما قالوه هنا معارض أيضًا لقولهم في الشفعة: أن من

في يده شقص من دار يدعي أنه ملكه، وأراد أخذ ما بيع منها بالشفعة، وكذبه المشتري لم يكن له الأخذ إلا أن يقيم بينة على الملك. قال: إلا أن يحمل كلامهم هنا على ما إذا صدق المقر المشتري على ذلك أو يحمل على حالة عدم التكذيب، ومحل تكليف إقامة البينة على الملك إذا كذبه المشتري. قوله: وأما مسألة الدابة فهي ممنوعة، بل هما سواء على قول أبى إسحاق، وعلى التسليم وهو المذهب. . . . إلى آخره. وأشار بمسألة الدابة إلى قول الغزالي في "الوجيز": أنه إذا تنازع فيها الراكب والقائد، قضي بها للراكب، فقال الرافعي: إنه المذهب. وهذه المسألة ذكرها الرافعي أيضًا في ضمان البهائم، وحكى فيها وجهن من غير ترجيح، واقتضى كلامه جريان الخلاف في السابق أيضًا، وأسقط النووي المسألة من الموضعين وإن تعرض لها أيضًا في غيرها. قوله في الشارع في الجدار بين الملكين: قال الشافعي: ولا أنظر إلى من إليه الدواخل والخوارج ولا التصاق اللبن ولا معاقد القمط. ثم قال: ومعاقد القمط تكون في الجدار المتخذ من قصب أو حصير أو نحوهما، وأغلب ما يكون ذلك في الستر بين السطوح، فيشد بحبال أو خيوط، وربما جعل عليها خشبة معترضة، فيكون العقد من جانب، والوجه المستوي من جانب. انتهى كلامه. والقمط كما قال الأزهري: حبال رقاق. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": قال أهل اللغة: القمط بكسر القاف وإسكان الميم. قال الماوردي والإمام: القمط جمع قماط، وهذا يدل على أنه

مضموم القاف والميم مثل حمار وحمر. قوله: ولو كان لأحدهما عليه جذوع، لم يرجح، لأنه لا يدل على الملك، كما لو تنازعا دارًا في يدهما، ولأحدهما فيها متاع. انتهى. وما ذكره هاهنا من عدم الترجيح بالمتاع، قد ذكر ما يخالفه في آخر الدعاوى في الفصل المعقود لمسائل منثورة، وسنذكر لفظه هناك فراجعه.

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة قوله في "الروضة": وهل الحوالة استيفاء حق كان المحتال استوفى ما كان له على المحيل وأقرضه المحال عليه، أو بيع؟ وجهان: أصحهما وهو المنصوص: أنها بيع. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي أن الشافعيّ لم ينص على الأول، وليس كذلك فقد قال في "الأم" في باب قطاعة المكاتب: ولو كانت للمكاتب على رجل مائة دينار، وحلت عليه لسيده مائة دينار، فأراد أن يبيعه المائة بالمائة لم يجز، ولكن إن أحاله عليه جاز. ثم قال ما نصه: وليس هذا بيعًا، وإنما هو حوالة، والحوالة غير بيع. هذا لفظ الشافعيّ بحروفه، ومن "الأم" نقلته. وحينئذ فيكون الخلاف قولين، وقد أشار إليه الرافعي بقوله: وجهان أو قولان. قوله: وهل يشترط رضى المحتال عليه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. وعن ابن القاض أن المنصوص عليه في "الأم" أنه لا يشترط. انتهى. واعلم أن الشيخ أبا إسحاق قد نقل في "التنبيه" عن النص: أنه لا يشترط، فيكون الخلاف حينئذ قولين لا وجهين. قوله: ولو أحال على من لا دين عليه برضاه، ففي صحة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور، إن قلنا: إنه اعتياض لم يصح، لأنه ليس على المحال عليه شيء يجعله عوضًا عن حق المحتال، وإن قلنا: استيفاء فيصح، فإنه أخذ المحتال حقه وأقرضه من المحال عليه. انتهى كلامه.

ثم قال بعده بقليل: وهل يبرأ المحيل في هذه الحوالة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يبرأ على قياس الحوالات. والثاني -وهو الذى أورده الأكثرون-: أنه لا يبرأ، وقبول الحوالة ممّن لا دين عليه ضمان مجرد. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الأكثرين ثانيًا مخالف لما نقله عنهم أولًا، فإنهم لما صححوا أولا تفريعًا على قول الاستيفاء ومتى وقع الاستيفاء لزمت البراعة فلا يصح منه النص بعد ذلك، والحكم بأنها مجرد ضمان، وهذا الاعتراض وارد أيضًا على "الروضة"، وقد تفطن ابن الرفعة في "الكفاية" لما ذكرناه فقال: إن كلامهم هنا غير مستقيم. قوله: وتجوز الحوالة بالثمن في مدة الخيار، وعليه في أصح الوجهين لأنه صائر إلى اللزوم. ثم قال: ولو اتفق فسخ البيع [انقطعت الحوالة لأنها إنما صحت على تقدير إقضاء البيع] (¬1) إلى اللزوم، فإذ لم يقضِ إليه ارتدت الحوالة. انتهى كلامه. واعلم أن الملك في زمن الخيار موقوف على الأصح في البيع وفي الثمن، فإن تم البيع تبين ملك المشتري للمبيع، والبائع للثمن، وإن لم يتم تبينا أن لا ملك بالكلية، وحينئذ فلا حوالة أصلًا حتى يقال انقطعت، فاعلمه. فإن كلام الرافعي وكلام "الروضة" يقتضيان خلاف الصواب، وفائدة ما ذكرناه البناء على الحول في الزكاة. قوله: ولو كان للسيد على مكاتبه دين معاملة فأحال عليه هل يصح؟ قال في "التتمة": يبنى على أنه لو عجز نفسه هل يسقط ذلك الدين؟ . انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والأصح هو الصحة، كذا صححه في "الروضة". قوله: ومما يدخل في هذا القسم الجعل في الجعالة، والقياس أن يجيء في الجعالة به، وعليه الخلاف المذكور في الرهن به، وفي ضمانه. والذي أجاب به أبو سعيد المتولى: تجويز الحوالة به وعليه بعد العمل، ومنعهما قبله. انتهى كلامه. واعلم أن الخلاف الذي ذكره الرافعي في الضمان والرهن، محله بعد الشروع وقبل الفراغ، والأصح فيه عدم الصحة، فإن كان قبل الشروع لم يصح جزمًا، وإن كان بعد الفراغ صح جزمًا، ومراد المتولي بما بعد العمل هو الفراغ. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد قال: قلت: قطع الماوردي بالمنع مطلقًا والله أعلم. وما ذكره يقتضي إما المنع بعد العمل عند الماوردي وهذا لا يمكن، وإما أن يكون قد اعتقد أن المتولي أجاب بعد الشروع، وليس كذلك. الأمر الثاني: أن هذا التخريج الذي ذكره الرافعي، قد رده في "المطلب" فقال: الحق المنع، لأن الجعل إنما يثبت بعد الفراغ من العمل، والحوالة إما معاوضة وإما استيفاء، وكلاهما لابد أن يعتمد ثانيًا، والدين لم يثبت بعد، وخالف الضمان والرهن لأنه وثيقة والتوثيق يقصد عند وجود السبب الملزم لتحصل النقدية عند الاستحقاق، ولهذا جوز مقرونًا بأحد شقي العقد كما إذا اشتريت منك كذا بكذا، ورهنتك هذا ثمنه. قوله نقلًا عن "التتمة": ولو أحال من عليه الزكاة الساعي على إنسان جاز، إن قلنا: الحوالة استيفاء. وإن قلنا: اعتياض، لم يجز لامتناع أخذ العوض عن الزكاة. انتهى

كلامه. لم يبين هو ولا النووي ولا ابن الرفعة صورة المسألة ويتعين تصويرها بما إذا تلف النصاب بعد التمكن، فإن كان باقيًا فلا دين حتى يحال به، لأن الزكاة تجب في العين. قوله: القسم الثاني: الدين اللازم فيجوز الحوالة به وعليه. . . . إلي آخره. واعلم أن الرافعي قد ذكر قبيل هذه المسألة وبعدها في الكلام على ما إذا أحال المشتري البائع بالثمن: أنه لا يكفي لصحة الحوالة لزوم الدين، بل لابد فيه من الاستقرار، لأن دين المسلم لازم، مع أن أصح الأوجه أنه لا تصح الحوالة به، ولا عليه. واستدركه أيضًا في "الروضة" هنا، وما أطلقناه من اشتراط الاستقرار لا يستقيم، لأن الأجرة قبل الدخول والموت، والثمن قبل قبض المبيع ونحو ذلك غير مستقرة. كما صرحوا به، فالأول في الزكاة، والثاني في الصداق، والثالث في هذا الباب. ومع ذلك تصح الحوالة بها وعليها عندهم، حتي قال في "المطلب": إنه لا شك فيه، وصار ضرر هذه الزيادة أكثر من نفعها. نعم يكفي في إخراج السلم أن يقال: يصح الاستبدال عنه، أو يقال: لا يتطرق إليه السقوط بتعذره في نفسه، وعبر في "الكفاية" بالأول، وفي "المطلب" بالثاني. قوله في أصل "الروضة": الشرط الثالث: اتفاق الدينين، فيشترط اتفاقهما جنسًا وقدرًا وحلولًا وتأجيلًا وصحة وتكسيرًا وجودة ورداءة، وفي وجه تجوز الحوالة بالقليل على الكثير، وبالصحيح على المكسر

وبالجيد على الرديء، وبالمؤجل على الحال، وبالأبعد أجلًا على الأقرب، وكأنه تبرع بالزيادة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من حكاية هذا الوجه من جواز الحوالة بالصحيح على المكسر، وبالجيد على الرديء غلط على العكس [مما ذكره الرافعي، فإنه قال: الثالثة في اشتراط تساويهما في الحلول والتأجيل] (¬1) وجهان: أصحهما: الاشتراط. والثاني: يجوز أن يحيل بالمؤجل على الحال أن للمحيل أن يعجل ما عليه، فإذا حال به على الحال فقد عجل، ولا يجوز أن يحيل بالحال على المؤجل. ثم قال: ولو كان لأحدهما صحيحًا والآخر مكسرًا، فلا حوالة بينهما على الوجه الأول، وعلى الثاني يحال بالمكسر على الصّحيح، ويكون المحيل متبرعًا بصفة الصحة، ولا يحال بالصحيح على المكسر، ولا كان المحتال تاركًا لصفة الصحة، ويخرج على هذا حوالة الأردأ على الأجود. هذا كلامه وتعليله، فانعكس على النووي في بعض الأمثلة دون بعض، وذكر التعليل على حاله. الأمر الثاني: أن الإمام والغزالي قد حكيا وجهًا ثالثًا. أنه يجوز أخذه عنه، وأشار الرافعي لهذا الوجه، وحذفه النووي فلم يذكره في "الروضة". قوله: ولو صالح مع أجنبي عن دين على عين، ثم جحد الأجنبي وحلف، فهل يعود إلى من كان عليه الدين؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قال القاضي حسين: نعم، ويفسخ الصلح وعن حكاية الشيخ أبي عاصم: أنه لا يعود. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو قول القاضي، كذا قال في "الروضة". الثاني: أن صورة هذه المسألة أن يصالح لقطع النزاع. وإن كان المدعى عليه منكرًا إذا اعترف الأجنبي. وإن صالح لنفسه فهو ابتياع الدين من غير من عليه. والأصح عند الرافعي وعند النووي في بعض كتبه: أنه لا يصح كما سبق بيانه في البيع. قوله: ولو أحال المشتري البائع بالثمن على رجل، ثم اطلع على عيب قديم بالعبد فرده، ففي بطلان الحوالة طرق: أحدها: قولان: أظهرهما عند ابن كج والغزالي وغيرهما: البطلان، وهما مبنيان على أنهما بيع أو استيفاء، إن قلنا: استيفاء بطلت أو بيع فلا. والطريق الثاني: القطع بالبطلان، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة وابن أبي سلمة. والثالث: عكسه، وبه قال صاحب "الإفصاح". انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من الطرق هي طريقة القولين، على خلاف ما يشعر به كلامه هنا، فقد صححها في "الشرح الصغير" وجزم بها في "المحرر" وتبعه عليه النووي في "المنهاج"، ولم يصحح في "الروضة" شيئًا من هذه الطرق، ولا حكى أيضًا ترجيحًا عن غيره كما حكاه هنا. الأمر الثاني: أن الراجح في المسألة من حيث هو لا يؤخذ من كلامه هنا، فإنه نقل ترجيح أحد القولين تفريعًا على طريقة لم يصححها وهي

طريقة إثبات القولين، ثم إنه أيضًا عارض ظاهر ذلك الترجيح بظاهر مقتضى البناء، فإن مقتضاه عدم البطلان، فقد صحح في "الشرح الصغير" و"المحرر"، والنووي في "زياداته" فقال: قلت: المذهب البطلان. وصححه في "المحرر" والله أعلم. وحاصله أنه في "الروضة" بين الأصح في المسألة، ولم يبين الأصح من الطرق، وكثيرًا ما يفعل ذلك. قوله في "الروضة": فرع: قال ابن الحداد: إذا أحالها بصداقها، ثم طلقها قبل الدخول لم تبطل الحوالة، وللزوج مطالبتها بنصف المهر، قال من شرح كتابه: المسألة تترتب على ما إذا أحال المشتري البائع، فإن لم تبطل هناك فهنا أولى، وإلا ففي بطلانها في نصف الصداق وجهان. والفرق: أن البطلان سبب حادث لا يستند إلى ما تقدم بخلاف الفسخ، ولأن الصداق أثبت من غيره، ولو أحالها ثم انفسخ النكاح بردتها أو يفسخ أحدهما بعيب، لم تبطل الحوالة على الأصح أيضًا، ويرجع الزوج عليها في صورة البطلان بنصف الصداق وبجميعه في الردة والفسخ، وإذا قلنا بالبطلان فليس له مطالبة المحال عليه، ويطالب الزوج بالنصف في الطلاق. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: (فليس له) غلط وصوابه "فليس لها" أي للمرأة، وأيضًا فقوله: قبله على الأصح أيضًا إنما يستقيم التعبير بلفظة أيضًا، وكلام الرافعي في الموضعين على الصواب، فإنه جمع المسألتين، وصحح فيهما معًا، وعبر بقوله: (فليس لها) فاعلمه. قوله: صورة المسألة أن يبيع عبدًا، ويحيل غريمه بالثمن على المشتري، ثم يتصادق المتبايعان على جزء الأصل، فإن وافقهما المحتال أو قامت بينة إمّا بإقامة العبد أو بأن شهدت حسبة بطلت الحوالة.

ثم قال بعد ذلك: قال صاحب "التهذيب": ولا يتصور أن يقيمها المتبايعان لأنهما كذباها بالدخول في البيع وكذلك ذكره القاضي الروياني انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله هنا عن البغوي والروياني، قد قال به أيضًا البندنيجي وابن الصباغ، وهو الموافق لقاعدة ذكرها الإمام في الضمان، وهو أن من أقدم على عقد كان في ضمنه الاعتراف، بوجود شرائطه حتي لا يسمع منه خلاف ذلك، وجزم به أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير"، وكذلك النووي في "الروضة" لعدم وقوفهما هنا على [خلافه] (¬1)، وذكر هنا بعده ما يوافقه أيضًا كما ستعرفه، والصحيح المنصوص في "الأم" خلافه. وممن قال به أيضًا الروياني على خلاف ما قاله هنا، وقد ذكر الرافعي ذلك في آخر كتاب الدعاوى قبيل باب دعوي النسب بنحو ورقة فقال: فيما جمع من فتاوي القفال وغيره: أنه لو باع دارًا أو ادعى أنها وقف أن العراقيين قالوا: تسمع بينته إذا لم يكن صرح بأنها ملكه، بل اقتصر على البيع، وأن الروياني قال: إذا باع شيئًا، ثم قال: بعته وأنا لا أملكه، ثم ملكته بالإرث، إن قال حين باع: هو ملكي لم تسمع دعواه ولا بينته. وإن لم يقل ذلك بل اقتصر على قوله: بعتك، سمعت دعواه، فإن لم يكن له بينة حلف المشتري أنه باعه وهو ملكه. قال: وقد نص عليه في "الأم"، وغلط من قال غيره، وكذا لو ادعى أن المبيع وقف عليه، هذا كلام الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة" ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

[وهو صريح في مخالفة المذكور هنا وذكر في "الروضة" (¬1) من "زوائده" في آخر الباب الثالث من أبواب الإقرار ما يوافقه أيضًا فقال: قال القاضي أبو الطيب في آخر الغصب: لو باع دارًا ثم ادعى أنها كانت لغيره باعها بغير إذنه، وهي ملكه إلى الآن، وكذبه المشتري، وأراد أن يقيم بينة بذلك، فإن قال: بعتك ملكي أو داري، أو نحو ذلك مما يقتضي أنها ملكه لم تسمع دعواه، وإلا سمعت. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن ما قاله في المتبايعين من كونه لا يتصور منهما إقامة هذه البينة، إن عنى به أنه يستحيل منهما شرعًا طلب أداء الشهادة، فهو محال، بل طلبه جائز مثاب عليه لما يترتب عليه من الحرية، وإن كان عاصيًا أو لا يبيعه. وإن عنى به أنه يمنع صحة الشهادة، فباطل أيضًا قطعًا، لأن ما تسمع فيه شهادة الحسبة يكون وجود الدعوى فيه كعدمها، وإن أراد أن المحال عليه إذا أراد أن يدفع عنه طلب المحتال بهذه البينة، فإنه لا يقيده، فإرادته به صحيحة، غير أن هذا اللفظ لا إشعار له بذلك، ثم إنه يبقي السؤال في جانب المحيل، فيقال بأنه كيف يستحيل إقامة البينة على الحرية عند إنكار المشتري مع أنه لا يثبت له بإقامتها حقًا، بل هو معترف للمحتال بأن حقه باق عليه. الأمر الثالث: أن ما قاله في المتبايعين بتقدير صحته باقي أيضًا في العبد، لأنه إن لم يعترف بالرق حال البيع، بل سكت فالقول قوله بلا بينة وهو واضح. فإن اعترف بها كان مكذبًا لبنيته بالصريح، وهو أقوي من التكذيب الموجود في المتبايعين، وهو الدخول في البيع، وما يتخيل من أن الحرية حق لله تعالى، فتسمع فيها بينة العبد مع التكذيب، فهو بعينه موجود في المتبايعين. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

نعم تتصور المسألة بما إذا كان العبد صغيرًا حال البيع ثم بلغ، وادعى. الأمر الرابع: إذا اعترف المتبايعان بالحرية عتق العبد من غير توقف على تصديق المحتال، وحينئذ فلا تسمع دعوى العبد ولا بينته، فكيف يأتي ما يقوله الرافعي، وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" هذا الإشكال، ثم قال: ووقفت في تعليق القاضي أبي الطيب على تصوير المسألة بما إذا وقع التصادق بعد بيعه لآخر، قال: فإن كان إطلاق الأصحاب محمول على هذه الصورة، فقد اندفع الإشكال، فإن العبد والحالة هذه لا يحكم بحريته. قوله في المسألة: فإن نكل المحتال حلف المشتري، ثم إن جعلنا اليمين المردودة كالإقرار بطلت الحوالة، وإن جعلناها كالبينة فالحكم كما لو حلف، لأنه ليس للمشتري إقامة البينة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن المشتري إنما يحلف إذا كان قد ادعى ذلك، والمعنى الذي ذكره الرافعي في عدم قبوله البينة منه، هو بعينه يأتي في الدعوى. الثاني: وقد ذكره ابن الرفعة في "الكفاية": أنا إذا قلنا بما قاله من أن المشتري ليس له إقامة البينة فينبغي أن لا يحلف إذا جعلنا اليمين المردودة كالبينة، كما ذكره الأصحاب في غير هذا الموضع، لأنه لا يترتب عليه فائدة، فلا معنى له حينئذ، والرافعي جازم بخلافه. الثالث: أن دعواه أنا إذا جعلناها كالبينة تكون كما لو حلف -يعني المحتال- يظهر أنه سهو، وأن صوابه كما لو لم يحلف -أي المشتري- على عكس ما قاله. وذلك لأنه المحتال والحالة هذه قد امتنع من اليمين المتوجهة عليه، وتعذر ترتيب الحكم علي يمين المدعى، فيجيء فيه الخلاف فيما إذا كان

الحق للمسلمين أو الفقراء، أو غير ذلك من نظائره هل يحبس المدعى عليه أو يقضى عليه بالنكول؟ وأما جعل يمين المشتري مغنية عن يمين المحتال والحالة هذه فلا يعقل. قوله: وإن اتفقا على جريان لفظ الحوالة، وقلت: أردت به التسلط بالوكالة، وقال زيد: بل أردت حقيقة الحوالة فوجهان، ذهب المزني وأكثر الأصحاب: إلي أن القول قولك مع يمينك. ثم قال: وعن القاضي حسين القطع بتصديق زيد، وحمل كلام المزني على ما إذا اختلفتما في أصل اللفظ. انتهى كلامه. وما نقله عن القاضي من القطع وتأويل كلام المزني، مخالف للمذكور في "تعليقه"، فإن المذكور فيها تصحيح ذلك لا القطع. قوله في المسألة: وموضع الوجهين ما إذا كان اللفظ الجاري بينكما: أحلتك بمائة على عمر، فأمّا إذا قال: أحلتك بالمائة التى لك على بالمائة التى لي على عمرو، فهذا لا يحتمل إلا حقيقة الحوالة، فالقول قول زيد بلا خلاف. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على دعوي نفي الخلاف في هذه الصورة وعبر بقوله: قطعًا، وليس كما زعماه، بل في "النهاية": أن بعضهم جعل هذا وجهًا ثالثًا، ثم خالفه الإمام ورأى الجزم بجعله حوالة. قوله: التفريع إن جعلنا القول قولك فحلفت، نظر إن قبض زيد ما على عمرو برئت ذمة عمرو لتسليمه ما عليه إلى الوكيل أو المحتال، وحكي الإمام وجهًا ضعيفًا عن رواية صاحب "التقريب": أنه لا يبرأ. انتهى كلامه. وهذا الوجه الذي حكاه، قد أنكر عليه في "المطلب" وقال: لم أرَ في كلام الإمام ما يدل عليه.

قوله: ومنها لك على رجلين مائة على كل واحد خمسون وكل واحد ضامن عن صاحبه، فأحلت شخصًا عليهما، على أن يأخذ المحتال من كل واحد الخمسين جاز، ويبرأ كل واحد عما ضمن، وإن أحلت عليهما بالمائة على أن يأخذها من أيهما شاء، فعن ابن سريج فيه وجهان، وجه المنع: أنه لم يكن له أولًا مطالبة واحد، فلا يستفيد بالحوالة زيادة قدر وصفة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه لم يصحح في "الروضة" شيئًا منهما أيضًا، وقد صحح القاضي أبو الطيب المنع للتعليل المذكور، لكن الأصح عند الشيخ أبي حامد: هو الجواز، لأنه لا زيادة في القدر ولا في الصفة، وصححه أيضًا الجرجاني، وقال المحاملي والروياني: إنه الأشبه. الثاني: أن تعبيره في أوائل المسألة بالخمسين أي بأل الدالة على العهد، وهي التي بطريق الأصالة ليس بشرط فتأمله. وقد بقي قسم آخر، وهو ما إذا أحال على بخمسين، فهل ينصرف إلى الأصلية، أو يوزع أو يكون كوفاء الدين حتى يرجع على المحيل فيما أراده؟ فإن لم يرد شيئًا صرفه ببينته فيه نظر، وفائدته فكاك الرهن الذي على أحدهما. الثالث: أنه لا فرق بين أن يشترط مطالبة أيهما شاء أم لا، كما أشار إليه القاضي أبو الطيب، ولهذا صور المسألة بالإطلاق، والرافعي مثل ذلك للاحتراز عما إذا شرط أن يأخذ من كل واحد خمسمائة.

كتاب الضمان

كتاب الضمان وفيه بابان: الجزء الخامس الباب الأول في أركانه قوله: فأولها المضمون عنه، وهو الأصل، ولا يشترط رضاه لصحة [الضمان] (¬1) وفاقًا إذ يجوز أداء دين الغير بغير إذنه، فالتزامه في الذمة أولي بالجواز. انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق على عدم اشتراط الرضي، ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر"، وتبعه عليه النووي في "الروضة" و"المنهاج"، وسبب هذه الدعوي تقليد الإمام، فإنه ادعى ذلك، وليست الدعوى تصحيحه، فقد حكى القاضي حسين في "تعليقه" وجهًا: أنه يشترط رضاه، وبه قال أبو الحسن في شرح "المختصر"، وممن نقل ذلك ابن الرفعة في "المطلب". قوله: ولو ضمن بغير رضى المضمون به، وصححناه وقلنا: لا يرجع فهل يجب على المضمون له القبول؟ قال الإمام: هو كما لو قال: أدِّ ديني، ولم يشترط الرجوع، [وقلنا: إنه لا يرجع] (¬2). وفي امتناع في هذه الحالة وجهان بناء على أن المؤدي يقع فداء أو موهوبًا ممّن هو عليه، إن قلنا بالثاني لم يكن له الامتناع. انتهى. وهذا البناء الذي نقله عن الإمام، وتابعه عليه في "الروضة" ليس مطابقًا لما في "النهاية"، فإنه قال فيها ما نصه: إذا قال لغيره: أدِّ ديني ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

وقلنا: لا يثبت الرجوع إذا لم يقيد، ففي امتناع مستحق الدين عن القبول وجهان: أحدهما: ليس له الامتناع، وهو الأشهر، فإن المؤدي مستناب من جهة الإذن، وليس لمستحق [الدين] (¬1) تخير في عين المؤدى، فالوجه يقع. الثاني: له الإمتناع، فإنه إذا كان لا يملك الرجوع فالمدفوع إلى مستحق الدين يقع فداءًا أو موهوبًا. فإن كان فداءًا لم يلزمه القبول كما لو كان الأداء بغير إذنه، وإن كان المؤدي في حكم الموهوب ممّن عليه الدين فالهبة إنما يثبت الملك فيها بالقبض، ولمستحق الدين أن يقول: لست أحلت ملكًا لمن عليه الدين بيدي، ولا يلزمني ذلك. هذا كلامه. ومخالفته لما قاله الرافعي ظاهر، ثم ذكر -أعني الإمام- بعده كلامًا آخر فقال: وإذا لم يبعد إلزامه تحصيل الملك للمؤدى عنه مع اقتراض عوضه باشتراط الرجوع لم يبعد الزامه قبض ما تقدر موهوبًا في حق المديون، وهذا أيضًا لا يحقق ما قاله الرافعي، فإن غايته أنه ذكر بحثًا في اللزوم عن القول بأنه هبة يبعد أن جزم بعدمه تفريعًا عليه، وجعل مستند اللزوم شيئًا آخر. قوله: وأما اشتراط الغزالي أهلية التبرع، فقصد بها التجوز عن المحجور عليه بالسفه، ونحى فيه نحو الإمام حيث قال: المحجور عليه، وإن كان تصح عبارته عند إذن وليه فضمانه مردود من قبل أن ينزع، وتبرعات المبذر مردودة، ولا يصح من الولي الإذن فيها. واعلم أن كون الضمان تبرعًا، إنما يظهر حيث لا يثبت الرجوع، فأما ¬

_ (¬1) في أ، جـ: الإذن.

حين ثبت فإنه إقراض لا محض تبرع، ويدل عليه نص الشافعي: على أنه إذا ضمن -أي في مرض موته- بإذن المديون حسب من رأس المال لما فيه من الرجوع وإلا فمن الثلث، فإن أذن فيه الولي -أي في الضمان- فليكن كما لو أذن في البيع. انتهى كلامه. وما قاله الإمام والغزالي هو الصواب، واعتراض الرافعي عجيب. فأما قوله: إن الضمان حيث يثبت الرجوع يكون قرضًا، فليس كذلك، بل القرض إنما هو الأداء، ألا تري أنه لا يثبت للضامن مطالبة المضمون عنه بمجرد الضمان، فكيف يكون قرضًا؟ وأمّا استدلاله بالنص المذكور فلا شاهد فيه له، وذلك لأن تصرف المريض على كل حال صحيح، فإذا ضمن وأدى ثم مات، فإن كان ضمانه بغير إذن فحسابه من الثلث واضح، وإن ضمن بلا إذن فقد تصرف تصرفًا صحيحًا آل إلي ثبوت عوض، فلا سبيل إلى حسبانه من الثلث مع ثبوت البدل، لكن هذا بشرط أن يجد الضامن مرجعًا كما نبه عليه هو -أعني الرافعي- في آخر الضمان، قال: فإن لم يجد ذلك لموت الأصل معسرًا، فهو محسوب من الثلث، وسنذكر كلام الرافعي عقب هذه المسألة لمعنى يتعلق به. وأمّا تخريجه الإذن في الضمان على الإذن في البيع الفاسد، كما قاله النووي، لأن البيع إنما صح على وجه، لأنه لا يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله، وأيضًا فإنه قد يتلف ماله ويبقى المال في ذمته، فيكون التزاما لا في مقابله شيء. وأيضًا فالولي ليس له أن يضمن في ذمة المحجور عليه، فكيف يجوز أن يأذن فيه؟ ، واعترض في "الروضة" أيضًا على كلام الرافعي، فإنه لو سلم أنه كالقرض كان القرض تبرعًا، فلا يصح إذن الولي فيه، ولذلك

اعترض ابن الرفعة به أيضًا، وما قالاه لا يردّ، لأن مراد الرافعي: أنه إذا كان كالقرض فحيث جاز للولي القرض، كان في تعاطي السفيه له بإذن وليه الخلاف في البيع، وهو كلام صحيح، إلا أن الصواب أنه ليس كالقرض. قوله في المسألة من "زوائده": وأمّا ضمان المريض فقال صاحب "الحاوي": هو معتبر من الثلث، لأنه تبرع، فإن كان عليه دين مستغرق فالضمان باطل، كان خرج بعضه من الثلث صح فيه، فلو ضمن في مرضه ثم أقر بدين مستغرق قدم الدين ولا يؤثر بتأخير الإقرار به. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله الماوردي وارتضاه من كون ضمان المريض معتبرًا من الثلث مطلقًا ليس كذلك لما بينه في آخر الباب فقال تبعًا للرافعي: إن كان بحيث يثبت الرجوع، ووجد الضامن مرجعًا فهو محسوب من رأس المال، وإن تم الرجوع أو لم يجد مرجعًا لموت الأصل معسرًا فمن الثلث. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن جزمه ببطلان الضمان إذا كان عليه دين مستغرق مردود أيضًا، بل القاعدة تقتضى صحته وتتوقف بتقيده على وقت الموت، فإن حصلت البراءة من الدين بمال آخر أو إجارة من المستحق استمرت صحته، وإلا حكمنا ببطلانه. قوله: وإن اقتصر السيد على الإذن للعبد في الضمان، فوجهان: أحدهما: يكون في ذمته إلى أن يعتق. ثم قال: وأظهرهما: أنه يتعلق بما يكسبه بعد الإذن، كما لو أذن له في النكاح يتعلق باكتسابه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على تعليقه بالأكساب الحاصلة بعد الإذن، وقالوا في كتاب النكاح: إنه إذا أذن له في النكاح، تعلقت المؤن

بالأكساب الحاصلة بعد النِّكاح، فاعتبروا هناك وقت وقوع المأذون فيه لا وقت الإذن حتي إذا حصل بين الإذن والنِّكاح كسب لا تتعلق به المؤن واعتبروا، وأيضًا العكس، مع أن الصورتين في المعنى على حد واحد فليسوى بينهما. قوله من "زوائده": قلت: لو ثبت على عبد دين بالمعاملة فضمنه سيده صح كالأجنبي. انتهى. وهذه المسألة التي ذكرها على أنها من "زوائده"، قد ذكرها الرافعي في آخر العاقلة في الكلام على جناية العبد، وحكى فيها وجهًا أنه لا يصح مع مسائل أخرى ليست مذكورة هنا. فقال: وهل يجوز ضمان أرش الجناية المتعلق بذمة العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لعدم استقراره في الحال. وأصحهما: نعم كضمان المعسر، وأولى لتوقع يساره وضمان ما يلزم من ذمته بدين المعاملة وأولى بالصحة، ولا خلاف أنه يصح ضمان ما تعلق بكسبه كالمهر في نكاح صحيح، ولو ضمنه السيد فمرتب على ضمان الأجنبي، وأولى بالصحة لتعلقه بملكه. انتهى كلامه، واللفظ "للروضة". والمسألة التى نقلنا هذه المسألة لأجلها هي المسألة الأخيرة، ولا يصح عودها إلى المسألة التي قبلها، وهو المهر، لأنه قد جعل الخلاف مرتبًا على الخلاف، والمهر ليس فيه خلاف. قوله: الركن الرابع: المضمون، ويشترط فيه ثلاث صفات: كونه ثابتًا، ولازمًا، ومعلومًا. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذه الثلاث فقط، مع أن له شرطًا رابعًا نبه

عليه الغزالي، وهو أن يكون قابلًا لأن ينازع به الإنسان على غيره، فخرج حق القصاص وحد القذف والأخذ بالشفعة. قوله: وإذا ضمن ما لم يجب، ولكن سحب ببيع أو قرض ونحوهما فالجديد: منعه، وذكر الإمام أمورًا مفرعة على القديم: إحداها: إذا قال: ضمنت لك ما يبيع من فلان، فباع الشيء بعد الشيء كان ضامنًا للكل، لأن (ما) من أدوات الشرط فتقتضي التعميم بخلاف ما إذا قال: إذا بعت من فلان فأنا ضامن، لا يكون ضامنًا إلا لثمن ما باعه أولًا، لأن -إذا- ليست من أدوات الشرط. انتهى كلامه. وما ذكره من كون ما للشرط، وإذا ليست للشرط قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو بالعكس، لأن ما موصولة لا شرطية. وأما (إذا) فقد صرح بشرطيتها في التعليقات. قوله: وإذا قلنا بالجديد: وهو أنه لا يصح ضمان ما لم يجب فلو قال: أقرض فلانًا كذا وعلى ضمانه فأقرضه قال الروياني: المذهب أنه لا يجوز. وعن ابن سريج تجويزه لأنه ضمان مقرون بالقرض. انتهى. صرح في "الروضة" من الأصل بأن الصحيح المنع. قوله: ولو ضمن نفقة اليوم للزوجة صح، لأنها تجب بطلوع الشمس. انتهى كلامه. وما ذكره من الوجوب بطلوع الشمس وجه ضعيف، والمعروف أنها تجب بطلوع الفجر، كما ذكره هو في كتاب النفقات، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى، وقد أصلحه في "الروضة" فعبر بالفجر، ولم ينبه على أنه من "زوائده" فتفطن له. قوله: وإذا قلنا بالقديم: أنه يجوز ضمان نفقة المستقبل، فله شرطان:

أحدهما: أن يقدر مدة، فإن أطلق لم يصح فيما بعد العد، وفيه وجهان أخذًا من الخلاف فيما إذا قال: أجرتك كل شهر بدرهم، ولم يقدر هل يصح في الشهر الأول؟ انتهي كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق ذلك، وهو إنما يستقيم إذا عبرنا بالأيام فقال مثلًا: ضمنت نفقة زوجتك كل يوم مستقبل، فإن قال: كل شهر، فيكون الوجهان في الشهر الأول. وإن قال: كل سنة، فيكونان في السنة الأولى. قوله: ولو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع معيبًا فرده، أو بأن فساد البيع بسبب غير الاستحقاق، ففيه وجهان: وجه البطلان في فساد البيع إمكان الاستغناء عنه بحبس المبيع إلي استرداد الثمن، قال في "التتمة": المذهب منهما: أنه لا يصح، لكن العراقيون أجابوا بالصحة ورووه عن ابن سريج، ونفى صاحب "البيان" الخلاف فيه. فإن قلنا بالصحة إذا ضمن صريحًا، فقد حكى الإمام والغزالي وجهين في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من أن المشتري شراءًا فاسدًا يحبس المبيع لأجل الثمن ليس هو الصحيح، فقد تقدم في البيوع المنهي عنها ما يناقضه، وأن الأصح عدم الحبس. الأمر الثاني: أن الراجح من الوجهين الأخيرين عدم الدخول، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه أقرب الوجهين، وقال في "الروضة" من "زياداته" بعد هذا بقليل: إنه الأصح، فإن الرافعي قال هناك: ونحن نجمع ما يطالب به ضامن العهدة في فصل.

ثم ذكر هذا الفصل، وذكر هذه المسألة، فلما انتهى إليها النووي صحح عدم المطالبة كما قلناه، ولم يصححه في هذا الموضع، بل حكي وجهين، فافهم ذلك فإنه قد يلبس. ورجحه أيضًا في "الكفاية" فقال: إن الأكثرين عليه. قوله: قال في "الصحاح": العهدة الرجعية، يقال [أبيعك] (¬1) [الملس] (¬2) لا عهدة أي ينملس وينفلت فلا يرجع إلى. انتهى. وقد بين الجوهري هذه في باب السين فقال: وناقة ملسى مثل جفلى أى تَمَلَّس وتمضي لا يعلق بها شيء من سرعتها. ويقال في البيع مَلَس لا عهدة، أي قد انملس من الأجر لا له ولا عليه، ثم ذكر أيضًا الكلام الذي نقله الرافعي عنه. قوله: وأصح الوجهين، وبه قطع بعضهم: جواز ضمان الثمن في مدة الخيار، لأنه ينتهي إلى اللزوم، ثم قال بعد ذلك: والخلاف على ما ذكره صاحب "التتمة": مفروض فيما إذا كان الخيار للمشتري أولهما. أما إذا كان الخيار للبائع وحده صح ضمانه بلا خلاف، لأن الدين لازم في حق من عليه. انتهى كلامه. واعلم أنه قد تقدم في البيع في الكلام على أقوال الملك في زمن الخيار أن الثمن والمبيع لا يجتمعان في ملك شخص واحد، بل حيث قلنا: إن الملك في المبيع للمشتري، فالثمن للبائع، وإن قلنا: للبائع فالثمن للمشتري، وإن قلنا: موقوف فموقوف. وتقدم أيضًا أن هذه الأقوال الثلاثة جارية، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، إلا أن الصحيح أنه إذا كان الخيار لأحدهما كان الملك له. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ: الشيء.

وقيل: محل الخلاف إذا كان لهما، فإن كان لأحدهما فالملك له قطعًا، وعلى هذا فإذا كان الخيار للبائع كان الملك في المبيع له، إما بلا خلاف وإما على الصحيح، وحينئذ فلا ثمن على المشتري بلا خلاف أو على الصحيح فضلًا عن كونه لازمًا، فكيف يتصور أن يقال فيه بصحة الضمان بلا خلاف مع حكاية الخلاف في عكسه؟ إلا أن النقل في "التتمة" كما قاله الرافعي. [قوله: ] (¬1) الثاني: هل الإبراء محض إسقاط كالإعتاق أو هو تمليك المديون ما في ذمته، ثم إذا ملكه سقط وفيه رأيان، إن قلنا: إسقاط: صح الإبراء عن المجهول، وإن قلنا: تمليك، لم يصح، وهو ظاهر المذهب. وحاصل هذا أن الأظهر أنه تمليك، لأنه إن كان الأظهر عائدًا عليه وهو ما يقتضيه سياق الكلام فواضح، وإن كان عائدًا إلى الإبراء فهو لازم أيضًا، لأن جعله لازمًا عن القول بالتمليك، فيلزم من ترجيحه ترجيح الأول، ثم ذكر في "الشرح الصغير" ما يخالفه، فقال في أوائل الوكالة قبل الركن الثاني بقليل ما نصه: وهل يشترط في الإبراء علم من عليه الحق؟ ينبني ذلك على أن الإبراء محض إسقاط أو هو تمليك من عليه الحق، ثم إنه يسقط إن قلنا بالأول لم يشترط علمه وهو الظاهر، وإن قلنا بالثاني فلابد من علمه. انتهى. ولم يصرح في "الكبير" هناك بتصحيح، وقد اختلف كلام النووي أيضًا، فإنه صحح في أصل "الروضة" من الوكالة ما يوافق "الشرح الصغير" مع ذكره للمسألة هنا كما ذكرها الرافعي، فوق في الاختلاف، وقال في باب الرجعة من "زياداته": المختار: أنه لا يطلق ترجيح واحد من القولين، وإنما يختلف الراجح بحسب المسائل لظهور دليل أحد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الطرفين. قوله: ومنها لو كان لأبيه دين على إنسان فأبرأه، وهو لا يعلم موت مورثه، إن قلنا: إنه إسقاط صح، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقتك، وهو لا يعلم موت الأب، وإن قلنا: تمليك فهو كما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي وهو ميت. انتهى كلامه. وما ذكره من أن العتق لا يخرج على القولين في البيع لكونه إسقاطًا، تبعه عليه في "الروضة"، وذكر في كتاب النكاح في أوائل نكاح المشركات ما يوافقه. وخالفه في البيع كما تقدم هناك مبسوطًا فراجعه. قوله أيضًا: ومنها: أنه لا يحتاج إلى القبول، إن جعلناه إسقاطًا، وكذا إن جعلناه تمليكًا في ظاهر المذهب. ثم قال: فإن لم نعتبر القبول ففي ارتداده بالرد وجهان انتهى. والأصح عدم الرد كما قاله في "الروضة". قوله: ولو قال: ضمنت مالك على فلان من درهم إلى عشرة، ففيه قولان على ما رواه صاحب الكتاب والصيدلاني، ووجهان على ما رواه الإمام وآخرون: أظهرهما: الصحة. انتهى. جزم في "المحرر" بأن الخلاف وجهان، وصححه النووي في "الروضة"، ورجح في "الشرح الصغير" عكسه، فقال: فيه قولان، ويقال: وجهان. هذا لفظه. قوله: وإذا قلنا بالصحة فقيل: لزمه عشرة ادخالًا للطرفين، وهو الأصح في "التهذيب".

وقيل: ثمانية إخراجًا لهما، وقيل: تسعة إدخالًا للأول. انتهى ملخصًا. وهذه الأوجه ذكرها أيضًا في نظيره من الإقرار، ونقل ما نقله عن "التهذيب"، ثم نقل عن الشيخ أبي حامد والعراقيين والغزالي، أن الأصح أنه يكون مقرًا بتسعة. ونظير المسألة أيضًا في الطلاق، أن يقول: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، وفيه الأوجه المذكورة، وهى طلقة وطلقتان أو ثلاث، كذا حكاه الرافعي، ونقل عن البغوي تصحيح وقوع الثلاث وفاء ببقاء عدته، ولم يذكر في "المحرر" مسألة الطلاق، وصحح في هذا الباب لزوم العشرة، وعبر بالأصح. وصحح في الإقرار لزوم القسمة، وعبر بالأظهر، وكأنه لما لم يجد التصحيح هنا إلا البغوي، صرح به فوقع في الاختلاف، وقد صرح به أيضًا النووي في أصل "الروضة" من غير نقله عن صاحب "التهذيب"، ثم استدرك عليه وقال: إن الأصح لزوم تسعة، قال: وسنوضحه في الإقرار، وهو اختصار عجيب. لا جرم أن الرافعي في "الشرح الصغير" لم يصحح في هذا الباب شيئًا، ولا نقله عن أحد، بل أحاله على الإقرار. ومن نظائر المسألة ما إذا قال: أعطوه من واحد إلى عشرة. وقد ذكرها الرافعي في كتاب الوصيَّة فقال ما نصه: فعلى الأوجه المذكورة في الإقرار. وحكى الأستاذ أبو منصور عن بعض الأصحاب: أنه إن أراد الحساب فللموصى له خمسة وخمسون، لأن الحاصل من جمع واحد إلى عشرة

على توالي العدد، وإن لم يرد الحساب فله المتيقن وهو ثمانية، ولا شك في اطراد هذا في الإقرار. هذا كلام الرافعي. والذي قاله هذا القائل الأخير متعين، ولا يمكن أن يكون وجهًا آخر كما يوهمه كلام الرافعي، فإنه إذا علم بإخباره أو بغيره أن مراده الواحد والاثنان والثلاثة. . . . إلي آخرها، لزمه المجموع قطعًا فاعلمه، وقد تحصل مما نقله الرافعي في الإقرار أن الأكثرين على إدخال الأول دون الأخير فليكن كذلك هذا، وفي الطلاق فاعلمه. قوله: ولو قال: ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان، وهو لا يعرف مبلغها فهل: يصح في ثلاثة لدخولها في اللفظ على كل حال؟ فيه وجهان كما لو قال: أجرتك كل شهر بدرهم هل يصح في الشهر الأول؟ . وهذه المسائل بعينها جارية في الإبراء. انتهى. ومقتضى هذا أن الراجح صحة الإبراء في المتيقن، لأن المرجح في الشهر الأول أنه لا يصح، ثم ذكر ما يخالفه في الصداق في أوائل الباب الثالث في التفويض، فإنه رجح الصحة في الثلاث على تفريق الصفقة، والراجح التفريق فيكون الأصح فيها الصحة، وسأذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى، ولا ذكر للمسألة في "الشرح الصغير". قوله: فرع: يصح ضمان الزكاة على من هي عليه على الصحيح، وقيل: لا، لأنها حق لله تعالى، فعلى الصحيح يعتبر الإذن عند الأذى على الأصح. انتهى. وصورة المسألة في الضمان عن الحي، أنها عن الميت فيجوز أداء الزكوات والكفارات عنه على الأصح المنصوص، وإن انتفى الإذن كما ذكره في كتاب الوصية، ولا فرق هناك بين أن يسبقه ضمان أم لا.

واعلم أن الزكاة إن كانت في الذمة فواضح، وإن كانت في العين فتظهر صحتها أيضًا كما أطلقوه في العين المغصوبة. قوله: وإذا تلفت العين التي تكفل بردها، وقلنا بوجوب قيمتها، فهل يجب اقتضاء قيمتها إن كانت مغصوبة، أم قيمة يوم التلف، لأن الكفيل لم يكن متعديًا؟ فيه وجهان. انتهى. قال في "الروضة": الثاني أقوى، ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". قوله: ومنها الميت قد يستحق إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا تحملوها كذلك، ولم يعرفوا اسمه ونسبه إذا كان كذلك صحت الكفالة ببدنه. انتهى كلامه. وما ذكره من صحة الكفالة ببدن الميت، قد صرح به أيضًا بعد ذلك في الكلام على ما إذا مات المكفول به، لكنهم قد ذكروا أن شرط صحة الكفالة إذن المكفول به، أو من يقوم مقامه كولى الصبي والمجنون، وقياسه اشتراط إذن الوارث في مسألتنا، وقد أبداه في "المطلب" بحثًا، فقال: الظاهر اشتراطه، وسكت عن من يعتبر إذنه، والظاهر أنه جميع الورثة. قوله: ومنها قال الإمام: لو تكفل رجل ببغداد رجلًا بالبصرة، فالكفالة باطلة، لأن من بالبصرة لا يلزمه الحضور بغداد في الخصومات، والكفيل فرع المكفول بدنه، فإذا لم يجب عليه الحضور لا يمكن إيجاب الاحضار على الكفيل. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله الإمام إنما هو تفريع على أن المكفول ببدنه لا يلزمه إحضاره من مسافة القصر، والصحيح خلافه، فيكون الصحيح في مسألتنا خلاف ما قاله الإمام، كذا نبه عليه الرافعي بعد هذا بنحو ورقتين فاعلمه.

وقد نقله في "الروضة" إلي هذا الموضع. قوله: لو مات المكفول به، لم يطالب الكفيل بمال في أصح الوجهين، فإن قلنا: يطالب، فهل يطالب بالدين أو الأقل من الدين ودية المكفول به؟ فيه وجهان بناء على القولين في أن السيد يفدى الجاني بالأرش، أم بأقل الأمرين من الأرش وقيمة العبد؟ انتهى. قال في "الروضة": المختار المطالبة بالدين، فإن الدية غير مستحقة بخلاف قيمة العبد. قوله من "زياداته": ولو مات المكفول له بقى الحق لوارثه، فإن كان له غرماء وورثه وأوصي إلى زيد بإخراج ثلثه، لم يبرأ الكفيل إلا بالتسليم إلى الورثة والغرماء والموصى فلو سلم إلى الورثة والغرماء والموصى لهم دون الموصى، ففي براءته وجهان حكاهما ابن سريج والله أعلم. وما ذكره هاهنا في البراءة من الدين عند اجتماع المذكورين قد ذكره في آخر كتاب الكتابة مبسوطًا، ومخالفًا أيضًا للمذكور هنا. قوله: ولو قال: دين فلان إلى، ففي كونه صريحًا وجهان. قال في "الروضة": أقواهما: عدم الصراحة، ولم يذكرها في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير". قوله: ضمن عن رجل ألفًا، وشرط للمضمون له أن يعطيه كل شهر درهمًا ولا يحبسه من الضمان، فالشرط باطل وفي بطلان الضمان وجهان. انتهى. والأصح البطلان، كذا صححه في "الروضة". قوله: ولو ضمن دينا أو كفل ببدن إنسان، ثم ادعى أنه كفل ولا حق عن المضمون عنه أو المكفول ببدنه، فالقول قول المكفول له، لأن الضمان والكفالة لا تكون إلا بعد ثبوت الحق. انتهى كلامه.

وليس المراد بالثبوت هنا هو الثبوت عند الحكم ولا الشهادة عليه بذلك ولا اعترافه به، فإن الثبوت بهذا المعنى لا يشترط على الصحيح كما سبق في أوائل الكلام على الكفالة، بل المراد هو التحقيق والوجوب عليه، سواء كان معترفًا به أم لا، ويدل عليه أن صورة المسألة التي ذكر فيها هذا التعليل أن يدعي أنه كفله ولا حق عليه، والكفالة في هذه الصورة لا تصح بلا خلاف إذا وافقه المكفول له على ذلك، ولهذا لم يذكر في "الروضة" هذا التعليل، بل اقتصر علي صورة المسألة.

الباب الثاني فيما يترتب على الضمان الصحيح

الباب الثاني فيما يترتب على الضمان الصحيح قوله: أصل مسائل الفصل وجهان خرجهما ابن سريج في أن مجرد الضمان هل يثبت حقًا للضامن على الأصل ويوجب علقة بينهما أو لا؟ ، ففي وجه يوجب لأنه اشتغلت ذمته بالحق، كما ضمن فيثبت له عوضه على الأصيل، وفي وجه لا لأنه لا يفوت عليه قبل الغرم شيء فلا يثبت له شيء إلا بالغرم. إذا عرفت هذا فلو طالب المضمون له الضامن بأداء المال، كان له إذا ضمن بالإذن أن يطالب الأصيل بتخليصه، وذلك بأن يؤدي ما عليه فيبرأ الضامن، وهل يطالب بالتخليص قبل أن يطالب؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. ثم قال: وينبنى على الأصل السابق أنه هل يتمكن الضامن من تغريم الأصل قبل أن يغرم؟ إن أثبتنا له حقًا على الأصيل بمجرد الضمان فله أخذه، وإلا فلا. ومنها أن الضامن هل يحبس الأصيل إذا حبس؟ إن أثبتنا العلقة حبسه وإلا فلا، وهو الأصح. انتهى ملخصًا. وما ذكره في آخر كلامه من تقييد محل الخلاف بما إذا حبس الضامن، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، وهو غير مستقيم، لأن القائل بثبوت المال عليه بمجرد الضمان كيف يتصور أن يمنع من حبسه عليه؟ ، ويدل عليه جواز تغريمه قبل أن يغرم، كما سبق من كلام الرافعي، فالصواب ما قاله في "المطلب": أنه لا يشترط.

واعلم أن تصحيح المطالبة بالخلاص مع تصحيح عدم الحبس كالمتنافي، لأنه إذا علم أنه لا يحبس لم يبال بالمطالبة بالخلاص، فلا يبقى لها كثير فائدة، حتى قال في "المطلب": إنه لا يرسم عليه أيضًا، والمتجه عند من أثبت له حق المطالبة بالخلاص: أن يجوز حبسه عند امتناعه من هذا الحق. قوله: ولو ضمن بغير إذن وأدى بإذن، فأصح الوجهين: أنه لا يرجع، فلو أذن في الأداء والحالة هذه شرط الرجوع، ففي الرجوع احتمالان للإمام في "الروضة" فقال: الأصح أنه يرجع. وهذه المسألة قد ذكرها الماوردي، وجزم بالرجوع، لكنه صور المسألة بما إذا قال: أدِّ عني ما ضمنته ليرجع به عليه أعني بزيادة قوله: (عني) -والظاهر أن هذه الزيادة ليست للتقييد ويتجه أن يقال في أصل "الروضة": إنه إن أدى لأجل الضمان لم يرجع، وإن أدي لأجل الأذن رجع. وهو نظير ما قاله بعضهم في العبادة المكره عليها إن أتي بها لداعي الإكراه لم تصح أو لداعي الشرع صحت، ولم يذكر المسألة في "المحرر"، ولا في "الشرح الصغير". قوله: فإن كان ما دفعه إلى رب الدين من جنس الدين وعلى صفته رجع به. انتهى. ومقتضاه أنه يرد المثل في المتقدم أيضًا، وهو كذلك. فاعلمه، فقد صرح الرافعي بعد هذا بأن الأداء في ضمنه إقراض المؤدى عنه، والصحيح في القرض رد المثل، وذكره الإمام هنا بحثًا فقال: لا يمنع تخريجه عليه، كذا نقله عنه الرافعي في الكلام على ضمان المجهول، وقد صرح -أعني الإمام- بحكاية ذلك عن رواية القاضي في أوائل السلم.

قوله: وصيرورة الدين ميراثًا للضامن، كالأداء في ثبوت الرجوع وعدمه. هذا لفظ الرافعي بحروفه. وتابعه عليه في "الروضة"، وأشار بقوله: في ثبوت الرجوع إلى الضمان بالإذن، وبقوله: وعدمه إلى الضمان بغير الإذن. وما قاله في هذا الموضع غلط، وذلك لأن الضامن إذا ورث الدين الذي ضمنه فلا شك أن ذمته تبرأ من الضمان، لأنه يستحيل أن يكون ضامنًا لنفسه. وأما ما في ذمة الذي كان قد ضمنه وانتقل إليه بالإرث فباقٍ بلا شك، لأنه لم يوجد شيء مما يقتضي إسقاطه من أداء أو إكراه، وغير ذلك، ولم يوجد سوي براءة ذمة الكفيل لمانع شرعي من بقاء الضمان، ولا يلزم من براءة ذمة الكفيل براءة ذمة الأصيل، وحينئذ فتثبت له مطالبته، كان ضمنه لغير الأذن فلا يتصور ما قاله الرافعي من عدم الأخذ من المضمون عنه، المعبر عنه بعدم الرجوع إذا ضمن بالإذن، لأن الرجوع عليه إنما يكون على تقدير أن يكون قد أبرأ ذمته بما أعطاه، وهاهنا ليس كذلك كما قلناه غير أن الضامن من قد ورثه فيطالبه به لكونه وارث صاحب الدين. قوله: ولو قال المضمون له: بعتك هذا العبد بما ضمنته لك على فلان، ففي صحة البيع وجهان حكاهما الأستاذ أبو منصور، فإن صححنا فهل يرجع بما ضمنه أم بالأقل مما ضمنه من قيمة العبد؟ قال: فيه وجهان. انتهى. قال في "الروضة": المختار صحة البيع، وأنه يرجع بما ضمنه، ولا ذكر للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". قوله: ولو ضمن ذمي لذمي دينًا على مسلم، ثم تصالحا على خمر فهل يبرأ المسلم؟ فيه وجهان.

فإن قلنا: يبرأ ففي رجوع الضامن وجهان. انتهى. قال في "الروضة": الأصح أنه لا يبرأ أو لا يرجع، ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر" أيضًا. قوله في "الروضة": وليست كما لو قال: أدِّ دين فلان، حيث لا يرجع قطعًا على الآمر، لأن الحق لم يتعلق بذمته. انتهى. وما ادعاه من نفي الخلاف قلد فيه الغزالي في "الوسيط"، فإنه عبر أيضًا بقوله: قطعًا. وليس كذلك، فقد حكى في "البحر" في المسألة وجهين ونقلهما عنه أيضًا في "المطلب". قوله: ولو أشهد -يعنى الضامن- على الأداء واحدًا اعتمادًا على أن يحلف معه فوجهان: أصحهما: أنه يكفي لأن الشاهد مع اليمين حجة كافية لإثبات الحق. والثاني: لا، لأنهما قد يترافعان إلى حنفي بشاهد ويمين. انتهى كلامه. وصورة محل الخلاف أن يموت الشاهد أو يغيب، فإن كان حاضرًا وشهد وحلف معه الضامن، فإنه يرجع وجهًا واحدًا، كذا نقله في "الكفاية" عن القاضي والبندنيجي وكذلك المتولي. وألحق بحال موته ما إذا رفعت الخصومة إلى من لا يرى القضاء بالشاهد واليمين. [قوله] (¬1) ولو قال الضامن: من أشهدت وماتوا وأنكر الأصيل الإشهاد، فأصح الوجهين أن القول قول الأصيل، ولا رجوع لأن الأصل عدم الإشهاد، ولو قال الشاهدان: لا ندري، وربما نسينا ففيه تردد للإمام. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية هذا التردد من غير ترجيح والإمام بعد حكايته له رجح عدم الرجوع، وجعله أولى بذلك من دعواه، موت الشهود. قوله: وإذا أخذ المال من الكفيل مرة ثانية لإنكار رب المال، فهل يرجع بالمغروم أولًا، لأنه مظلوم بالثاني أم يرجع بالثاني لأنه المسقط للمطالبة؟ فيه وجهان: قال في "الروضة": ينبغي أن يرجع بأقلهما، لأنه إن كان الأول فهو يزعم أنه مظلوم بالثاني، وإن كان الثاني فهو المبريء، ولأن الأصل من الزائد. والله أعلم. وما ذكره النووي بحثًا وأشعر كلامه بعدم الوقوف عليه، قد سبقه إليه ابن الصباغ في "الشامل" فقال بعد حكاية الوجهين: وينبغي عندي أن يرجع بأقلهما لأن الأول إن كان أقل فهو لا يدعي إلا هو، وإن كان الثاني أقل فهو الذي استحق به الرجوع في الحكم، فلا يرجع بأكثر منه. هذا كلامه. وجزم به أيضًا في "التتمة" وحكى في "البحر" أربعة أوجه: أحدها: هذا. والثاني والثالث: الوجهان السابقان. والرابع: أنه يرجع بأحدهما لا بعينه، لأنه وجب له على المضمون عنه ألف من غير تعيين. ثم نقل عن القاضي أبي الطيب أنه قال: إنه الصحيح عندي، لكن الذي صححه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" إنما هو الرجوع بالثاني.

[باب] الشركة

[باب] (¬1) الشركة قوله: ثم إنْ عَيَّنَ الشريك جنسًا. . . . إلى آخره. أهمل قسمًا ثالثًا وهو ما إذا أطلق الإذن، ولم يتعرض لما يتصرف فيه. قال في "الروضة": والأصح فيه الجواز كالقراض. قوله في "الروضة": تجوز الشركة في النقدين قطعًا، ولا تجوز في المتقومات قطعًا؛ وفي المثليات قولان: أظهرهما: الجواز. انتهى كلامه. وما ذكره من نفي الخلاف في المتقومات ليس كذلك، فقد ذهب أبو الحسن الجوري -بضم الجيم والراء المهملة- في "شرح المختصر" إلى الجواز فقال: الصحيح عندي جواز الشركة في العروض كلها إذا استوت قيمتها سواء كانت من جنس واحد أو أجناس، وقد نقله عنه أيضًا في "المطلب". قوله: فأما [غير] (¬2) المضروب من التبر والحلي والسبائك، فقد أطلقوا منع الشركة فيها، لكن يجوز أن يقال: إن جعلناه متقومًا لم يجز، وإن جعلناه مثليًا ففيه الخلاف في المثليات. انتهى. ودعواه أنهم أطلقوا المنع غريب، فقد حكى صاحب "التتمة" في انعقاد الشركة على التبر والنقرة الوجهين في المثليات، موافقًا لبحث الرافعي، ونقله عنه أيضًا في "الروضة" والنقرة هي السبيكة كما قاله الجوهري فتفطن له. ولهذا قال الشافعي في الغصب من "الأم": لو غصب نقرة فضربها ¬

_ (¬1) في جـ: كتاب. (¬2) سقط من جـ.

دنانير أو دراهم فلا شيء له. قوله: وأما الدراهم المغشوشة، فقال الروياني: لا تصح الشركة فيها خلافًا لأبي حنيفة. وقال في "العدة": الفتوى على الجواز. انتهى. والأصح ما قاله في "العدة"، كذا صححه في "الروضة"، قال: والمراد بصاحب "العدة" هنا هو أبو المكارم الروياني. قلت: وهو ابن أخت صاحب "البحر" كما ذكره الرافعي في النفقات في الكلام على الفسخ بالإعسار، وفي القضاء بالتحكيم، واحترز بذلك عن "العدة" لأبي عبد الله الحسين الطبري، والأمر كما قاله النووي، فقد راجعت عدة أبي الحسين فلم أجده قد تعرض للمسألة بالكلية. قوله: لأحدهما دنانير وللآخر دراهم، فابتاعا شيئًا بهما يقوم ما ليس نقد البلد منهما بما هو نقد البلد، فإن استويا في القيمة فالشركة على التساوي، وإلا فعلى الاختلاف. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذلك، وينبغي أن يعلم أن هذه المسألة يجيء فيها القولان فيما إذا كان لرجلين عبدان، لكل واحد عبد، فباعهما بثمن واحد، لأن الثمن المعين كالمبيع. والعلة في القول الذي صححوه هناك وهو البطلان أن حصة كل واحد منهما من الثمن مجهولة حالة البيع، وإن كانت تعلم بالتقويم، وهاهنا حصة كل واحد من المبيع مجهولة، وإن كانت بالتقويم تعلم أيضًا. وحينئذ فيكون الأصح على ما قاله في تلك المسألة، هو البطلان هنا، وهذا التخريج واضح، وقد صرح به صاحب "الشامل"، وأشار إلى أن

البيع لابد أن يكون بعين النقدين، وعزاه إلى الأصحاب، وإلى أنه لابد من تقويم الثوب، فإنه قال: إذا أراد القيمة نظر إلى نقد البلد فقوما الثوب به، وقوما مال الآخر به، ويكون التقويم حين صرف الثمن. هذا كلامه. قوله في "الروضة": شركة الوجوه، وقد فسرت بصور، ثم قال: والثالثة: أن يشتري وجيه لا مال له، وخامل ذو مال ليكون العمل من الوجيه، والمال من الخامل ويكون المال في يده لا يسلمه إلي الوجيه والربح بينهما. انتهى. وتعبيره بقوله: يشتري بالياء هو كذلك في خطه أيضًا كما هو في النسخ، وهو تحريف، وصوابه أن يشترك بالكاف كما وقع في الرافعي. قوله في أصل "الروضة": الثالثة: استأجر رجل الراوية من صاحبها والحمل من صاحبه، واستأجر أيضًا المستقي لاستقاء الماء، وهو مباح، نظر إن أفرد كل واحد بعقد صح. والماء للمستأجر وإن جمع الجميع في عقد واحد ففي صحة الإجارة قولان كمن اشترى عبدين لرجلين بثمن واحد، فإن صححنا وزعت الأجرة المسماة على أجود الأمثال، وإلا فلكل واحد عليه أجرة المثل، ويكون الماء للمستأجر. ثم قال ما نصه: وموضع القولين إذا وردت الإجارة على غير المستقى، والحمل والراوية. فأما إذا التزم ذممهم فتصح الإجارة قطعًا. انتهى كلامه. وحاصل عبارته أنه إذا التزم رجلًا جملًا في ذمته، وآخرا راوية في ذمته، وأخر الاستقاء في الذمة على الحمل المذكور والراوية صحت

الإجارة، وهو باطل قطعًا لأن المعنى المقتضي للإبطال في إجارة العين موجود بعينه هاهنا. وهذا الوهم سببه إسقاط كلمة من الرافعي، فإنه قال: فأما إذا ألزم ذممهم السقي، وعلى هذا التقدير لا إشكال في الصحة، لأن كل واحد ليس متميزًا عن الآخر باستئجار شيء منه. قوله: ومنها لواحد البذر ولآخر آلة الحرث ولآخر الأرض، واشتركوا مع رابع ليعمل ويكون الريع بينهم فالزرع لصاحب البذر، وعليه لأصحابه أجرة المثل، قال في "التتمة": فلو أصاب الزرع آفة ولم يحصل من الغلة شيء فلا شيء لهم، لأنهم لم يحصلوا له شيئًا، ولا يخفى عدول هذا الكلام عن القياس الظاهر. انتهى. قال في "الروضة": الصواب ما قاله المتولي، وتبعه عليه في "المطلب" أيضًا، وعلله بأن منافعهم والحالة هذه قد تلفت تحت أيديهم، وإنما ضمنها إذا لم يتلف الزرع لحصول منفعتهم له، وهذا الذي ذكراه غير مستقيم، بل الصواب ما قاله الرافعي، فإنهم قد اتفقوا في القراض الفاسد على أن العامل حيث استحق الأجرة، لا فرق بين أن يحصل في المال ربح أم لا، والمعني المذكور في الشركة موجود بعينه في القراض. قوله: تنفسخ الشركة بموت أحدهما، وحينئذ فللوارث تقرير الشركة، وإنما يتقرر بعقد يستأنف. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه، وهو يقتضي أنه لابد أن يوجد ما يوجد في الابتداء، لكن إذا انفسخ القراض جاز عقده بلفظ التقرير والترك ونحوهما على الأصح، لكن يشترط أن يكون ما يجوز القراض عليه في الأصح بخلاف القرض، وقياس هذا منه انعقاده به أيضًا.

وبه جزم القاضي الحسين وابن الرفعة في "المطلب". قول: فإن تساويا في المال، وشرطا التفاضل في الربح، أو تفاضلا في المال وشرطا التساوي في الربح فسد العقد. ثم قال: ونقل الإمام خلافًا للأصحاب في أن الشركة تفسد بهذا الشرط أو يطرح الشرط والشركة بحالها لنفوذ التصرفات، ويوزع الريح على المالين، ولم يتعرض غيره لحكاية الخلاف. انتهى كلامه. وهذا الخلاف الذي أنكره، وتابعه في "الروضة" على نحوه أيضًا قد صرح بحكايته الماوردي في "الحاوي" و"الروياني" في "البحر".

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة فيه ثلاثة أبواب: الباب الأول في أركانها الركن الأول: ما فيه التوكيل قوله: فلو وكل غيره بطلاق زوجة سينكحها أو بيع عبد سيملكه، أو إعتاق كل رقيق يملكه، أو بتزويج ابنته إذا انقضت عدتها أو فارقها زوجها، وما أشبهه. فقيل يصح، وبه أجاب القفال والبغوي، والأصح عند العراقيين والإمام وبه أجاب الغزالي: بطلانه. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، ومقتضاه أن الأكثرين على المنع، ولهذا صرح به في أصل "الروضة"، وصححه في "المحرر" أيضًا فقال: إنه أظهر الوجهين، إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أنه قد ذكر في كتاب النكاح ما يخالف ذلك فقال في باب بيان الأولياء في المانع الرابع، وهو الإحرام ما نصه: لو جرى التوكيل في حال إحرام الموكل أو الوكيل أو المرأة، نظر إن وكل لينعقد في حال الإحرام: لم يصح. وإن قال: ليزوج بعد التحليل صح، لأن الإحرام يمنع العقد دون الإذن، ومن ألحق الإحرام بالجنون لم يصححه، ولو أطلق التوكيل فهو كالتقييد بما بعد التحليل. انتهى لفظه. والصحيح أن الإحرام لا يلحق بالجنون، [وحينئذ] (¬1) فيكون الصحيح صحة هذا التوكيل على عكس ما قاله هنا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وذكر في "الروضة" في الباب المذكور، وهو باب الأولياء ما يوافق هذا أيضًا فقال: فرع: في "فتاوى البغوي": أن التي يعتبر إذنها في تزويجها إذا قالت لوليها وهي في نكاح أو عدة: أذنت لك في تزويجي إذا فارقني زوجي أو انقضت عدتي، فينبغي أن يصح الإذن، كما لو قال الولي للوكيل: زوج بنتي إذا فارقها زوجها أو انقضت عدتها، وفي هذا التوكيل وجه ضعيف: أنه لا يصح، وقد سبق في الوكالة. انتهى لفظه. ومراده بقوله: (وفي هذا التوكيل) يعني الصورة المقيس عليها، فإنه الذي سبق ذكره في الوكالة [إذا علمت المقصود ظهر لك أن ما ذكره غريب فإنه صحح عكس ما صححه هنا، وزاد على ذلك فادعى أن مقابله ضعيف، سبق في الوكالة] (¬1) مع أنه قد سبق فيها أنه هو الصحيح. واعلم أن الرافعي لم يرجح شيئًا في هذه المسألة، بل ذكرها قبيل كتاب الصداق من غير ترجيح، فنقلها النووي إلى الموضع المذكور أولًا، ثم رجح ما رجح. وبالجملة فالراجح ما قاله هنا، فإن مقتضى كلامه أنه رأي الأكثرين. وأما ما ذكره الرافعي في النكاح حكاية، قلد فيه البغوي. واعلم أنا إذا صححناه فمحله إذا لم يصرح بتعليق الوكالة، فإن صرح كما لو قال: إذا طلقت بنتي أو انقضت عدتها، فقد وكلتك بتزويجها، فهل يصح هذا التوكيل؟ فيه القولان المعروفان في تعليق الوكالة، كذا قاله الرافعي في النكاح في الكلام على الإحرام، وفي الكلام على التوكيل فيه أيضًا، وحينئذ فيكون الراجح عدم الصحة، ولكن ينفذ التصرف. الأمر الثاني: أن شرط الاعتداد بإذن الأب في نكاح غير البكر تقدم إذن المرأة كما ذكروه في كتاب النكاح، وحينئذ فتكون صورة المسألة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأخيرة من المسائل المذكورة أولًا أن تكون بكرًا، أو يموت عنها زوجها أو يطلقها. الأمر الثالث: أن ما حكاه عن البغوي يقتضي أنه يقول بالصحة، مع تنكير العبد والمرأة وغيرهما، وليس كذلك، بل شرطه عنده أن يكون معينًا، فقد رأيت في "فتاويه" -أعني البغوي- ما نصه: إذا قال: وكلتك بتزويج ابنتي إذا طلقت، أو إذا اشتريت العبد الفلاني فأعتقه صح، وإن قال: وكلتك بإعتاق عبد أشتريه لا يصح، لأن التصرف فيه غير معين بخلاف الأوليين. ولو قال: وكلتك، فإذا صار هذا الخمر خلا فبعه صح. ولو قال: وكلتك بتزويج الحمل الذي في بطن زوجتي لا يصح، لأنه غير معلوم. هذا كلام البغوي. ويظهر أن يكون التعميم كقوله: كل عبد بمثابة التعيين في الصحة. الأمر الرابع: أن هذا الخلاف هل هو خاص بما إذا خصص ما سيملكه بالتوكيل حتى إذا جعله مثلًا بائعًا لأمواله الموجودة فقال: وكلتك في بيع أموالي وما سأملكه يجوز كما قالوا به في الوقف، فإنه لو قال: وقفت على من سيولد من أولادي، فإنه لا يجوز، ولو قال: على أولادي ومن سيولد لي جاز، أم الخلاف جار في الصورتين؟ فيه كلام يأتي في الكلام على ما إذا وكله في شراء شاة فاشترى شاتين. قوله: ويستثنى من جنس الصلاة ركعتا الطواف. انتهى. واعلم أن شرط النيابة في هاتين الركعتين أن يكون ذلك تبعًا للحج أو العمرة حتى لو أفردهما بالتوكيل لم يصح، وقد صرح بذلك الرافعي في كتاب الوصية. قوله: وفي الظهار وجهان بناء على أن المغلب فيه معنى اليمين أو

الطلاق، والظاهر عند العظم منع التوكيل فيه. انتهى لفظه. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وظاهره يقتضي أن الراجح تغليب شبه اليمين، ولكن الذي صححه في آخر باب الظهار، وتابعه عليه في "الروضة"، أن المغلب شبه الطلاق، وهذا البناء الذي يقتضي بظاهره المخالفة، لم يذكره في "الروضة". قوله: ولو أسلم على أكثر من أربع نسوة فوكل بالاختيار أو طلق إحدي امرأتيه أو إحدى عبديه، ووكل بالتعيين لم يصح. انتهى كلامه. ومحله إذا لم يعين المرأة، أنها لو أشار إلى واحدة، وقال: وكلتك في تعيين هذه للطلاق أو النكاح، أو أشار إلى أربع من المسلمات وقال: وكلتك في تعيين النكاح فيهن كان كالتوكيل في الرجعة حتي يصح علي الصحيح، كذا نقله في "الروضة" من "زياداته" عن "التتمة"، وأقره، ولكن ينبغي أن يعلم أن الطلاق اختيار للنكاح كما ذكره في بابه، فتعيين الزوجة بقوله: للطلاق أو النكاح، يوهم خلافه، ولو عبر بالفراق لكان أصوب. قوله: لكن ما هو على الفور من الفسوخ قد يكون التأخير بالتوكيل، فيه تقصيرًا. انتهى. وتعبيره بقوله: قد يكون ليس لتردده في ذلك فافهمه، بل للحكم به مرّة وعدمه أخرى، فإذا اطلع مثلًا على العيب وهو يأكل أو في حمام أو ليل، فإنه لا يلزمه المبادرة ولا التلفظ بالفسخ، فإذا وكل لم يكن تقصيرًا قطعًا. وإذا حضر عند المالك مثلًا، أو القاضي ولم يفسخ، بل وكل في ذلك كان تقصيرًا كما جزم به صاحب "التتمة" وغيره. وأما ما يكون على التراخي من الفسوخ كالإعسار بالنفقة وغيره

فواضح. قوله: نعم يمتنع توكيل الذمي المسلم في أداء الجزية على رأي مذكور في الجزية. انتهى. تابعه في "الروضة" علي تقييد الوجه بالمسلم، وهو باطل فإن الخلاف ينبني على أن أخذ لحيته وضرب لها ذمه ونحوها واجب أو مستحب. وإذا قلنا بوجوبه فيمتنع توكيل الذمي كالمسلم لأن التوكيل فيما وجب عليه من عقوبة باطل. قوله: وفي التوكيل في تملك المباحات كإحياء الموات وجهان. انتهى. حكاه في "الشرح الصغير" وجهين أيضًا، واعترض عليه في "الروضة" فقال: قلد في حكايتهما وجهين بعض المراوزة وهما قولان مشهوران، وهذا الاعتراض لا يستقيم، فقد قال القاضي أبو الطيب بعد تعبيره بالقولين أنهما مخرجان من القولين في مسألة الاشتراك في البغلة والراوية والاستقاء، وكذا قال القاضي حسين في آخر باب الشركة بعد تعبيره بالوجهين، وقد تقرر أن الخلاف المخرج في الحقيقة معدود من الوجوه. قوله من "زياداته": قال ابن الصباغ: ولا يصح التوكيل في الالتقاط قطعًا، كما لا يجوز في الاغتنام، فإن التقط أو غنم كان له دون الموكل. وقال صاحب "البيان": ينبغي أن لا يكون الالتقاط على الخلاف في تلك المباحات. وما قاله ابن الصباغ أقوى. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من ترجيح القطع بعدم الصحة، ولم ينقل خلافه إلا بحثًا عن "البيان"، قد جزم بعكسه في آخر اللقطة، وسأذكر لفظه هناك

إن شاء الله تعالى وجزم الروياني في "البحر" بأنه للملتقط، ولم يخرجه على الخلاف، وهو يقوي ما رجحه النووي هنا، ومثار التردد في الالتقاط أن الالتقاط فيه شائبة الاكتساب، وشائبة الولاية كما ذكره في بابه. قوله: وإذا قلنا: لا يصح التوكيل بالإقرار، فهل يجعل مقرًا بنفس التوكيل؟ فيه وجهان. . . . إلى آخره. والأصح أنه يكون مقرًا، ونقله في "الروضة" عن الأكثرين، قال: ولو قال: أقر عني لفلان بألف له على، فهو إقرار بلا خلاف، صرح به الجرجاني وغيره. قال ابن الرفعة: وإذا صححنا التوكيل، فكيفية الإقرار على ما يقتضيه كلام البندنيجي أن يقول: أقررت عنه بكذا، قال: وصوره بعضهم بأن يقول: جعلت موكلى مقرًا بكذا. قوله: وأما حدود الله تعالى فلا يجوز التوكيل في أثنائها، لأنها مبنية على الدرء، ويجوز في استيفائها لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أغديا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬1). انتهي. فيه أمران: أحدهما: أنه يستثنى من حدود الله تعالى مسألة واحدة ذكرها الرافعي في كتاب اللعان والقذف وهي دعوى القاذف، على المقذوف أنه زنا. الثاني: ما ذكره من أن أنيسًا كان وكيلًا في استيفاء الحد، فيه كلام ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2190) ومسلم (1697) وأبو داود (4445) والترمذي (1433) والنسائي (5410) وابن ماجه (2549) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

مذكور في القضاء، وستقف عليه إن شاء الله تعالى. قوله في "التهذيب": لو قال: وكلتك ببيع جميع مالي وكان معلومًا، أو قبض جميع مالي وكان معلومًا، أو قبض جميع ديوني، وهى معلومة يجوز. وهذا التقييد يشعر باشتراط العلم، لكن الأشبه خلافه، فإن معظم الكتب لا تتعرض لذلك. انتهى كلامه. وما أشعر به كلام الرافعي من الاشتراط، قد صرح به القاضي حسين في "تعليقه" في مسألة البيع، ونقله عنه في "الكفاية". قوله: ولو قال: بع ما شئت من أموالي أو اقبض ما شئت من ديوني جاز ذكره في "المهذب" و"التهذيب" وفي "الحلية" ما ينازع فيه، فإنه لو قال: بع من رأيت من عبيدي لا يجوز حتي يميز. انتهى كلامه. والأصح خلاف ما في الحلية، فقد جزم الرافعي بالصحة في آخر الباب الثاني في أوائل المسائل المنثورة، وذكر أنه لابد أن يترك شيئًا، فقال: ولو قال: بع من عبيدي من شئت وأبقي بعضهم ولو واحد، هذا لفظه. نعم لا يؤخذ من تصحيح الصحة في العبد تصحيحه في الأموال، لأنها أكثر غررًا، ولهذا فصل في "الشامل" هاهنا، فصحح في العبيد دون الأموال. قوله في المسألة من "زوائده": وهذا المذكور عن "المهذب" هو الصحيح المعروف، قال في "التهذيب": ولا يجوز أن يبيع الكل، ولا أن يقبض الكل. وأما قول صاحب "الحلية"، ففي "البيان" عن ابن الصباغ نحوه،

فإنه قال: لو قال بع ما تراه من مالي لم يجز، ولو قال: ما تراه من عبيدي. جاز، وكلاهما شاذ ضعيف. وهذا النقل عن "الحلية" إن كان المراد به "الحلية" للروياني فهو غلط، فإن الذي في "الحلية للروياني": لو قال بع عبيدي هؤلاء الثلاثة من رأيت جاز، ولا يبيع الجميع لأن "منْ" للتبعيض. ولو وكله أن يزوجه من شاء جاز، ذكره القاضي أبو حامد. هذا لفظ الروياني في "الحلية" بحروفه. انتهى كلام النووي. فأما تصحيح الصحة فقد ذكرت لك أن الرافعي قد صرح به في آخر الباب الثاني بالنسبة إلى العبيد. وأما نقله عن "التهذيب" أنه لا يبيع الكل، فقد سبق لك أيضًا أن الرافعي قد جزم به في الموضع المذكور ثم إن ظاهر كلامه يقتضي أنه مما أجاب به البغوي نفسه، وليس كذلك، بل إنما نقله البغوي عن شيخه القاضي الحسين، ولم يزد عليه فقال: قاله شيخنا، وأما قوله: إن كان المراد "حلية الروياني" فغلط، فإنه باطل، والمراد "حلية الروياني"، وتغليط الرافعي غلط. فإن المسألة مذكورة في "الحلية" قبيل هذا الكلام الذي نقله بنحو خمسة أسطر، فقال ما نصه: ولو قال: بع من عبيدي من رأيت لم يجز حتي يميز، وكذلك لو قال: اشترِ لي عبدًا من الأتراك لا يجوز حتي يبين لكثرة الجهالة. هذا لفظ "الروياني" في "الحلية" بحروفه. والعجب من هجومه على تغليط الإمام الرافعي قبل استيعاب الكلام مع ما علمته منه من التحرير والإتقان، وقد صرح الماوردي أيضًا بما قاله الروياني في "الحلية"، والمراد بالرؤية هنا رؤية القلب.

قوله من "زياداته": قال أصحابنا: لو قال: بع هذا العبد، أو هذا لم يصح. انتهى كلامه. وما نقله في هذه المسألة مشكل، بل ينبغي الصحة. كما إذا قال: بع أحدهما، وكما تقدم فيما إذا قال: بع من مالي ما شئت. نعم إن أريد التردد في التوكيل فالبطلان ظاهر، كما لو قال وكلتك إمّا في هذا وإما في هذا، فلا وجه لما نقله إلا حمله على هذا فيتعين الحمل عليه. قوله: ولا يكفي أن يقول: اشترِ لي شيئًا أو عبدًا، ثم قال: وفي "النهاية" أن صاحب "التقريب" حكى وجهًا أنه يصح التوكيل بشراء عبد مطلق، وهذا الوجه بعيد هاهنا. وإذا اطرد في شراء شيء كان أبعد. انتهى كلامه. وهو لا يدل على وقوع طرده ولا على خلافه، وقد حكى الإمام في "النهاية" والغزالي في "البسيط" ترددًا في التوكيل بشراء شيء، تفريعًا على هذا الوجه، وحكاه في "الروضة" عن "البسيط". قوله: وقول الغزالي في "الوجيز": أو ذكر الثمن، أو لم يذكر نوعه ففيه خلاف إن أراد به ما هو المفهوم من ظاهره، وهو أن يقول: اشترِ لي عبدًا بمائة، ولا يتعرض لكونه تركيًا أو هنديًا، فإثبات الخلاف في هذه الصور بعد الحكم بأنه لابد من ذكر التركي أو الهندي، مما لم يتعرض له الأئمة، ولا ذكر له في "الوسيط". انتهى كلامه. وقد ذكر هذا الاعتراض أيضًا في "الشرح الصغير"، وكذلك في كتابه "التذنيب"، وليس كما زعم من إنكار الخلاف، فقد ذكر الماوردي في "الحاوي"، وكذلك الغزالي في "البسيط"، ونقله عنه النووي في

"مختصر التذنيب" مستدركًا عليه. قوله: ومنها: لو وكله بالإبراء فيشترط علم الموكل بقدر الدين، وأما الوكيل فقال القاضي والغزالي: لا يشترط، وقال في "المهذب" و"التهذيب": يشترط، والأشبه الأول. انتهى ملخصًا. واشتراط علم الوكيل قد قال به أيضًا الماوردي والبندنيجي، ونقله ابن الرفعة عن الجمهور، وإن كانت عبارته ملبسة. قوله: فإن قلنا: الإبراء إسقاط، صح مع جهل من عليه الحق المبلغ. وإن قلنا: تملك، فلا يصح. انتهى. هذه المسألة سبق الكلام عليها في الضمان. قوله: ثم إن قال: ابرأ فلان عن شيء من ديني، أبرأه عن قليل منه. انتهى. ويعني بالقليل أقل ما ينطلق عليه الاسم، كذا صرح به في "التتمة"، ونقله عنه في "الروضة"، وقال: إنه أصح، والأمر كما قال، وما ذكره ابن الرفعة من أنه يبرئه عما يشاء بشرط أن يبقي شيئًا فغلط.

الركن الثاني: الموكل

الركن الثاني: الموكل قوله: من لا يتمكن من مباشرة ذلك التصرف، لا يصح منه التوكيل، ثم قال: ويستثنى بيع الأعمى. . . . إلى آخره. تبعه في "الروضة" على استثناء مسألة الأعمى خاصة، ويستثنى مع ذلك مسائل: إحداها: إذا قال لزوجته: إذا طلقتك فأنت طالق ثلاثًا، وقلنا بما نقله الإمام عن الأكثرين من اشتداد وقوع الطلاق فوكل فيه صح، كما نقله الرافعي هناك. الثاني: إذا قالت المرأة لوليها: وكلتك في تزويجي صح، وزوجها كما نقله صاحب "البيان" عن الشافعي، وستعرفه في موضعه. الثالثة: إذا وكل الولى المرأة لتوكل رجلًا عنه في تزويج موليته، فإنه جائز عند الشافعي خلافًا للمزني، كذا قاله في "التتمة" في الباب الثالث في بيان الأولياء، فالمرأة هنا موكلة لمن تزوج مع أنها لا تملك المباشرة. الرابعة: إذا وكل حلال محرمًا ليوكل حلالًا في التزويج، فإن الأصح في الرافعي في الكلام على إحرام الولى صحته، وهي كالتي قبلها. واعلم أن المحرم والمرأة في هاتين الصورتين، كما أنهما موكلان لمن يزوج كما ذكرناه، هما أيضًا وكيلان فيه حتي يستثنيان أيضًا مما سيأتي. قوله: ومن جوز التوكيل في بيع عبد سيملكه، فقياسه جواز توكيل المحجور عليه فيما يستأذن فيه الولي، ولم يتعرضوا له. انتهى. ويمكن الفرق بينهما كما قاله في "الروضة"، بأن الخلل هنا في عبارة المحجور عليه [والله أعلم] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

الركن الثالث: الوكيل

الركن الثالث: الوكيل قوله: كما يشترط في الموكل أن يتمكن من مباشرة التصرف الموكل فيه بنفسه، يشترط في الوكيل التمكن من مباشرته لنفسه. انتهى. وما ذكره في الوكيل تابعه عليه في "الروضة"، وقد استثنيا مسائل وأهملا أخرى: الأولى والثانية الصورتان المتقدمتان في شرط الموكل. الثالثة: ما ذكره الرافعي في كتاب النكاح، أنه إذا وكل محرمًا ليقبل له النكاح بعد التحلل صح، قال: لأن الإحرام يمنع الإنعقاد دون الأول. قال: فإن أطلق فهو كالتقييد بما بعد التحلل. قوله: وفي جواز اعتماد قول الصبي في الإذن في دخول الدار والملك عند إيصال الهدية، وجهان سبقا في البيع. انتهى. هذه المسألة مذكورة في "الروضة" في ثلاث مواضع ثم اختلف كلامه فيها على ثلاثة أوجه، سبق إيضاحها في البيع فراجعها. قوله: والمرأة والمحرم مسلوبا العبارة في النكاح، فلا يتوكلان فيه. كما لا يوكلان. انتهى. هذا الكلام صريح في استداد باب التوكيل عليهما، وهذا في المحرم بناء على أن الإحرام من باب السوالب، وهو وجه ضعيف. والصحيح كما قاله في النكاح أنه من باب الموانع، وبنى على أنه يجوز له أن يوكل ليعقد بعد الإحرام، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله. قوله: ولا يصح توكيل المرأة في الاختيار في النكاح، إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة، وفي الاختيار للفراق وجهان، لأنه يتضمن اختيار الأربع للنكاح. انتهى.

اعلم أن صورة هذه المسألة فيما إذا عين المختارة للنكاح أو الطلاق، فإن لم يعين لم يصح، سواء كان الوكيل رجلًا أو امرأة، لأنه يرجع إلى الشهوة، كذا قاله الرافعي في أول الباب. والأصح من الوجهين المذكورين كما قاله في "الروضة" عدم الصحة، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر"، ولا في "الشرح الصغير". قوله: توكيل المرتد في التصرفات المالية ينبني على بقاء ملكه وزواله، إن أثبتناه صح، وإن أبطلنا فلا، وإن وقفناه فكذا التوكيل، ولو وكل ثم ارتد ففي انقطاع التوكيل الأقوال الثلاثة. ولو وكل رجلًا مرتدًا أو ارتد الوكيل، لم يقدح في الوكالة، لأن الخلاف في تصرفه لنفسه لا لغيره، كذا نقله الأصحاب عن ابن سريج. وفي "التتمة": أنه يبنى على أنه يصير محجورًا عليه، إن قلنا: نعم انعزل، وإلا فلا. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، واعلم أن الصحيح من هذه الأقوال هو قول الوقف، وإذا قلنا به فيوقف ما يحتمل الوقف كالعتق والتدبير والوصية. ويبطل ما لا يحتمل، كالبيع والهبة وغيرهما. وإذا قلنا ببقاء ملكه فقيل: يصير محجورًا عليه بنفس الردة، والأصح: أنه لابد من صرف المال. هذا ملخص ما ذكروه في كتاب الردة، وسوف أذكر لفظه هناك لأمور ينبغي التنبيه عليها. فإذا علمت ذلك علمت أن ما ذكره في أول كلامه من أنا نصحح الوكالة إذا أبقينا ملكه محله إذا لم يحجر القاضي عليه، وأن ما ذكره أيضًا

من وقفها على القول الصحيح، لا يستقيم إلا على القول القديم، وكذلك انقطاع توكيل الوكيل إذا ارتد. وجزم في "المطلب" بأن ردة الموكل عزل، دون ردة الوكيل. قوله من "زياداته": ولو وكل المسلم كافرًا ليقبل له نكاح مسلم لا يصح، ولو وكله في طلاقها فوجهان، لأنه لا يملك طلاق مسلمة ولكن يملك طلاقًا في الجملة. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من منع توكيله في قبول نكاح المسلمة، قد جزم به أيضًا قبل كتاب الصداق نقلًا عن البغوي. الأمر الثاني [: أن المبيع مخالف لتجويزهم توكيله في شراء المسلم كما سبق إيضاحه في البيع. الأمر الثالث] (¬1): أن دعواه أنه لا يملك طلاق مسلمة ليس كذلك، بل يتصور ملكه إياه، وقد صرح به هو في كتاب الخلع في أثناء الركن الخامس، فقال في أصل "الروضة" بعد أن ذكر التوكيل في الخلع والطلاق ما نصه: ويجوز أن يكون وكيل الزوج والزوجة ذميًا، لأنه قد يخالع المسلمة ويطلقها. ألا ترى أنها لو أسلمت وتخلف فخالعها في العدة، ثم أسلم حكم بصحة الخلع. هذا كلامه. قوله: وتوكيل الفاسق في إيجاب النكاح ممتنع، إذا سلبناه الولاية. ثم قال ما نصه: ولا خلاف في جواز قبوله بالوكالة. انتهى. ودعواه نفي الخلاف قلد فيه الغزالي، وقد تبعه عليه في "الروضة" ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وعبر بقوله: قطعًا، وليس كما زعما من نفي الخلاف، فقد جزم الشيخ أبو حامد بعدم الجواز، وكذلك البندنيجي والمحاملى، وادعيا نفي الخلاف، وجزم به أيضًا الجرجاني، وعلله بأن قبوله لغيره جارٍ مجرى الولاية. وقال الروياني في "البحر" عند الكلام على العزل: إنه ظاهر المذهب. وحكى القاضى أبو الطيب والقاضي حسين وابن الصباغ وصاحب "البيان" فيه وجهين. واعلم أن الرافعي قد حكم في النكاح وجهًا أن الفاسق لا يقبل النكاح لنفسه، وإذا جمعت بين مقالتيه قضيت العجب، حيث حكى الخلاف في جوازه لنفسه، ونفى الخلاف عن قبوله لغيره.

الركن الرابع: الصيغة

الركن الرابع: الصيغة قوله: وأما القبول فإنه يطلق بمعنيين: أحدهما: الرضى والرغبة فيما فوضه إليه، ويقتضيه الرد. والثاني: اللفظ الدال عليه. والقبول بالمعنى الأول معتبرًا، وأما اللفظ فلا يشترط، وقيل: يعتبر، وقيل: يشترط في صيغة العقد لوكيلك دون الإذن كبيع. انتهى. وما ذكره من اشتراط القبول بمعنى الرضى ليس كذلك، فإنه لو أكرهه حتى تصرف نفذ تصرفه على الصحيح، كما قاله في كتاب الطلاق نظرًا إلى الإذن. وأيضًا فقد ذكر بعد هذا: أنه لو تصرف غير عالم كان كمن باع مال أبيه ظانًا حياته فبان ميتًا. واعلم أن الروياني في "البحر" ذكر في البيع قبل باب بيع اللحم كلامًا متعلقًا بمسألتنا فقال: ما معنى قولكم: الوكالة تفتقر إلى القبول ويجوز بيعه قبل القبول؟ . فإذا كان التصرف جائزًا على كل حال فما فائدة الخلاف؟ قلنا: له فائدتان: إحداهما: أنه لو كان وكيلًا يقبض دينه من رجل فتمكن الرجل من دفعه إلي الوكيل، ولم يتمكن من دفعه إلى الموكل، نظر إن قبل الوكيل الوكالة فعليه دفع ما عليه له، لأن الوكيل بمنزلة الموكل، وإن لم يقبل الوكالة لم يلزمه الدفع لأنه لم يصر وكيلًا، وهذا قبل مطالبة الوكيل.

فأما إذا طالبه بالدين عن الموكل فيلزمه الدفع، لأن هذه المطالبة جارية مجرى قبول الوكالة، ويحتمل وجوب الدفع إليه قبل المطالبة، لأن الدفع إليه يوجب البراءة. الفائدة الثانية: إذا كان للوكيل وكيلًا يقبض العارية من فلان فوصل المال إلى يد الوكيل وهو لا يعلم أنه المال الموكل فيه. فإن كان الوكيل قد قبل الوكالة زال الضمان عن المستعير، وإن لم يكن قد قبلها لا يزول، لأنه لم يصل لصاحبه ولا وكيله، فإن قيل: لمَ لا يزول الضمان كما يصح البيع؟ قيل: لأن الشروع في إثبات البيع يقوم مقام قبول الوكالة والرضى بها، وهذا غير موجود في مسألة الضمان، لأنه لم يعلم أن المال للموكل فيه حتى يجعل قبضه كالرضا بالقبول، هذا آخر كلام الروياني. قوله: التفريع إن شرطنا القبول، فهل يجب أن يكون على الفور؟ ظاهر المذهب: أنه لا يجب. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق ذلك، وتستثني من ذلك صور: إحداها: إذا وكله في إبراء نفسه، فإنه يصح إن لم يشترط القبول، وهو الصحيح. قال في "البحر": ولابد أن يبريء في الحال، قال: فلو أخره لم يصح. الثانية: أن يعين زمان العمل الذي وكل فيه ويخاف فواته، فيكون القبول على الفور. الثالثة: أن يعرضها الحاكم عليه عند ثبوتها عنده، فيكون أيضًا على الفور كما قاله الماوردي وصاحب "البحر".

واستثنى ابن الرفعة في "الكفاية" الصورتين الأخيرتين. قوله: وحيث لا يشترط القبول تكفي الكتابة والرسالة، ويجعله مأذونًا في التصرف، وحيث اشترطنا فحكمه كما لو كتب بالبيع، وقطع الروياني في الوكالة بالجواز، انتهى. استدرك عليه في "الروضة" فقال: قطع الماوردي أيضًا وكثيرون بالجواز وهو الصواب والله أعلم. ثم ذكر في الطلاق ما يخالفه فقال: فرع: كتب إليه: وكلتك في بيع كذا من مالي أو إعتاق عبدي، فإن قلنا: الوكالة لا تفتقر إلى القبول فهو ككتب الطلاق، وإلا كالبيع ونحوه. انتهى. ذكر مثله أيضًا في كتاب البيوع من "شرح المهذب" فذكر أولًا أن الصواب "القطع بالاكتفاء" وأن لا يلحق بالبيع، وجزم في الموضعين الأخيرين بإلحاقه به -أعني بالبيع- والمسألة بعد استحضار أن الكتب من الكنايات تبني على قاعدة، وهي أن ما لا يشترط فيه الشهادة، إن قيل: مقصودة التعليق بالغرو كالخلع، فتنعقد بالكتابة مع النية، وإن لم يقبل كالبيع والإجارة ففيه خلاف. إذا علمت هذا فالتعليق يفسد الوكالة لكن لا يمنع من التصرف، فمنهم من ينظر إلي الأول فيخرجها على الخلاف في البيع، ومنهم من ينظر إلى الثاني فيحرم وهو المتجه، لأن المقصود من الوكالة، فعل الشيء الموكل فيه، والتعليق لا يؤثر فيه كما تقدم، وادعى القاضي أبو الطيب في مسألة الجبر إجماع المسلمين على الصحة. قوله: في تعليل جواز تعليق الوكالة، لأنها استنابة في التصرف فأشبهت عقد الإمارة، فإنها تقبل التعليق، على ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

"فإن أصيب جعفر فزيد" (¬1). انتهى. وهذا الذي ذكره من تقديم جعفر في التأمير على زيد ليس كذلك، بل الصواب وهو المذكور في كتب الأحاديث والسير كسيرة ابن هشام أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر زيدًا ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة، وقد ذكره الرافعي على الصواب في كتاب الوصية فقال في الكلام على الوصايا ما نصه: ومن المشهور أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر زيدًا وقال: إن أصيب زيد فجعفر فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. قوله: ولو نجز الوكالة وشرط للتصرف شرطًا، فإن قال: وكلتك الآن ببيع عبدي هذا، ولكن لا تبعه حتي يجيء رأس الشهر، صح التوكيل بالاتفاق، ولا يتصرف إلا بعد حضور الشرط. انتهى كلامه. ودعواه الاتفاق ذكره أيضًا في "الشرح الصغير"، وعبر عنه في "الروضة" بقوله: بلا خلاف، وهو غريب، فقد حكى الإمام فيه خلافًا فقال: [ومن العراقيين من ذكر خلاف، وصحح الغزالي في "البسيط" بطلانه فقال: ] (¬2) فهو تعليق فاسد إذ لا معنى لتخير الوكالة مع منع التصرف. وقال الشيخ أبو محمد: الوكالة صحيحة، وهذا بعيد. هذا لفظه في "البسيط". وحكى ابن يونس في "التعجيز" هذا الخلاف أيضا. قوله: قاعدتان إحداهما: إذا أفسدنا الوكالة بالتعليق، فلو تصرف ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (22604) و (22619) وابن حبان (7048) والطبراني في "الكبير" (4655) وابن أبي شيبة (7/ 412) والنسائي في "الكبري" (8249) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 16) وابن سعد في "الطبقات" (3/ 46)، وهو حديث صحيح. لكن الوارد في الحديث تقديم زيد على جعفر -رضي الله عنهما-. (¬2) سقط من جـ.

الوكيل بعد حصول الشرط صح في أصح الوجهين، لأن الإذن حاصل، وحينئذ فأثر فساد الوكالة أنه يسقط المسمى، إن كان قد سمى له جعلًا، ويرجع إلى أجرة المثل. انتهى كلامه. وفي "الكفاية" و"المطلب" فائدة أخرى، وهي عدم جواز التصرف، وأن ابن الصباغ استبعد المنع. قوله: الثانية: إذا قال: وكلتك بكذا، ومهما عزلتك فأنت وكيل. ففي صحة الوكالة في الحال وجهان: أصحهما: الصحة. ووجه المنع باشتمالها على شرط التأبيد، وهو إلزام العقد الجائز. انتهى كلامه. واعلم أن الخلاف يشترط فيه أمران: أحدهما: أن تكون صيغة الشرط مقتضية للتكرار، وهي كلما بخلاف متى ومهما ونحوها، وهذا الشرط يؤخذ من تعليل الرافعي، لأن متي ومهما ونحوهما لا تقتضي التّأبيد، لأنها لا تقتضي التكرار. فإذا عزله مرة، فعاد كان له عزله ثانيًا ولا يعود، ولأجل ما قلناه لم يصور المسألة في "المطلب" إلا بكلما. الثاني: أن يجعل التعليق شرطًا في الوكالة، فيقول: إني كلما عزلتك، أو بشرط كلما عزلتك فأنت وكيلي ونحوه. وهذا الشرط جزم به في "المطلب" ناقلًا له عن القاضي حسين وغيره. والتعليل الذي نقلناه عن الرافعي صريح فيه أيضًا، وهو متعين لا شك فيه، وما وقع في الكتاب و"الروضة" مما يوهم مخالفة ذلك، فمحمول على أنه لم يقع عن قصد لتوافق المنقول، ويصان عن فساد

التعليل. قوله في المسألة: فإذا عزله ففي عوده وكيلًا الوجهان في تعليق الوكالة: أظهرهما: المنع. فإن قلنا يعود، نظر إن أتى بصيغة لا تقتضي التكرار قوله: إذا عزلتك أو مهما أو متى فإنه لا يقتضى عود الوكالة إلا مرة واحدة. وحينئذ فطريقه أن يكرر العزل، ولا كلام، كان أتي بصيغة التكرار كقوله: كلما عزلتك. فإنه يقتضي العودة مرة أخرى، فطريق عزله أن يقول: كلما عدت وكيلي فأنت معزول، فإذا عزله ينعزل لتقادم التوكيل والعزل واعتضادنا لأصل، وهو الحجر في حق الغير. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنّا إذا قلنا بصحة تعليق العزل على طلوع الشمس وقدوم زيد ونحوهما كيف يعديه إلى تعليقه على التوكيل مع أنه تعليق؟ قبل الملك إذ لا يملك العزل عن الوكالة التي لم تصدر منه فهو كقوله: إن ملكت عبد فلان فهو حر، والمعروف بطلانه. الأمر الثاني: أن ما تقدم من الحيلة في عزله، وهو التكرار أو التعليق المعتاد للأول، قد خصه الرافعي بالوجه الضعيف القائل بتصحيح الوكالة المعلقة، وليس كذلك، فإن الوكالة الفاسدة يصح التصرف فيها، فيحتاج إلى هذه الحيلة في عزله على الوجهين، ولأجل ذلك ذكرها في "الحاوي الصغير" في أنه لا يفرع على الضعيف. قوله: والخلاف في قبول الوكالة التعليق جار في أن العزل هل يقبله؟ ولكن بالترتيب والعزل أولى بالقبول، لأنه لا يشترط فيه قبول، وتصحيح إعادة الوكالة والعزل مبني على قبولهما التعليق. انتهى. ذكره في "الروضة" وفيه أمران:

أحدهما: أنه ليس فيه بيان الصحيح من هذا الخلاف، وحاصله أنا إن صححنا تعليق الوكالة صححنا تعليق العزل، وإن لم نصحح تعليقهما ففي العزل وجهان، والمرجح على ما اقتضاه كلام "المنهاج" تبعًا "للمحرر" تصحيح عدم الانعزال، فإنه لما حكى الوجهين في تعليق الوكالة عبر بقوله: ويجريان في تعليق العزل. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلامهما من تصحيح عدم العزل عجيب، فكيف [تنفذ التصرفات والمالك مانع منها لاسيما أن جملة الصيغ أن يقول] (¬1) إذا انقضى الشهر فلا تبع؟ وأيضًا فلأنا لما منعنا تعليق الوكالة رتبنا على التعليق عرض المالك، وهو التصرف، فكيف لا يرتب غرضه في تعليق العزل، وهو المنع الذي هو الأصل؟ قوله: قال الإمام: إذا نفذ العزل وقلنا: تعود الوكالة فلا شك أن العزل ينفذ في وقت وإن لطف ثم ترتب عليه الوكالة] (¬2). فلو صادف تصرف الوكيل ذلك الوقت اللطيف فهل ينفذ؟ فيه وجهان، وإنما يتضح هذا الغرض والتصوير لو وقع بينهما ترتب زماني، لكن الترتيب في مثل هذا لا يكون إلا عقليًا. انتهى كلامه. والذي قاله الرافعي غريب، فإن لنا وجهين مشهورين حكاهما هو وغيره في النكاح والطلاق وغيرهما في أن الشرط مع المشروط أو يترتب عليه، وليس المراد الترتيب العقلي، فإنه لا خلاف فيه، بل الترتب الزماني كما صرح به هو وغيره، وبنوا عليه فوائد. قوله: واعلم أن الخلاف في أن الوكالة هل تقبل التعليق جار في أن العزل هل يقبله؟ ولكن بالترتيب، والعزل أولى بالقبول. انتهى كلامه. وليس فيه تصحيح، لأن حاصله أنا إن صححنا تعليق الوكالة صححنا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الباب الثاني في أحكام الوكالة

تعليق العزل، وإن لم نصحح تعليقها، ففي العزل وجهان، وهكذا في "الروضة" أيضًا. والصحيح عدم العزل أيضًا كالوكالة، فإنه حاصل ما في "المحرر" و"المنهاج". الباب الثاني في أحكام الوكالة الحكم الأول: صحة التصرف إذا وافق الإذن ويتضح بأمثلة: فلو وكله في بيع شيء وأطلق لا يصح بيعه بغير نقد البلد، ولا بثمن مؤجل كما أن الوصي كذلك. انتهى. وما ذكره في الوصي ليس كذلك، بل فيه تفصيل سبق في بابه فراجعه. قوله: والتوكيل بالبيع مطلقًا -أي من غير تعيين المشتري- هل يجوز أن يبيع لأصوله وفروعه؟ علي وجهين: أصحهما: الجواز كالعم يزوج موليته لابنه إذا أطلقت الإذن. وقلنا: لا يشترط تعيين الزوج. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق الوجهين، ومحله إذا لم يعين الثمن، فإن عين جاز ذلك بلا خلاف، كذا رأيته في "فتاوى القفال" وهو ظاهر. ثم قال: ويجري الوجهان فيما إذا وكل في الخلع وأطلق فخالع مع ولده. قوله: ولو صرح للوكيل بالبيع من نفسه فقال الأكثرون: لا يجوز. . . .

إلى آخره. وما قالوه من البطلان متجه إذا لم ينص له على البيع بما يراه من قليل وكثير؛ فإن نص عليه تعين القول بالصحة، قال ابن الرفعة في كتابيه "المطلب" و"الكفاية": لأن النظر إلى اتحاد الموجب، والقائل إنما كان لما يلحقه من التهمة المقتضية إلي تضاد العرضين، ولأجل ذلك لما فقدت التهمة في حق الأب والجد لم يكن الاتحاد مانعًا من الصحة. هذا كله قد صرحوا به في هذا الباب، وهنا قد انتفت التهمة بالنص على البيع من [نفسه فأبرأه أو بشيء معلوم، فإنه لو نص البيع من] (¬1) الأجنبي بشيء معلوم، فإنه لو نص البيع من الأجنبي بشيء لا يجوز البيع من غيره مع وجود الزيادة، وهذا الكلام لا جواب له إلا التزام الصحة. قوله: وفي كتاب القاضي ابن كج شيئان غريبان: أحدهما: أن القاضي أبا حامد حكى عن الإصطخري وجهًا: أن للوكيل أن يبيع من نفسه. والثاني: أنه حكى وجهين فيما لو وكل أباه بالبيع هل له أن يبيع من نفسه، لأن الأب له أن يبيع مال ولده من نفسه بالولاية، فكذلك بالوكالة. انتهى كلامه. وقد أهمل النووي -رحمه الله- الثاني فلم يذكره في أصل "الروضة" ثم ذكره من "زوائده" نقلًا عن الماوردي فقال: قلت: وإذا وكَّل الابن الكبير أباه في البيع لم يجز أن يبيع لنفسه، وحكى في "الحاوي" وجهًا أنه يجوز تغليبًا للأبوة. كما لو كان في حجره والله أعلم. هذه عبارته. وهو غريب جدًا، والأول يجري في البيع من ولده الصغير بطريق الأولى، لأنه بيع من الغير على الجملة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله في أصل "الروضة": ولو وكل مستحق القصاص الجاني باستيفائه من نفسه، في النفس أو الطرف أو وكل الإمام السارق في قطع يده أو وكل الزاني ليحد نفسه فالصحيح المنع في كل ذلك. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا في توكيل السارق من تصحيح المنع قد رجح خلافه في كتاب الجنايات، فقال في باب استيفاء القصاص في آخر الطرف الأول منه: وهل يمكنه -أي الإمام- إذا قال: أقطع بنفسى؟ وجهان: أقربهما: نعم لأن الغرض التنكيل وهو يحصل بذلك. هذا كلامه. وقد سلم الرافعي -رحمه الله- من ذلك كما ستعرفه في موضعه. قوله: ولو وكل من عليه الدين في إبراء نفسه، فقيل: على الوجهين، وقيل: يجوز قطعًا، وهو بناء على اشتراط القبول في الإبراء. فإن اشترطناه جرى الوجهان، وإلا فيجوز قطعًا. انتهى ملخصًا. واعلم أن هذا الكلام صريح في أنا إذا جعلناه إسقاطًا يجوز التوكيل فيه قطعًا، لأنه لا يشترط فيه القبول جزمًا تفريعًا على هذا القول، كما تقدم في الضمان، وليس كذلك بل ذكر صاحب "الشامل" ما حاصله: أن الوجهين جاريان على القول بأنه إسقاط. فإن قال: المذهب المشهور أنه يصح، لأنه وكله في إسقاط حق عن نفسه بنفسه، هذا كلامه. قوله: ولو لم يقبل الموكل الأجل فوجهان، قال في "التهذيب": لا يصح التوكيل. وصحح الغزالي: أنه يصح، واختاره ابن كج. انتهى. والأصح هو الصحة، فقد صححه الرافعي في "المحرر" وعبر بالأصح، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة". قوله: والوكيل بالبيع هل يملك قبض الثمن؟ فيه وجهان:

أصحهما: نعم. وأما تسليم المبيع إذا كان معه فأشار كثيرون إلى الجزم به، وقال ابن أبي هريرة وصاحب "التهذيب" وغيره: هو على الوجهين. قوله: والوكيل بالشراء هل يملك تسليم الثمن وقبض المبيع، قال في "التهذيب" و"التتمة": فيه الخلاف في وكيل البائع. وكلام الغزالي يشعر بالجزم بالجواز، وعلله بأن العرف يقتضيه. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح هو القطع بالجواز فقد جزم الرافعي في الكلام على العهدة بجواز تسليم الثمن، ولم يحكِ فيه الخلاف المذكور هنا، وصرح في "الروضة" من "زوائده" بتصحيح هذه الطريقة في الحكمين جميعًا -أعني تسليم الثمن وقبض المبيع-. قال: وبه جزم كثيرون، وقال صاحب "الشامل". يسلم الثمن قطعًا ويقبض المبيع على الأصح ففرق بينهما. انتهى. واعلم أن عبارة النووي في النقل عن "الشامل" توهم المغايرة عنده، بين الوكيل في الشراء والوكيل في البيع، وليس كذلك، بل ذكر أن الوكيلين يتسلمان، وقيل: يتسلمان على وجهين. قوله: ومتي ثبت رد المعيب للوكيل فأخر أو صرح بالتزام العقد فليس له العود إلى الرد في أصح الوجهين، فعلى هذا للموكل الرد على البائع أن يثبت الوكالة وإلا فوجهان: أحدهما: يرده على الوكيل، وهو المذكور في "التهذيب" و"التتمة". والثاني: وهو الذي نقله الشيخ أبو حامد وأصحابه: يرجع عليه بأرش العيب. انتهى ملخصًا.

فيه أمران: أحدهما: أن الراجح هو الأول، فقد نص عليه الشافعي -رحمه الله- كما نقله الشيخ في "المهذب" والبندنيجي في "تعليقه"، ثم قال -أعني البندنيجي- بعد حكاية النص: ولأصحابنا فيه ما لا يحكى لفساده، لأنه خلاف المنصوص، وصححه أيضًا في "الروضة" من "زياداته". الأمر الثاني: أن ما أضافه إلى الشيخ أبى حامد وأصحابه، قد تبعه عليه في "الروضة"، وعبر بقوله: قطعوا به. والبندنيجي أكبر أصحاب الشيخ، ولم يقطع به، بل لم يصححه، بل ادعي فساده كما تقدم، ونقله عنه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: ولو أراد الوكيل الرد، فقال البائع: قد عرفه الموكل ورضيه، فلا رد لك، فأنكر الوكيل وحلف رده. ثم إن أحضر الموكل وصدق البائع فعن ابن سريج: أن له استرداد المبيع من البائع، وفي "التتمة" أن القاضي الحسين قال: لا استرداد. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن هذا النقل عن القاضي غلط، وذلك لأن المذكور في تعليقه كمذهب ابن سريج فإنه قال: إن الموكل إذا حضر وقال: كنت رضيت به، لا يحتاج إلى بيع جديد. وأما نقله ذلك عن "التتمة" فقد راجعتها فوجدته قد عبر بقوله: حكى القاضي، فظن الرافعي أن المراد بها ذهابه إليه فصرح به غير مستحضر لما قاله في "تعليقه"، فوقع في الوهم في "الروضة" عليه، وهو تصرف عجيب، فإن حكاية المذهب لا تستلزم ذهاب حاكيه إليه. الأمر الثاني: أن الراجح بتقدير ثبوت الخلاف هو ما قاله ابن سريج

فقد قطع به أيضًا صاحب "الشامل" و"البيان" والقاضي كما تقدم وصححه النووي من "زيادته"، وليس للمسألة ذكر إلا في "الكبير". قوله: وهل للوكيل حط بعض الثمن؟ فيه قولان عن ابن سريج. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة" وزاد فقال: ينبغى أن يكون أصحهما: عدم الحط والله أعلم. ولم يبينا صورة المسألة فنقول: إن تعذر الرد القهري من المشتري بهلاك المبيع أو تعييبه ونحو ذلك فطالب المشتري بالأرش رده الوكيل، بلا نزاع، وإن لم يتعذر بل تراضيا على أخذ الأرش، فقد سبق في باب الرد بالعيب أن فيه وجهين شهيرين، وأن أصحهما: المنع. والظاهر أن هذه المسألة مفرعة على الضعيف وهو الجواز هناك فاعلمه. قوله: فإن قلنا: إن الوكيل يشتري من يعتق على الموكل فكان معيبًا فللوكيل رده، لأنه لا يعتق على الموكل قبل رضاه بالعيب، ذكره في "التهذيب". انتهى. وهذه المسألة سبق الكلام عليها في الرد بالعيوب. قوله: وإذا قال وكلتك في كذا وأذنت لك في أن توكل به وكيلًا عنى فواضح، وإن قال: عنك كان وكيلًا عن الوكيل على الصحيح. وإن لم يقل: عني ولا عنك، فالأصح أنه وكيل الموكل. انتهى. وهذه الأقسام الثلاثة جارية فيما إذا قال الإمام أو القاضي لنائبه: استخلف؛ لكن الأصح في القسم الثالث أنه نائب عن الغائب لا عن الأصل على العكس من الوكيل وهو مشكل. قوله: وإذا جوزنا للوكيل أن يوكل عند عدم الإذن، إما لأنه كبيرًا أو

غير لائق فوكل عن نفسه فهل يصح؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح منهما عدم الصحة، كذا قاله في "الروضة"، ولم يتعرض لها في "المحرر" ولا في "الصغير". قوله: ويشترط على الوكيل حيث ملك التوكيل، أن يوكل أمينًا رعاية لمصلحة الموكل، إلا أن يعين له من ليس بأمين. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذلك وفيه أمران: أحدهما: أنهم قد ذكروا في النكاح أن المرأة إذا قالت: زوجني ممن شئت أنه يجوز تزويجها من الأكفاء وغيرهم على الصحيح، وقياسه أنه إذا قال هنا: وكل من شئت، أنه يجوز توكيل الفاسق وغيره، بل أولى لأنه هناك يصح ولا خيار لها، وهاهنا يستدرك، لأنه إذا وكل الفاسق فباع بدون ثمن المثل لا يصح. وإن اشترى معيبًا يثبت الخيار. نعم ليس في كلامهم هنا ما ينفي القول به، فليكن الجواز كما قلناه. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر قبل هذا أنه إذا وكله في شراء شيء معين وكان به عيب لم يعلم به البائع أن الوكيل يرده على الصحيح، لأن الظاهر أن الموكل إنما أراده بشرط السلامة، وقياسه أن تكون العين هاهنا مثله أيضًا. قوله: ولو وكل أمينًا ثم فسق فهل له عزله؟ فيه وجهان. انتهى. لم يصحح أيضًا شيئًا في "الشرح الصغير"، ولم يذكرها في "المحرر"، وقد رجح النووي المنع، فقال في "زيادات الروضة": إنه الأقيس. وفي "زيادات المنهاج": إنه الأصح.

وإطلاق هذه المسألة غير مستقيم، لأن الموكل إن قال له: وكل عنك. كان له عزله بدون الفسق، فكيف يصح امتناعه معه، فتعين أن محله فيما إذا قال: وكل عنى، وبه صور المسألة في "الوسيط"، وفي معناه ما إذا أطلق. وحينئذ فمنعه من العزل واضح، لأنه ليس بوكيله. وأما جوازه، فعلله في "المطلب" بأنه من توابع ما وكل فيه، فأشبه الرد بالعيب عند التصريح بالسفارة ونحوه. مما لا يرتد المبيع فيه إلى الوكيل، ولم يعلله في "الكفاية"، بل نقل استشكاله عن بعضهم. ولو قيل بانعزاله في هذه المسألة بلا عزل، كان أوجه كما قالوه في عزل الرهن. قوله من "زوائده": هكذا قال الأصحاب أنه إذا قال: بع هذا يوم الجمعة فلا يبيعه قبله ولا بعده قالوا: وكذا حكم العتق؛ وأما الطلاق فنقل صاحب "الشامل" و"البيان" عن الداركي، أنه لا يجوز قبله، ويجوز بعده، لأنها إذا كانت مطلقة يوم الجمعة كانت مطلقة يوم السبت بخلاف الخميس، ولم أرَ هذا لغيره وفيه نظر. انتهى كلام النووي. وحاصله أنه لم يقف في المسألة على نقل يخالف ذلك وهو غريب، فقد ذكر المسألة في الباب الثاني في أركان الطلاق في أواخر الركن الثاني، وجزم بأن له أن يطلق بعد الوقت المعين ناقلًا لذلك عن البوشنجي. فقال: لو قال لأجنبي: إذا جاء رأس الشهر فأمر امرأتي بيدك، فإن كان قصد بذلك إطلاق الطلاق فله التطليق بعده، وإن أراد تقييد الأمر برأس الشهر، يقيد الطلاق به، وليس له التطليق بعده. هذا كلامه.

ثم إن التعليل الذي نقله عن الداركي موجود بعينه في العتق، وقد نقل عن الأصحاب أنه يتقيد، فلزم أن الطلاق كذلك. وذكر الروياني في "البحر" في التوكيل في البيع قريبًا مما قاله الداركي فقال: لو قال: بعه بأجل إلى يوم الخميس ففات الخميس صح بيعه بحال في وجه. واعلم أن الرافعي في باب الشرط في الطلاق قد نقل عن المتولي: أنه إذا قال: أنت طالق اليوم وغدًا وبعد غد لم تطلق إلا واحدة، لأن المطلقة في وقت مطلقة فيما بعده بخلاف ما لو كرر لفظ (في). ومن نظائر لفظ التزويج، قال البغوي في كتاب النكاح لو قال: زوجها غدًا فزوجها اليوم، أو قال: زوجها في المسجد فزوج في غيره لم يصح. وذكر الرافعي أيضًا في كتاب الإقرار أنه إذا قال: طلقها يوم السبت طلقة، ثم طلقها يوم الأحد طلقتين وقعت الثلاث، والمعنى في هذه المسائل كلها واحد. قوله: ولو عين مكانًا ليس فيه غرض ففي تعينه وجهان: أحدهما: لا، والتعبير في مثل ذلك يقع اتفاقًا، وهذا ما أورده في الكتاب، وبه قال القاضي أبو حامد. والثاني: يتعين، وهو أصح عند ابن القطان وصاحب "التهذيب". انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والراجح هو الأول، فقد نص عليه الشافعي في "الأم" في كتاب الرهن كما نقله

عنه القاضي أبو الطيب، وجزم به أيضًا في "التنبيه" واختاره المتولى والروياني. وقال في "المحرر": الأظهر أنه يتعين، وكأنه تبع فيه صاحب "التهذيب" لما تعارض الترجيح في ظنه، ولم يطلع على هذا النص، وتبعه عليه أيضًا في "الروضة" وقال: إن البلدين كالسوقين. قال: وهذا إذا لم يقدر الثمن، فإن قدر فباع به في غير ذلك المكان جاز، صرح به صاحب "الشامل" و"التتمة"، وغيرهما. الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي بقوله: وهو الذي أورده في الكتاب قد توهم منه النووي أن المراد نفي الخلاف عند الغزالي، فصرح به في أصل "الروضة" فقال: وقطع به الغزالي، وهذا الفهم غلط، فقد صرح في "الوسيط" بحكاية وجهين في المسألة. الأمر الثالث: أن إطلاق الجواز في بلد غير مأذون فيها يقتضي الجواز قبل انقضاء مدة يتأتى فيها الوصول إلى المأذون فيها، وهو مشكل، فإن اللفظ دل على المسافة، وعلى إيقاع البيع في البلد خرج الثاني لدليل فيبقى الأول، ولهذا قالوا: إذا وهب منه شيئًا في بلده أو رهنه عنده وأذن في قبضه، فلابد من مضي زمن يمكن المضى إليه فيه. قوله: ولو قال: بع بمائة فهل له أن يبيع بها وهناك من يرغب في الزيادة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لموافقته صريح إذنه. والثاني: لا، كما لو أطلقوا الوكالة فباع بثمن المثل، وهناك من يرغب بزيادة. انتهى. والراجح المنع، فقد قال في "الشرح الصغير": إنه الأشبه، وفي "الروضة": إنه الأصح، ولم يصرح بها في "المحرر".

قوله: وإذا وكله بالبيع مؤجلًا فباع حالًا، فإن كان في وقت لا يؤمن فيه من النهب والسرقة أو كان لحفظه مؤنة في الحال لم يصح، وإلا فوجهان: أصحهما على ما في "التهذيب" جوازه. ولو قال: بع بكذا إلى شهرين، فباعه إلى شهر ففيه الوجهان. انتهى. والأصح ما قاله صاحب "التهذيب"، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". واعلم أن الموكل إذا نص على البيع من شخص، وقدر للوكيل ثمنًا فلا يجوز الزيادة عليه لظهور قصد المحاباة، وكذا قاله الرافعي. وهذا المعنى موجود هنا فتعين تخصيصه كما سبق. قوله: ولو قال: اشتر حالًا فاشتراه مؤجلًا بقيمته حالًا فوجهان كما قلنا في البيع، قال صاحب "التتمة" هذا إذا قلنا: إن مستحق الدين المؤجل إذا عجل حقه يلزمه القبول، وإن قلنا: لا يلزمه، فلا يصح الشراء هاهنا للموكل بمال. انتهى. وما قاله صاحب "التتمة" قد عكسه صاحب "الشامل" فقال: هذا [الخلاف حيث لا يجبر صاحب الدين على قبول تعجيله، وحيث يجبر يصح] (¬1) الشراء قطعًا. قال في "الروضة": وكلام ابن الصبغ أصح وأفقه وأقرب إلى تعليل الأصحاب. قوله: ولو دفع إليه دينارًا وقال: اشتر به شاة فاشترى شاتين، فإن لم تساو واحدة منهما دينارًا لم يصح الشراء للموكل، وإن ساوت كل واحدة دينارًا صح الشراء، ودفع للموكل في أظهر القولين. انتهى. وأهمل هنا وفي "الشرح الصغير" و"المحرر" قسمًا ثالثًا وهو ما إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ساوت إحداهما دينارًا والأخرى ناقصة عنه، وقد ألحقه صاحب "الحاوي الصغير" بالقسم الأول حتى لا يصح الشراء، لكن الأصح عند الأصحاب كما قاله في "الروضة" أنه كالقسم الثاني. قوله: لأن عروة إن كان وكله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيع أمواله لم يدخل ما يملكه من بعد. وإن قيل: وكله في بيع أمواله وما يتملكه وقع في الخلاف المذكور في التوكيل ببيع ما سيملكه، إلا أن يقال: [ذلك] (¬1) الخلاف فيما خصص بيع ما سيملكه بالتوكيل. وأما إذا جعله تابعًا لأمواله الموجودة في الحال فيجوز وهذا كما أنه لو قال: وقفت على من سيولد من أولادي لا يجوز، ولو قال: على أولادى ومن سيولد لي جاز. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة مهمة يحتاج إليها، وقد حذفها النووي من "الروضة". الأمر الثاني: أن هذه المسألة التي توقف فيها الرافعي قد نقلها صاحب "البيان" عن الشيخ أبي حامد، فقال -أعني الشيخ-: إنه تجوز الوكالة باستيفاء ما وجب من حقوقه وما سيجب. وجزم ابن الرفعة في "الكفاية" بالاحتمال الثاني القائل بالصحة أيضًا. وأفتى ابن الصلاح بأنه إذا وكله في المطالبة بحقوقه دخل فيه ما يتجدد، وحكى عن الأصحاب الصحة فيما إذا وكله في بيع ثمرة قبل إثمارها. ¬

_ (¬1) في جـ: إن.

قوله: ولو قال: بع عبدي بمائة درهم فباعه بمائة وعبد أو ثوب، فعن ابن سريج: أنه على القولين بالترتيب على مسألة الشاتين وأولى بالمنع، لأنه عدل عن الجنس. انتهى كلامه. وحاصل هذا أنا إن أبطلنا هناك أبطلنا هاهنا، وإن صححنا وهو الصحيح فهاهنا قولان لأن هذا معنى ترتيب الخلاف فالصحيح في المسألة هو الصحة، كذا صححه النووي في "تصحيح التنبيه" وقال في "الروضة": ينبغي أن يكون هو الأصح. قوله من "زياداته": وإذا ادعى على وكيل مالًا وأقام بينة وقضي به الحاكم، ثم حضر الغائب وأنكر الوكالة أو ادعى عزله لم يكن له أثر، لأن الحكم على الغائب جائز. انتهى. وما ذكره في دعوي العزل قد ذكره الرافعي مبسوطًا بعد ذلك في هذا الباب. قوله: وأما الشراء المخالف لأمر الموكل فإن وقع بعين مال الموكل فباطل، وإن وقع في الذمة، نظر إن لم يسم الموكل وقع عن الوكيل، وكذا إن سماه على الأصح، وبلغوا التسمية. والثاني: العقد باطل، وإذا قلنا بالأصح، فكذلك إذا قال: بعتك، فقال: اشتريت لموكلى. فأما إذا قال: بعت فلانًا، فقال الوكيل: فاشتريت له، فظاهر المذهب بطلان العقد لعدم المخاطبة. انتهى. أهمل الرافعي قسمين آخرين: أحدهما: أن يقع الشراء بثمن في ذمة الموكل بأن يقول: اشتريت

لفلان بألف في ذمته، وحكمه حكم الشراء بالعين، كذا ذكره الرافعي في كتاب البيع في الكلام على بيع الفضولي. الثاني: أن يقع بعين مال الوكيل، وفي حكمه تفصيل وخلاف سبق أيضًا في البيع فراجعه. واعلم أن النووي في "الروضة" قد عبر بقوله: فالمذهب بطلان العقد، فاقتضى ذلك أن في المسألة طريقين. وكأنه اشتبه عليه بسبب تعبير الرافعي بظاهر المذهب.

الحكم الثاني: العهدة

قال -رحمه الله-: الحكم الثاني: العهدة قوله: وإن اعترف البائع بوكالته فهل يطالب الوكيل أم الموكل أم من شاء منهما؟ فيه أوجه. أظهرها الثالث. انتهى ملخصًا. وما ذكره هاهنا قد صحح في الكلام على خلع الأجنبي عكسه، وسأذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله في المسألة: التفريع إن قلنا بالأول فهل للوكيل مطالبة الموكل قبل أن يغرم؟ فيه وجهان، لأن بعضهم قال: يثبت الثمن للبائع على الوكيل وللوكيل مثله على الموكل بناء على أن الوكيل يثبت له الملك، ثم ينتقل إلى الموكل. فعلى هذا للوكيل مطالبته بما ثبت له، وإن لم يؤد ما عليه. وقال آخرون: ينزل الوكيل منزلة المحال عليه الذي لا دين عليه، فعلى هذا ففي رجوعه قبل الغرم وجهان كالمحال عليه. والأصح المنع. انتهى كلامه. واعلم أن ما قاله من تصحيح عدم الرجوع قبل الغرم بناء على التنزيل الثاني لا يستقيم، وذلك لأنه قد تقدم في كتاب الحوالة أن هذه الحوالة لا تبرئ المحيل على الصحيح، بل حقيقتها حقيقة الضمان. وقيل: إنها تبرئه، وتقدم أنه يرجع قبل الغرم إن قلنا بالبراءة، وإن قلنا بالأول فلا. والوجه الأول من هذا التنزيل لا يوافق الوجه الذي ساقه لتقريره، بل

إنما يوافقه الوجه الثاني القائل بالبراءة، لأن الوجه الذى ساقه لأجله قائل [بأن المطالب الوكيل وحده، فلا يستقيم جعل الوجه الأول مأخذًا] (¬1) له، بل المقصود من ذكره توجيهه بالوجه الثاني القائل بالبراءة. وحينئذ فيطالب الموكل [فثبت، أنها إذا قلنا بمطالبة الوكيل وحده كان له مطالبة الموكل] (¬2) قبل الغرم على الصحيح لأجل المأخذين اللذين ذكرهما هو بخلاف ما صححه. قوله: ولك أن تقول، لا خلاف أن للوكيل أن يرجع على الموكل في الجملة، وإنما الكلام في أنه متى يرجع، وبأي شيء يرجع؟ . . . . إلى آخر ما قال. تابعه في "الروضة" أيضًا على دعوى عدم الخلاف، وهو غريب ففي "الوسيط" وجه أنه لا رجوع للوكيل بما أعطاه من الثمن أصلًا، وكأن الوكيل اشترى للموكل [بمال] (¬3) نفسه، كما يحكى عن ابن سريج أنه جوزه. قوله: ولو قال: اشترِ في الذمة واصرف هذه الألف إلى الثمن فتلف في يد الوكيل بعد الشراء لم ينفسخ العقد، ولكن هل ينقلب إلى الوكيل فيلزمه الثمن، أو يبقى للموكل وعليه مثل الدراهم، أو يقال للموكل: كذا أردته فادفع مثل تلك الدراهم، وإلا فيقع عن الوكيل، وعليه الثمن؟ ، فيه ثلاثة أوجه. انتهى ملخصًا. لم يذكر المسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر"، ولم يصحح في "الروضة" شيئًا من هذه الأوجه، لكن الأصح في نظيره من القراض أن العقد ينقلب إلى العامل، ويلزمه ألف كما ستعرفه إن شاء الله تعالى واضحًا. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ. (¬3) في جـ: على.

والأصح في نظيره من العبد المأذون، وتقدم أن المذكور في القراض أرجح، فيلحق به. قوله: ولو أرسل رسولًا يستقرض له فاستقرض فهو كوكيل المشتري في مطالبته ما في مطالبة وكيل المشتري بالثمن، والظاهر أنه يطالب به، ثم إذا غرم رجع على [الوكيل] (¬1). انتهى كلامه. وما ذكره من أن وكيل المستقرض كوكيل المشتري في المطالبة، قد صحح خلافه في الزكاة في الكلام على التعجيل، وقد تقدم ذكر لفظه هناك. ونقل الإمام في الزكاة الخلاف في إلحاقه بوكيل الشراء، وفرق بأن الوكيل في الشراء يقول: اشتريت، وهذه الكلمة ملزمة، والوكيل بالاستقراض لم يصدر منه ما يقتضي الضمان. وهذا الفرق من الإمام يدل على أن الوكيل بالاستقراض لا يقول: اقترضت، بل أقرضت موكلي، وفيه نظر. وقال ابن الرفعة في "الكفاية": لا يطالب إذا صرح بالسفارة، فإن لم يصرح ففيه خلاف. ¬

_ (¬1) في جـ: الموكل.

الحكم الثالث الجواز من الجانبين

الحكم الثالث: الجواز من الجانبين قوله: ففي انعزاله قبل بلوغ الخبر إليه قولان: أحدهما: لا، كما أن حكم النسخ لا يلزم المكلف قبل بلوغ الخبر. وأصحهما: الانعزال. ثم أجاب عن النسخ فقال: وأما النسخ فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه، لأن حكم النسخ إما إيجاب إمتثال الأمر الثاني، وإما إخراج الأول عند الاعتداد به. فالإيجاب لا يثبت قبل العلم لاستحالة التكليف بغير المعلوم، وهذا النوع لا يثبت في الوكالة، لأن أمر الموكل غير واجب الامتثال، والنوع الثاني ثابت هنا أيضًا قبل العلم حتى يلزمه القضاء. انتهى كلامه. وما ذكره من أن النسخ بمعنى إخراج الأول عن الاعتداد ثابت قبل العلم حتي يجب القضاء قول ضعيف للأصوليين وجمهورهم على أنه لا يثبت حكمه إلا بعد العلم أو التمكن منه، كما لا يثبت قبل نزوله من السماء كفرض خمسين صلاة، أو بعد نزوله وقبل أن يبلغه جبريل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ذكرت ذلك في "شرح منهاج الأصوليين"، والدليل على ما قلناه أن أهل قباء لما أتاهم الخبر بنسخ القبلة في الصلاة استداروا، ولو كان كما يقوله الرافعي من ثبوت الحكم لكانت صلاتهم باطلة، ويلزم القضاء، وقد استدل -أعني الرافعي- في باب استقبال القبلة بقصة أهل قباء على أنه ينحرف في الصلاة عند تغير الإجتهاد إذا قلنا: لا يجب

القضاء. قوله في المسألة: وإذا قلنا: ينعزل، فينبغي للموكل أن يشهد على العزل، لأن قوله بعد تصرف الوكيل: كنت عزلته، لا يقبل. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم القبول تابعه عليه في "الروضة" وليس على إطلاقه، بل صورته ما إذا أنكر الوكيل العزل. أما إذا وافقه ولكن قال: كان بعد التصرف، فإنه يكون كدعوى الزوج بعدم الرجعة على انقضاء العدة، وفيه تفصيل معروف، كذا قاله الرافعي بعد هذا الباب الثالث المعقود للاختلاف. قوله: وفي الأعمى وجهان: أظهرهما وبه قال في "الكتاب": إنه كالمجنون في اقتضاء [الانعزال] (¬1). والثاني: وهو الأظهر عند الإمام وبه قال في "الوسيط": إنه لا يقتضي العزل. واحتج له بأن المغمي عليه لا يلتحق بمن يولى عليه، والمعتبر في الانعزال التحاق الوكيل أو الموكل بمن يولى عليه. انتهى كلامه. وهذا الاحتجاج للإمام، ولم يذكره الغزالي في "الوسيط" فتفطن له، فإن كلامه موهم، حتى وقع ابن الرفعة في الغلط بسببه. قوله: لو وكل السيد عبده ببيع أو تصرف آخر، ثم أعتقه أو باعه أو كاتبه ففي انعزاله وجهان. وفصل بعضهم فقال: إن كان بلفظ الوكالة لم ينعزل، وإن كان بلفظ الأمر انعزل. انتهى ملخصًا. زاد في "الروضة" على تصحيح الماوردي والجرجاني أنه ينعزل ¬

_ (¬1) في جـ: العزل.

مطلقًا، ولم يذكر تصحيحًا غيره. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن الراجح عند الرافعي منها هو الثالث، كذا ذكره في "الشرح الصغير" فقال: إنه أقرب الوجوه، ولم يذكر ترجيحًا غيره، وصحح النووي في "تصحيح التنبيه" انعزاله مطلقًا، وكأنه استند لما قاله في "الروضة". نعم صحح الرافعي في مداينة العبد: أن العبد المأذون ينعزل بالبيع والعتق، وتبعه عليه في "الروضة". الأمر الثاني: أن ما نقله في "الروضة" عن الماوردي من الانعزال في العتق والبيع ليس كذلك، بل إنما صححه في البيع، وعلله بأن منافعه مستحقة لغيره، ولم يصحح في العتق شيئًا، بل نسب الانعزال إلى ابن سريج. قوله: ولو وكل عبدًا لغيره بإذن المالك فباعه مالكه، ففي ارتفاع الوكالة وجهان أيضًا، فإن أبقيناها في هذه الصورة والتي قبلها فيلزمه استئذان المشتري، فإن لم يستأذن نفذ تصرفه لدوام الإذن، وإن ترك واجبًا. قال الإمام: وفيه احتمال: انتهى ملخصًا. عبر في "الروضة" في أول هذه المسألة بقوله: وعبد غيره كعبده، وهو يشمل زوال ملكه عنه بالاعتاق وغيره. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن الأصح في عبد غيره عدم الانعزال، كذا صححه النووي في "تصحيح التنبيه"، وقال في "زيادات الروضة": إنه المذهب الذي جزم به الأكثرون. قال: وطرد صاحب "التهذيب" فيه وجهين في عبد نفسه، فتابعه

الرافعي. الأمر الثاني: أن ما ذكره في "الروضة" من تقليد الرافعي البغوي في ما تفرد به من طرد الوجهين غريب، فإن الوجهين ثابتان قديمًا عند ابن سريج فمن بعده. وممن حكاهما عن ابن سريج صاحب "البحر". الأمر الثالث: أن محل الخلاف في هذه الصورة هو فيما إذا أمره السيد ليتوكل لغيره. فأما إذا قال: إن شئت فوكل لفلان، وإن شئت فلا، ثم أعتقه أو باعه فلا ينعزل قطعًا كالأجنبي، كذا قاله ابن سريج، ونقله عنه الروياني في "البحر"، وجزم به أيضًا الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما، وكذلك صاحب "البيان"، ونقله في "الروضة" عنه خاصة، وأقره. واقتصاره عليه مع شهرة هذه الكتب غريب، ونقل الشيخ أبو محمد عن ابن سريج في عبد نفسه مثله أيضًا. الأمر الرابع: أن الرافعي قد ذكر في معاملة العبيد أنه لا يصح توكيل العبد في البيع والشراء بغير إذن سيده على الأصح لما فيه من تعلق العهدة، وأشار في أوائل هذا الباب إلى ذلك أيضًا. وتبعه النووي عليه قال: بخلاف قبول النكاح. وحينئذ فكيف يصح التصرف بغير استئذان السيد فيما إذا وكل عبده ثم باعه أو عبد غيره وباعه مالكه، وقلنا ببقاء الوكالة. فأما إذا تنزلنا وقلنا ببقاء الوكالة فيزول المانع من جهة صاحب السلعة، وهو الموكل، فما الذي أزال مانع السيد، وهو تعلق العهدة. واعلم أن انتقال الملك إلى الورثة بموت السيد يشبه انتقاله بالبيع،

وكذلك الهبة أيضًا، وما نقلناه عن الرافعي في باب معاملة العبيد يقتضي أن نفس التوكيل -وهو الإيجاب- لا يصح، ويحتمل أن يقال: بصحته ويكون التصرف موقوفًا على إذن المالك. قوله: ولو أنكر الوكيل الوكالة فهل يكون عزلًا؟ روى في "الوسيط" فيه أوجه: أصحها ثالثها: إن كان لنسيان أو غرض في الإخفاء لم ينعزل وإلا انعزل، ولم أعثر على المسألة في "النهاية"، لكنه أورد قريبًا من هذه الأوجه في إنكار الموكل أيضًا. انتهى ملخصًا. وعبر في "الروضة" عما حكاه عن الإمام بقوله: ولو أنكر الموكل التوكيل ففي انعزاله الأوجه، ومقتضاه أن الصحيح فيه أيضًا التفصيل. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ذكر في الباب الثاني من كتاب التدبير كلامًا يخالفه من وجهين، وتبعه عليه في "الروضة"، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لأمور أخرى يتعين الوقوف عليها فراجعها. ونقل في "المطلب" هنا عن الجوري بضم الجيم: أن إنكار الوكيل لا يكون عزلًا لنفسه. الأمر الثاني: أن الإمام لم يحك في إنكار الموكل إلا وجهين: أصحهما: أنه لا يكون عزلًا. وأشهرهما: أنه يكون عزلًا. ثم أبدى الثالثة احتمالًا، وهذا هو السر في تعبير الرافعي بقوله: قريبًا من هذه الأوجه. قوله: فأما إذا شرط فيها جعلًا معلومًا وعقد بصيغة الوكالة فيمكن تخريجه -يعني الجواز من الجانبين- على أن الاعتبار بصيغ العقود أم بمعانيها. انتهى كلامه.

وما ذكره الرافعي بحثًا قد نقله صاحب "البحر"، فإنه حكى وجهين، والحالة هذه في أنها هل هي جائزة أو لازمة؟ . قوله: ونختم الباب بصور نوردها على الاختصار. لو وكل رجلًا بالبيع فباع، ورد عليه المبيع أو أمره بشرط الخيار فشرط ففسخ البيع لم يكن له بيعه ثانيًا خلافًا لأبي حنيفة. انتهى كلامه. تبعه عليه في "الروضة"، واعلم أن ما ذكره في الرد بالعيب مسلم على كلام يأتي فيه أيضًا. وأما ما ذكره في البيع بشرط الخيار فليس على إطلاقه، بل إن كان الخيار لا ينقل الملك عن البائع جاز البيع ثانيًا، وإن نقل امتنع كما جزم به هاهنا، وقيل: لا يمتنع، وإن نقل الملك. هكذا ذكره الرافعي قبيل الكلام على حكم المبيع قبل القبض، فعلى هذا إن كان شرط الخيار في مسألتنا للمشتري لم يجز البيع على الصحيح، وإن شرط للبائع أو لهما جاز لما علم في البيع أن الخيار إن كان لأحدهما فالملك له، وإن كان لهما فموقوف. فإن فسخ تبينا أنه للبائع وإلا فللمشتري فتفطن لذلك فإنه مهم. وقد يقع الرد بالعيب أيضًا في زمن الخيار فيكون فيه هذا التفصيل، وإن وقع بعده امتنع. وحكى الرافعي هنا فيه وجهين أيضًا. قوله: ولو أمره بالبيع أو الشراء فهل له شرط الخيار لنفسه أو للموكل؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح الجواز، كذا صححه الرافعي في البيع في الكلام على الخيار، وصححه في "الروضة" من زوائده.

قوله في "الروضة": إذا وكله ببيع عبد أو شرائه فلا يجوز العقد على بعضه لضرر التبعيض، ولو فرضت فيه غبطة، وفيه وجه شاذ. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه يستثنى ما إذا باع ذلك البعض بقيمة الجميع، فإنه يصح بلا خلاف، كذا ذكره النووي في "تصحيحه" وابن الرفعة في "الكفاية". الأمر الثاني: أن مقتضى كلامه صحة العقد في البعض [إما بشرط] (¬1) الغبطة وهو المتبادر من كلامه، وإما مطلقًا وليس كذلك، بل حاصل كلام الرافعي حكاية خلاف في صورة أخرى، فإنه قال: ولو أمره بشراء عبد وبيع عبد لم يكن له أن يعقد على بعضه لضرر التبعيض ولو كان فيه غبطة كما إذا أمره بشراء عبد بألف فاشترى نصفه بأربع مائة ثم نصفه الآخر أيضًا بأربع مائة فكذلك، ولا ينقلب الكل إليه بعد انصراف العقد عنه، وفيه وجه ضعيف، هذه عبارته. وحاصله حكاية الخلاف في الانصراف وهو المذكور في "الكفاية" لابن الرفعة والاعتراض الأول وارد أيضًا على الرافعي. قوله: ولو قال: ادفع هذا الذهب إلى صائغ، فقال: دفعته فطالبه الموكل ببيانه، قال القفال: يلزمه البيان فلو امتنع صار متعديًا حتى لو بينه بعد ذلك، وكان قد تلف في يد الصائغ لزمه الضمان. قال القفال: والأصحاب يقولون: لا يلزمه البيان. انتهى. قال في "الروضة": هذا المنقول عن الأصحاب ضعيف أو خطأ. قلت: يقرب من هذه المسألة ما إذا كانت عنده شهادة سمعها اتفاقًا أو تحملها قصدًا أو لم يعلم بها صاحب الحق، فيستحب له اعلامه بها كما ¬

_ (¬1) في جـ: إذا وجدت.

جزم به ابن الرفعة في "الكفاية" في الكلام على المبادرة بالشهادة. وليس في الشرحين و"الروضة" تصريح بشيء، بل سياق مثله فيهن يسعر بالوجوب، فإن ثبت ذلك فالوجوب هنا بطريق الأولى. قوله: قال لرجل: بع عبدك لفلان بألف، وأنا أدفعه إليك فباعه له، قال ابن سريج: يستحق البائع الألف على الأمر دون المشتري، فإذا غرم الآمر رجع على المشتري. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي هنا عن ابن سريج واقتصر عليه فالصحيح خلافه، كذا صرح به الرافعي في كتاب البيع في الكلام على البيوع المنهى عنها. واعلم أن ما قاله ابن سريج مخالف لما قاله الأصحاب من ثلاثة أوجه: أحدها: لزوم الألف للآمر، لأنه إن وعد فالوعد لا يجب الوفاء به، وإن ضمن لم يصح لأنه ضمان ما لم يجب ولا جرى سبب وجوبه. والثاني: عدم مطالبة المشتري، لأن الوعد لو وجب والضمان لو صح لم يكن مسقطًا لمطالبة الديون لأن الثمن على المشتري، ولم يؤخذ من الملتزم ما يقتضي عدم وجوبه عليه، ولهذا أجاب بالرجوع. والثالث: حكمه بالرجوع بدون إذن المشتري سواء قلنا بالوعد أو بالضمان، وسكوت الرافعي هنا على نقله غريب. ونقل الماوردي عن ابن سريج مسألة أخرى قريبة من هذه فقال: لو قال لرجل: بع عبدك هذا على زيد بألف درهم وهي علىَّ دونه، فله حالان: أحدهما: أن يكون هذا الآمر هو المتولى للعقد فيصح، ويكون مشتريًا لغيره بثمن في ذمته فيعتبر حال زيد المشتري له، فإن كان مولًا عليه أو أذن فيه كان الشراء للعاقد.

الحال الثاني: أن يكون زيد هو العاقد فوجهان: أحدهما: يصح ويكون العقد لزيد بلا ثمن، والثمن على الضامن الآمر. قاله ابن سريج. والثاني -وهو الصحيح-: أن البيع باطل، لأن عقد البيع ما أوجب بتمليك المبيع عوضًا عن المالك، وهذا مفقود هنا فبطل. فعلى هذا لو قال: بع عبدك بألف درهم على زيد وخمسمائة علىّ، ففعل فعن ابن سريج: العقد صحيح، وعلى المشتري ألف درهم، وعلى الآمر خمسمائة. وعلى الصحيح العقد باطل، هذا كلام الماوردي، ومسألة ابن سريج فيه صورتها أن يكون الثمن على غير المشتري وهى غير صورة الكتاب، ولم يستحضر في الروضة هنا ما ذكره الرافعي في البيع. واعترض على ما نقله عن ابن سريج فقال: الصواب أنه لا يلزم الأمر شيء لأنه ضمان ما لم يجب، ولا جرى سبب وجوبه. واستشكل الرجوع بأن من قضى دين غيره بغير إذنه لا يرجع قطعًا، وما قاله جميعه يدل على ما قلناه من أن الثمن في صورة الكتاب على المشتري غير أن البائع لا يطالب. ثم نقل -أعني النووي- كلام الماوردي متوهمًا أنها المسألة حتى قال في آخرها: إن ما نقله الرافعي عن ابن سريج من الرجوع مخالف لما نقله الماوردي عنه، وهذا الذي قاله ليس كذلك فاعلمه. وقال في الباب الرابع من أبواب الخلع: قال لرجل: بع عبدك لفلان بكذا وعلىّ ألف، فباعه لم يستحق على القائل شيء، وقال الداركي: يحتمل أن يستحق كالتماس الطلاق والعتق، ولو قال: [بعه] (¬1) عبدك بألف في مالى لم يستحق على القائل شيئًا، هذا كلامه. ¬

_ (¬1) في جـ: بع.

قوله: وإذا قال: اشترِ لي عبد فلان بثوبك هذا، أو بدراهمك ففعل حصل الملك للآمر، ورجع عليه الأمور بالقيمة أو المثل، وفي وجه لا يرجع إلا أن يشترط الرجوع. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن شراء الوكيل للموكل يصح تارة بالنية وتارة بالتصريح، ولا يكفي في هذه المسألة أن يقتصر على النية، حتى لو اقتصر عليها وقع العقد للوكيل دون الموكل، كذا جزم به الرافعي في كتاب البيع في أول الكلام على الشرط الثالث من شروط البيع، وتبعه عليه في "الروضة". الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر بعد هذا الموضع بنحو صفحة ما يشكل على ما ذكره في هذه المسألة فقال: قال لرجل: أسلم في كذا وأدِّ رأس المال من مالك ثم ارجع علىّ. قال ابن سريج: يصح ويكون رأس المال قرضًا على الآمر. وقيل: لا يصح، لأن القراض لا يتم إلا بالإقباض، ولم يؤخذ من المستقرض قرض. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: قلت: الأصح عند الشيخ أبى حامد وصاحب "العدة" أنه لا يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهذا الذي قاله أبو العباس سهو منه، قال: وقد نص الشافعي ظنى في كتاب الصرف أن ذلك لا يجوز والله أعلم. هذا كلامه. وقد سبق في الكلام على شروط المبيع طرف صالح من هذه المسألة فراجعها.

قوله: ولو وكله عمرو في استيفاء دينه من زيد فقال زيد: خذ هذه العشرة قضاءًا لدين فلان [فهذا محتمل لكونه وكيله في إعطاء عمرو ولكونه أعطاه بوكالة. انتهى] (¬1). قال في "الروضة": المختار أنه عند الإطلاق إقباض بوكالة عمرو. قوله من "زياداته": قال في "الحاوي": لو شهد لزيد شاهدان عند الحاكم أن عمرًا وكله، فإن وقع في نفس زيد صدقهما جاز له العمل بالوكالة، ولو رد الحاكم شهادتهما لم يمنعه ذلك من العمل بها، لأن قبولها عند زيد خبر، وعند الحاكم شهادة. وإن لم يصدقهما لم يجز له العمل بها، ولا يغني قبول الحاكم شهادتهما عن تصديقه. انتهى. واعلم أنه ينبغي تصوير هذه المسألة بما إذا كان زيد المشهود له هو الذى ادعى وأقام الشهادة لا غيره، ففي الرافعي في باب القضاء على الغائب: أن المدعى لو تعلق بشخص وقال: أنت وكيل فلان الغائب، ولم يعلم الوكيل فقال لا أعلم، فهل للمدعي إقامة البينة على وكالته؟ وجهان: أصحهما: لا، لأن الوكالة حق له فكيف يقام بينة بها قبل دعواه؟ . قوله: قال: اشترِ لي عبد فلان بثوبك هذا أو بدراهمك، ففعل حصل الملك للآمر، ورجع عليه الأمور بالقيمة أو المثل، وفي وجه ضعيف: لا يرجع إلا إذا شرط عليه الرجوع. انتهى. هذه المسألة فيها تفصيل ذكره الرافعي في الشرط الثالث من شروط البيع. قوله أيضًا من "زياداته": الرابعة: وكله أن يتزوج امرأة، ففي اشتراط ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

تعينها وجهان في "البيان" وغيره، والأصح أو الصحيح الاشتراط والله أعلم. وما قاله -رحمه الله- من تصحيح البطلان، قد رجح خلافه في كتاب النكاح في الطرف الخامس من باب بيان الأولياء وأحكامهم. والغريب أنه أيضًا من "زياداته" كما ستعرفه.

الباب الثالث في الاختلاف

الباب الثالث في الاختلاف قوله: ولو وكله في شراء جارية فاشتراها الوكيل بعشرين وزعم أن الموكل أذن فيه، وقال الموكل: ما أذنت إلا في الشراء بعشرة، نظر إن وقع الشراء بالعين، ولم يذكره في العقد، وقال بعده: إنِي اشتريت له وصدقه البائع فالعقد باطل. انتهى. تابعه في "الروضة" على البطلان إذا صدقه أن الشراء وقع للغير مع أنه لابد من شرط أخر. ذكره في "المحرر" و"المنهاج" وهو الاعتراف بأن المال الذي اشتراه به لغيره، لأنه لو قال لغيره: اشترِ لي كذا بدراهمك فاشتراه له، ولم يصرح باسم الوكيل، بل نواه فإنه يقع لنفسه كما ذكره الرافعي في كتاب البيع في الكلام علي بيع الفضولي. فإذا كان كذلك فلا يلزم من اتفاقهما على أن الشراء للغير أن يبطل العقد، بل لابد مع ذلك من الاتفاق على كون المال لغيره. قوله: وإن كذبه البائع وقال: إنما اشتريته لنفسك والمال لك، حلف على نفي العلم بالوكالة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه كيف يستقيم الحلف على نفي العلم، مع أن الحلف يكون على نفي الجواز، وهو لم يجب بنفي العلم بل أجاب بالبت. الثاني: كيف يصح الاقتصار في التحقيق على نفي العلم بالوكالة مع أنه لو أنكر الوكالة، ولكن اعترف بأن المال لغيره كان كافيًا في إبطال البيع، فينبغي أن يحلف على نفي العلم بهما جميعًا كما يجب بهما

جميعًا، بل يكفي التحليف على المال لما ذكرناه فتأمله. قوله: وإن كان الشراء في الذمة، نظر إن لم يسم الموكل بل نواه كانت الجارية للوكيل والشراء له ظاهر، وإن سماه فإن صدقه البائع بطل الشراء لاتفاقهما على أنه للغير، وإن كذبه وقال: أنت مبطل في تسميته، فهل يكون كما لو اقتصر على النية أم يبطل الشراء؟ وجهان: أصحهما: صحته ووقوعه للوكيل. انتهى. وما ذكره هاهنا من بطلان الشراء لأجل اتفاقهما على أنه للغير، وقد سبق منه في أواخر الباب الذي قبله ما يخالف فإنه قال: وأما الشراء المخالف لأمر الموكل فإن وقع بعين مال الموكل فباطل، وإن وقع في الذمة نظر إن لم يسم الموكل وقع عن الوكيل، وكذا إن سماه على أصح الوجهين، وبلغوا التسمية لأن تسمية الموكل غير معتبرة في الشراء، فإذا سماه ولم يكن صرفه إليه صار كأنه لم يسميه. والثاني: العقد باطل. هذا ملخص ما ذكره قبله. قوله: فإن قبلنا قول الموكل بيمينه، فإن كان الوكيل صادقًا فالجارية للموكل، وللوكيل عليه الثمن، فهو كمن له على رجل دين فظفر بغير جنس حقه من ماله فيبيعه. ثم قال ما نصه: وهل يباشر البيع بنفسه أم يرفع الأمر إلى القاضي حتي يبيعه؟ فيه وجهان: الأصح هاهنا: أن له بيعها بنفسه، لأن القاضي لا يجيبه إلى البيع لأن المظفور بماله في سائر الصور يدعي المال لنفسه، وتسلط غيره عليه قد يستبعد، وهاهنا الموكل لا يدعي المال لنفسه. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وكذلك النووي في "الروضة" ومقتضاه أن الظافر بغير جنس حقه في باقي الصور لا يستقل ببيعه على

الصحيح، لكن في التحالف: أنه يستقل على الأصح. قوله في "الروضة": فرع: دعوى الوكيل تلف المال مقبولة بيمينه قطعًا، وكذا دعواه الرد إن كان بلا جعل، وإن كان يجعل على الأصح، وقد ذكرناه في كتاب الرهن. انتهى كلامه. وما تلخص منه في الوكيل بالجعل من عدم الخلاف عند التلف هو ما يقتضيه كلام الرافعي أيضًا، وليس كذلك. فقد حكى عن أبي علي الطبري أن فيه الخلاف في الرد. وحكاه أيضًا الماوردي في كتاب الإجارة، لكن في نفس الموكل فيه كالعين التي يبيعها دون مقابله كالثمن. وإن اختلفا في قبض الثمن فقال الوكيل: قبضته وتلف في يدي أو دفعته إليك وأنكر الموكل، فالأظهر أنهما إن اختلفا قبل تسليم المبيع فالقول قول الموكل، وإن كان بعده فالقول قول الوكيل. ثم قال: وإذا صدقنا الوكيل فحلف ففي براءة ذمة المشتري وجهان: أصحهما عند الإمام: نعم لقبولنا قوله. [قوله] (¬1): وأصحهما عند البغوي: لا، لأن الأصل عدم الأداء وإنما قبلنا من الوكيل في حقه لائتمانه. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وما صححه الإمام قد سبقه إلى تصحيحه القاضي حسين. قوله في المسألة: فإن قلنا بالبراءة فوجد به عيبًا رده على من شاء منهما وغرمه الثمن، ولا يرجع أحدهما على الآخر. ثم قال: ولو خرج المبيع مستحقًا، قال في "التهذيب": يرجع المشتري ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

بالثمن على الوكيل لأنه دفعه إليه، ولا رجوع له على [الموكل لما مر انتهى. وأشار الرافعى بقوله ولا رجوع له -أى للوكيل-] (¬1)، وهو صحيح. وأما ما نقله عن صاحب "التهذيب" وأقره عليه من اختصاص رجوع المشتري بالثمن في هذه الحالة على الوكيل، فقد قاله أيضًا القاضي حسين والمتولي، وجزم به في "الروضة" وليس الأمر كذلك فاعلمه. فقد سبق في الكلام على العهدة أن للمشتري مطالبة الوكيل والموكل بالثمن عند خروج المبيع مستحقًا في أصح الأوجه والمذكور هنا هو أحد تلك الأوجه. قوله: وإذا ادعى قيم اليتيم أو الوصي دفع المال إليه بعد البلوغ لم يقبل إلا ببينة على الصحيح. انتهى كلامه. وهو يوهم أن الأب والجد يقبل قولهما، وليس كذلك، فقد جزم ابن الرفعة في "الكفاية" بأن حكمهما كذلك وكلام الشيخ في "التنبيه" كالصريح فيه. قوله: ومن لا يقبل قوله في الرد كالغاصب إن كان عليه بينة بالأخذ فله أن يمتنع من الدفع إلا بالإشهاد، وإلا فوجهان: أصحهما عند البغوي: له الامتناع. والثاني: المنع لأنه يمكنه أن يقول: ليس عندي شيء ويحلف عليه، وهذا ما أورده العراقيون. انتهى. عبر في "الروضة" بقوله: وبه قطع العراقيون، وليس التعبير بصحيح، فإن الماوردي من العراقيين، وقد جزم بالامتناع. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وحكى القاضي أبو الطيب وجهين، وكذلك ابن الصباغ، واختار -أي ابن الصباغ- التفصيل بين أن يؤدي إلى تأخير التسليم أم لا. قوله: إذا كان عليه دين لزيد فقال رجل: أنا وارثه فصدقه وجب الدفع إليه على المنصوص. انتهى. صورة المسألة أن يقول: هو وارثه لا وارث له غيره. كذا صرح به في "الكفاية"، وهو يؤخذ من كلامهم في الدعاوى [قوله: وإن قال أنا وكيله بالقبض منك فأقبضنيه وصدقه في دعوى] (¬1) الوكالة، فله دفعه، فإن دفع فحضر زيد وأنكر الوكالة فالقول قوله ويطالب الدافع، وهل له مطالبة القابض نظر إن تلف المدفوع عنده فلا. وكذا إن كان باقيًا على الأصح، لأن الآخذ فضولي بزعمه. وقال أبو إسحاق والشيخ أبو حامد: له مطالبته لأنه في معنى وكيل بالدفع. ثم قال: فإن لم يصدقه [فلا يكلف الدفع إليه، فإن دفع ثم حضر زيد وحلف على نفى الوكالة غرم الدافع وكان له أن يرجع على القابض دينًا كان أو عينًا لأنه لم يصرح بصدقه] (¬2). انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من جواز الدفع عند التكذيب مسلم في الدين، لأن الذي يعطيه ملكه. وأما في العين فلا، لأنه تصرف في ملك الغير، وأما ما نقله عن الشيخ أبي حامد من جواز المطالبة، فقد نقل عنه الماوردي عكسه. قوله: وكل يقبض دين أو استرداد وديعة فقال المديون والمودع: دفعت، وصدقه الموكل، وأنكر الوكيل هل يغرم الدافع بترك الإشهاد؟ وجهان كما لو ترك الوكيل بقضاء الدين الإشهاد. انتهى. والأصح منهما على ما قاله في "الروضة" أنه لا يغرم. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار وفيه أربعة أبواب: الباب الأول في أركانه وهي أربعة: قوله: والإقرار إخبار عن حق سابق. انتهى. واعلم أنه لابد من تقييد هذا الحق بكونه على المخبر، لأنه إن كان له على غيره فدعوى، وإن كان لغيره على غيره فشهادة. قوله: وقول الغزالي: ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه يحتاج إلى استثناء صورة. . . . إلى آخره. لم يتكلم على عكس هذه القاعدة، وهو أن من لا يقدر على الإنشاء لا يقدر على الإقرار، وتستثني منها مسائل: إحداها: إقرار المرأة بالنكاح. والثانية: إقرار المجهول بالحرية، فإنه مقبول منه، مع أنه لا يقدر على إنشائه. وهاتان المسألتان استثناهما الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد الكبرى" واقتصر عليهما. الثالثة: إقرار المفلس ببيع عين من الأعيان التي في يده. الرابعة: إقرار الأعمى بالبيع أيضًا. الخامسة: إقرار المريض لوارثه بأنه كان قد وهب وأقبضه. السادسة: الإقرار [بالنسب] (¬1). قوله: ولو ادعى أنه بلغ بالاحتلام، أو ادعت الجارية البلوغ بالحيض ¬

_ (¬1) في جـ: بلا سبب.

في وقت إمكانه صدقا، وإن فرض ذلك في خصومة لم يحلفا، لأنه لا يعرف ذلك إلا من [جهتهما فأشبه ما إذا علق العتق بمشيئة الغير، فقال: شئت يصدق من] (¬1) غير يمين. انتهى كلامه. وما ذكره في التعليق بالمشيئة تابعه عليه في "الروضة"، لكن سيأتيك في تعليق الطلاق أن التعليق على الغير لا يشترط فيه الفور ولا الرضى بالقلب، بل المعتبر التلفظ ولو كان كارهًا. وحينئذ فلا يستقيم ما ذكره من كونه لا يعلم إلا من جهتها، وإنما يستقيم على من يعتبر الرضى بالقلب. قوله: وفي "التهذيب" وغيره: أنه إذا جاء واحد من الغزاة يطلب سهم المقاتلة، وذكر أنه احتلم حلف وأخذ السهم، فإن لم يحلف فوجهان. انتهى. والصحيح أنه لا يعطى، كذا صححه الرافعي في كتاب الدعاوى. وما قاله الرافعي في هذه المسألة من التحليف مشكل مخالف لما سبق قبله. فإن ذكر أن الصبي إذا وقعت له مخاصمة وادعى فيها البلوغ بالاحتلام لا يحلف لأنهما إن صدق فلا يحلف وإن كذب فكيف يحلف، وذكر المسألة أيضًا في أول هذا الباب من "المحرر" وصحح عدم التحليف، وتبعه عليه في "المنهاج". قوله: ولو أطلق المأذون الإقرار بالدين، ولم يبين جهته فينزل على دين المعاملة، أو لا ينزل على ذلك لاحتمال أنه أراد دين الإتلاف، أي حتى لا يقبل في حق السيد. فيه وجهان: أظهرهما: الثاني. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

تابعه في "الروضة" على إطلاق ذلك، لكن هذا صحيح إذا تعذرت مراجعة المأذون، فإن أمكنت المراجعة روجع لأن إقراره مقبول. وقد ذكر النووي هذا الاستدراك في نظير هذه المسألة، تقدم ذكره في أوائل الفلس. قوله: وإذا أقر العبد بدين إتلاف أو غيره، وصدقه سيده فبيع وبقي من الدين شيء فهل يبيع إذا أعتق؟ فيه قولان مذكوران في الجنايات. انتهى. والصحيح أنه لا يبيع به، قال في "الروضة" من "زياداته": إنه الجديد. واعلم أن هذين القولين مستنبطان لا منصوصان على خلاف ما يوهمه هنا كلام الرافعي والنووي، كذا ذكره الرافعي في كتاب الديات. قوله من "زياداته": قال البغوي: كل ما قبل إقرار العبد فيه كالعقوبات فالدعوى فيه تكون على العبد، وما لا يقبل كالمال المتعلق برقبته إذا صدقه السيد فالدعوى على السيد، فإن ادعى في هذا على العبد إن كان له بينة سمعت، وإلا فلا. فإن قلنا: اليمين المردودة كالبينة سمعت رجاء نكوله، وإن قلنا: كالإقرار فلا. انتهى كلامه. وما نقله هنا عن البغوي من جواز الدعوى على العبد إذا كانت له بينة، وأقره عليه خلاف الراجح فاعلمه. وكذلك أيضًا إذا لم تكن له بينة، وجعلنا اليمين المردودة كالبينة، فإن الصحيح على القول بأنها كالبينة أنها لا تتعدى إلى ثالث، بل تختص بالمتداعين، وقد ذكر المسألة على الصواب في المسألة الخامسة من الباب الثاني في جواز الدعوى، وذكر الأمرين اللذين ذكرتهما مع زيادات أخرى فراجعها.

قوله: ويصح إقرار المريض لوارثه في أصح القولين. ثم قال: فإن قلنا: لا يقبل، فالاعتبار بكونه وارثًا بحال الموت أو بحال الإقرار، قيل: فيه وجهان وقيل: قولان: أشهرهما الأول. انتهى. والصحيح أن الخلاف وجهان، كذا صححه المصنف في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة"، ووقع في بعض نسخ الرافعي ترجيحه، فإنه أسقط لفظه قبل. قوله: ولو أقر في مرضه أنه كان وهب لوارثه وأقبضه في الصحة، أشار الإمام إلي طريقين: أحدهما: القطع بالمنع لأنه عاجز عن إنشائه. والثاني: على القولين في الإقرار للوارث، ورجح الغزالي المنع، واختار القاضي حسين القبول. انتهى. قال في "الروضة": القبول أرجح والله أعلم. واختار صاحب "الحاوي الصغير" المنع. إذا علمت ذلك فاعلم أن الخلاف في هذه المسألة مفرع على أن الإقرار للوارث لا يقبل. فإن قلنا: يقبل وهو الصحيح، فيصح هنا جزمًا، كذا ذكره الرافعي في آخر الباب الثاني من أبواب الطلاق، وكلامه هنا لا ينافيه، بل يشعر به عند التأمل، فتفطن له. قوله: ولو أقر المريض بعين ماله لإنسان، ثم أقر بدين آخر مستغرق أو غير مستغرق سلمت العين للأول، ولا شيء للثاني، ولو عكس فوجهان: أصحهما: أن الحكم كما في الصورة الأولى، لأن الإقرار بالدين لا يتضمن حجرًا في العين.

ألا ترى أنه ينفذ تصرفاته فيه. والثاني: يتزاحمان. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه يشعر بنفوذ التبرعات من المريض الذي عليه ديون مستغرقة، وليس كذلك، فقد صرح بعدم النفوذ في كتاب الوصية قبيل الكلام على المسائل الحسابية. وحينئذ فيحمل ما قاله هنا من عدم الحجر ونفوذ التصرفات على ما لا تبرع فيه. نعم لو قضى في مرضه ديون بعض الغرماء لم يزاحمه غيره إن وفى المال بجميع الديون، وكذا إن لم يف على الصحيح المعروف، قاله الرافعي في الوصية. قوله: وقول "الوجيز": ولو قال: نسئت الحمار على ألف لزمه لمالكه المراد ما إذا صرح بأنه لمالكه، وإلا لم يلزم أن يكون لمالك الدابة في الحال، ولكن نسأل ونحكم بموجب بيانه. انتهى. وتوجيه ما قاله أنه يحتمل أن يكون الغرم لغير مالكها بأن يكون أتلف شيئًا على إنسان وهي في يد المقر كما قاله الإمام، وأن يكون لمن كان مالكًا، فلذلك استفسر. قوله: الثانية: إذا قال: لحمل فلانة على ألف فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يسنده إلى جهة صحيحة بأن يقول: ورثه من أبيه، أو أوصى به فلان له فيعتبر إقراره. ثم إن انفصل ميتًا فلا حق له. وإن انفصل حيًا، فإن انفصل لما دون ستة أشهر من يوم الإقرار استحقت، وإن انفصل لأكثر من أربع سنين فلا لتيقن عدمه يومئذ، فإن

أشهر أو لأكثر ولدون أربع سنين، فإن كانت مستفرشة لم يستحق، وإلا فقولان: أظهرهما: الاستحقاق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما دل عليه كلامه من اعتبار المدة من حين الإقرار قد تابعه عليه في "الروضة"، وكيف يستقيم القول به؟ ، بل الصواب اعتبارها من حين سبب الاستحقاق، لأن وجوده عند الإقرار مع عدمه عند تسبب الاستحقاق لا يفيد. الأمر الثاني: أن هذا الترجيح الذي ذكرته، قد صرح به الرافعي في الشرحين "الكبير" و"الصغير" وعبر بالأظهر كما عبرت به، وحذفه النووي من "الروضة" حالة اختصاره، ثم ذكره من "زياداته" وهو غريب. قوله في المسألة: وإن أطلق صح أيضًا في أصح القولين ويحمل على الجهة الممكنة. ثم قال: فإن أسنده إلى جهة فاسدة بأن يقول: أقرضته، فإن لم يصح الإقرار بالمطلق فهو أولى، وإن صححناه فطريقان: أحدهما: أنه على القولين في تعقيب الإقرار بما يدفعه. وأظهرهما: الصحة، لأنه عقبه بما هو غير معقود، ولا منتظم فأشبه ما إذا قال له: على ألف لا يلزمني. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وحاصله أن الأصح القطع باللزوم، ثم ذكر ما يخالفه في "المحرر" فقال: وإن أسنده إلى جهة لا تفرض في حقه فهو لغو. هذا لفظه، وهو تباين فاحش. وقد استدرك في "الروضة" على ما قاله هنا، وصحح عدم اللزوم

كما في "المحرر" و"المنهاج". قوله: وإذا أقر بمال فكذبه المقر له ترك في يده، وقيل: ينزعه الحاكم. وقيل: يجبر المقر له على القبول، وهو بعيد. ثم قال: قال الشيخ أبو محمد: موضع الخلاف ما إذا قال المقر: هذا المال لفلان فكذبه. فأما إذا قال للقاضي: إن في يدي مالًا لست أعرف مالكه فالوجه القطع بأن القاضي يتولى حفظه، وأبعد بعضهم فلم يجوز انتزاعه هنا أيضًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي نقله عن الشيخ أبى محمد فيما إذا أقر به لغير معروف، وأقره عليه، وتابعه النووي فيه، ليس هو الصحيح فافهمه. فقد ذكر في أربعة مواضع من هذا الكتاب ما يخالفه: أحدها: في هذا الباب في آخر الكلام على هذا الركن فقال: إذا قال: لو أخذ من بني آدم ولا طالب له فيبقى في يده. الثاني: في باب دعوى الدم والقسامة فقال: إنه مال ضائع، وفي مثله خلاف مشهور، هذا لفظه. والمال الضائع له إمساكه في يده، وله إعطاؤه للحاكم كما ذكر في الزكاة في الكلام على الركاز وفي غيره أيضًا. الثالث: في أول كتاب الدعاوى، فإنه حكى في ذلك وجهين ثم صحح أن الحاكم لا ينزعها. الرابع: في الكتابة في الكلام على ما إذا أتى المكاتب بالنجوم فادعى السيد أنه مغصوب، وعبر في هذا الموضع وفيما قبله بالأصح.

الأمر الثاني: أن هذه الأوجه تجرى في الدين كما تجرى في العين، وقد صرح به الرافعي في مواضع، منها: كتاب الشفعة في الكلام على ما إذا ادعى الشفيع الشراء وأنكر الذي بيده الشقص، وسوف أذكر المسألة هناك إن شاء الله تعالى، لكنه فيها يحتاج إلى التنبيه فراجعه. وصرح به أيضًا الرافعي بعد هذا بقليل قبيل الركن الثالث، ووقع في "الكفاية" و"المطلب" أن الخلاف محله في العين. قال في "المطلب": وأجراه ابن يونس شارح "التنبيه" في الدين أيضًا، ولم أره لغيره. وما قاله ابن الرفعة غريب، وقد نبهت عليه في كتاب "الهداية إلى أوهام الكفاية". قوله: ولو رجع المقر عن الإنكار وصدق المقر فقد حكى إمام الحرمين الجزم بقوله: وتسليم المقر إليه، ولكن الأظهر وهو الذي أورده المتولي وغيره: تفريعه على الخلاف السابق إن قلنا: يترك في يد المقر، فهذا حكم منا بإبطال ذلك الإقرار، فلا يصرف إلى المقر له إلا بإقرار جديد، وإن قلنا: ينزعه القاضي ويحفظه فكذلك لا يسلم إليه، ولو أراد إقامة البينة على أنه ملكه لم يسمع، وإنما يسلم إليه إذا فرعنا على الوجه البعيد. انتهى كلامه. وما قاله لا يستقيم إلا على ذلك البعيد وهو القائل بأن المقر له يجبر على القبول لا يحتاج إلى رجوع، وليس التفريع عليه، فإذا لم يعطه إليه إلا على هذا الوجه البعيد لم يستفد من التفريع زيادة. وذكره لهذا الكلام تطويل بلا فائدة، فكان ينبغي أن يقول: ولكن الأظهر أن حكمه كما لو رجع. قوله: واستثنى صاحب "التلخيص" ثلاث ديون، ومنع الإقرار بها:

أحدها: الصداق في ذمة الزوج لا تقر المرأة به. والثاني: بدل الخلع في ذمة المرأة لا يقر الزوج به. والثالث: أرش الجناية على الحر لا يقر به المجني عليه، لأنه لا يكون لغيرهم. وحمل الأئمة ما ذكره على ما إذا أقربها عقب ثبوتها، بحيث لا يحتمل جريان ناقل، لكن سائر الديون أيضًا كذلك، فلا ينتظم الاستثناء، بل الأعيان كذلك حتى لو أعتق عبده، ثم أقر [أنه للسيد أو غيره] (¬1) بدين أو [عين] (¬2) لم يصح. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن هذا الحمل الذي ذكره وعزاه إلى الأئمة واقتضى كلامه الاتفاق عليه ليس كذلك، فقد نقل أبو حاتم القزويني في كتاب "الحيل" له ما حاصله: أن المشهور أنه لا فرق في عدم الصحة، عبر بقوله: لم يصح ذلك على المعول من المذهب، فلو أن هذا المقر قال: هذا لفلان بحق الحوالة الصحيحة لزمه الإقرار. هذا لفظه. فلم ينظر إلى مضي الزمن وعدمه، بل إلى وجود هذا اللفظ وعدم وجوده، فجعل إيصاله موجبًا بالاتفاق وإن لم يمض زمن، وعدمه محلًا للخلاف فتأمله. الأمر الثاني: أن دعواه اطراده في سائر الديون ليس كذلك. فأمر إذا باعه مثلًا سلعة ثم أقر له بثمنها، فيجوز أن يكون وكيلًا عنه في البيع، فيكون الإقرار صحيحًا، وهكذا في القرض والإجارة والصلح، ومثل هذا لا يأتي في مسائل صاحب "التلخيص". الأمر الثالث: أن الحصر في الثلاث غير مستقيم، فإن المتعة والحكومة ¬

_ (¬1) في جـ: له. (¬2) في أ: عتق.

والمهر الواجب عن وطء الشبهة وأجرة بدن الحر كذلك. قوله: ولو أقر بحرية جارية قبل نكاحها منه -أى ممن يدعي رقها- لم يحل له وطئها. انتهى. وهذا الكلام ليس على إطلاقه، بل ينبغي كما قاله في "الروضة" أن يقال: إن أقر أن زيدًا أعتقها، ولم يكن لها عصبة صح تزويجه، لأنه إما مالك، وإما ولى حرة. والذي قاله متجه، لكن ينبغي أن يضم إليه أن النكاح وقع بإذنها، وإلا فلا يأتي ما قاله لأنه غير صحيح على تقدير أن يكون وليًا. قال الماوردي: ولا فرق هنا في نكاح المقر بين أن يكون ممن يحل له نكاح الأمة أم لا، وكانه نظر إلى إقراره بالحرية، وهو مشكل لأنا لم نصدقه فيما يتعلق بالسيد، ولهذا أوجبوا عليه المهر. وحينئذ فيكون أولاده أرقاء، ويلزم منه أن يمتنع النكاح إلا عند وجود الشرائط، ثم إن القول بصحة النكاح من أصله مشكل، فإن البيع إنما صححناه لما يترتب عليه من الحرية. ولهذا جعلناه افتداء من جهته، وأما النكاح فإن مقصوده وهو استباحة الوطء لا يترتب عليه، وهذا شرط في صحة النكاح، ثم إنه إذا امتنع تسليمها وامتنعت الخلوة بها لزم امتناع تسليم المهر. قوله: ولو قال له قبلي ألف، قال في "التهذيب": هو دين، ويشبه أن يكون صالحًا للدين والعين جميعًا. انتهى. وهذه المسألة ليست في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير"، والذي ذكره فيها على سبيل التفقه واختاره قد سبقه إليه الماوردي في "الحاوي"، وتبعه عليه أيضًا النووي وهو خلاف مذهب الشافعي، فإنه قد نص في "الأم" على ما إذا قال له: على ألف درهم، ثم فسرها بوديعة وأجاب

فيها بما قاله الأصحاب من كونه لا يقبل إلا إذا كان متصلًا، ثم قال ما نصه: وكذلك لو قال له: قبلي ألف درهم فوصل الكلام أو قطعه كان القول فيها مثل المسألة الأولى إذا وصل أو قطع. هذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. ذكره في باب الإقرار والمواهب، ووقوع مثل هذا الموضع في هذا الكتاب ينشأ عنه فساد كبير في الحكم والإفتاء حيث تكون المسألة منصوصة لإمام المذهب، ثم يقتصر الرافعي على نقلها عن متأخر معدود في المصنفين لا يتوقف المتوقف في مخالفته، ولا يهاب الإقدام على رد مقالته بما ظهر له. فحينئذ يخالف المذكور بما يظهر له لعدم وقوعه على غيره، ثم يقلده فيه من يأتي بعده فيحكم به، ويفتي كما وقع في هذه المسألة وأمثالها، ولبادروا إلى الجواب بما قاله الرافعي، وزعموا أنه مذهب الشافعي كما وقع هنا لصاحب "الحاوي الصغير" فإنه أجاب به، فنسأل الله الكريم الهداية إلى الصواب. قوله من "زياداته": وقولنا: إقرار بالعين معناه أنه يحمل عند الإطلاق على أن ذلك عين مودوعة له عنده. قاله البغوي. قال: حتى لو ادعى بعد الإقرار أنها كانت وديعة وتلفت، أو رددتها قبل قوله بيمينه، بخلاف ما إذا قلنا: إنه دين فإنه لو فسر بالوديعة لم يقبل، وإذا ادعى التلف لم ينفعه، بل يلزمه الضمان. انتهى كلامه. وما ذكره عن البغوي وأقره عليه من أنه لا يقبل منه فيما صرفناه إلى الدين تفسيره بالوديعة، ودعوى تلفه أو رده قد ذكر بعده في الباب الثالث المعقود لتعقيب الإقرار بما يرفعه ما حاصله رجحان مخالفة هذا فقال: لو قال له: على ألف ثم ادعى بعد الإقرار أنها وديعة وأنها تلفت، فالذي

نقله الإمام عن الأصحاب: أنه لا يقبل، وهو مشكل دليلًا ونقلًا. أما الدليل: فكذا. وأما النقل: فمقتضي كلام غيره تصديقه. وقد صرح به صاحب "الشامل" في موضعين من الباب. انتهى ملخصًا. وصرح بتصحيحه في "المحرر" و"المنهاج". نعم إن قال: في ذمتي له كذا لم يقبل تفسيره بالعين على الصحيح. قوله: إذا قال: لي عليك ألف فقال في جوابه: أو خذ أو استوف، أو اتزن بهمزة الاستفهام لم يكن إقرارًا، لأنه ليس بالتزام، ولأنه يذكر للاستهزاء، وقيل: الأخير إقرار. ولو قال: زنه أو خذه فليس بإقرار. وقال الزبيدي في "الكافي": إنه إقرار، ولو قال: شده في هميانك أو اجعله في كيسك واختم عليه فهو كقوله: زنه. انتهى. وهذا الذي نقله عن "الكافي" مردود، فقد راجعت كلامه في كتاب الإقرار، وهو بعد نصف الكتاب بقليل فرأيته لم يذكر ذلك إلا مع المضارع بهمزة الاستفهام. ولم يذكر ما ذكره الرافعي من ألفاظ الأمر بالكلية، والمضارع المذكور أولى بالوجوب من الأوامر، بدليل الوجه الذي حكيناه عن الرافعي. وحينئذ فلا يلزم من الوجوب مع المضارع وجوبه في الأوامر، بل رأيته قد خالف ذلك بالنسبة إلى المضارع أيضًا في كتابه المسمي "بالمسكت" في باب الإقرار وهو قريب من أواخر الكتاب، فإنه نقل عن العراقيين من أصحابنا هذه التفرقة في المضارع، ثم قال: وهما في القياس عندي واحد لأنه يقال: اتزن من فلان أو اتزن ممن لك عليه، وهكذا إذا قال:

اتزنها. فهو محتمل لما وصفناه. نعم إذا قال: اتزنها منى فهذا عندى إقرار. انتهى كلامه. فتلخص أن الصور ثلاثة، وقد تكلم على جميعها، لكن مع المضارع خاصة، وأما مع الأمر فليس له فيها كلام في الكتابين، لا في "الكافي" ولا في الذي لم يقف عليه وهو "المسكت". قوله في أصل "الروضة": ولو قال: أنا مقر به فهو إقرار. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر بعد هذا كلامًا آخر يدل على اشتراط المخاطبة أى بأن يقول: أنا مقر لك به، فإنه قال: ولو قال: أنا مقر ولم يقل به، أو قال: لست منكرًا أو أنا أقر لم يكن إقرار الجواز أن يريد الإقرار ببطلان دعواه، أو بأن الله تعالى واحد، وهذا يدل على أن الحكم بأن قوله: أنا مقر به إقرار فيما إذا خاطبه فقال: أنا مقر لك به، وإلا فيجوز أن يريد به الإقرار به لغيره. هذا كلامه. وهو ظاهر متجه، وإسقاط النووي له غريب. قوله: ولو قال: أنا أقر لك به، فوجهان نسب الإمام إلى الأكثرين: أنه إقرار، وفي "التنبيه" كلام فإن العراقيين والقاضيان الحسين والروياني وغيرهم أجابوا بخلافه لاحتمال الوعد. ولا يحكي الثاني إلا نادرًا، لكنه مؤيد بأنهم اتفقوا على أنه لو قال: لا أنكر ما يدعيه كان إقرار عين محمول على الوعد. ورأيت بعض أصحاب العبادي أجاب بأن العموم إلى النفي أسرع منه إلى الإثبات، ولهذا عمت النكرة المنفية دون المثبتة. انتهى. عبر في أصل "الروضة" بقوله: لأن العراقيين والقاضيين حسينًا والروياني قطعوا بأنه ليس كذلك، فإن القاضي أبا الطيب من كبارهم،

وقد قال بأنه يكون إقرارًا، كذا رأيته في الكتاب الذي نقل عنه، ومصنفه ببعض أصحاب العبادى وهو "الإشراف" للهروي نقلًا عنه، ورأيت فيه الفرقال في ذكره الرافعي، وهو يقتضي أن الوعد في المضارع العاري عن لا أقرب من المقترن بها، وهو بالعكس لأن النحاة مع تسليمهم أن المضارع المثبت يحتمل الحال والاستقبال، اختلفوا في المنفي بلا. فذهب جمهورهم إلى اختصاصه بالاستقبال، وقال: الأقلون هو باق على الاحتمال، وصححه ابن مالك. وللمسألة إلتفات أيضًا إلى أن المشترك هل يحمل على جميع معانيه عند الإطلاق أم لا؟ فإن حملناه -وهو مذهب الشافعي- اتجه القول بأنه إقرار مع المثبت والنفي، لأن المضارع مشترك بين الحال والاستقبال. قوله: ولو قال: أبرأني عنه فإقرار، وقيل: لا لقوله تعالى في حق موسى -عليه الصلاة والسلام-: {فَبَرَّأَهُ اللَهُ مِمَّا قَالُوا} (¬1) وتبرأته عن عيب الأدرة لا تقتضي إثباته هنا. انتهى. واعلم أن الأدرة بهمزة مضمومة ودال مهملة ساكنة وراء مهملة هي نفخة في الخصية كما سبق إيضاحه في باب الأحداث، وكان موسى -عليه السلام- يستتر عند غسله فكانت بنو إسرائيل يقولون: إنه آدر، فجاء ليغتسل يومًا فوضع ثوبه على حجر فمشي الحجر بثوبه إلى أن أتى إلى مكان فيه ملأ من بني إسرائيل -أى أشرافهم- فتبعه موسى -عليه السلام- وجعل يضربه ويقول: ثوبي حجر -أي: دع ثوبي يا حجر- فرأه بنو إسرائيل، وليس به عِلّة" (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" بعبارات مختلفة. قوله: اللفظ وإن كان صريحًا في التصديق فقد تنضم إليه قرائن ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 69. (¬2) أخرجه البخاري (3223) ومسلم (339) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

تصرفه عن موضعه إلى الاستهزاء والتكذيب، ومن جملتها الأداء والإيراد وتحريك الرأس الدال على شدة التعجب والإنكار، فيشبه أن يحمل قول الأصحاب. إن صدقت وما في معناها إقرار على غير هذه الحالة. فأما إذا اجتمعت القرائن فلا يجعل إقرارًا، أو يقال: فيه خلاف لتعارض اللفظ والقرينة كما لو قال: لي عليك ألف، فقال في الجواب على سبيل الاستهزاء لك علىّ ألف، فإن المتولى حكى فيه وجهين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تعبير الرافعي بقوله: وألا يراد هو بالدال في آخره، وكذا نقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" و"المطلب" ومن خطه نقلت، ومراده بذلك كيفية أداء الكلمة وإيرادها من الضحك معها، وغير ذلك. ووقع في "الروضة" بغير دال ظنًا أن المراد الابراء من الدين، وهذا لا معنى له هاهنا. الأمر الثاني: أن النووي قد تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين عن "التتمة" من غير ترجيح، ولكن لما حكى المتولى الوجهين قال عقبها ما نصه: وأصل المسألة إذا أقر بشيء ثم وصله بما يرفعه. هذه عبارته. والأصح في المسألة التى فرع هذه عليها هو اللزوم والعجب من إهمال الرافعي لهذه المسألة التى تعلم منها الترجيح، ثم إن هذا الحكم لا يختص بهذا المثال الذي ذكره صاحب "التتمة" بلا شك، لاسيما والتعليل يرشد إليه، والسياق يدل عليه، فتوقف الرافعي غريب. قوله: وإن قال: أليس لى عليك ألف؟ فقال: نعم، ففي كونه إقرار وجهان. . . . إلى آخره.

والأصح على ما ذكره في "المحرر": أنه إقرار، وكلام الكتاب ربما يشعر به. قوله: وإذا قال: اشترِ منى عبدى هذا، فقال: نعم، فهو إقرار منه للقائل كما لو قال: اعتق هذا، فقال: نعم، ويمكن أن يكون فيه خلاف مما سبق في الصلح فيما إذا قال بعنيه. انتهى كلامه. وما ذكره في الإعتاق ذكر مثله في "الروضة"، ولا شك أن المسألة غير المسألة، فإن كان المراد أن يقول: أعتق عبدي، فلا شك أن الحكم واحد والاختلاف إنما هو بالأمثلة، فكيف يقيس إحداهما على الأخرى؟ . قوله: ولو قال: لا أقر، ولا أنكر، فهو كسكوته فيجعل منكرًا، ويعرض عليه اليمين. انتهى كلامه. وما قاله من كونه كالمنكر، ويعرض عليه اليمين قد قاله غيره، وأما كون هذا حكم السكوت، فليس مطابقًا لما قاله في الدعوى، فإنه قد قال في أول الباب المعقود لجواب الدعوى: فإن سكت وأصر على السكوت جعل كالمنكر فيرد اليمين على المدعى. قوله: ولو ادعى عليه عبدًا في يده، فقال: اشتريته من وكيلك فلان فهو إقرار له، ويحلف المدعي على أنه ما وكل فلانًا بالبيع. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على جعله مقرًا بهذا اللفظ، وهو مشكل، لأنه لا يلزم من اعترافه بالشراء من وكيله اعترافه بأنه وكله في بيعه، فإن الوكيل كما يتصرف للموكل يتصرف لنفسه، فينبغي حمل ذلك على ما إذا ضم إليه لفظًا آخر يقتضي اعترافه بالتوكيل في بيعه كقوله: انتقل إلى عنك بالشراء من وكيلك، ونحو ذلك. قوله في "الروضة": ولو قال: كان علىّ ألف لفلان، أو كانت هذه

الدار في السنة الماضية له، فهل هو إقرار في الحال عملًا بالاستصحاب أم لا لأنه غير مقر في الحال؟ فيه وجهان. قلت: ينبغي أن يكون أصحهما الثاني، وقد أشار إلى تصحيحه الجرجاني. والله أعلم. ولو قال: هذه داري أسكنت فيها فلانا ثم أخرجته فهو إقرار باليد على الأصح، لأنه اعترف بثبوتها وادعى زوالها. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي ذكره هنا قد خالفه في كتاب الدعاوى، فقال في الباب الخامس منه: ولو قال المدعى عليه: كان ملكه أمس، فالأصح وبه قطع ابن الصباغ: أنه يؤاخذ به إلى آخر ما ذكر. ثم قال: ولو قال: كان في يدك أمس فهل يؤاخذ بإقراره؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ. قلت: الأصح المنع. والله أعلم. فانظر إلى هذا الاختلاف الغريب، كيف صحح في هذا الباب من أصل الروضة أنه يؤاخذ بالإقرار باليد، ورجح من "زياداته" عدم المؤاخذة بالإقرار بالملك، وفي "الزيادات" أنه لا يؤاخذ بالإقرار باليد، وقد ذكر الرافعي في أوائل الباب ما يخالف ما نقلناه عنه أولًا فقال: ولو قال له: على ألف قضيته لم يقبل، ولو قال: كان له على ألف قضيته قبل على الصحيح فيهما. الأمر الثاني: أن قوله: إن الجرجاني أشار إلى تصحيحه غريب، فإن الجرجاني قد ذكر ما هو أبلغ من التصريح بالتصحيح، فإنه لما حكى الوجه القائل باللزوم قال: إنه ليس بشيء، هذا في "الشافي".

وعبر في "التحرير" بقوله: لم يكن إقرارًا، وقيل: يكون. قوله: ولو قال: اقضِ الألف التي لى عليك، فقال: أعطى غدًا، أو ابعث من يأخذه، أو أمهلني [يومًا أو أمهلنى] (¬1) حتى أصرف الدراهم أو أفتح الصندوق، أو أقعد حتى تأخذ أو لا أخذ اليوم أو لا تدم المطالبة أو ما أكثر ما تتقاضى، أو: والله لأقضينك، فجميع هذه الصور إقرار عند أبي حنيفة. وأما أصحابنا فمختلفون في ذلك، والميل إلى موافقته في أكثر الصور أكبر. انتهى. وما ذكره من اللزوم في أعطى غدًا أو نحوه مما عرى عن الضمير العامل على المال المدعى به [مردود] (¬2)، بل يتعين أن يكون التصوير عند انضمام الضمير كقوله: أعطيه ونحوه، فإن اللفظ بدونه يحتمل أن يراد به المذكور وغيره على السواء، ولهذا لو قال: أنا مقر به أو بما يدعيه أو لست منكرًا له كان إقرارًا، ولو لم يأت بالضمير فقال: أنا مقر أو لست منكرًا أو أنا أقر، فليس بإقرار كما ذكره الرافعي قبل هذا بقليل. وحينئذ فيكون قول الرافعي: أنا نوافقهم في الأكثر للاحتراز عن هذه الصور فاعلمه. نعم حذف في "المحرر" الثلاثة الأخيرة، وصرح بالترجيح في أكثر الصور وعينها فقال: ولو قال: اقضِ الألف التى لي عليك، فقال: نعم أو أقضي غدًا أو أمهلني يومًا أو حتى أقعد وأفتح الكيس أو أجد، فإقرار في الأشبه. انتهى، وعبر في "المحرر" بالأصح. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قوله: ولو قال معسر: لفلان على [ألف] (¬1) إن رزقني الله مالًا فقيل: ليس بإقرار للتعليق، وقيل: إقرار، وذلك بيان لوقت الأداء، والأصح: أنه يستفسر، فإن فسر بالتأجيل صح، وإن فسر بالتعليق لغى. انتهى. أهمل -رحمه الله- ما إذا تعذر استفساره وقياس المذهب فيه: أنه لا يلزمه شيء، وقد صرح به الهروي في "الإشراف" فقال بعد حكاية ما ذكره الرافعي وجوهًا وتصحيحًا ما نصه: فإن مات قبل البيان فلا يحكم بالوجوب إذا تعذر تحصيل البيان من الورثة، إن الأصل فراغ الذمة، هذه عبارته والذي قاله واضح، وسأذكر إن شاء الله تعالى في أوائل تعليق الطلاق من "زوائد الروضة" مثله، والرافعي -رحمه الله- نقل أكثر مسائل هذا الفصل عنه من الكتاب المذكور، وقلده في أكثرها. وصرح به في بعض المسائل إلا أنه لم يصرح باسمه -أعني في هذا الموضع-، بل عرفه شيخه فقال بعض أصحاب أبى عاصم العبادى والعجب كيف ترك الرافعي من كلامه بقية هذه المسألة، وهى من المهمات المستفادات. وإذا علمت جميع ما ذكرناه فاعلم أن النووي قد ذكر في "الروضة" من "زوائده" نقلًا عن "العدة": أن الأصح أنه إقرار، وسكت عليه، والمراد بالعدة في كلامه هنا عدة أبي المكارم ابن أخت الروياني، لا عدة الحسين الطبري لما ستعرفه. وهذا التصحيح الذي نقله عنها لا يستقيم مع تصحيحه [وجوب المراجعة لما سبق أيضًا، وإنما قلنا: إنه ليس المراد "عدة الحسين"، لأني رأيت فيها أن الصحيح في أصل المسألة لزوم الألف، ولم يذكر ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

المراجعة] (¬1) بالكلية، ونقله أيضًا عنه العمراني في "البيان" وأقره وكذلك [في كتابه المسمى بالزوائد، وهذا التصحيح مقتضاه تصحيح اللزوم عند] (¬2) عند تعذر المراجعة. ولا يبعد أن يكون أبو المكارم الروياني قد صحح في عدته ما صححه هؤلاء من اللزوم، وفرع عليه أنه إذا مات لزمه ذلك، فأخذ النووي هذا الفرع وضمه لما قرره هو فلزم الخلل، غير أني لم أراجع "العدة" المذكورة. قوله: وإن قال: إن شهد على فلان وفلان أو شاهدان بكذا فهما صادقان، فهو إقرار في أظهر القولين، وإن لم يشهدا. ولو قال: إن شهدا فصدقهما، فليس بإقرار. انتهي كلامه. وتقييده في المسألة الأولى بقوله: بكذا لابد منه واحترز به عما لو قال: ما يشهد به شاهدان على فإنهما عدلان صادقان، فإنه لا يكون إقرارًا، بل تزكية وتعديلا، كذا نقله الرافعي في باب التزكية عن الهروي، ولم يخالفه. قوله من "زوائده": قال في "البيان": ولو قال: لي عليك ألف درهم، فقال لزيد: علىَّ أكثر مما لك، لا شيء عليه لو أخذ منهما. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب "البيان" وأقره عليه من عدم اللزوم لزيد عجيب مخالف لمدلول اللفظ، والصواب اللزوم لزيد، وتقبل منه دعوى إرادة القليل، كذا ذكره الأصحاب، وعللوه بأن القليل قد يوصف بالكثرة بالإضافة إلى قلة النفع بمال الغير، ونحو ذلك، وقد ذكره الرافعي بعد هذا بنحو ورقتين. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

لواحد منهما لاحتمال أنه قاله على سبيل السخرية. هذه عبارته، إلا أنه لم يصرح بلفظ المال، والتعليل يشعر بإرادته. ويحتمل أنه أراد بما ذكره الإقرار بالألف، بل الظاهر ذلك، فعبر النووي بما عبر فأوقع في الفساد. قوله في "الزوائد" أيضًا، وإن كتب لزيد على ألف درهم، ثم قال للشهود: اشهدوا علىّ بما فيه، فليس بإقرار كما لو كتبه عليه غيره فقال: اشهدوا بما كتب. وقد وافقنا أبو حنيفة على الثانية دون الأولى، ووافق أيضًا على ما لو كتب ذلك على الأرض. انتهى كلامه. وما ذكره في "زوائده" من كونه ليس بإقرار عندنا في المسألتين، قد ذكره في الباب الثاني من كتاب الطلاق قبيل الطرف الثاني من كتاب الطلاق المعقود للإيلاء، فقال عن "فتاوى الغزالي" ما حاصله: الوقوع ظاهر في المسألتين، فإنه ذكر ذلك في المسألة الثانية، وهي ما لو كتبه غيره. وحينئذ فيؤخذ منه ذلك في المسألة الأولى بطريق الأولى، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. وأبين أن الفتوى على المذكور هنا فراجعه. قوله أيضًا في "الزيادات": ولو قال: له على ألف إلا أن يبدو لي، فوجهان حكاهما في "العدة" و"البيان"، ولعل الأصح أنه إقرار. انتهى كلامه. والصواب أنه لا يلزمه شيء، فقد نقله الهروي في "الإشراف" عن نص الشافعي، وهو قول أبي حنيفة، والشيخ أبي الطيب لم يصحح هذا

نص الشافعي، وهو قول أبي حنيفة، والشيخ أبى الطيب لم يصحح هذا الاستثناء فجعله بمنزلة قوله: له علىّ عشرة إلا عشرة، لأنه استثناء يرفع الجميع. والشافعي قاسه على ما إذا قال: إن شاء الله. هذا لفظه، ذكر ذلك في أواخر مسألة، أولها إذا قال: علىّ درهم، وهو قريب من نصف الكتاب. وإذا تأملت أمثال هذه المواضع الواقعة في هذين الكتابين تعجبت مما وقع فيهما، وعلمت أنه لا تحل المبادرة إلى الإفتاء بجميع ما فيهما إلا إذا صرحا بنقله عن النص، أو عن مقالة الأكثرين.

الباب الثاني في الإقرار بالمجمل

الباب الثاني في الإقرار بالمجمل قوله: لكن الأصح هاهنا المنع يعني منع تفسير الشيء بالخمر الغير المحترمة وغيرها مما لا يقتني، ثم قال: لأنه ليس فيه حق واختصاص، فلا يلزم ردها. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي ذكره لم يذكره في "الروضة"، وهو يرشد إلى أن صورة المسألة أن يكون المقر له مسلمًا. أنها إذا كان ذميًا فيصح التفسير بغير المحترمة، فتفطن لذلك وسببه أنه لو غصبها منه لكان يجب عليه ردها على الصحيح، كما ذكروه في باب الغصب. قوله: ولو فسره يعني الشيء بالعبادة ورد السلام لم يقبل، لأنه بعيد عن الفهم في معرض الإقرار، إذ لا مطالبة بهما، والإقرار في العادة يكون ما يطلبه المقر له ويدعيه. قال في "التهذيب": ولو قال له: علىَّ حق، قبل التفسير بهما وظن أن الفرق بينهما عسير، وكيف لا، والحق أخص من الشيء فيبعد أن يقبل [الأخص بما لا يقبل] (¬1) به تفسير الأعم، وبتقدير أن يكون الأمر كما ذكره فينتقض به التوجيه المذكور. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، وما حاوله الرافعي من التسوية بينهما قد صرح به القاضي حسين في "تعليقه"، فقال كما نقله عنه في "الكفاية": الظاهر أنه لا يقبل تفسير الحق بهما. ومقتضى كلام الرافعي أنه لم يقف عليه، ومع ذلك فما ذهب إليه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

البغوي هو المتجه، ولا عسر في الفرق، ولا انتقاض في التوجيه، وذلك لأن أهل العرف يطلقون لفظ الحق على هذه الأمور فيقولون: لفلان علىّ حق، ويريدون خدمته له، وسعيه إلى بابه وغير ذلك، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حق المسلم على المسلم خمس. . . ." (¬1)، ثم ذكر من جملتها عيادة المرضى، ورد السلام، فصار المعنى المتقدم، وهو أن الإقرار لا يكون إلا بما يطلب معارضًا باستعمال الشرع والعرف في لفظ الحق بخلاف لفظ الشيء، فإنه لم يعارض المعنى فيه شيء لعدم استعماله في رد السلام والعبادة ونحوهما لا شرعًا ولا عرفًا. قوله: وقال صاحب "التهذيب": ولو [أوصى] (¬2) بمجمل فمات فبينه الوارث وزعم الموصى له أنه أكثر، يحلف الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض لإرادة المورث. انتهى كلامه. وما نقله عن البغوي تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإن البغوي نقله عن غيره فقال ما نصه: قال شيخنا الإمام -رحمه الله-: هذا بخلاف ما لو أوصى بشيء معلوم، وبينه الوارث فادعى الموصى له أكثر من ذلك، يحلف الوارث أني لا أعلم أنك مستحق غير هذا، ولا يحلف على إرادة المورث. هذا لفظه. واعلم أن القاضي الحسين قد ذكر في "تعليقه" ما يشعر به كلام البغوي. قوله: فرع: لو مات قبل تفسير الشيء وامتنع الوارث منه فقولان: أحدهما: أنه يوقف مما ترك أقل ما يتمول. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1183) ومسلم (2162) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سقط من أ.

وأظهرهما: أنه يوقف الكل، لأن الجميع وإن لم يدخل في التفسير فهو مرتهن بالدين. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، وهو مشكل كما قاله ابن الرفعة في "المطلب"، وذلك لأن تفسير الشيء بالاختصاصات كالسرجين وغيره مقبول. فلم يتيقن وجوب مال فضلًا عن كونه دينًا مقتضيًا للرهن، فلا يستقيم القول بالوقف في الكل، ولا في البعض. قال: لا جرم أن الهروي في "الإشراف" حكاهما فيما إذا قال له: علىّ مال. قوله: الضرب الثاني: قال: فإذا قال له: علىّ مال قبل تفسيره بأقل [متمول] (¬1)، ولا يقبل بما ليس بمال كالكلب وجلد الميتة. قال الإمام: والوجه القبول بالثمرة الواحدة حيث يكثر الثمر، لأنه مال، وإن لم يتمول في ذلك الموضع، هكذا ذكره العراقيون. وقالوا: كل متمول مال، ولا ينعكس، وتلتحق حبة الحنطة بالثمرة. انتهى كلامه. وما ذكره في الحبة ونحوها أنها لا تعد مالًا، قد خالفه في كتاب البيوع في الركن الثاني في الكلام على اشتراط النفع، وقد سبق ذكر عبارته هناك فراجعها. قوله: ولو قال له: على مال عظيم قبل أيضًا تفسيره بأقل ما يتمول، وذهب بعض الأصحاب فيما حكاه القاضي حسين وغيره إلى أنه يجب أن يزيد تفسير المال العظيم على تفسير مطلق المال ليكون لوصفه بالعظيم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فائدة، واكتفي بعضهم بالعظم من حيث الجرم والجثة. انتهى كلامه. وحاصله حكاية وجهين آخرين، ولم يذكر في "الروضة" منهما غير الأول، وحذف الثاني. واعلم أن القاضي لم ينقل هذا الوجه عن أحد كما دل عليه كلام الرافعي، بل أبداه احتمالًا لنفسه، ثم أبطله فقال بعد نقله عن النص إنه يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم ما نصه: ولو قيل يلزمه أدنى زيادة على أقل ما يتمول ليتوفر به على العظم فائدة، وأسقط به معظم أسألتهم في المسألة، لم يبعد غير أنه مخالف للنص. هذا كلام القاضي في "تعليقه". والذي أوقع الرافعي في هذا هو الإمام، فإن عبارته موهمة. قوله: في الكلام على ما إذا قال: لفلان علىّ أكثر مما في يد فلان، ولو كان في يده عشرة دراهم وقال المقر: لم أعلم وظننت أنها ثلاثة قبل قوله مع يمينه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" هنا عليه، وهو يوهم أنه لو اعترف بالعلم لم يقبل تفسيره بالثلاثة، وليس كذلك فاعلمه، بل يقبل تفسيره بأقل ما يتمول كما اقتضاه التعليل المذكور في أول المسألة، وصرح به في "الروضة" من "زياداته" هناك. قوله في "الروضة": ولو قال: كذا وكذا درهمًا بالنصب لزمه درهمان على المذهب، وفي قول درهم، وفي آخر درهم وشيء، وقيل: أحد وعشرون درهمًا إن عرف العربية. انتهى. وهذا الخلاف الذي ذكره هو حاصل طرق ذكرها الرافعي، وقد أهمل من جملتها [وجها وهو أنه إن أطلق لزمه درهمان، وإن نوى أن الدراهم تعبير لمجموع] (¬1) ما أقر به لزمه درهم، وهذا الوجه مشهور ذكره أيضًا ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الماوردي وغيره، ونص عليه في "الأم". قوله: ولو قال: الدراهم التي أقررت بها ناقصة الوزن، وأوزان البلد كذلك فيقبل إن اتصل التفسير بالكلام، فإن انفصل فكذلك في الصحيح. انتهى. فإن لم يفسر، وتعذرت مراجعته ففي "المهذب" و"تعليق القاضي الحسين" و"الحاوي": يلزمه التمام وهو الدرهم الإسلامي. قوله: ويجري الخلاف فيما إذا أقر في بلد دراهمهم كبار مثل غزنة. انتهي. وغزنة بالغين المعجمة والزاي الساكنة بعدها نون هي مدينة نحو الهند. قوله: ولو قال له: علىّ مائة عدد من الدراهم، اعتبر العدد دون الوزن. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" لكن قد تقدم قبل هذا بأسطر أن العدد أقله اثنان حتى إذا قال: على أقل أعداد الدراهم فيلزمه درهمان. وإذا كان كذلك فنعود إلى مسألتنا فنقول: إن كان لفظ عدد مجرور بالإضافة، وهو المتبادر إلى الفهم، فالقياس وجوب مائتي درهم، ولكن تكون ناقصة لأنه أوجب على نفسه مائة من العدد، وأقل العدد اثنان، وإن كان منصوبًا فكذلك لأنه تفسير للمائة كما لو قال: مائة يومًا بالتنوين. فإنه يلزم به كما صرح به ابن الرفعة، وإن منع الجمهور التنوين والنصب وإن كان مرفوعًا فالقياس أن المائة مبهمة، ويلزمه تفسيرها بما لا تنقص قيمته عن درهمين عددًا لا وزنًا. وقد جزم الرافعي في نظيره بمثله فقال: ولو قال له: علىّ ألف درهم، يرفعهما وينونهما من غير عطف فسر الألف بما لا ينقص قيمته عن درهم.

وإن كان ساكنًا أوجبنا الأقل، لأنه المتيقن، صرح به أيضًا الرافعي في هذا الباب في مثال آخر. قوله: إذا قال له: علىّ من درهم إلى عشرة. . . . إلى آخره. هذه المسألة سبق الكلام عليها، وعلى نظيرها في كتاب الضمان. قوله: ولو قال: علىّ ما بين درهم إلى عشرة. لزمه ثمانية على المشهور، وقيل: تسعة، وقيل: عشرة. ولم يفرقوا بين أن يقول: ما بين واحد إلى عشرة وبين أن يقول: ما بين واحد وعشرة، وربما سووا بينهما. ويجوز أن يفرق ويقطع بالثمانية في الصورة الأخيرة للاحتراز. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي هنا غريب، فقد فرق هو في كتاب الضمان في الكلام على العلم، بالمقدار المضمون [يقطع بالثمانية في الصورة الثانية، وخصص الأوجه والصورة الأولى. وقد] (¬1) قطع به أيضًا هنا القاضي أبو الطيب في "تعليقه" وكذلك الروياني في "البحر"، وقال في "الروضة" بعد حكاية هذا عن القاضي: إن القطع فيها بالثمانية هو الصواب، ولم ينقل غيره. قوله: قال: علىّ درهم في عشرة، فإن أراد بقي مع لزمه أحد عشر درهمًا. انتهى كلامه. وتجيء في بمعنى مع، مثلوه بقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (¬2) أي مع زينته. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سورة القصص (79).

إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن لزوم العشرة إذا أراد المعية تابعه عليه النووي، حتي ادعى في "تصحيح التنبيه" أنه لا خلاف فيه، وكيف يستقيم مع أنه لو قال له: علىّ درهم مع درهم، لم يلزمه إلا درهم؟ . فإذا كان مع التصريح بالمعية لا يلزمه سوى الأول فمع بينهما أولى. نعم إن نوى ما فيه تغليظ عليه بأن قال: أردت مع عشرة له فواضح، ولا كلام فيه، وهذا الاشكال يأتي أيضًا فيما إذا قال له: علىّ درهم في دينار، فإنهم أجابوا فيه بمثل ما أجابوا هاهنا. الأمر الثاني: بتقدير أن يجب عليه أحد عشر فالحكم بكونها دراهم في المال الذي ذكره الرافعي لا يستقيم أيضًا، بل الواجب عليه ما تقتضيه قاعدة الباب درهم واحد، ويرجع في تفسير العشرة إليه، وقد جزم الرافعي بأنه إذا قال له: عليّ ألف ودرهم أن الألف مبهمة. قوله: ولو قال له: عندى عبد على رأسه عمامة ونحوه، لم يكن مقرًا إلا بالعبد. وقال صاحب "التلخيص": يكون أيضًا مقرًا بالعمامة، ثم قال: وذكر الإمام أنه قال ذلك في "التلخيص"، وفي "المفتاح" أجاب بما يوافق الجمهور، وهو وهم، بل جوابه في "المفتاح" كجوابه في "التلخيص". انتهى كلامه. والذي رأيته في "المفتاح" هو عدم اللزوم كما نقله الإمام فقال: ولو قال له: عندى فرس عليه سرج، فإن السرج للمقر مع يمينه، هذا لفظه. وهو لفظ "التلخيص" أيضًا، إلا أنه زاد فيه "له" في المسألة الثانية. قوله: ولو قال: خاتم فيه فص، ففي كونه مقرًا بالفص وجهان:

أصحهما: على ما ذكره في "التهذيب" أنه ليس بمقر به. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والصحيح ما صححه البغوي، فقد نص عليه في "الأم" في باب الإقرار بالحكم الظاهر، ونقله عنه في "المطلب". قوله في أصل "الروضة": ولو قال: هذه الجارية له إلا حملها، لم يدخل الحمل قطعًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الدخول قطعًا ليس كذلك، ولم يذكره الرافعي أيضًا، فقد حكي الإمام في "النهاية" وجهًا: أن هذا الاستثناء لا يصح، وأن الحمل يدخل. قوله: إذا قال: لفلان [على] (¬1) هذا العبد ألف، فإن قال: أردت [به جنى عليه جناية أرشها ألف قبل وتعلق الألف برقبته. وإن قال: أردت] (¬2) أنه رهن عبده بألف على فوجهان: أظهرهما: القبول، ويطالب بألف. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله الرافعي -رحمه الله- في هذه المسألة -أى عند التقييد بقوله: (على) - صحيح، غير أن الغزالي في "الوجيز" لم يذكر هذه المسألة، بل ذكر ما إذا لم يقيد بعلى، فإنه عبر بقوله: وإن فسر بكون العبد مرهونًا فالأظهر أنه يقبل، هذا لفظه. ولم يذكر غيره، وهذه مسألة أخرى، ولم يتعرض لها الرافعي، وحكمها تفريعًا على القبول: أن الألف لا يلزمه لاحتمال أن يكون قد أعاده لمن رهنه لكى يتعلق الألف بالعبد، وهو واضح. وقد ذكر الرافعي بعد هذا بنحو ورقتين ما يوافقه فقال قبيل الفرع ¬

_ (¬1) في جـ: في. (¬2) سقط من جـ.

السادس: ولو قال له: في هذا العبد ألف من غير كلمة علىّ، وفسره بأنه أوصى له بألف من ثمنه، فلم يبلغ ثمنه ألفًا فلا ينبغي أن يجب عليه قيمة الألف بحال. وذكر المسألة في "الوسيط" كما ذكرها في "الوجيز" تمثيلًا وحكمًا. نعم صرح في "البسيط" كما صرح به الرافعي في تصوير المسألة وجوابها، فذكر في "الوسيط" و"الوجيز" مسألة، وفي "البسيط" أخرى، والمسألتان سواء في قبول التفسير، وإن اختلفا في التفريع، وكان ينبغي للرافعي أن يتكلم على مسألة الكتاب الذي شرحه. الأمر الثاني: أن ما ذكره الأصحاب في هذه المسألة لا ينتظم مع ما ذكروه فيما إذا قال: له في ميراث أبى ألف، فإنهم نقلوا عن النص أنه يكون إقرارًا منه على أبيه بدين، وتابعه الأصحاب عليه، ومقتضاه أنه لا يقبل تفسيره بجناية جناها العبد المورث في حياة أبيه، أو يرهن صدر من أبيه بدين على غيره، فالكلامان لا يجتمعان. قوله: لو شهد شاهد على أنه أقر يوم السبت بألف أو بغصب، ثم شهد آخر بأنه أقر يوم الأحد لفقنا بين الشهادتين، وأثبتنا ذلك بخلاف الإنشاءات كالطلاق. ومنهم من قال: فيها قولان بالتخريج، ثم قال في آخر المسألة: فلو ادعى ألفًا فشهد أحد الشاهدين على أنه ضمن ألفًا، والثاني على خمسمائة، ففي ثبوت الخمسمائة قولان عن ابن سريج، وهذا قريب من التخريج المذكور في الإنشاءات أو هو هو. انتهى كلامه. وما ذكره مردود، فإن من ضمن ألفًا يصدق عليه أنه ضمن خمسمائة قطعًا، ويصدق أيضًا إطلاق لفظ ضمن ما دام الدين عليه، فيكون كما لو شهد شاهد بألف، وآخر بخمسمائة، فإن الخمسمائة تثبت.

قوله: ولو شهد أحدهما أنه أقر بألف من ثمن مبيع، وشهد الثاني على إقراره بألف من قرض، ففي ثبوت الألف وجهان: الظاهر أنه لا يثبت أيضًا، وربما بنوا الوجهين على الوجهين فيما إذا ادعى ألفًا من ثمن مبيع، فقال: المدعى عليه: لك على ألف ولكن عن قرض. انتهى. وهذه المسألة المبني عليها تعرف باختلاف الجهة، والراجح فيها أنه لا يمتنع الأخذ فتفطن لذلك، فقد قال في آخر العارية، وفي آخر الركن الثالث من الكتاب المتقدم: أنه الأصح، ولأجل المخالفة في التصحيح عبر بقوله: وربما بنو، ولم يذكر في "الروضة" هذا البناء. قوله: فيما لو ادعى ألفَا فشهد له عدل بألف، وآخر بألفين. . . . إلى آخره. هذه المسألة تأتى في كلام الرافعي في الشهادات في الكلام على المبادرة فلتحرر معها. قوله: ولو قال على سبيل الإقرار: وأنت طالق، أولًا لم تطلق، وإن ذكره في مَعْرض الإنشاء طلقت كما لو قال: أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه قد اختلف كلامهما في هذه المسألة اختلافًا عجيبًا، يأتي إيضاحه قريبًا فراجعه. الأمر الثاني: أنهما قد سكتا عما إذا لم يعرف ذلك بموت أو غيره، وقد ذكره الهروي في "الإشراف" بعد أن ذكر هنا ما ذكره الرافعي حكمًا وتعليلًا، ومنه أخذ فقال: فإن أطلق هذه الكلمة، ولم يفسر لا بإقرار ولا بإنشاء فيمكن أن يقال: إنه يحمل على الإجبار حتى لا يقع لقرينة التشكيك والأصل بقاء النكاح، هذا كلامه من غير زيادة عليه.

وحاصله رجحان عدم الوقوع، وهو ظاهر منقاس. والعجب من ترك الرافعي هذه الزيادة. قوله: ولو أقر الأب بعين مال لابنه فيمكن أن يكون مستند إقراره ما يمنع الرجوع، ويمكن أن يكون مستنده ما لا يمنع الرجوع، وهو الهبة. وهل له الرجوع؟ عن أقضى القضاة الماوردي، والقاضي أبى الطيب أنهما أفتيا بثبوت الرجوع تنزيلًا للإقرار على أضعف الملكين، وأدنى السببين كما ينزل على أقل المقدارين. وعن الشيخ أبى الحسن العبادى: أنه لا رجوع، لأن الأصل بقاء الملك للمقر له، ويمكن أن يتوسط فيقال: إن أقر بانتقال الملك منه إلى الآخر، فالأمر كما قال القاضيان. وإن أقر بالملك المطلق، فالأمر كما قال العبادي. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه، وفيه أمور: أحدها: أن الأصح جواز الرجوع مطلقًا، كذا [صححه] (¬1) النووي في "فتاويه"، فإنه نقل جواز الرجوع عن جماعة آخرين، ونقل ما قاله الرافعي من التفصيل، ثم قال: إن الأصح المختار قبول تفسيره بالهبة، ورجوعه مطلقًا، وجزم القاضي الحسين في باب الهبة من "تعليقه" بأن القول قول الولد. وقال في "فتاويه": إنه الظاهر. وتابعه عليه أبو عاصم العبادي والد أبى الحسن المتقدم كما قاله النووي في "الفتاوى" المذكورة، قال ابن الرفعة: وهو الذي يترجح في ظني، لأن أضعف السببين عارضه أن لأن الأصل بقاء الملك. ¬

_ (¬1) في جـ: رجحه.

قال: ومما يؤيد ذلك أن الإقرار للوارث بالعين والدين معمول به على الصحيح. وقياس تنزيل الإقرار على أضعف السببين تنزيله على الهبة، وهو إذا نزل على الهبة فأضعف الحالين فيها حالة المرض، فكان مقتضى ذلك أن يكون الصحيح رد الإقرار للوارث، وليس كذلك. الأمر الثاني: أن غير الأب من الأصول كالجدة والأم حكمه حكم الأب فيما ذكرنا وكذلك ذكره النووي أيضًا في "فتاويه" أيضًا وقال ابن الرفعة بعد نقله عنه: وعندي في ذلك نظر، فإن الأب يقدر على النقل من غير واسطة، ولا كذلك الأم والجدة إذا لم تثبت لها الولاية. فإن كان ما قاله نقلًا وجب اتباعه، وإن كان تخريجًا ففيه ما ذكرناه. هذا كلام ابن الرفعة وهو ضعيف، فإن المسألة ليست خاصة بما إذا أقر لابنه الصغير، بل لو أقر الكبير كان الحكم كذلك كما يدل عليه كلام الرافعي وغيره سلمنا أنه خاص بالصغير، لكن عدم القدرة على النقل لا يدفع علة الرجوع، وهى التنزيل على الهبة. نعم البحث المذكور أولا قوى، غير أنه وقع له قبيله غلط فاحش. الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" لما نقل عن العبادى امتناع الرجوع عبر عنه بأبى عاصم عوضًا عن تعبير الرافعي بأبي الحسن، وكأنه لم يستحضر حالة اختصار "الروضة" أن لهم هذا وهذا. وقد علمت مما تقدم من كلامه في "الفتاوى" أنه سهو، وأن كلًا منهما من أصحاب الشافعي، وقائل بالمنع. قوله: ولو أقر بأنه لا دعوى له على فلان ولا طلب بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، ثم قال: إنما أردت من عمامته، وقميصه لا في داره.

قال القاضي أبو سعد: هذا موضع تردد، والقياس يقبل لأن غايته تخصيص عموم، وهو محتمل. انتهى كلامه. قال في "الروضة": هذا ضعيف أو فاسد، والصواب أنه لا يقبل في ظاهر الحكم. قال: لكن المختار أن له تحليف المقر له أنه لا يعلم أنه قصد ذلك. قال: ولعل هذا مراد القاضي. هذا كلامه. وقد اشتمل -أعني كلام النووي- على أمرين: أحدهما: الخلاف في قبول تخصيص العموم. الثاني: أنه صرف كلام الهروي عن قبوله في الظاهر إلى سماع دعواه، وتحليفه، وذلك لأجل إنكار الخلاف المشار إليه، وكلا الأمرين باطل غريب. أما الأول فلأن في قبول تخصيص العموم ظاهرًا لقوله: نسائي طوالق أو كل امرأة لى طالق وجهين مشهورين حكاهما الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب الطلاق، حتى أنه حكاهما في "المحرر" أيضًا، وأجرى الخلاف في تقييد الألفاظ الموضوعة للحقائق، كما لو قال: إن أكلت خبزًا أو تمرًا فأنت طالق، ثم فسر ذلك بنوع خاص منهما. وأما الأمر الثاني: وهو تنزيل كلام الهروي على إرادة التحليف فباطل أيضًا، فإن الهروى قد صرح بخلافه فقال ما نصه: هذا موضع تردد. والقياس أن المقر لا يلزم بحكم إقراره على العموم بل يؤخذ بالتخصيص ولا ينظر إلى أنه يراد به العموم في العرف، لأن الشافعي -رحمه الله- قال: أصل ما أبنى عليه الإقرار أن ألزم اليقين، وأطرح الشك، ولا استعمل الغلبة.

فإن قيل: المقر في العرف أراد التبرى عن جميع المطالبات. قلنا: هذا ليس بشيء، لأن دليل العرب لا يعارض صريح دليل النطق، وهو قد نطق بالتخصيص فوجب أن يصدق في مقالته، هذا موضع الحاجة من كلامه، وهو صريح فيما ذكرناه من وجوه. ولو راجع النووي أو غيره من المعترضين عند الإشكال أمثال هذه المواضع لم يذكروا ما ذكروه. وقد وافق ابن الصلاح في "فتاويه" على القبول مع اليمين فيما إذا ادعى أنه نسيه، واستدل عليه بمسألة ذكرها الرافعي قبل هذا، وهى أنه لو قال: لا حق لي في شيء مما في يد فلان، ثم ادعى شيئًا، وقال: لم أعلم كونه في يده يوم الإقرار، فإنه يصدق بيمينه. وذكر أيضًا في "فتاويه" مسألة أخرى، وهى أنه لو استأجر عينا وسلم الأجرة، وأقر أنه لا حق له على المؤجر، ثم بان فساد الإجارة، فلو طلب الأجرة ولا يدخل ذلك في الإشهاد، لأنه أشهد بناء على ظاهر الحال كما لو قال: هذه العين ملكى اشتريتها منه، ثم بان خلافه والله أعلم.

الباب الثالث في تعقيب الإقرار بما يرفعه

الباب الثالث في تعقيب الإقرار بما يرفعه قوله في "الروضة": ولو قال: لفلان علىَّ ألف من ثمن خمر، فقولان: أصحهما: اللزوم. ثم قال: أنها إذا قدم الخمر فقال: لفلان من ثمن خمر على ألف، فلا يلزمه شيء قطعًا بكل حال. انتهى كلامه. وقد ذكر هذه المسألة في باب التيمم من "شرح المهذب" ونقل عن "المعتمد" للشاشي: أنه لا فرق في جريان القولين بين التقديم والتأخير ولم يصرح الرافعي هنا بدعوى القطع، بل قال: لا يلزمه شيء بكل حال. قوله: وإذا قال: علىّ ألف لا يلزمني أو علىّ ألف، ولا يلزمه الألف لأنه غير منتظم، فلا يبطل به الإقرار. انتهى كلامه. وتصحيح الإقرار فيما إذا قال: علىّ ألف أو لا قد ذكر في هذا الكتاب قبل هذا الموضع بنحو ورقة ما يخالفه فقال في أوائل الفروع التى ختم بها الباب السابق: ولو قال: علىّ ألف أو على زيد أو على عمرو لم يلزمه شيء، وكذا لو قال على سبيل الإقرار: أنت طالق أو لا، فإن ذكره في معرض الإنشاء طلقت كما لو قال: أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك. هذا لفظه. ولا فرق في إبطال الإقرار بأو بين الإقرار بالمال والإقرار بالطلاق. ثم ذكر ما يخالف الموضعين معًا في الباب الثاني في أركان الطلاق قبيل الطرف الثاني، فقال واللفظ "للروضة": فرع:

قال: أنت طالق ثلاثًا أولًا بإسكان الواو لا يقع شيئًا. قال المتولى: كما لو قال: هل أنت طالق؟ انتهى. فتحصلنا على ثلاثة مواضع متخالفة، وما ذكره أولًا من إطلاق الوقوع، قد جزم به ابن كج في الطلاق وقاسه على اللزوم في الإقرار، ذكر ذلك في كتابه المعروف، والمسمى "تفريعات ابن كج" عن ابن القطان، وهو كتاب نحو "التنبيه"، ينقل فيه فروعًا عن شيخه ابن القطان، ويستدرك عليه في بعضها. وقد نقل الرافعي في "شرحه" غالب ما فيه، فتبعه الرافعي على هذه المسألة، ونقلها إلى هذا الباب، وذكر جماعة منهم الماوردي هذه المسألة، وأجابوا فيها بعدم اللزوم. واعترض عليه في "الروضة" في هذا الموضع غير مطلع على ما اطلعنا عليه فقال: هكذا رأيته في نسخ من كتاب الإمام الرافعي على ألف أولًا، وهو غلط وقد صرح صاحب "التتمة" و"البيان" بأنه لا يلزمه في هذه الصورة شيء كما لو قال: أنت طالق أولًا. فإنه لم يجزم بالالتزام، وما يبعد أن يكون الذى هنا تصحيفًا من النساخ أو تغييرًا كما في "التهذيب"، فقد قال في "التهذيب": لو قال على ألف لا فهو إقرار، وهذا صحيح، وقربه في "التهذيب" بقوله: ألف لا يلزمني، وهو نظيره. ومعظم نقل الرافعي من "التهذيب" و"النهاية"، هذا كلام النووي، وهو خطأ لما ذكرناه. وأما نقل الوقوع عن "التهذيب" فصحيح، وقد سبقه إليه ابن كج. كذا رأيته في كتاب "الغنية" له. ونقله عنه في "البحر" في الطلاق، وفيه نظر، فإن تأخير الحرف

الباقي معهود، ولم يذكر المسألة في "الشرح الصغير"، وذكر عوضًا عما لو قال: ألف لا بإسقاط "أو". ويبقى النظر في المراد بقوله: أو لا فإنه قد يفسره أو لا يفسره، فإن فسره يفسره بأفعل التفضيل، وقد يفسره بأو مع لا النافية. ومدلولهما متغاير. قوله: ومنها إذا قال: علىَّ ألف إن شاء الله. فالصحيح أنه لا يلزمه شيء لأنه لم يجزم بالإقرار وقيل على الخلاف فيما إذا قال: عن ثمن خمر. ثم قال: ولو خرجوا طريقًا آخر جازمًا باللزوم كان قريبًا بناءً على أن تعليق السابق لا ينتظم. انتهى كلامه. وما ذكره من أن هذا التعليق لشيء سابق ليس كذلك، لأن أداة الشرط تخلص ما دخلت عليه للاستقبال فتعليقه يمنع أن يكون سابقًا، وإذا لم يكن سابقًا استحال. قوله: ولو قال: علىَّ ألف إذا جاء رأس الشهر، أو إذا قدم زيد، أطلق جماعة أنه لا شيء عليه، لأن الشرط لا أثر له في إيجاب المال، والواقع لا يعلق بشرط. وذكر الإمام وغيره أنه على القولين، فكيف كان المذهب أنه لا شيء عليه، وهذا إذا أطلق أو قال: قصدت التعليق، فإن قَصَدَ التأجيل لزمه. انتهى كلامه. وما ذكره من قدوم زيد ذكر مثله أيضًا من "زوائده" في آخر الباب الأول، وهو غير مستقيم حكمًا وتعليلًا، بل الصواب اللزوم والشرط يؤثر في إيجاب المال بالنذر. وقد صرح به الرافعي في كتاب النذر في النوع الرابع المعقود للهدايا والضحايا، نقلًا عن "فتاوى القفال" من غير مخالفة فقال في "فتاوى

القفال": إنه لو قال: إن شفى الله مريضى فلله على أن أتصدق بعشرة على فلان فشفاه الله تعالى لزمه التصدق عليه، فإن لم يقبل لم يلزمه شيء، وهل لفلان مطالبته بالتصدق بعد الشفاء؟ يحتمل أن يقال: نعم كما لو نذر اعتاق عبد معين إن شفي فشفي له المطالبة. هذا كلامه. فقد عهد أن الشرط يؤثر في إيجاب المال، غير أنه مثل في باب النذر بشفاء المريض، ومثل هنا بقدوم الغائب، وكلاهما يوجب الوفاء بالنذر. واعلم أنه يحتمل أن يقال في مسألتنا أن الناذر وجب في ذمته مال المنذور له حتى يجب عليه الأخذ أو الإبراء، ويجب عليه فيه الزكاة ونحوه. ويحتمل أن يقال -وهو المتجه-: أنه لا يجب عليه مال، بل الواجب إنما هو التصدق، والتصدق متوقف على أخذه فصار كما لو نذر الوقف عليه، وفرعنا على اشتراط القبول فإنه لا يثبت له شيء إلا بقبوله، ويلتفت على هذا ما توقف فيه الرافعي وهو المطالبة، لكن المتجه جواز المطالبة ليتوصل بها إلى قبض الحق الذى تعلق به. قوله: الثانية: الإقرار بالهبة لا يتضمن الإقرار بالقبض على المشهور. وفي "الشامل" ذكر خلاف في المسألة إذا كانت العين في يد [الموهوب] (¬1)، وقال: [أقبضتنى] (¬2). ولو قال: وهبته وخرجت منه إليه، فقد مر أن الظاهر أنه ليس بإقرار بالقبض أيضًا. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، وهو كالصريح في أنه لا فرق في الصورة الثانية أيضًا بين أن تكون العين في يد الموهوب له أم لا تكون، لأنه صرح ¬

_ (¬1) في جـ: المرهون منه. (¬2) سقط من أ.

في الأولى بذلك، ثم ذكر هذه عقبها من غير تفصيل، فدل ذلك على أنه لا فرق، فإن الحمل على عدم استحضار التفصيل لا [يتأتى] (¬1)، لكن الأمر ليس كذلك، فقد نص الشافعي -رحمه الله- على الفرق ونقله عنه -أعنى ابن الرفعة- في آخر الفصل الأول من كتاب الهبة فقال في أثناء فروع نقلها عنه ما نصه؛ ولو قال: وهبته منه بالقبض، وإن كان في يد الواهب فلا. قوله: ولو أقر بالإتلاف على إنسان وأشهد عليه ثم قال: كنت عازمًا على الإتلاف فقدمت الإشهاد على الإتلاف، لم يلتفت إليه بحال، بخلاف ما لو شهد على نفسه بدين ثم قال: كنت عازمًا على أن أستقرض منه فقدمت الإشهاد على الاستقراض، قُبِل للتحليف؛ لأن هذا معتاد، وذلك غير معتاد. انتهى كلامه. والمسألة الأولى وهي مسألة الإتلاف قد نص عليها أيضًا في "الشرح الصغير" هكذا، وأشار الإمام وغيره إلى أنه لا خلاف فيها كما يشعر به كلام الرافعي هنا. وقد وقع في كثير من نُسَخ الكتاب إسقاط جوابها، ووقعت نسخة من تلك النُّسخ للنووي فاختصرها على ما هي عليه، ثم كتب على حاشية "الروضة" بخطه: يحقق من "التتمة" أو غيرها، ثم إن كثيرًا من النساخ اجتهدوا فحذفوا المتوسط، وهو صدر المسألة الثانية -أعني مسألة الدين- وأجابوا عنها بجواب واحد، فقالوا: ولو أقر بإتلاف مال أو بدين. ثم قال: كنت عازمًا على أن أستقرض. . . . إلى آخر المسألة. ثم إنهم مع إسقاطها أبقوا الفرق، وهو لا يكون إلا بين مسألتين. ولو راجع النووي ما راجعناه لاستغنى عن هذا كله. ¬

_ (¬1) في حـ: ينافى.

قوله: ولو قال: غصبت هذه الدار من زيد، بل من عمرو سلمت لزيد. وأظهر القولين أنه يغرم لعمرو، ثم قيل: القولان فيما إذا انتزعها الحاكم من يده وسلمها إلى زيد. فأما إذا سلمها بنفسه فيغرم قطعًا. وقيل: القولان في الحالين. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا من الطريقين في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح طردهما في الحالين، فقد صححه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والشيخ في "التنبيه" والنووي في "الروضة"، وهو مقتضى إطلاق "المحرر". ونقل النووي عن الأصحاب أنه لا فرق في المسألة بين أن يوالى الإقرار بينهما أو يفصل، وسواء كان الفصل يسيرًا أم كثيرًا. قوله: ولو باع عينًا وأقبضها واستوفي الثمن، ثم قال: كنت بعته من فلان أو غصبته لم يقبل قوله على المشتري، وفي غرامة القيمة للمقر له طريقان: أحدهما: على القولين. وأصحهما عند البغوي: القطع بالغرم لتفويته عليه بتصرفه وتسليمه. انتهى. والصحيح ما قاله البغوي، فقد صححه الماوردي والنووي في أصل "الروضة"، ويتجه أن يقال: لا أثر فيما قلناه للإقباض ولا لاستيفاء الثمن، وإن كان التغريم معهما أظهر، لكن نص الشافعي في "الأم" في باب الإقرار بالحكم الظاهر على القولين، وهو يبطل ترجيح القطع.

قوله: فإن سكت بعد الإقرار، أو تكلم بكلام أجنبي عما هو فيه ثم استثنى لم ينفعه. انتهى. قال في "الروضة": هكذا قال أصحابنا أن تخلل الكلام الأجنبي يبطل الاستثناء. وقال صاحبا "العدة" و"البيان": إذا قال: على ألف أستغفر الله إلا مائة صح الاستثناء عندنا خلافًا لأبي حنيفة ودليلنا أنه فصل يسيره فصار كقوله: على ألف يا فلان إلا مائة. وهذا الذي نقلاه فيه نظر، هذا كلام النووي، وليس فيه تصريح بموافقتهما، ولا مخالفتهما فيما نقلاه في الفصل اليسير، والأمر كما أطلقه الأصحاب، فقد صرح بالمسألة في أول باب الاستثناء في الطلاق وقال: إنه يقدح على الظاهر، ثم قال: وحكى القاضي ابن كج -رحمه الله- وجهًا آخر: أن الكلام اليسير الأجنبي بين المستثنى والمستثنى منه لا يقدح في الاستثناء. هذا لفظه. قوله: ولو أتى باستثناء بعد استثناء وكان الأول مستغرقًا كقوله: عشرة إلا عشرة إلا أربعة فأوجه: أحدها: يبطل الاستثناءان، ويلزمه عشرة. وقيل: يبطل الأول ويلزمه ستة، وقيل: يصحان ويلزمه أربعة، لأن آخر الكلام يخرج الأول عن أن يكون مستغرقا. قال في "الشامل": وهذا أقيس. انتهى. والأصح هو الثالث، كذا صححه الرافعي في كتاب الطلاق، وذلك لأنه استثنى من العشرة عشرة إلا أربعة، والعشرة إلا أربعة ستة، فكأنه استثنى أولًا ستة فيلزمه أربعة، وهذا هو الذي أراده الرافعي هنا في تعليل الوجه، ولكن عبارته فيها قلق.

قوله: ولو كان العددان بحيث لو جمعا حصل الاستغراق كما إذا قال: على عشرة إلا سبعة وثلاثة، فقيل: يبطلان لأن الواو تجمعهما فيصير مستغرقًا. وقيل: يبطل الثاني خاصة، وهو الأصح كما قاله الشيخ أبو على. ثم قال: ورأى -يعني الشيخ- أن يفرق بين قوله: عشرة إلا سبعة وثلاثة، وبين قوله: عشرة إلا سبعة إلا ثلاثة، ويقطع في الصورة الثانية بالبطلان لأنهما استثناءان مستقلان. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل التفريق المذكور على الكيفية التى نقلها الرافعي، وهو سهو، والصواب وهو المذكور في "الكفاية": القطع بصحة الأول إذا أعاد (إلا)، وحكاية الخلاف إذا لم يعدها للمعنى الذي ذكره الرافعي. والصحيح في كتاب الطلاق من "المحرر" وغيره وفي أصل "الروضة" هنا هو ما صححه الشيخ أبو على. قوله: وإذا قال: على عشرة إلا خمسة أو ستة، قال المتولى: يلزمه أربعة، لأن الدرهم الزائد مشكوك فيه فصار كما لو قال: على خمسة أو ستة ويمكن أن يقال: يلزمه خمسة، لأنه أثبت العشرة. وأما استثناء الدرهم الزائد فمشكوك فيه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: ما نبه عليه في "الروضة" فقال: الصواب قول المتولى، لأن المختار أن الاستثناء بيان ما لم يرد بأول الكلام إلا أنه إبطال ما ثبت، وذكر في "الكفاية" مثله أيضًا فقال: لا وجه إلا ما قاله المتولى. الأمر الثاني: أن الرافعي قد جزم في هذا الباب بأنه إذا قال: علىّ

درهم أو دينار لزمه أحدهما وتعين، وجزم أيضًا بذلك -أعني بالتعين- في باب عدد الطلاق فيما إذا قال على سبيل الاستثناء: أنت طالق واحدة أو اثنين، وقياس ذلك يأتى بعينه في مسألتنا. قوله: فلو أقر بعض الورثة بدين على الميت وأنكر بعضهم فقولان. القديم: أن على المقر قضاء جميع الدين من حصته من التركة إن وفى به، لأنه إنما يستحق بعد قضاء الدين. والجديد: أنه لا يلزمه إلا بقسط حصته من التركة، لكنه إن مات المنكر وورثه المقر لزمه الجميع، ثم قال: ويتفرع على القولين فرعان: أحدهما: لو شهد بعض الورثة بدين على المورث، إن قلنا: لا يلزمه الإقرار إلا حصته قبلت شهادته وإلا فلا لأنه متهم، وسواء كانت الشهادة بعد الإقرار أو قبله. انتهى كلامه. وما أطلقه الرافعي جازمًا به أيضًا من بناء قبول الشهادة على القولين هو ما ذكره القاضي الحسين فتبعه الإمام وصاحب "التتمة" ثم الرافعي، والمعروف خلافه، فقد ذهب العراقيون جميعهم إلى القبول مطلقًا على القولين معًا. وذكر ابن الرفعة في كتابيه أنهم قطعوا به، وجزم به الماوردي، وادعى في "البيان" أنه لا خلاف فيه، وقطع به أيضًا الروياني في آخر الإقرار من "البحر"، وكذلك القفال شيخ المراوزة فيما إذا وقعت الشهادة قبل الإقرار. وأما بعده فخرجها على القولين. [قوله] (¬1)، والثاني كيس في يد رجلين فيه ألف درهم، قال: أحدهما لثالث لك نصف ما في الكيس، فيحمل إقراره على النصف الذي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في يده وهو ربع الجميع؟ فيه وجهان بناء على القولين السابقين، وبناء على الخلاف فيما إذا أقر أحد الشريكين في العبد المشترك بالتسوية بنصفه أنه يحمل على نصفه أم يوزع النصف المقر به على النصفين؟ وهذا الخلاف الثاني مذكور في الكتاب في باب العتق. انتهى كلامه. واعلم أنه إذا كان شريكًا في شيء بأن يكون له في دين أو عين مثلًا نصفه، فأقر بالنصف أو وهبه أو باعه أو تصرف فيه بغير ذلك، وأطلق، ولم ينص على أنه النصف الذي له، فهل ينحصر فيه -أعني في نصفه- أم يشيع؟ فيه قولان يعبر عنهما بقولي الحصر والإشاعة. وهذه المسألة وهي مسألة الإقرار فرد من أفراد هذه القاعدة. وقد اختلف كلام الرافعي والنووي فيها في مواضع شتى من وجوه شتى، فلنذكر تلك المواضع ثم نبين وجه المخالفة فنقول: قال في كتاب الرهن: لو رهن نصف عبد ثم أعتق نصفه، فإن أضاف العتق إلى النصف المرهون ففيه الأقوال. وإن أضاف إلى النصف الآخر وأطلق، عتق ما ليس بمرهون، ويسري إلى المرهون إن نفذنا أعتقاه، كذا إن لم ننفذه على الأصح، لأنه يسري إلى ملك غيره فملكه أولى، وعلى هذا يفرق بين الموسر والمعسر على الأصح. انتهى. وهذا التفريع كله والتصحيح موافق لقول الحصر، وأما على قول الإشاعة فيحمل على ربع ليس بمرهون، وربع مرهون. وحينئذ فيعتق النصف الذي ليس بمرهون بلا محالة الربع بالمباشرة، والربع بالسراية، ويتخرج الربع المرهون الذي باشر عتقه على الأقوال الثلاثة.

وأما الربع الآخر من النصف المرهون فلا يتخرج عليها كما ذكره. وقال من "زياداته" في هذا الباب عقب مسألة الإقرار بنصف الكيس: إن أفقه الوجهين حمله على ما يملكه، وهو موافق لما تقدم، ويؤخذ منه ترجيح ذلك في غير الإقرار بطريق الأولى لما ستعرفه من كلامه. وقال في الباب الثاني من الوصية قبيل الكلام على المسائل الحسابية: إنه إذا أوصى بثلث عبد معين فاستحق ثلثاه أن في المسألة طريقين: أحدهما: القطع بأن له الثلث. وأصحهما: أن فيه قولين: أحدهما: هذا. والأظهر: أن له الثلث كاملًا. ثم قال: وقد اشتهر الخلاف في العبد المشترك بين اثنين بالسوية إذا قال أحدهما: بعت نصفه أن البيع ينصرف إلى نصفه أم يشيع؟ ، ولا فرق في ذلك بين البيع والوصية. هذا لفظه. وهو موافق أيضًا للموضعين المتقدمين. وقال في آخر الباب الرابع من أبواب الصداق، وإن خالعها على نصف الصداق قبل الدخول، نظر إن قال: على النصف الباقي لك بعد الفراق، وصح وعاد إليه الجميع، وإن أطلق فقولان بناء على أن تصرف أحد الشريكين في النصف المطلق من العين المشتركهّ نصفين هل ينزل على النصف الذي له أم يشيع؟ أحدهما: ينزل على نصيبها، ويكون كما لو قبله بنصفها. [وأظهرهما: عند الأكثرين: يشيع لإطلاق اللفظ، وكأنه خالع على

نصف نصيبها] (¬1) ونصف نفسه، فيبطل في نصف نصيبه، وفي نصف نصيبها القولان. انتهى. وهذا مخالف لجميع ما تقدم. وقال في كتاب العتق في الشرط الرابع من شروط السراية: ولو باع نصف عبد يملك نصفه، فإن قال بعتك النصف الذي أملكه من هذا العبد، أو نصيبي منه وهما يعلمانه صح، وإن أطلق وقال: بعت نصفه فهل يحمل على ما يملكه، أو على النصف شائعًا؟ وجهان. ولو أقر بنصف المشترك ففيه هذان الوجهان وقال أبو حنيفة: يحمل في البيع على ما يملكه لأن الظاهر أنه لا يبيع ما لا يملكه، وفي الإقرار على الإشاعة لأنه إخبار. واستحسن الإمام هذا التفصيل، وبه أجاب الغزالي، وصحح البغوي الإشاعة فيهما. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: قلت: الراجح قول أبي حنيفة والله أعلم. انتهى. وهذا الكلام من الرافعي مخالف [لما قاله في الخلع فإنه هناك جعل الخلاف قولين، وفى هذا الموضع جعله وجهين، وأما النووي فما قاله من التفصيل مخالف] (¬2) للمذكور هنا من كونه ينحصر مطلقًا، لأنه قد رجحه في الإقرار، وقد علمت أن غيره بذلك أولى، ومخالف للمذكور في الخلع من كونه يشيع مطلقًا. والغريب أن الترجيحين المتعارضين فيما إذا أقر به كل منهما إنما أبداه تفقهًا، ومن زياداته أيضا ثم إنه شارك الرافعي أيضًا في أن الخلاف وجهان ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أو قولان، وعبر في "الروضة" عما حكاه الرافعي عن الإمام والغزالي بقوله: واستحسن الإمام والغزالي هذا، وفيه نظر، فإن الجواب بالشيء فيه زيادة بلا شك على استحسانه. وقال أيضًا في [العتق في] (¬1) الكلام على السراية: إذا كان بينهما عبد بالسوية فوكل أحدهما الآخر في عتق نصيبه فقال الوكيل للعبد: نصفك حر. فإن قال: أردت نصيبي، قوم عليه نصيب شريكه. وإن قال: أردت نصيب شريكي، قوم على الشريك نصيب الوكيل. وإن أطلق فعلى أيهما يحمل؟ وجهان حكاهما في "الشامل". قال النووي من "زياداته" لعل الأصح حمله على نصيب الوكيل. انتهى. وقياس ترجيح الإشاعة أن يحمل على نصف نصيبه، ونصف نصيب شريكه، ثم يسري عليهما، لأنهم إذا حملوه على ذلك مع كونه غير قادر على التصرف في الباقي، وأبطلوه، فحمله عليه مع كونه قادر عليه بطريق الأولى. وأما على قول الحصر ففيه نظر يحتمل أن يجاب بذلك أيضًا، لأنه مالك للتصرف فيهما، ولا ترجيح، ويحتمل الحمل على نصيب المباشر، وهو الوكيل لأن تصرفه فيه بالأصالة. وإذا علمت هذه المواضع المذكورة علمت أن الفتوى على التفصيل كمقالة أبي حنيفة لقوة مدركه، أو على الإشاعة مطلقًا وهو الحق، لنقله إياه عن الأكثرين. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما المذكور في هذا الباب من زياداته فلا وجه له لمخالفة المعنى الواضح، والنقل عن الأكثرين، وكذلك المذكور في الرهن والوصية لمخالفة الأكثرين، ومثله ما ذكرته ثانيًا عن العتق. قوله من زوائده: قال القاضي أيضًا في آخر الغصب -يعني القاضي أبا الطيب-: لو باع دارًا ثم ادعى أنها كانت لغيره باعها بغير إذن، وهي ملكه إلى الآن، وكذبه المشتري، وأراد أن يقيم بينة بذلك، فإن قال: بعتك ملكي أو داري أو نحو ذلك مما يقتضي أنها ملكه، لم تسمع دعواه، وإلا سمعت. انتهى كلامه. وهذه المسألة على التصوير الذي ذكره غلط، ليست في تعليق القاضي، فإنه لا تصح منه الدعوى بملك الغير. فإن تكلف متكلف وقال: إن صورة ذلك [فيما إذا وكله ذلك] (¬1) الغير فلا تصح أيضًا، لأنا لا نسلم امتناع دعواه إذا كان قد قال: بعتك ملكي، ونحو ذلك، لأن فائدة الدعوى لا تعود إليه لكونه نائبًا عن غيره فكما أن إقراره هذا لا يمنع صحة دعوى ذلك بنفسه، فكذلك توكيله. وبالجملة فالمذكور في "الروضة" غلط منه على القاضي سببه سوء فهمه لذهول أو غيره. فإن القاضي فرض المسألة فيما إذا انتقلت إلى المدعي الذي كان قد باع فإنه قال في الموضع المذكور، وهو آخر الغصب ما نصه: إذا باع من رجل دارًا ثم ادعى أن الدار لم تكن له حين البيع وإنما كانت لغيره، وقد باعها بغير إذنه، وهي ملك له الآن بميراث أو هبة أو غير ذلك، وكذبه المشتري في ذلك، فأراد أن يقيم البينة على دعواه، نظر إلى آخر ما تقدم. وهذه عبارة القاضي، ومن تعليقه نقلت، وهو كلام صحيح. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ففهم النووي منه خلاف المراد وتصرف في العبارة فوقع في الخلل، وكان يندفع التغليط الصريح، ويمكن التأويل لو حذفت من كلامه لفظة إلى الداخلة على لفظ الآن. وعلى كل حال فالمذكور في "الروضة" غلط قطعًا، لأنه لو كان الحكم في نفسه صحيحًا لكن غلطًا لكونه غير المذكور في كلام القاضي. قوله أيضًا من زوائده: ولو أقر بثياب بدنه لزيد، قال القاضي الحسين في "الفتاوى": يدخل فيه الطيلسان والدواج وكل ما يلبسه، ولا يدخل فيه الخف. والمراد بالدواج: اللحاف. ومقتضى كلام القاضي هذا: أنه يدخل فيه الفروة فإنها مما يلبسه، ولا شك في دخولها. وإنما نبهت عليه لئلا يتشكك في دخولها، وكذلك الحكم لو أوصى بثياب بدنه. انتهى كلامه. وما ذكره من دخول الفروة في اسم الثوب، وأنه لا شك فيه عجيب، وذهول عن المنقول، فقد جزم الرافعي في كتاب الأيمان بأنها لا تدخل وتبعه عليه في "الروضة"، وجزم بدخولها في الملبوس فقال: حلف لا يلبس ثوبًا حنث بلبس السراويل. ثم قال: ولا يحنث بلبس الجلود، ولا بما يتخذ منها ولا بلبس القلنسوة. هذا لفظه. ثم قال: ولو حلف لا يلبس شيئًا حنث بجميع ذلك. والقلنسوة هي القبع والطاقية ونحوهما مما يغطي الرأس، كما تعرفه في الكفارات.

وقد علم مما قاله هناك أن القلنسوة لا تدخل في مسمى الثياب، وحينئذ فلا تدخل في مسألتنا -أعني في الإقرار- وفيه نظر، فإنها تجري في الكفارات. ورأيت في الأيمان من كتاب ابن كج أنه لو حلف لا يلبس ثوبًا من غزلها فتغطى بلحاف لم يحنث. والله أعلم.

الباب الرابع في الإقرار بالنسب

الباب الرابع في الإقرار بالنسب قوله: القسم الأول: أن يلحق النسب بنفسه فيشترط فيه أمور، ثم قال: والثالث: أن يصدقه المقر له إذا كان ممن يعتبر تصديقه، فإن استلحق بالغًا فكذبه لم يثبت النسب. ثم قال في آخر المسألة. وقوله -يعني الغزالي-: أو المقر له ليس فيه [إلا] (¬1) اعتبار عدم التكذيب، وهو معتبر لكنه غير مكتفى به، بل المعتبر تصديقه عند الإمكان صرح به صاحب "الشامل" وغيره. وقضيته أنه لو سكت لم يثبت النسب. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به هاهنا من عدم الاكتفاء بالسكوت، وأنه لابد من التصديق، قد خالفه في الشهادات في الباب الثالث منه في الفصل الثاني المعقود للشهادة بالتسامع، وستقف على لفظه هناك واضحًا إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أنه لم يثبت مقالة الغزالي خلافًا، بل اعترض عليه اعتراضًا يشعر بعدم الخلاف. ولهذا جزم النووي في "الروضة" بذلك أيضًا، ولم يحك فيه خلافًا، وكأنه توهم أن تعبير الغزالي جرى من غير قصد، وليس كذلك، فقد صرح الغزالي في "الوجيز" أيضًا في الموضع الآتي ذكره في كتاب الشهادات بثبوت النسب مع السكوت، وكذلك الإمام وغيره، ولأجل ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

ذلك تبعهم الرافعي غير أنهم ترددوا في صيغة الشهادة. فقيل: يشهد بثبوت النسب، وقيل: بالإقرار كما ستعرفه. قوله: استلحق عبد الغير أو معتقه لم يلتحق إن كان صغيرًا محافظة على حق الولاء للسيد، وإن كان بالغًا وصدقه فوجهان. انتهي. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح، والصحيح منهما صحة استلحاقه، كذا صححه الرافعي في باب اللقيط، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لغرض آخر فراجعه. قوله: ومن له جارية ذات ولد إذا قال: هذا ولدى من هذه الجارية يثبت نسبه، وهل تصير الجارية أم ولد فيه قولان: أقربهما إلى القياس وأشبههما بقاعدة الإقرار: أنها لا تصير لاحتمال أنه استولدها بشبهة أو نكاح وملكها بعد ذلك. ولو قال: إنه ولدي منها ولدته في ملكي، فطريقان: أحدهما: القطع بثبوت أمية الولد لتصريحه بالولادة في الملك. وأصحهما: أنه على القولين لاحتمال أنه أحبلها بالنكاح، ثم اشتراها فولدت في ملكه. ولو قال: إنه ولدى استهولدتها به في ملكي أو علقت به في ملكى انقطع الاحتمال، وكانت أم ولد لا محالة، وكذا لو قال: هذا ولدى منها وهي في ملكى منذ عشر سنين، وكان الولد ابن سنة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد أسقط المسألة الثانية من "الروضة" وهي ما إذا قال: هذا ولدي ولدته في ملكى، وكأنه انتقل نظره حالة الاختصار. كما يقع كثيرًا في حال الكتابة.

الأمر الثاني: أن ما ادعاه من انقطاع الاحتمال وأنه لا محالة فيه، عبر عنه في "الروضة" بقوله: قطعًا، وفي "الشرح الصغير" بقوله: بلا خلاف، وليس الأمر كذلك من نفي الاحتمال المقتضي لنفي الخلاف فإنها قد تكون مرهونة، وفي استيلادها ثلاثة أقوال مشهورة فلم ينتف الاحتمال. واعلم أن ما رجحه الرافعي بحثًا قد نقله ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب عن جمهور الأصحاب، ومع ذلك فإنه يشكل على ما إذا أتت المرأة بولد يلحقة فإن الرافعي وغيره قالوا باستقرار المهر مع إنكار الزوج الوطء تمسكًا بالظاهر وهو العلوق من الوطء، ولم ينظروا إلى احتمال استدخال الماء. قوله: الأولى إذا كانت له أمتان لكل منهما ولد. فقال: أحدهما ولدي، ولم تكن إحداهما متزوجة ولا فراشًا للسيد، ثم عين واحدًا يثبت نسبه وكان حرًا، وهل تصير أمه أم ولد؟ نظر إن قال إستولدتها بالزنا مفصولًا، عن الاستلحاق لم يقبل، وكانت أمية الولد على القولين فيما إذا أطلق الاستلحاق، وإن وصله باللفظ قال في "التهذيب" لا يثبت النسب ولا أمية الولد، ولك أن تقول: ينبغي أن يخرج على قولي تبعيض الإقرار انتهى كلامه. وهذا البحث الذي ذكره في آخر كلامه قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو عجيب وذهول عن كلام البغوي، لأن المسألة مصورة في "التهذيب" ما إذا كان التفسير منفصلًا، لأنه قال في صدر المسألة: إذا كان له أمتان لكل واحدة ولد فقال أحد هذين الولدين ولدى، يؤمر بالتعيين فإذا عين أحدهما ثبت نسبه، وهل تصير أم ولد؟ نظر إن قال بملك اليمين صارت أم ولد له، وإن قال: استولدتها بملك النكاح لم تصر أم ولد، وإن قال

بوطء شبهة، فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان، وإن أطلق فقولان أيضًا، وإن قال استولدتها بالزنا لا يقبل هذا التفسير، وهو كالطلاق. هذا كلامه. وقد ظهر به أن تفسيره بالزنا متأخر، وبتقدير الاتصال، فالتبعيض بالنسبة إلى النسب مسلم، فإن قوله ولدًا أو من زنا متنافيان، وأما أمية الولد فعلى القول بأنها لا تثبت بالإطلاق لا تنافي بينهما. قوله: فلو ادعت الأمة الأخرى أن ولدها هو الولد الذي استلحقه وانها هى التي استولدها فالقول قول السيد مع يمينه، وكذا لو بلغ الولد فادعى. انتهى كلامه. وهو مشكل لأن المسألة مصورة بما إذا لم تكن فراشًا له، والسيد إذا لم يعترف بالوطء لا تسمع عليه دعوى الاستيلاد، ومن طريق الأولى سماع الولد عليه بعد البلوغ قاله ابن الرفعة. قوله: ولو مات السيد قبل التعيين قام ورثته مقامه، فإن قالوا: لا نعلم رجعنا إلى القائف، فلو تعذر أقرعنا بينهما ليعرف الحر منهما ولا يحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث. وأما الاستيلاد فإن لم يوجد من السيد ما يقتضيه لا يثبت، وإن وجد فهل تحصل أمية الولد في أم ذلك الولد بخروج القرعة؟ حكى الإمام فيه وجهين وقال: المذهب أنها لا تحصل، لأنها تتبع النسب، فإذا لم نجعله ولدًا لا نجعلها أم ولد. والذي أورده الأكثرون: أنها تحصل، لأن المقصود العتق، والقرعة عاملة فيه. وعلى هذا الخلاف يحمل قوله في الكتاب: وهل يقرع بين الأمتين في الاستيلاد؟ فيه خلاف.

وقد يتبادر إلى الفهم إخراج القرعة مرة أخرى ولا يعقل ذلك، إذ لا يؤمن خروج القرعة على غير التي خرجت لولدها. انتهى كلامه. وما توهمه -رحمه الله-: من أن أحدًا لم يقل بقرعة ثانية غريب، فقد صرح الإمام في "النهاية" بذلك فقال: وأما القائل بالأول -وهو أن الاستيلاد لا يثبت- فإنه يقول: بين الجاريتين عتق كما بين الولدين عتق فنفرد الجاريتين بالقرعة. هذا لفظه. وقد صرح الغزالي بتجديد القرعة في "البسيط" أيضًا، ورأيت في "شرح المهذب" للعراقي الجزم به أيضًا، وفرع عليه فقال: لو خرجت القرعة لغير التي خرجت لولدها عتقت هي، ورق ولدها. قوله: إذا قال من له أمة لها ثلاثة أولاد: أحد هؤلاء ولدي فعين الأصغر فالأكبران رقيقان، وإن عين الأوسط فالأكبر رقيق وأما الأصغر فإن لم نجعل الأمة أم ولد فهو رقيق كالأم. وإن جعلناها، فينظر إن لم يدع الاستبراء بعد الأوسط فقد صارت فراشًا بالأوسط فيلحقه الأصغر ويرثه. ثم قال بعد ذلك: وذكر في "التتمة" وجهًا آخر، فيما إذا لم يدع الاستبراء: أنه لا يثبت نسبه، ويكون حكمه حكم الأم يعتق بموت السيد، لأن الاستبراء حصل بالأوسط، ولم أر لغيره ذكره. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من حكاية ذلك وجهًا ضعيفًا لم يره إلا في "التتمة" غريب، فقد حكاه الماوردي في "الحاوي" وعلله باحتمال أن تكون علقت بالأوسط في ملكه وهي مرهونة ثم بيعت بعد وضعه في الدين فولدت الأصغر من زوج ثم استبرأها مع الأصغر. وحكاه أيضًا البغوي في "التهذيب"، بل لنا وجهان شهيران في أن وضع أم الولد هل يكون استبراء حتى إذا أتت بولد آخر لا

يلحق السيد لأن وضع الحمل أقوى في الدلالة على الاستبراء؟ من دعواه بعد ذلك أنه استبرأها بالحيض، أم لا يكون استبراء وبالغ الإمام في باب الاستبراء في تضعيف الثاني، وأغرب من ذلك كله أنه قد صحح هذا الوجه الذي ادعى غرابته، وهو عدم اللحوق في آخر باب الاستبراء، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: القسم الثاني: أن يلحق النسب بغيره مثل أن يقول: هذا أخى ابن أبى، أو ابن أمى فيقبل بشروط. انتهى. اعلم أن ما أطلقه الرافعي من اللحوق، وتبعه عليه في "الروضة" مسلم إذا كان الملحق به رجلًا، فإن كانت امرأة فلا، لأن اعترافها هي لا يقبل على الصحيح كما ذكروه في كتاب اللقيط فبالأولى استلحاق ورثتها. كذا جزم به في "المطلب" فقال فيما إذا قلنا: لا يصح، فاستلحاق وارثها وإن كان رجلًا بطريق الأولى، وقد صرح به ابن اللبان. هذا لفظه، وهو واضح. قوله: وإذا أقر بعض الورثة، وأنكر البعض لم يشارك المقر في حصته في ظاهر المذهب. وقيل: يشارك، وهذا في الظاهر. وأما في الباطن فهل على المقر إذا كان صادقًا أن يشركه فيما في يده، فيه وجهان. الصحيح منهما على ما قاله ابن الصباغ: نعم. وهو على هذا يعطيه ثلث ما في يده لأن حق الثالث شائع فيما في يده، ويد صاحبه. وقيل: نصفه لأن الثالث بزعمهما غصبهما بعض حقهما. وعن صاحب "التقريب": أنه إن أخبره المنكر على القسم بأن معهما

ثالثًا أعطاه النصف، لأنه متعدٍ بتسليم نصف حصة الثالث إليه، فيغرم ما حصل في يد صاحبه كما يغرم الحاصل في يده، ثم قال: وقيل: لا فرق عند التراضي بين العلم والجهل انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما صححه ابن الصباغ صححه أيضًا القاضي أبو الطيب، وقال البندنيجي في "تعليقه": إنه المذهب، والنووي في أصل "الروضة": إنه الأصح. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد أسقط الوجهين الأخيرين من الوجوه المفرعة على المشاركة. الأمر الثالث: أن هذه العلة التى نقلها عن صاحب "التقريب" لا تطابق الحكم، وذلك لأن الحاصل في يد صاحبه من نصيب الذي أنكره هو ثلث ما أخذ، فإذا غرم مثله في يده لزم أن يغرم المقر ثلثي ما في يده لا نصفه. وقد عبر الإمام بتعبير صحيح مرشدًا إلى المراد، وإن كان في كلامه بعد هذا قلق، فإنه قال ما نصه: فقد كانت في يدهما ثابتة على الجميع ثبوتًا شائعًا، فلما اقتسما فقد رفع المقر يده عن نصف حصة الثالث وسلمه وترك للمنكر على المقر مثل ذلك. وإذا نسب المقر إلى تسليم نصف حصة الثالث إلى المنكر كان متعديًا فيلزم أن يغرم ما حصل في يده من الزيادة. هذه عبارة الإمام. فعلمنا أنه أراد بقوله في آخر الكلام ما حصل في يد صاحبه أى مما كان في يده، وكذلك أيضًا قول الرافعي: لأنه متعدٍ بتسليم ما في يده من نصف حصة الثالث أو نحو هذه العبارة، وذلك نصف سدس. وإن شئت فثلث نصف سهم من ستة أسهم في مثالنا، وهو أيضًا

مضاف لما في يد المقر من نصيب المنكر وهو السدس كامل فيصير مجموع ما يعطيه الثالث سهم ونصف، وذلك نصف ما حصل له أى للمقر. قوله: وهل الإمام له حكم الوارث في الاستلحاق أم فيه خلاف؟ والذي أجاب به العراقيون: أن حكمه كحكمه. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق النقل عن العراقيين وزاد على ذلك فصححه فقال: إنه الأصح، وبه قطع العراقيون. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن الماوردي من أكابر العراقيين، وقد خالف في هذه المسألة فقال: إن هذا القول غير صحيح، لأن الإمام لا يملك حق في بيت المال. الأمر الثاني: أن هذا الحكم إنما يأتي إذا كان الميت مسلمًا، فإن كان كافرًا لم يكن ذلك فيه، لأن ماله لم ينتقل لبيت المال على سبيل الإرث، بل للمصالح، فلو صح الاستلحاق للإمام، والحالة هذه لكان استلحاقًا ممن ليس بوارث ولا نائب عنه، بل لو وكل في الاستلحاق لم يصح أيضًا، لأنه توكيل في الإقرار والله أعلم. تم الجزء الخامس بحمد الله وعونه بتلوه في أول السادس كتاب العارية

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء السَّادِس مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (6)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب العارية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى على سيدنا محمد - اللهم يسر كتاب العارية وأركانها أربعة قوله: والمعتبر فيه -يعني: في المعير- مالكية المنفعة، فيجوز للموصى له بخدمة العبد وسكنى الدار أن يعير. انتهى. وما ذكره من اشتراط الملك في المعير تابعه عليه في "الروضة"، ويرد عليه صورتان: إحداهما: ما لو نذر أضحية أو هديًا، فإنه يجوز له أن يعيره. كما قال الرافعي في باب الأضحية، مع أنه قد خرج عن ملكه بمجرد النذر، ولهذا قالوا: لا يؤخر. الثانية: جواز إعارة الإمام أراضي بيت المال وغيرها من الأعيان، فإنه لا شك في جوازه، وإن لم يحضرني الآن ناقله. بل قد صرح الرافعي بجواز التمليك، وحينئذ فالإعارة أولى، وما أطلقه من كون الموصي له بالمنفعة مالك، وأنه لا يجوز له أن يعير فيه تفصيل وخلاف مذكور في باب الوصية فراجعه. وكلام الرافعي يقتضي أنه لا يجوز للأب إعارة ولده الصغير، وهو الذي أطلقه في "العدة" كما قال في "الروضة" ولكن إذا أعاره في خدمة حقيرة لا تقابل بأجرة، فالظاهر الذي تقتضيه أفعال السلف أنه لا يمنع منه إذا لم يضر بالصبي هذا كلامه، ولم ينقله عن أحد. وقال الروياني في "البحر": يجوز أن يعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه.

قوله: الركن الثاني: المستعير، قال في الكتاب: ولا يعتبر فيه إلا كونه أهلًا للتبرع عليه وكأنه أراد التبرع بعقد، وإلا فالصبي والبهيمة لهما أهلية التبرع، والاختيار إليهما. ولكن لا يوهب منهما فلا يعاد. انتهى. وما قاله الغزالي، وأقره عليه قد جزم به في "الروضة" وهو يقتضي صحة استعارة السفيه فإن الصحيح صحة قبوله الهبة. كما سبق في الحجر. لكن كيف تصح استعارته مع كونها سببًا مضمنًا؟ لا جرم أن صاحب "الذخائر" جزم بعدم صحتها. وذكر الماوردي في كتاب الحجر نحوه. فإنه قال: فيما إذا أعار من سفيه شيئا فأتلفه: إن حكمه كما لو أتلف الوديعة حتى يجئ فيه الخلاف في ضمانها، ولو صحت منه لكان يضمنها قولًا واحدًا، وإن لم يتلفها. قوله: وأما إعارة الجواري للخدمة فتجوز إن كانت الإعارة من محرم، أو امرأة، وإلا فلا تجوز لخوف الفتنة. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حصر الجواز في المحرم والمرأة لكن لابد من استثناء أمور: أحدها: المالك: ويتصور ذلك في المستأجر وفي الموصى له بالمنفعة. الثاني: ما استثناه في "الطلب" وهو الزوج يستعير زوجته. قال: فإذا أعارها له، فتكون مضمونة عليه ولو في الليل إلى أن يسلمها له لأن يد الضمان تثبت فلا تزول إلا بذلك. الثالث: إذا مرض رجل ولم يجد من يخدمه إلا امرأة فإنها تخدمه للضرورة. فلو أعار والحالة هذه صح.

قوله: في المسألة: إلا إذا كانت صغيرة لا تشتهى أو قبيحة، ففيها وجهان انتهى. والصحيح منهما عند الرافعي: أنه يحرم، كذا صححه في "الشرح الصغير" وهو مقتضي إطلاق "المحرر" أيضًا، فإنه لم يستثن شيئًا وقال في "الروضة": الأصح الجواز. واعلم أن الخلوة بالصغيرة جائزة، ولهذا لا تنقض الوضوء بخلاف العجوز، فالصواب التفرقة فيجوز في الصغيرة بخلاف الكبيرة. قال في "المطلب": والحق المنع في العجوز والشوهاء. قوله: وتكره استعارة أحد الأبوين للخدمة لأن استخدامهما مكروه. ولفظ الإمام ينفي الحل. انتهى كلامه. وصورة المسألة: أن يقصد بها الاستخدام، فإن أوقع الإعارة على الخدمة، لكن قصد توقيره كانت مستحبة. كما قاله: القاضي أبو الطيب وغيره وهو واضح. واعلم أن الرافعي في كتاب الإجارة، حكى وجهين في صحة استئجار الولد عين والده قال: كالوجهين في إيجار المسلم نفسه من كافر. وهذا الكلام يدل على الخلاف في جواز استخدامه إياه من غير إجارة، فإنه لا مانع من الإيجار سوى احترام الأبوة وهو موجود في الإعارة. وهذا الذي قلناه يقوى ما نقله الرافعي عن الإمام من نفي الحل. وقد أشار في "الروضة" إلى إنكار ذلك فقال ما نصه: الذي قاله الأصحاب أنه يكره كراهة تنزيه. قال الجرجاني: ويكره أيضًا استئجارهما، هذا لفظه. قوله: ولو قال أبحت لك درها ونسلها فوجهان:

أحدهما: أنه كقوله: ملكتك حتى لا يصح. والثاني: أنه إباحة صحيحة والشاة عارية صحيحة، وهو ما أورده المتولي انتهى. والصحيح: هو الوجه الثاني، فقد اختاره أيضًا القاضي أبو الطيب والماوردي، وصاحب "الشامل"، وصححه في "الروضة" من زياداته. بل إنما صور المذكورون المسألة وكذلك أكثر من تكلم عليها، بما إذا أعار، حتى اقتضى كلام أبي الطيب صحة الإباحة جزمًا، وهذا هو المتجه. وأما تصوير الرافعي إياها بما إذا أباحه، فتابع فيه البغوي. قوله: الركن الرابع: الصيغة، واختلفوا في الواجب من اللفظ. والأصح الأشهر ما قطع به البغوي وغيره أن المعتبر: اللفظ من أحد الطرفين، والنقل من الآخر. وقال الغزالي: يعتبر اللفظ من جهة المعير ولا يعتبر من جهة المستعير، إنما يعتبر منه القبول بالفعل. انتهى. واللفظ "للروضة"، وقد ذكر في الباب الثاني ما يوافق مقالة الغزالي، وسأذكره في موضعه فراجعه. ثم إن الذي ذكره هناك هو قياس الوديعة فإن الرافعي، قد جزم بأنه يشترط فيها اللفظ من جهة المودع، والفعل من الآخر ووافقه عليه في "الروضة" وتتجه التسوية بين البابين. قوله: ويوافقه ما حكى عن الشيخ أبي عاصم أنه إذا انتفع بظرف الهدية المبعوثة إليه، حيث جرت العادة باستعماله، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها، كان عارية لأنه انتفاع بملك المعير بإذنه. انتهى كلامه. وما قاله أبو عاصم، قد جزم به البغوي أيضًا، ونقله عنه الرافعي في كتاب الهبة، ثم إن محل ذلك أيضًا إنما هو فيما إذا كانت الهدية لا لمقابل،

فإن كانت عوضًا فالظرف أمانة في يده، كالإجارة الفاسدة. كذا حكاه المتولي عن أبي عاصم المذكور ونقله عنه في "الروضة". ويؤخذ من كلام الرافعي هنا أن الضمان في المسألة التي نقلها يتوقف على الاستعمال فأما قبله [فهو] (¬1) أمانة، وإن كانت بغير مقابل. وقد صرح به الرافعي في الهبة. ¬

_ (¬1) في ب، جـ: فإنه.

أحكامها

قال -رحمه الله-: أما أحكامها فأربعة قوله: فإذا وجب ضمان العارية فأي قيمة تعتبر؟ فيه ثلاثة أوجه, وسماها الزجاجي أقوالًا وكذلك في "الوسيط". أحدها: أقصا القيم. وثانيها: قيمة يوم القبض. والثالث: وهو الأصح قيمة يوم التلف فإن ضمناه ضمان المغصوب كان ولدها الحادث في يده مضمونًا عليه وإلا فلا. انتهى ملخصا فيه أمور: أحدها: أن كلامه يقتضي أن الراجح كون الخلاف وجوهًا، وقد خالفه في "المحرر" فقال: أصح القولين أن إعارته تضمن بقيمة يوم التلف، لا بأقصا القيم، هذا لفظه، وقد عدل في "المنهاج" عن ذلك، وجعله الخلاف وجوها وهو الصواب. واعلم أن إطلاق الرافعي يقتضي أنه لا فرق في التضمين بالقيمة بين المثلى كالخشب والحجر، وبين المتقوم؛ وهو كذلك، فإن المنقول في "الحاوي" و"التهذيب" و"المحرر" وغيرها بناء المثلى على الخلاف في ضمان المتقوم فإن اعتبرنا أقصا القيم أوجبنا القيمة. الأمر الثاني: أنا إذا قلنا أن ولد العارية لا يكون مضمونًا فيكون حكمه، كما لو طيرت الريح ثوبًا إلى داره، وغير ذلك من الأمانات الشرعية، هكذا جزم به القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما. ولم يذكر ابن الرفعة في "المطلب" و"الكفاية" غيره. وحكم الثوب المذكور ونحوه أنه إذا تمكن من رده إلى المالك فلم يرده كان ضامنًا له في أصح الوجهين.

كذا ذكره الرافعي في كتاب الوديعة، وحينئذ فإذا تمكن من رد هذا الولد فلم يرده، كان ضامنا له في الأصح فتفطن له فإن كلام الرافعي و"الروضة" يوهم إيهامًا ظاهرًا بخلافه. الأمر الثالث: إنما قيد الرافعي ما ذكره بالولد الحادث للاحتراز عما إذا أعاره دابة فتبعها ولدها، فإن الولد لا يكون مضمونًا عليه، كما قاله القاضي الحسين والبغوي في "فتاويهما" ولم يذكر في "زوائد الروضة" غيره. وقال في "الكفاية": إذا قلنا بضمان الولد الحادث قلنا أيضًا بالضمان في الولد التابع؛ ولم ينقل عدم الضمان إلا عن الجيلي، والذي قاله مردود، وقد نبهت عليه في "الهداية في أوهام الكفاية" فراجعه. قوله: فيما إذا استعار من المستأجر: ومؤنة الرد في هذه الإستعارة على المستعير إن رد على المستأجر، وعلى المالك إن رد عليه، كما لو رد عليه المستأجر. انتهى كلامه. وما ذكره من إيجاب المؤنة على المالك، قد خالفه في غير هذا الموضع، وسأذكر ذلك في موضعه من باب الإجارة، إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: ألا ترى أن الأصل يرجع في الهبة ولا يرجع في الصدقة. انتهى كلامه. وما ذكره عن عدم الرجوع في الصدقة للأصل قد ناقضه في غير هذا الموضع، وسوف أذكره إن شاء الله تعالى في باب الهبة مبسوطًا فراجعه. قوله: ولو كان لأحد الرفيقين في السفر دابة وللآخر متاع، فقال صاحب المتاع للآخر: احمل متاعي على دابتك فأجاب، فصاحب المتاع مستعير. ولو قال صاحب الدابة: أعطني متاعك لأضعه على الدابة فهو مستودع متاعه ولا تدخل الدابة في ضمان صاحب المتاع، ذكره البغوي. انتهى كلامه.

وفيه كلام سبق ذكره قريبا في أول الركن الرابع. قوله: وإن كان ينتفع به بجهتين فصاعدًا كالأرض تصلح للزراعة والبناء، وكالدابة للركوب والحمل، فهل تصح إعارته مطلقًا أم لابد من بيان جهة الانتفاع؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالثاني فقال: أعرتك لتنتفع به فيما بدا لك، أو كيف شئت فوجهان. انتهى. أما الوجهان الأولان فالصحيح فيهما أنه لابد من البيان. فقد قال -أعني الرافعي- في باب الإجارة من هذا الكتاب، وفي "المحر" هنا: إنه الأظهر. وكلامه في "الشرح الصغير" يشعر برجحانه. واقتصر في "الروضة" على نقل ما في "المحرر" ولم يتفطن إلى الترجيح الواقع في كتاب الإجارة. وأما الوجهان الأخيران فتابعه في "الروضة" على حكايتهما أيضًا من غير ترجيح. والصحيح منهما: الصحة، فإنهما صححا ذلك في نظيره من الإجارة، وحينئذ فتصحيح الإعارة بطريق الأولى. قوله: وللمعير والمستعير الرد متى شاء. واستثنى الأصحاب عن الأصل المذكور صورتين: الأولى: إذا أعار أرضا للدفن للميت فدفن. الثانية: إذا أعار حائطًا لوضع الجذوع فلا يرجع على وجه. انتهى. وما ذكره من الحصر تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك بل تستثنى ثالثة وهي: ما إذا كفن الميت أجنبي فهل الكفن باق على ملك الأجنبي؟ فيه خلاف حكاه الرافعي في كتاب السرقة من غير تصحيح، وصحح النووي من "زوائده" البقاء.

قال في "الوسيط" في باب الوصية: إنه يكون عارية. وقال في السرقة من العواري اللازمة. وصرح الرافعي في السرقة أيضًا بأنه كالعارية وهو معنى لفظ الغزالي، والتشبيه لا معنى له لأنه حقيقة العارية. ولو أراد [أداء] (¬1) الصلاة المفروضة، فأعاره ثوبًا ليستر به عورته، أو ليفرشه في مكان نجس ففعل وأحرم وكان الرجوع مؤديا إلى بطلان الصلاة فيتجه منعه منه، ويحتمل الجواز وتكون فائدته طلب الأجرة. ويستثني من رد المستعير صورة أخرى وهي: استعارة الدار لسكنى المعتدة كما ذكره الأصحاب في كتاب العدد. قوله: وإذا أعار أرضًا لدفن ميت فله الرجوع قبل الحفر وبعده، ما لم يوضع الميت، قال في التتمة: وكذا بعد الوضع ما لم يواره التراب. وذكر أن مؤنة الحفر إذا رجع بعد الحفر وقبل الدفن على ولي الميت، ولا يلزمه الطم. انتهى كلامه بحروفه. فيه أمران: أحدهما: أنه ليس فيه ولا في "الروضة" ما يدل على أن المحكي عن "التتمة" حكايه لوجه آخر مرجوح، أو استدراك لما قاله أولئك حتى يكون إطلاقهم محمولا عليه؟ بل كلامه يوهم الاحتمال الثاني؛ وقد بيّن ذلك في "الشرح الصغير" وذكر ما حاصله: أنه وجه فقال: وله الرجوع قبل الحفر وبعده ما لم يوضع فيه الميت، وقيل ما لم يوار بالتراب. هذا لفظه بحروفه، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". نعم: كلام الإمام يقتضي موافقة صاحب "التتمة" فإنه قال: وللمعير ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الرجوع قبل اتفاق [الدفن] (¬1). الأمر الثاني: أن المتولي قد جزم بأن مؤنة الحفر في هذه الحالة على المعير فقال: إذا رجع في العارية بعد الحفر وقبل الدفن غرم لولي الميت مؤنة الحفر، لأنه بإذنه في الحفر أوقعه في التزام ما التزمه، وفوت عليه مقصوده لمصلحة نفسه، هذا لفظ المتولي. وكلام الرافعي يشعر بأن المتولي أجاب بعكسه، فإنه بعد أن نقل عن المتولي ما نقل عبر بقوله: وذكر أن مؤنة الحفر إلى آخر ما قدمناه. لكن يحتمل أن تكون الذال مضمومة على البناء للمفعول، ويكون غير المتولي هو الذاكر له. وقد عبر النووي بعبارة لا تحتمل فأتى بلفظ قال: ثم استدرك عليه، ونسب الرافعي فيه إلى الغلط. قوله: في أصل "الروضة": إعارة الأرض للبناء أو الغراس ضربان. انتهى. استدرك المصنف في "لغات التنبيه" على الشيخ في تعبيره بالغراس فقال: لو عبر بالغرس -أي: بإسقاط الألف- لكان أحسن وأخصر؛ والذي أرشد الشيخ إليه قد وقع فيه ههنا. قوله ولو استعار أرضًا فبنى فيها أو غرس، ثم رجع المالك، فإن كان قد شرط عليه القلع مجانًا عند رجوعه لزمه، ثم قال بعد ذلك: إنه لا فرق فيه بين العارية المطلقة والمؤقتة. انتهى. وتقييد القلع بقوله مجانًا ذكره هو والنووي في كتبهما، والصواب حذفه؛ فإنه يقتضي أنه لا يؤمر بالقلع مجانًا إلا عند التنصيص عليه، وهو ¬

_ (¬1) سقط من أ.

خلاف ما قاله الشافعي، فإن الشافعي أوجب عليه ذلك بدون هذا الشرط، فقال في "المختصر" و"الأم" ما نصه: ولكن لو قال -أي: المعير- فإذا انقضى الوقت كان عليك أن تنقض بناءك، كان ذلك عليه، لأنه لم يغره إنما غر نفسه هذا لفظه. ولذلك لم يأت به جماعة منهم الشيخ في المهذب. قوله: ولو أراد المستعير القلع مكن منه، ثم إن لم يكن قد شرط عليه القلع فهل يلزمه تسوية الأرض؟ فيه وجهان: أظهرهما نعم. انتهى مخلصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما رجحه هنا قد رجح عكسه في "المحرر"، فقال: أظهر الوجهين: أنه لا يلزمه تسوية الأرض، هذا لفظه؛ وهو غريب لتعبيره بالأظهر في الموضعين. والظاهر أنه في "المحرر" انعكس عليه المراد ولأجل ذلك قال في "الروضة" من زياداته: إن الجمهور على اللزوم، قال: ولا تغتر بما في "المحرر" فإنه ضعيف، ويؤيد ما قاله: أن الإمام ادعى في الإجارة إتفاق الأصحاب عليه. الأمر الثاني: أن إيجاب التسوية يتجه أن يكون محله في الحفر الحاصلة من القلع، أما الحاصلة بسبب البناء أو الغراس في مدة العارية فيتجه عدم وجوبها، لأنها ما حدث فيها لأجل الاستعمال. وإذا لم يوجبوا ضمانًا عند انمحاق الثوب أو استخفافه لهذه العلة، فالحفر أولى. قوله في المسألة: فإن لم يختر المستعير القلع ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المعير يخير بين أن يتملكه بالقيمة، وبين أن يقلع ويضمن أرش ما نقص وهذا رأى أكثر العراقيين وغيرهم، ويشبه أن يكون أظهر في

المذهب. والثاني: أنه يخير بينهما وبين الإبقاء بأجرة. والثالث: له القلع مع الأرش، وليس له التملك، ولا الإبقاء بأجرة، إلا بإذن المستعير لأنها بيع أو إجارة، قاله في "التهذيب". انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل ما في "التهذيب" هو التخيير بين الثلاث فإنه قال: ولكن يخير المعير بين أحد الأشياء الثلاثة، إن شاء أخذها بالقيمة وإن شاء كلف المستعير قلعها وضمن أرش النقصان، وإن شاء أقرها بالأجرة، فإن أراد القلع لا يحتاج إلى إذن المستعير وإن أراد التملك بالقيمة أو التقرير بالأجرة يحتاج إلى إذنه، لأنه بيع أو إجارة. وربما يريد المستعير نقله، هذا لفظه بحروفه. وحاصله: أنه لا يستقل بالتملك، ولا بالإبقاء بالأجرة بخلاف القلع لأن في التملك إخراج ملكه عنه وفي الإبقاء بالأجرة إلزام ذمته مالًا وهو قد لا يريد ذلك، بل يريد القلع. وهذا الذي قاله صحيح ظاهر، وحينئذ فإذا اختار المعير واحدة من هذين عرضنا الأمر على المستعير، فإن أجاب إليها، وإلا جوزنا للمعير القلع، وإن لم يقلع المستعير. الأمر الثاني: أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي في مواضع شتى، واختلف فيها كلامه، وتابعه في "الروضة" على ذلك، فلنذكر تلك المواضع. فنقول: قد عرفت المذكور هنا وذكرها أيضًا في كتاب الصلح وأجاب بالتخيير بين الخصال الثلاث، ذكر ذلك في أوائل الفصل الثاني من الباب الثاني عند الكلام على ما إذا أعاره حائطًا لوضع الجذوع وقلنا: بالصحيح

وهو جواز الرجوع فقال: وما فائدة رجوعه؟ فيه وجهان أظهرهما: أنه يتخير بين أن يبقى بأجرة وبين أن يقلع ويضمن أرش النقض، كما لو أعار أرضًا للبناء. قال في "التهذيب": إلا أن في إعارة الأرض له خصلة أخرى، وهي تملك البناء بالقيمة وليس لمالك الجدار ذلك؛ لأن الأرض أصل فجاز أن يستتبع البناء، والجدار تابع فلا يستتبع. انتهى كلامه. وجزم في الباب الثاني من أبواب الغصب في الطرف الثاني منه بما يقتضيه أيضًا. وصرح به في كتاب الهبة، فيما إذا وهب لابنه أرضًا فبنى فيها الابن أو غرس، ثم رجع الأب فقال: وليس للأب قلع البناء والغراس مجانًا لكنه يتخير بين الإبقاء بأجرة، والتملك بالقيمة، أو القلع، وغرامة النقض كالعارية. انتهى فالمذكور هنا التخيير بين التملك والقلع. وفي الصلح والغصب والهبة التخيير بين الثلاث. وذكرها في "الشرح الصغير" في هذا الباب وفي الصلح "كالكبير" ولم يتعرض لها في كتاب "الهبة". واعلم أن هذا الحكم على شدة اضطرابه يأتي في مسائل صرح بها الرافعي وغيره. منها: الإجارة. فإذا انقضت المدة والبناء والغراس باقيان ولم يكونا شرطًا إبقاءً ولا قلعًا، فهو كالعارية. ومنها: الشفعة. فإذا بني المشتري أو غرس، ثم أخذ الشفيع بعد ذلك، فحكمه حكم المعير فيما تقدم. ومنها: المفلس، فإذا اشترى أرضا وبنى فيها أو غرس، ثم حجر عليه بالإفلاس قبل وفاء ثمنها، فأراد البائع الرجوع فيها وامتنع الغرماء والمفلس

من القلع، فيكون البائع مخيرًا بين التملك والقلع مع غرامة الأرش. ومنها: الهبة وقد تقدم الكلام فيها. فإن قيل: كيف يتصور ذلك في الشفعة، مع أن المشتري إذا تصرف بالبناء أو الغراس قبل القسمة، فإن الشفيع يقلع ذلك مجانًا، لأنه تصرف بغير إذن شريكه، وإن كان بعد القسمة فلا شفعة؟ . قلنا: قال الأصحاب: يتصور في مسائل: إحداها: أن يوكل في القسمة من شركائه فيقاسم للوكيل من المشتري، ثم يطلع بعد ذلك على الحال. الثانية: أن يدعي المشتري أنه ملكه بهبة أو بثمن كبير، فيقاسمه الشفيع ثم يبني المشتري في ملكه، ثم يطلع الشفيع بعد ذلك فيأخذ. وهذه المسألة الشديدة الاضطراب الواقعة في أبواب قد نص عليها الشافعي في "الأم" فقال: في كتاب اختلاف العراقيين في باب العارية ما نصه: قال الشافعي: فإذا أعار الرجل الرجل بقعة من الأرض يبني فيها بناء فبناه، لم يكن لصاحب البقعة أن يخرجه من بنائه حتى يعطيه قيمته. وذكر أيضًا مسألة الشفعة في الكتاب المذكور. فقال في باب الشفعة ما نصه: قال الشافعي: وإذا اشترى رجل نصيبًا من دار، ثم قاسم فيه وبناه، ثم طلبه الشفيع بالشفعة قيل له: إن شئت أد الثمن الذي اشتراه به، وقيمة البناء اليوم، وإن شئت فدع الشفعة؛ لا يكون له إلا هذا. ونص أيضًا في الكتاب المذكور على مسألة الهبة في باب الصدقة والهبة فقال: فيما إذا وهب نصف دار هبة تقتضي الرجوع، فبنى الموهوب له ثم

رجع ما نصه: ويقال له: إن أعطيته قيمة البناء أخذت نصف الدار والبناء، كما يكون لك وعليك في الشفعة. فاعلم أن هذه المسائل قد وقع في الكلام عليها في "التنبيه" و"المحرر" و"المنهاج" شيء غريب، وذلك أن هذه الكتب قد وقع فيها في هذا الباب، أن المستعير مخير بين الإبقاء بأجرة والقلع مع ضمان الأرش لا غير. أما في "المحرر" و"المنهاج" فبالتصريح. وأما في "التنبيه" فعلى ما فهمه الشارحون وهذا المذكور في المختصرات، لم يذكره مصنفوها في أصولهم من هذا الباب، فضلًا عن تصحيحه فلم يذكره الشيخ في "المهذب"، وإن ذكره في "التنبيه"، ولا الرافعي في هذا الكتاب وإن ذكره في "المحرر" ولا النووي في "الروضة" وإن ذكره في "المنهاج"، لأنهم حكوا في المسألة ثلاثة أوجه كما تقدم وليس المجزوم به ههنا واحدًا منها. وقد ذكر في "التنبيه" مسألة الشفيع على الصواب، وليست في "المنهاج"، وذكر في "المنهاج" مسألة المفلس على الصواب وليست في "التنبيه"، وتلك اتفاقات غريبة. قوله: والثاني أن أبا حنيفة والمزني جوزا له القلع مجانًا إذا رجع بعد المدة ذهابًا إلي أن فائدة بيان المدة القلع بعد مضيها، وهو اختيار القاضي الروياني. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل اختيار ذلك عن الروياني، وهو غلط مخالف لما في "البحر" و"الحلية". أما "البحر" فقد صرح فيه بتخطئة ما قاله المزني. وأما في "الحلية" فإنه صحح فيها أيضًا خلافه. فقال: فلو كانت العارية مؤقته، فالحكم كما لو كانت مطلقة في أظهر

القولين. واختيار المزني فيها أن له مطالبته بالقلع عند انقضاء المدة بلا ضمان لفائدة التأقيت وهو الاختيار للمزني، هذا لفظه وكأن إعادة الإختيار المنسوب إلى المزني، مع عدم مراجعة "البحر"، هو الذي أوقع الرافعي في الغلط. وإنما أعاده الروياني، لأنه تقدم منه نقل نظيره عن المزني، فكأنه قال وهو الإختيار المعهود منه الذي سبق ذكره. قوله: ولو امتنع المعير من إختيار شيء مما خيرناه فيه لم يكن له القلع مجانًا ثم قال وما الذي يفعل؟ قال بعضهم: يبيع الحاكم عليها ليفصل الأمر. وقال الأكثرون: يعرض الحاكم عنهما حتى يختارا شيئًا. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله حتى يختارا أي بالألف وقع كذلك في أكثر نسخ الرافعي وفي "المحرر" و"المنهاج" والصواب حذفها لأن اختيار المعير وحده كاف. وقد حذفها النووي في "الروضة". قوله: قال المتولي: إذا بني أحد الشريكين أو غرس في الأرض المشتركة بإذن صاحبه، ثم رجع صاحبه لم يكن له القلع بأرش النقص لأنه يتضمن قلع بناء المالك في ملكه وليس له أن يتملك بالقيمة لأن للباني في الأرض مثل حقه لكن ليس له الإبقاء بأجرة. فإن لم يبذلها الثاني، فهل تباع أو يعرض عنها فيها ما سبق. انتهى. اعترض في "الروضة" على كلام المتولي فقال: هكذا قاله المتولي، فإن لم يبذلها الثاني وكان ينبغي أن يقول: فإن لم يرض بها المعير، فإنا إذا جوزنا للمالك اختيار خصلة فاختارها أجبرنا المستعير عليها. وفي هذه الصورة قد جوزنا للمالك اختيار الإجارة، لانحصار الأمر فيها، بخلاف ما إذا كانت الأرض كلها للمعير.

والذي قاله اعتراض صحيح، غير أنه قال: إن بذل الثاني ليس بشرط على المختار كما تقدم. وحكايته للخلاف مع ترجيح إجابة المعير غلط؛ لأنَّ الخلاف محله فيما إذا أعار جميع الأرض، ولكن الصحيح عدم الإجبار على الأجرة، بل التخيير بين الخصلتين فقط. ومسألتنا هذه وإن كان يجبر على الأجرة إن لم يقلع، لكن لا خلاف فيها. واعلم أن طريقة المتولي التخيير بين شيئين فقط، وهما: التملك بالقيمة، والقلع بغرامة الأرش. وذكر ابن الصلاح في "فتاويه" أن للشريك أن يتملك بالقيمة من البناء بقدر حصته من الأرض ويصير البناء مشتركًا بينهما، كاشتراكهما في الأرض. وقد ذكر في "التتمة" في كتاب الشفعة فرعًا يخالف ما ذكره هنا فقال: إذا كانت أرض بين ثلاثة استأجر أحدهم نصيب أحد شريكيه مدة معلومة ليبني ويغرس، واشترى نصيب الأخر ثم بني في الأرض وغرس، فله ذلك. وشفعة الشريك الذي أجر ولم يبع فائتة فإذا طلب الشفعة لم يكن له أن يقلع البناء والغراس مجانًا لكنه بالخيار إن شاء أقره بأجرة، وإن شاء قلع وغرم النقص وإن شاء تملك عليه بالبدل. كما ذكرنا في من استعار أرضًا ليبني فيها أو يغرس، ثم رجع المالك هذا كلامه. قوله: ولو أعاره للفسيل إلى آخره. هو بفاء مفتوحة، وسين مهملة مكسورة وياء بنقطتين من تحت، هو

صغار النخل ويقال له الفسيلة، أيضًا قاله الجوهري. قوله: ولو حمل السيل ما لا قيمة له كنواة واحدة أو حبَّة فنبتت فهي لمالك الأرض في وجه، لأنَّ التقويم حاصل في أرضه، ولمالك الأصل في وجه، لأنها محرمة الأخذ. انتهى. والأصح: الثاني كما قاله في "الروضة" قال: وهذا في حبة ونواة لم يعرض عنها مالكها، أما إذا أعرض عنها وألقاها فينبغي القطع بكونها لصاحب الأرض. قوله: إحداها: إذا قال راكب الدابة لمالكها: أعرتني هذه الدابة، وقال المالك: بل أجرتكها فله حالتان: إحداهما: أن تكون الدابة باقية، فإن كان الإختلاف بعد مضي مدة لمثلها أجرة فقولان: أصحهما: تصديق المالك، ثم استدل عليه فقال: كما لو اختلفا في عين مال فقال المالك بعتكها، وقال من هي في يده: وهبتها، فإن المصدق هو المالك، هذا لفظه. واعلم أن ما ذكره في الاستدلال قد أوضحه في التحالف. فقال ما حاصله: إن الصحيح أنه لا يقدم قول واحد بخصوصه، بل يحلف كل منهما على نفي ما يدعي عليه. وقيل: يصدق مدعي الهبة، وقيل: يتحالفان. إذا علمت ذلك علمت أن ما قاله هنا لا يستقيم، فإن مقتضي الحكم بأن القول قول البائع إجبار المشتري على أخذ السلعة بما ادعاه من اليمين. وأقرب تأويل فيه، أن يقال المراد تصديق المالك في نفي كونه هبة لا في إثبات ما يدعيه لكنه تأويل بعيد، ومع بعده يصح أن يقال أيضًا: إن القول قول الآخر، وهو مدعي الهبة، إذا نظرنا إلى هذا المعنى. قوله: الحالة الثانية أن تكون الدابة هالكة، فإن تلفت عقب الأخذ قبل أن

يثبت لمثلها أجرة، فالراكب نفر بالقيمة، والمالك ينكرها ويدعي الأجرة، فيخرج على الخلاف الذي تقدم في أن اختلاف الجهة هل يمنع الأخذ؟ إن قلنا: نعم، إلى آخر التفريع الذي ذكره. وما ذكره هنا -رحمه الله- غلط ظاهر، تبعه عليه في "الروضة"؛ لأن المسألة قد صورها بما إذا كان التلف قبل مدة لمثلها أجرة وحينئذ فكيف يستقيم الجواب، بأن يقال: المالك يدعي الأجرة وينكر للقيمة. والراكب بالعكس، ويتخرج على الخلاف في إختلاف الجهة؟ . وكلام الرافعي قد سقط منه شيء يعلم من "التهذيب" للبغوي. فإنه قال: ولو كان هذا الاختلاف بعد تلف العين نظر: إن تلفت حال أخذها قبل مضي مدة لمثلها أجرة فالراكب يقر له بالقيمة [وهو ينكر فتزيد برده، ولو تلفت بعد مضي مدة لها أجرة فالمالك يدعي الكراء وهو يقر بالقيمة] (¬1) فهذا ينبني على أن اختلاف الجهة إلى آخره. هذا لفظ "التهذيب" فسقط ذلك له إما لانتقال نظره أو لوقوع نسخة سقيمة حصل فيها ذلك. قوله: من "زياداته": قال أصحابنا: الرد الواجب والمبري هو أن يسلم العين إلى المالك أو وكيله في ذلك، فلو رد الدابة إلى الإسطبل أو الثوب ونحوه إلى البيت الذي أخذه منه لم يبرأ من الضمان. انتهى. وهذا الذي ذكره هنا مخالف لما ذكره الرافعي في الغصب وتابعه هو عليه. فإنَه قال نقلا عن المتولي من غير اعتراض عليه: وإذا رد الدابة إلى إسطبل المالك قال المتولي: بريء أيضًا إذا علم المالك به أو أخبره من يعتمد خبره، ولا يبرأ قبل العلم والإخبار. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الغصب

كتاب الغصب وفيه بابان: الباب الأول: في الضمان وفيه ثلاثة أركان: الركن الأول: الموجب قوله: وللأصحاب -رحمهم الله- في التعبير عن معنى الغصب عبارات. إحداها: أنه أخذ مال الغير على جهة التعدي. ثانيها: الاستيلاء على مال الغير بغير حق، هذه أعم من الأولى، لأن من استعمل ثوبا لغيره يظنه لنفسه، فإن الغصب يثبت في حقه مع إنتفاء العدوان وهو الإثم. ثالثها: كل مضمون على ممسكه مغصوب. وهذه أعم من الأوليين، ويدخل فيها المقبوض بالشراء الفاسد، والوديعة إذا تعدى فيها المودع، والرهن إذا تعدى فيه المرتهن. وأشبهها وأشهرها العبارة الأولى، والثابت في الصور المذكورة إنما هو حكم الغصب لا حقيقته. انتهى ملخصا. فيه أمور: أحدها: أن المودع إذا تعدى فقد انفسخت الوديعة، وحرم عليه الاستيلاء عليها وصار ضامنا، فقد ثبت فيها حقيقة الغصب [بخلاف المرتهن فإن الثابت فيه إنما هو حكم الغصب] (¬1) وهو الضمان، وأما الاستيلاء فثابت له ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لبقاء الرهن. الأمر الثاني: أن تعبيره في العبارة الثانية بقوله: بغير حق؛ إن أراد بالحق ما وجب له كالمستأجر ونحوه فيلزم فسادها. وأن تكون الثالثة أعم منها لدخول الوكيل والمستعير، والمودع وغير ذلك. وإن أراد بالحق الجائز فلزم أن لا تكون أعم من العبارة الأولى بل مساوية لها. وقد ذكر في "المطلب" هذا الاعتراض وأقره، [وأقرب] (¬1) شيء فيه أن يقال: إن أراد بالحق المسوغ في نفس الأمر وحينئذ فلا اعتراض. الأمر الثالث: أن التعبير بالمال مخرج للاختصاصات كجلد الميتة والسرجين وحق التحجر، ونحو ذلك. وقد ذكر في "الروضة" هذا الاعتراض ثم قال بعده: والاختيار: أنه الإستيلاء على حق الغير بغير حق هذا لفظه. وتعبيره بقوله: بغير حق ذهول، والصواب: عدوانًا، فقد تقدم الفرق بينهما وموافقته عليه، وإنما نقصد الإنتقاد على من عبر بالمال. قوله: والإتلاف أيضًا مضمن، وقد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالتسبب. ثم قال: ومن التسبب الإكراه على إتلاف مال الغير. انتهى. واعلم أن المكرِه يعني الأمر، وإن كان يجب عليه، لكن ينبغي أن يتفطن إلى أن المتلف يطالب أيضًا على الصحيح، كما ذكره في الجنايات في الكلام على الإكراه على القتل. ثم إذا غرم فيرجع به على المكرِه على الصحيح أيضًا. قوله: أما إذا كان جامدًا وشرقت الشمس فأذابته إلى آخره. ¬

_ (¬1) في جـ: وأقل.

يقال: شرقت الشمس تشرق بالضم شروقا وشرقًا إذا طلعت، كما تقول مثله في غربت وهذا هو المراد هنا، وأشرقت إشراقًا إذا أضاءت. قوله: ولو فتح قفصا عن طائر فطار في الحال فطريقان، أظهرهما: قولان: أصحهما: الوجوب. والثانية: يجب قطعًا، وقيل: إن اضطرب ثم خرج وجبت، وإن خرج من غير إضطراب لم تجب. وإن وقف ثم طار فطريقان أيضًا. أظهرهما: القطع بعدم الضمان. والثانية: على قولين، واختار جماعة الضمان مطلقًا. منهم الروياني. انتهى ملخصًا. اختصره في "الروضة" بقوله: فثلاثة أقوال: أظهرها: إن طار في الحال ضمن، وإلا فلا. والثاني: يضمن مطلقًا. والثالث: لا يضمن مطلقًا، هذا لفظه من غير زيادة عليه، وفيه خلل من ثلاثة أوجه: أحدها: في إسقاط الوجه المفصل بين أن يضطرب أم لا. وثانيها: في إسقاط الطريقين. وثالثها: أن جزمه بحكاية الخلاف فيما إذا وقف ثم طار، عكس ما صححه الرافعي، فإن الصحيح فيه طريقة القطع. واعلم أن ما نقله الرافعي عن اختيار الروياني صحيح، لكنه في "الحلية" فتفطن له. وأما في "البحر" فعكس حتى بالغ فقال: إنه غلط.

قوله: ولو حبس المالك عن ماشيته حتى تلفت، فلا ضمان لأنه لم يتصرف في المال، كذا قالوه، ولعل صورته فيما إذا لم يقصد منعه عن الماشية، وإنما قصد حبسه فأفضى إلى إهلاكها؛ لأن المتولي قال: ولو كان له زروع ونخيل، وأراد سوق الماء إليها فمنعه ظالم عن السقي حتى فسدت ففي الضمان الوجهان فيما لو فتح الزق عن جامد فذاب بالشمس وضاع. انتهى كلامه. واعلم أن الأصح في مسألة الزق: أنه يضمن: لكن الأصح ههنا في المنع من السقي وشبهه كالمنع من الرعي: عدم الضمان، والفرق عدم التصرف في المال، قاله في "الروضة". قوله: وبطرد هذه القاعدة ذهب بعضهم إلى أنه إذا غصب هادي القطيع فتبعه القطيع، أو البقرة فتبعها العجل، يضمن القطيع والعجل. انتهى كلامه. لم يذكر في هذه المسألة غير هذه المقالة وقد أعاد المسألة في كتاب السرقة، وحكى فيها وجهين من غير ترجيح. وتبعه عليه في "الروضة". قال في "المطلب": والراجح هو: الضمان، قال: ويشهد له قول الأصحاب أنه إذا كان في يده دابة وخلفها ولد فأتلف شيئًا ضمنه كما يضمن ما تتلفه أمه، فلو لم يكن في يده لم يضمنه. إذا علمت ذلك فقد صحح النووي في أصل "الروضة" هنا أنه لا يضمن القطيع والعجل، فاعلم ذلك. قال في "المطلب": الذي يظهر فيما إذا غصب أم النحل فتبعها النحل أنه يضمنه وجهًا واحدًا لاطراد العادة بتبعه لها، والنحل هنا: بالنون والحاء المهملة. والهادي: بالدال المهملة هو: الذي يمشي أولها فتتبعه.

قوله في أصل "الروضة": فرع لو نقل صبيًا حرًا إلى مسبعة فافترسه سبع فلا ضمان هذا هو المذهب والمعروف في كتب الأصحاب، وذكر الغزالي فيه وجهين، وليس بمعروف. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن إنكاره هذين الوجهين غريب لم يذكره الرافعي، فقد حكاهما الإمام في كتاب الجنايات، والغريب أن الرافعي نقلهما عنه هناك في أول الطرف الثاني المعقود لاجتماع العلة، والشرط. فإنه قد ذكر المسألة هناك وبسطها فراجعها. ولما اختصر النووي كلام الرافعي هناك عبر بالأصح. واصطلاحه في هذا اللفظ أنه للخلاف القوي. وأغرب من هذا أن الشيخ قد جزم في "المهذب" بأنه إذا ألقى حرًا مشدودًا في مسبعة فقتله السبع، وجب فيه دية شبه العمد فانظر إلى الكتاب وشهرته والمفروض فيه الحكم، وهو الرجل والواجب وهو دية شبه العمد؛ وكيفية الجواب وهو الجزم لا التردد. الأمر الثاني: أن الوجهين في الصبي محلهما إذا لم يقدر على الحركة والانتقال من الموضع، فإن قدر فلم يفعل، فلا ضمان على الواضع كما لو فتح عرقه فلم يعصبه حتى مات كذا قاله الرافعي هناك. قوله: لكن لو ركب دابة الغير، أو جلس على فراشه، ولم ينقله فأصح الوجهين أنه يكون غاصبًا. ثم قال: ويشبه أن تكون المسألة مصورة فيما إذا قصد الراكب والجالس الاستيلاء، أما إذا لم يقصده ففي "التتمة" أن في كونه غاصبًا وجهين. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن صاحب "التتمة" إنما حكى الوجهين في كونه ضامنًا، ولم يحكهما في كونه غاصبًا. بل لا يصح منه حكايتهما في ذلك، فإنه قد صرح بعد هذا بأن شرط الغصب في المنقولات حصول الاستيلاء، فإن لم يوجد لم يكن غاصبًا، وإن وجد الضمان، فقال: لو كان بين يديه شيء من المنقولات فأخذه إنسان لينظر هل يصلح له ليشتريه أو ليعمل لنفسه مثله، وتلف في تلك الحالة ضمنه. ولو دخل دارًا لينظر هل تصلح له ليشتريها أو يبني لنفسه مثلها فانهدمت في تلك الحالة لا ضمان عليه على الصحيح. قال: وهذه المسألة تعلقت بها الحنفية في أن الغصب هو النقل، وليس الموجب [هو] (¬1) التفرقة، قالوا: لأنا لا نقول: إن الضمان الثابت في المنقولات ضمان غصب؛ لأن ضمان الغصب ضمان عدوان. وإذا لم يقصد منع المالك لا يوصف بالعدوان ولكن قبض ارتفاق. وما نقله عن المتولي في رفع المنقول من الضمان قد نقله عنه أيضًا الرافعي بعد هذا بقليل وسنذكره، ونذكر أن المشهور خلافه. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يصحح شيئًا فيها إذا لم يقصد الاستيلاء كما تقدم، بل كلامه يشعر بأن الصحيح أنه ليس بغاصب، فإنه قد غاير بين المسألتين في الحكم مع اشتراكهما في الوجهين. وقد اختصر النووي في "الروضة" ذلك على غير وجهه، وصحح أنه غاصب مطلقًا. فقال: أصحهما أنه غاصب سواء قصد الإستيلاء أم لا. قوله: في المسألة قال: يعني صاحب "التتمة"، وهذا إذا كان المالك غائبًا، ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

أما إذا كان حاضرًا فأزعجه، وجلس على الفراش ضمن وكذا إن لم يزعجه، وكان بحيث يمنعه من رفعه والتصرف فيه. وقياس ما سيأتي في نظيره في العقار، أن ألا يكون غاصبًا إلا لنصفه. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي بحثًا، وتابعه عليه في "الروضة" قد صرح به القاضي الحسين لكن فيما إذا كان المالك [يزجره فلم ينزجر وهي فرد مما دخل في كلام الرافعي] (¬1) والباقي مثله أيضًا. قوله: وإن دخل الدار لا على قصد الإستيلاء، ولكن لينظر هل تصلح، أو ليتخذ مثلها لم يكن غاصبًا. قال في "التتمة": لكن لو انهدمت في تلك الحالة، هل يضمنها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو أخذ منقولًا من بين يدي مالكه لينظر هل يصلح له ليشتريه أو مثله فتلف في تلك الحالة يضمنه. وأصحها: لا، بخلاف المنقول، وفرق بينهما بأن اليد على المنقول حقيقة فلا يحتاج في إثبات حكمها إلى قرينة، وعلى العقار حكمية، فلابد في تحقيقها من قرينة قصد الإستيلاء. وهذا الفرق كأنه راجع إلى الأصح، وإلا فوجهان في المنقول على ما سبق، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله المتولي من الضمان في رفع المنقول خلاف المعروف. فقد خالفه فيه القاضي الحسين في "تعليقته" فقال: لو رفع كتاب شخص من بين يديه إن قصد الإستيلاء ضمن، وإن قصد أن ينظره ويرده في الحال لم يضمن، وإن خطا به خطوات ضمن. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وكذلك الإمام فقال: إذا رفعه لينظره لم يضمن على المذهب الظاهر. وتبعه الغزالي في "البسيط". فقال: إنه ظاهر المذهب، وذكر البغوي في "فتاويه" ما يوافقه. وطرد الإمام والغزالي ذلك في النقود المغصوبة التي يتناولها الصيارفة للنقد وكأن مأخذه أن العرف يقتضي ذلك، فلا يعد استيلاء بخلاف الركوب ونحوه. نعم: ذكر القاضي الحسين في "فتاويه" أن الفتوى على وجوب الضمان. ورأيت في ما وقفت عليه من "تعليقته" في الغصب أنه إذا خطا به خطوات لا يقصد الإستيلاء فإنه لا ضمان على خلاف النقل الأول عنه فينبغي تحريره من نسخ. الأمر الثاني: أن قول الرافعي في الكلام على ما قاله صاحب "التتمة" وإلا فالوجهان إلى آخره لا يستقيم، فإن الوجهين السابقين في كلام الرافعي، إنما هما في كون ذلك غصبًا وهما في كلام "التتمة" في الضمان. قوله: وقول "الوجيز": وكل يد أثبتت على؛ هكذا يوجد في الأكثر، وتقرأ لكن الابتناء متعد كالبناء. فالوجه أن يقال ابتنت فقد تستعمل اللازمة الابتناء فيمكن أن تراعي الصورة وتقرأ ابتنت. انتهى كلامه بحروفه. وتقريره مشكل. قوله: ولو زوج الجارية المغصوبة عند الزوج، ففي مطالبة الزوج بالقيمة طريقان: قيل: هو كالمودع. ومنهم من قطع بأنه لا يطالب لأن كون الزوجة في حيالة الزوج، ليس

لكون المال في يد صاحب اليد. قال في التهذيب: وهو المذهب. انتهى كلامه. والصحيح طريقة القطع كما قاله في "التهذيب" كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو قال الغاصب للمالك] (¬1) أعتقه عني ففعل جاهلًا، ففي نفوذ المعتق وجهان إن نفذ ففي وقوعه عن الغاصب وجهان: قال: في "التتمة" الصحيح المنع. انتهى كلامه. والصحيح في المسألة الأولى هو النفوذ كما هو مقتضى كلامه في "الشرح الصغير" فتأمله. والصحيح في الثانية ما قاله صاحب "التتمة" كذا صححه النووي في أصل "الروضة". ¬

_ (¬1) في جـ: المالك للغاصب.

الركن الثاني "في الموجب فيه"

الركن الثاني: "في الموجب فيه" قوله: ولا تراق خمور أهل الذمة إلا إذا تظاهروا بشربها أو ببيعها. انتهى كلامه. وتقييده بالشرب والبيع تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وكذلك هو في "المحرر" و"المنهاج" والصواب ما ذكره في "المطلب" و"الكفاية" وهو الإظهار من غير تقييد، حتى يتناول الهبة والنقل وغيرهما، وتلك علة إطلاق الرافعي وغيره في باب عقد الجزية، أنهم يمنعون من إظهار المنكر. وقد سكت الرافعي -رحمه الله- وكذلك النووي من إراقة النبيذ في حق المسلم والكافر، لأن الأكثرين كما قاله الرافعي في حد الخمر أنه لا يطلق عليه اسم الخمر إلا مجازًا. وقد بين الماوردي في "الأحكام السلطانية" حكمه فقال: ينهى متولي الحسبة عن المجاهرة به، ويزجر عليه ولا يريقه عليه، إلا أن يأمر بإراقته حاكم من أهل الإجتهاد لئلا يتوجه عليه الغرم لأنه عند أبي حنيفة مال. واعلم أنه حيث جازت الإراقة جاز كسر الأواني إذا لم يقدر على الإراقة إلا بذلك. قال في "الإحياء": وكذلك لو كانت في قوارير ضيقة الرؤوس، ولو اشتغل بإراقتها لأدركه الفساق ومنعوه. قال: ولو لم يخف ذلك لكن كان يضيع فيه زمانه ويتعطل شغله فله كسرها. قال: وللولاة كسر الظروف التي فيها الخمور زجرًا وتأديبًا دون الآحاد، وقد فعل ذلك في زمنه -عليه الصلاة والسلام-، هذا كلام الغزالي، وهو من النفائس المهمات. قوله: وآلات الملاهي كالبربط والطنبور وغيرهما لا يجب في إبطالها

شيء لأنها محرمة الاستعمال. انتهى. واعلم أن آلات الملاهي فيها ما لا يحرم كالدف، وكذا الشبابة على رأى الرافعي، وحينئذ فلابد من استثنائه، والبربط ببائين موحدتين مفتوحتين وراء وطاء مهملتين. قال ابن الأثير: هو ملهاة تشبه العود، وهو فارسي معرب. والطنبور بطاء مهملة مضمومة معرب أيضًا الطناجير بكسر الطاء لغة فيه، قاله الجوهري. قوله: فرع: قال في "التتمة" لو نقل حرًا صغيرًا أو كبيرًا بالقهر من موضعه إلى موضع آخر فإن لم يكن له غرض في الرجوع إلى الموضع الأول فلا شيء عليه، وإن كان واحتاج إلى مؤنة فهي علي الناقل لتعديه. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وما ذكره المتولي قد خالفه فيه القاضي الحسين في "تعليقته" فقال: إنه لا يجب إلا إذا كان النقل إلى برية مهلكة فعليه رده إلى العمران حسبة من حيث الأمر بالمعروف، ولا يختص به بل جملة المسلمين فيه سواء هذا كلامه. وذكر إمام الحرمين مثله أيضًا. فقال: ولا يجب علي ناقل الصبي رده إلى المكان الذي أخذه منه، بل يجب على كل من عرف ذلك مطلقًا أن ينقذه بنقله إلى مأمن. وهل يرجع عليه بمؤنة نقله، فيه خلاف كالخلاف في اتخاذ المضطر الطعام هذا كلامه. قوله: وحيث كان الصيد للمالك كصيد العبد، ففي وجوب الأجرة لزمان الاصطياد وجهان: أشبههما الوجوب لأنه ربما كان يستعمل في غير ما استعمل به، فلا تدخل الأجرة فيما اكتسبه انتهى.

والوجهان محلهما فيما إذا لم تنقص قيمة الصيد عن الأجرة، فإن نقصت وجب الناقص قطعًا كذا نبه عليه النووي من "زياداته" وهو واضح. واعلم أنه إذا كان أغلى منافع العبد هو الاصطياد، فإن الواجب هو أجرته دون ما عداه من صنائعه. كذا قاله الرافعي قبل هذا، وحينئذ فيشكل الجمع بين الاصطياد والأجرة. قوله: سنذكر أن المغصوب إذا تعذر رده بإباق يغرم الغاصب قيمته للحيلولة، ويلزمه مع ذلك أجرة المثل للمدة التي تمضي قبل بذل القيمة، وفيما بعده وجهان: أحدهما: أنها لا تجب؛ لأن القيمة المأخوذة نازلة منزلة المغصوب فكأن المغصوب عاد إليه. وأصحهما الوجوب. انتهى كلامه. قال الماوردي: في "الحاوي" وهذا إذا لم يستعمله غير الغاصب في تلك المدة فإن استعمله غيره، ضمن الأجرة للمغصوب منه وجهًا واحدًا. وما قاله فائدة حسنة ينبغي التفطن لها فإن كلام المصنف ربما يوهم خلافها.

الركن الثالث "في الواجب"

الركن الثالث: "في الواجب" قوله: فإن أظهر العبارات في حد المثلى هي العبارة الثانية، وهي: كل مقدر بكيل أو وزن، ويجوز السلم فيه، لكن الأحسن أن يقال: المثلى: كل ما حصره الكيل أو الوزن ويجوز السلم فيه. ولا يقال كل مكيل أو موزون، لأن المفهوم منهما ما يعتاد كيله أو وزنه، فيخرج عنه الماء والتراب وهما مثليان. انتهى كلامه. وما ادعاه الرافعي من أن الأحسن هو التعبير بما حصره إلى آخره مردود؛ لأنا نقول: قولهم: كل مقدر بكيل أو وزن لا يتعين حمله على الاعتياد حتى يرد ما قاله، بل المراد منه ما لو قدر لكان يقدر بالكيل أو الوزن حتى يخرج المذروع والمعدود والماء والتراب إذا قدرا فإنما يقدران بذلك. ونزيد على هذا فنقول: لو لم يكن المراد ما قلناه لكانت عبارته التي اختارها غير مستقيمة أيضًا، لأن قوله: ما حصره وزن؛ إن أراد به ما أمكن وزنه، فكل مال كذلك. وحينئذ فيجب تفسيره بما قلناه، وإذا آل الأمر إليه وجب حمل العبارة المشهورة عليه واندفع الاعتراض الحامل على العدول عنها إلى غيرها. قوله: وينشأ من اختلاف العبارة الخلاف في الصفر والنحاس والحديد والآنك وفي القطن والعنب والرطب، وسائر الفواكه الرطبة، والأظهر: أنها جميعًا [مثلية] (¬1) انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الآنك بهمزة مفتوحة ممدودة، نون مضمومة وكاف هو: الرصاص ووزنه أفعل كأفلس. ¬

_ (¬1) في ب: رطبية.

قال الجوهري: ولم يجيء على هذا الوزن من الواحد إلا هذا و"آشد". والصُّفر: بضم الصاد، وأبو عبيدة يقوله بالكسر. الثاني: أن ما ذكره في القطن لا فرق فيه بين منزوع الحب وبين غيره، ولم يستحضر في "المطلب" ما قاله الرافعي هناك. فقال: أعتقد أن محله بعد إخراج حبه منه أما قبله فيظهر القطع بأنه متقوم. الثالث: أن ما رجحه هاهنا في الرطب والعنب قد ذكر في موضعين من زكاة المعشرات ما يخالفه فقال في الكلام على ما إذا أتلف المالك الثمرة بعد الخرص ما نصه: فإن قلنا: الخرص غيره فيضمن لهم قيمة عشر الرطب أو عشر الرطب؟ فيه وجهان مبنيان على أن الرطب مثلى أو متقوم، والذي أجاب به الأكثرون إيجاب القيمة، وهو المذكور في الكتاب، لكن الثاني هو المطابق لقوله في الغصب. والأظهر أن العنب والرطب مثلي. انتهى كلامه. وذكر قبله بنحو ورقتين مثله أيضًا وزاد عليه فنقله عن نص الشافعي. وحينئذ يكون المفتى به أنه متقوم لتنصيص الشافعي عليه، وذهاب الأكثرين إليه. وأما الذي قاله فقد زيفه الغزالي، ولهذا عبر بالأظهر، كما عبر به هو ووقع هذا الاختلاف في "الروضة" وفي "الشرح الصغير" غير أن ذكر فيه هناك وفي "التذنيب" أن الأولى بالترجيح أنه مثلي وعليه اقتصر في "المحرر" وهو مردود لما قلناه. قوله: وأما الحبوب والأدهان والألبان والسمن والمخيض والخل الذي ليس فيه ماء فهي مثلية بالاتفاق. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما ادعاه من الإتفاق في السمن واللبن ليس كذلك ففي "البحر" أنهما كالسكر، والسكر فيه خلاف مشهور منشأه: الخلاف في جواز السلم فيه، وفي جواز بيع بعضه ببعض. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الخل يقتضي أن خل التمر ليس بمثلي لما فيه من الماء. وقد صرح به بعد هذا بنحو ثلاثة أوراق في أثناء قوله: قال: ولو اتخذ من الرطب تمرًا، فقال: وأما القسم الثاني وهو أن يكون مثليًا ثم يصير متقومًا كما لو غصب تمرًا فاتخذ منه الخل بالماء فإن كان المتقوم أكثر قيمة غرمها وإلا غرم المثل، وقيل: يغرم المثل مطلقا. انتهى ملخصًا. وما ذكره ههنا واقتضاه كلامه السابق، من كونه متقومًا ليس كذلك، فإن الصحيح على ما ذكره في كتاب السلم جواز السلم فيه. وحينئذ فيوجد فيه الضابط المذكور للمثلي والذي أوقع الرافعي في هذا الاختلاف أن طريقة الإمام أنه لا يجوز السلم فيه فمثل به ههنا على قاعدته. فتابعه عليه الرافعي ذاهلًا عما قاله في السلم من مخالفته لكلام الأكثرين. قوله: والدراهم والدنانير الصحاح مثلية لكن قضية العبارة الثانية إثبات خلاف فيها؛ لأن في السلم فيها اختلافًا تقدم، وأيضًا فإنهم جعلوا المكسرة على الخلاف في التبر لتفاوت القراضات في الجرم، ومثل ذلك يفرض في الصحاح فيلزم مجئ الخلاف فيها. انتهى كلامه. وما ادعاه من مجيء الخلاف مردود، وقد أجاب ابن الرفعة في "المطلب" عن الأمرين فقال ما حاصله: أما الأول فإن من لا يرى جواز السلم فيها، قد لا يشترط في المثلى صحة السلم فيه.

وأما الأمر الثاني: فلأن الرواج لا يختلف بكون الدرهم الصحيح صغيرًا أو كبيرًا بخلاف القراضة، وقد ذكر في "الروضة" أيضًا ما يوافق هذا فقال: الصواب المعروف الذي قطع به الأصحاب أنها مثلية. قوله: وإذا غصب مثليًا وتلف في يده والمثل موجود فلم يسلمه حتى فقد أخذت منه القيمة. وفي القيمة المعتبرة عشرة أوجه: أحدها: أقصى قيمة من الغصب إلى التلف. والثاني: من وقت تلف المغصوب إلى إعواز المثل. والثالث: وهو الأصح من يوم الغصب إلى إعواز المثل. والرابع: أقصاها من وقت الغصب إلى وقت تغريم القيمة. والخامس: أقصاها من وقت انقطاع المثل إلى وقت المطالبة بالقيمة. والسادس: أقصاها من وقت تلف المغصوب إلى وقت المطالبة. والسابع: قيمة اليوم الذي تلف فيه المغصوب. والثامن: قيمة يوم الإعواز. والتاسع: قيمة يوم المطالبة، وقيل يبدل لفظ المطالبة والتغريم بالحكم بالقيمة والمرجع بها إلى شيء واحد. والعاشر: إن كان منقطعًا في جميع البلاد فالاعتبار بقيمة يوم الإعواز، وإن فقد في تلك البقعة فالاعتبار بقيمة يوم الحكم بالقيمة. وفيم علق عن الشيخ أبي حامد أن المعتبر قيمة يوم أخذ القيمة لا يوم المطالبة ولا يوم التلف. فهذا وجه حادي عشر إن كان ثابتًا. ثم قال: ولو غصب مثليًا فتلف والمثل مفقود فالقياس أن يجب على

الوجه الأول والثالث أقصى القيم من يوم الغصب إلى التلف. وعلى الثاني والسابع والثامن قيمة يوم التلف. وأن يعود الرابع والسادس والتاسع مخالفًا وعلى الخامس أقصى القيم من يوم التلف إلى يوم التغريم. وعلى العاشر إن كان مفقودًا في جميع البلاد، وجبت قيمته يوم التلف وإلا فقيمته يوم التغريم. انتهى كلامه. وقد تلخص من كلامه في هذه المسألة الأخيرة ستة أوجه: أحدها: أقصا القيم من يوم الغصب إلى التلف، وهو الحاصل من الوجه الأول والثالث. وثانيها: قيمة يوم التلف وهو ما يحصل من الثاني والسابع والثامن. وثالثها: أقصا القيم من الغصب إلى المطالبة وهو الرابع بعينه. ورابعها: الأقصا من التلف إلى المطالبة، وهو الحاصل من الخامس والسادس، إذ لا فرق بين لفظ التغريم، ولفظ المطالبة كما سبق من كلام الرافعي. وخامسها: وهو التاسع قيمة يوم المطالبة. وسادسها: إن كان مفقودًا في جميع البلاد فقيمة يوم التلف، وإلا فقيمة يوم التغريم، وهذا هو الحاصل من العاشر. إذا علمت ذلك فقول الرافعي -رحمه الله- وعلى الخامس أقصا القيم من التلف إلى التغريم يوهم إيهامًا ظاهرًا أنها سبعة أوجه وليس كذلك، بل الحاصل منه ستة أوجه وإيهامه من وجهين: أحدهما: قطعه عن السادس. والثاني: تعبيره فيه بالتغريم، وتعبيره في السادس، وما ضمه إليه

بالمطالبة فراجعه. ومراد الرافعي ما ذكرناه وهو ستة فقط. واختلاف اللفظين لا يضر، لأنه قد بين أن المراد منهما شيء واحد. وأما قطعه عنه فلأن هذا الوجه هو السادس بعينه من غير زيادة عليه بخلاف الخامس فإنه ليس إياه، بل مستفادًا منه. واعلم أن الوجه الحادي عشر الذي توقف الرافعي في إثباته، قد نقله سليم الرازي في "تعليقه" عن الشيخ أبي حامد والبندنيجي في تعليقه عنه، فثبت إذن هذا الوجه والتفريع عليه لا يختلف، وحينئذ فيتلخص في مسألتنا سبعة أوجه لكن الرافعي لم يفرع عليه لتوقفه فيه، وإنما فرع على العشرة فقط. وقد استفدنا من ثبوت هذا الوجه منع كون المراد من التغريم والمطالبة شيئًا واحدًا. قوله في "الروضة" من "زوائده": ولو قال المستحق: لا آخذ القيمة، بل أنتظر وجود المثل، فله ذلك، نقله في "البيان" ويحتمل أن يجيء فيه الخلاف، في أن صاحب الحق إذا امتنع من قبضه، هل يجبر ويمكن الفرق ولو لم يأخذ القيمة حتى وجد المثل تعين قطعا، هذا لفظه. فيه أمران: أحدهما: [أن العمراني فرض المسألة فيما إذا لم يوجد المثل كما يشعر به] (¬1) كلام النووي، وحينئذ فهذا البحث الذي ذكره النووي، وهو تخريجه على الخلاف في امتناع صاحب الحق متوقف على تصويره. ولم يتقدم له ذكر خلاف في إجبار المستحق بالكلية، حتى ولا عند الانتقال فاعلمه. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

ويحتمل أنه أراد الحق المؤجل، ولكن سقط من لفظه ذلك. والذي نقله عن "البيان" قد نقله أيضًا في "البحر" عن أبي إسحاق. الأمر الثاني: أن القطع الذي ادعاه في المسألة الأولى صحيح. وأما في الثانية: وهي ما إذا قارن التلف تعذر المثل فلا. فقد حكى ابن داوود شارح "المختصر" في باب التيمم وجهًا أنه لو ظفر بالمثل بعد ذلك قبل الطلب، فلا يلزمه إلا القيمة. قوله: ولو أتلف مثليًا أو غصبه وتلف عنده، ثم ظفر المالك به في بلد آخر فهل يطالبه بالمثل؟ الذي ذكره الأكثرون أنه إن كان مما لا مؤنة لنقله كالنقد طالبه به، والا فلا، لما فيه من المؤنة والضرر. ولكن للمالك أن يغرمه قيمة بلد التلف وحكى الإمام رداءه وجهين: أحدهما: يطالبه بالمثل مطلقا. والثاني: عن رواية الشيخ أبي علي، أنه إن كان قيمة ذلك البلد مثل قيمة بلد التلف، أو أقل طالبه بالمثل وإلا فلا. وذكر أبو عاصم العبادي مثل هذا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بقوله عن رواية الشيخ أبي علي [صريح في أنه حكاه عن غيره وليس كذلك فقد قال الإمام: وذكر الشيخ أبو علي] (¬1) في اختلاف الأمكنة طريقة في ذوات الأمثال فقال: ما ذكره الشافعي والأصحاب من أن التلف عليه إذا ظفر بمتلف المثلِ في غير مكان الإتلاف، يغرمه القيمة لا المثل، إنما هو إذا كانت قيمة المكان الذي ظفر صاحب الحق بالمتلف فيه أكثر من قيمة مكان الإتلاف، فلذلك قال الشافعي ما قال فأما إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

استوت القيمة، ولم يتفاوت السعران أو كانت قيمة المثل في مكان اللقاء أقل فيلزمه المثل. وهذه الطريقة ادعاها الشيخ أبو علي ولم يردد فيها قولًا. والذي ذكره الأئمة في الطرق إطلاق القول بأن المثل لا يطالب به، في غير مكان الإتلاف من غير تعرض للتفصيل. ولو كان الحكم مفصلًا عندهم كما ذكره [الشيخ لفصلوه فإن التفصيل في مثل ذلك ليس مما يعزب عنه نظر الناظر على ظهوره، هذا كلام الإمام، وقد تخلص منه أن قول الرافعي: إن الإمام رواه وجهًا غير صحيح] (¬1). الأمر الثاني: أن هذا الذي قاله الشيخ أبو علي قد جزم به البندنيجي في تعليقه، وكذلك أبو الطيب في تعليقه أيضًا، والماوردي في "الحاوي" وابن الصباغ في "الشامل" وغيرهم. وقد نقله الرافعي أيضًا عن "العبادي"، كما سبق وذكر أبو علي الدبيلي في كتاب "أدب القضاء" له عن الشافعي نحوه، فإنه قال: قال الشافعي: لا؛ لأنا لو حملناه على المثل لكان في ذلك ضرر وإتلاف مال لاختلاف الأسعار، هذا لفظه. والتعليل صريح في تصوير المسألة واختصاصها بما ذكره الشيخ أبو علي، فقد تظافرت النقول على ما قاله. وكذلك المعنى، لأن المنع ليس بعيدًا بل هو لمعنى وهو الضرر، والضرر مفقود هنا ولم يعارض ما ذكرناه من التصريح والمعنى، إلا إطلاق من أطلق، وحمل ذلك الإطلاق على ما ذكرناه سهل لا مانع منه. فتلخص أن الحكم كما قاله الشيخ، وأن نقل الرافعي لكلام الإمام موهم، فكان ينبغي أن يقول أطلق الأكثرون، وقيد الشيخ أبو علي وغيره. ¬

_ (¬1) بياض في أ.

قوله: وإذا أخذ القيمة ثم اجتمعا في بلد التلف، هل للمالك رد القيمة وطلب المثل؟ وهل لصاحبه استرداد القيمة وبذل المثل؟ فيه الوجهان، فيما إذا غرم القيمة لا إعواز المثل والذي أورده صاحب الكتاب منهما (¬1) أن عليه المثل وأخذ القيمة، مع أنه جعل الأظهر في مسألة الإعواز المنع. وهذا لا وجه له، بل الخلاف في المسألتين واحد باتفاق الناقلين، فإما أن يختار فيهما النفي أو الإثبات. انتهى كلامه. قال ابن الرفعة في "المطلب": أما النقل فهو كما قال الرافعي، وأما الفقه فيجوز أن يختلف، ويكون الغزالي لاحظ في إثبات الخلاف في حال تعذر المثل بناءه على أن الواجب قيمة المغصوب أو قيمة المثل. ورجح أن الواجب قيمة المغصوب، فلا يكون لوجود المثل بعد أخذها معنى. وما نحن فيه القيمة مأخوذة بدلًا عن المثل اتفاقًا. فلذلك قال: إن له استرجاعها وبذل المثل قال: وهذا بحث دقيق. انتهى. ويؤيد ما قاله ابن الرفعة أن الغزالي في "الوسيط" قال: هنا إن القيمة للحيلولة، وفي الإعواز لم يذكر ذلك. قوله: في أصل "الروضة" الحال الأول أن يكون متقومًا، ثم [يصير مثليًا كمن غصب رطبًا وقلنا: إنه متقوم] (¬2) فصار تمرًا، ثم تلف عنده فوجهان: أحدهما: وبه قطع العراقيون يضمن مثل التمر لأنه أقرب إلى الحق. وأشبههما: وبه قطع البغوي إن كان الرطب أكثر قيمة لزمه قيمته كي لا ¬

_ (¬1) بداية سقط من ب بمقدار ورقة. (¬2) بياض في أوسقط من ب وأثبت من جـ.

تضيع الزيادة. وإن كان التمر أكثر أو استويا لزمه المثل. واختار الغزالي أنه يتخير بين مثل التمر، وقيمة الرطب. انتهى كلامه. وذكر الرافعي نحوه أيضًا، فيه أمران (¬1): أحدهما: أن التعليل الذي ذكره لكلام البغوي ورجع به قوله على قول العراقيين، يبين أن الذي نقله عنهم، هو وجوب المثل، بدون أرش النقص، وإلا فلم يصح الرد عليهم بكون الزيادة تضيع. إذا علمت ذلك فاعلم أن العراقيين لم يقولوا بذلك فضلًا عن كونهم قطعوا به، فإن المحاملى من العراقيين، وقد ذكر أنه إذا غصب نخلة فأطلعت وجف رطبها وتلف أنه يجب عليه المثل، وأرش ما نقص من الرطب، وكذلك ذكر الماوردي في "الحاوي" وسليم الرازي في "المجرد" وابن الصباغ في "الشامل". قوله: وأما القسم الثاني، وهو أن يكون مثليًا، ثم يصير متقومًا كما لو غصب حنطة وطحنها، وتلف الدقيق عنده أو جعله خبزًا وأكله وقلنا. لا مثل للدقيق والخبر، فعلى جواب العراقيين يضمن المثل. وعلى ما أورده في "التهذيب" إن كان المتقوم أكثر قيمة غرمها، وإلا غرم المثل. وعن القاضي حسين أنه يغرم أقصى القيم وليس للمالك مطالبته بالمثل؛ لأن التلف حصل وهو متقوم، وعلى هذا فإذا قيل: من غصب حنطة في الغلاء وبقيت عنده إلى التلف وغرمه للمالك في وقت الرخص، هل يغرمه المثل أو القيمة. ¬

_ (¬1) هكذا في الأصول ولم يذكر إلا أمرًا واحدًا.

لم يصح إطلاق الجواب بالمثل، ولا بالقيمة بل الصواب أن يفصل فيقال: إن تلفت وهي حنطة غرمه المثل، وإن صارت إلى حالة التقويم ثم تلفت فالقيمة وكأن القاضي قد لقن المسأله للرئيس أبي علي المنيعي ليغالط بها فقهاء مرو ويغلط من أطلق الجواب منهم. انتهى كلامه. والمنيعي هو بميم مفتوحة، ثم نون مكسورة بعدها ياء ساكنة ثم عين مهملة بعدها ياء النسب. وهذا الرئيس المذكور هو حسان بن سعيد بن حسان بن محمَّد بن أحمد ابن عبد الرحمن بن محمَّد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن محمَّد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في أول أمره تاجرا إلى أن نمى ماله [وتزايدت النعم عليه وعلت منزلته وصار مشارًا إليه عند السلاطين وأنفق أموالًا جزيلة] (¬1) في بناء المساجد والربط وأنواع الخيرات ومنها جامع مرو الذي كان إمام الحرمين خطيبه. وكان علي قدم عظيم من الاجتهاد في العبادة والتواضع والبر، وكثرة الصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قال فيه السلطان: في مملكتي من لا يخافني وإنما يخاف الله. روى الحديث عن جماعة، وروى عنه جماعة منهم البغوي صاحب "التهذيب". قال عبد الغافر الفارسي لو تتبعنا ما ظهر من آثاره وحسناته لعجزنا، توفي يوم الجمعة السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وأربع مائة، وكان له ولد فقيه فاضل رئيس كبير يقال له: أبو الفتح عبد الرزاق، ذكرته في كتابي الذي ألفته في طبقات أصحابنا فراجعه. قوله: فإن لم يجد المثل إلا بزيادة ففي لزومه وجهان. انتهى. ¬

_ (¬1) بياض في أ. والمثبت من جـ.

لم يصرح بتصحيح هنا ولا في "الشرح الصغير" أيضًا والصحيح، كما قاله في "الروضة" عدم اللزوم. ولم يذكر المسألة في "المحرر" وفيها كلام يتعين الوقوف عليه، سبق ذكره في السلم. قوله: فإذا غصب متقوما] (¬1) وتلف عنده لزمه أقصا قيمة من الغصب إلى التلف وإنما تجب القيمة من نقد البلد الذي حصل فيه التلف. انتهى كلامه. وما أطلقه من وجوب نقد بلد التلف محمول على ما إذا لم ينقله. فإن نقله قال في "الكفاية": فيتجه أن يعتبر نقد البلد الذي تعتبر قيمته، وهو أكثر البلدين قيمة، قال: وفي "البحر" عن والده ما يقاربه. قوله: وإذا كانت الدراهم المبذولة للحيلولة بقيمتها باقية في يد المالك فللشيخ أبي محمد تردد في أنه، هل يجوز للمالك إمساكها وغرامة مثلها أم لا؟ انتهى. والصحيح أنه لا يجوز، كذا صححه الرافعي والنووي وغيرهما في الرد بالعيب، وغيره من نظائر المسألة. ولهذا قال في "الروضة" هنا: الأقوى أنه لا يجوز، ولم يصرح بالمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". قوله من "زوائده": قال في "البيان": ولو ظهر على المالك دين مستغرق فالغاصب أحق بالقيمة التي دفعها لأنها عين ماله، وإن تلفت في يد المالك رجع الغصب بمثلها وإن كانت باقية زائدة رجع في زيادتها المتصلة دون المنفصلة. ¬

_ (¬1) نهاية سقط من ب بمقدار ورقة.

قال القاضي أبو الطيب والجرجاني: هذا إذا تصور كون القيمة مما يزيد انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن [البيان فقط قد نص عليه الشافعي في "الأم" مع زيادة أخرى هي أهم مما تعرض له] (¬1) في "البيان" وهي تقديمه على الغرماء عند تلف القيمة [أيضًا، وقد ذكرت لفظه في باب الكفن فراجعه] (¬2). الأمر الثاني: أن ما أحال عليه في آخر كلامه من [إمكان تصور زيادة القيمة] (¬3) ولم يصوره قد صوره بعض الفضلاء بما إذا كانوا في بلد يتعاملون بالحيوان وإنما قلنا ذلك لأن القيمة إنما تؤخذ نقدًا، والنقد لا زوائد له. وقال ابن الرفعة في "الكفاية": طريق الجواب عنه: أن يكون المالك قد اعتاض عن القيمة شاة مثلًا، فإن عند القاضي أبي الطيب إذا استبدل من له ثمن في ذمة شخص عنه عينًا، ثم رد المبيع بعيب أن له أن يسترجع العين، كما حكيناه في باب المصراة، أن له أن يسترجع الشاة هنا. وعلى ذلك يحمل ما قالوه. قال: وبه صور الروياني المسألة في "البحر". قوله: فرع! قد مر أن منافع المغصوب مضمونة، فلو كانت الأجرة في مدة الغصب متفاوتة فبم تضمن؟ فيه ثلاثة أوجه: حكاها القاضي أبو سعد بن أبي يوسف أضعفها: أنها بالأكثر في جميع المدة. وأظهرها: أنها تتضمن في كل بعض من أبعاض المدة بأجرة مثله. والثالث: أن الأمر كذلك إن كانت الأجرة في أول المدة أقل، وإن كانت ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) بياض في أ. (¬3) بياض في أ.

أكثر في الأول ضمنها بالأكثر في جميع المدة، لأنه لو كان المال في يده فربما يلزمه بها في جميع المدة. انتهى. تابعه في "الروضة" على ذلك، وحاصل ما نقله عن الهروي أن المسألة منقولة للأصحاب، وأنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أوجه، وأن الهروي حكاها عنهم. وليس الأمر في شيء من ذلك كذلك فإن الهروي، قد ذكر هذه المسألة في كتابه "الإشراف في شرح أدب القضاء" للعبادي وهو الكتاب المشهور به الذي ينقل الرافعي وغيره عنه، فلما ذكرها صرح بأنها ليست منقولة، وبأن الثلاثة المذكورة إنما هي أقسام وجهات لما قد يتخيل الذهاب إليه في المسألة. وصرح أيضًا بأن الأول لا يمكن القول به وأن الثاني هو القياس، والثالث يمكن القول به. هذا حاصل ما قاله فاعلمه، وسأذكر لك لفظه. فأقول: قال: في الكتاب المذكور بعد أوله بنحو كراس، ما نصه: ومنافع المغصوب عنده مضمونة على الغاصب بخلاف قول أبي حنيفة والاعتبار في ضمانها، وهو أجرة المثل بما إذا لم يتعرض أصحابنا لهذه المسألة والقياس [أن يقال: إن اختلف السعر في مدة الاغتصاب وكان غلاء السعر في النصف الأول من المدة والرخص في النصف الثاني من المدة. وصورته: في النصف الأول أجرة المثل درهمان وفي النصف الثاني أجرة المثل درهم] (¬1) فعليه ثلاثة دراهم. وذكر المصنف -أعني- العبادي أن الاعتبار بيوم الأخذ، فإن فسر الأخذ باستيفاء المنافع فهو ما بينا. وإن فسر الأخذ بقبض العين فيمكن تصحيحه وهو أن يقال: إذا كان ¬

_ (¬1) بياض في أ.

الغلاء في الشطر الأول من المدة، والرخص في الشطر الثاني يقوم بسعر الشطر الأول من المدة لأن توقع الموجود في منافع الشطر الثاني من المدة يسد مسد نفس الوجود، ولهذا المعنى انعقدت الإجارة على جميع منافع المدة فيمكن أن يقال: لولا الغصب الحائل لعقد المالك على جميع منافع المدة في وقت الغلاء، وإنما احتبس عليه ذلك بسبب الغصب فيشدد على الغاصب، ويضمن منافع المدة باعتبار الغلاء المقترن بصدر المدة. وأما إذا كان الرخص في الشطر الأول من المدة والغلاء في الشطر الثاني فمنافع الشطر الثاني مقومة بسعر الغلاء [ومنافع الشطر الأول لا يمكن أن تقوم بسعر الغلاء] (¬1) وقد تلفت قبل سعر الغلاء، فلم يكن لها وجود مع سعر الغلاء. ولا توقع وجود إلا أن يظن ظان ظنًا ضعيفًا فيقول: وجود منافع صدر المدة، إن لم تصحب الغلاء في آخر المدة فوجود محلها وهو العين صحب وجود الغلاء في آخر المدة، فحصل من هذه المدة التي أشبع في بسطها ثلاثة أوجه في منافع مدة الغصب إذا تقسمها الرخص والغلاء في شطريها. أحدها: أن الاعتبار في زمن الرخص بسعره وفي زمن الغلاء بسعره، لأن المنافع المعدومة، إنما يقدر لها وجود إذا تقسمها أحد الحاصرين. إما الزمان أو العمل في إجارة منعقدة في الشريعة يحويها ويجمعها. والوجه الثاني: الغلاء في صدر المدة يطرح له الرخص في آخر المدة، لأن توقع الوجود يسد مسد نفس الوجود، والغلاء في آخر المدة لا يطرح له الرخص في أول المدة لأن توقع الوجود في صدر المدة منقطع على تاريخ الغلاء. والوجه الثالث: أن الاعتبار بالغلاء سواء كان في صدر المدة أو في ¬

_ (¬1) بياض في أ.

آخرها, لأن المنافع وإن [لم تصحب زمان الغلاء فمحلها وهو العين صحب زمان الغلاء وهذا أضعف الوجوه الممكنة] (¬1) هذا لفظ الهروي بحروفه. وهو كما ذكرته لك، وما ذكره الرافعي هنا عجيب جدًا. قوله: ولو [اتفقا] (¬2) على الهلاك، واختلفا في قيمته صدق الغاصب، لأن الأصل براءته وعلى المالك البينة. وينبغي أن يشهد الشهود أن قيمته كذا، أما إذا أراد إقامة البينة على صفات العبد ليقومه المقومون بتلك الصفات. فعن صاحب "التقريب" حكاية قول أنها تقبل وتقوم بالأوصاف، وتنزل على أقل الدرجات كما في السلم. والمذهب: المنع؛ لأن الموصوفين بالصفات الواحدة يتفاوتون في القيمة لتفاوتهم في الملاحة وما لا يجب الوصف. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من عدم إثبات الصفة بهذه الشهادة. قد ذكر في كتاب القضاء في الكلام على القضاء بالعين الغائبة ما يخالفه. فقال: لو شهد أنه غصب منه عبدًا بصفة كذا فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة. وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". قوله: ولو ادعى الغاصب به أي بالعبد المالك عيبًا، وأنكر المالك نظر: إن ادعى عيبًا حادثًا فقال: كان أقطع أو سارقًا ففي المصدق منهما قولان: ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) في ب: اختلفا.

أحدهما: الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته وأصحها: المالك؛ لأن الأصل والغالب دوام السلامة. انتهى كلامه. تابعه النووي في "الروضة" على حكاية الخلاف قولين. وخالف في "المنهاج" فجعله وجهين، وسببه أن الرافعي في "المحرر" عبر بالأصح، وليس له فيه اصطلاح كما سبق ذكره غير مرة فتابعه علي التعبير به غير باحث عنه، فوقع في الاختلاف.

الباب الثاني: "في الطوارئ على المغصوب"

الباب الثاني: "في الطوارئ على المغصوب" قوله: والنوع الثاني: ما له سراية تزداد إلى الهلاك، كما لو عفن الحنطة فأقوال: أظهرها: عند العراقيين أنه كالهالك. والثاني: يرده مع الأرش، ورجحه الإمام وصاحب "التهذيب". والثالث: يتخير المالك بينهما، وبه أجاب طائفة منهم الشيخ أبو محمَّد والمسعودي. والرابع: يتخير الغاصب. انتهى ملخصًا. وقد استحسن في "الشرح الصغير" القول الثالث فقال: وقول تخيير المالك حسن، ولم يرجح شيئًا في "المحرر" بل قال: رجح منهما الأول؛ هذا لفظه بصيغة البناء للمفعول. وصرح النووي بتصحيحه في "أصل المنهاج" على عادته، ثم إنه في "الروضة" نسب التصحيح إلى الرافعي فقال من "زياداته": قلت: رجح الرافعي في "المحرر" الأول أيضًا والله أعلم. ولم يذكر ترجيحًا غيره، والحاصل أن لا ترجيح للرافعي إلا في "الشرح الصغير" ولا للنووي إلا في "المنهاج". قوله في "الروضة": أما إذا جنى المغصوب على نفس أو مال جناية توجب المال متعلقًا برقبته فعلى الغاصب تخليصه بالفداء أو بماذا يفديه؟ فيه طريقان: المذهب: أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش وقيمة العبد. وقال الإمام: فيه قولان: أحدهما: هذا.

والثاني: بالأرش وإن زاد كالقولين فيم إذا أراد السيد فداء الجاني. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تصحيح طريقة القطع، لم يذكره الرافعي، فإن الرافعي نقل عن الإمام أنه على القولين. ونقل عن "التتمة" أن الواجب أقل الأمرين ولم ينقل عن أحد تصحيحًا بالكلية، بل كلام "التتمة" ليس صريحًا في نفي القولين، إذ يحتمل أن يكون اقتصر على الراجح في المسألة من حيث الجملة. الأمر الثاني: أن كلام الرافعي والنووي يقتضي أنه لا يجد على الغاصب إلا الفداء لكن قد ذكر في البيوع أن من جملة هذه العيوب جنايات الخطأ إذا كثرت، وجناية العمد إذا لم يتب عنها، فإن مات فوجهان. قال في "المطلب" هنا: ويجوز أن يلتحق عمد الخطأ في هذا بالعمد، فإذا تقرر ذلك فلابد من أرش هذا العيب بعد الفداء. قوله: ولو سقطت يد العبد بآفة وجب على الغاصب أرش ما نقص وإن كان بجناية فعليه الأكثر من نصف القيمة، ومن أرش ما نقص. ثم قال: وترددوا فيما إذا قطعت يده قصاصًا أو حدًا؛ لأنه يشبه السقوط بآفة من حيث أنه تلف بلا بدل. ويشبه الجناية من حيث حصوله بالاختيار. انتهى. وقد ذكر الرافعي قبل هذا بنحو ورقتين، وهو في أوائل الكلام على المسألة ما يؤخذ منه ترجيح إلحاقه بالآفة، فإنه قال: ولو اقتص منه في يده غرم بدله، كما لو سقط بآفة سماوية. هذا لفظه. فشبهه بالآفة لا بالجناية.

قوله: وللغاصب رد التراب المغصوب إلى الأرض المغصوبة بغير إذن المالك إن كان له غرض في الرد بأن كان قد نقل التراب إلى ملك غيره أو شارع يخاف من التعثر به الضمان، ونحو ذلك. ثم قال: بعد ذلك وهذا إذا لم يتيسر نقله إلى موات ونحوه في طريق الرد فإن تيسر له لم يرده إلا بإذن؛ قاله في "النهاية". انتهى كلامه. واحترز بقوله في طريق الرد عما إذا لم يكن على صور المكان الذي أخذ منه التراب فإن الإمام حكى فيه ترددًا من غير ترجيح فقال: فهذا فيه تردد، ويشعر به كلام الأئمة. وقد يظهر أنه يلزمه موافقة المالك إذا لم يكن عليه مزيد مشقة على الشرائط التي قدمناها. ويظهر أنه لا يفعل هذا، فإن هذا استخدام وليس كما لو طلب منه الطرح في الطريق، فإنه اقتصار على بعض ما كان يفعله. هذا لفظ الإمام. ويظهر من تقييد الرافعي اختياره لعدم اللزوم. قوله: وإذا حفر بئرًا فله أن يستقل بطمها ليدفع عن نفسه خطر الضمان إلى آخره، ثم قال: وذكر الإمام أنه إنما يستقل بالطم إذا بقي التراب الأول بعينه، أما إذا تلف ففي الطم بغيره بغير إذن المالك وجهان. وينبغي مجئ هذا الخلاف في الحالة الأولى أي الكشط بلا حفر، وفيما إذا طلب المالك الرد والطم عند تلف ذلك التراب. والأصح فيهما جميعًا أنه لا فرق بين ذلك التراب وغيره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره آخرًا من مجئ الخلاف مع الطلب أيضًا عند التلف، كيف يستقيم مع أن من أتلف مالًا، أو أتلف عبدًا، وطولب بمثله يلزمه مثله، فكيف يقال لا يرد مع الطلب، إلا أن يقال: المراد بالطلب أي

فيما نحن فيه، وهو المذكور آخرًا أن يطلب الرد ظانًا بقاءه فهل يستفيد الغاصب بذلك رد بدله؟ الأمر الثاني: أن التراب إذا تلف فيجب في ذمة الغاصب مثله، والواجب في الذمة إنما يملك بقبض صحيح، فلابد من مراعاته هنا، وحينئذ فكيف يستقيم الرد بدون الإذن؟ قوله: النص فيما إذا نقل التراب أنه يجب عليه الأرش لا التسوية, لأنه نص على ذلك فيما إذا غرس في الأرض المغصوبة, ثم قلع بطلب المالك، ونص فيما إذا باع أرضًا فيها أحجار مدفونة فقلعها أنه يلزمه التسوية. فقيل: فيها قولان، وقيل: بتقرير النصين، وفرقوا بأن الغاصب متعد فغلظ عليه الأمر بإيجاب الأرش؛ لكن لا متانة لهذا الفرق، لأن مؤنة التسوية قد تزيد على أرش النقصان، والفتوى على وجوب التسوية. انتهى ملخصًا. واعلم أن القاضي أبا الطيب، قد نقل في هذا الباب من "تعليقه" وجوب التسوية عن الشافعي -رحمه الله- فقال: أوجب الشافعي على الغاصب تسوية الحفر ورد الأرض كما كانت، هذا لفظه، والنص الذي استند إليه الرافعي وغيره في وجوب الأرش، وهو المذكور في الغراس، نص عليه في "الأم" فقال: قال الشافعي: ولو اغتصب أرضًا فغرسها نخلًا كان على الباني والفارس أن يقلع بناءه وغرسه، فإذا قلعه ضمن ما نقص المقلع الأرض [حتى يرد الأرض] (¬1) حين أخذها هذا لفظه، ونقله أيضًا في "المطلب". وليس فيه تصريح، بل ولا إشارة لما قالوه، بل تعبيره بقوله حتى يردها بحالها مشعر بالتسوية. واعلم أن المتانة بالنون أي القوة لأن المتين هو القوي. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو نقص عين الزيت دون قيمته وجب مثل الذاهب في أصح الوجهين. وهل العصير كالزيت؟ فيه وجهان: أصحهما: عند الشيخ أبي حامد والروياني المنع، والفرق أن علاوة العصير باقية والذاهب منه المائية، ولا قيمة لها والذاهب من الزيت زيت، فعلى هذا لا غرم، وإيراد صاحب الكتاب يقتضي ترجيح التحاقه به، وربما يقول من رجحه: الذاهب في الزيت المائية أيضًا، إلا أن مائيته أقل. ويجري الخلاف، فيما إذا صار الرطب تمرًا. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح التحاقه بالزيت، كذا صححه الرافعي في كتاب الفلس. فقال: نعم: لو كان مكان الزيت العصير، فقد أجابوا، ههنا وفي الغصب بوجهين ورجحوا التسوية بينه وبين الزيت. ووجه الفرق أن الذاهب من العصير ماء لا مالية له، والذاهب من الزيت متمول، هذا لفظه فاعلمه، ولم يصرح الرافعي في "الشرح الصغير" أيضًا هنا بتصحيح ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". الأمر الثاني: أن النووي قد صحح في "أصل الروضة" هنا عدم التحاق العصير بالزيت حتى لا يغرم الغاصب شيئًا ذهولًا عما قاله في باب الفلس، فوقع في التناقض. وقد صحح النووي هناك القطع، بأن نقص الزيت كنقص جزء وضعف طريقة الوجهين وجزم هنا بالوجهين، ولم يحك طريقة بأنه كالجزء، فضلًا عن تصحيحها، وهو تباين كبير. وإن كان كلام الرافعي يوهم نقل شيء منه لكنه صرح باستواء البابين.

وقد سبق هناك ذكر المسألة لغرض آخر فراجعها. واعلم أن ما سبق كله في العصير، وفي الرطب محله، إذا قلنا: إنهما مثليان فإن قلنا إنهما متقومان. قال ابن الرفعة: في "المطلب" فالذي يظهر: الجزم بأنه لا غرم. قال الماوردي: ويجري الخلاف أيضًا فيما إذا صار اللبن جبنًا، هل يرجع بنقص مكيلته؟ وفيما قاله نظر لأن الجبن لا يمكن كيله حتى تعرف نسبة نقصه. قوله: ولو هزلت الجارية ثم سمنت وعادت القيمة كما كانت ففيه وجهان: أحدهما: ينجبر الأول بالثاني، كما لو أبق العبد ثم عاد. وأظهرهما: لا. ثم قال: وأجرى الوجهان في تذكر الصيغة بعد نسيانها. والظاهر: الانجبار؛ لأن تذكر الصيغة لا يعد شيئًا متجددًا بخلاف السمن الثاني ثم قال: أيضًا، ويجري الخلاف فيما إذا كسر الحلي أو الإناء، ثم أعاده. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره في الإباق ظاهره: سقوط أرش العيب، وليس ذلك بصحيح، وينبغي تأويله على سقوط القيمة الواجبة بالحيلولة مع أن كلامه في غاية البعد عنه. الأمر الثاني: أن تفرقته بين عود السمن وتذكر الصيغة واضح لكنه سوى بينهما في كتاب الصداق بالنسبة إلى رجوع الزوج عند الفراق قبل الدخول. فإنه لما قيد أن الزيادة المتصلة بمنع الرجوع، صحح أن السمن بعد الهزال

مانع وهو واضح، ثم ألحق به أيضًا تذكر الصيغة كما ستقف على عبارته هناك، إن شاء الله تعالى. ومقتضى ما ذكره هنا أن لا يلتحق به ويرجع الزوج، وهو الصواب. الأمر الثالث: أن حاصل ما ذكره في المسألة الأخيرة وهي مسألة الكسر: عدم الانجبار، أو أنَّه لا تصحيح فيها أصلًا؟ لأن الخلاف الذي أجراه فيها وفيما قبلها هو الخلاف الذي صدر به كلامه. والصحيح فيه: أنَّه لا ينجبر، لكنه استدرك في الأول، وأبقى الثاني على حاله فلزم منه ما قلناه. وقد اختصره النووي بلفظ يقتضي أن الراجح فيه الانجبار، ثمَّ ذكر من "زياداته" أن الراجح خلافه، وهو غلط، وكأنه توهم أن المراد من الخلاف المبني عليه، هو الخلاف في تذكر الصيغة. قوله: لو زادت قيمة الجارية بتعلم الغناء ثمَّ نسيته نقل الروياني عن النص أن لا يضمن النقص، لأنه محرم. وعن بعض الأصحاب أنَّه يضمنه ولهذا لو قتل عبدًا مغنيًا يغرم تمام قيمته. قال: وهو الاختيار. زاد النووي على هذا فقال: الأصح المختار: هو النص لأنها محرمة. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الترجيح الذي عزاه إلى الروياني صحيح، فقد ذكره في "الحلية" لكنه خالف في "البحر" في موضع من هذا الباب كما حكاه عنه ابن الرفعة في "الكفاية". الأمر الثاني: أن ما دل عليه لفظهما من تحريم الغناء قد حصل فيه اضطراب شديد لهما أيضًا سبق إيضاحه في أوائل البيع.

الأمر الثالث: أن هذه المسألة التي نقل الرويانى فيها عن النص أنه لا يضمن، ثم اختار خلافه إنما فرضها في العبد، كذا رأيته في "الحلية"، وحينئذ فلا يلزم من نص الشافعي على عدم الوجوب في الجارية أن يكون كذلك في العبد، ولا من اختيار الروياني للوجوب في العبد أن يجب أيضًا في الجارية. قوله: وإذا غصب عصيرًا فتخمر عنده، للمغصوب منه تضمينه مثل العصير. وذكروا أن على الغاصب إراقة الخمر ولو جعلت محترمة، كما لو تخمرت في يد المالك من غير قصد لكان جائزًا، فلو تخللت في يد الغاصب فالخل للمالك على الأصح وعلى الغاصب أرش النقصان. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أنه إذا صار خمرًا عند الغاصب وكان المالك قد عصره بقصد الخلية فإنه لا يجب على الغاصب إراقتها، بل لا يجوز له ذلك بلا شك. [الثاني: أن تغير المحترمة بالتي تخمرت في يد المالك من غير قصد لا ينتظم مع ما قبله بل يقتضي أن الذي يتكلم فيه وهو التخمر في يد الغاصب لا توصف بالمحترمة بالكلية وليس كذلك. ولا فرق بين التخلل عنده، أو عند المالك إذا كان العصر بقصد الخلية وكأنه أراد أن يقول كما لو عصرت في يد المالك إلى آخره. فعبر بقوله تخمرت عوضا عن عصرت] (¬1). الأمر الثالث: أن كلامه هنا قد آل إلى أن المحترمة هي التي عصرت لا بقصد الخمرية وقد سبق في الرهن ما يخالفه، وسبق التنبيه عليه هناك فراجعه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: أما إذا أراق الخمر فأخذها رجل فتخللت عنده، أو ألقى الشاة الميتة فأخذها رجل فدبغ جلدها، فهل للمعرض استرداد الحاصل؟ فيه وجهان. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في ثلاثة مواضع من غير تصحيح؛ هنا، وفي آخر اللقطة، وفي كتاب الصيد والذبائح، والأصح: أنه ليس للمعرض الاسترداد. كذا صححه النووي في "أصل الروضة" في الصيد وهنا من "زوائده". قوله: ولو أراد صاحب الأرض أن يتملك البناء أو الغراس بالقيمة، أو تبقيتهما أو الزرع بالأجرة هل على الغاصب إجابته؟ قال في "التتمة": فيه وجهان. أحدهما: نعم؛ كالمستعير، بل أولى، فإن الغاصب متعد. وأظهرهما: لا؛ لتمكنه من القلع بلا غرامة بخلاف المعير. وهذا ما ذكره الإمام، حكاية عن القاضي الحسين. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية هذين الوجهين. واعلم أن الغاصب إذا أراد القلع، فإنه لا يغرم المالك شيئًا، ونظيره من المستعير ما إذا اختار القلع بلا تغريم المعير، أو شرط عليه القلع مجانًا، وليس للمالك الذي هو المعير أن يتملك في هذه الحالة أو يبقي بأجرة بلا خلاف. فليس لنا في المعير الحكم الذي ادعوه حتى نختلف في مجيئه في الغاصب. وكيف يعقل إجبار الغاصب على إزالة ملكه أو على تخليته بأجرة يعطيها، وهو يريد أخذ ماله بلا ضرر على المغصوب منه.

قوله في "الروضة": ولو غصب دارًا فزوقها تزويقًا لا يحصل منه غبن، فهل للمالك إجباره على إزالته؟ فيه وجهان: أصحهما: لا كالثوب إذا قصره. انتهى. لم يطلق الرافعي هنا تصحيحًا، وإنما نقله عن صاحب "التهذيب" فقط. والتزويق: النقش، وأصله من الزاووق وهو الزئبق، ثم سمى كل نقش تزويقًا، وإن لم يكن بالزئبق. قاله ابن داود في "شرح المختصر". قوله: الحالة الأولى: إذا صبغ الغاصب الثوب بصبغة، ولم يكن فصله فينظر: إن كانت قيمة الثوب [مصبوغًا كقيمته قبل صباغته، وكذلك قيمة الصبغ أيضًا. كما إذا كانت قيمة الثوب] (¬1) عشرة وقيمة الصبغ عشرة، وهو يساوي بعد الصبغ عشرين فهو بينهما بالسوية. انتهى. وتعبيره بقوله: فهو بينهما بالسوية يقتضي أنهما يصيران شريكين في الثوب. والصبغ شركة شيوع، أي: لكل منها نصف الأمرين وليس كذلك، بل كل منهما مالك لما كان يملكه قبل ذلك، حتى إذا زادت قيمة أحدهما قبل البيع فاز بها من حكمنا بأنها له، ويدل على هذا اختلافهم في أنه هل يجوز للغاصب بيع الصبغ منفردًا وكذلك في بيع المالك الثوب وحده. ونقل في "المطلب" عن البندنيجي والماوردي والغزالي ما حاصله ذلك أيضًا، أعني: بقاء كل على ما كان وارتضاه. قوله في المسألة: وإن كانت قيمته بعد الصبغ عشرة انمحق الصبغ ولا حق فيه للغاصب وإن تراجعت القيمة. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

ومقتضاه أن الصبغ ينقل لصاحب الثوب حتى إذا نقص الثوب مثلًا ثلاثة وكانت للصبغ قيمة تجبر ذلك صار الصبغ لمالك الثوب عوضًا عن نقصانه ولهذا قال: وإن تراجعت القيمة، وما دل عليه كلامه مخالف لكلام الشافعي فإنه قد نص على تمكين الغاصب في هذ الحالة من قلع الصبغ وغرامة النقص ولكلام الأصحاب أيضًا وللقياس. حتى قال في "المطلب" ما ذكره الرافعي لم أر من نقله كذلك. قال: ويجوز أن يحمل كلامه على ما إذا سلم الثوب إلى ربه راضيًا بذلك ثم ارتفع السعر، وقد يكون لذلك التفات على ما إذا سلم عامل القراض لرب المال العروض المشاعة حيث لم يظهر فيها ربح ثم ارتفع السعر هل يكون له حق أم لا؟ وهنا أولي بثبوت حقه، لأن سبب الزيادة عين ماله، وهي باقية. وهناك الزيادة في مال رب المال، وقد يعكس ويجعل رضي الغاصب نازلًا منزلة المعاوضة عما نقص من الثوب. وذكر في "المطلب" أيضًا حملًا آخر لكلامه غير مستقيم. وقد حذف في "الروضة" ما ذكره الرافعي في آخر كلامه، وهو قوله: وإن تراجعت القيمة. قوله: وهل للمالك إجبار الغاصب على قلع الصبغ؟ فيه وجهان إلى آخره. لم يصرح بتصحيحه في "الشرح" ولا في "الروضة" بل نقل كلا عن طائفة. والراجح هو الإجبار، ففي "المحرر" أنه أظهر الوجهين، وفي "المنهاج" أنه الأصح. قوله: فروع: أحدها: لو ترك الغاصب الصبغ أي: الذي يمكن فصله على

المالك ففي إجباره على القبول وجهان: وجه الإجبار وصيرورة الصبغ كالصفة التابعة. وأيضًا فإن المشتري إذا أنعل الدابة ثم اطلع على عيبها فردها مع النعل لكان تعيبها لو نزع النعل يجبر البائع علي القبول ووجه المنع القياس الظاهر. وذكر الروياني أن ظاهر المذهب هو الإجبار لكن الثاني أقيس وأشبه. ثم قال: على أنه لو ألحق بما إذا صبغ المشتري الثوب بما زاد في قيمته، ثم اطلع علي عيبه فرده مسامحًا لكان أقرب لما مر أن الصبغ يصير ملكًا للبائع. وأما النعل ففي دخوله في ملك البائع خلاف. انتهى كلامه. قال في "الروضة" الثاني أصح. وممن صححه صاحب "التنبيه". قال الجرجاني: ويجري الوجهان فيما لو غصب بابًا وسمره بمسامير للغاصب فتركها للمالك والله أعلم. وهذه الزيادة التي نقلها النووي عن الجرجاني قد ذكرها الرافعي جازمًا بها في آخر الغصب في المسألة الخامسة من المسائل المنثورة على ما ترجم في "الروضة". واعلم أن ما ذكره الرافعي من أن الأولى إنما مر القياس على مسألة الصبغ، ليس كذلك بل الأولى قياسه على النعل. قال في "الكفاية" لأن مسألة الصبغ التي ذكرها في الرد بالعيب مصورة بما إذا كان الصبغ لا يمكن فصله، والكلام هنا في صبغ يمكن فصله أو لا يمكن، فكان القياس على مسألة النعل أولى، لأنه عند إمكان الفصل مشابه له. وعند عدم الإمكان يثبت هذا الحكهم من طريق الأولى بخلاف ما لو ألحق بالصبغ، فإن حالة إمكان انفصال الصبغ هنا لا يبقى على الإجبار فيها دليل.

قوله: وإن خلط الغاصب المغصوب بما لا يتميز كالزيت بالزيت ونحوه، فالمنصوص وبه قال الأكثرون: أنه كالمالك. وفي قول مخرج: أنهما يصيران شريكين. فإن قلنا بالثاني، فينظر: إن خلطه بالمثل فقدر زيته من المخلوط له، وإن خلطه بأجود فيباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على نسبة القيمة، فإن أرادا قسمة عين الزيت على نسبة القيمة. فالظاهر: أنه لا يجوز لأنه ربا. وعن رواية "البويطي": أنه يجوز, وبني ذلك على أن القسمة إقرار لا بيع. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن "البويطي" لم ينقل هذا النص في الغاصب، وإنما نقله في المفلس فقال حاكيًا عن الشافعي ما نصه: ومن باع شيئًا مما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب مما يختلط بعضه ببعض، ولا يتميز، مثل الحنطة والزيت وما يشبههما فخلطه المشتري بسلعة أخرى ثم أفلس، مثل أن يعطيه مد حنطة قيمته درهمان فيخلطه بمد قيمته أربعة، فالبائع مخير، إن شاء أن يأخذ ثلثي المد، ليس له إلا ذلك بجميع حقه، لأنه لا يصلح أن يأخذ تمام المد لجودة طعام صاحبه الذي خلطه بطعامه، ولا يجوز أن يرجع بثمن ثلث المد الذي بقي له لجودة ما أخذ على طعامه. وإن شاء ترك وضارب مع الغرماء وكذلك الزيت والسمن والتمر، وكل شيء مثله، هذا لفظ "البويطي" وليس في كتابه غير هذا، ولكن لما تكلم الإمام على التفريع على إلحاقه بالمفلس في كونه شريكًا ذكر حكم المفلس. وذكر هذا النص فتوهم الرافعي أنه محكي هنا، وهو معذور في هذا التوهم.

قال في "المطلب": وقد أثبت غير القاضي والإمام في الغاصب وجهين أخذًا من من النصين في مسألة الفلس. قال: وهو التحقيق. الأمر الثاني: أن القسمة إنما تكون إقرارًا إذا كان أحدهما لا يرد على الآخر شيئًا من ماله في مقابلة زيادة يستوفيها، والمغصوب منه في مثالنا هذا يزيل ملكه عن ثلث صاع فيما يحصل له من الجودة في ثلثي صاع فلا تكون إقرارًا، وهذا الثاني ذكره المتولي. قوله: وإذا قلنا لا يبالي في نزع اللوح المغصوب بهلاك مال الغاصب فاختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب ولا توقف على اللوح إلا بنزع الجميع، فهل ينزع الجميع؟ وجهان. انتهى. قال في "الروضة": كذا أطلقوا الوجهين بلا ترجيح وينبغي أن يكون أرجحهما عدم النزع. قوله: في "الروضة" وإذا غصب خيطًا فخاط به جرح حيوان ومات، فإن كان غير آدمى نزع، وكذا إن كان آدميًا على الأصح. انتهى. لم يطلق الرافعي هنا تصحيحًا، وإنما نقله عن الإمام خاصة. فقال: أصحهما علي ما ذكره في "النهاية" أنه ينزع، وصحح الروياني في "البحر" أنه لا ينزع. وفصل الماوردي فقال: إن أثر القلع فحشًا لم ينزع، وإلا نزع. وصححه في "الكفاية". قوله: أما كلب الصيد والماشية فلا يجوز النزع منه. قال الإمام: وألحق الكلب الذي لا منفعة فيه بالمؤذيات. انتهى. وما ذكره هنا في الكلب الذي لا منفعة فيه قد سبق فيه كلام في كتاب التيمم فراجعه.

قوله: فرعان أحدهما: دخل فصيل في بيت ولم يمكن إخراجه إلا بنقض البناء، نظر إن كان بتفريط من صاحب البيت بأن أدخله فيه نقص البناء ولم يغرم صاحب الفصيل شيئًا وإن كان بتفريط من صاحب الفصيل، فإذا نقض البناء غرم أرش النقصان، وإن دخل الفصيل بنفسه نقض أيضًا وعلى صاحب الفصيل أرش النقصان، وقيل لا؛ لأنه لا تفريط من أحد، والإخراج لابد منه لحرمة الروح. ثم قال: ولو أدخلت بهيمة رأسها في قدر ولم يخرج إلا بكسرها، فإن كان معها صاحبها فهو مفرط بترك الحفظ، فإن كانت غير مأكولة [تخلص بكسر القدر وعليه أرش النقصان وإن كانت مأكولة] (¬1) ففي ذبحها وجهان كما في مسألة الخيط، وإن لم يكن معها أحد، فإن فرط صاحب القدر مثل: أن وضع القدر في موضع لاحق له فيه كسرت ولا غرم له، وإن لم يفرط كسرت، وغرم صاحب البهيمة الأرش. ولم يذكروا التفصيل المذكور في صورة القدر، والفرق بين المأكول وغير المأكول. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على عدم ذكر ذلك، وليس كما قالاه، فقد سوى بينهما الماوردي في ذلك كله بين المأكول وغير المأكول. وحكى الوجهين، وجعل الروياني من تفريط صاحب القدر أن يجعلها في مكان له فيه حق، ولكن قدر على دفعها فلم يدفعها. قوله: الثاني غصب زوجي خف قيمتهما عشرة فرد أحدهما، وقيمته ثلاثة وتلف الآخر لزمه سبعة، ولو أتلف أحد زوجي خف قيمتهما عشرة، أو غصبه وحده وتلف فعادت قيمة الباقي إلا ثلاثة ففيه أوجه. أحدها: يضمن سبعة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: خمسة كما إذا أتلف رجل أحدهما وآخر الآخر، فإنه يسوى بينهما حتى يلزمه ثلاثة. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": [الأكثرون على ترجيح الأول وعليه العمل، وإن كان الأقوى لزوم الخمسة. انتهى. وقال البغوي: إن الأكثرين على لزوم الخمسة، قال في "الروضة"] (¬1) وصورة المسألة التي قاس عليها الوجه الثاني أن يتلفا دفعة واحدة، فإن تعاقبا لزم الثاني ثلاثة وفي الأول الخلاف. قوله: من "زياداته" في الصورة الأولى: إذا غصبهما معًا وجه في "التنبيه" و"التتمة" أنه يلزمه ثلاثة وهو غريب. انتهى كلامه. وما نقله عن "التنبيه" من وجوب الثلاثة: صحيح، وإن كان قد مثل بمثال آخر. أما نقله ذلك عن "التتمة" فغلط، فإنه ليس لهذا الوجه ذكر فيها بل فيها عوضه وجه آخر أنه يلزمه خمسة، فتلخص من مجموع الكتابين أن في المسألة ثلاثة أوجه. وقد ادعى النووي في أصل "الروضة" أنه لا يلزمه إلا سبعة قطعًا. قوله: وهل عليه مهر مثلها ثيبًا وأرش الافتضاض أو عليه مهر مثلها بكرًا. ذكروا فيه وجهين ورجحوا الأول انتهى. وهذه المسألة فيها اضطراب شديد سبق ذكره في البيع في الكلام علي المناهي المقتضية للفساد. قوله: فإن وطئ عالمًا بالتحريم، وانفصل الولد ميتًا بلا جناية ففي وجوب الضمان وجهان: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: وهو ظاهر النص الوجوب لثبوت اليد عليه تبعًا للأم. ويحكى عن الأنماطي، وأبي الطيب ابن سلمة واختاره القفال. والثاني: المنع. وبه قال أبو إسحاق واختاره الشيخ أبو محمد والإمام وصاحب "التهذيب" لأن جنايته غير منتفية وسبب الضمان هلاك رقيق تحت يده. انتهى. لم يصرح بتصحيح في الروضة أيضًا، والصحيح: عدم الوجوب. كذا رجحه الرافعي بعد هذا بنحو ثلاثة أوراق فقال: وإن انفصل الولد ميتا، فالظاهر: أنه لا ضمان، وكذا إذا انفصل ميتًا في يد الغاصب. هذا لفظه فتفطن له، فإن كلامه هنا يوهم عكسه، ورجحه أيضًا في "الشرح الصغير" هنا فقال أقوى الوجهين: لا يجب شيء. وصححه أيضًا الماوردي والغزالي. قوله: في المسألة ويجري الوجهان في حمل البهيمة المغصوبة، فإن أوجبنا الضمان فهو قيمة يوم الانفصال لو كان حيا في ولد الجارية والبهيمة جميعًا، وخرج الإمام وجهًا في ولد الجارية أنه يضمن بعشر قيمة الأم تنزيلًا للغاصب منزلة الجاني. انتهى. وما ذكره آخرًا من حكاية هذا الوجه عن تخريج الإمام قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب، فقد صرح القفال في "فتاويه" بذلك حكمًا وتوجيهًا، فإنه حكى الخلاف فيما إذا غصب عبدًا فذهبت إحدى عينيه، هل يلزمه النقص، أو يجعل كجناية الأجنبي؟ ثم فرع مسألتنا عليها فقال: وإن قلنا يغرم النقص هناك، ففي هذه المسألة يغرم النقص إن دخلها نقص بالإلقاء، وإن لم يدخل فلا شيء وإن جعلنا كجناية الأجنبي فيغرم عشر قيمة الأم، هذا لفظه بحروفه. قوله: ولو ردها وهي حبلى فماتت في يد المالك من الولادة، ذكر أبو عبد

الله القطان في "المطارحات" أنه لا شيء عليه في صورة العلم؛ لأن الولد ليس منه حتى يقال ماتت من الولادة بولده، وأن في صورة الجهل قولين. واعلم أن لوجوب الضمان في هذه الصورة مأخذين: أحدهما: أنه أحبل جارية الغير، إما بالشبهة أو بالزنا، وفي كونه سبب الضمان ما قدمناه في الرهن. والثاني: أنه حصل نقصان، وإن وجد أثره بعد الرد إلى المالك، كما لو جنى المغصوب عند الغاصب فرده، ثم بيع في يد المالك. وأطلق صاحب "التتمة" القول بوجوب الضمان للمأخذ الثاني. انتهى كلامه. والراجح في حالة الجهل وجوب الضمان كذا صححه الرافعي في الباب الثالث من أبواب الرهن. وأما في حالة العلم، فقياس المذكور هناك أيضًا: عدم الوجوب فيه كما سبق ذكر لفظه في موضعه فراجعه. لكن صحح النووي هنا من "زياداته" ما قاله المتولي من الوجوب في المسألتين ذهولًا عما سبق فوقع في التناقض. قوله: فرع في "ذخيرة البندنيجي": لو وطئ الغاصب بإذن المالك فحيث لا نوجب المهر إذا لم يأذن فهاهنا أولى، وحيث نوجبه فقولان محافظة على حرمة البضع. وفي قيمة الولد طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في المهر. والثاني: القطع بالوجوب لأنه لم يصرح بالإذن في الإحبال، انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على عدم التصحيح في المسألتين وقد تقدم في وطء

المرتهن بإذن الراهن أن الأظهر: وجوب المهر، وتقدم فيه أيضًا الجذم بقيمة الولد، وما نحن فيه مثله فيؤخذ الرجحان من هناك. قوله: في أصل "الروضة" في الكلام على ما يرجع به المشتري على الغاصب. الرابع: لا يرجع بقيمة الولد المنعقد حرًا على المذهب. وقيل قولان، ويرجع بأرش نقص الولادة على المذهب وبه قطع العراقيون، وقيل: وجهان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره -رحمه الله- في قيمة الولد من كونه لا يرجع على المذهب غلط، سببه: انعكاس كلام الرافعي عليه، والصواب المعروف وهو المذكور في "شرحي الرافعي" و"محرره" وفي "المنهاج" أنه يرجع، وكذلك في "الروضة" أيضًا في الكلام على ما إذا غُر بحرية أمه. الأمر الثاني: أن الطريقة الحاكية للقولين في ذلك نقلها الرافعي عن الأستاذ أبي إسحاق في "شرح الفروع" وعلله بأن نفع حرية الولد يعود إليه، فيكون على قولي المهر، والذي نقله في "التتمة" عنه القطع بأنه لا يرجع. الثالث: أن الرافعي لم يصحح شيئًا في الرجوع بأرش نقض الولادة أصلًا فاعلمه، فإنه قال: قطع العراقيون بأنه يرجع به، وعن غيرهم خلافه. قال الإمام: وسبيله سبيل النقصان الخاص بالآفات السماوية، هذا لفظه. ونقل في "المطلب" عن الجمهور أنه لا يرجع ونص عليه في "البويطي" الرابع: أن الخلاف في الآفة السماوية قولان كما ذكره في "الروضة"] (¬1) فكان صوابه أن يقول: وقيل: قولان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الخامس: أن ما ادعاه من قطع العراقيين بالرجوع غريب جدًا، فإن أكابرهم قد قطعوا بعدم الرجوع كالبندنيجي والماوردي والقاضي أبي الطيب وسليم. قوله: في المسألة والفرق أن الواهب متبرع والبائع ضامن سلامة الولد بلا غرامة. انتهى كلامه. وهذا التعليل الذي ذكره غير صحيح ومناقض لما قدمه فإنه لو كان كما قاله لكان يلزم أن لا يجب للبائع بيعا فاسدًا على المشتري قيمة الولد وليس كذلك كما تقدم في موضعه. وهذه المسألة قد افترق فيها الغصب والبيع الفاسد، لأن المشتري يرجع على الغاصب بقيمة الولد كما تقدم، ولعل سببه أن الغاصب غار بخلاف المالك إذا باع بيعًا فاسدًا. قوله: منها حمال أسند خشبة. . . . إلى آخره. هذه المسألة قد أعادها في كتاب الجنايات في أول الطرف الثاني المعقود لاجتماع العلة والشرط وأهمل منها هاهنا قسما ذكره هناك وهو ضمان ما يتلف بالجدار الذي له أو لغيره وقد أذن الغير في الإسناد. قوله: ومنها: لو غصب شاة وأنزى عليها فحلًا فالولد للمغصوب منه، ولو غصب فحلًا وأنزاه على شاته فالولد للغاصب ولا شيء عليه للإنزاء فإن نقص غرم الأرش، وينبغي أن يخرج وجوب شيء للإنزاء على الخلاف في صحة الاستئجار له. انتهى. قال في "الروضة": هذا التخريج لابد منه، وإنما فرعوه على الأصح. والله أعلم. وهذا الكلام منهما يقتضي عدم الوقوف على نقل هذا التخريج وهو غريب.

فقد صرح به في "البيان" في هذا الباب وهما يكثران من النقل عنه. فقال: بعد مضي نحو كراسين من أول الباب: فرع: وإن غصب من رجل فحلًا فأنزاه، ثم قال: وأما الأجرة، فإن قلنا: يجوز استئجار الفحل للضراب، لزمه أجرته. وإن قلنا: لا يجوز، وهو الصحيح، لم يلزمه. هذا لفظه. قوله: قال في "التتمة": لو غصب من الغاصب فأبرأ المالك الأول عن ضمان الغصب صح الإبراء، لأنه مطالب بقيمته، فهو كدين عليه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" أيضًا عليه، وينبغي أن يتفطن إلى أنه خلاف الصحيح، وذلك لأنه لا جائز أن يكون هذا الإبراء بعد تلف المغصوب لأنه بعد التلف دين حقيقي. فلا يقال كدين عليه فتعين أن يكون قبله. وحينئذ فالإبراء في هذه الحالة إبراء عن قيمة مأخوذة للحيلولة والصحيح منعه كما ذكره الرافعي وغيره. قوله: ولو رد الدابة إلى إسطبله قال في "التتمة": يبرأ أيضًا إذا علم المالك أو أخبره من يعتمد خبره. انتهى. وهذه المسألة فيها كلام سبق ذكره في العارية. قوله من "زوائده": ولو غصب مسكًا أو عنبرًا أو غيرهما مما يقصد شمه، ومكث عنده لزمه أجرته. انتهى كلامه. وهذه المسألة سبق ذكرها في كلام الرافعي، ذكرها في الباب الأول من النوع الثاني المعقود لضمان المنافع.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في الأركان قوله: ولو كان علي النخيل ثمرة غير مؤبرة فهل يأخذها الشفيع؟ فيه وجهان أو قولان. قال في "التهذيب": الأصح: دخولها. انتهى. والأصح ما صححه صاحب "التهذيب" ففي "المحرر" أنه الأظهر، وصححه النووي في أصل "الروضة" و"المنهاج". والراجح: أن الخلاف المذكور قولان، كذا جزم به النووي في "المنهاج". قوله: الثانية: الدار إذا كان بابها مفتوحًا إلى درب غير نافذ، فالدرب ملك مشترك بين سكانه على ما سبق في الصلح. فإن باع نصيبه من الممر وحده فللشركاء فيه الشفعة إن كان منقسمًا. انتهى. تابعه على ذلك في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد نقل في كتاب إحياء الموات عن العبادي أن بيع الحريم وحده لا يصح، ولم يخالفه، والممر من جملة حريم الدار على ما صرح به هو وغيره هناك. الأمر الثاني: أنه إذا باع نصيبه من الممر وأبقى الدار بلا ممر فيكون كما لو باع الدار فاستثنى لنفسه بيتًا منها، والأصح فيها من "زوائد الروضة" عدم الصحة لعدم الانتفاع بالباقي ولنقصان المالية. وحكى الرافعي فيها وجهين من غير ترجيح.

نعم: إن فرضنا أن الدار متصلة بملكه أو بشارع استقامت المسألة. قوله: وإذا باع الدار بممرها فلا شفعة في الدار للشركاء في الممر، وفي الممر وجوه أصحها: أنه إن كان للمشتري طريق آخر إلى الدار، وأمكنه فتح باب إلى شارع، فللشركاء أخذه وإلا فلا. انتهى ملخصا. تابعه في "الروضة" على إطلاق الخلاف ومحله كما قال في "المطلب" و"الكفاية" إذا لم يتسع الممر، فإن اتسع بحيث يمكن أن يترك لمشتري الدار منه شيئًا يمر فيه ثبتت الشفعة في الباقي بلا خلاف. وفي [المقدار] (¬1) الذي لا يتأتى المرور بدونه هذه الأوجه. واعلم أن قول الرافعي ممرها قد يشعر بأن الممر لا يدخل إذا كان للمشتري طريق غيره وفي ذلك وجهان حكاهما القاضي الحسين في "تعليقه" هنا. وقال في "المطلب": الحق الدخول، ولم يصرح الرافعي بالمسألة، بل كلامه في البيع في الكلام على شروط المبيع يفهم عدم الدخول. قوله: وشركة مالكي سور الخان في صحبة كشركة مالكي الدور في الدرب، وكذلك الشركة في مسيل ماء الأرض دون الأرض، وفي بئر المزرعة دون المزرعة. انتهى كلامه. وتعبيره بالسور وقع في "الروضة" أيضًا، كما شاهدته من خطه ولا معنى له، وصوابه بيوت، وهو المذكور في "الكفاية" و"المطلب". قوله: من بسوق الشجرة. البسوق بباء موحدة مضمومة وسين مهملة هو الطول، قال الله تعالى {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} (¬2) أي: طويلات، ويقال: بسق فلان على أقرانه أي طال عليهم قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) ق: 10.

قوله: وإذا حكم الحنفي بشفعة الجوار لشافعي ففي الحل باطنًا خلاف. انتهى. وهذا الخلاف قد ذكره أيضًا في كتاب القضاء ولم يصحح فيه شيئًا. وتابعه عليه النووي فلم يصحح شيئًا هنا ولا هناك، وتصحيحه من الأمور المهمة، فإنه جار في سائر المسائل الاجتهادية، كتوريث الشافعي من ذوي الأرحام وغيره. والصحيح هو الحل، كذا صححه الرافعي في موضعين من هذا الكتاب. أحدهما: في آخر كتاب الدم والقسامة فقال: وميل الأئمة إلى ثبوت الحل باطنا. والثاني: في أثناء كتاب الدعاوى بعد مضي نحو كراسين. فقال: وميل الأكثرين إلى الحل، ورجحه أيضًا في شرح "مسند" الإمام الشافعي. فقال فيه اختلاف للأصحاب والأولى النفوذ. قوله: وإن كان باب داره إلى درب غير نافذ والدرب غير مشترك فإن باع نصيبه من الممر فقط فللشركاء الشفعة فيه بشرط قبوله القسمة، وإن باع الدار بممرها فهل لهم الشفعة فيه أي في الممر؟ نظر إن كان للمشتري طريق آخر إلى الدار، أو أمكنه فتح باب آخر إلى الشارع فلهم ذلك على الصحيح، وإن لم يكن له طريق آخر ولا أمكن إيجاده فلا شفعة في الأصح انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه المذكور أولًا صريح في الجزم بصحة بيع الممر، وإن بقيت الدار بلا ممر لأنه جزم فيه بثبوت الشفعة وفصل فيما إذا باع الممر مع الدار فاقتضى ما قلناه، وكان سببه أنه أدخل الضر على نفسه، وقد نقل الرافعي في كتاب البيوع عن بعض شراح "المفتاح" أن البيع لا يصح، ولم

يذكر ما يوافقه ولا ما يخالفه. وحكى في "شرح المهذب" وجهين، وقال: إن الأصح هو البطلان. وقد تقدم إيضاح ذلك في البيع. الأمر الثاني: أن هذا الكلام كله إذا كان للدار ممر واحد، فإن كان لها ممران في دربين غير نافذين فباع الدار، ولم يمكن إحداث باب ثالث فلا يمكن ثبوت الشفعة في الممرين معًا لبقائهما بلا ممر، وحينئذ فهل يقرع أو يقدم بالسبق إلى الطلب أولا شفعة لواحد منهما؟ فيه نظر. قوله: الثانية إذا وجد المشتري بالشقص عيبًا قديمًا وأراد رده، وجاء الشفيع يريد أخذه، ورضى بكونه معيبًا فقولان: الأكثرون: على أن المجاب هو الشفيع لأن حقه سابق على حق المشتري، فإنه ثابت بالبيع. والثاني: يجاب المشتري لأن الشفيع، إنما يأخذ إذا استقر العقد. فإن قلنا بالأول فبادر المشتري إلى الرد قبل مطالبة الشفيع، ثم جاء الشفيع طالبًا فوجهان: أحدهما: لا يجاب لتقدم الرد. والأظهر: يجاب ويفسخ الرد، أو نقول تبينا أن الرد كان باطلًا. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره هو بصيغة "أو" وهو ترديد بين فسخ الرد وبين بطلانه، وهذا الترديد وجهان صرح بهما القاضي والإمام في "النهاية" وكذا الغزالي في "الوسيط" فقال: فإن قلنا يرد فهو بطريق تبين البطلان أو بطريق الاشتباه في الحال؟ فيه وجهان هذا لفظ "الوسيط". والظاهر أن الرافعي سهى عن ذكر ما في الكلام، وفائدة الوجهين كما قاله في "المطلب" في الفوائد من حين الرد إلى حين الأخذ.

قوله: الثالثة لو أصدقها شقصًا ثم طلقها قبل الدخول أو ارتد وجاء الشفيع يريد أخذه بالشفعة، فله أخذ نصفه، وأما النصف الآخر فهل الزوج أولى به أو الشفيع؟ فيه وجهان، وكذلك إذا إشترى شقصًا وأفلس بالثمن، وأراد البائع الفسخ والشفيع الأخذ بالشفعة فيه وجهان: أحدهما: أن الزوج والبائع أولى بالإجابة لاستناد حقهما إلى ملك سابق. وأيضًا فإن البائع لم يرض بزوال الشقص إلا على أن يسلم له الثمن، فإذا لم يسلم وجب أن لا يأخذ منه. وأصحهما: أن الشفيع أولى؛ لأن حقه ثابت بالعقد وحق الزوج ثبت بالطلاق وحق البائع بالإفلاس وأسبق الحقين أولى بالرعاية. ثم قال ما نصه: وذكر الإمام وصاحب "التهذيب" أن الوجهين متولدان من جواب ابن الحداد في الصورة الأولى، بأن الشفيع أولى، وجواب أبي إسحاق في الثانية، بأن البائع أولى فتصرف من بعدهما من الأصحاب في كلامهما، وجعلوا الصورتين على جوابين بالنقل والتخريج، وقطع بعضهم بجواب ابن الحداد في الصورة الأولى، وبجواب أبي إسحاق في الثانية، والفرق: أن الثابت للزوج بالطلاق الملك، والشفيع تثبت له ولاية الملك لا نفس الملك، فكان الزوج أولى بالتقديم. وفي الصورة الأخرى الثابت للبائع والشفيع جميعًا ولاية الملك، لكن الشفيع أسبق حقًا فهو أولى بالتقديم. انتهى كلامه بحروفه. وما ذكره -رحمه الله- عن الإمام والبغوي أنهما نقلا عن ابن الحداد في الصورة الأولى، وهي مسألة الصداق، بأن الشفيع أولى. وعن أبي إسحاق في الثانية، وهي مسألة الفلس أن البائع أولى، فإنه غلط على العكس مما نقلاه، فإنهما نقلا في مسألة الصداق عن ابن الحداد

أن الزوج أولى من الشفيع، وعن أبي إسحاق في مسألة الفلس أن الشفيع أولى، وكذا ذكره غيرهما حتى الغزالي في "الوسيط". والفرق الذي ذكره الرافعي على عكس ما نسبه إليهما، فإنه على وفق الصواب الذي ذكرته، وقد وقع للنووي في "الروضة" هذا الغلط أيضًا فقال: وفي وجه ثالث: الشفيع في الأولى أولى، والبائع في الثانية أولى هذا لفظه. ولم يذكر تعليل الرافعي المرشد إلى الغلط فصار أشد في غلطه. وتلخص أن الوجه الثالث الذي ذكره لا ثبوت له. وقد تقدم طرف من هذه المسألة في الفلس. قوله: ولو وهب بشرط الثواب أو مطلقًا، وقلنا إنه يقتضي الثواب فوجهان: أصحهما: أنه يأخذ بالشفعة، فعلى هذا ففي أخذه قبل قبض الموهوب وجهان: أظهرهما: الأخذ لأنه صار بيعًا. والثاني: لا؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض وهذا هو الخلاف في أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى؟ . انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه وفيه أمور: الأول: أن ما صححه في هذه المسألة من كونها بيعًا حتى يترتب عليها أحكام البيع، قد اختلف فيه كلامهما اختلافًا عجيبًا تقدم إيضاحه في البيع في الكلام على خيار المجلس. الثاني: أن الرافعي قد أجرى هذا الخلاف في حال اشتراط الثواب، وفي حال الإطلاق إذا قلنا أنها تقتضي الثواب، وكيف يتخيل في حالة الإطلاق انعقادها بيعًا مع جهالة العوض، ولو تخيل فيها التحاقها به لأجل اشتراط

العوض لكانت فاسدة يجري عليها حكم فاسد البيع، وأما جهالة اشتراط الثواب، فإن كان معلومًا فهو صحيح، وإن لم يكن معلومًا كان الأمر فيه كما قلناه. الأمر الثالث: أن ما حكاه من جواز الأخذ قبل القبض وجهين قد حكاه في كتاب الهبة قولين. قوله: ولو جعله المكاتب عوضًا عن النجوم فتثبت الشفعة. انتهى. وهذا الكلام يقتضي تجويز الاعتياض عن نجوم الكتابة. وقد ذكر بعده بأسطر قلائل ما يوافقه أيضًا وكذلك في الباب الثاني من أبواب هذا الكتاب، وهو مخالف لما ذكره في باب الكتابة، لكن المذكور هنا هو الصواب وستعرفه إن شاء الله تعالى هناك. قوله: ولو وكل أحد الشريكين صاحبه في بيع نصيبه فباعه فللوكيل أخذه بالشفعة عند الأكثرين. ولو وكل إنسان أحد الشريكين لشراء الشقص من الآخر فله الأخذ بلا خلاف، انتهى كلامه. تابعه أيضًا في "الروضة" على نفي الخلاف، وليس كذلك، بل فيه وجه أنه لا شفعة له حكاه القاضي حسين في "تعليقه" فقال قبل أواخر الباب بأوراق قلائل: وإذا توكل عن المشتري في الشراء، هل تبطل شفعته؟ وجهان: أحدهما: تبطل، لأنه رضي له بالملك. والثاني: لا، لأنه قصد تحصيل سبب ثبوت الشفعة. وإذا توكل عن البائع ففي بطلان الشفعة وجهان أيضًا، هذا لفظه بحروفه.

وحكاهما أيضًا الإمام في "النهاية"، وعلله بأنه رضي للمشتري بالملك فألزم مقتضاه، ورأيت أيضًا في كتاب "رفع التمويه في شرح التنبيه" نحوه، حتى بالغ [فنقل عن قائله منع وكيل الشراء من الأخذ وتجويز ذلك لوكيل البائع] (¬1) وفرق بأن وكيل البائع معين على إزالة الملك الذي هو شرط في ثبوت الشفعة، ووكيل الشراء معين على التملك، والأخذ مناقض له. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الثاني في "كيفية الأخذ"

الباب الثاني: في "كيفية الأخذ" قوله: فلا يشترط في التملك بالشفعة حكم الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور المشتري ورضاه. انتهى كلامه. وهذا المذكور هنا، مذكور أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" و"الروضة" و"المنهاج" وقد استشكله في "المطلب" كما ستعرفه بعد هذه المسألة أنه لابد في التملك مع اللفظ من أن أحد هذه الأمور. ثم قال: وأقرب ما يمكن أن يحمل عليه أن مجموع الثلاثة لا يشترط، وهذا الحمل الذي قاله لا يستقيم مع تكرار "لا" النافية، بل الممكن في الحمل أن كل واحد بخصوصه لا يشترط. قوله: وينبغي أن يكون في صحة التملك مع جهالة الثمن ما ذكرناه في بيع المرابحة وفي "التتمة" إشارة إلى نحو من هذا. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" ومقتضاه أن يكون فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن علم في المجلس صح الأخذ، وإن تفرقا قبل البيان بطل، وهذه الأوجه لا توجد في "التتمة" بل إنما يوجد بعضها. فإن الذي قاله: إنه إن لم يعرفه في المجلس بطل، وإن علمه فكمسألة المرابحة. قوله في "الروضة": ثم لا يملك الشفيع بمجرد اللفظ، بل يعتبر معه أحد أمور أربعة: الأول: أن يسلم العوض إلى المشتري فيملك به إن تسلمه، وإلا فيخلي بينه وبينه أو يرفع الأمر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم. والثاني: أن يرضى المشتري بذمة الشفيع. والثالث: أن يحكم الحاكم بالشفعة.

ثم قال والرابع: أن يشهد عدلان على الطلب. وفي الاكتفاء بذلك وجهان، انتهى. والأصح من الوجهين عدم الاكتفاء به، كذا صححه الغزالي في "الوجيز" ونقله الرافعي عنه، وأقره ولكن حذفه من "الروضة"، وهو مقتضي ما في "المحرر"، و"المنهاج" فإنهما شرطا أحد الثلاثة الأوائل. واعلم أن كلام الرافعي يقتضي أنه إذا رفعه إلى القاضي وامتنع من القبض فلا طريق إلى الملك إلا إلزام التسليم، وليس كذلك، بل إن شاء ألزمه وإن شاء قبض عنه، وقد نبه عليه في "الروضة". قوله: وإذا ملك الشفيع الشقص بغير الطريق الأول لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن، انتهى كلامه. وما ذكره في غير الرضى بذمته واضح، فأما إذا كان الملك بالرضى بالذمة فالقياس كما قاله في "المطلب" أن يكون كالبائع حتى يجبر على التسليم أولًا على الصحيح، وقد صرح به هنا الإمام؛ لأن المشتري في هذه الحالة في رتبة البائع والشفيع في رتبة المشتري. قوله: وفي ثبوت خيار المجلس للشفيع خلاف ذكرناه في أول البيع، والأظهر الثبوت، ويحكى عن نصه في اختلاف العراقيين. انتهى ملخصا. وهذه المسألة قد اختلف كلامه فيها وقد تقدم إيضاح ذلك في كتاب البيع مع غيره من الأمور المهمة فراجعه. والذي يخص هذ الموضع بذكره شيء آخر نفيس مهم، وهو أن النص المنقول عن اختلاف العراقيين ليس في خيار المجلس المصطلح عليه، وذلك لأن خيار المجلس يسقط بالإسقاط منهما بلا نزاع وهذا النص لا نقول بإسقاطه. كذا نص عليه الشافعي في الكتاب المذكور وهو من جملة كتب "الأم". ونقله عنه أيضًا كذلك الأصحاب فقال البندنيجي في "تعليقته": وإذا

قلنا بأن الشفعة على الفور، فهل للشفيع الخيار مادام في المجلس الذي بلغه فيه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: خياره على الفور، وإن كان في المجلس كخيار العيب سواء. والمذهب: أن له الخيار ما لم يفارق مجلس البلاع كخيار المتبايعين، فإذا قلنا له: الخيار مادام في المجلس نظرت، فإن عفى عنها قبل أن يفارق المجلس، فهل يسقط أم لا؟ قال: في اختلاف العراقيين لا يسقط. وقال أبو العباس: يسقط لأنها بالابراء والإسقاط أشبه، هذا لفظه. وفي "المجرد" لسليم ما نصه: وإذا ترك حقه من الشفعة بأن يقول عفوت أو سلمته أو تركته أو نزلت عنه فقد قال: في اختلاف العراقيين له ما لم يفارقه. وخرج أبو العباس فيه قولًا آخر، أنه لا يكون له فيه خيار. وذكر في "الشامل" مثله أيضًا فقال: متى أخذ الشفيع الشقص بالشفعة، أو تركه فهل له الخيار مادام في المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما: له الخيار بأن يترك بعدما أخذ أو يأخذ بعدما ترك مادام في المجلس نص على ذلك في اختلاف العراقيين. والثاني: ليس له ذلك، قاله أبو العباس انتهى ملخصًا. والرافعي إنما أخذ ما نقله عن "الشامل" على كثير من عادته. قوله: وإذا جوزنا للشفيع أن يتملك الشقص الذي لم يره، فقيل: يثبت له خيار الرؤية قطعًا، وقيل: على الخلاف في خيار المجلس. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" هو الأول. قوله: ومنها لو أخذ من المكاتب عوضًا عن النجوم وأخذ الشفيع بمثل

النجوم أو بقيمتها انتهى. قد تقدم في الباب الأول أن تجويز الاعتياض مخالف لما ذكره في باب الكتابة، وأن هذا هو الصواب كما ستعرفه هناك إن شاء الله تعالى. قوله في أصل "الروضة": فإن كان الشراء بألف إلى سنة ففيه أقوال: أظهرها: يتخير إن شاء عجل الثمن، وأخذ الشقص في الحال، وإن شاء صبر إلى أن يحل الأجل فحينئذ يبذل الألف ويأخذ وليس له أن يأخذ بألف مؤجل. والثاني: له الأخذ بذلك أي بالألف المؤجل. والثالث: يأخذ بعرض يساوي الألف إلى سنة. ثم قال: فعلى الأول لا يبطل حقه بالتأخير لأنه تعذر، وهل يجب إعلام المشتري بالطلب؟ وجهان: أصحهما: نعم. انتهى كلامه. وما صححه عن وجوب الطلب على العكس مما رجحه الرافعي فإنه قال ما نصه: فعلى لا جديد لا يبطل حقه بالتأخير لأنه تأخير بعذر. ولكن هل يجب تنبيه المشتري على الطلب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ إذ لا فائدة فيه. والثاني: نعم؛ لأنه ميسور إن كان الأخذ معسورًا، وإلى هذا أشار في الكتاب بقوله: إن شاء نبه على الطلب لكن الأول أشبه بكلام الأصحاب، هذا لفظ الرافعي فانعكس ذلك على الشيخ محيي الدين -رحمه الله- وذكر في "الشرح الصغير" كما ذكر في "الكبير". قوله في المسألة: وإن قلنا بالقول الثاني ففي موضعه وجهان: أحدهما: أنه إنما يأخذ بثمن مؤجل وإن كان مليًا موثوقا به، أو إذا أعطى كفيلًا مليًا وإلا لم يأخذ، لأنه إضرار بالمشتري.

والثاني: أن له الأخذ على الإطلاق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن عبارته أو إذا أعطى أعني بصيغة "أو" وحينئذ فيكون الشرط أحد أمرين. كذا هو في النسخ الصحيحة. والحكم كذلك من خارج فاعلمه. كذا صرح به الإمام في "النهاية"، والماوردي وابن داوود وابن الرفعة في "المطلب" وغيرهم ووقع في "الروضة" بالواو. كذا شاهدته بخطه فلزم منه اشتراط الأمرين جميعًا. الأمر الثاني: أن اشتراطه في الأصل الملاءة والثقة والاكتفاء في الكفيل بالملاءة غير مستقيم، بل الصواب التسوية إن لم يكن الكفيل أولى باشتراطهما من الأصيل. قوله والثانية: أن يتلف بعضها فينظر إن تلف شيء من العرصة بأن غشيها السيل فعرفها أخذ الباقي بحصته من الثمن، انتهى. وما ذكره من أن تفريق الأرض إتلاف لا تعييب قد خالفه في باب حكم المبيع قبل القبض فصحح أنه تعييب فراجعه. قوله في "الروضة": ولو اشترى بكف من الدراهم فعين الشفيع قدرًا وقال اشتريته بكذا وقال المشتري لم يكن قدره معلوما فالأصح المنصوص الذي عليه الجمهور: أنه يقنع منه بذلك [ويحلف عليه، وقال ابن سريج: لا يقنع منه بذلك] (¬1) ولا يحلف بل إن أصر على ذلك، جعل ناكلًا. ثم قال ما نصه: وعلى هذا الخلاف لو قال نسيت فهو كالنكول، انتهى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لفظه بحروفه. وهو تعبير غير مستقيم لأن جعله كالنكول إنما هو تفريع على وجه ابن سريج لا على الخلاف جميعه فكان صوابه أن يقول: وعلى رأي ابن سريج لو قال إلى آخره، أو يقول: فهو كالنكول على وجه، وقد أتى به الرافعي علي الصواب فقال: وعن ابن سريج أنه لا يقنع منه بذلك ولا يحلف على نفي العلم. ثم قال ما نصه: وعلى هذا الخلاف، لو قال: نسيت مقدار الثمن الذي اشتريته به، فعلى رأى يجعل كالنكول، ويرد اليمين علي الشفيع. قال القاضي الروياني، وبه قال ابن سريج وابن أبي هريرة والماوردي والقفال، وهو الاختيار. هذا لفظه. وقد أشعر كلامه أيضًا أن القائلين به هنا أكثر، وأن قول "الروضة" قبل ذلك ولا يحلف تعبير ناقص أيضًا. قوله في المسألة: وإن لم يعين قدرًا ولكن ادعى الشفيع عليه أنه يعلم مقداره وطالبه بالبيان ففيه وجهان أصحهما، عند صاحب "التهذيب": لا تسمع دعواه حتى يعين قدرًا. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا ولكن الأصح ما صححه البغوي فقد نقله في "النهاية" عن نص الشافعي. وصححه الرافعي في "المحرر" فقال: إنه أظهر الوجهين. وكذلك النووي في "المنهاج"، وفي أصل "الروضة" أيضًا. قوله: وإن خرج الثمن المعين مستحقًا تبين بطلان البيع والشفعة، وإن خرج بعضه مستحقًا بطل البيع في ذلك القدر، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، فإن فرقناها واختار المشتري الإجارة فللشفيع الأخذ وإن اختار الفسخ، وأراد الشفيع أخذه ففي المقدر منهما الخلاف السابق، فيما إذا

أصدقها شقصًا، ثم طلقها قبل الدخول. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه، ولكن ينبغي أن يعلم أن البائع أيضًا مخير في مسألتنا لتفريق الصفقة عليه. وحينئذ فإن فسخ فلا كلام، وإن اختار فيأتي ما قاله الرافعي، هذا هو القياس في مسألتنا. قوله: وإن لم يختر المشتري قلع ما بناه أو غرسه فالشفيع بالخيار، إلى آخره. هذه المسألة قد وقع فيها اضطراب شديد سبق ذكره في العارية فراجعه. قوله: إذا كانا شريكين في عقار فغاب أحدهما ورأينا نصفه في يد ثالث فادعى الحاضر عليه أنك اشتريته ولي فيه حق الشفعة. فإن كان للمدعي بينة فيقضى بها، ويأخذ الشفعة ثم إن اعترف المدعى عليه يسلم الثمن إليه وإلا فهل يترك في يد المدعي حتى يقر المدعي عليه، أو يأخذه القاضي ويحفظه أو يجبر على قبوله أو الإبراء عنه؟ فيه ثلاثة أوجه مذكورة في باب الإقرار وغيره. انتهى كلامه. والصحيح من تلك الأوجه على ما قاله في الإقرار: أنه يترك في يده. إذ علمت ذلك فقد تكرر عن الرافعي هذا التخريج أي تخريج الدين على الأوجه في العين، وهو يقتضي أن الراجح تسلط الشفيع على التملك والتصرف مع كون الثمن في ذمته وهو لا يوافق القواعد السابقة. فقد سبق منه قبل هذا الفصل أن الممتنع لابد من رفعه إلى القاضي ليلزمه القبض أو يخلى بينه وبين الثمن ليحصل الملك للشفيع فإن فرض في هذه المسألة حصول الملك بسبب آخر، كالقضاء استقام، ويتطرق ما ذكرناه إلى الإبراء أيضًا، فإنه إنما يكون بعد ثبوت الدين، وثبوته إنما يكون وقت الملك فتفطن له.

لا جرم أن ابن الرفعة في "الكفاية" و"المطلب" ذكر أن الخلاف محله في العين. ثم قال وأجراه شارح "التنبيه" وهو ابن يونس في الدين أيضًا، ولم أره لغيره، هذا كلامه وهو غريب. قوله في المسألة: وإن اعترف المدعي عليه بالشراء، فللمدعي أن يأخذ بالشفعة في أصح الوجهين لتصادقهما، فإذا قدم فهو علي حقه. والثاني: يوقف الأخذ حتى يكتب القاضي إليه لأن قول الغير لا يقبل عليه. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح الأخذ، وخالف في "نكت التنبيه" فقال: الأصح هو الثاني. قوله: إحداها المستحقون للشفعة إذا تفاوتت حصصهم، بأن كان لواحد النصف وللثاني الثلث والثالث السدس فباع صاحب النصف نصيبه فقولان: أصحهما: أن الشفعة على قدر الحصص فيقسم النصف بينهما أثلاثًا كالثمرة. والثاني: أنها علي عدد الرؤوس لأن الواحد يأخذ الكل، قل نصيبه أو كثر، وهما في أصل الشركة سواء، فأشبه أجرة الصكاك. انتهى ملخصًا. وما صححه الرافعي وغيره خلاف مذهب الشافعي فإن القولين قد حكاهما في "الأم" ثم إختار التسوية فقال: وإذا كانت الدار بين ثلاثة لأحدهم نصفها، وللآخر سدسها، وللآخر ثلثها وباع صاحب الثلث، وأراد شريكاه الأخذ بالشفعة ففيها قولان: أحدهما: أن صاحب النصف يأخذ ثلاثة أسهم وصاحب السدس يأخذ منهما على قدر ملكهم من الدار.

ومن قال هذا القول ذهب إلى أنه إنما جعل الشفعة بالملك، فإذا كان أحدهم أكثر ملكًا من صاحبه أعطى بقدر كثرة ملكه، ولهذا وجه. والقول الثاني: أنهما في الشفعة سواء، وبهذا القول أقول، ألا ترى أن الرجل يملك شفعة من الدار فيباع نصفها، وما خلا حقه منها فيريد الأخذ بالشفعة بقدر ملكه، فلا يكون ذلك له، ويقال له: خذ الكل أو دع. فلما كان حكم قليل المال في الشفعة حكم كثيره، كان الشريكان إذا اجتمعا في الشفعة سواء. هذا لفظه بحروفه. ونقل في "المختصر" عن الشافعي ما حاصله أيضًا أن مذهبه التسوية. قال البندنيجي في "تعليقه" في الكلام على أقوال التقاضي: والأصحاب كثيرًا ما يخالفون الشافعي لا عن قصد، ولكن لقلة اطلاعهم علي نصوصه. قال في "المطلب": وما قاله الأصحاب هنا عجيب وكيف لا تعجب منه مع قوة ما احتج به الشافعي، وعدم وضوح ما استدلوا به. وقول الرافعي فأشبه أجرة الصكاك هو بكسر الصاد جمع صك بفتحها، وهي المكاتيب المتضمنة للحقوق. وما ذكره من كون أجرتها على المستحقين بالسواء، وإن تفاوتت حصصهم، هي مسألة حسنة، لا أستحضر الآن هل ذكرها في أبواب القضاء أم لا، فينبغي معرفتها. قوله الثانية: لو مات مالك الدار عن اثنين، ثم مات أحدهما، وخلف اثنين فباع أحد الاثنين نصيبه، فإن الشفعة بين الأخ والعم على الجديد. فإن قلنا: إنها للأخ فعفى فهل تثبت للعم؟ فيه وجهان عن ابن سريج. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": ينبغي أن يكون الأصح هو الثبوت.

قوله: ولو كانت الشفعة لواحد فعفى عن بعضها فوجوه: أصحها: يسقط جميعها كالقصاص. والثاني: لا يسقط شيء كعفوه عن بعض حد القذف. والثالث: يسقط ما عفى عنه، ويبقى الباقي كسائر الحقوق المالية. وموضع هذا الوجه كما قاله الصيدلاني: ما إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة، وهذه الأوجه إذا لم نحكم بأن الشفعة على الفور، فإن حكمنا به فطريقان: منهم من قطع بأن العفو عن البعض تأخير لطلب الباقي. ومنهم من احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي، ويؤيد الأول كلام صاحب "الشامل". انتهى. لم يرجح شيئًا من الطريقين في "الروضة" أيضًا والأشبه كما قاله في "المطلب" هو الطريقة الأولى. فإنه قال يتصور بما إذا طلب الكل واستمهل لتحصيل الثمن فإنه يمهل. فإذا وجد منه العفو في تلك المدة عن بعض الشفعة جرت الألوجه، والذي قاله متعين. قوله: وإذا لم يحضر من الشركاء إلا واحد فليس له أخذ حصته فقط، ولا يكلف الصبر إلى حضورهم، بل إن شاء أخذ الجميع أو تركه وهل له تأخير الأخذ إلى حضورهما؟ إذا قلنا الشفعة على الفور وجهان أصحهما: نعم. انتهى ملخصًا. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد ذكر في كتاب دعوى الدم والقسامة في الكلام على ما إذا نكل بعض الورثة أو غاب ما نصه: ولو قال الحاضر: لا أحلف إلا بقدر حصتي لا يبطل حقه من القسامة حتى إذا قدم الغائب يحلف معه، بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر: لا آخذ إلا قدر حصتي

حيث يبطل حقه من الشفعة. والفرق أن لا شفعة إذا تعرضت للأخذ فالتأخير تقصير مفوت، واليمين في القسامة لا يبطل بالتأخير، هذا لفظه. وتبعه عليه في "الروضة"، والظاهر أنها هي المسألة المختلف فيها ههنا، وحينئذ فتكون مناقضة للمذكور هنا، ويحتمل أن تكون مسألة أخرى لم تذكر هنا وهي أن اقتصاره على أخذ البعض مبطل وإن لم نبطله بترك الكل. قوله: أما إذا ثبتت الشفعة لواحد فمات فورثه ابنان، فعفى أحدهما فهو كما لو ثبتت الشفعة لواحد فعفى عن بعضها أو لاثنين فعفى أحدهما. فيه وجهان: أظهرهما: الثاني؛ قال الإمام: والخلاف بناء على ما سبق من أن الوارث يأخذ بالشفعة لنفسه أو تلقيًا عن المورث، انتهى. ومقتضى ما نقله من الإمام هنا وارتضاه أن يكون الصحيح في المسألة المبني عليها أن الوارث يأخذ لنفسه. لكنه ذكر قبل هذا بنحو ورقتين في الكلام على ما إذا مات الشفيع عن ابن وزوجة، وما حاصله أن الأصح أن الوارث يأخذ للميت. فإنه قال: الأظهر: القطع أنهما يأخذان على قدر موارثتهما. والثاني: فيه قولان، ثم قال ما نصه: والطريقان مبنيان على خلاف الأصحاب في أن ورثة الشفيع يأخذون لأنفسهم أم للمورث ثم يتلقون عنه؟ فإن قلنا: يأخذون لأنفسهم عاد القولان، وإن قلنا: يأخذون للميت قطعنا بأنهما يأخذان على قدر الميراث. هذا لفظه ولم يذكر المسألة في "الروضة" في هذين الموضعين. قوله: واعلم أن الوجوه المذكورة شاملة لعفو الشفيع عن بعض حقه, ولعفو أحد الشفيعين عن حقه، إلا الوجه الصائر إلى استقرار المعفو عنه على المشتري فإنهم لم يذكروه في عفو الشفيع عن بعض حقه، انتهى.

وما ذكره من عدم ذكر هذا الوجه ليس كذلك لأنه لما تكلم في عفو الشخص عن بعض الحق وهو قبل هذا بقليل قال: إن فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يسقط [الجميع. والثاني: لا يسقط شيء، ثم قال ما نصه: والثالث: أنه يسقط] (¬1) ما عفى عنه، ويبقى الباقي لأنه حق مالي قابل للانقسام. وعن الصيدلاني أن موضع هذا الوجه ما إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة عليه، فإن أبي وقال: أخذ الكل أو دع فله ذلك. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن منهم من يقيد هذا الوجه ومنهم من لم يقيده. وعلى عدم تقييده يستقر المعفو عنه على المشتري، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة قريبًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الثالث: فيما يسقط به حق الشفيع

الباب الثالث: فيما يسقط به حق الشفيع قوله: روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشفعة كحل العقال" (¬1) أي كالبعير الشرود يحل عنه العقال. وروى "الشفعة كمن". وروى "الشفعة كنشطة العقال إن قيدت ثبتت، وإلا فاللوم على من تركها". انتهى. النشطة بنون ثم شين معجمة وطاء مهملة قال ابن فارس وغيره: الأنشوطة: العقدة تنحل إذا مد طرفيها، تقول نشطت الحبل إذا عقدته بلا همز، فإن أردت الحل قلت: أنشطت بالهمز، ومنه خبر "كأنما أنشط من عقال" أي حل. قوله: فينبغي للمعذور أن يوكل إن قدر عليه، فإن لم يفعل بطلت شفعته في أصح الأوجه لتقصيره. والثاني: لا. والثالث: إن لم يلحقه في التوكيل منة ولا مؤنة ثقيلة بطلت وإلا فلا، فإن لم يمكنه التوكيل فليشهد على الطلب، فإن لم يشهد فقولان أو وجهان: أظهرهما: أنه يبطل. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن حكاية الخلاف في التوكيل أوجها ذكره كذلك أيضًا في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2500) والبيهقي في الكبرى (11368)، والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 56) وابن عدي في الكامل (6/ 177 - 180)، وابن حبان في المجروحين (2/ 266) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال الحافظ ابن حجر والألباني. ضعيف جدًا.

"الشرح الصغير" والنووي في "الروضة" وخالف في "المنهاج" فجعله أقوالًا فإنه عبر بالأظهر، ولم يصرح في "المحرر" بشيء، بل الغريب أنه عبر بالأصح فعدل عنه إلى الأظهر. الثاني: أن ترديده في الإشهاد بين القولين والوجهين من غير ترجيح ذكر مثله في "الشرح الصغير" و"الروضة". والراجح على ما ذكره في "المنهاج" أنه قولان فإنه عبر أيضًا بالأظهر. قوله: وأجرى هذا الخلاف المذكور في وجوب الإشهاد فيها إذا سار بنفسه طالبًا في الحال، ولكن الأظهر هنا أنه لا يجب كما لو أرسل وكيلًا، ولم يشهد، فإنه يكفي وليطرد فيما إذا كان حاضرًا في البلد فخرج إليه أو إلى مجلس الحكم كما سبق، انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على تصحيح عدم الوجوب وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا. وخالف النووي هنا في "تصحيح التنبيه" خاصة فصحح أنه لابد من الإشهاد. وهو الذي صححه الرافعي والنووي في نظيره من الرد بالعيب كما سبق إيضاحه. قوله: وهذا كله فيما إذا لم يبلغ عدد المخبرين حدًا لا يحتمل التواطؤ علي الكذب، فإن بلغه فأخر بطل حقه، وإن كانوا فساقًا، انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على التعبير بهذه العبارة ولكن لو عبر بقوله: وإن كانوا كفارًا لكان أصوب؛ لأن عبارته لا تشمل الكافر، بل توهم أن الحكم فيه مخالف للفاسق، وليس كذلك فإنهما سواء، كما صرح به صاحب "التتمة" وغيره. قوله في أصل "الروضة": ولو قيل: باعه بكذا مؤجلًا فعفى فبان حالًا

أو باع كله بألف فبان بعضه بألف بطل قطعًا، انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الخلاف في المسألة الأولى غريب، فقد جزم الغزالي في "الوسيط" بأن شفعته لا تبطل. قال في "المطلب": وتوجيهه ظاهر، لأنه يظن أن في الثمن زيادة لكون الأجل يقابله قسط من الثمن. قوله: وحكى وجهان أيضًا فيما إذا قال بارك الله في [صفقة يمينك] (¬1) عن قياس طريق المراوزة أنه يبطل حقه؛ لأن هذا الدعاء يشعر بتقرير الشقص في يده فلا ينتظم الطلب عقبه. وأصحهما وهو الذي أورده المعظم: أنه لا يبطل لأنه قد يدعو ليأخذ بصفقة مباركة انتهى كلامه. واعلم أن هذا الكلام مأخوذ من كلام الإمام فإنه قال: إذا قال بارك الله لك في صفقة يمينك، وعنى ابتياعه للشقص. ثم قال بعد ذلك: أنا طالب للشفعة. قال العراقيون: له طلبها على قول الفور، وقياس طريق المراوزة يخالف هذا، فإن قوله بارك الله لك يشعر بتقرير الشقص في يده. وتعقيب هذا الكلام إنما يوجب إزالة يده يلحق نظم الكلام بالاستهزاء. وما قاله العراقيون: على قول عدم الفور أولى، وقياس المراوزة أنه يكون من علامات الرضى بإسقاط الشفعة، إذا لم يشترط التصريح به هذا كلام الإمام، وإذا جمعت بينه وبين كلام الرافعي قطعت بأنه أصله. وقد جعل محل الوجهين عند التصريح بقوله لك، وحينئذ فلا يطابق نقل الرافعي والعجب أن الغزالي في "الوجيز" قد صرح بذلك. فقال: فإن قال: بكم اشتريت؟ ففيه تردد وكذا في قوله: بارك الله لك ¬

_ (¬1) في جـ: صفقتك.

في صفقتك هذا لفظ "الوجيز" فقد ذهل عنه الرافعي أيضًا. ولم يتفطن في "الروضة" لهذه النكتة الواقعة في هذه المسألة. قوله: فرع عند أبي يوسف: لا يكره دفع الشفعة بالحيلة إذ ليس فيها دفع حتى على الغرماء فإنه إنما يثبت بعد البيع، وعند محمَّد بن الحسن يكره لما فيها من إبقاء الضرر. وهذا أشبه بمذهبنا في الحيلة في منع وجوب الزكاة، انتهى كلامه. ومقتضاه أنه لم يقف في هذه المسألة على نقل لأصحابنا، وهو غريب، فإن المسألة فيها ثلاثة أوجه. أحدها: لا يكره وهو الذي رأيته مجزوما به في كتاب "الحيل" لأبي حاتم القزويني، فإنه جعل كتابه مشتملًا على ثلاثة أبواب، أولها: في الحيل المحرمة، وثانيها: في المكروه، وثالثها: في المباحة، وجعل مسألتنا من الباب الثالث. ونقل ابن الرفعة في "الكفاية" عن البندنيجي أن أبا بكر الصيرفي أجاب بذلك في كتاب "الحيل" له أيضًا والوجه الثاني: وإليه ذهب ابن سريج والشيخ أبو حامد وسليم الرازي في "المجرد" أنه يكره على وفق ما ذكره الرافعي بحثًا وهو الذي صححه النووي في "الروضة". والثالث: إن كان التحيل مانعًا من الأخذ بالكلية فلا يجوز سواء كان مانعًا من أخذ جميعه بضم مجهول إلى الثمن، أو من أخذ بعضه كهبة بعض الشقص، وبيع الباقي بزيادة وإن لم يكن مانعًا منه، بل من هذا فيه كزيادة الثمن ونحوه فيجوز كذا رأيته في "أدب القضاء" للدبيلي. وأما ما نقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" من التحريم مطلقًا فمردود كما أوضحته في "الهداية" وما ذكره الدبيلي من التحريم قد ذهب إليه الغزالي

في "الوجيز" في نظيره من الزكاة. وقال في "الإحياء": إن الحيلة وإن أسقطت الزكاة في ظاهر الشرع، فإن الذمة لا تبرأ باطنًا بفعلها. واعلم أن هذا كله في شفعة الشركاء أما شفعة الجواز فقال في "الروضة": لا يكره الحيلة فيها قطعًا. قوله: وإذا كان الشقص في يد البائع فقال الشفيع: لا أقبضه إلا من يد المشتري ففي إجابته وجهان: قال في "الروضة": أصحهما: أنه يجاب، وقد سبق فيه كلام آخر في البيع في الكلام على حكم المبيع قبل القبض أم في جميع التركة؟ فيه خلاف مذكور في موضعه. انتهى. تابعه في "الروضة" على دعوى ذكر الخلاف في موضع المسألة وموضعها هو أواخر زكاة الفطر. والباب الثالث من أبواب الرهن، فإن المسألة مذكورة فيها وليس للوجهين ذكر في شيء من الموضعين المتقدمين.

كتاب القراض

كتاب القراض وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانه قوله: في غزوة نهاوند. قال السمعاني هي بضم النون وهي مدينة من بلد الجيل، قيل: إن نوحًا -عليه الصلاة والسلام- بناها وكان اسمها "نوح ارند" فأبدلوا الحاء هاء. قوله: وما يعتبر في صحة هذا العقد تارة يعتبر في رأس المال، وتارة في العمل وأخرى في صيغة العقد، وأخرى في العاقدين فسمى المصنف هذه الأمور أركانًا، انتهى كلامه. وقد أهمل الرافعي ركنًا آخرا لم يذكره في هذه الترجمة وهي الكلام على الربح، وقد صرح به بعد هذا فقال: إن الأركان خمسة أحدها: رأس المال، وثانيها: العمل، وثالثها: الربح، ورابعها: الصيغة، وخامسها: العاقدان. وقد عبر في "الوسيط" هنا بعبارة جيدة فقال: العاقدان والعوضان ورأس المال وصيغة العقد، هذا لفظه وأراد بالعوضين الربح والعمل. قوله: وفي النفس حسيكة من هذا الكلام. الحسيكة بالحاء والسين المهملتين وبعدهما ياء بنقطتين من تحت، ثم كاف، قالوا في صدره على حسيكة وحساكة أي: ضغن وعداوة. قاله الجوهري: فاستعمل الرافعي ذلك وأراد به نفور النفس عنه وعدم قبولها له. قوله: وعن الشيخ أبي محمَّد أنه كان يعول في اختصاص القراض

بالنقدين على الإجماع، انتهى. دعوى الإجماع على اختصاصه بذلك صرح به النووي في "الروضة" جازما به لكن لأصحابنا بخصوصهم خلاف في جوازه على ذوات الأمثال حكاه الفوراني في "الإبانة" فاعلمه. قوله: الشرط الثالث أن يكون معنيًا فلو قارض على دراهم غير معينة ثم أحضرها في المجلس وعينها، حكى الإمام عن القاضي وقطع به أنه يجوز كما في الصرف ورأس مال السلم. والذي أورده صاحب "التهذيب" المنع، انتهى كلامه. لم يصرح بتصحيح في "الروضة" أيضًا، والصحيح هو: الجواز، كذا صححه في "الشرح الصغير". قوله: ولو قال للمديون اعزل قدر حقي من مالك فعزله، ثم قال له قارضتك عليه لم يصح لأنه لم يملكه وإذا تصرف المأمور فيما عزله نظر إن اشتري بعينه للقراض فهو كالفضولي اشترى لغيره بعين ماله وإن اشترى في الذمة ونقد ما عزله فوجهان: أصحهما: عند البغوي أنه للمالك لأنه اشترى له بإذنه. وأظهرهما عند الشيخ أبي حامد: أنه للعامل لأنه إنما أذن في الشراء بمال القراض، فإذا لم يملكه فلا قراض، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والراجح: الأول؛ فقد رجحه أيضًا البندنيجي والقاضي الحسين وإمام الحرمين. قوله: ولو قارضه على مال غصبه منه صح على الأصح، وعلى هذا لا يتزامن ضمان الغصب كما في الرهن. انتهى. واعلم أن الرافعي في الباب الثاني من كتاب الرهن قد جزم بالصحة وحكي الخلاف في البراءة، ولكن الأصح أنه لا يبرأ.

ومحل عدم البراءة إذا لم يتصرف فإذا تصرف فوجوه: أصحها: وهو ما جزم به في "الروضة" هنا من "زوائده" أنه يبرأ، لأنه سلمه بإذن المالك وزالت عنه يده، وما يقتضيه من الأعراض يكون أيضًا أمانة، لأنه لم يوجد فيها ما يقتضي الضمان. وثانيها: لا يبرأ مطلقا. وثالثها: إن اشترى بأعيانها برئ بتسليمها وإن اشترى في الذمة ثم نقدها لم يبرأ لأن في الثمن قد تعلق بذمته. حكاها الماوردي. ورابعها: أورده في "المطلب" أنه إن أورد العقد على أعيانها برئ، وإن لم يسلمه. قوله: ولو شرط رب المال على العامل أن يراجعه في التصرفات، أو يراجع مشرفًا نصبه عليه لم يصح لأنه قد لا يجده عند الحاجة، أو لا يساعده على رأيه فيفوت عليه التصرف الرابح. انتهى. هذا التعليل ينتقض بما إذا قارض اثنين وشرط عليهما الاجتماع في التصرف، فإنه جائز كما ستعرفه، بل الصواب تعليله بأن موضوع القراض أن يكون المال من رب المال، والعمل من العامل. فالجمع بينهما على رب المال ينافي مقتضاه، لأن بعض الربح يكون له بعمله وماله. قوله: ولو شرط أن يعمل معه غلام رب المال ولم يحجر عليه في التصرف وحده ففيه وجهان والأكثرون علي الجواز. ولو شرط أن يعطيه بهيمة ففي "التتمة" أنه على الوجهين، ومنهم من قطع بالجواز. انتهى. والمعروف طريقة الخلاف فهي المذكورة في "المجرد" لسليم وفي "البحر" للروياني، ونقلها القاضي أبو الطيب عن ابن سريج ولم ينقل خلافها.

قوله: فلو عين للتصرف نوعًا يقدر كالياقوت الأحمر والحر الأدكن. . . . إلى آخره. الأدكن بالدال المهملة والكاف هو الذي يضرب لونه إلى السواد، مشتق من: الدكنة بضم الدال، من كلامهم لكن الثوب بالكسر يدكن بالفتح دكنًا، قاله الجوهري. قوله: والإذن في البزهل يتناول الأكسية؟ فيه وجهان، لأنها ملبوسة لكن لا يسمى بائعها بزازًا، انتهى. والأصح عدم التناول، كذا قاله في "الروضة". قوله: ولو قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لك فهو قراض فاسد رعاية للفظ وقيل: قراض صحيح رعاية للمعنى. ثم قال: ولو قال: أبضعتك على أن [الربح لك فهل هو إبضاع أو قرض؟ فيه الوجهان. ولو قال: أبضعتك على أن] (¬1) نصف الربح لك فهل هو إبضاع أو ربح قرض؟ الوجهان، انتهي كلامه. وقد أسقط النووي من "الروضة" المسألة الثانية إما لانتقال نظره حالة الاختصار من قوله أبضعتك إلى قوله أبضعتك، كما يقع كثيرًا للنساخ. أو لانتقال نظر ناسخ الأصل الذي اختصر منه. والقرض المذكور في المسألة الساقطة بغير ألف بخلاف المذكور في الثالثة. قوله: في "الروضة": ولو قال: على أن ثلث الربع لك وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك صح. وحاصله اشتراط سبعة أتساع الربح للعامل. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

هذا إذا علما عند العقد أن المشروط للعامل بهذا اللفظ كما هو، فإن جهلاه أو أحدهما صح أيضًا على الأصح، وبه قطع في "الشامل" لسهولة معرفته. ويجري الخلاف فيما إذا قال لك عن الربح سدس ربع العشر، انتهى. لم يصحح "الرافعي" من الوجهين شيئًا بالكلية وإنما قال: فوجهان عن صاحب "التقريب". الذي أورده صاحب "الشامل" منهما هو الصحة. هذا لفظه وقد جزم القاضي الحسين في "تعليقته" بعدم الصحة. نعم: في "الحاوي" أنه يصح كما في "الشامل"، ويدل عليه أنهم أجمعوا كما قال القاضي الحسين هنا على أنه لو باع مرابحة وجهلا حالة العقد حسابه صح العقد. قوله: ولو شاء في مرض الموت وزاد الحاصل على أجرة المثل فوجهان: أحدهما: أنه لا تحسب الزيادة من الثلث أيضًا لأنه لم يكن حينئذ ثمرة وحصولها منسوب إلى عمل العامل. وأشبههما: نعم لأن الثمار قد تحصل من غير عمل فكانت كالشيء الحاصل، انتهى. وهذا التعليل لا يتمشى إذا كانت الثمرة موجودة فهل الأمر كما يقتضيه التعليل من كون الخلاف مخصوصًا بما قبل وجودها أم الخلاف مطلق ولكن التعليل مردود؟ فيه نظر. قوله: ويجوز أن يقارض الواحد اثنين سواء سوى بينهما أو فاوت. قال الإمام: وإنما يجوز إذا ثبت لكل واحد مهما الاستقلال، فإن شرط على كل واحد منهما مراجعة الآخر لم يجز، وما أرى أن الأصحاب

يساعدوه عليه، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الأمر كما ظنه الرافعي من الجواز في هذه الصورة. فقد نقله الإمام بعد هذا عن ابن سريج. وصرح به القاضي أبو الطيب، وكذلك الغزالي في "البسيط". وذكر في "الوسيط" نحوه أيضًا. وقال في "المطلب" في الشرط الرابع: إنه المشهور. نعم: رجح البويطي من فقه نفسه أنه لا يجوز فقال في باب المضاربة: لو قارض رجلين على أن يشتركا لم يجز لأن هذا قراض وشركة، وقيل: يجوز. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الإمام من تجويزه إذا أثبت لكل منهما الاستقلال ليس كذلك، بل الذي جزم به الإمام أنه: لا يجوز فإنه نقل أولًا أن الأصحاب جوزوه، وأن فيه إشكالًا يأتي، ثم جزم في الموضع الذي وعد بذكره بالمنع فقال في أوائل الكتاب: قد أطلق الأصحاب جواز مقارضة الرجل الواحد رجلين، وهذا فيه تفصيل، فإن شرط أن لا يستقل واحد منهما بالتصرف دون صاحبه فالذي يدل عليه ظاهر الكلام الأصحاب أن ذلك فاسد، وإن أثبت لكل واحد منهما الاستقلال بالتصرف فهذا هو الذي جوزوه وفيه إشكال يأتي في أثناء الكتاب. هذا كلامه. ثم ذكر المسألة في أواخر الكتاب في أثناء قوله فصل في مقارضة الرجل رجلين فقال: إن الأصحاب أطلقوا القول بجواز مقارضة الرجل الرجلين وفيه إشكال، فإنه إن فرض ذلك على أن يستبد كل منهما بالتصرف إذا اتفق متجر وكل منهما لا يثق بتصرف نفسه ولا يأمن أن يكون تصرفه مسبوقًا بتصرف صاحبه وإذا لم يتفق من أحدهما عمل أصلًا، وجرى العمل كله

من الثاني فيستحيل أن يستحق من لم يعمل شيئًا، ويجب أن يكون المشروط للعامل، وفيه أيضًا إشكال فإنه لم يشترط الربح له وحده، ثم يلزم منه إذا قبل ذلك أن يختلف النصيب بمقدار العملين، وهذا أمر لا ينضبط، وإن كان القراض على أن لا ينفرد أحدهما فهو يشبه ما إذا شرط على العامل أن يراجع رب المال أو شخصًا آخر وهو فاسد. ونحن نقول: في الصورة الأولى القراض فاسد لا شك فيه فلنخرج هذه الصورة عن إرادة الأصحاب. وأما في الصورة الثانية فالإشكال الذي ذكرناه فيها يعارضه التعاون والتناصر. وقد يتجه في مقارضة الرجل الرجلين أن يحمل على كون كل واحد منهما مقارضًا في قسط من المال، وكلام الأصحاب يشير إلى ذلك ثم قال: وقد خرج مما ذكرناه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يثبت لكل منهما الاستقلال في جميع المال فباطل لا شك فيه. والثاني: أن يشترط تفاوتهما على العمل في جميع المال، فهذا محتمل كما رددنا القول فيه، والأظهر: البطلان. والثالث: أن يجعل كلًا منهما عاملًا في شطر المال، وهذا جائز لا يرده راد. هذا كلام الإمام بحروفه، وهو مشتمل على فوائد، وحاصله أنه مخالف لما أطلقه الأصحاب سواء أكان مرادهم هو الصورة الأولى أم الثانية، ولا شك أن الرافعي وقف على الكلام الأول فاغتر به، ولو تأمله أيضًا لم يقل ما قاله. نعم كلام الإمام أولًا يدل على أن صورة الاجتماع أولى بالبطلان عند

الأصحاب من الاستقلال، وكلامه أخيرًا فيما اختاره بالعكس. قوله: فرع: قال المزني في "المختصر" لو دفع إليه ألف درهم، وقال اشتر بها هرويًا أو مرويا بالنصف فهو فاسد. واختلفوا في تعليقه؛ فالأصح وفي سياق الكلام ما يقتضيه: أن الفساد باعتبار أنه تعرض للشراء دون البيع. ثم قال: وعن ابن أبي هريرة أن سبب الفساد أنه تردد بين النوعين، ولم يعين واحدا ولا أطلق التصرف في أجناس الأمتعة، واعترض القاضي الحسين عليه بأنه لو عين أحدهما لحكمنا بالصحة، فإذا ذكرهما على الترديد، فقد زاد العامل بسطه وتخييرًا فينبغي أن يصح بطريق الأولى، انتهى كلامه. وقد استفدنا من مجموع ما ذكره أن صيغة "أو" هنا لا تقدح في هذا العقد على الصحيح، وهذا هو مقتضى كلام النووي أيضًا، وإن كان قد أبطل من زوائده الاعتراض خاصة. لكن ذكروا في الإجارة أنه لو أجره أرضا ليزرع أو يغرس بطل. وإن قال إن شئت فازرع وإن شئت فاغرس صح على الأصح، ويتخير المستأجر بينهما. فالقياس إبطاله هنا أيضًا بذلك.

الباب الثاني: في حكم القراض الصحيح

الباب الثاني: في حكم القراض الصحيح قوله: من أحكام القراض تصرف العامل بالغبطة كتصرف الوكيل. انتهى. وما ذكره من اشتراط الغبطة في هذ التصرف ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" وهو كلام مدخول، فإن تصرف الوكيل ومن في معناه على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون بالغبطة، والغبطة كما قاله في "المطلب" هنا هي الزيادة على القيمة زيادة لها بال. الثاني: أن يكون بالمصلحة كشراء ما يتوقع فيه الربع أو بيع ما يتوقع فيه الخسران. والثالث: أن يكون بلا ضرر كبيع قفيز من حنطة بمثله، ونحو ذلك، مما لا ربح فيه ولا خسران. والرابع: أن يكون فيه ضرر كالبيع والشراء بالغبن الفاحش. فالقسم الأول ليس شرطا في الوكيل يدل عليه تجويزهم له البيع والشراء بثمن المثل. والثالث لا يكفي فإنه يدخل فيه البيع بثمن المثل مع وجود راغب بزيادة، مع أنه ممتنع وكذلك يدخل فيه أيضًا ما ذكرناه من بيع القفيز بمثله ونحوه مع أنه ممتنع في ولي اليتيم. كما نقله إمام الحرمين في كتاب الشفعة عن والده فقال: وكان شيخي يقطع بأن التصرف الذي لا خير فيه ولا شر ممنوع. قال: وهذا حسن متجه، ويوافقه قول الماوردي: أنه يشترط في الشراء للمحجور عليه بقصد التجارة أن يكون الربح حاصلًا منه في الغالب حالًا أو

مآلا. وقال أيضًا هنا: لا يجوز للعامل أن يشتري شيئًا بثمن مثله، وهو لا يرجوا حصول ربح فيه وهذه الأبواب كلها حكمها واحد. والرابع: امتناعه واضح؛ فتعين الثاني، وهو اعتبار المصلحة. لا جرم أن النووي قد عدل عن تعبير الرافعي وعبر في "الروضة" بالمصلحة، وفي "المنهاج" بقوله محتاطًا، ولم ينبه على التعبير. وعبر الغزالي أيضًا في باب الشركة من "الوجيز" بالغبطة في تصرف الشريك فتبعه عليه في "المحرر" وأبدله في "المنهاج" بقوله بلا ضرر وكلا التعبيرين مدخول، والصواب اعتبار المصلحة. قوله: وله شراء المعيب إذا رأى فيه ربحًا فإن اشتراه بقدر قيمته فوجهان. انتهى. والأصح هو: الجواز، كذا صححه القاضي الحسين في "تعليقه" والنووي في "زوائد الروضة" وقيده بما إذا رأى فيه المصلحة. قوله: ويجوز للمالك وللعامل الرد بالعيب إن كانت الغبطة في الرد، وإن كانت في إمساكه لم ينفرد أحدهما به في أظهر الوجهين. ثم الذي حكاه الإمام، أن العامل يرد على البيع وينقض البيع، وأما الملاك فينظر إن كان الشراء بعين مال القراض فكمثل، وإن اشترى العامل في الذمة فيصرفه المالك عن مال القراض، وفي انصرافه إلى العامل ما سبق في انصراف العقد إلى الوكيل إذا لم يقع للموكل أي من التفرقة بين أن يسميه في العقد أم لا، وبين أن يصدقه البائع على الشراء لغيره أم لا. وقد تقدم ما فيه من الخلاف في الوكالة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن التعبير بالغبطة قد ذكره في "المحرر" وغيره.

والصحيح: أن التعبير بالمصلحة لأجل ما سبق قريبًا وقد تفطن في "المنهاج" لذلك فأصلحه وغفل عنه في "الروضة". الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه من أن الخلاف في انقلاب العقد إلى الوكيل جار في العامل كلام موهم، بل ظاهر في أنه من تتمة كلام الإمام، مع أن الإمام جازم بأنه ينقلب للمقارض. وإن حكى الخلاف في باب الوكالة وفي هذا الباب في انصراف العقد عن الموكل إلي الوكيل وأشار إلى فرق بينهما علي أحد الوجهين، وهو أنه لا حق للوكيل فيما وقع العقد عليه بخلاف العامل يعني بأن له حقًا في المعقود عليه فجاز لأجله أن نحكم بالإتلاف إليه. قوله: والعبد المأذون في التجارة، إن اشترى من يعتق على سيده. . . . إلى آخره. هذه المسألة كلها سبق في باب معاملات العبيد الكلام عليها، وتصحيح القولين المحكيين فيها بلا تصحيح فراجعها. قوله: والحالة الثانية: أن يقارض العامل شخصًا بغير إذن المالك فهو فاسد، لأن المالك لم يأذن فيه، فلو تصرف العامل الثاني وربح، فإن اشترى بالعين فهو تصرف فضولي، وأما إذا باع سلمًا أو اشترى في الذمة وسلم المغصوب فيما التزمه وربح فعلى الجديد الربح للغاصب لأن تصرفه صحيح والتسليم هو الفاسد. والقديم: أنه للمالك لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الغصب. ثم اختلفوا فقال الأكثرون: لا فرق في حصول الربح [للمالك] (¬1) بين أن يختار الإجازة أم لا، وقيل إن اختار الإجازة كان له، وإن اختار الفسخ فلا. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وإنما لم يتعرض الشافعي -رحمه الله- للفسخ والإجازة لأن الغالب أنه يجيز إذا رأى الربح، فعلى هذا إذا رده يرتد. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الشافعي لم يتعرض للفسخ والإجازة بالنسبة للربح ليس كذلك، بل قد نص عليه على هذا القول كما نقله عنه جماعة منهم سليم في "المجرد" ونقله عنه أيضًا في "المطلب". قوله: فإن قلنا بالقديم وهو أن ربح الأموال المغصوبة للمغصوب منه، ففيما يستحقه العامل من الربح وجهان. أحدهما: ولم أره إلا في كتاب أبي الفرج السرخسي أن كله للمالك كما في الغصب طردًا للقياس. وأصحهما: النصف خاصة لرضاه به. انتهى. وهذا الوجه الذي لم يره إلا في "الأمالي" قد صرح بحكايته صاحب "الحاوي" وعزاه إلى ابن سريج. قوله: أما إذا سافر بالإذن فلا عدوان، انتهى. وهذا في سفر البر، أما في البحر فقال في "الروضة": ليس له سلوكه بإطلاق الإذن في السفر، بل لابد من التنصيص عليه. قوله: وإدراج الثياب في السفط إلى آخره. السفط بفتح الفاء كما ضبطه الجوهري جمعه أسفاط، وهو وعاء يجعل فيه التجار أمتعتهم. قوله: فروع على القول بوجوب النفعة للعامل في السفر: منها لو استصحب مال نفسه مع مال القراض، وزعت النفقة على قدر المالين [(¬1) قال الإمام: ويجوز أن ينظر إلى مقدار العمل، وفي "أمالي السرخسي" أنها إنما توزع إذا كان ماله قدرًا يقصد السفر له. انتهى. ¬

_ (¬1) بداية سقط من أ.

وليس في كلامه هنا ولا في كلام "الروضة" ما يدل على أن ما حكاه عن "الأمالي" حكاية لوجه آخر مرجوح أو تقييد لما أطلقه غيره حتى يكون ذلك الإطلاق محمولًا عليه، وقد بين ذلك في "الشرح الصغير" فجعله قيدًا في المسألة. وجزم به ولم يعزه إلى أحد ونقل في "الروضة" عن صاحب "الإفصاح" وصاحب "البيان" أنهما قالا كقول السرخسي. قال في "المطلب": وهو حسن. ثم اعلم أن صاحب "البيان" إنما نقل ذلك عن صاحب "الإفصاح" خاصة فاحذر ما في "الروضة" من الإيهام. قوله: ومنها: أقام في طريقه فوق مدة المسافرين في بلد لم يأخذ لتلك المدة. انتهى. تابعه على هذا الإطلاق، ومحله إذا كان ذلك لشيء يختص به لعارض مرض ونحوه، أما إذا كان لأجل مال القراض انتظارًا لبيعه وقبض ثمنه أو التماسًا لحمله، أو لسبب يتعلق به فنفقته فيه كنفقته في سفره لاختصاصه بالقراض، كذا قاله الماوردي، وهو متعين. قوله: ومنها: لو شرط نففة السفر في ابتداء القراض فهو زيادة تاكيد إذا قلنا بالوجوب أما إذا لم نقل به, فأظهر الوجهين: أنه يفسد العقد كما لو شرط نفقة الحضر، والثاني: لا، لأنه من مصالح العقد، فعلى هذا هل يشترط تقييده؟ فيه وجهان، انتهى. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، وقال في "المطلب": إن أظهر الوجهين عدم الاشتراط. قوله: وما يقع في مال القراض من الزوائد كثمرة الشجرة ونتاج البهيمة يفوز به المالك.

وقيل: مال قراض، وعلى هذا فقد قال الغزالي: إنه من الربح، وهو قضية ما في "التهذيب" وأورد بعض أصحاب الإمام أنها لا تعد من الربح خاصة ولا من رأس المال بل هي شائعة. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن بعض أصحاب الإمام قد نقله الإمام نفسه في "النهاية" في أثناء الكلام على المسألة فقال عقب كلام نقله عن الشيخ أبي حامد: لا يحكم فيها بأنها أرباح أو زوائد، ولكن [هي من مال القراض، وحمله مال القراض لا يتميز فيها عن طريق التعيين، ولكن] (¬1) رأس المال والربح شائع، هذا كلامه. وحكى في "الروضة" وجهين، وصرح بتصحيح أنها من الربح، ومال إلى ترجيحه في "المطلب". قوله: ولو أتلفه أجنبي أخذ بدله، وكفى القراض فيه، ولو أتلف العامل، قال الإمام: يرتفع القراض لأنه وإن وجب بدله عليه لا يدخل في ملك المالك إلا يقبض منه، وحينئذ يحتاج إلى استئناف القراض. ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن مال القراض إذا غصب أو أتلف من الخصم، فيه وجهان: أظهرهما: أن الخصم المالك إن لم يكن في المال ربح وهما جميعًا إن كان فيه ربح، والثاني: أن للعامل المخاصمة بكل حال حفظًا للمال فيشبه أن يكون الجواب المذكور في إتلاف الأجنبي مفرعًا على أن العامل خصم، وبتقدير أن يقال: إنه وإن لم يكن خصمًا لكن إذا خاصم المالك وأخذ، عاد العامل إلي التصرف فيه بحكم القراض لزم مثله فيما إذا كان العامل هو المتلف. انتهى كلامه. وما ذكره أولًا بحثًا من كونه مفرعًا على أن للمالك المخاصمة، نقله في ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

"المطلب" عن القاضي حسين وعن الإمام أيضًا، وما ذكره ثانيًا من لزوم إلحاق العامل بالأجنبي ليس بلازم، فقد فرق بينهما القاضي حسين في "تعليقه" فقال: والفرق بين إتلاف الأجنبي وإتلاف المالك والعامل أن لهما الفسخ ولذلك جعلنا إتلافهما فسخًا، هذا كلامه. نعم: حرم ابن يونس في "شرح التنبيه" بما ذكره بحثًا. قوله: ولو اشترى العامل ثوبًا بألف في الذمة وكان رأس المال ألفًا فتلفت قبل التسليم، قال في "البويطي": يرتفع القراض ويكون الشراء للعامل، فقال بعض الأصحاب: هذا إذا كان التلف قبل الشراء، فإن كان بعده وقع للمالك ولزمه ألف أخرى، وقال ابن سريج: يقع عن العامل مطلقًا. انتهى ملخصًا. قد جزم الرافعي في أول هذا الباب -أعني: الباب الثاني- بالوجه الأول، فإنه علل منع الشراء بالنسبة بقوله: لأنه ربما يهلك رأس المال فتبقى العهدة متعلقة به، أي: -برب المال- وحذف هذا التعليل من "الروضة" وصحح في "تصحيح التنبيه" الثاني، وهو إيجابها على العامل ولم يصحح شيئا في "الروضة"، ولم يتعرض الرافعي للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". نعم: ذكر الرافعي في نظيره من العبد المأذون أن السيد مخير بين الإعطاء والفسخ على الصحيح ولم يصحح في نظيره من الوكالة شيئا. وتابعه في "الروضة" على ذلك، وقد رأيت كلام الشافعي -رحمه الله- في "البويطي" وهو كما قالوه محتمل لكل من الوجهين السابقين. قوله: في المسألة: فإن قلنا بالأول فرأس المال ألف أو ألفين؟ فيه وجهان، فإن قلنا بالأول فهل هو الألف الأول أو الثاني؟ فيه وجهان تظهر فائدتهما عند اختلاف الألفين في صحة صفة الصحة وغيرها. انتهى.

لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا. والراجح من الوجهين الأولين أن رأس المال ألفان. فقد قال البندنيجي في "تعليقه": إنه المذهب وأن مقابله ليس بشيء. وجزم به أيضًا الماوردي ورجحه في "البيان" وأما الوجهان الأخيران فقد جزم بالثاني منهما سليم في "المجرد"، والقاضي حسين في "التعليق"، وابن الصباغ في "الشامل".

الباب الثالث: في الفسخ والتنازع

الباب الثالث: في الفسخ والتنازع قوله: ولو حبس العامل ومنعه من التصرف أو قال: لا قراض بيننا، ففي انعزاله وجهان: أشبههما: أنه لا ينعزل أيضًا. ذكرهما أبو العباس الروياني في "الجرجانيات" انتهى كلامه. وقد حذف النووي من "الروضة" هذا الترجيح ثم قال من "زياداته": ينبغي أن يكون الأصح في الحبس أنه لا ينعزل، وفي الإنكار أنه ينعزل. وما ذكره -رحمه الله- في الإنكار مشكل، بل ينبغي أن يكون كإنكار الوكالة، فإن حقيقة القراض أنه توكيل في التصرف، والصحيح فيه الفرق بين أن يكون لغرض أو لا، فلا اعتماد إذن على هذا الترجيح الواقع في "الروضة" لأنه مخالف لما في الرافعى, ومخالف للقواعد. قوله: فإذا مات المالك فأراد الوارث الاستمرار على العقد الأول فلهما ذلك بأن يستأنفا عقدًا وهل ينعقد بلفظ الترك والتقرير، بأن يقول الوارث أو القيم بأمره تركتك أو قررتك على ما كنت عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال الشيخ أبو محمد: لا، لأن التقرير يشعر بالاستدامة، وهذا ابتداء عقد. وأظهرهما عند الإمام: نعم، لفهم المعنى. انتهى. والصحيح هو الانعقاد، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة" ولم ينبه فيها على أنه من زياداته فتفطن له. وجزم القاضي الحسين بالصحة، إذا كان المقرر هو الوارث، وقال: إنه لا خلاف فيه. وقال فيما إذا صدر من القيم بأمره: إن الظاهر من المذهب عدم

الصحة، وعليه اقتصر في "الإبانة". قوله: وإن كان أي استرداد الطائفة من المال بعد ظهور الربح فالمسترد شائع ربحًا وخسرانًا على النسبة الحاصلة بين جملتي الربح ورأس المال، ويستقر ملك العامل على ما يخصه بحسب الشرط مما هو ربح منه فلا يسقط بالنقصان الحادث بعده. مثاله: رأس المال مائة، وربح عشرين، ثم استرد المالك عشرين، فالربح سدس المال يكون المأخوذ سدسه ربح، وهو ثلاثة دراهم وثلث، فيستقر ملك العامل على نصفه، إذا كان الشرط المناصفة وهو درهم وثلثان، حتى لو انخفضت السوق وعاد ما في يده إلي ثمانين لم يكن للمالك أن يأخذ الكل، ويقول كان رأس المال مائة وقد أخذت عشرين أضم إليها هذه الثمانين لتتم لي المائة، بل يأخذ العامل من الثمانين درهما وثلثين، ويرد الباقي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في آخر كلامه من كون العامل يأخذ مما في يده خارجة عن قواعدنا، وذلك لأنا لما جعلنا المسترد شائعًا لزم أن يكون نصيب العامل في عين المال المسترد إن كان باقيًا، وفي ذمة المالك إن كان تالفًا، ولا يكون متعلقًا بالمال الباقي، إلا بسبب يقتضي التعلق من رهن أو غيره، ولم يوجد ذلك حتى لو أفلس لم يتقدم به، بل يضارب. ولو فرضنا التعلق لم يكن شريكًا، بل لو فرضنا الشركة لم يستقل بالأخذ، بل لابد من الاجتماع على القسمة، ولو كان نصيب العامل منحصرًا فيما بقي في يده لكان إذا ربح ما اشترك بالثمانين يكون ما قابل حصة العامل منها عوضًا عن حصته في ربح القدر المسترد، وهو درهم وثلثان يختص به.

وربح ما عدا ذلك بين رب المال والعامل على ما شرطا؛ فينبغي تأويل كلام الرافعي. والغزالي في "الوسيط" ذكر كما في الرافعي، وأما في "البسيط" فكلامه يقتضي التعلق لا الشركة. فإنه قال له -أي للعامل- أن يرد المال وهو ثمانون إلى المالك، ولا يفوز به المالك ما لم يسلم إليه نصف سدس العشرين [أو شرط له ذلك. وفي بعض نسخه فله أي للعامل أن لا يرد المال وهو ثمانون إلى المالك، ما لم يسلم إليه نصف سدس العشرين] (¬1) وهو مثله أيضًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره صحيح إذا أخذ المالك العشرين بغير رضى العامل، فإن أخذها برضاه نظر إن قصد أخذه من رأس المال فيختص به، وكذا إن قصد الأخذ من الربح، وفي هذه الحالة يملك العامل مما في يده مقدار ذلك على الإشاعة. وإن أطلقا حمل على الإشاعة، وهل يكون نصيب العامل قرضًا أو هبة؟ فيه نظر، والأشبه الأول نبه على ذلك كله في "المطلب". قوله: ولو قال العامل: اشتريته لنفسي، وقال المالك: بل للقراض، فالقول قول العامل لأنه أعرف بقصده. قال في "المهذب": فلو أقام المالك بينة أنه اشتراه بمال القراض ففي الحكم بها وجهان وجه المنع أنه قد يشتري لنفسه بمال القراض متعديًا فيبطل البيع، انتهى كلامه. لم يصحح شيئا في "الروضة" أيضًا، والصحيح عدم الحكم. ¬

_ (¬1) سقط في ب.

فقد صححه الماوردي والشاشي والفارقي وابن عصرون في "المرشد". قال ابن عصرون: وترد العين إلى البائع، ويعاد الثمن إلى مال القراض، وجزم في "المطلب" بالحكم بالبينة وهو غريب، وكأنه لم يقف إلا على كلام الإمام، فإنه ذكر أن العامل إذا اشترى لنفسه بمال القراض لغت نيته ودفع القراض. قوله: ليس للعامل التصرف في الخمر شراء أو بيعًا خلافًا لأبي حنيفة في الذمي، فلو خالف واشترى ودفع المال في ثمنه عن علم فهو ضامن وإن كان جاهلًا فكذلك على الأشهر، بل في "التهذيب" وجه غريب أنه لا يضمن، وأبعد منه وجه نقله في "الشامل" أنه لا يضمن حالة العلم أيضًا، لأنه قصد الفضل أي الزيادة بحسب رأيه, انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يقتضي أن صاحب "الشامل" قد صرح بعدم الضمان مع العلم، وليس كذلك بل المذكور فيه حكاية وجه مطلق عن تعليق أبي حامد أنه لا يضمن، ولم يتعرض فيه لجهل ولا علم، وحينئذ فيمكن حمله على حالة الجهل. الأمر الثاني: أن محل هذا الوجه وهو عدم الضمان حالة العلم إذا كان العامل كافرًا، فإن كان مسلمًا ضمن قطعًا، كذا نقله في "زوائد الروضة" عن "البيان" وهو ظاهر.

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة وفيه بابان: الباب الأول: في أركانها قوله: وأما غير الكرم والنخل من الأشجار ففيها قولان: القديم: أنه يجوز المساقاة عليها للحاجة. والجديد: المنع. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما اقتضاه كلامه من رجحان المنع تبعه عليه في "الروضة" وأكثر كتبه فصحح المنع ولم يرجح خلافه. واختار في "تصحيح التنبيه" صحة المساقاة عليها. الثاني: أن محل المنع إذا أفردت هذه الأشياء بالمساقاة، فإن ساقى عليها تبعًا لنخل أو عنب ففيه وجهان في آخر باب المزارعة من الرافعي من غير ترجيح أصحهما في "الروضة" هناك أنه يجوز قياسًا على المزارعة فتفطن لذلك. الثالث: أنه قد ثبت في "صحيح مسلم" النهي عن تسمية العنب كرمًا (¬1). قال: ولا تقولوا: الكرم وقولوا: الحبلة يعني العنب فكان الأولى للمصنف ألا يعبر به. والحبلة بالحاء المهملة والباء الموحدة المفتوحتين، وربما جاء بتسكين الباء قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5828)، ومسلم (2247) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قوله: وإذا قلنا بالجديد ففي شجر المقل. وجهان. انتهى. والفتوى على الجواز، فقد نص عليه الشافعي -رحمه الله- كما نقل القاضي أبو الطيب وإطلاق "المحرر" و"المنهاج" و"الشرح الصغير" يقتضي المنع. وصرح به النووي في "زيادات الروضة" وهو مردود لما ذكرناه. قوله: والضرب الثاني: ما لا ثمر له كالدلب والصنوبر وما أشبههما فلا تجوز المساقاة عليها، وعن الشيخ أبي علي وغيره أنا إذا جوزنا المساقاة على غير النخيل والكرم من الأشجار المثمرة، ففي المساقاة على شجر الفرصاد وجهان تنزيلًا لأوراقها منزلة ثمار الأشجار، وكذلك في شجر الحلاق لأغصانها انتهى كلامه. أسقط من "الروضة" حكاية الخلاف في شجر الفرصاد فأشعر كلامه بالجزم بالمنع. والدُّلْب: بضم الدال المهملة، وإسكان اللام وبالباء الموحدة. والصنوبر: بفتح الصاد، قال الجوهري، والفرصاد: هو التوت الأحمر، كما قاله الجوهري، ولكن المراد هنا شجرة سواء أكان أحمرًا أم لا. قوله "في الروضة": وما يجز مرة بعد مرة فالمذهب المنع، وقيل وجهان. انتهى. لم يصرح الرافعي بحكاية طريقين، وإنما قال: نقل صاحب "التتمة" فيه وجهين الأصح الشهر والمنع هذا لفظه من غير زيادة عليه. قوله: ولو ساقى على وَدِي (¬1) مغروس، فإن قدر العقدة بمدة لا يثمر فيها في العادة لم تصح المساقاة لخلوها عن العوض، وفي استحقاقه أجر المثل الخلاف السابق أي في اشتراط جميع الثمرة للمالك، والأصح عدم ¬

_ (¬1) هو صغار النخل.

الاستحقاق. قال الإمام: هذا كان عالمًا بأنها لا تثمر فيها فإن جهل ذلك استحق الأجرة وجهًا واحدًا. انتهى. وما نقله عن الإمام من دعوى عدم الخلاف قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، وعبر بقوله قطعًا. ودعوى ذلك غلط منهما علي الإمام، فإنه قد حكى الخلاف في هذه الحالة أيضًا، ونقله عنه ابن الرفعة. قوله: المخابرة من الخبير وهو الأكار ويقال: هي مشتقة من الخبار، وهي الأرض الرخوة. انتهى. فأما الخبير فهو على وزن العليم. وأما الأكاز: فبهمزة مفتوحة وكاف مشددة وراء مهملة هو المزارع. وأما الخبار: فهو بفتح الخاء وتخفيف الباء، ولابد في تفسيره من قيد آخر. ذكره الجوهري فقال: الخبار الأرض الرخوة ذات الحجارة، وأيضًا فليس الأمر على ما يقتضيه كلامه من اشتقاق المخابرة من الخبير، بل صوابه العكس. قوله: ولو شرط للعامل نصف الثمرة وربع الزرع جاز على الأصح، وقيل: يشترط لأن التفصيل يزيل التبعية، انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على تصحيح الجواز وخالف في "نكت التنبيه". فقال: الأصح: المنع، والصواب: ما سبق. قوله: وإن كثر البياض المتخلل جازت المزارعة في أصح الوجهين. ثم قال: وهل النظر في الكثرة إلى زيادة النماء أو إلى مساحة البياض، ومساحة المغارس؟ فيه تردد للأئمة. انتهى.

لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" والصحيح: هو النظر إلى المساحة، كذا قاله في "الروضة". قوله: في "الروضة": الرابع: لو شرطا كون البذر من العامل فهي مخابرة والأصح منعها. ثم قال: ولو شرطا أن يكون البذر من المالك والبقر من العامل أو عكسه. قال أبو عاصم العبادي: فيه وجهان أصحهما: الجواز؛ إذا شرطا البذر على المالك لأنه الأصل فكأنه إكترى العامل وبقره قال: فإن جوزنا فيما إذا شرط البقر على المالك والبذر علي العامل، نظر إن شرط التبن والحب بينهما جاز، وكذا لو شرط الحب بينهما والتبن لأحدهما لاشتراطهما في المقصود. وإن شرط التبن لصاحب البذر، وهو مالك الأرض وشرط الحب للآخر لم يجز، لأن المالك هو الأصل فلا يمنع المقصود. وإن شرطا التبن لصاحب البذر وهو العامل فوجهان. ولا يجوز شرط الحب لأحدهما والتبن للآخر أصلًا. انتهى لفظه بحروفه. وما ذكره في آخر كلامه من أنه لا يجوز شرط أحدهما لأحدهما، والآخر للآخر أصلًا عجيب، فإنه داخل فيما قبله ومناقض له مناقضة عجيبة فتأمله. وكلام الرافعي صحيح، فإنه عبر بقوله: وقيل: لا يجوز شرط الحب لأحدهما والتبن للآخر أصلا. هذه عبارته وحاصلها طريقة قاطعة، فلما حكى الوجهين نقل عن بعضهم أنه لا يجوز أصلًا. قوله: وإذا لم نجوز المساقاة على ما سوى النخيل، والعنب من الشجر

المثمر منفردا ففي جوازها تبعًا للمساقاة كالمزارعة وجهان، انتهى. والصحيح كما قاله في "الروضة" هو الجواز كما سبق التنبيه عليه في أول الباب. قوله: وهل يشترط في المساقاة رؤية الحديقة والأشجار؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على قول بيع الغائب. وثانيهما: القطع بالاشتراط لأنها عقد غرر، وإيراد "الكتاب" يقتضي ترجيح هذه الطريقة. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" والصحيح: طريقة القطع، كذا صححها الماوردي والروياني والنووي في أصل "الروضة". قوله: ولو قال: ساقيتك على أن الثمرة بيننا أو على أن نصفها لي، وسكت عن الباقي، أو على نصفها لك وسكت عن الباقي، أو على أن ثمرة هذه النخلة أو النخلات لك أو لي، والباقي بيننا أو على أن صاعًا من التمر لك أولى والباقي بيننا فكل ذلك فاسد على ما مر في القراض، انتهى كلامه. هكذا وقع في أكثر نسخ "الشرح الكبير" أعني التعبير بقوله: فكل ذلك فاسد إلى آخره. وهو غلط فإنه قد سبق في القراض أن بعض هذه الصور فاسد، وبعضها صحيح، فيصح فيما إذا قال: بيننا، فيما إذا قال: على أن لك النصف ويفسر في الباقي. وعبر في "الشرح الصغير" و"الروضة" بقوله: وكل ذلك كما مر في القراض وهو صحيح. قوله: كالصيحاني (¬1) والدقل .. إلى آخره. ¬

_ (¬1) الصيحاني: قال الأزهري: الصيحاني ضرب من التمر أسود صلب المضغة، وسمي صيحانيًا؛ لأن صيحان اسم كبش كان ربط إلى نخلة بالمدينة فأثمرت تمرًا صيحانيًا.

الدقل: بدال مهملة مفتوحة وقاف مفتوحة أيضًا هو أردأ التمر، قاله الجوهري. قوله: ولو شرط في المساقاة مساقاة أخرى فهو فاسد. ثم قال: وهل تصح المساقاة الثانية؟ قال في "التهذيب": إن عقدها على شرط العقد الأول فلا تصح وإلا فتصبح، وقد مر نظيره في الرهن. انتهى كلامه. وهذه المسألة ونظائرها فيها اضطراب شديد أوضحته في كتاب البيع من الباب الثالث المعقود للفساد من جهة النهي. قوله: ولو شرط له -أي: للعامل- جميع الثمار فسد، وفي الأجرة وجهان، لأنه لم يعمل له، إلا أنه انصرف إليه، انتهى. وأصح الوجهين هو: الاستحقاق، كذا قاله في "الروضة". قوله: ولو شرط استئجار العامل من يعمل معه من الثمرة بطل العقد؛ لأن قضية المساقاة أن تكون الأعمال ومؤناتها على العامل، ولأنه لا يدري أن الحاصل للعامل كم هو، حتى لو شرط له ثلثي الثمرة ليصرف الثلث إلى الأجراء ويخلص الثلث له فعن القفال أنه يصح، انتهى كلامه. وقد تلخص مما نقله الرافعي عن القفال أن صورة المنع أن لا يدري العامل نصيبه، كما لو أطلق الاستئجار من الثمرة، لأن الأجرة قد تستغرق نصيبه. فأما إذا بين مقدار ما يصرفه إلى الأجراء من نصيب فإنه يصح، وذلك كالمثال الذي ذكره الرافعي، فيقول الرافعي: حتى ولو شرط .. إلى آخره تفسير كما دلت عليه العلة الثانية فاعلم ذلك. وقد أطلق في "الروضة" منع الاستئجار من الثمرة وحذف هذه المسألة المنقولة عن القفال، وكأنه اشتبه عليه المراد.

قوله: في أصل "الروضة": ولو فارق بين الجزء المشروط في السنين لم يصح على المذهب، وقيل: فيه قولان كالسلم إلى آجال، انتهى. وما نقله عنه ههنا من التعبير بقوله لم يصح هو الموجود في نسخ "الروضة" ورأيته أيضًا كذلك في النسخة التي هي بخط مؤلفها - رضي الله عنه -، وهي عكس ما في الرافعي، فإن المذكور فيه هو الصحة. وعبر بقوله: لم يصر فتحرف ذلك على الشيخ محي الدين ثم أن البطلان لا توجيه له من جهة المنع، ولم يذكر المسألة في "الشرح الصغير"، ولا في "المحرر" وقد نقله ابن الرفعة أيضًا على الصواب. قوله: ويخالف ما لو ساقاه على ودي عشر سنين والثمر لا يتوقع إلا في العاشرة ليكون بينهما، فإنه يصح، لأنه شرط له سهمًا من جميع الثمرة ولو أنه أثمر قبل سنة التوقع لم يستحق العامل فيها شيء، انتهى كلامه. أسقط النووي -رحمه الله- هذه المسألة كلها من "الروضة". قوله: ولو تعاقد بلفظ الإجارة فقال المالك: استأجرتك لتتمر نخيلي بكذا من ثمرها ونوى بالإجارة المساقاة ففيه وجهان جاريان في الإجارة بلفظ المساقاة. أحدهما: الصحة لما بين العقدين من المشابهة واحتمال كل واد من اللفظين معنى الآخر. وأظهرهما: المنع لأن لفظ الإجارة صريح في غير المساقاة، فإن أمكنه تنفيذه في موضوعه نفذ فيه، وإلا فهو إجارة فاسدة. والخلاف نازع إلى أن الاعتبار باللفظ أو المعنى، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تصحيحه عدم الإنعقاد مشكل مخالف للقواعد، فإن الصريح في بابه إنما يمتنع أن يكون كناية في غيره، إذا وجد نفاذًا في موضعه

الباب الثاني: في أحكام المساقاة

كما إذا قال لزوجته: أنت علىَّ كظهر أمي، ونوى الطلاق فإنها لا تطلق، بل يقع الظهار كما ذكرناه، بخلاف ما إذا قال لأمته: أنت طالق، ونحوه، أو قال لامرأته: أنت حرة، أو قال: وهبتك هذا بعشرة، فإنه يكون كناية لأنه لم يجد نفاذًا في موضوعه. ومسألتنا هنا كذلك فتعين الذهاب إليه. الأمر الثاني: أن في العكس إنما يأتي في الأشجار خاصة كما إذا قال: ساقيتك على تعهد أشجاري بمائة أو بألف، أما في الدار ونحوها فلا يأتي فيه ذلك. الباب الثاني: في أحكام المساقاة قوله: فكل ما يحتاج إليه الثمار لزيادتها وإصلاحها ويتكرر كل سنة فهو على العامل، وذلك كالسقي وتنقية الآبار والأنهار من الحمأة وتكريب الأرض في المزارعة وجعل العنقود في القوصرة والفدان في المزارعة، وقيل تنقية النهر على المالك كحفره وقيل على من شرطت عليه، فإن أطلق العقد فسد, انتهى. الحمأة بتسكين الميم هو الطين، تقول حمأة البئر بتسكين الهمز حمأ إذا نزعت حمأتها وتحرف على النووي الحمأة بالحجارة فعبر بها في "الروضة" والتكريب بالباء الموحدة في آخره كقولك: كربت الأرض إذ قلبتها للحرث، وفي المثل الكراب على البقر ويقال: الكلاب والقوصرة، بتشديد الراء، والفدان بفاء مفتوحة ودال مهملة مشددة آلة الثورين الحرث. وقال أبو عمر: هي البقرة التي تحرث، قاله الجوهري. قوله: والناطر والناطور: حافظ الكرم، والجمع: النواطير، وذكر أن النطرة هي الحفظ بالعين، انتهى. كان ينبغي أن يقول: الجمع النواطر والنواطير، لأن الناطر تجمع بغير

مدة قبل آخره لانتفاء المدة في مفرده قبل الأخير، كما يقول ضارب وضوارب، والناطور يجب فيه المدة لوجودها قبل آخره، كما تقول: عواميد في عمود وعامود فاقتصار الرافعي على واحد غير مستقيم. نعم: جوز الكوفيون تعاقبهما على ما وجدت فيه المد، وما لم يوجد فيه. قوله: وقد يقال: ناظور، بالظاء المعجمة. انتهى. إلا أنهما ليسا لغتين كما تلخص من كلام الجوهري فإنه جعل ما فيه المهملة، لحافظ الكرم، وما فيه المعجمة للحافظ مطلقًا. قوله: في أصل "الروضة": وفي حفظ الثمار وجهان: أصحهما: على العامل لحفظ مال القراض. والثاني: على العامل والمالك، انتهى. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد رجح أيضًا ما رجحه المصنف. فقال: إنه الأظهر لكنه مع ذلك جعل الثاني أقيس، فقال: وأقيسهما كذا وكذا فاعلمه. قوله: وفي ردم الثلم اليسيرة ألف تنفق في الجدران وجهان. الأشبه: اتباع العرف، فكذلك في وضع الشرك على رؤوس الجدران وجهان، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الوجهين اللذين أطلقهما أحدهما ويوجبه علي المالك والآخر علي العامل، كذا صرح به الإمام والغزالي في "البسيط"، وهو مقتضى ما في "الوسيط"، وأشار إليه الرافعي أيضًا بقوله: كما في تنقية الأنهار، وحينئذ فالذي قاله الرافعي بحثًا، وهو اتباع العرف كالمتوسط بين

الوجهين. وعبر في "الروضة" بقوله: وجهان كسقية الأشجار، والأصح اتباع العرف فاقتضى ذلك ذهاب جماعة إليه وأنه المعروف، وليس كذلك. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد صحح في المسألة الثانية اتباع العرف أيضًا، ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له فإن كلام الرافعي إنما يقتضي إثبات وجهين فقط فوقع في ما قبله بزيادة. قوله: ولو فعل العامل ما على المالك بلا إذن لم يستحق شيئًا، وإن فعله بإذن المالك استحق الأجرة، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" لكن مجرد الإذن لا يقتضي الأجرة، فالمتجه تخريجه على ما إذا قال: اغسل ثوبي ولم يذكر له أجرة، والصحيح فيه عدم الاستحقاق. قوله في الكلام علي هرب العامل: وإذا أنفق المالك بغير إذن الحاكم ليرجع ففيه وجهان: وجه المنع [أنه متهم] (¬1) في حق نفسه، انتهى. لم يصرح بتصحيح في "الشرح الصغير" ولا في "الروضة" أيضًا، والصحيح هو: الجواز؛ فإنه الصحيح في نظيره في هرب الجمال وترك الجمال، والحكم فيه وفي هرب العامل واحد. وقد أحال الرافعي كثيرًا من مسائل ذاك على هذا. قوله: التهاتر. هو بتائين مثناتين وبالراء المهملة هو التساقط. قوله: في أصل "الروضة" ومتى تعذر إتمام العمل بالاستقراض وغيره، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وخرجت الثمرة ولم يبد صلاحها تعذر بيع نصيبه وحده, لأنه شرط القطع والقطع في المشاع لا يكفي، وحينئذ فإما أن يشتري المالك نصيبه فيصح علي الأصح في أن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لصاحب الشجرة يكفي عن اشتراط القطع، انتهى. وما صححه من أن البيع للمالك يصح بدون هذا الشرط سهو لم يذكره الرافعي، بل الصحيح المذكور في بابه أنه لا يكفي كما تقدم التنبيه عليه هناك. قوله: وهذا كله تفريع على أنه لا يثبت الفسخ بعد خروج الثمرة، وهو الذي أورده الأكثرون. وفي "المهذب" أنه يفسخ، وتكون الثمرة بينهما لكن لا يفرض للفسخ بعد خروج الثمار فائدة. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الفائدة تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، بل للفسخ فوائد: إحداها: أنه لو لم يفسخ يصير متطوعًا بالباقي عن العمل، ويأخذ العامل حصته عن الثمرة كما هو مصرح به في "الحاوي". الثانية: نبه عليه في "الكفاية" تمكينه بعد الفسخ من المساقاة عليها على جزء من ثمرة نفسه على رأي، بخلاف ما إذا لم يفسخ، فإنه لا يقدر علي ذلك. الثالثة: أنه قد يكون العقد متناولًا لشيئين فيتمكن بعد الفسخ من المساقاة في العام القابل قطعًا. الرابعة: إذا حصل الفسخ بعد خروج الثمرة فهل يشترك العامل والمالك فيها، أم يكون للمالك وللعامل أجرة المثل؟ فيه خلاف مشهور في المذهب، فالذي ذهب إليه جماعة كثيرة منهم الإمام والغزالي: أنه يستحق أجرة ما

مضى، وعلله الغزالي بأن الثمرة ليست معلومة المقدار في أول العقد حتى يقتضي العقد فيها توزيعا، ثم إن للخلاف في تلك الثمرة مدتكين آخرين: أحدهما: تعدي الفسخ إلى ما مضى حكاه الماوردي. والثاني: أن الثمرة هل تملك بالظهور أم بالقسمة؟ وقد حكاه ابن يونس شارح "التنبيه" وهذ كلها فوائد للفسخ. قوله: والسعف هو أغصان النخل واحدة سعفة بالفتح، انتهى. هو بالسين والعين المهملتين المفتوحتين. قوله: الثاني إذا انقطع ماء البستان، وأمكن ردة ففي التكلف المالك ذلك وجهان: أحدهما: لا كما لا يجبر أحد الشريكين على العمارة. والثاني: نعم، كما إذا استأجر لقصارة ثوب بعينه يكلف تسليمه إليه، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من هذين الوجهين أنه لا يكلف كذا قاله في "الروضة". الثاني: أن الإجبار على تسليم الثوب المستأجر على قصارته فيه اضطراب يأتيك مبسوطا في أثناء الباب الأول من أبواب الإجارة. قوله: في "الروضة": ولو قال اعلف هذه البهيمة من عندك ولك نصف درها ففعل وجب ذلك النصف على صاحب الشاة. والقدر المشروط من الدر لصاحب العلف مضمون في يده لحصوله بحكم بيع فاسد، والشاة غير مضمونة لأنها غير مقابلة بالعوض. انتهى. وتعبيره في أوائل كلامه بقوله بذل النصف شاهدته بخطه كما هو مذكور

أيضًا في النسخ، ومعناه بذل نصف العلف، فإنه لا يمكن حمله على اللبن لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى. وما ذكره مخالف لما في الرافعي، فإن فيه الجزم بإيجاب الجميع. فقال: وجب بدل "العلف" هذا لفظه فتحرف العلف بالنصف، والصواب ما في الرافعي فإنه إنما بذل العلف بعرض لم يسلم له، فوجب له بذل جميعه وقد ذكر الرافعي في باب العارية مسائل متعلقة بمسألتنا. قوله فيها أيضًا: فصل: بيع الحديقة التي ساقى عليها. . . . إلى آخره. هذه المسألة ذكرها الرافعي في آخر الإجارة، ولكن نقلها النووي إلي ههنا، وسيأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله تعالى.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها قوله: وذكر الشاشي في "الشامل" أنه يقال: أجارة بالضم أيضًا. ويقال: استأجرت دار فلان وأجرني داره ومملوكه يؤجرهما إيجارًا فهو مؤجر وذاك مؤجر، ولا يقال: مؤاجر ولا آجر. أما المؤاجر فهو من قولك أجر الأجير مؤاجرة، كما يقال: ضارعه وعامله، وآجر هذا فاعل وأجر داره، أفعل لا فاعل فلا يجئ فيه بفاعل، وأما الأجر فهو فاعل. كقولك: أجره بأجرة وبأجرة أجره إذا أعطاه أجرًا وقولك: أجره بأجرة إذا صار أجيرًا، انتهى كلامه وهو يحتاج إلي إيضاح. فأما قوله: ولا يقال مؤاجر ولا أجر فهو بكسر الجيم، فيهما يعني أنه لا يقال في اسم الفاعل من أجرني داره ومملوكه إلا مؤجر كما ذكرناه. ولا يقال مؤاجر ولا آجر، ثم استدل عليه بما ذكره، وإذا لم يصح في اسم الفاعل مؤاجر بكسر الجيم لا يصح في العبد ونحوه. مؤاجر أيضًا بفتحها فكذلك يجوز قراءتها في كلام الرافعي بالمعنيين، وما ذكره من نفي مؤاجر ليس كذلك، بل قد ثبت عن العرب. كذا نقله الواحدي، ونقله عنه النووي في "لغات التنبيه". فقال: قال الواحدة: قال المبرد: يقال أجرت داري ومملوكي، غير ممدود وآجرت ممدود. قال المبرد: والأول أكثر.

وقال الأخفش: ومن العرب من يقول: أجرت غلامي أجرًا، فهو مأجور وأجرته إيجارًا فهو مؤجر وآجرته علي فاعلته فهو مؤاجر هذا كلامه. وأما قوله: وأجر هذا فاعل فهو بفتح الجيم وهو مبتدأ وهذه صفة له، وفاعل مفتوح العين وهو خير له يعني أنه لما تقرر أن مؤاجر لا يكون إلا لفاعل المفتوح العين صح ذلك في قولنا: أجر الأجير، لأن وزن آجر منه فاعل، ولم يصح في أجر داره وزن أجر منه أفعل. وأما قوله: وأما الآجر. . إلى آخره، فهو بيان لامتناع اللفظة الثانية فذكر ما حاصله أن آجر أي مكسور الجيم اسم فاعل لأجر إما بمعنى إعطاء الأجر أو بمعنى صار أجيرًا لأن وزنه فيهما فعل كما تقدم، واسم الفاعل من فعل فاعل وأما أجر من قولك أجر داره فوزنه أفعل، وقياس أفعل مفعل. قوله: وأصل هذا العقد من "الكتاب" قوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وقضية موسى وشعيب -عليهما السلام-: انتهى كلامه. فأما الآية الأولى فإنما تدل على أنه إذا وقع الإرضاع وجبت الأجرة، وليس فيها تعرض إلى صحة العقد وجواز تعاطيه. ألا ترى أن المسجد تجب أجرته على من أشغله بأمتعته ولا تصح إجارته. وأما الآية الثانية: فاستدلاله بها يدل على اختياره أن شرع من قبلنا شرع لنا، والمسألة فيها قولان: أصحهما: وهو مقتضى كلام عامة الأصحاب أنه ليس بشرع، كذا ذكره في "كتاب الأطعمة"، وتابعه عليه في "الروضة". قوله: فعن أبي إسحاق وغيره أن المعقود عليه العين لتستوفي منها المنفعة لأن المنافع معدومة وقال المعظم: العين غير معقود عليها، لأن العين

لا يجوز التصرف فيها. ثم قال: ويشبه أن لا يكون ما حكيناه خلافًا محققًا انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على أنه خلاف لفظي لا فائدة له، وليس كذلك بل له فوائد: إحداها: إذا لم يقبض العين المستأجرة، ثم أراد إجارتها لغير مؤجرها، فإنه فيه خلافًا مشهورًا وهو من ثمرة هذا الخلاف، فقد بناه الماوردي في "الحاوي" عليه. قال: فإن قلنا: مورد الإجارة العين، لم يصح لعدم قبضها. وإن قلنا: المنفعة، صح لأن المنافع لا تصير مقبوضة بعد قبض العين فلم يؤثر فيها القبض. الفائدة الثانية: أن الخلاف المشهور في استئجار الكلب من ثمرة هذا الخلاف، كذا رأيته في باب بيع الكلاب من "تعليقه" القاضي حسين وفي كتاب البيع من كتاب "الأسرار" له أيضًا، ونقله ابن الرفعة هنا في "شرح التنبيه" عن الجبلي فقط، مع نقله له في البيع في "شرح الوسيط" عن القاضي، واستدرك الإمام هذا البناء وقال: إنه لا يتجه لأنه ينتقض ببدن الجزء فإن إجارته صحيحة قولًا واحدًا. وخرج أيضًا عليه ابن الرفعة في "شرح الوسيط" الخلاف في استئجار الكافر العبد المسلم. الفائدة الثالثة: إذا اقترض عينًا وقلنا لا تملك إلا بالتصرف، فقد اختلفوا فيه فقيل: المراد التصرف المزيل للملك، وقيل: المتعلق بالرقبة، وقيل: المستدعي للملك. وقال الرافعي: فلا تكفي الإجارة على الوجه الأول ولا على الثاني. والذي قاله موافق للمصحح هنا من أن المعقود عليه هو المنفعة، فإن قلنا

المعقود عليه هو الرقبة فقد وجد ضابط الوجه الثاني فيكفي عند القائل به. الفائدة الرابعة: ذكرها ابن الرفعة بحثًا فقال: وقد حكى في "البحر" وجهًا أن حلي الذهب لا يجوز إجارته بالذهب، وحلي الفضة لا يجوز إجارته بالفضة. ثم قال -أعني: ابن الرفعة- إنه لا يظهر له وجه إلا التخريج على مذهب أبي إسحاق. قال: وإذا كان كذلك فقد صار خلافًا محققًا ونشأ منه الاختلاف في هذا الفرع. قوله: ولو قال: ملكتك منفعتها شهرًا، جاز ولو قال: بعتك، فوجهان: أحدهما: يجوز لأن الإجارة صنف من البيع. وأظهرهما: المنع لأن البيع موضوع لملك الأعيان فلا يستعمل في المنافع، كما لا ينعقد البيع بلفظ الإجارة. ثم قال: ووراءه شيئان غريبان: أحدهما: أن هذين الوجهين قد طردهما صاحب "التهذيب" في التمليك. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه كالصريح في عدم الانعقاد بلفظ البيع مع النية أيضًا، كما في البيع بلفظ الإجارة ولا شك في بطلانه، بل ينبغي كونه صريحًا لأن مقتضى كونه صنفًا جواز البيع به، وإن كان البيع أعم كالبيع مع التمليك. الأمر الثاني: أن كلامه صريح في أن التمليك طريقين: أشهرهما: القطع بالصحة، والثاني على وجهين. ولم يتعرض في "الروضة" لحكاية هذين الطريقين، بل جزم بالطريقة

الضعيفة وهي طريقة الوجهين وهو غريب جدًا. قوله: وهل تغني مشاهدة الأجرة عن معرفة القدر؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين في رأس مال السلم. والثاني: القطع بالجواز، وكيف ما كان فالظاهر: الجواز. انتهى. والصحيح على ما ذكره الشيخ في "التنبيه" والغزالي في "الوجيز" طريقة القطع، وكلام "الروضة" يوهم تصحيحها أيضًا. فإنه قال: فيه طريقان: أحدهما: على قولي رأس مال السلم. والثاني: القطع بالجواز وهو المذهب هذا لفظه. قوله: فإن تعاقدا على الذمة بلفظ الإجارة ففي اشتراط قبض الأجرة في المجلس وجهان بنوهما على أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى؟ اختار مختارون اعتبار اللفظ. وأصحهما: عند العراقيين والشيخ أبي علي اعتبار المعنى، وتابعهم صاحب ["المهذب"] (¬1) لكنه لا يلائم مصيره في ما إذا أسلم بلفظ الشراء إلى أن الأصح اعتبار اللفظ انتهى ملخصًا. ذكره نحوه في "الشرح الصغير" وكذلك في "الروضة" وفي المسألة كلام ينبغي الوقوف عليه سبق ذكره في السلم. قوله: إحداها ذكر الغزالي أن استئجار تفاحة للشم فاسد، وكأن المنع ناشيء من أن التفاحة لا تقصد للشم فيكون استئجارها كشراء الحبة الواحدة من الحنطة، فإن كثر فالوجه الصحة لأنهم نصوا على جواز استئجار المسك والرياحين للشم، ومن التفاح ما هو أطيب من كثير من الرياحين. انتهى. لقائل أن يقول الفرق أن المقصود من المسك والرياحين هو الشم فجازت ¬

(¬1) في ب: "التهذيب".

إجارته لذلك والمقصود من التفاح الأكل والرائحة غير مقصودة. قوله: وفي استئجار الدراهم والدنانير وجهان، أصحهما: المنع. ثم قال: وأما استئجار الأطعمة لتزيين الحوانيت بها فكلام المصنف هنا وفي"الوسيط" يقتضي القطع بمنعه، وكذلك ذكره القاضي الحسين وعن الإمام وغيره أنه على الوجهين، انتهى كلامه. والأصح طريقة الوجهين، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر، وصحح النووي في "الروضة" طريقة القطع ولم ينبه على أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: والوجهان -أي: في الدراهم والدنانير- جاريان في استئجار الأشجار لتجفيف الثياب عليها والوقوف في ظلها وربط الدواب بها، لأن الأشجار لا تقصد لهذه الأغراض، وذهب بعضهم إلي أن الأصح: الصحة ههنا. انتهى كلامه. لقائل أن يقول: كيف يتصور الخلاف في استئجار الشجرة للوقوف في ظلها؟ لأن الأرض التي يقف فيها المستأجر إن كانت رقبتها أو منفعتها ملكًا له فليس لصاحب الشجرة المنع من الوقوف فيها، وهو واضح، وإن كانت مباحة فكذلك، وإن كانت لصاحب الشجرة فالاستئجار في هذه الحالة صحيح بلا خلاف، لأنه استئجار على الاستقرار في هذه الأرض. فما صورة الخلاف؟ وجوابه: أن يقال: يتصور في ما إذا كانت الأرض مباحة أو للمستأجر وكانت الأغصان مائلة إلى ملك صاحب الشجرة، وأمكن تمييلها إلى الأرض المذكورة فاستأجرها على الوقوف في ظلها بأن يميلها إلى ناحيته. وكذلك إذا كانت الأغصان مائلة إلى الأرض التي يقف فيها المستأجر فاستأجرها ليمتنع المالك من قطعها.

قوله: الثانية الاستئجار لإرضاع الطفل جائز وتستحق به منفعة وعين، فالمنفعة أن تضع الصبي في حجرها وتلقمه الثدي، وتعصره بقدر الحاجة والعين هو اللبن الذي يمتصه الصبي. وفي الأصل الذي يتناوله هذا العقد وجهان: أحدهما: أن الأصل اللبن وأما فعلها فتابع لأن اللبن مقصود لغيره وفعلها طريق إليه. وأصحهما: أنه فعلها واللبن يستحق تبعًا، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، علق الإجارة بفعل الإرضاع لا باللبن. انتهى كلامه. وما ذكره من أن الأصل هو الفعل واللبن تبع قد ذكر ما يخالفه في أوائل الباب الثاني. فقال: في ما إذا استأجرها للحضانة والرضاع أو لأحدهما وقلنا: الآخر يتبع فانقطع اللبن، أن فيه ثلاثة أوجه مبنية على أن المعقود عليه في الإجارة ماذا؟ أحدها: أنه اللبن والحضانة تابعة، فعلى هذا ينفسخ العقد بانقطاعه. والثاني: الحضانة واللبن تابع فلا ينفسخ. ثم قال ما نصه: وأصحهما أن المعقود عليه كلاهما لأنهما مقصودان، فعلى هذا ينفسخ العقد في الإرضاع ثم قال: وحسن أن يفرق فيقال: إن صرح فمقصودان وإن ذكر أحدهما فهو المقصود والآخر تابع، انتهى. فلم يذكر هناك ما صححه هنا بالكلية، وتبعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: ثم إن استأجرها للحضانة مع الإرضاع جاز، وإن استأجرها

للحضانة ونفي الإرضاع فكذلك في الأصح. ثم قال ما نصه: قال الإمام: وهذا الخلاف في ما إذا قصر الإجارة على صرف اللبن إلى الصبي، وقطع عنه وضعه في الحجر ونحوه. فأما الحضانة بالتفسير الذي سنذكره أي تحفظ الصبي ونحوه فلا خلاف في جواز قطعه عن الإرضاع. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من نفي الخلاف وارتضاه تبعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك، فقد صرح القاضي الحسين بجريان الخلاف في الحضانة بالتفسير المذكور، ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: الرابعة استئجار القناة للزراعة بمائها جائز لأنا إن قلنا الماء لا يملك فكالشبكة للاصطياد، وإلا فالمنابع آبار الماء، وقد جوزوا استئجار بئر الماء للإسقاء، والتي بعدها مستأجرة لإجراء الماء فيها. وقال الروياني في "الحلية": إذا أكثر إقرار القناة ليكون أحق بمائها جاز في وجه وهو الاختيار، والمعروف منعه، ومقتضى لفظه أن يكون تفريعا على أن الماء لا يملك. انتهى كلامه. وتعبيره في آخره بقوله: أجاز في وجه، هو الصواب وهو كذلك في كلام الروياني وفي "الروضة" التي هي بخط المصنف وتقع في كثير من النسخ، وفي وجه بزيادة "الواو"، وهو خطأ، وفي كلام الرافعي هنا بعض غموض فلنوضحه فنقول: القناة هو الموضع الذي ينبع فيه الماء. وقوله: فالمنابع آبار الماء أي المنفعة المعقود عليها هو نفس الآبار الذي نبع فيها الماء. وقوله: والتي تغذها -أي: المجاري التي تغذ القناة، وقوله: وقال الروياني هو الكلام السابق بعينه، إلا أنا إستفدنا منه جريان الخلاف. قوله: واستئجار من لا يحسن القرآن ليعلمه باطل قال في "الوسيط": فإن

وسع عليه وقتًا يقدر فيه على التعلم قبل التعليم ففيه وجهان: والأصح: المنع لأن المنفعة مستحقة من عينه والعين لا تقبل شرط التأجيل. انتهى. اعلم أن الإمام -رحمه الله- حكى هذين الوجهين في باب الجعل والجعالة عن كتاب الصداق عن العراقيين، ثم قال: ومحلهما إذا كان يحسن مقدارا يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالعين واردة على مدة تتسع للتعلم والتعليم، أما إذا لم تكن مدة وكان لا يحسن شيئا البتة فلا وجه إلا القطع بفساد الإجارة لتحقق العجز عن المستحق في الحال هذا كلامه، نقله في "الوسيط" إلى هذا الموضع. وقد علمت مما قاله الإمام أنه إذا كان يحسن شيئا جرى الوجهان أيضا، وإن لم يتسع الوقت وهذه الصورة واردة على ما نقله الرافعي، والتصحيح المذكور للغزالي لا للرافعي فاعلمه. قوله في "الروضة": ولو استأجر أرضا للزراعة وعليها الماء فإن رجى انحساره وقت الزراعة بالعادة صحت الإجارة على المذهب، وقيل إن لم ير الأرض لم يصح في قول، انتهى ملخصا. وحاصله: أنه إذا لم ير الأرض ففيه طريقان: أصحهما: القطع بالصحة. والثانية: على قولين ولم يصحح الرافعي شيئا من الطريقين بل حكاهما. ثم قال: والظاهر الصحة سواء أجرينا القولين أم لا. قوله: فأشبه ما إذا استأجر دارًا مشحونة بالأمتعة يمكن الاشتغال بنقلها في الحال، فإنه يجوز على الأظهر، إلا أن الشيخ أبا محمد حكى وجها في المنع، انتهى كلامه. وسيأتي في آخر الإجارة ضابط النقل في الحال فراجعه.

قوله: ولو أجر داره سنة من زيد ثم أجرها منه أيضا السنة الثانية، فالأصح المنصوص الجواز، وحكى أبو الفرج السرخسي طريقة قاطعة بالمنع ثم قال: فلو انفسخ العقد لم يقدح في الثاني لأنه عارض. انتهى ملخصًا. وهذه المسألة الأخيرة من المسائل المهمات، وقد أسقطها من "الروضة"، وأسقط أيضا طريقة القطع لأن الرافعي ذكرها في الكلام على "الوجيز". قوله: والحجامة وبزغ الدابة. البزغ بالباء الموحدة المفتوحة والزاء الساكنة والغين المعجمة، واصلة الشق، ولهذا يقال بزغت الشمس إذا طلعت. والمراد هنا فتح الماء إذا نزل في الحافر يقال بزغ البيطار بالتشديد، وقد سبق الكلام على هذه اللفظة في الرهن أيضا. قوله: وإذا استأجره لقلع سنن موجعة ثم امتنع المستأجر من قلعه. قال في "الشامل": لا يجبر عليه إلا أنه إذا سلم الأجير نفسه، ومضى مدة إمكان العمل وجب على المستأجر الأجرة ثم ذكر القاضي أبو الطيب أنها لا تستقر انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن مقتضى هذا الجزم بأن المستأجر لا يجب عليه أن يسلم إلى الأجير العين التي استأجره ليعمل فيها، وذكر أيضا مثله في القسم الثاني من الباب الثالث. فقال: في الكلام على ما إذا استأجره لخياطة ثوب ما نصه: ولو بدا له في قطع الثوب العين وهو باق قال الإمام: المتجه أنه لا يجب عليه الإتيان لأنه قد نسج له عرض في الامتناع، لكن تستقر الأجرة عليه إذا سلم الأجير نفسه انتهى. وهو كالأول في عدم الإجبار على التسليم، ولم يذكر في كتاب الإجارة

ما يخالفهما، وجزم في آخر كتاب المساقاة بعكسه، وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه وذكر أيضا نحوه في الكلام على حكم المبيع قبل القبض، وقد تقدم ذكره هناك أيضا. وفي منع البيع كلام آخر يأتي في آخر الإجارة. الأمر الثاني: أن ما قاله صاحب "الشامل" من استقرار الأجرة بالتسليم، قد اقتصر عليه الرافعي في "الشرح الصغير" ومقتضاه رجحان الاستقرار. ولم يصرح في "الروضة" أيضا بترجيح، ونقل من زياداته عن "البيان" كما في "الشامل". الأمر الثالث: إن ما نقلناه في هذه المسألة من الكلام المتقدم صريح في عدم وجوب التسليم وإن فرعنا على أن الأجرة لا تستقر بتسليم نفسه لكنه صرح بعد ذلك بقليل في أثناء فرع بأنه يجبر عليه. فقال: إذا قلنا لا تستقر الأجرة بالتسليم فيرفع الأمر إلى الحاكم ليجبره عليه. قوله: في أصل "الروضة": أما الزوج فيجوز استئجاره لامرأته إلا إذا استأجرها لإرضاع ولده منها ففيه وجهان: أحدهما: المنع وبه قطع العراقيون، وأصحهما: الجواز انتهى كلامه. وما ادعاه من قطع العراقيين غريب فإن "التنبيه" من كتب العراقيين المشهورة، وقد حكى فيه في باب نفقة الأقارب وجهين من غير ترجيح، وحكاهما أيضا في "المهذب"، وكذلك صاحب "البيان". وقد أعاد الرافعي المسألة في باب نفقة الأقارب فراجعها من ذلك الموضع، فقد ذكرنا فيها أمورا يتعين الوقوف عليها. قوله: ولو أجرت نفسها ولا زوج لها، ثم نكحت في المدة فالإجارة بحالها وليس للزوج منعها من ترفيه ما التزمته، كما لو أجرت نفسها بإذنه،

ولكن يستمتع بها في أوقات فراغها. انتهى كلامه. قال الماوردي: في كتاب النفقات من "الحاوي" وللزوج الخيار إذا كان جاهلا لفوات الاستمتاع عليه بالنهار ولا يسقط خياره برضى المستأجر بالخيار. قوله: في "الروضة": فإن جمع بين التقدير بالعمل والزمان فقال استأجرتك لتخيط لي هذا القميص اليوم فوجهان أصحهما: بطلان العقد، والثاني: صحته. وعلي هذا فوجهان: أصحهما: يستحق الأجرة بأسرعهما فإن انقضى اليوم قبل تمام العمل استحقها، وإن تم العمل قبل تمام اليوم استحقها. والثاني: الاعتبار بالعمل فإن تم أولا استحقها، وإن تم اليوم أولا وجب إتمامه، فإن قال: إنك إن فرغت قبل تمام اليوم لم تخط غيره بطلت الإجارة، لأن زمن العمل يصير مجهولًا، انتهى. وهذا الذي ذكره في آخر كلامه لا يستقيم مع ما قبله لأن الحكم ببطلان العقد لا يستقيم تفريعه على شيء من الوجهين اللذين قبله، لا على اعتبار الأسرع ولا على اعتبار العمل، وهذا الغلط الذي وقع في "الروضة" سببه سقوط شيء من كلام الرافعي، وذلك أن الرافعي بعد ذكره الوجهين قال ما نصه: وبالأول أفتى القفال، وذكره أنه إن انقضى النهار أولًا لم تلزمه خياطة الباقي، فإن تم العمل أولا فللمستأجر أن يأتي بمثل ذلك القميص ليخيطه باقي النهار. فإن قال في الإجارة: على أنك إن فرغت قبل تمام اليوم لم تخط غيره بطلت الإجارة. هذا كلامه فاستفدنا منه وجها ثالثًا لم يذكره النووي أن الاعتبار بالزمان، ثم فرع الرافعي على هذا الوجه ما سبق ذكره وهو صحيح من

هذا الوجه لكن في كلام الرافعي إشكال من وجه آخر، وهو أنه قد ذكر أن القفال أفتى بالأول ثم فرع ما بعده عليه، وهو غير ملائم وكأنه سقط شيء من كلام الرافعي وأصله. وذكر وجهًا آخر أنه إن انقضى النهار إلى آخره، وهذا هو السبب في وقوع الخلل في "الروضة". قوله: ومن هذا النوع الاستئجار لتعليم القرآن ذكر الإمام وصاحب الكتاب أنه يعين السور والآيات التى يعلمها، [أو يقدر بالمدة] (¬1) فيقول لتعلمني شهرا. وفي إيراد غيرهما ما يفهم عدم الاكتفاء بذكر المدة واشتراط تعيين السور والآيات لتفاوتهما في الحفظ والتعليم بسهولة وصعوبة، انتهى كلامه. لم يصرح هنا بترجيح، وقد اختلف كلامه في الراجح من هاتين المقالتين، فرجح في "الشرح الصغير" هنا أنه لا يكفي التقدير بالمدة. فقال ما نصه: ذهب الإمام والغزالي إلى أنه يصح، وقيل لا لتغاير السور والآيات في سهولة الحفظ وصعوبته وهو الأشبه انتهى. وذكر في "التذنيب" أيضا هنا مثله، ثم جزم فيه أي في "الشرح الصغير" وفي "الكبير" أيضا في كتاب الصداق في أثناء الكلام على الطلاق قبل الدخول بأن التقدير بها كافِ. وقال في "الروضة" من زياداته هنا: إنه الأصح. قوله: فالوجه تنزيل الاستئجار لقراءة القرآن عند القبر على صورة إنتفاع الميت بالقراءة وذكروا له طريقين: أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت؛ لأن الدعاء يلحقه والدعاء ¬

___ (¬1) سقط من أ.

بعد القراءة أقرب إجابة وأكثر بركة. والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسي أنه إن نوى القارئ بقراءته، أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينفع الميت. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد ذكر في كتاب الوصية عن القاضي أبي الطيب طريقا ثالثًا يأتي الكلام عليها في ذلك الموضع، وهي أن الميت كالحي الحاضر فيرجى له الرحمة ووصول البركة ولهذا قال النووي هنا من زياداته: المختار صحة الإجارة مطلقًا، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزيل الرحمة. الأمر الثاني: أن القارئ له حالتان: إحداهما أن يجزم بالجعل. والثانية: أن يدعو به، والتصوير الذي ذكره الرافعي قد رأيته هكذا في فتاوى الحناطي نقلا عن الشالوسي لكنه يقتضي الأول، والحكم الذي أجاب به يقتضي الثاني. وقد وافق في "الروضة" على ذلك، ثم خالف في "الأذكار". فقال: المختار أنه يدعو بالجعل، فيقول اللهم اجعل ثوابها واصلًا لفلان. ولنذكر عبارة فتاوى الحناطي لينظر فيها من ينظر. فنقول: قال ما نصه: قال الشيخ الإمام دوير الكرخي سمعت شيخي عبد الكريم الشالوسي يقول: إن القارئ إن نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم تلحقه، إذ جعل له قبيل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت يبلغه، إذ قد جعل ما حصل من الأجر لغيره، والميت يؤجر بدعاء الغير هذا كلامه. ودوير بضم الدال المهملة مصغرًا، والكرخي بكاف وراء مفتوحتين بعدهما جيم.

الأمر الثالث: أن جزمه بكون الدعاء ينفع الميت غير مستقيم، بل هو وغيره من الأدعية موقوف على الإجابة، فإن إستجيبت الدعوة نفعت، وإلا نفعت الداعي خاصة، لأن الدعاء من جملة العبادات. الأمر الرابع: أن الشالوسي بالشين المعجمة، وأما الثانية فمهملة، قد تقدم إيضاحه في مقدمة هذا الكتاب فراجعه. قوله: وفي "شرح المفتاح" أنه لابد في إجارة الدار من عدد السكان من الرجال والنساء والصبيان، ثم لا يمنع من دخول زائر وضيف، وإن بات فيها ليالي. انتهى. وليس في كلامه -رحمه الله- ما يدل على أن هذه المقالة شاذة، أو معمول بها، وقد بينه النووي فقال من زياداته: هذا الإشتراط لا يعرف لغيره والمختار أنه لا يعتبر، لكن يسكن فيها من جرت العادة به في مثلها. قال: وهذا مقتضى إطلاق الأصحاب، فلا عدول عنه. قوله: في "الروضة": وفي تقدير المدة ثلاثة أقوال المشهور أنه يجوز إلى مدة يبقى إليها ذلك الشيء غالبا، فلا يؤجر العبد أكثر من ثلاثين سنة والدابة أكثر من عشرة. والثاني: لا يجوز أكثر من سنة. والثالث: يجوز إلى ثلاثين. انتهى. ذكر الرافعي طريقة قاطعة بنفي الثالث لم يذكرها المصنف. قوله: ولو قال أجرتكها للزراعة، ولم يذكر ما يزرع أو البناء والفراش، وأطلق صح، وقيل: لا، ومن جوز قال يزرع ما شاء للإطلاق، وكان يحتمل التنزيل على الأقل. انتهى. وهذا الذي ذكره بحثًا واقتضى عدم وقوفه عليه قد تابعه عليه في "الروضة"، وقد صرح بحكايته، وجها الخوارزمي في كتابه "الكافي".

قوله: ولو قال أجرتك هذه الأرض، فإن شئت فازرعها، وإن شئت فاغرسها، فأصح الوجهين على ما ذكر في الكتاب صحة الإجارة، ويجبر المستأجر والثاني المنع. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضا، والصحيح: ما صححه الغزالي، فقد صححه في "المحرر"، وكذلك النووي أيضًا في أصل "الروضة". قوله: ويجب أن يقول مهملج أو بحرا أو قطوف في أظهر الوجهين، انتهى. المهملج بالجيم مشتق من الهملجة وهو فارسي والبحر بالباء الموحدة والحاء المهملة هو الواسع [الجري] (¬1) والقطوف من الدواب البطيء. وقال أبو زيد: هو الضيق المشي. قوله: الخامسة: إذا استأجر دابة للركوب فليبينا قدر السير كل يوم، وإذا أراد أحدهما المجاوزة على المشروط، أو النزول دونه لخوف أو خصب لم يكن له ذلك. قاله في "التهذيب" وكان يجوز أن يجعل الخوف عذرا لمن يحتاط، ويؤمر الأخر بموافقته، انتهى. وهذا الذي ذكره الرافعي بحثًا قد صرح الإمام به في نظير المسألة. فقال: فيما إذا استأجر دابة إلى بلد ليعود منها راكبا أنه لا يقيم فيها على خلاف المعهود، ثم قال: فإن مكث في ذلك المكان احتياطا للدابة بسبب خوف حصل كان في حكم المودع المؤتمن في تلك المدة، أي حتى لا يحسب عليه كما قاله ابن الرفعة، فلو لم يكن الخوف عذرا في الإقامة تحسب عليه تلك المدة. ¬

___ (¬1) سقط من ب.

ولم يقف النووي على ما ذكره الإمام، بل ضعف كلام البغوي فقال: إن ما قاله ضعيف. قوله: فإن كان المحمول حاضرا ورأه المؤجر كفى، وإن كان في ظرف وجب أن يمتحنه باليد تخمينا لوزنه وإن لم يكن حاضرًا فلابد من تقديره بالوزن أو الكيل. انتهى كلامه. وما ذكره من كون ما في الظرف يجب امتحانه باليد قد أسقطه من "الروضة"، واقتضى تعبيره أنه لابد من تقديره بالوزن أو الكيل، فإنه قال: فإن كان حاضرا ورأه المؤجر كفى، وإلا فلابد من تقديره بالوزن أو الكيل هذا لفظه. قوله: أما إذا قدر بالكيل، فقال: عشرة أقفزة مما شئت فالمفهوم من كلام أبي الفرج السرخسي أنه لا يغني عن ذكر الجنس لاختلاف الأجناس في النقل مع الإستواء في الكيل، لكن يجوز أن يجعل ذلك رضى بأقل الأجناس كما جعل في الورق رضى تأجير الأجناس. انتهى. وهذا القياس الذي استند إليه الرافعى ضعيف والفرق ظاهر وهو أن اختلاف التأثير بعد الاستواء في الوزن يسير بخلاف الكيل، لا جرم أن النووي ذكر من زياداته أن الصواب ما قاله السرخسي، ثم فرق بهذا الفرق. قوله: وإن دخلت أي الظروف في وزن المتاع فإن قال مائة من الحنطة بظرفها، صح العقد لزوال الغرر بذكر الوزن، هكذا ذكروه لكنا إذا اعتبرنا ذكر الجنس مع الوزن وجب أن يعرف قدر الحنطة وحدها وقدر الظرف وحده، انتهى كلامه. والصحيح على ما ذكروه قبل ذلك أن الجنس لا يكفي بل لابد من الوزن معه، وحينئذ فيكون الصحيح عدم الصحة في ما إذا قال بظرفها. ولم يذكر النووي في "الروضة" هذا التخريج الذي ذكره الرافعي، فلزم

من كلامه الجزم بالصحة على خلاف ما في الرافعي. قوله: ومن الأغراض سقي الأرض فلو كانت الإجارة في الذمة لم يجب بيان الدابة ومعرفة جنسها. ثم قال: وتقدر المنفعة إما بالزمان أو بالعمل. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وتابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه صريح في أن الدابة لا يشترط معرفتها إذا قدر السقي بالزمان، وذلك مخالف للمسألة الآتية بعد هذه المسألة وهي الاستئجار على الحرث، فإنه شرط فيه معرفة الدابة وهي الاستئجار على الحرث، فإنه شرط فيه معرفة الدابة إذا وقعت الإجارة على الزمان وعلله بأن العمل يختلف باختلاف حال الدابة بخلاف ما إذا وقعت على أرض مقدرة، وهذا المعنى الذي ذكره -رحمه الله- موجود بعينه في السقي قطعا، ولا سبيل إلى المغايرة بينهما، والاشتراط أظهر على وفق ما قاله في الحرث على أن الغزالي في "الوسيط" قد ذكر في الحرث عكس ما قاله الرافعي فإنه شرط معرفتا إن كانت مقدرة بالمساحة دون الزمان، والعجب أن الرافعي لم ينبه عليه. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أنه إذا قدر المنفعة بالزمان لا يشترط معرفة الأرض فإنه لم يشترط ذلك، وهو وإن كان متجها من جهة المعنى، لكنه ذكر بعد ذلك في الاستئجار للحراثة أنه لابد من معرفة الأرض، وإن قدرت بالزمان، ونظير المسألة ما إذا استأجر لحفر بئر أو نهر، وقد ذكره أيضًا قبل ذلك وكلامه فيه وهم.

الباب الثاني في "أحكام الإجارة الصحيحة"

الباب الثاني: في "أحكام الإجارة الصحيحة" قوله: فلو استأجر للرضاع والحضانة وقلنا: إن الاستئجار لأحدهما يستتبع الآخر فانقطع اللبن، إلي آخر ما قاله. وهذه المسألة سبق الكلام عليها في الباب الأول. قوله: وفي وجوب الصبر على الوراق ثلاثة طرق أشبهها: الرجوع فيه إلى العادة، فإن اضطربت وجب البيان وإلا بطل. وأشهرها: القطع بأنه لا يجب عليه. والثالث: أنه علي الخلاف في استتباع الحضانة اللبن، انتهى ملخصا. واقتصر في ["الشرح الصغير" على ترجيح الأول وعبر بالأشبه كما عبر به ههنا. واقتصر] (¬1)، في "المحرر" على ترجيح عدم الوجوب فإنه ذكر أنه المشهور، كما ذكره في "الكبير" وارتضاه وعبر في "الروضة" عن قول الرافعي الأشبه الرجوع إلى العادة بقوله الأصح، واستدرك في "المنهاج" على "المحرر" وصحح العرف. قوله: وإذا غصب العين المستأجرة وقدر المالك على نزعها ففي وجوبه القولان في العمارة، انتهى. زاد النووي على هذا فقال: قلت ينبغي أن يكون الأصح وجوب النزع والله أعلم. وما ذكره هنا من زياداته، قد ذكر في آخر كتاب الإجارة ما يخالفه. فقال من زياداته أيضًا: الثانية لا يلزم المؤجر أن يدفع عن العين المستأجرة الحريق والنهب وغيرهما وإنما عليه تسليم العين ورد الأجرة إن ¬

___ (¬1) سقط من ب.

تعذر الاستيفاء بخلاف المستأجر إذا قدر عليه من غير خطر، فإنه يلزمه كالمودع. قوله: المسألة الثانية: تطهير الدار عن الكناسة والأنون عن الرماد في دوام الإجارة على المستأجر لأنهما حصلا بفعله، وكسح الثلج عن السطح من وظيفة المؤجر لأنه كالعمارة ثم قال: وأما الثلج في عرصة الدار فإن خف ولم يمنع الإنتفاع فهو ملحق بكنس الدار، وإن كثف فكذلك على الظاهر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المراد بإلحاق الثلج بالكناسة إنما هو في عدم الوجوب على المؤجر حتى لو امتنع المستأجر أيضا من إزالته لم يكلف ذلك قطعًا. وكيف يعقل تكليفه بإزالة ما لم يصدر منه وهو واضح، وقد توهم الرافعي أن المراد إيجابه، على المستأجر فبنى عليه بحثًا. فإنه قال بعد ذلك: ويلزم المستأجر بعد انقضاء المدة التطهير من الكناسة، وفسروها بالقشور وما سقط من الطعام ونحوه دون التراب الذي يجتمع بهبوب الرياح لأنه حصل لا بفعله، لكن قد مر في ثلج العرصة أنه لا يجب على المؤجر بل هو كالكناسة مع أنه حصل لا بفعله فيجوز أن يكون التراب أيضا كالكناسات في إنهاء الإجارة، وإن حصل لا بفعله، انتهى كلامه. فانظر كيف حاول الوجوب في التراب على المستأجر كما يجب في الكناسة، واستند في ذلك إلى أن ثلج العرصة يجب عليه إزالته لكونهم قالوا: لا يجب على المؤجر، وما قاله خطأ كما تقدم وقد نبه عليه أيضا النووي من "زياداته". الأمر الثاني: أن الرافعي حكى وجهين في تنقية البالوعة والحش ونحوهما في دوام الإجارة.

أحدهما: أن التفريع على المؤجر تمكينا من الانتفاع وأظهرهما على المستأجر لأن الإمتلاء يحصل بفعله انتهى. والتعليلان موجودان في الكناسة والرماد فيلزم جريانهما. قوله: وهل للمالك منع المستأجر من زراعة الزرع المعين ابتداء إذا ضاق الوقت؟ فيه وجهان، انتهى. لم يصحح أيضًا شيئًا في "الشرح الصغير" ولا ذكر لها في "المحرر"، والصحيح عدم المنع كذا صححه في "الروضة". قوله: الثالثة إذا استأجر لبناء والغراس فإن شرطا القلع بعد المدة صح، وإن شرطا الإبقاء فوجهان: أحدهما أن العقد فاسد بجهالة المدة، وهذا أرجح في إيراد جماعة منهم الإمام وصاحب "التهذيب". والثاني: يصح لأن الإطلاق يقتضي الإبقاء فلا يضر شرطه، وهذا ما أجاب به العراقيون كلهم أو معظمهم، انتهى كلامه. لم يصرح النووي أيضا بتصحيح في "الروضة" وقد صرح برجحان الثاني في "الشرح الصغير" فقال: وأرجحهما الصحة هذا لفظه. قوله: وإن لم يشترطا إبقاء ولا قلع لم يقلع مجانًا، بل بأي شيء فيه ما سبق في العارية ثم قال: وإذا عين المؤجر خصلة فامتنع المستأجر، ففي إجباره ما ذكرناه في إجبار المستعير، فإن أجبر كلف تفريغ الأرض مجانا وإلا لم يكلف، بل هو كما لو امتنع المؤجر عن الإختيار، وحينئذ يبيع الحاكم الأرض وما فيها أو يعرض عنهما، فيه خلاف قد مر ويخرج من ذلك عند الاختصار وجهان كما ذكر في الكتاب: أحدهما: يكلف ذلك لرد الأرض كما أخذ. وأقيسهما: المنع ولا يبطل حقه من العوض بامتناعه. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن الذي أحال عليه، وهو حكم العارية مضطرب اضطرابًا شديدا سبق إيضاحه. الثاني: أن ما ذكره في آخر كلام من خروج وجهين، كما في الوجيز غير منتظم، فإنه قدم أنا إن أجبرناه كلف التفريغ مجانا وإلا فلا فإن أراد أن ذلك الحكم يختلف باختلاف الحال كما ذكره في العارية فمن أين الخلاف، وإن كان مراده أن لنا خلافًا في الإجبار، إذا عين المؤجر خصلة، ويصير الأمر كما لو لم يجيز شيئًا فليس كذلك في العارية. ذكروا أيضًا فقوله كما ذكر في الكتاب لا يطابق هذا، فإن الغزالي إنما حكى الوجهين على قولنا بالإجبار على إجابة المؤجر في أنه هل يجب الأرش أم لا؟ قوله: وعن "البويطي" أنه لا يجوز العدول إلى غير الزرع المعين فمن الأصحاب من قال: إنه قول للشافعي [رواه، ومنهم من قال: إنه رأى رآه، انتهى. وهذا الذي رواه عن "البويطي" بصيغة التعريض ويوقف في أنه هل هو مذهبه، أو قول للشافعي] (¬1) قد صرح به في "البويطي" وجعله من كلام الشافعي فقال: وإن كان زرع بعينه سماه، فليس له أن يزرع في أرضه غير الزرع الذي سمي له، ويجعل لكل ذلك مدة، وقد قيل له أن يزرعها غير ما سمى له إذا كان أنفع للأرض مما شاء. هذا لفظه لكن ههنا فائدة ينبغي أن تعلمها وهي أن "البويطي" قد روى قولا آخر عن الشافعي أنه يجوز ذكره بعد هذا بدون الصفحة في النسخة التي وقفت عليها. فقال ناقلًا عن الشافعي ما نصه: قال: وإن كاري أرضًا على أن يزرعها ¬

_ (¬1) سقط من ب.

حنطة فزرعها شعيرًا وهو أنفع للأرض لم يكن له أن يمنعه بشرطه عليه لأنه ينفعه هذا لفظه. قوله: ولو قال أجرتكها لتزرع هذه الحنطة ففي صحة العقد وجهان: أحدهما: المنع لأن تلك الحنطة قد تتلف فيتعذر الزراعة. والثاني: يصح، ولا تتعذر الزراعة بتلف الحنطة، انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" هو الصحة لأن الزراعة لا تتعذر بتلف الحنطة. قال: ولو تعذرت لم يكن إحتمال التلف مانعا كالاستئجار لإرضاع هذا الصبي، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير". قوله: ولو قال: لتزرع الحنطة ولا تزرع غيرها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يفسد لأنه ينافي مقتضاه، قال ابن كج والروياني: إنه المذهب. والثاني: واختاره الأمام أنه يصح العقد ويفسد الشرط لأنه لا يتعلق به غرض صحيح. والثالث: يصحان، انتهى ملخصًا. لم يذكر في "الشرح الصغير" ترجيحا إلا للوجه الثاني فإنه نقل رجحانه عن الإمام كما نقله ههنا. فقال في "الروضة" من زياداته: الأقوى بطلان العقد غير أنه قد وقع له ههنا غلط، وهو أنه صورها في ما إذا أشار إلى حنطة معينة وقال: لتزرع هذه الحنطة دون غيرها، ولم ينقل الرافعي الأوجه في الصورة التي ذكره هو في الإشارة إلى معينة، بل جزم فيها بالبطلان نقلا عن "التهذيب". وقد يحث في "الشرح الصغير" في مجيء الوجهين فقال: ويشبه أن يجيء فيها الوجهان الأخيران.

قوله: في أصل "الروضة": فرع: إذا تعدى المستأجر للحنطة فزرع الذرة ولم يتخاصما حتى انقضت المدة، وحصد الذرة، فالمذهب وهو نصه في "المختصر" أن المؤجر بالخيار بين أن يأخذ المسمى ويدل النقصان الزائد بزراعة الذرة على ضرر الحنطة، وبين أن يأخذ أجرة المثل لزرع الذرة. وقال كثيرون في المسألة قولان إلى آخره. اعلم أن هذه الطريقة الثانية هي المرجحة في الرافعي. وعبر بقوله: أشهرهما على قولين، ثم إنه ذكر بعد ذلك أن طريقة القطع أوفق لظاهر النص وهذا لا يقتضي تصحيح هذه الطريقة، فإن كونها أقرب إلي ظاهر النص لا ينافي كون الصحيح عند الأصحاب خلافها، ولأجل ذلك اقتصر في "الشرح الصغير" على تصحيح تلك الطريقة أعني طريقة القولين. ونقلها ابن الرفعة في "الكفاية" عن تصحيح الرافعي ومراده في "الشرح الكبير" كأنه الذي ينقل عنه وأما "الصغير" فإنه لم يقف عليه. قوله: وفي السرج عند أكبر الفرس للركوب وجوه، ثالثها إتباع السادة، انتهى. لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا ورجح في "المحرر" إتباع العرف. فقال: إنه الأشبه، ونقله عنه في "الروضة" مقتصرًا عليه، وعبر عنه بالأصح. قوله: في "الروضة": أما ما هو للتسهيل على الراكب، كالمحمل والمظلة، والوطاء والغطاء الحبل الذي يشد به المحمل على البعير والذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر فعلى المستأجر والعرف مطرد به. وفي "المهذب" وجه في الحبل الذي يشد به أحدهما إلى الآخر أنه على

المستأجر، وهو شاذ. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بالمستأجر رأيته أيضًا بخطه وهو سهو، والصواب المؤجر. وعبارة الرافعي صحيحة. قوله: وأما شد أحد المحملين إلى الآخر هل هو على المؤجر كالشد علي الحمل أو على المستأجر لأنه إصلاح ملكه؟ فيه وجهان. انتهى ملخصًا. ذكرهما الرافعي أيضًا بعد ذلك في الكلام على إعانة الراكب، ولم يصحح منهما شيئًا أيضًا، والراجح أنه يجب على المؤجر. كذا رجحه هناك في "الشرح الصغير" فقال: بعد أن عدد ما يجب عليه، وفي شد أحد المحملين إلى الآخر وهما بعد على الأرض وجهان أشبههما لزومه أيضًا. وقال في "الروضة" من زياداته أيضًا إنه الأصح. قوله: وإذا اعتيد النزول للإراحة، ولم يتعرضا له في العقد، فلا يجب على المرأة والمريض وفي الرجل القوي وجهان، وحكم النزول عند العقبات الصحاب كذلك أيضًا. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": ينبغي أن يكون الأصح: الوجوب عند العقبات دون الإراحة. قال: ثم الكلام مفروض في طريق يعتاد النزول فيه لإراحة الدابة، فإن لم يكن معتادا لم يجب مطلقًا. قال: والشيخ العاجز كالمريض والمرأة كما قاله الأصحاب. قال: وينبغي أن يلحق بهم من كانت له وجاهة ظاهرة وشهرة يخل المشي بمروءته في العادة. قوله: وإن اكتراها للحج عليها ركبها إلي منى ثم إلى عرفات، ثم إلى

المزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة للطواف. ثم قال ما نصه: وهل يركبها من مكة إلى منى للرمي والطواف؟ فيه وجهان، هذا لفظه، وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من العود إلى الطواف، قد تبعه عليه في "الروضة" وهو سهو إذ لا طواف إلا بالبيت، ولا طواف في منى، وأيضًا فإنه لم يبق من الأطوفة إلا طواف الوداع. ولا يصح القول بوجوبه على المؤجر لأنه إذا تحلل التحللين فقد انتهى الحج، والذي يظهر أن الرافعي قصد التعبير بالمبيت فسبق العلم إلى الطواف. الأمر الثاني: قال في "الروضة" وينبغي أن يكون الأصح من الوجهين المذكورين هو الوجوب لأن الحج لم يفرغ. قوله: وإذا استأجر ثوبا للبس لم ينم فيه ليلا، وفي وقت القيلولة وجهان: أصحهما أن له ذلك، وهو الذي أورده الأكثرون، انتهى. والتقييد بوقف القيلولة يوهم أن النوم في غيره مخالف له وليس كذلك، فإن الأكثرين كما قاله في "الروضة"، قالوا: يجوز النوم فيه بالنهار من غير تقييد بالقيلولة. قال لكن ضبطه الصيمري فقال: إن نام ساعة أو ساعتين جاز لأنه متعارف، وإن نام أكثر النهار لم يجز. قوله: والمنفعة المطلوبة بالعقد لها مستوف ومستوفى منه، ومستوفي به، فأما المستوفى فهو المستحق الاستيفاء فله أن يبدل نفسه بغيره في الركوب والسكنى، وكذلك إذا استأجر دابة لحمل القطن فله حمل الصوف والوبر، أو لحمل الحديد فله حمل الرصاص، وأما المستوفى منه فكالدار والدابة المعينة فلا يجوز إبداله.

وأما المستوفي به فكالثوب المعين للخياطة وفي إبداله وجهان: أصحهما الجواز لأنه طريق، فأشبه الراكب والمتاع المعين للحمل، انتهى. وتمثيله للقسم الأول بالحمل وقع أيضًا في "الروضة" وليس بصحيح، بل هو من القسم الثالث بلا شك، فإن قيل: كونه من الثالث واضح ولكن كيف نقيسه عليه، فالجواب أن هذا الفرد، متفق عليه، فلذلك قاس عليه الباقي كذا نقله الرافعي في الباب الثالث فقال: وبين الشيخ أبو علي محل الخلاف. فقال: محله إذا التزم في ذمته خياطة ثوب معين أو حمل متاع معين، أما لو استأجر دابة معينة لركوب أو حمل متاع فلا خلاف في جواز إبدال الراكب والمتاع. وفرق بأن العقد والحالة هذه يتناول المدة بدليل استقرار الأجرة بتسليمها وإن لم يركب إلى آخره، فهذا عذر الرافعي عن الثاني خاصة لكنه لا يعرف إلا بتوقيف فكان الصواب أن يبين حاله، ثم يقيس عليه. قوله: وهل يضمن ما يتلف في يده بعد مضي المدة؟ ينبني على وجوب الرد على المستأجر وفيه وجهان: أصحهما عند الغزالي: أنه لا يجب وإنما عليه التخلية. وأقربهما إلى ظاهر كلام الشافعي، واختاره الأصطخري: أنه يلزمه الرد مؤنته، انتهى ملخصًا. وما ذكره ههنا فيه إشعار برجحان الثاني لكنه خالفه في موضعين من هذا الكتاب: أحدهما: في البيع في الكلام على حكم المبيع قبل القبض. والموضع الثاني: في كتاب العارية، وقد تقدم ذكر عبارته في الموضعين، وخالفه أيضًا في "المحرر" فقال: إنه الأظهر للوجهين.

وتبعه النووي على هذه المواضع، ولم يذكر في "الشرح الصغير" ترجيحًا إلى ترجيح الغزالي فقط. قوله: قال القاضي أبو الطيب ولو شرط عليه الرد لزمه بلا خلاف، ومنعه ابن الصباغ وقال: من لا يوجبه عليه ينبغي أن لا يحرر شرطه. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه، وهو يقتضي إقرار القاضي على نفي الخلاف، وأنه ليس في المسألة نزاع إلا ما ذكره ابن الصباغ بحثًا وهو غريب فقد صرح العبادي في "الزيادات" بالخلاف في المسألة وهما ينقلان منه كثيرًا. فقال: إنها فاسدة عندنا، يعني عند المراوزة خلافًا للإصطخري. قوله: والأجير المشترك هو الذي ينتقل العمل في ذمته, والمنفرد هو الذي أجر نفسه مدة معلومة, انتهى. والحدان المذكوران لا يوجد منهما الحكم في إجارة العين، بل الأول يقتضي أنه منفرد، والثاني يقتضي أنه مشترك. قوله: وقيل: المشترك هو الذي شاركه في الرأي فقال: اعمل في أي موضع شئت، والمنفرد هو الذي عين عليه الموضع، انتهى. وتخييره في الموضع لا مشاركة فيه في الرأي إنما الشريك في الأمكنة بمعنى عدم التخصيص. لا جرم أن الإمام لم يفسر بذلك، بل عبر بقوله: من لا يتعين لعمله مكان، والغالب أن الرافعي إنما أخذه منه. قوله: وحيث قلنا بوجوب الضمان على الأجير فالواجب أقصى قيمته من يوم القبض إلي يوم التلف، أم قيمة يوم التلف فيه وجهان، انتهى. والأصح هو الثاني: كذا صححه النووي في "الروضة". قوله: وإن أتلف أجبني الثوب المقصور في يد الأجير، وجعلنا القصارة

عيبا، وفسخ غرم الأجنبي الثوب لمالكه غير مقصور، وقيمة القصارة للأجير، انتهى. لم يبين المراد من قيمة القصارة وقد بينها في "النهاية" فقال: قيمة الثوب عشرة والأجرة المسماة درهم، والثوب المقصور قيمته خمسة عشر وأجرة مثل القصارة نصف، فالذي قطع به الأئمة قاطبة أنه لا يغرم للقصارة خمسة بل يرجع بمقدار أجرته. ثم المسألة محتملة فيجوز أن يقال يستحق مقدار المسمى، فكأن ذلك القدر رجع إليه بالفسخ، ويجوز أن يقال يطالب بأجرة مثله فإن الشيخ أسقط اعتبار المسمى، هذا كلامه. وعدم المطالبة بالخمسة مشكل لأنه أتلف ما قيمته خمسة عشر بدليل المطالبة بها لو لم يفسخ، فينبغي توزيعها عليها بالنسبة. قوله: فرع: سلم ثوبًا إلي فصار ليقصره فجحد ثم أتى به مقصورًا، إستحق الأجرة إن قصره ثم جحده، وإن جحد ثم قصر فوجهان: وجه المنع أنه عمل لنفسه وخرج الصيدلاني الوجهين على القولين في أن الأجير على الحج إذا صرف الإحرام إلى نفسه، هل يستحق الأجرة؟ انتهى. والصحيح في مسألة القصارة هو الاستحقاق فإن الرافعي لما حكى القولين في الحج قال ما نصه: وأصحهما: أنه يستحق لصحة العقد في الابتداء، وحصول غرض المستأجر وهذا الخلاف يجري في ما إذا دفع ثوبًا إلى صباغ ليصبغه فأمسكه لنفسه وجحده وصبغه لنفسه ثم رده، هل يستحق الأجرة، وعلى هذا نظائر. ثم قال: فإن قلنا بالإستحقاق فالأصح وجوب المسمى، وقيل أجرة المثل، انتهى كلام الرافعي ولم يستحضر النووي هذا الكلام المذكور في الحج وقال هنا من زياداته ما نصه: ينبغي أن يكون أصحهما الفرق بين أن يقصد

بعلمه نفسه فلا أجرة أو يقصد عمله عن الإجارة الواجبة فيستحق انتهى. ولم يذكر ترجيحا غيره أصلا، وهو مخالف لما تقدم من كونه يستحق مطلقًا فلا التفات إليه فإن عبارته تدل على أنه لم يستحضر ما سبق وقد ذكر أيضًا أعني النووي في "إحياء الموات" ما يوافق الاستحقاق فقال ناقلا عن الرافعي: لو قال مالك المعدن لشخص: اعمل فيه فما استخرجته فهو لنفسك أو قال: استخرج لنفسك فالحاصل لمالك المعدن لأنه هبة مجهولة، وفي استحقاقه الأجرة وجهان لأنه لم يتبرع، بل عمل لنفسه، ولم يحصل له، قلت ثبوتها أصح انتهى. ويسأل عن الفرق بين هذا وبين ما إذا استأجر الأب الأم لإرضاع الولد، وقلنا لا يجوز فإن الأصح في "الروضة" أنها لا تستحق أجرة المثل مع أنها دخلت طامعة، وقريب من هذه المسائل ما إذا قالت المرأة إن طلقتني فأنت بريء من صداقي فطلقها، فإنه لا يستحق شيئا على الصحيح، وسيأتي ذلك في موضعه. قوله: كما إذا ضرب الدابة أو كبحها باللجام. الكبح بالكاف المفتوحة والباء الموحدة الساكنة والحاء المهملة هو جذب الدابة باللجام لكئي تقف تقول منه كبحت الدابة، ويقال فيه أيضًا أكمحتها وأكفحتها بالألف فيهما، والكبح أيضًا على وزن الأول وحروفه، إلا أن الثاني منه تاء مثناة من فوق مدلوله رمى الجسم بشيء يؤثر فيه كما قاله الجوهري. قال: ويطلق أيضًا على الأكل من الطعام إلى أن يشبع. وإذا علمت ذلك علمت أن ما وقع في الرافعي يجوز قراءته بالموحدة والمثناة. وقد ذكر الرافعي ألفاظًا أخرى منها التلميذ ومنها البزغ بباء موحدة

مفتوحة وزاي [ساكنة وغين] (¬1) معجمة أيضًا هو شرط الحاجم والبيطار لإخراج الدم، والألة تسمى المبزغ بكسر الميم. قوله: وكذا لو ركب الدابة من هو أثقل منه وقرار الضمان على الثاني إن كان عالما وإلا فعلى الأول، انتهى كلامه. وما ذكره من أن قرار الضمان على الأول ليس على إطلاقه، بل محله أن تكون يد الثاني لا تقتضي الضمان كالمستأجر ونحوه. فإن كانت تقتضي كالمستعير فالقرار عليه كما أوضحوه في الغصب. قوله: ولو أكرى دابة وركباها فارتدفها ثالث بغير إذنهما فهلكت الدابة ففيما يجب على المرتدف ثلاثة أوجه: أحدها: نصف القيمة. والثاني: ثلثها. والثالث: تقسط على قدر أوزانهم فيلزمه حصة وزنه، انتهى ملخصا. والأصح هو الثاني كذا صححه في "الروضة". قوله: وإذا دفع ثوبًا إلى خياط ليقطعه ويخيطه فخاطه قباء ثم اختلفا، فقال الخياط هكذا أمرتني وقال المالك بل أمرتك أن تقطعه قميصا فالذي نص عليه الشافعي في "الإملاء" أنهما يتحالفان ونقله أيضًا عنه المزني في "الجامع الكبير"، ونقل أعني الشافعي عن أبي حنيفة أن القول قول المالك. وعن ابن أبي ليلى أن القول قول الخياط، ثم قال: وكلاهما مدخول، وإن كان جواب أبي حنيفة أشبه بالحق، واختلف الأصحاب في المسألة على طرق حاصلها أقوال: أصحها: عند الأكثرين تصديق المالك لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن ¬

_ (¬1) سقط من ب.

لكان القول قول المالك فكذلك إذا اختلفا في صفته، وهذا كما لو قال دفعت هذا المال إليك وديعة، فقال: بل رهنا أو هبة فإن المصدق هو المالك، وأيضًا فإن الخياط معترف بأنه أحدث نقصا في الثوب ويدعي أنه مأذون فيه والأصل عدمه. وأيضًا فإنه يدعي أنه أتى بالعمل الذي استأجره عليه والمالك ينكر، فأشبه ما إذا استأجره لحمل متاع، وقال الأجير: حملته إليك وأنكر المالك، فالقول قول المالك. والقول الثاني: يصدق الخياط لأنهما اتفقا على الإذن في القطع، والظاهر أنه لا يتجاوز المأذون ولأن المالك يدعي علة الغرم، والأصل عدمه. والثالث: يتحالفان لأنهما اتفقا على عقد معاوضة، واختلفا في صفته لأن كل واحد مدعي ومدعى عليه, فالخياط يدعي الأجرة والمالك ينكرها، وبهذا القول قال أبو علي الطبري، وصاحب "التقريب" والشيخ أبو حامد. ونقله السرخسي عن ابن سريج، وصححه الغزالي ورجح أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، والقاضي أبو حامد وغيرهم نفي التحالف. ونقل عن ابن سريج أيضًا. والرابع: إن جرى بينهما عقد تحالفا كسائر الإختلافات، وإن لم يقع عقد فلا لأن الخياط لا يدعي الأجرة، وإنما النزاع في الأرش، انتهى ملخصا. فيه أمور: أحدها: أن ذكر القول الرابع يقتضي أن الأقوال السابقة جارية مع وجود العقد وبدونه، وهو باطل قطعا، فإن التحالف لا يجري إلا عند الاتفاق على العقد، وأيضًا فالمسألة مصورة بذلك. الأمر الثاني: أن الصواب نقلا واستدلالًا إنما هو القطع بالتحالف، أما النقل فلأنه المنقول في هذا الكلام عن الشافعي نفسه، والقولان الأخيران

حكاهما عن غيره، بل زاد على ذلك وقال: أنهما معا مدخولان كما سبق فكيف يمكن مع ذلك أن يكون مذهب الشافعي غير التحالف. وأما نقله ذلك عن الأكثرين فقلد فيه صاحب "البيان"، ولا شك أن الأصحاب المتقدمين على الرافعي على اختلاف طبقاتهم على ثلاثة أقسام: الأول: من لم يتعرض للمسألة بالكلية وهم جماعات. الثاني: من حكى خلافًا ولم يصحح شيئًا منهم القاضي الحسين في تعليقته والصيدلاني في "شرح المختصر" والفوراني في كتابيه "الإبانة" و"العمد" والمتولي في "التتمة"، والإمام في "النهاية" وابن الصباغ في "الشامل" والبغوي في "التهذيب" وأبو عبد الله الطبري في "العدة" والخوارزمي في "الكافي" والقاضي مجلي في "الذخائر". والقسم الثالث: المصححون لتصديق المالك كما قاله الرافعي، ومنهم أبو الحسن منصور التميمي في كتاب "المسافر"، وأبو الحسن ابن خيران في "اللطيف"، والشيخ أبو محمد الجويني في "مختصر المختصر" و"السلسلة"، وأبو خلف الطبري في "شرح المفتاح"، والغزالي في "عقود المختصر" والسرخسي في "الأمالي"، والروياني في "البحر" و"الحلية"، وأبو نصر الأرغياني في "الفتاوى" وأبو سعد ابن أبي عصرون في كتبه، والهروي في "شرح أدب القضاء" للعبادي. نعم عبر هذا بالقياس لا بالأصح ونحوه. وذكر الشافعي في كتاب الصلح من "البويطي" نحوه ورأيت في "أدب القضاء" للإصطخري الميل إليه فإنه عبر بقوله: وكأنه أقوى. القسم الرابع: المصححون لقول التحالف، فمنهم القفال كما نقله عنه في "البحر" والقاضي أبو الطيب كما نقله عن الشيخ نصر المقدسي في "التهذيب" وفي "المقصود"، وصححه أيضًا الدارمي في "الاستذكار"،

والمحاملي في "المقنع" وفي كتابه المسمى "بالقولين والوجهين"، وكذلك في كتاب "عدة للمسافر وكفاية الحاضر"، والماوردي في "الحاوي"، وأبو علي البندنيجي في "تعليقه" وسليم الرازي في "المجرد"، وفي "رؤوس المسائل" وفي "الكافي" أيضًا والشيخ نصر المقدسي في "التهذيب" وفي "المقصود" وفي "الكافي" والشيخ أبو إسحاق في "المهذب"، و"التنبيه"، والغزالي في "الوسيط" و"الوجيز"، والجرجاني في "التحرير" ,والشاشي في "الحلية"، وأبو نصر البندنيجي في كتاب "المعتمد" وكلام أبي علي الزجاجي في "التهذيب" يقتضي أنه قول الشافعي لا غيره. وقد تقدم من كلام الرافعي نقل ذلك أيضًا عن أبي علي الطبري، وصاحب "التقريب"، والشيخ أبي حامد، وقد ذكرت لك أيها الواقف على هذه المسألة نقولا موافقة للرافعي لم يطلع عليها بالكلية. وذكرت أيضًا من ذهب إلى خلاف ذلك والذاهبون إليه أكثر، ومنهم شيخا الطريقتين العراقية والخراسانية القفال والشيخ أبو حامد. وهو الموافق لنص الشافعي، وللقواعد المذهبية كما سيأتي بيانه فوجب القول به وبالله التوفيق. وأما تصويب التحالف من جهة الاستدلال فلأن قاعدتنا ذلك في كل عقد معاوضة اتفقا عليه، واختلفا في صفته فما وجه خروج هذه الصورة عن هذه القاعدة العامة المتفق عليها، ولأنهما لو اختلفا والثوب صحيح فقال المالك استأجرتك لتخيطه قميصًا، وقال الخياط بل استأجرتني لأخيطه قباء تحالفا بلا خلاف كما قاله الماوردي، قال وإذا تحالفا قبل القطع وجب القول به بعده لأن كل ما أوجب التحالف مع تغير أحواله وهذا أيضًا دليل قطعي على التحالف، فإن التحالف يجوز بعد تلف المبيع وتعيبه كما هو مذكور في بابه، وأما الاستدلالات التي اعتمد عليها الرافعي في تصديق المالك تعجيبة.

أما الأول: وهو استدلاله بقوله لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن لكان القول قول المالك فكذلك إذا اختلفا في صفته، فجوابه: أن المتبايعين لو اختلفا في أصل البيع كان القول قول المنكر بلا نزاع، ولو اختلفا في صفته فإنهما يتحالفان، ولو قلنا بهذا لبطلت مسائل التحالف كلها وتعطلت قاعدته وارتفع، بابه ثم إنا في التحالف قد أعملنا هذه القاعدة بعينها لأن البائع مثلا إذا قال بعتك بعشرة، فقال المشتري بل بخمسة فكل واحد منهما لما كان القول قوله في نفي العقد كان القول قوله في صفته، ولهذا أحلفنا كلا منهما على إثبات ما يقوله، ونفي ما يقوله الآخر، لأنا جعلنا القول قوله ولكن مع يمينه لاحتمال، فلو لم يجعل القول قوله لم نحلفه فلما قبلنا قول كل منهما في التحالف مع يمينه لأجل أن من كان القول قوله في شيء كان القول قوله في صفة ذلك الشيء، ولم يكن لأحدهما مرجع على الآخر فسخنا العقد. وأما الثاني: وهو استدلاله بقوله كما لو قال دفعت هذا المال إليك وديعة فقال: بل رهنا أو هبة فإن المصدق هو المالك فذهول عجيب أيضًا، لأن التحالف إنما يشرع إذا اتفقا على العقد الواحد واختلفا في صفته وقد وجد ذلك في مسألتنا دون هذه المسألة. وأما الثالث: وهو إستدلاله بقوله لأن الخياط معترف بأنه أحدث نقصًا في الثوب ويدعي أنه مأذون، والأصل عدمه فعجيب لأنا لا نسلم أن الأصل عدمه ولهذا حلفنا المالك على عدمه وحلفناه هو على عدم ما يقوله المالك، ثم فسخنا لعدم ترجيح أحدهما على الآخر. وهكذا مسائل التحالف كلها فإن الأصل عدم اشتراط الخيار والأجل والرهن والضمان مع مشروعية التحالف لما ذكرناه. وأما الرابع: وهو استدلاله بقوله لأن الخياط يدعي أنه أتى بالعمل الذي استأجره عليه والمالك ينكره فأشبه ما إذا استأجره لحمل متاع فقال الأجير حملت وأنكر المالك فأعجب مما قبله لأن التحالف إنما شرع عند الاتفاق

على العقد والاختلاف في صفته، وقد وجد ذلك في مسألتنا، وأما الاستئجار لحمل المتاع فإن النزاع فيه لم يقع في صفة العقد، بل في الإتيان بالمعقود عليه، وأين هذا من ذاك فثبت بما قلناه بطلان جميع أدلة القول بتصديق المالك. وأما تصديق الخياط وأدلته فالرافعي وغيره يسلمون ضعفها، والذي يظهر أن هذه الأدلة جميعها إنما ذكروها للرد على قول ابن أبي ليلى وهو تصديق الخياط عند ذكرهم لقوله، وقول أبي حنيفة فقط، وهكذا سلكه الشافعي نفسه والرد على ابن أبي ليلى بذلك صحيح. وأما جمع قول التحالف معه في الاستدلال بها فمردود لما ذكرناه، فثبت أن الحق هو التحالف، ولا شك أن بعض الأصحاب نظر إلى ما حكاه في "الجامع الكبير" من قول أبي حنيفة وابن أبي ليلى وأن قول أبي حنيفة أشبه، وذهل عن ما بعده وهو التصريح بضعفها. وعن ما في "الإملاء" وغيره وهو التصريح بالتحالف فذهب إليه، واستدل عليه بهذه الأمور الضعيفة التي حصل فيها الالتباس فقلده فيه من بعده، وكثيرا ما يقع ذلك. قوله: فإن صدقنا الخياط بيمينه، فإذا حلف فلا أرش عليه , وفي الأجرة وجهان: أظهرهما: أنها لا تجب أيضًا لأنه في الأجرة مدعى فيكون القول قول المنكر. وفائدة يمينه دفع الغرم عن نفسه، فإن أوجبناها ففي مقدارها وجهان: أحدهما: المسمى إتمامًا لتصديقه. وأظهرهما: أجرة المثل، لأنا لو صدقناه من كل وجه لم يأمن أن يدعى مالًا كثيرًا كاذبًا، انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" لم يبين الراجح من الوجهين الأخيرين. الثاني: أن المسألة مفروضة في ما إذا اختلفا مع الاتفاق على الأجرة المسماة في العقد وحينئذ تمتنع الزيادة عليها، فإن انضم إلى الاختلاف في صفة القطع اختلافهما في قدر الأجرة فتلك مسألة أخرى، والتحالف جار فيها بلا شك كما قاله في "الإقليد" وأبدى ابن الرفعة في "المطلب" ذلك أيضًا بأن رب الثوب قد وافقه على استحقاقه بالعقد، واختلافهما إنما حصل في ما يتقرر به. وقد جعلنا القول قول الخياط، وهذا يظهر بصحيح أصل الإستحقاق. نعم إن كان الإذن في ضمن جعالة فالمسمى لا يجب فيها إلا بفراغ العمل، فإذا وقع الخلاف فيه وقع الخلاف في الاستحقاق فلا يثبت المسمى وقد ثبت تسمية الإذن في العمل، فوجب أن يجب له أجرة المثل. واعلم أنه إن كان المسمى أقل من أجرة المثل فهو الواجب بلا نزاع لأنه لا يدعي أكثر منه كذا قالوه، وخرجه ابن أبي الدم على مسألة تقتضي إثبات خلاف، وفرق بينهما في المطلب. قوله: فإن قلنا لا أجرة له بيمينه فله أن يدعي الأجرة على المالك، ويحلفه فإن نكل فهل يجدد اليمين على الخياط أم يكتفي بيمينه السابقة فيه وجهان: أحدهما: يجدد لأن إثبات المال بيمين المدعى من غير نكول بعيد. والثاني: وبه قال القاضي الحسين لا يجدد وكأن يمينه السابقة كانت موقوفه على النكول، انتهى.

والصحيح هو الأول فقد قال الإمام: ذهب إليه ذاهبون. وقال: إنه قياس الخصومات وهو حسن منقاس ولم ينقل الثاني إلا عن القاضي خاصة، وقد رجح النووي أيضًا ما قلناه. فقال: وينبغي أن يكون أصحهما التجديد وهذه قضية مستأنفة هذه عبارته. ولم يستحضر الأصح الذي نقلناه، ولو استحضره لذكره بلا شك لاشتماله على الترجيح النقلي والقياسي. قوله: في أصل "الروضة" وإن صدقنا المالك بيمينه فعلى الخياط أرش النقصان، وقيل وجهان، فإن أوجبنا فوجهان: أحدهما: ما بين قيمته صحيحًا ومقطوعًا. والثاني: ما بين قيمته مقطوعًا قميصًا ومقطوعًا قباء انتهى. والأصح هو الأول، فإن الأصحاب بنوهما على أصلين: أحدهما: إذا اكترى أرضًا ليزرع الحنطة فزرع ما هو أضر كالذرة ففيه قولان: أصحهما: يعرض عن عقد الإجارة، ويلزمه بأجرة المثل. والثاني: يغرم تفاوت ما بين الزرعين. الأصل الثاني: الوكيل في البيع إذا ضمناه ففيه قولان: أصحهما يغرم جميع القيمة. والثاني: يحط عنه ما يتغابن الناس به لأنه كالمأذون فيه. قالوا فعلى الأول من المسألتين يغرم هنا جميع الأرش، وهو التفاوت ما بين قيمته صحيحًا ومقطوعًا، حتى لو لم يكن قبل القطع فلا شيء عليه. هذا كلامهم، ومقتضاه تصحيح الأول، وقد صرح بتصحيحه إمام

الحرمين فقال: إنه الأصح، واختاره ابن عصرون في "المرشد" والعجب أن الرافعي نقل عن الشيخ أبي محمد أنه مبني على هذين الأصلين فحذف ذلك من "الروضة" وأرسل الخلاف من غير تصحيح. واعلم أن مقتضى عبارتهم أن الخياطة لا تدخل في التقويم، فلذلك لم يقولوا بين قيمته، صحيحًا ومخيطًا قباء. قوله: فإن قلنا يغرم التفاوت بين القطعتين فهل يستحق الأجرة للقدر الذي يصلح للقميص من القطع فيه وجهان: الذي أجاب به منهما صاحب "المهذب" هو الاستحقاق، لكونه مأذونًا فيه وضعفه ابن الصباغ لأنه لم يقطعه للقميص، انتهى. والأصح منهما عدم الاستحقاق، فقد نقله صاحب "البيان" عن نص الشافعي وعلله بما سبق وهو كونه لم يقطعه، لكونه قميصًا. وقال في "البحر": إن مقابله ليس بشيء، ولهذا صححه في "الروضة" من زوائده. قوله: وأما كيفية اليمين إذا صدقنا الخياط فقال في "الشامل": أن يحلف بالله ما أديت لي في قطعه قميصًا، ولقد أديت في قطعه قباء. انتهى. قال في "الروضة": وقال الشيخ أبو حامد: يحلف لقد أديت لي في قطعه قباء فقط، وهذا أصح إن لم يثبت للخياط أجرة؛ لأن هذا القدر كاف في نفي الغرم، فإن أثبتناها فقول صاحب "الشامل" هو الصواب. هذا كلامه، وفيه أمور: أحدهما: في البحث عن تعبير النووي بقوله فقط هل هو من جملة اليمين أم لا؟ فإن كانت فيجوز أن يكون الشيخ أبو حامد اكتفى بذلك لأجلها لأنها في قوة قولنا: أديت لي في قطعه قباء لا قميصًا، وحينئذ فيستوي اليمينان، فإن كانت هذه اللفظة من كلام الناقل بمعنى أنه قال هذا

فقط فيجيء ما يقوله النووي، فالجواب أنها من كلام الناقل، فإن الشيخ أبا حامد لم يتعرض لذلك، وممن نقله عنه كما ذكرناه صاحب "البيان" والظاهر أن "النووي" إنما نقله عنه على عادته في كثرة النقل عنه، ونقله أيضًا كذلك ابن الرفعة وغيره. الأمر الثاني: أن المسألة مشهورة في المذهب فقد قال: بوجوب الجمع جماعات منهم البندنيجي والقاضي الحسين، والقاضي أبو الطيب، وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم، والثاني صححه الماوردي والروياني. الأمر الثالث: أن التصحيح الذي قاله النووي وجعله الصواب لا وجه له، بل الذي يقول إنه يكفي الحلف على أنه أمره بقطعه قباء يقول بذلك سواء قلنا يستحق الأجرة أم لا كما قاله في "المطلب" لأنا إن قلنا يستحقها فهو يدعيها بالإذن في القباء وقد أثبته بيمينه، وإن قلنا لا يستحقها فالاقتصار واضح. ومدرك القائل بأنه لابد أن يحلف أيضًا على أنه ما أمره بقطعه قميصًا لأنه ادعى ذلك فيحتاج أن ينفيه، ولكن للأخر أن يجيب بأن الحلف على الإذن في القباء يتضمن نفي ذلك فالذي زعم النووي أنه الصواب لا وجه له ويبقى حينئذ النظر في المقالتين، ولا شك أن الأكثرين على الجمع، والراجح من جهة المعنى هو الثاني على أنه لا وجه له بالكلية، فإن قول الخياط ما أديت لي في قطعه قميصًا لا أثر له في نفي الأرش ولا استحقاق أجرة، فإنه إنما دل على نفي الإذن خاصة، والذي دل على الأمرين هو قوله لقد أذنت لي في قطعه قباء فإنه نفى الأرش لعدم التعدي، وأثبت الأجرة لوجود الإذن. ويدل لما قلناه أنا إذا صدقنا المالك فيكيفه الحلف على النفي، كما نقله الرافعي عن ابن الصباغ وأقره وجزم به في "النهاية" و"البسيط" والنفي في

جانب المالك نظير الإثبات في جانب الخياط. قوله: وإن فرعنا على قول التحالف قال ابن كج: كان المالك هنا كالبائع. انتهى. تابعه في "الروضة" على أن المالك كالبائع ويظهر أنه سهو، بل الخياط كالبائع لأنه بائع المنفعة ويدل عليه ما قالوه في البيع في تمييز البائع عن المشتري من دخول الياء ووجود النقد وأيضًا استعمال المؤجر لنعت إذا صححنا العقد بها.

الباب الثالث في "الطوارئ الموجبة للفسخ"

الباب الثالث: في "الطوارئ الموجبة للفسخ" قوله: وإن فات أي فوات العين المستأجرة في خلال المدة انفسخ العقد في الباقي، وفي الماض، يجيء الطريقان في ما إذا اشترى عيدين وقبض أحدهما فتلف الثاني قبل القبض. ثم قال: فإن قلنا: لا ينفسخ فهل له خيار الفسخ؟ فيه وجهان: أصحهما: عند الإمام وصاحب "التهذيب": لا، لأن منافعه قد صارت مستوفاة. والثاني: وبه أجاب ابن الصباغ وآخرون، نعم، لأن جميع المعقود عليه لم يسلم له، انتهى كلامه. لم يصرح بتصحيح في "الروضة" أيضًا، والصحيح أنه ليس له ذلك، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح. قوله: والنص في انهدام الدار الانفساخ وفي انقطاع ماء الأرض ثبوت الفسخ فقيل بتقرير النصين والأظهر طريقة التخريج، لكن الأظهر من القولين في كل مسألة ما نص عليه، انتهى ملخصًا. كيف يستقيم تصحيح التخريج على تصحيحه تصحيح التقرير، فإن مقتضى التخريج المساواة لا الفرق، فالجمع بينهما متناف. قوله: ولو غصب العين المستأجرة وانقضت المدة فينبني على أن إتلاف المبيع هل هو فسخ أم لا؟ ثم قال: والذي نص عليه الشافعي وأجاب به الأصحاب انفساخ الإجارة، انتهى. تابعه النووي في "الروضة" على ذلك وفيه أمران: أحدهما: أن النووي قد خالف في "تحرير التنبيه" فجزم بأنه كإتلافه،

وادعى أنه الصواب وأنه وقع كذلك في نسخة المصنف، وهذا يقتضي تصحيح عدم الإنفساخ على خلاف ما قاله الشافعي والأصحاب وهو تناقض فاحش. وقد فرق القاضي حسين بفرق ذكره الرافعي أيضًا بعد هذا في نظير المسألة، وهو أن المعقود عليه في باب البيع هو المال وهو واجب على الجاني فيتعدى العقد من العين إلى بدلها بخلاف الإجارة، فإن المعقود عليها هي المنفعة، وهي غير واجبة على متلفها، إنما الواجب المال فلهذا لم يتعد العقد من المنفعة إلى بدلها وليست المسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج"، والمذكور فيهما إنما هو غصب العين من غير مضى مدة، والحكم فيه أنه مخير. الأمر الثاني: أن الشافعي والأصحاب إذا كانوا قائلين بالانفساخ فمن أين للرافعي والنووي البناء المذكور؟ وكيف يجزمان بشيء قد خالفهما فيه الشافعي وأصحابه؟ والظاهر أنه سقط من المسألة شيء، وأصله جمهور الأصحاب، أو نحو هذا. قوله: الثانية للمكري مخاصمة من غصب العين المكراه أو سرقها لحق الملك، وهل للمكتري مخاصمتهم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لأنه يستحق المنفعة فيطالبه ليستوفي المنفعة. وأظهرهما: ويحكى عن نص الشافعي - رضي الله عنه - لا لأنه ليس بمالك، ولا نائب عن المالك فأشبه المودع والمستعير والوجهان جاريان في أن المرتهن هل يخاصم؛ لأن له حقا في المرهون؟ انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدهما: أن ما جزم به في المودع عنده من أنه لا يخاصم قد جزم به أيضًا في الباب الثالث من أبواب الرهن وفي كتاب السرقة أيضًا، لكنه

خالف المواضع الثلاث فجزم في كتاب الحج في باب محظورات الإحرام في الكلام على الحلق بأن له المخاصمة وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. الأمر الثاني: أن ما ذكره ههنا من حكاية الخلاف في المرتهن وجهين قد خالفه في الرهن أيضًا، في الموضع المتقدم ذكره وهو الباب الثالث، وقد سبق إيضاحه. الأمر الثالث: أن محل الخلاف في مخاصمة المرتهن إنما هو عند امتناع الراهن من المخاصمة، كما ذكره أيضًا في الرهن، وكلامه هنا يقتضي خلافه. الأمر الرابع: أن الرافعي قد جزم في آخر الدعاوى بأن للمرتهن أن يخاصم ولم يفصل، وهو عجيب، وقد سبق إيضاحه في الرهن. قوله: ولو تلف الثوب المعين للخياطة ففي انفساخ العقد خلاف سبق إيضاحه في الباب الثاني أصحهما عند العراقيين والشيخ أبي علي ينفسخ وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ فلم يأت به لعجز أو مع القدرة حتى مضت مدة توفية إمكان العمل، ففي استقرار الأجرة وجهان نقلهما الإمام، انتهى. لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا، ولا أصح عدم الاستقرار، كذا صححه النووي في زياداته. قوله: وموت الصبي المعين للتعليم كتلف الثوب المعين للخياطة، وكذا الصبي المعين للإرضاع، انتهى. لكن إذا قلنا الإجارة لا تنفسخ في المعين للإرضاع فلم يأت بصبي آخر لعجزه، فلا يكون كالثوب في إجراء الوجهين المتقدمين فاعلمه. فقد صرح به الرافعي في كتاب الخلع في الركن الخامس منه نقلا عن البغوي وغيره.

وصرح به النووي من "زياداته" ردًا على الرافعي حيث حاول التسوية بينهما في إجراء الوجهين، وكأن الفرق أن القدرة على تحصيل الثوب أكثر من القدرة على تحصيل الرضيع. قوله: ولو أوصى بمنفعة داره لزيد مدة عمر زيد [فقبل] (¬1) الوصية وأخرها مدة ثم مات في أثنائها انفسخت الإجارة، لأنها حقه بموته، انتهى كلامه. وهذه المسألة قد عبر عنها في "الروضة" بقوله ولو أوصى بداره لزيد إلى آخر المسألة، ولم يجعل مورد الوصية هو المنفعة، بل بالعين إذا علمت ذلك فالذي ذكره كل منهما مردود أما الرافعي فإنه قد جزم في كتاب الوصية بأن هذه الوصية أي الوصية بالمنافع المقيدة بعمر الموصى له إباحة المنافع لا تمليك، حتى لا تصح الإجارة. وفي الإعارة وجهان ذكر ذلك في الباب الثاني في القسم الثاني منه وهو المعقود للأحكام المعنوية، وسأذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى فراجعه. وأما التصوير الذي ذكره النووي فلأنه وصية على صورة العمري، وحكمه حكم العمري في حال الحياة حتى يتأبد ويورث عنه، ولا يعود إلى ورثة المعمر. وسأذكره في كتاب الهبة واضحا إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: ولو هرب الجمال فأذن الحاكم للمستأجر أن ينفق عليها ويرجع فاختلفا في المقدار صدق المستأجر، وقيل الجمال. انتهى ملخصًا. قال الأصحاب إنما يقبل قول المستأجر إذا ادعى نفقة مثله في العادة، وقد استدركه عليه في "الروضة". ¬

_____ (¬1) في ب: فعمل.

قوله: ولو لم تكن المدة مقدرة، كما لو استأجر دابة للركوب إلى بلد، ثم لم يسلمها حتى مضت مدة يمكن فيها المضي إليه لم تنفسخ الإجارة في أظهر الوجهين. وعلى هذا ففي "الوسيط" أن للمكترى الخيار لتأخر حقه: ورواية الأصحاب تخالف ما رواه فإنهم قالوا: لا خيار للمكترى كما لا خيار للمشتري إذا امتنع البائع من تسليم المبيع مدة ثم سلمه. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا، وهذا القياس يقتضي شيئين: [أحدهما: ثبوت الخيار للمشتري قبل تسليم البائع وليس كذلك] (¬1) على ما قرره الرافعي في باب "التفليس". الثاني: أنه لم يصور مسألة الإجارة هنا بما إذا امتنع ثم سلم كما صوره في المقاس عليه، وقياسه عليه يقتضي ثبوت الخيار للمستأجر قبل التسليم واعلم أن اقتضاه كلام الرافعي من انفراد الغزالي بالخيار ليس كذلك، فقد سبقه إليه الماوردي في "الحاوي"، ونقله عنه في "الكفاية" وهو المتجه أيضًا. والفرق بينه وبين امتناع البائع من التسليم ظاهر فإن الإجارة لا تراد للدوام ولا في كل وقت وزمان بل عند الحاجة إليها، فإذا تعذر عليه السير مثلا في الوقت الذي استأجر فيه فقد فات المطلوب فأثبتنا الخيار والملك يراد غالبا للدوام. قوله: ولو كانت الإجارة فاسدة استقرت فيها أجرة المثل بما يستقر به المسمى [في الإجارة الصحيحة سواء انتفع أم لا وسواء كانت أجرة المثل أقل من المسمى] (¬2) أم أكثر. انتهى كلامه. وذكر قبل ذلك أن الأجرة في الإجارة الصحيحة تستقر إذا سلم العين ¬

____ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ومضت المدة أو عرضها عليه، ومضى زمن بعد العرض يمكن فيه الاستيفاء سواء كانت الإجارة على العين أو على الذمة، وهذا الكلام بإطلاقه يشعر بأن الأجرة تستقر في الإجارة الفاسدة إذا حصل الغرض ومضى زمن يمكن الاستيفاء فيه، وهو باطل لأنه لم يلتزم الأجرة لعقد ولا وضع يده على مال الغير. وقد ذكر في "المهذب" نحو ما ذكره الرافعي، فاستدرك عليه صاحب "البيان" بنحو ما ذكرته. فقال: والذي يقتضيه المذهب أنه لا شيء لأن الأجرة إنما تستقر بعقد صحيح، ويتمكن فيه من استيفاء المنفعة، أو بأن تتلف المنفعة تحت يده ولم يوجد ههنا أحدهما هذا كلامه. رأيت ذلك في كتاب "تذكرة العالم وإرشاد المتعلم" لأبي حفص عمر ولد الإمام أبي العباس ابن سريج. فقال: إذا وقعت الإجارة على فساد فعلى المستأجر إن كان سكن أو استخدم أجر مثل ذلك هذه عبارته، فقيد ذلك بما إذا انتفع. قوله: في أصل "الروضة": فرع: أجر الحر نفسه مدة لعمل معلوم، وسلم نفسه فلم يستعمله المستأجر حتى مضت المدة، أو مدة يمكن فيها ذلك العمل استقرت الأجرة على الأصح ويجري الخلاف في ما إذا ألزم ذمة الحر عملا فسلم نفسه، انتهى. وتعبيره بقوله مدة لعمل معلوم قد شاهدته كذلك في "الروضة" التي هي بخط النووي كما وقع في سائر النسخ، وهو لا يستقيم مع التقسيم الآتي عقبه وهو استقرار الأجرة تارة بمضي المدة وتارة بالعمل، فإن اجتماعهما في عقد واحد مفسد له. وهذا الخلل وقع من إسقاط لفظة واحدة من كلام الرافعي، وهي "أو"

الدالة على التقسيم فإنه أعني الرافعي عبر بقوله مدة أو لعمل معلوم فأسقطها النووي ظنا منه أنها زائدة لكون الإجارة لابد فيها من بيان نوع العمل وذهل عما سيأتي فلزم الخلل، وليس هذا هو المراد بل المراد بالعمل المضبوط ما كان مقدرًا بالعمل خاصة كخياطة الثوب وبناء الحائط، ولكن سكت الرافعي عن بيان نوع العمل لأنه قد تقدم من كلامه أنه لابد منه، وليس هذا موضعه فتفطن له. قوله: المسألة الثانية أكرى عينا مدة ثم إن المؤجر إستوفى منفعة المدة. حكي المتولي فيه طريقين: أحدهما أنه كما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض. والثاني: القطع بالانفساخ فرقا بأن الواجب هناك بالإتلاف إنما هو القيمة، وأنها قابلة للبيع فجاز أن يتعدى حكم البيع إليها، وأما ههنا فالذي يقدر وجوبه هو الأجرة، وأنها لا تقبل الإجارة فلا يتعدى حكم الإجارة إليها، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو يوهم أن إتلاف البائع ليس فيه طريقة قاطعة بالإنفساخ، وليس كذلك فقد تقدم في كتاب البيع أن فيه طريقين: أصحهما: أن فيه قولين أظهرهما إنفساخ العقد. والثانية: القطع بالإنفساخ. وكلام "التتمة" صحيح لا اعتراض عليه، فإنه لم يذكر في البيع إلا قولين، ولم يحك الطريقة القاطعة فلذلك حسن منه هنا حكاية الطريقين. نعم الفرق الذي ذكره صاحب "التتمة"، قد ذكره القاضي حسين في "تعليقه" أيضًا، ونستفيد منه أن بعض من قال هناك: إنه لا ينفسخ قائل هنا بالانفساخ، وحينئذ فيقال في المسألة طريقان: أحدهما: القطع بالانفساخ.

والثانية: أنها كإتلاف المبيع حتى يجيء فيها الطريقان إلا أن حاصلها لا يخرج عن طريقين. قوله: الإجارة قد تكون من الموقوف عليه، وقد تكون من المتولي، فإذا أجر البطن الأول، من الموقوف عليهم، ثم مات في أثناء المدة بطلت الإجارة في الأصح، لأن المنافع بعد موته لغيره، ولا ولاية له عليه، فإن أبقينا الإجارة فحصة المدة الباقية من الأجرة تكون للبطن الثاني فإن أتلفها الأول فهي دين في تركته. ثم قال: وإذا أجر المتولي فموته لا يؤثر لأنه ناظر للكل وقيل يبطل. فيه أمور: أحدها: في تصوير القسم الأول، فإن لقائل أن يقول الموقوف عليه إن كان ناظرا أيضًا فهو القسم الثاني، وإن لم يكن ناظرًا لم يصح إيجاره بالكلية، فالجواب أن ذلك يتصور بما إذا لم يجعل الواقف النظر لأحد، وقلنا النظر فيه للموقوف عليه، فكل بطن ينظر لنفسه خاصة ولا ولاية له على غيره، فلذلك بطلت الإجارة للمعنى المذكور. ويتصور على المذهب أيضًا بما إذا شرط الواقف النظر لذلك أي للموقوف عليه بحيث أن كل مستحق ينظر في حصته. وقد أوضح ابن الصلاح ذلك في "فتاويه"، فإنه أجاب بما قلناه. ثم قال: ولتعلم أن إجارة هذا ليس من قبيل إجارة النظار، فإن المراد بالناظر في هذا أن يكون غير الموقوف عليه، وحيث يؤجر الموقوف عليه فلا يؤجر إلا إذا شرط له النظر، لكن نظره لا يلحقه بالناظر الأجنبي، فإن نظره لا يتعدى إلى غيره من أهل الوقف، بخلاف الناظر غير المستحق هذا كلامه وصرح به أيضًا صاحب "الشامل". فقال: وإذا أجر الناظر في الوقف بالوصية إليه أو الحاكم أو أمين الحكم

مدة فمات البطن الأول لم تنفسخ الإجارة لأن الذي عقدها له النظر على جميع البطون، وإن كان الذي أجرها البطن الأول من أهل الموقف، إذا قلنا يجوز لهم أو كان الواقف جعل لكل بطن أن يؤجر نصيبه، فيجوز ذلك وجهًا واحدًا فإذا مات البطن الأول قبل انقضاء مدة الإجارة فهل تبطل في ما بقي من المدة؟ وجهان: وجه الانفساخ أنه أجر ما لا يستحق منفعته، هذا كلام صاحب "الشامل"، ذكره في آخر كتاب العطايا ويبق النظر في مسألة، وهو أنه لو جعل النظر للأرشد فانتقل بعض الوقف للبطن الثاني والأرشد من الطبقة الأولى، فأجر الأرشد ثم مات فالمتجه عدم الانفساخ لأن ولايته باقية عليهم، وإن لم يكن أجنبي. الأمر الثاني: إذا أجر الناظر الوقف سنين وأخذ الأجرة، فلا يجوز أن يعطي جميع الأجرة للبطن الأول، وإنما يعطي بقدر ما مضى من الزمان. فإن دفع أكثر منه فمات الآخذ ضمن الناظر تلك الزيادة للبطن الثاني، هكذا رأيته في "فتاوى القفال" فتفطن له، فإنه أمر مهم وقياسه القول به أيضًا في ما إذا صدرت الإجارة من الوقوف عليه حتى يجوز له التصرف في قدر ما مضى خاصة. الثالث: أن الضمير في قوله في آخر كلامه فموته عائد إلى البطن الأول لا إلى الناظر. قوله: ولو أجر الولي الصبي مدة يبلغ فيها بالسن لم يصح في ما زاد على البلوغ ولو أجره مدة لا يبلغ فيها بالسن فاتفق الإحتلام في أثنائها فوجهان: أظهرها: على ما ذكره الشيخ أبو إسحاق والروياني في "الحلية" أن الإجارة تبقى.

وأصحهما: عند الإمام والمتولي أنها لا تبقى، انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في المسألة الأولى يؤخذ منه أنه لو غاب الصبي عن وليه مدة يبلغ فيها بالسن ولم يعلم هل بلغ رشيدًا أم لا؟ لم يكن لوليه التصرف في ماله، ولا إخراج زكاته استصحابًا لحكم الصغير، بل المتصرف في ذلك، إنما هو الحاكم. نعم، ذكر الجرجاني في "الشافي" أنا إذا قلنا أن إختيار الولي للصغير يكون بعد البلوغ فهل المخاطب بذلك هو الولي أو الحاكم؟ فيه وجهان، والذي حكاه لابد من جريانه هنا. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يصحح في "الشرح الصغير" أيضًا شيئًا، وصحح في "المحرر" الوجه الأول وهو البقاء وعبر بالأظهر. ونقل النووي في "الروضة" عن "المحرر" أنه صحح الثاني وهو البطلان. والذي قاله غلط، فإن المذكور فيه ما قدمته وقد ذكره أيضًا على الصواب في "مختصره" له. قوله: وإذا أجر عبده ثم أعتقه ففي رجوعه على السيد بأجرة المثل للمدة الواقعة بعد العتق وجهان في رواية بعضهم وقولان في رواية آخرين. أصحهما: وهو الجديد في رواية من جعلهما قولين بأنه لا يرجع، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد صحح أن الخلاف وجهان كذا ذكره في "الشرح الصغير". فقال: فيه وجهان، وقيل: قولان هذا لفظه، ولم يبين ذلك في "المحرر"، بل حكى خلافًا مطلقًا وصحح النووي في "الروضة" من الأصل

أن الخلاف قولان، وبه جزم في "المنهاج" أيضًا فاعلمه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من جعل القول بالرجوع قديما تقليدًا لمن حكاه، قد تبعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، فإن الشافعي نص عليه في "الأم" في كتاب الصلح المذكور بعد أبواب اللعان. فقال في الكلام على ما إذا صالح على خدمة عبد سنة ما نصه: ولو كانت المسألة بحالها فأعتقه السيد كان العتق جائزًا، أو كانت الخدمة عليه إلى منتهى السنة يرجع بها على السيد لأن الإجارة بيع من البيوع لا ينقض ما دام المستأجر مسلمًا هذا كلامه. وقد ذكرت لك غير مرة أن الرافعي -رحمه الله- كان قليل الإطلاع على نصوص الشافعي. قوله: ولو ظهر بالعبد عيب بعد العتق وفسخ المستأجر الإجارة، فالمنافع للعتيق إن قلنا يرجع بمنافعه على السيد، وإلا فهل هي له أو للسيد؟ فيه وجهان. انتهى. هذان الوجهان بناهما في "التتمة" على أن الفسخ يرفع العقد من حينه وأصله، فإن قلنا بالأول فهي للسيد، [وإلا فللعتيق، وهو بناء ظاهر وحينئذ فيكون الأصح أنها للسيد] (¬1). وقد نقل الرافعي بعد هذا عنه هذا البناء، وأقره في نظير المسألة، وهو ما إذا أجره، ثم باعه وكذلك ذكره القاضي الحسين وغيره. إذا علمت ذلك فقد صحح النووي من "زوائده" أنها للعتيق، ولم ينقله عن أحد وهو مخالف للمنقول والمعقول فيكون مردودا. وقد حكى المتولي أيضًا هذا الخلاف في ما إذا أوصى بمنفعة العبد لزيد وبرقيته لآخر، فرد زيد الوصية، وفيه نظر والمتجه هنا رجوعها للورثة. ¬

___ (¬1) سقط من أ.

ومن نظائر المسألة ما إذا أجر داره ثم وقفها أو وهبها، ثم فسخت الإجارة، ولم أقف الآن فيها علي نقل. قوله: ولو أجر أم ولده ومات في المدة عتقن وفي بطلان الإجارة الغلاف المذكور في ما إذا أجر البطن الأول الواقف ومات، انتهى. وحاصله تصحيح بطلان إجارتها، لأنه الأصح في إيجار البطن الأول كما سبق. إذا علمت ذلك فقد جزم في أوائل كتاب الوقف بعدم البطلان وستعرف لفظه هناك، وتبعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: وكتابة العبد المكري جائزة عند ابن القطان، وغير جائزة عن ابن كج، انتهى. والصحيح المنع فقد رأيته منصوصًا عليه للشافعي في "البويطي" و"الأم" وهو المجزوم به في هذا الكتاب وفي "الروضة" في كتاب الكتابة ولم يستحضر النووي هنا ما هو مذكور هناك فقال من "زياداته": البطلان أقوى، وقد حكى الرافعي في كتابة العبد الموصي بمنفعته وجهين، وصحح المنع أيضًا. وتبعه عليه في "الروضة" ذكر ذلك في باب الوصية. قوله: في أصل "الروضة": إذا باع العين المستأجرة فله حالان: الأول: البيع للمستأجر وهو صحيح قطعًا. انتهى. ليس كما قال من دعوى القطع ولذلك لم يذكره الرافعي أيضًا، فقد عبر الغزالي في "الوسيط" بقوله: والظاهر الصحة، وهذا يشعر إشعارًا ظاهرًا بجريان الخلاف، وصرح به محمد بن يحيى تلميذ الغزالي في كتابه المسمى "المحيط في شرح الوسيط"، ورأيته أيضًا مصرحًا به في "شرح المفتاح" لأبي الخير سلامة بن إسماعيل بن جماعة المقدسي. فقال: فرع: قد ذكرنا أنه إذا باع الشيء المؤاجر هل يصح بيعه أم لا؟

على قولين فإذا ثبت هذا، فإن باعه من المستأجر فهل يصح ذلك أم لا؟ على القولين. هذا لفظه. وعلل وجه الانفساخ بأن الملك قد صار له، وهذا التصنيف في نحو حجم "الوجيز" وأكبر منه بيسير، ومنه نسخة موقوفة بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة. وأبو الخير المذكور قد نقل عنه ابن أبي الدم الحموي في "شرح الوسيط" في كتاب العدد وفي غيره، وقال: إنه رجل مجهول وليس كما قال، بل هو معروف، توفي سنة ثمانين وأربع مائة، نقله المفشراني عن الحافظ المنذري ذكره الكنجي في "تاريخ بيت المقدس" في ترجمة الفقيه سلطان المقدسي، رأيته أيضًا مذكور في خطبة كتاب "البيان" الذي ألفه الفقيه سلطان المذكور في التقاء الختانين فقال: كان عديم النظير في زمنه لما كان مخصوصًا به من حضور القلب وصفاء الذهن وجودة الحفظ هذا لفظه. قوله: في "الروضة": ويتخرج على الخلاف في أن الإجارة والملك هل يجتمعان؟ مسائل: إحداها: أوصى لزيد برقبة دار، ولعمرو بمنفعتها، وأجرها لعمرو، ففي صحة الإجارة الوجهان. انتهى. وتعبيره بقوله لعمرو رأيته بخطه كما هو أيضًا في النسخ، وصوابه لزيد، كما ذكره الرافعي. قوله: وإذا باعها من غير المستأجر فقولان أصحهما الصحة إلى أخره. يستثنى من جريان الخلاف مسائل منها إذا هرب الجمال وترك الجمال المستأجرة، فإنه يباع منها بقدر الحاجة لينفق عليها من ثمنه. قال الرافعي: ولا يخرج على الخلاف في بيع المستأجر لأنه محل ضرورة. ومنها إذا كان البيع في ضمن عتق، كما لو قال اعتق عبدك عني على

كراء فأعتقه عنه وهو مستأجر فإنه يصح قطعا لقوة العتق، كذا نقله الرافعي في أواخر العتق من "فتاوى القفال" وارتضاه. قوله في المسألة: قال -يعني صاحب "التتمة": ولو تقايلا الإجارة، فإن قلنا: الإقالة بيع فمنفعة بقية المدة للبائع، وإن قلنا: فسخ، فكذلك على الصحيح لأنها ترفع العقد من حينها بلا محالة. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب "التتمة" من نفي الخلاف في الإقالة، وأقره عليه، ذكره كذلك في "التتمة" وعبر بقوله: بلا خلاف، وعبر عنه في "الروضة" بقوله: قطعًا، وليس كما قال من نفي الخلاف، بل فيها خلاف مشهور ذكره الرافعي في أوائل حكم المبيع قبل القبض.

قال -رحمه الله-: وكما افتتحنا كتاب الإجارة بمقدمات فإنا نختمه بمؤخرات قوله: الأولى لو قال: ألزمت ذمتك نسج ثوب صفته كذا على أن تنسجه بنفسك، لم يصح لأن في هذا التعيين غررا، لأنه ربما يموت ولهذا لم يجز تعيين ما يؤدي منه المسلم فيه. انتهى. وما جزم به ههنا من عدم الصحة قد سبق منه في كتاب الحج، في الكلام على الاستئجار له ما يقتضي أن المشهور خلافه، وتقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: وفي إجارته من المؤجر -أي قبل قبضه- وجهان، كما في البيع من البائع. انتهى كلامه. والمفهوم منه رجحان البطلان؛ لأنه الراجح في البيع، وسيأتي أيضًا التصريح به، ووافقه النووي هناك عليه، لكن خالفه هنا فذكر من "زياداته" أن الأصح صحته. قوله: ولو أجر الدار المشحونة، وكان تفريغها يستدعي مدة ففيها جوابان: أحدهما: أنه إن أمكن التفريغ في مدة ليس لمثلها أجرة صح العقد وإلا فلا. والثاني: أنه إن كان يذهب في التفريغ جميع مدة الإجارة لم يصح، وإن كان يبقى منها شيء صح ولزم قسطه، وخَرَّجُوا على الجوابين ما إذا استأجر دارًا ببلد آخر، فإنه لا يتأتى التسليم إلا بقطع المسافة بين البلدين، وما إذا باع جمرا وزنا وكان ينماع بعضه إلى أن يوزن. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": الصحيح من الجوابين هو الأول.

قال: والأصح عندي فيما إذا استأجر دارًا ببلد آخر الصحة، وفي الجمد المنع لإمكان بيعه جزافًا. انتهى. وههنا أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ذكر المسألة الأولى في الباب الأول، وصحح الجواز، وقد تقدم لفظه هناك، وذكر النووي في "المسائل المنثورة" نحوه، فقال: قال الشافعي والأصحاب لا تصح إيجارة الأرض المشغولة بالبناء للزراعة لعلتين: أحدهما: أنها مستورة. والثانية: أنه لا يمكن تسليمها في الحال، وذكر أيضًا في "فتاويه" قريبًا من ذلك، فقال: إذا استأجر أرضًا بنى المؤجر في بعضها. فقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إن كان يمكن نقل الجدران في زمان قريب ليس لمثله أجرة صح استئجار العرصة وموضع الجدران إذا كان رآها قبل العقد، وإن لم يمكن نقلها في زمن قريب وأمكن ابتياع الجدران أو بيع مغارسها، فقد أمكن الانتفاع بها عقب الإجارة فتصح، وإن لم يكن ذلك ففيه قولان: تفريق الصفقة. الأمر الثاني: أن الماوردي قد قال في "الحاوي": إن اليوم الواحد هو أول مدة يصح استئجار الدار فيها للسكنى وقال: وما دون ذلك تافه لم يجر به عرف فلم يصح به عقد، وقد استفدنا مما قاله ضابط المدة التي لمثلها أجرة. قوله في الاستئجار للخدمة: وعن أبي سهل الصعلوكي أن علف الدابة وحلب الحلوبة وخدمة الزوجة لا تلزمه إلا بالتنصيص عليه ويجوز أن يرجع فيه إلى العادة، وقال النهروي: تدخل. انتهى. قد اختلفت النسخ، ففي بعضها أبو سهل كما هو ههنا، وفي بعضها نسبته إلى سهل، وهو ولد المذكور، وكلاهما صاحب وجه.

قوله: وذكر بعض من شرح "المفتاح" أنه ليس له إخراجه من البلدة إلا إن شرط عليه مسافة معلومة من كل جانب، وأن عليه المكث عنده إلى صلاة العشاء. انتهى كلامه. زاد النووي فقال: المختار في هذا كله الرجوع إلي عادة الخادم في ذلك البلد، وذلك الوقت. انتهى. والعجب من الرافعي والنووي كيف نقلا هذه المسألة عن هذا الشارح المجهول حتى خالف النووي لأجل ذلك، واختار الرجوع إلى العرف مع أن المسألة قد نص عليها الشافعي -رحمه الله- في "الأم" في كتاب الصلح، وهذا الباب بعد أبواب اللعان، فقال في الكلام على ما إذا صالح على خدمة عبد ما نصه: قال -يعني الشافعي: ولصاحب الخدمة أن يخدمه غيره ويؤاجره غيره في مثل عمله، وليس له أن يخرجه من المصر إلا بإذن سيده. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلته: وصرح أيضًا القاضي الحسين بذلك فقال: إلا أن يشترط له مسافة معلومة من كل جانب من فرسخ إلى خمسة عشر، وصرح أيضًا بأنه عليه الإقامة إلى صلاة العشاء. قوله: في المؤخرة الثانية نقلا عن الزيادات للعبادي: وأنه إذا إستأجر جملًا ليحمل وقرا إلى داره، وهي ضيقة الباب، هل عليه إدخاله الباب؟ فيه قولان للعرف. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وهو يقتضي الجزم بصحة الاستئجار، وأن القولين في الإدخال وعدمه، وليس كذلك، بل الثاني فساد العقد إن لم يحصل شرط الدخول، فإن العبادي قد عبر بقوله: فيه قولان: أحدهما: يجب للعرف. والثاني: أنه يفسد إلا أن يشترط هذا والجمال يدخله، ولا يكلف أن يرفعه إلى السطح. هذا لفظه كذا نقلته من نسخة هي بخط الفخر بن عساكر

ومقابلته ووجه الإفساد يعارض العرف واللفظ، وتقييد المسألة بالباب الضيق لا فائدة له عند قائل: التعليل فتأمله، وما اقتضاه كلام الرافعي هنا قد تبعه عليه ابن الرفعة على وجه هو أشد في الغلط وأصرح، وقد نبهت عليه في "الهداية إلى أوهام الكفاية" فراجعه. واعلم أن الوقر. بكسر الواو هو الحمل، يقال: جاء فلان يحمل وقره، قاله الجوهري. قوله: ولو أراد المستأجر أن يستبدل عن المنفعة شيئًا آخر يقبضه لم يجز إن كانت الإجارة في الذمة، وإن كانت إجارة عين، قال صاحب "التهذيب": هو كما لو أجر العين المستأجرة من المؤجر وفيه وجهان، الأصح جواز إن جرى ذلك بعد القبض. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من منع الاستبدال عن المنفعة في إجارة الذمة، وإن كان بعد القبض قد جزم بخلافه في الباب الذي قبله في النوع الثالث المعقود لإجارة الدواب في أثناء كلامه -أوله: قال: ولو تلفت الدابة، فقال فيه ما نصه: وإن أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في إجارة الذمة إن كان قبل أن يتسلم دابة، لم يجز لأنه اعتياض عن المسلم فيه، وإن كان بعد التسليم جاز؛ لأن الاعتياض والحالة هذه واقع عن حق في عين هكذا ذكره الأئمة. انتهى لفظه، وهو اختلاف غريب ووقع الموضعان كذلك في "الروضة"، ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". الأمر الثاني: أن اشتراط قبض العين في جواز إجارة العين للمستأجر من المؤجر قد تابعه عليه النووي أيضًا لكنه قد تقدم من كلامه -أعني النووي- قبل ذلك بنحو ورقتين أن الأصح جوازه، وتقدم التنبيه عليه. قوله: ولو دفع ثوبًا إلى قصار ليقصره بأجرة، ثم استرجعه فقال: لم

أقصره بعد فلا أرده، فقال صاحب الثوب: لا أريد أن تقصره واردده إلى، فلم يرد وتلف الثوب عنده لزمه ضمانه، وإن قصره ورده فلا أجرة له، وعلى هذا قياس الغزل عند النساج ونظائره. انتهى كلامه. هذه المسألة التي ذكرها -رحمه الله- صورتها أن لا يقع عقد صحيح، فأما إذا وقع فلا ضمان إن تلف، ويستحق الأجرة إن قصره. قوله: وأن الأكار لو تعمد ترك السقي إلى آخره. الأكار: بهمزة مفتوحة وكاف مشددة وراء مهملة هو العامل في المساقاة، يجمع على أكرة بفتح الهمزة والكاف على وزن البررة، وهو على خلاف القياس. قوله في المؤخرة الثالثة: عن "المنثور" المزني أنه لو استأجره لخياطة ثوب، فخاط بعضه واحترق الثوب استحق الأجرة لما عمل وأنه لو استأجره لحمل جب إلى مكان معلوم فزلقت رجله في الطريق وانكسر الجب لا يستحق شيئًا من الأجرة، وفرق بينهما بأن الخياطة تظهر على الثوب فوقع العمل مسلمًا بظهور أثره، والحمل لا يظهر أثره على الجب. انتهى كلامه. وما ذكره من استحقاق الأجرة للمقدار الذي عمله، محله إذا كان العمل في ملك المستأجر أو بحضرته؛ لأنه إذا كان كذلك كان مسلمًا له، فيكون كتلف المبيع بعد القبض بخلاف ما إذا لم يكن في ملكه ولا بحضرته فإن لم يقع مسلمًا له فيكون كالمبيع قبل القبض، وقد ذكره الرافعي كذلك قبل هذا، ثم إنه لا يختص بالخياطة، بل كل ما يلحق بالأعيان كالقصارة فحكمه كذلك، فأما سياسة الدواب ونحوها من الآثار كحمل الشيء فلا يستقر. قوله: ولو أجر أرضًا إجارة صحيحة ثم غرقت بسيل أو بماء نبع فيها، نظر إن لم يتوقع انحساره في مدة الإجارة، فهو كما لو انهدمت الدار. انتهى.

وما ذكره من كونه تعيبًا تابعه عليه في "الروضة" وتقدم خلافه في باب حكم المبيع قبل القبض فراجعه. قوله: تعطل الرحى لانقطاع الماء والحمام لخلل في الأبنية، أو لنقص الماء في بئر ونحوه كانهدام الدار، وكذا لو استأجر قناة فانقطع ماؤها، فلو نقص ثبت الخيار. انتهى. تابعه في "الروضة" على أن تعطيل الحمام والقناة لانقطاع الماء بمثابة انهدام الدار والأصح في الانهدام الفسخ لا ثبوت الخيار، إذا علمت ذلك، فقد ذكر الرافعي عند الكلام على الانهدام، أن الأصح انقطاع ماء الأرض التي استأجرها للزراعة لا يوجب الفسخ، بل الخيار، وفرقوا بأن اسم الأرض باق بخلاف الدار، وبأن سوق الماء ممكن، وهذان الفرقان جاريان بعينهما هاهنا، وحينئذ فنظير ما قالوه هناك التخيير، فإن هذا مثال آخر للمسألة لا مسألة أخرى، ووقع الموضعان في "الروضة" أيضًا كذلك. قوله: فرع: بيع الحديقة التي ساقى عليها في المدة يشبه العين المستأجرة، ولم أر له ذكرًا، نعم في فتاوى صاحب "التهذيب" أن المالك إن باعها قبل خروج الثمرة لم يصح، لأن للعامل حقًا في ثمارها، فكأنه استثنى بعض الثمرة وإن كان بعد خروج الثمرة يصح البيع في الأشجار ونصيب المالك من الثمار، ولا حاجة إلى شرط القطع، لأنها بيعة مع الأصول وتكون للعامل مع المشتري، كما كان مع البائع وإن باع نصيبه من الثمرة وحدها لم يصح للحاجة إلى شرط القطع وتعذره في الشائع. انتهى كلامه. زاد في "الروضة" على هذا فقال: هذا الذي قاله البغوي حسن. انتهى. فأما ما قاله الرافعي من كونه لم يره، وتابعه عليه أيضًا في "الروضة" فقد صرح بها البويطي في "مختصره" في كتاب المساقاة وجزم بجواز بيع الأشجار مطلقًا.

فقال ما نصه: وإذا أفلس رب الحائط بيع الحائط وكان المساقي على معاملته والمشتري بالخيار إن لم يعلم بالمساقاة، فإن قيل: وكيف يجوز لرجل أن يشتري الأصل وللساقي فيه حق إلى أجل؟ قيل لسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز بيع النخل وبه ثمرة قد أبرت. انتهى لفظه بحروفه. وهذه المسألة من كلام البويطي كما هو مصرح به في "مختصره" وأما ما قاله البغوي واستحسنه النووي فمردود، فإن الرافعي قد جزم في الباب الثاني من أبواب "الوصية" بأن بيع الشاة الموصى بسلخها صحيح، وادعى أنه لا خلاف فيه وهو نظير ما نحن فيه، فإن المعنى الذي استندوا إليه موجود بعينه في الوصية ومع ذلك لم يلتفتوا إليه. قوله من "زيادته" نقلا عن "فتاوى الغزالى": الخامسة إذا جعل غلة في المسجد وأغلقه لزمه أجرته؛ لأنه كما يضمن المسجد بالإتلاف يضمن منفعته، ثم قال -أعني النووي- وتقييده بما إذا أغلقه لا حاجة له، بل لو لم يغلقه ينبغي أن تجب الأجرة للعلة المذكورة. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من أن التقييد بالغلق لا حاجة له، ومن رجحان الوجوب بحثًا عند عدم الغلق غريب وذهول عجيب، فإن الغزالي إنما قيده بذلك لأجل إيجاب أجرة الجميع حتى إذا لم يغلقه لا تلزمه إلا أجرة الموضع المشغول، وقد صرح به الغزالي في "فتاويه" هكذا، فقال: الجواب: تلزمه أجرة الجميع مهما طرح فيه العلة وأغلقه كما لو طرح في بيت من جملة دار، وفي الدهليز وأغلق الباب يلزمه أجرة الجميع. هذا لفظ الغزالي بحروفه، والعجب أن النووي في هذه الزيادة قد أوجب أجرته بكماله. فقال: لزمه أجرته -أي المسجد ولم يقل: أجرة البقعة المشغولة فصار التقييد بالإغلاق ضروريا حتى لو لم يذكره الغزالي لكان يجب إيراده عليه، أو أعجب من ذلك أن النووي قد ذكر أيضًا المسألة من "زوائده" في آخر

باب الغصب، بهذا التفصيل ناقلًا لها عن الفتاوى المذكورة هناك فراجعه. واعلم أن كلام الغزالي في هذه المسألة يحتاج إلى البحث عنه من وجوه قد تعرض لجميعها صاحب "التتمة" فقال في الباب الأول من كتاب الغصب في الفصل الرابع منه: الرابع إذا انتفع بمسجد، إما بأن اتخذه مسكنًا أو مخزنًا يحفظ فيه متاعه ضمن أجرة المثل، وتكون لمصالح المسلمين، كما لو أتلف مالًا من بيت المال فأما إن أغلق باب المسجد ومنع الناس من الصلاة فيه لا يضمن؛ لأن المسجد لا تثبت عليه اليد ويخالف ما لو حبس حرًا، لأن منفعة الحر تستحق بالإجارة، ومنفعة المسجد لا تستحق بالإجارة، وعلى هذا فلو انتفع بشارع من شوارع المسلمين فسكنه أو حفظ فيه متاعه، ومنع الناس من الممر فيه ضمن المنافع، فأما إذا نصب على الشارع بابا وأغلقه ولم ينتفع بالبقعة، لا يضمن لأن الشارع حق لجميع المسلمين كالمسجد سواء ويخالف الأرض الموقوفة على مصالح المسلمين إذا استولى عليها ظالم يضمن أجرة مثلها؛ لأنها لم تتعين لنوع منفعة، بل يجوز الانتفاع بها كما يجوز الانتفاع بالأراضي المملوكة، وأما الشارع فقد تعين وجه الانتفاع به كالمسجد سواء، وعلى هذا الأرض الموقوفة على دفن الموتى فيها وأراضي عرفات إن استولى عليها ظالم وانتفع بها ضَمِن، وإن لم ينتفع لم يضمن كالمسجد. هذا كلام صاحب "التتمة"، وقد ظهر لك منه أشياء منها مستحق الأجرة، ومنها أنه لا فرق في الوجوب بين أن يغلقه أو لا، ومنها أنه وإن ضمن هذه المنفعة بالتفويت لا يضمنها بالفوات، ويؤيده أن المسجد حر كما قالوه في الوقف وحبس الحر لا يقتضي أجرة. واعلم أن القاضي الحسين في كتاب إحياء الموات قبيل باب إقطاع المعادن، قد حكى وجهين في وجوب الأجرة على من أشغل المسجد بوضع الأمتعة، وعلل عدم الوجوب بأنه لا يجوز إجارته، فلا قيمة لتلك البقعة، وقد تقدم عن "التتمة" نحوه.

قوله أيضًا من "زياداته": السادسة استأجر بهيمة إلى بلد لحمل متاع ثم أراد في أثناء الطريق بيعه، والرجوع وطلب رد بعض الأجرة، فليس له شيء، لأن الإجارة عقد لازم، بل إن باعه فله حمل مثله إلى المقصد المسمى. انتهى كلامه. وقد تقدم في الباب الأول في الكلام علي العجز الشرعي، أنه ذكر ما يخالف هذا فراجعه.

كتاب الجعالة

كتاب الجعالة قوله: بل لو قال غير المالك: من رد عبد فلان فله كذا استحقة الراد عليه لأنه التزمه. انتهى كلامه. وما ذكره من الاستحقاق استشكله ابن الرفعة؛ لأنه لا يجوز لأحد وضع اليد على الآبق بهذا القول فكيف تستحق الأجرة؟ وقد يجاب بأن صورة ذلك عند إذن المالك لمن شاء في الرد، وحينئذ فيخص إطلاق الرافعي وغيره. قوله: ولو كان العامل معينًا فلا يشترط قبوله أيضًا على المشهور، ويكفي الإتيان بالعمل، وقال الإمام: لا يمتنع أن يكون كما لو قيل في اشتراط القبول. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام هنا واقتصر عليه تبعه عليه في "الروضة" أيضًا والخلاف [فيه] (¬1) ثابت للأصحاب، نقله عنهم الإمام في باب المسابقة فاعلمه، ونقله أيضًا الرافعي عنه هناك فقال بعد حكاية وجهين في إشتراط القبول في المسابقة إذا جعلناها جعالة ما نصه وذكر الإمام أن الأصحاب أجروا هذا الخلاف في الجعالة المتعلقة بمعين وهي أن يقول لمعين: إن رددت عبدي فلك كذا. هذا لفظ الرافعي، وعبارة "الروضة" في هذا الباب: وإن كان معينًا لم يشترط قبوله، كذا قاله الأصحاب ثم ذكر المنقول وعبارته هنا مع ما في المسابقة في غاية التباين. قوله من "زوائده": فمن ذلك أنه لو قال: من أخبرني بكذا فله كذا [فأخبر به إنسان] (¬2) فلا شيء له لأنه لا يحتاج فيه إلى عمل صرح به البغوي وغيره. انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في آخر الباب فقال: إن أخبرتني بخروج ¬

__ (¬1) في جـ: عنه. (¬2) في جـ: فأخبره إنسان.

زيد من البلد فلك كذا، فأخبره، ففي "فتاوى" القفال أنه إن كان له غرض في خروجه استحق وإلا فلا، وهذا يقتضي كونه صادقًا، وينبغي أن ينظر هل يناله تعب أم لا. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره الرافعي هناك بحثًا قد صرح بنقله في "الروضة" هنا وعلم [منه] (¬1) أيضًا أن ما أفهمه كلام النووي من الاستحقاق عند التعب قد صرحوا به وأن شرطه الصدق. قوله: ويشترط عند التعيين أهلية العمل في العامل. انتهى. كأنه يشير بذلك إلى اشتراط البلوغ والتمييز عند التعيين، حتى إذا لم يعين فرده صبي ونحوه استحق المسمى، وقد صرح به صاحب "التعجيز" في شرحه له، ورأيته في تعليق قديم في الفقه [وكأنه] (¬2) بخط المصنف، وهو متأخر عن إبن الصباغ فإنه ينقل عنه، وشرط في "الوسيط" الأهلية مطلقًا، ولم يقيده [بحال] (¬3) التعيين، وصرح به الماوردي في كتاب السير من "الحاوي". قوله: يجب أن يكون الجعل المشروط معلومًا، إلى آخره. اعلم أنه قد ذكر في كتاب الحج أنه لو قال لغيره حج عني بنفقتك جاز فعلى ما قاله تستثنى هذه المسألة، لكن قد سبق أن الصواب خلافه فراجعه. قوله: ولو قال: من رد عبدي فله سلبه أو ثيابه، قال في "التتمة". إن كانت معلومة أو وصفها بما يفيد العلم فللراد المشروط وإلا فله أجرة المثل. انتهى كلامه. وما نقله عن المتولي في ما إذا لم تكن معلومة ولكن وصفها، قد أقره عليه في "الروضة" أيضًا وهو خلاف الصحيح فاعلمه، فقد تقرر في البيع والإجارة وغيرهما أن الشيء المعلوم لا يقوم وصفه مقام رؤيته على الصحيح ¬

___ (¬1) في أ، ب: عنه. (¬2) في أ، ب: كان. (¬3) في جـ: بحالة.

والمسألة هنا قد صورها بعين وهي سلبه وثيابه لا بشيء وارد على الذمة، وحينئذ فيستحق هنا أجرة المثل. قوله: ولو قال: فله نصفه أو ربعه، فالجواب في "التتمة" الصحة، وفي "أمالي" السرخسي المنع وهو قريب من استئجار المرضعة بجزء من الرقيق المرضع بعد الفطام. انتهى كلامه. وهذه الصورة ليست كاستئجار المرضعة بالجزء فإن الأجرة إذا كانت معينة ملكت بالعقد وإذا جعلت جزءا من الرضيع بعد الفطام لزم إما عدم الملك في الحال، أو حصوله مؤجلا والأول خلاف وضع العقد لما قلناه، وأما الثاني فكذلك أيضًا لأن الأعيان المعينة لا تقبل التأجيل، وهنا الملك إنما يحصل بعد تمام العمل. قال ابن الرفعة بعد ذكره لهذا الإشكال: ولا وجه إلا لصحة هذا العقد إن كان موضع العبد معروفًا والعبد مرنًا وإلا فيظهر أنه موضع الخلاف، ويكون مأخذه أن الاعتبار في هذا العقد بحاله أو بحالة الرد، كما ذكرنا في ما إذا تغير النقد. قوله: فلكل واحد من المالك والعامل فسخه قبل تمام العمل، ثم إن اتفق الفسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل، وإن كان بعده فإن فسخ العامل لم يستحق شيئًا لما عمله لأنه امتنع باختياره، وإن فسخ المالك فوجهان: أحدهما: لا شيء له أيضًا وأصحهما: أنه يستحق أجرة المثل لما عمل. وذكر الإمام فيما إذا فسخ المالك بعد الشروع في العمل والعامل معين أنه لا يبعد تخريجه علي [الخلاف] (¬1) في عزل الوكيل في غيبته، وهذا بعيد عن كلام الأصحاب، ورد المتولي هذ التشبيه إلى شيء آخر وهو أن ما يعمله العامل بعد الفسخ لا يستحق عنه شيئًا إن كان عالمًا بالفسخ، فإن لم يعلمه ¬

_____ (¬1) في جـ: خلاف.

بنى على ذلك الخلاف. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي في أواخر باب المسابقة قال: إذا فرعنا على أنها جعالة فينفذ فسخها من المفضول في أصح الوجهين، ثم قال: وأجرى هذا الخلاف في فسخ الجاعل بعدما أتى العامل ببعض العمل، وكانت حصة عمله من المسمى تزيد على أجرة المثل. هذه عبارته، وحاصلها حكاية خلاف في بعض ما اقتضى كلامه الجزم به ههنا. الأمر الثاني: أن ما ذكره من كون العامل إذا فسخ بعد الشروع في العمل لا شيء له ليس على إطلاقه، بل يستثنى منه ما إذا زاد الجاعل في العمل ولم يرض العامل بها ففسخ لأجل ذلك فإنه يستحق أجرة المثل، كذا ذكره الرافعي في أواخر [كتاب] (¬1) السبق والرمي لأن الجاعل هو الذي تسبب في ذلك. قلت: وقياسه كذلك أيضًا إذا [أنقص] (¬2) في الجعل. الأمر الثالث: في بيان المغايرة بين المقالتين اللتين أشار إليهما الرافعي، وذلك أن الإمام جعل الخلاف في الفسخ حتى يستحق المسمى على قولنا لا ينفسخ، وأما المتولي فإن الخلاف الذي حكاه إنما هو في استحقاق أجرة المثل، [فإنه صرح بأن الفسخ جائز بلا خلاف، وجزم باستحقاق أجرة المثل] (¬3) لما عمله قبل الفسخ. الأمر الرابع: أن ما قاله الإمام في المعين بحثًا من كونه لا ينفسخ على وجه، وادعى الرافعي بعده عن كلامهم، قد جزم به الماوردي في "الحاوي". الأمر الخامس: أن الإمام لم يخص هذه الاحتمالات بما بعد الشروع كما ¬

__ (¬1) سقط من أ، ب. (¬2) في جـ: نقص. (¬3) سقط من جـ.

نقله عنه الرافعي، بل عمم فإنه تكلم أولًا على الصورتين، ثم قال بعد تقديمه لهما ما نصه: ولو جرى فسخ الجاعل من حيث لم يشعر العامل .. إلى آخر ما ذكر. الأمر السادس: أن النووي قد حذف هذه الطريقة التي ذهب إليها الإمام، وكأنه أشكل عليه الفرق بين المقالتين، وقد التبس الأمر على ابن الرفعة في "الكفاية" فاعلمه، وراجع كتابنا المسمى "بالهداية". قوله: وتجوز الزيادة والنقصان قبل تمام العمل، فإن وقع قبل الشروع ولم يعلم العامل بالثاني، فقال في "الوسيط": احتمل أن يقال: يرجع إلى أجرة المثل، [وإن وقع في أثنائه فالظاهر تأثيره في الرجوع إلى أجرة المثل] (¬1) لأن [النداء] (¬2) الأخير فسخ للأول والفسخ في أثناء المدة يقتضي أجرة المثل. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي من أن الثاني فسخ للأول يقتضي عدم الموافقة على ما نقله عن "الوسيط"؛ لأن الرافعي قد ذكر قبل هذا أنه إذا عمل غير عالم بالفسخ لا يستحق شيئًا على الصحيح والنداء الثاني لم يسمعه فتفطن له، ويقتضي أيضًا أن أجرة المثل الواجبة للفسخ بعد الشروع هي على ما مضى خاصة، ولا يستحق للمستقبل شيئًا، وكأن الرافعي إنما تركه لتقدم ما يدل عليه. قوله: ولو رده فمات في الطريق أو هرب أو غصب فلا شيء للعامل. قال في "الروضة": ومنه لو خاط نصف الثوب فاحترق أو بنى بعض الحائط فانهدم قاله أصحابنا. انتهى. وما نقله ههنا من عدم الاستحقاق في الاحتراق والانهدام قد ذكر بعده ¬

__ (¬1) سقط من جـ. (¬2) في جـ: البذل.

متصلًا به ما يخالفه فقال: لو قال: إن علمت هذا الصبي القرآن فلك كذا، فمات في أثناء التعليم استحق أجرة ما عمله لوقوعه مسلمًا بالتعليم بخلاف رد الآبق. انتهى. والموت هنا نظير الاحتراق والانهدام، وقد صرحوا في الإجارة بأنه إذا خاط بعض الثوب مثلًا ثم احترق، وكان العمل بحضرة المالك أو في ملكه استحق الأجرة لما عمل، وعللوه بوقوع العمل مسلمًا له، وحينئذ فيأتي ذلك بعينه هنا. قوله: فرع: لو قال: من رد عبدي إلى شهر فله كذا، فعن القاضي أبي الطيب أنه لا يجوز لأن تقدير المدة يحصل بمقصود العقد فإنه ربما لا يظفر به في تلك المدة فيضيع [سعيه] (¬1). انتهى كلامه. وهذه المسألة ذكر ابن الرفعة أن القاضي أبا الطيب ذكرها في "المجرد"، وتبعه عليها المتولي، وأن القاضي صورها بما إذا [قيد] (¬2) بالمكان أيضًا، فقال: من رد عبدي من البصرة في الشهر، ولا يلزم من المنع عند التقييد بأمرين المقتضى لشدة التضييق أن يمتنع عند وجود أحدهما. قوله: فرع [آخر] (¬3): إذا قال بع عبدي هذا، أو اعمل كذا ولك عشرة دراهم، ففي بعض التصانيف أنه إن كان العمل مضبوطًا مقدرًا فهو إجارة، وإن احتاج إلى ترددات غير مضبوطة فهو جعالة. انتهى كلامه. واقتصاره على نقل هذا عن بعض التصانيف الغير معروفة، تبعه عليه في "الروضة" وهو يشعر بعدم وقوفه على ذلك في شيء من الكتب المشهورة، وهو غريب جدًا، فإن المسألة قد ذكرها الإمام في "النهاية"، وحكم فيها بهذا الحكم بعينه، ذكر ذلك في آخر باب الإجارة. ¬

_____ (¬1) في جـ: تعبه. (¬2) في جـ: قدر. (¬3) سقط من أ، ب.

قوله أيضًا: فرع آخر لم أجده مسطورًا: يد العامل على ما تحصل في يده إلى أن يرده يد أمانة ولو رفع يده عن الدابة وخلاها في مضيعة فهو تقصير مضمن، ونفقة العبد والدابة مدة الرد يجوز أن تكون كما ذكرنا في مستأجر الجمال إذا هرب الجمال وخلاها عنده, ويجوز أن يقال ذلك للضرورة وهنا أثبت للعامل يده مختارًا فليتكلف المؤنة، ويؤيد هذا بالعادة. انتهى كلامه. وقد صرح الماوردي بنفقة المردود، وقال: إن الراد يكون متطوعًا بها، وذكر أيضًا [القاضي] (¬1) الروياني نحوه فقال: إذا لم يكن رده إلا ببيع بعضه والإنفاق عليه لم يكن له بيعه، والذي قاله مانع لإلحاقه بما إذا هرب الجمال، لأن بيع جزء منها جائز عند تعذر النفقة إلا بذلك، وقد صرح أيضًا بالمسألة القاضي ابن كج في كتابه "التجريد"، فقال: إذا أنفق عليه الراد فهو متبرع عنه عندنا، هكذا نقله عنه في "الروضة"، ثم قال: وهو ظاهر جار على القواعد، وعجب قول الرافعي أنه لم يره مع أنه كثير النقل عن هذا الكتاب. قال: وقول الرافعي وخلا في مضيعة لا حاجة إليه، بل حيث خلاها ضمن. قوله من "زوائده": ذكر القاضي الحسين وغيره, وهو لا خلاف فيه، أنه لو كان رجلان في بادية ونحوها فمرض أحدهما لزم الآخر المقام معه، إلا أن يخاف على نفسه, فله تركه، وإذا أقام فلا أجرة له، انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من نفي الخلاف في الأجرة، ليس كذلك، فقد ذكر في أخر باب الأطعمة في الكلام على المضطر خلافًا في ما هو أقل من هذا زمنًا وأقل عملًا وهو التخليص من ماء أو نار، أو نحوهما وسوف أذكر لفظه في موضعه -إن شاء الله تعالى- فراجعه. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ.

كتاب: إحياء الموات

كتاب: إحياء الموات وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في "رفات الأرض" قوله: وعن سمرة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عادى الأرض لله ورسوله، ثم لكم مني" (¬1)، انتهى. العادي: بالعين المهملة والياء المشددة نسبة إلى عاد، والمراد الآبار الجاهلية مطلقًا، والحديث رواه البيهقي موقوفًا على ابن عباس، ومرفوعًا من رواية طاووس فيكون مرسلًا. قوله: فأما الموتان بضم الميم وسكون الواو فهو الموت الذريع، انتهى. الذريع بالذال المعجمة هو السريع، يقال: قتلوهم أذرع قتل أي أسرعه. قوله: في الحديث: "وما أكله العوافي منها فهو له صدقة" (¬2). اعلم أن العافية والعافي بالعين المهملة والفاء، هو طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طير، وجمعه العوافي، وقد تقع العافية على الجماعة. قوله: فلو أحياها الذمى لم يملك سواء كان بغير إذن الإمام أم لم يكن، فلو كان له فيها عين مال نقلها، فإن بقي بعد النقل أثر عمارة، قال ابن كج: إن أحياه رجل بإذن الإمام ملكه، وإن لم يأذن فوجهان، انتهى. قال في "الروضة" لعل أصحهما الملك لأنه لا أثر لفعل الذمي. قوله: فإن استولينا على موات للكفار يذبون عنه ففيه وجوه: أصحها: أنه ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (1758)، والبيهقي في الكبرى (11563) من حديث طاوس مرسلا. (¬2) أخرجه أحمد (14310)، وابن حبان (5205)، وأبو يعلى (2195)، والنسائي في الكبرى (5756)، (5757)، (5758) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - وأصله عند مسلم (1552).

يفيد اختصاصًا كاختصاص المتحجر، وعلى هذا فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه، وأهل الخمس أحق بإحياء خمسه فإن أعرض الغانمون عن إحيائه، فأهل الخمس أحق به، فلو أعرض بعض الغانمين فالباقون أحق، وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعًا ملكه من أحياه من المسلمين، انتهى. اعلم أن من جملة أهل الخمس اليتامى ولا يصح إعراضهم، ومنهم أيضا المساكين وأبناء السبيل، وفي تصور إعراضهم إشكال قال في "الروضة": وينبغي أن يكون المراد في اليتامى أن أولياءهم لم يروا لهم حظًا في الإحياء، قال: وكذلك في الباقين يقدر نحوه أيضًا. قوله: من مجتمع النادي، ومباح الإبل ومطرح الرماد والسماد وفناء الدار إلى آخره. النادي بالنون هو المكان الذي يجتمعون فيه للحديث، وكذلك الندى بكسر الدال وتشديد الياء، والندوة بفتح النون وضمها، والمتندي بتاء ثم نون ثم دال مشددة مفتوحات، والمنتدى بنون ساكنة بعدها تاء، ثم دال مفتوحتان، ومنه سميت الدار التي بناها قصى بمكة للمشاورة دار الندوة. إذا علمت ذلك علمت أن قول الرافعي من مجتمع النادي يعني أهل النادي، كما في قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أي أهل ناديه والمباح بضم الميم كما قاله الصنعانى في "مجمع البحرين"، ولم يتعرض له الجوهري والسماد: بفتح السين المهملة هو السرجين مع الرماد كما قاله الجوهري ومنها الفناء بكسر الفاء وبالنون وفناء الدار: هو حواليها من الخلاء المتصل بجدرانها. قوله: الرابعة البئر المحفورة في الموات حريمها الموضع الذي يقف فيه النازح إلى آخره، ثم قال: وأما القناة فآبارها لا يستقي منها حتى يعتبر به الحريم، فحريمها القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها، أو خيف منه انهيار وفي الكتاب

وجه لم يذكره في "الوسيط" أن حريمها حريم البئر التي يستقى منها ولا يمنع من الحفر بعد ما جاوزه، وإن نقص؛ وهذا ما أورده أبو حامد ومن تابعه، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الغزالي لم يذكر مسألة القناة في "الوسيط" بالكلية. الأمر الثاني: أن حكاية وجه بالحاق بئر القناة ببئر الاستقاء عجيب، فإن الحريم هو المحتاج إليه، وقد تقدم من كلام الرافعي أن بئر القناة لا يستقي منها، فكيف يكون من حريمها مواضع الوقوف للاستقاء، وأيضا فالإستقاء قد يكون بالنزح بالدلو، وقد يكون بالدولاب والهائم، ولم يبين المراد منهما على هذا الوجه. قوله: لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "حريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادية خمسون ذراعًا" (¬1)، والبدئ: هي التي أحدثت في الإسلام، انتهى كلامه. والبدئ: بباء مفتوحة وبالهمز في أخره على وزن فلس، ويقال: بالمد على وزن الرغيف. والعادية: الجاهلية نسبة إلى عاد. قوله: وهل تملك أراضي عرفة بالإحياء كسائر البقاع أم لا لتعلق حق الوقوف بها؟ فيه وجهان: إن قلنا: تملك، ففي بقاء حق الوقوف في ما ملك وجهان إن قلنا: يبقى، فذلك مع اتساع الباقي أم يشترط ضيقه عن الحجيج؟ فيه وجهان؛ هذا تلخيص ما حكاه الإمام وأشار صاحب "الكتاب" ههنا وفي "الوسيط" إلى ثلاثة أوجه في المسألة، ثالثها: الفرق بين أن يضيق الموقف فيمتنع ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (4/ 220)، والحاكم (7041)، وابن أبي شيبة (4/ 389)، والبيهقي في "الكبرى" (11650) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وبين أن لا يضيق فلا يمنع، وهو أظهر عنده, لكن المنع المطلق أشبه بالمذهب، وبه أجاب صاحب "التتمة" وشبهها بالمساجد ومواضع صلاة العيد والأماكن الموقوفة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن "الوسيط" من حكاية ثلاثة أوجه ليس كذلك، بل هو في ذلك مطابق لكلام الإمام فلنذكر عبارته، ثم عبارة الغزالي. فنقول: قال في "النهاية": لو أحيا المحيي بعض بقاع عرفة فقد اضطرب أصحابنا فيه فذهب القياسون إلى أنه يملكه ولا يضيق عرفة وإن أجيبت أطرافها عن حجيج الدنيا، ومن أصحابنا من قال لا يملكه لتعلق حق الوقوف ولو فتحنا ذلك ارتفع الاختصاص، وقد يفضي ذلك إلى الاستيعاب، ثم لا حجر على المحيي لو بنى أو غرس، وهذا يؤدي إلى إبطال حق الوقوف من البقاع المحياة والوجه الثالث أنه يملكه، ويبقى حق الوقوف وعلى هذا قال بعضهم يبقى حق الوقوف، وإن لم يضيق الموقف، وقال بعضهم: إنما يبقى عند ضيق الموقف هذا كلام الإمام، وأما الغزالي فقال: وفي امتناع إحياء عرفة ثلاثة أوجه: أحدها: لا يمتنع إذ لا تضييف. والثاني: يمتنع إذ فتح بابه يؤدي إلى التضييق. والثالث: يجوز ثم يبقى حق الوقوف، هذه عبارته. فقوله في الأول: إذ لا تضييق تعليل للجواز، وتبع إمامه في التعليل به حيث قال: إن عرفة لا تضيق عن حجيج الدنيا فطبقه مع كلام الإمام تجده واضحا. وتوهم الرافعي أن المراد منه التفصيل بين أن يضيق فيمتنع، أو لا فيجوز، فأخرج (إذ) عن موضوعها وغفل عن أصل "الوسيط" وهو "النهاية".

وقوله في توجيه الثاني: إذ فتح بابه يؤدي إلى التضييق هو معنى قول الإمام في الوجه الثاني: إذ يفضي إلى الإستيعاب إلى آخره. وقوله: والثالث يجوز، هو الثالث: في "النهاية "أيضًا، وقوله: ثم يبقى حق الوقوف يعني على هذا الوجه وتبع فيه أيضًا الإمام، إلا أن الإمام ذكر بعده وجهًا آخر أعرض عنه المصنف، وهذا كله واضح لا إشكال فيه وعبارة "الوجيز" مردودة إلى هذا، إذ "المختصر" يرجع به إلى مبسوطه ووجهه إن تحرفت فيه إذ الشرطية فاستحضره وراجعه. الأمر الثاني: أن الغزالي حكى في كتبه الخلاف في جوازه لا في الملك به، والرافعي حكاه في الملك لا في الجواز فلم يطابق الشرح المشروح إذ لا يلزم من عدم الجواز عدم الملك بدليل الإحياء في ما يحجره غيره، وفي ما أقطعه الإمام. الثالث: قال في "الروضة" وينبغي أن يكون الحكم في أرض منى ومزدلفة كعرفات لوجود المعنى، والذي قاله هنا بحثًا قد جزم به في "تصحيح التنبيه" و"المنهاج" من "زياداته". لكن هل المنع في مزدلفة مخصوص بما إذا قلنا: يجب المبيت فيها كما هو رأي النووي فيها حتى لا يمتنع عند الرافعي، أم يمتنع على القولين معًا لكون المبيت مطلوبًا؟ فيه نظر؛ والمتجه الثاني بدليل ما سبق في مصلى العيد، وحينئذ فينبغي أن يكون المخصب كذلك؛ لأنه يستحب للحجيج إذا نفروا أن يبيتوا فيه كما هو معروف في موضعه. قوله: وينبغي للمتحجر أن لا يزيد على قدر كفايته، وأن لا يتحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإن خالف، قال المتولي: فلغيره أن يحيى ما زاد على كفايته وما زاد على ما يمكنه عمارته. قال غيره: لا يصح تحجره أصلا، لأن ذلك القدر غير متعين. انتهى.

قال في "الروضة": قول المتولي أقوى. قوله: وشبهوا الخلاف في المسألة بالخلاف في ما إذا عشش الطائر في ملكه وأخذ الفرخ غيره هل يملكه؟ انتهى. هذه المسألة قد حصل فيها اضطراب شديد وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى واضحًا في كتاب "الصيد". قوله: ولو باع المتحجر ما حجره ففيه وجهان قال الجمهور: لا يصح لأن حق الملك لا يباع، ألا ترى أن الشفيع لا يبيع الشقص قبل الأخذ. وقال أبو إسحاق وغيره: يصح، وكأنه يبيع حق الاختصاص، فعلى هذا لو باع فأحياه في يد المشتري محي وقلنا: إنه يملك ففي سقوط الثمن عن المشتري وجهان، انتهى. واعلم أن أبا إسحاق وغيره قد خالفوا في الشفعة فجوزوا فيها بيع الحق كما نقله الرافعي، وحينئذ فإن كان الكلام هنا مفروضا فيما إذا تلفظ ببيع الحق، فلا يصح الرد بالشفعة لأن الشقص ليس نظير مسألتنا وحق التمليك فيه الخلاف، وإن كان عند تلفظه بالعين فكيف يقول لأن حق الملك لا يباع، والأصح من الوجهين الأخيرين كما قاله في "زوائد الروضة" عدم السقوط. قوله: وروى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع الزبير - رضي الله عنه - حُضْر فرسه (¬1). انتهى. الحُضْر: بضم الحاء المهملة وسكون المعجمة يقال: أحضر الفرس يحضر إحضارًا فهو محضر واحتضر فهو محتضر -أي: عدا. قاله الجوهري وذكر نحوه ابن الأثير في "غريب الحديث" ثم قال ما نصه: ومنه حديث الزبير ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3072)، وأحمد (6458)، والطبراني في الكبير (13352)، وفي الأوسط (4273)، والبيهقي في الكبرى (11570)، وأبو بكر القطيع في جزء الألف دينار (57) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بسند ضعيف. ضعفه الألباني وجماعة.

المذكور. قوله: وإنما حمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النقيع لإبل الصدقة. . . . إلى آخره. النقيع هنا بالنون عند الجمهور، وصوبه النووي، وقال بعضهم: إنه بالباء كبقيع الغرقد، وهو موضع يستنقع فيه الماء، أي يجتمع على نحو عشرين ميلًا من المدينة وفيه مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قوله: ولا يجوز لغير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأئمة أن يحمي لنفسه، وفي جوازه لمصالح المسلمين قولان: أصحهما الجواز لأن عمر - رضي الله عنه - حمى واستعمل علي الحمي مولى له يقال له: هنى، وقال: يا هنى أضمم جناحك للمسلمين، واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة والصريمة إن تهلك ماشيته يأتني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وأيم الله لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبرًا (¬1). انتهى. وهذا الأثر صحيح رواه الشافعي عن غير واحد من أهل العلم، والبيهقي وغيرهما. وهني: بهاء مضمومة ونون مفتوحة بعدها ياء مشددة. وقوله: اضمم جناحك، أي: كف يدك عن المال والأبدان، والجناح هو اليد، قال تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]، أي يدك فإذا ضمها كفها. وقوله: واتق دعوة المظلوم، كناية لطيفة عن النهي عن الظلم. ¬

___ (¬1) أخرجه مالك (1828) والبخاري (2894)، والشافعي (س 1753)، وابن أبي شيبة (6/ 461)، والبيهقي في "الكبرى" (11589).

وقوله: وأدخل رب الصريمة والغنيمة، أي: مالك القليل من الإبل والغنم. والصريمة: بضم الصاد المهملة تصغير الصرمة بكسر الصاد وهى ما بين العشرة إلى الثلاثين من الإبل خاصة. والغنيمة ما بين الأربعين إلى المائتين. وقوله: وإياك إلى آخره، نهاه عن إدخال الأغنياء، وقد وقع في الرافعي وغيره بالكاف والوارد في رواية الشافعي وغيره إنما هو "وإياي" بالياء على إغراء المتكلم لكنه شاذ لا يقاس عليه عند جمهور النحويين. وقوله: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، أي: الخيل التي أعددتها لأحمل عليها في الجهاد من لا مركوب له، قال مالك - رضي الله عنه -: وكانت عدتها أربعين ألفًا.

الباب الثاني: في "المنافع المشتركة"

الباب الثاني: في "المنافع المشتركة" قوله: من بور وبارية. البارية بباء موحدة وياء بنقطتين من تحت مشددة هي نوع من أنواع الحصر الغليظة. قوله: وهل لإقطاع الإمام في الشوراع مدخل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأنه لا مدخل للتمليك فيه فلا معنى للإقطاع بخلاف الموات. والثاني: أن له مدخلا فيه، وهو رأي الأكثرين. ثم قال: وللنزاع مجال في قوله الأول أنه لا مدخل فيه للتمليك، لأن في "الرقم" للعبادي وفي "شرح مختصر الجويني" لابن طاهر ورواية وجه: أن للإمام أن يملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق، انتهى كلامه. وهو ظاهر في أن الصحيح المعروف أنه لا مدخل للتملك في هذا الإقطاع، لا جرم أن النووي صرح بتصحيحه في "أصل الروضة". إذا علمت ذلك، فقد خالفه في كتاب الجنايات في الطرف الثاني في اجتماع العلة والشرط في الكلام على حفر البئر فقال ما نصه: والخلاف راجع إلى ما تقدم في "إحياء الموات" أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع؟ وبينا أن الأكثرين قالوا: نعم وجوزوا للمقطع أن يبني فيه ويتملكه، هذا لفظه، وهو موضع عجيب ولا شك في أن المذكور هناك سهو فإنه أحاله على المذكور هنا، ورأى أن الأكثرين جوزوا ذلك فأطلق القول من غير إمعان. وقد حذف النووي في "الروضة" لفظ "التمليك" من الموضع المذكور في الجنايات اتفاقًا وهو غير نافع فإنه ذكر أولًا أن الحفر لنفسه.

قوله: وأما المسجد والجلوس فيه يكون لأغراض منها أن يجلس ليقرأ عليه القرآن، أو ليتعلم عنه الفقه أو يستفتي. قال صاحب "الكتاب" والشيخ أبو عاصم العبادي: الحكم فيه كما في مقاعد الأسواق، وهو أشبه بمآخذ الباب، وحكى أقضى القضاة الماوردي أنه مهما قام بطل حقه وكأن السابق إليه أحق، انتهى. وهذا الخلاف الذي حكاه في التحاق هذا بمقاعد الأسواق أخذًا له من خلاف الماوردي ليس بصحيح فإن الماوردي قد خالف أيضا في مقاعد الأسواق، وقال: إنه مهما قام بطل حقه وإنما يصح ما حكاه الرافعي من الخلاف إن لو كان الماوردي قائلًا ببقاء الحق في مقاعد الأسواق. نعم: حكى الماوردي في "الأحكام السلطانية" عن جمهور الفقهاء أنه يبطل حقه. وعن مالك أنه أحق. وهذا الكلام مقتضاه أن الشافعي وأصحابه من الجمهور. قوله: ومنها: الجلوس للبيع والشراء والحرفة وهو ممنوع منه إلى آخره. تابعه في "الروضة" على التعبير بلفظ المنع، وهل المراد به التحريم أو الكراهة أو خلاف الأولى؟ فيه كلام سبق ذكره واضحا في شروط الصلاة. واعلم أن الجلوس في المسجد يكون لأغراض أخرى لم يذكرها، وقد ذكرها النووي في "الروضة" مع ما يتعلق بها فقال: فمنها الجلوس للاعتكاف، وينبغي أن يقال له: الاختصاص بموضعه ما لم يخرج من المسجد إن كان اعتكافًا مطلقًا، وإن نوى اعتكاف أيام فخرج لحاجة جائزة ففي بقاء اختصاصه إذا رجع احتمال، والظاهر بقاؤه، ويحتمل أن يكون على الخلاف في ما إذا خرج المصلي لعذر. ومنها: الجالس لاستماع الحديث والوعظ، والظاهر أنه كالصلاة فلا

يختص فيما سوى ذلك المجلس، ولا فيه إن فارق بلا عذر، ويختص إن فارق بعذر على المختار. ويحتمل أن يقال: إن كانت له عادة بالجلوس بقرب كبير المجلس، وينتفع الحاضرون بقربه منه لعلمه ونحو ذلك دام اختصاصه في كل مجلس بكل حال، وأما مجلس الفقه في موضع معين حال تدريس المدرس في المدرسة أو المسجد، فالظاهر فيه دوام الاختصاص لاطراد العرف، وفيه احتمال، والله أعلم. هذا كلامه -رحمه الله-. قوله: في "أصل الروضة": فصل: الرباطات المسبلة في الطرق وعلى أطراف البلاد من سبق إلى موضع منها صار أحق به، وليس لغيره إزعاجه سواء دخل بإذن الإمام أو بغير إذنه، فإن ازدحم إثنان ولا سبق فعلى ما سبق في مقاعد الأسواق وكذا الحكم في المدارس والخوانق إذا نزلها من هو من أهلها، انتهى. ومقتضى هذا الكلام جواز السكنى في بيوت المدارس ونحوها من غير إذن متولي أمرها من مدرس وغيره. إذا علمت ذلك فقد ذكر في "فتاويه" ما يخالفه، فإن قال: ويجوز للفقيه الذي ليس بمنزل سكنى المدرسة إذا أسكنه الناظر، هذا لفظه، فاعتبر في الإسكان إذن الناظر، ولا يستقيم أن يقال: المنزل لا يشترط فيه الإذن بخلاف غيره، لأن السكنى حق آخر مغاير لحق التنزيل، وأيضا كلامه أولا ينفيه لأنه تكلم في شيء ليس لأهله فيه معلوم كالربط المُسَبَّلة في الطرقات، والأول هو القياس، وحينئذ فإن رآه الناظر أهلًا أفره وإلا أخرجه. قوله: وإن بقى أثار الفساطيط ونحوها. الفساطيط: جمع فسطاط وهي الخيمة.

الباب الثالث في "الأعيان الخارجة من الأرض"

الباب الثالث في "الأعيان الخارجة من الأرض" قوله: فالمعادن الظاهرة وهي التي تبدو جواهرها بلا عمل، وإنما السعي والعمل لتحصيله فلا يملكها أحد بالإحياء. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" ومحله إذا كان معلومًا، فإن لم يكن، ففي "المطلب" عن الإمام أنه يملكه بالإجماع، وأنه أصح الوجهين في "التهذيب" للبغوي. قوله: وذلك كالنفط والقار ونحوهما فإنها فوضى لما روى أن أبيض بن حمال المأربي استقطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملح مأرب، فأراد أن يقطعه (¬1)، ويروى فأقطعه فقيل: إنه كالماء العد (¬2) فقال: فلا إذن. انتهى. أما فوضى فالفاء والصاد المعجمة، أي: لا يختص بأحد. وأما أبيض: فضد الأسود، وأما حمال: فهو بحاء مهملة مفتوحة ثم ميم مشددة بعدها لام. وأما المأربي: فنسبة إلى مأرب وهي بهمزة ساكنة ثم راء مهملة مكسورة بعدها باء موحدة ويقال: إن أبيض المذكور من الأزد حكاه جميعه في "الإكمال". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3064)، والترمذي (1380)، وابن ماجه (2475)، والدارمي (2608)، وابن حبان (4499)، والدارقطني (3/ 76)، والطبراني في الكبير (808)، وابن أبي شيبة (6/ 473)، والبيهقي في الكبرى (11608)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2470) وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 28)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (5/ 523)، والمزي في تهذيب الكمال (27/ 6)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 59)، والخطيب في تاريخ بغداد (14/ 160) وابن عساكر في تاريخ دمشق (64/ 150). قال الترمذي: حديث غريب. وقال الألباني: حسن. (¬2) يأتي تونيه قريبا.

وأما العد فهو بعين مكسورة مهملة ودال مهملة مشددة، وهو: الماء الذي له مادة لا تنقطع كماء البئر والعين، والحديث رواه الشافعي. قوله: ولو قال مالك المعدن: اعمل فما استخرجته فهو لك أو قال: استخرج لنفسك إلى آخره. هذه المسألة سبق الكلام عليها في الباب الثاني من أبواب الإجارة. قوله: فيسقي الأول أرضه ثم يرسله الثاني ثم يرسله الثاني إلى الثالث، لأنه -عليه الصلاة والسلام- قضى في الشرب أن للأعلى أن يسقي قبل الأسفل، انتهى كلامه. المراد بالأول هو الذي لم يتقدمه أحد وبالثاني: هو الذي أحيا بعد الأول وهكذا قياس الباقي، وليس المراد الأقرب إلى أصل النهر فالأقرب، لأن الاعتبار بالسبق فلذلك اعتبرناه فتفطن له. قوله: حين خاصمه الأنصاري في شراج الحرة، ثم قال: والشراج جمع الشرج وهو النهر الصغير، انتهى. الشرج بشين معجمة مفتوحة وراء ساكنة بعدها جيم. قال الجوهري: هو سبيل الماء في الحرة إلى السهل. والحرة بحاء مهملة مفتوحة بعدها راء مشددة، وهي أرض ذات حجارة سود. وقال ابن الأثير: الترج بالتاء وهو المسيل. والشرج: جمع لها والشراج جمعها. قوله: ولو كان أرض الأعلى بعضها مرتفعًا وبعضها منخفضًا، ولو سقيا معًا لزاد الماء في المنخفضة على الحد، أفرد كل بعض بالسقي بما هو طريقه، انتهى.

وطريقه كما قاله صاحب "التنبيه" وغيره أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين ثم يسده ثم يسقي المرتفع. قوله: وإذا تنازع اثنان أرضاهما متحاذيتان أو أراد شق النهر من موضعين متحاذيين يمينًا وشمالًا، فهل يقرع أو يقسم بيهما أو يقدم الإمام من يراه؟ ثلاثة أوجه حكاها العبادي، انتهى. والأصح هو الإقراع كذا صححه في "الروضة". قوله: وتنقية هذا النهر وعمارته يقوم بها الشركاء بحسب الملك، وهل على كل واحد عمارة الموضع المتسفل عن أرضه وجهان: أحدهما: لا؛ وبه قطع ابن الصباغ لأن المنفعة فيه للباقين. والثاني: نعم، وهو الأصح عند العبادي لإشتراكهم وانتفاعهم به، انتهى. هذا الكلام كله يوهم وجوب عمارة النهر على ملاكه، مع أنه في كتاب الصلح قال: إن فيه القولين في عمارة الجدار، فيكون الجديد عدم الوجوب. قوله: وإن تنازع شركاء النهر في قدر أراضيهم فيجعل على قدر الأراضي، لأن الظاهر أن الشركة تحسب بحسب الملك، أو بالتسوية لأنه في أيديهم؟ فيه وجهان: الظاهر أن الشركة بحسب الملك، انتهى. قال في "الروضة": أصحهما الأول. قوله: والبئر المحفورة على قصد الإرتفاق دون التملك، الحافر أولى بها وليس له منع ما فضل عنه عن المحتاج إليه للشرب، ثم قال: وله أن يمنع غيره من سقى الزرع به، لأن الحيوان أعظم حرمة، وللإمام فيه احتمال من حيث أنه لم يملكه والاختصام إنما يكون بقدر الحاجة، وبهذا أجاب في "التتمة" فحصل وجهان، انتهى. وما رجحه ههنا من جواز المنع قد رجح خلافه في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: والأشبه أنه لا يمنع من السقي للزرع به أيضا هذا لفظه، ولم

يذكر فيه غيره. قوله: ولا يجب على مالك البئر بذل الفاضل عن حاجته لذرع الغير، وفيه وجه، وفي البذل للماشية وجهان أصحهما: الوجوب. ثم قال: التفريع شرط الماوردي لوجوب البذل شروطًا: أحدها: أن لا يجد صاحب المواشي كلأ مباحًا. والثاني: أن يكون هناك كلأ يرعي وإلا فلا يجب، وفي "التتمة" ذكر وجهين في هذا الشرط، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره في الشرط [الأول بقوله: كلأ مباحا، قد وقع كذلك في نسخ الرافعي وهو سهو، والمراد الماء، وقد تفطن له في "الروضة" فأصلحه. الأمر الثاني: أن الصحيح في الشرط] (¬1) الثاني هو ما قاله الماوردي، كذا صححه النووي في "أصل الروضة"، والغريب أنه لم يصححه على طريقة إثبات الخلاف، بل جعل المسألة ذات طريقين، وصحح طريقة القطع. قوله: ثم عابروا السبيل يبذل لهم ولمواشيهم وفي من أراد الإقامة في الموضع وجهان، لأنه لا ضرورة به إلى الإقامة، انتهى. والأصح الوجوب كذا قاله في "الروضة". قال الماوردي: وحيث وجب البذل مكنت الماشية من حضور البئر بشرط أن لا يكون على صاحب الماء ضرر في زرع ولا ماشية، فإن لحقه ضرر بورودها منعت، لكن يجوز للرعاء إستقاء فضل الماء لها. قوله: من "زوائده": قال الماوردي: وإذا لم يوجد شرط وجوب البذل جاز ¬

___ (¬1) سقط من أ.

لمالكه أخذ ثمنه إذا باعه مقدرًا بكيل أو وزن ولا يجوز بيعه مقرًا بري الماشية ولا الزرع، والله أعلم. وما ذكره عن الماوردي من المنع في مسألة الري قد ذكر في "شرح المهذب" ما يمنعه، أو يحوج إلي الجميع بينه، فقال في باب ما نهى عنه من بيع الغرر: أجمعوا على جواز الشرب من ماء السقاء بعوض مع اختلاف أحوال الناس في الماء، هذا لفظه. قوله: ولو باع الماء مع قراره، نظر إن كان جاريًا، فقال: بعتك هذه القناة مع مائها، أو لم يكن جاريًا. وقلنا: الماء لا يملك لم يصح البيع في الماء، وفي [القرار] (¬1) قولا تفريق الصفقة، وإلا فيصح، انتهى. وما ذكره من عدم صحة البيع في الماء تابعه عليه في "الروضة"، وقد سبق من "زوائده" في آخر البيوع المنهي عنها عن القفال: أنه يصح، وأقره عليه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. وما ذكره أيصًا في الأرض من تخريجها على قولي تفريق الصفقة كيف يستقيم مع أن الماء المذكور مجهول؟ ، وقد سبق في تفريق الصفقة أن ما لا يجوز إذا كان مجهولًا، فإنا نبطل البيع في الجميع على الصحيح بناء على الإجارة بالقسط والتقسيط غير ممكن للجهالة. قوله: ولو باع بئرا أو دارا فيها بئر ماء وقلنا: الماء لا يملك، فقد أطلقوا أن المشتري أحق بذلك الماء وليحمل على ما نبع بعد البيع، فأما ما نبع قبله فلا معنى لصرفه إلي المشتري، انتهى. وهذا التأويل الذي قاله الإمام الرافعي فاسد كما قاله في "الروضة"، فقد صرح الأصحاب بأن المشتري على هذا الوجه أحق بالماء الظاهر لثبوت ¬

___ (¬1) في ب: الماء.

يده على الدار، وتكون يده كيد البائع في ثبوت الاختصاص به. واعلم أنا إذا فَرَّعْنا على أن الماء يملك، ففيه كلام سبق ذكره في البيع. قوله: ولو أراد أن يتخذ مواتًا مزرعة فإن كانت تحتاج إلى ما يساق إليها لزم تهيئته ثم إذا هيأه، نظر إن حفر له الطريق ولم يبق إلا إجراء الماء فيه كفى ولم يشترط الإجراء ولا سقى الأرض، وإن لم يحفر بعد فوجهان، انتهى. لم يرجح في "الروضة" شيئًا من هذين الوجهن أيضًا، والراجح منهما: أنه يكفي التهيئة ولا يشترط الحفر أيضًا، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير"، فقال: إنه الأشبه وهو مقتضى كلام "المحرر" فإنه اكتفى بالترتيب. قوله: الرابعة: إذا قصد بستانًا أو كرمًا فلابد من التحويط إلى آخره. اعلم أن الغزالي في "الوجيز" قد ذكر أنه لابد من نصب الباب أيضًا ولم يتعرض له الرافعي في عد الشروط، ثم بعد ذلك ظن أنه ذكره فنبه على إعلامه بالواو فقال: وفي ما قدمناه ما يعرفك أنه يجوز إعلام قوله تعليق الباب وحفر الأنهار وسوق الماء إليه بالواو. هذا كلامه، مع أنه لم يتقدم التعرض لاشتراطه فضلا عن التعرض للخلاف فيه، ثم إن النووي رأى في كلام الرافعي أن ذلك كله تقدم فظن صحته فأسقطه، فلزم خلو "الروضة" عنه بالكلية، ولم يتعرض له أيصًا في "المحرر" و"مختصره". قوله نقلًا عن الإمام: وتوحل الصيد في أرضه التي سقاها لا يقتضي الملك وإن قصده انتهى كلامه. وما نقله عنه هنا من عدم الملك وأقره قد ذكر في كتاب الصيد خلافه، والغريب أنه من كلام الإمام أيضًا، وسوف أذكر لفظه إن شاء الله تعالى في موضعه فراجعه. قوله: وإذا قصد نوعًا وأتى بما يملك به نوعًا آخر ما الحكم فيه؟ أجاب

الإمام: بأنه يفيد الملك حتى إذا حوط البقعة يتملكها، وإن قصد المسكن، لأنه مما يملك الزريبة لو قصدها. والجواب عنه: أنه مخالفة صريحة لما قاله الأصحاب لما فيه من الاكتفاء بأدنى العمارات أبدًا، انتهى كلامه. واعلم أن الإمام معترف بأن الأصحاب على خلاف ما ذكره، وإنما قاله بحثًا واستشهد له فقال: مجازي كلام الأصحاب دالة على اختلاف [صفة الإحياء باختلاف] (¬1) المقصود في المحيى، وكنت أود أن يقال كما يحصل الملك في تبعه إذا انضم إليه القصد، فإنه يحصل الملك، وإن فرض القصد في جهة أخرى لأن ما كان سببًا في تملك المباح، فليس للقصد فيه وقع، فإن من تبع ظبية يبغى امتحان شدة سعي نفسه فأدركها وضبطها ملكها، وإن لم يخطر له قصد التملك، وكذا لو احتشى حشيشا ليتخذ منه مقعدًا يجلس عليه إذا ركب ملكه وإن لم يقصد تملكه هذا كلامه. ثم قال: وهذا بنيته على وجه من رأى مع تشبث بطرق من النقل، وهو احتمال لصاحب "التقريب" في بعض صوره مع الاعتراف بأن طريقة الأصحاب في المسلك الظاهر تخالفه، انتهى. وإذا ظهر لك كلام الإمام تعجبت من الرافعي ثم من النووي في جميع ما قالاه، وكيف يجاب الباحث المعترف بمخالفته للنقل، بأن المنقول خلافه؟ ! قوله: وإذا حفر بئرًا في الموات للتملك فإذا وصل إلى الماء كفى إن كانت الأرض صلبة وإلا وجب أن يطوي، انتهى. يقال: طويت البئر طيًا، إذا بنيتها. قوله: وإذا حفر نهرًا ليجري الماء فيه على قصد التملك، فإذا انتهت فوهة البئر الذي يحفر أي رأسه إلى النهر القديم وجرى الماء فيه ملكه، كذا قاله ¬

___ (¬1) سقط من أ.

البغوي وغيره وفي "التتمة": أن الملك لا يتوقف على إجراء الماء فيه، لأنه استقاء منفعة كالسكون في الدار، انتهى. رجح في "الروضة" الوجه الثاني، فقال: إنه أقوى. قوله: فرع: سقي أرضه بماء غيره المملوك له فالربع لصاحب البذر وعليه قيمة الماء، قال الحناطي: ولو استحل من صاحب الماء كان الطعام أطيب. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من لزوم القيمة سهو تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، والصواب: إيجاب مثل الماء لا قيمته، فإن الماء مثلي كما سبق في الغصب ولم يخالفوا هذه القاعدة في الماء إلا إذا غصبه في مفازة ثم قدم البلد فإنه لا يرد مثله لأنه لا قيمة له هنا غالبًا. وقد ذكرها ابن الصلاح في "فتاويه" على الصواب فقال: إنه يجب مثله محصلًا في الموضع الذي أخذه منه من قناة أو غيرها.

كتاب الوقف

كتاب الوقف وفيه بابان: الباب الأول: في أركانه قوله: وعن مالك أن المنقول مطلقًا لا يجوز وقفه. لنا ما روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أما خالد فقد حبس أذرعه وأعتده في سبيل الله" (¬1)، انتهى. الأذرع: بالذال المهملة، جمع ذرع وهي الذردية. وأما الأعتد: فهو بعين مهملة وتاء مضمومة بنقطتين من فوق جمع للعتاد بفتح العين، وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وألة الحرب وروى بالباء الموحدة جمع عبد. قوله: الرابعة: لا يصح وقف أم الولد على الأصح، فإن صححنا ومات السيد عتقت. قال المتولي: ولا يبطل الوقف، بل تبقى منافعها للموقوف عليه، كما لو أجرها ومات. وقال الإمام: يبطل؛ لأن الحرية تنافي الوقف بخلاف الإجارة، وهذا مقتضى كلام ابن كج، انتهى كلامه. وحاصل ما ذكره في أم الولد الجزم ببقاء الإجارة، لكنه قد ذكر في كتاب الإجارة ما يخالفه، وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: ويجوز وقف المعلق عتقه بصفة ثم إذا وجدت الصفة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (983) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فإن قلنا: الملك في الوقف للواقف أو لله تعالى، عتق وبطل الوقف. وإن قلنا: إنه للموقوف عليه، فلا يعتق، ويكون الوقف بحاله، انتهى كلامه. وما قاله ههنا قد ذكر ما يخالفه في الفصل الثاني من الباب الثاني فقال: في ما إذا وطيء الواقف الجارية الموقوفة بغير شبهة، إنا إن جعلنا الملك لله تعالى أو للموقوف عليه فلا تكون أم ولد، وإن جعلناه للواقف ففي نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن وأولى بالمنع لتعلق حق الموقوف عليه بها. وتابعه النووي في "الروضة" على الموضعين، والكلام الثاني مخالف للأول من وجهين: أحدهما: أنه جزم في المعلق عتقه بصفة أنه يعتق على القول بأنه لله تعالى، وجزم في المستولدة تفريعًا على القول بعدم العتق وهو اختلاف واضح، لأن انتقاله إلى الله تعالى إن كان كانتقاله إلى الأدمي فلا يعتق بالتعليق ولا بالاستيلاد كما لو باعه، ثم وجدت الصفة فإنه لا أثر لها، وإن لم يكن فيعتق. الوجه الثاني: أنه جزم أيضًا بعتقه -يعني: المعلق تفريعًا على أنه للواقف، وخرج المستولدة على أقوال الراهن وجعلها أولى بالمنع وهو أيضًا ظاهر الاختلاف لما تقدم. واعلم أن الذي أوجب هذا الاختلاف أنه قد رأى مسألة التعليق في "التهذيب" محكوما عليها بما قاله هنا، ورأى مسألة الاستيلاد في "الوسيط" على الكيفية التي أجاب بها أيضًا هنا فتابعهما الرافعي وهما طريقتان، لا يتأتى الجمع بينهما ولو ذكر كل منهما المسألة الأخرى لم يُجب فيها بما قاله الآخر.

لا جرم أن الإمام في "النهاية" والغزالي في "البسيط" لما ذكرا مسألة التعليق ذكراها موافقة لمسألة الاستيلاد فقالا: إن قلنا: الملك لله تعالى أو للموقوف عليه لم يعتق لوجود الصفة، وإن قلنا: الملك للواقف عتق في ظاهر المذهب وقيل: هو كإعتاق الواقف العبد الوقوف وفيه أقوال، عتق الرهن. ولا ذكر لهذه المسألة في "الشرح الصغير". قوله: السابعة لا يصح وقف ما لا يدوم الإنتفاع به كالمطعوم والرياحين المشمومة لسرعة فسادها، انتهى كلامه. والتعليل بسرعة الفساد قد تابعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي أن محل ذلك في الرياحين المحصودة، أما المزروعة فيصح وقفها للشم لأنها تبقى مدة لاسيما وفيه منفعة أخرى وهي النزهة، وقد نبه عليه في "شرح الوسيط" وقال: الظاهر الصحة في المزروع وعلله بما ذكرناه. قوله: فإن قلت -أي: في حد الموقوف-: هو كل عين مملوكة ملكًا يقبل النقل يحصل منها فائدة أو منفعة تستأجر لها زال الإشكال. انتهى كلامه. وهذا الضابط يرد عليه الرياحين، فإن القيود كلها موجودة فيها أما ما عدا الاستئجار فواضح، وأما الاستئجار فكذلك، فإنه قد جزم بجوازه في كتاب الإجارة ومع ذلك فلا يجوز وقفها كما تقدم ذكره، وكأنه -والله أعلم- أن الحكم بخلافه. وقد تابعه النووي أيضًا في "الروضة" على هذا الضابط غير أنه زاد فيه كون العين معينة ليحترز عن أحد العبدين ونحوه، وهل يصح وقف العين الموصى بمنفعتها إذا صححنا وقف المستأجر أم لا يصح جزمًا؟ فيه نظر فإن منعنا فينبغي أن نزيد في الضابط ما يدفعه، فنقول: يحصل منها للمالك فائدة إلى آخره.

قوله: فرعان: أحدهما: لو أجر داره. ثم وقفها، قال الشيخ أبو علي: يصح كالمغصوب، وقال القفال في "فتاويه": إنه مخرج على الوقف المنقطع الأول. وفَصَّلَ بعضهم فقال: إن وقف على المسجد صح؛ لمشابهته الإعتاق، وإن وقف على إنسان. فإن قلنا: الموقوف ينتقل إلى الموقوف عليه، فهو كبيع المستأجر. وإن قلنا: ينتقل إلى الله تعالى، فوجهان، لافتقاره إلى القبول، انتهى ملخصًا. والصحيح من هذه الأوجه هو الصحة مطلقًا، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: الثاني: إذا استأجر أرضًا ليبني فيها أو يغرس ففعل ثم وقف البناء أو الغراس صح الوقف في أصح الوجهين. والثاني: المنع، لأن مالك الأرض يجوز له قلعه، وهما كالوجهين في أن الباقي لو انفرد ببيع البناء هل يجوز؟ انتهى. فهذه المسألة وهي انفراد الباني بالبيع قد حذفها من "الروضة" ولم يصرح بها في غير هذا الموضع، إلا أنه ذكر في باب العارية أن في جواز البيع بعد الرجوع وجهين: أصحهما الجواز ولم يتعرض للبيع قبل الرجوع، ثم ذكر في باب الإجارة أن المدة إذا انقضت كان الحكم في البناء والغراس كالحكم فيما سبق في العارية. قوله: في المسألة: فإن صححنا فمضت المدة وقلع مالك الأرض البناء فإن بقى منتفعا به بعد النقل فهو وقف كما كان وإن لم يبق فيصير ملكًا للموقوف عليه أو يرجع إلى الواقف؟ فيه وجهان. وأرش النقض الذي يؤخذ من القالع يسلك به مسلك الوقف. انتهى

كلامه. تابعه النووي على حكاية الوجهين كذلك من غير تصحيح، والصحيح ليس واحدًا منهما، بل الواجب شراء عقار أو جزء من عقار هذا هو قياس النظائر المذكورة في آخر الباب في الفصل المعقود لتعطيل الموقوف فراجع ذلك الفصل يتضح ما ذكرته لك وسيأتيك بعضه في هذا الكتاب. قوله من "زياداته": قلت: الأصح صحة وقف ما لم يره ولا خيار له عند الرؤية، والله أعلم. وهذا الذي ذكره من تصحيح الجواز قد ذكر في "شرح المهذب" في كتاب البيع ما مقتضاه رجحان خلافه، فإنه حكى القولين في بيع الغائب وشرائه، ثم قال ما نصه: قال أصحابنا: ويجري القولان في بيع الغائب وشرائه في إجارته، وكونه رأس مال سلم إذا سلمه في المجلس وفي المصالحة عليه، وفي وقفه، هذا لفظه من غير اعتراض عليه ولا استدراك. قوله: في الوقف على الحربي والمرتد وجهان أحدهما: الجواز كالذمى، وأصحهما: المنع؛ لأنهما مقتولان لا بقاء لهما، والوقف صدقة جارية قلما لا يوقف ما لا دوام له لا يوقف على من لا دوام له، انتهى كلامه. وما استند إليه الرافعي -رحمه الله- في المنع ضعيف، فإن وقف ما لا دوام له لا يبقى له أثر بعد فواته، وأما إذا كان الموقوف عليه أولا، فإنه ينتقل إلى من بعده فمقصود الوقف وهو الدوام حاصل هنا بخلاف ما لا يبقى فافترقا. قوله: ولك أن تقول: الخلاف في أنه هل يملك مخصوص بما إذا ملكه السيد، فأما إذا ملكه غيره فلا خلاف في أنه لا يملك وحينئذ فإذا كان الواقف غير السيد كان الوقف على من يملكه، انتهى كلامه. والذي ادعاه من نفي الخلاف ذكره أيضًا في الكفارات في الكلام على

تكفير العبد، وتابعه النووي في "الروضة" على ذلك في الموضعين، وليس كما قال من نفي الخلاف فقد ذكر جماعة منهم الماوردي في كتاب الهبة أن الخلاف يجري أيضًا في غير السيد. قوله: لو وقف علي مكاتب قال الشيخ أبو حامد: لا يصح كالوقف على القن. قال المتولي: يصح في الحال وتصرف الفوائد إليه ويديم حكمه إذا عتق إن أطلق الوقف وإن قال: تصرف الفوائد إليه مادام مكاتبًا، بطل استحقاقه، وإن عجز بان لنا أن الوقف منقطع الابتداء انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن صورة المسألة فيما إذا كان مكاتبًا لغيره، فإن كان مكاتبًا له لم يصح صرح به الماوردي وغيره، وعبارة الرافعي و"الروضة" على مكاتب بالتنكير، وإنما نبهت على ما ذكرته بيانًا للتقييد وخوفًا من التحريف. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر قبل هذا بقليل أنا إذا صححنا الوقف على العبد نفسه فقال: وقفت علي عبد فلان، فإنما يستحق مادام في ملكه، فإذا عتق لم يستحق شيئًا، وحينئذ فينبغي تصوير المسألة هنا بما إذا لم يصرح بالكتابة، بل عبر بزيد مثلا، أو بهذا فاتفق أنه مكاتب. الثالث: أن الماوردي قد جزم أيضًا بالصحة. قوله: ولو وقف على بهيمة وأطلق لم يصح، وقيل: يكون وقفا علي مالكها، ثم قال: وحكى المتولي أنه لو قال: وقفت على علف بهيمة، فلان أو بهائم القرية وجهين كصورة الإطلاق. قال: والخلاف فيما إذا كانت البهيمة مملوكة، فلو وقف على الوحوش أو علف الطيور المباحة فلا يصح بلا خلاف انتهى. وهذا الذي قاله المتولي من نفي الخلاف قد اعترض عليه الرافعي في

الوصية في الكلام على الوصية للدابة، فقال: الوصية على رأي وصية للبهيمة نفسها وحينئذ فلا يتجه فرق بين المملوكة وغيرها، وهذا يعترض به على ما قدمناه عن صاحب "التتمة" في الموقف، إلى آخره. وقد حذفه النووي من "الروضة". قوله: ولو استبقى الواقف لنفسه التولية، وشرط أجرة، وقلنا: لا يجوز أن يقف على نفسه ففي صحة هذا الشرط وجهان كالوجهين في الهاشمي هل يجوز أن يأخذ سهم العاملين إذا عمل على الزكاة؟ انتهى. قال في "الروضة": الأرجح هنا جوازه، قال: ويتقيد ذلك بأجرة المثل كما قاله ابن الصلاح فلا يجوز الزيادة إلا من أجاز الوقف على نفسه. قوله: ولو قال لرجلين: وقفت علي أحدكما، لم يصح، وفيه احتمال عن الشيخ أبي محمد إذا فرعنا على أن الوقف لا يفتقر إلى القبول، انتهى. تابعه في "الروضة" على حكايته احتمالا عنه وهو وجه ثابت جزم به بعض المتقدمين. قال: وإذا مات ولم يبين فعلى المذهب ينبغي وقف الغلة إلى أن يصطلحا، قاله في "شرح الوسيط". قوله: ويجوز الوقف على سبيل الله وهم المعنيون في آية الزكاة، ولو قال: على سبيل البِّر والخير، والثواب صرف إلى أقارب الواقف، فإن لم يوجدوا فإلى أهل الزكاة. ثم قال: وفَرَّقَ بعض أصحاب الإمام فقال: إذا وقف على جهة الخير صرف إلى مصارف الزكاة ولا يبني به مسجد ولا رياط، وإذا وقف على جهة الثواب صرف إلى أقاربه، انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقله عن بعض أصحاب الإمام، وهو غريب، فقد حكاه الإمام نفسه وجهًا عن بعض الأصحاب لكنه زاد في الأول

الصرف إلى قراء الصبيان أيضًا. قوله: يصح الوقف على المتفقهة وهم المشتغلون بتحصيل الفقه مبتدئهم ومنتهيهم، وعلى الفقهاء ويدخل فيه من حصل منه شيئًا وإنْ قَلَّ، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في دخول من حصل قليلًا في مسمى الفقهاء، تابعه عليه في "الروضة" حتى يستحق بالمسألة الواحدة. لا أعلم من ذكره فإن أغلب الكتب المطولة "كالحاوي" و"البحر" و"تعليقة أبي الطيب" وغيرها ليس فيها تعرض للمسألة، والذين تعرضوا لها جزموا بأن هذا القدر لا يكفي، فذكر القاضي الحسين هنا في إحدى تعليقتيه أنه يصرف لمن حصل من كل علم شيئا، وقال في التعليقة الأخرى: إلى من حصل من الفقه شيئًا يهتدى به إلى الباقي. قال: ويعرف بالعادة، وقال في "التهذيب" في باب الوصية: لمن حَصَّل من كل نوع وكأن هذا هو مراد القاضي بقوله: من كل علم، وفي "التتمة" في الوصية أيضًا أنه يرجع فيه إلى العادة، وعبر في الوقف بقوله: إلى من حصل طرفًا، وإن لم يكن متبحرًا، فقد روى: أن من حفظ أربعين حديثا عد فقيها (¬1)، انتهى. ولاشك أن هذا اللفظ أعني عدم التبحر هو الموقع للرافعي في الغلط، وقال الغزالي في "الإحياء": يدخل الفاضل في الفقيه ولا يدخل المبتديء من شهر ونحوه، والمتوسط بينهما درجات يجتهد المفتي فيها والورع لهذا المتوسط ترك الأخذ، هذا كلامه ونقله عنه النووي في كتاب البيع من "شرح المهذب" وأقره. ¬

___ (¬1) أخرجه البيهقي في الشعب (2/ 270)، حديث (1726)، وابن عساكر في الأربعين (ص 21، 22)، والحافظ ابن حجر في الأربعين المتباينة السماع (ص 66) وابن حبان في المجروحين (2/ 133) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -. قال الحافظ: موضوع، وقال الألباني ضعيف.

ثم إن ما ذكراه في هذا الباب قد خالفاه في الوصية وسأوضحه إن شاء الله تعالى في موضعه، ثم إنه لا يستقيم من جهة القاعدة النحوية أيضًا لأن فقيها اسم فاعل من فقه بضم القاف إذا صار الفقه له سجية وأما المكسور فمعناه فهم، والمفتوح معناه أنه سبق غيره إلى الفهم على قاعدة المغالبة، وقياس اسم فاعلهما فاقة، كما تقرر في علم العربية، وأوضحته في كتاب "التمهيد". واعلم أن الأصحاب ذكروا في الصوفي أنه المشتغل بالعبادة في أغلب أوقاته ولما نقل الرافعي ذلك نقل عن الغزالي أنه لا يدخل في الوقف إلا إذا كان في زيهم أو مساكنًا لهم وأقره هو والنووي عليه فينبغي أن يأتي مثله في الفقهاء والمتفقهة. قوله: ولو وقف على المقبرة لتصرف الغلة إلى عمارة القبور قال في "التتمة": لا يجوز لأن الموتى صائرون إلى البلا فالعمارة لا تلائم حالهم. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقل ذلك عن المتولي وإقراره عليه، وليس الأمر على ما أطلقه المتولي من المنع، فقد جزم الرافعي في أول كتاب الوصية بجواز الوصية لعمارة قبور الأنبياء والعلماء والصالحين، وعلله بأن فيه إحياء للزيارة والتبرك بها فينبغي استثناء هذه الأمور هنا أيضًا، بل تعليل الجواز هناك بإحياء الزيارة يقتضي الجواز مطلقًا هنا أو هناك، لأن زيارة الكل مستحبة. [نعم: ذكر القاضي أبو الطيب في كتاب الجنائز من "تعليقه": أنه لا يستحب] (¬1) زيارة القبر إلا إذا كان صاحبه تستحب زيارته في حال الحياة، وعلى هذا يستقيم التفصيل الذي ذكره الرافعي هناك. ¬

__ (¬1) سقط من أ.

قوله: لا يصح الوقف إلا باللفظ، إلى آخره. تابعه في "الروضة" على إطلاق هذا الكلام، وفيه أمران: أحدهما: أنه إذا ابتدأ بناء مسجد في موات ونوى به المسجد مثلا صار مسجدًا أو لم يحتج إلى صريح القول بأنه مسجد. قال الماوردي: لأن الفعل مع النية يغنيان هنا عن القول، قال: ويزول ملكه عن الألة بعد استقرارها في مواضعها من البناء، وهي قبل الاستقرار باقية على ملكه إلا أن يصرح قولًا بأنها للمسجد فتخرج عن ملكه؛ هذا كلامه وقياس ذلك إجراؤه في غير المسجد أيضًا من المدارس والربط وغيرها، وكلام الرافعي في باب إحياء الموات في مسألة حفر البئر في الموات يدل عليه. الأمر الثاني: أن الوقف يصح من الأخرس بالكتب مع النية وبالإشارة سواء كانت مفهمة أم لا. نعم: لا يترتب عليه شيء في الظاهر إلا على تقدير الإفهام. قوله: وقول "الوجيز": ما لم يقل جعلته مسجدًا، ظاهر في أنه إذا أتى بهذا اللفظ يصير مسجدًا، وإن لم يوجد شيء من ألفاظ الوقف التي سنذكرها، بل حكى الإمام أن الأصحاب ترددوا في استعمال لفظ "الوقف" في ما يضاهي التحرير كما إذا قال مالك البقعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهو يريد جعلها مسجدًا. وفي "التهذيب" و"التتمة": أن المكان لا يصير مسجدًا بقوله: جعلته مسجدًا، وبه أجاب الأستاذ أبو طاهر، وهذا ذهاب إلى أنه لابد من لفظ الوقف والأشبه أنه لا بأس باستعمال لفظ الوقف وأن قوله: جعلته مسجدًا، يقوم مقامه لإشعاره، بالمقصود واشتهاره فيه. انتهى ملخصًا. فيه أمور:

أحدها: أن هذا النقل عن "التتمة" صحيح مذكور فيها في الفصل الثالث المعقود لشرائط الوقف، لكنه قد جزم في أول كتاب الوقف من "التتمة" بصحة وقف المسجد بقوله: جعلته مسجدًا، على خلاف الموضع الثاني الذي اقتصر عليه الرافعي فإنه قال ما نصه: الخامسة: إذا بنى مسجدًا أو رباطًا في بعض الطرق لينزل فيه السابلة، أو جعل أرضه مقبرة ليدفن فيها الموتى فالتصرف لازم، ويسمى هذا النوع الوقف العام، إلا أن عندنا يلزم بمجرد قوله: جعلت هذا الموضع مسجدًا ووقفت هذا المسكن على المارين هذا لفظه بحروفه. الأمر الثاني: أن محل الخلاف في مصيره مسجدًا بذلك إنما هو عند خلوه من نية الوقف، أما إذا قصد بقوله: جعلته مسجدًا الوقف صار مسجدًا، كذا صرح به القاضي الحسين. الأمر الثالث: أن في التصحيح بقوله جعلت إشكالا يأتيك بعد هذا، وفي آخر الباب أيضًا. الأمر الرابع: أن المنع قد قال به أيضًا القفال والقاضي الحسين والخوارزمي وغيرهم، وصار المعروف خلاف ما رجحه الرافعي بحثا واغتر به في "الروضة" فجعله الأصح. قوله: وأظهر الأوجه أنه إذا قرن بلفظ "الصدقة" بعض الألفاظ السابقة بأن قال: صدقة محرمة، أو مؤبدة، أو موقوفة، أو قَرَنَ به ذكر حكم الوقف بأن قال: صدقة لا تباع ولا توهب، التحق بالصرائح لانصرافه، بما ذكره عن التملك المحض .. إلى آخره. تابعه في "الروضة" على الجمع بين البيع والهبة وينبغي الاكتفاء بأحدهما كما في الألفاظ السابقة، وفي المسألة إشكال آخر وهو أن الكناية في غير هذا لم يلحقوها بالصرائح لأجل وجود لفظ آخر.

قوله: في المسألة: وإن لم يقرن به لفظ بل نوى الوقف، نظر إن أضاف اللفظ لجهة عامة التحق بالصريح على الصحيح وإن أضاف إلي معين لم يكن وقفًا على الأصح، هكذا قاله الإمام، بل ينفذ في ما هو صريح فيه، وهو محض التملك وفي ما ذكره دلالة على أن ههنا وجهًا أنه يكون وقفًا، انتهى. واعلم أن الغزالي قد جزم في "الوسيط" و"الوجيز" بأنه لا يكون وقفًا، ونقل في "الوسيط" الإجماع عليه فقال: واختلف المعتبرون للقرينة -أي اللفظية- في أن النية هل تقوم مقام القرينة، وهؤلاء أجمعوا على أنه لو جرى هذا مع شخص معين، فقبل لم تنفع النية بل تنفذ صدقة فإنه وجد نفاذًا في موضعه صريحًا، هذا كلامه. وكيف يكون في "النهاية" خلاف في شيء ويدعى الغزالي الإجماع عليه؟ وبالجملة فالذي نقله الرافعي وتابعه عليه في "الروضة" خلاف ما في "النهاية"، فإنه عبر فيها بقوله: فإن عبر بلفظها -أي: بلفظ الصدقة- قائلًا متعينًا، فالأصح أنه صدقة ثبات مقتضاها تمليك الرقبة فإنها صريح في الباب، هذا لفظه من غير زيادة عليه، فلم يوجه اللفظ المشعر بالخلاف، وهو الأصح إلى كونه وقفًا أم لا، بل وجهه إلى الصدقة المقيدة للملك جزما، وحينئذ فالمقابل له هو الوقف أو البطلان بالكلية، وهو الظاهر لكونه قد صرفه من مدلوله، وفي المسألة إشكال يأتي في الوصية قبيل الكلام على المسائل الحسابية فراجعه. قوله: فأما إذا قال جعلت هذا للمسجد فهو تمليك لا وقف فيشترط قبول القيم وقبضه كما لو وهب شيئًا من صبى، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يوهم الواقف عليه أنه صريح لا يحتاج إلى نية

لأنه جعله تمليكًا لا كناية في التمليك، ولم يشترط معه شيئا آخر، وليس كذلك فتفطن له، فقد صرح في أول الهبة بأنه كناية، فقال نقلًا عن العبادي: ولو قال: جعلته لابني، وهو صغير صار له لأن هينه منه لا تقتضي قبولًا، وهذا يلتفت إلى ما ذكرنا من الانعقاد بالكنايات، وإلى الاكتفاء بأحد الشقين، انتهى. وأيضًا فإنه لو كان "جعلته لك" صريحًا في التمليك، كما لو قال: ملكتك، لكان قول البائع: جعلته لك بكذا، صريحًا في البيع بلا شك فإنه حينئذ يصير كقوله: ملكتك، وليس كذلك فقد نص في البيع على أنه كناية وأيضًا فقد قال الرافعي في آخر الباب الثاني من كتاب الوقف نقلًا عن "فتاوى القفال" ما نصه: وإنه لو قال: جعلت هذه الدار للمسجد، أو دفع دارًا إلى قيم المسجد، وقال: خذها للمسجد، أو قال: إذا مت فاعطوا من مالي ألف درهم للمسجد، أو قال: فداري للمسجد، لا يكون شيئًا، لأنه لم توجد صيغة وقف ولا تمليك ولك أن تقول: إن لم يكن صريحًا في التمليك فلا شك في كونه كناية فيه، انتهى. وقد استفدنا منه أن الرافعي لم يحكم على هذه المسألة بالصراحة، بل صرح بالتوقف فيها وقد ثبت بما قلناه أنه كناية فوجب القطع به. الأمر الثاني: أن النووي قد وقع له في هذه المسألة من "الروضة" اختلاف فاحش سببه سوء الاختصار، فإنه لما ذكر الحكم المنقول عن "فتاوى القفال" لم يعزه إليه، بل جزم بنقله ثم ذكر بعد ذلك ما ذكره الرافعي من الإشكال، فاقتضى كلامه الاتفاق نقلًا على أنه لا يكون شيئا على عكس الموضع الأول وأنه ليس فيه سوى البحث المذكور. والعجب من مصنف يجزم بشيء من غير نقله عن أحد، ثم يعترض عليه، بل الصواب، في مثل ذلك نقله عن قائله ثم يذكر ما فيه كما هو

المعتاد. ومسألة القفال نقلها النووي إلى آخر الباب الأول. قوله: وإن كان الوقف على شخص معين أو جماعة معينين فوجهان: أصحهما: على ما ذكره الإمام وأخرون: اشتراط القبول، لأنه يبعد دخول عين أو منفعة في ملكه بغير رضاه. والثاني: أنه لا يشترط واستحقاق الموقوف عليه المنفعة كاستحقاق منفعة نفسه، وبهذا أجاب صاحب "التهذيب" وكذا القاضي الروياني وخصص في "التتمة" الوجهين بما إذا قلنا: الملك في الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه. فأما إذا قلنا: بانتقاله إلى الله تعالى أو ببقائه للواقف، فلا يشترط، انتهى كلامه. وليس فيما ذكره تصريح برجحان عنده ولا عند الأكثرين إلا أنه قد صرح في "المحرر" بتصحيح الاشتراط فقال ما نصه: والأصح في الوقف على المعين اشتراط القبول. وكلامه في "الشرح الصغير" فيه إشعار به، ونقل في "الروضة" من "زياداته" عن "المحرر" تصحيحه ولم يذكر غير ذلك من موافقة ولا مخالفة ووافقه عليه في "المنهاج" لكنه رجح خلافه في "الروضة" أيضًا في الباب الثاني من كتاب السرقة، فقال في أثناء زيادة له: إن المختار أنه لا يشترط هذه عبارته. والمختار في "الروضة" ليس هو في مقابلة الأكثرين، بل بمعنى الصحيح والراجح ونحو ذلك، ونقل في "شرح الوسيط" عن نص الشافعي أنه لا يشترط، وصححه خلائق منهم الماوردي، وهو مقتضى كلام صاحب "التنبيه" فإنه ذكر الإيجاب ولم يشترط القبول بل قال بعده: وإن وقف على رجل بعينه ثم علي الفقراء فرد الرجل، هذه عبارته فدل على أنه لا يشترط

القبول، بل يشترط أن لا يرد، وذكر في "المهذب" نحوه. قوله: في أصل "الروضة": هذا في البطن الأول، أما البطن الثاني والثالث، فنقل الإمام والغزالي أنه لا يشرط قبولهم قطعًا لأن استحقاقهم لا يتصل بالإيجاب، انتهى كلامه. والذي قاله من كون الإمام والغزالي نقلًا أنه لا يشترط قطعًا ليس كذلك، بل صرح الإمام في "النهاية" بالخلاف فيه وكذلك الغزالي في "البسيط"، وعبارة الرافعي: أما البطن الثاني والثالث فلا يشترط قبولهم في ما نقله الإمام وصاحب "الكتاب"، وأجرى المتولي فيه الخلاف، وهدا اللفظ قابل للتأويل، وإن كان يوهم جزمهما بعدم الاشتراط. قوله: الثانية: إذا كان الوقف منقطع الأجر كقوله وقفت هذا على أولادي ولم يذكر من يصرف إليه بعده، ففيه قولان أصحهما: عند الأكثرين صحته، ثم قال: وعن صاحب "التقريب" قول ثالث: أنه إن كان الموقوف عقارًا فلا يصح، وإن كان حيوانًا صح لأن مصيره إلى الهلاك، فكما يجوز فوات الموقوف [مع بقاء الموقوف عليه] (¬1) يجوز فوات الموقوف عليه مع بقاء الموقوف، انتهى كلامه. وسكت -رحمه الله- عن غير الحيوان من المنقولات كالثياب، والأثاث والكتب، ويظهر إلحاقها بالحيوان، وتعليله يرشد إليه. قوله: وقف على معين يصح الوقف عليه ثم على الفقراء فرده المعين، وقلنا بالصحيح أنه يرتد بالرد فمنقطع الأول، انتهى كلامه. وقد علم منه أن الصحيح بطلانه في حق الفقراء وقد تابعه النووي في "الروضة" على ذلك وخالف في تصحيح "التنبيه" فصحح الصحة في حقهم، والمعروف هو الأول. ¬

___ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو شرط في الوقف اختصاص المسجد بأصحاب الحديث أو الرأي، أو بطائفة معلومة فوجهان: أحدهما: أن شرطه غير متبع لأن جعل البقعة مسجدًا كالتحرير فلا معنى لاختصاصه. والثاني: يصح ويختص بهم مراعاة لشرط الواقف وقطعًا للنزاع في إقامة الشعائر ويشبه أن تكون الفتوى به، ثم الوجهان في ما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة المسلمين. أما إذا لم يتعرض للانقراض فقد ترددوا فيه، انتهى ملخصًا. ومدرك التردد احتمال انقراض هذه الطائفة ولاسيما إذا كانت الطائفة معينين كزيد وعمرو وحينئذ فيكون منقطع الأخير، والأصح فيه: الصحة، ولهذا صححه هنا في "الروضة" وقد جزم القفال في فتاويه بصحة هذا الوقف وأنه لو بقي واحد كان له منع الغير. واعلم أن المراد بأصحاب الحديث الفقهاء الشافعية وبأصحاب الرأي الفقهاء الحنفية وهذا عرف أهل خراسان. قوله: ولو شرط في المدرسة والرباط الاختصاص [اتبع شرطه، ولو شرط ذلك في المقبرة فالوجه أن يرتب على تخصيص] (¬1) المسجد، إن قلنا: يختص فالمقبرة أولى، وإلا فوجهان لترددها بين المسجد والمدرسة، والثاني: أظهر فإن المقابر للموتى كالمساكن للأحياء، انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد جزم في الفصل الثاني من الباب الذي يلي هذا بأن المقبرة كالمسجد في كونه للتحرير، فقال: في الكلام على الأقوال في مالك الموقوف: فأما إذا جعل البقعة مسجدًا أو مقبرة فهو فك عن الملك كتحرير الرقبة فينقطع عنه اختصاصات الأدميين، هذا لفظه. ¬

____ (¬1) سقط من أ.

والتصحيح المذكور هنا والتعليل لا يجتمعان معه، فإنه علل المنع في المسجد بالتحرير والفرض أنه موجود في المقبرة، وعلل اختصاص [المقبرة بأنها كمساكن الأحياء وهو إنما يتم إن لو قلنا ببقاء إختصاص] (¬1) الآدميين فيها، وعدم التحرير. أما إذا قلنا بالتحرير وعدم الاختصاص فليست كالمساكن قطعًا، فظهر أن الوضعين لا يجتمعان، وقد تبعه في "الروضة" عليهما وما تقدم في وقف المسجد على طائفة معينة يشكل عليه أيضًا فراجعه. قوله: إحداها: لو قال: وقفت كذا، واقتصر عليه فقولان: أصحهما عند الأكثرين البطلان. ثم قال: واحتجوا للصحة بأنه لو قال: أوصيت بثلث مالي، واقتصر عليه تصح الوصية، وتصرف إلى الفقراء والمساكين، وهذا إن كان متفقًا عليه فالفرق مشكل، انتهى. وليس كما زعمه من الإشكال، والفرق من وجهين ظاهرين ذكرهما أيضًا النووي: أحدهما: أن غالب الوصايا للمساكين فحمل المطلق عليه بخلاف الوقف. الثاني: أن باب الوصية أوسع لصحتها بالمعدوم والمجهول والنجس بخلاف الوقف. قوله: الثانية: وقف على شخصين ثم على المساكين فمات أحدهما ففي نصيبه وجهان أظهرهما ويحكى عن نصه في "حرملة" أنه يصرف إلى صاحبه. والثاني: أنه للمساكين، والقياس وجه ثالث وهو أن لا يصرف إلى ¬

____ (¬1) سقط من أ.

صاحبه ولا إلى المساكين، ويقال صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الترجيح الذي ذكره للوجه الثالث ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" ولم يذكر ترجيح غيره أصلا، ومقتضاه أن يكون هو الراجح عنده على أن في بعض نسخ "الكبير" أحدهما عوضًا عن قوله: أظهرهما، ويؤيد هذه النسخة استبعاد الجمع بينه وبين التصريح بأن القياس غيره لأن اللفظين في المعنى واحد. نعم: لو ذكر أنه الأظهر من جهة النقل لاستقام، وقد أسقط في "الروضة" كون الثالث وجهًا وحكاه في صورة البحث فقط، وقد صرح الرافعي بعد هذا بقليل بحكايته وجهًا، ذكر ذلك في أول الباب الثاني. الأمر الثاني: أن المراد بكونه منقطع الوسط أنه يصرف مصرفه لا أنه يجيء خلاف في صحته وقد نبه عليه في "الروضة".

الباب الثاني: في "حكم الوقف الصحيح"

الباب الثاني: في "حكم الوقف الصحيح" وفيه فصلان: الفصل الأول: في أمور لفظية قوله: ولو زاد فقال ما تناسلوا أو بطنًا بعد بطن فلا ترتيب ويحمل على التعميم، وعن الزيادي أن قوله: بطنا بعد بطن، يقتضي الترتيب، وبه أجاب بعض أصحاب الإمام، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من عدم الترتيب ذكره أبو عاصم العبادي وأبو القاسم الفوراني والبغوي فتبعهم الرافعي عليه، ثم إن النووي تبع الرافعي في ذلك، وهو مردود نقلًا وبحثًا، أما الأول فلأن غالب من تكلم على المسألة أجاب بأنه للترتيب فقد قطع به البندنيجي والماوردي في "الحاوي" وكذلك الإمام في "النهاية" وبه أجاب الغزالي أيضًا واختاره القاضي حسين في "فتاويه" وقال في "تعليقته": إنه الصحيح وقطع به صاحب "الذخائر" وصححه صاحب "التعجيز" فقال: يرتب خلافًا للبغوي وأفتى به الشيخ تقي الدين ابن رزين على ما هو مذكور في "فتاويه"، وقد نقله الرافعي عن الزيادي وبعض أصحاب الإمام، وكأنه لم يمعن على هذه المسألة، ويدل عليه أنه لم ينقله عن الإمام، بل عن بعض أصحابه مع أنه مقطوع به في كلام الإمام نفسه. وأما الثاني -وهو بطلانه من جهة البحث- فلأن لفظة "بعد" في اقتضاء الترتيب أصرح من "ثم"، و"الفاء" وغيرها وقد جزم فيها باقتضاء الترتيب فما نحن فيه أولى. الأمر الثاني: أن جزمهم بعدم الترتيب إذا لم يذكر الواقف ذلك واقتصر

على وقفت على أولادي وأولاد أولادي فيه إشكال أيضًا لأن الماوردي قد نقل في باب صفة الوضوء من "الحاوي" عن أكثر أصحابنا أن الواو تدل على الترتيب [فكان قياسه أن يكون الأكثرون على الترتيب] (¬1) هنا وهم لم يقولوا به بل لم يحكوا فيه خلافًا أصلًا. قوله: ولا يصرف إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول أحد، هكذا أطلقه الجمهور، والقياس في ما إذا مات واحد من البطن الأول أن يجيء في نصيبه الخلاف المذكور في ما إذا وقف على شخصين أو جماعة ثم على المساكن فمات واحد إلى من يصرف نصيبه؟ انتهى. والفرق بين المسألتين ظاهر، وذلك أن القصد من الوقف على الأولاد وأولاء الأولاد تمليك القرابة على الجملة على النعت الذي شرطه لا تمليك كل واحد منهم شيئا مقدرا، فإنه لو كان القصد ذلك لامتنع أن ينقص أحدهما عما استحقه حال الوقف، وذلك ليس ممتنعًا بدليل أنه إذا حصل له ولد أو ولد ولد يتناول الموجود في ما كان ينفرد به فإذا كان هذا هو المقصد فلا يعدل عنه عند إمكانه وهو مع بقاء واحد ممكن، وليس كذلك الوقف على شخصين، ثم على المساكين فإن القصد ظاهر في تمليك كل واحد منهما النصف بدليل عدم تطرق النقص عنه، وهو لو قال: وقفت على هذا النصف وعلى هذا النصف، لم ينتقل نصيب أحدهما للآخر عند فقده، فكذلك ههنا. قال ابن الرفعة: وقد يلخص هذا الفرق فيقال: لما قبل نصيب الموجود دخول النقص عليه. قيل: الزيادة لفهم المعنى، ولما لم يقبل نصيب أحد الرجلين النقص لم يقبل الزيادة لفهم المعنى. ¬

___ (¬1) سقط من أ.

قوله: وكذا الأولاد الحادث علوقهم بعد الوقف يستحقون إذا انفصلوا هذا هو الصحيح المقطوع به في الكتب، وفي "أمالي" السرخسي [خلافه، انتهى. وما زعمه من قطع الأصحاب بمخالفة السرخسي] (¬1) غريب، فإن الرافعي كثير النقل عن "فتاوى القفال" وقد رأيت فيها الجزم به، ونقله أيضًا القاضي حسين عن "البويطي"، ثم قال: إنه الصحيح عندي، كذا ذكره في إحدى "تعليقتيه" وقال في الأخرى: الظاهر دخولهم، وقد سبق في مقدمة الكتاب إيضاح اختلاف التعليق عنه، وجزم أيضًا بعدم الدخول القاضي أبو الطيب في "المجرد" كما حكاه عنه الروياني في "البحر"، ثم إن الرافعي قد نقله أيضًا بعد هذا عن "البويطي". قوله: واسم المولى يقع على المعتق ويقال له: المولى الأعلى، وعلى العتيق ويقال له: المولى الأسفل، فإذا وقف على مواليه وله موالي من أعلى وموالي من أسفل ففيه أوجه: أصحها في "التنبيه" أنه يقسم بينهما. وأرجحها: عند الغزالي أنه يبطل إلى آخره. فيه أمور: أحدها: أنه لم يصرح بتصحيح في "الشرح الصغير" أيضًا ولا في "المحرر"، بل قال فيه: رجح كلًا مرجحون وتبعه صاحب "الحاوي الصغير" على التعبير به، والأصح ما قاله صاحب "التنبيه" من القسمة فقد صححه أيضًا القفال الكبير وابن القطان والفوراني والقاضي أبو الطيب والجرجاني والنووي في "زوائد الروضة" ونص عليه الشافعي كما نقله عنه في "المطلب". الأمر الثاني: أن الشافعي في "البويطي" قد نص في ما لو قال: وقفت ¬

__ (¬1) سقط من أ.

علي موالي من أسفل، فإنه يدخل أولاد المولى، وقياس ما قاله دخول أولاد الموالي من أعلى حيث أدخلنا آباءهم إما وحدهم أو مع الموالي من أسفل، إلا أن الشافعي لم يبين أن دخول الأولاد هل هو عند فقد آبائهم أو مطلقًا؟ وفيه نظر. الأمر الثالث: أن الرافعي عبر أولًا بلفظ "المولى" ثم صور المسألة بالموالي أعني بلفظ "الجمع" ولا شك في مجيء الخلاف في حالة الجمع، وأما حالة الإفراد فكذلك عند القاضي أبي الطيب وابن الصباغ فإنهما ذكر الخلاف في حالة الإفراد، وقال الإمام: لا يتجه الإشتراك وتنقدح مراجعة الواقف. الأمر الرابع: أن النووي لما صحح من "زياداته" القسمة قال بعده: وحكى الدارمي وجهًا خامسًا أنه موقوف حتي يصطلحوا، وليس بشيء، هذا لفظه، وهو غريب فقد حكاه هو في كتاب الوصية في الكلام على الوصية للوالي قولا فقال: وفي قول عن رواية "البويطي": يوقف إلى الاصطلاح، هذا لفظه. قوله: ولو وقف على عترته فعن ابن الأعرابي وثعلب أنهم ذريته، وقال القتيبي: هم عشيرته، وهما وجهان للأصحاب، أصحهما الثاني، انتهى. قال في "الروضة": هذان المذهبان مشهوران لأهل اللغة، لكن أكثر من جعلهم عشيرته خصهم بالأقربين. قال الأزهري: قال بعض أهل اللغة، عترته عشيرته الأدنون. وقال الجوهري: عترته نسله ورهطه الأدنون. وقال الزبيدي: عترته أقرباؤه من ولد وغيره. ومقتضى هذه الأقوال أنه يدخل ذريته وعشيرته الأدنون هذا هو الظاهر المختار، هذا كلام النووي.

قوله: ولو قال: وقفت على بني الفقراء، أو على بناتي الأرامل، فمن استغنى منهم أو تزوج منهن خرج عن الاستحقاق، فإن عاد فقيرا أو طلقها زوجها عاد الاستحقاق، انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وهو يشعر أو يوهم أن المرأة قبل أن تتزوج تأخذ من هذا الوقف، وأنه يصدق عليها أنها أرملة وليس كذلك، بل الذي نص عليه الشافعي أن الأرملة هي التي فارقها زوجها، حتى أن من لم يتقدمها زوج لا تسمى أرملة، ونقله عنه إمام الحرمين، وقال في "الروضة" من "زياداته" في باب الوصية: إنه الأصح، ولم يصرح الرافعي هناك بتصحيح، ثم إن لهن شرطًا آخر لم يذكره هنا وهو الفقر، فإن المرجح على ما يقتضيه كلام الرافعي والنووي في الوصية اشتراطه. قوله: من "زياداته": ولم أر لأصحابنا تعرضًا لاستحقاقها في حال العدة، وينبغي أن يقال: إن كان الطلاق بائنًا، أو فارقت بفسخ أو وفاة استحقت لأنها ليست بزوجة في زمن العدة، وإن كان رجعيًا فلا لأنها زوجة، انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الوقوف عليها غريب فإن المسألة قد نص عليها غير واحد على وفق البحث الذي ذكره، ونقلها هو عنهم في كتاب الوصية تبعًا للرافعي، فقال: واسم الأرامل يقع على اللواتي مات عنهن الأزواج، وعلى المتختلعات والمبتوتات دون الرجعيات، والأيامى غير ذوات الأزواج، هذه عبارة الأستاذ وبها أخذ الإمام، انتهى كلامه. ولم يحك فيها غير ذلك. قوله: والصفة والاستثناء عقب الجمل المعطوف بعضها علي بعض يرجعان إلى الكل، مثال الصفة: وقفت على أولادي وأحفادي وأخوتي المحتاجين منهم.

ومثال الاستثناء: إلا أن يفسق واحد منهم، هكذا أطلقه الأصحاب. ورأى الإمام تقييده بقيدين: أحدهما: أن يكون العطف بالواو، فإن كان بـ"ثم" اختصت بالجملة الأخيرة. والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، ثم قال في آخر كلامه: والصفة المتقدمة على جميع الجمل كقوله: وقفت على فقراء أولادي وأولاد أولادي وأخوتي، كالمتأخرة حتى يعتبر الفقر في الجميع، انتهى كلامه. وفيه أمور: أحدها: أن تمثيل الجمل بما ذكره غير مستقيم، بل هذا من عطف المفردات، فالصواب تمثيله بما ذكره الإمام في الأصول كقوله: وقفت على فلان داري وحبست على أقاربي ضيعتي وسَبَّلْتُ على عتقائي بستاني. نعم: إن قلنا: إن العامل في المعطوف هو فعل مقدر بعد الواو استقام ذلك ولكن المعروف أن العامل هو الأول بواسطة الحرف. وإذا عملت ما ذكرناه ظهر لك أنه لابد من أحد مسلكين وهو إما الأخذ بمثالهم ويكون قد تجوزوا بتسميته ذلك جملا حتى لو كان جملًا حقيقة لم يعد ذلك إلى الجميع. وإما الأخذ بما قالوه من الجمل ويلزم منه العود إلى المفردات بطريق الأولى إلا أن ذلك يبعد القول به في الصفة المتقدمة على الجمل، لأن المفردات تكون معطوفة على ما أضيف إليه الصفة فيكون المضاف مقدرًا في الكل. وأما الجمل كقوله: وقفت على فقراء أولادي وسَبَّلْتُ على أخوتي وحبست على عتقائي، فكل واحدة مستقلة والصفة مع الأولى خاصة، ولا يأتي فيها ما يأتي في المتأخرة فإن عودها إلى الكل صحيح فتأمل ذلك،

والظاهر ما قالته الشافعية في الصفة المتأخرة لا المتقدمة على الجمل فاعلمه. الأمر الثاني: أن ما ذكره هنا من عودة الاستثناء إلى الكل قد ذكر ما يخالفه في الباب الرابع من كتاب الطلاق فقال: الظاهر عوده إلى الأخير، انتهى. وتابعه النووي في "الروضة" علي الموضعين وعبر بالأصح عوضا عن الظاهر، وزاد موضعا ثالثا في أول كتاب الأيمان موافقا للمذكور هنا وعبر فيه بالصحيح، وصور المسألة هنا بالاستثناء "بإلا" وفي الطلاق والأيمان، "بإن" كقوله إن شاء الله والحكم عندهم واحد. الأمر الثالث: أن كلام الرافعي يقتضي اختصاص ما ذكره بالجمل المعطوفة لكنه قد نقل في أول كتاب الأيمان عن القاضي أبي الطيب عود الاستثناء إلى الجملتين بلا عطف، وأقره فقال: قال القاضي أبو الطيب: لو قال: إن شاء الله أنت طالق، عبدي حر، لم تطلق ولم يعتق لأن حرف العطف قد يحذف مع إرادة العطف، وعد من هذا القبيل التحيات المباركات، وليكن هذا في ما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما، فإن أطلق فيشبه أن يجيء خلاف في أنه يختص بالجملة الأولى أم يعمهما؟ هذا كلامه. الأمر الرابع: أن ما ذكره من إطلاق الأصحاب غير الإمام ليس كذلك فقد نقل -أعني: الرافعي- في باب تعدد الطلاق عن المتولي أن الشرط يعود إلى الجملتين إذا كان العطف بـ"ثم"، وأقره هو والنووي عليه، والشرط قسم من أقسام الاستثناء كما صرح به الرافعي في الباب الأول الذي يلي الباب المذكور وهو المعقود للاستثناء وذكر -أعني: الرافعي- في باب تعدد الطلاق أيضًا بعد الموضع المشار إليه بدون ورقة أن العطف بـ"بَل" لا يعود معه الشرط إلى الجملة الأولى على الصحيح، بل يختص بالثانية كقوله: أنت طالق واحدة بل ثلاثًا إن دخلت الدار. والله أعلم.

الفصل الثاني: في الأحكام المعنوية

قال -رحمه الله-: الفصل الثاني: في الأحكام المعنوية قوله: ومنها اللزوم في الحال سواء أضافه إلى ما بعد الموت أم لم يضفه وسواء سلمه أم لم يسلمه. انتهى لفظه بحروفه. وتعبيره بقوله "سواء" أضافه إلى ما بعد الموت تعبير فاسد، فإن مدلول إضافة الوقف إلى ما بعد الموت أن يقول: وقفته بعد موتي، والوقف لا يحصل بهذا في الحال فضلًا عن كونه لازمًا، بل قالوا: إنه يكون وصية بالوقف، وقد أشار الرافعي بعد ذلك إلى الذي احترز عنه فقال: عقبه وعن أبي حنيفة أن الوقف كالعارية يرجع عنه متى شاء إلا أن يوصي به فيلزم بعد الموت أو يقضي به قاض، وعن أحمد رواية أنه لا يلزم إلا بالتسليم. هذا لفظه، وحاصله أن الوقف غير لازم، فإن أوصى الواقف باستمراره لزم بموته كسائر الوصايا ولا شك أن الرافعي أشار إلى هذا الكلام لكن عبارته لا تقيده لما قلناه من أن مدلول إضافته إلى ما بعد الموت أن يقول: وقفته بعد موتي، وبتقدير أن يكون المراد هو الوصية فلا يصح أيضًا لأن أبا حنيفة لا يقول بلزومه في الحال أصلًا سواء أوصى به أو لم يوص به فكيف يجيء الاحتراز؟ . وقد حذف النووي من "الروضة" ذكر هذه المذاهب التي أشار إليها الرافعي بالاحتراز فصار أبلغ في الالتباس من كلام الرافعي. وقد يجاب عن كلام الرافعي بجواب آخر فيقال: مراده ما إذا أنجز الوقف ولكن علق الإعطاء إلى الموقوف عليه بالموت، فإن صاحب "البيان" قد ذكر في هذا الباب كلاما حاصله جواز مثل ذلك هنا إلحاقا بالوكالة، فإن تعليقها ممتنع وأما تنجيزها وتعليق التصرف فجائز.

قوله: وإن كان الموقوف شجرة ملك الموقوف عليه ثمارها ولا يملك أغصانها، إلا فيما يعتاد قطعه كشجر الخلاف، انتهى. وما ذكره عن الإقتصار على استثناء ما يعتاد قطعه، تابعه عليه في "الروضة" أيضًا واستثنى الإمام أيضًا ما إذا شرط قطع أغصان الأشجار وهو ظاهر، لأنها تلتحق والحالة هذه بالثمار، وفي معناه ما رواه الروياني عن ابن سريج أنه إن وقف أصل الشجرة دون أغصانها جاز قطعا وبيعها إلا أن الأغصان في المسألة الثانية إذا كانت موجودة حالة الوقف تكون ملكا للواقف فاعلمه. قوله: وإن كان الموقوف بهيمة ملك صوفها ووبرها ولبنها، ويملك نتاجها أيضًا على الأظهر، وقيل: يكون وقفًا تعبًا لأمه، وقيل: يملك ولد النعم دون ولد الفرس والحمار، وقيل: يكون لأقرب الناس إلى الواقف، ثم قال: وهذا المذكور في الدَّر والنسل هو في ما إذا أطلق، أو شرطهما للموقوف عليه فلو وقف دابة على ركوب إنسان ولم يشترط له الدَّر والنسل، قيل: حكم الدَّر والنسل حكم وقف منقطع الأخير، وقال صاحب "التهذيب": ينبغي أن يكون للواقف وهذا أوجه، فإن الدَّر والنسل غير داخلين في الوقف، انتهى كلامه. وهو يقتضي جريان الخلاف في كون الولد ملكًا أو وقفًا وإن جعله للموقوف عليه وقد تابعه عليه في "الروضة" وهو غير معقول، بل الصواب في هذه الحالة تمليكه للموقوف عليه، وقد صرح الماوردي [بالمسألة وجعل محل الخلاف] (¬1) في ما إذا وقفها للركوب والحمل، فإن وقف للنسل فيكون ملكا للوقوف عليه قطعًا. قوله: هذا إذا كلان الوقف مطلقًا، فإن قال: وقفت داري ليسكنها من يعلم الصبيان في هذه القرية، فللمعلم أن يسكنها وليس له أن يسكنها غيره ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بأجرة ولا بغيرها، ولو قال: وقفت داري على أن تستغل وتصرف غلتها إلى فلان، تعين الاستغلال، كذا ذكرت الصورتان في "فتاوى" القفال وغيره، انتهى. واعلم أن الرافعي ذكر في كتاب الوصية في القسم الثاني من الباب الثاني مسائل متعلقة بما نحن فيه فقال: أما إذا قال: أوصيت لك بمنافعه حياتك فهو إتاحة وليس تمليك، فليس له الإجارة وفي الإعارة وجهان، انتهى. والقياس جريان هذين الوجهين أيضًا في الإعارة هنا، ثم قال: ولو قال أوصيت لك بأن تسكن هذه الدار أو بأن يخدمك هذا العبد فهو إباحة أيضًا لا تمليك بخلاف قوله أوصيت لك بسكناها وخدمته هكذا ذكره القفال وغيره، لكنا ذكرنا وجهين في ما إذا قال: استأجرتك لتفعل كذا، أن العقد الحاصل إجارة عين أم إجارة في الذمة؟ فإن قلنا: إنها إجارة في الذمة فينبغي أن لا يفرق ههنا بين قوله: بأن يسكنها، أو بسكناها انتهى وما ذكره القفال من التفرقة بين السكنى، وبين أن يسكن، والرافعي من تخريجه على الخلاف فيأتي أيضًا هنا، ثم قال: أعني الرافعى أيضًا هناك ما نصه: وفي "فتاوى القفال" أنه لو قال: أطعموا فلانا كذا مَنَّا من الخبز مالي، اقتضى تمليكه كما في إطعام الكفارة، ولو قال: اشتروا الخبز واصرفوا إلى أهل محلتي، فسبيله الإباحة، انتهى. وهذا التفصيل بعينه يأتي أيضًا هنا حتى إذا قال: وقفت داري على أن يشتري بغلتها خبز ويصرف إلى الرباط الفلاني أو الخانقاة لم يجز لأحد التصرف فيه بغير الأكل. قوله: لا يجوز وطئ الجارية الموقوفة فإن وطئت فلها أحوال: أحدها: أن يطأها أجنبي فإن كان هناك شبهة فلا حر ويجب المهر،

والولد حر وعليه قيمته وتكون ملكًا للموقوف عليه، إن جعلنا الولد ملكًا، وإلا فيشتري بها عبدًا ويوقف، انتهى. وما ذكره من شراء العبد قد تبعه عليه في "الروضة"، وهو إنما يتجه إذا كان الولد ذكرًا فإن كان أنثى فيتعين شراء الأنثى كما لو قتل الموقوف، وذلك لأن الأجل على هذا الوجه كون الولد وقفًا، وإنما خالفناه لكون الواطئ معذورا، وإلا فخصوصية العبد لا أثر له. قوله: الثانية أن يطأها الموقوف عليه ولا شبهة فقد قيل لأحد عليه لشبهة الملك، وهذا ما أورده صاحب "الشامل" والأصح أنه يبني على أقوال الملك أن جعلناه له فلا حد وإلا فعليه الحد ولا غيره يملك المنفعة كما لو أوصى الموصى له بالمنفعة الجارية وهل الولد ملك أو وقف؟ فيه الوجهان في نتاج البهيمة، الأصح: أنه ملك، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما صححه من البناء على أقوال الملك هو ما صححه القاضي حسين فتبعه المتولي، ثم الرافعي، والمعروف إلحاقه بوطء الشبهة حتى لا يجب الحد، ويكون الولد حرًا، فقد حكاه القاضي الحسين عن أصحابنا، وإن رجح هو خلافه وذهب إليه أيضًا البندنيجي والقاضي أبو الطيب وسليم الرازي وابن الصباغ والروياني، وقال في "النهاية" و"البسيط": إنه المذهب ثم أن الإمام أحمد ممن يقول: إن الملك للموقوف عليه، والإمام مالك يقول: بأنه باق على ملك الواقف واختلاف العلماء من أقسام الشبهة، ويعبر عنه بشبهة الطريق، وقد قال أصحابنا: إن المشتري شراء فاسدا يكون وطئه شبهة لأن أبا حنيفة يقول بالملك، وإن كان لا يبيح الوطء به، والذي قالوه هناك موجود بعينه هنا بل أولى لأن الخلاف في الملك ثابت عندنا أيضًا.

الأمر الثاني: أن ما صححه هنا من وجوب الحد على الموصي له بالمنفعة قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وخالفا ذلك في كتاب الوصية فصححا عدم الوجوب، وسأذكره في بابه إن شاء الله تعالى. قوله: ويجوز تزويج الأمة الموقوفة في أظهر الوجهين، وعلى هذا فإن جعلنا الملك للموقوف عليه فهو الذي يزوجها، وإن قلنا: لله تعالى، فيزوجها السلطان فإن الموقوف عليه، وإن قلنا: للواقف، فتزويجها بإذن الموقوف عليه، انتهى. وهذا الإطلاق قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا ويتجه تخصيصه بما إذا كان النظر في الوقف لمن قبلنا الملك له، فأما إذا شرط الواقف النظر لنفسه، أو لأجنبي فيكون الناظر هو الذي يزوج، كما أنه يؤجر، وقد صرح به الماوردي فقال: يزوجها مستحق الولاية على الوقف وتبعه عليه في "شرح الوسيط". قوله: فرع: ليس للموقوف عليه أن يتزوج بها إن قلنا إنها ملكه وإلا فقد قيل بزواجه، والظاهر المنع احتياطًا، وعلي هذا فلو قال: وقفت عليه زوجته، انفسخ النكاح، انتهى. وما ذكره في آخر كلامه من انفساخ النكاح بمجرد هذا القول مخالف لما صححه في "المحرر" من اشتراط القبول وموافق لما رجحه النووي في السرقة، وعلى هذا فلو رد بعد ذلك فيتجه الحكم ببطلان الفسخ ويحتمل خلافه. قوله: وقبول المتولي للنظر يشبه أن يجيء فيه ما في قبول الوكيل وقبول الموقوف عليه انتهى. ذكر في "الروضة" مثله لكن الراجح عند الرافعي أن الوكيل لا يشترط فيه القبول باللفظ، وفي الموقوف عليه عكسه، فالجمع بينهما متأتٍ ولا شك

أن شبهه بالوكيل أظهر لاشتراكهما في التصرف ولجواز الامتناع منهما بعد قبولها بخلاف السريع. قوله: ووظيفة المتولي العمارة والإجارة وتحصيل الريع وقسمتها .. إلى آخره. سكت -رحمه الله- عن أمر المتولي على المدرسة هل نترك الطلبة له أو إلى المدرس؟ وقد ذكره الشيخ عز الدين في "القواعد الكبري" فقال: إن ذلك للمدرس لا للناظر، لأنه أعرف بأحوالهم ومراتبهم وسكت عن الصوفية، وفي إلحاقهم بالفقهاء نظر، قال: ويجب تفرقة المعلوم المقرر لهم في مكان الدرس لأنه المألوف ولا يظهر به مراعاة بعضهم في القرب والبعد قال: وعلى المدرس إلقاؤه في الوقت المعهود وهو ما بين طلوع الفجر إلى الزوال. قوله: فرع: للواقف أن يعزل من ولاه وينصب غيره كما يعزل الوكيل، وكأن المتولي نائب عنه وقيل: ليس له العزل، لأن ملكه قد زال فلا تبقى ولايته عليه ويشبه أن تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف دون ما إذا وقف، بشرط أن تكون التولية لفلان، لأن في "فتاوى البغوي" أنه لو وقف مدرسة، ثم قال لعالم: فوضت إليك تدريسها، كان له تبديله بغيره ولو وقفها بشرط أن يكون فلانًا مدرسها، أو قال حال الوقف: فوضت تدريسها إليه، فهو لازم لا يجوز تبديله كما لو وقف على أولاده الفقراء لا يجوز التبديل بالأغنياء، وهذا حسن في صيغة الشرط وغير متضح في قوله وقفتها وفوضت التدريس إليه. انتهى. قال في "الروضة": هذا الذي استحسنه الرافعي هو الأصح أو الصحيح، ويتعين أن تكون صورة المسألة كما ذكر ومن أطلقها فكلامه محمول على هذا، انتهى كلامه.

فيه أمور: أحدها: أن الخلاف المذكور في أول كلامه مشكل لا يتصور لأنه علل الثاني منه بعدم الولاية لانتفاء الملك، وحينئذ فنقول لا جائز أن تكون صورة المسألة حال اشتراط النظر له لأجل ما صرح به من انتفاء الولاية ولا جائز أن تكون مع السكوت عنه، لأنه لا ولاية له في هذه الحالة علي الصحيح، وأما مع اشتراط النظر لغيره فواضح. فتلخص أن ما ذكره من تصحيح جواز العزل والولاية مع التعليل بانتفاء الولاية كلام متهافت. الأمر الثاني: أن ما نقله عن فتاوى البغوي من أنه إذا قال وقفت بشرط أن يكون فلان مدرسًا، صح كيف يستقيم مع أن هذه الصيغة صيغة شرط وزيد قد يقبل التدريس وقد لا يقبله بخلاف ما لو قال وقفت وشرطت له ذلك فتأمله. وقد راجعت عبارة البغوي في "فتاويه" فوجدت تعبيره صحيحًا، فإنه عبر بقوله: إذا وقف مدرسة على أصحاب الشافعي وشرط أن يكون [فلان] (¬1) مدرسها، وقال حالة الوقف: فوضت التدريس إلى فلان، فهو لازم لا يبدل المدرس، كما لو قال: وقفت هذا على أولادي الفقراء، هذا لفظه بحروفه، وهو تعبير صحيح منطبق على التعبير الذي ذكرناه وهو أن يقول: وقلت وشرطت له. الأمر الثالث: أن ما توقف فيه الرافعي -وهو: التفويض حالة الوقف- توقف ضعيف، فإن الكلام بأخره ويوضحه أيضًا ما تقدم نقله عن "فتاوى البغوي" فتأمله. فتلخص أن ما ذكره البغوي حسن في الثاني غير متضح في الأول وعلى ¬

_ (¬1) سقط من ب.

العكس مما ذكره الرافعي. الأمر الرابع: أن الزيادة التي ذكرها النووي متعلقة بمسألتين. فأولهما: متعلق بقول الرافعي وهذا حسن إلى آخره. وأخرهما: وهو قوله: ويتعين متعلق بقوله أولا، ويشبه أن تكون المسألة مفروضة .. إلى آخره. الخامس: أن ما أطلقه الرافعي من جواز العزل وتبعه عليه في "الروضة"، واقتضى كلامه أنه لا فرق بين أن يكون لسبب أم لا قد ذكر في "الروضة"، من "زوائده" قبيل باب الغنيمة عن الماوردي في نظير المسألة ما يخالفه، فقال: وإذا أراد ولي الأمر إسقاط بعض الأجناد المثبتين في الديوان لسبب جاز، وبغير سبب لا يجوز. قوله: ولو اختلف أرباب الوقف في مقادير الاستحقاق، أو كيفية الترتيب، أو شرط الواقف ولا بينة جعلت الغَلَّة بينهم بالسوية وحكى بعض المتأخرين أن الوجه التوقف إلى إصطلاحهم وهو القياس. انتهى. وهذه الحكاية عن بعض المتأخرين قد تابعه عليها أيضًا في "الروضة"، وهو عجيب فقد جزم به الإمام في "النهاية"، ثم إن القسمة بينهم على السواء محلها إذا كان الموقوف في أيديهم، أو لا يد لواحد منهم عليه، أما لو كان في يد بعضهم فالقول قوله، كذا نبه عليه جماعة وتبعه عليهم في "الروضة". قوله في المسألة: فإن كان الواقف حيًا رجع إلى قوله، كذا ذكره صاحب "المهذب" و"التهذيب"، ولو قيل: لا رجوع إلى قوله كما لا رجوع إلى قول البائع إذا اختلف المشتريان منه في كيفية الشراء، لم يكن بعيدا. انتهى. وهذا الذي ذكره في "المهذب" و"التهذيب" قد ذكره قبلهما الماوردي وبعدهما الروياني في "البحر"، وصرحوا بأنه يقبل قوله بغير يمين، فتفطن

له. وزاد الماوردي والروياني فقالا: إذا مات الواقف يرجع إلى ورثته، فإن لم يكن وكان له ناظر من جهة الواقف رجع إليه ولا يرجع إلى المنصوب من جهة الحاكم، فإن وجد -أي الوارث والناظر- واختلفا فهل يرجع إلى الوارث أو الناظر؟ على وجهين. وحكى العراقي شارح "المهذب" الوجهين في اختلاف الناظر والموقوف عليه، وقد سكت هؤلاء عن تحليف الوارث والناظر، والقياس أنهما كالواقف. قال النووي: ويرجع إلى عادة من تقدمه من نظار الوقف إن اتفقت عادتهم. واعلم أن النووي -رحمه الله- قد صوب ما في "المهذب" و"التهذيب"، وقال: إن الفرق بينه وبين البائع ظاهر. قوله: من "زياداته": قال الغزالي وغيره: فإن لم يعرف أو باب الوقف جعلناه كوقف مطلق لم يذكر مصرفه فيصرف إلى تلك المصارف، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة قد ذكرها الغزالي في "الوجيز" فقال: وإن لم يعرف الأرباب فهو كوقف منقطع الأخير في المصرف هذا لفظه، وقد نسى الرافعي هذه المسألة فلم يشرحها، وقد شرحها في "الشرح الصغير"، فقال: ولو لم نعرف الأرباب فهو وقف منقطع الأخير، وفيه الخلاف الذي سبق وكان يجوز أن يوقف إلى التبين، انتهى. الأمر الثاني: أن تعبير النووي في ما نقله عن الغزالي بقوله كوقف مطلق تعبير فاسد لم يذكره الغزالي، بل الذي ذكره الغزالي إنما هو إلحاقه بالمنقطع

الأخير كما قدمته لك في أوائل هذه المسألة وحينئذ فيصح على أن الصحيح بخلاف ما ذكره -أعني النووي- من إلحاقه المطلق، فإن الأصح فيه عدم الصحة. قوله: وإن قلنا: إن المتولي هو الموقوف عليه بناء على أن الملك له ففي تمكنه من الإجارة وجهان، [قال في "التتمة": المذهب منهما هو التمكين انتهى. وهذا الذي] (¬1) قاله في "التتمة" هو الصحيح، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة". قوله: وإذا قتل العبد الموقوف فالفتوى على أنه يشتري بثمنه عبد، فإن فضل شيء من القيمة فهل يعود ملكًا للواقف أم يصرف إلى الموقوف عليه؟ وجهان في فتاوى القفال، انتهى. قال في "الروضة" الوجهان معًا ضعيفان والمختار أنه يشتري به شقص عبد لأنه بدل جزء من الموقوف، والتفريع على وجوب شراء عبد. قوله نقلًا عن "الجرجانيات": ثم العبد الذي يجعل بدلًا يشتريه الحاكم إن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى، وإن قلنا: للموقوف عليه، فالموقوف عليه، وإن قلنا: للواقف فوجهان، انتهى. والأصح منهما أنه الواقف فقد جزم به الرافعي في "الشرح الصغير". قوله: وهل يصير وقفًا بالشراء أم لابد من عقد جديد؟ حكى الروياني فيه -أي في "الجرجانيات"- اختلافا للأصحاب جاريان في بذل المرهون إذا أتلف. انتهى. فيه أمور: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدها: أن الأصح أنه لابد من إنشاء وقف فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأظهر والنووي في "زياداته": إنه الأصح. الأمر الثاني: أن هذا الكلام يوهم الواقف عليه أن الأصح أيضًا في الرهن أنه لابد من إنشائه وليس كذلك، فقد جزم هو والنووي في أواخر الباب الثالث من كتاب الرهن بأنه يصير رهنًا، بل ترددوا في أنه مادام دينا في الذمة قبل أخذه، هل نحكم عليه بأنه رهن أم لا لكون الديون لا ترهن؟ ورجح النووي من "زياداته" الحكم عليه بذلك، بل لك أن تقول: قد تقرر أن المجزوم به في بابه أنه لا يحتاج إلى إنشاء رهن فذكره للخلاف هنا إن كان نقلًا وعبارته لا تقتضيه فمسلم، وإن كان تخريجًا فهو مردود لأن المأخوذ من متلف الوقف لا يصح وقفه كالنقود، وحينئذ فالمشتري به الوقف قد تقدمت له حالتان يمكن النظر إليهما، فكذلك جاء التردد بخلاف المأخوذ من متلف الرهن، فإنه يصح رهنه. الأمر الثالث: أن اتلاف الأضحية الواجبة هو من نظائر هذه المسألة، وقد فصل فيه الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة" فقال في أول النوع الأول منها: إنه إذا أتلفها متلف فإن اشترى المثل بعين القيمة صار المشتري أضحية بنفس الشراء، وإن اشتراه في الذمة، ونوى عند الشراء أنها أضحية [فكذلك وإلا جعله بعد الشراء أضحية] (¬1) انتهى. ولم يذكر هذا التفصيل في شيء مما تقدم فتلخص أن أفراد هذه القاعدة قد انقسمت إلى ثلاثة أقسام. ويتأيد ما ذكره آخرًا وهو التفصيل بما إذا كان عنده نصاب من الأثمان فاشترى به عرضا للتجارة أنه ينبني حولها على حوله إن اشتراه في العين دون الذمة، كما ذكره القاضي الحسين والبغوي ونقله الرافعي عن البغوي، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وسكت عليه، وجزم به في "الروضة" فلم يعزه إلى أحد. قوله: وفي جواز شراء الصغير بقيمة الكبير وعكسه وجهان حكاهما في "الجرجانيات"، انتهى. قال في "الروضة" أقواهما المنع لاختلاف الغرض بالنسبة إلى البطون من أهل الوقف. قوله: وإذا قتل العبد الموقوف قتلًا يوجب القصاص، فإن قلنا الملك للواقف أو للموقوف عليه استوفاه، وإن قلنا: لله تعالى، فهو كعبيد بيت المال، والظاهر فيه وجوب القصاص، قاله المتولي. انتهى. وما نقله عن المتولي قد تابعه عليه في "الروضة"، لكن جزم الماوردي بأنه لا قصاص في نفسه ولا في طرفه لئلا يفوت الوقف وما ذكره ظاهر. قوله: ولو جفت الشجرة فهل يعود ملكها للواقف؟ فيه وجهان: أصحهما المنع وعلى هذا ففي بيعها وجهان: أحدهما يباع ما بقي لتعذر الانتفاع بشرط الواقف، فعلى هذا الثمن كقيمة المتلف، فعلى وجه يصرف إلى الموقوف عليه ملكا، وفي وجه يشتري به شجرة أو شقص بشجرة من جنسها ليكون وقفًا، ويجوز أن يشتري به ودي يغرس موضعها، انتهى كلامه. وما ذكره من شراء الودي ذكره صاحب "التتمة" فتبعه عليه الرافعي ثم النووي لكن قد تقدم في المسألة السابقة من كلام النووي ترجيح امتناع شراء الصغير بقيمة الكبير وعكسه، والودي (¬1) المغروس بمثابة الصغير، بل أولى لأن الصغير ينتفع به من حيث الجملة بخلاف الودي، وهذا الإعتراض ذكره في "شرح الوسيط". قوله: في المسألة: وأصحهما منع البيع لأنه عين الموقوف والوقف لا يباع ولا يورث على ما ورد في الخبر فعلى هذا وجهان: ¬

_ (¬1) صغار النخل.

أحدهما: أنه ينتفع بإجارته جذعًا إدامة للوقف في عينه. والثاني: يصير ملكًا للموقوف عليه كما ذكرنا في قيمة العبد المتلف, واختار صاحب "التتمة" وغيره الوجه الأول إن أمكن استيفاء منفعته منه مع بقائه. والوجه الثاني: إن كانت منفعته في استهلاكه وزمانة الدابة الموقوفة كجفاف الشجرة، انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره أخذًا من الوجهين المفرعين على منع البيع، إنما يستقيم منه الوجه الأول خاصة، وهو كونه ملكًا للموقوف عليه، فكيف يستقيم مع أن تعليله عدم البيع بأنه عين الوقف والوقف لا يباع ولا يورث؟ يلزم منه أيضًا أن لا يملكه الموقوف عليه ولا غيره، ولاسيما أن تمليكه إياه مجوز للبيع وانتقاله عنه بالإرث وغير ذلك مع أن التفريع علي عكسه. الأمر الثاني: أن مقتضى ما نقله ترجيح تمليك الموقوف عليه الجذع الذي لا منفعة فيه إلا باستهلاكه، وحينئذ فيكون الراجح أيضًا كذلك في الدابة إذا زمنت فزال نفعها كما لو كانت مثلًا من الذكور لأنه ألحقها بجفاف الشجرة لكنه قد ذكر قبل ذلك بأوراق ما يخالفه فقال في الكلام على أن الموقوف عليه يملك الغلة: ولا يجوز ذبح البهيمة الموقوفة، وإن خرجت عن الانتفاع، كما لا يجوز إعتاق العبد [لكن] (¬1) إذا صارت بحيث يقطع بموتها لو لم تذبح. قال في "التتمة": يجوز ذبحها للضرورة ويباع اللحم في أحد الطريقين، ويشتري به بهيمة من جنسها وتوقف، وفي الثاني إن قلنا: إن الملك في الوقف لله تعالى، فعل الحاكم ما يرى فيه من المصلحة. ¬

_ (¬1) مسقط من ب.

وإن قلنا: إنه للواقف أو الموقوف عليه صرف إليهما. الأمر الثالث: أن موافقة النووي على جعله للموقوف عليه إذا كانت منفعته في استهلاكه لا يستقيم على قاعدته، فقد سبق من "زوائده" في ما إذا قتل العبد الموقوف ما يستلزم تصحيح عكسه فراجعه. الأمر الرابع: وقد نبه عليه في "الروضة" أن أحكام الشجرة إنما تأتي في الدابة إذا كانت مأكولة، فإن لم تكن فإن البيع لا يأتي إلا على وجه ضعيف لقصد جلدها. لا جرم أن في بعض النسخ وزمانة العبد الموقوف وهو صحيح لكن في أكثرها، وفي "الروضة" وزمانة الدابة كما تقدم. الأمر الخامس: لقائل أن يقول: ما الفرق بين امتناع بيع الشجرة الغادمة النفع وبين جواز بيع حصير المسجد الموقوفة ونحوها مما سيأتي قريبا؟ قوله: وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال .. إلى آخره. هذه المسألة فيها كلام سبق ذكره في الحج في آخر باب محرمات الإحرام. قوله: إن لم يخف من أولي العرامة. هو بالعين والراء المهملتين -أي أولى الفساد. قوله: جميع ما ذكرناه في حصير المسجد ونظائرها هو فيما إذا كانت موقوفة على المسجد، أما ما اشتراه الناظر للمسجد أو وهبه له واهب، وقبله الناظر فيجوز بيعه عند الحاجة بلا خلاف لأنه ملك حتى إذا كان المشتري للمسجد شقصًا كان للشريك الأخذ بالشفعة، ولو باع الشريك فللناظر الأخذ بالشفعة عند الغبطة هكذا ذكروه، انتهى كلامه. وما ادعاه -رحمه الله- من عدم الخلاف قلد فيه صاحب "التتمة" وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، فقد جزم العمراني في "البيان"

بخلافه فقال: كل ما اشترى للمسجد من الحصر والخشب والآجر والطين لا يجوز بيعه لأنه في حكم المسجد، هذا كلامه. ثم إن الذي سبق محله إذا لم يقفه فأما إذا وقفه فإنه يصير وقفا بلا نزاع، وتجري عليه أحكام الوقف، وقد استدركه عليه النووي. قال -رحمه الله-: وهذه مسائل وفروع زائدة. منها: عن الشيخ أبي محمد أنه وقع في الفتاوى، زمن الأستاذ أبي إسحاق أن رجلًا قال: وقفت داري هذه على المساكين بعد موتي، فأفتى الأستاذ بصحة الوقف بعد الموت، وساعده أئمة الزمان وهذا كأنه وصية، يدل عليه أن في "فتاوى القفال" أنه لو عرض الدار على البيع صار راجعًا، انتهى كلامه. وما تفقه فيه الرافعي من كونه وصية ذكره في "التتمة": وصرح به ابن الصلاح إلا أنه خلاف المنقول عن الأستاذ ومن ساعده وهم أهل الزمان، فقد قال الإمام في "النهاية" ما نصه: أفتى الأستاذ بأن الوقف يقع بعد الموت وقوع العتق في المدبر بعد الموت وساعده أئمة الزمان وهذا تعليق علي "التحقيق" هذا لفظ الإمام. والحاصل أن الرافعي قد حصل له ذهول في أمرين تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: في حمل كلام الأستاذ والأئمة. والثاني: في ذهوله عن المنقول في وفق ما أثبته بحثًا. قوله: وفيها -يعني: في "فتاوى القفال"- أنه لو قال: جعلت داري هذه خانكاه للغزاة، لم يصر وقفًا بذلك، انتهى. واعلم أنه قد تقدم في الباب الأول أنه إذا قال: جعلت داري مسجدًا، صارت مسجدًا على الأصح، فليكن ما قاله القفال هنا جوابًا على الوجه المرجوح هناك وهذا الموضع قد تقدم الوعد بذكره، والخانكاة بالكاف وهو

مركب من لفظ خان اسم. قوله: نقلا عن "الفتاوى" المذكورة: وإنه لو قال: وقفت هذه البقرة على الرباط الفلاني ليشرب من لبنها من نزله، أو ينفق من نسلها عليه صح، وإن اقتصر على قوله: وقفتها، لم يصح وإن كنا نعلم أنه يريده لأن الاعتبار باللفظ، وأنه لو وقف داره على المسجد الفلاني لم يصح حتى يبين جهة مصرفه، ومقتضي إطلاق الجمهور صحته، انتهى. واعلم أن المسألتين متشابهتين في المعنى والظاهر أن ما نقله الرافعي عن الجمهور عائد إليهما، فلذلك أخره عنهما، وقد ذكرهما النووي مفترقتين في الباب الأول وذلك يوهم موافقة القفال على إحداهما دون الأخرى، وهو بعيد فاجتنب ذلك واحذره. قوله: وإذا وقف شجرة، ففي دخول المغرس وجهان، وكذا حكم الأساس مع البناء، انتهى. والمراد بالأساس الأرض الحاملة للبناء فافهمه. قوله. ولو وقف على مصلحة المسجد لم يجز النقش والتزويق، لكنه لو تعدى وفعله مع القول بأنه لا يجوز لم يغرم شيئًا، كذا جزم به البغوي في "فتاويه" فتفطن له. وقد وقع في كلام الرافعي هنا لفظ البواري وهو جمع بارية بالباء الموحدة والياء المشددة بنقطتين من تحت نوع ينسج من القصب كالحصر. قوله: ولو وقف على النقش والتزويق يعني للمسجد، ففيه وجهان قريبان من الخلاف في جواز تحلية المصحف، انتهى كلامه. وقد اختلف تصحيح النووي في هذه المسألة فقال من "زياداته" هنا: الأصح أنه لا يصح لأنه منهي عنه، وجزم في "شرح المهذب" في زكاة الذهب والفضة بالصحة، وقد تقدم الكلام على المسألة هناك مبسوطًا

فراجعه. قوله: لا يجوز قسمة العقار الموقوف من أرباب الوقف، وقال ابن القطان: إن قلنا: القسمة إقرار، جاز، فإذا انقرض البطن الأول، انتقضت القسمة، انتهى كلامه. وقد نبه الرافعي في كتاب القسمة على أن ما قاله ابن القطان تفريع على أن الملك في الوقف للموقوف عليه، وحكى هناك خلافا في قسمة الوقف عن الطلق وأشعر نقله برجحان الجواز، وصرح به في "الروضة" من "زوائده"، فاعلم ذلك كله. قوله: وإن انكسر الطنجير والمرجل الموقوفان إلى آخره. الطنجير: بكسر الطاء، قاله الصنعاني، وهو عجمي مُعَرَّب، والمراد به: الدست. والمرجل بكسر الميم وبالجيم هي القدر. قوله: من زوائده: الأصح أنه لا يعطي من وقف الفقراء لفقيرة لها زوج يمونها ولا إلى [المكفى بنفقة أبيه] (¬1)، قال صاحب "المعاياة": ولو كان له صنعة يكتسب بها كفايته ولا مال له استحق من الوقف باسم الفقر قطعًا، وفي هذا الذي قاله احتمال، انتهى كلامه. واعلم أن في كلام الرافعي في قسم الصدقات ما يخالف هذا، فإنه بعد ذكره للمكفى بنفقة غيره ويكسبه، قال ما نصه: ومن قال الأول وهو الصحيح منع هذا، وقال: الاستحقاقان منوطان بالفقر فوجب التسوية بين البابين كما أن الوصية لأبناء السبيل محمولة على ما يحمل عليه ابن السبيل في آية الزكاة. هذا لفظه، وحاصله أن البابين متساويان فما منع في أحدهما منع في ¬

______ (¬1) سقط من أ.

الآخر لأن مدلولات الألفاظ لا تختلف باختلاف الأبواب، وحذف في "الروضة" هذا الكلام وما ذكره في "الروضة" عن الجرجاني وتوقف فيه، قد جزم به أيضًا الماوردي في "الحاوي" وحكى الروياني في "البحر" فيه وجهين على وفق الاحتمال الذي قاله النووي. قوله: وسئل الحناطي عن شجرة تنبت في المقبرة هل للناس الأكل من ثمارها؟ فقال: قد قيل يجوز والأولى عندي صرفها إلى مصالح المقبرة، وسئل أيضًا عن رجل غرس شجرة في المسجد كيف يصنع بثمارها؟ قال: إن جعلها للمسجد لم يجز أكلها من غير عوض، ويجب صرف عوضها في مصالح المسجد، ولا ينبغي أن تغرس الأشجار في المساجد، انتهى كلامه. أما المسألة الأولى فواضحة إلا أن النووي قد قال من "زوائده": إن المختار جواز الأكل. وأما المسألة الثانية وهي غرسها في المسجد فقد أقره أيضًا النووي كما أقره الرافعي، وزاد -أعني النووي- أنه يجوز الأكل أيضًا إذا غرسها مسبلة، وكذا إن جهلت نيته حيث جرت العادة بالأكل وفي ما أقره أمران: أحدهما: أن المغروس كيف يخرج عن ملك الغارس بلا لفظ، وقد سبق أنه لو بنى مسجدا لم يخرج عن ملكه بذلك بل لابد من اللفظ. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر في أركان الوقف أنه إذا وقف على المسجد لا يحتاج إلى القبول وإن ملكه فلابد من قبول الناظر عليه. إذا علمت ذلك فتحتاج المسألة إلى تصوير وهو أن غرسها له هل هو على جهة الوقف أو الملك؟ فإن كان الأول فقد يقال بصحته، وإن لم يوجد لفظ وفيه تعد، وإن كان الثاني وهو المتجه من جهة المعنى، والظاهر من عبارته حيث قال غرسها للمسجد، فإن الموقوف ليس ملكا للموقوف عليه، بل ملكًا لله تعالى فلابد فيه من قبول الناظر على ما سبق.

وقد ذكر الرافعي في أوائل الهبة ما يشكل على هذه المسألة، فقال غرس أشجارًا وقال عند الغرس: أغرسه لابني لم يصر للابن ولو قال: جعلته لابني وهو صغير صار للابن، لأن هبته له لا تقتضي قبولًا بخلاف ما لو جعله لبائع، كذا قاله الشيخ أبو عاصم، وهو ملتفت إلى الانعقاد بالكنايات، وإلى أن هبة الأب لابنه الصغير يكفي فيها أحد الشقين هذا كلامه فلم يكتف بالغرس للابن واشترط اللفظين مع أن الابن أولى لأنه قادر على التمليك والقبول بخلاف المسجد، فإنه قادر على التمليك دون القبول، فظهر بذلك رجحان اشتراط اللفظ في مسألتنا نقلًا ومعنى على خلاف ما دل عليه كلامهما خصوصًا النووي، فإن تعبيره بقوله فإن جهلت نيته صريح في خلاف ما قلناه ولا وجه إلا ما ذكرناه، ولعلنا نزداد فيها إن شاء الله تعالى علمًا. وأما قول الرافعي: ولا ينبغي أن يغرس الأشجار في المساجد فليس فيه ما يدل على أن ذلك محرم أو مكروه، وقد سبق بيانه في آخر شروط الصلاة فراجعه. وقد بسط الغزالي هذه المسألة فقال: إن غرس لنفسه منع منه، والثمرة له وعليه قلعه والأجرة للمسجد، ويجوز الأكل منها بإذنه في حياته، فإن مات قبل أداء الأجرة تعلقت بالشجرة والثمرة، وصارا مرتهنين فلا يجوز الأكل بالإذن المتقدم وإن غرس للمسجد على أن يصرف الثمرة في مصالحه لم يجز إلا أن يكون المسجد واسعًا ويكون فيها فائدة الاستظلال بها ولم يكن فيه ما يجمع الطيور فتحبس المسجد فرخص فيه كما في السقيفة، وإن قصد أن يكون وقفًا على قوم لا تعلق لهم بالمسجد منع كما لو غرس لنفسه وإن قصد أن يكون وقفا على المجاورين والمصلين فهذا له تعلق بالمسجد فيحتمل جوازه، وإن لم يعرف قصده جعل كأنه غرسه لنفسه حتى يأتي فيه ما سبق من القلع وغيره ويباع ويرد ما فضل على أجرته إلى المالك أو وارثه، فإن لم

يكن له وارث فيؤخذ للمسجد بدل ما وجب من الأجرة فإن فضل شيء، أو لم يكن بقى من الأجرة شيء فهو مال المصالح، فإن رأى القاضي المصلحة في أن يتركه ويجعل وقفا للمسجد فله ذلك، وإن كان في المصالح ما هو أهم من المسجد، وكان للمسجد فائدة في بقائه للاستظلال ورأى إبقاءه ليأخذ للمسجد من مغله قدر الأجرة ويصرف الباقي إلى المصالح، فهذا قد تصادم فيه محظوران قلعه مع أن فيه فائدة الاستظلال وبقاؤه بالأجرة، وهو يشبه الإجارة، واللائق بالمصلحة الرخصة بالإبقاء إذ لا فائدة للمسجد في القلع.

كتاب الهبة

كتاب الهبة وفيه فصلان: الفصل الأول: في أركانها قوله: في الحديث لو دعيت إلى كراع لأجبت، وفيه أيضًا لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة، انتهى. الكراع بضم الكاف طرف رجل الغنم والبقر خاصة يذكر ويؤنث ويجمع على أكرع، ثم على أكارع، وأما طرف اليد فتسمى ذراعًا، وهو أكثر لحمًا من الكراع، وفي المثل أعطى العبد كراعا فطلب ذراعًا قاله الجوهري. وأهل العرف يعبرون بالكارع ويطلقونه على طرف اليد والرجل معًا. وأما الفرس بفاء مكسورة وسين مهملة مكسورة أيضًا بعدها نون هو من البعير بمنزلة الحافر من الدابة، وربما استعير في الشاة، ونونه زائدة لأنها من فرست أي قتلت أو ذبحت ونحو ذلك. قوله: وسبيل ضبطها أن تقول التمليك لا بعوض هبة، فإن انضم إليه حمل الموهوب من مكان إلى مكان للموهوب له إعظامًا أو إكرامًا فهو هدية، وإن انضم إليه كون التمليك للمحتاج تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لثواب الآخرة فهو صدقة، انتهى. تابعه في "الروضة" على تقييد الصدقة بالاحتياج مع أن الإعطاء بقصد التقرب صدقة سواء كان لغني أو فقير كما ذكره في موضعه، وكذا ذكر في "شرح المهذب" وصرح بنفي الخلاف وبحصول الثواب. قوله: فامتياز الهبة عن الهدية بالنقل والحمل من موضع إلى موضع، ومنه إهداء النعم إلى الحرم، وكذلك لا يدخل لفظ الهدية في العقار بحال، وإنما

يطلق ذلك في المنقولات، انتهى كلامه. وما ذكره من أنه لا يطلق عليه ولا مدخل له فيه، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غريب فسيأتي في باب النذر التصريح بخلافه، وأنه لو قال: لله علي أن أهدي هذا البيت والأرض ونحوهما مما لا ينقل صح ذلك وباعه ونقل ثمنه. قوله: الركن الأول والثاني العاقدان وتركهما الغزالي لوضوح أمرهما، انتهى. وما ذكره من الوضوح تبعه عليه في "الروضة" فقال: وأمرهما واضح لكنه سيأتي من كلام الرافعي في كتاب اللقيط في الكلام على نفقته مسألة هي محل نظر، وقد توقف فيها هو -أعني: الرافعي- وهي ما إذا وهب للجهة كالمساكين واللقطاء هل تصح أم لا؟ وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في بابها وذكر أيضًا في كتاب اللقيط وفي هذا الباب أن المسجد يصح تمليكه ويقبله القيم وهذه المسألة من ذوات النظر المتوقفة على نقل صريح. لا جرم أنه في كتاب الوصية نقل عن بعضهم أنه إذا أوصى للمسجد وأراد به تمليكه، فإن الوصية لا تصح، ثم إنه توقف فيه، وقال: قد تقدم ما يخالفه. قوله: وهب له شيئًا فقبل نصفه أو وهب له عبدين فقبل أحدهما ففي صحته وجهان، والفرق بينه وبين البيع أن البيع معاوضة، انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا والمرجح إلتحاقه بالبيع حتى لا يصح، فإنه لو وهب لاثنين فقبل أحدهما نصفه كان كالبيع حتى لا يصح على الأصح، وقيل لا تلتحق بالبيع بل تصح قطعًا، كذا ذكره الرافعي في الكلام على الركن الرابع، وهو نظير مسألتنا، بل هذه أولى بعدم الصحة لأن الهبة لاثنين صفقتان ومسألتنا صفقة واحدة، ولهذا جزموا بالبطلان في

نظير مسألتنا من البيع وترددوا في تلك. قوله: ناقلا عن "زيادات العبادي" ولو ختن ابنه واتخذ دعوة فحملت إليه هدايا، ولم يسم أصحابها الأب ولا الابن فهل تكون للأب أم للابن؟ فيه وجهان، انتهى. قال في "الروضة" من "زياداته": الأقوى والأصح أنها للأب، لأن الناس يقصدون التقرب إليه. قوله من "زياداته": وقبول الهدية التي يجيء بها الصبي المميز جائز باتفاقهم وقد سبق في البيع. انتهى. هذه المسألة مذكورة في ثلاث مواضع من "الروضة" واختلف كلامه فيها من ثلاثة أوجه، وقد سبق إيضاحها في البيع. قوله: والعمري أن يقول: أعمرتك هذه الدار مثلا أو يقول جعلتها لك عمرك أو حياتك أو ما عشت، ثم له أحوال: أحدها: أن يقول مع ذلك فإذا مت فهي لورثتك أو لعقبك فيصح وهي الهبة بعينها، لكنه طول العبارة، فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكونوا فلبيت المال. انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير بالورثة والعقب مع الحكم المذكور وهو مشكل متدافع لأن العقب موضوع للأولاد وأولاد الأولاد سواء كانوا وارثين أم لا فتدخل فيه البنت وبنت البنت، وابن البنت، والورثة لا يخفى حكمهم فالعقب قد لا يكون وارثًا، والوارث قد لا يكون عقبًا، فإذا خلف مثلًا أخًا وبنتا فمقتضى التعبير بالإرث أن يكون نصفين، ومقتضى التعبير بالعقب إنفرد به الأخ على التعبير بالإرث، وينفرد به ابن البنت على التعبير بالعقب، وإذا خلف ابنًا وابن ابن وغير ذلك، اختص به الابن على الإرث، واشترك الجميع على العقب، وقس على هذه الأمثلة فالحكم الذي ذكره وهو كونه معنى الهبة المطلقة، وأنه يكون إرثًا لا يستقيم في العقب، ولا شك أن

جعلها للعقب يقتضي خروجها عن الهبة الصحيحة لأن مقتضاها إنما هو الانتقال إلى الورثة، وقد اقتصر الشيخ في "التنبيه" و"المهذب" على العقب، وجعلها لهم بعد موته. قوله: في المسألة الحال الثاني أن يقتصر على قوله جعلتها لك عمرك، فالجديد صحتها وتكون أيضًا هبة. الثالث: أن يقول فإذا مت عاد إلي فالصحيح أن حكمه حكم الإطلاق في الصحة لظاهر الحديث، ثم قال بعد ذلك فلو علق بموته فقال: إذا مت فهذه الدار لك عمرك [فإذا مت عادت إلى ورثتي] (¬1) فهى وصية تعتبر من الثلث فلو قال: إذا مت فهي لك عمرك فإذا مت عادت إلى ورثتى فهى وصية بالعمري على صورة الحالة الثالثة، انتهى. ومقتضى كلامه في المسألة الأخيرة إطلاقًا وتشبيهًا بالحالة الثالثة أن ذلك يكون تمليكًا مستقرًا لا يرجع إلى الواهب وحينئذ فيكون ذلك يأتي أيضًا في ما قبلها بطريق الأولى، ووقع في "الروضة" في الباب الثالث من كتاب الإجارة أن المنافع تعود بموت الموصى له إلى ورثة الموصي وهو غلط قد تقدم إيضاحه في موضعه فراجعه. قوله: فرع: لو باع على صورة العمري، فقال: ملكتكها بعشرة عمرك. قال ابن كج: لا يبعد عندي جوازه تفريعًا على الجديد، وقال أبو علي الطبري: لا يجوز. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح المعروف في المذهب هو البطلان فقد قطع به الماوردي في "الحاوي" في هذا الباب، ثم أنه بعد ذلك بدون الصفحة نقل القطع به أيضًا عن ابن سريج، وأبي إسحاق المروزى. ¬

____ (¬1) سقط من أ.

الثاني: أن ما حكاه عن ابن كج احتمالًا هو وجه ثابت، فقد نقله الروياني في "البحر" عن ابن خيران. قوله: فما جاز بيعه جازت هبته وما لا يجوز بيعه من مجهول أو معجوز عن تسليمه لا تجوز هبته، هذا هو الغالب وربما اختلفا، وفي التفصيل صور إلى آخره. اعلم أنه -رحمه الله- لما ذكر الصور التي أشار إليها لم يذكر فيها شيئًا يخالف البيع إلا على وجه ضعيف، فيقتضي ذلك أنه لا يستثنى من القاعدة شيء وأن ما جاز بيعه جازت هبته وما لا فلا، ووقع نحوه في "الشرح الصغير" و"الحاوي الصغير" و"الروضة" وحينئذ فيستفاد منه أن هبة ما لا يتمول لقلته كحبتي الحنطة غير صحيحة وقد صرح به الرافعي في الباب الثاني من كتاب اللقطة في الكلام على أن واجد القليل هل يعرفه، ولم يذكره في "الروضة" هناك. إذا علمت ذلك فقد ذكر النووي، في "المنهاج" هنا أنه تجوز هبة ذلك وأدخله في كلام الرافعي، ثم نبه عليه في "الدقائق" وصرح أيضًا بجوازه، وزاد علي ذلك فادعى أنه لا خلاف في الجواز وهو موضع غريب جدًا. قوله في أصل "الروضة": والصحيح وبه قطع المتولي أنه لا يشترط في الهدية إيجاب ولا قبول. انتهى كلامه. وما ادعاه من أن المتولي قد قطع بذلك غريب وباطل فقد حكى المتولي في "التتمة" هذا الخلاف في موضعين من هذه المسألة، والغريب أن النووي قد نقله عنه في "الروضة" بعد هذا بأسطر في الكلام على تأخير القبول. قوله: في "الروضة" ويجري الوجهان في هبه الكلب وجلد الميتة قبل الدباغ والخمر المحترمة والأصح من الوجهين في هذه الصور كلها البطلان إلى أخره.

وما ذكره هنا من تصحيح المنع في جلد الميتة قد جزم في باب الأواني بما يخالفه، وقد سبق التنبيه عليه هناك. قوله: وهبة الدين ممن هو عليه إبراء فإن قلنا لا يحتاج الإبراء إلى القبول ففي هبته وجهان، إن نظرنا إلى اللفظ: اعتبرناه، ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة، وإن نظرنا إلى المعنى: فلا، قال في "الشامل" وهو المذهب، انتهى. لم يصرح هنا بتصحيح، وقد اختلف كلامه في الراجح منها فجزم في "المحرر" و"الشرح الصغير" هنا بعدم الاشتراط، وصرح بتصحيحه في الشرحين "الكبير" و"الصغير" في الباب الرابع من أبواب الصداق في الطرف الرابع منه وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى وحاصله أنه رجح في هذه المواضع كلها معاني العقود على لفظها. إذا علمت ذلك فقد ذكر في كتاب الصلح ما يخالفه فرجح اعتبار اللفظ، وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه، وذكر في هذا الباب بعد هذه المسألة ما يشعر برجحان المعنى فقال: فرع عن صاحب "التقريب" من عليه الزكاة لو وهب دينه على المسكين بنية الزكاة لم يقع الموقع لأنه إبراء وليس بتمليك، ثم قال ولك أن تقول ذكروا وجهين في أن هبة الدين ممن عليه الدين تتنزل منزلة التمليك أم هو محض إسقاط؟ وعلى هذا خرج اعتبار القبول فيها، فإن أعطيناها حكم التمليك وجب أن يقع الموقع، انتهى كلامه. فحكم بعدم احتياجها إلى القبول [على القول] (¬1) بأنها إسقاط ووقعت هذه المواضع في "الروضة" و"المنهاج" كما وقعت للرافعي، وزاد فصرح في أصل "الروضة" من هذا الباب بأن المذهب عدم اشتراطه ولم يسنده لصاحب "الشامل"، كما أسنده إليه الرافعي، واعلم أن كلامه في هذا الفرع الذي نقله هنا عن صاحب "التقريب" يقتضي أنه لم يقف على خلاف في إجزائه ¬

________ (¬1) سقط من أ.

عن الزكاة ولأجل هذا ذكره بحثًا، وقد تبعه عليه في "الروضة"، وصرح أعني النووي في "الروضة" أيضًا قبل ذلك في قسم الصدقات بحكاية وجهين. فقال: من "زياداته" في الصنف السادس المعقود للغارمين ولو كان عليه دين فقال جعلته عن زكاتي لا يجزئه على الأصح حتى يقبضه ثم يرده إليه إن شاء وعلى الثاني يجزئه كما لو كان ودعية حكاه في "البيان" هذا لفظه. فإذا قيل [بأنه يقع] (¬1) هنا فبالأولى أن يقال به في صريح الهبة لأن الجعل دونه في الصراحة. قوله: ولا يحصل الملك في الهبات والهدايا إلا بعد حصول القبض، ثم قال: وفيه قولان آخران أحدهما: أنه يحصل الملك بنفس العقد، والثاني: أن الملك موقوف فإذا وجد القبض تبينا حصوله من العقد، انتهى. واعلم أنه جزم في باب الإستبراء بما حاصله القول الثالث، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: القبض في العقار والمنقول كما سبق في البيع، وحكينا هناك قولًا أن التخلية في المنقول قبض. قال المتولي: لا جريان له هنا لأن القبض هناك مستحق وللمشتري المطالبة به فجعل التمكين قبضًا، وفي الهبة غير مستحق فاعتبر بحقيقة, ولم يكتف بالوضع بين يديه. انتهى. وما ذكره هنا موجود بعينه في المرهون فيكونان سواء بلا شك، فقد سبق في الرهن تصحيح جريان القول فيه فيكون الصحيح جريانه أيضًا هنا على خلاف ما نقله عن "التتمة" فاقتصر عليه، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه ووقع الموضعان في "الروضة" كما في الرافعي. ¬

الفصل الثاني: في حكمها

الفصل الثاني: في حكمها قوله: يكره للوالد ترك العدل بين أولاده في العطية فلو رجع الوالد في هذه الحالة جاز، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بجواز الرجوع ذكر مثله في "الروضة"، وهو تعبير ناقص يوهم عدم الاستحباب وليس كذلك فقد قال الرويانى في "البحر": إن الأصحاب قالوا باستحباب الرجوع. الثاني: أن إطلاقهم جواز الرجوع أو استحبابه يتجه أن يكون محله في المقدار الزائد خاصة. قوله: ويكره للوالد الرجوع إن كان الولد عفيفًا بارًا فإن كان عاقًا، أو يتسعين بما أعطاه في معصية فلينذره بالرجوع، فإن أصر لم يكره، انتهى. وإطلاق عدم الكراهة في هاتين المسألتين قد تابعه عليه في "الروضة" وهو مردود، بل القياس في المسألة الثانية استحباب الرجوع إن لم يكن واجبًا، وأما العاق فينبغي أن يفصل فيه فيقال إن زاده الرجوع عقوقًا كره وإن أزاله استحب وإن لم يفد شيئًا منهما فيباح ويحتمل استحباب عدم الرجوع. قوله: ومن أحكامها جواز الرجوع للأصل في ما وهبه لفرعه, فلو تنازع رجلان مولودًا ووهبا له فلا رجوع لواحد منهما، فإن ألحق بأحدهما فوجهان لأن الرجوع لم يكن ثابتًا ابتداء. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" هو الرجوع لثبوت البنوة في الأحكام، قال: وقطع به ابن كج. قوله: ولو وهب الابن المتهب الموهوب من أبيه فهل للجد الرجوع؟ فيه

وجهان: أحدهما: نعم، لأنه موهوب ممن للجد الرجوع في هبته. والثاني: لا؛ لأن الملك غير مستفاد منه، ولو باعه منه أو انتقل بموته إلى ابنه فكلام صاحب "التهذيب" يقتضي القطع بالمنع وفي "الشامل" طرد الوجهين في صورة الموت , وفي "التتمة" طردهما أيضًا في البيع، والأصح في الكل المنع، انتهى. ذكر النووي في "الروضة" هذا الخلاف، ثم قال عقبه: قلت: ولو هبه المتهب لأخيه من أبيه، قال في "التبيان": ينبغي أن لا يجوز للأب الرجوع قطعًا لأن الواهب لا يملك الرجوع فالأب أولى، ولا يبعد تخريج الخلاف لأنهم عللوا الرجوع بأنه هبة لمن للجد الرجوع في هبته، وهذا موجود هنا والله أعلم. وقوله: من "زوائده": (ولا يبعد) هو من كلام النووي لا من تتمة كلام "البيان". إذا علمت ذلك فهذا الذي ذكره بحثًا، واستقر كلامه بعدم الإطلاع على نقله حتى استنبطه من التعليل غريب، فإنه قد تقدم من كلامه التصريح بالخلاف في البيع، والرجوع لا يثبت فيه للوالد البائع بلا خلاف، ولا شك أن الهبة أولى بذلك من البيع لثبوت الرجوع في الهبة من حيث الجملة، وإنما ذكر صاحب "البيان" أنه لا خلاف في هذه الصورة، لأن طريقته كطريقة صاحب "التهذيب" وهي عدم الخلاف في مسألة البيع فإنه صرح به قبل ذلك بقليل فلذلك حسن منه ذكر ما ذكره بحثًا، أما على ما في الرافعي فلا. واعلم أن العود بالبيع والإرث لم يذكرهما الرافعي للتقييد، بل للتمليك فإن جعله أجرة وصداقًا وعوضًا في الخلع وغيرها كذلك بلا شك.

قوله: ولو تصدق على ابنه فوجهان: أصحهما ويحكي عن نصه في "حرملة": أن له الرجوع أيضًا. قال: والثاني وبه قال مالك: لا رجوع؛ لأن القصد من الصدقة ثواب الآخرة وقد حصل، انتهى كلامه. وما صححه هنا من جواز الرجوع قد جزم بعكسه في باب العارية في الكلام على حد المستعير. فقال ما نصه: والصدقات في الأعيان تفارق الهبات، ألا ترى أنه يرجع في الهبة ولا يرجع في الصدقة، انتهى. وصححه أيضًا في هذا الباب في "الشرح الصغير" فقال: ولو تصدق على ابنه فوجهان: أحدهما: أن له الرجوع أيضًا، لأن الخبر يقتضي الرجوع في الهبة، والصدقة هبة. وأصحهما: وبه قال مالك المنع لأن قصد المتصدق الثواب في الآخرة وهو غير موعود به هذا لفظه ووقوعه غريب لتعبيره بالأصح في الموضعين. قوله: ناقلًا عن المتولي ولو أبرأ ولده عن دينه، فإن قلنا الإبراء تمليك رجع وإن قلنا إسقاط فلا، انتهى. قال في "الروضة": ينبغي أن لا يرجع على التقديرين. قوله: وإن كان زائدا نظر إن كانت الزيادة متصلة كالسمن وتعلم الحرفة رجع به مع الزيادة. ثم قال بعد ذلك: إنه إذا قصر الثوب أو طحن الحنطة أو نسج الغزل, وجعلنا هذه الأشياء أعيانًا كان الأب شريكًا، إلى آخره. اعلم أن الصحيح في تعليم الحرفة أن الابن يكون أيضًا شريكًا فيها على خلاف ما جزم به هاهنا وقد تقدمت المسألة مبسوطة في باب الفلس

فراجعها. قوله: وإذا وهب جارية أو بهيمة [حاملًا] (¬1) إلى آخره. اعلم أن مسائل الحمل المذكورة هاهنا قد حصل اضطراب في دخولها، وعدم دخولها، وقد سبق ذكر ذلك واضحًا في الرد بالعيب والفلس، وينبغي أيضًا أن يستحضر هنا ما سبق في التفريق بين الأم والولد. قوله: وإن كانت أرضا فبنى فيها الابن أو غرس فيتخير الأب بين الإبقاء إلى آخره. سبق الكلام أيضًا في باب العارية على هذه المسألة واضحًا، وعلى ما فيها من الاضطراب. قوله: وإذا وهب بشرط الثواب المعلوم صح في أصح القولين. ثم قال: فإن قلنا بالصحة، فالظاهر أنه يبيع اعتبارًا بالمعنى إلى آخره. هذه المسألة قد حصل فيها إضطراب سبق ذكره واضحًا في البيع، في الكلام على خيار المجلس. قوله: في المسألة وإذا جعلناها هبة مكافأة بدون المشروط إلا أنه قريب، ففي شرح ابن كج وجهان في أنه هل يجبر على القبول لأن العادة فيه المسامحة، انتهى. قال في "الروضة": الأصح أو الصحيح لا يجبر. قوله: ولو قال: وهبتك ببدل، فقال: بلا بدل وقلنا مطلق الهبة لا يقتضي ثوابا فهل المصدق الواهب أو المتهب؟ وجهان، وبالأول قطع ابن كج، انتهى. هذه المسألة لها نظيران يقتضيان تصديق الموهوب له. أحدهما: ما إذا قال السيد لعبده أعتقتك على ألف، أو بعتك نفسك بها ¬

_ (¬1) في ب: حائلا.

وطالبه بالألف فأنكر العبد وحلف، فإن المال يسقط ويحكم بعتق العبد بإقراره، جزم به الرافعي في آخر الباب الثالث من أبواب الإقرار، وحينئذ فيكون الصحيح في مسألتنا تصديق الموهوب له لأن الإعتاق والهبة يكونان بعوض وبلا عوض. والثاني: إذا قال الزوج خالعتك بألف فأنكرت المرأة حصلت البينونة ولا شيء عليها كما جزم به الرافعي في بابه، وقد صحح النووي من زوائده، تصديق الموهوب له كما ذكرناه، إلا أنه لم ينقله عن أحد، ولم يذكر له مستندًا. قوله: ولو دفع إليه درهمًا وقال: أدخل به الحمام، أو دراهم وقال: اشتري لنفسك بها عمامة ونحو ذلك ففي "فتاوى القفال" أنه إن قال ذلك على سبيل التبسط المعتاد ملكه وتصرف فيه كيف شاء، وإن كان غرضه تحصيل ما عينه لما رأى به من الشعث والوسخ أو لعمله بأنه مكشوف الرأس لم يجز صرفه إلى غير ما عينه, انتهى. قال في "الروضة": الصحيح المختار: ما قاله القفال. وقال القاضي الحسين في "فتاويه": يحتمل وجهين في تعيينه، ولو طلب الشاهد مركوبًا ليركبه في أداء الشهادة، فأعطاه دراهم ليصرفها إلى مركوب هل له صرفها إلى جهة أخرى؟ فيه وجهان. انتهى ما قاله في "الروضة". وفيه أمور: أحدها: أن الصحيح في الشاهد أن له ذلك فقد قال الرافعي في الشهادات: إنه الأشهر وكلام النووي هنا يقتضي أنه لم يظفر بخلاف صريح في مسألة الفقير، وكذلك نقل عن القاضي حسين أنه يحتمل وجهين، ولم يرد عليه، وقد صرح الرافعي بنقلهما في كتاب الشهادات أيضًا، عند ذكر مسألة الشاهد واقتضى كلامه أن الصحيح الجواز، وصرح النووي

بتصحيحه، وعبر الأصح ولم يفصل بين أن يكون له غرض أم لا كما قال هنا. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر في أوائل كتاب الوصية فرعا يشكل على ما قاله هنا وتبعه عليه في "الروضة" فقال: لو أوصى لدابة غيره وقسر بالصرف في علفها صحت لأن علفها علي مالكها، فالقصد بهذه الوصية هو المالك هذا هو الظاهر المنقول، وبه قطع الغزالي والبغوي وغيرهما، ويحتمل طرد خلاف سيق في مثله في الوقف فعلى الصحة في اشتراط قبول المالك وجهان: اختيار أبي زيد: أنه لا يشترط وتجعل وصية للدابة. والأصح: الاشتراط وهي وصية لمالكها، كما وأوصى لحمارة داره، فعلى هذا يتعين صرفه إلى جهة الدابة على الأصح رعاية لفرض الموصى، ويتولى الإتقان الوصي ثم القاضي انتهى ملخصًا. فإذا تعين الصرف في الدابة إلى الظلمة مراعاة لغرض الدافع ففي الأدمي أولى. الأمر الثالث: أن المعطي لأجل العمامة ونحوها حيث يقولون بتعين الصرف له، هل يقولون بأن المعطى له يملكه أم لا يملكه؟ لكن إذا اشترى به العمامة ونحرها ملكها، أو لا يملك المعطي ولا العمامة أيضًا، بل ينتفع بها على ملك مالكها فإن كان المراد الأول فكيف يصح أن يهبه شيئًا ويحجر في التصرف فيه، وقد نقل في "الروضة" من زوائده هنا عن القاضي الحسين أنه لو قال وهبتك هذه الدراهم بشرط أن تشتري بها كذا وكذا، لم تصح الهبة. قال: لأنه لم يطلق له التصرف، وإن كان المراد الثاني وهو المفهوم من كلامهم، فكيف يكون وكيلًا في شراء الشيء لنفسه، أو كيف يشتري لنفسه بمال غيره، إلا أن يكون المراد أنه يشتري أولًا لنفسه بثمن في الذمة، ثم

يعطي تلك الدراهم، ويأتي النظر في تخريجه على الخلاف في ما إذا أعطى لوكيله درهمًا، وقال إشتر به كذا فهل يتعين الشراء بالعين أم يجوز في الذمة، ثم إنا إذا فرعنا على أنه يملك العمامة، فإن جوزنا له بيعه، فات المقصود وإن حجرنا عليه فيها كان مخالفا للقياس. وأما الإحتمال الثالث، وهو عدم الملك بالكلية فهو بعيد من كلامهم، ويلزم أن يكون عارية حتى يضمنه بالتلف، ويجب على الورثة رده بالموت. قوله: قلت ومن مسائل الفصل أن قبول الهدية التي يجيء بها الصبي المميز جائز باتفاقهم، وقد سبق في كتاب البيع، وأنه محرم على العمال وأهل الولايات قبول هدية رعاياهم، انتهي كلامه. وما ذكره من الإتفاق في الصبي ليس كذلك فقد سبق في الوكالة أن فيه وجهين، وسبق في أول البيع أن فيه طريقين أصحهما: القطع بالقبول، والثانية: على وجهين فتلخص أنه قد أجاب في ثلاثة مواضع بثلاثة أجوبة مختلفة، وأما هدية المتولي فقد ذكرها الرافعي في كتاب القضاء. قوله: وإذا أنفذ كتابًا إلى شخص فقال في "التتمة" يكون هدية يملكها المكتوب إليه، وذكر غيره أنه يبقى على ملك الكاتب وللمكتوب إليه الإنتفاع به على سبيل الإباحة، انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" من زياداته هو الأول. قوله: وهبة منافع الدار هل هي إعارة لها؟ فيه وجهان في "الجرجانيات" انتهى. قد ذكر الرافعي في الباب الثالث من كتاب الإقرار ما حاصله رجحان كونه إعارة، فإنه قال وإذا قال هذه الدار لك عارية فهو إقرار بالإعارة ثم قال: وكذلك لو قال هذه الدار لك هبة سكنى أي بالإضافة انتهى. فإذا كان الإتيان بلفظ الهبة المضافة إلى المنفعة إقرارا بالإعارة إذا أتى به

عن طريق الإقرار، كان الإتيان به على جهة الإنشاء كقولك ملكتك سكناها أو منفعتها إنشاء لها. قوله: والمال المقبوض في الهبة الفاسدة مضمون على المتهب كالمقبوض بالبيع الفاسد أو غير مضمون كالمقبوض بالهبة الصحيحة؟ وفيه وجهان، ويقال قولان، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي -رحمه الله- قد اختلف كلامه في الراجح من هذين الوجهين فرجح في كتاب الوصايا أنه لا يضمن وعبر بالأشبه ذكر ذلك في الباب الثاني المعقود للمسائل الدورية وهي من جملة الأبواب التي عقدها للمسائل الحسابية زيادة على أبواب "الوجيز" في أثناء مسألة أولها وهب المريض عبدًا قيمته مائة، وسأذكر لفظه قبيل باب الرجوع من الوصية، وجزم به أيضًا في كتاب العتق في الخصيصة الثالثة. إذا علمت ذلك فقد جزم في كتاب البيع في الكلام على حكم المبيع قبل القبض بأنه يضمن، فإنه قسم الأعيان إلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يكون مضمونًا. والثاني: أن يكون مضمونًا بالقيمة. والثالث: أن يكون مضمونًا بعوض في عقد معاوضة، وجعل الهبة من القسم الثاني، وجزم به أيضًا في "الشرح الصغير" في الكلام على تحريم الصيد على المحرم، ولم يتفطن في "الروضة" لهذا الاختلاف فتبع الرافعي عليه. وقال من "زياداته": هنا الأصح أنه لا ضمان وهذا الثاني هو مقتضى القاعدة التي ذكرها الرافعي وغيره في الرهن، وهي أن فاسد كل عقد كصحيحة في الضمان وعدمه، وقد تقدم طرف من هذه المسألة في تحريم

الصيد على المحرم. الأمر الثاني: أن هذه المسألة فيها طريقتان: إحداهما: أن فيها وجهين وهي التي جزم بها الرافعي، ووافقه النووي في "الروضة" على ذلك. والطريقة الثانية: القطع بعدم الضمان وصححها النووي في باب التيمم من كتاب "الإشارات" الذي جعله على "الروضة" "كدقائق المنهاج" فقال: إنه المشهور، وذكر مثله في "شرح المهذب" هناك فقال: فإن تلف في يده فلا ضمان، كذا قطع به إمام الحرمين وأصحاب "البحر" و"العدة" و"البيان" وغيرهم وانفرد القاضي الحسين فقال: فيه وجهان هذا كلامه، وهو تباين فاحش مع ما في "الروضة".

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة وفيه بابان: الباب الأول: في "أركانها" قوله: ثم في كيفية الإشهاد وجهان: أصحهما: عند صاحب "التهذيب" يشهد على أصلها دون صفاتها لئلا يتوصل كاذب إليها. قال البغوي: ويجوز أن يذكر جنسها. والثاني: يشهد على صفاتها أيضًا، حتى لو مات لا يتملكها الوارث ويشهد الشهود للمالك وأشار الإمام إلى توسط بين الوجهين وهو أنه لا يستوعب الصفات، بل يذكر بعضها ليكون في الإشهاد فائدة، انتهى. والأصح ما قاله الإمام، كذا قاله في "الروضة" قال الإمام: وما ذكرناه من المنع من ذكر تمام الأوصاف لإبراءه ينتهي إلى التحريم. قوله: والتقاط العبد على ثلاثة أضرب: أحدها: التقاط لم يأذن فيه السيد ولا نهى عنه ففيه قولان: أصحهما عند جماعة أنه لا يصح، ثم قال: وفي بعض الشروح أن ابن سريج قال: القولان مبنيان على أن العبد يملك، فأما إذا فرعنا على الجديد وهو أنه لا يملك فليس له الالتقاط بحال، وفي هذا القياس من جهة أنه ليس القولان في العبد هل يملك مطلقا، وإنما هما في أنه هل يملك بتمليك السيد، ولا تمليك هنا من جهة السيد، انتهى كلامه. فيه أمور: أحدهما: أن هذه الطريقة المحكية عن ابن سريج قد حذفها النووي من

"الروضة" فلم يذكرها. الأمر الثاني: أن الأصحاب قد ذكروا أن التملك بالالتقاط يكون بمثابة الاقتراض ولنا في تملك العبد بعوض في ذمته كالقرض والشراء خلاف. إذا علمت ذلك فالناقل عن ابن سريج لم يصرح بالبناء على التمليك بغير عوض حتى يورد عليه ما أورد، وإنما أطلق ذلك، والمناسب إنما هو التمليك بعوض فوجب الحمل عليه، وحينئذ فلا يجيء الاعتراض الذي قاله. الأمر الثالث: أن دعواه نفي الخلاف في تمليك غير السيد قد تكرر منه، وليس الأمر كما إدعاه كما تقدم إيضاحه في كتاب الوقف. قوله: وقدم الإمام مقدمة وهي أن القاضي لو أخذ المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك إلى آخره. هذه المسألة سبق الكلام عليها واضحًا في أوائل باب الفلس فراجعها. قوله: فإن قلنا بصحة التقاط العبد فلم يعلم به السيد كان المال أمانة في يده ثم قال: فلو أبلغه العبد بعد مدة التعريف أو تملكه لنفسه فهلك عنده ففي الضمان وجهان: أحدهما: أنه يتعلق بذمته كما لو استقرض قرضًا فاسدًا واستهلكه وبهذا أجاب الشيخ أبو محمد في "الفروق". والثاني: برقبته كما لو غصب شيئًا فتلف عنده وليس كالقرض، فإن صاحب المال سلمه إليه، انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، والراجح هو الوجه الثاني، فقد رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: إنه أشبه الوجهين. قوله: في المسألة فإن علم به السيد وأقره في يد العبد جاز إن كان أمينًا، فإن

تلف في يده في مدة التعريف فلا ضمان، وإن تلف بعدها نظرت، فإن أذن السيد في التملك وجرى التملك لم يخف الحكم ثم قال: وإن لم يجز التملك بعد ففي تعلق الضمان بالسيد وجهان منقولان في "النهاية" أظهرهما يتعلق بإذنه في سبب الضمان، وإن لم يأذن السيد في التملك فوجهان أظهرهما أن الضمان يتعلق بذمة العبد والثاني برقبته، انتهى ملخصا. وحاصل كلامه في الفرعين الأخيرين الجزم بوجوب الضمان والتردد في ما يتعلق به، وليس كذلك فإن الراجح في ما إذا تلفت اللقطة بعد السنة وقبل إختيار التملك أنه لا ضمان فيها أصلا كما أوضحته في موضعه، وهو أوائل الباب الثاني فقال: وأما بعد السنة فقد ذكر صاحب الكتاب أنها تصير مضمونة عليه، ولم يوافقه النقلة على ذلك بل صرح ابن الصباغ، وصاحب "التهذيب" بخلافه، وقالوا إنها أمانة هذا لفظه، وذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا ومقتضاه ترجيح الثاني، وقد صرح به الرافعي في "المحرر"، وعبر بالأظهر والنووي في "الروضة" وعبر بالأصح، فتلخص أن الحكم في الفرعين المذكورين هاهنا يتفرع على وجه مرجوح عندهما فتفطن لذلك والسبب في وقوع هذا أن الغزالي ذكرهما في "الوجيز" بناء علي ما يختاره فتابعه عليه الرافعي غير مستحضر لما عداه. واعلم أن ما تقدم نقله عن الرافعي في أوائل الباب الثاني مشعر بانفراد الغزالي بذلك مع أن ما نقله هنا عن الإمام صريح في موافقته. قوله: الضرب الثاني أن يكون الالتقاط بإذنه ففيه طريقان: أحدهما: القطع بالصحة وإليه ميل الإمام. والثاني: عن ابن أبي هريرة طرد القولين لما فيهما من معنى الولاية والإذن لا يفيد أهليتهما. انتهى ملخصا. لم يصحح شيئًا منهما في "الروضة" أيضًا والراجح طريقة القطع، كذا

رجحها الرافعي في "الشرح الصغير"، فقال: إنها أقوى الطريقين. قوله: الضرب الثالث التقاط نهاه عنه السيد، فعن الإصطخري القطع بالمنع وعن غيره طرد القولين، انتهى. والصحيح طريقة القولين، فقد قال الشاشي: في "الحلية" بعد حكاية مذهب الإصطخري إن سائر الأصحاب على طرد القولين. وقال في "الروضة": مع نقله كلام الشاشي إن طريقة الإصطخري أقوى. قوله: وفي التقاط المكاتب طريقان: أحدهما: يصح قطعًا. والثاني: قولان أصحهما باتفاق الناقلين الصحة. وحكى ابن القطان طريقة قاطعة بالمنع وهي مستغربة، ثم قال: ومن بعضه حر وبعضه رقيق في التقاطه طريقان كما في المكاتب، انتهى. ومقتضى إلحاقه بالمكاتب أن يكون الأصح هو الصحة على كل حال فتأمله، وقد حذف من "الروضة" إلحاقه بالمكاتب، وجعل الطريقة الثانية على القولين في القن فقال: هل يصح التقاطه قطعًا أم على القولين كالقن؟ فيه طريقان، هذا لفظه من غير زيادة عليه. إلا أنه صحح من "زوائده" تصحيح الصحة وإلحاقه بالقن يقتضي البطلان على هذه الطريقة على عكس ما ذكره الرافعي من إلحاقه بالمكاتب، وهذا كله تصرف عجيب من وجوه. قوله: ولو التقط ما يمتنع من صغار السباع على قصد التملك ضمنه، ثم قال: ولو ردها إلى الحاكم برأ على أصح الوجهين، انتهى. واعلم أن الملتقط للتملك والحالة هذه غاصب وفي أخذ الحاكم المال

المغصوب كلام سبق ذكره واضحًا في أوائل الفلس فافهمه وقد ذكر أيضًا ما يوافق هذا في أوائل الباب الثاني فقال في ما إذا أخذ اللقطة على قصد الجناية أنه غاصب، وفي براءته بالدفع إلى الحاكم وجهان كما في الغاصب. قوله: وإن وجدت يعني الحيوانات الممتنعة في بلدة أو قرية أو موضع قريب منهما فوجهان أو قولان أصحهما يجوز التقاطه للتملك إلى آخره. لم يبين في "الروضة" أيضًا الراجح من ذلك والصحيح أنه وجهان، كذا جزم به الرافعي في "المحرر" وتبعه عليه النووي في "المنهاج" وصححه أيضًا في "الشرح الصغير" فإنه عبر بقوله وجهان وقيل قولان هذا لفظه. قوله: وما لا يمتنع من صغار السباع كالغنم والعجول والكبر من كبار الإبل والبقر نظر إن وجده في المفازة فهو مخير بين أن يمسكها ويعرفها ثم يتملكها وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يتملك الثمن، وبين أن يأكلها إن كانت مأكولة، ويغرم قيمتها، والخصلة الأولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو صريح بأنه لا يتحتم عليه شيء من الخصال بل يتخير وسيأتي بعد هذا في ما إذا التقط ما يمكن تحقيقه كالرطب، أنه ينظر فيه فإن كان الحظ في بيعه باعه، وإن كان في تجفيفه جففه وقياسه هنا وجوب مراعاة الأحظ. قوله: وإن وجده في العمران فهو مخير بين الخصلتين الأولتين، ثم قال وفي الأكل قولان أرجحهما عند الأكثرين المنع، انتهى. وما جزم به هاهنا من حكاية الخلاف قولين ذكر مثله في "الشرح الصغير" وخالف في "المحرر" فجعل الخلاف وجهين فقال ما نصه: وليس له الثالثة يعني الأكل في أظهر الوجهين، وقد تبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الخلاف.

قوله: ولو التقط حيوانا فقال الإمام يجوز بيع جزء منه لنفقة باقية كما يباع جميعه وحكى عن شيخه احتمالا أنه لا يجوز لأنه يؤدي إلى أن تأكل نفسها، وبهذا قطع أبو الفرج الزاز، قال: ولا يستقرض على المالك أيضًا لهذا المعنى، لكنه يخالف ما سبق في هرب الجمال ونحوه، انتهى ملخصًا. اعترض عليه النووي فقال: الفرق بينه وبين هرب الجمال ظاهر فإن هناك لا يمكن البيع لتعلق حق المستأجر وهما يمكن فلا يجوز الإضرار بمالكها من غير ضرورة، انتهى لفظه. والذي قاله أعني النووي -رحمه الله- غفلة فاحشة، فإن البيع هناك ممكن أيضًا وتعلق حق المستأجر غير مانع فإن بيع العين المستأجرة جائز، وقد جزم هو والرافعي في باب الإجارة بجواز بيع الجمال المذكورة حتى قالا: إنه لا يخرج على الخلاف في بيع العين المستأجرة للضرورة. قوله: وإذا وجد رقيقًا مميزًا والزمان آمن لم يأخذه لأنه يستدل على سيده, وإن كان غير مميز أو مميزا في زمن تهب جار أخذه، وينفق على الرقيق مدة الحفظ من كسبه, فإن لم يكن له كسب باعه الملتقط بإذن الحاكم، وقيل يستقل به ثم قال: وإذا بيع ثم ظهر المالك، وقال: كنت أعتقته فقولان: أظهرهما يقبل قوله ويحكم بفساد البيع. والثاني: لا كما لو باع بنفسه, انتهى. وتقييده بالعتق يوهم عدم تصديقه في ما عداه كالبيع والوقف والهبة لأجل ما يتخيل من قوة العتق، وليس الأمر كذلك بل التصرفات المزيلة للملك كلها سواء في ذلك، كذا جزم به الرافعي قبيل كتاب الصداق بقليل وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى بمعنى آخر فراجعه. وقوله أيضًا كما لو باع بنفسه ويوهم أن بيع الوكيل ليس كبيع نفسه، ولهذا اغتر به ابن الرفعة في "الكفاية" فجزم به في كتاب النكاح في الكلام

على غيبة الولي وليس الأمر كذلك، بل حكمه حكم ما لو باع بنفسه كما جزم به الرافعي في الموضع الموعود بذكره. قوله: سواء وجد في العامر أو الغامر. اعلم أن هاتين اللفظتين بالعين والميم إلا أن عين الأولى مهملة وعين الثانية معجمة، فالعامر بالمهملة معروف، وبالمعجمة نقيضه. قال الجوهري في الكلام على الغين المعجمة والعامر من الأرض خلاف العامر، وقال بعضهم العامر من الأرض ما لم يزرع مما يحتمل الزاعة وإنما قيل له غامر لأن الماء يبلغه فيغمره، وهو فاعل بمعنى مفعول، وبنى على فاعل ليقابل به العامر، وما لا يبلغه الماء من موات الأرض لا يقال له عامر. قوله: يشترط في اللقطة أن تكون شيئًا ضاع من مالكه بسقوط أو غفلة أو نحوهما فأما إذا ألقت الريح ثوبًا في حجره، أو ألقى إليه هارب كيسًا ولم يعرف من هو أو مات مورثه عن ودائع وهو لا يعرف ملاكها فهو مال ضائع يحفظ ولا يتملك انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه قد تابعه في "الروضة" على ما ذكره هنا في الثوب، وجزم في "شرح المهذب" في زكاة المعدن والركاز في الكلام علي الركاز الإسلامي بأن الثوب المذكور لقطة. [الثاني: أن الشيء المحكوم بكونه لقطة] (¬1) قد لا يكون فيه ضياع بالكلية، وذلك كولد اللقطة قبل إختبار التملك، فإن الواجد يتملكه بعد الحول والتعريف لأنه مع كونه غير ضائع هذا هو مقتضى القواعد ولم يتعرض له الرافعي. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وكذلك إذا وجد ركازا من دفين الإسلام تيقنا بأنه لم يضع من صاحبه، وذلك بأن أعلم صاحبه به غيره، ثم قتل صاحبه أو مات ولم يعلم هل له وارث أم لا ولم يأخذه ذلك الغير بل أعلم به من أخذه، وكذلك أيضًا إذا لم يوجد فيه شيء من هذه الشروط لإنا لم نعلم الضائع. الأمر الثالث: أن التقييد بالمالك يرد عليه أمور: منها: ما لا يملك بالكلية [كالكلب] (¬1) والخمر المحترمة ونحوهما، فإنه يصح التقاطه على الصحيح كما بسطه الرافعي وبنى عليه فروعًا. ومنها: إذا علم الضائع من غير مالك كما إذا وجد حيوانًا معلمًا بعلامة الهدى كالإشعار والتقليد فإنه يجوز التقاطه في أصح القولين ويعرفه أيام منى. قال في "الروضة" وفائدة التقاطه جواز التصرف فيه بالنحر بعد التعريف ومن ذلك المستعير والمستأجر والمودع ونحوهم، وفي الغاصب ونحوه نظر، وأما الموقوف فقد يجوز التقاطه لتملك منافعه كما قلنا في الكلب، فقد يجوز لأجل التصرف في منافعه بالإيجار والصرف إلى الفقراء لأنه لم يعلم مصرفه كما جوزنا النحر والتفرقة في الهدي. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الباب الثاني: في "أحكام اللقطة"

الباب الثاني: في "أحكام اللقطة" قوله: وإذا قلنا بالظاهر أي أن المودع لا يضمن بقصد الخيانة فلو قصد ذلك في أثناء الأخذ ففي كونه ضامنًا وجهان، انتهى. وهذه المسألة لم يذكرها الرافعي في باب الوديعة، وقد أسقطها النووي من هذا الموضع وكأنه ظن أن الرافعي ذكرها في بابها فأسقطها، وليس كذلك. قوله: ومهما صار الملتقط خائنًا في الدوام إما بنفس الخيانة، أو بقصدها ثم أقلع وأراد أن يعرف ويتملك فوجهان: أحدهما المنع لأنه صار مضمونا عليه بتعديه والأمانة لا تعود بترك التعدي. ووجه الثاني: أن التقاطه في [الإبتداء] (¬1) انعقد مقيدًا للملك فلا يبطل حكمه بتفريط نظرًا، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، لكن إيراد الكتاب يشعر بترجيح الأول ويؤيده أنهم شبهوا الوجهين، إلى آخره. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، [وهو ظاهر في رجحان المنع، وصحح النووي في "الروضة"] (¬2) أن له أن يتملكه، ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي، وهو غريب جدًا، فتفطن له. قوله: وهل يجوز تفريق السنة بأن يعرف شهرين ويترك شهرين وهكذا؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه أجاب الإمام لا لأنه إذا فرق لم يظهر فائدة التعريف. والثاني: وهو الذي أورده العراقيون والقاضي الروياني يجوز، انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن مقتضاه رجحان الجواز لأن القائلين به أكثر، إذا علمت ذلك فقد صرح بترجيح الأول في "المحرر" فقال: فيه وجهان: أشبههما المنع. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" عرب عن قول الرافعي، وهو الذي أورده العراقيون بقوله: قطع به العراقيون، ثم اعترض عليه فقال من زياداته: قلت الجواز أصح ولم يقطع به العراقيون، بل صححوه هذا كلامه، وهو غريب. قوله في كيفية التعريف: ولا يستوعب الصفات ولا يبالغ فيها لأن لا يعتمدها الكاذب فإن بالغ ففي مصيره ضامنًا وجهان لأنه لا يلزمه الدفع إلا ببينة لكن قد يرفعه إلى حاكم يلزمه الدفع بالوصف، انتهى. والأصح وجوب الضمان كذا صححه في "الروضة" من "زياداته". قوله: أما إذا قصد الحفظ أبدًا ففي وجوب التعريف وجهان والأكثرون على أنه لا يجب. انتهى. وما قاله -رحمه الله- يستثنى منه لقطة الحرم فإنه لا يجري فيها هذا الخلاف، بل يجب التعريف جزمًا للحديث الوارد فيها، كذا قاله في "الروضة" من زياداته عن الأصحاب في الكلام على لقطة الحرم. قوله الخامسة: ليكن التعريف في الأسواق ومجامع الناس وأبواب المساجد، ولا يعرف في المساجد، وكما لا يطلب الضالة فيه، قال الشاشي في المعتمد: إلا أن أصح الوجهين جواز التعريف في المسجد الحرام بخلاف سائر المساجد. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية" وهو ظاهر في تحريم ذلك في بقية المساجد، وليس كذلك فإن المنقول فيه إنما هو الكراهة،

وقد جزم به النووي في "شرح المهذب" في آخر باب الخيانة في الفصل المعقود لأحكام المساجد. قوله: في "الروضة" فرع قال في "التتمة" يحل التقاط السنابل وقت الحصاد إن أذن فيه المالك أو كان قدرًا لا يشق التقاطه عليه وإن كان يلتقطه بنفسه لو اطلع عليه وإلا لم يحل. انتهى كلامه. وما ذكره في أخره من تعبيره بقوله وإلا أي بواو وهمزة قد شاهدته في النسخة التي هي بخطه -رحمه الله- وهو فاسد تبع فيه نسخة محرفة من نسخ الرافعي بل صوابه أولًا أي بهمزة ثم واو، وقد ذكره في "التتمة" على الصواب فقال: الثاني جرت العادة بالتقاط ما يقع من أيد الحصادين من السنابل، فإن كان المالك أذن فيه فهو حلال، وإن لم يكن قد أذن فيه فهو حلال وإن لم يكن قد أذن فيه صريحًا إلا أن المالك لا يلتقطه في العادة، ولا يشق عليه التقاط الناس له فيحل التقاطه، وإن كان المالك يلتقطه ويثقل على قلبه التقاط الناس له فلا يحل هذه عبارته. قوله: وإن التقط في صحراء عرف في البلد التي يقصدها قربت أم بعدت، ولا يكلف أن يغير قصده ويعدل إلى أقرب البلاد كذا قاله الإمام والغزالي، وذكر المتولي وغيره أنه يعدل فيعرف في أقرب البلاد وهذا إن أريد به الأحب فذاك، وإلا حصل وجهان في المسألة، انتهى ملخصًا. والأصح أنه لا يكلف العدول، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "الروضة". قوله: وإن وجد في القرية ما يفسد لو بقى كالهريسة جاز الأكل في أرجح القولين عند عامة الأصحاب، ثم قال: وقضيته ترجيح القول بجواز أكل الشاة إذا وجدت في الصحراء كما ذكره الشيخ أبو حامد إلى آخره. والتعبير بقوله إذا وجدت في الصحراء وقع كذلك في نسخ الرافعي وهو

سهو والصواب أن يقول إذا وجدت في البلد لأن الشاة الموجودة في [الصحراء يجوز أكلها اتفاقا وخلاف الشيخ أبي حامد في الموجودة في] (¬1) البلد، فإنه ذهب إلى الجواز أيضًا على خلاف ما قاله الأكثرون كما أوضحه الرافعي في الباب الأول. قوله: ويجب على الآكل إقرار القيمة المغرومة من ماله، لأن ما في الذمة لا يخشى هلاكه، وإذا قرر كان المقرر أمانة وقيل: يجب احتياطًا لصاحب المال ليتقدم بها عند إفلاس الملتقط، وعلى هذا فالطريق أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال، وإن لم يجد حاكمًا فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن يستنيب عنه؟ فيه احتمال للإمام انتهى. ذكر في "الروضة" مثله، وما اقتضاه كلامه من أن احتمال الإمام مخصوص بحالة فقدان الحاكم ليس كذلك، فقد صرح بأنه يجري مع وجوده ومع عدمه، وقد علم من التعبير بالإستثناء به، أن المراد تفويض ذلك إلى غيره بفعله لا فعل الملتقط نفسه فتفطن له. قوله في المسألة: وذكر الإمام أنه إذا أفرز القيمة لم يصر ملكا لصاحب المال لكنه أولى بتملكها، وبمثله أجاب المصنف في "الوسيط" لكنه لو كان كذلك لما سقط حقه بهلاك القيمة المفروزة، وقد نصوا على السقوط وأيضًا نصوا على أنه إذا مضت مدة التعريف فله أن يتملك تلك القيمة كما يتملك نفس اللقطة، وكما يتملك الثمن إذا باع الطعام، وهذا يقتضي صيرورتها ملكًا لصاحب اللقطة، انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما عزاه إلى الإمام [من عدم الملك ليس بصحيح، وإنما نقله الإمام عن غيره وزاد على ذلك فرده، فقال: ثم إذا قبض القاضي فقد تفرض قائمة مقام مالك اللقطة تقديرا حتى تصير القيمة مملوكة له، ويمتنع إبدالها، وقال الأصحاب: لا يملكها، وإنما يكون أولى بها لو أفلس الملتقط ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا فيه بعد، وبتقديره فلا يدخل في ملكه بمجرد ظهوره، بل له أن يتملكها وأن يعرض عنها، انتهى كلامه ملخصًا. الثاني: أن ما ذكره من سقوط حق المالك عند تلف القيمة المفرزة، إذا قلنا بأنه يملكها يشكل على ما ذكره في الأضحية فإنه قال في الكلام على أحكام الضحايا، ولو كان في ذمته دم عن فوات أو تمتع أو أضحية أو هدي عن نذر مطلق، ثم عين بدنة أو شاة عما في ذمته فقد قدمنا خلافا في أنها هل تتعين؟ والظاهر التعيين وحينئذ فالظاهر زوال الملك عنها كالمعينة إبتداء، لكن لو تلفت ففي وجوب الإبدال وجهان: أصحهما: الوجوب وهو الذي اقتصر عليه المعظم لأن ما التزمه ثبت في ذمته، والمعين وإن زال ملكه عنه فهو مضمون عليه كما لو كان لرجل على آخر دين فاشترى منه سلعة بذلك الدين، ثم تلفت السلعة قبل التسليم في يد بائعها فإنه ينفسخ البيع ويعود الدين كذلك هاهنا، يبطل التعيين ويعود ما في ذمته انتهى كلامه. وذكر مثله في "الروضة" فإن قيل: إنما سقطت القيمة في اللقطة، لأن الحاكم يقبضها فأقمنا قبضه مقام قبض المالك قلنا لم لا أوجبنا قبض الحاكم في الأضحية أيضًا، لاسيما أنه يؤدي إلى إيجاد القابض والمقبض. الأمر الثالث: أن الرد بالوجه الثاني على الإمام والغزالي سهو، فقد جزم الإمام بأن القيمة بعد مدة التعريف على حالها في يد الحاكم مبقاة علي حق مالك اللقطة وكذلك الغزالي في "الوسيط"، فإنه قال: فالأشهر أنه لا يرتفع الحجر، بل يحفظه أبدًا لمالكه لأنه بدل اللقطة لا عينها ووقع لابن الرفعة هنا أغلاط بعضها قلد فيه الرافعي وبعضها من قبله، وذكر القاضي الحسين في تعليقه أنا إذا قلنا لا يحتاج إلى إفراز القيمة أولا فلابد من إفرازها بعد الحول عند التملك لأن تملك الدين لا يصح. قوله: لنا أي في جواز التملك للغني والفقير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد بن خالد الجهني: فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، ولم يفرق بين الغني والفقير

انتهى كلامه. وما ذكره لا دلالة فيه البتة لأن الخطاب مع واحد معين ولابد أن يكون حالة الخطاب وتجويز الأخذ متصفًا بواحدة منها ويستحيل إتصاف بهما معًا فيكون الحديث دالًا على المتصف ببدل الصفة خاصة. قوله الثالثة: في لقطة مكة وحرمها وجهان أو قولان: أظهرهما: أنه لا يجوز أخذها للتملك، انتهى. واعلم أن نسخ الرافعي هنا مختلفة ففي بعضها ترديد القول كما ذكرته هاهنا وفي بعضها الجزم بأن الخلاف قولان، والراجح عند الرافعي أنه قولان كذا رجحه في "الشرح الصغير" وجزم النووي في "الروضة" و"زوائد المنهاج" بأنه وجهان. وقوله: وإن ظهر المالك بعد التملك، وقد زادت فالمتصلة يبيعها، والمنفصلة تسلم للملتقط. انتهى. وإطلاقه أن المنفصلة كالحمل ونحوه يكون للملتقط، قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك فإن الحمل قد يكون موجودًا عند المالك أو يحدث في مدة التعريف أو بعدها، وانفصاله قد يكون بعد الرجوع وقد يكون قبله ويأتي فيه ما سبق في نظائره كالرد بالعيب والفلس ونحوها فراجعه. قوله: فلو أراه اللقطة وقال هاتها فأخذها لنفسه فالآخذ أولى، وإن أخذها للآخر أو لنفسه وله فعلى الوجهين في جواز التوكيل بالاصطياد ونحوه انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذلك، وهو مخالف لما ذكره في الوكالة في الكلام على التوكيل في المباحات فراجعه، فإنه قد تقدم التنبيه عليه. قوله: وإذا دفع اللقطة إلى الحاكم وترك التعريف والتملك، ثم ندم وأراد أن يعرف ويتملك، ففي [تمكينه] (¬1) وجهان حكاهما ابن كج، انتهى. قال في "الروضة": المختار عنهما المنع، لأنه أسقط حقه. ¬

_ (¬1) في الأصول: تمكنه، والمثبت من "الروضة".

قوله: وفي "المهذب" أنه إذا وجد خمرًا أراقها صاحبها لم يلزمه تعريفها لأن إراقتها مستحقة فإن صارت عنده خلًا فوجهان: أحدهما: أنها للمريق كما لو غصبها فصارت خلًا. والثاني: للواجد لأنه أسقط حقه بخلاف الغصب، وهذا الذي ذكره تصويرا وتوجيها إنما يستمر في الخمر المحترمة, وحينئذ لا يكون إراقتها مستحقة، أما في الإبتداء فظاهر، وأما عند الواجد فينبغي أن يجوز إمساكها إذا خلا عن قصد فاسد، ثم يشبه أن يكون ما ذكره مخصوصًا بها إذا أراقها لأنه معرض، أما إذا ضاعت المحترمة من صاحبها فلتعرف كالكلب، انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الأصح من هذه الوجهين أنها للواجد، كذا صححه النووي من زياداته في باب الغصب، وفي أصل "الروضة" في كتاب الصيد والذبائح. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من تصوير المسألة وتوجيهها إنما يستمر في الخمر المحترمة كلام عجيب على العكس فما يدل عليه كلام "المهذب"، وأما التصوير وهو وجود الخمر التي أراقها صاحبها فلا دلالة فيه لا على ما قاله ولا على خلافه، بل دلالته على خلافه أقرب لأن المحترمة وهي التي عصرت بقصد الخلية لا يريقها عاصرها غالبا، وأما التعليل فدال على عكس ما قاله لأن استحقاق الإراقة من المريق أو الواجد ينفي تصويرها بغير المحترمة فإن أراد التعليل المذكور للوجهين فلا يدل أيضًا، لأن غير المحترمة لو صارت خلًا في يد الغاصب لكانت للمغصوب منه كما ذكره في الغصب، وكذلك لو تخللت في يده لكان الخل ملكًا بطريق الأولى وكأنه -رحمه الله- ظن أن غير المحترمة إذا غصبها غاصب فتخللت عنده أن الخل يكون له، أو تمسك بقوله لأنه أسقط حقه والمراد أن حقه من هذا الخل قد

سقط بإراقتها وهي خمر كما أشرنا إليه نعم، إن علم الواجد أنها محترمة فواضح وإن لم يعلم فالظاهر كما قاله في "الروضة" من زياداته عدم إحترامها، وحينئذ فيجب على الواجد إراقتها. الأمر الثالث: أن قول الرافعي ثم يشبه في آخره أراد به أن ما ذكره صاحب "المهذب" من التمثيل بالخمر المراقة ينبغي أن يكون الحكم مقصورا عليه أي لا يتعدى إلى غير المراقة، وإليه أشار بقوله مخصوصا، فإن صاحب "الروضة" باعتراض فاسد سببه عدم فهمه لكلام الرافعي فقال: وأما قول الرافعي يشبه أن يكون كذا إلي أخره فقد صرح به صاحب "المهذب" فقال: وجد خمرا أراقها صاحبها هذا لفظ النووي وهو غلط لما عرفته، ومن العجب أن الرافعي قد ذكر هذا الكلام من جملة ما نقله عن "المهذب" فكيف يمكن أن يخطر للرافعي استدراكه أيضًا عليه؟ وكيف أيضًا ذهل أعني النووي عن قول الرافعي مخصوصا بكذا؟ قوله: وقد سبق أن البعير وما في معناه لا يلتقط إذا وجد في الصحراء واستثنى صاحب "التلخيص" ما إذا وجد بعيرًا في أيام منى مقلدًا في الصحراء تقليد الهديا فحكى عن نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه يأخذه ويعرفه أيام منى، فإن خاف فوت وقت النحر نحوه، ويستحب إستئذان الحاكم فيه، وفي قول لا يجوز أخذه، وقال القفال: الإستئذان في الذبح واجب ولك أن تقول الاستثناء غير منتظم، وإن قلنا أنه يؤخذ لأن الأخذ منه إنما هو الأخذ للتملك ولا شك أن هذا البعير لا يؤخذ للتملك، انتهى كلامه. وأجاب في "الروضة" عنه فقال: قد سبق في جواز أخذ البعير لآحاد الناس للحفظ وجهان، فإن منعناه ظهر الإستثناء وإن جوزناه وهو الأصح، ففائدة الإستثناء جواز التصرف فيه بالتحر هذا لفظه. واعلم أن منصوص الشافعي في الأخذ للحفظ إنما هو الجواز والمنع وجه

لا قول كذا هو مذكور في "الشرح" و"الروضة" فلا يصح الجواب، إذا فرعنا على المنع لأن المجوز هنا هو المجوز هناك، وأما جوابه إذا فرعنا على الجواز فمردود أيضًا لأن الكلام في الأخذ لا في التصرف على أن الالتقاط المذكور، كما أنه ليس للتملك ليس للحفظ فإن فيه تصرفًا، فيقال للرافعي والأخذ الجائز أيضًا إنما هو للحفظ وليس هذا له إلا أن هذا لا يدفع سؤال الرافعي، ويتحقق سؤاله بما ذكره، وكذلك اقتصر عليه.

كتاب اللقيط

كتاب اللقيط وفيه بابان: الباب الأول: في الالتقاط قوله: في وجوب الإشهاد إذا وجد اللقيط طريقان: أحدهما: أنه على وجهين أو قولين كما قدمنا في اللقطة، وأظهرهما القطع بالوجوب، انتهى. وما ذكره هنا من ترجيح طريقة القطع ذكر مثله في الشرح الصغير أيضًا ثم خالف في "المحرر" فجزم بطريقة الخلاف فقال ما نصه وأصح الوجهين وجوب الإشهاد عليه هذا لفظه وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على الموضعين. قوله: وأظهر الوجهين تقديم الغني على الفقير وعلى هذا لو تفاوتا في الغنى فهل يقدم أكثرهما مالًا؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، انتهى. والأصح عدم التقديم كذا صححه في "الروضة" من زياداته. قوله: وإن وجده البدوي في حِلَّة أو قبيلة في البادية، فإن كان من أهل حلة مقيمين في موضع راتب أقر في يده وإن كان ممن ينقلون من موضع إلى موضع منتجعين ففي منعه وجهان. انتهى. والأصح أنه لا يمنع، فقد قال في "المحرر": إنه الأشبه، وفي "الروضة": إنه الأصح ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا. قوله: ولو اجتمع على لقيط في القرية قروي مقيم بها وبلدي، قال ابن كج: القروي أولى، وهذا تخريج على منع النقل من بلد إلى بلد فإن جوزنا وجب أن يقال هما سواء. انتهي. قال في "الروضة": المختار الجزم بتقديم القروي مطلقا كما قاله ابن

كج، وإنما يجوز النقل إذا لم يعارضه معارض. قوله: قال الغزالي في الكتاب: وينفق على اللقيط مما وقف على اللقطاء، أو وهب منهم أو أوصى لهم، لكن الهبة لغير معين مما تستبعد، ويجوز أن تنزل الجهة العامة منزلة المسجد حتى يجوز تمليكها بالهبة كما يجوز الوقف عليها، وحينئذ فيقبله القاضي. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة التي توقف فيها الرافعي قد حذفها النووي من "الروضة" ولما عدا الأركان في باب الهبة، قال: هي أربعة، الأول والثاني العاقدان وأمرهما وأصح هذه عبارته، لكن قد حصل التوقف في هذه المسألة العارضة، وهي من جملة الركنين، وحينئذ فينبغي الوضوح. الأمر الثاني: أن كلامه صريح في اشتراط القبول بتقدير إلحاق الهبة بالوقف في الصحة إذا كانت لجهة عامة، لكن الوقف لا يشترط فيه القبول إذا كان على الجهة، وقياس الهبة كذلك، نعم أورد الرافعي في كتاب الوقف سؤلا يقتضي الاشتراط فلم يجب عنه. قوله: في "الروضة" والدنانير المنثورة فوق اللقيط له، كذا المضوية تحته وتحت فراشه، وفي التي تحته وجه ضعيف، انتهى. ومقتضاه القطع بأن الذي تحت فراشه له وجريان الخلاف في ما فوق الفراش وتحت الطفل وهو غير منتظم وهنا الخلاف قد صرح به الماوردي وحكاه على الصواب فإنه قطع بأن الذي فوق الفراش، وعلل المنع بأن الدراهم لم يجر عادتها أن تكون مبسوطة على الأرض وعبارة الرافعي أيضًا موهمة، فإنه قال: وكذا الدنانير المصبوبة تحته وتحت فراشه وحكى ابن كج وجهين في التي تحته هذه عبارته وحاصلها أن الرافعي لما حكى ما قال ابن كج وقد رأى في كلامه التعبير بتحت لزم ذكرها وهي قابلة للتأويل محتملة

ومحتاجة إلى فهم ما ذكره ابن كج قبلها فتصرف النووي وعبر بعبارة من عنده زادته خللا وعينته للفساد. قوله: في "الروضة" ولو كان من جهة أو دار ليس فيها غيره فهما له، وعن "الحاوي" وجهان في البستان، قلت وطرد صاحب "المستظهري" الوجهين في الضيعة، وهو بعيد وينبغي القطع بأنه لا يحكم له بها، والله أعلم. وما ذكره النووي غريب، فإن الماوردي قد جمع بين الضيعة والبستان في حكاية الوجهين فقال: والضرب الثاني أن يكون مما لم تجر العادة بسكناه كالبساتين والضياع فعلى وجهين: أحدهما: يحكم بأنه ملكه كالدور. والثاني: لا لأن سكنى الدار تصرف وليس الحصول في البستان سكنى ولا تصرف هذه عبارة الماوردي ولا شك أن إقتصار الرافعي على البستان هو الذي أوقع النووي في الوهم إلا أن الذي نقل الرافعي عنه ذلك إنما حكاه فيه خاصة. قوله: وإن كان بقرية مال فلا يجعل له في أصح الوجهين كالبعيد. والثاني: نعم لأن مثل هذا يثبت اليد والإختصاص في حق البالغ، انتهى. ومحل الخلاف كما قاله في "الحاوي" في ما إذا كان الموضع منقطعًا قليل المارة، فإن كان أهلا كبير الطروق كان لقطة. واعلم أن ما جزم به الرافعي من جعله للبالغ، واستدل به على عدم جعله للصبي، وفرق بينه وبين الكبير بأن الكبير يقدر على إمساك ما يقاربه من مال أو فرش، فإذا لم يفعل إرتفعت يده فزال الملك بخلاف الصغير. قوله: ولو كانت الدابة مشدودة باللقيط وعليها راكب، قال ابن كج: هو بينهما. انتهى. وهذا الذي نقله عن ابن كج من كون اللقيط يشارك الراكب، وأقره هو

والنووي عليه ليس هو الصحيح فإن اللقيط والحالة هذه غايته أن يكون كرجل عاقل قائد لدابة عليها راكب، والصحيح فيها أن اليد للراكب، كما ذكره الرافعي في آخر كتاب الصلح، فقال: أنه المذهب، ونقل مقابله عن أبي إسحاق المروزي فقط، وذكر المسألة أيضًا في كتاب ضمان البهائم، وحكى فيها وجهين من غير ترجيح، واقتضى كلامه جريان الخلاف في السابق مع الراكب أيضًا، ولم يذكرها في "الروضة" لا في الصلح ولا في ضمان البهائم. قوله: فإن لم يعرف للقيط مال ففيه قولان: أصحهما: أنه ينفق الإمام عليه من بيت المال. والثاني: يستعرض له الإمام من بيت المال أو بعض الناس. فعلى هذا إن لم يكن في بيت المال شيء ولم يقرض أحد جمع الإمام الإمام أهل الثروة من البلد وبسط عليهم نفقته وجعل نفسه منهم، ثم إن بان رقيقًا رجعوا على سيده، وإن بان حرًا وله مال أو قريب فالرجوع عليه، وإن بان حرًا لا قريب له ولا مال ولا كسب قضى الإمام حقهم من سهم الفقراء أو المساكين أو الغارمين كما يراه. انتهى كلامه. وما ذكره من الرجوع على القريب خلاف القواعد، فإن نفقة القريب تسقط بمرور الزمان، وقد نبه النووي أيضًا على ضعفه، فقال: اعتبار القريب غريب قل من ذكره، قال: وهو ضعيف. قوله: فإن قلنا نفقته في بيت المال فتعذر قام المسلمون بكفايته، وطريقة طريق القرض وفي قول طريق النفقة، ثم قال: ولم يتعرض الأصحاب لطرد الخلاف في أنه إنفاق أو إقراض إذا كان في بيت المال مال، وقلنا نفقته منه، والقياس طرده. انتهى. قال في "الروضة": ظاهر كلامهم أنه اتفاق فلا رجوع لبيت المال قطعًا.

قال: وهذا هو المختار الظاهر. قوله: وإذا كان للقيط مال فهل يستقل الملتقط بحفظه؟ فيه وجهان: أصحهما على ما يقتضيه كلام البغوي الاستقلال انتهى. والراجح ما قاله البغوي، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير"، وعبر بقوله: أرجحهما وعبارة "المحرر" رجح بينهما. وصححه النووي في "المنهاج" واقتصر في "الروضة" على النقل عن "المحرر" لكنه عبر بقوله رجح الرافعي، وقد ظهر لك أنه ليس كذلك بل هو كالكبير سواء عبر أنه صرح في الكبير بالفاعل وبناه للمفعول في "المحرر" وكأنه نقل عن "المحرر" من "المنهاج". قوله: وعلى الوجهين ليس له إنفاقه على اللقيط إلا بإذن القاضي، فإن فعل ضمن وفي كتاب القاضي ابن كج وجه غريب أنه لا يصير ضامنًا، انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية ذلك وجهًا وأنه غريب كلاهما غريب، فإن المسألة فيها قولان شهيران حكاهما القفال والشيخ أبو محمد في المسلسلة في كتاب الدعوى في الكلام على مسألة الظفر بالحق من الغريم، وبنى عليها مسألة أخرى وقد ذكر الرافعي أيضًا هذا الخلاف في الموضع المشار إليه، وسوف أذكره إن شاء الله تعالى هناك لأجل اعتراض عليه فراجعه.

الباب الثاني: في "أحكام اللقيط"

الباب الثاني: في "أحكام اللقيط" قوله: في أصل "الروضة" فإذا أسلم الجد أبو الأب أو أبو الأم تبعه الصبي إن لم يكن الأب حيًا قطعًا، انتهى كلامه. ليس كما قال من دعوى القطع فقد ذهب القفال إلى أنه لا يتبع إذا كان الصبي قد ولد بعد إسلام الجد وفي حياة الأب فأما إذا كانت ولادته بعد موته، فقد سلم أنه يتبع، كذا رأيته في فتاوى البغوي، ولم يدع الرافعي أن ذلك مقطوع به، بل هو من زيادات النووي. قوله: وإن سبى ومعه أحد أبويه لم يحكم بإسلامه. انتهى. ومعنى قولهم ومعه أحد أبويه أن يكونا في جيش واحد وغنيمة واحدة، ولا يشترط كونهما في ملك رجل واحد، كذا ذكره البغوي في كتاب الظهار من "التهذيب" وتبعه النووي في "الروضة". قوله: وأما الجناية عليه فإما أن تكون خطأ أو عمدًا، فإن كانت خطأ نظر إن كانت على نفسه أخذت الدية ووضعت في بيت المال، وقياس من قال بالتوقف في أحكامه أنا لا نوجب الدية الكاملة ولم أر ذكره. انتهى لفظه. زاد النووي على هذا فقال: قلت: الصواب الجزم بالدية الكاملة انتهى. وهذا الذي نفاه هنا قد ذكر بعده ما يثبته فقال في الحكم الرابع ما نصه: وإذا قتل خطأ فالواجب الدية على أظهر القولين أخذًا بظاهر الحرية وأقل الأمرين من الدية أو القيمة في الثاني بناء على أن الحرية غير مستيقنة فلا يؤاخذ الجاني بما لا يستعين شغل ذمته. ثم قال الإمام: وقياس هذا أن يوجب أقل الأمرين من قيمته عبد أو دية مجوسي لإمكان الحمل على التمجس، انتهى كلامه. فانظر كيف ذكر أولًا، أنه لم ير إلا الجزم بالدية الكاملة، وأن قياس

التوقف أن لا نوجبها ورد عليه النووي في هذا البحث، ثم صرح بعد ذلك بالخلاف في إتمامها نظرًا للتوقف في حريته وإسلامه. نعم: لكلامه تأويل فيه قرب وهو أن يقال: مراده بالموضع الأول أنهم لما أوجبوا الدية جزموا بوجوبها كاملة واحتمال لقوة تمنع تكميلها وليس مراده أن الدية مجزوم بها، وأما الموضع الثاني فالخلاف فيه في أصل وجوبها لا في القدر إذا أوجبناها، فالكلام هنا في الأصل وهناك في القدر. قوله: في أصل "الروضة" وإن كانت عمدًا، فإن قيل: بعد البلوغ والإفصاح بالإسلام، وجب القصاص قطعًا، وقيل: على قولين، ثم قال ما نصه: وإن قتل بعد البلوغ قبل الإفصاح فعلى الخلاف، وقيل: لا تجب قطعًا، لقدرته على الإفصاح الواجب هذا لفظه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره في المسألة الأولى من تصحيح طريقة القطع مناقض لما ذكره في أول باب إستيفاء القصاص، فإنه جزم هناك بأن في وجوب القصاص يقبل ولا وارث له قولين، وأنهما سبقا هنا، وأشار إلى هذا الموضع، والرافعي -رحمه الله- سالم من هذا الإختلاف، فإنه لم يصحح هنا طريقة القطع، بل مقتضى كلامه أن القائلين بطريقة القولين أكثر عددا. الأمر الثاني: أن كلام الرافعي صريح في أن المسألة الثانية كالأولى في الوجوب وهو غلط عجيب، فإنه قد قال قبل ذلك في الكلام على تبعية الأبوين في الإسلام أن المحكوم بإسلامه تبعًا لأبويه إذا بلغ ووصف الكفر كان مرتدًا علي المشهور حتى لا يقر عليه، ثم حكى بعد ذلك في وجوب القصاص بنقله قولين وقال: أظهرهما: لا يجب للشبهة وانقطاع التبعية، فإذا تقرر عدم الوجوب في المسلم تبعا لأبويه إذا بلغ وسكت لاحتمال دعوى الكفر الذي لا يقر عليه فكيف يعقل معه الوجوب في المسلم تبعًا

للدار إذا بلغ وسكت مع احتمال الكفر الذي يقر عليه، ولأجل هذا المعنى كان في التابع للدار طريقة قاطعة بعدم الوجوب كما تقدم بخلاف التابع لأبيه، والرافعي ذكر المسلم تبعا لأبيه كما ذكره النووي في "الروضة"، وأما المسلم تبعا للدار فلم يتعرض فيه لما يقتضي تصحيح شيء من الطريقين وقد ذكر النووي المسألتين في "تصحيح التنبيه" على الصواب، وصحح فيهما أنه لا قود. الثالث: أن ما ذكره في القتل بعد البلوغ محله إذا وقع ذلك بعد التمكن من الإخبار عما عنده، فإن كان قبله فحكمه حكم ما لو مات قبل البلوغ، كذا ذكره الرافعي في كتاب الظهار. قوله: ولو قتل اللقيط في صغره وجب القصاص في أصح القولين، وقطع به بعضهم، واختلفوا في مأخذ المنع. فقال قوم: لأن المسلمين هم المستحقون واجتماعهم على الاستيفاء متعذر، وبناه في "التقريب" على أن المحكوم بإسلامه يتوقف فيه إلى أن يعرب بالإسلام، وقد مات الإعراب بموته. والقائل الأخر يقول: يجري عليه أحكام الإسلام ولا يتوقف، ويخرج من كلام ابن سلمة والقفال مأخذ ثالث وهو داره شبهة الرق والكفر. ثم قال ما نصه: وإذا كان الجاني في النفس أو الطرق كافرًا رقيقًا جرى القولان على المأخذ الأول دون الثاني والثالث. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا وهو صحيح في النفس، وأما في الطرف فجريان الخلاف فيه على المأخذ الأول سهو لأن الاستحقاق فيه للقيط، وهو متعين لا لعامة المسلمين. قوله قبيل الحكم الثالث: لكن البحث إذا انتهى إلى مثل ذلك قد نزله. انتهى.

النزل بضم النون وإسكان الزاي وبفتحها هو الريع يعني الفائدة حكاه الجوهري ثم ذكر الرافعي عقب هذا الكلام متصلًا به بحثًا مع صاحب "التقريب" فيه ضعف عليه بشيء، كلامه ظاهر في أنه لا يقول به، وكلام الرافعي أيضًا يخالفه، وفي هذا القدر تنبيه على فهمه لمن يقف عليه. قوله: وإذا جنى على اللقيط وهو فقير مجنون جاز لوليه العفو على مال، وهل هو عفو كلي وإسقاط للقصاص أم للحيلولة فيه وجهان، انتهى. لم يرجح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا والراجح كما قاله في "الروضة" أنه عفو كلي. قوله: أحداها لو استلحقه عبد لحقه أن صدقه السيد، وإن كذبه فكذلك في أصح القولين، ثم قال: ويجري الخلاف في ما إذا استلحق حر عبد غيره وهو بالغ فصدقه لما فيه من قطع الإرث المتوهم بالولاء، أي على تقدير عتقه، وقيل يثبت قطعًا، ويجري الخلاف في ما إذا استلحق المعتق غيره، والقول بالمنع هاهنا أبعد لاستقلاله بالنكاح والتسري. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يبين حكم العبد الصغير إذا استلحقه غيره والحكم فيه أنه لا يلحقه إلا كذا جزم به الرافعي في باب الإقرار، وسوى بين العتيق أيضًا في عدم الصحة فتفطن له فإنه قد يغفل عنه فتفطن أن التقييد إنما هو لأجل أن الصغير يثبت نسبه في حال صغره من غير توقف على بلوغه وتصديقه، كما قالوا بمثله في الحر. الأمر الثاني: أن غير المعتق إذا استلحق العتيق الكبير وصدقه ففي صحته وجهان حكاهما الرافعي في باب الإقرار، ولو استلحق العتيق غيره ففي صحته أيضًا وجهان حكاهما في "التنبيه" وصحح النووي في تصحيحه أنه يصح فإنه أولى من العبد، وقد سبق فيه تصحيح الصحة، إذا علمت ذلك

فالمعتق من قول الرافعي في ما إذا استلحق المعتق غيره يجوز أن يكون منصوبًا على أنه مفعول مقدم وهو الظاهر من سياق كلام الرافعي من أوجه متعددة، ويحتمل الرفع على الفاعلية، وحينئذ فيستفيد حكاية الخلاف في المسألتين من الرافعي. قوله: ولو استلحقه امرأة، وأقامت بينه، لحقها ولحق زوجها إن أمكن العلوق منه، ولا ينتفي عنه إلا بلعان، هذا إذا قيدت البينة أنها ولدته على فراشه، فإن لم يتعرض للفراش ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان، انتهى. والأصح عدم الثبوت قاله في "الروضة" فإن لم يوجد قائف أو تحيرا وألحقه بهما أو عنهما ترك حتى يبلغ انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير بقوله فإن لم يوجد قائف ومقتضاه أنه لا فرق بين أن يوجد في بلد قريب أو بعيد، وقد صرح به الفوراني في "الإبانة" فشرط أن لا يوجد في الدنيا لكنه ليس هو المشهور فقد ذكر الروياني أن الاعتبار بمساقة القصر، ونقله عنه الرافعي في الباب الثاني من كتاب العدد وأقره، وذكر الماوردي في "الحاوي" مثله أيضًا، وخالف في "النهاية" فقال الذي يجب الرجوع إليه عندنا أن يقال أن اختيار الطفل في حكم البدل عن القافة فيعتبر في غيبة القائف ما يعتبر في غيبة شهود الأصل عند استشهاد الفروع ذكره في باب القافة ودعوى الولد والذي قاله أقوى. قوله: ولو تنازعا في الالتقاط وولاية الحفظ، فإن تنازعا عند الأخذ أو قبله فقد سبق بيانه، انتهى. وهذا الكلام يشعر بأنه لا ذكر هناك للقسم الثالث وهو ما إذا تنازعا بعد التقاطهما، وقد تقدم ذكره مفصلًا، وإنما ذكر هاهنا اختلافا في الملتقط. قوله: في الكلام على ما إذا أقام كل واحد منهما بينة على الالتقاط، وإن قيدنا بتاريخين مختلفين حكم لمن سابق تاريخه بخلاف المال حيث لا يحكم

فيه بسبق التاريخ في أصح القولين لأن الأموال على الانتقال فربما انتقل من الأول إلى الثاني وليس كذلك الالتقاط فإنه لا ينتقل ما دامت الأهلية باقية، انتهى كلامه. وما ذكره من أن المال لا يحكم فيه لسبق التاريخ على الأصح، تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك، بل الصحيح التقديم، وقد صرحا بذلك في كتاب الشهادات، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: وظاهر حال الملتقط الحرية لأن الأدميين خلقوا ليسخروا لا ليسخروا، وقد ذكرنا أن من الأصحاب من لا يجزم بالإسلام، ويذهب إلى التوقف، وذلك التردد كما حكاه الإمام يجري في الحرية. انتهى. وهذا الخلاف قد سبق الصريح في باب معاملات العبيد، وأنه قولان فإنه حكى صاحب "التتمة" أن في معاملة من جهل رقه وحريته قولين أظهرهما الجواز. واعلم أن التسخير بالخاء المعجمة هو الإمتهان في العمل قهرا وغلبة. قوله: رأى صغيرًا قد إنسان يأمره وينهاه ويستخدمه هل له أن يشهد بالملك؟ عن أبي علي الطبري أنه على الوجهين، وقال غيره إن سمعه يقول هو عبدي، أو سمع الناس يقولون أنه عبده شهد له بالملك وإلا فلا. انتهى. والأصح هو الثاني، كذا قال في "الروضة" والفرق بينه وبين سائر الأعيان حيث جاز فيها الشهادة بالملك بمجرد اليد والتصرف الطولين أن مثل هذا يقع في الأحرار كبيرًا كالأولاد وغيرهم وغير المملوك من الأعيان نادر فكان الظاهر أنه ملكه. قوله: ولو ادع رقه مدع وأقام عليه بينة فهل يكفي فيها إطلاق الملك أم يشترط التعرض لسببه؟ فيه قولان. انتهى. لم يصرح بترجيح هنا ولا في "الشرح الصغير" وكلام "المحرر" يشعر

برجحان الوجوب، فإنه قال رجع منهما الثاني على البناء للمفعول، وعني وجوب التعرض، وصرح النووي بتصحيحه في "المنهاج"، وأما في "الروضة" فنقل الترجيح عن "المحرر" خاصة، فقال: كل من والترجيحين ظاهر، وقد رجع الرافعي في "المحرر" الثاني هذا لفظه، وقد ظهر لك أن الرافعي لم يصرح بترجيحه، ومن الأسباب أن يشهدوا بأن أمته ولدته مملوكًا له فإن اقتصروا على أن أمته ولدته أو أنه ولد أمته، قال الأكثرون: فيه قولان أصحهما: على ما ذكره في الاكتفاء به، ومنهم من قطع به، انتهى ملخصًا. أعلم أن النووي -رحمه الله- قد اختلف تصحيحه في هذه المسألة فصحح في أصل "الروضة" أنه يلتقي به، وخالف في "تصحيح التنبيه" فصحح أنه لا يكفي فقال وأنه إذا ادعى رقه وأقام بينة بأن أمته ولدته لم يقبل حتى يقول: ولدته في ملكه أو مملوكًا له، وقد ذكر المصنف في الدعوى والبينات هذا لفظه. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد صحح في "الشرح الصغير" أن ذلك يكفي كما صححه الغزالي -رحمه الله-، ثم ذكر في آخر الدعوى والبينات ما يشكل على هذا فقال في الباب المعقود لمسائل منثورة وهل قبل العتق ثبات دعوى النسب ما نصه: ادعى عبد في يد رجل، وأقام بينة أنه ولدته أمته، لم يقض بهذه البينة، فربما ولدته قبل أن يملكها، هذا لفظه بحروفه، وتابعه عليه في "الروضة" وهكذا هو مذكور في "التنبيه" أيضًا في الدعاوى على عكس ما في اللقيط وظاهره أنهما مسألة واحدة، وقد صرح به النووي في "تصحيح التنبيه" كما تقدم نقله عنه وحاول ابن الرفعة في كتاب الدعاوى أن يفرق بين المسألتين فقال: وكان الفرق أن المقصود في اللقيط معرفة الرق من الحرية والشهادة بأن أمته ولدته تعرف رقه في الغالب لأن ما تلد الأمة مملوك، وولادتها للحر نادر، فلم يقول على ذلك، والقصد

تعيين المالك لأن الرق متفق عليه وذلك لا يحصل تكون أمته ولدته هذا حاصل ما قال وفيه نظر. قوله: في أصل "الروضة" وإن شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه، قال الأصحاب: يكفي قطعًا. وقال الإمام: لا يكتفى به تفريعًا على وجوب التعرض لسبب الملك، فقد تلد في ملكه حرًا بالشبهة، وفي نكاح الغرور، وقد تلد مملوكًا لغيره بأن يوصي بحلمها، وتكون الرقبة للوارث، انتهى. وما ذكره في هذه المسألة من إضافة ذلك إلى الأصحاب غريب فضلًا عن قطعهم به فقد حكى القاضي أبو سعد الهروي فيها طريقة القولين في الشهادة بالملك المتقدم، وحكاها الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" و"المهذب" ونسبها في "المهذب" إلى ابن شريح، وكذلك البغوي في "التهذيب" في "التجريد"، ونقلها صاحب "الحاوي" عن ابن شريح أيضًا، وقد صرح بذلك إمام الحرمين أيضًا في كتاب الدعاوى. قوله: في المسألة وهذا أي ما قاله الإمام حق ويشبه أن لا يكون فيه خلاف ويكون قولهم في ملكه مصروفًا إلى المولود كقولك ولدته في مشيمة لا إلى الولادة ولا إلى الوالدة، انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من نفى الخلاف بين الأصحاب، وتأويل كلامهم، وأنه لو كان حالا من الوالدة لم يقبل جزمًا ليس كذلك فقد صرح الماوردي والمجاملي وغيرهما بخلاف وجعلوا الحال راجعًا إلى الوالدة حتى أورد الماوردي صورة الوصية المذكورة، وأجاب عنها فثبت بذلك أن الخلاف بينهم ثابت محقق، ويعضد القول بثبوت الملك بذلك أن من ملك أصلًا ملك ما يحدث منه ولهذا قلنا إن المغصوب منه يستحق العين بزوائدهما وأما ما ذكره فهو بأسباب نادرة يقتضي إخراجه عن حكم أصله عند بيعها،

والأصل في مسألتنا عدمها. قوله: وإن قلنا لا يقبل الإقرار بالرق في ما نصه غيره فالكلام في أمور: أحدها: لا يحكم بانفساخ نكاحها، بل يبقى كما كان. قال الإمام سواء فرقنا بين الماضي والاستقبال أم لا، وبصير النكاح كالمستوفي المقبوض واستدرك ابن كج فقال: إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح إلا ما انفسخ نكاحه لأن الأولاد الذين تلدهم في المستقبل أرقاء كما سنذكره إن شاء الله تعالى فليس له الثبات عليه وهذا حبس، لكن صرح ابن الصباغ بخلافه، انتهى ملخصًا. والأصح أنه لا ينفسخ على وفق ما قاله ابن الصباغ فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "الروضة" من "زياداته". قوله: الثاني في المهر ومتى يثبت للزوج الخيار فأجاز لزمه المسمى، قاله البغوي فإن طلقها بعد الإجارة وقبل الدخول لزمه نصف المسمى وفيه إشكال لأن المقر له يزعم فساد النكاح، فإذا لم يكن دخول وجب أن لا يطالب بشيء وقد يشعر بهذا إطلاق الغزالي، انتهى. والراجح كما قاله في "الروضة" أنه لا يلزمه شيء للمعنى المذكور. قوله: ولو ادعى إنسان رقه فأنكره ثم أقر له ففي قبوله وجهان لأنه بالإنكار لزمه أحكام الأحرار، انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر قبل هذا بنحو ثلاثة أوراق مسألة يؤخذ منها تصوير هذه المسألة، فقال الثانية إذا أقر بالرق لزيد فكذبه فأقر لعمرو فعن تخريج ابن سريج أنه يقبل كما لو أقر بمال لزيد فكذبه فأقر به لعمرو، وأيضًا فاحتمال الصدق في الثاني قائم فوجب قوله. والمذهب المنصوص المنع لأن إقراره الأول يضمن نفي الملك لغيره، فإذا أراد المقر له خرج عن كونه مملوكًا له أيضًا فصار حرامًا لأصل، والحرية مظنة

حقوق الله تعالى والعباد فلا سبيل إلى إبطالها بالإقرار الثاني هذا كلامه. وقد علم منه أن الاعتراف بنفي الرق إذا كان ضمنيا لا صريحًا يقتضي الحرية ولا يصح بعده الاعتراف بالرق فبطريق الأولى إذا كان صريحًا. إذا علمت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول إن قال المدعي عليه في جواب الدعوى ليست مملوكًا لك، فالمتجه الجزم بالقبول لأنه لم يصدر منه ما يقتضي الاعتراف بالحرية، بل تقييده يدل على أنه مملوك لغيره، والرافعي قد علل بقوله لأنه بالإنكار لزمه أحكام الأحرار فتبين أنه لا يستقيم حمل المسألة على هذه الصورة، بل يتعين حملها على ما إذا قال لست مملوكًا، وحينئذ فيكون الجمهور على عدم القبول لأجل ما نقلناه عن الرافعي ولم يستحضر النووي هذا النقل الذي ذكرناه وحمل مسألتنا على ما إذا نفى أن يكون له فقال: ينبغي أن يفصل، فإن قال لست بعد لم يقبل إقراره بعد، وإن لست بعبد لك فالأصح القبول إذ لا يلزم من هذه الصيغة الحرية هذا لفظه، وهو غير مستقيم.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول "في بيان الورثة" قوله: أصل الفرض في اللسان الحز والقطع وفرض القوس أفرضته الحز الذي يقع فيه الوتر، وفرضه النهر ثلمته التي يستقي منها. أعلم أن الفاء مفتوحة في ما عرى عن التاء من هذه الأمثلة ومضمونة في ما دخلت عليه كما قاله الجوهري وغيره. قوله: فالفرض العطية الموسومة يقال: ما أصاب منه فرضًا ولا قرضًا. انتهى. اعلم أن هذا الكلام قد ذكره الجوهري بلفظه ولا شك أن الرسم في اللغة مطلق على الكتابة، قال الجوهري رسم على كذا وكذا أي كتب، والوشم بالواو يطلق علي العلامة فيجوز أن يكون اللفظ المذكور بالراء ومعناه العطاء المكتوب في الديوان، ولهذا قال الجوهري عقب ذكره لهذا الكلام فرضت له في الديوان، ويجوز أن يكون بالواو، وهو المذكور في الصحاح، ومعناه العطية التي أعلم، وبين الوقت الذي لها. قوله: وإن تعلق كالمرهون والعبد الجاني والمبيع إذا مات المشتري مفلسا قدم حق الغير. انتهى. وهذا الموضع فيه أشياء مهمة سبق إيضاحها في الجنائز فلتطالع منه. قوله: فمن مات، ولم يخلف من يرثه فماله لبيت المال يرثه المسلمون وفيه وجه آخر أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثًا له لأنه لا يخلو عن ابن عم، وإن بعد ثم قال: وأقامه القاضي الروياني قولًا عن رواية ابن اللبان، وانتهى كلامه.

فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يقتضي أن حكايته قولًا غريبًا غير معروف، وكلامه هو الغريب، فقد نص عليه الشافعي في "الأم" في كتاب الخلاف في المواريث، ولم يحك غيره. الثاني: أن التعليل بكونه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد ليس بلازم، فإن ابن الزنا لا عصبة له، وكذلك المنفي باللعان، وقد يكون هذا الميت من أحد القسمين. قوله: نقلًا عن المتولي فإن جعلناه إرثًا لم يجز صرفه إلى المكاتبين والكفار وفي جواز صرفه إلى العامل وجهان: وجه الجواز أن يهمه الاستعجال لا يتحقق هنا لأنه لا يتعين مصرفًا ماله وفي من أوصى له بشيء وجهان أيضًا: أحدهما: لا لأن لا يجمع بين الوصية والإرث ويخير بينهما والثاني، انتهى. والأصح على ما قاله في "الروضة" هو المنع في الأولى والجواز في الثانية. قوله: وإذا لم يحلف من يستغرق المال فهل يرد على ذوي الفروض غير الزوجين؟ فإن لم يكن صرف إلى ذوي الأرحام أو لا بل ينتقل الميراث إلى بيت المال فيه وجهان، أصحهما الثاني، هذا إذا استقام أمر بيت المال، فإن لم يستقم أمره، فإن لم يكن هناك إمام أو كان ولكنه جائر ففيه وجهان، صحح الشيخ أبو حامد والشيخ أبو إسحاق في "المهذب" الثاني، وأفتى أكابر المتأخرين وبالأول، انتهى ملخصًا. والصحيح هو الأول كذا نقله في "الروضة" من زوائده عن المحققين. وقال الماوردي في الحاوي: إنه مذهب الشافعي والذي ذكره المتأخرون، واقتضى كلام "الروضة" ترجيحه يشكل على قولهم إنه يجوز إعطاء الزكاة

إلى الإمام الجائر. قوله: فإن فضل شيء وقلنا: لا يصرف إلى ذوي الأرحام، فإن كان في يد أمين نظر إن كان هناك قاضي بشرطه مأذون له في التصرف في مال المصالح دفع إليه ليصرفه فيها، وإن لم يكن قاض بشرطه صرفه الأمين بنفسه إلى المصالح، وإن كان قاضي بشرطه غير مأذون له بالتصرف فهل يدفعه إليه أم يصرفه الإمام بنفسه؟ فيه وجهان في "التتمة"، وحكى أبو الفرج الزاز وجهًا أنه يوقف إلى أن يظهر بيت المال ومن يقوم مقامه بشرطه، وأما إذا لم يكن في يد أمين فيدفعه إليه ليفرقه. انتهى. والأصح هو الوجه الأول، فقد ذكر الرافعي في كتاب الشهادات في الكلام على التوبة ما يقتضيه كما سنقف على عبارته هناك وصرح بتصحيح هنا النووي من زوائده فقال: الثالث ضعيف، والأولان حسنان وأصحهما الأول ولو قيل يتخير بينهما لكان حسنًا، قال: بل هو عندي أرجح. قوله: وتقدم عليه أن من له سهم مقدر في الكتاب أو السنة فهو صاحب فرض، ومن ورث بالإجماع ولا فرض له فهو عصبة وقولنا بالإجماع احتراز من ذوي الأرحام. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا الضابط، ويرد عليه أمران: أحدها: إن لنا من يرث بالتعصب وهو ذو فرض كابن عم هو أخ لأم، أو زوج الثاني إن لنا في إرثه خلاف وهم عند من ورث عصبة كالقاتل والتوأمين المنتقيين بلعان، فصوابه أن يقال: من ورث مجمع على التوريث بمثله بلا تقدير فهو عصبة. قوله: وأما العصبة فضربان عصبة بنفسه وهو كل ذكر يدلي إلى الميت بغير واسطة أو يتوسطه محض الذكورة. انتهى. والجد الذي ذكره لا يطرد فإن الجد صادق على الزوج، ولهذا عده

الغزالي وغيره مما يدلي إلى الميت بنفسه كما قاله في "الروضة" ومع ذلك فإنه ليس بعصبة، ولا ينعكس أيضًا بخروج المعتقة. قال في "الروضة": ينبغي أن يقول: هو كل معتق وذكر نسيب يدلي إلى آخر ما تقدم. قوله: وظاهر قول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أن تنقص الأم عن الثلث باثنين منهم لكن يعبر بلفظ الجمع عن الاثنين فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الاثنان فما فوقهما جماعة". انتهى. وهذ الكلام الذي قاله -رحمه الله- غير مستقيم، فإن الجمع الذي هو حقيقة في الثلاث ويطلق على الإثنين مجازًا على المعروف وحقيقة على قول إنما هو في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة كرجال ومسلمين وهم، وأما صيغة الجمع أي الجيم والميم والعين، وما يصرف منها، فهو ضم شيء إلى شيء، ويطلق على الاثنين حقيقة بلا نزاع كما هو مقرر في علم الأصول، وصرح به الأمدي في "الأحكام" وابن الحاجب في "المختصر الكبير"، وقد أوضحت ذلك في "شرح المنهاج الأصولي" فلتطالع منه. قوله: عن قبيضة بن ذؤيب إلى آخره. قبيضة بقاف مفتوحة وباء موحدة مكسورة وصاد مهملة وهو التابعي المشهور المجمع على توثيقه وجلالته، ولد عام الفتح على المشهور كما قاله النووي في تهذيبه والقبيضة في اللغة كما قاله الجوهري هو ما تناولته بأطراف أصابعك. قوله: وعن بريدة. هو مصغر على وزن جهينة، وفي أوله باء موحدة. قوله: ويرث الأب بالفرض والتعصيب كما إذا اجتمع معه بنت أو بنت ابن فله السدس بالفرض للآية والباقي بالتعصيب للحديث، وهل الجد

كالأب؟ اختلف فيه الفرضيون. فقيل: نعم؛ وقيل: لا؛ بل نقول للبنت النصف والباقي للجد لأنا إنما جمعنا بينهما في حق الأب لظاهر الآية وهذا الخلاف يرجع إلى العبارة وما يأخذانه واحد. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا. وقال في "الروضة" من "زياداته": الأصح الأشهر هو الأول، وما أطلاقاه من كون الخلاف لفظيا ليس كذلك، بل فائدته في ما إذا أوصى بجزء وبما تبقى بعد الفرض كثلثه أو نصفه. قوله: لما روى عن هزيل بن شرحبيل. . . . إلى آخره. هزيل: بضم الهاء وفتح الزاي بالمعجمة تابعي جليل، قيل: إنه أدرك الجاهلية، كذا قاله النووي في "تهذيبه". قال: وشرحبيل بضم الشين المعجمة أعجمي غير مصروف. قوله: في المسألة المعروفة بالمشرَّكة قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: يسقطان يعنى الأخوين الشقيقين، وحكاه أبو بكر بن لال قولًا للشافعي. انتهى. والمشركة بفتح الراء وكسرها، ولال بلامين بينهما ألف على وزن مال، كما تقدم إيضاحه في مقدمة الكتاب. قوله: وبنو الأخوة كالأخوة لكن يخالفونهم في أربعة أمور، يحجبهم الجد ويسقطون في الشركة ولا يعصون أخواتهم ولا يردون الأم من الثلث إلى السدس بخلاف أبائهم. انتهى. أهمل -رحمه الله- ثلاثة أمور أخرى مشهورة عند الفرضيين وقد نبه عليها في "الروضة": أحدها: أن بني الأخوة لا يرثون مع الأخوات إذا كن عاصبات مع البنات.

الثاني: أن الأخ من الأب يحجب بني الأخ من الأبوين ولا يحجبهم. الثالث: أن الإخوة للأبوين يحجبون الإخوة للأب، وأولادهم لا يحجبونهم. قوله: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخوه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه" (¬1) انتهى. وسميت الأخوة الأشقاء: بني الأعيان، لأنهم من عين واحدة، وسميت أخوة الأب فقط بني العلات، بالعين المهملة واللام المشددة وبالتاء المثناة في آخره، لكونه قد تزوج ثانية بعد أولى قد كانت عنده مأخوذ من قولهم عله يعله عللا بفتح العين، إذا سقاه السقية الثانية. قال الجوهري. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2094)، (2095)، وابن ماجه (2715)، وأحمد (1221)، والحاكم (7967)، والدارقطني (4/ 86)، وأبو يعلى (625)، والبزار (839)، وعبد الرزاق (19003)، وابن أبي شيبة (6/ 294)، والبيهقي في الكبرى (121080)، والحميدي (55)، وابن المبارك في مسنده (165) وابن عساكر في تاريخ دمشق (38/ 351) من حديث علي - رضي الله عنه -، قال الألباني: حسن.

الفصل الثاني في التقديم والحجب

قال -رحمه الله-: الفصل الثاني في التقديم والحجب قوله: وإن كان لا يرث لتقدم غيره عليه فقد يحجب غيره حجب نقصان وذلك في أربع صور إلى آخره. أهمل صورة خامسة لابد منها، وقد نبه عليها في "الروضة" وهي أم وأخ لأبوين وأخ لأب فإن الأخ للأب هنا لا يرث مع أنه حجب الأم من الثلث إلى السدس. قوله: الثالثة أب وأم أب وأم أم تسقط ثم الأب بالأب، وفي نصيب أم الأم وجهان: أحدهما: نصف السدس لأن الأب هو الذي حجب أمه ورجع فائدة الحجب عليه. وأظهرهما: السدس لانفرادها بالاستحقاق وليس كما سبق أي في الأبوين مع الأخوة لأن الجد يرث بالوصية فلا يناسب جهة استحقاق الأب وهي العصوبة وهناك كل واحدة منهما ترث بالعصوبة فأمكن رد الفائدة إليه، انتهى كلامه. وهذا الفرق ذكره أيضًا الغزالي في "الوسيط" وهو يبطل بما إذا كان مع الأب والأم أو الجد أخوان لأم فإن فائدة سقوطهما ترجع إلى الأب مع أنهما يرثان بالفرض المحض والأب يرث بالتعصيب، وفرق بعضهم بأن رجوع أم الأم إلى نصف السدس لأجل مزاحمة أم الأب لها ليس هو حجبا لبقاء السبب المورث فلما زالت الزحمة أخذت جميع السدس، وصار ذلك كالابن ينفرد بالجميع إذا خلا عن المزاحم بخلاف الأخوة مع الأب فإنهم محجوبون به. قوله: الثالث يرث الكفار بعضهم من بعض كاليهودي من النصراني

والنصراني من المجوسي والمجوسي من الوثني وبالعكس، ووجه بأن الكفار على اختلاف فرقهم كالنفس الواحدة في معاداة المسلمين والتمالؤ عليهم، وقيل لا يرث أهل ملة من أهل ملة أخرى، وهذا كله إذا كان اليهودي والنصراني مثلًا ذميين أو حربيين، سواء كان الحربيان متفقي الدار أو مخلتفهما، وذلك بأن يختلف الملوك، ويرى بعضهم قيل بعض كالروم والهند خلافًا لأبي حنيفة، نعم لا يرث الحربي من الذمي والمعاهد والمستأمن في أصح القولين له. انتهى ملخصًا. وما جزم به من التوارث بين الحربيين المتحاربين قد تابعه عليه النووي في "الروضة" ثم جزم في "شرح مسلم" بأنهما لا يتوارثان فقال: قال أصحابنا وكذا لو كانا حربيين في بلدين متحاربين لم يتوارثا، هذه العبارة. ذكر ذلك في أول كتاب الفرائض، والذي قاله وهم نشأ من التباس كلام، أو غلط حصل من إسقاط منه أو من ناقل واعلم أن التمالؤ مهموز الأخير، ومعناه المساعدة والاجتماع كما قاله الجوهري. قال: ويقال مالأته على الأمر ممالأه. قوله: ولا بأس بإيراد مثال في المسألة: يهودي ذمي مات عن ابن مثله، وآخر نصراني ذمي وآخر يهودي معاهد، وآخر يهودي حربي، فالمال بينهم سوي الأخير على المذهب، انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، ولقائل أن يستشكل تصويره علي طريقته أي على طريقة النووي، فإن الصحيح عنده في من انتقل من دين يقر أهله عليه إلى مثله أنه لا يقر عليه ويكون كالمرتد في أحكامه قلنا صورته في ما إذا كان أحد أبويه يهوديا ولا آخر نصرانيا إما بنكاح أو وطء شبهة فإن الولد يخير بينهما بعد بلوغه كما جزم به الرافعي قبيل نكاح المشركات حتى لو ولدان اختار أحدهما اليهودية، والآخر النصرانية حصل التوارث بينهم

بالأبوة والأمومة والأخوة. قوله: ولا يرث المرتد أحدًا ولا يرثه أحد. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وقيده ابن الرفعة في "المطلب" بما إذا قتل أو مات على الرحة، فإن عاد إلى الإسلام تبينا إرثه. والذي قاله غلط فقد صرح الأستاذ أبو منصور البغدادي بالمسألة وحكى الإجماع على عدم وارثه في هذه الحالة. فقال: الفصل الخامس في مواريث المرتدين: أجمعوا على أن المرتد لا يرث من المسلم بحال سواء أسلم بعد ذلك أو مات مرتدًا هذا لفظه ذكره في كتابه المسمى "موارثة الأخلاف من الأسلاف" وهو نحو نصف الكتاب، ثم أنه مصادم للأحاديث الصحيحة؛ لأنه إذ ذاك كافر حقيقة كفرًا غير مقر عليه، والإسلام إنما وجد بعد ذلك. قوله: وإن قلنا بالجديد وهو أن المبعض يورث فالمال لمن له من قريب أو معتق، انتهى. ينبغي أن يقول أو زوجة فالمال لمن له من قريب أو معتق انتهى، ينبغي أن يقول. قوله: وإذا مات المتوارثان ولم يعلم أيهما تقدم موته لم يرث أحدهما من الآخر، ثم قال: وقال أحمد: يرث كل واحد عن الآخر تليد ماله دون طريقه، والمراد من التليد ما كان له ومن الطريف ما ورثه، انتهى. التليد بفتح التاء بنقطتين من فوق، والطريف بفتح الطاء المهملة، قال الجوهري في باب الفاء الطارف والطريف من المال هو المستحدث، وهو خلاف التالد والتليد، وقال في باب الدال: التالد المال القديم الأصلي الذي ولد عندك وهو نقيض الطارف وكذلك التلاد والإتلاد، وأصل التاء فيه واو يقول منه تلد يتلد ويتلد أي بالضم والكسر انتهى كلامه.

قوله: والتوأمان المنتفيان باللعان كيف يتوارثان؟ فيه وجهان، أصحهما أنهما لا يتوارثان إلا بأخوة الأم، ثم قال الثانية ولد الزنا كالولد المنفي باللعان إلا أن الوجه الذي حكاه الشيخ أبو محمد لا يشاع له هاهنا، فإن ولد الزنا لا يلحق الزاني بالاستلحاق فلا يتوارثان إلا بأخوة الأم، وعن "الحاوي" وجه ضعيف أنهما يتوارثان أيضًا بأخوة الأب وحكاه عن الخياطي. انتهى كلامه. وما نقله عن "الحاوي" أخذه من "الحلية" للشاشي فإنه نقله في هذا الباب عنه، وهو نقل صحيح، فقد صرح به الماوردي في كتاب اللعان فاعلمه، فإنه قد جزم هنا بأنهما لا يتوارثان إلا بأخوة الأم وادعى نفي الخلاف فيه. قوله: وإذا مضت على المعقود مدة يحكم الحاكم بأن مثلها لا يعيش فيها قسم ماله، ولا يشترط القطع بأنه لا يعيش أكثر منها، وقيل يشترط، ثم قال: فإن قيل فكيف الحال في اشتراط الحكم؟ فالجواب أن الذي ينبغي أن يقال أن القسمة إن كانت بالقاضي فقسمه تتضمن الحكم بالموت. انتهى. واعلم أن هذا الكلام صريح في أن التصرفات الصادرة من الحاكم لكونه حاكمًا متضمنة للحكم حتى لا يجوز نقضه إذا كان مختلفًا فيه وفي المسألة تعارض وفوائد مهمة تذكر إن شاء الله تعالى في كتاب النكاح عقب الكلام على الموائع فراجعه. قوله في أصل "الروضة": وإن اقتسموا بأنفسهم وظاهر كلام الأصحاب في اعتبار حكمه مختلف فيجوز أن يقال فيه خلاف إن إعتبرنا القطع فلا حاجة إلى الحكم، وإلا فلابد منه لأنه في محل الاجتهاد. انتهى. وهذا الكلام لا يؤخذ منه ترجيح فإنه لم يجزم بالبناء المذكور وإنما جوزه، وقد جزم في "الشرح الصغير" بترجيح الاشتراط، فقال: ولفظ الكتاب يشعر باعتبار حكم الحاكم وهو الظاهر هذا لفظه، ولفظ "الكبير"

محتمل لإرادة هذا الترجيح، فإنه ذكر عقب مسألة أخرى، لكن حذفه النووي. قوله: واعلم أنه تشترط الحياة عند تمام الإنفصال فلو خرج بعضه حيًا، ثم انفصل ميتًا فهو كما لو خرج ميتًا في الإرث وسائر الأحكام حتى لو ضرب بطنها بعد خروج بعضه، وانفصل ميتًا فالواجب الغرة دون الدية، هذا هو الصحيح الذي عليه الجماهير، وعن القفال وغيره أنه إذا خرج بعضه ورث، وإن انفصل ميتًا وبه قال أبو خلف الطبري. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه وفيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يقتضي أن الجنين إذا خرج بعضه فحز رجل رقبته لا يجب فيه القصاص ولا الدية كما لو كان فحشا وليس كذلك بل الصحيح الوجوب كما لو خرج جميعه كذا صححه الرافعي في أول الكلام على دية الجنين وتبعه عليه "الروضة". الثاني: أن الرافعي قد نقل عن القفال في كتاب الأطعمة عكس ما نقله عنه هاهنا فقال: وإن خرج رأس الجنين وفيه حياة مستقرة. قال في "التهذيب" لا يحل بذبح الأم لأنه يقدر على ذبحه، وعن القفال أنه يحل؛ لأن خروج بعض الولد لعدم الخروج هذا لفظه وذكر أيضًا في دية الجنين مثله، فإنه ذكر أنه إذا ضرب بطن المرأة فماتت ولم ينفصل الجنين لا يجب على الضارب شيء، فإن انفصل بعضه وجب، ثم قال: ويحكى عن القفال أن المعتبر الانفصال التام ليستعل وسالم ينفصل كان كالعضو من الأم واستشهد له بأن انقضاء العدة ووقوع الطلاق بالولادة، وسائر الأحكام لا تتعلق بخروج بعض الولد، بل بالانفصال التام هذا كلامه. قوله: ولو ذبح رجل فمات أبوه وهو يتحرك لم يرثه المذبوح وقيل يرثه. قال في "الروضة" هذا الوجه غلط ظاهر فإن أصحابنا قالوا: من صار في

حال النزع فله حكم الميت فكيف الظن بالمذبوح. والله أعلم. وما ذكره في الذي قد نازع شرطه أن يكون مجروحًا بأن كان مريضًا وانتهى إلى هذه الحالة بسبب المرض فله حكم الأحياء في الأحوال كلها، كذا صرح به الرافعي في أوائل الجنايات في الطرف الرابع المعقود لاجتماع مباشرين، وصرح بأنه لا فرق بين أن ينتهي النزع أم لا، وذكر نحوه في باب العاقلة وفي الأضحية وذكر فيها أعني في الأضحية أن الشاة إذا أكلت نباتًا مضرًا فصارت إلى أدنى الرمق، فهل تحل بالذبح على وجهين حكاهما ابن كج عن شيخه ابن القطان، وحكى عنه أنه قطع بعد ذلك بعدم الحل لأنا وجدنا سببًا يحال عليه الهلاك فصار كجرح السبع، وما ذكره هناك يأتي أيضًا في الآدمي وسوف أذكر إن شاء الله تعالى هذه المسألة في الجنايات لغرض آخر فاعلمه وراجعه. قوله: فإن لم تظهر مخايل الحمل وادعته المرأة ووصفت علامات خفية ففيه تردد للإمام، والظاهر الاعتماد على قولها. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وهو صريح في أن محل التردد عند الإمام إنما هو في ما إذا وصفت لنا المرأة العلامات الخفية وليس كذلك، بل ذكر الإمام هذا التردد بمجرد دعواها فلم يشترط فيه وصفها بعلامات لا خفية ولا ظاهرة وإنما ذكر العلامات تعليلًا للقبول، فإنه حكى ترددًا في ما إذا لم تدع المرأة الحمل، ولكن كانت قريبة عهد بوطء يحتمل العلوق ثم قال ما نصه: وكذلك إذا ادعت المرأة العلوق ولا علامة، وقد يظهر التعويل على قولها لأنها قد تجد من نفسها علامات لحيض هي تدركها، وقد يجوز أن يقال: لا تعويل على تلك العلامات فإنها فيما يقال غثيان ولا تعويل على مثل ذلك هذا كلامه، وقد ذكره الرافعي في "الشرح الصغير" على الصواب فقال: وإن لم تظهر مخايله وادعته المرأة ففيه تردد للإمام هذا لفظه. قوله: وعن ابن المرزبان أن امرأة بالأنبار ألقت كيسًا فيه اثنا عشر ولدًا،

انتهى. الأنبار بنون ثم باء موحدة وفي آخره راء مهملة. قوله: المال الموقوف بسبب الخنثى لابد من التوقف فيه مادام الخنثى باقيًا على إشكاله، فإن مات فالمذهب أنه لابد من الاصطلاح عليه، وحكى أبو ثور عن الشافعي -رحمه الله- أنه يرد إلى ورثة الميت الأول، وإذا اصطلح الذي وقف المال بينهم على تفاوت أو تساوٍ جاز. قال الإمام: ولابد وأن يجري بينهما تواهب وإلا لبقى المال على صورة التوقف، وهذا التواهب لا تكون إلا عن جهالة لكنها تحتمل للضرورة، ولو أخرج بعضهم نفسه من البين ووهبة لهم على جهل بالحال جاز أيضًا، انتهى. وما أطلقه من الاصطلاح على تساوٍ أو تفاوت محله إذا لم يكن فيهم محجور عليه، فإن كان فقد ذكر الرافعي في نكاح المشركات في ما إذا أسلم على ثمان نسوة مثلًا، وأسمن معه ثم مات قبل الاختيار أنه لا يجوز لولي المحجور عليها أن يصالح على أقل مما يدها عليه وهو الثمن في مثالنا، وقيل لا ينقص عن الربع ولابد من مراعاة ذلك في مسألتنا أيضًا. قوله: وأما توريث ذوي الأرحام، فالذاهبون منا إليه اختلفوا في كيفيته فأخذ بعضهم مذهب أهل التنزيل أي الذين قالوا يتنزل كل فرع منزلة أصله، ومنهم من أخذ بمذهب أهل القرابة أي الذين يورثون الأقرب فالأقرب، انتهى ملخصًا. قال في "الروضة" من "زياداته": الأصح الأقيس: مذهب أهل التنزيل.

الفصل الثالث في "أصول الحساب"

قال -رحمه الله-: الفصل الثالث في "أصول الحساب" قوله: والأصول في هذا النوع سبعة عند المتقدمين ومن المتأخرين من يزيد أصلين وهما ثمانية عشر وستة وثلاثين في مسائل الجد والأخوة حيث يكون الثلث جبرا فالأول في كل مسألة فيها سدس وثلث ما بقي وما يتبقى كأم وجدّ وأخوة والثاني في كل مسألة فيها ربع وسدس وثلث ما بقي، وما تبقى لزوجة وأم وجدة وأخوة ومن لم يقل بالزيادة يصحح المسألتين بالضرب، فالأولى من ستة الأم سهم يبقى خمسة تضرب ليخرج الثلث في الستة يبلغ ثمانية عشر، والثانية من اثنى عشر يخرج بالفرضين خمسة ثم يضرب مخرج الثلث في اثني عشر يبلغ ستة وثلاثين فاستضرب الإمام والمتولي صنيع المتأخرين لأن ثلث ما تبقى والحالة هذه مضموم إلى السدس والربع، فلتكن الفريضة من مخرجها، واحتج المتولي بأنهم اتفقوا في زوج وأبوين إنها من ستة، ولولا جعلها من النصف وثلث الباقي لكانت من اثنين للزوج سهم يبقى سهم فيصرف مخرج الثلث في اثنين فيبلغ ستة. واعلم أنه قد يتفق في صور الجد نصف وثلث ما بقي كبنت وجد وأخوة فيحتمل أن يكون من ستة قطعًا، كما ذكر في زوج وأبوين ويحتمل أن يطرد فيه الخلاف، انتهى كلامه. وما حكاه من الاتفاق في زوج وأبوين تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك فإن الخلاف فيه أيضًا، كذا حكاه ابن أبي الدم في "شرح الوسيط" وأما الاحتمالات في المسألة الأخيرة فالأصح منهما على ما قال في "الروضة" هو الاحتمال الأول. قال: والمختار الأصح في أصل المسألة طريق المتأخرين، كما اختاره الإمام كما سبق ولكونها.

قوله: وقول صاحب الكتاب يعني "الوجيز" ومعنى العول: الرفع لو ذكر بدل الرفع الارتفاع لكان أحسن، فإن الأزهري وغيره فسروه بالارتفاع والزيادة، وقالوا: عالت الفريضة أي ارتفعت، مأخوذ من قولهم عال الميزان فهو عائل أي مال وارتفع على أن بعضهم يقول عالت الفريضة وأعالها فبعد به، انتهى كلامه. وأشار -رحمه الله تعالى- إلى أن الرفع متعد والعول قاصر فلا يكون معنى أحدهما معنى الآخر بخلاف الارتفاع، فإنه مصدر ارتفع، وارتفع قاصر فيكون مطابقًا للعول. وإذا علمت الذي يشير إليه علمت أن تفسير العول بالارتفاع أصوب وليس بأحسن كما عبر هو. قوله: واعلم أنَّا لو حاولنا استيعاب هذه الأحوال بالأمثلة لطال الشغل وقَلَّ النزل فتقتصر على الأهم ونرجو أن يتضح به الباقي، انتهى كلامه. أما الشغل فمعروف وفيه لغات حكاها الجوهري منها فتح الشين والغين، وأما النزل بضم النون وسكون الزاي المعجمة فله معنيان حكاهما أيضًا الجوهري. أحدهما: ما تهيأ للنزيل يعني الضيف. والثاني: الريع يعني الفائدة وفيه طعام كثير الترك أي الدفع، قال: ويجوز فيه على هذا المعنى فتح نونه وزائه، إذا علمت ذلك فيجوز لك أن تقرأ كلام الرافعي بالفتح في اللفظين، وكذلك بالضم مع الإشكال فيهما والمعنى واضح بما تقدم. قوله في المناسخات: فللمسألة حالتان، إحداهما: أن ينحصر ورثة الميت الثاني في الباقين، ويكون الإرث من الثاني على حسب إرثهم من الأول فيجعل كأن الميت الثاني لم يكن وتقسم التركة على الباقيين، ويتصور ذلك في ما إذا

كان الإرث عنهما بالعصوبة، كمن مات عن أخوة وأخوات من الأب ثم مات أحدهم عن الباقيين وفي ما إذا كان الإرث عنهما بالفرضية كما إذا ماتت عن زوج وأم وأخوات مختلفات الآباء ثم نكح الزوج إحداهن فماتت عن الباقيين، وفي ما إذا كان بعضهم يرث بالفرضية وبعضهم بالعصوبة كما إذا مات عن أم وأخوة لأم ومعتق، ثم مات أحد الأخوة عن الباقيين، ولا فرق بين أن يرث كل الباقين من الباقي أو بعضهم كما إذا مات عن زوجة وبنين وليست الزوجة أم البنين، ثم مات أحد البنين عن الباقين. انتهى. والمثال الأول المذكور الإرث عنهما بالتعصيب صحيح وأما الأمثلة الثلاثة الباقية فقد تابعه عليها في "الروضة" ولنذكر لك ما فيها فنقول: أما الكلام على المثال الأول فلنقدم عليه أن ما ذكره من اختلاف إلا ما يصدق بأن لا يكون فيه شقيقه للميت بأن تكون الأخوات الأربع لأم فقط أي من أربعة آباء، ويصدق بأن يكون فيهن ذلك، فإن أراد الرافعي الأول فهو غلط وإن اتحدت نسبة ما للوارثين في المسألتين فإن للزوج من كل منهما النصف وللأم السدس ولأخوة الأم الثلث ووجه الغلط أنه لا يمكن أن يستعمل ما ذكره الرافعي من تقدير الميت الأول كأنه لم يكن وقسمة التركة على الباقين وذلك لأن الزوج له النصف كاملًا من الميت الأول ونصف ما يخص الميت الثاني فلو قسمنا التركة بتقدير فقدان الأول لأعطينا له النصف فقط، وهو دون حقه وكذلك يلزم بنقيض حق الأم أيضًا، والزيادة على نصيب أخوة الأم وهو واضح، وإن أراد الثاني وهو ما إذا كان فيهن شقيقة للميت لم يصح أن نقول: ثم نكح الزوج إحداهن فإنه لا يستقيم إلا على تقدير نكاحه الشقيقة فقط، وبيان صحته على هذا التقدير أن مسألة الميت الأول من ستة وتعول إلى تسعة لاشتمالها على نصفين وثلث وسدس، فإذا كانت التركة مثلًا تسعة دنانير فللزوج فيها من تركة الأولى ثلاثة، ومن تركة الثانية دينار ونصف لأنها أخذت أيضًا ثلاثة صارت الجملة أربعة ونصفًا وذلك نصف المجموع،

وهكذا نفعل في الأم والأختين للأم فظهر أن المقدار لا يختلف فيقدر كأن الميت لم يكن وتقسم التركة على الباقيين، وتصح المسألة حينئذ من ستة وأما على تقدير غير الشقيقة فلا يصح لاختلاف المقدار، ألا ترى أن الشقيقة باقية على هذا التقدير وإرثها من الأولى النصف ومن الثانية السدس ولاشك أن الاحتمال الأول هو مراد الرافعي لتوهمه الاكتفاء باتحاد نسبة ما لكل وارث في المسألتين، ويدل عليه وقوعه أيضًا في ما سيأتي. وأما المثال الثاني: وهو أم وأخوة لأم ومعتق فغلط أيضًا، وسبب الغلط توهمه أن اتحاد يكفي فإن الأم السدس في كل من المسألتين ولأخوة الأم الثلث فيهما وللمعتق الباقي وإيضاح الغلط يعرف مما سبق وبيانه أن الأم لها سدس المال كاملًا من الميت الأول ولها من الثاني سدس نصيبه من الثلث ولأخوة الأم من الأول سدس المال كاملًا، ومن الثاني أيضًا ثلث ما يخصه من الثلث، وللمعتق النصف كاملًا من الأول ونصف نصيب الثاني فالقسمة على ما ذكره الرافعي يقتضي الزيادة في نصيب الأم وأخوة الأم والنقصان من نصيب المعتق، وأما المثال الثالث فالحكم الذي ساقه لأجله له شرطان: أحدهما: ولم يذكره الرافعي أن لا يخلف من التركة غير ما حصل له من الميت الأول، وألا يخص الزوجة زيادة على ما تستحقه من الأول. الشرط الثاني: أن لا يكون الميت الثاني أمَّا له، وأما اشتراط الرافعي كون الجميع من غيرها فليس كذلك، لأن المقصود أن لا يرث من غير الميت الأول، وهذا حاصل ما ذكرناه. قوله في المسائل الملقبة: ومنها الامتحان وهي أربع نسوة وخمس جدات وسبع بنات وتسع أخوات لأب هي من أربع وعشرين وتصح من ثلاثين ألفًا ومائتين وأربعين. انتهى. وسميت بالامتحان لأنه يقال ورثة لا تبلغ طائفة منهم غريم لم تصح مسألتهم من أقل من كذا.

قوله: وتقرر من ذلك تصحيح مسائل الحمل تفريعًا على أن أكثر عدد الحمل أربعة ثم قال: المثال ابن وأمه حامل إن كانت حاملًا بولد فالمسألة في إحدى الحالتين أي تقدير الذكورة من اثنين وفي الثانية أي الأبوية من ثلاثة إلى آخره. وتعبيره بقوله أمة هو بفتح الهمزة والميم وبالتاء في آخره، إن الأمة لا ميراث لها فتصح المسألة لأجل ذلك مما ذكره، وأما أم الابن فيلزمه تقييدها كأنها لا ترث وإلا فسد عليه العمل وهو أوضح.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في الأركان قوله: ويستحب أن يوصي من له مال. انتهى. ذكر الرافعي في كتاب الصداق في الكلام علي التشطير ما يعارض ذلك فقال: والتدبير يمنع الرجوع دون الوصية بالعتق في أظهر الأوجه. قال لأن الإيصاء ليس عقد قربة بخلاف التدبير، هذه عبارته، ومراده أن التدبير لا يكون إلا قربة والإيصاء قد يكون قربة كما في مثالنا، وقد لا يكون كالإيصاء للأغنياء ونحوهم. قوله: ومن عنده وديعة أو في ذمته حق لله تعالى كزكاة أو حج أو دين لآدمي يجب عليه أن يوصي به إذا لم يعلم به غيره، انتهى. وهذا الذي قاله من أن علم الغير يغني عن الإيصاء ليس على إطلاقه بلا شك لأن الكافر والفاسق والصبي والعبد والمرأة لا يكفي علمهم بذلك مع دخولهم في هذه العبارة، وحاول في "الروضة" التنبيه على ضابط ذلك. فقال من زياداته ما نصه: المراد إذا لم يعلم به من يثبت بقوله هذا لفظه، وهو غير كافٍ أيضًا، فإن قول الورثة كافٍ في الثبوت مع أن المتجه أن علمهم لا يكفي لأنهم الغرماء، فلابد من حجة تقوم عليهم عند إنكارهم، وأيضًا، فإن كلامه يقتضي أن الشاهد الواحد لا يكتفي، فإن الحق لا يثبت بشهادته وحده بلا نزاع، ولكن القياس تخريجه على ما إذا وكله في قضاء دينه، بحضرة شاهد واحد، والصحيح فيه الاكتفاء بذلك حتى لا يضمن الوكيل عند إنكار القارض ودعواه عند قاض لا يرى الحكم بالشاهد واليمين، وأيضًا فإن الوكيل المذكور لو أشهد على الأداء رجلين

ظاهرهما العدالة فإن الصحيح أنه كان أيضًا في عدم الضمان وقياسه أن يكون هنا مثله أيضًا مع أن الحق لا يثبت بشهادتهما فهو وارد عليه، وقد أعاد الرافعي المسألة في الباب الرابع المعقود للوصاية، وأجاب فيها بما يخالف المذكور هنا، وسوف أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: وعدّوا من هذا القبيل أي من المعصية الوصية كدهن سرج البيع، لكن قيد الشيخ أبو حامد المنع بما إذا قصد تعظيم البقعة، وأما إذا قصد إنتفاع المقيمين أو المختارين بضوئها جازت الوصية، كما إذا أوصى بصرف شيء إلى أهل الذمة. انتهى. هذا الذي نقله عن الشيخ قد صرح به جماعة كبيرة منهم البندنيجي في تعليقه وصاحب "العدة" و"الفوراني" في كتاب "الجزية" وقد نقل عنهم ابن الرفعة فليكن التقييد هو المعمول به. قوله: ويجوز الوصية بعمارة قبور الأنبياء إلى آخره. فيه كلام سبق في الوقف فراجعه. قوله: وإذا أوصى لحمل فلانة أو لحملها الموجود فلابد لنفوذها العلم بوجوده عند الوصية بأن ينفصل لأقل من ستة أشهر فلو انفصل لستة أشهر فصاعدًا نظر إن كانت المرأة فراشًا لزوج أو سيد لم تستحق شيئًا إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن الصواب في الستة أشهر أنها ملتحقة بما دونها لا بما فوقها كما ذكره الرافعي وتبعه عليه في "الروضة" لأنها أقصر مدة للحمل فإذا فرضنا ابتداؤها عند الوصية فيمتد إلى استكمالها وهو واضح، ولهذا قال الرافعي في "العدد" أن أقصى ما بين اليومين ستة أشهر. الأمر الثاني: أن ما ذكره من بطلان الوصية إذا كان للمرأة زوج أو سيد يغشاها شر إمكان اللحوق به فلو كان بين أول فراشه والوضع دون أقل مدة

الحمل كان وجود فراشه لعدمه، وتعليلهم يدل عليه. قوله: فرعان: أحدهما: لو قال أوصيت لنصفه الحر أو لنصفه الرقيق خاصة عن القفال بطلان الوصية قال: ولا يجوز أن يوصي بعض شخص كما لا يرث. وقال غيره: يصح وينزل تقييد الموصي بمنزلة المهيأة فيكون للوصي به للسيد إن أوصى لبعضه الرقيق وله أن يوصي لبعضه الحر. انتهى. والصحيح هو الوجه الثاني كذا صححه في الروضة من زياداته. قوله: الثاني: تردد الإمام في ما إذا صرح بإدراج الأكساب النادرة في المهيأة أنها هل تدخل قطعًا أم تكون على الخلاف، وفي ما لو عمت الهبات والوصايا في قطرانها هل تدخل قطعًا أم يكون على الخلاف. انتهى. قال في "الروضة": الراجح طرد الخلاف مطلقًا لكثرة التفاوت. قوله: ولو أوصى لمكاتب وارثه، فإن عتق قبل موت الموصي نفذت الوصية وكذا لو عتق بعده بأداء النجوم وإن عجز ورق صارت وصية الوارث. انتهى كلامه. وما ذكره من تنفيذ الوصية في ما إذا أعتق بعد الموت، قد تابعه عليه في "الروضة" والصواب بناؤه على خلاف سبق في الوصية لعبد الأجنبي، وقياس ذاك أنه إن قبل الوصية، ثم أدى، فالوصية للسيد الوارث، وإن أدى ثم قبل، فإن قلنا: إن الوصية تملك بالموت، أو قلنا: تملك بالقبول الملك من يوم الموت بالاستحقاق للسيد أيضًا وإن قلنا: تملك بالقبول، فللعبد. قوله: ثم عتق المدبر والوصية له معتبر أن من الثلث، فإن وفي بأحد الأمرين من التدبير والوصية بأن كان المدبر يساوي مائة والوصية بمائة وله غيرهما مائة فوجهان: أحدهما وبه قطع الشيخ أبو علي يقدم رقبته فيعتق كله، ولا شيء له بالوصية وأصحهما عند البغوي يعتق نصفه والوصية عن بعضه حر وبعضه

رقيق للوارث. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" هو الأول. قوله: الثالثة: إذا أوصى لدابة الغير وقصد تمليكها أو أطلق. قال الأصحاب: الوصية باطلة وقد سبق في الوقف المطلق عليها وجهان في كونه وقفًا على مالكها فيشبه أن تكون الوصية على ذلك الخلاف، وقد يفرق بينهما بأن الوصية تمليك فينبغي أن يضاف إلى من تملك، والوقف ليس بتمليك محض، بل ليس بتمليك إذا قلنا أنه يزول الملك فيه إلى الله تعالى. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ترجيحه هنا لآخر الخلاف مناقض لما ذكره في كتاب الوقف في الكلام علي الوقف على البهيمة فإنه استدل على البطلان بالوصية لها ولا يصح القياس إلا إذا كان المخالف. الأمر الثاني: أن الذي قاله من كون الخلاف الوقف ليس بتمليك إذا قلنا بأنه لله تعالى ليس كذلك، بل هو تمليك بلا خلاف غير أنه تمليك للمنافع لا للرقبة، وقد صرح الرافعي بذلك في الكلام على الوقف على غير المعين، وفي الكلام على الصيغة في الوقف وقال في "الروضة" من "زوائده": الفرق واضح وكأنه استند للفرق المذكور، وقد علمت ضعفه. قوله: "ففي كل كبد حراء أجر" (¬1). أعلم أن حرى على وزن عطيتني، ومشتق من الحرة بكسر الحاء وهو العطش، يقول: منه رجل حران وامرأة حرى، لعطشان وعطشى، والجمع: ¬

_ (¬1) ورد هذا مرفوعا فقد أخرجه ابن ماجه (3686)، وأحمد (17623)، والحاكم (6599)، والطبراني في الكبير (6598)، والحميدي (902)، والقضاعي في مسند الشهاب (112) (114)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1031)، من حديث سراقة بن مالك - رضي الله عنه -. قال الألباني: صحيح، قلت: وأصله في الصحيحين بلفظ: "رطبة" بدل: حراء.

الحرار كالعطاش، قاله الجوهري. قوله: والثاني: إذا انتقلت الدابة من مالكها إلى عبده فقياس كون الوصية للدابة الاستمرار لها وقياس كونها للمالك اختصاصها بالمنتقل عنه، انتهى. قال في "الروضة": فالقياس اختصاصها بالمنتقل إليه كما سبق في الوصية للعبد. قوله: وتجوز الوصية للذمي بلا خلاف كما يجوز التصدق عليه، انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على دعوى عدم الخلاف وليس كما قال، بل فيه وجه أنه لا تصح الوصية له، كذا رأيته في "الشافي" للجرجاني قبل باب حكم الوصايا في الثلث فقال: بعد تقريره أن الوصية لجهة المعصية لا تصح ما نصه بخلاف ما لو أوصى لذمي أو لحربي حيث صحت على أحد الوجهين لأنه مباح فصح كما تصح صدقة التطوع عليهم هذا لفظه، وقد حكى هذا الخلاف أيضًا ابن يونس صاحب "التعجيز" في شرحه "للتعجيز". قوله: ولو أوصى لوارث أو لأجنبي ولكن بزيادة على الثلث فالوصية موقوفة علي إجازة الورثة، فإن أجازوا صح وإلا فلا. هذا إذا قلنا إجازتهم تقييد لما فعله الميت وهو أصح القولين، فإن قلنا: إنها ابتداء عطية من الوارث فالوصية باطلة، فإن جعلناها تنفيذًا كفى لفظ الإجازة، وإن جعلناها عطية مبتدأة لم يكف اللفظ المذكور بل لابد من لفظ "التمليك" ونحوه كلفظ الإعتاق إن كان الموصى به إعتاقا، انتهى. ويتجه أن يكون الخلاف المذكور في أنه صريح أم لا، وأما كونه كناية فلا شك في صلاحيته له. قوله: والهبة في مرض الموت للوارث والوقف عليه وإبراؤه من دين كالوصية ففيها الخلاف السابق، انتهى.

ذكر -رحمه الله- في كتاب الجنايات في أوائل العفو عن القصاص كلاما مخالفا للمذكور هنا أو مقتضيًا لتخصيصه فراجعه، فإنه أذكر إن شاء الله تعالى. قوله: ولو كانت الوصية بعبد معين وأجاز الوارث ثم قال: كنت أظن أن التركة كثيرة وأن العبد خارج من ثلثها فثبت خلافه أو ظهر دين لم أعلمه أو تبين لي أنه تلف بعضها، فإن قلنا: الإجازة ابتداء عطية صحت ثم قال: وإن جعلناها تنفيذًا وإمضاءً فقولان نقلهما صاحب "الشامل" وغيره، أحدهما الصحة للعلم بالعبد. والثاني: أنه يحلف ولا يلزم إلا الثلث كما في الوصية بالمشاع وهذا ما أورده المتولي. انتهى. ذكر في "الروضة" أيضًا مثله، والصحيح هو القول الأول أعني الصحة، كذا صححه النووي في "تصحيح التنبيه"، ونقله في "الكفاية" عن تصحيح البندنيجي والروياني. قوله: ولو أوصى لوارثه بماله فالوصية باطلة ويأخذ التركة بالإرث، وقيل: تصح ويأخذها بالوصية. قال في "التتمة": وفائدة الخلاف فيما إذا ظهر دين فإن قلنا: يأخذها إرثا، فله إمساكها وقضاء الدين من غيرها. وإن قلنا: بالوصية، فلصاحب الدين أن يمتنع من أخذ غيرها، انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: ومن فوائده لو حدثت من عين التركة زوائد إن قلنا: وصية، لم يملكها، وإن قلنا: إرث، ملكها على الصحيح. هذا لفظه وفيه أمران: أحدهما: أن دعوى ملك الزوائد على القول بالوصية لا يستقيم لأن الزيادة الحادثة، وإن لم يملكها الموصى له لكن يملكها الوارث والموصى له

هاهنا هو الوارث فيملكها علي كل حال غير أنه لا لكونه موصى له، بل لكونه وارثًا. الثاني: أن حكاية الخلاف في كونه يملكها أم لا على القول بأنها إرث لا تصح أيضًا إذ لا خلاف في أن الوارث يملك وإذا وضح هذا الإشكال على الفائدة الثانية، وصح أيضًا على الفائدة الأولى، لأنا وإن قلنا: أخذ على سبيل الوصية، لكن الدين يمنع من تمليك الموصى له، وحينئذ فتكون على ملك الورثة ويلزم منه أن يجوز له إمساكه وقضاء الدين من غيره كما قلناه. قوله: ولو وقف دارًا في مرض موته على ابنه الحائز لميراثه، وكانت الدار تخرج من الثلث. وقلنا: بالصحيح، أن الوصية للوارث تصح إذا حصلت الإجازة فليس للوارث إبطال الوقف في شيء منهما؛ لأن المريض إذا تمكن من قطع حق الوارث عن الثلث بالكلية فتمكنه من وقفه عليه أولى. وقال القفال: له رد الوقف في الجميع، والمشهور الأول ثم ذكر الإمام أن صورة المسألة في ما إذا نجز الوقف في مرضه، وكان الابن طفلا فقبله له ثم مات فأراد الابن الرد أو الإجازة، ولكن لا حاجة إلى هذا التصوير؛ لأنه وإن كان بالغًا فقبل لنفسه لم يمتنع عليه الرد بعد الموت، فإن الإجارة المعتبرة هي الواقعة بعد الموت، انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من الرد على الإمام قد تابعه عليه النووي في "الروضة" وابن الرفعة في "الكفاية" وهو ذهول عجيب فإن الصحيح على ما قاله الإمام في كتاب الوقف وتبعه أيضًا عليه هناك الرافعي والنووي اشتراط القبول في الوقف على معين، فلا جزم احتاج الإمام في تصوير المسألة لما ذكره لأن القبول لابد منه لاسيما وهو على الفور عند من شرطه، وإن كان حكمه حكم الوصية في حسبانه من الثلث كما لو وهب في مرضه شيئًا

لأجنبي فلابد من القبول على الفور، وإن كان حكمه كالوصية وكيف يمكن أن يجبره في حياته على تمليك بأجر ولأنه إذا لم يقع قبول بالكلية لم يحصل الوقف والكلام في أنه هل يملك إبطاله أم لا؟ نعم إن قلنا لا يحتاج الوقف إلى القبول فله الرد في غير صورة المسألة وإما فيها ففيه نظر. قوله: ولو كان له ابن وبنت فوقف دارًا عليهما نصفين والثالث يحتملهما، فإن رضي الابن فهي كما وقف وإلا فظاهر كلام ابن الحداد أن له رد الوقف في ربع الدار وقال الشيخ أبو علي: عندي أنه ليس للابن إبطال الوقف إلا في سدس الدار. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": قول أبي علي هو الأصح أو الصحيح أو الصواب. قوله: ويصح برقبة المكاتب إن جوزنا بيعه وإلا فقد قال في "التتمة" هو كما لو أوصى بمال الغير، وإذا أوصى بمال الغير فقال: أوصيت بهذا العبد وهو ملك لغيره أو لهذا العبد إن ملكته فوجهان: أحدها أنها صحيحة لأن الوصية بغير الموجود جائزة فبغير المملوك أولى. والثاني: المنع لأن مالكه يتمكن من الوصية به والشيء الواحد لا يجوز أن يكون محلًا لتصرف شخصين، وبهذا أجاب صاحب "الكتاب" في "الوسيط"، انتهى كلامه. واعلم أن المفتى به في هاتين المسألتين مختلف وإن كان كلام الرافعي هذا يوهم اتحادهما في الحكم فأما الأولى فهي ما إذا لم يأت بصيغة الشرط، بل اقتصر على قوله: أوصيت بهذا العبد، فإن الوصية باطلة كما جزم به الرافعي في كتاب الكتابة في الحكم الثالث من النظر الثاني، غير أن النووي قد أسقطه من "الروضة"، وإذا تقرر فيه البطلان كان الحكم كذلك أيضًا في المكاتب لأن الرافعي قد نقل هنا عن "التتمة" أنه مثله وأقره عليه، وقد صرح به الرافعي أيضًا أي البطلان في المكاتب بخصوصه في كتاب الكتابة في

الموضع المذكور ولم يحك فيه خلافًا وتبعه عليه في "الروضة" وقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" عليهما، وصرح بالبطلان فيهما فقال في باب الكتابة في أول باب الوصية بالمكاتب ما نصه: قال الشافعي: وإذا أوصى الرجل بمكاتبه لرجل لم تجز الوصية لأنه لا يملك أن يخرجه عن ملكه إلى ملك غيره بحال ما كان على الكتابة. قال: ولو عجز المكاتب بعد موته أو قبله لم تكن الوصية جائزة لأنه أوصى له به وهو لا يملك إخراجه إلى ملك الموصى له به، كما لو قال متى ماتت لفلان -لعبد ليس له- لفلان فلم يمت حتى ملكه لم يكن له حتى يحدث له بعد ملكه، وعجز المكاتب وصية به، هذا لفظ الشافعي بحروفه ومن "الأم" نقلته. وأما المسألة الثانية وهي ما إذا قال: أوصيت بهذا العبد إن ملكته، فإنها تصح كما ذكره الرافعي في الموضع المذكور من كتاب الكتابة أيضًا، وأجاب أيضًا بمثله في الوصية بالمكاتب، ولنذكر لك عبارة الرافعي لتقف عليها، فتقول: قال ما نصه: أما الوصية بالمكاتب فهي جائزة على القول القديم الذي يجوز فيه البيع، وعلى الجديد باطلة لأنه ممنوع من التصرف في منفعته ورقبته فأشبه ما إذا أوصى بعبد الغير، فإن قال: فإن عجز مكاتبي فقد أوصيت به فالأصح الصحة كما لو قال: إن ملكت عبد فلان فقد أوصيت به، والإمام طرد الخلاف في هذه الصورة وجعلها أولى بالبطلان هذا كلامه، وفيه مخالفة للمذكور في الوصية من وجوه: أحدها: وهو الصواب فكيف يكون في الوصية بمال الغير خلاف مع أنه لا يجوز بيعه ويجزم ببطلان الوصية بالمكاتب، إذا قلنا: لا يجوز بيعه، مع أن المكاتب إذا قلنا: لا يجوز بيعه لا يزيد حالة على ملك الغير بل هو أولى بالصحة لأنه ملكه.

ثانيها: أن كلامه في الكتابة يقتضي الاتفاق على بطلان الوصية بمال الغير، فإنه جزم به وجعله تعليلًا لبطلان الوصية بالمكاتب وسوى بينهما في باب الوصية، وحينئذ فكيف يصح تعليل أحدهما بالآخر. ثالثها: أنه في الكتابة فرق بين الوصية بعبد الغير وبين قوله إن ملكت عبد فلان فقد أوصيت به، فقطع في الأول بالبطلان ورجح في الثاني الصحة، لأنه قاس الأصح على الأول، وفي كتاب الوصية جعلها على حد واحد. واعلم أن النووي رجح في المسألتين الصحة فقال هنا من "زياداته" قلت: الأول يعني الصحة أفقه وأجرى على قواعد الباب، والله أعلم وما ذكره من الترجيح حامل لمن لا اطلاع له على العمل به، وقد علمت أنه مخالف في الأول لنص الشافعي ومخالف لما جزم به الرافعي وكذلك لما جزم به هو في نظير المسألة وهو المكاتب وكأنه لما لم يجد هنا تصحيحًا ظن أن لا تصحيح فيها فقال ما قال. قوله: وإن كان له كلاب ففي كيفية اعتبار الثلث وجوه: أحدها: أنه ينظر إلى قيمتها بتقدير المالية، إلى آخره. هذه المسألة قد وقع فيها اضطراب شديد سبق ذكره واضحًا في كتاب البيع في الكلام على تفريق الصفقة فلتطالع منه. قوله: في "الروضة": أما إذا كان له مال وكلاب فأوصى بكل الكلاب أو ببعضها فثلاثة أوجه: أصحها نفوذ الوصية فيها وإن كثرت وقل المال، لأن المعتبر أن يبقى للورثة ضعف الموصى به، والمال وإن قَلّ خير من ضعف الكلاب إذ لا قيمة لها، وبهذا قال آباء أبو علي بن أبي هريرة والطبري، والشيخ. انتهى. وتعبيره بقوله: "آباء" هو بالمد على أنه جمع أب جمع تكسير ووزنه

أفعال، ولكن سهلت الهمزة والثلاثة المذكور بعده مرفوعة على البدل وهم أبو علي بن أبي هريرة وأبو علي الطبري والشيخ أبو علي السنجي. قوله: ولو أوصى بثلث ماله لرجل وبالكلاب لآخر وفرعنا على الصحيح في المسألة السابقة فقال القاضي أبو الطيب: تنفذ الوصية بجميع الكلاب لأن ثلثي المال الذي يبقى للورثة خير من ضعف الكلاب، واستبعده ابن الصباغ لأن ما يأخذه الورثة من الثلثين هو حصتهم نسبًا نفذت فيه الوصية وهو الثلث فلا يجوز أن يحسب عليهم مرة أخرى في وصية الكلاب فعلى هذا يعتبر ثلث الكلاب وحدها انتهى. قال في "الروضة": من زيادته قول ابن الصباغ أصح. قوله: في أصل "الروضة" والأحسن أن ينقص من الثلث شيئًا، وقيل إن كان ورثته أغنياء استوفى الثلث وإلا فيستحب النقص منه، انتهى كلامه. وما صححه هاهنا من استحباب النقص عن الثلث مطلقًا قد خالفه في شرح مسلم فإنه جزم في مواضع منه باستحباب الثلث إذا كانت الورثة أغنياء، ونقله عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: كذا وكذا. قوله: فما بالإنسان من مرض أو علة إما أن ينتهي به إلى حال يقطع فيها بموته منه عاجلًا وذلك بأن يشخص بصره عند النزع وتبلغ الروح الحنجرة أو يقطع حلقومه ومريئه أو ينشق بطنه ويخرج حشوته. قال الشيخ أبو حامد: ويقر في المياه وبعمره وهو لا يحسن السباحة فلا اعتبار بكلامه ووصيته وغيرها لأنه صار في خبر الأموات وحركته حركة المذبوح، وإما أن لا ينتهي إليها فإما أن يخاف منه الموت عاجلًا وهو الخوف، أو لا فحكمه حكم الأصحاء. انتهى. وما ذكره هاهنا من أن المريض بغير جناية قد يقطع بموته وأنه إذا صار إلى حركة المذبوحين كان كالميت، قد ذكر في أوائل الجنايات في الطرف

الرابع المعقود لاجتماع مباشر بين ما يناقضه أو يخصصه وكذلك ذكر في مواضع أخرى، وسوف أذكر ذلك في الجنايات إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: ومنها مرض السل. هو بفتح السين. قوله: وفي حمى الغب وهي التي تأتي يومًا وتقلع يومًا وجهان قال قائلون: هذ مخوفة، وبهذا أجاب في "التهذيب" وقال آخرون: لا، وبه أجاب في "الشامل". انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح أنها مخوفة كذا جزم به الرافعي في "المحرر" وصححه في "الروضة" من "زياداته"، ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا. الأمر الثاني: أن ما قاله من حصر حمى الغب في التي تأتي يومًا وتقلع يومًا وليس كذلك بل الغب عند الأطباء يطلق على الملازمة أيضًا، فإنهم قالوا: إن الحمى سببها بعض الأخلاط، فإن كانت العفونة داخل العروق فهي الغب اللازمة، وإن كانت خارج العروق فهي الصفراء الغب الدائرة، وهذه هي التي ذكرها في "الكتاب" فاعلم ذلك، وكلام يقتضي حصر العام في أحد نوعيه ويقتضي أيضًا أن الغب تسمية للازمة، وليس كذلك بل هي قسم من أقسامها والغب بكسر الغين المعجمة، وقد ذكر أيضًا هنا حمى الورد وهو بكسر الواو والربع بكسر الراء أيضًا وإسكان الباء. قوله: الرابعة: قدم لينفذ قصاصًا ولم يخرج بعد فهو مخوف في أظهر القولين. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو كلام موهم غير الصواب، وقد ذكر في كتاب الوديعة في السبب الثالث من الأسباب المقتضية كلامًا فيه شرح لهذا

وإرشاد إلى الصواب. فقال: فإذا مرض المودع عنده مرضًا مخوفًا أو حبس ليقيد لزمه أن يوصي بالوديعة، هذا كلامه. فجعل الحبس له كالمرض المخوف وحينئذ فلا يكون المراد هنا بقوله قدم هو الإخراج لذلك، بل تعيينه للقتل وحينئذ فقوله: ولم يخرج يحتمل أن يكون بالخاء المعجمة قبل الراء وهو الظاهر وأن يكون بالجيم. قوله: وإذا وقع الطاعون في البلد فهل هو مخوف في حق من لم يصبه؟ فيه وجهان جاريان في ما لو فشى فيه الوباء. قال في "التهذيب": أصحهما: أنه مخوف. انتهى. مقتضاه أن الوباء ليس من الطاعون هو الموت من الوباء، هذا لفظه، من غير زيادة عليه، ولم يذكر في الكلام على وباء ما يخالفه فإن قال: الوباء يمد ويقصر مرض عام انتهى. وقال ابن الأثير في "غريب الحديث": الطاعون المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد منه الأمزجة، انتهى. فجعل الوباء قسمًا من الطاعون، وقد عبر في "الروضة" بقوله: إذا وقع الطاعون في البلد وفشا الوباء وهو يقتضي أن الوباء هو الموت، وأن الطاعون سبب له، واعلم أن الأصح هو ما نقله عن "التهذيب"، فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر أيضًا بالأصح، وكذلك أيضًا النووي في أصل "الروضة". قوله: وأما العلقة والمضغة فلا خوف فيها، قاله الشيخ أبو علي وابن الصباغ، وقال المتولي: هو كالولادة. انتهى. قال في "الروضة": الأصح أو الصحيح أنه لا خوف فيهما. قال: كذا نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه عن الأصحاب، وقال:

لأنه أسهل خروجًا من الولد. قوله: ويشترط في المرجوع إليه من الأطباء الإسلام والبلوغ والعدالة والحرية والعدد وقد ذكرنا وجهًا في جواز العدول من الوضوء إلى التيمم بقول المراهق والفاسق، ووجها أنه لا يشترط العدد. وعن أبي سليمان الخطابي وجه لم يذكره هناك أنه يجوز العدول بقول طبيب كافر، كما يجوز شرب الدواء من يده ولا يدري أنه داء أو دواء ولا يبعد أن تطرد هذه الوجوه هنا، وقد قال الإمام هنا: الذي أراه أن لا تلحق بالشهادات من كل وجه بل تلحق بالتقويم وتعديل هي الأنصباء في القسمة حتى تختلف الرأي في اشتراط العدد، انتهى. قال في "الروضة": المذهب الجزم باشتراط العدد وغيره مما ذكرناه أولًا لأنه يتعلق بهذا حقوق آدميين من الورثة والموصى لهم فاشترط شروط الشهادة كغيرها من الشهادات. قال: بخلاف التيمم فإنه حق لله تعالى مبني على المسامحة مع أنه ينتقل إلى بدل وليس كالتقويم الذي هو تخمين حتى يمكن تدارك خطأ إن وقع فيه في بيان التبرع المحسوب من الثلث، وهو إزالة الملك عن مال مجانًا، اعترض عليه في "الروضة" فقال: ينبغي أن يضم إليه ما يتناول التبرع بالكلب وسائر النجاسات، وبالمنفعة التي تصح الوصية بها، فيقال: إزالة الاختصاص عن مال ونحوه والذي أورده أعني النووي صحيح لكنه يقتضي أن الغرض ليس بتبرع لثبوت العوض، وقد صرح به الرافعي في أوائل كتاب الضمان من الشرحين في الركن الثالث منه، وخالف فيه النووي هناك، وقال: إنه تبرع وعلى هذا فلا يصير الضابط أيضًا جامعًا، وقد أورد الرافعي أيضًا عليه البيع بثمن مؤجل فإنه تبرع، وإن كان بعوض وهو نظير إيراد القرض، وكذلك أورد عليه الإعارة فإنها تبرع ليس فيها إزالة ملك ولم

يتعرض في "الروضة" لإيرادها عليها، كما أورد غيرها وكأنه أخبر بعدم ذكر الملك وحذف مجانًا، وهذا إن نفعه من هذا الوجه لكنه يرد عليه ما إذا باع بثمن المثل حالًا أو أوصى ببيعه من معين بثمن المثل حالًا أو أوصى ببيعه من معين بثمن حال، فإنه ليس يتبرع مع أن الجد الذي اختاره صادق عليه. قوله: فروع: باع بالمحاباة بشرط الخيار ثم مرض في زمان الخيار، وأجاز العقد إن قلنا: الملك في زمن الخيار فقدر المحاباة من الثلث، وإلا فلا لأنه ليس بتفويت وإنما هو امتناع من الاكتتاب والاستدراك فصار كما إذا أفلس المشتري والمبيع قائم عنده، ثم مرض البائع فلم يفسخ، أو قدر على فسخ النكاح لعيب فيها، فلم يفعل حتى ماتت واستقر المهر، فإنه لا يعتبر من الثلث. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الشافعي - رضي الله عنه - نص على أن من اعتقد بشرط الخيار ثم مرض مرضًا مخوفًا، وأجاز أو فسخ على خلاف العطية أن ذلك يعتبر من الثلث فاختلف الأصحاب فيه على ثلاثة طرق: أحدها: الأخذ بما نص عليه. والثاني: تجويز كل منهما، سواء وقع على وفق الغبطة أو خلافها تخريجًا مما نص عليه الشافعي وصححه أصحابه أنهما جائزان للمفلس كما سبق ذكره في بابه من هذا الكتاب وهذان الطريقان ذكرهما الرافعي في كتاب الفلس، وحذفهما النووي من "الروضة" هناك ظنا أن الرافعي ذكرهما في بابهما. واعلم أن الفرق بين المريض والمفلس مشكل والقياس أن ما كان تفويتًا هناك كان تبرعًا وبالعكس، وقد فرق الرافعي هناك بين المسألتين بأن حجر المريض أقوى، واستند في الفرق إلى حكم ليس بصحيح، وقد نبهت عليه هناك فطالعه.

الأمر الثاني: أن البائع المذكور له في مرضه ثلاثة أحوال: أحدها: الإجازة. والثاني: النسخ. والثالث: أن لا يتعاطى واحدًا منهما بل يصير إلي انقضاء الخيار ولزوم العقد فأما الإجازة والفسخ فقد ذكرهما المصنف وأما ترك الأمرين فلم يتعرض له ولا يمكن أخذ حكمه مما قاله في الإجازة، لأن المخبر صدر منه قول مخرج الملك فراعينا فيه الغبطة بخلاف المعرض فإنه إنما صدر منه ترك التحصيل، وتركه عند إمكانه لا يحتسب عليه إجماعًا، فظهر أن المتجه عدم إلحاقه به لما قلناه، ولهذا عبروا بالإجازة والفسخ، ولم يعبروا بالفسخ وعدمه فإن عدم الفسخ شامل للإجازة والترك. قوله: وكذا لو اشترى محاباة ثم مرض ووجد بالمبيع عينا ولم يرد مع الإمكان، لا يعتبر قدر المحاباة من الثلث، ولو وجد العيب وتعذر الرد بسبب وأعرض عن الأرش اعتبر قدر الأرش من الثلث. انتهى كلامه. ومراده هنا من صدرت منه المحاباة إنما هو المشتري. إذا علمت ذلك فاعلم أنه ليس في كلامه تصريح بأن أرش العيب في المسألة الأولى وهي ما إذا لم يرد مع الإمكان هل يعتبر من الثلث أو لا يعتبر أيضًا؟ لقدر المحاباة بل كلامه كالمتعارض، لأن تقييده بقدر المحابة يوهم اعتباره، وتنصيصه بعد ذلك على الحسبان في ما إذا أعرض عنه بعد امتناع الرد يوهم خلافه، وإلا لم يكن لذكره فائدة وقد صرح صاحب التتمة وغيره بأنه لا يعتبر من الثلث لكن صرح المصنف في موضعين من هذا الكتاب باعتباره أحدهما بعد هذا الموضع بكراريس في الباب الثاني المفقود للمسائل الدورية بعد نحو ستة أوراق منه في أثناء كلام أوله الثالث اشترى المريض عبدًا بعشرة، وترجم له في "الروضة" بقوله: فرع، والموضع الثاني في كتاب

التفليس في الكلام على تصرفات المفلس، ونقله هناك عن نص الشافعي، فإن قيل: المريض مالك للمعيب، ومع هذا قلتم: إنه إذا لم يرد يحسب عليه التفاوت من الثلث وقد تقدم في المسألة السابقة أنه إذا مرض في زمن الخيار، وكانت الغبطة تقتضي الرد فلم يرد أنه لا يحسب عليه ذلك فاعتبرنا قدرته على زوال الملك في العيب دون الخيار. قلنا: فرق الإمام بينهما في كتاب الفلس بفرق فيه نظر، وهذه العبارة الموهمة التي عبر بها الرافعي في هذه المسألة، تبعه على التعبير بها النووي في "الروضة" وابن الرفعة في "الكفاية". قوله: وإذا اجتمع في التبرعات المتعلقة بالموت عتق وغيره فهل يقدم العتق لقوته أم يستوي؟ قولان: أظهرهما التسوية، هذا في وصايا التمليك مع العتق، أما إذا أوصى للفقراء بشيء وبعتق عبد فقال البغوي: هما سواء لاشتراكهما في القربة، وقطع الشيخ أبو علي بطرد القولين لوجود القوة والسراية. انتهى. قال في "الروضة": الأصح: هو قول أبو علي. قوله: ولو قال لجاريته الحامل: إن أعتقت نصف حملك فزنت حرة، فأعتق نصف حملها في مرض موته فقضية عتق ذلك النصف سرايته إلى النصف الآخر وعتق الأم بسبب التعليق فإن خرجا من الثلث عتقا جميعًا، وإن لم يخرج من الثلث مع النصف المعتق إلا الأم، أو النصف الآخر كما إذا كان جميع ماله ثلاثمائة والأم منها خمسون، والولد مائة فيقرع بين الأم والنصف الآخر، فإن خرجت على الآخر عتق جميع الولد والأم رقيقة، وإن خرجت على الأم لم يعتق كلها لأن الحمل في حكم حرمتها يتبع عتقه عتقها فتوزع قيمة الثلث على الأم وهو خمسون وعلى النصف الباقي بالتسوية فيعتق خمسون وعلى النصف الباقي نصف فيكون ثلاثة أرباعه حرًا. انتهى كلامه.

وما ذكره من التسوية يبن السراية إلى باقي الولد وعتق الأم بالتعليق حتى يقرع بينهما ولم تقدم السراية، قد ذكر في كتاب المعتق في الكلام على عتق الشريك ما يشكل عليه فقال: إذا قال أحد الشريكين للآخر: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر، فأعتق المقول له نصفه سرى عليه على الصحيح لأنه اجتمع على النصف الآخر سراية وتعليق، والسراية أقوى لكنها قهرية، تابعه لعتق نصيبه لا مدفع لها وموجب التعليق قابل للدفع. انتهى ملخصًا. واستشكل في "البسيط" عدم عتق كل الأم إذا خرجت القرعة عليها. فقال: فإن قيل: إذا لم يبعد أن يبقى بعض كل منهما رقيقًا، واتصال الولد بأمه لا يزيد على اتصالها بنفسه فلم يستحيل عتق كلها خاصة. قلنا: ما نقل عن ابن شريح ما ذكرناه وكأنه يقدر الولد في حكم عضو لا يقبل الانفصال عن الأم بخلاف البعض، وعلى الجملة فليست المسألة خالية عن الإشكال، هذا كلامه. قوله: المسألة الثانية إذا أوصى بعبد أو ثوب من ثلث ماله، وباقي ماله غائب، لم يدفع كله إلى الموصى له، ولا يسلط على التصرف فيه ما لم يحضر من المال الغائب ما يخرج الموصى به من ثلثه لاحتمال تلفه. . . . إلى آخر ما قال. ثم قال: لكنهم لو تصرفوا يعني الورثة في ثلثي الحاضر، قال السرخسي في "الأمالي": إن هلاك المال الغائب بعين نفوذ تصرفهم ولك أن تقول وجب أن يخرج ذلك على وقف العقود. انتهى كلامه. اعترض عليه في "الروضة" فقال ما نصه: قلت بل ينبغي تخريجه على القولين في من باع مال أبيه ظانًا حياته فبان ميتًا، والله أعلم، هذا لفظه، وهذا الاعتراض غلط مشعر بعدم استحضاره لاصطلاحهم فإنه يقتضي أن القولين المذكورين في بيع مال الأب لا يسميان بقولي وقف العقود وليس

كذلك بل يسميان عند الأصحاب به، وقد صرح به هو -أعني: النووي- بذلك في الشرط الثالث من شروط المبيع. قوله في الركن الرابع: إلا أن يقول هو له من مالي أو يقول: عندي هذا لفلان، فيصح كناية عن الوصية. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" و"المحرر"، وكذلك النووي في "الروضة" لكن كلامه في "المنهاج" يقتضي أن الصيغتين من جملة الصرائح، فإنه عدهما معا ثم ذكر بعد ذلك أنه ينعقد بالكناية، وكلام الشافعي في "الأم" يعضده، فإنه قال في كتاب الكتابة في باب الوصية بالمكاتب ما نصه: لو قال رجل: ما لي على مكاتبي لفلان، فإن عجز فهو له أو هو لفلان كانت الوصية جائزة على ما أوصى به كما كان على الكتابة وكتابته تعني للذي أوصى له بها، فإذا عجز فهو للذي أوصى له برقبته كان الموصى له أو غيره، هذا لفظه بحروفه. قوله: وتصح الوصية بالكتابة مع النية بلا خلاف ولا تنفذ الوصية بمجرد خطه عند الجمهور، ثم قال: واعلم أن انعقاد الوصية بالخط ليس ببعيد؛ لأن الخط لكتابات الألفاظ وقد سبق في البيع ذكر الخلاف في انعقاد البيع ونحوه بالكتابات، وذكرنا الآن أن الوصية أشد قبولا للكتابات، فإذا كتب وقال: نويت الوصية لفلان، أو اعترف ورثته به بعد موته وجب أن يصح. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وهو عجيب فقد سبق قريبًا أن الخلاف في الانعقاد بالكناية مع النية لا يأتي هنا لاستقلال الموصى بعقدها بخلاف البيع وسبق أيضًا أن الخلاف هاهنا إنما هو مجرد الكناية، وحينئذ فلا يأتي شيء من هذا البحث. قوله: الثالثة: أن يقع الرد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان:

أحدهما: صحة الرد لأنه تمليك من آدمى بغير عوض فيصح رده قبل القبض كالوقف، ويحكي هذا عن ظاهر نصه في "الأم"، وأظهرهما: المنع لأن الملك حاصل قبل القبض فلا يرتفع بالرد كما في البيع. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وفيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" قد وافق الرافعي على تصحيح امتناع الرد وخالف في "تصحيح التنبيه" فصحح الجواز. الثاني: أن المسألة قد صرح بها الشافعي في "الأم" وصرح ببطلان الرد على خلاف ما ذكره الرافعي من الحكاية عن ظاهر نصه فيها. فقال في "الأم" في باب من يقع عليه الطلاق من النساء ما نصه: وتمام الميراث أن يموت الموروث قبضه الوارث أو لم يقبضه قبله أو لم يقبله لأنه ليس له رده، وتمام الهبة والصدقة أن يقبلها الموهوب أو المصدق عليه ويقبضها، وتمام الوصية أن يقبلها الموصى له وإن لم يقبضها، وتمام البيع أن لا يكون فيه شرط رد حتى يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه، هذا لفظه بحروفه، وحينئذ فتكون الفتوى على ما في "الروضة". الأمر الثالث: أن ما ذكره الرافعي من القياس على الوقف قد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "الروضة" ومقتضاه أنه يجوز للموقوف عليه رد الوقف بغير قبوله وهو باطل، وقد ذكر الرافعي، وكذلك النووي من "زياداته" في كتاب الوقف ما يوضح بطلانه، وقد تتبعت الأصول التي يستمد الرافعي منها قرائنه، قد استند في ذلك إلى صاحب "التتمة"، فإنه قد ذكر هذا الكلام على الصواب، وإنما حكاه الرافعي على غير وجه، فإنه قال فيها ما نصه: فأما إن أراد الرد بعد القبول فظاهر ما نص عليه في "الأم" أنه يصح رده وتوجيهه أن الغانمين ملكوا الغنائم بالاستيلاء، ثم لو تركوا حقهم سقط أي أهل الخمس والموقوف عليه ملك منافع الموقوف

قبل أن يقبل ولو رد جاز وتصرف إلى الفقراء. هذا لفظ المتولي بحروفه وقياسه على الوقف قبل القبول صحيح على قاعدته، فإنه لا يشترطه أعني القبول، وأما الرافعي فإنه لما لم يكن يرى حصول الملك إلا بعد القبول عبر به في القياس ذاهلًا مما يلزم منه فوقع في المحذور. قوله: ومتى تملك الموصى له الوصية فيه ثلاثة أقوال: ثم قال: ولو أوصى بإعتاق عبد معين بعد موته فالملك في العبد إلى أن يعتق للوارث ولا يجعل على الخلاف وفرقوا بأن الوصية تمليك للموصى له فيبعد الحكم بالملك لغير من أوجب له الملك، والعتق ليس بتمليك، ويتفرع على الأقوال مسائل إحداها كسب العبد وثمرة الشجرة. . . . إلى آخره. أعلم أن النووي في "الروضة" عبر بقوله والملك في العبد إلى أن يعتق للوارث بلا خلاف كما يفهمه كلام الرافعي، ومقتضاه أن يكون الكسب أيضًا له بلا خلاف، وليس كذلك فاعلمه فقد حكى الروياني في "البحر" في باب الإقراع بين العبيد طريقين: إحداهما: أن فيه قولين كما في العبد الموصى به. والثانية: أنه للعبد قولًا واحدًا، قال: وهو الصحيح، والفرق أن العبد استحق العتق استحقاقا مستقرًا لا يسقط بوجه من الوجوه، وليس كذلك الموصى له. قوله: وإن قبل في مرض الموت تمليك قريبه فإرثه مبني على أن عتقه إذا حصل الملك فيه لا بعوض بل بإرث أو هبة أو قبول وصية يعتبر من الثلث أو من رأس المال؟ وفيه وجهان مذكوران في باب العتق إن اعتبرناه من الثلث لم يرثه، وإلا ورثه، قال في "التهذيب": وهو الأصح انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" في باب العتق أن عتقه محسوب من رأس

المال، وعبر بالأصح وقال في "الشرح الكبير" هناك أن الأولى بالترجيح أن المملوك بالإرث يحسب عتقه من رأس المال، ولم يرجح شيئًا في المملوك بالهبة والوصية، واختلف كلام النووي أيضًا فصحح في هذا الباب حسبانه من رأس المال، ولم ينقله عن البغوي كما نقله الرافعي وصحح في "المنهاج" هناك حسبانه من الثلث، وذكر في "الروضة" أعني في العتق نحو ما ذكره الرافعي. قوله: الرابع أوصى بعبد لشخصين أحدهما قريبه الذي يعتق عليه، فإن قبل الأجنبي أو لا يملك نصيبه ونصيب القريب، موقوف إلى أن يقبل أو يرد، فإن أعتق الأجنبي نصيبه قبل قبول القريب، ثم قبل فإن قلنا يملك بالقبول قوم نصيبه على الأجنبي، وكان كما لو أعتق الشريك نصيبه وهو موسر، ثم أعتق الثاني نصيبه، وإن قلنا يملك بالموت تبينا أن عتق الأجنبي غير نافذ، وأنه عتق جميعها على الوارث، وعليه نصف القيمة للأجنبي. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله على الوارث وقع أيضًا في "الروضة" وهو خطأ وصوابه القريب.

الباب الثاني: في "أحكام الوصية"

الباب الثاني: في "أحكام الوصية" وهي ثلاثة أنواع: لفظية، ومعنوية، وحسابية: القسم الأول: اللفظية وفيه طريقان الأول في الموصى به. قوله: ولو أطلق الوصية بالجارية ففي دخول الحمل فيها وجهان: أظهرهما في ما دل عليه كلام الأئمة الدخول كالبيع ولا تبعد الفتوى بالمنع بخلاف البيع، لأن الحمل لا يفرز بالبيع فجعل تبعًا، ويفرد بالوصية فلا يمنع، ولأن الأصل تنزيل الوصية على المتقين ولأن الوصية عقد ضعيف لا يليق بحالها الاستتباع. انتهى ملخصًا. والعلل التي ذكرها مردودة، فأما الأولى فلأنها تنكسر بالبناء والفراس الحاصلين في الأرض فإنهما يبيعان الأرض في بيعها مع إمكان إفرادهما بالبيع. وأما الثانية: فلأن الأصل في العقود كلها تنزيلها علي المتيقن أو الظاهر القريب منه. وأما الثالثة: فمتقوضة بالرهن فإنه عقد ضعيف باعتراف الرافعي هناك حيث فرق بين دخول البناء والفراس في البيع وبين عدم دخولهما في الرهن مع أن للحمل مدخل فيه تبعا للأم، ويدل على صحة مقالة الأكثرين ما ذكره في العتق أنه لو أعتق أمته الحامل مملوك له عتق الحمل أيضًا، ولو أعتق الحمل عتق ولم تعتق الأم على الصحيح لأنها لا تتبعه. واعلم أن صورة هذه المسألة في الحمل الموجود عند الوصية، فأما الحمل الحادث بعدها، فإن انفصل قبل الموت لم يدخل وإن قارن الموت فقولان: أصحهما: عدم الدخول أيضًا، كذا ذكره الرافعي قبل هذه المسألة بنحو ثلاثة

أوراق في الكلام على ما إذا أوصى بالأمة لزوجها فتوطن لذلك، وقد أعاد في باب التدبير الكلام على ما إذا حملت بعد الوصية ووضعت. وحكى عن الشيخ أبي محمد طرد الخلاف، وولد المدبرة يخالف ولد الموصى بها في هذه التفاريع وإن قلنا أن التدبير وصية كما ستعرفه في بابه فراجعه. قوله: والدف يجوز الوصية به فإن كان عليه شيء من الجلاجل وحرمناها نزع ولم يدفع إليه إلا أن ينص عليه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إعطاء الجلاجل إليه إذا نص على ذلك، وقلنا بالتحريم وكيف يستقيم تصحيح الوصية فيهما مع القول بالتحريم. قوله: من "زياداته": مذهب الشافعي حمل اللفظ المشترك على معانيه انتهى. وما نقله عن الشافعي هنا قد خالفه في كتاب العتق فرجح أنه لا يحمل على جميع معانيه ذكر ذلك في الكلام على ما إذا قال إن رأيت عيبًا فأنت حر، وسأذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". قوله: واسم القوس يقع على القسي التي لها مجرى تنفذ فيه السهام الصغار، وتسمى الحسبان وعلى الجلاهق، وهو ما يرمى به البندق إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن الحسبان بضم الحاء وبالسين المهملة وبالباء الموحدة، وهو اسم للسهام لا للقوس ثم إنه جمع لا مفرد فاعلم كلا منهما فقد قال الجوهري ما نصه: والحسبان سهام فصار الواحد حسبانه، هذا لفظه، وحينئذ فالضمير في قول الرافعي فيسمى عائد إلى السهام، وأما الجلاهق فبضم الجيم وهو اسم للبندق نسبة كذا صرح به الجوهري فقال: والجلاهق

البندق ومنه قوس الجلاهق، وأصله بالفارسية جلة، وهي كبة غزل هذا لفظه، وعبارة الرافعي صريحة في أنه اسم للقوس نفسه، وليس كذلك. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تابع الرافعي على تعدية رمي بالباء وقد صرح في "شرح مسلم" به فقال قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فأبردوا بالصلاة" وفي الرواية الأخرى: "فأبردوا عن الصلاة" هما بمعنى، و (عن) تطلق بمعنى الباء كما يقال: رميت عن القوس أعديها هذا لفظه، فجعل الباء هي الأصل وشبه به بالصلاة، وعن الصلاة، ثم خالف ذلك في "تحرير التنبيه" مخالفة عجيبة، فقال في باب المسابقة: وقول الشيخ وإن شرطا الرمي عن القسي العربية أو الفارسية أو أحدهما يرمي عن العربية والآخر عن الفارسية هكذا ضبطناه عن نسخة المصنف عن القسي بحرف عن في المواضع الثلاث، وتقع في أكثر النسخ بالقسي أي بالباء والصواب الأول. قال ابن السكيت وغيره من أهل اللغة يقال: رميت عن القوس ورميت عليه، ولا يقال: رميت بها، هذه عبارته، والصواب جواز استعمال الباء أيضًا ذكره ابن قتيبة في "أدب الكاتب" وكذلك البطليوسي في شرحه له فقال وقولهم: رميت بالقوس، ليست الباء فيه بدلًا من حرف آخر، بل هي فيه بمثابة قولك: رميت بالحجر زيدًا، والمعنى رميت السهم بالقوس وصرح به أيضًا الثعلبي في تفسيره فقال: تقوِل: رميت بالقوس وعلى القوس، ذكره في الكلام على قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَهِ إلا الْحَقَّ} [الأعراف: 105]. قوله: ولو قال أعطوه ما يسمى قوسًا ففي "التتمة" أن للوارث أن يعطيه ما يشاء سواء كان قوس بندق أو رمى أو غيرهما، ويشبه أن يكون كما لو قال: أعطوه قوسًا إلا أن يقول ما يسمى قوسًا غالبًا أو نادرًا وما أشبهه انتهى. قال في "الروضة" الذي قاله في "التتمة" هو الصواب. قوله: ولو قال أعطوه كبشًا أو تيسًا أو شاة لينزيها على غنمه فالوصية

بالذكر، ولو قال نعجة أو شاة يحلبها أو ينتفع بدرها أو نسلها فهي بالأنثى. انتهى. اعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد أبهم الكلام في هذه المسألة فإن الكبش والتيس والشاة، التي للإنزاء وإن اشتركن في كونهن ذكورًا لكن الكبش لغة من ذكر الضأن والتيس من المعز والشاة منهما، وكذلك النعجة والشاة التي للحلب ونحوه، وإن اشتركتا في كونهما للأنثى لكن النعجة للأنثى من الضأن والشاة لهما. قوله: لكن لو قال أعطوه شاة من شياهي وليس له إلا ظباء ففيه وجهان حكاهما في المعتمد. انتهى. قال في "الروضة": ينبغي أن يكون الأصح تنزيل الوصية على واحد منهما، وقال ابن الرفعة في "الكفاية": الأصح بطلان الوصية. واعلم أن الرافعي قد صحح أن اسم الشاة لا يتناول السخلة، وسكت عن البعير والبقرة هل يتناول الفصيل والعجلة أم لا؟ وقد صرح بعدم التناول في آخر كتاب النذر نقلًا عن الإمام وأقره عليه. قوله: أوصى بكلب أو حمار، قال الغزالي وغيره لا تدخل فيه الأنثى لأنهم ميزوا فقالوا كلب وكلبة وحمار وحمارة ويشبه أن يقال أنها للجنس لأن التمييز ليس مستمرًا في اللغة، وبتقدير استمراره فلا شك في استمرار العرف بخلافه. وقد قال بعض الأصحاب: لهذا يتبع العرف. انتهى. قال في "الروضة": الصواب ما قاله الغزالي وغيره. قوله: ولو لم يملك إلا رقيقًا واحدًا وقال أعطوه رأسًا من رقيقي فتبطل الوصية أم تصح ويدفع إليه ذلك الواحد؟ فيه وجهان مذكوران في "التتمة"، والمذهب على ما حكاه من تلقف عن الإمام هو الثاني. انتهى كلامه.

وهذا المنقول عن الإمام صرح بتصحيحه النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو أوصى بأحد أرقائه فيجوز إعطاء الخنثى في أصح الوجهين لشمول الاسم، والثاني: لا لانصراف اللفظ إلى المعهود، ولو قال أعطوه عبدًا لم يعط أمه ولا خنثى مشكلًا، وكذا العكس وفي الواضح الوجهان السابقان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنما جزم به الرافعي من طريقة الوجهين في آخر الخنيثى عند الوصية بالرقيق قد أخراهما أيضًا بعد ذلك في أجزائه عند الوصية بالعبد أو الأمة واتضح حاله، ثم ذكر المسألة أيضًا في باب الكتابة في الحكم الثالث من أحكامه، وصحح طريقة القطع بأجزاء الواضح، وتبعه في "الروضة" على ذلك مع وقوعه في اعتراض آخر سوف تعرفه في موضعه فراجعه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من كون الخلاف وجهين قويين قد خالفهما معا في باب الكتابة، فإنه ضعف الخلاف وجعله قولين عن من وستعرف لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال -رحمه الله- الطرف الثاني في "الموصى له". قوله: وإذا قال: إن كان حملها غلامًا فأعطوه كذا فولدت ذكرين، فقال الغزالي: لا شيء لهما لأن الشكر يشعر بالتوحيد، وقال أبو الفرج الزاز: يقسم بينهما، قال: وبمثله لو قال إن كان حملها ابنًا فله كذا وإن كان بنتًا فكذا فولدت اثنين فلا شيء لهما، وفرق بأن الذكر والأنثى اسمًا جنس فيقع على الواحد والعدد بخلاف الابن والبنت وهذا ليس بواضح والقياس أن لا فرق. انتهى. والتعبير بقوله وبمثله ذكره أيضًا في "الروضة"، وهي عبارة لا معنى لها ولعله أراد أن يقول وفي مثله فذكر ما ذكر وقد رد النووي على الرافعي في

دعواه أن القياس عدم التفرقة، فقال: بل الفرق واضح، قال: والمختار ما قاله أبو الفرج فيقسم بين الذكرين في الصورة الأولى دون الثانية لما ذكره من الفرق. قوله: في أصل "الروضة" أوصى للفقهاء أو للمتفقهة فهو على ما ذكرناه في الوقف أي حتى يدخل في الفقهاء من حصل شيئًا وإن قل، لكن في لفظ البغوي أنه لا يقنع بما سبق في تفسير الفقهاء لأنه قال: لو أوصى للفقهاء فهو لمن يعلم أحكام الشرع من كل نوع شيئًا وفي "التتمة" يرجع إلى العادة، وقيل من حفظ أربعين مسألة فهو فقيه، وهو ضعيف جدًا. انتهى. وما ذكره من تضعيف الأربعين مخالف لما صرح به في كتاب الوقف فراجعه. وقد سبق هناك أيضًا أن ما ذكره هناك وهنا من الاكتفاء بالشيء وإن قل لم أره لأحد، وأما حكاية وجه بالأربعين فنقله الرافعي عن حكاية المتولي في "التتمة" ومن راجع كلامه في الوقف و"التتمة" علم أنه ليس حكاية وجه، وذكر في "شرح المهذب" في باب ما يجوز بيعه ما يخالف المذكور هنا أيضًا، فقال في أثناء فروع نقلها عن "الإحياء" للغزالي ما نصه: قال ولو أوصى بمال للفقهاء فالفاضل في الفقه يدخل في الوصية والمبتدئ من شهر ونحوه لا يدخل فيه، والمتوسط بينهما درجات يجتهد المفتي فيها، والورع لهذا المتوسط ترك الأخذ هذا كلامه، واعلم أن الظاهرية لا يستحقون من وصية الفقهاء شيئًا، كذا نقله ابن الصلاح في فوائد رحلته عن ابن سريج. قوله: يدخل في الوصية للفقراء والمساكين فيجوز الصرف إلى هؤلاء وهؤلاء وكذلك بالعكس، وفي قول ما أوصى به للفقراء لا يصرف إلى المساكين، ويحرز عكسه، رواه عصام بن يوسف عن الشافعي. انتهى. واعلم أن عصامًا هذا ليس من أصحابنا إنما هو من أصحاب أبي حنيفة

وهو إمام من أئمتهم المعروفين، وقد صرح بأنه من أئمتهم العبادي في أول الطبقات عند عدة أصحاب أبي حنيفة، وكلام الرافعي والنووي يوهم خلافه لاسيما في "تهذيب الأسماء واللغات" فاعلمه. قوله: والوصية للعلماء وسائر الموصوفين كالوصية لأصناف الزكاة في أنه لا يجب الاستيعاب ويقتصر على ثلاثة والأولى استيعاب الموجودين عند الإمكان كما في الزكاة. انتهى. وهذه المسألة -أعني: الاستيعاب- عند الإمكان قد ذكرها أيضًا في كتاب قسم الصدقات وفي باب صدقة التطوع، واختلف كلامه فيها، وستعرف الكلام على ذلك واضحا في قسم الصدقات فراجعه. قوله: ولو أوصى لفقراء بلدة بعينها وهم محصورون فيشترط استيعابهم وقبولهم ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وادعى في "تصحيح التنبيه" أنه لا خلاف في ذلك فإنه ادعى أن الصواب اشتراط القبول، وقد خالف ذلك في "الروضة" بعد كلامه المتقدم بقليل فحكى وجهين في أنه يجب استيعابهم أم يكفي الصرف إلى ثلاثة، وذكر نحوه في "تصحيح التنبيه" أيضًا في كتاب قسم الصدقات فإنه عطفه على الأصح. قوله: ولو أوصى لزيد ولله تعالى فوجهان: أحدها: أن الكل لزيد، وذكر الله تعالى للتبرك لقوله تعالى في الفيء: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}. والثاني: أن النصف لزيد والباقي للفقراء فإنه مصرف الحقوق المضافة إلى الله تعالى. وقال الأستاذ أبو منصور: وهذا أصح الوجهين لكنه لم يخصص النصف الثاني بالفقراء، بل قال: إنه في سبيل الله تعالى فيصرف في وجوه

القرب. وفيه وجه ثالث: أن ابن القاص قال: النصف يرجع إلي ورثة الموصى. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد رجح الوجه الثاني فقال: وأقواهما: أن النصف لزيد والباقي للفقراء هذا لفظه وصحح النووي في أصل "الروضة" أنه يصرف إلى وجوه القرب، وعبر بالأصح وهو غريب فإن سياق كلام الرافعي يقتضي أنه غير معروف فضلًا عن تصحيحه ولهذا أنه لم يعده معه الأوجه بل لم يحكه في "الشرح الصغير" أصلًا. الأمر الثاني: أن النووي قد أعاد المسألة أيضًا من زياداته عقب ذكرها في الأصل من غير فاصل غير أنه فرضها في الثلث كاملًا فقال: قلت: ولو قال: أوصيت بثلث مالي لله تعالى صرف في وجوه البر، ذكره صاحب "العدة". وقال: وهو قياس قول الشافعي، هذا لفظه، وهو يوهم أن هذه المسألة أخرى. الأمر الثالث: أن الرافعي قد ذكر في آخر الباب الأول من كتاب الوقف مسألة قريبة من هذه المسألة ليست مذكورة هنا فينبغي استحضارها فقال ما نصه واحتجوا لهذا القول بأنه لو قال أوصيت بثلث مالي واقتصر عليه تصح الوصية، وتصرف إلى الفقراء والمساكين، هذا لفظه، وتابعه عليه النووي على خلاف ما قاله هنا في المسألة السابقة، والفرق بينهما أن الموصي لما أطلق الوصية في الصورة المذكورة هنا، ولم يبين مصرفًا حملناه على الغالب وهم الفقراء بخلاف الصورة الأولى فإن تقييده بقوله لله يشعر بإرادة وجوه البر، لأن من أخرج مالًا في شيء منها صدق أن يقال أنه أخرجه لله تعالى.

قوله: ولو أوصى لأقارب نفسه ففي دخول الورثة وجهان: أحدهما: لا يدخلون لقرينة الشرع لأن الوارث لا يوصى له، فعلى هذا تختص الوصية بالباقين، وهذا ما يحكى عن الصيدلاني وقطع به في "التتمة" وكلام الغزالي يقتضي ترجيحه. والثاني: يدخلون لوقوع الاسم عليهم ثم يبطل نصيبهم ويصح الباقي لغير الورثة، ولك أن تقول: وجب أن يختص الوجهان بقولنا أن الوصية للوارث باطلة، أما إذا قلنا: موقوفة على الإجازة فلتقطع بالوجه الثاني. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الراجح من الوجهين هو دخولهم، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال أنه أقول الوجهين، ولم يذكر ترجيحا غيره. الأمر الثاني: ما نبه عليه في "الروضة" فقال ما معناه الظاهر أن الوجهين جاريان مطلقًا لأن منشأهما اتفاقهما على أن الوارث لا يأخذ شيئًا، إنما هل ينظر إلى وقوع اسم الغريب عليه فيدخله لإسقاط نصيبه، أو ينظر إلى أن العادة عدم الوصية له فيكون كالعدم، وإنما جزم الرافعي بعدم الأخذ على القول بوقفها على الإجازة لامتناع إجازتهم أنفسهم. قوله: في المسألة المذكورة الثانية في دخول الأصول والفروع أوجه: أحدها لا يدخل الأبوان ولا الأولاد ويدخل الأجداد والأحفاد وهذا هو الأظهر من جهة النقل. والثاني: لا يدخل أحد من الأصول والفروع إذ لا يسمون أقارب إلى آخر ما قال. وما ذكره -رحمه الله- من تصحيح الوجه الأول ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وعبر بالأظهر.

إذا علمت ذلك فقد صحح في "المحرر" الوجه الثاني وعبر بالأظهر أيضًا فقال ما نصه: إلا أن الأظهر أن الأصول والفروع لا يدخلون هذا لفظه وهو غريب، وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف، و"العمدة" هنا على ما في "الكبير" و"الروضة" لتصحيح الرافعي بأنه أظهر نقلًا، والمذهب نقل. قوله: وصية العجم للأقارب يدخل فيها أقارب الأم، وفي وصية العرب وجهان: أظهرهما عند الغزالي وصاحب "التهذيب" أنها لا تدخل لأن العرب لا تعدها قرابة ولا يفتخر بها. والثاني: يدخل وهو الأقوى وظاهر النص وأجاب به أصحابنا العراقيون. انتهى ملخصًا. وحاصله تصحيح الدخول، وقد ذكر مثله في "الشرح الصغير" وعبر بالأقوى أيضًا. إذا علمت ذلك فقد صحح في "المحرر" عكسه فقال عطفًا على الأظهر ما نصه: وإن قرابة الأم لا تدخل في وصية العرب، ولم يتفطن النووي لهذا الاختلاف، بل ذكر في "المنهاج" و"الروضة" كما في "الشرح" و"المحرر" وعبر بالأصح فيهما والفتوى على ما في "الشرح" و"الروضة" لموافقته ظاهر النص، وقول الأكثرين إذا أوصى لأقرب أقارب نفسه فكان الأقرب وارثًا صرفنا إلى من ثلثه ممن ليس بوارث إن لم يصحح الوصية للوارث أو صححناها فلم يجزها سائر الورثة كذا نقله البغوي وغيره وهو تفريع على أنه لو أوصى لأقارب نفسه لم يدخل الورثة الشرع، أما إذا قلنا: يدخلون، وتوزع عليهم وعلى من ليس بوارث فهاهنا تبطل الوصية إلا أن يتعد الأقربون ويكون فيهم وارث وغير وارث انتهى. اعلم أنا إذا قلنا بالوجه الأخير وهو أنهم يدخلون وتوزع عليهم وعلى

من ليس بوارث فإنهم لا يأخذون شيئًا، وفائدة إدخالهم والتوزيع عليهم إسقاط نصيبهم فلهذا فرع عليه الرافعي هنا إبطال الوصية فافهمه، وقد تقدم قبله بتقليل ما يرشد إلى ذلك. قوله: وفي الأهل وجهان: أحدهما الحمل على الزوجة فعلى هذا إذا صدرت الوصية من امرأة تطلب. والثاني: على كل من تلزمه نفقته. انتهى. قال في "الروضة" الأصح هو الوجه الثاني قال: وينبغي على الوجه الأول أن لا تبطل إذا صدرت من امرأة، بل يتعين الوجه الثاني أو يرجع فيه إلى العرف. قوله: وأحماء الرجل أبوا زوجته وفي دخول أجدادها وجداتها تردد حكاه الإمام ولا يدخل أبوا زوجة الأب وأبوا زوجة الابن والأصهار كالأحماء. كذا نقله الأستاذ أبو منصور وإمام الحرمين وفي أمالي السرخسي أنه كل رجل من المحارم فأبو زوجته حمو، وأن الأصهار تشمل الأختان والأحماء قال في "الروضة": إن ما قاله السرخسي هو المعروف عند أهل اللغة. قوله: ويتامى القبيلة هم الصبيان الناقدون لإمائهم وفي اشتراط الفقر فيهم وجهان أشبههما: بما قيل في الغنيمة نعم وبه قطع أبو منصور ثم إن انحصروا وجب وإلا جاز الاقتصار على ثلاثة انتهى. وما ذكره من إطلاق الوجهين قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" ورأيت في شرح فروع ابن الحداد لأبي بكر الصيدلاني، أن مجملهما إذا أوصى لليتامى ولم يعين فإن عين قال: وكيتامى بني زيد أعطى الغني والفقير، وفي تعبير الرافعي إشعار بأن ولد الزنا لا يستحق لأن فقد الأب يتوقف على تقدم وجوده.

قوله: ولو قال لورثة فلان فورثته بنت واحدة ولم يحكم بالرد فيستحق جميع الوصية أم نصفه فيه وجهان أصحهما عند الأستاذ أولهما. انتهى. والصحيح ما صححه الأستاذ، كذا صححه النووي في أصل "الروضة"، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير". قوله: ذكر الأستاذ أن الأرامل من فارقهن الأزواج وبه أخذ الإمام، وعبارة صاحب "المهذب" و"التهذيب" لا يعتبر بقدم التزويج. انتهى ملخصًا. والأصح هو الأول فقد نص عليه الشافعي كما نقله عنه في "النهاية"، وقال النووي في "زيادات الروضة" أنه الأصح، قال: والعجب من الرافعي حيث طالع "النهاية" في هذه المسألة، ثم عزاه إليه، وترك الإعزاء إلى إمام المذهب لاسيما أنه لم يظفر بترجيح. قوله: وفي دخول رجل لا زوجة له في الأرامل وجهان. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" عدم الدخول. قوله: وفي اشتراط الفقراء الوجهان المذكوران في الأيتام، وقطع الأستاذ بالاشتراط هاهنا. انتهى. والتعبير بقوله هاهنا يوهم أن الأستاذ لم يقطع بذلك في الأيتام، وليس كذلك، بل قطع فيهم أيضًا به، وقد نقله عنه الرافعي. قوله: ففي "المهذب" و"التهذيب" أن الشيوخ من جاوزوا الأربعين والفتيان والشبان من جاوز البلوغ إلى الثلاثين، والمفهوم منه أن الكهول هم الذين بين الثلاثين والأربعين ورواية الأستاذ عن الأصحاب الرجوع في ذلك إلي اللغة واعتبار لون الشعر في السواد والبياض والاختلاط. انتهى. قال في "الروضة" من "زياداته": الأصح المختار هو الأول. قال: وصرح الروياني وغيره بأن الكهول من الثلاثين إلى الأربعين وكذا

قال أهل اللغة أيضًا أنه من جاوز الثلاثين. قوله: ولو أوصى لزيد بدينار وللفقراء بثلث ماله لم يصرف إلى زيد غير الدينار، وإن كان فقيرًا لأنه قطع اجتهاد الوصي بالتقدير ويحتمل الجواز، انتهى. تبعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي عدم الوقوف على قائل بالجواز، وقد نقله الروياني في "البحر" عن الحناطي.

القسم الثاني في "المسائل المعنوية"

قال -رحمه الله-: القسم الثاني: في "المسائل المعنوية" قوله: وإذا أطلق الوصية بالمنفعة أو قيدها بالتأبيد كانت تمليكًا، أما إذا قال: أوصيت لك بمنافعة حياتك فهو إباحة وليس بتمليك فليس له الإجارة، وفي الإعارة وجهان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به هاهنا من كونه إباحة حتى لا تصح إجارته قد تابعه عليه في "الروضة" وقد جزم أعني الرافعي بما يخالف ذلك في الباب الثالث من أبواب الإجارة، وقد ذكرت لفظه هناك، والصواب هو المذكور هناك، فإن هذا نظير ما إذا قال: وقفت هذا البستان مثلًا على زيد، ثم عمرو فإن كل واحد منهما يملك منفعته، وإن كان مقيدًا بحياته. الأمر الثاني: أن الأصح من الوجهين في الإعارة هو المنع فقد جزم به الرافعي في نظيره من الوقف، وقد تقدم ذكره في الطرف الثاني من الباب الثاني فله طالع منه وقد ذكر الرافعي في كتاب الهبة في الكلام على العمري والرقبى كلامًا آخر متعلقًا بما نحن فيه يتعين الوقوف عليه فراجعه وراجع المذكور في الإجارة أيضًا فإن فيه أمورًا أخرى. قوله: وفي مهر الجارية الموصى بنفعها وجهان: ذهب العراقيون بأسرهم وصاحب "التهذيب" إلى أنه للموصى له، والمنسوب إلي المراوزة أنه لورثة الموصي وهذا أشبه وأظهر على ما ذكره الغزالي. انتهى ملخصًا. والتعبير بالأشهر لم يذكره الغزالي فهو إذن ترجيح من الرافعي، فقد صرح بالترجيح أيضًا في "الشرح الصغير" فقال ما نصه وأظهرهما أنه لوارث الموصى لأنه بدل منفعة البضع ومنفعة البضع لا تجوز الوصية بها انتهى، وصحح عكسه في "المحرر" وعبر بالأصح وتبعه النووي في "الروضة"

و"المنهاج" على هذا الاختلاف، وقد ظهر لك أن الراجح نقلًا هو ما في "المحرر". قوله: ولا خلاف في أنه ليس له وطئها لكن لو وطئ لا يحد للشبهة، وفيه وجه أنه يحد كما لو وطئ المستأجر. انتهى كلامه. وما صححه هنا من عدم وجوب الحد قد جزم بما يخالفه في كتاب الوقف، ذكر ذلك في الفصل الثاني من الباب الثاني في الكلام على وطء الواقف للجارية الموقوفة بلا شبهة وقد تقدم ذكر لفظه هناك، ووقع هذا الاختلاف في "الروضة" أيضًا، فالمذكور هنا أوجه. قوله: وإذا أعتق العبد الموصى بمنفعته صح وكانت الوصية على حالها، وقيل: تبطل فعلى هذا يرجع الموصى له على العتق بقيمة المنافع فيه وجهان. انتهى. قال النووي: من زياداته لعل أصحها الرجوع. قوله: وإن كان موصى بمنفعته على التأبيد فهل يجوز للوارث بيع العين؟ فيه وجوه ثالثها: يصح بيع العبد والأمة، لأنه يتقرب إلى الله تعالى بإعتاقهما. ورابعا: وهو الأرجح على ما يدل عليه كلام الأئمة أنه يصح البيع من الموصي له، ولا يصح من غيره إذ لا فائدة له فيه. انتهى. وحاصل ما ذكره هاهنا أن المبيع إذا لم يكن فيه منفعة سوى الإعتاق لا يصح بيعه وهو مخالف لما جزم به في أوائل البيع من صحة بيع العبد الزمن وعلله بأنه يتقرب بإعتاقه إلى الله تعالى، وهذا التعليل موجود بعينه هنا فيلزم القول بصحة بيع العبد والأمة مطلقًا. قوله: الرابع ليس للوارث وطء الجارية الموصى بمنفعتها إن كانت ممن يحبل لما فيه من خوف الهلاك بالمطلق والنقصان والوصف بالولادة وقد يوجه أيضًا بأنه غير تام الملك فيها، وإن كانت ممن لا يحبل فعلى وجهين كما

ذكرنا في وطء الراهن الجارية المرهونة، وقطع صاحب التتمة بالجواز إن كانت ممن لا يحبل وذكر وجهين في إذا كانت ممن يحبل فيحصل من ذلك ثلاثة أوجه. انتهى كلامه. وحاصله تصحيح المنع مطلقًا وأن الراجح في من يحبل طريقة القطع وفي من لا تحبل طريقة الوجهين، وقد اختصر اختصارًا غير مطابق فصحح التفصيل فقال فيه أوجه: أصحها ثالثها يجوز إن كانت ممن لا يحبل وإلا فلا، هذا لفظه وإنما كان التجويز هنا أولى من الرهن لأن المنافع هنا لا تفوت بالاستيلاد بدليل جواز عتقه ومقصوده الرهن وهو البيع يفوت ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير". قوله: وإن فداه الموصى له ففي وجوب الإجابة على المجني عليه وجهان: أحدهما: لا، لأنه أجنبي عن الرقبة. وأظهرهما: الوجوب لظهور غرضه، وهذا ما إذا فدى أحدهما العبد بمنافعه فلو فدى حصته قال الحناطي: يباع نصيب صاحبه وفيه إشكال لأنه إن فدى الوارث فكيف تباع المنافع وحدها؟ وإن فدى الموصى له، واستمر حقه فبيع الرقبة يكون على الخلاف السابق. انتهى. وما ذكره الصيدلاني من بيع المنافع وحدها أمر معقول قد قلنا به في ما إذا باع حق البناء على السطح ونحوه. قوله: فرع لابن الحداد إذا وصى لرجل بدينار كل شهر من غلة داره أو كسب عبده وجعله بعده لوارثه أو للفقراء والغلة والكسب عشرة مثله. قال ابن الحداد فليس للورثة أن يبيعوا بعض الدار ويدعوا ما يحصل منه دينار لأن الأجرة تتفاوت وقد تتراجع وتعود إلى دينار ثم قال فأما بيع مجرد الرقبة فعلى ما سبق من الخلاف في بيع الوارث الموصى بمنفعته. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن تخريجه على الخلاف الذي ذكره لا يستقيم لأن الموصي بمنفعته مسلوب المنفعة بالنسبة إلى البائع فيكون البائع والحالة هذه بائعًا لجميع ما يملك، وفي مسألتنا البائع مالك للمنفعة أيضًا، ويريد إخراجها بالاستثناء فلا يصح تخريجه على ما تقدم، بل يتخرج على ما إذا باع عينًا واستثنى لنفسه من منفعتها شيئًا فإن المذهب القطع بالبطلان خلافًا لابن شريح في تخريجه على بيع المستأجر. الأمر الثاني: أن تخريج هذه المسألة على الخلاف الذي قاله يقتضي أنه إذا باعه لزيد الموصى له يصح بيعه على الصحيح كما في تلك المسألة وهو فاسد لأن البائع هناك لم يستثن لنفسه شيئًا بخلاف مسألتنا بل لو باعه أيضًا الرقبة وما يستحقه من المنفعة لم يصح أيضًا لأن المشتري هناك يصير مالكًا للرقبة والمنفعة ملكًا تامًا ينتقل عنه إلى وارثه فصح بخلاف ما إذا جعل المنفعة بعد زيد للفقراء فإن البيع والحالة هذه مخالف لمقتضى العقد، فإنه لو باعه عينًا على أنه إذا مات كانت المنفعة للفقراء لا يصح البيع. قوله: وإن كان هناك وصايا أخرى قال صاحب "التقريب": يوزع الثلث بعد الدينار الواحد على أصحاب الوصايا ولا تتوقف فإذا انقضت سنة أخرى استرد منهم بدينار ما يقتضيه التقسيط قال الإمام هذا بين إذا كانت الوصية مقيدة بخبرة الموصى له، وأما إذا لم يقيد وأقمنا ورثته مقامه فهو مشكل لا يهتدي إليه. انتهى. وهذه المسألة ينبغي أن يقال فيها: يستوعبون ما يقتضيه توزيع الثلث على الوصية بالدينار وباقي الوصايا فإذا حصل هذا الاستيعاب انتهى الاستحقاق، وبيان ذلك أنه إذا أوصى بالدينار المذكور فهذه لو انفردت كانت كالوصية بالثلث والذي يزاحمها من الوصايا يوزع الثلث عليهما وعلى هذه الوصية علي مقدارهما، فإن كانت الوصايا مقدار الثلث كانت حصة وصية الدينار

نصف الثلث، وإن كانت الثلثين كانت حصة هذه الثلث على هذا القياس أبدًا وحينئذ يزول الإشكال. قوله: فرع لو انهدمت الدار الموصى بمنفعتها فأعادها الوارث؟ هل يعود حق الموصى له؟ وجهان ولو أراد الموصى له أعادها فعلى الوجهين. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة": أنه يعود. قوله: ولو أوصى بحجة الإسلام وأضافها إلى الثلث ففي تقدمها على سائر الوصايا وجهان أصحهما عند صاحب الكتاب أنها لا تقدم. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" والأصح هو ما صححه الغزالي، كذا صححه النووي في أصل "الروضة"، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". قوله: في "الروضة" ولو تبرع أجنبي فكفر عن الميت بالطعام أو الكسوة أجزأه علي الأصح لقضاء الدين، ولو تبرع بالعتق فقيل على الوجهين، وقيل بالمنع قطعًا. انتهى كلامه. والصحيح في المسألة الأخيرة المنع من حيث الجملة كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والمصنف كلاهما في كتاب الأيمان، ومحله في الكفارة المخيرة فلو كانت مرتبة صح الإعتاق من الأجنبي على الأصح كذا ذكره في أصل "الروضة" هناك. قوله: ولو أوصي بالعتق في الكفارة المخيرة وزادت قيمة الرقبة علي قيمة الطعام والكسوة فالأصح اعتباره من الثلث لأنه غير محتم عليه، ثم قال وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه يعتبر جميع قيمته من الثلث فإن لم يف الثلث به عدل إلى الطعام. وأشبههما: أن المعتبر بين الثلث ما بين القيمتين من التفاوت لأن أقل

القيمتين لازم لا محالة. انتهى كلامه. وليس فيه هنا ترجيح غير والصحيح اعتبار الجميع على خلاف ما يقتضيه كلامه هنا فاعلمه فإن الرافعي قد أعاد المسألة في كتاب الأيمان في الباب الثاني المعقود للكفارة، ونقل هذا الترجيح بعينه فقال أنه أقيس عند الأئمة ثم قال ولكن الأصح وظاهر النص حسبان الجميع من الثلث، ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" و"الروضة". قوله: وذكر صاحب "العدة" أنه لو أنبط عينًا أو حفر نهرًا أو أغرس شجرًا أو وقف مصحفًا في حال حياته أو فعل غيره عنه بعد موته يلحق الثواب بالميت. أعلم أن أنبط بنون ساكنة وباء موحدة مفتوحة وطاء مهملة قال الجوهري يقول: نبط الماء ينبط وينبط، أي بالكسر والضم نبع، وأنبط الحفار نبع الماء، هذا لفظه. قوله: والصدقة عن الميت والوقف عنه ينفعه وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت لأنها ضرب من الصدقة، وقد رأيت أبا الحسن العبادي أطلق القول بجواز التضحية عن الغير وروى فيه حديثًا، لكن في "التهذيب" أنه لا يجوز التضحية عن الغير بغير إذنه وكذلك عن الميت إلا أن يكون أوصى به. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وليس فيه تصريح برجحان في التضحية عن الميت إذا لم يوص وقد جزم الرافعي في "المحرر" بالمنع ذكر ذلك في كتاب الأضحية، وتبعه عليه في "المنهاج" وصرح القفال في "فتاويه" بحكاية وجهين في التضحية عن الميت بخصوصه قال: فإن جوزنا لم يجز الأكل لأن الأضحية وقعت عنه فلا يجوز الأكل إلا بإذنه وهو متعذر، ولم يبين الرافعي ولا النووي الحديث الذي رواه العبادي فهو ما رواه مسلم في كتاب الحج أن

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى عن أزواجه بالبقر. قوله: وعن القاضي أبي الطيب طريق ثالث في انتفاع الميت بالقراءة وهو أن الميت كالحاضر فترجي له الرحمة وحصول البركة، إذا أهدي الثواب إليه القارئ. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره الرافعي في آخر كلامه من التعبير بقوله أهدى قد رأيت كذلك في نسخ عديدة من الرافعي ولم أر في شيء من نسخه ما يخالفه، والمراد به الجعل بقوله اللهم اجعل ثوابه واصلًا لفلان كما هو المعتاد الآن، وقد سبق في الإجارة نقله عن الشيخ عبد الكريم السالوسي إلا أنه على هذا التقدير لا يكون طريقًا ثالثًا ولا يتقيد أيضًا بحضورهم عند الميت لا جزم أنه في "الروضة" لما أشكل عليه ذلك لم يعبر بالإهداء، بل عبر بالوصول فقال: إذا وصل الثواب للقارئ. الأمر الثاني: أن نسخ الرافعي قد اضطربت في التعبير عن ما بعد لفظ أهدى ففي كثير منها إذا أهدى الثواب إلى القارئ ولا معنى لهذه العبارة، ولعله هو الحامل للنووي على التعبير بقوله وصل وفي بعضها إليه كما تقدم نقله عنه، وفي بعضها إليه كما تقدم نقله عنه، وفي بعضها إذا أهدى الثواب القارئ أي بدون شيء قبل القارئ لا إليه ولا إلي، وعلي هذا فالقارئ فاعل مؤجر، وبالجملة فهذه المقالة قد سبق بيانها من الرافعي في كتاب الجنائز في الكلام على الدفن فقال: وسأل القاضي أبو الطيب عن قراءة القرآن في المقابر فقال: الثواب للقارئ ويكون الميت كالحاضر يرجى له الرحمة والبركة فيستحب قراءة القرآن في المقابر والدعاء عقبها، هذا لفظه، وفيه شرح لما أجملته في هذا الباب، ووقع غلطه وتحريفه. قوله في "الروضة": ولو قال أوصيت لعبدي برقبته فهي وصية صحيحة

ومقصودها الإعتاق، ويشترط قبول العبد على الأصح لاقتضاء الصيغة ذلك كقوله لعبده: ملكتك نفسك، أو وهبتك نفسك فإنه يشترط فيه القبول في المجلس، ولو قال: وهبتك نفسك، ونوى به العتق عتق بلا قبول. انتهى كلامه. وما ذكره في أجره مشكل بل ينبغي اشتراط القبول لأنه صريح في بابه ووجد نفاذًا في موضوعه كما لو قال لشخص: تصدقت عليك ونوى الوقف فإنه لا يكون مقابل صدقة لأنه وجد نفاذًا في موضوعه فلا ينصرف إلى غيره بالنية بخلاف ما إذا أضافه إلى جهة كالفقراء كما سبق إيضاحه في بابه، وتقدم الوعد بذكر هذا الإشكال، فالصواب التسوية بين المساكين، واعلم أن الرافعي عبر بقوله ولو قال: وهبت نفسك لا على طريق التمليك، بل نوى به العتق عتق من غير قبول هذه عبارته، وهو يحتمل أن يكون التعبير بقوله لا على طريق التمليك من جملة الصيغة الصادرة من السيد وأن لا يكون كذلك، بل تصوير المسألة، فإن كان الأول كان الحكم المذكور صحيحًا لأن اللفظ الأخير منع الأول من مدلوله فأشبه السلم فإنه لا ينعقد بلفظ البيع على ما صححوه فإذا ضم إليه بعد ذلك لفظًا آخر ذلك علي السلم انصرف إليه كما أوضحته في بابه وكما إذا قاله وهبتك هذا بكذا فإنه يكون بيعًا وغير ذلك. قوله: وإذا امتلك في مرض موته من يعتق عليه فهل يحسب عتقه من الثلث فيه وجهان الأشبه لا بل يحسب من رأس المال لأنه لم يعتق باختياره ولم يبذل مالًا فيتضرر به الورثة. انتهى ملخصًا. وما رجحه هنا من كونه يحسب من رأس المال صرح أيضًا بتصحيحه في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر، ثم أعاد المسألة في كتاب العتق من هذا الكتاب أعني "الشرح الكبير" وذكر ما يوافق هذا فقال أنه أولى بالترجيح لكن ذكر ذلك في الإرث خاصة، وأما الهبة والوصية فحكى فيها وجهين

من غير ترجيح. إذا علمت ذلك فقد ذكر هذه المسائل الثلاث في كتاب العتق من "المحرر" وصحح في الكل أنه يحسب من الثلث وعبر بالأصح، ولم يذكر المسألة في هذا الباب، وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. قوله: وأما إذا نجز عتق الحامل في الحياة واستثنى حملها ففي "التهذيب" وغيره أن الحمل يعتق أيضًا، وأن الاستثناء لا يصح ولم يذكروا فيه خلافًا. انتهى. وما ادعاه من نفي الخلاف قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وعبر بقوله: لم يصح استثناؤه بلا خلاف، وليس الأمر كذلك فقد ذكر في "الكفاية" عن القاضي الحسين فيه خلافًا مبنيًا على أن عتق الحمل هل هو بطريق السراية أو بطريق التبعية؟ ، فإن قلنا بطريق التبعية صح استثناؤه، قال: لأن الشيء قد يتبع ظاهرًا، فإذا صرح بخلافه انقطع عنه كالثمرة التي لم تؤثر ببيع الأصل في البيع عند الإطلاق، وإذا صرح باستثنائه لم يتبع فيها. قوله في أصل "الروضة": ولو كانت لشخص وحملها لآخر فأعتقها مالكها لم يعتق الحمل قطعًا لأن اختلاف الملك يمنع الاستتباع. انتهى. وما ادعاه من كونه لا يعتق قطعًا ليس كذلك فقد نقل القاضي الحسين في التعليق عن بعض أصحابنا أنه يعتق وجب على معتق الأم قيمته وقت الخروج من البطن ونقله أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: الخامس أوصى بثلث عبد معين أو دار فاستحق ثلثاه ففيه طريقان إلى آخره. اعلم أن الصحيح في هذه المسألة خلاف ما ذكره هنا وقد سبق بيان ذلك واضحا في آخر الباب الثالث من أبواب الإقرار.

قوله: ولو أوصى بثلث صبرة فتلف ثلثاها فله ثلث الباقي بلا خلاف لأن الوصية تناولت التالف كما تناولت الباقي. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الخلاف تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب جدًا، فقد جزم في "التتمة" بأنه يستحق الجميع، كذا ذكره في الفصل الرابع من الباب الثالث فقال: الخامس لو أوصي بثلث صبرة من الطعام فتلف ثلثاها فيسلم الباقي إلى الموصى له بخلاف الدار إذا خرج ثلثها مستحقًا هذا لفظه، ثم فرق بأن المستحق غير قابل للعقد، وأما فحملها قابله له فصح فيها العقد والوصية إذا صحت وأمكن الوفاء بها لا يجوز إبطالها وأغرب من ذلك أن الماوردي في "الحاوي" قد نقله عن نص الشافعي في "الأم" ومثل له بأمثلة منها الأرض والدراهم والدنانير ثم إن الماوردي بعد ذلك رجح خلاف النص فقال والذي أراه أنه لا يستحق إلا ثلث الباقي، ذكر ذلك في فصل أوله فإذا تقرر أن له جميع الثلث وذكر أيضًا في "البحر" ما ذكره الماوردي من النص والمخالفة. قوله: وما أوصى به للمساكين هل يجوز نقله إلى مساكين غير بلد المال فيه طريقان: أحدهما: أنه على قولين كما نقل الزكاة تنزيلًا للفظ المطلق على ما ورد به الشرع. والثاني: ترتيب الوصية على الزكاة إن جوزنا نقل الزكاة ففي الوصية أولى، وإن منعنا ففي الوصية وجهان، والفرق أن الزكاة مطمح نظر الفقراء من حيث أنها موظفة دائرة والطريق الثاني هو المذكور في الكتاب لكن الأكثرون أوردوا الأول. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ظاهر هذا الكلام ترجيح منع النقل لأنه المصحح في

الزكاة، لكن صحح الرافعي في قسم الصدقات جواز نقل الوصية والكفارات، وستعرف لفظه في موضعه فراجعه ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوجيز" قد ذكر في قسم الصدقات طريقين آخرين: أحدهما: تخريجه على الزكاة، والثاني: جوازه، وكلام الرافعي يوهم خلافه، وستعرف ذلك أيضًا في موضعه. وقول الرافعي مطمح هو سكون الطاء وبالحاء المهملتين قاله الجوهري طمح بصره إلى الشيء أي ارتفع وبفتح الميم معناه ارتفع وأطمح بصره أي رفعه وكل شيء مرتفع فهو طامح، وهذا المعنى هو معنى قول الفقهاء أن أعين الفقراء تمتد إلى الزكاة. قوله: وإذا قلنا لا يجوز النقل فلو لم يكن في تلك البلدة فقير فتنقل كالزكاة أم تبطل الوصية، فيه وجهان في بعض الشروح، ولو عين فقراء بلد ولم يكن فيهم فقير بطلت الوصية كما لو أوصى لولد فلان ولا ولد له، انتهي كلامه. والأصح من الوجهين كما قال في "الروضة" من زوائده هو جواز النقل، وما ذكره في آخر كلامه من بطلان الوصية عند التعبير فقد وافقه عليه في "الروضة"، وذكر من زياداته قبيل باب الهدي في نظيره من النذر أنه يصير إلى وجودهم، وقد ذكرته هناك فراجعه.

القسم الثالث في "المسائل الحسابية"

قال -رحمه الله-: القسم الثالث: في "المسائل الحسابية" قوله: ولو قال وصيت له بنصيب ابني فوجهان: أصحهما عند العراقيين والبغوي البطلان. وأصحهما عند الإمام والروياني وغيرهما وبه أجاب الأستاذ أبو منصور صحتها، ويجري الوجهان في ما لو قال بعت عبدي منك بما باع به فلان قريبه وهما يعلمان قدره. انتهى ملخصًا. لم يصرح أيضًا بتصحيح هنا والأصح هو الصحة فقد صححه الرافعي في كتاب البيع في آخر الكلام على بيع المرابحة وعبر بالأصح وتبعه عليه النووي، وصححه أيضًا في "الشرح الصغير" هنا وعبر بالأظهر، ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". قوله: ولو قال أعطوه زهاء ألف درهم فالوصية بما فوق النصف. انتهى. وزهاء بضم الزاي المعجمة وتخفيف الهاء وبعدها همزة ممدودة معناه قدر، قال الجوهري: زهاء مائة أي قدر مائة، هذا لفظه، وحينئذ فالقول بإعطاء ما دون الألف مشكل، وقد استشكله النووي أيضًا. قوله قبيل الباب الثالث المعقود لمسائل العين والدين: ومنها الجنايات فإذا جنى عبد على حر خطأ وعفى المجني عليه ومات لم يكن العفو وصية لقاتل، لأن فائدته تعود إلى السيد، فإن أجاز الورثة فذاك وإلا نفذ في الثلث، وانفك ثلث العبد عن تعلق أرش الجناية، وأشار الإمام إلى وجه بأنه لا ينفك كالمرهون، ثم قال: هذا إذا لم يترك العافي سوى ما يستحقه من الدية، فإن ترك مالًا نظر، إن كانت القيمة أقل من الدية وكان ما تركه ضعف القيمة صح العفو في جميع العبد، وإن كان ما تركه دون ضعف القيمة ضمت

التركة إلي قيمة العبد وصح العفو في ثلث الجملة من العبد وإن كانت القيمة أكبر من الدية جمع بين التركة والدية، وصح العفو في ثلث الجملة من الدية. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أنه إذا كان المتروك ضعف القيمة فإنه يصح العفو في جميع العبد بلا شك سواء كانت القيمة أقل من الدية أم لا فإدخال قدر القيمة في أصل التقسيم فاسد، بل صوابه أن يقول نظر إن كان المتروك ضعف القيمة فأكثر صح العفو في جميع العبد، وإن كان دون الضعف فإما أن تكون القيمة أقل فيضم ما تركه إلى قيمة العبد، وإما أن يكون أكثر فتجمع إلى آخره. الأمر الثاني: أن تعبيره في آخر الكلام بقوله من الدية وقع أيضًا في "الروضة" وصوابه أن يقول من العبد كما ذكر في القسم الذي قبله، وقد صرح بذلك في "النهاية" مثاله قيمة العبد ثلاثون ألفًا والتركة خمسة آلاف، والأرش عشرة آلاف فمجموع التركة خمسة عشر ألفًا فيصح العفو في ثلثه وذلك نصف الدية، وهو نصف العبد من نصف الدية، واعلم أن تقسيم الرافعي أيضًا غير حاصر بل يبقى قسم ثالث وهو أن تكون القيمة قدر الدية إلا أنه أهمله لأن الحكم لا يختلف بضمه إلى القيمة أو الدية لاستوائهما فإن ذلك إنما ذكر لبيان أنه هل يضم إلى هذا أو ذاك، وإنما يحتاج إلى هذا البيان عن اختلاف القدر. قوله: في ما إذا أعتق عبدًا لا يملك غيره فرع: مات العبد المعتق قبل موت السيد فهل يموت حرًا أو رقيقًا أم ثلثه حرًا وثلثاه رقيقًا فيه ثلاثة أوجه، وهو كالخلاف الذي أسلفناه في موت العبد الموهوب قبل موت الواهب المريض، قال الأستاذ أبو منصور: والمشهور في المذهب هو الوجه الأول

والثاني من تخريج ابن سريج. انتهى كلامه. ومسألة الهبة التي أشار إليها ذكرها قبل هذا بنحو كراس فقال: مسألة وهب المريض عبدًا قيمته مائة فمات في يد المتهب ثم مات الواهب ولا مال له، فعن ابن سريج وجهان: أحدهما: تصحيح الهبة في جميع العبد لأنه لم يبق شيء يورث عنه فتجعل هبته كهبة الصحيح. وأصحهما: أنها باطلة لأنها في معنى ولا تثبت الوصية في جزء ما لم يثبت الأرش في جزءين، فإن قلنا بالبطلان ففي وجوب الضمان على المنتهب وجهان، وجه الوجوب أنه قبض لنفسه وكانت يده كيد المستعير، والأشبه المنع، وليس كالمستعير فإنه قبض. انتهى كلامه. وما نقله عن الأستاذ وأقره من كون المشهور هو الأول، وكذلك ترجيحه عدم الضمان علي الميت قد خالفهما معا في كتاب العتق في أول الخصيصة الثالثة وستقف عليه هناك. قوله: المسألة الثانية أعتق المريض جارية قيمتها مائة ونكحها علي مهر مسمى فينظر إن تملك مالا أخر وكانت الجارية قدر الثلث بأن خلف شيئًا سواها فإن لم يدخل بها فلا مهر لأنها لو إستحقت المهر للحق دين التركة، وإن دخل بها قال الشيخ أبو علي: تخير إن عفت عن مهرها عتقت وصح النكاح وإن لم تعف فلها ذلك لأنه أتلف منفعة بضعها وحينئذ يتبين أن جميعها لم يعتق وأن النكاح فاسد ولها مهر ما عتق منها. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ما نقله عن الشيخ أبي علي وهو الصحيح إذا فرعنا على أن العبرة إنما هو بالمال الموجود عند الموت، فإن قلنا: الاعتبار بوقت الوصية، فلا يتجه فساد النكاح لأن استحقاق المهر ونقصان الثلث به طاريء على العتق.

قوله: قبل أواخر الباب بأوراق قلائل: ولو اكتسب العبد المعتق الذي قيمته تسعون مثل قيمته وقيل نصفها، وعلى السيد مثل قيمة العبد دينا عتق منه شيء وتبعه من الكسب شيء، ونصف يبقَى عند الورثة عبْدَان ونصف عبد، إلاَّ شيئين ونصف شيء، يسقط منه عبدٌ للدَّيْن؛ ويبقَى عبد ونصف إلاَّ شيئين ونصف شيء، يعدلُ ضعْفَ ما عتق، وهو شيئان، فبعد الجَبْر: عبدٌ ونصف يعدِلُ أربعة أشياء ونصف شيء. فنبسطها أنصافاً، ونقلِبُ الاسمُ فالعبْدُ تسعة، والشيء ثلاثةٌ، يعتق من العبد ثلاثةُ أتساعه، وتبعه من الكَسْب ثلاثة أتساعه، يُقْضَي الدين من الباقي؛ يبقَى عند الورثة ضعْفُ ما عَتَقَ (*). تابعه عليه في "الروضة" وصوابه أن يقول: ويتبعه من الكسب أربعة أتساع ونصف.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كان في تركيب العبارة أخطاء يسيرة أصلحناها من (شرح الرافعي)

الباب الثالث: في "الرجوع عن الوصية"

الباب الثالث: في "الرجوع عن الوصية" قوله: وإزالة الملك من الموصى به رجوع قال لأن الوصية تمليك عند الموت فإذا لم يبق في ملكه ما تنفذ الوصية فيه. انتهى كلامه. وما ذكره من الجزم بكونه رجوعا صحيح فإن ذلك يدل على الإعراض عن الوصية، وأما العلة التي ذكرها فاسدة لأن من لا يملك شيئًا أصلًا تصح وصيته اعتمادًا على ما سيملكه، وأيضًا فإنه إذا أوصى بعين لا يملكها ففي صحته خلاف، والراجح على ما قاله النووي الصحة حتى إذا أتلفها ثم مات نفذت الوصية فإذا كان عدم الملك ليس مانعًا في الابتداء ففي الدوام أولى فلا يصح جعله مقتضيا للإبطال. قوله: ولو أوصى بعين لزيد ثم أوصى بها لعمرو فالصحيح المنصوص أنه رجوع لاحتمال إرادة الشريك بينهما كما لو قال: أوصيت به لكما، ثم قال: ولو أوصى به لأحدهما، ثم أوصى بنصفه للآخر، فإن قبلا فثلثاه للأول وثلثه للثاني، وإن رد الأول فنصفه للثاني وإن رد الثاني فكله للأول. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة، أيضًا على قوله: فثلثاه للأول وثلثه للثاني، وهو غلط، بل الصواب أن للأول ثلث أرباعه وللثاني الربع، فإن النصف للأول وشركة مع الثاني في النصف الآخر فيكون بينهما نصفين عملًا بالقاعدة التي تقدمت. قوله: وأما مسألة التمييز فعن ابن سريج في الشرى ثلاثة أوجه. . . . إلى آخره. هذه المسألة يأتي الكلام عليها في الأيمان. قوله: ولم يذكروا خلافًا في ما إذا طبخ اللحم أو سواه أنه رجوع مع

صحة القول بأنه لحم مطبوخ. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على دعوى عدم الخلاف وليس كما قال، بل فيه وجه أنه لا يكون رجوعا صرح به الروياني في "البحر" ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: وإن أوصى بصاع من صبرة ثم خلطها بأجود فهو رجوع لأن الزيادة الحاصلة لم تتناولها الوصية، وقد ذكرنا في البناء المستحدث في الدار وجها أنه يدخل في الوصية لزنه صار من الدار وذلك الوجه ما هذا أقرب منه في البناء، وإن لم يذكروه. انتهى كلامه. وهذا الوجه الذي أشار إلى تخريجه وادعى أنهم لم يذكروه قد صرح بنقله ابن يونس شارح "التنبيه" وحذف النووي من "الروضة" ما ادعاه الرافعي من عدم ذكره فسلم من الاعتراض.

الباب الرابع: في "الوصاية"

الباب الرابع: في "الوصاية" قوله: والوصاية مستحبة في رد المظالم وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا وأمور الأطفال. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من التقييد بالأطفال قد تبعه عليه في "الروضة" وليس كذلك فقد صرح القاضي أبو الطيب وغيره بصحتها على المجنون وصرح مجلي في "الذخائر" بصحتها على السفيه الذي بلغ سفيها قياسًا على الصبي. الأمر الثاني: أن ما ذكره من الاستحباب في رد المظالم وقضاء الديون قد استدركه في "الروضة" عليه فيه فقال: هذا إذا كان قادرًا عليها في الحال فإن كان عاجزًا عنها وجب عليه أن يوصي بهما، وفي ما قال نظر. الأمر الثالث: أن الوصية بما عليه قد سبقت في أول كتاب الوصية، وفَصَّل بين أن يعلم به الغير أم لا، ووافقه عليه في "الروضة". وذلك التفصيل مخالف لكل من هذين الجوابين، وقد تقدم الكلام عليه هناك فراجعه. قوله: ولا تجوز وصاية مسلم إلى ذمي ويجوز عكسه، وتجوز وصاية الذمي إلى الذمي على الأصح بشرط العدالة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: إذا كان المسلم وصيًا على ذمي وفوض إليه الموصي أن يوصي أيضًا عليه فالمتجه جواز إسناد الوصية عليه إلى ذمي مثله. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر بعد هذا أنه يشترط في الوصي أن لا يكون عدوًا للموصى عليه، وحينئذ فيشترط في الوصي الذمي أن يكون من

صلة الوصي عليه حتى لا تصح وصاية النصراني على اليهودي أو المجوسي لما بينهما من العداوة. وقد توقف الرافعي في كتاب النكاح في أن من ذكرناه هل يلي النكاح أم لا؟ فيحتمل جريان ذلك التوقف هنا، إلا أن الحق عدم الولاية عند الاختيار لما ذكرناه، وقد أوضحناه هناك. قوله: وكل ما اعتبر من الشروط ففي وقت اعتباره ثلاثة أوجه: أصحها: تعتبر حالة الموت. والثاني: عند الوصاية والموت جميعًا. والثالث: يعتبر في الحالتين وفي ما بينهما. انتهى ملخصًا. ومقتضى هذه الأوجه كلها أنه لا يكفي وجودها عند القول بالاتفاق وإن كان هو الوقت الذي ينصرف فيه وسببه أن ولايته قد دخلت بالموت فإنه وقت تسلط على القبول. قوله: وأيضًا فإن الوصاية قريبة من التأمير ومن المشهور أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر زيدًا وقال: إن أصيب زيد فجعفر وإن أصيب فعبد الله ابن رواحة (¬1). انتهى. وما قاله في الأمراء المذكورين من الترتيب المذكور قد ذكر في الباب الأول من كتاب الوكالة ما يخالفه وسبق ذكر ما قاله فيه هناك، والمذكور هنا هو الصواب. قوله: وإذا نصب وصيًا لذلك أي لقضاء الديون وتنفيذ الوصايا لم يتمكن من إلزام الورثة تسليم التركة لتباع في الدين، بل لهم الإمساك وقضاء الدين من مالهم، ثم قال: هذا إذا أطلق الوصاية بقضاء الدين فإن قال: ادفع هذا العبد إليه عوضًا عن دينه فينبغي أن لا يكون للورثة إمساكه ¬

_ (¬1) تقدم.

لأن في أعيان الأموال أغراضًا. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي يجب فيها الرافعي واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقل فيها وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا، قد صرح بنقلها الروياني في "البحر"، وصحح منهما ما قاله الرافعي من امتناع الإمساك. قوله في المسألة: ولو قال: بعه واقض دينه من ثمنه، فيجوز أن لا يكون لهم الإمساك أيضًا لأنه قد لا يكون أطيب وأبعد عن الشبهات. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي أيضًا بحثًا وتابعه عليه في "الروضة" قد صرح به البندنيجي في "تعليقه"، وجزم بالمنع على وفق ما بحثه -أعني: الرافعي- وذكر الروياني أيضًا المسألة في "البحر" وحكى فيها وجهين. قوله: ولو اقتصر على قوله: أوصيت إليك في أمور أطفالي، وأقمتك مقامي في أمورهم، فثلاثة أوجه، المذهب منها على ما قاله في "التتمة" صحة الوصية وجواز التصرف. انتهى ملخصًا. وما صححه صاحب "التتمة" هو الصحيح كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو أوصى إلى اثنين وتنازعا في الحفظ وكان مما يقسم، قسم بينهما، ثم إذا قسم وتنازعا في تعيين النصف المحفوظ فهل يقرع بينهما، أو يعين القاضي واحدًا منهما؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح القرعة، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له. قوله: وللوصي عزل نفسه متى شاء. انتهى. قال في "الروضة": إلا إذا غلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض أو غيره فلا يجوز له ذلك ويتعين عليه النظر فيه. انتهى. وعلى هذا لو لم يكن قد قبل فهل يلزمه القبول؟

فيه نظر يحتمل أن يجب لقدرته على دفع الظالم بذلك ويحتمل خلافه. قوله: وإن ادعى الوصي دفع المال إليه بعد البلوغ لا يقبل بغير بينه على الصحيح وقيم الحاكم كالوصي. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهما ساكتان عن دعوى الأب والجد، وقد صرح ابن الرفعة بأنهما كالوصي في ذلك وهو مقتضى ما ذكره الشيخ في باب الحجر من "التنبيه" فإنه قال: وإن ادعى الولي أنه أنفق عليه ماله أو تلف فالقول قوله، وإن ادعى أنه دفعه إليه لم يقبل إلا ببينة. انتهى. فتعبيره بالولي الشامل للأب والجد دليل عليه. قوله: ولا يلزم الوصي الإشهاد في بيع مال اليتيم في الأصح. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق عدم الوجوب ومحله إذا كان المبيع حالا، فإن كان مؤجلًا وجب الإشهاد فإن تركه ففي بطلان البيع وجهان كذا ذكره من "زوائده" في آخر الباب الأول من أبواب الرهن. قوله: ولو أوصى إلى الله تعالى وإلى زيد فقياس ما سبق في ما إذا أوصى لله تعالى ولزيد -أي: في المال- فجيء وجهين: أحدهما: أن الوصاية إلى زيد. والثاني: إلى زيد والحاكم. انتهى كلامه. والمذكور هنا وهو قبيل الكلام على الأحكام المعنوية حاصله تصحيح الاشتراك هاهنا والتخريج المذكور غير مستقيم لأن الوصية بالمال لله -عز وجل- وصية صحيحة ومصرفها وجوه البر والقربان فإذا أشرك بين ذلك وبين جهة أخرى صح القول بالتصنيف، وأما الوصاية بالأطفال إلى الله -عز وجل- فليست لها جهة صحيحة فتعين إرادة التفويض إلى الله -تعالى والتبرك به.

نعم ذكر الرافعي في أخر الركن الثاني من أركان الطلاق نقلا عن البوشنجي أنه لو قال لرجل: أمر زوجتي بيد الله وبيدك، سئل فإن قال: أردت أنه لا يستقل بالطلاق، قبل قوله ولم يكن له أن يطلق، وإن قال: أردت أن الأمور كلها بيد الله -عز وجل- والذي كتبه الله لي أي جعله لي قد جعلته لزيد، قبل واستقل ذلك الرجل، هذا كلامه، وحينئذ فينبغي وجوب استفساره قبل الموت، فإن تعذر ففيه نظر، وكذلك لم يذكر في الوصية والقياس حمله على التصحيح.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة قوله: ولو كان يعجز عن حفظ الوديعة حرم عليه قبولها. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق التحريم وقيده في "الكفاية" بما إذا لم يعلم المالك بحاله فإن علم فلا تحريم، والذي قاله ظاهر. قوله: ولو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك هذا، فقطع الروياني في "الحلية" بالجواز، والقياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن "حلية" الروياني قد جزم بمثله في "البحر" أيضًا، وما ذكره الرافعي من تخريجه علي تعليق الوكالة وتبعه عليه في "الروضة" فيه التباس؛ لأن التصرف في الوكالة المعلقة صحيح على الصحيح ويسقط المسمى عليه الصحيح وتجب أجرة المثل، وإن قلنا بفسادها والوديعة لا عوض فيها وحفظها هو نظير التصرف هناك لأنه المقصود في الموضعين والتصرف صحيح فكذلك الحفظ، فتفطن له. قوله: إذا أودعه في قرية فنقل الوديعة إلى قرية أخرى نظر إن كان بينهما مسافة يسمى الضرب فيها سفرًا ضمن بالسفر بها وبعضهم لا يقيد، ويقول: إن كان بينهما مسافة ضمن، كأنه يجعل مطلق المسافة مصححا اسم السفر، وظاهر الكتاب يوافق هذا، إلا أنه أراد الأول على ما قيده في "الوسيط" وهو الظاهر، وحكى الشيخ أبو حاتم القزويني وغيره وجهان: أنها إذا كانت المسافة دون القصر وكانت آمنة والقرية المنقول إليها أحرز لم يضمن، وهذا يصير إلى أن المسافر بالوديعة يضمن بشرط طول السفر وهو بعيد، ثم قال: وإن كانت المسافة بحيث لا تصحح اسم السفر فإن كان فيها خوف ضمن وإلا فلا على أظهر الوجهين. انتهى.

واعلم أن الغزالي عَبَّر في "الوسيط" بقوله: وبينهما مسافة تسمى سفرًا، وفي "الوجيز" بقوله: إن كان بينهما مسافة ضمن بالسفر، وتعليله بالسفر يبين أنه أراد موافقته لما في "الوسيط" أيضًا، وهو واضح وقد بين في "البسيط" أن المسمى بالسفر عند الإطلاق إنما هو الطويل، فقال: فإن كان بينهما مسافة القصر، فيطلق عليها اسم السفر فيضمن به؛ وإن كان دونه لم يضمن؛ هذا لفظه في "البسيط" وذكر في "النهاية" قريبًا منه فإنه قال: فإن كانت مسافة القصر فنقلها مسافر. . إلى آخره. إذا علمت ذلك علمت أن ما فهمه الرافعي من أن مراد الغزالي بالسفر ما دون مسافة القصر ليس كذلك وظهر لك أيضًا الاعتراض عليه في مغايرته بين كلام "الوسيط" و"الوجيز". قوله: الثالث: في أسباب الضمان، ترك الإيصاء بالمرض، فإذا مرض المودع عنده مرضًا مخوفًا أو حبس ليقتل لزمه أن يوصي بها فإن سكت عنها ضمن لأنه عرضها للفوات إذ الوارث يعتمد ظاهرًا اليد ثم قال: والتقصير إنما يتحقق بترك الوصاية إلى الموت فلا يحصل التقصير إلا إذا مات لكن تبينا عند الموت أنه كان مقصرًا من أول المرض وضمناه أو يكون التلف الحاصل بعد الموت ملحقًا بالتردي في بئر حفرها متعديا. انتهى. وهذا البحث الذي أثاره الرافعي في معنى ضمانها يجب منهم إلا أن ما ذكره في معنى الضمان وتأويله بما ذكره ليس كذلك، بل مجرد المرض يصير ضامنا إذا لم يوص حتى لو تلفت في مرضه أو بعد صحته وجب ضمانها هذا مدلول ما ذكروه تصريحًا وتلويحًا، وهو ظاهر منقاس كسائر أسباب التقصير، ولم يذكر في "الروضة" هذا الكلام بالكلية. قوله: في "الروضة": والمراد بالوصية الإعلام والأمر بالرد مع بقائها في يده. انتهى كلامه.

وهو موهم أو ظاهر في عدم وجوب الإشهاد عند إيصاء الوارث أو غيره، وليس كذلك، بل لابد منه كما صرح به الغزالي وغيره وجزم به في "الكفاية"، والغريب أن الرافعي أيضًا قد نقله عنه، ولكن حذفه من "الروضة". قوله: فرع: قال الإمام: إذا لم يوص المريض بالوديعة فادعى صاحبها أنه قصر، وقالت الورثة: لعلها تلفت قبل أن ينسب التقصير، فالظاهر براءة الذمة. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام في هذا التصوير غلط تبعه عليه في "الروضة"، فإن الإمام ذكر صورتين الأولى إذا أثبت الإيداع فادعت التلف، وقالت: لعله إنما لم يوص بها لأجل أنها تلفت عن حكم الأمانة، ففيه تردد وعدم الضمان أولى. ثم قال ما نصه: وإن قالوا غرمنا الإيداع ولكن لم ندر كيف كان الأمر ونحن نجوز أن تكون الوديعة تلفت على حكم الأمانة فلم يوص لأجل ذلك، فإن ضمناهم في المسألة السابقة وهي ما إذا جزموا بدعوى التلف فهاهنا أولى، وإن لم يضمنهم هناك فهاهنا وجهان. أحدهما: يجب، لأنهم لم يدعوا مسقطا، وهذا هو الأصح. والثاني: لا، لأن الأصل في الوديعة هي الأمانة. انتهى. وحاصله أن الصحيح عند الإمام في الصورة المذكورة في الرافعي و"الروضة" على خلاف ما نقلاه فيها عنه، وسببه أنه قد اشتبهت عليها المسألة الثانية بالأولى، فلله الحمد على الإلهام لذلك. قوله: وإذا خلط الوديعة بمال نفسه وفقد التمييز ضمن وإن خلطها بمال آخر للمالك ضمن أيضًا على الأصح، لأنه جناية ولو أودعه دراهم فأنفق منها درهمًا ثم رد مثله إلى موضعه لا يبرأ من ضمانه ولا يملكه المالك إلا

بالدفع إليه، ثم إن كان المردود غير متميز عن الباقي صار الجميع مضمونًا لخلط الوديعة بمال نفسه فإن تميز فالباقي غير مضمون. . إلى آخره. اعلم أن الرافعي قد ذكر في الغصب في الكلام على خلط الحنطة والزيت ونحوهما بمثلهما أن الذي لا يتميز إهلاك حتى ينتقل ذلك المال إليه ويلزمه مثله أو قيمته حتى اقتضى كلامه هناك ما هو أبلغ من هذا وهو أنه إذا تعدى بخلط مالين كل منهما لغيره فإنه يملكها ويترتب في ذمته الغرم، وكلامه في هذا الباب مخالف لذلك كله، وكذا كلامه في آخر القراض. قوله: فإن أودعه الخاتم ولم يقل شيئًا فجعله في غير الخنصر لم يضمن، وإن جعله في الخنصر ففيه احتمالان عن القاضي حسين وغيره: أحدهما: يضمن لأنه استعمال. والثاني: أنه إن قصد الحفظ لم يضمن وإن قصد الاستعمال ضمن، وفي "الرقم": أنه إن جعل فصه في ظهر الكف ضمن لدلالته على قصد الاستعمال، وإلا لم يضمن، لكن من آداب التختم أن يجعل الفص إلى بطن الكف وأنه يقدح في هذا الاستدلال، وغير الخنصر في حق المرأة بمثابة الخنصر. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره الرافعي في آخر كلامه من استحباب جعل الفص لباطن الكف قد أسقطه من "الروضة"، وقد رجح من "زوائده" الضمان مطلقًا إلا إذا قصد الحفظ، وسوف أتكلم أيضًا على شيء من هذه المسألة في كتاب الأيمان. الأمر الثاني: أنه سكت عن حكم الخنثى إذا لبس في غير الخنصر فيحتمل أن يلتحق بالرجل لأن الأصل عدم الضمان، ويحتمل مراعاة الأغلظ هنا وهو التحاقه بالمرأة، كما غلظنا في إيجاب الزكاة فألحقناه

بالرجل. قوله: ولو سرق الوديعة من أجيرها أو من أجيره ضمن ولو تلفت بسبب آخر لم يضمن. ذكره أبو الفرج الزاز، ثم قال: وزاد العبادي على هذا فقال: لو أن رجلًا من عرض الناس سأل المودع هل عندك لفلان وديعة وأخبره بها ضمنها لأن كتمانها من حفظها. انتهى. عُرض: بضم العين وسكون الراء المهملتين وبالضاد المعجمة، قال الجوهري: تقول: رأيته في عُرض الناس أي في ما بينهم، وفلان من عُرض الناس، أي: من العامة. انتهى. والمذكور هنا مأخوذ من المعنى الثاني. قوله: ولأنهم قالوا: انتفع بوديعة ثم ادعى غلطًا وقال: ظننته ملكي، يصدق مع أنه احتمال قريب فدل على أن الغلط لا يدفع الضمان. انتهى. وما استدل به على كون الغلط غير رافع للضمان قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو عجيب، فإنه يدل على أن الغلط رافع للضمان لأنهم إنما تصديقه فدل على أنه لا ضمان عليه خاله التصديق، نعم صرح القفال في "فتاويه" بما يوهم الرافعي أنه مقتضي كلامهم فقال ما نصه: لو لبس ثوب الوديعة على ظن أن ذلك ثوبه، ثم بان أن ذلك كان وديعة فإن يصير مضمونًا في يده كما لو تعمد هذا لفظه، وعجب من الرافعي في ذهوله عن ذلك. قوله: ولو أنكر وديعة ادعيت عليه صُدِّق، فلو أقام المدعي بينة بالإيداع أو اعترف بها المدعى عليه فطولب بها فادعى ردها أو تلفها، نظر فإن كان قد أنكر أصل الإيداع لم تقبل دعواه الرد لتناقض كلامه وظهور جنايته، ثم قال ما نصه: وإن كانت صيغة جحوده لا يلزمني تسليم شيء إليك أو ما لك عندي وديعة أو شيء، صدق في دعوى الرد والتلف لأنها لا تناقض كلامه

الأول. انتهى كلامه. تبعه عليه في "الروضة" هنا وهو يقتضي أن المودع عنده يكفيه في جواب الدعوى أن يقول: لا يلزمني تسليم شيء إليك، وليس كذلك فإن المودع عنده لا يلزمه تسليم العين وإنما عليه التخلية بينهما وبين المودع وقد نبه النووي على هذا الاعتراض في آخر كتاب الدعوى قُبيل باب دعوى النسب وإلحاق القائف، فإن الرافعي نقل عن العبادي أنه لا يكفي ولم ينقل ما يخالفه، ثم قال: وهذا يخالف ما تقدم في الوديعة فإما إنه خالف أو تأول ما أطلقوه فصوب النووي الثاني وهو التأويل. قوله: ولو أخر بعذر من هذه الأعذار أي كالحمام والمطر والأكل فتلفت الوديعة في تلك الحالة فقال في "التتمة": لا يضمن، وهو قضية إيراد "التهذيب" ولفظ الغزالي في "الوسيط" يشعر بتفصيل وهو: أنه إن كان الأخير لتعذر الوصول إلى وديعة فلا ضمان، وإن كان لعسر يلحقه أو غرض يفوته ضمن انتهى. قال في "الروضة": الراجح أنه لا يضمن مطلقًا، قال: وبه صرح الكثيرون. قوله: ولو قال له: ردها على فلان وكيلي، فطلب الوكيل فلم يرد فهو كما لو طلب المالك فلم يرد لكن له التأخير ليشهد المدفوع إليه على القبض، وإن لم يطلب الوكيل فإن لم يتمكن من الرد لم تصر مضمونة وإلا فوجهان، لأنه لما أمره بالدفع إلى وكيل عزله فيصير ما في يده كالأمانة الشرعية مثل الثوب تطيره الريح إلى داره، وفيها وجهان: أحدهما: تمتد إلى المطالبة. وأصحهما: تنتهي بالتمكن من الرد. قال ابن كج: ويجري الوجهان في من وجد ضالة وهو يعرف مالكها.

انتهى كلامه. وقد تلخص منه أنها بعد الأمر تصير مضمونة بالتمكن من الرد، وإن لم يطالبه الوكيل حتى يلزمه أيضًا مؤنة الرد، لكن قد تقدم من كلامه أن المالك نفسه لو طلب الوديعة لم يجب حملها إليه، بل الواجب تمكينه منها خاصة فبطريق الأولى ما يجيء فيه ولو فصلوا في مسألتنا بين أن يعرف الوكيل بذلك فيجب على المودع التمكين خاصة كما سبق أم لا فيجب عليه إعلامه لكان قريبًا أو يفصل بين أن يجيب المودع عنده إلى ما سأله المودع بأن قال: نعم، ونحوه فيضمن وبين أن لا يجيب، بل يسكت فلا ضمان كما لو قال: احفظ متاعي، فقام وتركه. قوله: وقول الغزالي: جاز بشرط سلامة العاقبة. . لفظ يكثر استعماله له في مثل هذا المقام وليس المراد اشتراط السلامة في نفس الجواز إذا لم يسلم الوديعة تبين عدم الجواز، وكيف والسلامة أو عدمها تتبين أخيرًا ونحن نجوز له التأخير في الحال، ولكن المراد أنا نجوز له التأخير ويشترط عليه التزام حظر الضمان. انتهى. وما ذكره بحثًا قوي لكن تأويل كلامهم عليه حمل للفظ على ما لا يحتمله، ومخالف لما صرحوا به، فقد عَلّل الغزالي الحكم بعصيان مَنْ مات قبل الحج بهذا المعنى فقال: لأنه جوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة، وتبعه هو والنووي عليه في باب مواقيت الصلاة في الكلام على ما إذا مات في أثناء الوقت، وقد أوضحته هناك فراجعه. قوله: ولو طالبه الوارث بالوديعة فقال: تلفت في يدي قبل تمكني من الرد، فهل المصدق الوارث كدعوي الرد أم المودع لأن الأصل البراءة؟ فيه وجهان. انتهى. والراجح عدم الضمان، فقد رجحه الرافعي بعد هذا لكن في مسألة ما

إذا مات المودع عنده وادعى وارثه ذلك ولا فرق بين تلك وبين مسألتنا. ورجحه في مسألتنا أيضًا النووي من "زياداته" فقال: ينبغي بأن يكون هو الأصح. قوله: في يده مال فجاء رجلان فادعى كل واحد أنه أودعه إياه فأقر به لأحدهما بعينه ففي تحليفه للأخر الخلاف في ما إذا أقر بشيء لزيد، ثم أقر به لعمرو هل يغرم لعمرو؟ وإن قلنا: لا، فلا يحلف. وإن قلنا: نعم، عرضت اليمين عليه، فإن حلف سقطت دعوى الآخر وإن نكل حلف الآخر وحينئذ فهل يوقف المال بينهما إلى أن يصطلحوا أم يقسم بينهما كما لو أقر لهما أم يغرم المدعى عليه القيمة؟ فيه ثلاثة أوجه، قال ابن الصباغ: المذهب هو الثالث. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" والأصح هو الوجه الأخير كذا صححه في باب الاقرار وزاد على ذلك فصحح طريقة القطع به، ولم يستوف الخلاف المذكور هنا، وإنما حكى وجها آخر أن العين تنزع من الأول وتسلم للثاني ولا يغرم الأول شيئًا. قوله: عن بعضهم لو أودعه قبالة وقال: لا تدفعها إلى زيد حتى يعطيك دينارًا، فدفعها إليه قبل أن يعطيه فعليه قيمة القبالة مكتوبة الكاغد وأجرة الوراق. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه لابد من اعتبار أجرة الشهود سواء كتبوا رسم شهادتهم أم لا وقد أهمله. الأمر الثاني: أن اعتبار قيمة الكاغد مكتوبا مع أجرة الوراق عجيب لا وجه له، بل الصواب قيمته أبيض فتأمله.

وذكر ابن الصلاح عبارة سالمة عن هذين الاعتراضين فقال ما حاصله: إن الواجب عليه ما يغرم الشخص على تحصيلها في العادة. وقد بسطت هذه المسألة في باب الغصب في كتابنا المسمى "طراز المحافل" فتطلب منه.

كتاب قسم الفيء والغنيمة

كتاب قسم الفيء والغنيمة وفيه بابان: الباب الأول: في الفيء قوله: المال المأخوذ من الكفار ينقسم إلى ما يحصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، وإلى حاصل بذلك، ويسمى الأول: فيئًا، والثاني: غنيمة. انتهى. والتقييد بالمال ذكره أيضًا في "المحرر" وغيره وتابعه عليه النووي ويرد على هذا التعبير ما ليس بمال كالكلاب والحمر المحترمة وما ينتفع به من النجاسات فسيأتي في أثناء الباب أنه غنيمة يجري عليه أحكامها. وقد تقدم هذا الاعتراض مبسوطًا في باب الغصب فراجعه. قوله: وينصب لكل قبيلة أو عدد يراه عريضًا. . . . إلى آخره. لم يبين هل نصبه واجب أو مستحب، وقد نبه في "الروضة" عليه. قوله: ويعطي كل واحد من المرتزقة قدر حاجته وحاجة عبده ولا يعطي إلا لعبد واحد وكان هذا في عبيد الخدمة، فأما الذين تتعلق بهم مصلحة الجهاد فينبغي أن يعطى لهم كم كانوا. انتهى كلامه. وما ذكره بحثا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وقد صرح به الإمام في "النهاية" وحكى فيه وجهين فقال: ذهب بعضهم إلى وجوب القيام بمؤنتهم وهو الصحيح، ومنهم من قال: ليس له أن يتخذ عبيدًا للقيام به، ولكن للإمام إن رأى اقتراح ذلك ابتداء على المرتزق فعل ما استقر رأيه عليه وفي المسألة احتمال، هذا كلامه، وعبارة "الروضة" توهم الاتفاق على استثنائه

فإنه عبر بقوله: كذا هو منقول، ثم قال: وإنما يقتصر في عبيد الخدمة على واحد. قوله: وكان في قريش حِلْفَان قبل المبعث، والحلف: العهد والبيعة، أحدهما: أنه وقع تنازع بين بني عبد مناف وبني عبد الدار في ما كان إلى قصى من الحجابة والسقاية والرفادة واللواء، فتبع عبد مناف وعبد الدار ولدان لقصي وكان لهما أخ ثالث وهو عبد العزي. وأما الحجابة فالمراد بها حجابة الكعبة وهي ولاية فتحها وغلقها وخدمتها ويعبد عن ذلك بالسدانة أيضًا -وهو بكسر السين المهملة- وأما السقاية: فهو القيام بتهيئة الماء من زمزم وطرح الزبيب فيه لسقي الحاج. وأما الرفادة: بكسر الراء: فهو مال كانت قريش في الجاهلية تجمعه في ما بينهم على قدر طاقة كل منهم فيشترون به الطعام والزبيب لإطعام الحاج وسقيهم مأخوذ من الرفد وهو الإعانة. قوله: ومتى استوى اثنان في القرب قُدِّمَ أسنهما، فإن استويا في السِّن فأقدمهما إسلامًا وهجرة، وقد أطلقوا هنا تقديم النسب على السن بخلاف المرجح في إقام الصلاة فلتتأمل في الفرق. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الفرق بين هذا وبين الصلاة أن دعاء الاثنين أقرب إلى الإجابة، فقدم كذلك الثاني أنه قد تقدم هناك أن العبرة في السن إنما هو بالذي مضى في الإسلام، حتى يقدم الشباب الذي ولد في الإسلام على الشيخ الذي أسلم عن قرب، والكلام المذكور عينا يقتضي خلافه، ولأجل هذا فإن النووي حكى في "الروضة" من "زياداته" عن الماوردي عكسه فقال: قد عكس أقضى القضاة الماوردي هذا فقال في "الأحكام السلطانية": التقديم بالسابقة في الإسلام، فإن تقاربا فيه قدم بالدين، فإن تقاربا فيه قدم بالسن،

فإن تقاربا فيه قدم بالشجاعة، فإن تقاربا فيه فولى الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة أو برأيه واجتهاده، وهذا الذي قاله هو المختار، هذا كلام "الروضة". قوله: الثاني: أَنَّا قدمنا في صفة الأئمة في الصلاة عن إمام الحرمين أن الظاهر رعاية كل سبب يعتبر في الكفاءة في النكاح، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- أن نسب العجم مرعي في الكفاءة على خلاف فيه فليكن كذلك. انتهى. وما ذكره الرافعي -رحمه الله- قد أشار إليه الماوردي فقال: إن كانوا عجمًا لا يجتمعون على نسب جميعهم بالأجناس كالترك والهند وبالبلدان، ثم إن كانت لهم سابقة في الإسلام يرتبوا عليها، وإلا فبالقرب من ولي الأمر، فإن تساووا فبالسبق إلى طاعته. قوله: وإنما يثبت في الديوان الرجال المكلفين المستعدين للغزو. انتهى. ترك من الشروط الإسلام وقد نَبَّه عليه في "الروضة"، ونقل عن الماوردي أمورًا أخرى حسنة فقال: وذكر الماوردي في "الأحكام السلطانية" شرطًا آخر وهو أن يكون فيه إقدام علي القتال ومعرفته به، فإن اختل ذلك لم يجز إثباته لعجزه عما هو مرصد له. قال: ولا يجوز إثبات الأقطع ويجوز إثبات الأعرج إن كان فارسًا، وإن كان راجلًا فلا، ويجوز إثبات الأخرس والأصم. قال: فإذا كتبه في الديوان، فإن كان مشهور الاسم لم يحسن تحليته وإن كان مغمورًا وصف وحلى فيذكر سنه وقده ولونه وحلى وجهه بحيث يتميز من غيره، والله أعلم. المغمور بالغين المعجمة والراء المهملة: من ليس بمشهور؛ قاله ابن الأثير في "النهاية".

وقال الجوهري: يقال: غمره القوم، إذا علوه في الشرف، ثم قال: والغمرة: الزحمة من الناس، يقول: دخلت في غمار الناس -بفتح الغين وضمها- أي زحمهم. قوله: وإذا مات واحد من المرتزقة ففي زوجته وأولاده قولان، ويقال: وجهان: أظهرهما على ما ذكره في الكتاب أنهم يرزقون. انتهى. والذي صححه الغزالي هو الصحيح فهو صححه الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر"، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة". قوله: وإن ولى الذمة جناية نوع خاص من الفيء، فإن لم يستغن فيها عن الاستثناء به لم يجز، وإن استغنى فإن كانت جناية من أهل الذمة جاز، وإن كان من المسلمين فوجهان. انتهى. والأصح من الوجهين هو المنع، كذا صححه في "الروضة" من "زياداته".

الباب الثاني: في قسمة الغنائم

الباب الثاني: في قسمة الغنائم قوله: وإن كان الذي يرضخ له فارسًا فهل يجوز أن يبلغ به سهم راجل؟ فيه وجهان، بناء على أنه هل يجوز أن يبلغ سهم الحر إلى حد العبيد؟ انتهى. تابعه في "الروضة" على هذا البناء وعبر بقوله: فوجهان بناء على كذا، ومقتضاه تصحيح بلوغ سهم الراجل، لأن الصحيح أنه يجوز أن يبلغ بتعزير الحر إلى حد العبد، لكن في "المحرر" و"المنهاج" و"الحاوي الصغير" الجزم بأنه لا يبلغ بالرضخ سهم راجل من غير تفصيل بين الفارس وغيره. قوله: لما روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطي سلب مرحب يوم خيبر من قتله (¬1). وعن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني إلى أن قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتل قتيلا علمه بينة فله سلبه"، فقمت فاقتصصت عليه القصة فقال رجل: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فأعطه إياه"، فأعطانيه فاتبعت به محرمًا في بني سلمة، فإنه لأول مال ثالثته في الإسلام (¬2). انتهى. مرحب: بحاء مهملة مفتوحة ثم باء موحدة، وهو مفعل من الرحب بمعنى: السعة. وحبل العاتق: هو العصب الذي فيه. والحبل: بحاء مهملة مفتوحة ثم باء موحدة ساكنة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (6935)، والحاكم (4343)، وأبو يعلى (1861)، والبيهقي في الكبرى (8600)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (42/ 93). (¬2) أخرجه البخاري (2973)، ومسلم (1751).

والعاتق: موضع الرداء من المنكب يذكر ويؤنث. والمخرف: بميم مفتوحة وخاء معجمة ساكنة ثم راء مهملة بعدها. فاء: هو البستان من النخل، مأخوذ من الخرف بفتح الخاء وهو القطع لأن الرطب والتمر يقطعان منه. والمخرفة: بزيادة تاء اسم للبستان أيضًا كما قاله الجوهري. والمخرف: بكسر الميم هو: ما تجنى فيه الثمار، ومنه الخريف الفصل المعروف لكون الثمار تقطع فيه. وقوله: سلمة هو: بكسر اللام، والتأثل بتاء مثناه من فوق بعدها همزة وثاء مثلثة هو: إيجاد أصل مال. قوله: لم يعط ابن مسعود - رضي الله عنه - سلب أبي جهل لأنه كان قد أثخنه فتيان من الأنصار، وهما معاذ ومعوذ ابنا عفراء. انتهى. أثخنه: بالثاء المثلثة والخاء المعجمة، أي: أضعفه بالجراحة. وأما معوذ: فبعين مفتوحة وواو مشدودة مكسورة. وعفراء: بعين مفتوحة مهملة تأنيث الأعفر وهو الأبيض الذي ببياضه حمرة. قوله: في "الروضة" والمذهب أن العبد والمرأة والصبي يستحقون السلب، ولا يستحقه الذمي على المذهب. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن الرافعي حكى في المرأة والصبي طريقين أيضًا، وليس كذلك بل لم يحك فيهما إلا طريقة واحدة وهي طريقة الخلاف فقال: وجهان، ويقال: قولان، ثم إن الرافعي لم يصرح بتصحيح في هذه المسائل كلها، بل نقلها من غيره، فأما الذمي فنقل اختيار المنع فيه عن الغزالي، وأما الصبي والمرأة فنقل اختيار الاستحقاق فيهما عن الروياني، وأما العبد فنقله عن العبادي وكلامه أيضًا يقتضي أن المشهور مساواة الذمي والعبد والمرأة والصبي على خلاف ما في "الروضة" وصرح به في "الشرح الصغير"

فقال: وفي الذمي طريقان: أظهرهما: طرد الخلاف، والثاني: القطع بالمنع ولم يتعرض في "المحرر" لهذه المسائل. قوله: وأما السلب فهو ما عليه من ثياب البدن مع الخف والرانين وكذا الهميان وما فيه من دراهم النفقة في أصح القولين والجنيبة التي تقاد بين يديه قيل ليست من السلب قطعًا، والأظهر طرد لخلاف. قال: وذكر أبو الفرج الزاز أَنَّا إذا جعلنا الجنيبة من السلب لم يستحق إلا واحدة فعلى هذا فينبغي النظر في ما إذا كان نقود جنبين فصاعدا في أن السلب أنهما أيرجع فيه إلى تعيين الإمام أم يقرع. انتهى كلامه. وما نقله عن الزاز وهو السرخسي واقتصر عليه غريب فقد جزم أيضًا الإمام بالاقتصار على الواحدة، وذكر هذين الاحتمالين اللذين أراهما الرافعي بحثا وأشعر كلامه بعدم الوقوف عليها ولم يرجح منها شيئًا، ثم رجح أعني الإمام أولهما وهو تعيين الإمام، إلا أنه أبدى معهما احتمالًا ثالثًا وهو تخيير القاتل فقال: لو كان معه فرسان فالخلاف في واحد منهما وحينئذ فقد يحظر للفقيه فيه القرعة، ويجوز أن يقال: هذا راجع إلى الوالي، فينظر إلى الحال، والشخص والعناء أي: النفع، وهذا أوجه من القرعة، وقد يحظر للفقيه تخيير القاتل، فإن مبنى استحقاقه السلب على الاختصاص لما أبلاه من البلاء وأبداه من العناء. انتهى موضع الحاجة من كلامه. ولم يطلع النووي أيضًا في هذه المسألة إلا على ما اطلع عليه الرافعي خاصة فقال ما نصه: تخصيص أبي الفرج بجنيبة فيه نظر، وإذا قيل به فينبغي أن يختار القاتل جنيبة منها لأن كل واحدة جنيبة قتيله فهذا هو المختار. بل الصواب بخلاف ما أبداه الرافعي والله أعلم.

والذي اختاره النووي اتفاقًا من غير إطلاعه علي تقدم غيره إليه واضح متعين لأن الزيادة إن لم تكن نافعة له فلا ينبغي أن تكون ضارة له وإنما عرف الرافعي بأنها التي تقاد بين يديه تميزًا لها عن الحقيبة بالحاء والقاف وهي وعاء القماش، فإنه ذكرها بعد ذلك فميزها بالصفة المعروفة عند العرب وهي قودها أمام صاحبها، ومن ذلك قول العرب جاء الأمير تقاد الجنائب بين يديه بخلاف الترك وغيرهم من الأعاجم، وقد ظن صاحب "الحاوي الصغير" أن هذه الصفة للاحتراز عن الجنيبة التي تقاد خلفه كما هو المعهود الآن فقيده بذلك فقال وجنيبة أمامه وهو غير مستقيم، وتعليل المسألة وهو الاستعانة بها. واعلم أن الرانين بالراء المهملة وبالنون فهو خف يلبس للساق خاصة ليس له قدم، وقد تقدم إيضاحه في زكاة النقدين فراجعه. والهميان: وعاء الدراهم بكسر الهاء وهو فارسي معرب قاله الجوهري. قوله: ولا تكره قسمة الغنائم في دار الحرب. هذه العبارة ناقصة كما قاله في "الروضة". قال: فالصواب أن تستحب قسمتها في دار الحرب كما قاله أصحابنا، بل قد ذكر صاحب "المهذب" وغيره أنه يكره تأخيرها إلى دار الإسلام من غير عذر، هذا كلامه. ونص الشافعي في "الأم" على ما يوافق هذا فقال: والسنة أن يقسم الإمام معجلًا فلا يؤخر قسمته إذا أمكنته في الموضع الذي غنم فيه. انتهى. وذكر البغوي في "التهذيب" والماوردي في "الحاوي" أنه يجب التعجيل ولا يجوز التأخير وكلام الرافعي يمكن دعوى ذلك فيه لحمل الشبه في كلامه على الطريقة. قوله: كذا ذكره البغوي وقياسه أن يقال في من حضر قبل انقضاء

القتال: لا حق له، في "المحرر": قبل حضوره، وكذا نقله أبو الفرج الزاز عن بعض الأصحاب وإن كنا أطلقناه في الصورة السابقة. انتهى. قال في "الروضة": هذا الذي نقله أبو الفرج متعين، وكلام من أطلقه مجهول عليه. قوله: ومن هرب ثم ادعى أنه كان متحرفًا أو متحيزًا قال الغزالي: يصدق بيمينه. وقال البغوي: إن لم يعد قبل انقضاء القتال لم يصدق. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا. قال في "الروضة": وما قاله البغوي أرجح. قوله: ولو سرق فرسه أو عار إلى أخره. عار بالعين والراء المهملتين معناه تقرب. قوله: ولو حضر القتال ثم مات في أثنائه أو مرض مرضًا لا يرجى زواله كالزمانة والعمى والفالج ففي بطلان حقه قولان أو وجهان صحح صاحب "التهذيب" وغيره أنه لا يبطل، وكلام الغزالي مشعر برجحان البطلان، وهو الذي أورده ابن كج، ثم الأكثرون أطلقوا القول في رجاء الزوال قبل إنجلاء القتال. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح بقاء حقه كذا صححه النووي في "أصل الروضة" وكلام "الشرح الصغير" مشعر به أيضًا. الثاني: أن ما نقله عن بعض أصحاب الإمام هو مصرح به في "النهاية" فإنه قال: وأما ما ذكره الأصحاب من أن المريض إذا كان يرجى زواله فما المراد بهذا إلا ليعلم المسترشد أن المراد برجاء الزوال توقع الزوال في أثناء

القتال، وتقدير الكلام توقع كأنه لم يكن، وما أراد الأصحاب توقع الزوال بعد انقضاء القتال حتى لو كان لا يتوقع زواله إلا بعد أيام فهو في حال المرض المزمن هذا لفظ الإمام. قال: فإن تعددت الإجارة عدة معينة كما إذا استأجر لسياسة الدواب وحفظ الأمتعة شهرًا فخرج به وشهد الوقعة فنقل جماعة منهم المصنف وصاحب "التهذيب" أنه إن لم يقاتل لم يستحق السهم، وإن قاتل فثلاثة أقوال، وأطلق المسعودي وآخرون الأقوال من غير فصل بين أن يقاتل أو لا يقاتل، وكذلك أطلقها الشافعي - رضي الله عنه - في "المختصر" أظهرها أن له السهم بشهود الوقعة. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" وفي "الروضة" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أنه ليس فية تصريح على القول الأصح وهو الاستحقاق بأنه هل يشترط فيه القتال أم لا؟ بل ربما يفهم منه عدم الاشتراط، وقد جزم باشتراطه في "المحرر" فقال: وأظهر القولين أن الأجر لسياسة الدواب وحفظة الأمتعة وتجار العسكر والمحترفين يستحقون السهم إذا قاتلوا، هذا لفظه وتبعه عليه في "المنهاج". الأمر الثاني: أنه لابد في هذه المسألة من شرط أخر وهو أن تكون الإجارة على المعين، فأما إذا كانت واردة على الذمة فإن العمل يكون دينًا في ذمته يصح أن يقيم فيه غيره مقامه، وكلام الرافعي والنووي يوهم خلافه. قوله: ولا يدخل إلا فرسًا شديدًا، ولا يدخل خطمها وهو الكسير ولا تحما وهو الهرم ولا ضرعًا وهو الصغير الضعيف ولا أعجف رازكًا، والأعجف: المهزول، والرازح: هو بَيِّن الهزال، ومن حصل شيء منها لم يسهم له، وفي قول يسهم إن لم ينه عنه. انتهى.

الخطم: بخاء مهملة مفتوحة وطاء مهملة أيضًا مكسورة، وهو الذي يهذم لطول عمره يقول: منه خطمت الدابة بالكد والقحم بفتح القاف وإسكان الحاء المهملة. والضرع: بفتح الضاد المعجمة وفتح الراء أيضًا. والرازح، بالراء المهملة وبعد الألف زاي معجمة مكسورة ثم حاء مهملة إذا علمت ذلك فقد نقل في باب المسابقة عن الدارمي بيان سن ما يسهم له، فقال: والذي يجوز المسابقة عليه من الخيل قيل: ما يسهم له، وهو الجذع أو الثني، قيل: وإن كان صغيرًا، هذا لفظه، وظاهره، المخالفة للمذكور هنا. قوله: ولو حضر إثنان بفرس مشترك بينهما فهل يعطى كل منهما سهم فرس لأن معه فرسًا قد يركبه؟ أم يعطيان سهم فرس واحد مناصفة؟ أم لا يعطيان للفرس شيئًا لأنه لم يحضر واحد منهما بفرس تام؟ فيه أوجه. انتهى. قال في "الروضة": لعل الأصح المناصفة. قوله: ولو ركب اثنان فرسًا وشهدا الواقعة فهل لها ستة أسهم لأنهما فارسان أم سهمان لأنهما راجلان لتعذر الكر والفر أربعة أسهم سهمان لهما وسهمان للفرس، فيه ثلاثة أوجه. انتهى. قال في "الروضة": اختار ابن كج في "التجريد" وجها رابعًا حسنًا أنه إن كان فيه قوة الكر والفر مع ركوبهما فأربعة أسهم وإلا فسهمان.

كتاب قسم الصدقات

كتاب قسم الصدقات وفيه بابان: الباب الأول: في بيان أصناف الصدقات قوله: والدار التي يسكنها والثوب الذي يلبسه متجملا به لا يسلب اسم الفقر ثم قال: ولم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إليه إلى خدمته، وهو في سائر الأصول يلحق بالمسكن. انتهى كلامه. والعجب منه حيث قال ما قال مع أن المسألة مذكورة في "النهاية" على وفق البحث الذي ذكره وهو إلحاقها بالمسكن لكنه اغتفرها في المسكين دون الفقير فإنه نص على أن المسكن والخادم لا يمنعان السكنة، قال: وأما الفقير فلا يحتملها هذه عبارته، واغتفار الرافعي لهما في الفقر يلزم منه الاغتفار في المسألتين بطريق الأولى، وقد ذكر المسألة أيضًا ابن كج في "التجريد" على ما نقله عنه في "الروضة" وألحقها بالمسكن. قوله: والمكفي بنفقة قريبه لا يعطي من الزكاة على أصح الوجهين على ما ذكره الشيخ أبو علي وغيره، ثم قال: والوجهان في مسألة القريب في ما إذا أعطاه غير من ينفق عليه سهم الفقراء والمساكين وأما المنفق فلا يعطيه من سهم الفقراء أو المساكين لا محالة وله أن يعطيه من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغراة إذا كان بهذه الصفات. انتهى كلامه. وما ذكره من إيجاب نفقة المكاتب على فرسه تابعه عليه في "الروضة"، ولم يستحضرا معا في كتاب النفقات ما سبق فيهما في هذا الباب، فإن الرافعي حكى فيها هناك احتمالين عن "الحاوي" وزاد النووي على ذلك فصحح عدم الوجوب وعلله بأنه رقيق، وسوف أذكر لفظه في موضعه -إن شاء الله تعالى- فراجعه.

قوله: الثاني المسكين وهو الذي يملك من المال ما يقع به موقعًا من حاجته وكفايته لكنه لا يكفيه كما إذا احتاج إلى عشرة وهو يملك تسعة أو ثمانية. انتهى. لم يبين هل المراد عدم الكفاية في ذلك اليوم أم في تلك السنة أم في العمر الغالب، وقد استنبط من كلامهم ما يبين المراد السنة، فإن الرافعي ذكر في كتاب الأيمان أن المسكين ينتقل إلى التكفير بالصوم وذكر في كتاب الظهار أن الانتقال إلى الصوم هل شرطه العجز عن السنة أم عن العمر الغالب؟ فيه احتمالان. قال النووي: الصواب منهما: اعتبار السنة فثبت من مجموع كلام الرافعي والنووي أن المراد بعدم الكفاية إنما هو في السنة فافهم ذلك، فإنه عزيز مهم فعلى هذا من عجز عن كفاية السنة فهو مسكين، وحينئذ فهل يعطي له كفاية سنة أم كفاية العمر؟ الغالب فيه الخلاف المشهور، ومن معه كفاية سنة لا يعطي شيئًا لأنه ليس بفقير ولا مسكين حالة الإعطاء، فإن كنا نعطيه كفاية العمر الغالب لو نقص ما معه عن السنة. قوله: واحتج الأصحاب بما روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تحل الصدقة إلا لثلاثة فذكر رجلًا أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سدادًا من عيش" (¬1) انتهى. السداد: هنا بكسر السين على الأفصح ويجوز فتحها وهو ما يسد به الحلة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1044)، وأبو داود (1640)، والنسائي (2580)، وأحمد (15957)، والدارمي (1678)، وابن خزيمة (2359) وابن حبان (3291)، والدارقطني (2/ 119)، والطبراني في الكبير (18/ 371) حديث (947)، والبيهقي في الكبرى (11182)، والطحاوي في شرح المعاني (2773) من حديث قبيصة بن المخارق - رضي الله عنه -.

وأما سداد القارورة وسداد الثغر فبالكسر لا غير والسداد بمعنى الاستقامة فمفتوح، وكذلك السدد أيضًا بغير ألف، قاله الجوهري. قوله: وفي أجرة الكيال والوزان وعاد الغنم وجهان، أصحهما: أنها على المالك. انتهى. ومحل هذا الخلاف كما قال في "الروضة" إنما هو في الذي يميز نصيب الفقراء من نصيب المالك قال: فأما الذي يميز بين الأصناف فأجرته من سهم العاملين بلا خلاف. قوله: الضرب الثاني: مؤلفة المسلمين، وهم أصناف: صنف دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيتألفون ليثبتوا، وأخرون لهم شرف في قومهم ينبغي تألفهم رغبة نظرائهم في الإسلام ففي هذين الصنفين قولان: أحدهما يعطيان تأسيًا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه أعطى بالمعنى الأول عيينة وابن حصين والأقرع بن حابس وأبا سفيان ابن حرب وصفوان بن أمية وبالمعني الثاني عدي بن حاتم والذبركان بن بدر. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الذين أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هؤلاء لم يكن إعطاءهم من الزكاة بل من الغنيمة لأن ذلك كان في وقعة حنين من أموال هوازن كما هو معروف في كتب الحديث والسير. والثاني: ما ادعاه من كون صفوان أعطى وهو مُسْلم قد ذكره القاضي الحسين ثم صاحب "المهذب" فقلدهما فيه الرافعي، والذي ذكره مسلم في "صحيحه" (¬1) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه وهو مشرك وإنما أعطاه مائة، وكذا نص عليه الشافعي في "المختصر" وذكره النووي في "شرح المهذب". الأمر الثالث: في دعواه أن عديًا أعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا قد ذكره صاحب ¬

_ (¬1) حديث (1060).

"التتمة" فقلده فيه الرافعي، والذي نص عليه الشافعي في "المختصر" أيضًا أن المعطي له هو أبو بكر وكذلك ذكره الشافعي في "الأم" أيضًا في باب جماع تفريق السهمان، وهو بعد باب علم القاسم فقال: وقد روى أن عدي بن حاتم أتى أبا بكر بنحو ثلاث مائة بعير صدقة فأعطاه منها ثلاثين بعيرًا فجاهد معه بنحو من ألف رجل (¬1). ولعل أبا بكر أعطاه من سهم المؤلفة قلوبهم، فإن كان هذا ثابتًا فإني أعرفه من وجه يثبته أهل الحديث وهو من حديث ينتسب إلى بعض أهل العلم بالردة. انتهى لفظه. وقد بحث الرافعي في أن من يرجى إسلام نظرائه هل يتقيد بالشرف أم لا؟ فنقل عن الغزالي عدم التقييد ثم قال: وسائر الأصحاب نقلوا القولين في الأشراف الذين لهم نظراء في الكفر وقيدوا فيجوز أن يقال: أراد ما أرادوه، ويجوز أن يقال: لا فرق، هذا لفظه، ولم يذكر في "الروضة" هذا البحث وقيده بالشرف. قوله: وإذا عجز المكاتب فإن كان في يده استرد، وإن كان تالفًا لزمه غرمه على الأصح، وهل يتعلق بذمته أم برقبته؟ وجهان. انتهى. والأصح تعليقه بالذمة فقد قال في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين، وفي "زيادات الروضة": إنه الأصح. قوله: والأحوط الصرف إلى السيد بإذن المكاتب. انتهى. ومقتضى إطلاقه أنه لا فرق فيه بين أن يوفي بالنجوم أم لا، وقد ذكر في "الروضة" من "زياداته" ما يقوى ذلك أيضًا، فقال: هذا هو الذي أطلقه جماهير الأصحاب، وقال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي الزاهد من أصحابنا إن كان هذا الحاصل آخر النجوم يحصل العتق بالدفع للسيد بإذن المكاتب ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 19).

أفضل، وإن حصل دون ما عليه لم يستحب دفعه إلى السيد، لأنه إذا دفعه إلى المكاتب أتجر فيه ونَمَّاه فهو أقرب إلى العتق، هذا كلامه، والصواب ما قاله الشيخ نصر من تخصيص الدعوى، فقد جزم الرافعي بعد هذا في الكلام على الغارم بمثله، وتبعه عليه في "الروضة" فقال: ويجوز الدفع إليه بإذن المديون وهو أولى إلا إذا لم يكن وافيًا وأراد المديون أن يتجر فيه، هذا كلامه. قوله: ولا يجوز بغير إذنه يعني الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب لأن الاستحقاق له ولكن يسقط عن المكاتب بقدر المصروف، لأن من أدى دين غيره بغير إذنه برأت ذمته. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وهو مشكل حكمًا وتعليلًا؛ فإن ما يخص المكاتب إنما يتعين له بقبض صحيح، وذلك إنما يكون بقبض المستحق أو نائبه والسيد لا يستحقه وإنما له شيء في ذمة المكاتب وأما التعليل فإنه وإن كان مسلمًا لكونه صورة دال أن يعطي من مال المديون ويبلغه صاحب الدين مع مراعاة أقوال التقاضي، ونظير مسألتنا أن يكون على زيد دين له وله عند شخص دين أو عين فيعطيه ذلك الشخص للمديون، فإن الدين يكون باقيًا والعين مضمونة على معطيها وأخذها ما دامت باقية فإن تلفت العين جاء ما قلناه من أقوال التقاضي. قوله: فرع أخر نقل بعض أصحاب الإمام أن للمكاتب أن ينفق ما أخذ ويؤدي النجوم من كسبه، ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب، زاد في "الروضة" على هذا فقال: قطع صاحب "الشامل" بأن المكاتب يمنع من إنفاق ما أخذ ونقله صاحب البيان عنه، ولم يذكر غيره، وهذا أقيس من قول الإمام. انتهى كلامه. واعلم أن الإمام -رحمه الله- قد نص هو على المسألة في "النهاية" فقال

ما نصه: والخيرة إليه في توفية النجم إن شاء وفاة مما اكتسبه واستنفق ما قبضه من الصدقة، وإن شاء سلم ما قبضه من الصدقة هذا لفظه، والمفهوم منه أنه يجوز إعطاء النجوم من كسبه ثم بعد ذلك ينفق ما أخذه، وبه يعلم المراد من هذا الذي نقله الرافعي عن بعض أصحابه، وكلام السائل إنما هو في الاتفاق ابتداء فإنه نقل عن الشافعي أن الدفع إلى سيده أحب ثم قال: وإنما يدفعه إلى سيده بإذنه لئلا يسلمه إليه فيتفقه فإن سلمة إليه فأراد أن ينفقه منعه من ذلك هذا لفظه، وهو صريح في ما قلناه، وإذا علمت ذلك علمت أمورًا: أحدها: أنهما مسألتان نص كل منهما على مسألة ولا اختلاف في الإمام وغيره كما توهمه في "الروضة". الثاني: استغراب ما في الرافعي حيث تكون المسألة في "النهاية" وينقلها عن بعض أصحابه. الثالث: أن الرافعي لم يصرح بأن الناقل نقل ذلك عن الإمام فكيف يقول في "الروضة"؟ وهذا أقيس من قول الإمام. قوله: في الغارم أما إذا استقرض في معصية كثمن الخمر والإسراف في الانفاق فلا يعطي من سهم الغارمين على المشهور، فيه وجه غريب، وهذا إذا كان مصرًا علي المعصية، فإن تاب فوجهان إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به هاهنا من تحريم الإسراف في النفقة تابعه عليه في "الروضة" والصحيح خلافه وقد تقد ذلك في باب الحجر، فراجعه. الأمر الثاني: لم يصرح هنا بتصحيح في إعطاء الثابت وقد صرح به في "الشرح الصغير" فقال: أظهرهما: أنه يعطي. وهو الذي صححه النووي في كتبه، وذكر عكسه في "المحرر" فقال ما

نصه: والغارمون إن استدانوا لغرض أنفسهم يعطون من الزكاة بشرط أن لا تكون الاستدانة لمعصية. انتهى. وهذا هو مقتضى كلام الشافعي في "الأم" فإنه شرط في إعطائه أن لا يكون غرمه في معصية، ولم يفصل بين أن يتوب أم لا، ذكر ذلك في باب جماع بيان أهل الصدقات. قوله: فإن كان الدين على الغارم مؤجلًا ففي إعطائه وجهان إلى آخره. لم يصرح هنا بتصحيح، وقد صحح في "المحرر" أنه يعطي وعبر بالأظهر، وهو مقتضى كلام "الشرح الصغير" أيضًا فإنه قال: فإن كان مؤجلًا فعلى الوجهين المذكورين في قبل المحل هذا لفظه، والأصح من ذنيك الوجهين أنه يعطي مخالف النووي فصحح من "زياداته" في "المنهاج" و"الروضة" أنه لا يعطي، ولا يستقيم هذا التصحيح عكسه في النجوم. قوله: من "زياداته" ولو كان عليه دين فقال: جعلته عن زكاتي، لا يجزيه على الأصح حتى يقضيه ثم يرده إليه إن شاء، وعلى الثاني يجزيه كما لو كان وديعة حكاه في "البيان". انتهى كلامه. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في أواخر الباب الأول من كتاب الهبة، وقد ذكرت لفظه هناك لغرض آخر فاعلمه وراجعه. قوله: والغريب المجتاز بالبلد يعطي من سهم السبيل، وقيل: على الخلاف في نقل الصدقة، وبالمنع أجاب المسعودي. انتهى. وهذا النقل عن المسعودي ذكره في "البيان" فقلده فيه الرافعي، وهو غلط، إنما صَوَّابه الفوراني، وقد سبق وجه الغلط في فصل الأسماء فراجعه. قوله: ولو استعمل هاشمي أو مطلبي فهل يحل له سهم العاملين فيه وجهان أحدهما نعم لأنه أجره عمله، وهذا أصح عند أبي الحسن العبادي،

وأصحهما عند صاحب "التهذيب": لا؛ كما لو كان غارما أو غازيًا. انتهي كلامه. لم يصرح في "الشرح الصغير" أيضًا بتصحيح والتصحيح المنع فإنه مقتضى كلامه في "المحرر"، وصححه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة"، ولم ينبه في "الروضة" على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي، وهو غريب فتفطن له.

الباب الثاني: في كيفية الصرف إلى الأصناف

الباب الثاني: في كيفية الصرف إلى الأصناف قوله: ولو قال: لا كسب لي، وكان قويًا جلدًا، وقال: لا مال لي، واتهمه الإمام ففي تحليفه وجهان، قال في "التهذيب": إنه لا يحلف. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، والأصح ما قاله في "التهذيب"، فقد صححه أيضًا الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه"، ولكنه اقتصر على المسألة الأولى، وصححه النووي في "شرح المهذب" وأصل "الروضة". قوله: والفقير الذي لا يحسن الكسب بالحرفة ولا بالتجارة، قال العراقيون وطائفة سواهم: تعطي كفاية العمر الغالب، ولا يتقدر بالشهر ولا بالنسبة، وروى آخرون منهم صاحب "التهذيب"، والمصنف تقديره بكناية السنة. انتهى كلامه. وذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وليس فيه تصريح بتصحيح، وقد جزم في "المحرر" باعتبار السنة، وخالفه النووي فصحح في كتبه اعتبار العمر الغالب، قال: وقد نص عليه الشافعي، ونقله الشيخ نصر عن جمهور أصحابنا. قوله: في "الروضة" فرع للإمام الخيار إن شاء دفع الفرس والسلاح إلى الغازي تمليكًا وإن شاء استأجر له مركوبًا وإن شاء اشتري خيلًا من هذا السهم ووقفها في سبيل الله فيعيرهم إياها عند الحاجة. انتهى. وما ذكره في أخر كلامه من الإعارة يقتضي تضمينه بتقدير التلف، وهو عجيب فإن انتفاع الموقوف بما وقف عليه ليس عارية، بل لكونه بعض المستحقين ولهذا المعنى لا يتصور القول بتضمينه، وأيضًا فالغازي المذكور يجوز أن يملك هذه الأشياء فكيف يضمنها على تقدير الوقف عليه، وأيضًا فالمعير لابد أن يكون مالكًا للمنفعة، وهذا منتف هنا وبالجملة، والرافعي

سالم من ذلك فإنه عبر بقوله: فيعطيهم عند الحاجة، هذا لفظه، فعدل عنه في "الروضة" إلى العارية سهوًا. قوله: ولا يسمى للعامل أكثر من أجرة المثل فإن فعل فتفسد التسمية من أصلها أو يكون قدر أجرة المثل من الزكاة وما زاد في خالص مال الإمام، فيه وجهان في "أمالي" أبي الفرج. انتهى. والأصح هو الأول كذا صححه في "زيادات الروضة". قوله: من "زياداته": قال الشيخ نصر: إذا قلنا: لا يعطي إلا بسبب واحد، فأخذ بالفقر كان لغريمه أن يطالبه بدينه فيأخذ ما حصل، وكذا إن أخذه بكونه غارمًا، فإذا بقي بعد أخذه منه فقيرًا فلابد من إعطائه من سهم الفقراء لأنه الأن محتاج. انتهى كلامه. واعلم أنه قد سبق أن الأرجح منع المكاتب من إنفاق ما أخذه، وسبق أن الغارم كالمكاتب، وحينئذ فإن كنا نقول: إن الأخذ بصفتين لا يجوز، وقلنا: بأنه يتعين صرف المأخوذ لما أخذه، لزم امتناع الأخذ ثانيًا في مسألتنا. قوله: فإن قسم المالك بنفسه، أو لم يكن هناك عامل سقط سهم العامل وقسم على الأصناف السبعة، وروى الحناطي عن النص سقوط سهم المؤلفة أيضًا، ثم قال: ويجوز أن يعلم بالواو لأنه أعني: الحناطي حكى عن الأصطخري أنه يجوز الصرف إلى ثلاثة من الفقراء. انتهى. وهذا الوجه المنقول عن الإصطخري قد حذفه من "الروضة". قوله: وإن قسم المالك فينظر إن أمكن الاستيعاب بأن كان المستحقون في البلد محصورين بقي لهم المال، فقد أطلق في "التتمة" وجوب الاستيعاب، وقيد الوجوب في "التهذيب" بما إذا لم يجوز نقل الصدقة فلا يستحب فإن لم يمكن فلا وجوب ولا استحباب، لكن لا ينقص عن ثلاثة من كل صنف. انتهى كلامه.

وهو يدل على وجوب الاستيعاب عن الإمكان وذلك بأن ينحصر وعلى أنه لا يختلف الحال في المحصورين بين أن يقل عددهم أو يكثر حتى يجب استيعاب المحصورين إذا أرادوا على ثلاثة. إذا علمت ذلك فقد ذكر بعد الكلام على صدقة التطوع في المسائل المنثورة أن الاستيعاب لا يجب إذا زادوا على ثلاثة، فقال: ومتى يستحق أهل السهمان الزكاة؟ قال الشافعي - رضي الله عنه -: يستحقون يوم القسمة إلا العامل فإنه يستحق بالعمل وذكر في موضع آخر أنهم يستحقون يوم الوجوب. قال الأصحاب: ليس في المسألة اختلاف قول، لكن النص الثاني محمول على ما إذا لم يكن في البلد إلا ثلاثة أو أقل، ومعنا نقل الصدقة فيستحقون يوم الوجوب حتى لو مات واحد دفع نصيبه إلى ورثته وإن غاب أو أسر فحقه بحاله وإن قدم غريب لم يشاركهم، والنص الأول محمول على ما إذا لم يكونوا محصورين في ثلاثة أو كانوا محصورين وجوزنا نقل الصدقة فيستحقون بالقسمة حتى لا حق لمن مات أو غاب أو أسر بعد الوجوب، وقيل: القسمة، وإن قدم غريب شاركهم. انتهى كلامه. وهو صريح في أنه لا يجب الاستيعاب إذا زادوا على ثلاثة والأول دال على خلافه، ولهذا قيده بقوله: بقي لهم المال، والثلاثة يجب الصرف لهم سواء، وفي المال بقدر حاجتهم أم لم يوف. وذكر في الباب الثاني من كتاب الوصية في الطرف الثاني منه نحو ذلك أيضًا فقال: والوصية لأصناف الزكاة في أنه لا يجب الاستيعاب ويقتصر على ثلاثة، والأولى استيعاب الموجودين عند الإمكان كما في الزكاة، هذه عبارته، وتبعه في "الروضة" علي هذه المواضع. وقد يقول القائل: يجمع بين ذلك بأن يحمل الكلام الأول على ما إذا

لم يوف ويتلخص من كلا النقلين أنهم إن كانوا ثلاثة فأقل تعين الصرف إليهم وفا بهم المال أم لا، وإن كان أكثر من ثلاثة فإن عسر ضبطهم كان الملك للجهة، ويجوز الاقتصار في الصرف على ثلاثة أقسام، وهؤلاء إنما يملكون يوم القسمة، وإن سهل ضبطهم فإن وفى المال بحاجتهم كانوا كالثلاثة وإن لم يوف كانوا كما لو عسر ضبطهم لكن يستحب التعميم، وكلام القاضي أبو الطيب يدل على ما قلناه فإن قال: أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: يستحقون يوم القيمة، وأراد ما إذا لم تكن الأصناف معينة بأن كان في البلد أكثر من ثلاثة والزكاة لا تتسع للكل فَلِرَبّ المال أن يخص بها ثلاثة من كل صنف. واعلم أن هذا الجمع وإن صح لزم منه أمران: أحدهما: أنه لا يتعين حمل النص الثاني المذكور في الموضع الثاني على الثلاثة فقط والرافعي قد ادعاه كما سبق. الثاني: فساد قول النووي في "التصحيح"، والأصح: أنه يجب استيعاب آحاد الصنف إذا كانوا محصورين. قوله: نقلًا عن "التهذيب": وليس كما أوصى لفقراء بلد معينة وهم محصورون حيث يجب تعميمهم والتسوية بينهم وهاهنا أي في الزكاة إذا كانوا محصورين يجب التعميم ولا يجب التسوية لأن الحق في الوصية لهم على التعيين حتى لو لم يكن هناك فقير تبطل الوصية، وهذا إذا قسم المالك فإن قسم المال قال في "التتمة": لا يجوز تفضيل بعضهم عند تساوي الحاجات. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن "التهذيب" وأقره من أن التسوية لا تجب عند حصرهم لم يصرح به في "الروضة" وهي مسألة مهمة.

قال في "الروضة": وما ذكره في "التتمة" من التفصيل وإن كان قويًا فهو خلاف مقتضى إطلاق الجمهور استحباب التسوية. الثاني: أن ما نقله عنه أيضًا أي عن "التهذيب" من بطلان الوصية إذا لم يجود أحد من الفقراء، قد حذفه من "الروضة" أيضًا هنا استغناء عنه يذكره له في كتاب الوصية قُبَيْل المسائل الحسابية فإنه جزم به تبعا للرافعي هناك لكنه ذكر من "زياداته" في أخر كتاب الحج قُبَيْل باب الهدي ما يخالفه، وقد سبق ذكر لفظه هناك، فراجعه. الثالث: في معرفة ضابط المحصور وغيره وقد أشبعت الكلام في المسألة السابقة. قوله فيها: ولو لم يوجد من الصنف إلا دون الثلاثة فهل يصرف باقي السهم إلى الذي وجده أم ينقل إلى بلد أخر؟ قال المتولي: هو كما لو لم يوجد الصنف. انتهى. مقتضاه أن يكون الأصح عند المتولي هو الرد، والأمر كما وضحه أعني المتولي فقد نقله الشيخ نصر وصاحب "العدة" عن نص الشافعي، ونقله عنهما النووي وقال: إنه الأصح. قوله: وإذا لم نجوز نقل الصدقة فعدم بعض الأصناف فوجهان: أحدهما: تنفذ إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد. وأصحهما: الرد على الباقين. ثم قال: وإن نقص نصيب بعضهم عن الكفاية وزاد نصيب بعضهم فيصرف ما زاد إلى من نقص نصيبه، أو ينقل إلى ذلك الصنف بأقرب التلاد فيه مثل هذا الخلاف. انتهى. ومقتضاه أن الأصح في الصورة الثانية الرد على الباقين أيضًا. إذا علمت ذلك فقد تابعه عليه النووي في "الروضة" وعبر بقوله: ففيه

هذا الخلاف، وكذا ذكر أيضًا في "شرح المهذب" إلا أنه لم يصرح بتصحيح في المسألة الأولى، وصحح عكسه في "تصحيح التنبيه" فقال: الأصح أنه ينقل إلى ذلك الصنف، ولا ذِكْر للمسألة في "المحرر" ولا في "مختصره". قوله: وفي جواز نقل الوصية طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في الزكاة، وهذا ما حكاه يعني الغزالي هاهنا. والثاني: ترتيب الوصية على الزكاة والوصية أولى بالجواز، وهذا ما ذكره هناك وألحق بالوصية الكفارات والنذور، والظاهر فيهما جميعًا جواز النقل. انتهى. وما صححه من جواز النقل في الوصية قد تقدم في بابها من كلامه ما يقتضي المنع وكلام الغزالي في "الوجيز" هاهنا مشتمل على طريقين فإنه بعد حكاية الخلاف في الزكاة، قال ما نصه: وقيل: يطرد هذا الخلاف في الكفارات والنذور والوصايا والأظهر فيها جواز النقل، هذا لفظه. فحصل من مجموع كلامه ثلاث طرق، والرافعي لم ينقل سوى طريقين. قوله: واعلم أن الخلاف في جواز النقل ظاهر في ما إذا فرق رب المال زكاته أما إذا فرق الإمام فربما اقتضى كلام الأصحاب طرد الخلاف فيه، وربما دَلّ على جواز النقل له، والتفرقة كيف شاء وهذا أشبه. انتهى. استدرك عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" فقال: قال صاحب "المهذب" والأصحاب: يجب على الساعي نقل الصدقة إلى الإمام إذا لم يأذن له في تفريقها وهذا نقل. انتهى كلامه. قوله: وزكاة النقدين والمواشي وأموال التجارة تؤدى إلى فقراء البلد الذي تم فيه حولها، فإن كان المال عند تمام الحول في بادية صرف إلى فقراء أقرب البلاد إليه، زاد في "الروضة" على هذا فقال: ولو كان تاجرًا مسافرًا

صرفها حسب حال الحول. انتهى. واعلم أن هذا الكلام أصلًا وزيادة يقتضي لعمومه أن لا فرق بين أن يكون المال مستقرًا أو سائرًا، لكن تقدم أنه إذا كان سائرًا فإنه لا يخرج زكاة حتى يصل إليه، كذا نقله في كتاب الزكاة عن صاحب "العدة" وأقره، ذكر في شروط الزكاة في الشرط السادس المعقود لتمام الملك وذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وتبعه عليه في "الروضة". قوله: وأما زكاة الفطر إذا كان ماله ببلد وهو تاجر فبأيهما يعتبر؟ وجهان: أصحهما: بلد المال. انتهى كلامه. وما ذكره من أن الصحيح اعتبار بلد المال ليس كذلك، بل الصحيح المشهور في "شرح المهذب" وغيره أن الاعتبار ببلد البدن. قوله: فإن عرف الإمام من رجل أنه لا يؤدي زكاة أمواله الباطنة بنفسه فهل له أن يقول: إما أن تدفعها. . . . إلى آخره. هذه المسألة نقله في "الروضة" إلي باب أداء الزكاة فتبعته على ذلك، وفيها أمور مهمة يتعين معرفتها فراجعها. قوله: ويشترط في الساعي: كونه مسلمًا مكلفا عدلًا حرًا فقيهًا بأبواب الزكاة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" ولكن يشترط مع ذلك أن يكون ذكرًا صرح به أبو الفتوح في تصنيفه في "أحكام الخناثى" وهو متجه فإنه ولاية. قوله؛ فإن عَيَّنَ الإمام شيئًا يأخذه لم يعتبر الفقه، قال الماوردي: وكذا لا يعتبر الإسلام والحرية. انتهي. توقف في "الروضة" في عدم اشتراط الإسلام فقال: فيه نظر، وصرح في "شرح المهذب" برده فقال: المختار: اشتراطه.

قوله: وفي "الأحكام السلطانية" أنه إذا كان الإمام عادلًا والأخذ جائرًا في القسم وجب كتمانها عنه، فإن أخذها طوعا أو كرها لم يجز، وعلى أرباب الأموال إخراجها بأنفسهم، وهذا خلاف ما في "التهذيب" أنه إذا دفع إلى الإمام الجائر سقط عنه الفرض، وإن لم يوصله المستحقين إلا أن يفرق بين الدافع إلى الإمام وإلى العامل. انتهى. اعلم أن في الإمام بخصوصه خلاف مشهور صرح الرافعي في أوائل الكلام على أداء الزكاة بنقله عن رواية الحناطي، وكلامه هنا يقتضي عدم استحضاره، ولهذا تردد في أثنائه وأما إعزاء الجواز والسقوط إلى "التهذيب" فقط فلا معنى له فقد صححه هو وغيره هناك حتى أنه حكى الخلاف في أن الأفضل الإعطاء له أم لا؟ وقد استدرك في "الروضة" هنا عليه فقال: لا فرق بين الإمام والساعي، والأصح فيهما الإجزاء. قوله: ووسم نعم [الصدقة] (¬1). والفيء مسنون، روى عن أنس قال: غدوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة (¬2) وفائدته: تمييزها عن غيرها وأن يردها من وجدها إذا ضلت وأن يعرفها المتصدق فلا يعود إليها، فإنه يكره أن يتصدق بشيء ثم يشتريه، كذا قاله الشافعي. انتهى ملخصًا. وما ذكره في أخر كلامه من كراهة شراء ما يتصدق به، قد تابعه عليه في "الروضة" ثم ذكر بعد ذلك بنحو ورقتين في أثناء الكلام على صدقة التطوع من "زوائده" ما يخالف إطلاق هذا فراجعه. قوله: ويكره الوسم علي الوجه. انتهى. ¬

_ (¬1) في "الروضة": الزكاة. (¬2) أخرجه البخاري (1431)، ومسلم (2119).

الصواب أنه حرام فقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1)، لعن فاعله، ونص عليه الشافعي في "الأم" فقال: والخبر عندنا يقتضي التحريم وجزم به البغوي، وقال النووي في "المنهاج" أنه الأصح، وفي "الروضة": إنه الأقوى، وفي "شرح المهذب"، إنه المختار، وفي "شرح مسلم": إنه الأظهر. قوله: فيكتب على نعم الجزية: جزية أو صغار، وعلى نعم الصدقة: صدقة أو زكاة أو لله، نص عليه الشافعي -رضي الله عنه- واستبعده بعض من شرح "الكتاب"، لأن الدواب تتمعك في النجاسات، وتضرب أفخاذها بأذنابها وهي نجسة فلينزه اسم الله تعالى عنها، ورأيت هذا الاستبعاد لبعض المتقدمين ممن شرح "المختصر" ويجوز أن يجاب عنه بأن إثبات اسم الله تعالى هاهنا لغرض التمييز والإعلام لا على قصد الذكر والتبرك، ويختلف التعظيم والاحترام بحسب اختلاف المقصود ألا ترى أن الجنب يحرم عليه قراءة القرآن ولو أتى ببعض الفاتحة لا على قصد القراءة لم يحرم. انتهى ملخصًا. وشارح "المختصر" المذكور الذي اتهمه ولم يصرح باسمه هو الداوودي المعروف بالصيدلاني واسمه: أبو بكر محمد بن داود بن محمد، وقد رأيت الإشكال المذكور في الشرح المشار إليه، وهو إشكال ظاهر، والجواب الذي ذكره الرافعي عنه جواب ضعيف، فإن الكتب وإن كان لقصد التمييز فلا يخرج به عن كونه معظمًا لكونه اسمًا من أسماء الله تعالى، وأما استدلاله بقراءة بعض الفاتحة فأضعف، فإنه إنما للجنب ذلك لكونه إذا لم يقصد القراءة لا يكون قرآنا، وحينئذ فلا يحرم وأما هنا فإنه، وإن قصد الإعلام فلا يخرج بذلك عن كونه اسمًا لله تعالى واسمه معظم، بل الإعلام بذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2117) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

يستدعي إرادة التسمية حقيقة. قوله: من "زياداته": ولو دفع سهم المؤلفة أو الغازي إليه فبان المدفوع إليه امرأة فهو كما لو بان عبدًا. انتهى. وقد سبق في العبد أنه لا يجزيء على الصحيح، فاقتضى ذلك أن المرأة لا تستحق شيئًا من سهم المؤلفة كالعبد، وليس كما قاله، بل الراجح الإعطاء، وقد ذكره قبل ذلك على الصواب فقال في الكلام على صنف الفقراء ما نصه: وللزوج أن يعطي زوجته من سهم المكاتب والغارم قطعًا ومن سهم المؤلفة على الأصح، وبه قطع في "التتمة" وقال الشيخ أبو حامد، لا تكون المرأة من المؤلفة وهو ضعيف. انتهى. وذكر أيضًا مثل هذه العبارة في "شرح المهذب" في الموضع المذكور وصححه أيضًا في الكلام على المؤلفة، وهذا الفرع المذكور في "الروضة" ذكره في "شرح المهذب" في أخر الباب نقلًا عن القاضي أبي الفتوح فقط، ثم قال: ونقله عنه صاحب "البيان" فنقله من الشرح المذكور من غير إعزائه غير مستحضر ما سبق له، ولهذا ذكره في "الروضة" في أخر الباب كما ذكره في الشرح المشار إليه. قال -رحمه الله-: الكلام على صدقة التطوع. قوله: أيضًا من "زوائده": اختلاف رب المال والساعي على ضربين. أحدهما: أن لا تكون دعوى رب المال لا تخالف الظاهر لدعواه أن النتاج بعد الحول. والثاني: أن تخالفه كقوله: كنت بعته في أثناء الحول ثم اشتريته، وفي الضربين إذا اتهمه الساعي حلفه واليمين في الضرب الأول مستحبة بلا خلاف، وفي الضرب الثاني مستحبة على الأصح، وقيل: واجبة. انتهى ملخصًا.

وما ادعاه من عدم الخلاف في الأول ليس كذلك فقد حكى القاضي الحسين والفوراني في الصورتين ثلاثة أوجه: ثالثها: التفصيل، ونقلها عنه ابن الرفعة في باب قسم الصدقات من "الكفاية". قوله: وأما ذوو القربى فالمشهور أنها لا تحرم عليهم صدقة التطوع، ثم قال: وفي "التتمة" حكاية قول أخر أنه تحرم الصدقة عليهم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من حكاية التحريم قولًا قد خالفه في "الشرح الصغير" فجعله وجهًا فقال: المشهور أنها لا تحرم على ذوي القربة صدقة التطوع وفيه وجه. انتهى فحكاهما أيضًا وجهين الإمام هنا والغزالي في أوائل النكاح. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد تابع الرافعي على جزمه بطريقة القولين ثم إنه حكى في "شرح المهذب" طريقين وصحح طريقة القطع فقال: فيه طريقان: أصحهما: وبه قطع المصنف والأكثرون: يحل. والثاني: حكاه البغوي وآخرون من الخراسانيين فيه قولان: أصحهما: يحل والثاني: يحرم. قوله: وإلى الأقارب والجيران أفضل وكذا الصدقة المفروضة والكفارات صرفها إليهم أفضل إذا كانوا بصفة استحقاقها فالأولى أن يبدأ بذي الرحم كالأخوة والأخوات. . . . إلى آخره. انتهى. تابعه في "الروضة" وهو يقتضي أن الأب والأم لا يدخلان في استحباب تقديمهما على الأجانب في صدقة التطوع من وجهين. أحدهما: أنهما لا يدخلان في لفظ الأقارب على الصحيح كما هو مذكور في كتاب الوصية.

والثاني: إسقاطهما في حال التفضيل وذكر المعدم وليس الاستدلال على ما يدل عليه هذا الكلام فقد قال في "شرح المهذب": قال أصحابنا: ولا فرق في استحباب صدقة التطوع، وتقديمه على الأجنبي بين أن يكون القريب ممن تلزمه نفقته أم لا، هذا كلامه، حتى قال بعده: قال البغوي: دفعهما إلى قريب تلزمه نفقته أفضل من دفعها إلى الأجنبي. انتهى. وفي "الكافي" للخوارزمي من الجزم بما نقله في "شرح المهذب" عن البغوي. قوله: واستحباب التصدق في شهر رمضان آكد. انتهى. يكون أيضًا آكد من غيره في مواضع نبه عليها في زيادات "الروضة" فينبغي معرفتها وهي الكسوف والمرض والغزو والحج والأمور المهمة، وفي مكة والمدينة والأوقات الفاضلة كعشر ذي الحجة وأيام العيد. قوله: وما فضل عن حاجته وحاجة عياله هل يتصدق بجميعه، حكى أبو سعد المتولي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يكره ذلك، بل يستحب. والثاني: لا يستحب ثم قال: وأصحها وهو المذكور في "الكتاب" أنه إن كان المتصدق قويًا بحيث يجد من نفسه قوة الصبر على الإضافة فيستحب له التصدق بالجميع وإلا لم يستحب بل يستبقي لنفسه ما يتحلل به. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن المتولي من حكاية وجه الاستحباب مطلقًا ليس مطابقًا لما في "التتمة" فإنه إنما عبر بعدم الكراهة ولا يلزم منها كونه مستحقًا فإنه قال: هل يستحب للرجل أن يتصدق بجملة ماله أم يكره له ذلك؟ اختلفوا في ذلك، فقيل: لا يستحب، هذا لفظه، ثم استدل على عدم

الاستحباب، ثم قال: وقيل: إن ذلك لا يكره، والصحيح: أن ذلك يختلف بأحوال الناس، فإن كان الرجل أقوى الاعتقاد بحيث لا يتغير عليه حاله إذا لم يكن في يده، قال فالأولى له أن يتصدق بجميع ماله، وإن كان الرجل ممن لا يصير علي الفقر فالأولى أن يتصدق بما فضل عنه ويستبقي لنفسه قدر ما يحتاج إليه. انتهى كلامه. الأمر الثاني: أن تعبيره في الوجه الثالث بقوله: ويستبقي لنفسه ما يتعلل به، لا يطابق تعبير "التتمة" بقدر "الكفاية" فبينهما فرق ظاهر، وحذف في "الروضة" بيان ما يبقيه فلم يذكر ما في الرافعي ولا ما في "التتمة" فقال فيه أي: في الاستحباب، أوجه [. .] (¬1) وإلا فلا. قوله: ومن له عيال تلزمه نفقتهم أو عليه دين يحتاج إلى قضائه فلا يستحب التصدق، وربما [قال] (¬2) يكره. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: هذه العبارة موافقة لعبارة الماوردي والغزالي والمتولي وآخرين، وقال القاضي أبو الطيب وأصحاب الشامل و"المهذب" و"التهذبب" و"البيان" والدارمي والروياني في "الحلية" وآخرون لا يجوز أن يتصدق بما يحتاج إليه لنفقته ونفقة عياله. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: إن الإشارة بقوله: هذه العبارة. . . . إلى آخره، لا جائز أن تكون إلى أقرب مذكور وهو الكراهة، وإن كان هو المتبادر إلى الفهم، فإنه قد نقل في "شرح المهذب" عن الماوردي والغزالي وغيرهما عدم الكراهة ولا جائز أن يعود إلى ما ذكره أولًا فقط لأنه قد نقل في الشرح المذكور عن المتولي، بل أشار بذلك إلى حاصل ما تقدم وهو الجواز فتفطن له. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل. (¬2) في الروضة: قيل.

ويدل عليه حكاية الخلاف الذي بعده غير أنه أساء التعبير بقوله: هذه العبارة، وقد علمت بما نقلناه من "شرح المهذب" التصريح بما توقف الرافعي وهو الخلاف في الكراهة. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الدين إنما يأتي إذا لم يطالب به صاحبه، فإن طالب فإنه لا سبيل إلى القول بالجواز لوجوب أدائه علي الفور بل في وجوب الفور عند عدم المطالبة أيضًا كلام ينبغي الوقوف عليه، سبق ذكره في كتاب الفلس. وقد ذكر الرافعي في "الشرح الصغير" نحو ما ذكر في "الكبير" وكذلك في "المحرر" إلا أن النووي قد اختصره في "المنهاج" بقوله: ومَنْ له عليه دين أو له من يلزمه نفقته يستحب له أن لا يتصدق. والرافعي عبر بقوله: لا يستحب له أن يتصدق، كما عبر في "الكبير" وبينهما تفاوت ظاهر. قوله: أيضًا من "زياداته": وهذا -أي: التحريم- أصح في نفقة عياله والأول أصح في نفقة نفسه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله في النفقة مُسَلَّم في نفقة عياله، وأما نفقة نفسه فذكر مثله أيضًا في "المنهاج" من "زياداته" لكنه خالفهما في "شرح المهذب" وصحح المنع، وعَبَّر بالأصح أيضًا، فإنه حكى فيها وفي نفقة عياله ثلاثة أوجه ثم قال: أصحهما لا يجوز. والثاني: أنه مكروه. والثالث: أنه خلاف الأولى. الأمر الثاني: إذا قلنا بالمنع في نفقة العيال كما صححه النووي فهل

يكون [. .] (¬1) لا يجوز لأنها غير واجبة، ذكر ذلك في حديث الأنصاري المشهور الذي أطعمه قوت صبيانه، وحمل هذا الحديث على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين وإنما طلبوه على عادة الصبيان في الطلب من غير حاجة وجزم في "شرح المهذب" في هذا الباب يعكس ذلك فقال: أن الضيافة لا يشترط في جوازها الفضل عن نفقته ولا نفقة عياله أما كدها وكثرة الحث عليها. قال: وليست الضيافة صدقة واستدل عليها بالحديث المذكور. قوله: من "زياداته": أيضًا وأما الدّين فالمختار أنه إن غلب على ظنه حصول وفاته من جهة أخرى فلا بأس بالتصدق وإلا فلا تحل. انتهى. ذكر نحوه في "شرح المهذب" أيضًا وكذلك في "المنهاج" وأبدل "المختار" بقوله: "الأصح" إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أنه في "شرح مسلم" قد ذكر ما حاصله الجزم بالجواز لمن عليه دين ولم يفصل كما فصل هنا. الثاني: أن غلبة الظن بحصول الوفاء لابد أن يستند إلى سبب ظاهر كذا صرح الغزالي في "الإحياء" وهو واضح فإنه والحالة هذه يكون كالمستدين ابتداء، وقد قال في "الروضة" من "زوائده" في الشهادات، وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سوف إذا كان مرجوًا الوفاء من جهة أو سبب ظاهر، هذا لفظه، وهي مسألة مهمة، وحيث منعناه من التصدق في جميع ما سبق فتصدق فهل يملكه المتصدق عليه قال ابن الرفعة ينبغي تخريجه علي الخلاف في هبة المال. قال -رحمه الله-: ونردف الباب بمسائل من قسم الصدقات متفرقة. قوله: وينبغي أن ابتداء في القسمة بالعاملين لأن استحقاقهم أقوى ¬

_ (¬1) بياض في الأصل.

لكونهم يأخذون معاوضة. انتهى. وهذا التقديم مستحب وقد نبه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب". قوله: ولو دفع المال بنفسه ثم بان المدفوع إليه كافرًا أو عبدًا أو من ذوي القربى لم يسقط الفرض وفيه وجه ضعيف وإن بان قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -يسقط لأن الغني لا يتحقق فيعذر كما لو دفع الإمام. وأصحهما: المنع. انتهى كلامه. وتفريقه بين هذه المسائل في حكاية القولين والوجهين يقتضي أن القولين خاصان بالغنى وأن ما عداه ليس فيه قولان، بل وجهان، وليس كذلك فقد حكى الشافعي القولين في الجميع فقال في "الأم" في باب علم قاسم الصدقة وهو بعد باب من طلب من أهل السهمان ما نصه وإن كان للقسم رب المال دون الوالي فعلم أن بعض من أعطاه ليس من أمل السهمان على مسكنه وغرم أو ابن سبيل فإذا هم مماليك أو ليس على الذي أعطاهم لها رجع عليهم واحد منهم فقسمه على أهله فإن ماتوا أو أفلسوا ففيها قولان: أحدها: أن عليه ضمانه وأداءه إلى أهله. ثم قال: والقول الثاني: أنه لا ضمان على صاحب الصدقة إذا قسمها على الإجتهاد. هذا كلام الشافعي. قوله: وفي "البحر" للقاضي الروياني: أنه لو دفع الزكاة إلى مسكين وواعده أن يردها إليه بالبيع أو الهبة ليصرفها المزكي في كسوة المسكين ومصالحه ففي كونه قبضًا صحيحًا إحتمالان لأن التحلية لم تحصل على التمام، وأنه لو دفع الزكاة إلى مسكين، وهو غير عارف بالمدفوع بأن كان مشدودًا في حرفه أو كاغد لا يعرف جنسه وقدره وتلف في يد المسكين ففي سقوط الزكاة إحتمالان لأن معرفة القابض لا يشترط فكذلك معرفة الدافع.

انتهى كلامه. لم يذكر في "الروضة" المسألة الأولى ولكنه جزم في قريب منها بعدم صحة القبض وأما المسألة الثانية فنقلها إلى قبيل صدقة التطوع، وقال: أن الأرجح فيها سقوط الفرض -أعني: الرافعي- تبعًا لصاحب "البحر" بقوله وتلف في يد المسكين لا معنى له، بل هو نبيذ مضر موهم لأن الحكم الذي ذكره وهو التردد في الإجراء لا فرق فيه بين تلف المدفوع وبقائه فتأمله. قوله: من زوائده ومن تصدق بشيء كره له أن يتملكه من جهة من دفعه إليه بمعاوضة أو هبة ولا بأس بملكه منه بالإرث ولا يتملكه من غيره. انتهى. وشرط الكراهة أن يعرفه المسكين خوفًا من المحاباة فإن لم يعرفه ولا يكره، ولكن الأولى أن لا يتملكه وكذلك إذا انتقل عنه إلى غيره عنه لله تعالى هكذا ذكره محمد بن داود الداوودي المعروف بالصيدلاني في "شرح المختصر" وفي المسألة كلام آخر يتعين الوقوف عليه سبق ذكره في الكلام على وسم نعم الزكاة فراجعه. آخر الجزء السادس من تجزئة المصنف -رحمه الله-، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء السَّابع مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (7)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب النكاح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد كتاب النكاح الباب الأول في خصائص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النكاح وغيره قوله في أصل "الروضة": ومن الواجبات على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأضحية والوتر والتهجد والسواك والمشاورة على الصحيح في الخمسة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يقتضي أن الرافعي حكى خلافًا في وجوب الخمسة عليه وهو في ما عدا التهجد [صحيح، وأما التهجد] (¬1) فلا، بل المجزوم به في الرافعي وجوبه، ثم حكى وجهًا أنه نسخ في حقه كما في حق الأمة. قال: وهو ما أورده الشيخ أبو حامد. واعلم أن الشيخ أبا حامد قد نقل عن نص الشافعي موافقة هذا الوجه، ونقله في "الروضة" عنه، وقال: إنه الأصح. قال: وفي "صحيح مسلم" عن عائشة -رضي الله عنها- ما يدل عليه، وذكر من "زوائده" في كتاب السير أن الله تعالى فرض من قيام الليل أولًا ما ذكره في أول سورة المزمل ثم نسخه بما في آخرها، ثم نسخه بالخمس. الأمر الثاني: أن هذا الكلام يقتضي أن الوتر غير التهجد، وقد وقع فيه اختلاف صريح في عبارة "الروضة" يعرف بمراجعة ما قدمته في صلاة التطوع فليراجع من هناك. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: أما في النكاح فقد أوجب الله تعالى على رسوله تخيير نسائه بين اختياره وبين مفارقته واختيار زينة الدنيا، والمعنى فيه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثر لنفسه الفقر والصبر عليه فأمر بتخييرهن كيلا يكون مكرهًا لهن على الصبر والفقر. انتهى كلامه. ذكر مثله بعد هذا في الكلام على [الكفاءة] (¬1)، وما ذكره من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار الفقر لنفسه، كيف يصح مع ما ثبت في الصحيحين من رواية عائشة أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يتعوذ من الفقر (¬2)، وقد ذكر هو هذا الحديث قبل هذا الموضع بأوراق في الكلام على قسم الصدقات، فقال: إنه -عليه السلام- كان يستعيذ من الفقر، وقال: "اللهم أحينى مسكينًا" (¬3)، وما ذكره من الدعاء بالمسكنة قد رواه الترمذي وابن ماجة بإسناد ضعيف ولفظهما: "اللهم أحينى مسكينًا وأمتنى مسكينًا"، قال البيهقي: وقد روي أيضًا في حديث أنس أنه استعاذ من الفقر والمسكنة معًا. قوله: وهل حرم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلاقهن بعدما اخترنه؟ فيه وجهان: أظهرهما عند الإمام: أنه لا يحرم. انتهى. وهذا الذي رجحه الإمام هو الصحيح، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين والنووي في أصل "الروضة": إنه الأصح. ¬

_ (¬1) في جـ: الكفارة. (¬2) أخرجه البخاري (6007) ومسلم (589). (¬3) أخرجه الترمذي (2352) والبيهقي في "الكبرى" (12931) وفي "الشعب" (10507) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال الألباني: صحيح. وأخرجه ابن ماجه (4126) وعبد بن حميد (1002) والبخاري في "الكنى" (ص/ 75) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - وسنده ضعيف. وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (12930) والطبراني في "الدعاء" (1427) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (38/ 194) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.

قوله: وفي "الجرجانيات" لأبي العباس الروياني ذكر وجهين في أنه هل كان يجوز للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل الاختيار إليهن قبل المشاورة معهن؟ انتهى. وهذه المسألة أسقطها النووي من "الروضة". قوله: ومن المحرمات الصدقة على أظهر الوجهين على ما سبق في كتاب قسم الصدقات. انتهى. وحكاية الخلاف في هذه المسألة وجهين تبع فيه جماعة منهم الإمام هنا والطبري صاحب "العدة" والعجلي في "شرح الوسيط" والجرجاني في "الشافي"، لكن الذي سبق من كلام الرافعي في قسم الصدقات أن الخلاف قولان، وهو الصواب المذكور في بعض نسخ الرافعي هنا وفي "الروضة" أيضًا، فقد قال الماوردي في كتاب الوقف: إنهما منصوصان في "الأم". قوله: وعد من المحرمات الخط والشعر، وإنما يتجه القول بتحريمهما ممن يقول: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحسنهما، وقد اختلفوا فيه، والأصح أنه كان لا يحسنهما. انتهى. وهذا البحث الذي ذكره ضعيف كما نبه عليه في "الروضة"، فإنه لا يمتنع أن يحرم على الشخص ما لا يحسنه حتى يحرم عليه التوصل إليه. قوله: وكان يحرم عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا لبس لأمته أن [ينزعها حتى] (¬1) يلقى العدو ويقاتل (¬2)، وقيل: كان مكروهًا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا (6/ 2681) ووصله النسائي في "الكبرى" (7647) وعبد الرزاق (5/ 363) وابن الجارود في "المنتقي" (1061) وأحمد (14829). والحديث صحيح بشواهده، والله أعلم.

اللأمة بهمزة ساكنة هي الدرع، يجمع على لائم كثمرة وثمر وعلى لؤم كرطب، وهذا الثاني على غير القياس كما قاله الجوهري، فإنه جمع لُؤمة بضم اللام. قوله: وفي "الجرجانيات" لأبي العباس الروياني ذكر وجهين في أنه هل كان يجوز للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي على من كان عليه دين؟ وطريقتين في أنه هل كان يجوز أن يصلي مع وجود الضامن؟ . انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" لم يذكر المسألة الثانية -أعني مسألة الضامن- طريقين كما ذكرهما الرافعي، بل عبر بالوجهين أيضًا. الثاني: أن الصحيح فيها -أعني في المسألة الثانية- هو الجواز، فقد قال في "الروضة" من "زياداته": إن الصواب الجزم به قال: ثم نسخ التحريم فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك يصلي على من عليه دين ولا ضامن له يوفيه من عنده (¬1). قوله: ولا يحل له الكتابية في أصح الوجهين، ثم قال: ويجرى الوجهان في التسرى بالأمة الكتابية. انتهى كلامه. وهو وإن كان يقتضي عدم الجواز في التسرى بالأمة لكنه قد أعادها بعدها بقليل. وقال: إن أظهر الوجهين فيها الجواز فاعلم ذلك، ولم يذكر هذه الزيادة في "الشرح الصغير" فصار ظاهره مخالفًا لما في "الكبير". قوله: ومن المباح له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اصطفاء ما يختاره من الغنيمة قبل القسمة من جارية وغيرها، ويقال لذلك المختار: الصفى والصفية والجمع الصفايا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2176) ومسلم (1619) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ومن صفاياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفية بنت حيي اصطفاها وأعتقها وتزوجها، وذو الفقار. انتهى كلامه. والذي ذكره من أن صفية بنت حيي من صفاياه قبل القسمة ليس كذلك، فقد روى مسلم في "صحيحه" (¬1) عن أنس أنها وقعت في سهم دحية الكلبى واشتراها منه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبعة أرؤس. وفي "صحيح البخاري" (¬2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها بعد أن وقعت في سهم دحية الكلبي. وأما ذو الفقار بفاء تفتح وتكسر وبعدها قاف، وبالراء المهملة فهو سيف كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والفقار هي العظام التي في سلسلة الظهر، ومفرده يقال فيه: فقارة بالفتح والمفتوح جمعه، وفقرة بالكسر والمكسور جمعه. قال ابن الأثير في "النهاية": هي خرزات الظهر، قال: وفي حديث زيد بن ثابت: ما بين عجب الذنب إلى فقارة القفا ثنتان وثلاثون فقارة في كل فقارة أحد وثلاثون دينارًا، وقد تعرض لأخبار هذا السيف جماعة منهم الطبري في "تاريخه الكبير" والكلبي في "جمهرة النسب"، وجمع ابن خلكان خلاصة ذلك في تاريخه في الكلام على ترجمة مرثد بن يزيد بن زائدة، فقال: لما كانت وقعة بدر [وكان ممن حضرها منبه ونبيه أبناء الحجاج القرشي السهمي، وكانا] (¬3) إذ ذاك سيدى بني سهم، وكان العاص ابن نبيه قد حضرها مع أبيه فقتل هو وأبوه وعمه كفارًا، وكان هذا السيف له -أي للعاص- فقال الكلبي: إن عليًا - رضي الله عنه - قتله وأخذ سيفه، وقال غيره إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذه من جملة ما أخذ، ثم أعطاه لعلى فانتقل في أولاده إلى أن وصل إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن ¬

_ (¬1) حديث (1365) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) حديث (905) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) سقط من جـ.

على، ثم إن محمدًا المذكور خرج على الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي فأرسل إليه جيشًا فانهزم أصحاب محمد وقتل هو في تلك الفتنة، فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه، وكان له عليه أربعمائة دينار، وقال له خذ هذا السيف فإنك لا تلقى أحدًا من آل أبي طالب إلا أخذه منك وأعطاك حقك فكان السيف عند ذلك الشخص إلى أن ولى جعفر بن سليمان بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - اليمن والمدينة فوصل إليه الخبر فدعا الرجل فأخذ منه السيف وأعطاه أربعمائة دينار فلم يزل عنده إلى زمان المهدى بن المنصور فاتصل به خبره فأخذه فبقي في أيدى خلفاء بني العباس. قال الأصمعي: رأيت الرشيد بطوس متقلدًا سيفًا، فقال: يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار قلت: بلى جعلنى الله فداك، فقال: استل سيفي هذا فاستللته فرأيت فيه ثماني عشرة فقارة. قوله: ومن خصائصه أنه لا يورث ماله، لكن هل هو باق على ملكه ينفق منه على أهله كما في حياته أو هو صدقة؟ فيه وجهان: صحح الإمام الأول، وقطع أبو العباس الروياني بالثاني لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" (¬1)، ثم حكى أبو العباس المذكور وجهين في ما إذا قلنا: إنه صدقة، هل تكون وقفًا على ورثته؟ ووجهين إذا جعلناه وقفًا، هل هو الواقف بقوله في الحديث السابق: "ما تركناه فهو صدقة". انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح أنه صدقة فقد قال في "الشرح الصغير": إنه المشهور، وقال في "الروضة" من "زياداته": الصواب الجزم بذلك، ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1802) والبخاري (2926) ومسلم (1759) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

وبأنه لا يختص به الورثة، بل يكون صدقة على المسلمين. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر قبل هذا في الباب الأول من كتاب قسم [الفيء] (¬1) والغنيمة أن خمس الفيء كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفق منه على نفسه وأهله، وفي مصالحه، ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يملكه ولا ينتقل منه إلى غيره إرثًا. هذا كلامه، فقد حكم في ذلك الباب بأن جهة الإنفاق غير مملوكة، وحكم هنا بأنها مملوكة فتفطن له، واجمع بينهما بأن لتلك الجهة مادتين مملوكة وغير مملوكة، والخلاف في إحداهما على أن العمراني قد ذكر في آخر إحياء الموات من "البيان" عن الشيخ أبي حامد أن بعضهم قال: إنه -عليه الصلاة والسلام- ما كان يملك شيئًا ولا يتأتى منه الملك، وإنما أبيح له ما يأكله وما يحتاج إليه، قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [مِنْ أَهْلِ الْقُرَى] (¬2) فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (¬3)، وأيضًا فقد أعتق صفية (¬4) واستولد مارية، والحديث الذي ذكره الرافعي صحيح. قوله: وكذلك حكى -يعني أبا العباس الروياني- وجهين في انتقاض وضوءه باللمس. انتهى. والراجح الانتقاض فقد قال في "الروضة": المذهب الجزم به. قوله: وفي ما حكى صاحب "التلخيص" أنه كان يجوز له أن يدخل المسجد جنبًا ولم يسلمه القفال، قال: ولا أخاله صحيحًا. انتهى. وقد أنكر ذلك أيضًا إمام الحرمين فقال: إنه شيء لا ندري من أين قاله وإلى أي أصل أسنده. ¬

_ (¬1) في ب: الصدقات. (¬2) سقط من الأصل. (¬3) سورة الحشر: 7. (¬4) تقدم.

والذي قالوه غريب فإن مستند صاحب "التلخيص" ما رواه الترمذي عن عطية عن أبى سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: "لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك" (¬1). قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. نعم عطية ضعيف عند جمهور المحدثين. قال الترمذي: قال ضرار بن صرد: معناه لا يحل لأحد يستطرقه جنبًا غيري وغيرك. وقد ضعف في "الروضة" هذا التأويل وسببه أنه يدل على تحريم العبور مع أنه جائز بنص القرآن. قوله: وحكى صاحب ["التلخيص"] (¬2) أنه يجوز له القتل بعد الأمان وخطؤوه فيه. انتهى. وهذا الذي نقله الرافعي هنا لم يتعرض له في "الروضة" بالكلية. قوله: وكان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يزيد على تسع نسوة في أصح الوجهين، ثم قال: وفي انحصار طلاقه في الثلاث وجهان كالوجهين في انحصار الزوجات في التسع، ورأى صاحب "التتمة" الانحصار. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3727) والبيهقي في "الكبرى" (13181) والمزني في "تهذيب الكمال" (9/ 344) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث. فاستخرجه. وقال الألباني: ضعيف. وأخرجه البزار (1197) من حديث خارجة بن سعد عن أبيه سعد، وقال: وهذا الكلام لا نعلمه يروي عن سعد إلا عن هذا الوجه بهذا الإسناد. . . . ولا نعلم روى عن خارجة بن سعد إلا الحسن ابن زيد هذا. (¬2) سقط من ب.

ذكر في "الشرح الصغير" مثله أيضًا، وصحح في أصل "الروضة" الانحصار وهو غريب، فإن كلام الرافعي إن لم يشعر برجحان عدم الانحصار فلا أقل من عدم الشعور برجحان عكسه لمعارضة الأول له. قوله: وفي انعقاد نكاحه بلفظ الهبة وجهان أظهرهما: الانعقاد، ولكن هل يشترط لفظ النكاح من جهة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه وجهان أرجحهما عند الشيخ أبى حامد: أنه يشترط. انتهى. والأصح ما رجحه أبو حامد، كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: في أصل "الروضة" وأكثر هذه المسائل مخرج على أصل اختلف فيه الأصحاب، وهو أن النكاح في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل هو كالتسرى في حقنا؟ إن قلنا: لا، لم ينحصر عدد المنكوحات والطلاق وانعقد بالهبة ومعناها وبلا ولى [وشهود] (¬1)، وفي الإحرام ولم يجب القسم وإلا انعكس الحكم. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله إن قلنا لا سهو وصوابه إن قلنا نعم، وهو المذكور أيضًا في الرافعي. قوله: وكان يحل له نكاح المعتدة في أحد الوجهين. قال في "الروضة" من زياداته: الصواب القطع بامتناعه وغلطوا قائل هذا الوجه. قوله: وهل كان يلزمه نفقة زوجاته؟ فيه وجهان بناء على الخلاف في المهر. انتهى. وهذا البناء يشعر بترجيح عدم الوجوب، فإنه الراجح في المهر لكن في "الروضة" من زياداته أن الصحيح الوجوب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وأعتق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفية وجعل عتقها صداقها، فقيل. أعتقها وشرط أن ينكحها فلزمها الوفاء بخلاف غيره، [وقيل: جعل نفس العتق صداقًا، وجاز ذلك بخلاف غيره] (¬1). انتهى. ذكر في "الروضة" تفسيرًا ثالثًا وصححه وهو: أن معناه أنه أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا في ما بعده. قوله: ومنها: أن زوجاته اللاتي توفى عنهن محرمات على غيره أبدًا، وفي التي فارقها في حياته كالتي وجد بكشحها بياضًا فردها وكالمستعيذة منه ثلاثة أوجه: أحدها ويحكى عن نصه في "أحكام القرآن": أنها حرام. والثاني: لا. والثالث -وصححه الشيخ أبو حامد-: أنها إن كانت مدخولًا بها حرمت وإلا فلا. انتهى ملخصًا. وهذا الثالث صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر وقال في "الروضة" من "زياداته": الأول أرجح، ولم يذكر ترجيحًا غيره. والكشح بكاف مفتوحة وشين معجمة ساكنة وحاء مهملة هو الجنب. وقال الجوهري: ما بين الخصر وأقصر الأضلاع. قوله: ويشفع في أهل الكبائر. أعلم أن هذه العبارة ناقصة أو باطلة كما قاله في "الروضة" فإن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس شفاعات: أولاهن: الشفاعة العظمى في الفصل بين أهل الموقف حين يهرعون ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ.

إليه بعد الأنبياء، كما ثبت في الحديث الصحيح، حديث الشفاعة (¬1). والثانية: في جماعات يدخلون الجنة بغير حساب. والثالثة: في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها. والرابعة: في أناس دخلوا النار فيخرجون منها. والخامسة: في رفع درجات أناس في الجنة، والشفاعة المختصة به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي الأولى والثانية، ويجوز أن تكون الثالثة والخامسة. هذا كلام "الروضة". قوله: وبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس كافة. اعلم أن التعبير بالناس وقع في القرآن والحديث والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى الإنس والجن والتعبير بالناس يشملهما. قال الجوهري: والناس قد تكون من الإنس ومن الجن، وأصله أناس فخفف. هذا كلامه. قوله: وهو سيد ولد آدم. اعلم أن التعبير بولد آدم وقع أيضًا في الحديث فعبر به الرافعي - رضي الله عنه -، لكن مذهب أهل السنة أنه أفضل المخلوقات على الإطلاق سواء فيه الإنس والجن والملائكة. قوله من "زياداته" في التكنى بأبي القاسم: وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب الشافعي أنه لا يجوز لأحد أن يتكنى به مطلقًا سواء كان اسمه محمد أم لا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3162) و (4435) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ثم قال: الثاني مذهب مالك: أنه يجوز التكنى بأبي القاسم لمن اسمه محمد ولغيره. والثالث: لمن اسمه محمد دون غيره [هذا لفظه] (¬1). والعبارة التي ذكرها في المذهب الثالث سهو فإن حاصلها أنه يجوز لمن اسمه محمد ولا يجوز لغيره وهذا لم يقل به أحد، والصواب أن يقول والثالث لمن ليس اسمه محمدًا دون غيره أي يجوز لمن لم يسم بمحمد دون من سمى به. واعلم أن هذا المذهب الثالث هو الصواب الراجح دليلًا فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تسمى باسمى فلا يتكنى بكنيتي ومن تكنى بكنيتى فلا يتسمى باسمى" (¬2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر وقال الترمذي: حسن غريب، وقال البيهقي في "شعب الإيمان": إسناده صحيح، وكذا صححه ابن حبان، وأخرجه أيضًا من حديث أبي هريرة، وصححه الترمذي من هذا الوجه. قوله أيضًا من "زياداته": ومنها: أنه لا يجوز الجنون على الأنبياء بخلاف الإغماء. انتهى. والجواز في الإغماء مشروط بكونه في لحظة أو لحظتين كذا في حفظي قديمًا عن "تعليقه" القاضي الحسين عن الداركي من غير مخالفة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (4966) وأحمد (14396) والطيالسي (1750) والبيهقي في "الشعب" (8634) وفي "الكبرى" (19111)، والطحاوي في "شرح المعاني" (6729) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/ 41) من حديث جابر - رضي الله عنه -. قال الألباني: منكر.

قال -رحمه الله-: المقدمة الثانية قوله: الناس ضربان تائق إلى النكاح وغيره، فغير التائق إذا وجد الأهبة ولم يكن به علة فلا يكره له النكاح، ولكن التخلي للعبادة أفضل منه، وعكس أبو حنيفة، وحكى الشيخ ملكداد القزويني في "تعليقه" عن أبي سعيد الهروي وجهًا مثله، وإن لم يكن منشغلًا بالعبادة فالنكاح أفضل من تركه في أصح الوجهين؛ لئلا تفضى به البطالة والفراغ إلى الفواحش. انتهي. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الوجه الذي أغرب الرافعي بحكايته قد حكاه الغزالي في "الوسيط". الثاني: قال الشيخ عماد الدين إبراهيم بن عبد الوهاب الريحاني في "شرح الوجيز" المسمى "بالموجز": لم يتعرض الأصحاب للنساء. قال: والذي يغلب على الظن أن النكاح في حقهن أولى مطلقًا لأنهن يحتجن إلى القيام بأمورهن والتستر عن الرجال، ولم يتحقق فيهن الضرر الناشئ من النفقة. واعلم أن التائق: بالتاء المثناة هو المشتاق إلى الشيء المشتهى له. والبطالة: بفتح الباء والماضي منه بطل بفتح الطاء أي تعطل. قوله: وفي "شرح مختصر الجويني" أنه إن خاف الزنا وجب عليه النكاح. انتهى. واعلم أن هذا الوجه لا يقول بتحتم النكاح بل يخير بينه وبين التسري،

وقد نبه عليه في "الروضة". قوله: والأولى في المرأة أن تكون بكرًا إذا لم يكن عذر وأن تكون ولودًا منظورًا إليها نسيبة لما روى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إياكم وخضراء الدمن، قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" (¬1)، والتي ليست قرابة أولى لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويًا" (¬2). أي: نحيفًا، وذلك لضعف الشهوة. انتهى. أشار بقوله إذا لم يكن له عذر إلى ما رواه البخاري في "صحيحه" (¬3) عن جابر قال: "قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تزوجت يا جابر؟ قلت: نعم، قال: ماذا أبكرًا أم ثيبًا؟ قلت: لا بل ثيبًا، قال: هلا جارية تلاعبك؟ قلت: يا رسول الله إن أبي قتل يوم أحد وترك سبع بنات فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، قال: أصبت". وخضراء الدِّمن: هي الشجرة الخضراء النابتة في مطارح البحر. وهي الدِّمن بكسر الدال وفتح الميم جمع دمنة، شبه بها المرأة الحسناء ذات النسب الفاسد مثل أن تكون بنت الزنا، والحديث المذكور رواه الواقدي بإسناده عن أبي سعيد والواقدي ضعيف، وهذا معدود من ¬

_ (¬1) أخرجه الشهاب في "مسنده" (957) والرامهرمزي في "أمثال الحديث" (84) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. قال الدارقطني: لا يصح. وقال السخاوي: تفرد به الواقدي. وقال الألباني: ضعيف جدًا. (¬2) قال ابن الصلاح: لم أجد له أصلًا معتمدًا. وقال الألباني: لا أصل له مرفوعًا. (¬3) حديث (5058) و (6024).

أفراده، كذا قاله ابن الصلاح في "مشكل الوسيط"، قال: وأما الضاوي فهو بتشديد الياء، قال الجوهري: غلام ضاوي وزنه فاعول إذا كان قليل الجسم وقد ضوي بالكسر يضوي ضوًا بفتح الضاد مقصور وهو الهزال قلت: وأصل الضاوى بالتشديد ضاووي فأجمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلبنا الواو ياء وادغمتا ثم قلبنا ضمة الواو كسرة ليسهل الانتقال إلى الياء، قال ابن الصلاح: ولم أجد الحديث في أصل يعتمد. واعلم أن عبارة الرافعي لا يؤخذ فيها الأولى في الأجنبية مع القرابة غير القريبة، وقد صرح في "الروضة" من "زوائده" بأن القريبة أولى وهو مقتضى كلام جماعة، لكن ذكر صاحب "البحر" و"البيان" أن الشافعي نص على أنه يستحب له أن لا يتزوج من عشيرته، فإن الولد يجيء أحمق. قال: وقد رأينا جماعة تزوجوا من عشائرهم فجاءت أولادهم حمقى، وقد أهمل الرافعي من المستحبات أن تكون عاقلة. قال في "التتمة": وأن لا يكون معها ولد من غيره إلا لمصلحة، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة للمصلحة، وأن تكون بالغة كما نص عليه الشافعي، فهذه المواضع ذكرها في "الروضة" وضم إليها أن تكون جميلة. وقد يقال: لا حاجة إليه، لأن المنظور إليها قد يغني عنه والعقل المذكور هنا يتجه أن يكون المراد به العقل العرفي وهو زيادة على مناط التكليف. ويستحب أيضًا أن تكون خفيفة المهر حسنة الخلق قاله الغزالي في "الإحياء".

ويستحب العقد في المسجد، وأن يحضره جمع من أهل الخير والصلاح كما قاله ابن الصلاح. قوله من "زوائده": والمستحب أن لا يزيد على امرأة من غير حاجة ظاهرة. انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في أول كتاب النفقات فقال: ذكر الشافعي هاهنا استحباب الاقتصار على امرأة واحدة. وقال الماوردي: هذا إذا كان يكفيه واحدة ومن لا يقنع بالواحدة لقوة شهوته فالأولى به الزيادة، هذا كلام الرافعي وحذفه النووي من "الروضة" هناك فلم يصر لها ذكر في ما يخصه من كلام الرافعي، وهذا الذي ذكره الماوردي قد ذكر مثله أيضًا الغزالي في "الإحياء". قوله: ثم المنظور إليه الوجه والكفان ظهرًا وبطنًا ولا ينظر إلى ما سواهما لأنه عورة، وهي تعد أجنبية. انتهى. وهذا التعليل قد حذفه النووي من "الروضة" وهو يقتضي اختصاص هذا الحكم بالحرة فقد صحح الرافعي في الأمة أنه ينظر منها من غير حاجة لما ينظره الرجل من الرجل فمع حاجة النكاح أولى، وقد صرح به ابن الرفعة فقال: إنه مفهوم كلامهم فيتجه استحبابه على قولنا: إن النظر إلى وجه الحرة وكفيها مستحب لا مباح وهو الصحيح. قوله: وأما وقت النظر فالأظهر أنه ينبغي أن يكون بعد العزم على نكاحها إن ارتضاها، وقيل: الخطبة لأنه لو كان بعد الخطبة وتركها شق عليها. انتهى. واعلم أن ما رجحه الرافعي معارض بالحديث والمعنى. أما الحديث: فروى البيهقي عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا خطب

أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه ويدعوه إليها فليفعل" (¬1)، فدل على أن النظر بعد الخطبة. وأما المعنى: فلأنه لو رآها قبل ذلك فقد تعجبه ولا تجيبه هي أولا يجيبه أهلها فيشق عليه بل يتضرر. قوله في النظر لغير حاجة النكاح: وإن لم يخف من النظر إلى الوجه والكفن فوجهان: قال أكثر الأصحاب سيما المتقدمين: لا يحرم لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬2) وهو مفسر بالوجه والكفين. انتهى. خالفه في "المحرر" فقال: أولى الوجهين المنع، والصواب هو الجواز لتصريحه في "الشرح" بأن الأكثرين عليه، وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج" على وجه غريب فإنه عبر في "المنهاج" بالصحيح، واصطلاحه فيه أن يكون مقابله وجهًا ضعيفًا، وإذا استحضرت مثل هذه المواضع علمت أن ما ادعاه في خطبة "المنهاج" من كون الرافعي قد التزم في "المحرر" أنه ينص على ما صححه معظم الأصحاب وأنه قد وفى بما التزمه ليس كذلك، ولم يصرح في "الشرح الصغير" في هذه المسألة بترجيح. قوله: وإذا رددنا الكلام إلى أن المنظور إليها هل يلزمها الاحتجاب من الصبي. . . . إلى آخره. هذا الكلام يوهم أن جعل الصبي كالبالغ في النظر معناه أنه يلزم المرأة الاحتجاب عنه لا غيره من المعاني وليس محصورًا في ذلك، بل إذا قلنا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2082) وأحمد (14626) والحاكم (2696) وابن أبي شيبة (4/ 21) والبيهقي في "الكبرى" (13265) والطحاوي في "شرح المعاني" (3960) من حديث جابر - رضي الله عنه -. قال الألباني: حسن. (¬2) سورة النور: 31.

به فيلزم الولى أن يمنعه من النظر كما يلزمه أن يمنعه الزنا وسائر المحرمات، وقد نبه على ذلك في "الروضة". قوله: والمخنث هو المشبه بالنساء إلى آخره. اعلم أن المخنث بكسر النون وفتحها يقال: خنث الرجل بالتشديد إذا تشبه فهو مخنث، كما نقول حدث فهو محدث وخبر فهو مخبر لكن الفتح أشهر، وإن كان الكسر أفصح قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات". قال الجوهري: الانخناث هو التثني والتكسر، والاسم منه الخنث بضم الخاء والإسكان قال: وتقول: خنَّثت الشيء بالتشديد فتخنث أي عطفته فانعطف، والخنث بفتح الخاء وكسر النون هو المسترخي المتثني. قوله: مملوك المرأة محرم لها عند الأكثرين. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن النووي قد صحح التحريم في نكت له على "المهذب" وكذلك ابن الرفعة في "المطلب". الثاني: أن [القول] (¬1) بالجواز له شرطان: أحدهما: أن يكون العبد ثقة فإن كان فاسقًا فلا، كذا ذكره البغوي في تفسير سورة النور وهو ظاهر، وقياس المرأة كذلك وصرح به الهروي في تفسيره وهو معدود من الشافعية. الثاني: ألا تكاتبه المرأة فإن كاتبته فليس بمحرم، فقد صرح الرافعي به في عكسه وهو ما إذا كاتبَ الرجل أمته فقال: لا يحل له النظر إليها، وصرح به في مسألتنا القاضي الحسين ونقله عنه في "الروضة" من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

"زياداته"، ورأى ابن الرفعة في "المطلب" تخريج وجهين فيه، وقد ذهب إلى الجواز أبو نصر ولد الأستاذ أبى القاسم القشيرى. [الأمر الثالث: أن المبعض هنا حكمه حكم الأجنبي، صرح به الماوردي في شروط الصلاة، وذكر الرافعي في الأمة المشتركة نحوه فإنه جزم بتحريم نظر الشريك لما بين السرة والركبة، وحكى فيما عداه وجهين، وصحح الجواز وتابعه عليه في "الروضة" وهو مخالف لتصحيحه أن الأمة كالحرة] (¬1). الأمر الرابع: أن إطلاق المحرمية غير مستقيم فإن مس كل واحد منهما للآخر ناقض بشرطه بلا نزاع فالصواب التعبير بجواز الخلوة والنظر ونحوهما لا بالمحرمية، أو يقال إنه كالمحرم في ذلك. قوله: ولا يحرم النظر إلى الأمرد بغير شهوة إن لم يخف فتنة، وإن خافها حرم عند الأكثرين زاد في "الروضة" فقال: أطلق صاحب "المهذب" وغيره أنه يحرم النظر إلى الأمرد بغير حاجة، ونقله الداركي عن نص الشافعي - رضي الله عنه -. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي قاله النووي ليس صريحًا في ذهابه إلى التحريم لكنه قد صرح بتصحيحه في "المنهاج" وفي مواضع من "شرح المهذب" فقال: الصحيح أنه يحرم النظر بغير شهوة، ونص عليه الشافعي، والذي ادعاه من تنصيص الشافعي عليه [غير] (¬2) صحيح، بل الصادر من الشافعي على ما بينه هو في "الروضة" إنما هو إطلاق يصح حمله على حالة الشهوة وأن هذا النوع أيضًا مما يوصف بتحريم النظر. ¬

_ (¬1) بياض في أ. (¬2) سقط من أ.

الثاني: أن الأمرد المذكور شرطه أن يكون حسنًا، كذا قيده النووي في "رياض الصالحين". قوله: وفي نظر الذمية إلى المسلمة وجهان: أصحهما عند صاحب "الكتاب": أنه كنظر المسلمة إلى المسلمة. وأصحهما: عند صاحب "التهذيب": المنع لقوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وليست الذميات من نسائهن. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح ما صححه البغوي كذا صححه النووي في "فتاويه" و"زيادات الروضة" قال: وسائر الكافرات كالذمية في هذا كما ذكره صاحب "البيان". الأمر الثاني: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في تفسيره: إن الفاسقة حكمها حكم الذمية في ذلك. قوله: القسم الرابع: نظر المرأة إلى الرجل وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لها أن تنظر إلى ما يبدو عند المهنة دون غيره. والثاني: أنها لا ترى إلا ما يرى الرجل منها. والثالث: وهو الأصح أنه كنظر الرجل إلى الرجل. انتهى ملخصًا. والذي صححه الرافعي هنا قد ناقضه في كتاب الصلاة في الكلام على شرائطها في مسألة وصل الشعر، فإنه جزم هناك بأن المرأة يحرم عليها النظر إلى شعر الرجل، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: ولا يجوز أن يضاجع الرجل الرجل ولا المرأة المرأة، وإن كان كل واحد منهما في جانب الفراش لما روى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في

الثوب" (¬1) انتهى كلامه. وما ذكره من التحريم مشروط بما إذا كانا عاريين كما ذكره النووي في "شرح مسلم"، وصرح به أيضًا جماعة منهم القاضي الحسين في تعليقه، والخوارزمي في "الكافي" فقال: فإن كانا لابسين أو أحدهما فلا بأس هذه عبارته. قوله: في أصل "الروضة": وقد يحرم المس [حيث لا يحرم] (¬2) النظر فيحرم مس وجه الأم، وإن جاز النظر إليه [ومس كل ما جاز النظر إليه] (¬3) من المحارم والإماء، بل لا يجوز للرجل مس بطن أمه ولا ظهرها ولا أن يغمز ساقها ولا رجلها ولا أن يقبل وجهها. انتهى كلامه. وتعبيره عطفًا على التحريم بقوله: "ومس كل ما جاز النظر إليه" حاصله أن جميع ما يجوز النظر إليه من المحارم يحرم مسه حتى يحرم مس وجه الأم ويدها ورجلها، وهو غلط عجيب مخالف لإجماع الأمة، وهذا الغلط حصل من سوء اختصاره لكلام الرافعي، فإن الرافعي عبر بقوله، وقد يحرم المس حيث لا يحرم النظر فلا يجوز للرجل مس وجه الأجنبية، وإن جوزنا النظر إليه، ولا مس كل ما يجوز النظر إليه من المحارم والإماء لا يجوز للرجل مس بطن أمه، هذه عبارة الرافعي -رحمه الله- وحاصلها أنه لا يجوز مس الكل بل البعض، وهو بمثابة قولنا لا يجوز للإنسان أن يتزوج كل امرأة وهو المسمى بسلب العموم المشروط بتقدم النفي، فعبر النووي عنه بالإثبات فقال: يحرم، وأسنده إلى كل فرد وهو المسمى بعموم السلب فوقع في الغلط وركاكة اللفظ حيث عبر بقوله: لا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (338) وأبو داود (4018) والترمذي (2793) وابن خزيمة (72) وابن حبان (5574) والطبراني في "الكبير" (5438) وفي "الأوسط" (3680)، وأبو يعلى (1136) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. (¬2) في جـ: دون. (¬3) سقط من أ.

بل لا يجوز كذا. قوله: وتكره المعانقة والتقبيل إلا تقبيل الولد للشفقة. انتهى. وهذه العبارة ناقصة، والحصر باطل فإن معانقة القادم من السفر سنة أيضًا، أما التقبيل فسنة أيضًا في القادم، وكذلك تقبيل الصغار للشفقة سواء كان ولده أم ولد غيره، قد نبه على ذلك النووي في "الروضة". قوله: ومنها: إذا عامل امرأة ببيع أو غيره، أو تحمل شهادة عليها جاز النظر إلى وجهها فقط ليعرفها. انتهى كلامه. وما ذكره من الاقتصار على الوجه تابعه عليه في "الروضة" وهو غير مستقيم فقد تقدم أنه يجوز النظر إلى الكفين عند الأكثرين لا لحاجة فكيف ينفيه مع هذه الحاجة؟ . ولو خاف [الناظر] (¬1) لتحمل الشهادة من الفتنة، قال الرافعي في الباب الثاني من أبواب الشهادات: يشبه أن يقال: إن لم يتعين لم ينظر وإن تعين فينظر ويضبط نفسه. ¬

_ (¬1) في جـ: النظر.

المقدمة الثالثة في "الخطبة" قوله في "الروضة": ثم إن المرأة إن كانت خلية عن النكاح والعدة جازت خطبتها وإن كانت معتدة. . . . إلى آخره. ثم قال ما نصه: ثم سواء كانت العدة في هذه الصورة بالأقراء أو بالأشهر؛ وقيل: إن كانت بالأقراء حرم. انتهى. ومراده أن الحكم في هذه الصور سواء لا يختلف، والتركيب المذكور غير مستقيم ولو عبر "بالكون" عوضًا عن "كان" لاستقام، فإنه حينئذ يكون مبتدأ وسواء خبر مقدم. قوله: والتصريح في الخطبة [أن يقول] (¬1) أريد أن أنكحك وإذا حللت فلا تفوتي على نفسك، والتعريض ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها كقوله: أنا راغب فيك. . . . إلى آخره. تابعه عليه في "الروضة" وهو يوهم أنه لو قال: إني راغب فيك لم يكن تعريضًا، وليس كذلك، بل حاصل ما في "الأم" للشافعي أنه تعويض فإنه روى بسنده إلى القاسم بن محمد في باب التعريض في النكاح أن التعريض كذا وكذا، وذكر من جملته: إني راغب فيك، ثم قال -أعني: الشافعي- بعد نقله: إنه كثير، وإن القاسم ذكر بعضه. قوله: وأما صاحب العدة الذي يحل له نكاحها فيها فله التصريح بخطبتها. انتهى. والتقييد بحل النكاح في العدة للاحتراز عن من لا تحل كالمطلقة ثلاثًا ولم يتعرض هو ولا النووي في "الروضة" لبيان حكمه ولا يقال: إنه كغيره مطلقًا، فإن المطلق ثلاثًا لا يجوز له نكاحها بعد انقضاء العدة بل لابد من المحلل، والملاعن حرمته مؤبدة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وتحرم الخطبة على خطبة غيره بعد تصريح الإجابة كقولها أجبتك إلى ذلك، فإن ذكرت ما يشعر بالرضا كقولها لا رغبة عنك، لم يحرم على الجديد، ولو لم يوجد إجابة ولا رد فقيل يجوز قطعًا، وقيل بالقولين. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن هذا كله في غير البكر، أم البكر فسكوتها كصريح إذن الثيب، كذا نص عليه الشافعي في كتبه الجديدة، فقال في "الأم" في باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ما نصه: فوجدنا الدلالة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا كانت المرأة راضية، قال: رضاها إذا كانت ثيبًا أن تأذن بالنكاح بنعم، وإن كانت بكرًا أن تسكت فيكون ذلك إذنًا. هذا لفظ الشافعي بحروفه ومن "الأم" نقلته. الأمر الثاني: حيث اشترطنا التصريح بالإجابة فلابد معه من الإذن للولى في زواجها له، فإن لم تأذن في ذلك فلا يحرم كذا نص عليه الشافعي في "الرسالة" في باب النهي عن معنى يدل عليه معنى في حديث غيره. الأمر الثالث: أن شرط التحريم أن تكون الخطبة الأولى جائزة، فإن كانت محرمة كالواقعة في العدة لم تحرم الخطبة عليها، كذا ذكره الروياني في "البحر". الرابع: نص في "الأم" على أن المرأة لو أذنت لوليها أن يزوجها ممن يشاء صح وحل لكل أحد أن يخطبها على خطبة الغير، كذا نقله عنه الروياني في "البحر"، واستفدنا منه أن شرط تأثير إذنها في التحريم أن يكون الإذن في شخص معين، وإلا فالإذن المعتبر قد وجد منها. قوله: تحرم الخطبة على خطبة غيره بعد تصريح الإجابة إلا إذا أذن

الغير أو ترك، قال الأئمة: والمعتبر رد الولي وإجابته إن كانت بكرًا، والولي الأب والجد دون ردها وإجابتها، ورد المرأة وإجابتها إن كانت ثيبًا أو بكرًا، والولي غيرهما دون رد الولي وإجابته. انتهي. تابعه في "الروضة" على هذا الإطلاق وهو غير مستقيم فإنه إذا كان الخاطب غير كفء يكون النكاح متوقفًا على رضي الولي والمرأة معًا، وحينئذ فيعتبر في تحريم الخطبة إجابتهما معًا، وفي الجواز ردهما أو رد أحدهما، وأيضًا فينبغي في ما إذا كانت بكرًا أن يكون الاعتبار بالولى مخرجًا على الخلاف فيما إذا عينت كفؤًا وعين المجيز كفؤًا آخر، هل المجاب تعيينها أم تعيينه؟ . واعلم أن هذا التقسيم كله ماشٍ على الغالب في خطبة النساء للرجال، وقد نصوا على استحباب خطبة أهل الفضل من الرجال، فإذا وقع ذلك فلا شك أنه يأتي في التحريم ما سبق في المرأة. قوله: فرع: يجوز الهجوم على خطبة التي لم يدر أنها خطبت أم لا، ولو خطبت ولم يدر أن الخاطب أجيب أم لا، وكذلك الجواب واحتج له بخبر فاطمة بنت قيس، وذلك أن زوجها طلقها فبَتَّ طلاقها فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها: إذا أنت حللت فآذنينى، فلما حلت أخبرته أن معاوية وأبا جهم قد خطباها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه انكحى أسامة" (¬1). والاستدلال أنه خطبها لأسامة بعد خطبة غيره لما لم يعلم أنها أجابت أو ردت. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1210) ومسلم (1480) وأبو داود (2284) والترمذي (1134) والنسائي (3245) وأحمد (27368) وابن حبان (4049) والحاكم (6882).

وهذا الذي قاله لا دلالة له فيه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصحها، ونهاية الحال أن يعلم -عليه الصلاة والسلام- أنها أجابت، ومع العلم بذلك لا يترك النصح الواجب وإرشادها إلى ما هو خير لها. قوله: ولا فرق في تحريم الخطبة على الخطبة بين أن يكون الخاطب الأول مسلمًا أو ذميًا، ثم قال: وعن أبي عبيد بن حربويه: أنه يختص بالمسلم وطرده في السوم. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي من طرد هذا الوجه في السوم على السوم لم يذكره في "الروضة" لا هنا ولا في بابه فاعلمه. قوله: الثانية: يجوز الصدق في ذكر مساوئ الخاطب لتحذر، لخبر فاطمة بنت قيس السابق، وكذا إذا أراد نصيحة غيره ليحترز عن مشاركة ونحوها. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن جواز ذكر المساوئ ر محله إذا لم يحصل الغرض بدون التفصيل كقوله لا يصلح لك معاملته أو مصاهرته أو لا يفعل هذا أو نحو ذلك. فإن حصل وجب الاقتصار عليه، ولا يجوز ذكر ما فيه من العيوب، صرح به النووي في "كتاب الأذكار". الثاني: أن التعبير بالجواز مشعر بعدم وجوب الذكر، وسيأتي من كلام النووي ما يقوي ذلك أيضًا، وليس كذلك فقد جزم في "الأذكار" بأنه يجب على المستشار ذكر المساوئ ر، وصرح به أيضًا في "رياض الصالحين"، وفي "شرح مسلم" في باب المطلقة البائن لا نفقة لها فقال ما نصه: ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة، وذكر في "الروضة" في كتاب البيع من "زياداته" مثله، وكذلك الشيخ

عز الدين بن عبد السلام. ولو استشير في أمر نفسه فهل يجب عليه الإخبار بعيوبها أم يستحب أم لا يجب ولا يستحب؟ فيه نظر، وعموم كلام الرافعي والنووي يقتضي الذكر. واعلم أن مقتضى جواز تعاطي ما تقدم لأجل النصيحة جواز إصلاح الخطأ من الكتب المستعارة، لكن رأيت في "الزيادات" للعبادي أنه لا يصلحه، قال: إلا أن يكون قرآنًا فإنه يجب عليه ذلك. الثالث: أن ما قاله الرافعي من جواز ذكر الشخص بما يسوءه عند الحاجة، وذكر مثله أيضًا في أول النفقات فقال: ويجوز لمن منع حقه أن يشكو ويتظلم، وذكر الغائب بما يسوءه عند الحاجة، هذا كلامه. وذكر في "الروضة" وفي غيرها تفصيل ما دخل بطريق الإجمال في تعبير الرافعي فقال: الغيبة تباح بستة أسباب: أحدها: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: ظلمني فلان وفعل بي كذا. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل معي كذا فازجره عنه ونحو ذلك. الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان أو أبي أو أخي بكذا، فهل له ذلك أم لا؟ وما طريقي في الخلاص منه؟ . الرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين، وذلك واجب.

ومنها: الإخبار بعيبه عند المشاورة في مواصلته. ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئًا معيبًا فتذكره له لا تقصد الإيذاء. ومنها: إذا رأيت متفقهًا يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علمًا وخفت عليه ضرره. ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو فسقه فتذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به أو يعرف حاله. الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز بغيره إلا لسبب آخر. السادس: التعريف كالمعروف بالأعمش والأعرج، ويحرم ذكره به تنقيصًا ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى. انتهى ملخصًا.

الأركان

قال -رحمه الله-: القسم الثاني في الأركان قوله: وإذا قال الولي: زوجتكها، فليقل الزوج: قبلت نكاحها. . . . إلى آخره. اعلم أن الزوج إذا اقتصر على هذا اللفظ فإنما يفيده ذلك صحة النكاح فقط، وأما المسمى فلا يلزمه إلا إذا صرح الزوج به في لفظه، فيقول: قبلت نكاحها على هذا الصداق. . . . أو نحوه، فإن لم يقل ذلك وجب مهر المثل سواء كان زائدًا على المسمى أو ناقصًا، كذا صرح به الماوردي في "الحاوي"، وكذلك الروياني في "البحر" في كتاب البيع قبل باب الربا بصفحة وفي كتاب النكاح، وفي الخلع أيضًا، وصاحب "التعجيز" في شرحه له، والمعنى في ذلك أن النكاح يصح قبوله بلا صداق، بل مع نفيه، فإذا سكت عنه ولم يصرح بقبوله لم يمكنا إيجابه عليه لأنا لا نعلم أرضي به أم لا بخلاف البيع فإنه لا يصح إلا بالعوض، لكن أعادها الماوردي في الخلع، وحكى فيها وجهًا: أنه يلزمه المسمى، وذكر وجهًا آخر: أنه لا يصح النكاح عند نفيه ما سماه الولي. قوله: فإن اقتصر على قوله: قبلت، فطرق أصحها: قولان: أظهرهما: البطلان إلى آخره. اعلم أن تصحيح البطلان مشكل، وقد سبق إيضاح إشكاله في البيع فراجعه. قوله: ولو قال: قبلت النكاح، ولم يضف النكاح إليها أو قال: قبلتها، ففيه خلاف مرتب على ما سبق وأولى بالصحة. انتهى. تبعه عليه في "الروضة"، والذي قاله لا يؤخذ منه تصحيح فإن

معناه أنا إن قلنا بالصحة عند اقتصاره على قبلت صح في مسألتنا، وإن قلنا هناك: لا يصح، فهاهنا خلاف، وقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على المسألة فقال في باب كيف تثبت الرجعة؟ ما نصه: فإذا قال: راجعتها أو ارتجعتها، فهذا صريح الرجعة كما لا يكون النكاح إلا بصريح النكاح أن يقول قد تزوجتها أو نكحتها فهذا بصريح النكاح، ولا يكون نكاحًا بأن يقول قد قبلتها حتى يصرح بما وصفت، لأن النكاح تحليل بعد تحريم، وكذلك الرجعة تحليل بعد تحريم، والتحليل بالتحليل شبيه، انتهى لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلته. قوله في أصل "الروضة": وكذا لو قال: بعتك كذا، فقال: قبلت، ينعقد على الصحيح. انتهى. هذه المسألة سبق ذكرها في البيع وادعى في أصل "الروضة" هناك نفى الخلاف فيها، وقد سبق ذكر لفظه فراجعه. قوله: قال في "التهذيب": ولو خاطب غائبًا بلسانه فقال: زوجتك ابنتي، ثم كتب فبلغه الكتاب أو لم يبلغه وبلغه الخبر فقال: قبلت نكاحها، فيلغو: لتراخي القبول عن الإيجاب، أو يصح ويجعل كأنه خاطبه حين أتاه الكتاب أو الخبر؟ فيه وجهان ولو قال زوجت ابنتي من فلان وجب أن يكون على هذا الخلاف، وقد حكينا في نظيره في البيع الصحة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الأصح من هذا الخلاف المحكي في الصورة الأولى هو البطلان كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. الأمر الثاني: أن النووي قد أسقط المسألة الثانية المخرجة على هذا

الخلاف فلم يذكرها في "الروضة". الأمر الثالث: أن الذي أشار إليه الرافعي من حكاية الصحة في نظيره من البيع حكاه عن بعض المسودات وأقره، وإذا استحضرت ما قاله الرافعي من أن ذلك المحكي هو نظير ما إذا قال: زوجت ابنتي من فلان، وأن هذه -أعني: مسألة التزويج- يجب أن تكون على الخلاف السابق، وقد صحح النووي من ذلك الخلاف قول البطلان، استفدت من ذلك كله أن الراجح البطلان في المنقول عن بعض المسودات، وقد سبق منا في البيع الوعد بذكره هنا. قوله: في التزويج من الغائب، ثم إذا قلنا بصحة النكاح إما بمجرد الكتابة أو عند اللفظ فالشرط أن يقبل في مجلس بلوغ الخبر. انتهى. وهذه المسألة -أعني وقت جواز القبول في المكتوب- قد ذكرها الرافعي في مواضع: أحدها ما ذكرناه الآن، وقد جوز فيه أن يكون القبول في مجلس بلوغ الخبر. والموضع الثاني: في كتاب الطلاق في الباب الثاني منه في الطرف الثاني، فقال: وحيث حكمنا بانعقاد النكاح فيكتب: زوجت بنتي إلى آخره. ثم قال ما نصه: ويشترط أن يكون القبول لفظًا أو كتابة على الفور، وفيه وجه ضعيف كما تقدم. هذا لفظه. واشتراطه للفور مناقض للمذكور هنا مناقضة عجيبة، والوجه الذي أشار إلى تقدمه قد ذكره قبله بأسطر لكن في البيع ونحوه. فقال: وفي وجه لا يشترط، بل يراعى التواصل اللائق بين الكتابين، والموضع الثالث في كتاب البيع فصحح هناك ما يوافق المذكور في الطلاق، فقال: وإذا قلنا ينعقد البيع بالمكاتبة فالشرط أن يقبل المكتوب إليه كما اطلع على الكتاب على الأصح ليقترن القبول بالإيجاب بحسب الإمكان.

انتهى. وإذا كان ذلك شرطًا عنده في البيع كان شرطًا في النكاح بطريق الأولى، وذكر المسألة في "الشرح الصغير" في كتاب الطلاق فقط كما ذكرها في "الكبير" هناك، فقد خالفه النووي في هذا الباب فذكر من "زياداته": أن الفور شرط، ولم يستحضر ما قاله في غيره حتى ينبه عليه. قوله: ونختمه بصور: تعتبر الموالاة بين الإيجاب والقبول على ما مر في البيع. انتهي. وقال في البيع: يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول ولا يتخللها كلام أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخلل لم ينعقد. هذا لفظه، وذكر نحوه في أوائل الخلع وفيه أمران: أحدهما: أنه يدل على أن تخلل اللفظ اليسير يقدح إذا كان أجنبيًا وبه صرح قبل هذا في الكلام على خطبة العقد فقال: إن أظهر الوجهين البطلان، وقد ذكر ما يخالف ذلك كله في كتاب الطلاق في أول الباب الرابع المعقود للاستثناء فإنه ذكر عن الإمام كلامًا، ثم قال عقبه ما نصه: وكذلك لا ينقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول بالكلام اليسير على الأصح، وفي الاستثناء ينقطع. انتهى. وذكر أيضًا مثله في آخر الباب الأول من أبواب الخلع نقلًا عن الإمام فقال: وقد مر في البيع وغيره أنه لا ينبغي أن يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام لا يتعلق بهما، فإن تخلل بطل الارتباط بينهما، وذلك في الكلام الكثير، فأما الكلام اليسير فقد أطلق الإمام فيه حكاية وجهين، وقال: الصحيح أنه لا بأس به واحتج محتجون له بنص الشافعي. انتهى. ونقل النووي هذا الكلام من الموضع الذي ذكره الرافعي فيه إلى الكلام

على أركان الخلع، ومع نقله أطلق التصحيح بأنه لا يضر، ولم ينقله عن الإمام، هذا مع موافقته على المواضع المتقدمة فصار أبلغ في الاختلاف لاسيما وقد بالغ في كتاب البيع من "شرح المهذب" فقال ما نصه: ولو تخللت كلمة أجنبية بطل العقد، ولم يذكرها الرافعي في "الشرح الصغير" إلا في البيع، ونقل ابن الرفعة في البيع والنكاح من "الكفاية" أن الرافعي صحح في أول الاستثناء من الطلاق أن الفصل اليسير لا يقدح، وهو وهم فإن التصحيح لإمام الحرمين كما تقدم. الأمر الثاني: حيث قلنا: إن الكلام الأجنبي يضر فمحله إذا كان من المخاطب المطلوب منه الجواب، فإن كان من المتكلم فوجهان حكاهما في آخر الباب الأول من أبواب الخلع واقتضي إيراده أن المشهور أنه لا يضر فإنه قال: ومن لم يحتمل الفصل قال كذا وكذا يعني أنه لا يضر ثم نقل عن صاحب "التهذيب" وحده التسوية، وقد حذف النووي هذه المسألة. قوله: ولو طلق امرأته على أن يزوجه صاحبه بنته ويكون بضع امرأته صداقًا لها وزوجه صاحبه على ذلك، فهل يبطل النكاح أم يصح ويفسد الصداق؟ وجهان حكاهما ابن كج عن ابن القطان. انتهى. قال في "الروضة": أفقههما الثاني. قوله: ولو قال: نكحتها متعة، ولم يزد على هذا حكى الحناطي في صحة النكاح وجهين. انتهى. والأصح البطلان كذا قاله في "الروضة" من "زياداته". قوله في "الروضة": وفي الانعقاد بحضور الأخرس وذي الحرفة الدنية والصباغ والصائغ وجهان. انتهى. واعلم أن الرافعي بنى الخلاف في الأخرس على قبول شهادته، والأصح عدم قبولها فيكون الصحيح هنا عدم الانعقاد، فحذف النووي هذه الزيادة التي يؤخذ منها التصحيح، وشرط في "الحاوي الصغير" أن

يكون مقبول الشهادة فجمع هذا الشرط وغيره مما هو مذكور في الشهادات كالمروءة وسلامته من الحرف الدنية. قوله: وهل ينعقد النكاح بشهادة المستورين؟ قال الإصطخري: لا بل لابد من معرفة العدالة باطنًا، والمذهب هو الإنعقاد بهما بخلاف حكم القاضي فإنه لابد فيه من ذلك لأنه يسهل على الحاكم مراجعة المزكين ومعرفة العدالة الباطنة، والنكاح يقع بين العامة وأوساط الناس فلو كلفوا بها لشق عليهم، ويعني بالمستور من يعرف بالعدالة ظاهرًا لا باطنًا، وذكر في "التهذيب" أنه لا ينعقد بشهادة من لا يعرف عدالته ظاهرًا، وهذا كأنه مصور لمن لا يعرف إسلامه وإلا فالظاهر من حال المسلم الإحتراز من أسباب الفسق. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما حاوله الرافعي في آخر كلامه من الحكم بالصحة فيمن علم إسلامه لكون الغالب على المسلم الاحتراز، ومن حمل كلام البغوي عليه حكمه صحيح، وحمل مقالة "التهذيب" عليه غلط كما قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]. أما الأول وهو صحة الحكم الذي ذكره تفقهًا فقد نقله صاحب "البحر" عن نص الشافعي فقال ما نصه: ولو حضر رجلان مسلمان العقد ولا يعرف حالهما من الفسق والعدالة انعقد النكاح بهما في الظاهر، نص عليه في "الأم" لأن الظاهر في المسألتين العدالة. انتهى. ثم نقل عن "الحاوي" نحوه. وأما الثاني وهو فساد حمل كلام البغوي على هذا الحكم، فإن البغوي قد قال: وينعقد بشهادة المستورين والمستور من يكون عدلًا في الظاهر ولا يعرف عدالة باطنه، ثم قال بعد ذلك بأسطر: ولا ينعقد بشهادة من لا

يعرف عدالة ظاهره ولا من لا يعرف حاله في الإسلام والحرية ظاهرًا وباطنًا هذا لفظه فجمع بين من لا يعرف عدالة ظاهره ومن لا يعرف إسلامه، وحكم عليهما بعدم الصحة، وتلخص منه أنه يشترط عنده في العدالة معرفتها ظاهرًا فقط، وفي الإسلام المعرفة ظاهرًا وباطنًا، فاستحال تفسير أحدهما بالأخر فذهل الرافعي عن أخر كلام البغوي فوقع فيما وقع. الأمر الثاني: أن النووي -رحمه الله- قد استدرك في "الروضة" على الرافعي فقال: قلت الحق: هو قول البغوي، وأن مراده من لا يعرف ظاهره بالعدالة وقد صرح البغوي بهذا، هذا كلامه، وقد ظهر لك خطأوه في ما قال: إنه الحق وسببه عدم اطلاعه على هذا النص الذي خفي على الرافعي أيضًا، وأيضًا فقوله إن مراد البغوي من لا يعرف ظاهره بالعدالة وإنه قد صرح بهذا عجيب أيضًا فإن هذا بعينه قد حكاه عنه الرافعي، وإنما توقف في فهم المراد منه، وقد تلخص من كلام البغوي أن المسلم الذي لم يعلم فسقه بالنسبة إلى العدالة أقسام: أحدها: أن تعرف عدالته ظاهرًا وباطنًا وذلك بأن يحكم الحاكم بها، وهذا القسم واضح. الثاني: أن تعرف ظاهرًا فقط -أي بالمخالطة- من غير حكم حاكم فينعقد معها النكاح على المعروف. الثالث: أن لا يعرف ظاهرًا ولا باطنًا كمن علمنا إسلامه، ولم نخالطه فنعلم حاله ولم يحكم الحاكم بعدالته فينعقد به على الصواب المنصوص الذي ذهب إليه الرافعي تفقها ولا ينعقد على ما قاله النووي ذهولًا عن المنقول. واعلم أن في المسألة أمورًا أخرى مهمة يأتي الكلام عليها في أثناء

موانع الولاية في ضمن فصل طويل فراجع ذلك، وما جزم به الرافعي من عدم الانعقاد بمن لا يعرف إسلامه، وتبعه عليه في "الروضة" واقتضى كلامهما عدم الخلاف فيه، قد جزم القاضي أبو الطيب في أوائل كتاب القضاء من تعليقه بما يخالفه، فإنه نقل عن أبي حنيفة جواز الحكم في الأموال بشهادة مجهول العدالة، واستدلوا علينا بأنكم قلتم: إن النكاح ينعقد بشهادة شاهدين مجهولي الحال، ثم أجاب عنه بجواب ذكر في أثنائه ما نصه: ألا ترى أن النكاح ينعقد بشاهدين لا يعرف إيمانهما ولا يجب البحث عنه، ولا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدين بهذه الصفة، هذه عبارته ذكر ذلك قبل باب كتاب القاضي بنحو سبع أوراق، وقد سلك الشيخ في "التنبيه" مسلك شيخه في ذلك فقال: ولو عقد بشهادة مجهولين جاز على المنصوص فتفطن لذلك، ولم يقف ابن الرفعة على مستند كلام الشيخ فظن أن أحدًا لم يقل به فحمله على غير ما يقتضيه كلامه. قوله: ولو أخبر عدل عن فسق المستور فهل يزيل إخباره الستر حتى لا ينعقد النكاح بحضوره؟ وإن زال فينحى بإخباره نحو الروايات، أو يقال هو شهادة فلا تعتبر فيه الأقوال من يخرج عند القاضي، تردد فيهما جميعًا الإمام. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية التردد عن الإمام من غير ترجيح مع أن الإمام لما ذكر ذلك رجح الأول، والعجب من ترك الرافعي للترجيح الذي هو موضع الحاجة. قوله: ولو اعترف الزوج بشيء من موانع الصحة كفسق الشاهدين فرق بينهما، وفي سبيل هذا التفريق وجهان: أحدهما: أنه طلاق بائن والثاني: فرقة فسخ إلى آخره.

ذكر مثله في "الشرح الصغير" والراجح: أنها فسخ ففي "زيادات الروضة" أنه الأصح أو الصحيح. قوله: من "زوائده" ولو قالت عقدنا بفاسقين، فقال: بل بعدلين فأيهما يقبل؟ وجهان الأصح قوله فإن مات لم يرثه، وإن ماتت أو طلقها قبل الدخول فلا مهر لإنكارها وبعد الدخول لها أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل. انتهى كلامه. وما ذكره من أنه لا مهر لها قبل الدخول لإنكارها ليس على إطلاقه، بل ينبغي تقييده بما إذا لم يعطها الزوج ذلك فإن أعطاها فليس له استرداده، فقد ذكر الرافعي هذا التفصيل في آخر الرجعة في نظير المسألة، وتبعه عليه في "الروضة" فقال فيما إذا قال الزوج طلقتها بعد الدخول فقالت بل قبله ما نصه: ثم هو مقر لها بكمال المهر، وهي لا تدعي إلا نصفه، فإن كانت قبضت الجميع فليس له مطالبتها بشيء، وإن لم يقبضه فليس له إلا أخذ النصف هذا لفظه، والنصف الذي ينكره هناك هو نظير الجميع هنا. قوله: ولو وكل بنته بأن توكل رجلًا بتزويجها فوكلت، نظر إن قال: وكلى عن نفسك لم يصح، وإن قال: وكلى عني أو أطلق فوجهان. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" والراجح الجواز كذا رجحه ابن الصباغ والمتولي. قوله: واعلم أن ما روي عن يونس بن عبد الأعلى أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: إذا جمعت الرفقة امرأة لا ولى لها فولت أمرها رجلًا حتى زوجها يجوز، ليس قولًا في تجويز النكاح بلا ولى لأن أبا عاصم العبادي لما حكي هذا النص في "طبقات الفقهاء" ذكر أن من أصحابنا من أنكر هذه الرواية

ومنهم من قبلها، وقال: إنه تحكيم، فإن لم يثبت فذاك، وإن ثبت فهذا نكاح بولى، وهو المحكم القائم مقام الحاكم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح جواز هذه المسألة لأن الأصح المذكور في كتاب القضاء جواز التحكيم في عقد النكاح مع وجود الحاكم ودونه، وقد صححه أيضًا هنا النووي من زياداته فقال: وهذا صحيح بناء على الأظهر في جوازه في النكاح، ولكن شرط المحكم أن يكون صالحًا للقضاء وهذا يعسر في مثل هذا الحال، فالذي نختاره صحة النكاح إذا ولت أمرها عدلًا وإن لم يكن مجتهدًا وهو ظاهر النص الذي نقله يونس وهو ثقة، هذا كلامه. وإذا علمت جميع ما تقدم علمت أن الصحيح جواز هذه المسألة سفرًا وحضرًا مع وجود القاضي ودونه، لأنه الصحيح في التحكيم وسواء كان السفر طويلًا أم قصيرًا على ما اقتضاه الخلاف. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي إنكار الخلاف في مباشرة المرأة ذلك بنفسها وليس كذلك، بل فيه وجهان مذكوران في "البحر" قال: سواء كان فقد الولى والحاكم في السفر أو في الحضر وحكاهما أيضًا في "زوائد الروضة" عن "الحاوي". قوله: ولو رفع النكاح بلا ولي إلى قاض يصححه فحكم بصحته، ثم رفع إلينا لم ننقض قضاؤه. وقال الإصطخري: ينقض ولو طلق في النكاح بلا ولى لم يقع طلاقه، فلو طلق ثلاثًا لم يفتقر إلى محلل. وقال أبو إسحاق: يقع ويفتقر إلى المحلل احتياطًا للأبضاع. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن ما صححه هاهنا من عدم النقض قد ذكر في كتاب القضاء ما يخالفه وسلم النووي من ذلك، فإن تعبيره يدل على خلاف تعبير الرافعي، وسوف نقف على ذلك هناك إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أن تعبير "الروضة" يوهم أن عدم وقوع الطلاق من تفاريع الحكم بالصحة وليس كذلك فتفطن له واجتنبه. قوله: والجديد قبول إقرار المرأة بالنكاح ثم قال ما نصه: فإن قلنا بالجديد فيكفي إطلاق الإقرار أم لابد وأن تفصل فتقول زوجني وليي منه بحضور شاهدين عدلين ورضائي إن كان ممن يعتبر رضاها؟ فيه وجهان بناء على الخلاف في أن دعوى النكاح تسمع مطلقة أو -يجب التفصيل والأصح الثاني. انتهي كلامه. وحاصله تصحيح وجوب التفصيل في الإقرار بالنكاح أيضًا، وقد خالف ذلك في أوائل كتاب الدعاوى في المسألة الخامسة فقال: أظهر الوجهين: أنه لا يجب وسوف أذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى، ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" وقعا أيضًا في "الروضة" على كيفية هي أفحش في الاختلاف مما وقع في الرافعي، فإنه قال هنا: الأصح أنه لا يكفي إطلاق الإقرار ولم يتعرض للبناء، وقال في الدعاوى: المذهب أنه يكفي الإطلاق، وقيل في اشتراط التفصيل الخلاف في الدعوى والشهادة وهو ضعيف، هذا لفظه في الموضعين. قوله: ولو قال الأب وهي بنت: كنت زوجتها في بكارتها لم يقبل، واعتبر وقت الإقرار كذا أطلقه الإمام وهو الظاهر، ويمكن جعله على الخلاف في ما لو أقر مريض لوارثه بهبة في الصحة. انتهى. تبعه أيضًا في "الروضة" على هذا التخريج والفرق ظاهر، فإن النكاح يشتهر أمره والإشهاد شرط فيه فلا يعسر على الأب إقامة البينة عليه

بخلاف الأموال خصوصًا اليسير منها. قوله: أقرت لزوج وأقر وليها إقراره لآخر فهل المقبول إقراره أم إقرارها؟ وجهان. انتهى. أعاد هذه المسألة في باب اختلاف الزوجين وهو قبيل الصداق، وحكى مع هذين الوجهين احتمالين آخرين للإمام: أحدهما: يقدم السابق. والثاني: يبطلان جميعًا، قال: فحصل في المسألة أربع احتمالات، ولم يرجح شيئًا منها، وتابعه في "الروضة" عليه.

الفصل الأول في أسباب الولاية

الفصل الأول في أسباب الولاية قوله: فلو كان بين الأب وبينها عداوة ظاهرة قال ابن كج: ليس له إخبارها وكذا نقله عن ابن المرزبان قال: ويحتمل جوازه. انتهي. ذكر في "الروضة" مثله وحاصل كلامهما أنه ليس في المسألة ما يخالف مقالة هذين الاحتمالين، لكن حاصل كلام الماوردي الجزم بخلافهما، فإن قال: فإن كان الولى عدوًا للزوج أو للزوجة فهو على ولايته. ثم قال: فإن قيل فإذا كان عدوًا لها وضعها في غير كفء قبل رشده، وما يخافه من لحوق العار يمنع من هذا التوهم هذه عبارته، وذكر الروياني في "البحر" مثله أيضًا وهو صريح في فرضه في الولى المخير، وإلا لم يصح السؤال ولا الجواب، ونقل في "الكفاية" في المسألة وجهين عن الحناطي وهو غلط نشأ عن تحريف وإنما هو الجيلى شارح "التنبيه" وقد نبهت عليه في كتابي المسمى "بالهداية". قوله: وإن حصلت الثيابة بالسقطة أو الأصبع أو حدة الطمث أو طول التعنيس فظاهر المذهب أنها كالأبكار. انتهى. أما الثيابة فقد عدل عنها في "الروضة" وعبر بالثيوبة وكلاهما ليس من كلام العرب كما ذكره المطرزى في كتاب "المعرب"، وأما الطمث بالثاء المثلثة فهو الحيض: يقال طمثت المرأة بفتح الميم فطمثت بضمها وطمثت بالكسر أيضًا في [لغة قاله] (¬1) الجوهري، وأما التعنيس فبعين وسين مهملتين بينهما نون يقال: عنست المرأة بالتخفيف وبالتشديد مع فتح العين وضمها فهي عانس ومعنسة إذا بقيت زمانًا بعد أن بلغت حد التزويج لا تتزوج، وأكثر ما يستعمل في النساء روي عن الشعبي والنخعي. العذرة ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

يذهبها التعنيس والحيضة. قوله: وإذا عضل من يلي أمرها بقرابة أو إعتاق واحدًا كان أو جماعة مستورين زوجها السلطان. انتهي كلامه. وصورة تزويج السلطان بالعضل إذا لم يتكرر، كذا ذكره في آخر الكلام على الفاسق فقال والعضل ليس من الكبائر، وإنما يفسق به إذا عضل مرات أقلها في ما حكى بعضهم ثلاث، وحينئذ فالولاية للأبعد هذا كلامه، والتفسيق بالثلاث مخالف لما ذكره الرافعي في كتاب الشهادات كما ستعرفه إن شاء الله تعالى مبسوطًا في موضعه فراجعه. وهل المراد بالثلاث هنا هو الأنكحة أو بالنسبة إلى عرض الحاكم، وإن كان في نكاح واحد؟ فيه نظر. قوله: ولفظ البالغة في قول الغزالي ولو التمست البكر البالغ التزويج هل هو للتقييد؟ ذكر بعضهم أن الصغيرة أيضًا إذا إلتمست وجبت الإجابة إذا كانت في أوان إمكان الشهوة، فعلى هذا ليس هو للتقييد. انتهى كلامه. وهذه المقالة ضعيفة كما قال في "الروضة" من زياداته. قوله: من "زوائده" قال الصيمري: فإن قاربت البلوغ وأراد تزويجها استحب أن يرسل إليها ثقات ينظرن ما في نفسها، ولو ادعت البكارة أو الثيوبة فقطع الصيمري وصاحب "الحاوي" بأن القول قولها ولا يكشف حالها لأنها أعلم، قال صاحب "الحاوي": ولا تسأل عن الوطء، ولا يشترط أن يكون لها زوج. قال الشاشي: وفي هذا نظر لأنها ربما ذهبت بكارتها بأصبعها فله أن يسألها، فإن اتهمها حلفها، والله أعلم.

هذا كلام "الروضة"، لكن الرجوع إليها في دعواها الثيابة محله إذا كان قبل العقد، كذا صرح به الماوردي فقال عقب كلامه المتقدم ما نصه. فلو زوجها الأب بغير إذن لاعتقاده أنها بكر فادعت بعد عقده أنها ثيب لم يقبل قولها في إبطال النكاح بعد وقوعه على ظاهر الصحة، لأن الأصل فيها البكارة. فإن أقامت أربع نسوة بأنهن شاهدنها قبل النكاح ثيبًا لم يبطل العقد أيضًا لجواز أن تكون عذرتها زالت بطفرة أو أصبع أو حلقة، هذا كلام الماوردي، وذكر الروياني في "البحر" مثله أيضًا وهو ظاهر، وخالف القاضي حسين في فتاويه، وقال: إذا شهدن بعد العقد أنها ثيب حكم بانفساخ النكاح، قال: فلو ادعى الزوج حدوث الثيابة بعد العقد فله تحليفها على أنها كانت ثيبًا. قوله: الثاني: إذا قال أيجوز أن أزوجك؟ فقالت: لما لا يجوز، أو قال أتأذنين فقالت لم لا آذن؟ ، حكم بعضهم أنه ليس بإذن ولك أن تقول هذا اللفظ مشعر برضاها فهو أولى من سكوتها. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: المختار أنه إذن. انتهى. واعلم أن هذا القائل لم يفرض هذه المسألة في البكر حتى يقول الرافعي ما قال، بل يجوز أن يكون كلامه مفروضًا في الثيب، بل هو الظاهر، والبحث الذي ذكره الرافعي على هذا غير مستقيم. نعم يتجه أن يكون مدرك المانع إتيانه بالمضارع ولهذا لو قال: أتبيعني؟ فقال: بعتك لم يصح، وما ذكروه في هذه المسألة قياسه أن يأتي في الوكالة ونحوها مثله. قوله: الثالث: لو قالت: وكلتك بتزويجي فالذين لقيناهم من الأئمة لا يعتدون به إذنًا لأن توكيل المرأة في النكاح باطل لكن الفرع غير مسطور،

ويجوز أن يعتد به إذنًا لما ذكرنا في باب الوكالة أنها وإن فسدت فالأصح أنه ينفذ التصرف بحكم الإذن، انتهى كلامه. وما ادعاه من كون المسألة غير مسطورة عجيب، فإنها مسطورة في هذا الموضع من كتابين هو كثير النقل عنهما خصوصًا في أبواب النكاح وأحدهما: قد نقلها عن نص الشافعي فأحد الكتابين "فتاوى البغوي"، فقال: إذا جاء رجل إلى القاضي، وقال: إن فلانة قد أذنت لك في تزويجها مني، واعتمد القاضي على قوله جاز له تزويجها منه، فإن اتهمه لم يجز، ولو قال وكلتك فلا يصح منها التوكيل، هذه عبارته، وهو جازم بالبطلان على وفق ما يقتضيه كلام الرافعي. وثانيهما: "البيان" للعمراني، فقال: يجوز للمرأة أن تأذن لوليها غير المخبر بلفظ الإذن ويجوز بلفظ الوكالة نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - لأن المعنى فيهما واحد هذا لفظه، وقد وقف في "الروضة" على كلام "البيان" خاصة فذكره ثم قال: إن هذا هو الصواب نقلًا ودليلًا، قلت والأمر كذلك، وما علل به المانع من أن توكيلها في النكاح باطل كلام عجيب لأنه إن أراد بذلك توكيلها لأجنبي فالبطلان لانتفاء الولى بخلاف مسألتنا، وإن أراد توكيلها لوليها، حيث اشترط إذنها فهو محل النزاع. نعم المفهوم عرفًا من التوكيل هو الإذن فيما يجوز له تعاطيه، والتعاطي منتف فيكون ذلك من قاعدة بطلان الخصوص والأصح فيها بقاء العموم، وهو الإذن، لا جرم كان الجواز في مسألتنا أرجح. قوله في "الروضة": فرع في "فتاوي البغوي": أن التي يعتبر إذنها في تزويجها إذا قالت لوليها وهي في نكاح أو عدة: أذنت لك في تزويجي إذا فارقني زوجي أو انقضت عدتي فينبغي أن يصح الإذن كما لو قال الولي

للوكيل زوج بنتي إذا فارقها زوجها أو انقضت عدتها، وفي هذا التوكيل وجه ضعيف أنه باطل، وقد سبق في الوكالة. انتهى كلامه. وهذه المسألة -أعني قول الولى للوكيل ذلك- في حالة قيام المانع هي مذكورة في ثلاثة مواضع من الرافعي و"الروضة": أحدها: ما ذكرناه ومحله في الرافعي قبيل الصداق بقليل، ولكن نقله في "الروضة" إلى هذا الموضع. والثاني: بعدها بأوراق في الكلام على الإحرام. والثالث: في أوائل الوكالة وتناقض فيه كلامهما جميعًا لكن ما وقع للنووي فإنه أصرح [وأشبع] (¬1) وقد بسطت الكلام على المسألة في الوكالة فراجعه. قوله: وحكى الإمام خلافًا في أن السلطان والحالة هذه أي حالة العضل يزوج بالولاية أم بالنيابة عن الولى وأجرى هذا الخلاف في جميع صور تزويج السلطان مع قيام الولى الخاص وأهليته. انتهى كلامه. ذكر ابن الرفعة في "الكفاية" كذلك فوائد فقال: وقد تظهر ثمرته عند العضل في أن المرأة لو كانت ببلد فأذنت لحاكم بلد الولي في تزويجها، فهل يجوز له ذلك؟ ، إن قلنا تزوجها بالولاية فلا كما لو لم يكن لها ولي خاص، وإن قلنا بالنيابة فلا شك أن سببها إنما هو وفاء ما عليه من حق كما لو كان عليه دين فامتنع من وفائه أو غاب، ووفاء الحقوق المتوجهة على الغائب أو الممتنع من أدائها لا يختص بحاكم بلد صاحب الحق فأشبه أن يكون التزويج هنا كذلك، وتظهر ثمرته عند الغيبة في أن الولاية هل تنتقل إلى الأبعد أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما الرافعي. فإن قلنا: إذا لم يكن لها إلا ولي. الحاكم يزوج عند غيبته بطريق الولاية، فإذا غاب وكان لها ولى أبعد منه انتقلت إليه لأن ولاية الحاكم تكون بعد ولاية القريب، وإن قلنا في ما ¬

_ (¬1) في جـ: وأشنع.

إذا لم يكن لها إلا ولى واحد وغاب أن الحاكم يزوج بالنيابة فلا ينتقل [بلا] (¬1) غيبة القريب إلى الأبعد كما لو كان له وكيل، وهاتان الفائدتان ذكرهما في الأصل وكتب في الحاشية بخطه فقال: ويمكن أن تظهر فائدة أخرى في حال الغيبة، وهي ما إذا قامت بينة على أن الولي زوجها في الوقت الذي زوجها فيه الحاكم، فإن قلنا: إنه بطريق النيابة قدم تزويج الولى، وإن جعلناه بطريق الولاية فإما أن يبطلا معًا كما لو زوجها وليان في وقت واحد، وإما أن يقدم تزويج الحاكم لقوة ولايته وعمومها، ويدل عليه إذا زوج الحاكم في حال غيبة الولى [ثم قدم الولى] (¬2)، وقال: كنت زوجتها في الغيبة فإن أصحابنا قالوا بعدم نكاح الحاكم، ثم قال -أعني ابن الرفعة-: ويمكن أن تظهر فائدة أخرى عند العضل، وهو ما إذا لم نشترط الحضور بين يدى القاضي بل اكتفينا بثوبته عنده فزوج القاضي في غيبته، ثم قامت بينة أنه كان قد رجع عن العضل قبل تزويج القاضي، فإن قلنا أنه بالنيابة فيخرج على عزل الوكيل، وإن قلنا بالولاية فيخرج على عزل القاضي هذا كلامه. قوله: قال في "التهذيب": ولا يتحقق العضل حتى يمتنع بين يدى الحاكم، وذلك بأن يحضره الخاطب والمرأة والولي، ويأمره القاضي بالتزويج فيقول لا أفعل أو يسكت، وحينئذ فيزوجها القاضي، ثم قال: وكان هذا في ما إذا تيسر إحضاره عند القاضي أما إذا تعذر [بتغرير] (¬3) أو بتوار وجب أن يثبت بالبينة كما في سائر الحقوق وفي تعليق الشيخ أبى حامد ما يدل عليه. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره بحثًا بعد أن توقف فيه وحمل عليه كلام البغوي قد ¬

_ (¬1) في جـ: عند. (¬2) سقط من ب. (¬3) في جـ: بتعذر.

تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب، فقد صرح به البغوي نفسه في "فتاويه"، والغريب أن الرافعي نقله عنه في آخر كتاب الإيلاء وجعله أصلًا، وقاس عليه حكمًا آخر، وجزم به أيضًا القاضي الحسين في "فتاويه" قبيل الصداق بنحو ورقة وشيء. قوله: الثالثة: لا ولاية للابن بالبنوة خلافًا للأئمة الثلاثة، دليلنا أنه لا مشاركة بين الأم والابن في النسب فلا يعتني بدفع العار عن النسب. انتهى. زاده الإمام إيضاحًا فقال: فانتسابها إلى أبيها وانتساب الابن إلى أبيه. وما ذكره من أنه لا مشاركة بين الأم والابن في النسب، قد خالفه في مواضع، فقال في أوائل كتاب الفرائض: والمناسبون قسمان من يدلي إلى الميت بغير واسطة وهم الأبوان والأولاد، وقال أيضًا في الكلام على الحجب الضرب الثاني: المنتسبون إلى الميت من جهة السفل إلى آخره. وقال في كتاب الوقف: فإن قال: وقفت على من ينتسب إلى من أولادي وأولاد أولادي خرج أولاد البنات، وقيل يدخلون لحديث الحسن. انتهي. فجزم بأن الأولاد وأولاد الأولاد يدخلون في النسب سواء كان الواقف رجلًا أو امرأة. قوله: فرع: لو كان المعتق خنثى مشكلًا فينبغي أن يزوجها أبوه بإذنه فيكون وليًا أو وكيلًا إن كان الخنثى ذكرًا. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وليس فيه تصريح بنقل في المسألة ولا بان ذلك على جهة الوجوب أو الاستحباب، لكن تعبيره مشعر بأنه مستحب وأنه أبداه تفقهًا، وقد ذكر البغوي المسألة في "فتاويه" فقال: فلو كان الأقرب خنثى مشكلًا زوج الأبعد، وحكم الخنثى كالمفقود، هذه عبارته

وهي شاملة لكل ولي سواء كان بالنسب أو الإعتاق وقياسه أن يكون التزويج في المال الذي ذكره الرافعي لولد المعتق لا لوالده وفيه بعد؛ لأنه لا يستقيم مع ذكورة المعتق ولا مع أنوثته والخنثى لا يخرج عنهما والمتجه إيجاب الطريق التي ذكرها الرافعي في القسمين جميعًا؛ لأنا قد شككنا في ولاية الخنثى وفي ولاية من بعده، والأصل عدم ولاية كل واحد على انفراده فوجب الاحتياط بما ذكره الرافعي وأن يكون كلام البغوي مختصًا بالأقارب.

فصل في موانع الولاء قوله في أصل "الروضة": ويجوز أن يتوكل الرقيق لغيره في قبول النكاح بإذن سيده قطعًا. انتهى. ليس كما قال من دعوى القطع فقد ذكر هو من زياداته في الركن الثالث من كتاب الوكالة أن فيه وجهين محكيين في "الشامل" و"البيان" والغريب أن الموضعين جميعًا من زياداته، فإن الرافعي هنا لم يدع القطع بذلك. قوله: وإذا كان الأقرب صبيًا زوجها الأب، ولا يخفى أن هذا لا يتصور في الأب والجد. انتهى. وما ذكره من عدم تصوره ليس كذلك بل يتصور كما أوضحته في "طراز المحافل في ألغاز المسائل"، ويتفرع هنا فنذكره أيضًا فنقول. صورته فيما إذا زوج الأب ولده الصغير، ثم أتت زوجته بولد في زمن إمكان بلوغه وهو كمال التاسعة على الصحيح، فإن الولد يلحقه إذا مضى عليه بعد زمن الإمكان ستة أشهر ولحظة تسع الوطء، وإذا حكمنا بثبوت النسب لم يحكم بالبلوغ لأن النسب يثبت بالاحتمال بخلاف البلوغ، كذا جزم به الرافعي في آخر كتاب اللعان، وتبعه عليه في "الروضة"، نعم ذكر ذلك الرافعي في باب الحجر أنه إذا تزوج صغيرة وطلقها بعذر من إمكان بلوغها، ثم أتت بولد قبل مضي أربع سنين من الطلاق، فإن الولد يلحق الزوج ويحكم ببلوغ المرأة قبل الطلاق، وكان قياسه من مسألتنا أن لا يحكم ببلوغها من ذلك لأن البلوغ لا يثبت بالإمكان إلا أن الفارق تحقق المقتضي في المرأة وهو الولادة بخلاف إنزال الصبي. قوله: وفي الجنون المتقطع وجهان: أحدهما: يزوجها الأبعد في يوم

جنونه لبطلان أهليته وزوال ولايته في نفسه وماله وهذا أصح عند القاضي ابن كج، والإمام وهو المذكور في الكتاب. والثاني: أنه لا يزيل الولاية، لأنه يشبه الإغماء من حيث إنه يطرأ ويزول وهذا أصح عند صاحب "التهذيب" إلى آخره. واعلم أن هذا الكلام ظاهره رجحان الأول لأن القائلين به أكثر عددًا، ولهذا صرح النووي بتصحيحه في أصل "الروضة"، لكن -أعني الرافعي- رجح في "الشرح الصغير" الوجه الثاني فقال فيه وجهان أشبههما عدم الانتقال والأول هو مقتضى كلام "المحرر" فإنه أطلق أن الجنون ينقل. قوله: ونقل الإمام وجهين في ما إذا أفاق المجنون وبقيت آثار خبل يحتمل مثلها ممن لا يعتريه الجنون على حده في الخلق فهل تعود ولايته أم يستدام حكم الجنون إلى أن يصفو من الخلل؟ وجهان. انتهى. قال في "الروضة" من زياداته: لعل الثاني أصح. قوله: وأما السفيه المحجور عليه فالمشهور أنه لا يلي، وحكى صاحب "المهذب" مع هذا وجهًا جيدًا أنه يلي لأنه كامل النظر في مصالح النكاح، وإنما حجر عليه لأن لا يضيع ماله، ثم قال: وإذا وجد التبذير المقتضي للحجر ولم يحجر عليه فما ينبغي أن تزول الولاية. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن النووي في اختصاره لكلام الرافعي قد عبر بقوله والحجر بالسفه يمنع الولاية على المذهب، وقيل وجهان فاقتضى كلامه أن الرافعي حكى طريقين وصحح طريقة القطع، وليس كذلك، بل حاصل كلامه حكاية وجه ضعيف في النقل قوي في المأخذ، ولهذا اقتصر في "الشرح الصغير" على حكاية وجهين، ولم أقف أيضًا على حكاية طريقين في

كلام غيره. الأمر الثاني: أن التعليل الذي ذكره الرافعي لولاية السفيه المحجور عليه على وجه يؤخذ منه أن محل الخلاف إذا حجر عليه لأجل تضييع ماله، فإن كان الحجر لكونه لا يعرف الحظ لنفسه لم يلي جزمًا، وبه صرح الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" فتأمله، وقد أسقط النووي من "الروضة" التعليل المذكور. الأمر الثالث: أن ما ذكره الرافعي بحثًا في غير المحجور عليه من كونه يلي واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه قد صرح به جماعة منهم الماوردي وصاحب "البحر" فحكيا فيه وجهين من غير ترجيح وحكاهما صاحب "الذخائر" لكنه صحح أنه لا يلي أيضًا، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه صرح بحكايتها في المطلب، ثالثها: التفصيل بين أن يحجر عليه أم لا، وقد حذف في "الروضة" المسألة بالكلية. قوله: الرابعة: السكر إن حصل بسبب يفسق به وقع الكلام في أن الفاسق هل يلي؟ إن قلنا لا يلي فذاك، فإن قلنا يلي أو حصل بسبب لا يفسق به بأن كان مكرهًا أو غالطًا فإن لم ينفذ تصرف السكران فالسكر كالإغماء، وإن جعلنا تصرفه كتصرف الصاحي فمنهم من صحح تزويجه، ومنهم من منع لاختلال نظره، وبه قال الشيخ أبو محمد، والظاهر من ذلك كله أنه لا يزوج. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" وهو صريح في أن الخلاف الذي في تصرف السكران يجرى سواء كان متعديًا أو غير متعد وهو غلط، بل الصواب وهو الذي [في تصرف السكران] (¬1) ذكره في كتاب الطلاق أن الخلاف محله إذا كان متعديًا فيه فإن لم يكن فلا أثر له، ولم يتعرض في "الروضة" هنا لهذا الكلام، بل صحح أن السكران لا يلي واقتصر عليه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله: ثم الخلاف في ما إذا بقي له تمييز نظر فأما الطافح الذي سقط تمييزه بالكلية فكلامه لغو. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من اختصاص الخلاف [بمن له تمييز قد خالفه في كتاب الطلاق فصحح جريان الخلاف] (¬1) مطلقًا وهو غريب وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه، والطافح بالفاء والحاء المهملة قال الجوهري هو الذي ملأه الشراب. قوله: الخامس ذكر أبو الحسن العبادي وجهين في أنا هل نثبت الولاية لذوي الحرف الدنية إذا لم نثبتها للفاسق؟ . قال في "الروضة" من زياداته: المذهب القطع بثبوت ولايتهم قاله البغوي وغيره. قوله: وهل يزوج اليهودي النصرانية؟ يمكن أن يلحق بالإرث فيزوج ويمكن أن يمنع لأن اختلاف الملل منشأ العداوة. انتهى. وهذه المسألة التي لم يقف الرافعي فيها على نقل وتوقف فيها، وتابعه على ذلك في "الروضة" والمسألة مشهورة في كتب المذهب فقد ذكرها الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" وجزما بالاحتمال الأول وعللاه بأن الكفر كله ملة واحدة فقال -أعني الماوردي- ولاية ولو كانت الكافرة نصرانية ولها أخ مسلم وأخ نصراني وأخ يهودي وأخ مجوسي فلا ولاية عليها للمسلم ويكون النصراني واليهودي والمجوسي في الولاية عليها سواء كما يتشاركون في ميراثها لأن الكفر كله ملة واحدة هذه عبارته، وعبارة الروياني مثله أيضًا ذكر ذلك في أثناء مسألة أولها ولي الكافرة لا يكون إلا كافرًا، وذكرها أيضًا كذلك إمام الحرمين، وكذلك المتولي في "التتمة"، وصرح بتخريجها على أن الكفر كله ملة واحدة أو ملل. واعلم أن صورة هذه المسألة متوقف على مقدمة ذكرها الرافعي في هذا ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الباب، وهو أنه إذا تزوج يهودي بنصرانية أو مجوسية فحصل بينهما ولد فإنه يخير بين دين أبيه ودين أمه، فإن قيل فكيف يكون الأخوة الثلاثة على السواء مع أن الشقيق مقدم على غيره؟ قلنا: تفرض المسألة في ما إذا كان الجميع إخوة لأب فقط. واعلم أنه يحسن أن يفصل فيقال إن كان التزويج بالأخيار فلا تزوج بناء على أن شرط المخير أن لا يكون عدوًا للمخيرة كما نقله الرافعي عن ابن كج وغيره وإن لم يكن بالإخيار صح. قوله: فرع في "فتاوى البغوي": أنه يجوز أن يوكل نصرانيًا أو مجوسيًا في قبول نكاح نصرانية ولا يجوز في قبول نكاح مسلمة، ويجوز توكيل النصراني مسلمًا في قبول نكاح مجوسية لأن المسلم لا يجوز له نكاحها بحال بخلاف توكيل المعسر موسرًا في تزويج أمة فإنه جائز لأنه يستبيحها في الجملة. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في أوائل الصداق فنقلها النووي في "الروضة" إلى هذا الموضع، وقد ذكر ما يخالفها في موضعين آخرين تقدم إيضاحهما في أوائل البيع في الكلام على شراء الكافر المسلم فراجعه. قوله: قلت: لا يزوج مسلم كافرة إلا السلطان والسيد على الأصح. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في فصل ولاية السيد فلا حاجة إليها. قوله من زياداته: ولا يزوج كافر مسلمة إلا أم ولده على وجه قاله الفوراني. انتهى كلامه. وما ذكره من حصر هذا الوجه في أم الولد ليس بصحيح بل هو مطرد أيضًا في الأمة بناء على أنه يزوج بالملك، وقد نقله هو بعد ذلك عن ابن الحداد في الكلام على السبب الرابع.

قوله: ومن فاته الحج هل له أن ينكح قبل التحلل بعمل عمرة؟ وجهان حكاهما الحناطي. انتهى. والأصح المنع قاله في "الروضة" من زياداته. قوله: ولو وكل رجل رجلًا بالتزويج، ثم أحرم أحدهما أو أحرمت المرأة ففي انعزال الوكيل وجهان والظاهر أنه لا ينعزل، ثم قال: وهل التزويج قبل تحلل الموكل؟ ، أثبت صاحب الكتاب يعني الغزالي فيه وجهين حيث قال: وإن كان الأظهر أن الوكيل لا يتعاطى في حالة إحرام الموكل بل بعده، ولم أر للخلاف ذكرًا في ما عثرت عليه من كتب الأصحاب، ولم يتعرض له في "الوسيط"، ولا ذكره الإمام. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على الإنكار على الغزالي وليس الأمر فيه كما قالا، بل الذي ذكره الغزالي مذكور في "تعليقة القاضي حسين"، فإنه قال: في باب نكاح المحرم: ظاهر المذهب أنه لا يزوج فأخذه الغزالي منه، وعبر بقريب من عبارته لكن ذكر القاضي أيضًا عند الكلام على الأولياء من التعليق المذكور أنه لا خلاف أنه لا يزوج، وعلى كل حال فلا إيراد على الغزالي لأن هذه الصيغة إن لم تقتض الخلاف فلا إشكال وإن اقتضته فقد سبقه إليه غيره من كبار أئمة المذهب، والرافعي -رحمه الله- لم يقع له التعليقة المذكورة فلذلك ذكر ما ذكر. قوله: ولو وكله في حال إحرام الوكيل أو الموكل أو المرأة نظر إن وكله ليعقد في الإحرام لم يصح، وإن قال لتزوج بعد التحلل أو أطلق صح. انتهى. وهذه المسألة تقدم الكلام عليها وعلى نظائرها في أوائل كتاب الوكالة فراجعه. قوله: فرع: عن نص الشافعي أن السلطان لا يزوج التي تدعي غيبة

وليها حتى يشهد شاهدان أنه ليس لها ولي حاضر وأنها خلية عن النكاح والعدة، واختلف الأصحاب فمن قائل إنه واجب احتياطًا، ومن قائل: إنه محبوب، فإن الرجوع في العقود إلى قول أربابها. انتهى. والأصح هو الاستحباب كذا صححه الروياني وغيره، وتبعهم عليه في "الروضة" وهذا التصحيح الذي ذكروه يقتضي أن التصرف الصادر من الحاكم لكونه حاكمًا لا يستلزم صدوره منه الحكم بصحته حتى إذا عقد نكاحًا مختلفًا فيه أو بيعًا أو غير ذلك، لا يجوز لأحد من الحكام نقضه، كما لو عقده غيره ثم حكم هو به، وإنما قلنا: إن كلامه هذا يقتضي ذلك لأنه لا يجوز له الحكم بالصحة في العقود والأملاك وغيرها بمجرد قول أربابها، بل لابد من البينة أو العلم به كما قرره وهذا الذي اقتضاه كلامه أصل عظيم وقاعدة مهمة فلنذكر ما حضرنا فيها فنقول: اختلفوا في هذه المسألة فجزم الماوردي في "الحاوي" في باب التفليس في الكلام على ما إذا قسم مال المفلس ثم ظهر غريم بأنه حكم، وذكر الرافعي في كتاب الفرائض نحوه فقال في الكلام على ميراث المفقود: الثالث لعلك تقول من الأصحاب من يقول لا يقسم ماله حتى تمضي مدة يعلم موته فيها ولا يتعرض لحكم الحاكم، كما نقلت عن ابن اللبان ومنهم من يعتبر الحكم على ما ذكره في الكتاب، فكيف الحال والذي ينبغي أن يقال في الجواب أن القسمة إن كانت بالقاضي فقسمته تتضمن الحكم بالموت، وإن اقتسموا بأنفسهم فيجوز أن يقدر فيه خلاف، هذا كلام الرافعي، وهو صريح في ما قلناه، ويؤيده أيضًا ما ذكره في كتاب القسمة أن جماعة إذا اعترفوا بالاشتراك الثاني ملك عند الحاكم واتفقوا على القسمة أو اختلفوا فيها أنه لا يقسم بينهم إلا ببينة تشهد بملكهم على الصحيح، وعلل بأمور منها ما قلناه، وذكر الشافعي في "الأم" نحوه فقال في باب ما يرد من القسمة ما نصه: وإن أردتم قسمتي فأتوا بالبينة على أصل حقوقكم فيها، وذلك

أني إن قسمت بلا بينة فجئتم بشهود يشهدون أني قسمت بينكم هذه الدار إلى حاكم غيري كان شبيهًا أن يجعلها حكمًا مني لكم، هذا لفظه بحروفه، وكذلك يؤيده أيضًا ما ذكره القاضي الحسين والماوردي وغيرهم أن المفلس إن تولى بيع أمواله فلا كلام وإن كان البائع هو الحاكم فلا يجوز حتى يشهد عنده بينة بملكه لها قالوا: ولا يكفي فيها يده ولا اعترافه وقياس الرهن كذلك أيضًا، وهذا الذي قالوا قياسه أن يتعدى إلى اليتيم إذا احتاط الحاكم لي الأموال التي بيد مورثه، فإنه يقتضي عدم جواز بيعها إلا ببينة إلا أن يفرق بأنه لا ضرورة إلى مباشرة الحاكم لبيع مال المفلس فإن المفلس قادر على بيعها بخلاف أموال اليتيم، إذا علمت هذا فقد جزم ابن الصباغ في "الشامل" بأنه ليس بحكم، ذكر ذلك في الموضع الذي جزم فيه الماوردي بأنه حكم، وهو في ما إذا قسم مال المفلس، ثم ظهر غريم، وذكر الرافعي في كتاب العدد في أوائل الباب الثالث من عدة الوفاة والمفقود نحوه أيضًا، فقال: وإذا قلنا بالقول القديم وهو أن المرأة تمكث أربع سنين، ثم يحكم الحاكم بوفاة زوجها، وتعتد عدة الوفاة، فالأصح عند كثير من الأئمة أن المدة تفتقر إلى ضرب القاضي، قيل يكفي مضيها من وقت انقطاع الخبر، ثم قال وإذا ضرب القاضي المدة فمضت، فهل يكون حكمًا بوفاته أم لابد من استئناف حكم؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني. انتهى كلامه. ولما ذكر الماوردي الأقوال في البداءة بالتسليم عند تنازع البائع والمشتري ذكر القول بأن الحاكم [يجبرها على تسليم ذلك إليه، والقول الآخر بأن الحاكم] (¬1) ينصب لهما أمينًا عدلًا ويامر كل واحد منهما بتسليم ما بيده، ثم قال: كان أبو إسحاق المروزي يجعلهما قولًا واحدًا، وامتنع سائر الأصحاب من ذلك، وقالوا: كل واحد منهما مخالف لصاحبه لأن الدفع ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

والتسليم في أحدهما إلى الحاكم فكان كحكمه، وفي الآخر الحكم منه في نصب الأمين والأمر بالتسليم فاختلفا، هذا كلام الماوردي، وهو يفيد أن تصرفه حكم بخلاف إذنه. قال ابن الرفعة في حاشية كتبها في أوائل النكاح من "الكفاية": وهذا في العقود إنما يأتي إذا تقدم القبول على الإيجاب أما إذا تقدم الإيجاب من الحاكم فلا يمكن الحكم بصحته، إذ الحكم بها موقوف على وجود العقد فكيف يحكم به قبل صدوره والذي قاله حسن متعين. واعلم أن ابن الصلاح قد ذكر في فتاويه أن الخلاف في جواز العقد بالمستورين محله إذا كان العاقد غير حاكم. قال: أما إذا باشره الحاكم فإنه لا ينعقد بهما بلا خلاف، بل لابد من العدالة الباطنة، قلت وحكى في "التتمة" فيه طريقين: أصحهما إجراء الخلاف، ومدرك البطلان هذه القاعدة أن الحكم بالصحة لا يجوز بشاهدين مستورين، لكن ابن الصلاح لم يذكر هذه العلة بل علله بأن الحاكم لا يتيسر عليه الوقوف على العدالة الباطنة بخلاف الآحاد؛ والمراد من العدالة الباطنة هو أن تكون العدالة مستندة إلى التزكية، وصرح بذلك الرافعي في كتاب الصيام في الكلام على قبول الواحد، وليس المراد بالباطنة أن تكون حاصلة في نفس الأمر فإنه لا يمكن الاطلاع عليه، حتى يقال: إنه شرط للحكم بالصحة على وجه. قال البغوي في "فتاويه": وإذا جاء رسول المرأة إلى القاضي وأخبره بأنها أذنت له في تزويجها وظن صدقه جاز له الاعتماد عليه والتزويج بقوله، وهذا الذي قاله يقتضي أن تصرفه ليس حكمًا بالصحة لأن الحاكم يعتمد قيام البينة أو العلم، لكن في الفتاوى الموصلية للشيخ عز الدين بن عبد السلام عكس ذلك فقال لو أخبر صدوق شخصًا بأن الولي أذن له في

تزويج موليته فلا يجوز له الاعتماد عليه، فإن زوج معتمدًا عليه، ثم بان صدقه لم يصح أيضًا. فانظر كيف بالغ الشيخ عز الدين ومنع غير الحاكم، لكن في "طبقات الفقهاء" للعبادي في ترجمة أبي القاسم الكعبي قال: وليس هذا الكعبي المعتزلي أنه إذا قال شخص أنا وكيل فلان يتزويج ابنته جاز للغير قبول التزويج، فإن أنكر الولي فهل هو فرقة أو جحود؟ قال نقل فيه جوابان، وذكر الرافعي في آخر باب الوكالة أن شخصًا لو ادعى أنه وكيل في بيع أو نكاح وصدقه من يعامله صح العقد، وهذا يوافق كلام الكعبي لكنه شرط فيه الصدق، ولم يذكر التفريع الذي عليه، وهو إنكار المالك أو الولي. واعلم أن الرافعي في باب الإقرار بالنسب قد ذكر كلامًا يؤخذ منه قاعدة نافعة متعلقة بما نحن فيه، فإنه ذكر أن الإمام إذا استلحق مجهولًا بمن لا وارث له يثبت نسبه في أصح الوجهين، ثم قال: هذا إذا ذكره الإمام لا على وجه الحكم، أما إذا ذكره على وجه الحكم فإن قلنا يقضي بعلمه ثبت النسب وإلا فلا، وقد طال الكلام على هذه المسألة ولولا زيادة طوله لاستوعبنا ما فيه من الكلام نقلًا ودليلًا لكن كتابنا هذا ليس معقودًا لذلك، بل للتنبيه على ما وقع في الرافعي و"الروضة" مختصرًا. قوله في أصل "الروضة" في المسألة المذكورة: وعلى الاستحباب فلو ألحت في المطالبة فرأى السلطان التأخير ففيه وجهان. انتهى. هذا يقتضي أن الخلاف لأصحاب الشافعي وهو غلط وذلك أن الرافعي -رحمه الله- قال: فيه وجهان رواهما الإمام عن أهل الأصول، ورأيت في "النهاية" في باب اجتماع الولاة وتفريقهم بعد نحو ست ورقات منه في ما إذا سألت المرأة ذلك وألحت ما نصه: وهذا لا ينتهي إليه كلام الفقهاء وهو من محض أحكام الإمامة، وقد اختلف أرباب الأصول فيه فذهب قدوتنا

في الأصول إلى أنها تجاب، وأقصى ما يمكن السلطان منه أن يستمهلها، فإن أبت أجابها، وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى أن القاضي لا يجيبها إن رأى ذلك رأيًا، ويقول لا يجب على إجابتك ما لم أحيط، وهذا لا يتضح بهذا القول ولعلنا نجمع كلامًا شافيًا في أحكام الأئمة والولاة إن شاء الله تعالى، انتهى لفظ الإمام، وقد اتضح أن أحد القائلين هو القاضي أبو بكر وهو من المالكية، والظاهر أن الآخر هو الشيخ أبو الحسن الأشعري، وحينئذ فليست المسألة ذات وجهين.

الفصل الرابع في تولي طرفي العقد

الفصل الرابع في تولي طرفي العقد قوله: إحداها هل يتولى الجد طرفي النكاح في تزويج بنت ابنه من ابن ابنه الآخر؟ فيه وجهان اختيار ابن الحداد والقفال، وصاحب "الشامل" أنه يجوز، واختار صاحب "التلخيص" وجماعة من المتأخرين المنع. انتهى ملخصًا. والراجح الجواز فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أقوي الوجهين، وقال في "المحرر": رجحه المعتبرون، ونقله في "الروضة" من زياداته عنه وسكت عليه. قوله: الثالث: إذا قالت لابن العم والمعتق زوجني أو زوجني ممن شئت ليس للقاضي تزويجه بها بهذا الإذن لأن المفهوم منه التزويج بأجنبي، وإن قالت: زوجني نفسك حكى البغوي عن بعض الأصحاب أنه يجوز للقاضي تزويجه إياها. قال: وعندي لا يجوز لأنها إنما أذنت له لا للقاضي. انتهى. قال في "الروضة": الصواب الجواز لأن معناه فوض إلى من يزوجك إياي.

الفصل الخامس في التوكيل

الفصل الخامس في التوكيل قوله: وفي البيع يجوز أن يقول البائع لوكيل المشتري: بعت منك ويقول الوكيل: اشتريت وينوي موكله ويقع له العقد وإن لم يسمه. انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير بقوله يجوز أن يقول بعت منك وهو يوهم أن إضافته إلى الوكيل لا تجب حتى لو قال بعت موكلك صح كالنكاح وليس كذلك بل الإضافة إليه واجبة، كما صرح به في باب الوكالة فاعلمه. قوله: ولو قال وكيل الزوج أولًا قبلت نكاح فلانة منك لفلان، فقال وكيل الولي: زوجتها فلانًا جاز. انتهى كلامه. وما ذكره من جواز تقديم القبول مع كونه بلفظ القبول قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وينبغي استحضاره، وقد تقدم في أول البيع الإشارة إليه. قوله: ولا يشترط في توكيل الولي ذكر المهر لكن لو سمى قدرًا لم يصح التزويج بما دونه كما لو قال زوجها في يوم كذا وفي مكان كذا فخالف الوكيل لا يصح. انتهى. وصورة هذه المسألة أن لا ترضي المرأة بالأقل، فإن رضيت به صح، هكذا نقله في آخر الباب الثاني من أبواب الصداق فقال: ولو قال زوجها بألف فزوجها بخمسمائة برضاها، قال في "التتمة" "المذهب" أنه يصح النكاح، لأن الصداق محض حق المرأة وفيه وجه أنه لا يصح مثله لأن

النكاح الذي وكله فيه غير الذي باشره هذا كلامه، وذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ولم يذكره في "الشرح الصغير". قوله: ولو وكل رجلًا بقبول نكاح امرأة وسمى مهرًا لم يصح القبول بما زاد عليه. انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير المذكور ولا يؤخذ منه صحة النكاح ولا بطلانه وفي ذلك وجهان: أصحهما في "البيان" صحة النكاح، وصحح في "النهاية" بطلانه وهو مراد الرافعي، فإنه حكى عقب ذلك وجهين في البطلان في ما إذا لم يعين المهر فقبل بأكثر من مهر المثل، وقال قبل ذلك في توكيل الولى بالتزويج أنه لا يشترط ذكر المهر، لكن لو سمى قدرًا لم يصح التزويج بما دونه ولا شك أن زيادة وكيل الزوج على ما سماه له موكله هو في المعنى نظير ما إذا نقص وكيل الولي عما عينته المرأة أو الولي له، وقد وافق النووي هنا الرافعي على البطلان في ذلك ولم يوافقه عليه في آخر الباب الثاني من أبواب الصداق بل يشعر كلامه بمخالفته، وسيأتي ذكره هناك. قوله: وإن لم يسم فليقبل له نكاح امرأة تكافئه بمهر المثل، أو أقل، فإن قبل له من لا تكافئه لا يصح العقد كذا قاله البغوي، ولك أن تتوقف في موضعين: أحدهما: تصحيح إطلاق التوكيل في قبول نكاح امرأة لأنه لو وكله في شراء عبد اشترط بيان تفصيله ونوعه فالاشتراط هنا أولى. الثاني: حكمه ببطلان قبول من لا تكافئه لأنا سنذكر أن للولي أن يزوج الصغير بامرأة لا تكافئه، فإذا جاز للولي فكذا للوكيل عند إطلاق التوكيل. انتهى ملخصًا. اعترض النووي فقال هذا الاعتراض الثاني: فاسد كما لو اشترى الوكيل معينًا بخلاف قوة ولاية الأب، وفي الاعتراض الأول أيضًا نظر،

والراجح المختار ما ذكره البغوي هذا لفظه. فيه أمران: أحدهما: وهو متعلق بالاعتراض الثاني أنه سيأتي في الكلام على الكفاءة أنه إذا زوج الأب ولده الصغير بمن لا تكافئه، فإن زوجه أمة لم يصح لأنه لا يخاف العنت، وإن زوجه معيبة بعيب يثبت الخيار لم يصح النكاح على المذهب، وإن زوجه بمن لا تكافئه بجهة أخرى صح على الأصح لأنه لا عار على الرجل في استفراش من دونه. إذا علمت ذلك علمت أن إطلاق كلام الرافعي جواز تزويج الصغير بمن لا تكافئه خطأ وكذلك إطلاق النووي يمنعه، بل يصح في حالة دون حالة، ثم إن الحالة التي لا يصح فيها على وجهين مشهودين كما تقدم فغاية ذلك أن يكون البغوي قد اختار أحد الوجهين ولا شك أن الرافعي توهم هنا أن الكفاءة لا تدخل فيها فقدان العيب، والنووي توهم أن المراد بها -أي بالكفاءة- هو السلامة من العيب فوقع كل منهما في ما وقع، وأما إلحاق النووي ذلك بشراء الوكيل فنقول: إذا سلمنا أنه عيب وأنه يلحق بالشراء فيلزم أنه لا يطلق البطلان لأن شراء الوكيل للمعيب يصح مع الجهل بعيبه وكذا مع العلم على وجه ويثبت الخيار، وأما جوابه على الأب بقوة ولايته فقوتها لا تقتضي جواز عقده له على معيب بدليل البيع وغيره، فإذا ثبت جواز ذلك في الأب هنا مع أنه لا يتأتى الخيار للمعقود له بفساد صيغته فللموكل مع ثبوت الخيار بطريق الأولى، ثم إن تعبيره بقوله فاسد كما لو اشترى إلى آخره كلام عجيب سقط منه شيء وكأنه أراد أن يقول بل الصواب البطلان كما لو إلى آخره. الأمر الثاني: أن ما ذكره في التوكيل من أن الراجح المختار ما ذكره البغوي وهو صحة إطلاقه واقتضى كلامه عدم الوقوف على خلاف فيه

غريب جدًا فإنه قد حكى فيه وجهين في كتاب الوكالة من "زوائده" وزاد على ذلك فصحح عكسه، وزاد عليه أيضًا فتردد في أن عدم الاشتراط ضعيف أم لا، قال في آخر الباب الثاني: الرابعة: وكله في أن يتزوج امرأة ففي اشتراط تعينها وجهان في "البيان" وغيره والأصح أو الصحيح الاشتراط هذا لفظه بحروفه وهو صريح في عكس ما رجحه رادًا به على الإمام الرافعي وهو غريب. قوله في المسألة: وإن قبل بأكثر من مهر المثل أو بغير نقد البلد أو يعين من أعيان مال الموكل أو من مال نفسه فقيل يصح النكاح بمهر المثل، وقيل يبطل. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين هنا من غير ترجيح لكن كلام الرافعي في آخر الباب الثاني من أبواب الصداق يقتضي البطلان، وكلام النووي من "زوائده" يشعر بالصحة، وهو الأصوب كما ستعرفه هناك.

الفصل السادس في ما يجب على الولي

الفصل السادس في ما يجب على الولي قوله: ويلزمه تزويج المجنون والمجنونة عند الحاجة بظهور أمارة التوقان أو بتوقع الشفاء عند إشارة الأطباء. انتهى. ذكر بعد ذلك في باب الولي عليه قسمًا ثالثًا من أقسام الحاجة التي يزوج لها المجنون وهي أن يحتاج إلى من يخدمه ويتعهده ولا يوجد من محارمه من يحصل هذا وتكون مؤنة النكاح أخف من ثمن جارية، ثم إن الرافعي هناك لم يجزم بلحاق الشفاء بهما كما جزم به هاهنا، بل قال: وربما يلحق بهما توقع الشفاء نعم جزم به في "الروضة". قوله في أصل "الروضة": إذا قبل الأب للصغير أو المجنون نكاحًا بصداق على الابن، وكان الابن فقيرًا فهل يكون الأب ضامنًا للمهر بالعقد؟ فيه قولان: الجديد: أنه لا يكون ضامنًا إلا أن يضمن صريحًا كما لو اشتري لطفله شيئًا، فإن قلنا بالجديد فضمن بشرط براءة الأصيل قال القاضي حسين: إن لم يصح الضمان بشرط براءة الأصيل أي وهو الأصح فهذا ضمان فاسد شرط في الصداق وفي إفساده له قولان سبقا، وإن صححنا الضمان بشرط براءة الأصيل فالشرط هنا فاسد لأنه لا دين في ذمة المعقود له، وإذ فسد الشرط ففي فساد الضمان وجهان سبقا في الضمان. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله لأنه لا دين إلى آخره. أراد أنه على هذا التقدير يلزم أن لا يجب دين على المعقود له، وهو خلاف القاعدة وقد أوضح الرافعي ذلك.

قوله: وإذا طلب متاع الطفل بأكثر من ثمنه لزمه بيعه، ولو كان شيء يباع بأقل من ثمنه وللطفل مال لزمه شراؤه له إذا لم يرغب فيه لنفسه، هكذا أطلقه الإمام والغزالي في الطرفين، ويجب أن يتقيد ذلك بشرط الغبطة، بل بالأموال المعدة للتجارة، أما ما يحتاج إلى عينه فلا سبيل إلى بيعه، وإن ظهر طالب بالزيادة، وكذا العادة الذي يحصل منه كفايته، وكذا في طرف الشراء قد يؤخذ الشيء رخيصًا لكنه عرضة للتلف، أو لا يتيسر بيعه لقلة الراغبين فيه فيصير كلًا على مالكه. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: هذا الذي قاله الرافعي هو الصواب ولا يعتبر بمن خالفه والله أعلم، وما ذكره هنا في بيع العقار مخالف لما سبق منهما في باب الحجر فتأمله، ثم إن الغزالي قد حكى وجهين في وجوب الشراء له إذا لم يرد شراءه لنفسه، وإذا أوجبنا الشراء للطفل فلم يفعل فتلف الثمن ضمنه قاله في "البحر" وقل من تعرض له، ثم إن كلامهما يقتضي أنهما لم يظفرا بنقل صريح يوافق الذي بحثه الرافعي، وقد صرح به الماوردي في "الحاوي" ونقله عنه أيضًا في "شرح الوسيط".

الفصل السابع في الكفاءة

الفصل السابع في الكفاءة قوله: التنقى من العيوب المثبتة للخيار واستثنى البغوي منها التعنين، وقال: إنه لا يتحقق فلا نظر إليه، وفي تعليق الشيخ أبي حامد التسوية بين التعيين وغيره، وإطلاق الجمهور يوافقه. انتهى. وما رجحوه من التسوية بين التعنين وغيره ذكر مثله في "الروضة" أيضًا لكن سيأتي في الكلام على التعنين أن الرجل قد يعن عن امرأة دون أخرى، وفي نكاح دون نكاح وإن كانت المرأة واحدة في أصح القولين حتى إذا أعلم امرأة بأنه عنين وتزوجها أو ثبتت عنته بطريقة ثم تزوج امرأة أخرى. أو جدد نكاح الثانية ثبت أيضًا حق الفسخ للزوجة، وسيأتي أيضًا أن المرأة إذا زوجت بغير كفء بغير رضاها ورضى الأولياء لم يصح النكاح في أصح القولين، وإذا علمت ذلك كله علمت إن الصواب ما قاله البغوي، وأن الذي قاله الشيخ أبو حامد ومن نحا نحوه إنما هو تخريج على القول الآخر، وهو الاكتفاء بما يثبت من العنة ثم أن الكفاءة حق للمرأة وحق للأولياء، فإن كانت الكفاءة مطلوبة رعاية لحق المرأة بأن تكون مخيرة وأراد الولى تزويجها أو طلبت الإذن بغير المخير، وصححناه فالمعتبر التنقى من كل عيب يثبت الخيار لها، سواء ثبت لها وحدها كالجب والعنة، أو لها وللولى كالجنون وإن كانت مطلوبة رعاية لحق الأولياء بأن رغبت هي في الشخص، وامتنعوا فالمعتبر التنقي من العيب الذي يثبت لهم الخيار وهو الجنون دون ما عداه، فإطلاق التصحيح غير مستقيم. قوله: ويشبه أن يكون جريان الرق في الأمهات مؤثرًا أيضًا وكذلك يعلق به الولاء. انتهى كلامه.

فيه أمران: أحدهما: يقتضي أنه لم يقف في المسألة على نقل، وقد صرح صاحب "البيان" بالمسألة وجزم بأنه لا يؤثر فقال: من ولدته رقيقه كفؤ لمن ولدته عربية لأنه يتبع الأب في النسب، قال في "الروضة": وما قاله في "البيان" هو المفهوم من كلام الأصحاب. الأمر الثاني: أن تعليل عدم كفاءة هذا الجزء الذي مس الرق أمهاته بأن الولاء يتعلق به قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس كذلك، بل الصحيح المذكور في باب الولاء من "الشرحين" و"الروضة": أنه لا ولاء عليه. قوله: ويعتبر النسب في العجم أيضًا كما يعتبر في العرب على الظاهر، وقضية الاعتبار في من سوى قريش من العرب أيضًا، لكن ذكر ذاكرون أنهم أكفاء. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن كلام الرافعي يقتضي أنه لم يظفر بنقل صريح في ذلك، ولهذا تفقه فقال: ومقتضاه إلى آخره، وقد صرح بالمسألة جماعة منهم الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" فقالا: اختلف أصحابنا في غير قريش، فالبصريون يقولون بأنهم متكافئون، والبغداديون يقولون بالتفاضل فتفضل مضر على ربيعة، وتفضل عدنان على قحطان اعتبارًا بالقرب من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد وافقه في "الروضة" على ما يقتضي سكوتهم عن المسألة، إلا أنه نقل عن "تعليقة إبراهيم المروذي" أن غير كنانة ليسوا أكفاء لكنانة. الأمر الثاني: أن اعتبار النسب في الكفاءة أضيق من اعتباره في الإمامة العظمي، ولهذا سووا بين قريش في الإمامة ولم يسووا بينها في الكفاءة،

وقد جزم الرافعي في الإمامة بأنه إذا لم يوجد قرشي مستجمع للشروط نصب كناني فإن لم يكن فرجل من ولد إسماعيل، فإن تعذر انتقلنا إلى العجم، وتابعه عليه في "الروضة"، وحينئذ فإذا قدموا الكناني على غيره ولم يكافئوا بينها هناك ففي النكاح بطريق الأولى. الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" قد استدرك على الرافعي فقال: مقتضى كلام الأكثرين أن غير قريش من العرب متكافئون، كما صرح به هؤلاء الجماعة الذين نقل عنهم الرافعي، والذي ذكره في "الروضة" عجيب فإنه صحح اعتبار الكفاءة في نسب العجم فأقل مراتب غير قريش من العرب أن يكونوا كالعجم فلزم اعتباره فيهم أيضًا كما يقوله الرافعي بلا شك والذي اغتر به النووي إنما هو نقل الرافعي خلافه عن جماعة، والظاهر أن تلك الجماعة ممن تقول أن الكفاءة في غير العرب لا تعتبر. قوله: والفاسق ليس بكفء للعفيفة وكذلك المبتاع مع السنية. انتهى. هذا الكلام موهم وناقص فإنه يشعر بأن الفاسق والفاسقة كفآن من حيث الجملة، والذي يتوجه عند زيادة الفسق أو اختلاف نوعه عدم الكفاءة ويؤيده أنه إذا كان بالمرأة عيب آخر، أو ذلك العيب بالرجل، لكن الذي به أفحش أو أكبر فليس بكفء، وكذلك إن تساويا، أو كان الذي بها أكثر على الصحيح كذا ذكره الرافعي هنا، وفي باب خيار النكاح وقريب منه أن الكامل الرق هل يكون كفءً للمبعضة؟ على وجهين أصحهما على ما حكاه في "الكفاية" عن صاحب "الذخائر" أنه لا يكون بكفء وينبغي أيضًا إثبات الخيار إذا تجدد الفسق أو الرق بأن يكونا كافرين، ويلتحق أحدهما بدار الحرب ويسترق، ثم إنه لا شك أن الفسق بالقتل أو بالسكر المفضي إلى زوال العقل والضرر على النفس ونحوها ليس في

تعدي المفسدة والنفرة منه كعقوق الوالدين وترك الصلاة والإصرار على الصغيرة ونحو ذلك. قوله: والحرفة الدنية في الآثار والاشتهار بالفسق مما يعير به الولد فيشبه أن يكون حال من كان أبوه صاحب حرفة دنية أو مشهورًا بفسق مع من أبوها عدل كما ذكرنا في من أسلم بنفسه مع من أبوها مسلم. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا والمنقول خلافه فقد جزم الهروي في "الإشراف" بأن ذلك لا أثر له وجعل مثله ولد المعيب [كابن الأبرص ونحوه، ذكر ذلك في الورقة الأخيرة من كتابه] (¬1). قوله: قال الإمام والغزالي لا اعتبار بالانتساب إلى عظماء الدنيا والظلمة المستولين على الرقاب، وإن كان الناس قد يتفاخرون بهم، وهذا الذى ذكراه من أن الانتساب إلى العظماء لا يعتبر لا يساعده عليه كلام النقلة هذا صاحب "التتمة" يقول: وللعجم عرف في الكفاءة فيعتبر عرفهم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الذي نقله الرافعي هنا عن الغزالي وشيخه حاصله عدم اعتبار النسب إلى طائفتين: إحداهما: العظماء، والثانية: الظلمة فأما الظلمة فأمرهم واضح، وأما العظماء فإنه ممنوع كما ستعرفه من كلام الرافعي، وكيف لا يعتبر وأقل مراتب الأمره أن يكون كالحرفة، وأهل الحرفة الشريفة لا يكافئ أهل الحرفة الخسيسة. الأمر الثاني: أن ما ذكره عن "التتمة" مقتصرًا عليه، ورد به على الإمام والغزالي، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس فيه رد بالكلية ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فإن العرف الذي عزاه إلى العجم، وذكر أنه يعتبر لم يقع له تعريف في كلامه، وحينئذ فيقول القائل: هل من جملته الانتساب إلى العظماء أم لا؟ ، وقد بينه صاحب "التتمة" في الكلام الذي نقله عنه الرافعي فإنه قال: فرع العجم ما جرت عادتهم بحفظ الأنساب والتفاخر بها ولكن لهم في الكفاءة عرف وهو أنهم يقدمون الأمراء والرؤساء والقضاة والعلماء على السوقة فيعتبر عرفهم ولا يجعل السوقة أكفاء لها ولا الأصناف، هذا لفظه فترك الرافعي موضع الحاجة منه نسيانًا أو غلطًا، وأما كون النسب من حيث هو معتبر في العجم أم لا فليس هذا موضعه، وقد ذكره الرافعي قبل هذا بدون ورقة وصحح اعتباره، إنما الكلام في النسب إلى العظماء عربًا كانوا أو عجمًا هل يعتبر أم لا؟ ، وقد تلخص أنه معتبر كما تقدم في أولاد الأمراء والعلماء ونحوهم. قوله: فلو كان يلي أمرها السلطان فهل له تزويجها بغير كفء إذا طلبته؟ قولان أو وجهان: أظهرهما المنع لأنه كالنائب عن أولياء النسب فلا يترك الحظ لهم وقطع الشيخ أبو محمد بالجواز. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الصحيح أن الخلاف وجهان كذا جزم به في "المحرر" و"الشرح الصغير" ولم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا. الثاني: أن النووي قد أسقط الطريقة القاطعة فلم يذكرها في "الروضة". قوله في أصل "الروضة": فرع: إذا زوج الأب ابنه الصغير بمن لا تكافئه نظر فإن كانت معيبة بعيب يثبت الخيار فالمذهب أنه لا يصح وإن زوجه من لا تكافئه بجهة أخرى صح على الأصح إذ لا عار على الرجل في استفراش من دونه، ثم قال: وإن زوجه عمياء أو عجوزًا أو معقودة بعض الأطراف فوجهان، ويجب أن يكون في تزويج الصغيرة بالأعمى

والأقطع والشيخ الهرم الوجهان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلام الرافعي في "الشرح الصغير" مقتضاه تصحيح الصحة في مسألة الأعمى ونظائره. الثاني: أن ما ذكره في عكسه بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا عجيب فقد صرح بنقله قبل ذلك بدون ورقتين في الكلام على خصال الكفاءة فقال: وزاد الروياني على العيوب المثبتة للخيار العيوب المنفرة كالعمى والقطع وتشوه الصورة، وقال: هي تمنع الكفاءة عندي، وبه قال بعض الأصحاب واختاره الصيمري هذا كلامه. وهذا الخلاف هو ذاك بعينه. قوله: وإن زوج المجنون أمة جاز إن كان معسرًا وخشي عليه، العنت وفي وجه لا يجوز لأنه لا يخشى وطء يوجب حدًا ولا إثمًا وهو ضعيف وإن كان النقض بسبب آخر فعلى ما ذكرنا في الصغير. انتهى. وما ذكره من أن حكمه في ذلك حكم الصغير قد تابعه عليه في "الروضة" ومن جملة ما قدمه في الصغير أنه لو زوجه قرناء أو رتقاء أو أبق لم يصح ولكن من جملة الأسباب التي يزوج المجنون لأجلها أن يكون محتاجًا للخدمة والخدمة لا فرق فيها بين الرتقاء والقرناء لاسيما إذا كان [آيسًا] (¬1) من الاحتياج إلى النكاح لهرم وعنة وجب ونحوها. قوله: ولو زوج بنته لخنثى قد بان رجلًا أو ابنة بخنثى قد بان امرأة فإن أثبتنا الخيار بهذا السبب فالخنثى كالمجنون والمجنونة حتى لا يصح النكاح على المذهب، وإلا فكالأعمى حتى يجيء الوجهان السابقان، زاد في "الروضة" على هذا فقال: والخصي كالخنثى في هذا. قال البغوي: وكذا لو أذنت البالغة في التزويج مطلقًا فزوجها بخصي ¬

_ (¬1) في جـ: أمنًا.

أو خنثى والله اعلم. وما نقله عن البغوي وأقره حاصله صحة النكاح، وقد خالف الماوردي فجزم بالمنع ورجحه ابن الرفعة في المطلب فقال: إنه الظاهر. قوله: فرع: للسيد أن يزوج أمته من الرقيق ودني النسب. انتهى. هذا الفرع ذكره البغوي في "التهذيب" وعلله فقال: ولو زوج السيد أمته من عبد أو دني النسب دون رضاها يصح لأنهما متكافئان لأن نسب الحر وإن كان دنيًا لا يكون دون العبد هذا كلامه، فأخذ منه الرافعي دون تعليله، وتبعه عليه في "الروضة" وما ذكروه من التكافؤ بين العبد والأمة عجيب فإن العبد قد يكون عجميًا والأمة عربية، بل قرشية هاشمية، وذلك بأن يتزوج القرشي أو الهاشمي أمة بشروطها فأتت ببنت فإنها عربية، والكفاءة من جملتها المساواة في الحرية والنسب وحينئذ فقد اشتركا في الرق وامتازت الأمة بالنسب وهكذا القول في ذى النسب إذا كان حرًا لأن الخصال لا يجبر بعضها بعضًا على الصحيح فالصواب مراعاة ما ذكرته، وقد صرح به قبل هذا الموضع بدون ورقة. فقال: والأمة العربية بالحر العجمي على هذا الخلاف أي الخلاف في الانجبار المذكور، وتبعه عليه في "الروضة" أيضًا، والصواب حمل هذا الموضع على أنه من تتمة كلام الإمام وهو مرجوح. قوله: وله بيعها ممن به بعض تلك العيوب لأن الشراء لا يتعين للاستماع، ثم هل لها الامتناع من التمكين؟ فيه وجهان لأن الوطء في ملك اليمين بمثابة نفس النكاح. انتهى. والصحيح منهما أنه لا يلزمها التمكين ففي الرافعي و"الروضة" في باب الاستبراء ما يؤخذ منه ذلك، فإن الرافعي قال: إذا قال السيد للأمة قد أخبرتيني بتمام الاستبراء، وأنكرت الأمة هل لها تحليفه أم لا؟ فيه وجهان:

حقيقتهما: أنه هل للأمة المخاصمة، ثم قال ما نصه: والخلاف مأخوذ من الخلاف في أنه هل للأمة أن تمتنع من السيد الأبرص والمجذوم؟ فإن قلنا نعم فهي صاحبة حق فلها المخاصمة هذا لفظه، ثم إن النووي صحح من زياداته أن لها المخاصمة فلزم من مجموع كلامهما تصحيح جواز الامتناع، ونقل هنا في "الروضة" من زوائده عن "التتمة" أن الأصح لزوم التمكين، ولم يعترض عليه وصححه أيضًا الروياني في "البحر". قوله من "زياداته": لو زوجها بعض الأولياء بكفء بدون مهر المثل برضاها دون رضا بقية الأولياء صح قطعًا إذ لا حق لهم في المهر. انتهى. هذه المسألة قد سبق ذكرها من الرافعي في الكلام على العضل.

الفصل الثامن في تزاحم الأولياء

الفصل الثامن في تزاحم الأولياء قوله: ولو قالت [رضيت أن أزوج أو] (¬1) رضيت بفلان زوجًا فوجهان: أحدهما: أنه ليس لأحد من الأولياء تزويجها لأنها لم تأذن لجميعهم بلفظ عام ولا خاطبت واحدًا منهم على التعيين. وأظهرهما: أنه يكفي، ثم قال فلو عينت بعد ذلك واحدًا هل ينعزل الآخرون؟ فيه وجهان لأن في التخصيص إشعارًا برفع الإطلاق، والمذكور من الوجهين في "الرقم" انعزال الآخرين، وفي "التهذيب" مقابله. انتهى. والأصح عدم الانعزال، كذا قاله في "الروضة" من زوائده. قوله: الرابعة: إذا سبق واحد معين ثم التبس وأشكل الأمر فتوقف حتى يتبين الحال، ولا يجوز لواحد منهما غشيانها ولا لثالث نكاحها قبل أن يطلقاها أو يموتا أو يطلق أحدهما ويموت الثاني. انتهى. ولابد من إنقضاء عدتها بعد موت أحدهما حتي تحل بيقين فينبغي أن تتفطن له وقد نبه عليه في "الروضة". قوله: وإذا تقرر البطلان عند احتمال السبق والمعية، وفي ما إذا سبق أحدهما ولم يعلم السابق فهل يبطل ظاهرًا وباطنًا حتى لا يؤثر تعيين السابق يومًا من الدهر أم باطنًا فقط؟ ، ذكروا فيه وجهين، ثم قال: ويشبه أن يقال: هذا الخلاف والخلاف المذكور في أنهما يبطلان ويرتفعان بنفسهما أو يحتاج إلى الرفع والفسخ شيء واحد والاختلاف في العبارة. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومقتضى ما قاله الرافعي من كون الخلافين شيئًا واحدًا أنا إن قلنا لابد من إنشاء فسخ انفسخ باطنًا، وإن قلنا ينفسخ بنفسه انفسخ ظاهرًا فقط، هذا هو الذي يقتضيه تعليل الرافعي في الكلام على المسألة وهو المناسب أيضًا في المعنى فافهمه، فإن الرافعي لم يصرح به، وهو في محل النظر، وحينئذ فيكون الصحيح عدم الانفساخ باطنًا لأن الصحيح أنه لا يحتاج إلى إنشاء فسخ وهذا الذي ذكره الرافعي من كون الخلاف إنما هو في اللفظ أسقطه في "الروضة"، وحكى وجهين من غير ترجيح، وكأنه استشكل عليه تعيين البناء فأسقطه، ثم ذكر من زوائده ترجيحًا آخر فقال: ينبغي أن يقال الأصح أنه إن جرى فسخ من الحاكم انفسخ باطنًا وإلا فلا. قوله: الثانية: إذا قلنا بالتوقف فهل يطالبان بالنفقة؟ فيه وجهان أظهرهما: عند الإمام لا، والثاني: نعم وبه قطع ابن كج، ثم قال ما نصه: وعلى هذا -أى على الثاني- فيوزع عليهما، وإذا ظهر السبق لأحدهما وتعين رجع الآخر بما أنفق. قال الشيخ أبو عاصم: ويحتمل أن يقال إنما يرجع إذا كان قد أنفق بغير إذن الحاكم، وبهذا جزم القاضي ابن كج. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من الرجوع إذا كان بغير إذنه، تابعه عليه في "الروضة" وهو سهو وصوابه العكس فيرجع إذا كان بالإذن، ولا يرجع إذا كان بغير إذنه. قوله: فرع: لو كانت خرساء أو خرست بعد التزويج فأقرت بالإشارة بسبق أحد الزوجين لزمهما الإقرار وإلا فلا يمين عليها، والحال حال الإشكال حكي هذا عن نصه. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم اليمين عليها إذا لم يقر بالإشارة تابعه عليه في

"الروضة" وهو غير مستقيم، فإن قاعدتنا المذكورة في كتاب اللعان وفي غيره أن الأخرس يحلف بالإشارة فليكن هنا كذلك، ولا يستقيم أيضًا أن يكون المراد بلا يمين عليهما أى بزيادة ميم على أنه مثنى عائد على المسارعين لأن تحليفهما أيضًا مشروع على ما أوضحه الرافعي في هذا الفصل.

الباب الخامس في المولى عليه قوله: فإن كان المجنون كبيرًا زوج بالحاجة وهي إما حاجته إلى النكاح، وإما توقع شفائه باستفراغ الماء، وإما احتياجه إلى من يخدمه. وتكون مؤنة النكاح أخف من ثمن جارية. ثم قال: فإن كان المجنون صغيرًا لم يصح تزويجه على الصحيح، وقيل يزوجه الأب أو الجد. انتهى. والمنع في الصغير تابعه عليه في "الروضة" وهو ذهول عن العلة الأخيرة على أن الشافعي قد نص على المنع أيضًا. قوله: ومتى جاز تزويج المجنون فلا يجوز إلا امرأة واحدة لأن الحاجة تندفع بها. انتهى. وقد تقدم في أوائل كتاب النكاح في الكلام على المقدمة أن الشخص قد لا تعفه المرأة الواحدة ومثله يستحب له الزيادة على الواحدة إلى أن ينتهي إلى المقدار الذي يحصل به الإعفاف، ويتجه مثله في المجنون أيضًا وتعليل الرافعي يشير إليه، وقد أشار إليه الرافعي أيضًا في الكلام على السفيه وقد تكون الواحدة كافية للمجنون في الاستمتاع لكنها لا تكفيه في الخدمة، وقد تخرج الواحدة من أهلية الاستمتاع لمرض أو كبر ونحو ذلك، ولا يتأتى فراقها منه، وذكر النووي في "الروضة" هذا الحكم بدون التعليل فصار الاعتراض عليه أبلغ. قوله: ويجوز أن يتزوج الصغير أربعًا على الأصح، وقيل: لا يجوز أن يزيد على واحدة، زاد في "الروضة" على هذا فقال ما نصه: وفي

"الإبانة" وجه أنه لا يجوز تزويجه أصلًا ورغم أنه الأصح وهو غلط. انتهى لفظه بحروفه. وما ذكره من حكاية وجه في "الإبانة" للفوراني رغم أن الأصح أن تزويجه للصغير ممتنع ومن تغليطه له فيه هو الغلط العجيب، فإن الوجه المذكور ليس له ذكر في "الإبانة" بالكلية فضلًا عن تصحيحه بل فيها كما في الرافعي وغيره وهو الجزم بالجواز، وحكاية وجهين في الزيادة على المرأة الواحدة فقد قال فيها بعد أن ذكر قبول الواحدة للسفيه ما نصه: وهل يتزوج السفيه أكثر من امرأة؟ فعلى وجهين الأصح: أنه لا يجوز، وكذا لو أراد أب الصغير والمجنون قبول نكاح أكثر من واحدة؟ فيه وجهان هذه عبارته ذكر ذلك في الفصل الثاني المعقود للمحجور عليه في الكلام على السفيه، كذا رأيته في نسختين صحيحتين من "الإبانة"، ولم يذكر المسألة في غير هذا الموضع، ثم رأيت أيضًا نسختين من "العمد" له أى الفورانى فرأيته قد نص على المسألة في موضعين وهما الوصايا والنكاح فقال في النكاح: فأما الصبي العاقل فيجوز للأب أن يقبل عليه النكاح، وهل يقبل له نكاح أكثر من امرأة واحدة؟ وجهان: الأصح أنه لا يجوز هذه عبارته وذكر في الوصايا يجوز ذلك، ونقله عن نص الشافعي [فقال نص الشافعي] (¬1) على نحو الأربع للصغير، ونص في السفيه على أنه لا يجوز فجعلها بعضهم على قولين، والذي أوقع النووي في هذا الغلط هو صاحب "البيان" فإنه نقل ذلك عن الفورانى فقال في باب ما يصح به النكاح: يجوز للأب والجد أن يزوج ابنه الصغير، ثم قال ما نصه: وقال المسعودي. هل يزوج الصغير؟ فيه وجهان: الأصح لا يزوجه لأنه لا حاجة به إليه انتهى لفظه، ومراد صاحب "البيان" بالمسعودي هو الفورانى كما تقدم إيضاحه وذكر سبب الغلط فيه في مقدمة كتابنا هذا فحصل له في هذه المسألة بخصوصها غلط من وجهين فقلده ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

النووي في هذا الموضع ظنًا صحة ما نقله فيه إلا أنه احترز عن أحد الموضعين، وصرح بالفورانى على الصواب فوقع في الخطأ بالنسبة إلى الموضع الآخر لاسيما وقد استظهرت أيضًا بمراجعة تصنيفه الأخر وهو "العمد" وإلا فالنووي لم يقف على "الإبانة" بالكلية، وأما "العمد" فإنه أعزب منه وأعز وجودًا، ثم تأملت فوجدت الغلط قد وقع لصاحب "البيان" من مسألة أخرى ذكرها في "الإبانة" فإنه قال فيها في الكلام على المجنون ما نصه: وإن كان صغيرًا فالأصح أنه لا يزوجه هذه عبارته، فتوهم أن المراد الصغير من حيث الجملة، وغفل عن كون الكلام في المجنون، فوقع في الغلط وأوقع فيه غيره، ووجه وقوع مثل هذا الموضع في "البيان" أن مصنفه -رحمه الله- جمع عليه حالة نحو أربعين شخصًا من طلبته واستعان بهم في إخراج المسائل وإملائها عليه ليضعها وهذا وإن أفاد في تيسير التصنيف فإنه يضر من جهة تقليد من ليس أهلًا للتصنيف. قوله: وفي المجنونة أوجه الصحيح: أن الأب والجد عند عدمه يزوجانها، وقيل لا يستقلان بتزويج الكبيرة الثيب بل يشترط إذن السلطان بدلًا عن إذنها والثالث: لا يزوج الثيب الصغيرة كما لو كانت عاقلة، ثم قال: ولا فرق بين من بلغت مجنونة ومن بلغت عاقلة ثم جنت بناه على أن من بلغ عاقلًا ثم جن فولاية ماله لأبيه وهو الأصح، وإن قلنا أنها للسلطان فكذا التزويج. انتهى. وما ذكره من بناء التزويج على ولاية المال في طرآن الجنون يقتضي أن يكون كذلك أيضًا في طرآن السفه، وحينئذ فيكون الأصح أنه لا يزوجها إلا السلطان لأن الأصح أنه الذي يلي ماله -أى مال من طرأ سفهه-، وهذا الذي صرح به الرافعي وابتنى عليه ما نبهنا عليه خلاف المعروف في المذهب، فقد قال إمام الحرمين في "النهاية" في فصل أوله قال: ويزوج

الأب أو الجد بعد ذكر وجهين في ولاية المال ما نصه: ثم إن قلنا ولاية المال للسلطان فيظهر عندنا أن تقول الأب ينفرد بالتزويج لما نبهنا عليه من انفراده بتزويج البكر البالغة وإن كانت ولاية المال إليها، هذه عبارته ولم يذكر غير ذلك، وذكر في "البسيط" نحوه، وعبر بالظاهر، وقال في "الوسيط" إن قلنا بعودة ولاية المال للأب والجد زوج، وإن قلنا لا فوجهان: أحدهما لا تعود ولاية النكاح كولاية المال. وأظهرهما: أنها تعود لأنهما كاملا الشفقة. فكانا أولى من غيرهما، وذكر صاحب "الذخائر" مثله، وكذلك الغزالي شارح "المهذب"، وقال في "التتمة": إن تزويجها إلى الأب بلا خلاف، ولكن إذا قلنا بأن ولاية المال لا تعود إليه فيزوج بإذن السلطان هذا حاصل كلامه، وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" بعض ما ذكرناه، ولم ينقل ما جزم به الرافعي بالكلية إلا أنه أعني ابن الرفعة قد وهم في حكاية كلام "التتمة" كما نبهت عليه في كتابنا المسمي "بالهداية" وفي إثبات الوجهين في كلام الغزالي ومن بعده نظر، والظاهر أنه نظر أول كلام الإمام فقط فرأى الوجهين فتوهم أن حكايتهما كمجيء مثلهما في التزويج. قوله: وأما المجنونة التي لا أب لها ولا جد قال: فإن كانت صغيرة لم تزوج لعدم من يخيرها ولا حاجة لها في الحال وإن كانت بالغة فقيل يزوجها القريب ولكن بشرط إذن السلطان ليقوم مقام إذنها، والأصح أن السلطان هو الذي يزوجها كما يلي مالها لكن تراجع أقاربها لأنهم أعرف بمصالحها وتطييبًا لقلوبهم، وهذه المراجعة واجبة أو مستحبة؟ وجهان، صحح البغوي الوجوب وضعفه الإمام. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين هنا من غير ترجيح، والصحيح الاستحباب فقد جزم الماوردي بما يقتضيه وصرح بتصحيحه

الروياني في "البحر"، وقال في موضع آخر منه: إنه ظاهر النص، وجزم في الرافعي في الكلام على تحريم الخطبة بما حاصله ذلك، فإنه قال: والمعتبر رد الولى وإجابته إن كانت مجبرة، وإلا فردها وإجابتها، وفي الأمة [رد] (¬1) السيد وفي المجنونة رد السلطان وإجابته [إن كانت مجبرة وإلا فردها وإجابتها هذا كلامه فلو كان إذن الأقارب واجبًا لكان ردهم وإجابتهم] (¬2) معتبرة ولهذا جزم بذلك في "الحاوي الصغير". واعلم أن الخلاف المذكور يجدي أيضًا في وجوب المراجعة إذا كان المجنون ذكرًا وزوجه السلطان، قاله البغوي في "التهذيب" ولم يتعرض له الرافعي. قوله: فإن عين الولى للسفيه امرأة لم يجز له نكاح غيرها ولينكحها بمهر المثل أو بما دونه، ثم قال: فإن زاد فتسقط الزيادة التي لا يملك التصرف فيها ويجب مهر المثل، قال ابن الصباغ: القياس بطلان المسمى والرجوع إلى مهر المثل، والفرق أن على التقدير الأول تستحق الزوجة قدر مهر المثل من العين، وعلى الثاني يجب مهر المثل في الذمة, انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من ترجيح بطلان الزائد فقط قد خالفه في الباب الثاني من كتاب الصداق في السبب الخامس منه فذكر في ما إذا قبل لابنه الصغير أو المجنون ما قاله ابن الصباغ هنا في السفيه وسوف أبسط المسألة هناك إن شاء الله تعالي فراجعها. قوله: وهل يشترط في صحة إذن الولى للسفيه تعيين امرأة أو نساء قبيلة أو تقدير المهر؟ ففيه وجهان: أحدهما وبه قطع بعضهم: أنه يشترط لأنا لا نأمن أن ينكح شريفة يستغرق مهرها ماله. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

وأصحهما: لا بل يكفي الإطلاق. انتهى. أهمل في "الروضة" الطريقة القاطعة بالبطلان. قوله في أصل "الروضة" في المسألة: نعم لو نكح الشريفة المذكورة فوجهان: اختيار الإمام وبه قطع الغزالي أنه لا يصح النكاح، بل يتقيد بموافقة المصلحة. انتهى. وما ادعاه من قطع الغزالي ليس كذلك، فقد توقف فيه في "البسيط" ثم مال إلى تفصيل فقال ما نصه: فبعد التصحيح فالوجه أن ينظر إلى المصلحة، فإن لم يوافقها حكم بالبطلان هذا لفظه ولا شك أن الاستغراق لا ينافي كونه مصلحة، فإنه قد يكون كسوبًا أو المهر مؤجلًا وفي اتصاله بأهل المرأة رفق، وعبارة الرافعي لا يرد عليها شيء، فإنه عبر بقوله اختيار الإمام منهما وهو المذكور في الكتاب المنع. قوله: ولو قال له أي للسفيه انكح من شئت بما شئت ذكر بعضهم أن الإذن يبطل لأنه رفع الحجر بالكلية. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، وهذا الذي نقله عن بعضهم قد جزم به الروياني في "البحر" حكمًا وتعليلًا، وعبر بقوله لا يجوز ولا شك أن اللفظ الصادر من الولى عام في الزوجات وفي المهور، وحينئذ فيدخل فيه المرأة اللائقة به بمهر مثلها والإذن فيه جائز لأنه لا يشترط تعيين المرأة، وحينئذ فقد جمع بين ما يجوز وما لا يجوز، وحينئذ فيصح ما يجوز على الصحيح هذا قياس المسألة فاعلمه، وعبارة الرافعي والروياني لا تنافيه فلتحمل عليه. قوله: إحداها: إذا نكح السفيه بغير إذن الولى بطل النكاح ويفرق بينهما فإن كان قد دخل بها فلا حد للشبهة، وفي المهر أوجه: أصحها: أنه لا يجب كما لو بيع منه شيء فأتلفه وهذا لأن معاقدته والتسليم إليه تسليط

على التصرف والإتلاف، وفي هذا إشكال من جهة أن المهر حق الزوجة وقد يزوج ولا شعور لها بحال الزوج فكيف يبطل حقها؟ ، ثم قال: والثاني يجب مهر المثل، والثالث: يجب أقل ما يتمول. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح عدم الوجوب وليس على إطلاقه، بل صورته إذا كانت المرأة رشيدة، فإن كانت سفيهة وجب لها مهر المثل، كذا ذكره النووي في "فتاويه" وذكر الرافعي في ما إذا صدر منه شراء عين مثله أيضًا، وقد سبق إيضاحه في باب الحجر من هذا الكتاب. قوله في المسألة من زوائده: وإذا لم نوجب شيئًا بعد الحجر فلا شيء عليه على المذهب كالصبي إذا وطيء ثم بلغ، وحكى الشاشي فيه وجهين. انتهى كلامه. وهذه المسألة تؤخذ من كلام الرافعي في باب الحجر فإنه حكم على البيع بهذا الحكم بعينه، والنكاح مثله وهذا الحكم في ما لو كانت رشيدة لكن وطئها نائمة أو مجنونة أو مكرهة، وقد نبه عليه في "الكفاية" في نظير المسألة، وهو ما إذا تزوج العبد بغير إذن سيده ووطيء وحكى خلافًا في ما إذا كانت أمة لأن الحق لغيرها ويتجه جريانه هنا. قوله: فإذا التمس السفيه النكاح مع ظهور أمارة الحاجة إن اعتبرناه أو دونه إن لم يعتبره فعلى الولي الإجابة فإن امتنع فتزوج السفيه بنفسه أطلق الأصحاب فيه وجهين: أصحهما عند المتولي: أنه لا يصح النكاح كما لو تزوج العبد بنفسه إذا لم يأذن السيد. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي صححه المتولي قد صححه في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح، ولم يصرح في "الروضة" أيضًا بتصحيحه بل نقله عن المتولي كما نقله الرافعي. الأمر الثاني: أن هذا القياس الذي ذكره الرافعي وهو القياس على العبد

ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وهو قياس فاسد لأنه إن لم يكن تفريعًا على إيجاب التزويج فبطلان القياس واضح لأن العبد تعاطى التزويج حيث لا يجب تزويجه والسفيه تعاطاه حيث يجب، وإن كان تفريعًا على الإيجاب كان حكمه حكم السفيه والحالة هذه كذا ذكره الرافعي بعد هذا بنحو ورقة، فقال نقلًا عن الإمام: ولو نكح بنفسه قال الإمام: هو كما لو طلب السفيه فامتنع الولي فنكح. هذا لفظه، ولم يذكر ما يخالفه، وتابعه عليه في "الروضة" ولم يذكر أعني النووي القياس المذكور فسلم من هذا الاعتراض. قوله في "الروضة": ويصح طلاق المحجور عليه فإن كان مطلاقًا سرى بجارية. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يقتضي أنه لا يسري في الابتداء، وينبغي جواز الأمرين كما في إعفاف الأب ويتعين هنا ما فيه المصلحة، وقد يقال إذا طلب السفيه التزويج بخصوصه تعين. الأمر الثاني: أن تعبيره بقوله بجارية -أعني بباء الجر- قد ذكره أيضًا في باب الحجر لكنه قد نبه في "تحرير التنبيه"، على أنه خطأ فقال قول الشيخ: وإن كان يكثر الطلاق سرى جارية هكذا ضبطناه عن نسخة المصنف -أي بغير باء- وتقع في كثير من النسخ بالباء والصواب حذفها، هذا كلامه. قوله في أوائل الكلام على السفيه والمحجور عليه بسفه: لا يستقل بالتزويج بل يراجع الولي ليأذن أو يزوجه، ثم قال هاهنا: والكلام في من يلى أمر السفيه سبق في الحجر، وذكر أبو الفرج الزاز إلى آخر ما قال. ومجموعه يدل على أن نكاح السفيه يتعلق بالأب ثم الجد ثم الوصي

ثم الحاكم، وقد صرح -أعني الرافعي- في باب الوصايا بأن الوصي يلي التزويج، ولكن حذفه من "الروضة" هناك، ثم إن النووي ذكر هنا شيئًا من "زوائده"، وكأنه غير مستحضر لمجموع ما سبق فقال: قلت. الأصح أنه إن كان له أب أو جد فإن التزويج إليه، وإلا فلا يجوز أن يزوجه إلا القاضي أو من فوض القاضي إليه تزويجه، وممن جزم بذلك الشيخ أبو حامد والله أعلم. قوله: فرعان: أحدهما: قال في "التهذيب": إقرار السفيه على نفسه بالنكاح لا يصح لأنه ليس ممن يباشر بنفسه وهذا يشكل بإقرار المرأة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الحكم الذي نقله عن "التهذيب" فقط ثم استشكله قد سبق منه الجزم به في أول كتاب الإقرار وعلله بقوله اعتبارًا للإقرار بالإنشاء، ثم ذكر بعد ذلك عن الإمام ما يقتضي أن العلة في ذلك ما فيه من إتلاف المال، وهذا التعليل صحيح فحينئذ يكون الحكم في نفسه صحيحًا، والإشكال في التعليل فقط. الأمر الثاني: أن البغوي قد جزم في أول الإقرار بالصحة على عكس ما جزم به هاهنا، ولو اطلع عليه الرافعي لأعجبه لكونه أبلغ فيما يحاوله الرافعي في الرد على البغوي. الأمر الثالث: أن هذا إنما يأتي إذا لم يأذن الولى للسفيه في النكاح فإن أذن له فيه لزم القول بصحته. قوله: وهل للسيد إجبار العبد البالغ على النكاح؟ قولان: القديم: نعم، والجديد: لا وإن كان صغيرًا فالأصح أنه كالكبير وقيل: يخير قطعًا، واختاره ابن كج. انتهى.

وما ذكره في الصغير من ترجيح عدم تزويجه مخالف لنص الشافعي والأصحاب والقياس الجلى، ولما جزم هو به في موضع آخر. أما مخالفته لنص الشافعي والأصحاب فقد قال هو -أعني الرافعي- في كتاب الرضاع في الأصل الثاني من الباب الثالث: ولو زوج مستولدته من عبده الصغير فأرضعته بلبن السيد حرمت على السيد والصغير معًا وانفسخ نكاح الصغير. أما حرمتها على السيد فلأنها زوجة أبيه، وأما على الصغير فلأنها موطوءة أبيه وحكي ابن الحداد أن المزني روي عن الشافعي - رضي الله عنه - في مسائله أنها لا تحرم على السيد، وأنه أنكر ذلك على الشافعي، وعلى ذلك جرى ابن الحداد والأصحاب وجعلوا الرواية غلطًا. قال الشيخ أبو علي: لكن يمكن تخريج ما نقل على قول في أن العبد الصغير لا يجوز إجباره على النكاح، أو على قول في أن أم الولد لا يجوز تزويجها بحال، أو على وجه ذكر في أنه لا يجوز للسيد أن يزوج ابنته من عبده بحال إذا لم يصحح النكاح على أحد هذه الأوجه لم تكن هي زوجة الابن فلا تحرم على السيد، ومهما أمكن تخريج المنقول على تنزيلات صحيحة لم يجز الحمل على الغلط المطلق، هذا كلام الرافعي ومقتضاه بلا شك أن الراجح عنده وعند الأصحاب صحة تزويج العبد الصغير لأنه جزم به ثم نقل أن الأصحاب جروا عليه وأنهم جعلوا الرواية غلطًا، ثم نقل عن الشيخ أبي على أنه خرج له محامل ضعيفة يصح بها عدم الإجبار وأن ذلك أولى من الغلط المطلق وممن اختار تزويج العبد الصغير الماوردي في "الحاوي" والشيخ في "التنبيه" وجزما به وقال ابن يونس: إنه الصحيح. وأما مخالفته للقياس الجلي فلأنه يجوز عندنا للأب والجد أن يزوج

ولده الصغير لأنه يلي أمره فإذا أجاز ذلك لكونه يتصرف جاز للسيد بطريق الأولى لأنه يملك التصرف والرقبة، وقد نقل الرافعي في الكلام على التحليل عن الأئمة ما يوافق الإجبار أيضًا فقال: قال الأئمة: أسلم طريق في الباب وأدفعه للعار والغيرة أن تُزوج بعبد طفلٍ للزوج أو غيره، وتستدخل حشفته ثم تملكه ببيع أو هبة فينفسخ النكاح ويحصل التحليل إذا اكتفينا بوطء الصغير هذه عبارته، فانظر كيف أسند صحته إلى الأئمة غير أنه قال عقبه ويتعلق بأصل آخر وهو إجبار العبد الصغير والذي قاله تصرف منه مناف لكلامهم ولا يسلم له ذلك، وحكى الدرمازى في "رفع التمويه عن مشكل التنبيه" طريقة ثالثة وهي القطع بالمنع لأن في تزويج الكبير غرضًا ظاهرا، وهو صيانة ملكه بخلاف الصغير. قوله: وإذا فرعنا على جواز إجبار العبد فيجوز أن يزوج أمته من عبده الصغير أو البالغ، وحينئذ فلا مهر: وفي استحباب ذكره قولان: الجديد: استحبابه. انتهى. تابعه في "الروضة" على نسبة الاستحباب إلى الجديد وهو غلط، بل الصواب الذي ذكره أئمة المذهب هو العكس وهو استحبابه في القديم وعدمه في الجديد بل إن شاء سمى وإن شاء فلا، كذا صرح به ابن الصباغ في "الشامل" والمتولي في "التتمة" في الباب الرابع من أبواب النكاح، والروياني في كتابيه "البحر" و"الحلية" والعمراني في "البيان" وابن الرفعة في "الكفاية"، ووقع في بعض نسخ الرافعي على الصواب وجزم في "التتمة" في الباب الرابع من أبواب الصداق بالاستحباب موافقًا للقديم ونقل البيهقي في "المبسوط" عن القديم ما حاصله وجوب التسمية، واعلم أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي في ثلاثة مواضع: أحدها: في هذا الموضع، والثاني: في الفصل المعقود لتزويج الرقيق

وهو قبيل كتاب الصداق. والثالث: في الباب الثالث من كتاب الرضاع وحاصل ما حكى في الثلاث خلافًا في صحة النكاح وعلى الصحة خلافًا في أن المهر هل وجب وسقط أم لم يجب؟ ، وخلافًا في استحباب التسمية وذكرت في الكلام على نكاح الرقيق فوائد -وهو قبل الصداق- أخرى متعلقة بمسألتنا فراجعها. قوله في "الروضة": له إجبار أمته على النكاح، ثم قال: والمدبرة والمعلق عتقها كالقنة وكذا أم الولد على الصحيح. انتهى. وتعبيره بالصحيح يدل على أن الخلاف وجهان وهو المذكور في "المنهاج" أيضًا لكن المذكور في أمهات الأولاد من "الروضة" والرافعي أن في المسألة ثلاثة أقوال وسنذكر إن شاء الله تعالى عبارته في موضعها، وقد سلم الرافعي من هذا الاختلاف فإنه عبر بقوله فيه خلاف وفي "المحرر" بلفظ الأصح، وقد سبق لك غير مرة أنه لا اصطلاح له فيه. قوله: وإذا طلبت المكاتبة التزويج ففي وجوب الإجابة وجهان. انتهى. والأصح عدم الوجوب كذا صححه النووي من زياداته. قوله: فرع: إذا كان لعبده المأذون في التجارة أمة، وكان عليه دين فزوجها السيد بإذن العبد والغرماء صح، وإن زوجها بإذن العبد دون الغرماء أو بالعكس لم يصح في أظهر الوجهين، وبيعه وهبته وطؤه كالتزويج. انتهى. وهذه المسالة فيها كلام يتعين الوقوف عليه سبق ذكره واضحًا في معاملة العبيد فلتراجع. واعلم أن السيد إذا وطيء أمة المأذون ولا دين عليه كان وطؤها حجرًا

عليه فيها، وقيل يفصل بين أن يعزل أم لا، كذا رأيته في هذا الباب من "شرح المختصر" للصيدلاني، ويعبر عنه ابن الرفعة في "المطلب" تارة بالداوودى وتارة بابن داوود ثم ذكر عقبه أنه لا يحتاج إلى استبراء بعد قضاء الدين على الصحيح. قوله: وإذا وطئ بغير إذن الغرماء فهل عليه المهر؟ فيه وجهان، زاد النووي على هذا فقال: قلت لعل أصحهما الوجوب لأن مهرها مما يتعلق به حق الغرماء بخلاف وطء المرهونة. انتهى. وما جزم به من تعلق حق الغرماء بالمهر وجعله دليلًا للترجيح المذكور قد تقدم منه في باب معاملة العبيد من "زوائده" أيضًا الجزم بعكسه فراجعه. قوله: ولو أحبلها فالولد حر والجارية أم ولد إن كان موسرًا، فإن كان معسرًا لم تصر أم ولد وتباع في الدين، فإن ملكها بعد ذلك فالحكم كما مر في المرهونة. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، والذي تقدم في ملك المرهونة بعد الإحبال أنها تعتق على الراجح، وحينئذ فيقال لم جعلها كالمرهونة في ما إذا ملكها بعد الإحبال، ولم يجعلها كالمرهونة وقت الإحبال حتى يجيء في عتقها ثلاثة أقوال: الثالث التفصيل بين الموسر والمعسر، بل جزم بعتقها على الموسر وبعدمه على المعسر. قوله: وكذا الحكم في استيلاد الجارية الجانية وفي استيلاد الوارث جارية التركة إذا كان على المورث دين وإن لم نحكم بثبوت الاستيلاد في الحال وجبت قيمة الولد في جارية العبد المأذون، وفي جارية التركة ولا يجب في الجانية والمرهونة لأن حق المجني عليه والمرتهن لا يتعلق بالولد. انتهى.

تابعه عليه في "الروضة" والذي ذكره في ولد جارية التركة هنا قد خالفه في الباب الثالث من كتاب الرهن فذكر ما حاصله أن الصحيح أن حق الورثة لا يتعلق بالولد بالكلية حتى لا تجب قيمته على الوارث، وقد تقدم هناك ذكر عبارته. قوله: ولو أعتق عبد المأذون وعلى المأذون دين، أو أعتق الوارث عبدًا من التركة، وعلى المورث دين قال البغوي: قيل في نفوذ العتق قولان كإعتاق المرهون والمذهب أنه إن كان معسرًا لم تنفذ وإن كان موسرًا نفذ كالاستيلاد وعليه أقل الأمرين من الدين وقيمة العبد كإعتاق العبد الجاني. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في المسألة الأولى ليس على إطلاقه، بل محله إذا لم يأذن العبد والغرماء، فإن أذنوا جاز كما سبق إيضاحه في باب معاملة العبيد، وقد سبق قريبًا في باقي التصرفات ما يؤخذ منه أيضًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره في المسألة الثانية وهي إعتاق الوارث سبق الكلام عليه واضحًا في الباب الثالث من أبواب الرهن فراجعه. قوله: وتزويج التي تعلق المال برقبتها دون إذن المجني عليه لا يجوز إن كان السيد معسرًا، فإن كان موسرًا فأحد الوجهين أنه يصح ويجعل اختيارًا للفداء. انتهى كلامه. قال في "الروضة" من زياداته: الأصح هو الجواز والذي ذكره يشكل على منع البيع في هذه الحالة وقد سووا في الرهن بين إزالة الملك وتنقيصه في الامتناع. قوله: الثالثة: تزويج السيد أمته بالملك أو بالولاية فيه وجهان: أظهرهما أنه بالملك لأنه يملك الاستمتاع بها كما يملك تزويجها والتصرف [في ما يملك استيفاؤه ونقله إلى الغير يكون نحو الملك] (¬1)، ويتفرع عليه ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

مسائل منها إذا كان لمسلم أمة كتابية فظاهر المذهب أنه له تزويجها بالملك، وإذا قلنا بهذا فهي لا تصلح للحر المسلم إنما يزوجها من الحر الكتابي أو من العبد المسلم إذا جوزنا لهما ذلك. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التعليل الذي ذكره منقوض بما إذا كانت الأمة لا تحل له. الأمر الثاني: أن حصره التزويج في الحر الكتابي والعبد المسلم غير صحيح، فإن العبد الكتابي يجوز له نكاح الأمة الكتابية على الصحيح، ولو حذف لفظ الحر لاستقام وقد تفطن في "الروضة" لهذا الاعتراض فحذف التقييد بالمسلم فقال: بعبد أو حر كتابي هذه عبارته، ولو سلك ما سلكناه لكان أولى لأن إطلاق العبد يدخل فيه الكتابي وغيره كالوثني والمجوسي وعابد القمر والشمس، فإن الصحيح أن العبد يبقي على هذا الدين ولا يقتل. قوله في أصل "الروضة": فإن جوزنا أي تزويج أمة المحجور عليه. فقال الإمام: يجوز تزويج أمته الثيب الصغيرة وإن لم تجز تزويجها، ولا يجوز للأب تزويج البكر البالغة قهرًا، وإن كان يقهرها وفي من يزوج أمة الصغير والمجنون وجهان أحدهما: ولي ماله نسيبًا كان أو وصيًا أو قيمًا كسائر التصرفات. وأصحهما: أنه ولي النكاح الذي يلي المال، وعلى هذا غير الأب والجد لا يزوج أمة الصغير والصغيرة، والأب لا يزوج أمة البنت الصغيرة وإن كانت مجنونة زوج وإن كانت لسفيهة فلابد من إذنه. انتهى. وهذا الكلام المذكور في تزويج أمة البنت الصغيرة مضطرب فإنه نقل أولًا عن الإمام جوازه، ولم يذكر فيه خلافًا، بل ارتضاه وأقره وانتقل

إلى غيره، ثم ذكر في آخر الكلام أنه لا يجوز، وهذا الذي وقع فيها سببه سوء الاختصار، فإن الرافعي بعد ذكره لكلام الإمام، قال: وهذا يوافق وجهًا للأصحاب في أن ولي المال يزوج أمة الصغير والمجنون، ثم قال: والأظهر وجه آخر وهو أن الذي يزوجها هو ولي النكاح الذي يلي المال وعلى هذا غير الأب والجد لا يزوجها لأنه لا يزوج الصغيرة والصغير والأب لا يزوج أمة البنت الصغيرة هذا كلامه، فاختصره في "الروضة" على هذا النمط المتقدم وعجيب كونه لم يتفطن له مع قرب ما بين الكلامين.

الموانع

قال -رحمه الله-: القسم الثالث من الكتاب في الموانع وهي أربعة الجنس الأول: المحرمية قوله: وأربع نسوة يحرمن في النسب وفي الرضاع قد يحرمن وقد لا يحرمن إحداهن أم الأخ والأخت من النسب حرام لأنها إما أم أو زوجة أب، وفي الرضاع إن كان كذلك حرمت أيضًا، وإن لم يكن كما إذا أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم، ثم قال: الثانية أم نافلتك أي ولد ولدك تحرم في النسب لأنها إما بنتك أو زوجة ابنك. الثالثة: جدة ولدك في النسب حرام لأنها إما أمك أو أم زوجتك. الرابعة: أخت ولدك من النسب حرام لأنها إما بنتك أو ربيبتك بخلاف الرضاع في الكل. انتهى ملخصًا. وهذه الصور الأربع قد ذكر الرافعي في كتاب الرضاع أنه لا حاجة إلى استثنائها ونقل النووي هنا من زياداته عن المحققين مثله، ولهذا لم يستثنها الشافعي ولا الجمهور ولا استثنيت في الحديث الصحيح لأن أم الأخ لم تحرم لكونها أم أخ ولهذا لم تعد أم الأخ من المحرمات بل إنما حرمت لكونها أمًا أو زوجة أب، فأم الأخ والأخت من الرضاع إن كانت أمًا أو زوجة أب كانت حرامًا أيضًا وإن لم تكن أمًا ولا زوجة أب لم تكن حرامًا، ومثل هذا لم يحرم من النسب، فإنه لا يوجد في النسب أم أخ ولا أم أخت ليست أمًا ولا زوجة أب وإنما تحتاج إلى الاستثناء لو كان يوجد في النسب مثل أم الأخ والأخت الحلال في الرضاع، وذلك غير

موجود فإن أم الأخ والأخت الحلال في الرضاع هي التي ليست أمًا ولا زوجة أب [لا توجد في النسب أم أخ ليست أمًا ولا زوجة لأب] (¬1) وكذلك العمل في البواقي والجواب الجامع أن يقول الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، وهذه المسائل لم تدخل لأنا قلنا تحرم الأم والبنت ونحو ذلك ولا يوجد في الرضاع أم حلال ولا بنت حلال، ولم يقل في النسب تحرم أم الأخ وأم الأخت وأم الولد وجدة الولد وأخت الولد، والمسائل المستثناة إنما تدخل في هذا اللفظ لا في لفظ الأم والبنت ونحوهما فاللفظ المذكور في المحرمات لا يدخل فيه هذه المسائل، واللفظ الذي تدخل فيه هذه المسائل لم يذكر في المحرمات، وحذف في "التعجيز" أم الحاقد، وزاد ثلاث مسائل وهي أم العم وأم الخال وأخو الابن فقال الاستثناء أم أخ أو عم أو خال وجدة ابن وأخيه وأخوه وقوله وأخوه أي أخو أبيه وصورته في إمرأة لها ابن, ثم إن ابنها ارتضع من امرأة أجنبية لها ابن فذاك الابن أخو ابن المرأة المذكورة أولًا, ولا يحرم عليها أن تتزوج بهذا الذي هو أخو أبيها، والكلام في هذه المسائل كالكلام في ما سبق وقد جمع بعضهم الأربعة التي ذكرها الرافعي في بيتين فقال: أربع في الرضاع هن حلال ... وإذا ما ناسبتهن حرام أي جدة الابن وأخت الابن ... وأم الأخ وأم الحافد قوله جدة ابن وأخته ثم أم لأخيه وحافد والسلام في أصل "الروضة": فأما النكاح الفاسد فلا يتعلق به حرمة المصاهرة إلى آخره. وما جزم به من عدم التحريم قد جزم بعكسه في "دقائق المنهاج" فقال: وقول "المحرر" تحرم من جهة المصاهرة بالنكاح الصحيح الصواب حذف لفظ الصحيح كما حذفها "المنهاج" فإن حرمة المصاهرة تثبت بالنكاح الفاسد هذا كلامه, وهو غلط سببه اشتباه مسألة بمسألة وذلك أن ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الرافعي. قال في "المحرر" ويحرم من جهة المصاهرة بالنكاح الصحيح أمهات الزوجة إلى آخر ما قال ثم قال: ويحرم بالدخول في النكاح الصحيح بنات الزوجة إلى آخره. وتقييده الأول بالصحيح مستقيم دون الثاني فأراد النووي أن ينبه على كلامه الثاني فانتقل نظره إلى المصاهرة المذكورة في الكلام الأول فتكلم عليها فغلط وكان صوابه أن يقول قول "المحرر" ويحرم بالدخول في النكاح الصحيح صوابه حذف لفظ الصحيح ثم يوضح الاحتراز. قوله: وتثبت المصاهرة إذا استدخلت المرأة ماء زوجها أو ماء أجنبي بشبهة. انتهى. نقل صاحب "الحاوي" عن بعض الأصحاب ولم يخالفه أنه يشترط في التحريم باستدخال ماء الزوج أن تكون المرأة زوجة حالة الإنزال والاستدخال، وعلى هذا ففي ماء الأجنبي يشترط أن تكون الشبهة قائمة في الحالتين. قوله في المسألة: وتجب به العدة أي [باستدخال الماء لكن لا يحصل به الإحصان والتحليل وفى تقدير] (¬1) المهر ووجوبه للمفوضة وثبوت الرجعة ووجوب الغسل ووجوب المهر في صورة الشبهة وجهان: أصحهما المنع. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من عدم ثبوت الرجعة قد جزم بعكسه بعد ذلك في الكلام على الفسخ بالتعنين وستعرف لفظه هناك، ووقع الموضعان في "الروضة" كذلك وزاد عليهما موضعًا ثالثًا في الكلام على التحليل ذكر فيه أنها تثبت، واقتضى كلامه هناك أنه المعروف للشافعي وأصحابه وبذلك يظهر رجحان الفتوى بالثبوت على خلاف ما ذكره هنا، وسأذكر لفظه أيضًا هناك، واقتصر الرافعي في "الشرح الصغير" على الموضع الثاني، وهو أيضًا يؤيد ما قلناه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

قوله في "الروضة": وإذا اختلطت محرمة بعدد محصور فليجتنبهن، فلو خالف ونكح واحدة منهن لم يصح على الأصح، قال الإمام: المحصور: ما عسر عده على آحاد الناس. وقال الغزالي: كل عدد لو اجتمعوا في صعيد يعسر على الناظر عددهم بمجرد النظر كالألف فهو غير محصور، وإن سهل كالعشرة والعشرين فمحصور وبين الطرفين أوساط يلحق بأحدهما بالظن وما وقع فيه الشك استفت فيه القلب. انتهى كلامه. وما نقله -رحمه الله- عن الإمام تفسيرًا للمحصور غلط، وإنما هو تفسير لعدم المحصور، وقد ذكره الرافعي على الصواب فاشتبه على النووي.

الجنس الثاني ما لا يوجب حرمة مؤبدة

قال -رحمه الله-: الجنس الثاني: ما لا يوجب حرمة مؤبدة قوله: وضبط تحريم الجمع بين المرأتين بعبارات، ثم قال: الثالث يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما وصلة قرابة أو رضاع لو كانت تلك الوصلة بينك وبين امرأة لحرمت عليك وقصدوا بقيد القرابة والرضاع الاحتراز عن الجمع بين المرأة وأم زوجها، وإن شئت قلت بين المرأة وزوجة ابنها, [وعن الجمع بين المرأة وبنت زوجها، وإن شئت قلت بين المرأة وزوجة ابنها] (¬1) فإن هذا الجمع غير محرم، وإن كان يحرم النكاح بينهما لو كانت إحداهما ذكرًا لأنا لو قدرنا أم الزوج ذكرًا حرمت عليه زوجة الابن ولو قدرنا بنت الزوج ذكرًا حرمت عليه زوجة الابن لكن ليس بينهما قرابة ولا رضاع، وإنما ذلك التحريم بسبب المصاهرة، والمعني إن سبب تحريم الجمع ما فيه من قطيعة الرحم للوحشة والمنافسة القوية بين الضربين, روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أشار إليه فقال: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن" (¬2) والرضاع في معنى القرابة لأنه ينبت اللحم وينشز العظم، وأما المصاهرة فليس فيها رحم حتى يفرض قطعه، وقد يستغنى عن قيد القرابة والرضاع بأن يقال يحرم الجمع بين كل امرأتين أيتهما قدرت ذكرًا حرمت عليه الأخرى فتخرج الصورتان المذكورتان بقولنا أيتهما لأن أم الزوج وإن كانت تحرم عليها زوجة الابن لو قدرت ذكرًا، لكن زوجة الابن لو قدرت ذكرًا لا تحرم عليه الأخرى بل تكون أجنبية عنه. انتهى كلامه. واعلم أن الأمة وسيدتها أيتهما قدرناها ذكرًا والأخرى أنثى لحرم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه ابن حبان (4116) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، بسند ضعيف.

التناكح بينهما إذ يحرم على العبد نكاح سيدته وعلى السيد نكاح جاريته ومع ذلك يجوز الجمع بينهما للضابط والمعنى اللذين نقلهما الرافعي عن الأصحاب، ويتصور الجمع بين الحرة والأمة في العبد وكذلك في الحر إذا تزوج الأمة لإعساره، ثم أراد نكاح الحرة عليها وفي غير ذلك مما هو معروف في بابه. إذا علمت ذلك فاعلم أن تقييد الأصحاب التحريم بالقرابة والرضاع كما أخرج الصورتين المذكورتين فقد أخرج هذه الثالثة، ولم يستحضر الرافعي هذه الصورة فظن أنه لا يخرج بها سوى الأوليين فذكر أنه يصح الاستغناء عن هذا القيد بقوله أيتهما فلزم خروج هذه الصورة، وأن يكون الضابط غير جامع ولم يذكر في "الروضة" ما ذكره الرافعي من هذا الكلام الأخير فسلم من الاعتراض وإن كان يظن أنه لا يخرج سوى الصورتين. قوله: وإذا اشترى أختين فوطئ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى تحرم الأولى، ثم قال ولا يكفي استبراؤها لأنه لا يزيل الفراش، وعن القاضي الحسين أن القياس الاكتفاء لأنه يدل على البراءة. انتهى. وهذا النقل المذكور غلط على القاضي فإن الذي رأيته في "تعليقته" إنما هو الجزم بعدم الاكتفاء، وأورد عليه أمورًا وأجاب عنها، ثم إن التعليل الذي نقله عنه الرافعي واقتصر عليه عجيب فإنه لا مناسبة فيه وحده لما ذكره، وله تتمة ذكرها القاضي، والمراد لا يعلم إلا بها فقال: فإن قال قائل وجب أن يقولوا بالجواز عند الاستبراء كما يجوز له تزويجها هذا كلامه، ثم أجاب عنه والسبب في أمثال هذه الأمور أن الرافعي لم يقف على كلام القاضي نفسه وإنما ينقل عنه بوسائط يحصل معها التحريف. قوله: ولو كان تحته صغيرة وكبيرة مدخول بها فارتدت الكبيرة

وأرضعت [أمها في عدتها الصغيرة] (¬1) وقف نكاح الصغيرة فإن أصرت الكبيرة حتي انقضت العدة بقي نكاح الصغيرة بحاله، وإن رجعت إلى الإسلام بطل نكاح الصغيرة لأنها صارت أختًا للكبيرة، واجتمعت معها في النكاح، وفي بطلان نكاح الكبيرة قولان يأتي ذكرهما في نظير المسألة في باب الرضاع أظهرهما عند الشيخ أبي علي: أنه لا يبطل، بل هو كما لو نكح أختًا على أخت. انتهى. واعلم أن المسألة الآتية في الرضاع صورتها كهذه إلا أن الردة لم تقع وسيأتي هناك أن الأصح من القولين في تلك الصورة أن نكاحهما ينفسخ، وما امتازت به هذه الصورة من الردة فلا يحسن فارقًا لأنا قد تبينا بقاء أحكام "الزوجية" كلها بعودها إلى الإسلام، وحينئذ يكون الصحيح في مسألتنا هو الانفساخ أيضًا على خلاف ما نقله عن الشيخ أبى علي وأقره عليه. قوله: فرع لابن الحداد: نكح ست نسوة ثلاثًا في عقد وثنتين في عقد وواحدة في عقد ولم يعلم المُتقدم فنكاح الواحدة صحيح على كل تقدير لأنها لا تقع إلا أولى أو ثالثة أو رابعة فإنها لو تأخرت عن العقدين كان ثانيهما باطلًا فتقع هي صحيحة، وأما البواقي فقال ابن الحداد: لا يثبت نكاحهن لأن كل واحدة من عقديهما يحتمل كونه متأخرًا باطلًا والأصل عدم الصحة، قال الشيخ أبو على ما ذكره ابن الحداد غلط عند عامة الأصحاب بل يصح مع نكاح الواحدة، أما الثنتان وأما الثلاث، وهو الذي سبق الثنتين منهما ولا يعرف عينه فيوقف ويسأل الزوج فإن ادعى سبق الثنتين وصدقناه ثبت نكاحهما، وإن ادعى سبق الثلاث وصدقه فكذلك، وإن قال لا أدرى، أو لم يبين فلهن طلب الفسخ، وإن رضين بالضرر لم ينفسخ وعلى الزوج نفقة الجميع مدة التوقف، فإن مات قبل ¬

_ (¬1) في جـ: الصغيرة في عدتها.

البيان اعتدت من لم يدخل بها عدة وفاة، ومن دخل بها أقصى الأجلين من وفاة وأقراء. ويدفع إلى الفردة ربع ميراث النسوة لاحتمال صحة نكاح ثلاث معها، ثم يحتمل أن يكون الصحيح معها، نكاح الثلاث فلا تستحق غير الربع المأخوذ، ويحتمل صحة نكاح الثنتين فتستحق الثلث فتوقف ما بين الثلث والربع وهو نصف سدس بين الواحدة والثلاث لا حق للثنتين فيه ويوقف الثلثان من نصيب النسوة بين الثنتين والثلاث لا حق للواحدة فيه فإن أردن الصلح قبل البيان فالصلح في نصف السدس بين الواحدة والثلاث وفي الثلثين بين الثلاث والثنتين، وأما المهر فللمهر وللفردة المسمي، وأما البواقي فإن دخل بهن قابلنا المسمى لإحدى الفرقتين ومهر المثل للأخرى ومهر مثل الأولى وأخذنا أكثر القدرين من التركة، ودفعنا إلى كل واحدة منهن الأقل من مسماها ومهر مثلها، ووقفنا الباقي، مثاله: سمى لكل واحدة مائة ومهر مثل لكل واحدة خمسون فمسمى الثلاث ومهر مثل الثنتين أربعمائة وهي أكثر من مسمى الثنتين ومهر مثل الثلاث فيأخذ من التركة أربعمائة ويدفع إلى كل واحدة خمسين ويقف الباقى وهو مائة وخمسون منها مائة بين النسوة الخمس وخمسون بين الثلاث والورثة، فإن بان صحة نكاح الثنتين فالمائة والخمسون للورثة وإن بان صحة الثلاث فالمائة والخمسون لهن، وإن لم يدخل بواحدة أخذنا من التركة أكثر المسميين ولا تعطى في الحال واحدة شيئًا، والأكثر من المثال المذكور ثلثمائة فيقف مائتين بين الثلاث والثنتين ومائة بين الثلاث والورثة، وإن دخل بإحدى الفرقتين أخذنا الأكثر من المسمى المدخول بهن فقط ومن مهر مثلهن مع مسمى الفرقة الأخرى، فأعطى الموطوءات الأقل من المسمى ومهر مثلهن، ثم قال ما نصه: ففي المثال المذكور إن دخل بالثنتين فمهر مثلهما مع مسمى الثلاث أربعمائة وذلك أكثر من مسمى الثنتين فيأخذ أربع مائة ويعطى كل واحدة

من الثنتين خمسين ويقف مائة بينهما وبين الثلاث ومائتين بين الثلاث والورثة فإن بان صحة نكاح الثنتين دفعنا المائة إليهما والباقي للورثة، وإن بان صحة نكاح الثلاث دفعناها مع المائتين إليهن وإن دخل بالثلاث فمهر مثلهن مع مسمى الثنتين ثلثمائة وخمسون وذلك أكثر من مسمى الثلاث فيأخذ ثلثمائة وخمسين يعطى كل واحدة من الثلاث خمسين منها ويقف الباقي وهو مائتان، منها مائة وخمسون بين الثنتين والثلاث والباقي بين الثنتين والورثة فإن بان صحة نكاح الثلاث أعطيناهن مائة وخمسين والباقي للورثة، وإن بان صحة الثنتين أعطيناهما المائتين. قال الشيخ أبو على: فإن كانت المسألة بحالها ونكح أربعًا أخر في عقد رابع ولم يعرف الترتيب لم يحكم بصحة نكاح الواحدة لاحتمال وقوعه بعد الأربع، فإن مات قبل البيان وقفنا ميراث زوجاته ولا تعطى واحدة منه شيئًا، وأما المهر فإن دخل بهن أخذنا لكل واحدة الأكثر من مسماها ومهر مثلها وأعطيناها أقلهما ووقفنا الباقي بينهما وبين الورثة، فإن لم يدخل بواحدة منهن فيحتمل أن يكون الصحيح نكاح الأربع، ويحتمل أن تكون الواحدة مع الثلاث أو مع الثنتين فشطر مهر الأربع وحده ومهر الواحدة مع الثلاث مع الثنتين وتؤخذ أكثر المقادير الثلاثة ويوقف وإن دخل ببعضهن أخذت المدخول بها أكثر مهريها وتعطى منه أقلهما ويوقف الباقي بينها وبين الورثة وأخذ لغير المدخول بها مسماها فيوقف بينها وبين الورثة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" فيه أمران: أحدهما: أن تغليطه لكلام ابن الحداد المذكور في أول المسألة عجيب فقد تقدم قبل ذلك بنحو كراس قبيل الباب الخامس المعقود للأسباب المقتضية لنصب الولي في الكلام على النكاحين إذا وقعا على المرأة أن

الصحيح البطلان كما قاله ابن الحداد فراجعه. الأمر الثاني: أن تعبيره في أواخر المسألة بقوله وذلك أكثر من مسمى الثنتين فتأخذ أربعمائة إلى آخره تعبير ناقص بل ينبغي أن يقول من الثنتين مع مسمى الثلاث. انتهى كلامه. وفيما ذكره أمران: أحدهما: حيث قال: ففي المثال المذكور إن دخل بالثنتين فمهر مثلها مع مسمى الثلاث أربعمائة، وذكر أكثر من مسمى الثنتين فتأخذ أربعمائة إلى آخره، فإن هذا الكلام قد نقص منه شيء، وهو ما نصه مع مسمى الثلاث ومحل هذه الزيادة قبل التعبير بقوله فيأخذ وبعد لفظ الثنتين. الأمر الثاني: حيث قال قبل آخر كلامه بنحو سطرين: فتأخذ أكثر المقادير الثلاثة ويوقف فنقول هنا إذا وطئهن فينبغي أن يوقف الأكثر من ذلك مع مهر مثل الموطوءة في المقدارين الآخرين ومن عكسه كما سبق لنا نظيره في العقود الثلاث. قوله في الكلام على التحليل: الثالثة: لا فرق أن يكون الزوج مسلمًا أو ذميًا إذا كانت المطلقة ذمية. انتهى. واقتصاره في الذمية على المسلم والذمي يشعر بأن من عداهما كالوثني والحربي لا يحصل به التحليل وليس كذلك ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم اليهوديين مع أن الرجم متوقف على الإحصان وهو الوطء في نكاح صحيح بشروط أخرى معروفة، وقد نص على ذلك في "الأم" أيضًا فقال هنا بعد أن استدل برجم اليهوديين ما نصه: وأصل معرفة هذا أن ينظر إلى كل زوج إذا انعقد نكاحه لا ينفسخ لفساد العقد. هذا لفظه. والكفار أنكحتهم صحيحة لا محكوم بانفساخها وفسادها، وذكر

النووي في "الروضة" هذا الإعتراض فقال: قلت: لا يشترط في تحليل الذمية للمسلم وطء ذمي، بل المجوسي والوثني يحلانها أيضًا للمسلم كما يحصنانها صرح به إبراهيم المروذي هذا كلامه، وكأنه لم يظفر بها لغير إبراهيم المذكور وأيضًا فاستدراكه بالمجوسي لا يستقيم لأنه من أهل الذمة أيضًا. قوله من "زياداته": ولو طلقها طلاقًا رجعيًا باستدخال الماء قبل الدخول، ثم وطئها في العدة لم تحل للأول، وإن راجعها نص عليه الشافعي والأصحاب. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من الجزم بثبوت الرجعة باستدخال الماء قد سبق منه في الكلام على التحريم بالمصاهرة أن الأصح خلافه وسبق ذكر لفظه هناك، لكنه سيذكر في الكلام على الفسخ بالعنة أن الرجعة تثبت على وفق المذكور هنا. قوله: ولو نكحها على أن لا يطأها إلا مرة أو على أن لا يطأها نهارًا فللشافعي في صحته نصان فقيل هما قولان، ثم قال: وأصحهما وبه قال الربيع أنهما محمولان على حالين فحيث قال يبطل النكاح أراد ما إذا شرطت الزوجة أن لا يطأها وحيث قال يصح أراد ما إذا شرط الزوج ذلك والفرق أن الوطء حق له فله تركه والتمكين حق عليها فليس لها تركه، ولك أن تقول إذا شرط أحد المتعاقدين شرطًا فإن لم يساعده صاحبه لم يتم العقد، وإن ساعده فالزوج بالمساعدة تارك لحقه [فهلا كانت مساعدته] (¬1) كاشتراطه وهي بالمساعدة مانعه حقه فهلا كانت مساعدتها كاشتراطه. انتهى كلامه. فيه أمور: ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

أحدها: أن ما ذكرناه هنا من تصحيح [الطريقة الحاملة للنصين على حالين ومن تصحيح] (¬1) التفصيل قد خالفهما في "الشرح الصغير" فإنه صحيح طريقة القولين، وصحح منها البطلان فقال ما نصه: ولو نكحها على أن لا يطأها إلا مرة ففيه قولان، ويقال وجهان أحدهما: بطلان النكاح لإخلال هذا الشرط بمقصود العقد وهو الأشبه. ووجه الثاني: القياس على ما إذا نكحها بشرط أن لا يتزوج عليها، وقيل لا خلاف في المسألة، ولكن إذا شرطت هي أن لا يطأها بطل النكاح، ولو شرط الزوج صح لأن الوطء حقه فله تركه، والتمكين حق عليها. هذا كلامه. وعبارة "المحرر" توافق ما في "الشرح الصغير" فإنه جزم بالبطلان، ولم يفصل بين أن يكون هو الشارط أم لا، وتبعه عليه النووي في "المنهاج" لكنه صحح في "تصحيح التنبيه" ما صححه في "الروضة" من التفصيل تبعًا للرافعي. الأمر الثاني: أن قول الرافعي: فحيث قال: يبطل، أراد ما إذا شرطت الزوجة أن لا يطأها، فيه نظر لأن الشرط إنما يؤثر إذا كان مقارنًا للعقد والمرأة لا تعقد، لا جرم أن صاحب "التنبيه" عبر بقوله: أهل الزوجة، وعبر في "المهذب" بقوله من جهة المرأة. الأمر الثالث: أن هذا الخلاف يجري أيضًا في ما إذا شرط أن لا يطأها مطلقًا، كذا نقله الرافعي بعد ذلك في باب مثبتات الخيار في السبب الرابع المعقود للعنة وحذفه من "الروضة" لتوهمه أنه قد سبق ذكره وليس كذلك، وقد ذكره أيضًا صاحب "التنبيه" وغيره، وذكر الرافعي في كتاب الصداق في الباب الثاني منه وهو المعقود للصداق الفاسد كلامًا ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

حاصله أن الخلاف في الإطلاق قد تقدم في الكلام على التحليل فقال: والضرب الثاني: ما يحل بمقصود النكاح كشرطه أن لا يطلقها أو لا يطأها، وقد سبق الكلام في الصورتين في فصل التحليل هذه عبارته وتبعه على ذلك في "الروضة" مع أن ذلك الخلاف لم يتقدم له ذكر هناك كما أوضحناه. وقد سبق في البيع الكلام في أن هذا التفصيل الذي صححوه هنا هل يجرى هناك أم لا فراجعه. قوله: ولو تزوج امرأة على أن لا تحل له ففي "النهاية" أنه يجب أن يلتحق ذلك بالخلاف في شرط الامتناع عن الوطء وقال في "الوسيط": ينبغي أن يفسد لما فيه من التناقض. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا والأصح قول الغزالي، كذا قاله في "الروضة" من "زياداته". قوله: السادسة: إذا قالت المطلقة ثلاثًا نكحت زوجًا آخر ووطئ وفارقني وانقضت عدتي منه قيقبل قولها عند الاحتمال، وإن أنكر الزوج صدق في أنه لا يلزمه إلا نصف المهر وذلك لأنها مؤتمنة في انقضاء العدة والوطء مما يتعذر إقامة البينة عليه، ثم إن غلب على ظنه صدقها فله نكاحها من غير كراهة، وإن لم يغلب فالأولى أن لا ينكحها. انتهى كلامه. تابعه على هذا الإطلاق في "الروضة" مع أن محل قبول قولها إنما هو بالنسبة إلى ما بينها وبين الزوج المطلق خاصة أو إلى الحاكم أيضًا ولكن أقامت بينة على الطلاق من الثاني فأما إذا اعترفت بذلك بين يدي الحاكم، ولم تقم عليه بينة فإنه لا يزوجها هكذا صرح به الرافعي قبل باب دعوى النسب نقلًا عن "فتاوى البغوي" من غير اعتراض عليه فقال من جملة مسائل نقلها عنه ما نصه: فإنه إذا حضر عند القاضي رجل وامرأة

واستدعت تزويجها من الرجل وذكرت أنها كانت زوجة فلان فطلقها أو مات عنها لم يزوجها القاضي ما لم تقم حجة على الطلاق أو الموت لأنها أقرب بالنكاح لفلان هذا لفظه، وراجعت الفتاوى المذكورة فرأيته نقله عن القاضي الحسين أيضًا لكن ذكر القاضي في فتاويه ما يشكل على هذا فقال: إنها إذا ادعت علم الولى بوفاة زوجها أو طلاقه إياها فأنكر فإنها تحلف، ويأمره الحاكم بتزويجها أو يزوجها الحاكم. قوله من "زوائده": جزم الفوراني بأنه إذا غلب على ظن المطلق ثلاثًا كذب المرأة في دعوى التحليل لم يحل له نكاحها، وتابعه الغزالي، وهو غلط عند الأصحاب، ولعل الرافعي لم يحك هذا الوجه لشدة ضعفه. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم حكاية الرافعي له ليس كذلك فقد حكاه في آخر الكتاب الثاني المعقود لأركان الطلاق عن الروياني إلا أنه عبر بقوله: يجب البحث، وهو معناه. قوله أيضًا من "زوائده" في المسألة: قال إبراهيم المروذي: ولو كذبها الزوج والولي والشهود لم تحل على الأصح. انتهى كلامه. وقد سبق من كلام الرافعي بقليل أن الزوج إذا اعترف بكذبها لا يحل له نكاحها، ولم يحك فيه خلافًا وهذه الزيادة التي ذكرها النووي لا حاجة إليها، وتوهم اشتراط الاجتماع في التحريم ولا يتصور القول به. نعم استفدنا منها الإشارة إلى خلاف في المسألة.

الجنس الثالث من الموانع الرق

قال -رحمه الله-: الجنس الثالث: من الموانع الرق قوله: فإن كان تحته حرة لا يتيسر الاستماع بها كما إذا كانت صغيرة أو هرمة أو غائبة أو مجنونة أو مجذومة أو برصاء أو رتقاء أو مضناة لا تحتمل الجماع فوجهان: أحدهما: أنه يصح نكاح الأمة وهو الأصح عند صاحب "المهذب" وبه أجاب ابن الصباغ وطبقة من العراقيين، وأجازه القاضي الحسين. والثاني: المنع وهو المذكور في الكتاب و"النهاية" و"التهذيب". انتهى ملخصًا. تابعه في "الروضة" على عدم التصريح بالتصحيح وكذلك في "الشرح الصغير" أيضًا، وكلامه في "المحرر" يقتضي المنع فإنه قال: ولا ينكح الحر مملوكة الغير إلا بشروط أحدها: أن لا تكون تحته حرة، والأحوط المنع، وإن كانت لا تصلح للاستمتاع، هذا لفظه. وصرح النووي في "المنهاج" بحكاية وجهين وبتصحيح الجواز، ولم يجعله من زوائده بل أدخله في كلام الرافعي وهو عجيب. قوله: الثالثة: لو لم ترض الحرة التي يجدها إلا بأكثر من مهر مثلها وهو واجد له، فالمنقول في "التهذيب" أنه لا ينكح الأمة، وفي "التتمة" أنه ينكحها كما يباح التيمم إذا بيع الماء بأكثر من ثمن المثل وتوسط الإمام والغزالي فقالا: إن كانت المغالاة بقدر كبير يعد بذله إسرافًا فله نكاح الأمة، وإلا فلا وفرقوا بين مسألة التيمم، وبين ما يجئ فيه من وجهين:

أحدهما: أن الحاجة إلى الماء تتكرر. والثاني: أن النكاح يتعلق به أعراض كلية لا يعد باذل المال في مثلها مغبونًا. انتهى. والذي ذكره البغوي قد نقله في "الإبانة" عن القفال والعمراني في "الزوائد" عن الطبري لكن صحح النووي من زوائده الجواز قال: وقطع به آخرون وبه أجاب صاحب "الحاوي الصغير"، ولم يصرح في "الكبير" بتصحيح، واعلم أن مسألة الغلو غير مسألة الزيادة على ثمن المثل كما أوضحته في باب السلم فراجعه. قوله: ولو بيعت الرقبة بثمن غال، والمكفر واجد له فهل يعدل إلى الصوم؟ اختلف فيه كلام صاحب "التهذيب" فقال هاهنا: لا يعدل وقال في الكفارات: يعدل وذكر ما أورده هنا ذكر من ينقل وجهًا بعيدًا أو تخريجًا غريبًا. انتهي كلامه. وما نقله -رحمه الله- عن "التهذيب" من التناقض ليس كذلك فإنه قال فيه هنا ما نصه: وكذلك رقبة الكفارة إذا بيعت بثمن غال وهو واجد له لا ينتقل إلى الصوم بخلاف التيمم لأنه يتكرر، وقال الشيخ: وعندي فيه نظر، وقال في الكفارات وإن وجد الرقبة بثمن غال وهو واجد له لا ينتقل إلى الصوم بخلاف التيمم لأنه يتكرر، قال الشيخ: وعندى فيه نظر، وقال في الكفارات: وإن وجد الرقبة بثمن غال لا يجب الشراء كما لا يجب شراء الماء إذا بيع بثمن غال، بل يتيمم. قال الشيخ: ورأيت أنه يجب أن يشتري بالثمن الغالي إذا كان واجدًا له هذه عبارته فعلمنا بقوله في النكاح وفيه نظر أنه يميل إلى عدم الوجوب على خلاف المنقول، ثم إنه في الكفارات أجاب أولًا بما يعتقده هو، ثم نقل بعد ذلك ما رآه لغيره منقولًا ووقف عليه فقال: ورأيت أنه يجب أي رأيت لغيري وهذا جواب واضح وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" هنا أن

الرافعي قد حصل له غلط من وجوه وابن الرفعة هو الغالط في جميعها كما نبهت عليه في "الهداية إلى أوهام الكفاية" فاستحضره كيلا تظن صحته وإهمالي له. قوله: فرع: ذكر القاضي ابن كج وجهين في أنه هل يجوز له نكاح الإماء مع ملك المسكن والخادم أم عليه بيعهما؟ . انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة": هو الجواز. قوله: والمعسر الذي له ابن موسر يجوز له نكاح الأمة إن لم نوجب على الابن الإعفاف وإن أوجبناه فوجهان، لأنه مستغنٍ بمال الابن. انتهى كلامه. والأصح من الوجهين أنه لا يجوز له ذلك، كذا صححه الرافعي في الكلام على إعفاف الأب وعبر بالأصح وصححه أيضًا هنا النووي من "زوائده"، ولم يستحضر ما قاله الرافعي هناك. قوله: ومن يحل له نكاح الأمة إذا قدر على مبعضة هل له نكاح الأمة المحضة؟ فيه تردد للإمام لأن إرقاق بعض الولد أهون من إرقاق كله. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وهو يقتضي الجزم بتبعيض الحرية وقد اختلف كلامهما في ذلك من وجهين: أوضحتهما في كتاب السير قبيل الكلام في الاغتنام فراجعه. قوله في أصل "الروضة" عقب المسألة من غير فاصل: وحكي عن بعض الأصحاب أن من بعضه رقيق كالرقيق فينكح الأمة مع القدرة على الحرة. انتهى كلامه. واعلم أن إمام الحرمين قد جزم بهذه المسألة، وزاد على ذلك فحكى الاتفاق عليه فقال قبيل فصل أوله الحر إذا جمع. . . . إلى آخره ما نصه:

ومن نصفه حر ونصفه عبد ينكح الأمة مع القدرة على نكاح حرة اتفق عليه الأصحاب لأن ما فيه من الرق حطه عن الكمال هذه عبارته، وجزم به أيضًا في "البسيط" و"الوجيز"، وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية"، في آخر الفصل فاعلمه، وكلام ابن الرفعة و"الروضة" لا يؤخذ منه الحكم في المسألة، بل عبارة "الروضة" توهم أن الإمام هو الحاكي عن ذلك البعض وليس كذلك، وقد سلم الرافعي من ذلك فإنه لم يأت بصيغة "عن". قوله فيها أيضًا: وإن جمع بين حرة وأمة في عقد واحد نظر إن كان ممن لا يحل له نكاح الأمة فنكاح الأمة باطل ونكاح الحرة صحيح على الأظهر، وإن كان ممن يحل له نكاح الأمه فإن وجد حرة تسمح بمهر مؤجل أو بلا مهر أو بدون مهر المثل أو حرة كتابية، وقلنا: إن هذه المعاني لا تمنع نكاح الأمة بطل نكاح الأمة قطعًا لاستغنائه عنه، وفي الحرة طريقان أظهرهما عند الإمام وبه قال صاحب "التلخيص": إنه على القولين، وقال ابن الحداد وأبو زيد وآخرون: يبطل قطعًا، لأنه جمع بين امرأتين يجوز إفراد كل منهما، ولا يجوز الجمع فأشبه الأختين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من بطلان نكاح الأمة قطعًا ليس كذلك فقد جزم القاضي أبو الطيب في "المحرر" بصحة نكاحهما وعلله بأن المنع من نكاح الأمة معدوم ونقله عنه أيضًا الروياني في "البحر" وجزم به الجرجاني في "المعاياة" في وأنكره عليه ابن الصلاح وابن الرفعة في "الكفاية" وقالا: إن ذلك لا يعرف في شيء من كتب المذهب غير "المعاياة" وقد ظهر لك بطلان ما ادعياه. الأمر الثاني: أن الأصح من الطريقتين هى الطريقة الأولى وهو

التخريج على القولين، كذا صححهما الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر. قوله: ولو جمع بين مسلمة ووثنية أو أجنبية ومحرمة أو خلية ومعتدة فهو كما لو جمع بين من لا يحل له نكاح الأمة بين حرة وأمة. انتهى. واعلم أن للأصحاب في هذه المسألة ونظائرها طريقين: إحداهما: تخريج من يصح نكاحها على القولين في تفريق الصفقة بناء على أن العلة فيها هو الجمع بين حلال وحرام. والطريقة الثانية: القطع فيها بالصحة بناء على أن العلة [هي] (¬1) الجهل بالعوض وذلك في النكاح لا يقدح. إذا علمت ذلك، فقد اختلف كلام النووي في الراجح منهما فجزم في "الروضة" هنا بطريقة القولين تبعًا لظاهر كلام الرافعي وصحح طريقة القطع في كتاب البيع من "شرح المهذب" فإنه هناك ذكرها إستطرادًا فقال في أوائل باب تفريق الصفقة ما نصه: فيه طريقان المذهب: الصحة، والثاني: فيه قولان. ¬

_ (¬1) في جـ: فيها.

الجنس الرابع: من الموانع الكفر

قال -رحمه الله-: الجنس الرابع: من الموانع الكفر قوله: والصنف الثاني الذين لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان والشمس والنجوم والصور التي يستحسنونها والمعطلة والزنادقة والباطنية فلا تحل مناكحتهم. أما المعطلة: فهم الذين يقولون بأن الأشياء وجدت بنفسها وينفون الخالق المدبر، وقد صرح الرافعي بتفسيره في آخر الباب الثاني من أبواب اللعان. وأما الزنادقة: فاختلف فيه كلام الرافعي وتبعه عليه في "الروضة" وقد أوضحت ذلك في باب الردة وغيره. وأما الباطنية: فقوم ينطقون بالشهادتين إلا أنهم يستحلون المحرمات التي نص الله على تحريمها حتى يطئ المحارم، ولهذا يقال لهم: الإباحية. قوله: والصنف الثالث من لا كتاب له لكن لهم شبهة كتاب وهم المجوس وهل كان لهم كتاب؟ فيه قولان: أشبههما نعم، وعلى القولين لا يحمل مناكحتهم، وقال أبو إسحاق وابن خربويه: يحل إن قلنا لهم كتاب وهو ضعيف. انتهى. قد عبر الرافعي في كتاب الحرية بالأظهر عوضًا عن الأشبه، وقول "المحرر" و"المنهاج" أنهم لا كتاب لهم يريد به الآن، وما نقله عن أبي إسحاق وابن خربويه قد نقله القاضي الحسين عن القديم، ونقله أبو

إسحاق المروزي [في كتاب "التوسط" عن المزني قال الإمام: وحكاه من أثق به] (¬1) عن الشيخ أبي بكر الطوسى. قوله: وإذا طهرت الكتابية عن الحيض أو النفاس ألزمها الزوج الاغتسال فإن امتنعت أجبرها عليه واستباحها، وإن لم ينو للضرورة كما تجبر المسلمة المجنونة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وحكى في باب الوضوء من "شرح المهذب" خلافًا في وجوب النية من الذمية وزوج المجنونة فقال: قال المتولي: ولا يحل لزوج الذمية إلا إذا اغتسلت بنية استباحة الاستمتاع كما لو ظاهر كافر وأراد التكفير بالإعتاق فإنه لا يحل له الاستمتاع حتي يعتق بنية الكفارة، وحكى الروياني فيه وجهين أحدهما: هذا، والثاني وهو الأقيس عنده: أنها لا تحل بلا نية منها للضرورة، وأما المجنونة فلا يحل لزوجها وطؤها حتي يغسلها، وهل يشترط نية الزوج؟ فيه وجهان، ولو امتنعت زوجة المسلم من الغسل فأوصل الماء إلى بدنها قهرًا حلت، وهل تفتقر إلى نية الزوج أم لا؟ الظاهر أنه على الوجهين في المجنونة انتهي كلام شرح "المهذب" ملخصًا، وصحح في التحقيق أنه لابد من نية الكافرة وزوج المجنونة فقال: ولو انقطع حيض كتابية أو مجنونة لم يحل الموطء حتي تغتسل الكتابية وتغسل المجنونة بنية، وقيل: لا يشترط النية فيها، ولو امتنعت منه مسلمة فغسلها قهرًا حلت هذا لفظ "التحقيق" بحروفه وهو مصحح في الكافرة والمجنونة بخلاف ما جزم به في "الروضة"، وحكى ابن الرفعة في باب الحيض من "الكفاية" عن القاضي الحسين أن الذمية لابد فيها من تغسيل الزوج ونيته فتحصلنا على ثلاثة أوجه، وفي المسألة إشكال ذكرته في كتاب الحيض من "المطالع" فليطلب منه. قوله: واختلف كلام الشافعي - رضي الله عنه - في أنه هل يجبر زوجته الكتابية ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

على الغسل من الجنابة؟ ، فقال أكثر الأصحاب: هما قولان، ومنهم من يحمل الإجبار على ما إذا طالت المدة، وكان الزوج يعافها والمنع على غير هذه الحالة، وأما المسلمة فهي مجبرة على الغسل من الجنابة، هكذا أطلقه في "التهذيب". انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من القولين في الكتابية هو الإجبار فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه أظهر القولين وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج". الأمر الثاني: أن ما نقله عن "التهذيب" وسكت عليه من كون الخلاف خاصًا بالكتابية فجزم به أيضًا في "المحرر" وهو مردود، فإن القولين جاريان في المسلمة أيضًا، قال في "الروضة" وإنما تجبر المسلمة جزمًا إذا حضر وقت الصلاة فإن لم تحضر صلاة ففي إجبارها القولان وهما مشهوران حتى في "التنبيه". قوله: ومهما ينجس فمها أو عضو آخر فلا خلاف أنه يجبرها على غسله ليمكنه الاستمتاع. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وتبعه النووي في "الروضة" وهو غريب فإن المسألة فيها قولان حكاهما الشيخ في "التنبيه". قوله في "الروضة": والذي ذكره الأصحاب في طرقهم جواز نكاح الإسرائيلية على الإطلاق من غير نظر إلى آبائها أدخلوا في ذلك الدين قبل التحريف أو بعده وليس كذلك لأن كل إسرائيلية يلزم دخول آبائها قبل التحريف، وإن أشعر به كلام جماعة من الأئمة، وذلك لأن إسرائيل هو يعقوب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبينه وبين نزول التوراة زمان طويل ولسنا نعلم أدخل كل بني

إسرائيل على كثرتهم في زمان موسى -عليه السلام- أم بعده قبل التحريف، بل في القصص ما يدل على استمرار بعضهم على عبادة الأوثان والأديان الفاسدة وبتقدير استمرار هذا في اليهود فلا يستمر في النصاري لأن بني إسرائيل بعد بعثة عيسي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم من آمن به ومنهم من صد عنه فأصر على دين موسى، ثم من المتنصرين من تنصر على تعاقب الزمان قبل التحريف وبعده، ولكن كأن الأصحاب اكتفوا بشرف النسب وجعلوه جائز النقض دخول الآباء في الدين بعد التحريف حتي فارق حكمهن حكم غير الإسرائيليات إذا دخل آباؤهن بعد التحريف. انتهى كلامه. وتعبيره في أول كلامه بقوله: "وليس كذلك" تحريف وصوابه حذف الكاف فنقول: "وليس ذلك" أي: ولم يقل ذلك لكذا بل لكذا فافهم ما ذكرته فإن المعنى يفسد بذكرها فتأمله معها ودونها، وهو في الرافعي على الصواب. قوله: المسألة الثانية الصابئون طائفة تعد من النصارى، والسامرة طائفة تعد من اليهود، والمنصوص أنهم إن خالفوا اليهود والنصارى في أصل دينهم ولا يبالون بنص كتابهم فلا يناكحون، وإن خالفوهم في الفروع، وأولوا نصوص كتابهم جاز وأطلق بعضهم قولين، ثم قال بعده قال الإمام: ولا مجال للتردد في الذين يكفرهم النصاري واليهود ويخرجونهم من جملتهم، نعم يمكن التردد في الذين ينزلونهم منزلة المبتدع فينا، قال: وليس هذا تعريضًا بتحريم نكاح المبتدعة فينا. انتهى كلامه. وما ذكره الإمام من عدم الخلاف في هذه الصورة، ولم يصرح بموافقته ولا بمخالفته فالأمر فيه كما قاله -أعني الإمام- فقد صرح به الرافعي في كتاب عقد الذمة، ولم ينقله عن أحد وتابعه عليه في "الروضة".

قوله: ولو انتقل المشرك من دين نقر أهله عليه إلى مثله فقولان: أصحهما عند القاضي أبى حامد وصاحب "التهذيب": أنه يقر عليه، فإن قلنا: لا يقر عليه فقولان: أظهرهما عند الإمام أنه لا يقبل منه إلا الإسلام. انتهى. أما المسألة الأولى فقد اختلف فيها كلام الرافعي فصحح في "المحرر" أنه يقر عليه، وعبر بالأصح، وصحح في "الشرح الصغير" أنه لا يقر وعبر أيضًا بالأصح. وأما الثانية فالأصح فيها في "الشرح الصغير" أنه لا يقبل منه غير الإسلام. وقال في "المحرر": إنه المرجح من القولين وصحح النووي في كتبه أنه لا يقر وأنه يتعين الإسلام. قوله: من أحد أبويه كتابي والآخر وثني نقر بالحرية على المذهب، وأما مناكحته ومناكحة من أحد أبويه مجوسي والآخر يهودي أو نصراني وذبيحته فإن كانت الأم هي الكتابية لم يحل، وكذا إن كان هو الأب على الأظهر هذا في حال صغر المتولد منهما، فأما إذا بلغ وتدين بدين الكتابي منهما فقال الشافعي: تحل مناكحته وذبيحته فمن الأصحاب من أثبت هذا قولًا، ومنهم من قال: لا أثر لبلوغه، وحمل النص على ما إذا كان أحد أبويه يهوديًا والآخر نصرانيًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الخلاف الأخير الذي حكاه هنا من غير ترجيح قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" والأصح منه عدم الحل، فقد صححه الرافعي في أول كتاب الصيد والذبائح وعبر بالأصح، وحذف النووي المسألة من "الروضة" هناك ظنًا منه أنه استوفاها في هذا الموضع فلزم خلو "الروضة" عن هذا الترجيح المهم.

الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر في باب الصيد والذبائح من "الروضة" تبعًا للرافعي ما نصه. والمناكحة والذبيحة لا يفترقان إلا أن الأمة الكتابية تحل ذبيحتها دون مناكحتها ثم ذكر في أصل "الروضة" هاهنا أن الأم إذا كانت هى الكتابية فلا تحل مناكحتها قطعًا، وما ادعاه من القطع ليس كذلك، ولم يذكره الرافعي أيضًا فقد رأيت في "الكامل" للمعافى الموصلي خلافًا في ذلك فقال في باب الصيد والذبائح ما نصه: وعند أبي حنيفة أي الأبوين كان كتابيًا تحل ذبيحته وحكاه بعض الأصحاب قولًا لنا هذا لفظه، وقد تقرر أن الملتين سواء حتى يجيء في كل منهما ما يجيء في الآخر فيكون هذا القول جاريًا في النكاح أيضًا. قوله: وحكي الإمام أن من الأصحاب من جعل الطلاق على قولي وقف العقود وأجراهما في ما إذا أعتق عبد أبيه على ظن أنه حي فبان ميتًا والمذهب الأول فإن الطلاق والعتاق يقبلان صريح التعليق فأولى أن يقبلا تقدير التعليق. انتهى. وهذه المسألة مذكورة في الرافعي و"الروضة" في مواضع واختلف كلامهما في الأصح من الطريقين، وقد أوضحت ذلك في البيع. قوله: في الأنكحة الحادثة في الشرك ثلاثة أوجه وسماها الغزالي أقوالًا الصحيح أنها محكوم بصحتها، قال الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (¬1) ولأنهم لو ترافعوا إلينا أو أسلموا أقررناهم. والثاني: أنها فاسدة لعدم مراعاتهم الشروط. والثالث: لا نحكم بصحة ولا فساد بل يتوقف إلى الإسلام فما قرر عليه بانت صحته وما لا بان فساده. إذا تقرر هذا، فمقتضى كلام المتولي ¬

_ (¬1) سورة المسد (4).

وغيره أن الخلاف مخصوص بالعقود التي نحكم بفساد مثلها. وقال الإمام: من يحكم بفسادها يلزمه أن لا يفرق بين ما عقدوه بشروطنا وغيره، والمصير إلى بطلان نكاح يعقد على وفق الشرائع مذهب لا يعتقده ذو حاصل. انتهى. زاد في "الروضة" فقال: الصواب التخصيص بل لم يصرح أحد بطرده في الجميع وليس في كلام الإمام إثبات نقل طرده. انتهى. وما ذكره النووي من عدم القول بذلك مردود فإن الماوردي في "الحاوي" قد حكى في المسألة طريقين: إحداهما: حاكية لثلاثة أقوال. قال: والثانية: وهي طريقة الأكثرين إنكار الخلاف، وحمل قول الصحة على ما اجتمعت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، وقول الفساد على حالة وجود الموانع وانتفاء الشروط، وقول الوقف على انتفاء الموانع، ولكن مع الإخلال بالشروط كفقد الولي أو الشهود أو اللفظ الخاص، ومعنى هذا القول أنهم إذا أسلموا عفونا عن الخلل وأقررناهم عليه. انتهى ملخصًا. وذكر الروياني في "البحر" مثله، ومقتضاه إثبات الخلاف مطلقًا عند القائل بالطريقة الأولى. قوله: وإذا أصدق الكافر امرأة صداقًا فاسدًا كخمر وخنزير ثم أسلما بعد قبضه فلا شيء لها، وإن كان قبل القبض وجب لها مهر المثل، ولو أصدقها حرًا مسلمًا استرقوه ثم أسلما إما قبل القبض أو بعده فلا يقر في يده ويجب مهر المثل هكذا ذكروه، وقياس ما سبق أن يخرج من يدها، ولا ترجع بشيء كما تراق الخمر المقبوضة ولا تأخذ شيئًا. انتهى ملخصًا. تابعه عليه في "الروضة" وهو يوهم أن وجوب مهر المثل فيما إذا وقع

الإسلام بعد القبض خاص بما إذا أصدقها الحر المسلم لأنه ذكر أولًا قاعدة عامة، ومثل لها بالخمر والخنزير، ثم أخرج منها الحر المسلم فبقي ما عداه على الأصل لكنه ليس خاصًا به، فقد نص الشافعي في "الأم" على أن عبد المسلم ومكاتبه وأم ولده كالحر فاعلمه فإنه موضع مهم ذكر ذلك في كتاب "سير الواقدي" في باب الحربى يصدق امرأته، وأما إلحاق الرافعي الحر بالخمر فبينهما فرق وهو أنا نقرهم في حال الكفر على الخمر دون الأسير. قوله: فرع: لو نكح الكافر على صورة التفويض وهم يعتقدون أن لا مهر للمفوضة بحال ثم أسلموا فلا مهر، وإن كان الإسلام قبل المسيس لأنه قد سبق استحقاق وطء بلا مهر. انتهى كلامه. وهذا الفرع قد ذكر ما يشكل عليه في الباب الثالث من أبواب الصداق وسأذكره هناك إن شاء الله تعالى مبسوطًا فراجعه. قوله: الصورة الثانية أسلم وتحته أم وبنت، ثم قال في آخره وإن دخل بالبنت فقط ثبت نكاحها، وحرمت الأم أبدًا ولا مهر لها عند ابن الحداد ولها نصفه عند القفال إن صححنا أنكحتهم، وإن دخل بالأم فقط حرمت البنت أبدًا، وهل له إمساك الأم؟ يبنى على القولين إذا لم يدخل بواحدة إن أجبرناه أمسكها وإلا فلا ولها مهر المثل بالدخول. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلإمه من وجوب مهر المثل لها إنما يستقيم على القول الضعيف وهو بطلان أنكحة الكفار، فإن قلنا بالصحة وهو الصحيح وجب المسمى فافهم ذلك. قوله: ولو أسلم العبد وتحته أربع حرائر فأسلمت منهن بنتان ثم عتق ثم أسلمت الباقيات فليس له إلا اختيار اثنتين، وإن أسلمت معه واحدة ثم عتق ثم أسلمت الباقيات فله اختيار أربع، وذكر الأصحاب عبارة جامعة

لهذه المسائل، فقالوا: الرق والحرية إذا تبدل أحدهما بالآخر فإن بقي من العدد المعلق بكل واحد من الزائل فالطارئ شيء أثر الطارئ وكان الثابت العدد المعلق به زائدًا كان أو ناقصًا، وإن لم يبق منهما جميعًا شيء لم يؤثر الطارئ، ولم يغير حكمًا، وإذا أسلم معه حرتان ثم عتق لم يبق من العدد المعلق بالزائل شيء، وبقي من العدد المعلق بالطارئ اثنتان فلم يثبت العدد المعلق بالطارئ وإذا أسلمت معه واحدة وبقي من العدد المعلق بالزائل شيء، ومن العدد المعلق بالطارئ شيء فأثر العتق وثبت حكمه، ثم قال بعد ذلك في أثناء التفاريع، ولو أسلمت معه واحدة من الإماء الأربع ثم عتق ثم أسلمت البواقي: فقال في "التتمة": لا يختار إلا واحدة على ظاهر المذهب، وهذا هو الجواب في "التهذيب" لكن قياس الأصل الذي سبق أن يجوز له اختيار اثنتين لأنه لم يستوف عدد العبيد قبل العتق. انتهى كلامه. ولقائل أن يقول هذه الصورة لم يتناولها الضابط السابق وذلك لأنهم قيدوه بما إذا تعلق بكل من الحرية والرق عدد، ونكاح الإماء لا يتعلق بالحرية منه عدد بل الرق فقط، وإنما يدخل تحت الضابط الحرائر دون الإماء، وكأنهم نظروا إلى أنه لما صار حرًا قبل إسلام البواقي ثم أسلم كان حكمه حكم الحر إذا أراد أن يعقد على الأمة ابتداء، والفرض أن في نكاحه التي أسلمت معه قبل عتقه فلم يوجد شرط نكاح الأمة. قوله الثانية: أسلم الزوج الرقيق ففي ثبوت الخيار لزوجته الكافرة وجهان: أظهرهما على ما ذكره الإمام والمتولي: المنع لأنها رضيت قبل ذلك برقه. والثاني: يثبت وهو ظاهر النص لأن الرق نقض في الإسلام لكونه فيه لا يساوي الحر في الأحكام، وفي الشرك لا يتميز الحر عن الرقيق.

قال الداركي: وهذا الخلاف في حق أهل الحرب فأما الذمية مع الذمي فلا خيار لها لأنها رضيت بأحكامنا، ثم قال: وقيد الغزالي في "الوجيز" و"الوسيط" المسألة بما إذا أسلم على حرة وليست مختصة بها ولا بما إذا أسلمت أيضًا، بل الوجهان جاريان في الحرة والأمة إن سلمت أم لا إذا كانت كتابية كذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من إنكار التقييد بالحرة وكون الحكم في الأمة كذلك غلط عجيب فاحش لأنها إذا كانت أمة كانت مساوية له في الرق فلا فسخ لها، وإن امتاز بالإسلام فكيف يجيء الخيار؟ ، وحينئذ فلابد من تقييد المسألة بالحرة كما ذكره الغزالي، وقد صرح به هكذا حكمًا وتعليلًا جماعة منهم الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" ناقلًا له عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: أما الأمة فلا خيار لها لأنها مساوية له هذه عبارته، وقيد المسألة بذلك أيضًا خلائق منهم الفوراني في "الإبانة"، والمتولي في "التتمة". الأمر الثاني: أن ما ذكره من كونه لا فرق بين أن تسلم التي أسلم عليها أم لا غلط أيضًا فإنه يقتضي جواز نكاح الأمة الكتابية وهو ممتنع قطعًا كما أوضحوه في هذا الباب وغيره، وقد تابعه في "الروضة" على الأمرين وأكد ذلك بقوله: "فاعلم ذلك" فتأمل ذلك وتعجب له، وأسأل الله التوفيق والعصمة عن مثله، وكلام البغوي لا يقتضي ما ذكره بل فيه إيهام يوضحه اسحتضار القواعد المقررة. الأمر الثالث: أن الراجح عند الأصحاب خلاف ظاهر النص فقد قال في "البحر": إن الأصح عدم الخيار، وجزم به أيضًا الغزالي في "الوجيز"، وقال في "البسيط"، والفوراني في "الإبانة": إنه القياس ولذلك عبر به المتولي، إلا أن الرافعي أبدله بالأظهر.

الأمر الرابع: أن تعليل الرافعي المنصوص تعليل ناقص تبعه عليه في "الروضة" وزاده خللًا، وقد أوضحه في "التتمة" فقال: لأن حكم حرمتها إنما يثبت بإسلام الزوج لأن زوجة المسلم لا تسترق فتكون حريتها بعد إسلامه كالحرية الطارئة، وكذا علل به الغزالي أيضًا إلا أنه لم يستدل على ذلك بمنع الاسترقاق فبقي ذلك دعوى بلا دليل، وعلله البغوي في "التهذيب" بأن الرق له نقائض في الإسلام ليست في الكفر وهو لم يرض بها. قوله في الكلام على الاختيار: ثم فيه صور: إحداها: إذا طلق واحدة أو أربعًا منهن كان ذلك تعيينًا للنكاح، ثم قال: وفي "التتمة" وجه آخر أن الطلاق ليس تعيينًا لأنه روى في قصة فيروز الديلمي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "طلق أيتهما شئت" (¬1) ولو كان الطلاق تعيينًا للنكاح لكان ذلك تفويتًا لنكاحهما عليه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل هذا الوجه عن "التتمة" لكنه عبر في "التتمة" بقوله: قيل فيه مذهب آخر أنه لا يكون تعيينًا واعلم أن فيروز بفاء مفتوحة، ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت بعدها راء مهملة وفي آخره زاي معجمة كان جده من الفرس الذين بعثهم كسرى مع سيف بن ذى يزن إلى اليمن فأخرجوا عنها الحبشة واستولوا عليها نزل في حمير فلذلك يقال لفيروز الديلمي والحميرى، وفد فيروز على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسلم وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب مدعي النبوة باليمن فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قتله ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2243) والترمذي (1129) وابن ماجه (1950) وأحمد (1806) وابن حبان (4155) والشافعي (1317) والدارقطني (3/ 273) والطبراني في "الكبير" (18/ 328) حديث (843) وعبد الرزاق (12627) وابن أبي شيبة (3/ 563) والبيهقي في "الكبرى" (13836) والطحاوي في "شرح المعاني" (4862) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2847). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني: حسن.

الرجل الصالح فيروز" (¬1) وفي رواية: "قتله رجل مبارك" (¬2)، وقيل: إنما كان قتله في خلافة أبي بكر، توفي فيروز في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، ذكره النووي في تهذيبه وحديثه هذا أخرجه أبو داود في سننه بإسناد صحيح. قوله: ولو قال لواحدة: فارقتك، فعن القاضي أبي الطيب أنه كقوله: طلقتك، لأن الفراق صريح في الطلاق، وقال الشيخ أبو حامد: يكون فسخًا، وهذا أظهر عند صاحب "الشامل" والمتولي وغيرهما، واحتجوا له بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لغيلان: "اختر أربعًا منهن وفارق سائرهن" (¬3). انتهى. وهذا الذي استدلوا به لا دلالة فيه بالكلية لأنه قد قال له: "اختر أربعًا" فإذا اختارهن استغنى في المفارقات عن لفظ فتعين أن يكون المراد الفراق بالفعل لا بالقول، والكلام إنما هو في ما إذا لم يتقدم اختيار المنكوحات، وإنما ابتداء بهذا اللفظ. قوله: ونص في ما إذا قال راجعتك في العدة فقالت: بل بعدها أن القول قولها إلى آخرها. واعلم أن كلامه هنا يوهم أن الأصح تصديق السابق إلى الدعوى مطلقًا أي سواء إتفقا على تعيين وقت أحدهما أم لا وليس كذلك فتفطن ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 533) و"تهذيب الكمال" (23/ 323) و"تاريخ دمشق" (49/ 7 - 16). (¬2) انظر: "الاستيعاب" (1/ 391) و"تهذيب الكمال" (23/ 323). (¬3) أخرجه مالك (1218) بلاغًا. وأخرجه أبو داود والترمذي (1128) وابن ماجه (1953) وأحمد (4609) وابن حبان (4156) والحاكم (2780) والشافعي (1315) والدارقطني (3/ 269) والطبراني في "الاوسط" (1680) وأبو يعلى (5437) وعبد الرزاق (12621) وابن أبي شيبة (4/ 3) والبيهقي في "الكبرى" (13623) والطحاوي في "شرح المعاني" (4854) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال الألباني: صحيح.

له، واعتمد ما قالاه في باب الرجعة وسوف أذكر ذلك هناك للتنبيه على شيء وقع فيه. قوله: فرع آخر: نكحت في الكفر زوجين ثم أسلموا، فإن ترتب النكاحان فهي زوجة الأول، فإن مات الأول، ثم أسلمت مع الثاني، وهم يعتقدون جواز التزويج بزوجين ففي جواز التقرير وجهان. انتهى. قال في "الروضة": ينبغي أن يكون أصحهما التقرير.

موجبات الخيار

قال -رحمه الله-: القسم الرابع في موجبات الخيار وهي أربعة: السبب الأول: العيب وهو ثلاثة أقسام: أحدها: يشترك فيه الرجال والنساء وهو البرص والجذام والجنون. والثاني: مختص بالرجل وهو الجب والعنة. والثالث: مختص بالمرأة وهو الرتق والقرن، فالرتق انسداد محل الجماع باللحم، والقرن عظم في الفرج يمنع الجماع، وقيل: لحم ينبت فيه. انتهى. وما ذكره من حصر المختص بالمرأة في شيئين تابعه عليه في "الروضة" لكنه -أعني الرافعي- في كتاب الديات قد ذكر ثالثًا فقال: إذا كانت المرأة لا تحتمل الوطء إلا بالإفضاء لم يجز للزوج وطؤها ثم الذي أورده صاحب الكتاب هنا، وفى "الوسيط" أنه إن كان سببه ضيق المنفذ بحيث يخالف العادة فله الخيار كما في الجَب، والمشهور من كلام الأصحاب، وقد تقدم ذكره في الصداق أنه لا فسخ بمثل ذلك، ثم قال: ويشبه أن يفصل فيقال: إن كانت المرأة تحتمل وطء نحيف مثلها فلا فسخ، وإن كان ضيق المنفذ بحيث يحصل به الإفضاء من كل واطئ فهذا كالرتق، وينزل ما قاله الأصحاب على الحالة الأولى، وما في الكتاب على الثانية. هذا كلامه، وهذا التوسط الذي ذكره في المرأة لا شك في جريانه في الرجل أيضًا. قوله: وليس للزوج إجبار الرتقاء على شق الموضع، ولو فعلت هي

وأمكن الوطء فلا خيار هكذا أطلقوه، ويمكن أن يجيء فيه الخلاف المذكور في ما إذا أطلع على عيب المبيع بعد زواله. انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا قد صرح به الماوردي في "الحاوي"، ونقله عنه أيضًا في "البحر" إلا أن محله إذا زال بعد علمه، قال: فإن زال قبل علمه فلا خيار جزمًا. قوله: ودليلنا ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تزوج بامرأة فلما دخلت عليه رأى بكشحها وضحًا فردها إلى أهلها (¬1). انتهى. الكشح بكاف مفتوحة ثم شين معجمة ساكنة ثم حاء مهملة هو الجنب. وقال في الصحاح: هو ما بين الخاصرة إلى أقصر الأضلاع. والوضح بالضاد المعجمة والحاء المهملة هو البرص. قال في الصحاح: وأصله الضوء والبياض فكنوا به عن البرص: والحديث رواه البيهقى في "السنن الكبير" (¬2) من رواية ابن عمر، وقال: إن المرأة من غفار، وقال: وفي رواية: رأى بكشحها بياضًا فناء عنها، وناء بهمزة بعد الألف على وزن قال أي نهض قال في الصحاح: ناء ينأو إذا نهض بجهد ومشقة وهذا التفسير على تقدير أن يكون الحديث بالنون ويجوز أن يكون بالباء الموحدة، ومعناه رجع وقد سبق في أوائل النكاح بعض المذكور هنا. قوله: والبخر، والضبان إذا لم يقبلا العلاج لا يثبتان الخيار في ظاهر ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (16075) والحاكم (6708) وأبو يعلى (5699) وسعيد بن منصور (829) وابن أبي شيبة (3/ 487) والبيهقي في "الكبرى" (13997) بسند ضعيف لضعف جميل بن زيد. (¬2) حديث (14267) (7/ 257).

المذهب، ثم قال: ويجري الخلاف في ما إذا وجدها [عذيوطة] (¬1) أو وجدته [عذيوطًا] (¬2)، [والعذيوط] (¬3) هو الذى يخرأ عند الجماع. انتهى. العذيوط بعين مهملة مكسورة وذال معجمة ساكنة وطاء مهملة هو الذى يتغوط عند الإنزال من الجماع، وعبر عنه الرافعي بقوله يخرأ وهو بالخاء المعجمة ومصدره عذيطة على وزن دحرجة. قوله: ولا يثبت الخيار بكونها مفضاة الإفضاء رفع ما بين مخرج البول ومدخل الذكر. انتهى كلامه. وما ذكره من أن هذا إفضاء وقع فيه اختلاف في كلام الرافعي وتبعه عليه النووي ويأتي إيضاح ذلك في آخر أبواب الديات إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: فرعان: أحدهما: إذا ظهر بكل واحد من الزوجين عيب من العيوب المثبتة للخيار، وكانا من جنس واحد فوجهان: أحدهما لا خيار لتساويهما وأصحهما: ثبوت الخيار لكل واحد منهما، ثم قال ما نصه: وهذا في غير الجنون أما إذا كانا مجنونين فلا يمكن إثبات الخيار لواحد منهما. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الإمكان في الجنون تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غريب فإنه يتصور بما إذا كان الجنون متقطعًا، فإنه يجوز لكل واحد منهما أن يختار الفسخ بذلك كما يختار في المطبق ولا شك أن الرافعى ذهل عن ثبوت الخيار بالمتقطع. قوله: ثم ليكن الوجهان فيما إذا تساوى العيبان فإن كان أحدهما أكثر وأفحش وجب أن يثبت الخيار من غير خلاف. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه قد جزم به القاضي ¬

_ (¬1) في جـ: عضويطه. (¬2) في جـ: عضيوطًا. (¬3) في جـ: والعضيوط.

الحسين ونقله عنه ابن الرفعة، ولم يذكره في "الروضة" على صورة البحث، بل جزم به وتعبير "التنبيه" و"المنهاج" وغيرهما بقولهم وبه مثله يشعر به أيضًا. قوله: أما العنة فلابد فيها من الرفع إلى الحاكم وفي ما سواهما وجهان: أحدهما: يجوز لهما الإفراد بالفسخ، وأقربهما أنه لابد من الرفع. انتهى. ولم يتكلم بعد الرفع على أن المرأة هل تستقل أم لا؟ وإذا استقلت هل يشترط أن يقول الحاكم: ثبت عندي ذلك، أم لا؟ ، وقد ذكره في الكلام على التعيين، وسوف أذكره أنا أيضًا هناك إن شاء الله تعالى لأمر يتعلق بذكره فراجعه. قوله: ثم إذا قلنا بالرجوع على الغار فإن كان التغرير منها رجع عليها، ومعنى الرجوع في حقها كما قاله الشيخ أبو حامد والإمام أنه لا يغرم لها شيئًا، وهل يجب لها أقل ما يصلح صداقًا؟ فيه وجهان ويقال قولان كيلا يخلو الوطء عن المهر. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا وقال في "الروضة" من زياداته: الأصح أنه لا يبقى لها شئ قال: ويكفي في حرمة النكاح أنه وجب لها ثم استرد بالتغرير. قوله: وإن كان التغرير من الولى نظر إن كان عالمًا بالعيب غرم المهر وإن كان جاهلًا فوجهان وذكر الحناطي أنه لا رجوع على الحاكم عند الجهل، ثم قال: ولم يتعرضوا لما إذا كانت المرأة جاهلة بعينها ولا يبعد مجيء الخلاف فيه. انتهى. وهذا الوجه الذي حكاه الرافعى عن الحناطى. قد أسقطه من "الروضة" وأما البحث الذي ذكره الرافعي فأجاب عنه في "الروضة" بأنه لا مجيء لتقصيرها الظاهر.

قوله: وإن وجد التغرير منها ومن الولى فيكون الرجوع عليها لأن جانبها أقوى من حيث إن العيب بها، أو يرجع على كل واحد منهما بالنصف فيه وجهان مذكوران في "التتمة". انتهى. واعلم أن الرافعي ذكر بعد هذا الكلام على التغرير بالحرية أن التغرير إذا وجد من الأمة ومن وكيل السيد، فإن الرجوع يكون عليهما، وفي كيفيته وجهان: أقربهما بالنصف على كل واحد منهما. [والثاني: أن له أن يرجع بالكل على من شاء منهما] (¬1) هذا كلامه، ولم يذكر في مسألتنا مطالبة كل واحد منهما بالكل، ولا في التغرير بالحرية الوجه الذاهب إلى الرجوع على الأمة خاصة، وقد يفرق بينهما بأن جانبها في التغرير بالعيب أقوى لأن الصداق لها وهو هاهنا للسيد فهي والوكيل على حد سواء فلهذا سوينا بينهما على الوجهين معًا. قوله: في أصل "الروضة": الرابعة: المفسوخ نكاحها بعد الدخول لا نفقة لها في العدة ولا سكنى إن كانت حائلًا بلا خلاف، وإن كانت حاملًا فإن قلنا نفقة المطلقة الحامل للحمل وجبت هنا، وإن قلنا بالأظهر أنها للحامل لم تجب، وأما السكنى فلا تجب على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل يطرد القولان. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من سكنى الحامل من عدم الوجوب بلا خلاف باطل فإن فيه خلافًا مشهورًا وقد حكاه هو في كتاب العدد، حتى أنه لما حكاه هناك أشعر كلامه برجحان الوجوب، وسوف نذكر عبارته هناك إن شاء الله تعالى فراجعها. وأغرب من ذلك كله أن الرافعي قد حكاه هنا، ولكن تحرف على النووى فغلط في اختصاره له، فإن الرافعي قد قال ما نصه: الرابعة: المفسوخ نكاحها بعد الدخول لا نفقة لها في العدة ولا ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

سكنى إن كانت حائلًا لانقطاع أثر النكاح بالفسخ، وإن كانت حاملًا فإن قلنا أن نفقة المطلقة الحامل للحمل وجب هاهنا أيضًا لحق القرابة، وإن قلنا: إنها للحامل وهو الأصح لم تجب، وإيراد الإمام وصاحب "التهذيب" يقتضى كون السكنى على هذا الخلاف، وصرح به الحناطي ثم حكى طريقة أخرى قاطعة بأنه لا تجب السكنى، هذا هو المشهور في المسألة، ومنهم من جعل استحقاق الحامل السكنى على قولين وقد نقل هذه الطريقة صاحب الكتاب في باب العدة هذا لفظه بحروفه، ثم حكى عن أبي الطيب ابن سلمة أنه إن فسخ بعيب حادث استحقت السكنى ثلاث طرق حاصلها ثلاثة أوجه، وكأنه اشتبه على النووي الحائل المذكور آخرًا في كلام الرافعي بالحائل بالميم ذاهلًا عن تقدم الخلاف المذكور في تلك. الأمر الثاني: أن ما ادعاه من سكنى الحامل بالميم من تصحيح القطع بعدم الوجوب وأنه رأي الجمهور عكس ما في الرافعى، فإن حاصل ما فيه أن المعروف الوجوب فراجع عبارته التي ذكرتها لك وكأن النووي قد توهم أن قول الرافعي هذا هو المشهور عائد إلى الطريقة بعدم وجوب السكنى وهو توهم عجيب. قوله: فروع: إذا رضي أحد الزوجين بعيب الآخر فازداد فلا خيار لأن رضاه بالأول رضي بما يحدث منه ويتولد، وفيه وجه آخر. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاق الخلاف ومحله إذا لم يكن الحادث أفحش كما إذا كان في اليد فحدث في الوجه، فإن الشافعي قد نص على ثبوت الخيار، كذا نقله الماوردي في "الحاوي"، وقال: إن محل الوجهين في ما عداه كما إذا كان في إحدى اليدين فانتقل إلى الأخرى ولقائل أن يقول قد قالوا في باب الرهن أنهما إذا شرطا وضع الرهن في يد فاسق فزاد فسقه كان لكل منهما الخيار في إزالة يده عنه فاعتبروا الزيادة هناك،

ولم يعتبروها في مسألتنا. قوله: وحكى الحناطي وجهين في أنه إذا فسخ النكاح بالعيب، ثم بان أنه لم يكن هناك عيب، هل يحكم ببطلان الفسخ واستمرار النكاح؟ . انتهى. [والصحيح] (¬1) بطلان الفسخ كذا ذكره في "الروضة" من زياداته. ¬

_ (¬1) في جـ: والأصح.

السبب الثاني: الغرور

السبب الثاني: الغرور قوله: وإن شرطا في الزوج نسب شريف وبان خلافه نظر إن كان نسبه مثل نسبها أو فوقه إلا أنه دون المشروط ففيه قولان: أصحهما على ما ذكر في "التهذيب": أنه لا خيار لها لأنها لا تتعير به. انتهى. وهذا الذى صححه البغوي هو الصحيح كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح، وصححه النووي في أصل "الروضة" وعبر بالأظهر، وإطلاق "المحرر" و"المنهاج" يقتضى ثبوت الخيار. قوله: فإن شرط العبد حرية امرأته فبانت أمة، وقلنا بثبوت الخيار لو كان حرًا فقولان، قال في "التهذيب": أصحهما: أنه لا خيار لتكافؤهما. انتهى. وهذا الذى صححه في "التهذيب" هو الأصح فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". قوله: وإن كان المشروط صفة أخرى -أي غير النسب- والحرية كاليسار والصغر وغيرهما فإن شرطت في الزوج فبان دون المشروط فلها الخيار، وإن شرطت فيها ففي ثبوت الخيار له قولان لتمكنه من الطلاق ذكره في "التتمة". انتهى كلامه. وهذا الخلاف حكاه في "الشرح الصغير" وجهين على عكس ما قاله هنا ولم يصحح فيه أيضًا شيئًا منهما وقال في "الروضة" من زياداته: الأظهر منهما ثبوت الخيار. قوله: إحداهما إذا ظنت أن زيدًا كفء فأذنت في تزويجها منه، ثم بان أنه ليس بكفء فلا خيار لأنه لم يجز شرط والتقصير منها ومن الولي حيث لم يفحصا، وليس هذا كظن السلامة عن العيب، لأن الظن هناك يبنى على أن الغالب السلامة، وهاهنا لا يمكن أن يقال أن الغالب كفاءة

الخاطب، هكذا أطلق المسألة صاحب الكتاب، وينبغي أن يفصل فيقال إن كان فوات الكفاءة لدناءة نسبه أو حرفته أو لفسقه، فالجواب ما ذكرنا، وإن كان فواتها لعيب به ثبت الخيار، وإن كان لرقه فليكن الحكم كلما سنذكر على الأثر في ما إذا تكح امرأة على ظن أنها حرة فإذا هي رقيقة، بل كانت المرأة أولى بثبوت الخيار من جانب الرجل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يدل على أنه لم يقف في المسألة على نقل، ولهذا أبدى ما أبداه فيها على سبيل التفقه وهو غريب جدًا، فأما فوات الكفاءة للفسق فقد صرح به البغوى في "فتاويه"، وأجاب بالخيار على عكس ما تفقه فيه الرافعى، والغريب أن الرافعى نقله عنه قبيل كتاب الصداق وارتضاه ولم ينقل عن أحد ما يخالفه فقال نقلًا عن "فتاوى القاضي الحسين" ما نصه: وإذا استؤذنت المرأة في التزويج من رجل فأذنت ولم يعلم فسقه وكان فاسقًا يصح النكاح لوجود الإشارة إلى عينه، قال الشيخ البغوي: لكن لها حق الفسخ كما لو أذنت في التزويج من رجل ثم وجدت به عيبًا هذا لفظه هناك. وأما فوات الكفاءة للعيب فقد صرح به البغوي أيضًا هناك على وفق ما تفقه فيه الرافعي، وهو من جملة الكلام الذي نقله هو عنه، كما ذكرناه، بل الأصحاب قائلون بثبوت الخيار بهذه العيوب وثبوت الخيار فرع عن صحة [النكاح. وأما الفوات لأجل الرق فنقل في "الروضة" ثبوت] (¬1) الخيار فيه عن فتاوى صاحب "الشامل" وعن غيره أيضًا، وحكى ابن يونس شارح "التنبيه" فيها وجهين. الأمر الثاني: أن إطلاق الغزالي إنما هو في "الوجيز" خاصة، وأما في ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

"البسيط" و"الوسيط" فإنه فصل التفصيل السابق. قوله: قال الأصحاب التغرير المؤثر هو المقارن للعقد على سبيل الاشتراط، وأما السابق فلا يؤثر وفيه وجه، وهذا كله في تأثيره في فساد العقد أو في إثبات الخيار، فأما في الرجوع بالمهر على الغار فالسابق كالمقارن هكذا نقل الغزالى، وحققه الإمام فقال: لا يشترط في تصوير التغرير دخول الشرط بين الإيجاب والقبول، ولا صدوره من العاقد، ألا ترى أنا نضمن الأمة والمكاتبة إذا كان التغرير منهما وليستا بعاقدين، ولكن يشترط اتصاله بالعقد، فلو قال فلانة حرة في معرض الترغيب في النكاح ثم زوجها على الاتصال إما بالوكالة أو الولاية فهذا تغرير، ولو لم يقصد بما قاله تحريض السامع واتفق بعد أيام أنه زوجها ممن سمع كلامه فليس ما جرى بتغرير، وإن ذكره لا في معرض التحريض، ولكن جرى العقد بعد زمان فاصل ففي كونه تغريرًا تردد ويشبه أن لا يعتبر الاتصال بالعقد على ما يقتضيه إطلاق صاحب الكتاب، وكان سبب الفرق بين التأثير في [الفساد أو في إثبات الخيار وبين التأثير في] (¬1) الرجوع أن يعلق الضمان بالتغرير أوسع بابًا، وكذلك يثبت الرجوع على قول بمجرد السكوت عن عيب المنكوحة. انتهى كلامه. قال ابن الرفعة: وما قاله الرافعى نقلًا وفقها يحتاج إلى تأمل وذلك أن قول الرجوع بالمهر على الغار مفروض في ما إذا قلنا بفساد النكاح أو بصحته وثبوت الخيار فاختار الفسخ، وإلا فالواجب المسمى ولا رجوع به كما دل عليه كلام الشيخ في "المهذب" والبغوى والرافعى وغيرهم، وحينئذ متى كان سابقًا وقلنا بأنه لا يؤثر في النكاح والخيار وجب المسمى فلا رجوع فلا وجه للتفرقة بين الرجوع بالمهر وغيره، هذا كلامه. قوله: الثالثة: لا يتصور الغرور بالحرية من السيد لأنه إذا قال هى حرة ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وزوجها أو قال: زوجتكها على أنها حرة عتقت، وخرجت الصورة على أن يكون نكاح غرور، وإنما يتصور ذلك من وكيل السيد في التزويج أو من المنكوحة نفسها أو منهما ولا عبرة بقول من ليس بعاقد ولا معقود عليه: انتهى كلامه. وهذا الذى قاله من كون التغرير بالحرية لا يتصور من السيد إلى آخره ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" وتابعه النووى في "الروضة" و"المنهاج" وابن الرفعة في "الكفاية" وليس كما قالوا، بل يتصور التغرير من السيد في مسائل منها: ما لو كان اسمها حرة فناداها بذلك أو أخبر عنها كما لو قال هذه حرة، أو زوجتك هذه وهي حرة ونحو ذلك. ومنها: ما لو رهنها وهو معسر فأذن له المرتهن في زواجها فزوجها وشرط حريتها فإنها لا تعتق كما لو صرح بعتقها. ومنها: ما إذا كانت الأمة جانية ففيها ما قلناه في المرهونة. ومنها: إذا أطلق عليها لفظ وأراد به المعنى المشهور في العرف وهو العفة عن الزنا فإنها لا تعتق بذلك لوجود الصارف عن معنى العتق إلى غيره. قوله: ولو انفصل الولد ميتًا بجناية جان فله أحوال، الرابع: أن تصدر الجناية من سيد الأمة فعلى عاقلته الغرة، ثم إن اعتمدنا التفويت سلمت الغرة للورثة، وغرم المغرور للسيد عشر قيمة الأم. قال الإمام: ويجوز أن يقال انفصاله بجناية السيد كانفصاله لا بجناية فلا يغرم المغرور له شيئًا، وإن قصرنا النظر عن الغرة، فإذا حصلت ينصرف منها العشر إلى السيد فإن فضل شيء فهو للورثة. قال الإمام: إذا كانت الغرة قدر العشر أو أقل وصرفناها إلى السيد كان الحاصل إيجاب مال على عاقلة الجاني للجاني وهو مستبعد. انتهى كلامه.

وما نقله الرافعى عن الإمام في آخر هذا الكلام وسكت عليه تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو عجيب لأن الغرة تجب للورثة على عاقلة الجاني وحق السيد يجب على المغرور متعلقًا بما يسلم له وليس هو نفس حقه لأن الغرة لا تجب له، بل إنما يجب له قيمة الولد وحق المغرور ثابت بمجرد الجناية يستحق المطالبة به، والسيد على هذا القول إنما يطالب المغرور بعد أن يتسلم ما يثبت له، وحينئذ يتعلق حق السيد.

السبب الثالث: [العتق]

السبب الثالث: [العتق] (¬1) قوله: وإن فسخت العتيقة بعد الدخول نظر إن تقدم الدخول على العتق وجب المسمى، وإن تأخر عن العتق وكانت هى جاهلة بالحال فيجب مهر المثل أو المسمى، جعله صاحب "التهذيب" على الخلاف المذكور في ما إذا حدث العيب ثم جرى الدخول ثم فرض الفسخ. وقال: ظاهر المذهب وجوب مهر المثل لأن سبب الفسخ قد تقدم على الدخول فكأنه وجد يوم العقد وعلى هذا جرى أئمتنا العراقيون، ورجح جماعة قول وجوب المسمى، وزاد الإمام وصاحب "الكتاب" فقالا: يجب المسمى ولا يجرى فيه القول المنصوص في العيوب أنه يجب فيه مهر المثل ووجهاه بأن المهر للسيد لا لها وهو بالإعتاق فحسن فلا ينبغي أن يرد إلى مهر المثل، وقد تعرض الأولون عليه إلى آخره. فيه أمور: أحدها: أن الصحيح المشهور هو وجوب مهر المثل وقد صححه الرافعى في "المحرر" والنووي في أصل "الروضة" و"المنهاج". الأمر الثاني: أن الفسخ بالعيب بعد الدخول إن كان بعيب مقارن للعقد فالمنصوص للشافعى أنه يجب مهر المثل وفيه قول مخرج من الردة أنه يجب المسمى، وإن كان بسبب حادث قبله فثلاثة أوجه: أحدها: يجب المسمى. والثانى: مهر المثل. والثالث: وهو أصحها إن كان الوطء قبل العيب وجب المسمى، وإن ¬

_ (¬1) بياض في أ.

كان بعده فمهر المثل، إذا علمت ذلك فنظير مسألتنا التى وقع الخلاف فيها إنما هو الفسخ بعيب حادث بعد العقد وليس فيها نص ولا تخريج إنما فيها ثلاثة أوجه كما سبق، وحينئذ فالذى نقله الرافعي عن الإمام والغزالي من كونهم لم يجروا فيه القول المنصوص وبأنهما فرقا بإحسان السيد إلى آخره ذهول عجيب ولك أن تقول قد جزموا هنا بوجوب المسمى في ما إذا فسخت بعد الدخول بعتق قبله وحكوا في نظيره من العيب وجهين كما ذكرنا الآن فأى فرق بين الصورتين. الأمر الثالث: أن الإمام قد عبر بما نقله عنه الرافعى من كونهم لم يطردوا القول المنصوص وهو تعبير مطابق، وأما الغزالى فإنه عبر بقوله ولم يطردوا القول المخرج، كذا ذكره في "الوسيط" و"البسيط" معًا على خلاف ما نقله عنه الرافعى، وكأن الرافعى ذهل عن ذلك وتوهم اتفاقهما وإلا فكان من حقه أن ينبه عليه ولا يضيفه إليه. وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" هاهنا بحثا أنه ينبغي وجوب المهر للعتيقة لا للسيد وهو بحث غير طائل فاعلمه. قوله في "الروضة": وخيار العتق على الفور، وفي قول يمتد إلى ثلاثة أيام، وفى قول إلى أن يصرح بإسقاطه أو تمكن من الوطء طائعة، وذكر الإمام تفريعًا على سقوطه بالتمكين من الوطء أنها لو مكنت ولم يصبها الزوج لم يبطل حقها لأن التمكين من الواطء لا يتحقق إلا عند حصول الوطء وأنه لو أصابها الزوج قهرًا ففى سقوط الخيار تردد لتمكنها من الفسخ عند الوطء، فإن قبض على فمها بقى حقها قطعًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله الإمام في التفريع على القول الثالث من كون المراد إنما هو الوطء خاصة قد خالفه فيه الصيدلاني في شرحه لـ"المختصر"

وهو الكتاب الذى يعزوه ابن الرفعة إلى الداوودي، فقال عقب ذكره لهذا القول ما نصه: وليس الحكم مقصورًا على الوطء بل متى وجد منها ما فيه دلالة الرضا بأن يباشرها أو ينقلها إلى موضع آخر أو يضاجعها وهي طائعة فذلك كله رضى منها هذه عبارته، وجزم في "الذخائر" بنحوه فقال: إنه يكتفى بالتمكين من الوطء. الأمر الثاني: قد سبق في البيع أنه إذا حمل أحد المتعاقدين فأخرج من المجلس مكرهًا فإن منع الفسخ بأن سد فمه ففي انقطاع خياره خلاف، المذهب أنه لا ينقطع وإن لم يسده لم ينقطع في أصح الوجهين، وإذا علمت ذلك فلا شك أن المسألة هي نظير مسألتنا، وحينئذ فنستفيد بذلك أمرين: أحدهما: بطلان دعوى القطع عند القبض على الفم. والثاني: تصحيح بقاء الخيار عند عدم القبض. قوله في المسألة: ولو قال الزوج أصبتها وأنكرت فأيهما يصدق؟ فيه وجهان حكاهما ابن كج لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الإصابة: انتهى. وهذه المسألة نظير ما سبق نقله في أول السبب الثاني عن فتاوى البغوى وهو أنه لو تزوجها بشرط البكارة فوجدت ثيبًا فقالت كنت بكرًا فزالت البكارة عندك، وقال بل كنت ثيبًا فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ وقوله بيمينه لدفع كمال المهر هذا كلامه وأقره عليه فقياسه في مسألتنا تصديق الزوجة. قوله: وإذا ادعت الجهل بأن العتق يثبت الخيار فقولان: أحدهما: أنها لا تصدق كما إذا قال المشتري: لم أعلم أن العيب يثبت الخيار، وأصحهما: التصديق لأنه خفي بخلاف الرد بالعيب، ولو ادعت الجهل بأن الخيار على الفور فقال الغزالى: لا تعذر ولم أر تعرضًا لهذه الصورة في

سائر كتب الأصحاب، نعم صورها العبادى في "الرقم"، وأجاب بأنها إن كانت قديمة العهد بالإسلام، وخالطت أهله لم تعذر، وإن كانت حديثة العهد أو لم تخالط أهله فقولان. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة التى ذكر الرافعى أنه لم ير لها تعرضًا في الكتب، وأنه لم يذكرها إلا العبادي، قد رأيتها مذكورة في "الشامل" لابن الصباغ في اللعان في أول باب وقت نفي الولد، وحكى فيها قولين، ولم يفصل بين أن تكون هذه العتيقة قريبة العهد بالإسلام أم لا. الأمر الثاني: أن الرافعى لما ذكر مسألة العيب في بابها فصل في دعوى الجهل بالخيار فقال: إن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة قبل وإلا فلا على خلاف ما أطلقه هاهنا، وأما دعوى الجهل بالفورية فأجاب بالقبول مطلقًا ولم يفصل، وعلله بأنه يخفى على العوام وإذا تأملت هذا الأخير، وهو ما أجاب به في دعوى الجهل بالفورية في العيب مع ما أجاب به في نظيره وهو دعوى ذلك في خيار العتق، علمت أنهما في غاية التباين لأن حكم العيب أشهر من حكم العتق بلا شك، وقد جزم في العيب بأنه يقبل دعوى الجهل بالفورية، وإن ولد بين المسلمين ونشأ بينهم، وجزم في العتق بأنه لا يقبل ممن ولد بين المسلمين ونشأ بينهم، وحكى قولين من غير ترجيح في من قرب عهده أو نشأ ببادية وقد استدرك النووى على ما قاله في العيب وقال: شرطه أن يكون مثله ممن يخفى عليه، قال: وكذلك الشفعة، ومن نظائر المسألة ما إذا قال الزوج: لم أعلم أنه يجوز لي نفي الولد، وقد قال الرافعى فيه: إنه إن كان فقيها لم يقبل وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة قبل، وإن

كان من العوام الناشئين في بلاد الإسلام فوجهان كالعتق، وهذا التفصيل لم يذكره في ما تقدم من النظائر وينبغي اطراده فيه، ولم يذكر الرافعى ما إذا قال: لم أعلم أن النفي على الفور، وقد ذكرها في "التنبيه" وسوى بينها وبين دعوى الجهل بأصل الخيار وأقره النووى فلم يستدركه في "التصحيح".

السبب الرابع: العنة

السبب الرابع: العنة اعلم أن العنة في اللغة هى الحظيرة المعدة للإبل، وأما المعنى المراد في هذا الباب فهو المرض المعروف، فالصواب في التعبير عنه إنما هو التعنين، وقد عبر به في "الروضة" هنا وعدل عن عبارة الرافعي، وإن كان قد وافق في غيره على التعبير بالعنة. قوله: وإذا وجدت المرأة زوجها خصيًا موجوء الخصيتين أو مشلولهما ففيه قولان أصحهما: وبه قطع بعضهم أنه لا خيار لها لبقاء آلة الجماع. انتهى. يقول وجأه وجاء بالكسر فهو موجوء أي: رضضته رضًا فهو مرضوض. قوله: ثم في استقلال المرأة بالفسخ بعد ثبوت التعنين بين يدي القاضي وجهان: أقربهما الاستقلال كما يستقل بالفسخ إذا وجد بالمبيع عيبًا وأنكر البائع كونه عيبًا فأقام المشتري على ذلك بينة عند القاضي. والثاني: أن الفسخ إلى الحاكم لأنه محل النظر والاجتهاد فيفسخ أو يأمرها بالفسخ. انتهى. وما ذكره هاهنا من جواز الفسخ للمرأة قد ناقضه في باب اختلاف المتبايعين فإنه جزم هناك بأنه يتعين فيه القاضى وجعله دليلًا لأحد الوجهين في الفسخ بالتحالف وقد تقدم ذكر لفظه هناك، ولم يتعرض في "الروضة" هناك للمسألة فسلم من الاختلاف، واعلم أن الرافعي قد ذكر في كتاب النفقات في الكلام على الإعسار بالنفقة أن الأصح أن المرأة لا تستقل بذلك بعد الرفع والثبوت، بل لابد من فسخ الحاكم أو تفويضه إليها على عكس ما صححه هنا فيحتاج إلى الفرق، وقد ذكر هنا أنا إذا

فرعنا على استقلالها فهل يكفى فيه إقرار الزوج أم لابد من قول القاضي ثبتت العنة؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني، ولم يذكر هذا في النفقات وهو قياسه. قوله: ولو قالت اخترت الفسخ ولم يقل القاضي نقدته، ثم رجعت هل يصح الرجوع ويبطل الفسخ؟ وجهان في "مجموع" ابن القطان أصحهما المنع، ويشبه أن يكون هذا الخلاف مفرعًا على استقلالها بالفسخ، أما إذا فسخت بإذنه، فإن الإذن السابق كالتنفيذ. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه يشير إلى أن تصرف الحاكم حكم وهي قاعدة نافعة سبق الكلام عليها مبسوطًا في الكلام على موانع الولاية. قوله: فإن رضيت بعد المدة ثم طلقها طلاقًا رجعيًا ثم راجع لم يعد حق الفسخ لأنها رضيت بعنته في هذا النكاح، ويتصور الطلاق الرجعي بغير وطء يزيل العنة بأن تستدخل ماءه. انتهى. وما ذكر هنا من ثبوت الرجعة باستدخال الماء قد صححه خلافه قبل ذلك في محرمات النكاح في الكلام على التحريم بالمحرمية، لكن الأصح ما قاله هنا كما سبق إيضاحه فراجعه. قوله: قال الأئمة: إذا اختلف الزوجان في الإصابة فالقول قول من ينفيها أخذًا بأصل العدم إلا في ثلاثة مواضع: أحدها: إذا ادعت عنته وقال الزوج قد أصبتها فالقول قوله بيمينه. الثاني: إذا طالبته في الإيلاء بالعنة أو الطلاق فقال: قد أصبتها، فالقول قوله استدامة للنكاح فلو قالت في الموضعين أنا بكر وأقامت أربع نسوة بذلك فظاهر النص وهو قول جماعة من الأصحاب أنا نحكم بعدم الإصابة ولا حاجة إلى تحليفها، وتكفى البكارة دليلًا على تصديقها وقال أبو علي في "الإفصاح" وأبو الحسين في "المجموع"، والقاضي ابن كج

في "شرحه": تحلف الزوجة مع قيام البينة؛ لأن البكارة وإن ثبتت بالبينة فاحتمال الزوال والعود قائم، وبهذا أخذ الإمام وصاحب "الكتاب" وغيرهما. الثالث: إذا قالت المرأة: طلقتني بعد المسيس فلي كمال المهر، وقال: بل قبله وأتت بولد لزمان محتمل فالقول قولها ولابد من يمينها على ما ذكره الإمام والعبادي لأن ثبوت النسب لا يورث تعين الإصابة، ويمكن أن يجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا ظهرت البكارة انتهى. فيه أمور: أحدهما: أن ما ادعاه الرافعي من الحصر وتابعه عليه في "الروضة" ترد عليه مسائل. الأولى: إذا تزوجها بشرط البكارة فوجدت ثيبًا فقالت كنت بكرًا فزالت البكارة عندك وقال: بل كنت ثيبًا فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ، ولو قالت كنت بكرًا فافتضضتني فالقول قولها بيمينها لدفع الفسخ وقوله بيمينه لدفع كمال المهر، وهذا الفرع ذكره الرافعي قبيل الصداق وعزاه إلى البغوى ونقله النووي إلى هذا الباب. الثانية: إذا قال لها وهى طاهر: أنت طالق للسنة، ثم اختلفا فقال: جامعتك في هذا الطهر فلم يقع طلاق في الحال، وقالت لم تجامع وقد وقع، فقال إسماعيل البشنجي: مقتضى المذهب أن القول قوله لأن الأصل بقاء النكاح، وكما لو قال المولى والعنين وطئت، كذا نقله عنه الرافعي قبيل أركان الطلاق ولم يخالفه، وتابعه عليه في "الروضة" وذكر القاضي حسين في "فتاويه" مثله فإنه قال: إذا قال إن لم أنفق عليك اليوم فأنت طالق فادعى أنه أنفق عليها كان القول قوله بالنسبة إلى عدم وقوع الطلاق وقولها بالنسبة إلى عدم سقوط النفقة، لكن ذكر ابن الصلاح في

"فتاويه" أن الظاهر الوقوع في هذه المسألة عملًا بالأصل. الثالثة: إذا تزوجت المطلقة ثلاثًا بزوج ثم ادعت أنه أصابها وأنكر الزوج قبلنا قولها حتى تحل للمطلق لأنها مؤتمنة في انقضاء العدة وتعسر إقامة البينة على الوطء لكن لا يلزمه إلا نصف المهر، كذا ذكره الرافعى في الكلام على التحليل. الرابعة: إذا عتقت الأمة تحت عبد وقلنا يمتد خيارها إلى الوطء فادعاه وأنكرت المرأة ففى المصدق منهما وجهان حكاهما الرافعى من غير ترجيح، وعلل تصديق الزوج بأن الأصل بقاء النكاح، وعلل مقابله بأن الأصل عدم الوطء. الأمر الثاني: أن الراجح من هذا الخلاف الذى حكاه الرافعى في ما إذا ادعت البكارة وأقامت البينة أنه لابد من يمينها، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالظاهر، ولم يرجح شيئًا في "الروضة" أيضًا. الأمر الثالث: في الكلام على المسألة الثالثة وهى متضمنة لحكمين: أحدهما: تصديق المرأة وقد جزم به هاهنا وحكى فيه في آخر كتاب الإيلاء نصين ثم حكى في النصين ثلاث طرق وصحح تصديق المرأة كما جزم به هاهنا، وهذا الخلاف ذكره في "المهذب" و"التنبيه" وحكاه قولين. والحكم الثاني: أنه لابد من يمينها على ما ذكر العبادي والإمام وقد بحث الرافعى فيه كما تقدم نقله عنه فقال يمكن أن يجئ في التحليف الخلاف السابق في المسألة الثانية وهى ما إذا ظهرت بكارتها. إذا علمت ذلك فقد توهم النووي أن الحكم السابق الذي أشار الرافعي إلى مجئ الخلاف فيه هو التصديق فقال ما نصه: قلت عجب من قول

الإمام الرافعي في ما إذا أتت بولد لزمن محتمل أنها المصدقة، ويمكن أن يجيء فيه الخلاف والمسألة مشهورة ففي "المهذب" و"التنبيه" وغيرهما من الكتب المشهورة في المسألة قولان في أن القول قوله أم قولها؟ لأن النسب يثبت بالإمكان، ولأنه قد يولج بعض الحشفة أو يباشر في ما قارب الفرج فيدخل المني فيلحق النسب ولا وطء هذا لفظه، وهو اعتراض فاسد ظاهر الفساد، فإن الخلاف الذي أشار إليه الرافعي وهو الخلاف الذي قالوه في ما إذا ظهرت البكارة إنما هو في الاحتياج إلى تحليفها لا في تصديقها حتى يقول: إن صاحب "المهذب" و"التنبيه" قد حكاه، وعبارة الرافعي في ذلك واضحة جدًا فراجعها بل لم يقع هنا خلاف أصلًا في تصديقها عند ظهور البكارة حتى يتوهم أن الرافعى أراده فيكون عذرًا في التباس الأمر على النووي وقد ذكره في "الشرح الصغير" بعبارة أوضح من عبارة "الكبير" فقال ما نصه: وقد يجيء في يمينها الخلاف المذكور في ظهور البكارة. هذا لفظه، فعبر بقوله في يمينها وذكر ابن الرفعة في "الكفاية" عن الرافعي ذلك بعينه، وهو لا ينقل إلا عن "الشرح الكبير" فقال: وقال الرافعي: يمكن أن يخرج يمينها على الخلاف في ما إذا قامت بينة على بكارتها هذه عبارته، والعجب من النووي حيث يعترض مثل هذه الاعتراضات ويعبر عنها بقوله قلت: عجب من الرافعي في كذا وكذا، ثم إن هذا الخلاف الذي نقله النووي عن "التنبيه" و"المهذب" قد ذكره الرافعي في آخر كتاب الإيلاء. فلا حاجة إلى الرد عليه بكلام غيره، ونقله له إلا أنه لم يستحضر أن الرافعي ذكره هناك ولو استحضره لكان الرد به عليه أبلغ. واعلم أن الفرق بين المسألتين متجه، وذلك أن دعواها عدم الوطء هناك موافقة للأصل وإذا قامت بينة على البكارة كان ذلك موافقًا للأصل الذي ادعته، فأمكن أن يستغنى عن اليمين لوجود مرجحين تظافرا على

محل واحد، وأما في مسألتنا فإن دعواها الإصابة مخالفة للأصل وظهور الحمل مرجح واحد عارضه الأصل مع احتمال حصول الحمل باستدخال الماء ولا يلزم من ترك اليمين عند وجود مرجحين لا معارض لها تركها عند وجود مرجح واحد له معارض. نعم قد يتجه أن يكون في يمينها خلاف من وجهين: أحدهما: البناء على أن إستدخال الماء هل يقرر المهر أم لا؟ فإن قلنا: إنه لا يقرره فلابد من اليمين لاحتمال أن يكون الحمل منه وإن قلنا: إنه يقرره فلا فائدة في اليمين إذ لا حمل إلا من وطء أو استدخال ماء. الثاني: أنه يحتمل أن يكون الحمل من غير الزوج، وإنما الشرع ألحق الولد بالزوج ولم يراع هذا الاحتمال لقيام الفراش فيحلف لقيام هذا الاحتمال.

فصول متفرقة

القسم الخامس في فصول متفرقة الفصل الأول فيما يحل للزوج قوله: إحداها: لا يمتنع شيء من الاستمتاعات إلا النظر إلى الفرج ففيه خلاف مذكور في كتاب النكاح، والإتيان في الدبر فإنه حرام لما روى أنه سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "في أي الخربتين من دبرها في قبلها فنعم أو من دبرها في دبرها فلا؟ إن الله تعالى لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن" (¬1). والخربة: الثقبة. انتهى كلامه. الخربة بخاء معجمة مضمومة وراء ساكنة وباء موحدة كل ثقب مستدير قاله الجوهري، قال: والخربة أيضًا ثقب الورك والخرب مثله وكذلك الخرابة بالتخفيف وقد تشدد. قوله: وهل يثبت النسب بالإتيان في الدبر فيه وجهان: أصحهما: نعم لأنه قد يسبق الماء. انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعى في أربعة مواضع من هذا الكتاب أحدها: هذا. وثانيها: في كتاب الطلاق في الكلام على السنة والبدعة. وثالثها: في كتاب اللعان في أوائل الباب الثاني المعقود لقذف الزوج. ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (1322) والبيهقي في "الكبرى" (13890) والخطيب في "تاريخ دمشق" (3/ 197). قال الألباني: صحيح.

ورابعها: في آخر باب الاستبراء واختلف تصحيحه فيها اختلافًا عجيبًا جدًا، وكذلك تصحيح النووي أيضًا، وقد أوضحت المسألة وما يفتى به فيها في الاستبراء فراجعه. قوله في أصل "الروضة": وإذا وطيء أمته أو زوجته في دبرها فلا حد على الصحيح. انتهى. وما ذكره من الجزم بثبوت الخلاف قد خالفه في باب حد الزنا، فإنه حكى فيه هناك طريقين أصحهما: القطع بعدم الوجوب، والثانية على قولين، وستعرف لفظه في موضعه فراجعه. قوله من زياداته: قال أصحابنا: حكم الوطء في الدبر كالقبل إلا في سبعة أحكام التحليل والتحصين والخروج من العنة والتعنين وتغيير إذن البكر، والسادس أن الدبر لا يحل بحال، والقبل يحل في الزوجة والأمة المملوكة، والسابعة إذا جومعت الكبيرة في دبرها فاغتسلت ثم خرج منى الرجل من دبرها لم يجب غسل ثان بخلاف القبل، والله أعلم. وهذا الحصر الذى ذكره يرد عليه مسائل: إحداها: النظر إلى دبر المرأة فإنه لا يجوز كما رأيته مجزومًا في كتاب "الاستذكار" للدارمي، نعم يجوز الاستمتاع بما بين إليتها. الثانية: المفعول به إذا كان صائمًا في رمضان فلا يجب عليه الكفارة بلا خلاف رجلًا كان أو امرأة كما حكاه ابن الرفعة في كتاب الصيام عن القاضي أبي الطيب. والبندنيجى، ولم يحك غيره بخلاف إتيان القبل فإن فيه قولين مشهورين. نعم جزم الماوردى في كتاب النكاح من "الحاوي" بأن حكمه في ذلك حكم القبل. الثالثة: أنه لا يجب الرجم على المفعول به بل يجلد وإن كان محصنًا

كما قاله في "الروضة" في حد الزنا. الرابعة: إذا خرج الدم لا يكون حيضًا. الخامسة: عدم لحاق النسب بالإتيان فيه على اضطراب فيه. قوله: ولا يحرم العزل في السرية بلا خلاف صيانة للملك. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس كذلك ففيه وجه أنه لا يجوز لحق الولد، كذا حكاه الرويانى في "البحر" قبيل باب نكاح الشغار. قوله: وأما العزل عن الحرة المنكوحة ففيه طريقان: إحداهما: إن لم تأذن لم يجز وإن أذنت فوجهان: وجه المنع ما روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إنه الوأد الخفى" (¬1). والطريقة الثانية: وهى الأظهر أنه يجوز إن رضيت لا محالة، وإلا فوجهان: أصحهما: عند الغزالي أنه يجوز. انتهى ملخصًا. والذي صححه الغزالي من الجواز عند عدم الرضى صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة" وعبر بالمذهب لكنه لا يعرف منه التصحيح من الطريقين كما تعرف من الرافعي، وإنما يؤخذ منه تصحيح المسألة من حيث الجملة، والوأد دفن البنات وهن أحياء كما كانت كندة تفعله ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَة سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬2) وقد ذكره النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب ذكره للفظ السابق، والحديث رواه مسلم. قوله: ونقل ابن كج عن أبي عبيد بن حربويه أنه تجتنب الحائض في جميع بدنها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1442) من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب. (¬2) التكوير: 9.

اعترض عليه في "الروضة" فقال في أثناء زيادة له ما نصه: وقد خالف قائله إجماع المسلمين هذا لفظه. وما ادعاه من الإجماع على الجواز ليس كذلك، فقد خالفه فيه ابن عباس من الصحابة ومن التابعين عبيدة السلماني الإمام الجليل كذا نقله عنهما ابن عطية في "تفسيره"، ونقله الماوردي في "الحاوي" عن عبيدة فقط. قوله: لا بأس أن يطوف على إمائه بغسل واحد، لكن يستحب أن يخلل بين كل وطأين وضوءًا وغسل الفرج، ولا يتصور ذلك في الزوجات إلا بإذنهن. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم تصوره في الزوجات بغير الإذن تابعه عليه أيضًا في "الروضة". وليس كذلك، بل يتصور في مسائل: إحداها: أن يطأ واحدة في آخر نوبتها، ثم يطأ التي تليها في أول النوبة، ثم يطأ الثالثة بعد موت الثانية أو انفساخ نكاحها بسبب. الصورة الثانية: أن يطأ واحدة في وسط نوبة الأخرى معتقدًا أنها صاحبة النوبة، ثم يطأ صاحبتها. الثالثة: أن لا يوجد من الزوجات إذن ولا منع، بل يقمن عنده على العادة. الرابعة: أن يتعدى فيطأ واحدة في نوبة كل ضرة من ضراتها فجاءت النوبة إليها فيلزمه أن يوفي الباقيات حقهن من نوبتها ويقيم عند كل واحدة منهن بقدر ما أقام عند تلك من نوبتها ولكن لا يكلف الوطء على الصحيح لأنه قد لا يقدر عليه وحينئذ فقد يطأ الجميع متواليات بأن يطأ صاحبة النوبة أولا ثم يدور على المظلومات فيطأهن أو بعكس بل يقول لا حاجة إلى هذا كله، بل لو خرج من المظلوم بها إلى المظلومة [في اليوم

الذي حصل الظلم فيه وأراد جماع المظلومة] (¬1) فلا إشكال في استحباب الغسل لأنه أنشط إلى القيام بحق الثانية وخبرها، بل لو أراد أن يطأ الزوجة عقب وطء حرام لا شبهة له فيه فالمتجه الجزم باستحبابه أيضًا لما ذكرناه ولوجوبه على الفور على الصحيح لكون سببه معصية ولأنه كالتبرى من الفعل الأول. قوله: ويكره أن يتحدث بما جرى بينه وبين زوجته أو أمته. انتهى. وما ذكره من إطلاق الكراهة ذكر مثله في كتاب الشهادات أيضًا، وتابعه عليه في "الروضة" فيهما لكن جزم في "شرح مسلم" بأنه يحرم على الرجل أن يظهر ما جرى بينه وبينها من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك وما جرى من المرأة من قول أو فعل، قال: وأما مجرد الجماع فيكره ذكره إلا لفائدة، وقد ذكرت هناك أيضًا كلامه ودليله. قوله من زياداته: ويستحب أن لا يعطلها وأن لا يطيل عهدها بالجماع من غير عذر. انتهى. وما ذكر هاهنا من "زوائده" ذكره الرافعى في أول باب القسم، وبين ما أجمله هاهنا من المدة فقال: فمن له زوجة واحدة ينبغى أن لا يعطلها فيستحب أن يثبت عندها ويحضنها وأدنى الدرجات أن لا يخلى أربع ليال عن ليلة. هذا كلامه. واستأنسوا للأربع بأن نهاية الزوجات أربع وأقل القسم يوم. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الفصل الثاني في وطء الأب جارية الابن

الفصل الثاني في وطء الأب جارية الابن قوله: وإذا وطيء الأب جارية الابن لم يجب الحد وفيه قول مخرج، وأما التعزير ففيه وجهان: أحدهما المنع لئلا يصير الابن وماله سببًا لعقوبة الأب. وأصحهما: الوجوب كارتكاب سائر المحظورات، ثم قال: ويشبه أن يكون هذا في التعزير لحق الله تعالى لا لحق الابن. انتهى كلامه. ذكره نحوه في "الروضة" ولم يذكره على صورة البحث، بل جزم به وفي المراد بهذا التقييد نظر فإن أريد به أن الابن لا يثبت له على الأب تعزير قطعًا فباطل، ولهذا جزم الأصحاب بأنه إذا قذف ولده عزر، إلا أن ابن الرفعة ذكر في باب القذف من "الكفاية" أنه سمع بعض مشايخه يحكى وجهًا أنه لا يعزر ويؤيده أنه لا يحبس لوفاء دينه على الصحيح في "الشرح" و"الروضة" في كتاب الشهادات مع أن الحبس تعزير، وإن أريد به أن هذا الخلاف في التعزير لحق الله تعالى وأما لحق الابن فيثبت جزما فباطل أيضًا لأن تعليل الوجه الأول صريح في دفعه، وكذلك الخلاف الذي ذكرناه في الحبس. قوله: الحالة الثانية إذا كانت الجارية موطوءة الابن ووطئها الأب وهو عالم بالحال فلا حد على الأصح، ثم قال: وخصص الروياني في "البحر" الخلاف بما لو كانت موطوءة الابن من غير استيلاد، فأما إذا كان قد استولدها فحكايته عن الأصحاب وجوب الحد قطعًا لأنه لا يتصور أن يملكها بحال. انتهى. وهذا الكلام ربما يشعر بأن الأمر على ما نقله الروياني من التقييد لا

سيما كلام "الروضة" فإنه أشد إشعارًا به، وليس كذلك، بل الخلاف جار مطلقًا، فقد ذكر بعد هذا في أثناء التفريع على القول الصحيح ما يدل عليه فقال: أما إذا قلنا: إنه لا حد عليه فهو كما لو كان جاهلًا فيلزمه المسمى، وتكون الجارية محرمة عليهما أبدًا، وإذا أولدها فإن كانت مستولدة للابن لم تصر مستولدة للأب لأن أم الولد لا تقبل النقل هذا كلامه فجعل قول عدم وجوب الحد جاريًا مع استيلاد الابن لها على خلاف ما نقله الروياني، وعبارة "الشرح الصغير" في أصل المسألة يدل عليه، فإنه قال: بعد حكاية الخلاف ما نصه: ومنهم من يخصص القولين بكذا إلى أخره، فلم يأت به في صورة التقييد ولا نقله عن الأصحاب، بل ساقه مساق حكايات الأوجه الضعيفة. قوله: فإن قلنا بوجوب الحد فأولدها لم تصر أم ولد له وكان الولد رقيقًا غير نسيب، وعلى هذا القياس إذا وطئ جاريته المحرمة عليه برضاع أو غيره وأولدها لا تصير أم ولد له إذا أوجبنا الحد، قال الإمام: وارتاع بعض الأصحاب فلم يستجز أن يطأ الإنسان مملوكته فتحبل منه ولا تصير أم ولد له فحكم بثبوت النسب، والاستيلاد مع القول بوجوب الحد، وطرد هذا القائل كلامه في إيلاد جارية الابن والظاهر الأول. انتهى. وما صححه هنا من نفى النسب وأمية الولد في جاريته المحرمة عليه على القول بوجوب الحد ذكر مثله في باب حد الزنا في الكلام على وطء الشبهة وخالف الموضعين جميعًا في كتاب أمهات الأولاد فجزم بثبوته تفريعًا على هذا القول، وسوف أذكره في موضعه فراجعه، وتابعه في "الروضة" على ذلك. قوله: وفي إيلاد أحد الشريكين الجارية المشتركة يثبت الاستيلاد والنسب وإن طرد القول القديم، وقيل بوجوب الحد لأن وطأه يصادف

ملكه وملك غيره حقيقة، وكانت الشبهة أقوى تمكنًا، وإنما [يجب] (¬1) الحد صيانة لملك الغير. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا من ثبوت النسب والاستيلاد، وإن فرعنا على وجوب الحد قد خالفه في باب حد الزنا في الكلام على وطء الشبهة فصحح عدم الثبوت وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه، وتابعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: وقطع الجمهور بأنه لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ولده سواء أوجبنا الإعفاف أم لا، ثم قال: ولو نكح الأب جارية أجنبى فملكها الابن، وكان الأب بحيث لا يجوز له نكاح الأمة، فهل ينفسخ نكاحه؟ وجهان أحدهما: نعم كما لو ملكها الأب. وأصحهما: لا لأن الدوام له من القوة ما ليس للابتداء. انتهى. والتقييد بكون الأب لا يجوز له نكاح الأمة وقع أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" وتابع النووي عليه في "الروضة" و"المنهاج" وهذا القيد لا فائدة له. قوله: ولو أيسر الأب بعد ما ملكه الولد جارية أو ثمنها لم يكن له الرجوع كما لو أعطاه نفقة فلم يأكلها حتى أيسر. انتهى كلامه. وما أطلقه من عدم الرجوع في النفقة وتابعه عليه في "الروضة" سبقهما إليه صاحب "المهذب" وغيره وهو مشكل لا يوافق القواعد فإن نفقة القريب إمتاع لا تمليك، قال الإمام: ومن ثمرة ذلك أنه لا يجب على الولد تسليمها إليه، بل لو قال: كل معي كفى، وقد نقل ابن الرفعة في كتابيه "الكفاية" و"المطلب" ذلك عن "المهذب"، ثم رده بما ذكرناه. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الفصل الرابع في تزويج الإماء

الفصل الرابع في تزويج الإماء قوله: إحداها إذا زوج أمته لم يلزمه تسليمها إلى الزوج ليلًا ونهارًا، ولكن يستخدمها نهارًا ويسلمها ليلًا. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنهما لم يبينا ابتداء وقت التسليم وهو يوهم أنه من الغروب، وليس كذلك بل وقته بمضي الثلث الأول من الليل، كذا نص عليه الشافعي في "البويطي" لكن سبق في باب الإجارة من "الروضة" أنه إذا استأجر شخصًا للخدمة يمكث عنده من الليل ما جرت به العادة، وقياس ذلك مراعاة العادة هنا أيضًا. الثاني: أن الأمة المزوجة يحرم على سيدها النظر إليها والخلوة بها، وقد سبق في العارية أنه يحرم استعارة جارية الغير للخدمة على الأصح لأنه مظنة للخلوة والمدرك في الموضعين واحد. قوله: وإن لم يسلمها السيد إلا بالليل ففي النفقة وجوه: أظهرها عند جمهور العراقيين والبغوي: أنه لا يجب شيء، وبه قال أبو إسحاق. والثاني: يجب النصف. والثالث: يجب الجميع، وأُجري الوجهان الأولان في ما إذا سلمت الحرة نفسها ليلًا واشتغلت عن الزوج نهارًا. انتهى. وفى كلام الرافعى إشعار بالتوقف في جريان الوجهين في امتناع الحرة في بعض الزمان، وقد جزم بجريانهما في كتاب النفقات واختلف كلام النووى فيه فصحح هنا أنهما لا يجريان فقال: قلت الصحيح الجزم في

الحرة بأنه لا يجب شيء، ثم جزم في كتاب النفقات بجريانهما على عكس ما صححه هنا، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله في المسألة: وأما المهر فعن الشيخ أبي حامد أنه لا يجب تسليمه كالنفقة وذكر القاضي أبو الطيب أنه يجب، قال ابن الصباغ: وهذا أصح لأن التسليم الذي يتمكن معه من الوطء قد حصل وليس كالنفقة فإنها لا تجب بتسليم واحد. انتهى. وهذا الذي صححه ابن الصباغ قد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح أيضًا، وكذلك النووى من زياداته، ولم ينقل عن ابن الصباغ في أصل "الروضة" سوى التعليل. قوله: وإذا قتل السيد أمته فالنص في "المختصر" أنه لا مهر، وعن نصه في "الأم" أن الحرة إذا قتلت نفسها لا يسقط شيء من المهر وللأصحاب فيهما طريقان أشهرهما: أن المسألتين على قولين بالنقل والتخريج أحدهما: يسقط فيهما. والثاني: لا يسقط فيهما، والطريقة الثانية تقرير النصين، ثم قال: والظاهر في قتل السيد الأمة سقوط المهر وفي قتل الحرة نفسها عدمه، ولو قتلت الأمة نفسها كان كقتل السيد. انتهى ملخصًا. والتفصيل بين الأمة والحرة هو تقرير النصين بعينه، فكيف يستقيم مع تصحيحه أن يكون الصحيح طريقة التخريج؟ لأنه متى صحح التخريج والتخريج لا يزيد على قولين لزم أن يكون الأصح أحدهما وهو السقوط فيهما أو عدمه فيهما، وذكر في "الروضة" نحو ما ذكره الرافعي. قوله: وإن كان قد زوج أمته على صورة التفويض ثم جرى الفرض أو الدخول قبل بيعها فالمفروض أو مهر المثل للبائع أيضًا، وكذلك إن أوجبنا

المهر في المفوضة بالعقد، وإن جرى الفرض أو الدخول بعد البيع فالمفروض أو مهر المثل للبائع أو للمشترى؟ فيه طريقان: أظهرهما: أنه على وجهين بناء على أن الوجوب بالفرض والدخول أو نتبين بالفرض والدخول وجوب [المفروض أو] (¬1) مهر المثل [بالعقد] (¬2) وفيه قولان: إذا قلنا بالأول فهو للمشترى، وإن قلنا بالثانى فهو للبائع، والطريق الثاني القطع بأنه للبائع لأن العقد هو السبب. انتهى كلامه. الأصح من هذين القولين المبني عليهما هو الأول، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له، فإنه غريب، ولم يصحح شيئًا منهما في "الشرح الصغير" أيضًا، ولم يتعرض الرافعي في باب التفويض لهذين القولين. قوله في ما إذا زوج أمته من عبده: وحكى الشيخ أبو على وجهين في أنه يجب المهر ثم يسقط أو لا يجب أصلًا، وجه الأول أن لا يعري النكاح عن المهر فالنكاح بلا مهر من خصائص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ووجه الثاني: أن المعنى المسقط للمهر كونه مالكًا وأنه مقترن بالعقد. فيدفع الوجوب. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من هذا الخلاف هو عدم الوجوب، كذا صححه الإمام في "النهاية" والماوردي في "الحاوي" وهو مقتضى كلام "الحاوي الصغير". الأمر الثاني: في فائدة الخلاف فإنه لم يتعرض لها الرافعي ولا النووى ولا ابن الرفعة وفائدته ما حكاه شيخنا قاضي القضاة جمال الدين الوجيزي عن شيخه أقضى القضاة ظهير الدين في ما إذا زوجه بها وفوض بضعها ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من جـ.

فقال: زوجتكها بلا مهر، ثم أعتقه السيد ثم وطئها وهو حر، فإن قلنا بعدم الوجوب فلا شئ للسيد على العبد، وإن قلنا يجب ويسقط فللسيد عليه مهر المثل، لأن المهر في نكاح التفويض لا يجب بالعقد، بل بالدخول وهو حالة الدخول حر فلا يسقط ما وجب عليه في تلك الحالة للسيد لأنا إنما أسقطناه وهو رقيق لأن السيد لا يثبت له على عبده شيء وقد انتفى ذلك المعنى، وهذه القاعدة أيضًا تأتي في ما إذا باعه بعد صدور هذا النكاح الواقع على التفويض، فإن قيل ينبغى أن لا يجب لأنه استحق وطنًا لا شئ في مقابلته فيكون كما لو نكح كافر كافرة بالتفويض واعتقدوا أن لا مهر فإنه لا يجب شئ، وإن وقع الوطء في الإسلام، وعلله الرافعي بما قلناه من كونه استحق وطءً لا شئ فيه، قلنا: الفرق أن العقد في هذه الحالة قد اقتضى وجوب شئ إذ التفريع عليه فوجد سبب الوجوب، ولم يوجد المسقط بخلاف العقد المذكور من الكافر فإنه لم يقتضي وجوب شيء. قوله: ولو قال لغيره أعتق عبدك عني على أن أنكحك أمتى فأجاب، أو قالت له امرأة أعتقه على أن أنكحك ففعل عتق العبد، ولم يلزم الوفاء بالنكاح، وفي وجوب قيمة العبد وجهان بناء على القولين في ما إذا قال: أعتق عبدك عنك على ألف على أنه لا يلزمني الألف والأصح عند الشيخ أبي حامد وصاحب "التهذيب" وغيرهما أنه لا يلزم لأنه لا يعود إليه منفعة بعتقه، ولو قال لأمته أعتقتك على أن تنكحي زيدًا فقبلت ففي وجوب القيمة الوجهان أيضًا حكاهما الحناطي. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الخلاف المذكور في مسألة العتق قد جعله في كفارة الظهار وجهين.

الثاني: أنه صحح هناك لزوم الألف على خلاف ما يقتضيه كلامه هنا، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه، ووقع الموضعان في "الروضة" كذلك. الثالث: أن النووي في "الروضة" قد حذف المذكور في الوجهين الأخيرين المنقولين عن الحناطي ففات بحذفهما ما دل عليه كلام الرافعي من التصحيح فيها كما في المسألة قبلها. قوله: كما لو قال طلقتك على أن لا تحتجبي عني فإن الطلاق يقع من غير قول لأنه ليس بعوض في الشرع، وإن كان قد يتفق قصده. انتهى. هذه المسألة حذفها النووي من "الروضة". قوله: ولفظ الصحيح في قول الغزالي: إن يسر الله بيننا نكاحًا صحيحًا لا حاجة إليه، فإن لفظ النكاح والبيع وسائر العقود يختص بالصحيح منها على الظاهر كما سيأتى في باب الأيمان إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه. وهذا الخلاف الذى ادعاه وزعم أنه يأتي في الأيمان قد ذكره أيضًا قبل ذلك بنحو كراسين في الكلام على الغرور، وفي غير ذلك أيضًا وهو وهم لا أصل له، وسيأتي إيضاحه في آخر كتاب الأيمان فراجعه.

الفصل الخامس في تزويج العبد

الفصل الخامس في تزويج العبد قوله: وإذا جرى نكاح العبد بإذن السيد لا يصير السيد ضامنًا للمهر والنفقة على الجديد فإن قلنا بالقديم فهل يجب على السيد إبتداء أم يلاقي العبد ثم يتحمل عنه السيد؟ وجهان حكاهما أبو الفرج الزاز، وصحح الثاني وقطع البغوي بالأول، وكلام الإمام يقرب منه فإنه قال: وهذا وإن سمي ضامنًا إلى آخره ثم قال: فعلى الأول لا تتوجه المطالبة إلا على السيد ولو أبرأت العبد فهو كفء، وعلى الثاني تتوجه المطالبة عليهما. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح هو الثاني وهو التحمل كذا صححه الرافعى في "الشرح الصغير". الأمر الثاني: أن كلام الرافعي يقتضى موافقة الإمام والبغوى مع أن [التعبير الذي نقله هو عنه لا يقتضي ذلك، بل قد صرح الإمام في] (¬1) الكلام على الأب هل يكون ضامنًا لمهر ولده الصغير بعكس ذلك، ولم يحك فيه خلافًا. قوله: يجب على السيد تخلية العبد بالليل للاستمتاع وله أن يستخدمه نهارًا إذا تكفل بالمهر والنفقة وإلا فعليه أن يخليه ليكتسب، فإن استخدمه ولم يلتزم شيئًا لزمه الغرم، وفى ما يغرمه؟ وجهان أصحهما: أقل الأمرين من أجرة المثل وكمال المهر والنفقة. والثاني: كمال المهر والنفقة [على الوجهين في المراد بالنفقة] (¬2) وجهان، الصحيح نفقه مدة الاستخدام، والثاني نفقة مدة النكاح ما امتدت ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ.

لأنه ربما كان يكتسب ما بقي لجميع ذلك. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الروضة" ولا شك أن جريان الوجهين في المراد بالنفقة على الوجه الثاني واضح، وأما على الوجه الأول وهو القائل بالأقل فلا فائدة فيه إذا كان الأقل هو الأجرة لأنها إن كانت أقل من نفقة مدة الاستخدام فهى الواجبة، وإن كانت أقل من نفقة العمر فبطريق الأولى لأن نفقة مدة الاستخدام جزء من نفقة تلك المدة مع ما بعده، وأما إذا كان الأقل هو النفقة كما إذا فرضنا مثلا أن أجرته تساوى درهمين ونفقة تلك المدة تساوي درهمًا ونفقتها مع ما بعدها تزيد على درهمين فإن اعتبرنا الأقل بالنسبة إلى نفقة مدة الاستخدام أوجبنا الأقل وهو الدرهم، وإن اعتبرنا الأقل ولكن بالنسبة إلى العمر فيوجب درهمين فقد ظهرت فائدة الخلاف في قسم واحد من أربعة أقسام، ولأجل ما ذكرناه نعرف نقصان الأجرة عن نفقة العمر من زيادتها عليه، فإن الأجرة إن كانت بقدر النفقة في مدة الاستخدام أو أقل علمنا أن أجرة المثل أقل من المهر ونفقة العمر فإن كانت -أى الأجرة- أكثر كما لو كانت عشرة والنفقة خمسة فيأمن السيد بالنفقة تلك المدة ثم ينظر إن بقي النكاح حتى استغرقت النفقة تمام العشرة علمنا أن أجرة المثل أقل من نفقة مدة النكاح مع المهر فلا يزيد عن تمام العشرة، وإن زال النكاح بموت أو غيره قبل استكمال العشرة نظرنا بينها وبين الخمسة التى هى نفقة تلك المدة ونفقة بقية مدة النكاح، وعلمنا الأقل وطريقه لا يخفى. واعلم أن الغزالي في "الوجيز" لما حكى الأوجه لم يذكر الأقل، بل ذكر عوضه أجرة المثل وليس ذلك مغايرًا له فإن الزوجة ليس لها إلا المؤنة فإن كانت الأجرة أكثر استحال إيجابها للمرأة ولا وجه لخروجها عن ملك السيد فلزم أن الأجرة بكمالها إنما تجب إذا كانت أقل، وحينئذ فينتظم أن

يقال الواجب إنما هو الأقل. قوله: قال القاضي الحسين في "فتاويه": لو اختلف السيد والعبد في الإذن في النكاح فقال السيد ما أذنت، فالوجه أن تدعي المرأة على السيد أن كسب هذا العبد مستحق لي لمهري ونفقتي ليسمع القاضي البينة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" لكن الصحيح في كتاب الدعوى أن مجرد دعوى الزوجية أي بدون مال مسموعة على الصحيح، وهذا التصوير المتكلف فيه توهم الذهول عنه وأنها لا تسمع. قوله في مسائل الدور: المسألة الثانية: زوج أمته عبد غيره وقبض الصداق وأتلفه بإنفاق أو غيره، ثم أعتقها في مرض موته أو أوصى بعتقها فأعتقت وهى ثلث ماله، وكان ذلك قبل الدخول فليس لها خيار العتق لأنها لو فسخت النكاح لوجب رد المهر من تركة السيد، وحينئذ فلا تخرج بتمامها من الثلث، وإذا بقي الرق في البعض لا يثبت الخيار، فإثبات الخيار يجر إلى سقوطه، وكذا الحكم لو لم يتلف الصداق وكانت الأمة ثلث أمواله مع الصداق، ولو خرجت من الثلث دون الصداق أو أنفق ذلك بعد الدخول واستقرار المهر فلها الخيار، ولو كانت المسألة بحالها إلا أن الإعتاق وجد من وارثه بعد موته فينظر إن كان الوارث معسرًا فلا خيار لها لأنها لو فسخت النكاح لزم رد المهر من تركة الميت، وإذا كان على الميت دين لم ينفذ إعتاق الوارث المعسر على الصحيح. انتهى كلامه. وما ذكره يستقيم في صورة ثلث المهر، فأما في الصورة الثانية فلا لأنه بالفسخ تبقى العين التي هي المهر مستحقة لسيد العبد ولا دين على التركة. قوله: والمكاتب لا يتسرى من غير إذن السيد وبإذنه قولان بناء على الخلاف في تبرعاته بإذن المولى. انتهى كلامه.

وهذه المسألة مذكورة في الرافعي و"الروضة" في ثلاثة مواضع: أحدها: هذا، والثاني: في باب الوكالة، والثالث: في البيع في آخر معاملات العبيد، وهو من زيادات النووي، ومقتضى المذكور هنا وفي البيع تصحيح الجواز لأنه الأصح في التبرعات، ولكن الصحيح الذي عليه الفتوى خلافه، وسنوضحه إن شاء الله تعالى في الكتابة فراجعه.

الفصل السادس في النزاع

الفصل السادس في النزاع قوله: ويقبل إقرار المرأة بالنكاح قال الإمام: ويظهر في القياس أن لا يقبل إقرار البكر ومعها مجبر حذرًا من اختلاف الإقرارين، وإذا قبلنا إقرارها فاختلفت هى والولي فيجوز أن يقال: الحكم للسابق ويجوز أن يقال: يبطلان جميعًا، وقد ذكرنا وجهين في هذه المسألة في آخر الباب الثالث عن القفال الشاشي والأودني أن المقبول إقراره أم إقرارها فحصل أربعة احتمالات. انتهى كلامه. وما ذكره من حصول أربعة قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وكأنه أراد ما إذا فرعنا على قبول الإقرار وإلا فمقالة الإمام المذكورة أولًا المقتضية لعدم القبول مادام المخير موجودًا مقالة خامسة. قوله: وإذا زوجت المرأة بغير رضاها لكونها مجبرة، ثم ادعت أن بينها وبين الزوج محرمية فيقبل قولها في أصح الوجهين، ثم قال واحتج الشيخ أبو علي بأن الشافعي نص على أنه لو باع الحاكم عبدًا أو عقارًا على مالكه الغائب بسبب اقتضاه ثم جاء المالك، وقال كنت أعتقت العبد أو العقار، أو بعته صدق بيمينه ونقض بيع القاضي ورد الثمن على المشتري بخلاف ما لو باعه بنفسه أو توكيله، ثم ادعى ذلك فإنه لا يقبل لأنه سبق منه ما يقتضيه، ومقتضى حكايته أنه لا خلاف في صورة بيع الحاكم لكن الإمام حكى فيها قولين. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن التعليل بالمناقضة يوهم عدم سماع الدعوى والبينة وليس كذلك كما ستعرفه في آخر الدعاوى في الباب المعقود للمسائل المنثورة.

الأمر الثاني: أن القولين اللذين حكاهما الإمام قد حكاهما الربيع في "الأم"، والأصح منهما هو تصديق المالك، كذا صححه الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب اللقطة وعبر بقوله أصح القولين، إلا أنه مثل بالعتق خاصة، وقد علمت بما ذكره هنا أنه لا فرق بين العتق وغيره. قوله المسألة الثانية: إذا زوج أمته من إنسان، ثم قال: كنت مجنونًا أو محجورًا على وقت تزويجها، وأنكر الزوج وقال تزوجتها تزويجًا صحيحًا، فإن لم يعهد للسيد ما ادعاه ولا بينة فالقول قول الزوج بيمينه لأن الظاهر صحة النكاح، وكذا لو قال زوجتها وأنا محرم أو قال: لم تكن ملكى يومئذ ثم ملكتها، وكذا الحكم لو باع عبدًا ثم قال بعد البيع بعته وأنا محجور على أو لم يكن ملكى ثم ملكته، وعن نصه في "الإملاء" أنه لو زوج أخته ثم مات الزوج فادعى ورثته أن أخاها زوجها بغير إذنها، وقال: بل زوجنى بإذنى فالقول قولها، ولك أن تقول سبق ذكر وجهين في ما لو ادعى أحد المتعاقدين صحة البيع والآخر فساده فليجئ ذلك الخلاف في هذه الصورة. انتهى. اعترض عليه النووى فقال: لم يذكر الأصحاب في هذه الصور خلافًا، ولا يصح مجيئوه لأن الظاهر الغالب في الأنكحة الاحتياط وعقدها بشروطها وبحضرة الشهود وغيرهم بخلاف البيع فإن وقوعه فاسد كثيرًا. انتهى كلامه وفى ما ذكره -أعني النووى- أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم ذكر الأصحاب لهذا الخلاف هنا ليس كذلك، بل قد صرحوا بجريانه حتى جزم البغوى في فتاويه بتصديق مدعي الفساد، ولم يحك خلافه، وإنما ذهب إليه هنا لأنه ذهب إليه في البيع كما نقله عنه الرافعي هناك، والغريب أن النووي قد صرح قبل ذلك بالخلاف في النكاح، والأغرب فيه كونه من "زياداته" فقال في الكلام

على الشهادة في النكاح في أثناء زيادة ما نصه ولو قالت: عقدنا بفاسقين، فقال: بل بعدلين، فأيهما يقبل؟ وجهان: الأصح قول الزوج هذا كلامه. الأمر الثاني: أن هذا الفرق الذي ذكره النووي خاص بالنكاح ولا يشمل جميع الصور التي أشار الرافعي إلى التخريج فيها فإن من جملتها ما إذا باع عبدًا، ثم قال بعد البيع: بعته وأنا محجور علي أو لم يمكن ملكي ثم ملكته. قوله: ولو ادعت المنكوحة أنها زوجت بغير إذنها وهى معتبرة الإذن ففي "فتاوى البغوي" أنه لا يقبل قولها بعدما دخلت عليه وأقامت معه، فكأنه جعل الدخول بمنزلة الرضى. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد أعادها الرافعى في آخر كتاب الرجعة، وجزم بالقبول مطلقًا من غير تفصيل ولا إعزاء إلى ناقل، وفرع عليها بأنها لو رجعت وقالت: كنت رضيت، ففي قبول رجوعها وجهان المنصوص أنه لا يقبل. قوله نقلًا عن "فتاوى البغوي": إذا قالت لوليها وهى في نكاح أو عدة: أذنت لك في تزويجي إذا فارقني زوجي أو انقضت عدتي. إلى آخره. اعلم أن هذا الفرع نقله النووي من هنا إلى الكلام على الأولياء وفيه اضطراب أشرت إليه هناك وصرحت به في الوكالة فراجعه. قوله: عن الفتاوى المذكورة: ولو كان له إخوة فزوجها أحدهم وحضر الآخران شاهدين ففي صحة النكاح جوابان وجه المنع أن الشرع جعل المباشر نائبًا عن الباقين في أداء ما توجه عليهم، انتهى كلامه. وهذه المسألة لم ينقلها الرافعى عن الفتاوى الذكورة على وجهها، فإن البغوي أجاب بعدم الصحة فقال: عندي أنه لا يصح لأنهم جميعًا أولياء،

وإن صح العقد من واحد منهم، ثم قال بعد ذلك ويحتمل غيره، ثم أردفه بأنه لو زوجها واحد منهم برضاها من غير كفء برضى الباقين وحضر الباقون شهودًا فالمنع فيه أظهر مما قبله، ونقل النووي هذه المسألة من هنا إلى ركن الشهود، ورجح من زياداته الصحة فقال: إنه الأرجح. قوله: ولو زوج أمته ثم قال: كنت صبيًا لم يصدق في أظهر القولين ولو زوج أخته برضاها ثم ادعت أنها كانت صغيرة يومئذ ففي -فتاوى القفال- والقاضي الحسين والبغوي أن القول قولها بيمينها، وإن اعترفت يومئذ ببلوغها، وهذا يمكن أن يكون تفريعًا على أحد القولين، ويمكن أن يفرق بأن العقود الجارية بين المسلمين وإن كان الغالب صحتها إلا أن هذه لم تعقل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الفتوى على الثاني فإنه قياس ما سبق بدون ورقة في ما إذا ادعت أن بينهما محرمية ولم يقع التزويج برضاها أن قولها يقبل في أصح الوجهين الذي نقله الإمام عن المعظم لأنها لم تعترف بنقيضه. الأمر الثاني: أنها لو ادعت أنها زوجت بغير إذنها وهى معتبرة الإذن فلا يقبل قولها بعد ما دخلت عليه وأقامت معه كذا نقله الرافعي قبل هذا الموضع بقليل عن البغوي وأقره وعلله بقوله -كأنه يعني البغوي- جعل الدخول بمنزلة الرضى، وإذا علمت ذلك اتجه أن تكون صورة المسألة في ما إذا ادعت ذلك عقب البلوغ فإن مكنته بعد ذلك، ثم ادعت لم يقبل قولها.

كتاب الصداق

كتاب الصداق وفيه خمسة أبواب الباب الأول في الصداق الصحيح قوله: أما إذا زاد الصداق في يد الزوج فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم الصنعة فهي تابعة للأصل، وإن كانت منفصلة كالثمرة والولد وكسب الرقيق، قال في "التتمة": إن قلنا: إن الصداق مضمون ضمان اليد فهى للمرأة، وإن قلنا بضمان العقد فوجهان كالوجهين في زوائد المبيع قبل القبض، والأصح أنها للمشتري في البيع، وللمرأة هاهنا، فإن قلنا: إنها للمرأة فهلكت في يده أو زالت المتصلة بعد حصولها فلا ضمان على الزوج إلا إذا قلنا بضمان اليد وقلنا: إنه يضمن ضمان المغصوب وإلا إذا طالبته بالتسليم فامتنع ففي "التهذيب" وغيره ما يشعر بتخصيص الوجهين في أن الزوائد لمن هي في ما إذا هلك الأصل في يد الزوج وبقيت الزوائد أو ردت الأصل بعيب، فأما إذا استمر العقد وقبضت الأصل فالزوائد لها. انتهى كلامه. وما ذكره عن "التتمة" من إطلاق الوجهين حتى جعل كلام "التهذيب" وغيره مقيدًا له تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غلط لا ذكر له في "التتمة" ولا يتصور القول به إذ كيف يصح القول بأن الزوائد ملك للبائع وللزوج ولا ملك لها، ولم يحصل فسخ؟ والمسألة قد ذكرها في "التتمة" على الصواب، وجعل الوجهين في البابين في حالة الفسخ كما ذكره في "التهذيب" وغيره، فقال في البيع: الزوائد الحاصلة من المبيع قبل القبض للمشتري يجب على البائع تسليمها إليه، وذلك كالولد والنتاج واللبن والثمرة والبيضة وكسب العبد لأن الملك قد انتقل إليه بنفس العقد وسبب

ملك الزوائد ملك الأصل، فإذا كان الأصل له كانت الزوائد له، هذا كلامه، وقال في باب الرد بالعيب: إذا رد المبيع بالعيب فالزوائد الحادثة تبقى للمشترى سواء كان قبل القبض أو بعده إلا إذا قلنا أن الرد بالعيب يرفع العقد من أصله فترد الزوائد كلها هذا لفظه، فحكى الخلاف في حالة ارتفاع البيع، ثم أنه في هذا الباب جعل حكم زوائد الصداق كزوائد البيع، فقال: إذا حصلت زوائد منفصلة في يد الزوج فلمن تكون؟ إن قلنا أن الصداق مضمون ضمان يد فالزوائد تسلم لها، وإن قلنا ضمان عقد فحكمها حكم زوائد المبيع قبل القبض، وهكذا لو ردت الصداق بعيب بعد حصول الزوائد في يده، وإن قلنا بضمان اليد فهي لها، وإن قلنا بضمان العقد فحكمها حكم ما لو وجد بالمبيع عيبًا فرده هذا كلامه، فتقرر من كلامه أن محل الخلاف في المبيع إنما هو في حالة الفسخ فإن الصداق كالبيع فلزم أن يكون أيضًا محل الخلاف فيه -أى في الصداق- إنما هو في ما إذا فسخ. قوله: وللمرأة حبس نفسها إلى أن يسلمها الزوج الصداق إن كان عينًا أو دينًا حالًا، فإن كان مؤجلًا فلا، ثم قال: فإن حل بعد الأجل قبل أن تسلم نفسها فجواب الشيخ أَبى حامد وأصحابه أنه ليس لها الحبس أيضًا، وعلى هذا جرى صاحب "التهذيب" و"التتمة"، وأكثر الأئمة وفيه وجه أن لها الحبس. انتهى. وما ذكره من رجحان عدم الحبس ذكره في "المحرر" أيضًا وخالفهما في "الشرح الصغير" فصحح الجواز وهو الصواب كما سبق إيضاحه في البيع فراجعه. قوله: وله أن يمتنع من تسليم الصغيرة لأنه نكح للاستمتاع لا للحضانة وفي المريضة وجهان، قال في "الشامل": الأقيس أنه ليس له الامتناع كما ليس له أن يخرجها من داره إذا مرضت. انتهى.

ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وهذا الوجه الذى رجحه صاحب "الشامل" جزم به في "البحر" هنا ورجحه في "الشرح الصغير" وعبر بالأقيس. قوله: ثم إن كانت تخاف الإفضاء إذا وطئت لعبالة [الزوج] (¬1) فليس عليها التمكين وليس له الفسخ بخلاف الرتق والقرن فإنه يمنع مطلقًا، والتحاقه لا يمنع وطء نحيف مثلها، وفي الكتاب ما يخالف هذا في الديات. انتهى. واعلم أن الرافعي قد رجح في الديات تفصيلًا لم يصرح به هاهنا فقال بعد ذكر مقالة الجمهور ومقالة الغزالي ما نصه: ويشبه أن يفصل فيقال إن كانت المرأة نحيفة لو وطئها الزوج لأفضاها لكنها تحتمل وطء نحيف مثلها فلا فسخ، وإن كان ضيق المنفذ بحيث يفضي وطؤها من أى شخص فرض إلى الإفضاء فهو كالرتق وينزل ما قاله الأصحاب على الحالة الأولى، وما في الكتاب على الثانية هذا كلامه. والعبالة بفتح العين المهملة وباء موحدة هي الغلط يقال عبل بالضم عبالة بمعنى غلط وبمعنى تم خلقه. قوله: فروع عن "مجرد الحناطي": اختلف الزوج وأبو الزوجة فقال أحدهما: هى صغيرة لا تحتمل الجماع، وقال الآخر تحتمله فهل القول قول فنكر الاحتمال أم تعرض على أربع نسوة أو رجلين من المحارم؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" هو الثاني، وحكاية الوجه الأول تقتضى أن مدعى الاحتمال لا تقبل بينته وإلا فيتحد الوجهان ولا يتأتى ¬

_ (¬1) في أ، ب: الزوجة، والمثبت من الروضة، جـ.

القول بذلك، والظاهر أن قائلًا عبر بالأول، وقائلًا بالثانى فتوهم الواقف عليهما المغايرة مع أنهما متحدان. قوله: المهر الواجب بالنكاح أو الفرض مستقر بطريقين: أحدهما الوطء [وإن كان حرامًا لوقوعه في الحيض وإلا حرام لأن الوطء] (¬1) بالشبهة يوجب المهر ابتداء فالوطء في النكاح أولى إن تقرر المهر الواجب. انتهى. وما ذكره الرافعى من كون الوطء وحده كافيًا ذكره الأصحاب كلهم وليس كذلك بل لابد من قيد آخر، وهو قبض العين لأن المشهور أن الصداق قبل القبض مضمون ضمان عقد كالمبيع، فكما قالوا: إن المنع قبل القبض غير مستقر وإن كان الثمن قد قبض كذلك الصداق. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الثاني في الصداق الفاسد

الباب الثاني في الصداق الفاسد قوله: الضرب الثاني ما يخل بمقصود النكاح كشرط أن يطلقها، أو لا يطأها وقد سبق الكلام في الصورتين في فصل التحليل. انتهى. وما ذكره من سبق ذكر ترك الوطء هناك تابعه عليه في"الروضة"، لكن الذى سبق هناك مما يتعلق بالوطء ليس اشتراط تركه مطلقًا، بل الذى سبق إنما هو إذا شرط أن لا يطأها نهارًا أو لا يطأها إلا مرة واحدة فاعلمه، وإن كان الحكم واحد. قوله في أصل "الروضة": فصل: نقل المزني في "المختصر" أنه لو نكحها بألف على أن [لأبيها] (¬1) ألفًا فسد الصداق، وأنه لو نكحها بألف على أن يعطى أباها ألفًا كان الصداق جائزًا، وللأصحاب طرق: المذهب منها فساد الصداق في الصورتين ووجوب مهر المثل. والثاني: تقرير النصين، والثالث: طرد قولين فيهما. انتهى. واعلم أن الرافعى -رحمه الله- قد صور المسألة الثانية [بما إذا عطف الألف الثانية] (¬2) المذكوره فيها على الألف الأولى، فقال: لو نكحها على ألف، وعلى أن يعطى أباها ألفًا وعلل الصحة بقوله: وأما في الصورة الثانية فالمشروط الإعطاء معطوفًا على الألف الأولى فيشعر بأن الصداق ألفان، والزوج نائب عنها في [رفع أحد الألفين إلى الأب، أو الأب نائب عنها في] (¬3) القبض هذا لفظ الرافعي ثم ذكر بعد ذلك أيضًا -أعنى الرافعي- أن إثبات الواو هو الموجود في [أكثر] (¬4) نسخ "المختصر" ¬

_ (¬1) في جـ: لابنها. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من جـ. (¬4) في جـ: أظهر.

وبأنه أكثر إشعارًا في الفرق فحذف النووي حرف العطف فلزم منه تغيير المسألة. قوله: وإذا جمع بين نسوة في عقد واحد وذكر للكل صداقًا واحدًا صح النكاح، وفي الصداق قولان، وهذا قد يتصور عند إيجاد الولي بأن يكون للرجل بنات ابن مختلفات الآباء أو يكون له عتيقات، وقد يتصور مع التعدد بأن وكل أولياء النسوة رجلًا فزوجهن في عقد واحد وأصح القولين الفساد لأن تعدد العاقد يوجب تعدد العقد، والصداق مجهول في كل عقد فيفسد، ثم قال: ونص الشافعى أنه لو اشترى عبيدًا كل واحد لمالك صفقة واحدة إما من الملاك أو من وكيل لهم بطل البيع. انتهى كلامه. وهو كالصريح في امتناع وقوع النكاح من الأولياء بالمباشرة وإمكان البيع من المالكين فتأمله وهو غير مستقيم، بل إن تصور في البيع تصور في النكاح بذلك الطريق بعينه وإلا فلا، والصواب إمكانه بما ذكروه. قوله في المسألة: فإذا قلنا بصحة الصداق وزع المسمى على مهور أمثالهن، وفيه وجه أو قول ضعيف أنه يوزع على عدد رؤوسهن، لأنه ذكر المهر في مقابلهن. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله وإنما تردد بين القولين والوجهين لأن الإمام نقل عن "تعليقة القاضي الحسين" أن الخلاف قولان، وتبعه الغزالي في "البسيط"، وخالف في "الوسيط" فجعله وجهين. قوله: أيضًا في المسألة وإن قلنا بفساد الصداق ففى ما يجب لهن قولان كالقولين في ما إذا قال: أصدقتك هذا العبد فخرج حرًا أو مستحقًا، أصحهما لكل واحدة منهن مهر مثلها لجهالة المذكور. والثاني: يوزع المسمى على مهور أمثالهن ويكون الحاصل لكل واحدة كالحاصل لها إذا قلنا بصحة المسمى. انتهى كلامه.

وهذا القول الثاني وهو القول المذكور في آخر كلامه تفريعًا على قول فساد الصداق قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غلط عجيب وقع للغزالي في "الوسيط" و"الوجيز" فقلدهما الرافعي ذاهلًا عن ذلك لأن هذا القول هو قول الصحة بعينه والتفريع على الفساد، وقد ذكره الإمام على الصواب وكذلك الغزالي في "البسيط" عند تلخيصه لكلام إمامه، فإنه قال -أعني الغزالي- التفريع إن قضينا بصحة الصداق فالتوزيع على مهور أمثالهن، وإن فرعنا على فساد الصداق فالرجوع لكل واحدة إلى مهر مثلها وهذا ظاهر على القول بأن المهر يضمن قبل القبض يضمن ضمان العقود، وأما على القول بأنه يضمن ضمان اليد، فإنا نقدر الحر عبدًا، والخمر عصيرًا إذا جعلا صداقين ويرجع إلى قيمتهما، وهذا المجهول أى الذى في مسألتنا وهى جمع النسوة في المهر يمكن تقويمه بالتوزيع، وليس هذا المجهول لا يتوصل إلى تقويمه فعلى هذا القول أى ضمان اليد كان يتجه [القول] (¬1) بصحة الصداق، وتخصيص القولين بالقول الآخر وهو ضمان العقد، لكن قطع الأصحاب بطرد القولين مطلقًا، فليكن هذا إشكالًا لا تصحيحًا لضمان العقد، انتهى كلام "البسيط" وهو صحيح متجه، فإن الإشارة في قوله وهذا ظاهر على القول بأن المهر يضمن إلى آخره عائد إلى ما ذكره، وهو التفريع على القولين، فلما اختصره في "الوسيط" توهم أنه عائد إلى القول الثاني لكونه أقرب وصرح به غير ناظر إلى آخر كلامه وهو من قوله فعلى هذا القول إلى آخره ظانًا أنه زيادة -إيضاح- فوقع الخلل ثم ذكر مثله أيضًا في "الوجيز" فإنه قال: وإن قضينا بالفساد رجعت كل واحدة إلى مهر المثل: على قول، وإلى قيمة ما يقتضيه التوزيع على قول لأن هذا مجهول يمكن معرفته بخلاف ما لو أصدقها مجهولًا لا يمكن معرفته فإنه يتعين مهر المثل. هذا لفظ "الوجيز"، وعبارة "الوسيط" نحوه أيضًا فتبعه الرافعي حالة شرحه، ثم النووي عند اختصاره ¬

_ (¬1) في جـ: القطع.

فوقعا في غلط صريح، فلله الحمد والمنة على الإلهام لها والوقوف على أسبابها. قوله: فإذا أذن لعبده في أن ينكح امرأة ويجعل نفسه صداقًا لا يصح الصداق لأنه لو صح لملكت زوجها وينفسخ النكاح ويرتفع الصداق ولا يصح النكاح أيضًا لأنه اقترن به ما يضاده فكان كشرط الطلاق، ثم قال: ومن الأئمة من قال على سبيل الاحتمال يجوز أن يقال يصح النكاح ويفسد الصداق. انتهى كلامه. وهذا الاحتمال الذى نقله عن بعض الأئمة ذكره الإمام والغزالي قالا: ولكن لا صائر إليه من الأصحاب، وهذا الاحتمال قد جزم به صاحب "الشامل" ذكره في آخر باب الشغار، وقد نبه في "الروضة" على ذلك، ونقله أيضًا صاحب "التتمة" عن بعض أصحابنا العراقيين. قوله: فلو قبل لابنه نكاح امرأة وأصدقها أمة لم يصح النكاح لأن ما يجعله صداقًا يدخل في ملك الابن أولًا ثم ينتقل إلى المرأة، ولو دخلت في ملكه عتقت عليه وامتنع انتقالها إلى المرأة صداقًا فيصح النكاح ويفسد الصداق، وإذا فسد الصداق جاء الخلاف في أن الواجب مهر المثل أو قيمتها، هذا ما ذكروه في هذه الصورة، لكن ذكرنا خلافًا في ما إذا أصدق الأب عن الصغير من مال نفسه ثم بلغ الابن وطلق قبل الدخول أن نصف المهر يرجع إلى الابن أو الأب؟ فمن قال يرجع إلى الأب فقد تنازع في قولنا لا يدخل الصداق في ملكها حتى يدخل في ملك الابن. انتهى. وما ادعاه من أن المنقول للأصحاب هو البطلان، وأنه قد ينازع فيه منازع مستندًا إلى الأصل الذي ذكره، تابعه عليه وليس كما قالاه فقد صرح القاضي الحسين في "فتاويه" بأن في صحة الصداق والحالة هذه وجهين، وبناهما على المسألة التي حاول الرافعي البناء عليها، وذلك في الحقيقة دال على علو قدره -رحمه الله-.

قوله: وإذ قبل النكاح لابنه الصغير أو المجنون بمهر المثل أو دونه أو بعين مال من أمواله هي قدر مهر المثل أو دونه صح، وإن قبله بأكثر من مهر المثل فالصداق فاسد، ثم قال: وإذا فسد وجب مهر المثل، وفى ما إذا أصدقها عينًا وجه أنه يصح التسمية في قدر مهر المثل. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من تصحيح بطلان الكل دون الزائد قد رجح قبل ذلك في باب المولى عليه في الكلام على السفيه عكسه وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه، غير أنه تكلم هنا في ما إذا كان المحجور عليه صغيرًا أو مجنونًا وفرضها في ذلك الموضع في السفيه، ولا أثر لهذا قطعًا وقد سوى بينهما صاحب "التنبيه" في أوائل هذا الباب، وحكم ببطلان الزائد فقط وأقره النووى فلم ينبه عليه في تصحيحه ووقع الموضعات في "الشرح الصغير" و"الروضة" كما وقعا في "الكبير"، وأما "المحرر" فكلامه هنا ككلام "الشرحين"، وكلامه في السفيه محتمل فإنه حكم بوجوب مهر المثل، ولم يصرح هل هو من المسمى أو من غيره؟ وتبعه عليه في "المنهاج"، واعلم أنا إذا أبطلنا الزائد فقط فينبغى أن يجرى في الباقى قولا تفريق الصفقة ولم يخرجوه عليه. الأمر الثاني: أنه قد تقدم في باب المولى عليه في الكلام على السفيه أن الولي إذا أطلق الإذن صح، ويتزوج امرأة بمهر مثلها، لكن لو نكح شريفة يستغرق مهر مثلها ماله ففي صحة النكاح وجهان اختيار الإمام، وبه قطع الغزالي أنه لا يصح بل يتقيد بموافقة المصلحة واختاره صاحب "الحاوي الصغير" وقياس ما ذكره هناك في السفيه أن يأتى مثله في الصغير والمجنون. قوله: ولو أصدق عن أبيه من مال نفسه أكثر من مهر المثل فقد أورد

الإمام فيه احتمالين أحدهما أنه يفسد المسمى وهو كما لو أصدق من مال الابن وذلك لأن ما يجعله صداقًا يدخل في ملك الابن وإذا دخل في ملكه لم يمكن التبرع به. والثاني: أنه يصح وتستحق المرأة المسمى لأن المجعول صداقًا لم يكن ملكًا للابن حتى يفوت عليه، وإنما يحصل في ضمن تبرع الأب فلو لم يصح لفات على الإبن، ولزم مهر المثل في ماله، وهذا ما أورده صاحب الكتاب وصاحب "التهذيب"، وفي "التتمة" و"أمالي" أبي الفرج ترجيح الاحتمال الأول، وأيد ذلك بأن الصبى لو لزمته كفارة القتل فأعتق الولى عنه عبدًا لنفسه لم يجز لأنه يتضمن دخوله في ملكه وإعتاقه عنه وإعتاق عبد الطفل لا يجوز ويؤيده أيضًا ما إذا قبل له نكاح امرأة وجعل [أمه] (¬1) صداقها على ما قدمنا. انتهى كلامه. عبر في "الروضة" عن قول الرافعي وأيد ذلك بقوله قال المتولي: وتتأيد، وهذه المسألة التي نقلها عن المتولي وهى إعتاق الولي عن الكفارة التي لزمت الصبي قد ذكرها الرافعي في ثلاثة مواضع: أحدها: في هذا الموضع، والثاني: في كفارة الظهار لكنه لم يصرح بالعتق عن الكفارة، بل ذكر ما يؤخذ منه الجواز في الكفارة بطريق الأولى، والثالث: في كفارة القتل وجزم فيها بالجواز كما سأذكره في موضعه، ولم يذكر هنا ما يستدل به من المنع الموهم أنه متفق عليه وبالجملة فهذا النقل عن المتولي غير محقق وذلك لأن المتولي قد جزم في كتاب كفارة القتل بالجواز فقال: إن كان للقاتل مال اشترى الولى مملوكًا فيعتق عنه كما يخرج الزكاة والفطرة من ماله. هذا كلامه هناك، وقال هنا ما نصه: فالمذهب فساد التسمية لأن المسمى يدخل في ملك الصبي أولًا، ثم ينتقل إلى المرأة فيكون كما لو وهب ماله لولده ثم جعله صداقًا لامرأته، وكما لو أعتق الأب عنه ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

عبدًا لنفسه لأن العبد يدخل في ملك الطفل أولًا، ثم يعتق ولا يجوز للولى عتق عبد الطفل، ويخالف فيما لو أعتق الوارث عن كفارة الميت عبدًا لأن الميت لا ملك له في الحال ولا له حالة منتظرة يكون فيها أهلًا للملك والعتق، وأما الصبي فمن أهل الملك في الحال ويصير من أهل العتق في تأتي الحال هذا كلامه، وليس بصريح فإن إعتاق الولي إنما هو عن الكفارة، بل ولا قرينة ظاهرة ولا خفية تدل عليه وإنما مراد المتولي عتق التبرع ولهذا قرنه بصورة الهبة، وإنما ذكر الكفارة عن الميت لأن الولي له (ولاية) تمليك الطفل سواء تعلق به سبب وجوب أم لا بخلاف الوارث ولو كان في كلام المتولي ما يوهم ذلك لوجب تأويله لأمرين أحدهما: للجمع بين كلامه وعدم وقوعه في التناقض، والثاني: ليوافق منقول المذهب، ثم راجعت كلام السرخسى في "الأمالي" فلم أره ذكر الاستشهاد بالكلية فينبغى قراءة قول الرافعى وأيد على البناء للمفعول. قوله: إذا اتفقوا على مهر في السر وأعلنوا بأكثر من ذلك فعن الشافعى أنه قال في موضع: أن المهر مهر السر، وفي موضع آخر: أن المهر مهر العلانية وفيها طريقان: أصحهما تنزيل النصين على حالين فحيث قال المهر مهر السر أراد ما إذا عقد سرًا ثم عقد جهرًا، وحيث قال: إنه مهر العلانية أراد ما إذا اتفقوا على ألف ثم عقدوا في العلانية بألفين، والطريق الثاني: قولان واختلفوا فقيل محلهما ما إذا اصطلحوا على التعبير عن الألف بالألفين، وقيل يجريان مهما اتفقوا على ألف وجرى العقد بألفين، وإن لم يتعرضوا لتغير اللغة، إذا علمت هذا كله فقد قال بعده: ثم ما المعنى بما أطلقناه من الطريقين من الاتفاق في السر أهو مجرد التراضي والتواعد، أم المراد ما إذا جرى العقد في السر بألف، ثم عقدوا بألفين في العلانية؟ ، منهم من يشعر كلامه بالأول وقضية لفظ "التهذيب" وغيره إثبات القولين، وإن جرى العقد. انتهى كلامه.

وما ذكره من جريان الخلاف في ما إذا تقدم عقد السر تابعه عليه في "الروضة" وهو لا يتصور لأنه إذا سبق فقد انعقد بألف بمقتضى التسمية، والثاني فاسد جزمًا فلا تصح التسمية التى فيه بطريق الأولى. نعم يمكن جريان الخلاف إذا سبق عقد العلانية، فهل ينظر إلى ما سمى في العقد السابق فيلزم الألفان أم إلى ما شرطناه فيلزم المسمى في عقد السر وهو الألف؟ فيه الخلاف. قوله: ولو قالت: زوجني بألف، فزوجها الولي أو وكيله بخمسمائة لم يصح النكاح، وألحق البغوي بهذه الصورة ما إذا زوجها الولي بلا مهر أو مطلقًا، وقيل في صحة النكاح في صوره الولي قولان. انتهى. ثم ذكر الرافعى صورًا أخرى فاعترض عليه النووي فقال: قلت هذا المذكور جميعه هو طريقة الخراسانيين، وأما العراقيون فقطعوا بصحة النكاح في كل هذه المسائل، ثم نقل عن صاحب "البيان" ما يوافق مقالته أعني [مقالة] (¬1) النووي، إذا علمت ذلك فكلامه أعني النووي يشعر بالصحة في الجميع لأن نقل العراقيين مقدم على نقل الخراسانيين لاسيما والعراقيون قاطعون وغيرهم متردد. فاجتمع قطع العراقيين وبعض الخرسانيين لكن قد قطع الرافعي في الباب الرابع المعقود لبيان الأولياء بالبطلان في نظير ذلك وتابعه عليه النووي، وقد تقدم ذكر لفظه هناك والوعد بذكر هذا. قوله: ولو قالت لوكيل الولى زوجنى مطلقًا، ولم تتعرض للمهر فزوجها الوكيل بما دون مهر المثل ففي فساد النكاح طريقان نقلهما الإمام وغيره، أظهرهما عنده وعند صاحب "الكتاب" القطع بالفساد، والثاني أنه على قولين انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ذكر مثله في "الشرح الصغير" ومقتضاه رجحان الفساد، ولهذا صححه في أصل "الروضة"، لكن صحح الرافعي في ما إذا وكلت المرأة في الخلع وأطلقت فخالع الوكيل بأكثر من مهر المثل أنه يقع ثانيًا بمهر المثل والمسألتان في المعنى على حد واحد، لكن ذكر النووي من زياداته أن البطلان طريقة الخراسانيين قال: وأما العراقيون فقطعوا بالصحة في هذه المسألة وفي غيرها مما ذكره الرافعي في هذا الفصل. قوله: ولو أنها أذنت للولي في التزويج مطلقًا فزوج بما دون مهر المثل فيفسد النكاح، أو يصح ويجب مهر المثل؟ ، فيه قولان كما سبق، وكذا لو زوجها بلا مهر وفيه طريق آخر أنه يقطع بالفساد كما في الوكيل. انتهى لفظه بحروفه. وليس فيه تصريح ببيان القولين المشبه بهما ولأجل ذلك اضطرب كلام "المحرر" و"الشرح الصغير" و"الروضة"، فأما "المحرر" فحكى قولين، وصحح البطلان فقال: ولو قالت المرأة زوجنى بكذا فزوجها الولى بأقل منه لم يصح النكاح، ولو أطلقت فنقص عن مهر المثل فيبطل أو يصح ويجب مهر المثل؟ فيه قولان أظهرهما: الأول. وأما في "الشرح الصغير" فقد سوى هذه المسألة وهى إذنها لوليها بإذنها لوكيلها، وحكى فيهما معًا الطريقين المتقدمين في المسألة السابقة، وهو يقتضي أن الراجح طريقة القطع بالبطلان. وأما "الروضة" فإنه حكى قولين وصحح الصحة فقال: ولو أذنت للولي في التزويج مطلقًا فزوج بدون مهر المثل أو بلا مهر فهل يبطل النكاح أم يصح بمهر المثل؟ فيه القولان السابقان في السبب الخامس أظهرهما الصحة، وقيل يفسد قطعًا كالوكيل. انتهى. والقولان السابقان هما في ما إذا زوج بنته المجنونة أو البكر الصغيرة أو

الكبيرة بغير إذنها بأقل من مهر المثل، والأصح منهما في الرافعي و"الروضة" هو الصحة، والذي قاله النووي أقرب إلى اللفظ وأوجه في المعنى، أما الأول فلأنه لم يتقدم في شئ من مسائل هذا السبب جعلها على قولين، وإنما تقدم ذكرهما في حكاية طريقة مرجوحة، وأما الثاني: فلأن إذنها عند الإطلاق جوز له الإقدام على نكاحها بمهر المثل كما جوز له ذلك جنونها وبكارتها، فإذا لم يفسد النكاح في المجنونة والبكر لم يفسد في الأذنة فثبت بهذا كله أن الظاهر الذى أراده الرافعي هو ما تفطن له النووي وكأنه غاب عن الرافعي ذلك حالة تصنيف "المحرر" و"الشرح الصغير" لطول العهد به فذكر ما ذكر وقد استدرك في "المنهاج" على كلام "المحرر" وصححوا الصحة. قوله: ولو قالت للولي أو للوكيل: زوجني بما شاء الخاطب، فقال المأذون للخاطب: زوجتكها بما شئت، فإن لم يعرف ما شاء الخاطب فقد زوجها مجهول فيصح النكاح ويجب مهر المثل، وإن عرف ما شاء فوجهان: أظهرهما: صحة الصداق لإحاطتها بالمقصود. والثاني وبه قال القاضي الحسين: لا يصح، ويرجع إلى مهر المثل لخلل اللفظ وإبهامه، ويجوز أن يرجع الخلاف إلى أن العبرة باللفظ أو بالمعنى. انتهى. وما ذكره من أن الخلاف بين المعنى وغيره محله في ما إذا قال الولي: زوجتكها بما شئت، وهما يعلمانه قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك كما دل عليه كلام "النهاية" في كتاب الصداق قبيل باب تفسير مهر المثل بدون صفحة فقال ما نصه: ولو قالت لوليها زوجنى بما شئت، أو بما شاء الخاطب، فإن جرى العقد على هذه الصفة فقال الولي: زوجت

فلانة منك أيها الخاطب بما شئت، فهذا نكاح معقود بمهر مجهول، ولو وقف الولى على المبلغ الذى شاءه الخاطب ثم أنشأ العقد به فيجب القطع بصحة التسمية، وذكر عن القاضى أن هذا مجهول ويعلق بأن لفظ الإذن على صيغة الجهالة، وهذا وهم عظيم فإنها فوضت إلى الولي أن يعقد بما يقدره الخاطب، وليس من غرضها أن تعاد صيغة لفظها في العقد هذا لفظ الإمام، ثم ذكر أن الولى لو صرح بقوله زوجتكها بما شئت ففي صحة النكاح احتمال لمخالفته موجب إذنها، وإذا علمت جميع ما قاله الإمام وتعليله بفساد الإذن مع ما ذكره في آخر كلامه علمت أن كلام القاضي إما شامل لقول العاقد زوجتك بما شئت، ولتصريحه أيضًا بالمقدار الذي شاءه الخاطب كالألف والألفين فإنه قد علل بفساد الإذن، وإما أن يكون خاصًا بالقسم الثاني وهو حالة التصريح لقرينة ما نقلناه عنه في آخر كلامه فتفطن لذلك، ولا شك أن تعيين الإمام في كلامه السابق بقوله: ثم إنشاء العقد به هل الضمير في قوله به عائد إلى قوله بما شئت، أو عائد على المبلغ الذى شاءه؟ فالذي فهمه الرافعي هو الأول، والتعليل والكلام الأخير لا يساعد أنه عليه. قوله: ولو جاء رجل وقال أنا وكيل فلان في قبول نكاح فلانة بكذا فصدقه الولي والمرأة وجرى النكاح وضمن الوكيل الصداق، ثم إن فلانًا أنكره وصدقناه باليمين فهل يطالب الوكيل بشيء من الصداق؟ وجهان أحدهما: لا لأن مطالبة الأصيل سقطت والضامن فرعه. وأصحهما: ويحكى عن نصه في "الإملاء" أنه يطالب بنصف الصداق لأنه ثابت عليهما بزعمه فصار كما لو قال: لزيد على عمرو كذا وأنا ضامن به فأنكر عمرو، ويجوز لزيد مطالبة الضامن. انتهى.

وهذا الأصل المقيس عليه هذا الفرع حكمه حكم الفرع المذكور، والخلاف كالخلاف الذي في الأصل، وقد ذكر الرافعي ذلك في باب الإقرار بالنسب وتبعه عليه أيضًا في "الروضة" فحكى فيه وجهين وعبر بالأصح كما في مسألتنا.

الباب الثالث في المفوضة

الباب الثالث في المفوضة قوله: ولو قالت البالغة المالكة لأمرها زوجني وسكتت عن المهر فالذي ذكره الإمام وغيره أن ذلك ليس بتفويض لأن النكاح يعقد بمهر في الغالب فيحتمل الإذن على الغالب، وكأنها قالت زوجني بالمهر، ويوافقه بعض ما تقدم، وفي كتب العراقيين ما يقتضي كونه تفويضًا ثم قال ومن التفويض الصحيح أن يقول سيد الأمة: زوجتكها بلا مهر، وألحقوا به ما إذا سكت عن المهر، وقد تقوى بهذا ما ذكره العراقيون. انتهى كلامه. وقد ظهر لك منه أنه ليس فيه تصريح بترجيح أحد المقالتين، وكلامه في "المحرر" يقتضي أنه ليس بتفويض لا في السيد ولا في المرأة، وقد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" فقال: فإن قالت زوجني وسكتت عن المهر فالظاهر أنه ليس بتفويض، وقيل هو تفويض، وذكر النووي في "الروضة" و"المنهاج" كما في "الشرح" و"المحرر" إلا أنه عبر بقوله، وفي بعض كتب العراقيين ما يقتضي كونه تفويضًا، وهذه العبارة يؤخذ منها ترجيح الأول ما لا يوجد من كلام الرافعي، إذا علمت ذلك فاعلم أن الصواب المفتي به في المسألتين جميعًا أنه تفويض فقد نص عليه الشافعي في "الأم" فقال في باب التفويض ما نصه: قال الشافعي: التفويض الذي إذا عقد الزوج النكاح به عرف أنه تفويض في النكاح أن يزوج الرجل المرأة الثيب المالكة لأمرها برضاها ولا يسمى لها مهرًا، أو يقول لها تزوجتك بغير مهر، فالنكاح في هذا ثابت فإن أصابها فلها مهر مثلها، وإن لم يصيبها حتى طلقها فلها المتعة ولا نصف مهر لها، وكذلك أن يقول أتزوجك ولك علي مائة دينار هذا لفظه بحروفه، ولم يذكر الرافعي المسألة

الأخيرة، وذكر أيضًا بعده في الباب مثله فقال ما نصه: قال الشافعي ولسيد الأمة في تزويج الرجل بغير مهر مثل المرأة البالغ في نفسها إذا زوجها بغير أن يسمى مهرًا أو زوجها على أن لا مهر لها فطلقها الزوج قبل المسيس فلها المتعة وليس لها نصف مهر هذا لفظه، وهي نصوص قاطعة في المسألتين لم يطلعا عليها، واقتصرا على ما وجداه من كلام متأخري الأصحاب ورجحا منه ما ظهر لهما ترجيحه لاسيما في "الروضة" كما تقدم، وهذا الكلام وأمثاله منهما يحمل من وقف عليه ممن لا اطلاع لديه على الإفتاء والحكم به فاحذره. قوله في "الروضة" في المسألة: ومن التفويض الصحيح أن يقول سيد الأمة زوجتها بلا مهر أو زوجها ساكتا عن المهر. انتهى. وتعبيره بقوله أو زوجها هو فعل ماض لا أمر فاعلمه، وأما تعبيره قبل ذلك بقوله زوجتها أي بالتاء كما ذكرناه فهو كذلك في بعض [النسخ وزاده في "المنهاج" إيضاحا فعبر بقوله زوجتكها أي بزيادة الكاف، لكن في بعض] (¬1) نسخ الرافعي زوجها على أنه فعل أمر لغيره، وكلام ابن الرفعة في "المطلب" يقتضي أن الأمر بدون التصريح بالمهر لا يكون تفويضًا إذ المأمور يقوم به غالبًا بخلاف قول السيد زوجتكها. قوله: وإذا وطئت المفوضة وجب المهر وهل الاعتبار بحالة العقد أم بحالة الوطء؟ فيه وجهان أو قولان: أصحهما على ما ذكره الروياني، وهو الذي أورده ابن الصباغ الأول، وقضية القول باعتبار حالة العقد إيجاب مهر ذلك اليوم سواء كان أقل أو أكثر، لكن ذكر المعتبرون أنه إن كان أقل لم يقتصر عليه، بل يلزمه أكثر قيمة من يوم القبض إلى الإتلاف. انتهى ملخصًا. فيه أمران: ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

أحدهما: أن ما ذكره من التردد في أنه وجهان أو قولان تابعه عليه في "الشرح الصغير" و"الروضة"، والراجح أنه وجهان فقد جزم به الرافعي في "المحرر" فقال: والاعتبار فيه بحالة العقد في أصح الوجهين، وتابعه عليه في "المنهاج". الثاني: أن ما نقله عن المعتبرين من اعتبار الأكثر قد خالفه في العتق في الكلام على السراية إلى نصيب الشريك مخالفة عجيبة فإنه نقل عن الأكثرين ما حاصله أنهم لم يعتبروا الأكثر، بل جعلوا الاعتبار بحالة العقد، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه وذكر نحوه هنا من "المحرر" و"الشرح الصغير" وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج"، فقال في "الروضة" ما نصه: وهل تعتبر حالة الوطء أم يجب أكثر مهر من يوم العقد إلى الوطء وجهان أو قولان أظهرهما: الثاني: وقال في "المنهاج": لم يحكه في "الروضة" بالكلية فضلًا عن تصحيحه. قوله: ولو مات أحد الزوجين قبل المسيس وقبل أن يفرض لها مهر، فهل يجب مهر المثل؟ روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع بنت واشق، وقد نكحت بغير مهر فمات زوجها بمهر نسائها وبميراثها (¬1)، لكن في رواته اضطراب، فقيل: رواه معقل بن سنان، وقيل: ابن يسار، وقيل: رجل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2114) و (2116) والترمذي (1145) والنسائي (3354) وابن ماجه (1891) وأحمد (4276) والدارمى (2246) وابن حبان (4098) والحاكم (2737) والطيالسي (1273) والطبراني في "الكبير" (20/ 231) حديث (542) و"الأوسط" (2107) وسعيد بن منصور (929) وعبد الرزاق (10899) وابن أبي شيبة (3/ 555) والبيهقي في "الكبري" (14188) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1296) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الألباني: صحيح.

من أشجع، أو ناس من أشجع، فظهر لذلك تردد في كلام الشافعي، وللأصحاب طرق: أحدها: أنه إن ثبت الحديث وجب المهر، وإلا فقولان. والثاني: إن لم يثبت الحديث لم يجب، وإن ثبت فقولان. والثالث: إن ثبت وجب، وإلا فلا وهو ظاهر لفظ "المختصر". وأشبههما: إطلاق قولين في المسألة. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا من ترجيح طريقة القولين مطلقًا تبعه في "الروضة" عليه، وعبر بالأصح عوضًا عن الأشبه، وهذا الترجيح خلاف ما نص عليه الشافعي، فإنه نص في "الأم" على أنه إن ثبت الحديث وجب وإلا فلا على وفق الطريقة الثالثة فقال في هذا الباب ما نصه: قال الشافعي: وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي هو وأمي أنه قضى في بروع بنت واشق، ونكحت بغير مهر فمات زوجها فقضى لها بمهر نسائها، وقضى لها بالميراث (¬1)، فإن كان ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحد دون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كثروا، ولا قياس ولا شيء في قوله إلا طاعة لله تعالى بالتسليم؛ وإن كان لا يثبت لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لا يثبت، ولم أحفظه بعد من وجه يثبت مثله وهو مرة يقال: عن معقل بن يسار، ومرة عن معقل بن سنان، ومرة عن بعض أشجع لا يسمى فإن لم يثبت، فإذا مات أو ماتت فلا مهر لها هذا لفظه بحروفه. واعلم أن بروع بباء موحدة مكسورة ثم راء مهملة ساكنة ثم واو مفتوحة، ثم عين مهملة وأبوها واشق بالشين المعجمة المكسورة وبالقاف، وهي كلابية وقيل أشجعية وكانت امرأة هلال بن مرة، وخالف الجوهري فقال أصحاب الحديث يقولونه بكسر الباء والصواب الفتح لأنه ليس في ¬

_ (¬1) تقدم.

الكلام فعول إلا خروع بكسر المعجمة اسم للشجر المعروف وعتود بكسر العين المهملة وبالتاء المثناة اسم واد، وذكر صاحب "المحكم" نحوه، وقد ذكر النووي في "تهذيبه" هذا كله ثم حكي عن القلعي فيها أي في بروع ضبطًا آخر نسبه فيه إلى التصحيح، والحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم وابن حزم والبيهقي وغيرهم. قوله: وهل لها الحبس بتسليم المفروض حكى الإمام عن الأصحاب وهو الذي أورده صاحب "الكتاب" المنع. وقال الروياني: ظاهر المذهب أن لها ذلك وهو الجواب في "التهذيب". انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد عبر عن قول الرافعي وهو الذي أورده صاحب الكتاب بقوله وبه قطع الغزالي وليس الأمر كما قاله فقد حكى الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" فيه وجهين وزاد على ذلك فقال: إن هذا الوجه متجه وإذا تأملت ذلك قضيت عجبًا من نقله القطع بالشيء عن شخص هو مرجح خلافه خصوصًا الغزالي وشهرته والخلاف في مثل "الوسيط". الأمر الثاني: أن الأصح هو الوجه الثاني كذا صححه الرافعي في "المحرر" وعبر بالأظهر، وقال في "الروضة" من زوائده: إنه الأصح، ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير". قوله: في "الروضة": فإن منعنا أي الإبراء عن المجهول فذلك في ما زاد عن المتيقن وفي ما استيقنه وجهان من تفريق الصفقة. انتهى. ومقتضاه تصحيح الصحة لأن الأصح التفريق، لكن سبق في أوائل

الضمان ما يقتضي مخالفة هذا فراجعه، وعبر الرافعي هنا بقوله: ويقال هما مأخوذان من تفريق الصفقة فضعف الاعتراض عليه. قوله: فرع في "التتمة": لو نكح ذمي ذمية على أن لا مهر لها وترافعا إلينا حكمنا بحكمنا في المسلمين، وقال أبو حنيفة: إن اعتقدوا أن النكاح لا يخلو عن المهر فكذلك، وإن جوزوا خلوه عن المهر فلا مهر لها انتهى كلامه. وقد ذكر في أثناء نكاح المشركات ما يشكل على هذا فقال: فرع لو نكح الكافر على صورة التفويض، وهم يعتقدون أن لا مهر للمفوضة بحال، ثم أسلموا فلا مهر وإن كان الإسلام قبل المسيس لأنه قد سبق استحقاق وطء بلا مهر. انتهى كلامه. وهو غريب فإنا إذا قلنا بالوجوب في ما إذا لم يسلما مع أنهما يعتقدان عدم الوجوب، ولم ينتهيا إلى حالة يتغير اعتقادهما فيها، فكيف يستقيم معه أن يقال بعدم الوجوب إذا أسلما مع أنهما قد انتهيا إلى حالة يعتقدان فيها الوجوب لو أوقعا فيها عقدًا جديدًا، وقد اختصر النووي الموضعين على ما هما عليه، وزاد على ذلك فلم ينقل الموضع المذكور هنا عن صاحب "التتمة" كما نقله عنه الرافعي بل أطلق ذلك. قوله: الثانية: إذا وطء مرارًا بشبهة واحدة أو في نكاح فاسد لم يجب إلا مهر واحد كما أن الوطآت في النكاح الصحيح لا تقتضي إلا مهر واحد. انتهى. وهذا القياس الذي استند إليه عجيب لأن الوطآت الواردة في النكاح استيفاء لحق سبق بعقد واقع على مسمى معين، وأما في مسألتنا فإنه وطء وطءً في غير ملك، وكل وطأة صدرت منه، فإنها انتفاع غير الانتفاع الأول والشبهة لا تؤثر في دفع الغرامات إنما أثرها في دفع العقوبة، وأيضًا

فالموجب في مسألتنا إنما هو الوطء لأنه لا عقد فالوطء الأول لا يمكن تأخير الوجوب عنه. والثاني: لابد أن يترتب عليه أثر. قوله: ولو وطء الأب جارية الابن مرارًا من غير إحبال فقد أطلق في الكتاب، وجهين أشبههما أنه لا يجب إلا مهر واحد لأن الشبهة وهي وجوب الإعفاف واحدة، وخصص في "التهذيب" الوجهين بما إذا اتحد المجلس وحكم بالتكرار عند اختلاف ووطء أحد الشريكين الجارية المشتركة، ووطئ السيد المكاتبة مرارًا كوطء جارية الابن. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله في المكاتبة من وجوب مهر واحد، وتبعه عليه في "الروضة" ليس على إطلاقه، بل له شرط ذكره الشافعي في "الأم" في باب مال المكاتبة وقال في ما إذا وطئ السيد مكاتبته فحملت منه أنها تخير بين أخذ المهر ويكون على المكاتبة وبين أن تعجز نفسها فتكون أم ولد ولا مهر لها لانفساخ الكتابة، ثم قال ما نصه: فإن أصابها مرة أو مرارًا فلها مهر واحد إلا أن تخير فتختار الصداق، أو العجز فإن خيرت فعاد فأصابها السيد فلها صداق آخر، ثم قال ما نصه: وكلما خيرت فاختارت الصداق ثم أصابها فلها صداق كنكاح المرأة نكاحًا فاسدًا يوجب مهرًا واحدا فإذا فرق بينهما وقضى الصداق ثم نكحها نكاحًا آخر فلها صداق آخر. انتهى كلامه. وهي فائدة مهمة، ويؤخذ منها ترجيح تعدد المهر في جارية الابن على خلاف ما رجحه الرافعي بحثًا.

الباب الرابع في التشطير

الباب الرابع في التشطير وفيه فصول الفصل الأول: في محله وحكمه قوله: وينشطر المهر بكل فرقة حصلت قبل الدخول لا بسبب من جهة المرأة كما إذا أسلم الرجل أو ارتد، أو أرضعت أم الزوجة الزوج وهو صغير، وأم الزوج أو ابنة [الزوج] (¬1) وهي صغيرة أو وطئها ابن الزوج أو أبوه بشبهة وهي تظنه زوجًا لها. انتهى كلامه. فيه أمران تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: أن كلامه يقتضي أن بنت الزوجة ليست في هذا كبنت الزوج لأنه لما مثل بارتضاع الزوج اقتصر على ما إذا كان المرضع له أم الزوج، ولما مثل بارتضاع الزوجة لم يقتصر على أم الزوج، بل صوره بها وبابنتها فتأمله وليس الأمر في ذلك كما اقتضاه كلامه من إخراج بنت الزوجة لأن البنت المذكورة إذا أرضعت الزوج صارت الزوجة جدته فحصلت الفرقة بالرضاع فتشطر المهر فالصواب أن يقول أو أرضعت أم أحدهما أو بنته الآخر وهو ضعيف. الأمر الثاني: أن تقييده وطء الأب والابن بما إذا كانت الموطوءة ظانة للزوجية لا يظهر صحته لأن ظنها مؤثر في إيجاب المهر على الموطئ حتى إذا علمت كانت زانية لا مهر لها على الوطء، وأما المهر الثالث فلا يختلف فيه الحال بين حصول الاشتباه. قوله: فأما إذا كان الفراق منها أو بسبب فيها بأن أسلمت أو ارتدت أو فسخت النكاح بعتق أو عيب أو أرضعت زوجة أخرى له صغيرة أو فسخ النكاح بعينها فيسقط جميع المهر. انتهى. ¬

_ (¬1) في جـ: الزوجة.

ذكر مثله في "الروضة" ولا فرق في إسلامها بين أن يكون بالمباشرة أو بالتبعية كما صرح به الرافعي في باب المتعة فقال: لو زوج الذمي ابنته الصغيرة من ذمي ثم أسلم أحد أبويها وارتفع النكاح لحكمنا بإسلامها فلا متعة لها كما لو أسلمت بنفسها هذا كلامه فينبغي أن يتفطن له، وينبغي أن يجب على مباشر الإسلام مهر المثل لأنه أفسد نكاح غيره بإسلامه، وإن كان واجبًا عليه كما في نظيره من الرضاع الواجب، واعلم أن الرافعي حكى في باب نكاح المشرك طريقة حاكية للقولين في استحقاقها نصف المهر إذا أسلمت الزوجة لأنها محسنة بإسلامها. قوله: وشراء الزوج زوجته يوجب التشطير على الأصح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يبين في "الشرحين" هنا هذا الخلاف وجهان أو قولان، وقد نبه فيهما في الكلام على نكاح العبد وهو قبيل كتاب الصداق فقال: إن الخلاف قولان وحكى هناك طريقة أخرى قاطعة بالتشطير، وقد عبر النووي في "الروضة" هنا بالأصح مع ما عرف من اصطلاحه أن الأصح من الوجهين فلزم أن يكون هذا الخلاف وجهين، وليس كذلك وكأنه أشكل عليه الأمر لعدم تبين الرافعي له هنا، وعدم استحضاره لما هناك فترك العبارة على ما هي عليه فلزم منه الخلل. الأمر الثاني: أن الرافعي صحيح في هذه المسألة عدم وجوب المتعة كما ستعرفه مع أن الضابط في وجوبها وفي التشطير كون الفرقة منسوبة إلى الزوج فقد يذهب الواقف على هذا الكلام إلى الاختلاف في كلامه، ويقول إن كانت الفرقة منسوبة إليها فلا يحصل التشطير كما لا تجب المتعة، وإن كانت منسوبة إليه فينبغي إيجابها، ويؤيده أن الشيخ أبا إسحاق قد اختار في "التنبيه" عدم وجوبهما وارتضاه النووي ولم ينبه عليه في

تصحيحه لكن فرق الرافعي بينهما في الكلام على نكاح العبد فقال: والفرق بين المسمى والمتعة أن المسمى وجب بالعقد والعقد جرى في ملك البائع فإذا ملكها الزوج كان له التشطير والمتعة إنما تجب بالفراق والفراق قد حصل في ملك الزوج فكيف يوجب له على نفسه المتعة؟ ، وكذلك قلنا إنه لو باعها من أجنبي ثم طلقها الزوج قبل المسيس يكون نصف المهر للبائع؛ ولو كانت مفوضة تكون المتعة للمشتري هذا لفظه في الفرق إلا أنه في "الشرح الصغير" و"المحرر" لم يستثن شيئًا من الضابط المذكور في المتعة. قوله: وإذا تغير الصداق بعد الطلاق من غير تعد منها، وقلنا: إنه يملك النصف بالطلاق، فظاهر النص أنها تغرم أرش النقص إذا نقص وجميع البدل إذا تلف وبهذا أجاب العراقيون، وتابعهم الروياني، وفي "الأم" نص يشعر بأنه لا ضمان عليها وبه أجاب المراوزة. انتهى. لم يصرح في "الروضة" أيضًا بتصحيح والراجح هو الأول كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" وعَبَّر بالظاهر. قوله: في المسألة: وإن قلنا بالأول فقال الزوج حدث النقصان بعد الطلاق فعليك الضمان، وقالت بل قبله، فهل القول قولها لأن الأصل براءة الذمة؟ ، أو قوله لأن الأصل عدم النقصان حينئذ؟ فيه وجهان في "التتمة" والأول هو الذي أورده الشيخ أبو حامد وابن الصباغ. انتهى. والأصح هو الأول كذا صححه النووي في "الروضة".

الفصل الثاني في التغيرات قبل الطلاق

الفصل الثاني في التغيرات قبل الطلاق قوله: الأول نقصان الصفة إذا حدث في يدها كالتعييب بالعمى والعور ونسيان الصنعة فالزوج بالخيار إن شاء رجع إلى نصف قيمة الصداق سليمًا، وإن شاء قنع بنصف الناقص ولا أرش له كما إذا تعيب المبيع في يد البائع يتخير المشتري بين أن يفسخ البيع ويسترد الثمن، وبين أن يقنع بالمعيب ولا أرش له هذا ما يوجد للأصحاب في المسألة، قال الإمام: ويحتمل أن يقال عليها الأرش لأنه لو تلف في يدها لرجع الزوج إلى نصف القيمة، ثم قال: وأقام صاحب الكتاب هاهنا وفي "الوسيط" هذا الاحتمال وجهًا. انتهى كلامه. فيه أمران تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: أن الرجوع إلى نصف قيمة السلم محله إذا كان الصداق متقومًا، فإن كان مثليًا رجع إلى نصف مثله كما ذكروه في تلف جميعه، وقد صرح به ابن الصباغ وغيره وجزم به ابن الرفعة في "المطلب". الأمر الثاني: أن إنكاره لهذا الوجه الذي حكاه الغزالي في "الوجيز" و"الوسيط" ودعواه أنه احتمال للإمام أقامه وجهًا ليس كذلك، بل هو وجه نقله الغزالي في "البسيط" عن سماعه من الإمام فقال: سمعت الإمام في الدرس يقول: من أصحابنا من ذكر وجهًا في الصداق من مسألة الفسخ أنه يطالب بالأرش هذا لفظه. قوله: ولو أصدقها عبدين وقبضهما فتلف أحدهما في يده، ثم طلقها قبل الدخول، قال في "التهذيب": فيه قولان أصحهما: أن الزوج يرجع إلى نصف الباقي، ونصف قيمة التالف.

والثاني: يأخذ الباقي بحقه إن استوت قيمتهما. انتهى. والذي صححه في "التهذيب" هو الصحيح كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة"، وعبرا جميعًا بالأصح. قوله: ثم في "الشامل" و"التتمة" أن قولنا يرجع بنصف الأصل ويبقي الولد مفروض في غير الجواري، وأما في الجواري فليس له الرجوع في نصف الأم لأنه لا يتضمن التفريق بين الأم والولد في بعض الزمان لكنه يرجع إلى القيمة. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقل الاستثناء عن هذين فقط وليس فيه تصريح بموافقتهما ولا مخالفتهما، وكلامه في "الشرح الصغير" و"المحرر" مقتضاه المخالفة، فإنه لم يستثن ذلك فيهما لكن الأمر كما قالاه فقد نص عليه الشافعي في "الأم" فقال في الصداق المذكور وعقب المسابقة ما نصه: إلا أن ولد الأمة إن كانوا معها صغارًا ترجع بنصف قيمتها لئلا يفرق بينها وبين ولدها هذا لفظه ومنها نقلت. قوله: وقول الغزالي في "الكتاب": إن شاء رجع إلى قيمة النصف السليم لفظه في هذه اللفظة شئ والعبارة القويمة أن يقال: إلى نصف قيمة السليم، وفرق بين نصف قيمة الكل وبين قيمة نصف الكل فإنا إذا قومنا النصف نظرنا إلى جزء من الجملة وذلك مما يوجب النقصان فإن التشقيص عيب. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الروضة" فقال: رجع بنصف قيمة الجملة بغير زيادة ولا نقص ولا يقال يرجع بقيمة النصف ووقع في كلام الغزالي بقيمة النصف، وهو تساهل في العبارة، والصواب ما ذكرناه لأن التشقيص عيب. هذا لفظه.

وفيه أمران: أحدهما: أن ما صرح به في "الروضة" واقتضاه كلام الرافعي من الإنكار على الغزالي وحمله على التساهل في العبارة فغريب جدًا، بل قاله في "الوجيز" و"الوسيط" معًا عن قصد وروية تبعًا لإمامه فإنه في "النهاية" قد جزم بأنه يرجع بقيمة النصف لا بعكسه وعلله بأنه لم يقن إلا ذلك والذي قاله هو القياس الذي لا يتجه غيره لما ذكره من المعنى إلا أن الشافعي في "الأم" قد عبر بنصف القيمة كما قاله الرافعي ذكر ذلك في مواضع كثيرة من كتاب الصداق المذكور عقب المسابقة، ولولا خشية الإطالة لذكرت لفظه فيها، وعبر به الغزالي أيضًا في "البسيط". الأمر الثاني: أن تعليل الرافعي بأن التشقيص عيب تعليل صحيح فإنه ذكره في تقرير الفرق بين نصف القيمة وقيمة النصف فتصرف النووي في ذلك وعبر بالعبارة المذكورة ومقتضاها غير مستقيم فإنه جعله علة لإيجاب نصف القيمة فتأمله مع أن القائل بقيمة النصف يعطيه قيمة ملكه بكمالها فأين التشقيص؟ واعلم أن للمسألة نظائر منها إذا أخذ الساعي الزكاة من أحد الخليطين فهل يرجع على شريكه بنصف قيمة المأخوذ أم بقيمة نصفه؟ فيه اضطراب وقع للرافعي سبق بيانه في موضعه، ومنها: إذا استولد جارية نصفها له قال الشافعي في "الأم": فلشريكه عليه نصف المهر ونصف قيمة الجارية هكذا ذكره في باب المكاتبة بين اثنين يطأها أحدهما، وفي باب المترجم بالأقضية أيضًا، وجزم به الرافعي في باب العتق، وهو يقوي ما قاله في الصداق، ومنها: إذا ملك نصف عبد فأعتقه وسرى إلى الباقي، فهل يغرم قيمة نصف أم نصف قيمته؟ حكمه حكم الصداق وفيه كلام أذكره في موضعه، ومنها إذا أوصى بنصف عبد، فإن الصواب وهو قياس ما قلنا في الزكاة أنه ألحق اعتبار نصف قيمته من الثلث مع شئ آخر وهو نقصان النصف الباقي للورثة عن نصف القيمة.

نعم يأتي في اعتبار هذا النقصان الأوجه الثلاثة في ما إذا أتلف إحدى فردتي خف وهو يساوي عشرة مثلًا وعادت قيمة الباقية إلى ثلاثة، وأصحها أنه يلزمه سبعة كما أشرنا إليه، ومنها إذا شهد شاهدان بأنه ملك زيدًا نصف عبده أو بأنه وقفه ثم رجعا بعد الحكم ففي مقدار ما يغرمانه ما ذكرته الآن. واعلم أن الجزء إذا قل كانت الرغبة فيه أقل مما لو كثير فعلى هذا إذا أعتق النصف الذي يملكه وكان موسرًا بنصف قيمة الباقي فإنه يسري إلى نصف نصيب الشريك، ويقوم ذلك النصف ثم يوجب نصف قيمته وأرش ما نقص من الربع الباقي. قوله: وإذا تغير الصداق بالزيادة والنقصان جميعًا ثبت لكل منهما الخيار وذلك قد يكون بسبب واحد كما إذا أصدقها شجرة فأرقلت وصارت قحامًا وذلك بأن تقل ثمرتها لطول المدة فهو نقصان في الثمرة وزيادة في الحطب، وإما يستثن كما إذا أصدقها عبدًا فتعلم القرآن وأعور. انتهى. أما أرقلت: فإنه بالراء المهملة والقاف واللام أي طال. والرقلة: هي الطويلة من النخل جمعها رقال: بكسر الراء. وأما القحام فالبقاف والحاء المهملة من قولهم شيخ قحم -بقاف مفتوحة وحاء ساكنة- أي: شيخ هم. قوله: أصدقها جارية فحبلت في يدها وطلقها قبل الدخول فهي زيادة من وجه لتوقع الولد، ونقصان من وجه للضعف في الحال وخطر الولادة فليس لأحدهما إجبار الآخر على نصف الجارية، ثم قال وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهًا أنه يجبر الزوج إذا رضيت هي رجوعه إلى نصف الجارية وهي حامل بناء على أن الحمل لا يعلم، وقضية هذا أن يجبر أيضًا

إذا رغب الزوج في الرجوع إلى نصفها. انتهى. واعلم أن هذا القائل لم يوجب على المرأة أن تعطي النصف، بل قال: إنها إذا رضيت بإعطائه أجبرنا الزوج على قبوله. فإجباره مع اشتراط رضاها دليل على أنه عند هذا القائل زيادة محضة وإذا كان كذلك لم يلزم من إجباره إذا رضيت أن تجبر الزوجة إذا رضي، فلا يصح التخريج الذي ذكره الرافعي وتابعه عليه في "الروضة". قوله: وأما الحمل في البهيمة ففيه وجهان: أحدهما: أنها زيادة محضة لأنه لا يخاف عليها من الولادة غالبًا، وأظهرهما: أنه كما في الجواري زيادة من وجه ونقصان من وجه، أما إذا كانت مأكولة فلأن لحمها لا يطيب لأن الحمل ضرب مرض، وأما إذا لم تكن مأكولة فلأنه لا يحمل عليها مع الحمل كما تحمل ولا حمل. انتهى كلامه. وهذه المسألة أعني أن الحمل في الحيوان هل هو عيب أم لا؟ ذكره الرافعي في ثلاثة مواضع من هذا الكتاب، واختلف كلامه فيها، وكذلك "الروضة" وقد أوضحت ذلك في البيوع في خيار النقص فراجعه. قوله: أصدقها جارية حاملًا فولدت ثم طلقها فإن قلنا الحمل لا يقابله قسط من الثمن لم يأخذ الزوج نصف الولد، وإن قلنا يقابله فوجهان. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا والأصح أنه يأخذه، كذا قاله في "الروضة" من زوائده. قوله: وإذا أصدقها حليًا فكسرته أو انكسر فأعادته إلى ما كان عليه فوجهان: أظهرهما: أنه لا يرجع إلا برضاها فلو امتنعت فوجهان: أحدهما أنه يرجع إلى نصف قيمة الحلي على الهبة التي كانت، والثاني: إلى مثل نصفه بالوزن وإلى نصف أجرة الصنعة، ونظم الكتاب يشعر

بترجيح الوجه الأول، وبترجيحه قال الشيخ أبو علي وهو جواب ابن الحداد لكن الموافق لما مر في الغصب في ما إذا أتلف حليًا على إنسان ترجيح الوجه الثاني. انتهى. أطلق في أصل "الروضة" تصحيح الأول، وكلام "الشرح الصغير" ظاهر في رجحان الثاني، وكلام "الكبير" ربما يشعر به ويلزم النووي أن يفرق بين البابين. قوله: ويلحق به ما إذا غصب جارية مغنية فنسيت عنده الألحان، هل يرد معها ما نقص من قيمتها بنسيان الألحان؟ ، فيه وجهان: وجه المنع أنه محرم. انتهى. وهذه المسألة أعني القول بتحريم هذا الغناء ذكره الرافعي في مواضع من هذا الكتاب: أحدها: في البيع، والثاني: في الغصب، والثالث: ما ذكرناه الآن، والرابع في أوائل الشهادات واختلف فيها كلام، وكذلك كلامه في "الروضة" وقد بسطت القول فيه في أوائل البيع فراجعه. قوله: فلو اشترى جارية مغنية بألفين، ولو لم تكن مغنية لكانت تشترى بألف ففيه ثلاثة أوجه إلى آخره. هذه المسألة ذكرها الرافعي في أوائل البيع وسبق الكلام عليها من وجوه فراجعه. قوله: ولو أصدق الذمي زوجته خمرًا فتخلل ثم تلف أو أتلفه، ثم طلقها قبل الدخول فوجهان: أحدهما: ويحكى عن الخضري وصححه الشيخ أبو علي أنه يرجع بمثل نصف الخل، لأنه لو بقي لرجع في نصفه. والثاني: وبه قال ابن الحداد: إنه لا يرجع بشيء. انتهى. وهذا الذي صححه الشيخ أبو علي هو الأصح كذا صححه الرافعي في

"الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، والنووي في أصل "الروضة"، وعبر بالأصح. قوله: ولو أصدقها عصيرًا فتخمر في يده ثم عاد خلًا ثم أسلما وترافعا إلينا لزمه قيمة العصير ولا عبرة بتخلل الخمر. انتهى. وإيجاب قيمة العصير تبعه عليه في "الروضة" وهو غير مستقيم فقد سبق في الباب الثاني من أبواب الرهن أنه إذا باع عصيرًا فانقلب في يده خمرًا ثم تخلل فإن البيع لا يبطل على الصحيح ولكن يتخير المشتري، وإذا تقرر هذا فإن جعلنا الصداق في يد الزوج مضمونًا ضمان يد أوجبنا مثل العصير، فإن قلنا ينفسخ في البيع فينفسخ العقد هنا، ويجب مهر المثل كما لو لم يسم شيئًا، وإن قلنا لا ينفسخ وهو الصحيح فتتخير الزوجة، فأما إيجاب قيمة العصير فلا يستقيم على شيء مما ذكرناه، بل القول ببقاء العقد في مسألتنا أولى من البيع لأن المعاملة هنا مع كافر، وانقلابه إلى الخمر وقع في حال الكفر أيضًا فلم يخرج عن المالية عندهم واعلم أن الرافعي قد ذكر في الرهن أنه إذا رهن عصيرًا فتخمر ثم تخلل فإن [الرهن] (¬1) يكون باقيًا على حاله على الصحيح سواء كان تخمره قبل القبض أو بعده. قوله: وإذا أصدقها جلد ميتة فدبغته ثم طلقها قبل الدخول ففي رجوعه إلى النصف وجهان، وقد ذكرنا في الغصب أن الأصح كون الجلد للمغصوب منه لا للغاصب فيشبه أن يكون الرجوع أظهر هنا أيضًا، وبه أجاب ابن الحداد. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وأطلق النووي في أصل "الروضة" تصحيح الرجوع لكن الرافعي إنما قاله بحثًا، وهو بحث ¬

_ (¬1) في حـ: الخمر.

ضعيف، فإن فعله لما كان محرمًا ناسب أن يقال: إنه لا يؤثر في إخراج ما اختص به المغصوب منه بخلاف ما نحن فيه وذكر الرافعي في كتاب الرهن أنه إذا رهن شاة فماتت في يد الرتهن فدبغ جلدها، لم يعد رهنًا لأن ماليته حدثت بالمعالجة بخلاف الخمر إذا تخلل فاعلم ذلك. قوله: ويشترط في تعليم القرآن ليصح صداقًا العلم بالمشروط تعليمه فإن لم يكن لهما، أو لأحدهما معرفة بالقرآن وسوره، وأجزائه. قال أبو الفرج الزاز: الطريق التوكيل وإلا فيرى المصحف، ويقال تعلم من هذا الموضع إلى هذا الموضع، ولك أن تقول لا ينبغي أن يكون هذا طريقًا لأنه لا يفيد معرفة بحال ذلك المشار إليه صعوبة وسهولة. انتهى كلامه. وهذا الطريق الذي توقف فيه هنا لم يعتبره في "الشرح الصغير" فإنه حصر الطريق في التوكيل، ولم يذكر هذا وصرح بإسقاطه النووي، فقال من زوائده: الصواب أنه لا يكتفي به، والذي قالاه هنا يشكل عليه ما تقدم في البيع في الكلام على شرط الرهن والكفيل فإن الرافعي قال هناك: والمعتبر في الكفيل المشاهدة أو المعرفة بالاسم والنسب ولا يكفي الوصف كقوله رجل موسر ثقة، هذا هو المنقول للأصحاب، ولو قال قائل الاكتفاء بالوصف أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله لم يكن مبعدًا هذا كلامه، فيقال لهما قد وافقتهما على المنقول من الاكتفاء بمشاهدة الكفيل، وإن جهلت حقيقته من الإعسار واليسار والمطل والأداء، ولم يكتفيا بمشاهدة المقروء للجهل بحاله من الصعوبة والسهولة وقد يفرق بأن القرآن هو نفس المعقود عليه فاحتطنا له والكفيل يوثقه للمعقود عليه فخف أمره. قوله: الثالثة: أصدقها تعلم سورة ثم طلقها قبل الدخول وقبل التعليم فوجهان: أحدهما: أنه يعلمها النصف من وراء حجاب من غير خلوة كما

يجوز سماع الحديث كذلك، وأظهرهما وهو المنصوص عليه في المختصر: تعذر التعليم لأنها صارت محرمة عليه ولا يؤمن من الوقوع في التهمة والخلوة المحرمة وليس كسماع الحديث، فإذا لو لم نجوزه لضاع وللتعليم بدل. انتهى. وما ذكره في تعليل التعذر من امتناع التعليم لأجل الخلوة، وذكر ابن الرفعة في باب الإجارة من "الكفاية" قريبًا منه فقال: لا يجوز أن تستأجر المرأة رجلًا أجنبيًا للخدمة ولا بالعكس، قال: فإن كانت التى استأجرها لذلك أمة فوجهان، لكن ذكر النووي في أوائل النكاح من زوائد "المنهاج" أنه يجوز للأجنبي النظر لأجل التعليم فإذا جاز له التعليم خصوصًا مع النظر؟ فكيف يعقد مع ذلك امتناع الاستئجار للتعليم الخالي عن النظر والذي ذكره النووي هو الصواب، نعم ما ذكره الرافعي في مسألتنا من تعذر التعليم صحيح لا لما ذكره، بل لعلة صحيحة واضحة، وهي أن القيام بتعليم نصف مشاع لا يمكن، والقول باستحقاق نصف معين دون النصف الآخر بحكم لا دليل عليه ومؤدى إلى النزاع لاسيما أن السورة الواحدة مختلفة الآيات في الطول والقصر والصعوبة والسهولة فتعين المصير إلى البدل. قوله: فرع في "التتمة": لو كان له عليها أو على عبدها قصاص فنكحها وجعل النزول عن القصاص صداقًا لها يجوز. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد أسقط من "الروضة" مسألة العبد. الأمر الثاني: أن هذه المسألة المنقولة عن "التتمة" قد جزم بها الرافعي قبل كتاب الديات بدون ورقتين، وفرع عليها ما إذا طلق قبل الدخول هل يرجع بنصف أرش الجناية، أو نصف مهر المثل وسوف أذكره هناك إن شاء الله تعالى.

قوله: إحداهما إذا أثبتنا الخيار للمرأة فامتنعت وأصرت على الامتناع فإن كان نصف القيمة الواجب دون نصف العين للزيادة الحادثة فيبيع ما بقي بالواجب من القيمة [وإن لم يرغب في شراء البعض باع الكل وصرف الفاضل عن القيمة] (¬1) الواجبة إليها، وإن كان نصف العين مثل نصف القيمة الواجبة، ولم تؤثر الزيادة في القيمة ففيه احتمالان للإمام: أظهرهما وهو المذكور في الكتاب: أنه يسلم نصف العين إليه؛ إذ لا فائدة في البيع ظاهرًا فإذا سَلَّم إليه أفاد قضاؤه ثبوت الملك له. والثاني: أنه لا يسلم العين إليه بل يبيعه فلعله يجد من يشتريه بزيادة. وقوله في "الكتاب": وإن كان لا يشتري النصف إلا بنصف القيمة الواجبة لا ينبغي أن يخصص بما إذا باع النصف وحده، بل الحكم في ما إذا باع النصف وحده وما إذا باع الكل واحد، والنظر إلى عدم زيادة ثمن النصف على نصف القيمة الواجبة. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره فصوابه أن يقول نصف الثمن على نصف القيمة وإلا فقد لا يزيد ثمن النصف على نصف القيمة ويزيد كل الثمن على كل القيمة فتكون الزيادة قد أثرت. وفرض المسألة في ما إذا لم تؤثر الزيادة في القيمة والنظر إنما يتعلق بنصف الثمن ونصف قيمتها، فقد يكون ثمن النصف مساويًا لنصف القيمة ويكون كل الثمن أكثر من كل القيمة وقد تكون أقل من نصف القيمة والكُلَّان مستويان. قوله: الثالثة: إذا وقع الرجوع إلى القيمة إما لهلاك الصداق أو لخروجه عن ملكه أو لزيادة أو نقصان فالمعتبر الأقل من قيمة يوم الإصداق وقيمة يوم القبض. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا الحكم الذي ذكره هنا وهو اعتبار الأقل قد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" و"المحرر" وتابعه عليه النووي في "الروضة" و"المنهاج"، وليس هو المفتي به فاعلمه فقد جزم في كتاب الزكاة في الكلام على التعجيل بأن العبرة بقيمة يوم القبض، وقد نص عليه الشافعي أيضًا في مواضع من "الأم" ولنذكر عبارتهما، فأما الرافعي فقال: ومتى ثبت الإسترداد أو كان المعجل تالفًا ضمنه القابض بقيمته إن كان متقومًا، وفي القيمة المعتبرة وجهان أحدهما: قيمة يوم التلف كالعارية ثم قال ما نصه: والثاني ويحكي عن أحمد أنه تعتبر قيمة يوم القبض لأن ما زاد عليها زاد في ملك القابض فلم يضمنه كما لو تلف الصداق من المرأة في يدها، ثم إن تلف قبل الدخول أو طلقها فإن الزوج يرجع بقيمة يوم القبض قال المحاملي: وهذا أشبه هذا كلامه، وحذفه النووي من "الروضة" والرافعي من "الشرح الصغير" لكونه دليلًا، وأما الشافعى فقال في الصداق المذكور عقب المسابقة في باب من دفع الصداق ثم طلق قبل الدخول ما نصه: "فإن تغير شيء من ذلك في يدها إما بأن [تقبض] (¬1) الورق فيبلى أو تدخل الذهب والورق [النار] (¬2) فتزيد قيمته أو تنقص في النار فكل هذا سواء ويرجع عليها بمثل نصفه يوم دفعه إليها؛ لأنها ملكته بالعقد وضمنه بالدفع فلها زيادته وعليها نقصانه". انتهى. وبعده أيضًا بأسطر في إصداق الشيء ينكسر ما نصه: "وعليها أن ترد عليه نصف قيمته يوم دفعه"، ثم ذكر أيضًا بعده في إصداق الخشب فتعمل منه أبوابًا مثله فقال: "كانت لها ورجع عليها بنصف قيمتها يوم دفعها" وبعده أيضًا ما نصه: "وهكذا لو أصدقها غزلًا فنسجته رجع عليها بمثل نصف الغزل إن كان له مثل، فإن لم يكن له مثل رجع عليها ¬

_ (¬1) في "الأم"، جـ: تدفن. (¬2) سقط من الأصول، والمثبت من الأم.

بمثل نصف قيمته يوم دفعه، وكلما قَلَّت يرجع بمثل نصف قيمته فإنما هو يوم دفعه لا ينظر إلى نقصانه بعد ولا زيادته، وقال أيضًا بعده في ما إذا أصدقها عبدين فتغيرا ما نصه: "كانا لها وكان عليها أن تعطيه أنصاف قيمتهما يوم قبضهما وبعده أيضًا بأسطر في إصداق الأمة أو الماشية فتتغيران ما نصه: "ويرجع عليها بنصف قيمة الأمة والماشية يوم دفعها إليها"، وقال أيضًا بعده: "فإن طلقها قبل أن يدخل بها والنخل زائد فيرجع بنصف قيمة النخل يوم دفعها إليها". انتهى. وبعده أيضًا في باب المهر والبيع ما نصه: "ولو أصدقها أباها عتق ساعة عقد عليها النكاح، ثم قال: ولو طلقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمته يوم قبضه منه. انتهى. وهذه المسألة مشكلة فإنه إذا صار حرًا فكيف يقبض؟ . وبعده أيضًا قبل باب التفويض مثله فقال: وإذا أصدقت المرأة الأمة أو العبد فكاتبتهما أو أعتقتهما أو دبرتهما، ثم طلقت قبل أن يدخل بها لم يرد من ذلك شيئًا ويرجع عليها بنصف قيمة -أي: ذلك- أصدقها يوم دفعه إليها. انتهى. وهذا لفظه بحروفه، ومن "الأم" نقلت هذه النصوص كلها.

الفصل الثالث في التصرفات المانعة من الرجوع

الفصل الثالث في التصرفات المانعة من الرجوع قوله في المسألة الأولى: وإن كان الحق لازمًا بأن [رهنته] (¬1) وأقبضته فليس للزوج الرجوع إلى نصفه لتعلق حق المرتهن بعينه، وإن أجرته فقد نقص الصداق عما كان لاستحقاق الغير منفعته، فإن شاء رجع إلى نصف القيمة في الحال، وإن شاء رجع إلى نصف العين مسلوبة المنفعة مدة الإجارة، فإن قال: أصبر إلى انفكاك الرهن وانقضاء مدة الإجارة، فإن قال: أتسلمه، ثم أسلمه إلى المرتهن أو المستأجر فليس لها الامتناع منه، وإن قال: لا أسلمه وأصبر، فلها أن لا ترضى به وتدفع إليه نصف القيمة لما عليها من خط الضمان إذا قلنا: إن الصداق في يدها مضمون بعد الطلاق، وهو الأصح. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه إذا رجع في العين المستأجرة كان له ذلك، وإن لم يتسلمها وإنما يفضل بين أن يتسلم أو لا يتسلم إذا لم يرجع، وهذا الذي اقتضاه كلامه تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه من عدم الضمان في ما إذا رجع، ولم يتسلم غير صحيح، فإنه إذا رجع فيها ولم يتسلمها كانت أيضًا مضمونة عليها بحكم يدها كما أنه إذا تملك بمجرد الطلاق يكون مضمونًا عليها إلى أن يقبضها منها، وحينئذ فما ذكره أبعد ذلك يتعين ذكره أيضًا في هذا القسم. الأمر الثاني: أن ما ذكره] (¬2) من التفصيل في ما إذا لم يرجع غير مستقيم أيضًا ولا معقول فإنه إذا لم يحصل منه يقتضي التمليك فكيف يفيد أخذه العين وإعطاؤها انقطاع الضمان عن المرأة؟ ثم إن صاحب "التتمة" قد جزم بخلاف ما قاله الرافعي وكذلك صاحب "الشامل" فقالا: الرهن ¬

_ (¬1) في حـ: وهبته. (¬2) سقط من جـ.

لا يرجع إلى نصفه لتعلق حق المرتهن، وأما الإجارة فله أن يرجع في نصف العين إن قال أتسلم ملكي ثم أسلمه إلى المستأجر وليس لها أن تمتنع لعدم الضرر، وإن قال: لا أتسلم ملكي، لم يلزمها الرضا به لخطر الضمان. هذا كلامهما.

الفصل الرابع في هبة الصداق من الزوج

الفصل الرابع في هبة الصداق من الزوج قوله: وينفذ الإبراء أيضًا بلفظ الهبة والتمليك، وقيل: لا، ثم قال: وهل يحتاج اللفظان إلى القبول فيه وجهان: أحدهما: نعم كما لو استعملا في الأعيان وأظهرهما وهو المذكور في "التهذيب": المنع اعتمادًا على حقيقة التصرف وهو الإسقاط. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن اشتراط قبول الإبراء إذا وقع بلفظ الهبة والتمليك مذكور في "الرافعي" و"الروضة" في أربعة مواضع، أولها: في أوائل الصلح، وثانيها وثالثها: أيضًا في الركن الرابع من كتاب "الهبة"، ورابعها: في هذا الباب وهو ما ذكرناه، واختلف في الترجيح كلام الرافعي وكذلك كلام "الروضة" أيضًا وقد سبق إيضاحه في أوائل كتاب "الهبة" فراجعه. الأمر الثاني: أن ما أشار إليه من كون الإبراء إسقاط مذكور أيضًا في "الرافعي" و"الروضة" في مواضع: أحدها: في أوائل كتاب الضمان، والثاني: في أوائل كتاب الوكالة في أواخر الركن الأول، والثالث: ما ذكرناه، والرابع: في باب الرجعة وهو من زوائد "الروضة" واضطرب في الترجيح كلام الرافعي والنووي تبعًا وقد أوضحت ذلك في أوائل كتاب الضمان. قوله: والجديد: أنه ليس للولي العفو عن صداق موليته، والقديم: أن

له ذلك ولكن بشروط: أحدها: أن يكون الولي أبًا أو جدًا. والثاني: أن تكون المولية بكرًا عاقلة صغيرة، ثم قال: وفي المجنونة قولان: أظهرهما: المنع لأنه يرجى في العفو عن صداق البالغة ترغيب الخاطبين فيها وتخليصها ممن هي في نكاحه ليتزوجها من هو خير منه، والمجنونة لا يكاد يرغب فيها. انتهى. اعلم أن محل جواز العفو على هذا القول إنما هو بعد الطلاق كما سنذكره عقب هذه المسألة وخلاصها قد حصل قبل العفو ولكن مرادهم بهذا التعليل أنه إذا اتفق العفو ثم تزوجها شخص لم يستقم أمرها معه، وغلب على ظنه أنه إذا طلقها عفي عن صداقها كان ذلك سببًا لخلاصها فاعلمه. قوله في المسألة: والثالث: أن يكون بعد الطلاق، أما العفو قبله فلا يصح لأن الزوج قد يدخل عليها بعد العفو فتفوت منفعة البضع عليها وفيما علق عن الإمام أن الشيخ أبا محمد جوز العفو قبل الطلاق إذا رأى الولي المصلحة فيه. انتهى كلامه. وما ذكره من اشتراط وقوع العفو بعد الطلاق قد خالفه في الباب الرابع من أبواب الخلع، وسأذكر إن شاء الله تعالى هناك لفظه فراجعه. قوله أيضًا في المسألة: ولو أراد الولي مخالعة الصغيرة على نصف الصداق الذي تستحقه فيبني ذلك على جواز العفو إن جوزناه صحت المخالعة، هكذا ذكره صاحب "التتمة" وغيره، وفي "الوسيط" حكاية وجهين في صحة الخلع مع التفريع على صحة العفو، وقال: الظاهر المنع والأشبه الأول. انتهى كلامه. وما نقله -رحمه الله- عن "الوسيط" من ترجيح المنع غلط فإنه إنما

رجح الجواز فقال في ذكره للشروط ما نصه: وأن يكون بعد الطلاق لا قبله فإن كان معه بأن اختلعها بالمهر ففيه تردد، والأظهر أنه كالمتأخر هذا لفظ "الوسيط" هنا، وهو الكلام الذي أراده الرافعي، ولهذا نقل عنه أنه عبر وقال في كتاب الخلع: وإن منعناه وهو الأصح. . . . إلى آخر ما قال، وهذا الذي قاله هناك لا يخالف ما قاله هنا فإنه ليس تفريعًا على القديم، بل ذكر حكم المسألة من حيث الجملة، ولا شك أن الصحيح فيها عند الغزالي وغيره هو الجديد القائل بالمنع. واعلم أن النووي قال في "الروضة" في اختصاره لكلام الرافعي: ولو خالعها الولي عن نصف الصداق، وجوزنا العفو صحت المخالعة، قاله المتولي وغيره، وفي "الوسيط" في صحة الخلع مع صحة العفو وجهان، والأول أشبه. هذا لفظه. وكلام الرافعي ظاهر في أن الأشبه إنما هو عائد إلى أصل الجواز وكلام النووي مع حذفه لترجيح الغزالي يقتضي عوده إلى القطع بالجواز فتأمله. قوله: ولو ادعى عينًا وأخذها ببينة ثم وهبها للمدعي عليه، ثم رجع الشهود وقلنا بتغريم شهود المال فهل للمدعى عليه تغريم الشهود؟ فيه طريقان: أحدهما: على وجهين أخذًا من هبة الصداق. والثاني: القطع بالمنع لأن المدعي عليه لا يقول بحصول الملك بالهبة، بل يزعم دوام الملك السابق، وفي الصداق زال الملك حقيقة وعاد بالهبة. انتهى ملخصًا. والصحيح هو الثاني، كذا قاله في "الروضة" من "زوائده". قوله: وإذا وهبت منه نصف الصداق فطلقها قبل الدخول، وقلنا: إن هبة الكل تمنع الرجوع، فهاهنا ثلاثة أقوال: أصحها عند صاحب

"التهذيب" وهو المنصوص في "المختصر": أنه لا يرجع بشيء أيضًا وحقه قد عجلته. والثاني: أن الهبة تنزل على خالص حقها ويرجع الزوج بجميع النصف [الثاني] (¬1). الثالث: ويحكي عن "الإملاء" أنه يرجع عليها بنصف [الثاني] (¬2) عندها ويجعل النصف الموهوب مشاعًا. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا وصحح النووي في أصل "الروضة"، صححه البغوي. قوله في "الروضة": ولو كان الصداق دينًا فأبرأته من نصفها ثم طلقها، قال المتولي: قلنا لو أبرأت عن الجميع يرجع فهنا يسقط عنه النصف الباقي أيضًا، وإن قلنا: لا يرجع بشيء، فهاهنا وجهان: أحدهما: يحسب عليه. والثاني: يسقط عنه النصف الباقي. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: النصف الباقي -أعني: بدخول "ال" على نصف-، قد شاهدته بخطه كذلك كما هو في النسخ أيضًا، وهو غلط وصوابه "نصف الباقي" بإسقاط "ال" كما هو مذكور في الرافعي. قوله: وإن خالعها على نصف الصداق نظر إن قيد وقال: خالعتك على النصف الذي يبقى لك بعد الفراق، فهو صحيح، وإن أطلق فقولان بناء على أن تصرف أحد الشريكين في النصف المطلق من العين المشتركة بالسوية ينزل على النصف الذي له أو يشيع؟ أحد القولين أنه ينزل على نصيبها، وأصحهما: عند أكثرهم أنه يشيع لإطلاق اللفظ، وكأنه خالعها على نصيبها ونصف نصيبه، فيبطل في نصف نصيبه وفي نصف نصيبها ¬

_ (¬1) في جـ: الباقى. (¬2) في جـ: الباقى.

القولان. انتهى. وهذه المسألة -أعني: تنزيل النصف على الحظر أو على الإشاعة- مذكورة في "الرافعي" و"الروضة" في مواضع أحدها: في باب الرهن. والثاني: في آخر الباب الثالث من أبواب الإقرار، والثالث: ما ذكرناه، والرابع: في العتق في الكلام على السراية. واختلف في الترجيح كلام الرافعي، وكذلك كلام "الروضة"، وقد أوضحت ذلك في كتاب الإقرار فراجعه. [قوله: والفرقة نوعان فرقة تحصل بالموت فلا توجب منعه بالإجماع. انتهى كلامه. وما ذكره من الإجماع على عدم الاستحقاق في هذه الحالة تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك فقد حكى الواحدي في تفسيره المسمى "بالبسيط" قولين في المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول والفرض.] (¬1) ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الفصل الخامس في المتعة

الفصل الخامس في المتعة قوله: وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: إن لكل مطلقة متعة، إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر (¬1). انتهى. حسبها بسكون السين المهملة معناه يكفيها ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (¬2) والباء الجارة له في الحديث زائدة وهو مبتدأ، وأن الفعل الذي بعدها في موضع الخبر. قوله: ومهما حصلت الفرقة من جهة الزوج لا بسبب فيها أو حصلت من جهة أجنبي فهي كالطلاق في اقتضاء المتعة، وذلك كما إذا ارتد أو أسلم، ثم قال: وكما إذا وطئ أبوه أو ابنه زوجته بالشبهة أو أرضعت أمه أو ابنته زوجته الصغيرة فانفسخ النكاح. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي من إيجاب المتعة للصغيرة التي انفسخ نكاحها تابعه عليه في "الروضة"، وهو يحتاج إلى تصوير فإن المتعة إنما تجب للمفوضة أو لمن ثبت لها مهر، ولكن طلقت بعد الدخول على اختلاف في ذلك أيضًا وهما معًا منتفيان أما الدخول فواضح، وأما التفويض فلأنه لا يصح في الصغيرة، بل يجب لها مهر المثل، وصورة المسألة أن تكون هذه الصغيرة أمة زوجها سيدها بالتفويض وقد صرح الرافعي بهذا التصوير في الباب الثالث من أبواب الرضاع، وحكى خلافًا في أن الزوج هل ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1188) والشافعي (737) وعبد الرزاق (12224) وابن أبي شيبة (4/ 140) والبيهقي في "الكبري" (14268). قال الألباني: إسناده صحيح. (¬2) أخرجه مسلم (2564) وأبوداود (4882) والترمذي (1927) وأحمد (7713) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

يرجع على المرضع بما غرمه من المتعة؟ وصحح عدم الرجوع، والتصوير الذي ذكرناه شرط آخر لم يذكره الرافعي وهو أن يكون زوجها عبدًا، فإن الحر المستجمع لنكاح الأمة لا ينكح صغيره على الأصح، كما هو مذكور في بابه لأنه لا يأمن بها العنت.

الباب الخامس في النزاع

الباب الخامس في النزاع قوله: فرع عن "التتمة": مات الزوج وادعت على الوارث أن الزوج سمى لها ألفًا، فقال الوارث: لا أعلم كم سمى، فلا يتحالفان، ولكن يحلف الوارث على نفي العلم فإذا حلف قضي لها بمهر المثل. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله الرافعي هنا عن "التتمة" قد نقله في الباب الثاني من الدعاوى عن القفال، ولم يذكر فيه خلافًا وحكاه الإمام عن القاضي الحسين أيضًا، ثم قال: وهو مشكل على قياس المذهب، قال: والقياس أن الحكم بانقطاع الخصومة بحلف الوارث، والقدر الثابت قطعًا هو أقل ما يتمول، قال في "الروضة": والمختار بل الصواب قول المتولي، ودليله أن تعذر معرفة المسمى كعدمه من أصله، ولهذا نوجب مهر المثل في التحالف، وإن كان هناك مسمى زائد أو ناقص. قوله: إذا وقع الاختلاف بين ولي الصغيرة والمجنونة وبين الزوج، فقال الولي: زوجتها بألف وقال الزوج: بل بخمسمائة، فوجهان أظهرهما في المذهب أنهما يتحالفان؟ لأن الولي هو المالك للعقد والمستوفى للصداق فكان اختلافه مع الزوج كاختلاف البالغة. والثاني: أنهما لا يتحالفان، لأنا لو حلفنا الولي لكان مثبتًا حق الغير بيمينه، ثم قال: والخلاف في أن الولي هل يحلف يجري في الوكيل وكذلك في البيع إذا اختلف وكيل البائع مع المشتري أو وكيل المشتري مع البائع أو اختلف الوكيلان وجميع ما ذكرنا في ما يتعلق بإنشاء الولي فأما ما لا يتعلق به كما إذا ادعي على إنسان أنه أتلف مال الطفل وأنكر المدعى

عليه، ونكل عن اليمين فوجهان: أحدهما: أن الولي يحلف اليمين المردودة إتمامًا للخصومة. وأظهرهما: المنع لأنه لا يتعلق بتصرف الولي وإنشائه. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من تصحيح الحلف للولي في ما باشره قد خالفه مخالفة عجيبة في كتاب الدعاوي في أواخر الكلام على النكول، وسوف أذكر لفظه، وما يفتي به هناك إن شاء الله -تعالى- فراجعه، وتابعه في "الروضة" على هذا الاختلاف العجيب. قوله: وإن قلنا يحلف الولي فكذلك إذا ادعى زيادة على مهر المثل والزوج معترف بمهر المثل بأن كان مهر مثلها ألفًا والزوج يزعم أنه نكحها بألف، وقال الولي: بل بألفين، وأما إذا ادعى الزوج النكاح بما دون مهر المثل فلا حاجة إلى التحالف لأنه يثبت مهر المثل، وإن نقص الولي ولو ذكر الزوج قدرًا يزيد على مهر المثل، وادعى الولي أكثر من ذلك [فلا يتحالفان كيلا يرجع الواجب إلى مهر المثل أو أكثر وذكر الزوج أكثر من ذلك] (¬1)، حكى الحناطي وجهين في أنهما يتحالفان أو يؤخذ بما يقوله الزوج. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على الحكم في هذه الصور كلها فأما الصورة الأولى التي صورها الرافعي للتحالف فلا تستقيم إذا فرعنا على الصحيح المنصوص أن الزوج هو الذي يبدأ فإنه إذا حلف فقد أثبت بيمينه مهر المثل فلا يحتاج في إثباته إلى يمين الولي ويصير كما إذا اتفقا على زيادة المسمى على مهر المثل، ولكن اختلفا في قدرها، فإنه لا يحالف كما في الصورة الثالثة. وأما الصورة الثانية التي قال الرافعي: إنه لا حاجة فيها إلى التحالف فإنه ينبغي التحالف فيها كما تقدم في ما إذا أنكر أصل التسمية فإن الأمر ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

يرجع إلى الاختلاف في قدر المهر لأنه إن كان كما يقوله الزوج فالواجب مهر المثل وكأن النزاع وقع في أن الواجب مهر المثل كما يقول الزوج، أو أكثر كما يقول الولي وأما التحالف في الصورة الرابعة فلا وجه له. قوله: ولو اختلفا فقال: أصدقتك أباك فقالت: بل أمي، ففيه وجهان: أصحهما عند صاحب "الكتاب" وبه أجاب ابن الحداد: أنهما يتحالفان، والوجهان هما الوجهان المذكوران في ما إذا اختلف المتبايعان فقال البائع: بعتك هذا العبد فقال المشتري: هذه الجارية. انتهى. وما صححه الغزالي هو الصحيح فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" هنا، وكذا النووي في أصل "الروضة"، وقد سبق في المسألة كلام آخر مذكور في التحالف، واعلم أن محل الوجهين على ما ذكره الرافعي في باب التحالف أن لا يكون الثمن معينًا فإن كان معينًا تحالفا بلا خلاف والبضع هنا معين.

باب الوليمة والنثر

باب الوليمة والنثر قوله: فالوليمة على ما ذكره الشافعي - رضي الله عنه - والأصحاب تقع على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من إملاك وختان وغيرهما لكن استعمالها على الإطلاق في الإملاك أشهر. انتهى. والمراد بالإملاك: هو النكاح، وقد عدل في "الروضة" إلى التعبير به. قوله: ويقال في دعوة الختان: إعذار من إعذار الغلام إذا اختتن، وفي الولادة عقيقة، وسلامة المرأة من الطلق خرس، وقيل: الخرس طعام الولادة، ولقدوم المسافر نقيعة، ولإحداث البناء وكيرة، ولما يتخذ للمصيبة وضيمة، وبلا سبب مأدبة. انتهى. الإعذار بالعين المهملة، والذال المعجمة، والخرس بخاء معجمة مضمومة وراء ساكنة وسين مهملتين، ويقال: بالصاد، والمأدبة بضم الدال المهملة وفتحها وبالباء الموحدة. والوضيمة بكسر الضاد المعجمة. والنقيعة بالنون من النقع وهو الغبار قال تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} (¬1). والوكيرة من الوكر وهو المأوى والمستقر. قوله من "زوائده": وقول الأصحاب: النقيعة لقدوم المسافر، ليس فيه بيان من يتخذها أهو القادم أو المقدوم عليهم؟ وفيه خلاف لأهل اللغة، فنقل الأزهري عن الفراء أنه القادم، وقال صاحب "المحكم": هو طعام يصنع للقادم، وهو الأظهر. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سورة العاديات: 4.

وهو يقتضي أنه لم يقف فيه على نقل لأصحابنا، وقد رأيت ذلك مصرحًا به في "المنهاج" للحليمي في آخر كتاب الحج، وجزم بالأول فقال: ويستحب للمسافر إذا رجع واستقر في منزله أن يطعم الناس. هذه عبارته، ثم نقل فيه آثار عن الصحابة وغيرهم. قوله: وفي وليمة النكاح قولان أو وجهان: أصحهما: أنها مستحبة، والثاني: واجبة. انتهى. تردد أيضًا في "الشرح الصغير" و"الروضة" و"المنهاج" بين القولين والوجهين، والصحيح أن الخلاف قولان، كذا صححه الجرجاني في "الشافي". قوله: أشهر القولين وجوب الإجابة إلى وليمة العرس، ثم قال: وإلى ترجيحه ذهب أصحابنا العراقيون، وتابعهم القاضي الروياني وغيره. انتهى. واعلم أن هذا الذي نقله عن الروياني قد تابعه عليه في "الروضة" ولا شك أن الروياني في "الحلية" قد اقتصر على وجوبه، وذكر في "البحر" نحوه فقال: فرع إذا دعاه مسلم فالإجابة واجبة قال -أعني: في " البحر"- أيضًا بعد هذا بقليل: فرع: إذا قلنا: لا يلزم الإجابة -وهو الصحيح عندي- وهو ظاهر نص "المختصر" لأنه قال: واجب أن يجيب أخاه فلا شك أنه يستحب الإجابة هذا لفظه فعلمنا أن الصحيح عند الروياني عدم الوجوب فإن الذي ذكره أولًا وهو الذي ظفر به الرافعي إنما هو النقل المعروف في المذهب لا اختياره فتفطن لهذه الدقيقة، فإن كلام الرافعي والنووي يقتضي خلافه. قوله: وفي إجابة سائر الولائم طريقان: أحدهما: طرد القولين وبه قال الشيخ أبو حامد.

والثاني: القطع بعدم الوجوب، والأظهر فيها عدم الوجوب وإن ثبت الخلاف. انتهى. لم يصحح في "الشرح الصغير" أيضًا شيئًا من الطريقين، والأصح طريقة القطع، كذا صححه النووي في "الروضة"، ولم ينبه على أنه من "زياداته"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له فإنه غريب. قوله: وإذا قلنا بوجوب الإجابة، فهي فرض عين أو فرض كفاية؟ فيه وجهان: أحدهما: فرض عين لما سبق من الخبر، قال في "الشامل": وهذا ظاهر في المذهب. والثاني: فرض كفاية، ومال الحناطي إلى ترجيحه. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا والذي صححه صاحب "الشامل" هو الصحيح كذا صححه النووي في أصل "الروضة" وهو مقتضى كلام "المحرر" فإنه قال فيه وجهان رجح منهما أنه على الأعيان، وما ذكره الرافعي عن الحناطي لم يذكره هنا، بل ذكره بعد هذا في أواخر شروط الإجابة. قوله: فإن دعاه ذمي فوجهان: أحدهما: أنه كما لو دعاه مسلم لإطلاق الأخبار. وأصحهما -على ما ذكره المحاملي-: أنه لا يجب. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا والأصح ما صححه المحاملى كذا جزم به الماوردي بعد الكلام على المسألة بقليل وصححه أيضًا الروياني في "البحر" والنووي في أصل "الروضة". قوله: وتكره مخالطة الذمي وموادته. انتهى.

وما ذكره هنا من كراهة الموادة قد ذكر ما يخالفه في أواخر كتاب الحرية، فجزم بالتحريم، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. قوله: أما إذا أو لم ثلاثة أيام فالإجابة في اليوم الثاني لا تجب بلا خلاف، ولا يكون استحبابها كاستحبابها في الأول وإن دعى في الثالث كرهت الإجابة. انتهى. وما إدعاه من عدم الخلاف في الثاني ليس كذلك، فقد حكى صاحب "التعجيز" وجهين في الوجوب وظاهر عبارة "التنبيه" أن الكراهة في اليوم الثاني لا فرق فيها بين أن يكون هو المدعى في اليوم الأول أو غيره وظاهر عبارة "البيان" اختصاصها بالمدعو في الأول ذكره أيضًا في "المحرر" وتابعه عليه في "الروضة"، وليس كذلك بل فيه وجهان حكاهما ابن يونس في "التعجيز". قوله في أصل "الروضة": ومنها -أي: من شروط الإجابة- أن لا يكون هناك منكر كشرب الخمر والملاهي فإن كان نظر إن كان الشخص ممن إذا حضر رفع المنكر فليحضر إجابة للدعوة وإزالة للمنكر وإلا فوجهان: أحدهما: الأولى أن لا يحضر بل يجوز أن يحضر ولا يستمع وينكر بقلبه وعلى هذا جرى العراقيون. والصحيح: أنه يحرم. ثم قال: فإذا قلنا بالثاني فلم يعلم حتى حضر نهاهم فإن لم ينتهوا فليخرج، وفي جواز القعود وجهان ثم قال من "زياداته": أصحهما التحريم. انتهى كلامه. وما ذكره من أن الوجهين في تحريم القعود مفرعان على قولنا لا يجوز الحضور مخالف لما في "الرافعي"، فإن المذكور فيه حكاية وجهين من غير

تفريع على شيء، وحينئذ فيكون الخلاف المذكور محله في ابتداء الحضور، فإن جوزناه جوزنا القعود وإلا فلا وهذا هو المتجه في المعنى. قوله: ومن المنكرات فرش الحرير وصور الحيوانات في السقوف والجدران والثياب الملبوسة والستور المعلقة والوسائد الكبيرة المنصوبة، ولا بأس بما على الأرض والبساط الذي يداس والمخاد التي يتكأ عليها، وليكن في معناها الطبق والخوان والقصعة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن عده هذه الأشياء في المنكرات مع ما سبق من كلامه أن الحضور في موضع المنكر حرام يقتضي تحريم دخول البيت المشتمل على شيء من هذه الأمور فتأمله، ولكنه ذكر بعد هذا بقليل ما يقتضي أن الأكثرين على جواز دخوله فتفطن له فإنه مخالف، والصواب الجواز. الأمر الثاني: أن تعبيره في الطبق والخوان والقصعة بما ذكر قد تابعه عليه النووي وابن الرفعة، وهو تعبير يقتضي القول بذلك تفقهًا لا نقلًا، وقد صرح بالمسألة الغزالي في "الإحياء" في الكلام على منكرات الضيافة، وقال: إنه لا بأس بالطبق والخوان، وهذا التعبير يشعر بعدم الكراهة أيضًا. نعم لو كانت الصورة على إبريق ونحوه فهل يجوز لكونه يستعمل ويمتهن أو لا لكونه لا يجعل عليه شيء؟ فيه نظر، والمتجه الثاني. واعلم أن الخوان -بكسر الخاء المعجمة- هو الذي يؤكل عليه والقصعة بفتح القاف. قوله: ولا بأس بصور الأشجار والشمس والقمر، وفي "شرح الجويني" وجه أن صورة الأشجار مكروهة لأن منهم من كان يعبدها. انتهى.

وهذا التعليل المذكور في حكاية هذا الوجه يؤخذ منه طرده في الشمس والقمر بطريق الأولى، وأسقط في "الروضة" هذا التعليل الذي يستفاد منه طرد الوجه في الجميع. قوله: وفي نسج الثياب المصورة وجهان، جوزه أبو محمد، لأنها قد لا تلبس، ورجح الإمام والغزالي المنع تمسكًا بالحديث إلى آخر ما ذكر. لم يصرح -رحمه الله- في "الشرح الصغير" أيضًا بتصحيح، والصحيح: تحريم التصوير مطلقًا على أي شيء كان سواء كان أرضًا أو غيره، كذا صححه في "الروضة" من "زوائده". قوله: وأما الفطر فينبغي إذا حضر أن يأكل وفيه وجهان: أحدهما: أنه واجب وأقله لقمة. وأصحهما: أنه مستحب، انتهى. تابعه في "الروضة" على عدم الوجوب وصرح به أيضًا في "شرح مسلم" في باب الوليمة، ثم عكس ذلك في الشرح المذكور أيضًا في كتاب الصيام في باب ندب الصائم إذا دعى إلى طعام، فقال ما نصه: وليس الصوم عذرًا في إجابة الدعوة، لكن إذا حضر لا يلزمه الأكل ويكون الصوم عذرًا في ترك الأكل بخلاف المفطر فإنه يلزمه الأكل على أصح الوجهين عندنا كما سيأتي واضحًا إن شاء الله تعالى في بابه. هذا لفظه بحروفه، وذكر في "تصحيح التنبيه" أنه المختار، ولا ذكر للمسألة في "المحرر" ولا في "مختصره". قوله في أصل "الروضة": والمرأة إذا دعت النساء كما ذكرناه في الرجال، فإن دعت رجلًا أو رجالًا وجبت الإجابة إذا لم تكن خلوة محرمة. انتهى كلامه.

وما ذكره من وجوبها عند دعاء الرجل الواحد كيف يستقيم مع أن شرط وجوب الإجابة مطلقًا أن تكون الدعوة عامة كالعشيرة والإخوان وأهل الصناعة؟ والرافعي عبر بقوله: "فيجاب" وهو تعبير صحيح، وصرح في "الروضة" بالوجوب فحصل الخلل. قوله من "زوائده": قال إبراهيم المروذى: لو دعته امرأة أجنبية [وليس هناك محرم لها ولم تحصل خلوة بل جلست في] (¬1) بيت وبعثت الطعام مع خادم إليه إلى بيت آخر من دارها، لم يجبها مخافة الفتنة. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: "لم يجبها" إن كان المراد به عدم الوجوب فلا يصح التقييد بعدم وجود المحرم لما سبق قريبًا من عدم العموم، وإن كان مراده عدم الجواز فهو ممنوع. قوله: وللضيف أن يأكل إذا قُدِّم إليه الطعام، وفي "الوسيط" وجه أنه لابد من لفظ. انتهى. تابعه في "الروضة" على نسبته إلى "الوسيط" فقط وهو مؤذن باستغرابه، وقد تقدم بنقله جماعة غير الغزالي منهم إمام الحرمين في "النهاية" وقد نقله عنه الرافعي أيضًا في كتاب الجنايات في الكلام على استيفاء القصاص في مسألة ما إذا استحق القصاص في اليمين فقطع اليسار فقال: قال الإمام وقد ذكر وجه ضعيف أن الضيفان لا يستحقون الطعام ما لم يتلفظ المقدم بالإباحة. قوله: الثانية هل يملك الضيف ما يأكله؟ قال القفال: لا بل هو إتلاف بإباحة المالك وللمالك أن يرجع ما لم يأكل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقال أكثرهم. نعم. وبم يملك؟ فيه وجوه: قيل: بالوضع بين يديه، وقيل: بوضعه في الفم، وقيل: بالازدراد إذا تبين حصول الملك قُبَيْلَه، وزيف المتولي ما سوى الوجه الأخير، وذلك يقتضي ترجيحه وعلى الوجوه ينبني التمكن من الرجوع. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما صححه هنا من كون الضيف يملك قد خالفه في كتاب الأيمان في أثناء الباب الثالث في ما يقع به الحنث مخالفة عجيبة، فإنه نقله هنا عن الجمهور وجعله هناك وجهًا بعيدًا، وسوف أذكر لفظه هناك -إن شاء الله تعالى- فراجعه، ولم يذكر الرافعي هذه المسألة في "المحرر"، وذكرها في "الشرح الصغير" في هذا الباب فقط، وأجاب بما أجاب به هاهنا. الأمر الثاني: أن الراجح من الوجوه المفرعة على الملك أنه يحصل بالوضع في الفم، قد رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: قيل: يملكه بالوضع في الفم، وقيل: بالازدراد يثبت حصول الملك قبله ورجح منهما الأول. هذا لفظه. الثالث: أن العبد لابد من استثنائه هنا على المعروف، بل في جواز قبوله مثل هذه الإباحة بغير إذن السيد نظر. قوله: ولا يجوز التطفل إلا إذا كان بينه وبين صاحب الدار انبساط، وهذا قريب مما سبق في الزلة. انتهى. التطفل هو حضور الوليمة من غير دعوى إليها، ومنه الطفيلي منسوب إلى طفيل رجل من أهل الكوفة من بني عبد الله بن غطفان، كان يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها فكان يقال له: طفيل الأعراس، والعرب

تسمى الطفيلي الوارش بالشين المعجمة إن دخل إلى طعام، فإن دخل إلى شراب فهو الواغل بالغين المعجمة أيضًا، قاله الجوهري. وأما الزلة فهو ما يأخذه حاضر الوليمة من طعامها، ولعله مأخوذ من ما حكاه الجوهري: أزللت إليه نعمة، إذا أسديتها له، واعلم أن لفظ "الزلة" لم يتقدم له ذكر، وإنما تقدم معناها. نعم ذكرها الغزالي في "الوسيط" فقال وزلة الصوفي حرام. قوله: وقد عرفت بهذه المسائل أن الخلاف في أنه بم يملك مخصوص بما يأكله ولا يقول بأنه يملك ما يوضع بين يديه أو ما يأخذه بحال، ولو قيل به لما منع من النقل ومن إطعام السائل وسائر التصرفات وهي ممتنعة بالاتفاق. انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق على تحريم النقل وإطعام السائل والهرة وعدم الملك في ما لم يأكله ليس كذلك، بل في الأشياء كلها خلاف مشهور مذكور في "الحاوي" و"الشامل" و"البحر" و"البيان" و"الذخائر" وغيرها، ونقلوا القول بالملك وجواز هذه الأشياء عن الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب، بل كلام الرافعي هنا لا يستقيم مع ما قاله قبل ذلك أن الخلاف في وقت الملك فائدته في جواز الرجوع، فإنه إذا خص الخلاف بما أكله كيف يمكن معه امتناع الرجوع على مالك الطعام؟ ، ولم يتعرض في "الروضة" لنفي الخلاف بل حكى من "زوائده" عن "البيان" عن الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب ما حكيناه عنهما. قوله: ومن آداب الأكل: أن يقول في الابتداء: بسم الله، فإن نسي فإذا تذكره قال: بسم الله أوله وآخره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه سكت هنا عما يقوله بعد الفراغ، وقد ذكره في آخر

باب الأطعمة فقال: يستحب أن يقول: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ووافقه النووى هناك على الاقتصار على هذا اللفظ وزاد فيه هنا بعد قوله "فيه": "غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا". رواه البخاري في "صحيحه" (¬1)، وقد شرح في "الأذكار" هذه الألفاظ فقال: مكفي بفتح الميم وتشديد الياء هذه الرواية الصحيحة الفصيحة، ورواه أكثرهم بالهمز وهو فاسد من جهة العربية سواء كان من الكفاءة أو من كفأت الإناء كما لا يقال في مقري من القراة مقري ولا في مرمي بالهمز فالمراد بذلك كله هو الطعام وإليه يعود الضمير بالمكفى لا بالمقلوب للاستغناء عنه، وقوله: "غير مكفور" أي: غيو مجحود من قولهم كفر النعم إذا جحدها وسترها، وقال الخطابي وغيره: إن ذلك يعود إلى الله سبحانه وتعالى وأن معنى قوله: "غير مكفي" أنه يطعم ولا يطعم، قال: وقوله: "غير مودع" أي: غير متروك من الطلب منه وينتصب ربنا على هذا بالاختصاص والمدح أو بالنداء، ومن رفعه جعله خبرًا كأنه قال ذلك ربنا أو أنت ربنا ويصح فيه الكسر على البدلية من الاسم في قوله: "الحمد لله". وقال ابن الأثير: من رفع ربنا فعلى الابتداء المؤخر، أي: ربنا غير مكفي ولا مودع، وعلى هذا فيرفع غير ذلك قال: ويجوز أن يكون ذلك كله راجعًا إلى الحمد. انتهى كلام "الأذكار" ملخصًا. الأمر الثاني: أن تقييد الرافعي بالنسيان يشعر بأنه لا يستحب التدارك عند التعمد، وليس كذلك، بل يستحب أيضًا وقد نَبَّه عليه النووي من "زوائده". قوله: ويكره أن يأكل مما يلي أكِيله وأن يأكل من وسط القصعة وأعلى ¬

_ (¬1) حديث (43/ 5) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -.

الثريد ونحوه، ولا بأس بذلك في الفواكه وأن يقرن بين التمرتين. . . . إلى أخره. وما ذكره من كراهة هذه الأمور تابعه عليه في "الروضة" وقد نص الشافعي -رحمه الله- على التحريم، فقال في "الأم": فإن أكل مما لا يليه أو من رأس الطعام أو عرس على قارعة الطريق أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالمًا بنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا لفظه بحروفه، ذكر ذلك في الربع الأخير في باب صفة نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو بعد باب من أبواب الصوم وقبل باب من أبواب إبطال الاستحسان، وذكر في "البويطي" نحوه أيضًا وكذلك في "الرسالة" قبل باب أصل العلم. واعلم أن الأكيل الواقع في لفظ الرافعي وهو بالهمزة المفتوحة وبالياء قبل اللام هو الجالس مع الشخص ليأكل. قوله: ولا يكره الشرب قائمًا وحملوا النهي الوارد على حالة السير، زاد في "الروضة" على هذا فقال: قلت: هذا التأويل قد قاله ابن قتيبة والمتولي، والمختار أن الشرب قائمًا بلا عذر خلاف الأولى للأحاديث الصحيحة في "مسلم" (¬1) بالنهي عنه، وأما الحديثان الصحيحان في النهي عنه (¬2) فمحمولان على الجواز جمعًا بين الأحاديث. انتهى كلامه. وذكر في "الفتاوى" أنه لا يكره أيضًا فقال في باب الأطعمة: ولا يكره الشرب قائمًا فإن كان لحاجة فجائز، وإن كان لغير حاجة فهو خلاف الأفضل ولا يقال: إنه مكروه. انتهى لفظه. إذا علمت ذلك فقد خالف في "شرح مسلم" فقال في أول باب الشرب قائمًا وهو في أوائل الربع الأخير من الكتاب ما نصه: والصواب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2024) من حديث أنس، و (2025) من حديث أبي سعيد. (¬2) انظر السابق.

في الأحاديث أن النهي محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه قائمًا فلبيان الجواز، فإن قيل: كيف يكون الشرب قائمًا مكروهًا، وقد فعله -عليه الصلاة والسلام-؟ فالجواب: أن فعله إذا كان بيانًا للجواز لا يكون مكروهًا، بل البيان واجب. انتهى كلامه. وذكر في الشرح المذكور أنه يستحب لمن شرب قائمًا عالمًا أو ناسيًا أن يتقيأ لما رواه "مسلم" (¬1): "لا يشربن أحدكم قائمًا فمن نسي فليستقئ". قوله من "زياداته": ويستحب لكل واحد من الجماعة أن يسمي فإن سمى واحدًا أجزأ عن الباقين، نص عليه الشافعي وقد ذكرته في كتاب "الأذكار" وفي "طبقات الفقهاء" في ترجمة الشافعي. انتهى كلامه. وما نقله -رحمه الله- في آخر كلامه عن "الطبقات" سهو فإن "الطبقات" المذكورة لم يترجم فيها للشافعي فضلًا عن كونه ذكر هذا النص فيها، ووقع له أيضًا نظير هذا الموضع في آخر تعليق الطلاق وسوف أنبه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: والتقاط النثار جائز لكن تركه أولى إلا إذا عرف أن الناثر لا يؤثر بعضهم على بعض، ولم يقدح الالتقاط في مروءته. انتهى كلامه. وما ذكره من كون التقاطه خلاف الأولى تابعه في "الروضة" هنا عليه وليس كذلك، بل نص الشافعي -رحمه الله- على أنه يكره، كذا نقله في "الروضة" من "زوائده" في كتاب الشهادات عن "الشامل" عن الشافعي -رحمه الله- ولم يحك فيه خلافًا، ثم رأيت النص المذكور في ¬

_ (¬1) حديث (2026) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

"الأم" فقال في آخر شهادة القاذف ما نصه: وأما أنا فأكرهه لمن أخذه من قبل أن يأخذه من أخذه ولا يأخذه إلا بغلبة لمن حضره، إما بفضل قوة، وإما بفضل قلة حياء. هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلت. قوله: ومن التقط شيئًا من النثار ملكه، وقيل: لا، فعلى الأول هل يخرج عن ملك الناثر بالنثر أو بأخذ الملتقط شيئًا له أو إتلافه؟ فيه أوجه. انتهى. لم يرجح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا وقال في "الروضة" من "زياداته": الأصح الثاني كسائر المباحات. قوله: ومن وقع في حِجْرِه شيء من النثار فإن بسطه لذلك لم يؤخذ منه، فإن سقط كما وقع فهل يبطل حقه لأنه لم يستقر أو لا يبطل ويمنع الغير من أخذه؟ حكى في "الكتاب" فيه وجهين أجراهما الإمام في ما إذا وقع الصيد في الشبكة وأفلت في الحال، وقال: إن الظاهر أن حقه يبقى بحاله. انتهى. وما رجحه الإمام قد رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالظاهر أيضًا، والنووي في أصل "الروضة" وعبر بالأصح. قوله: وإن لم يبسط حجره لذلك فلا يملكه لكنه أولى من غيره ولا ينبغي لغيره أن يأخذه، ثم قال ما نصه: فإن أخذه فهل يملكه؟ فيه وجهان جاريان في ما لو عشش الطائر في ملكه فأخذ الفرخ غيره، وفيما إذا دخل السمك مع الماء حوضه، وفي ما إذا وقع الثلج في ملكه فأخذه غيره، لكن الأصح أن المحيي يملك، وفي هذه الصورة ميلهم إلى المنع أكثر. انتهى كلامه. واعلم أن هذه المسألة وهي الكلام على الملك في التعشيش ونظائره مذكورة في الرافعي و"الروضة" في أربعة مواضع:

أحدها: في أوائل إحياء الموات. والثاني: في أواخره. والثالث: ما ذكرناه في هذا الباب. والرابع: في باب الصيد. واختلف فيها كلام الرافعي والنووي معًا، وسوف أذكره إن شاء الله تعالى مبسوطًا في باب الصيد فراجعه.

كتاب القسم والنشوز

كتاب القسم والنشوز قوله في أصل "الروضة": ويحرم عليه أن يجمع بين زوجتين أو زوجات في مسكن ولو ليلة واحدة إلا برضاهن. انتهى. وهذا الكلام يوهم أنه لا يحرم عليه الجمع بين الزوجة والسرية أو السراري وليس كذلك، بل يحرم أيضًا كما في الزوجات، كذا ذكره الروياني في "البحر" ولم يحك فيه خلافًا والرافعي -رحمه الله- عبر بالضرة والضرتين، فعدل النووي عنه إلى الزوجتين والزوجات، ولقائل أن يلتزم إطلاق الضرة على الزوجة والسرية، وحينئذ يستقيم كلام الرافعي، لكن الجوهري فسر الضرة بالزوجة. قوله: ومن يعمل ليلًا ويسكن نهارًا كالأتوني والحارس فعماد قسمة النهار والليل تابع. انتهى. الأتوني منسوب إلى الأتون بهمزة مفتوحة ثم تاء بنقطتين من فوق مشددة وفي آخره نون، وهو الذي توقد به النار من حطب أو غيره، وأما المنسوب فإنه الشخص الموقد. قوله: وأما النهار فلا يجب فيه التسوية بين النسوة في قدر إقامته في البيت، ولكن ينبغي أن تكون إقامته في بيت صاحبة النوبة إن أقام ولا يدخل على غيرها إلا لحاجة العيادة. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه وليس فيه تصريح بتحريم ذلك، بل تعبيره بقول: "ينبغي" يشعر بالجواز، ولكن قد جزم صاحب "التنبيه" بالتحريم، وأقره عليه النووي في "تصحيحه" وحكى صاحب "الذخائر" في التحريم وجهين. قوله: فرع: نقل صاحب "التهذيب" وغيره أنه إذا مرضت واحدة من

النسوة أو ضربها الطَّلق، فإن كان لها متعهد لم يبت عندها إلا في نوبتها، وإن لم يكن فله أن يبيت عندها ويمرضها بحسب الحاجة وقد خطر في الفرع شيئان: أحدهما: أن التعهد إن فرض من الخادمة في التي تستحق الخادمة فبين وإن تبرع بذلك محرم أو امرأة فليس على الزوج إسكانه وإدخاله عليها فينبغي أن يكون الحكم كما لو لم يكن متعهد حتى يجوز له أن يبيت عندها. انتهى كلامه. والذي ذكره -رحمه الله- هنا ذهول عما قرره هو وغيره في كتاب النفقات فإنهم قد نصوا على أن من لا تخدم لمنصبها يجب إخدامها إذا احتاجت إلى الخدمة لمرض ونحوه، والتصوير الآن في المحتاجة فتكون كالتي تخدم لنصبها والقاعدة أن المرأة لا يلزمها الرضى بخدمة الزوج عوضًا عن الخادم وأنها إذا ألفت خادمًا، ولم يحصل فيه ريبة لم يجز إبداله إلا برضى المرأة، وقد حذف من "الروضة" البحث المذكور فسلم من الاعتراض، وتعبير الرافعي في أول كلامه بقوله: "أو ضربها الطَّلْق" هو كذلك في "الروضة" و"التهذيب" وكأنه مأخوذ من قولهم: ضرب الجرح، إذا لَمَّ. قوله: والثاني: لو مرضت اثنتان ولا متعهد، فقد يقال: يقسم الليالي عليهما ويسوي بينهما في التمريض ويمكن أن يقال يقرع بينهما، ويخص التي خرجت قرعتها كما يسافر بواحدة بالقرعة. انتهى كلامه. قال في "الروضة" من "زوائده": القسم أرجح. قوله: فرع: لو كان الرجل يعمل تارة بالليل ويستريح بالنهار وتارة عكسه فهل يجوز أن يبدل الليل بالنهار بأن يكون لواحدة ليلة تابعة ونهار متبوع ولأخرى ليلة متبوعة ونهار تابع؟ وجهان حكاهما

الحناطي. انتهى. والأصح المنع لتفاوت الغرض، كذا قاله في "الروضة" من "زوائده". قوله: والأولى أن لا يزيد على ليلة اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو قسم ثلاثًا ثلاثًا فيجوز ولا تجوز الزيادة على الثلاث إلا برضاهن، وقيل يجوز، ثم قال ما نصه: وإذا قلنا بالجواز فإلى كم يجوز؟ قال الإمام: إنه لا يجوز أن يبني القسم على خمس سنين مثلًا، ولكن عن صاحب "التقريب" أنه يجوز أن يقسم سبعًا سبعًا لأن هذه المدة قد تستحق في القسم لتجدد النكاح، وعن الشيخ أبي محمد وغيره أنه يجوز أن يزيد ما لم يبلغ مدة التربص في الإيلاء. ثم قال: وإذا وقفت على ما ذكرنا لم نجر قبوله في "الكتاب" في حكاية الوجه الثالث على إطلاق. انتهى كلامه. وعبارة الغزالي: "وقيل: لا تقدير"، بل هو إلى اختياره، وكلام الرافعي يقتضي أن أحدًا لم يقل بمدة الإيلاء فصاعدًا، فإن مراد الغزالي، إما مقالة صاحب "التقريب" وهي السبع، وإما مقالة الشيخ أبي محمد وهي نقصانها عن مدة الإيلاء، وقد تابعه أيضًا في "الروضة" على هذا الإنكار وبالغ فحذف مقالة الغزالي بالكلية واقتصر على المقالتين السابقتين، وما قالاه غريب، فإن القول به بلا تقييد وجه ثابت صرح به الغزالي في "البسيط" وعبر بعبارة صريحة في التعميم ودافعة لهذا التأويل، فقال: ومنهم من قال: لا تقدير بزمان ولا توقيت أصلًا وإنما التقدير إلى الزوج، ولم ينظر أحد إلى مدة الإيلاء، وإن كان محتملًا. هذا لفظه، ولو اطلعا عليه لم يذكرا ما ذكراه. قوله: السبب الثاني: تجدد النكاح وهو يقتضي تخصيص الجديدة

بزيادة مبيت عند الزفاف وهي سبع ليال للبكر وثلاث للثيب، وسواء كانت ثيوبة الجديدة بنكاح أو زنا أو وطء شبهة، ولو حصلت بمرض أو وثبة فعلى الوجهين في استئذانها نطقًا في النكاح. انتهى. وما ذكره من حكاية وجهين في المريضة قد تابعه عليه في "الروضة" [مع أنه لم يتقدم لها هناك ذكر بالكلية. قوله في أصل "الروضة": ] (¬1): ولو كانت الجديدة أمة ولا يتصور ذلك إلا في العبد فإن له نكاح أمة على حرة فوجهان: أصحهما: أنها كالحرة في استحقاق السبع والثلاث لأن المراد زوال الحشمة والأمة كالحرة فيه والثاني: لها نصف ما للحرة كالقسم. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله من كونه لا يتصور إلا في العبد. ذكره أيضًا قبل ذلك بنحو ورقة، وهو غير صحيح، بل يتصور أيضًا في الحر، وذلك أن يكون تحته حرة لا تصلح للاستمتاع كما إذا كانت صغيرة أو هرمة أو غائبة أو مجنونة أو مجذومة أو برصاء أو رتقاء أو مفضاة لا تحتمل الجماع فإن الأصح في هذه الصور كلها عنده جواز نكاح الأمة عليها، كذا صححه في "المنهاج"، وهو الذي يشعر به كلام "الروضة" لكن الرافعي يميل إلى المنع كما تقدم الكلام عليه في موضعه فكذلك ذكر هنا أنه لا يتصور إلا في العبد، ثم إن النووي في "الروضة" وافقه عليه غير مستحضر لما قرره هناك فوقع في الخلل. قوله: وإذا ابتدأ بالحرة ثم عتقت الأمة في نوبتها -أى نوبة الحرة- فينظر إن عتقت في القدر المشترك بين الحرة والأمة بأن عتقت في الليلة الأولى من ليلتي الحرة قسم الليلة ويبيت الليلة الأخرى عند العتيقة، وسَوَّى بينهما، وإن عتقت في الليلة الثانية لم يلزمة الخروج، ثم إن كملها ¬

_ (¬1) سقط من الأصل.

عند الحرة بات بعد ذلك عند العتيقة ليلتين وإن خرج نظر إن كملها في مسجد أو بيت صديق لم يلزمه أن يقضي ما مضى من تلك الليلة وإن كملها عند العتيقة فقد أحسن. انتهى ملخصًا. فيه أمران تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: أن ما ذكره في ما إذا عتقت في الليلة الأولى من اقتصاره في الحرة على تلك الليلة، ويبيت الثانية عند العتيقة مقتضاه، أن ذلك واجب وليس كذلك، بل محله ما إذا أراد الاقتصار في حق العتيقة على ليلة فإن أراد توفية الحرة ليلتين، وإقامة مثلهما عند العتيقة جاز، صرح به إمام الحرمين، فقال: إذا عتقت في الليلة الأولى أتمهما، ثم هو مخير إن شاء بات عند الحرة الليلة الثانية ثم يبيت عند العتيقة ليلتين، وإن اقتصر عليها وبات عند العتيقة ليلة، فإن المقدار الذي يضربه الزوج لا يتحتم عليه الوفاء به فلو بدا له تقلل أو تكثر بعد الوفاء بالتسوية فلا معترض عليه هذا كلامه. الأمر الثاني: أن ما ذكره في القسم الثاني وهو ما إذا عتقت في أثناء الليلة الثانية مشكل لأن النصف الأول إن كان حقًا للحرة فيجب إذا كمل الليلة أن لا يقضي جميعها، وإن لم يكن حقًا خاصًا بها فيجب أن يقضيه إذا خرج على الفور، وقد استضعف الإمام قول الصيدلاني أنه إذا خرج عندما عتقت فلا يبيت عند الأمة إلا ليلة واحدة فقال بعد نقله عنه خاصة ينبغي أن يقيم عندها ليلة ونصفًا وإلا فهو ظلم. قوله: ويستحب أن يخير الثيب بين أن يقيم عندها ثلاثًا بلا قضاء وبين أن يقيم عندها سبعًا، ويقضي، ثم قال: وإذا قام عندها سبعًا قضى الكل إن كان بسؤالها وإلا قضى الأربعة، وذكر صاحب "المهذب" وجهين في أنه ما الذي يقضي إذا أقام سبعًا؟ أحدهما: أنه يقضي الجميع.

والثاني: لا يقضي إلا ما زاد على الثلاث هكذا أطلقه، ثم قال: فإن أراد ما إذا التمست حصل وجه أنه لا يجب القضاء على خلاف المشهور، وإن أراد ما إذا لم تلتمس، أو كلتا الحالتين حصل وجه أنه يجب القضاء، وإن لم تطلب ولم تلتمس على خلاف المشهور هذا لفظه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من حصول وجه بأنه لا يجب القضاء عند التماسها ليس كذلك بل الذي دل عليه كلام "المهذب" على هذا التقدير أن القضاء واجب، ولكن هل يقضي السبع أم الأربع فقط؟ وجهان فالصواب في التعبير أن يقول حصل وجه أنه لا يجب قضاء الثلاث، وكلام "الروضة" أشد إيهامًا من كلام الرافعي فإنه قال عقب التفصيل المذكور ما نصه: هذا هو المذهب، وبه قطع الأصحاب وحكى في "المهذب" في ما إذا أقام سبعًا وجهين في أنه يقضي السبع أم أربعًا هكذا أطلقها، فإن أراد إذا التمسته حصل وجه أنه لا قضاء على خلاف المذهب هذه عبارته. الأمر الثاني: أن ما ذكره من قطع الأصحاب وأشعر به عبارة الرافعي أيضًا ليس كذلك فقد حكى صاحب "البيان" وجهين في ما إذا كان بسؤالها وزاد فقال: إن المشهور أنه يقضي الثلاث فقط فإنه عبر بقوله: وإن كانت ثيبًا كانت بالخيار بين أن يقيم عندها [ثلاثًا ولا يقضي، وبين أن يقيم عندها] (¬1) سبعًا ويقضي ما زاد على الثلاث، ومن أصحابنا من قال: يقضي السبع كلها، والأول هو المشهور هذه عبارته؛ وحكى الخلاف أيضًا الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر". قوله: ولو وفى حق جديدة ثم أبانها ثم تجدد نكاحها تجدد الحق في ¬

_ (¬1) سقط من ب.

أصح القولين أو الوجهين، ولو طلقها طلاقًا رجعيًا ثم راجعها فليس لها حق الزفاف لأنها باقية على النكاح الأول. انتهى. تابعه في "الروضة" على الجزم بعدم الوجوب في الرجعية، وينبغي بناؤها على الخلاف المشهور في أن الرجعية زوجة أم لا؟ . قوله في أصل "الروضة": فرع في "فتاوي البغوي" أن حق الزفاف إنما يثبت إذا كان في نكاحه أخرى فإن لم تكن أو كانت، وكان لا يبيت عندها [لم يثبت حق الزفاف للجديدة كما لا يلزمه أن يثبت عند] (¬1) زوجته أو زوجاته إبتداءً. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الفرع ذكره الرافعي في آخر الفصل فنقله في "الروضة" إلى هذا الموضع وتابعه عليه، ثم خالف في "شرح مسلم" فقال: الأقوى والمختار أنه يجب مطلقًا للحديث الصحيح في "مسلم" إذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا، وإذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر هنا قبل المسألة التي نقلها النووي لما بعدها أنه لو نكح جديدتين ولم يكن في نكاحه غيرهما وجب لهما حق الزفاف على الصحيح سواء زفتا معًا أو على الترتيب، وقيل: إن كانتا بكرين أو ثيبين، ولم يكن في نكاحها غيرهما فليس لهما حق الزفاف، وهذه المسألة التى صححا فيها وجوب الزفاف هي المسألة السابقة بعينها إلا أنه صور تلك في إمرأة واحدة وهذه في امرأتين ولا أثر لذلك بلا شك، والغريب أن البغوي في "فتاويه" ذكر المسألتين كذلك في موضع واحد إلا أنه لم يصحح في الثانية شيئًا فأخذه منه الرافعي وفرق حكمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وكذلك لو كان يقسم بين نسائه فخرج في نوبة واحدة للضرورة بأن أخرجه السلطان فيقضي لها من الليلة التي بعدها -مثل ما خرج، والأولى أن يراعى الوقت فيقضي لأول الليل من الأول والأخر من الآخر. انتهى كلامه. وهذه الصورة التى تكلم الرافعي فيها وإن كان حكمها صحيحًا إلا أن الغزالي في "الوجيز" لم يفرضها كذلك، بل فرضها في ما إذا بات ابتداء عند واحدة نصف ليلة فترك الرافعي تلك الصورة وصورها بما رأيت. قوله: ثم إن كانت نوبة الواهبة متصلة بنوبة الموهوبة بات عندها الليلتين على الولاء وإن كانت منفصلة عنها فوجهان: أحدهما أنه إذا انتهت النوبة إلى الموهوبة يبيت عندها ليلتين لأنه أسهل عليه، والمقدار لا يختلف وقياس هذا أنه إذا كانت ليلتا الواهبة أسبق وبات فيها عند الموهوبة يجوز أن يقدم ليلتها ويبيت عندها الليلة الثانية أيضًا. وأصحهما: أنه لا يجوز الموالاة. انتهى. وما ذكره من القياس تابعه عليه في "الروضة" وهو قياس مردود لأن الفرق ظاهر لأنه لا يلزم من استتباع ليلتها لليلة الواهبة؟ لأصالتها في حقها استتباع ليلة الواهبة لليلتها لقرعتها إذ الأصل متبوع والفرع تابع. قوله: وإن وهبت حقها من الزوج، فهل له أن يخصص واحدة بنوبة الواهبة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم وهو الذي أورده العراقيون وتابعهم الروياني وغيره. والثاني: لا، وبه أجاب العبادي والغزالي في "الوجيز". انتهى ملخصًا. وحاصله رجحان الأول، وقد صرح به في "المحرر" فقال: إنه أقرب الوجهين ورجح في "الشرح الصغير" الثاني.

فقال ما نصه: فيه وجهان: أحدهما: نعم لأنها جعلت الحق له فيضعه حيث شاء، وأشبههما: المنع وهو المذكور في الكتاب يعني "الوجيز" إذ التخصيص يظهر الميل ويورث الوحشة. قوله: للواهبة أن ترجع في الهبة متى شاءت ويعود حقها في المستقبل، وأما ما مضى فلا يؤثر فيه الرجوع، وكذا ما فات قبل علم الزوج وخرج في قضائه وجه من تصرف الوكيل بعد العزل قبل العلم، والمذهب الأول ثم قال: وشبهه الغزالي بما إذا أباح ثمرة بستانه لإنسان ثم رجع وتناول المباح له بعضها قبل العلم بالرجوع، وفي هذه الصورة طريقان محكيان في ما علق عن الإمام فعن الشيخ أبي محمد أن في وجوب الغرم لما يتناوله بعد الرجوع قولين كما في مسألة عزل الوكيل، وعن أبي بكر الصيدلاني أنه لا يغرم لأن الغرامات لا فرق فيها بين الجهل والعلم، وإلى التغريم مال الإمام. انتهى كلامه. وما ذكره عن الإمام من ميله إلى الغرم تابعه في "الروضة" عليه وليس كذلك بل جزم في "النهاية" بعدم الغرم فقال ما نصه: فلو مضت نوب والزوج لم يشعر برجوعها فتلك النوب لا يستدرك لها، وكذلك لو أباح رجل لإنسان ثمار بستان أو غيرها مما يقبل الإباحة وكان المستبيح يتمادى على تعاطي ما أبيح له فلو رجع المبيح ولم يبلغ خبر رجوعه من أبيح له فالإباحة دائمة قائمة في حقه، وقال شيخى: إذا رجعت المرأة ولم يشعر الزوج فالمسألة تخرج على القولين المعروفين في أن الموكل إذا عزل الوكيل فهل ينعزل؟ فعلى قولين، وهذا الذي ذكره جار على ظاهر القياس ولكن اشتراط ظهور الخبر أغوص وأفقه هذا كلامه وهو يقتضي أن مسألة الثمار لا خلاف فيها، ولهذا استدل بها على رجوع الزوجة وكأن الرافعي ظن أن ما ذكره الإمام في تقوية كلام شيخه عائد إلى إباحة الثمار فصرح به.

قوله: إذا ظلم واحدة فقد سبق أنه يجب القضاء وإنما يمكن إذا كانت المظلومة والمظلوم بسببها في نكاحه، ثم قال: ولو لم يفارق المظلومة وفارق التي ظلم بسببها ثم عادت إلى نكاحه [أو فارقهما ثم عادتا] (¬1) وجب القضاء ولا يحسب من القضاء ما بات عندها في مفارقة الظالمة. انتهى. وهذا الذي ذكره من كون القضاء إنما يمكن إذا كانت المظلومة بسببها في نكاحه جزم به أيضًا النووي وغيره وهو باطل بلا شك فيه، فإن القاعدة أن البيت عند الزوجة لا يجب، وحينئذ فنقول: إذا ظلم امرأة ووجب عليه القضاء ففارق المظلوم بسببها فيقال له: ليس لك ترك المبيت مطلقًا في هذه الحالة كما كنت تتركه عند عدم الظلم، بل اقض ما عليك لأنه يمكنك الإتيان به، وإذا أمكنك وجب عليك فعله، ثم بعد ذلك أنت بالخيار في البيت، وهذا واضح بين، وكأن الذي أوقعهم في ما وقعوا فيه اطراد العادة بالبيت عند الزوجة مع عدم استحضار أنه غير واجب ثم بعد ذلك رأيت الغزالي في "البسيط" قد تعرض لما ذكرته واستدركته، فقال: لو بانت منه اللواتي ظلم لهن وبقيت المظلومة وحدها عندي أنه يقضي لها وإن كنا لا نوجب الإقامة عند الفردة لأنه حق لها استقر لها فلا يسقط ببينونة غيرها، ولم أر المسألة مسطورة. هذا كلامه. قوله: قال المتولي: لو قسم لواحدة فلما جاءت نوبة الأخرى طلقها قبل توفية حقها عصى لأنه منعها حقها بعد ثبوته، وهذا سبب آخر لكون الطلاق بدعيًا. انتهى. وهذا النقل ليس مختصًا بالمتولي بل هو مشهور حتى في "التنبيه". قوله: ولو نقل بعضهن بنفسه وبعضهن بوكيله بلا قرعة قضي لمن ¬

_ (¬1) سقط من الأصول، والمثبت من الروضة.

بعثها مع وكيله، ويجوز أن يفعل ذلك بالقرعة، قاله في "التهذيب". انتهى كلامه. وهو ساكت عن القضاء في القسم الثاني وهو ما إذا فعل بالقرعة، وربما يشعر بعدم القضاء، والمسألة فيها وجهان في "التنبيه": والأصح منهما في "الروضة" وتصحيح "التنبيه" وجوب القضاء. قوله في الكلام على الشقاق: وأما الهجران في الكلام فممنوع وفي ما علق عن الإمام حكاية وجهين في أنه محرم أو مكروه، وحكي عن نص الشافعي أنه لو هجرها بالكلام لم يزد على ثلاثة أيام فإن زاد أثم. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الإمام في "النهاية" قد نقل عن شيخه المنع في ما زاد على الثلاثة ثم اختار خلافه فقال: وفي هذا نظر عندي ولو رأى استصلاحها في مهاجرتها في النطق فلست أرى ذلك ممنوعًا وهو أهون من الضرب، هذه عبارته وقد بان لك أن الخلاف ثابت في "النهاية" وأنه على غير الكيفية التي حكاها عنه الرافعي فإن الكراهة لا ذكر لها بالكلية، بل يحرم ذلك على وجه ويباح أو يستحب على رأي الإمام. الأمر الثاني: أن مقتضى كلام الرافعي إثبات الحلاف في ما زاد على ثلاثة أيام وإثباته في هذه الحالة [أوضح] (¬1) فإن ذلك بقصد الإصلاح فجوزناه على وجه كما في الأجنبي فإنه يجوز فيه في هذه الحالة جزمًا كما ستعرفه هنا وفي كتاب الأيمان، وحرمناه على وجه آخر لأن تأديب المرأة يحصل بطريق آخر لعله أبلغ من الضرب، وهو الهجر في الفراش بخلاف الأجنبي، وإذا علمت ذلك فقد استدرك عليه في "الروضة" استدراكًا ¬

_ (¬1) في جـ: واضح.

مردودًا، فقال: الصواب الجزم بتحريم الهجران في ما زاد على ثلاثة أيام وعدم التحريم في الثلاثة للحديث الصحيح: "لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" (¬1)، قال أصحابنا وغيرهم: هذا في الهجران لغير عذر شرعي فإن كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما أو كان فيه صلاح لدين المهاجر أو المهجور، فلا يحرم وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كعب بن مالك وصاحبيه (¬2). هذا كلام "الروضة" وفيه كلام آخر يأتي في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى، وأشار النووي لصاحبى كعب إلى هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وهم الذين أشار إليهم الباري تعالى بقوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] أى خلفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قبول توبتهم ظاهرًا إلى نزول الوحي قال ابن معن في "التنقيب" وإذا أردت ضبط الثلاثة فاستحضر أن أول أسمائهم مكة وآخر أسماء آبائهم عكة. قوله: الثانية: أن يتحقق نشوزها لكن لا يتكرر ولا يظهر إصرارها عليه فيعظها ويهجرها، وفي جواز الضرب قولان ميل ابن الصباغ إلى الجواز وساعده الشيخ أبو إسحاق، ورجح الشيخ أبو حامد والمحاملي المنع. انتهى ملخصًا. رجح الرافعي في "المحرر" أنه لا يجوز فقال: وفي جواز الضرب قولان: أولهما المنع، وكلام "الشرح الصغير" يشعر برجحان الجواز، وصرح بتصحيحه النووي فقال في "المنهاج": إنه الأظهر، وفي "الروضة" من زوائده: إنه المختار، واعلم أن شرط جواز الضرب أن يحصل به الإقلاع وإلا فلا يجوز، كذا ذكره الرافعي في باب التعزير. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5718) ومسلم (2559) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (4156) ومسلم (2769).

قوله: وتصير المرأة ناشزة بأمور منها الخروج من المسكن. انتهى. يستثنى من ذلك خروجها إلى القاضي لطلب حقها منه، وكذلك خروجها إذا أعسر بالنفقة سواء رضيت بإعساره أم لم ترض، وقد ذكره واضحًا في كتاب النفقات. قوله: وهل يؤدبها الزوج على شتمه أو يرفع الأمر إلى الحاكم ليؤدبها؟ فيه وجهان ولو مكنت من الجماع ومنعت سائر الاستمتاعات فهل هو نشوز يسقط النفقة؟ فيه وجهان. انتهى. والأصح في الأولى أنه يؤدب كذا جزم به الرافعي في باب التعزير وصححه في "الروضة" هنا من زوائده وعلله بأن في رفعها إلى القاضي مشقة وعارًا، والأصح في الثانية أنه نشوز كذا صححه أيضًا من زوائده. قوله: الحال الثاني: أن يتعدى الرجل عليها بضرب ونحوه أو يتعدى كل منهما على الآخر فيسكنها الحاكم بجنب ثقة ينظر في أمرها، ويمنع الظالم منهما من التعدي، ثم قال: ولم يتعرضوا للحيلولة، وقال الغزالي: يحال بينهما حتى يعود إلى العدل. قال: ولا يعتمد في العدل على قوله وإنما يعتمد قولها وشهادة القرائن. انتهى كلامه. وما ذكره من أن غير الغزالي لم يتعرض للحيلولة قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غريب فقد جزم به الإمام في موضع من هذا الباب، فقال: وإذا كان حسورًا لا يأمن أن يضربها ضربًا مبرحًا، وقد يفضى ذلك إلى هلاكها فيحيل بينه وبينها، ثم قال: ولا يضرب القاضي حيلولة بينهما بمجرد الظن إذا لم تبدر منه بادرة، فإن بدرت فقد نديم الحيلولة إلى ظهور الظن، وإذا تحقق الإضرار بها فليس إلا الحيلولة. هذا كلامه. وذكر أيضًا ما ذكره الغزالي من اعتماد قولها دون كلامه.

قوله: ولو جن أحد الزوجين أو أغمي عليه لم يجز بعثهما، وقيل الإغماء لا يؤثر إن قلنا وكيلان كالنوم حكاه الحناطي، وهذا ينبغي أن يجيء في كل وكالة. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب فقد سبق ذلك في الوكالة من كلامهما وأن جماعة اختاروه منهم الإمام والغزالي، بل في الجنون الذي لا يمتد وجه تقدم أيضًا. قوله: وإذا اشتد الشقاق بينهما وداما على التضارب فيبعث القاضي حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهلها لينظر في حالهما، وهل بعث الحكمين واجب؟ لفظ صاحب "التهذيب" أن على الحاكم أن يبعث حكمين وهو يشعر بالوجوب وقد يحتج له بظاهر الآية، وقال الروياني في "الحلية": المستحب للحاكم أن يبعث الحكمين. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الصحيح هو الاستحباب فقد نص عليه الشافعي، ونقله عنه صاحب "البحر"، فقال: قال الشافعي: المستحب للحاكم أن يبعث عدلين، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها هذه عبارته. الأمر الثاني: أن ما نقله الرافعي عن "حلية الروياني" ليس مطابقًا لما فيها، فإن عبارته ليست صريحة في ما قاله، ولا ظاهرة فإنه قد عبر بقوله المستحب للحاكم أن يبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها هذا لفظه، وهو كما يحتمل أصل البعث يحتمل البعث من أهلها، فيكون الموصوف بالاستحباب هو البعث المقيد. الثالث: أن النووي في "زوائد الروضة" قد صحح الوجوب فقال: إنه

الأصح أو الصحيح. والذي قاله مردود فإنه مخالف لنص إمامه ومذكور من غير اطلاع على النص المذكور، فالعجب من كتاب موضوع للفتوى ويتمسك مثل هذين الإمامين فيه بعبارة محتملة صادرة عن متأخر وكلام إمام المذهب موجود في المسألة ماض على خلافه. قوله: ولا يشترط كون الحكمين من أهل الزوجين، وفي ما علق عن الإمام اشتراطه. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو عجيب مردود، فقد جزم الإمام في "النهاية" بعدم الوجوب وادعى الإجماع عليه فقال: وهذا مستحب غير مستحق إجماعًا هذه عبارته، ذكر ذلك قبل كتاب الخلع بنحو ورقة. قوله: ولو قال خذ مالي وطلقها فهل: يشترط تقديم أخذ المال، وجهان: أصحهما عند البغوي: نعم. انتهى. وما صححه البغوي وأقره عليه، قد نقل عنه في باب التدبير ما يوافقه، وسوف أذكر لفظه في موضعه فراجعه، غير أن القاعدة والمصرح به أيضًا في باب تعليق الطلاق من الرافعي في الطرف المعقود لأنواع من التعليقات أن الواو لا يشترط معها ترتيب، قال: وأشار في "التتمة" إلى وجه تفريعًا على أنها تقتضي الترتيب.

كتاب الخلع

[كتاب الخلع وفيه أبواب: الباب الأول في حقيقة الخلع] (¬1) قوله: وفسر الخلع في الشريعة بالفرقة على عوض يأخذه الزوج. انتهى. وهذا التفسير ذكره في "الشرح الصغير" أيضًا وتبعه عليه في "الروضة"، ولكن وصف العوض بأخذ الزوج له يخرج عنه أمور، وهي ما إذا خالعها على ما يثبت لها عليه من حق القصاص، ومن الديون وما أشبه ذلك، نعم نقل في أواخر تعليق الطلاق عن "فتاوى القفال" من غير مخالفة له ما حاصله أنه لابد في العوض أن ترجع فائدته إلى الزوج، فقال: إذا علق الطلاق على البراءة مما لها عليه كان الطلاق بائنًا، وإن علقه على البراءة مما لها على غيره كان رجعيًا، فالصواب حينئذ في تفسير الخلع أن الفرقة على عوض راجع إلى الزوج. قوله: وإذا أكرهها بالضرب ونحوه حتى اختلعت فقالت مبتدئة خالعني على كذا ففعل لم يصح الخلع، ويكون الطلاق رجعيًا إن لم يسم مالًا، وإن سماه لم يقع الطلاق لأنها لم تقبل مختارة، وفي "التتمة" وجه أنه وإن لم يسم المال لا يقع الطلاق لأنه قصد ترتيب كلامه على كلامها. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" والكلام عليه متوقف على مقدمة وهي أن ¬

_ (¬1) بياض في أ.

الخلع المطلق الجاري بغير ذكر المال، هل يقتضي ثبوت المال؟ وجهان: أصحهما على ما دل عليه كلام الرافعي و"الروضة": نعم للعرف، فإن قلنا لا يقتضي المال، وقلنا بالصحيح أن الخلع طلاق، أو جعلناه كناية، ونوى كان رجعيًا، وإذا علمت ذلك فنعود إلى مسألتنا فنقول الزوج مبتدئ في مسألتنا لأن لفظ المرأة المتقدم ساقط لأجل الإكراه، وإذا كان مبتدئًا فيقع ثانيًا بمهر المثل على المعروف، وحينئذ فالذي جزم به الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة" وجه ضعيف فاعلمه. نعم صور صاحب "التتمة" المسألة بما إذا عبر الزوج بلفظ الطلاق، ولم يعبر بلفظ الخلع، فذهل الرافعي عن ذلك. قوله: فإن فارقها على عوض بلفظ الطلاق فهو طلاق سواء فيه صريح الطلاق وكناياته، وإن كان بلفظ الخلع فطلاق أيضًا على الجديد حتى ينقص العدد، والقديم أنه فسخ، فإن قلنا: إنه طلاق ففي "الأم" أنه كناية، وصححه الروياني وغيره وفي "الإملاء": إنه صريح، واختاره الإمام والغزالي والبغوي، وهذا كله إذا ذكر المال فإن لم يذكر فكناية، وقيل على القولين. انتهى. ذكر نحوه في الروضة أيضًا، والأصح عند ذكر المال أنه صريح، كذا صححه الرافعي في "المحرر" والنووي في "المنهاج" وصاحب "الحاوي الصغير". قوله في "الروضة": ولو نوى بالخلع الطلاق والتفريع على أنه فسخ فهل يكون طلاقًا أم فسخًا لكونه صريحًا؟ ، فيه وجهان إختيار القاضي الفسخ، وبه قطع المتولي والغزالي. انتهى. لم يرد في هذه المسألة على ذلك، والرافعي لما ذكر الوجه الثاني القائل بأنه طلاق عقبه بقوله: وإيراد صاحب "التهذيب" يشعر

بترجيحه، وقطع به بعض أصحابنا العراقيين هذا لفظه، وعبر في "الشرح الصغير" بقوله: قطع به قاطعون، ولم يزد في الأول على أن قال: إنه المذكور في الكتاب، وقال في "الشرح الكبير" أنه المذكور فيه، وفي "التتمة" وهذا لا يقتضي ما زعمه في "الروضة" من القطع وبالجملة ففي "الروضة" إخلال بشيئين: أحدهما: حذف الطريقة القاطعة بالطلاق. والثاني: حذف ما يؤخذ منه ترجيحه وهو ما نقله عن البغوي أنه رجحه وكذلك القطع من بعضهم به. قوله في أصل "الروضة": ولو وكل رجلًا في طلاقها فخالعها فإن قلنا الخلع فسخ لم ينفذ، وإن قلنا طلاق قال البوشنجى: الذي يجئ على أصلنا أنه لا ينفذ أيضًا لأنه يمنعه الرجعة إن كان بعد الدخول. انتهى كلامه. وهذا التعليل يقتضي تخصيص عدم النفوذ بما بعد الدخول أو عدم مطابقة التعليل للحكم، وبالجملة فهذا الخلل وقع من اختصار النووي، وكلام الرافعي صحيح فإنه قال: وإن قلنا: إنه طلاق، قال البوشنجي: الذي يجيء على أصلنا أنه لا ينفذ أيضًا لأن للخلع صيغة وللطلاق صيغة، فإن كان قد قال ذلك قبل الدخول فنقطع بعدم النفوذ لأنه وكل بطلاق رجعي فليس للوكيل قطع الرجعة، هذا لفظ الرافعي وهو صحيح وكأنه سقط لذهول أو غيره. قوله في المسألة: وبمثله أجاب -أي بعدم النفوذ أيضًا- البوشنجي في ما إذا وكله بالطلاق فطلق على مال إن كان بحيث يتوقع الرجعة، وإن لم يكن فإن كان قبل الدخول، أو كان المملوك له الطلقة [الثانية] (¬1) فقد ذكر فيه احتمالين: وجه النفوذ أنه حصل عرضه مع فائدة، ووجه المنع أنه ¬

_ (¬1) في ب: الثالثة.

ليس مفهومًا من التوكيل المطلق في الطلاق، وقد يتوقف في بعض ما ذكره حكمًا وتوجيهًا. انتهى كلامه. وحاصله القطع بعدم نفوذ الطلاق حيث كان ذلك يؤدي إلى بطلان الرجعة، إن لم يؤد إلى بطلانها ففي نفوذه احتمالان لكنه جزم بعد ذلك في الباب الثاني قبيل الركن الخامس نقلًا عن "فتاوى القفال" بوقوع الطلاق وعدم ثبوت المال حيث كان التوكيل يقتضي أنه لا رجعة، ثم زاد على وقوع الطلاق، ومال إلى وجوب المال، وتبعه في "الروضة" على الموضعين، والمذكور هناك هو المعتمد عليه، وستعرف لفظه فيه إن شاء الله تعالى. قوله: أيضًا في أصل "الروضة": وإن أتى الزوج بصيغة تعليق نظر إن قال: متى أعطيتني أو متى ما أو أي وقت أو حين أو زمان غلب معنى التعليق وتثبت أحكامه، وجعل كالتعليق بسائر الأوصاف حتى لا يحتاج إلى قبول باللفظ، ولا يشترط الإعطاء في المجلس بل متى وجد الإعطاء طلقت، وليس للزوج الرجوع قبل الإعطاء، وإن قال: أعطيتني أو إذا أعطيتني فله بعض أحكام التعليق فلا يحتاج إلى القبول لفظًا ولا رجوع للزوج قبل الإعطاء، وقيل: يجوز له الرجوع، حكاه البغوي، وقطع به صاحب "المهذب"، وله بعض أحكام المعاوضة، وهو اشتراط الإعطاء في المجلس، واختار صاحب "المهذب" إلحاق إذا بمتى وحكى وجه شاذ أن كلمة إن كمتى في أنه لا يشترط التعجيل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله -رحمه الله- عن "المهذب" في إذا من القطع بجواز الرجوع غلط عجيب فقد صرح في "المهذب" بحكاية خلاف وزاد فاختار عدم الرجوع فقال، وإن كان يحرف إذا بأن، قال: إذا ضمنت

لي ألفًا فأنت طالق فقد ذكر جماعة من أصحابنا أن حكمه حكم قوله إن ضمنت لي ألفًا في اقتضاء الجواب على الفور، وفي جواز الرجوع فيه قبل القبول، وعندي أن حكمه حكم متى، هذه عبارة "المهذب"، ثم إن كلام "الروضة" كلام عجيب أوله ينافي آخره فإنه نقل عنه أولا جواز الرجوع فيها، ثم نقل عنه ثانيًا إلحاقها بمتى، ومتي لا يجوز الرجوع فيها، وبالجملة فهذا الغلط والتناقض قد سلم منه الرافعي -رحمه الله- فإنه نقل عنه الموضع الثاني كما في "الروضة"، وأما الأول وهو جواز الرجوع فنقله عنه في أن خاصة فضم النووي معه إذا غلطا وسببه تحريف كلمة في ما يظهر، لأن الرافعي عبر بقوله فيكون إن فتحرفت بقوله فيكونان أعني بألف التثنية. الأمر الثاني: أن صاحب "التهذيب" قد اختلف كلامه فجزم في "التنبيه" بإلحاق إذا بأن كما ذهب إليه الجمهور. قوله: ثم قال المتولى: اشتراط الإعطاء على الفور مخصوص بالزوجة الحرة أما إذا كانت أمة، وقال: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، فلا يعتبر الفور في الإعطاء بل يقع الطلاق مهما أعطته، وإن امتد الزمان لأنها لا تقدر على الإعطاء في المجلس لأنه لا يد لها في الغالب ولا ملك بخلاف ما إذا قال: إن أعطيتني زق خمر فأنت طالق حيث يشترط الفور، وإن لم تملك الخمر لأن يدها قد تشتمل على الخمر، قال: ولو أعطته الأمة ألفًا من كسبها حصلت البينونة لوجود الصفة، وعليه رد المال إلى السيد ومطالبتها بمهر المثل إذا عتقت. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله هنا عن المتولى من حصول البينونة إذا أعطته الأمة ألفًا من كسبها، وأقره عليه قد ذكر خلافه بعد ذلك في أواخر الباب الثالث نقلًا عن البغوي، وأقره عليه أيضًا، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله

تعالى، والذي ذكره صاحب "التتمة" جزم به أيضًا القاضي الحسين في "تعليقه". قوله: وقد سبق في البيع أنه لو قال بعني هذا بألف فقال: بعت بخمس مائة لا يصح ويمكن أن يقدر فيه خلاف لأنا حكينا في البيع عن فتاوى لقفال أنه لو قال بعتك بألف درهم فقال: اشتريت بألف وخمسمائة أنه يصح البيع، والصورتان متشابهتان. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن البطلان مقطوع به في المذهب وأنه لم يظفر بخلاف في المسألة ولهذا حاول تخريجه، وتبعه أيضًا على ذلك في "الروضة" وهو غريب فسيأتي في آخر الفصل الثاني من الباب الرابع حكاية خلاف في المسألة، فقد قال في "الروضة" هناك: ولو قال الراغب في البيع: يعني بألف، فقال: بعتك بخمسمائة، فقد ذكر الشيخ أبو على وغير فيه وجهين أحدهما: يصح لأنه زاد خبرًا فصار كما لو وكله في شراء عبد بألف فاشتراه الوكيل بخمسمائة. وأظهرهما: المنع لأنه معاوضة محضة. هذا لفظه، والرافعي حكاهما احتمالين للأصحاب، ومعناهما ومعني الوجهين واحد فإن احتمالات أصحاب الوجوه وجوه، وقد جعل الرافعي إحتمالات الإمام وجوهًا في مواضع من "الشرحين" و"المحرر" وتابعه عليها في "الروضة" و"المنهاج" لولا خشية الإطالة لذكرت تلك المواضع، لكن ستأتي مفرقة في أبوابها، وكون الإمام من أصحاب الوجوه، قد صرح به أيضًا ابن الصلاح في فتاويه وعد معه الشيخ أبا إسحاق والغزالي، وقد حذف النووي من "الروضة" محاولة التخريج من الموضع الأول فسلم من الاعتراض. قوله: هذا بيان لما قاله الأصحاب أن الخلع معاوضة، وفيه شائبة

التعليق من جانب الزوج وشائبة الجعالة من جانب الزوجة، وقد ظهر أن الغالب على الخلع أحكام المعاوضات، وربما يولجها شيء من أحكام التعليق أو الجعالة لأن العرف نزاع. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره هنا من كون الخلع من جانب المرأة أيضًا معاوضة قد خالفه في أوائل الباب الرابع فجزم بما حاصله أنه ليس بمعاوضة، بل جعالة، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى، وتعبير الرافعي بالشائبة لحن والصواب الشوب وهو الخلط، وقد نبه عليه النووي في "الدقائق" والتولج، الدخول، ونزل بتشديد الزاي أي ربما دخلها شيء من أحكام التعليق أو الجعالة، وغلب ذلك على المعاوضة، لأن العرف في الحيوان قد ينزع بالنسل والنتاج من مشابهة أحد أبويه إلى أصل من أصوله فكذا في القواعد. قوله: فأما الكلام اليسير إذا تخلل بين الإيجاب والقبول فقد أطلق الإمام فيه حكاية وجهين وقال: الصحيح أنه لا بأس به واحتج محتجون لهذا الوجه منهم القاضي الحسين، بأن الشافعي - رضي الله عنه - نص على أنه لو قالت له أمرأتاه طلقنا بألف، ثم ارتدتا ثم طلقهما كان الطلاق موقوفًا، فإن رجعنا إلى الإسلام في العدة لزمهما، ثم قال -أعني الرافعي: فمن احتمل تخلل الكلام اليسير احتج بهذه المسألة، فإن تخلل الردة لم يقطع الارتباط بين الكلامين حتى حكمنا بصحة الخلع عند العود إلى الإسلام. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن المفهوم من هذا الكلام أن الراجح أن تخلل الكلام اليسير لا يقدح، ولأجل ذلك صرح بتصحيحه النووي في أصل "الروضة" ولكنه نقله إلى الباب الثاني، وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في مواضع من كتابه واختلف فيها كلامه، وكذلك كلام "الروضة" أيضًا، وقد

تقدم بسط ذلك في أوائل النكاح فراجعه. الأمر الثاني: أن مسألة الردة لا تدل على ما ادعاه الرافعي فإنه إنما يدل أن لو كانت الردة مستلزمة للقول، وليس كذلك فقد تكون بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات ونحوه، وقد تكون أيضًا بالاعتقاد كما يأتيك واضحًا في بابه.

الباب الثاني في أركان الخلع

الباب الثاني في أركان الخلع قوله: وإن اختلعت -أى الأمة- التي لم يأذن لها السيد على دين حصلت البينونة والمستحق عليها مهر المثل كما لو تزوج العبد بغير إذن السيد ووطئ يكون الواجب مهر المثل أو المسمى ويصح التزامها ويرفع الحجر عما يتعلق بالذمة، فيه وجهان أو قولان متشابهان بالخلاف في صحة شرائه وضمانه بغير إذن السيد والذي أجاب به العراقيون ثبوت المسمى، ويحكى ذلك عن اختيار القفال، والشيخ أبي على أيضًا، لكن لفظ "الكتاب" يقتضي ترجيح القول بأن المستحق مهر المثل، وهو المذكور في "التهذيب" والموافق لما مر في الشراء والضمان، فإن الأصح فيهما البطلان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من التردد في أن الخلاف قولان أو وجهان ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" و"الروضة"، والراجح أنه قولان، كذا هو مجزوم به في "المحرر" و"المنهاج". الأمر الثاني: أن الأصح عند الرافعي من هذا الخلاف هو إيجاب مهر المثل، كذا صرح به في "الشرح الصغير" فقال: أرجحهما أن المستحق عليها مهر المثل هذا لفظه، ولم يذكر ترجيحًا غيره، وصرح به أيضًا في "المحرر" فقال: أنه أظهر القولين. الأمر الثالث: أن النووي قد صحح في أصل "الروضة" وجوب المسمى، وصححه أيضًا في أصل "المنهاج" على العكس مما قاله الرافعي ولم ينبه عليه، وهو غريب جدًا فتفطن له.

الأمر الرابع: أن هذا ليس نظير الشراء بغير إذن السيد حتى يستدل الرافعي به على وجوب مهر المثل لأن الرافعي قد استدل في البيع على البطلان بأنه لو صح لما أمكن أن يجعل المبيع للعبد لكونه لا يملك ولا للسيد لكونه غير من لزمه الثمن، وهذا المعنى يحصل به التفرقة بينهما تفرقة ظاهرة لأن البضع لا يجيء فيه ذلك لاسيما والخلع من الأجنبي يصح مع أن البضع لا يحصل له. قوله في أصل "الروضة": فرع: اختلاع المكاتبة بغير إذن سيدها كاختلاع الأمة بغير إذنه، وإن اختلعت بإذنه فالمذهب المنصوص هنا أنه كاختلاع بغير إذن، وقيل كاختلاع الأمة بالإذن. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من تصحيح البطلان غلط على العكس مما في الرافعي فإن المذكور فيه تصحيح الصحة، فإنه قال ما نصه: وإن اختلعت بإذنه فطريقان: أظهرهما: إنه على القولين في هبة المكاتب وتبرعاته بإذن السيد هذا لفظه وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا فانعكس على الشيخ محيي الدين فجعل المذهب المنع ثم أنه أخذ بما قرره في "الروضة" فذكره في "تصحيح التنبيه" أيضًا، وقد ظهر لك أنه وهم فاحذره، وقد ذكره هو -أعنى النووي- في "الروضة" أيضًا على الصواب في الباب الثاني من كتاب الكتابة في الحكم الثالث منه فقال: إن الأظهر الصحة، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى، وصرح الرافعي أيضًا هناك في "الشرحين" و"المحرر" بتصحيحه وهو مقتضى كلام "المحرر" و"المنهاج" فإن قلت: قد سبق في الوصية أن اختلاع المريضة بمهر المثل يحتسب من رأس المال كما لو اشترى شيئًا بقيمته أو تزوج امرأة بمهر مثلها فلم يجعلوه تبرعًا بخلاف خلع المكاتبة فالجواب أن ملك المريض أثم؛ ولهذا أوجبنا عليه نفقة الموسرين، وجوزنا له أن يصرف ماله فيما ما شاء بخلاف المكاتب.

قوله: ولو كانت له امرأتان مطلقة ومحجور عليها فقال طلقتكما على كذا فقبلنا وقع الطلاق على المطلقة بائنًا وعليها مهر المثل على الأصح، وعلى السفيهة رجعيًا إلى آخره. المطلقة بسكون الطاء وتخفيف اللام هى الرشيدة والأصل المطلق يصرفها فحذف المعمول وأسند الفعل إليها توسعًا، وقد أظهر في "الروضة" المراد فعبر بالرشيدة. قوله: ولو قال لصغيرة مميزة: أنت طالق على كذا، فقبلت، فهل يقع طلاق رجعى أم لا يقع شيء؟ وجهان رجح الإمام والغزالي المنع، والبغوي الوقوع. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهذه المسألة هي نظير ما إذا قال لها: إن شئت فأنت طالق، فقالت: شئت فإن الطلاق لا يقع في أصح الوجهين، وقيل يقع كما لو قال إن قلت شئت وحينئذ فيكون الأصح هنا عدم الوقوع أيضًا.

الركن الرابع العوض قوله: خالعها على ما في كفها ولم يكن في كفها شيء، ففي "الوسيط" أنه يقع الطلاق رجعيًا، والذي نقله غيره وقوعه بائنًا بمهر المثل فيشبه أن يكون للأول في ما إذا كان عالمًا بالحال، والثاني: ما إذا ظن أن في كفها شيئًا. انتهى. وهذا الذي نقله عن "الوسيط" خاصة واقتضى كلامه انفراده به تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب، فقد ذكر الرافعي نظير هذه المسألة في أوائل الخلع وحكى فيها وجهين فقال: وفي فتاوى صاحب "التهذيب" ذكر وجهين في ما لو اختلعت نفسها على بقية صداقها فخالعها عليه ولم يكن بقي لها شيء عليه فهل تحصل البينونة بمهر المثل تخريجًا على الخلاف في ما إذا تخالعا من غير تسمية؟ . قال: ورجح القول بالحصول هذا كلامه، وقد ظهر به المناقشة من وجهين: أحدهما: ما ذكرناه من استغراب هذه المقالة. والثاني: مخالفته بين المسألتين والصواب التسوية، ولم يرفض النووي هذا التفصيل الذي جمع به الرافعي بين المسألتين فقال من "زياداته": المعروف الذي أطلقه الجمهور كأصحاب "الشامل" و"التتمة" و"المستظهرى" و"البيان" وغيرهم وقوعه بائنًا بمهر المثل وهو مقتضى كلام إمام الحرمين. هذا لفظه، والذي ذهب إليه من الوجوب مطلقًا بمهر المثل كيف يجاء ما ذهب إليه هو وغيره من أن الخلع على الدم يقع رجعيًا؟ .

قوله: فإن قدر لوكيله عوضًا فنقص عنه فالنص أنه لا يقع الطلاق وإن طلق فنقص عن مهر المثل فالنص أنه يقع بمهر المثل واختلفوا فقيل بتقرير النصين، والأصح التسوية بين الصورتين وجعلهما على قولين، ثم قال: واتفق الناقلون على أن الأصح من القولين في ما إذا نقص عن المقدر عدم الوقوع، فأما إذا نقص عن مهر المثل في صورة الإطلاق، فلذلك رجح صاحب "التهذيب" عدم الوقوع وكأنه أقوى توجيهًا، لكن العراقيون والقاضي الروياني وغيرهم رجحوا الوقوع. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الأكثرين على ما دل عليه كلامه ذاهبون إلى الثاني لكن صرح في "المحرر" بتصحيح الأول فقال: أصح القولين أنه لا ينفذ، ورجحه أيضًا في "الشرح الصغير" فقال: رجح بعضهم الوقوع والأقوى عدمه، وهو المذكور في "التهذيب" هذا لفظه، وقد وقع النووي في صريح التناقض فإنه صحح في "المنهاج" أنه لا ينفذ كما في "المحرر" ثم صرح في "الروضة" بما اقتضاه كلام الرافعي من النفوذ فقال: أظهرهما وهو المنصوص أنه ينفذ بمهر المثل هذه عبارته فعبر في الموضعين بالأظهر، والفتوى على ما قاله هنا، وفي "الروضة" استنادًا للأكثرين. الأمر الثاني: أنه كيف ينتظم أن يكون الأصح التخريج مع تصحيح البطلان في صورة وتصحيح الصحة في أخرى؟ ، فإن هذا هو عين تقرير النصين، وقد تقدم مثل هذا الاعتراض في ما إذا قبل السيد زوجته الأمة فراجعه، فإننى بسطته هناك. قوله: قال في "الوسيط": ويكاد يكون وقفًا للطلاق ويجوز أن يحتمل وقف الطلاق، وإن لم يحتمل وقف النكاح لأن الطلاق يقبل التعليق بالإغرار لكن قضيته أن يوقف طلاق الفضولي. انتهى كلامه.

وليس فيه بيان لجواز وقفهما ولا لمنعه، وهو إلى المنع أقرب، وهذه المسألة مذكورة في الرافعي و"الروضة" في مواضع: أحدها: في أوائل البيع في أثناء الشرط الثالث. والثاني: في أوائل نكاح المشركات. والثالث: ما ذكرناه واختلف كلامه وكلام النووي فيها وقد أوضحت ذلك في البيع فليراجع. قوله: وفي ما علق عن الإمام أن ما ذكره المزني قول مخرج، قال: وأرى كل اختيار له تخريجًا فإنه لا يخالف أصول الشافعي لا كأبى يوسف ومحمد فإنهما يخالفان أصول صاحبهما. انتهى كلامه. وحاصل ما نقله عن الإمام أن جميع ما تفرد به المزنى معدود من الوجوه وقد سبق ما يخالف ذلك في باب صفة الوضوء في الكلام على تخليل اللحية فراجعه. قوله: ولو قالت لوكيلها: اختلع بألف، فقال اختلعتها بألفين من مالها بوكالتها بانت ويلزمها مهر المثل، وفي قول يجب عليها أكثر الأمرين من مهر المثل وما سمته هي فإن كان مهر المثل أكثر فهو المرجوع إليه عند فساد المسمى، وإن كان الذي سمته أكثر لزمها لأنها قد رضيت به والتزمته وإذا كان مهر المثل زائدًا على ما سماه الوكيل لم تجب الزيادة على ما سماه على هذا القول، وكذا لو كان ما سماه الوكيل أكثر من مهر المثل لا تجب الزيادة لأن الزوج رضي به، وعبر في "الكتاب" عن هذا القول بأنه يلزمها ما سمت وزيادة الوكيل أيضًا تلزمها إلا ما جاوز من زيادته مهر المثل [يعني أن مسماها لازم لا محالة والزيادة عليه لازمة أيضًا إلى تمام مهر المثل] (¬1) إلا أن يكون ما سماه الوكيل كثير من مهر المثل فلا تجب تلك الزيادة، وأهمل الطرف الآخر وهو أن يكون مهر المثل أكثر فإذا ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قدرت مائة وسمى الوكيل مائتين ومهر مثلها تسعون فالواجب تسعون على القول الأول ومائة على الثاني ولو كان مهر المثل مائة وخمسون فالواجب مائة وخمسون على القولين، ولو كان مهر المثل ثلاثمائة لم يجب على القول الثاني إلا مائتان، والعبارة الوافية بمقصود القول أن يقال يجب عليها أكثر الأمرين ما سمته هي ومن أقل الأمرين من مهر المثل وما سماه الوكيل. انتهى كلام الرافعي -رحمه الله-. فأما قوله: وكذا لو كان ما سماه الوكيل أكثر من مهر المثل لا تجب الزيادة لأن الزوج رضى به، وعبر في "الكتاب" عن هذا القول بأنه يلزمها ما سمت وزيادة الوكيل أيضًا تلزمها إلا ما جاوز من زيادته مهر المثل، يعني أن مسماها لازم لا محالة والزيادة عليه لازمة أيضًا إلى تمام مهر المثل إلا أن يكون ما سماه الوكيل أكبر من مهر المثل فلا تجب تلك الزيادة، وأهمل الطرف الآخر، وهو أن يكون مهر المثل أكثر، فإذا قدرت مائة وسمى الوكيل مائتين ومهر مثلها تسعون فالواجب تسعون على القول الأول ومائة على الثاني، ولو كان مهر المثل مائة وخمسون قالوا في صورة زيادته على مسماها وكان مسماها، أكثر من مهر المثل وجب مسماها وإن زاد على مهر المثل كما تقدم في التمثيل بما إذا كان مهر المثل تسعين وسمت مائة فخالع بمائتين أنه يلزمها مائة، وإن أراد أنه لا يجب الزيادة على مسماها لم يصح لأنه إذا كان مهر المثل مائة وخمسين وسَمَّت مائة فخالع بمائتين يجب مائة وخمسون وما ذكره أيضًا -رحمه الله- من التعليل برضى الزوج لا يلائم الحكم المدعى، وقد حذفه من "الروضة"، والذي ذكره الرافعي مأخوذ من "التهذيب" للبغوي ولفظ "التهذيب" واضح فإنه قال: يلزمها أكثر الأمرين إلا أن يزيد مهر المثل على الألفين فلا تجب تلك الزيادة، ولو كان أقل من الألفين لا ينقص عن الألف لأنها رضيت هذا، كلامه.

قوله: فرع: اختلعها وكيلها بخمر أو خنزير بانت ولزمها مهر المثل سواء أطلقت التوكيل أو سمت الخمر والخنزير. وقال المزني: لا يصح التوكيل إذا سمت الخمر ولا ينفذ معه خلع الوكيل ولو خالع وكيل الزوج على خمر أو خنزير وكان قد وكله بذلك فقد طرد أبو الفرج الزاز فيه مذهبنا ومذهب المزني. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن هذا التعبير في النقل عن المزني يوهم نفي الخلاف فيه في المذهب وقد سبق بنحو ثلاثة أوراق عن صاحب "التتمة" حكاية وجه أن الفرق لا يحصل في جميع صور الفساد كالمعدوم. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر المسألة في أثناء الباب الثاني من أبواب الوكالة في الصورة السابقة فذكر ما حاصله أنه إذا وكله في خلع زوجته على خمر ففعل بانت الزوجة بمهر المثل، فلو خالع على خنزير كان لغوًا في أشبه الوجهين لأنه غير مأذون فيه. والثاني: أنه كالخلع على الأمر لأن الفساد في العوض خاصة لا في أصل التوكيل والخمر لا يثبت وإن ذكرها فلا فرق بين أن يذكرها أو يتركها، إذا علمت ما ذكره علمت أنه إذا خالف من الخمر إلى الخنزير أو عكسه لا تقع الفرقة على خلاف ما يوهمه كلامه هاهنا وأن ما نقله عن أبي الفرج الزاز هو الحكم المقرر المذكور هناك وهذا هو الأمر الثالث. قوله: وفي "فتاوى القفال" أنه لو وكل رجلًا بأن يطلق زوجته ثلاثًا فطلقها واحدة بألف تقع رجعية ولا يثبت المال [وقضيته هناك أن يقال لو طلقها ثلاثًا بألف لا يثبت المال] (¬1) أيضًا ولا يبعد أن يصار إلى ثبوت المال، وإن لم يتعرض الزوج له كما لو قال خالعها بمائة فخالع بأكثر يجوز ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لأن الموكل به هو الطلاق، والطلاق قد يكون بمال وقد يكون بغير مال. انتهى. وما ذكره عن القفال قد سبق ما يخالفه في الباب قبله نقلًا عن البوشنجي وتقدم ذكر لفظه هناك، وأن قول القفال أولى بالاعتماد فراجعه.

الركن الخامس الصيغة قوله: ويجوز أن يكون وكيل الزوج في الخلع عبدًا ومكاتبًا وسفيهًا محجورًا عليه سواء أذن السيد والولى أم لا، ولا يجوز أن يوكل المحجور عليه في القبض، فإن فعل وقبض ففي "التتمة" أن المختلع يبرأ ويكون الزوج مضيعًا لماله. انتهى. وما ذكره من البراءة والضياع على الزوج قد تابعه عليه في "الروضة" وهو صحيح في العين، أما الدين فلا يتعين إلا بقبض صحيح وقبض السفيه لا يصح كما أوضحه الرافعي في أثناء كتاب البيوع. قوله: فلو خالعها على إرضاع ولد أو حضانته مدة معلومة فمات الصبي انفسخ العقد على الصحيح، فإن قلنا: لا ينفسخ فإن أتى بصبي مثله لترضعه فذلك، وإن لم يأت به مع الإمكان حتى مضت المدة فوجهان: أحدهما: يبطل حقه ولا شيء عليه [مع الإمكان حتى مضت المدة فوجهان: أغلبها] (¬1) كما لو لم ينتفع المستأجر بعد قبضه العين تستقر عليه الأجرة. والثاني: يلزمها قسط المدة الباقية من مهر المثل إذا وزع على المدتين كلما إذا تلف المبيع في يد البائع يكون من ضمانه، وإن تمكن المشتري من القبض وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد، ومقتضى كلام البغوي ترجيح الأول. انتهى. والأصح الوجه الثاني كذا قاله في "الروضة". قوله في المسألة: فلو لم يأت بصبى آخر لعجزه فقد قطع البغوي وغيره بأن الحكم فيه كما إذا حكمنا بالانفساخ والوجه أن يطرد فيه الخلاف. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

هذه المسألة فيها كلام سبق ذكره في الإجارة فراجعه وصحح النووي من "زوائده" مقالة البغوي. قوله أيضًا في المسألة: ولو أضاف إلى الرضاع والحضانة نفقة مدة، جاز، وقيل: قولان، فإن صححنا فهو في الطعام والشراب مخير بين أن يستوفيه بنفسه ويصرفه إلى الولد وبين أن يأمرها بالصرف إليه. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يجيء فيه الخلاف في ما إذا أذن الحاكم للملتقط في الإنفاق على اللقيط من ماله يشترط الرجوع. انتهى ملخصًا. قال في "الروضة": ليس هو مثله، بل يجوز هذا قطعًا، والفرق ظاهر هذا كلامه. قوله: ثم إن الولد إن عاش إلى استيفاء العين والمنفعة فذاك فإن خرج زهيدًا أو فضل، من القدر شيء فهو للزوج وإن كان رغيبًا واحتاج إلى زيادة فهي على الزوج. انتهى كلامه. وهاتان اللفظتان -أعني الزهيد والرغيب- ذكرهما الرافعي في مواضع من هذا الكتاب، والزهيد هو قليل الأكل، والرغيب خلافه. قوله: فإن لم يوصف أو كان مما لا يجوز السلم فيه كالثياب المخيطة والمحشوة والمطبوخ إلى آخره. وما جزم به هاهنا من منع التسليم في الثياب المخيطة قد نقل في كتاب السلم عن الصيمري ما يخالفه وأقره هو والنووي عليه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه.

الباب الثالث في موجب الألفاظ

الباب الثالث في موجب الألفاظ قوله ولو قال الزوج ابتداء: أنت طالق وعليك ألف وقع الطلاق رجعيًا قبلت أم لا، ثم قال بعد ذلك: وذكر المتولي أنه لو لم يسبق منها طلب وشاع في العرف استعمال هذا اللفظ في طلب العوض وإلزامه كان كقوله طلقتك على ألف. انتهى كلامه. وما نقله عن المتولي وأقره عليه قد ذكر ما يشكل عليه في باب تعليق الطلاق في الطرف السابع منه فإنه نقل عن المتولي والأكثرين أنه إذا تعارض في تعليق الطلاق مدلولان لغوي وعرفي قدم اللغوي، وعبر في "الروضة" بقوله: قطع المتولي مع أن الخلع على عوض الطلاق معلق على مال، وسأذكر لفظه في موضعه. قوله: ولو قال: أنت طالق على ألف إن شئت، وقالت في المجلس: شئت وقبلت طلقت ولزم المال، فإن اقتصرت على أحدهما فأوجه: أصحها عند صاحب الكتاب: يكفي وهو قضية المنقول عن الشيخ أبي محمد. والثاني: لابد من الجمع بينهما. والثالث: يكفي قولها شئت ولا يكفي قبلت، لأن القبول ليس مشيئة، وهذا ما أورده في "التتمة" وهو إختيار الإمام في ما حكى المعلق عنه. انتهى ملخصًا. اقتصر في "الشرح الصغير" على نقل تصحيح الغزالي ومفهوم ذلك رجحانه، وقال في "الروضة" من زياداته: إن الثالث هو الأصح أو الصحيح.

قوله: ولو حضرت وقالت لوكيلها الحافظ لمالها: سلمه إليه فسلمه طلقت وكان تمكينها الزوج من المال إعطاء، قاله المتولى. انتهى كلامه. وما نقله عن المتولى وأقره وتابعه عليه في "الروضة" فيه كلام ستعرفه في الطرف السابع من تعليق الطلاق فراجعه. قوله: ولو علق الطلاق بالإقباض فقال: إن أقبضتني كذا فأنت طالق فوجهان: أظهرهما وهو المذكور في "التتمة": أنه تعليق محض لأن الإقباض لا يقتضي التمليك بخلاف الإعطاء فعلى هذا لا يملك المقبوض ولا يكون له الرجوع إلى مهر المثل، بل يقع الطلاق رجعيًا ولا يختص بالمجلس كسائر التعليقات. والثاني: أن الإقباض كالإعطاء، ثم قال: والأداء والدفع والتسليم كالإقباض. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره هنا من كون الإقباض والأداء ليسا كالإعطاء في اشتراط القبض في المجلس ذكر قبل هذا ذلك بنحو ورقة ما يخالفه فقال: سبق أنه إذا علق الطلاق بالإعطاء لا يقع الطلاق إلا بالإعطاء في المجلس إلا إذا كان التعليق بصيغة متى وما في معناه، وروينا عن أحمد أنه لا يختص بالمجلس، وهو وجه لبعض الأصحاب وكل ذلك جار فيما إذا قال إن أقبضتني أو أديته لي. انتهى. هذا لفظه ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الشرح الصغير" و"الروضة" ولم يذكر المسألة في "المحرر". قوله: وفي "التتمة" أن ما ذكرناه في التعليق بالإقباض مفروض فيما إذا لم يسبق منه كلام يدل على الاعتياض بأن يقول: إن أقبضتني كذا وجعلته لي، أو لأصرفه في حاجتي وما أشبه ذلك. انتهى.

وهذا الذي نقله عن "التتمة" ليس حكاية لوجه آخر، بل استدراكًا لما أطلقه الأولون، هكذا ذكره في "الشرح الصغير". وعبر بقوله كان كالإعطاء بلا خلاف، هذه صيغته وذكر في "الروضة" من زوائده نحوه فقال: إن ما ذكره المتولى متعين. قوله: ولو كان الغالب في البلد دراهم عددية ناقصة الوزن لم ينزل الإقرار ولا التعليق عليها لأن الغلبة لا تؤثر فيها، واللفظ صريح في الوراثة وفي تنزيل البيع والمعاملات عليها وجهان: أحدهما: المنع لأن لفظ الدرهم صريح في المقدار المذكور، والعرف لا يعتبر المسمى وإن كان يخصص ببعض الأنواع. وأظهرهما: التنزيل عليها لأنها التي تقصد في مثل هذه البلدة وليس في استعمال الدرهم في الناقص إلا استعمال اللفظ في بعض معناه، وأنه من طريق المجاز. انتهى. وما ذكره -رحمه الله- من كون العرف لا يغير وإنما يخصص سبقه إليه الغزالي وغيره، وهو استهلال عجيب فإنا لا نقول خرج الأول بالعرف عن كونه مدلولًا لهذا اللفظ، بل هذا من باب تعارض الحقائق فصراحته في الوراثة حقيقة شرعية وفي الناقصة أو الزائدة حقيقة عرفية فلا تغيير هنا، بل كل حقيقة باقية على وضعها، وحكمها أنا ننظر إلى المتكلم بها، فإن استعملها أهل الشرع حمل على الحقيقة عندهم، وإن استعملها أهل العرف فكذلك، وأيضًا فما ذكره في أخر كلامه في توجيه الأظهر إنما هو توجيه للناقص فقط، وكلامه فيه وفي الزائد، وأيضًا فإن قصده في تلك البلدة إنما هو إذا كان المتكلم من أهلها فإن كان من غيرها فلا. قوله: وإذا قبلنا تفسير الدراهم هنا بالناقصة والمغشوشة فهل تراجعه

لتعبر عن المقصود، أو يأخذ بالظاهر فيه احتمالان في "البسيط". انتهى. قال في "الروضة" من زوائده: أفقههما الثاني. واعلم أن هذا الفرع فرد من قاعدة عامة، وهي: أنا حيث قبلنا صرف اللفظ عن ظاهره فهل يتوقف الحكم على سؤاله أم يجوز الإقدام عليه قبل ذلك؟ ، وقد صرح صاحب "الحاوي" في نظير هذا الفرع بما رجحه النووي تفقهًا وحكاه عنه من زوائده في اللغات، فإنه ذكر ما إذا قال لمنفي استحلفه النافي بعد ذلك لست ابن فلان وفسره بأنه نفاه فقال: إنه يقبل فاعترض عليه في "الروضة" فقال في أثناء اعتراضه: الراجح فيه ما قاله صاحب "الحاوي" فإنه قال: إنه يكون قذفًا عند الإطلاق فنحده من غير أن نسأله ما أراد، فإن ادعى احتمالًا ممكنًا كقوله لم يكن أباه حين نفاه قبل قوله بيمينه. قوله: ولو أتت بمغصوب أو مشترك لم تطلق في الأصح، ثم قال: وطرد هذا الخلاف في العبد إنما يأتي إذا منعنا بيعه فإن جوزناه طلقت قطعًا، وقد نبه عليه النووي أيضًا. قوله: وذكر في "التهذيب" أنه لو قال لامرأته الأمة: إن أعطيتني ثوبًا فأنت طالق فأعطته ثوبًا لم تطلق لأنها أعطته ما لا تملك. انتهى. وما نقله هنا عن البغوي من عدم الوقوع في الأمة قد نقل في الباب الأول عن المتولي عكسه، وأقره عليه أيضًا، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. وتبعه النووي في "الروضة" على الموضعين. قوله: الثانية: لو خالعها على ثوب بعينه على أنه هروي، فلم يكن نظر، إن بان مرويًا نفذت البينونة وملكه الزوج لأن جنسهما واحد وهو القطن واختلاف الصفة كعيب يوجد فيه فله خيار الحلف وإذا رجع إلى

مهر المثل، وفي قول إلى قيمة الهروي، قال أبو الفرج السرخسي: وهذا على قولنا أن اختلاف الصفة لا يتنزل منزلة اختلاف العين، وفيه قولان ذكرناهما في كتاب النكاح، فإن نزلناه منزلة اختلاف العين فالعوض فاسد وليس له إمساكه، بل يرجع بمهر المثل أو قيمة الثوب على اختلاف القولين. انتهى. وما نقله عن السرخسي وأقره من التخريج على القولين المذكورين وهما أن اختلاف الصفة، هل تنزل منزلة إختلاف العين أم لا؟ قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" ولكن ذلك الخلاف إنما ذكره الأصحاب في الزوجين خاصة وعللوه بأن الوصف فيهما مع كونهما عينين معينين تقوم مقام الرؤية، فإذا اختلف الوصف كان بمنزلة ما لو رأى عينًا وعقد على غيرها وأما بدل الخلع إذا كان معينًا فقد صرح الأصحاب بأنه كالمبيع، نعم لنا قول ضعيف أن البيع يبطل بذلك أيضًا إلا أن القولين ليسا هما القولين في النكاح بل القولان في النكاح مفرعان على قول الصحة في البيع كما أوضحه الرافعي وغيره في كتاب النكاح. قوله في أصل "الروضة": وإن خالعها على ثوب معين على أنه كتان فخرج قطنًا أو بالعكس فوجهان: أحدهما وبه قطع البغوي: أنه كاختلاف الصفة فيكون حكمه ما سبق في خروجه مرويًا وهو الخيار بين إمساكه وبين رده والرجوع إلى مهر المثل، وأصحهما وبه قطع الشيخ أبو حامد وسائر العراقيين: أن العوض فاسد، وتقع البينونة بمهر المثل على الأظهر وبقيمة ثوب كتان في قوله، وليس له إمساكه، وهؤلاء قالوا: لو باعه على أنه كتان فبان قطنا بطل البيع، انتهى كلامه. وما ذكره من قطع جميع العراقيين غريب فإن "التنبيه" أشهر الكتب المنسوبة إلى العراقيين، بل إلى الشافعية مطلقًا إذ يعرفه الفقهاء وغالب

العوام، مصنفه أشهر الشافعية أيضًا خصوصًا العراقيين لما ذكرناه وهو أيضًا محفوظ المصنف، وقد حكى في هذه المسألة وجهين، وكلام الرافعي سالم من هذا الاعتراض، فإنه عبر بقوله أورد أصحابنا العراقيون والإيراد قد يكون عن جزم وقد يكون عن ترجيح، وهو المذكور في "التنبيه".

الباب الرابع في سؤال الطلاق

الباب الرابع في سؤال الطلاق قوله: في "الروضة": الأولى: إذا قالت طلقنى بكذا، أو على كذا، أو متى طلقتني فلك كذا فهذه كلها صيغ صحيحة في الالتزام، ويختص الجواب بالمجلس بلا خلاف في متى وغيرها خلاف قول الرجل متى أعطيتني. انتهى. وما ذكره هنا من نفي الخلاف في متى ليس بصحيح ففي المسألة خلاف ذكره هنا تبعًا للرافعي في هذا الباب بعينه في المسألة الثانية من الطرف الثالث ولم يتعرض الرافعي هنا لنفي الخلاف. قوله: ومنها لو قالت إن طلقتني فأنت برئ من الصداق أو فقد أبرأتك فقال: طلقت وقع الطلاق رجعيًا ولم يبرأ من الصداق لأن تعليق الإبراء لا يصح وطلاق الزوج طمعًا في البراءة من غير لفظ صحيح في الالتزام لا يوجب عوضًا وهاهنا كلامان، ثم قال: الثاني: أنه وإن لم يصح الإبراء فالزوج طلق طمعًا في حصول البراءة وهي قد رغبت في الطلاق بالبراءة فكان لا يبعد أن يقال هذا غرض فاسد فأشبه ما إذا ذكر خمرًا أو خنزيرًا. انتهى. وهذا الذي أشار إليه بحثًا ولم ينقله عن أحد، قد صرح بنقله الخوارزمى في "الكافي" فنقل في المسألة وجهان، بل جزم به الرافعي في آخر الباب الخامس من أبواب الخلع نقلًا عن القاضي الحسين ولم يتوقف، وسأذكر لك لفظه في موضعه، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" واقتصر في "الشرح الصغير" على المذكور هنا. قوله: ولو قال المشتري بعني ولك علي كذا فقال: بعت ففي انعقاد

البيع وجهان: أحدهما: ينعقد كالخلع والجعالة، والثاني: المنع ولا يحتمل فيهما ما يحتمل في البيع، ألا ترى أن التعليق لا يقدح فيهما ويقدح في البيع، وفي ما علق عن الإمام أن هذا أصح ويشبه أن يكون الوجهان في أنه هل هو صريح أم لا؟ فأما كونه كناية فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف. انتهى كلامه. وما ذكره من تخصيص الوجهين بالصراحة وعدمها ونفي الخلاف عن جعله كناية تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك فقد ذكر في أوائل الباب السابق في ما إذا قال: أنت طالق وعليك ألف ما حاصله أن الوجهين في كونه كناية فتأمله ومعنى قوله ولا كلما يحتمل ليس كلما إلى آخره. قوله: ولو قالت طلقني ثلاثًا بألف فطلقها واحدة وقعت بثلث الألف على ظاهر المذهب بخلاف الزوج إذا قال: أنت طالق ثلاثًا على ألف فقبلت واحدة لا تقع الواحدة بثلث الألف، ثم فرق بينهما بقوله: لأن الخلع من جانب فيه معني المعاوضة والتعليق ومن شرط المعاوضة أن يتوافق الإيجاب والقبول، ومن شرط الوقوع بالتعليق، حصول الصفة المعلق عليها، ولم يتحقق واحد من الشرطين، وأما من جانب المرأة فالخلع يشبه الجعالة على ما قدمناه. انتهى كلامه. وهذا الفرق الذي ذكره صريح في أن الخلع لا يكون معاوضة من جانب الرجل لأنه قد ذكر أن المعاوضة لابد فيها من توافق الإيجاب والقبول، فلو كان من جهتها كذلك لم يتخيل الفرق ولم يتغاير الحكم والذي ذكره سهو، بل هو من جانبها معاوضة كما هو من جانبه، وقد جزم بذلك في أواخر الباب الأول ناقلًا له عن الأصحاب، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه، والصواب الاكتفاء بالتفرقة بالتعليق.

قوله: ولو قالت طلقني ثلاثًا ولك ألف فطلقها طلقة ونصفًا فيستحق ثلثي الألف لأنه أوقع طلقتين أو نصف الألف لأنه إنما أوقع [طلقتين، أو نصف الألف لأنه إنما وقع] (¬1) نصف الثلاث والتكميل حكم الشرع حكى صاحب "المهذب" فيه وجهين. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: قلت الثاني أرجح والله أعلم، وفي هذا الكلام أمور: أحدها: أن هذا الذي جزم به من وقوع طلقتين قد ذكر ما يخالفه في باب عدد الطلاق في آخر الفصل الثاني منه فقال في الكلام على غير المدخول بها ما نصه: ولو قال واحدة ونصفًا لم تقع إلا واحدة ولغي العقد كما لو قال: واحدة وواحدة، هذا لفظه ومقتضاه أن لا يقع في مسألتنا وهي مسألة الخلع المشار إليها إلا طلقة واحدة لأن الطلاق المقترن بالمال بمثابة الطلاق قبل الدخول في البينونة فلما قال أنت طالق طلقة وقعت بثلث الألف وبانت بها. فقوله وبعدها نصفًا لم يصادف محلًا كما لو قال ذلك قبل الدخول. نعم القول بعدم وقوعه قبل الدخول مشكل لأنه ليس باستئناف إيقاع، بل هو تفسير لمراده فصار كقوله أنت طالق طلقتين. الأمر الثاني: أن هذا الخلاف الذي ذكراه في هذه المسألة ومشيا على ظاهره وغفلا عن غائلته إنما هو مخرج على وجه ضعيف فاعلمه فقد قال بعد ذلك في: آخر الفصل الرابع إذا قالت: طلقني نصف طلقة بألف، أو قالت طلق نصفي أو يدي أو رجلي بألف فأجابها لما سألت، أو قال هو فأجابته وقع الطلاق، ثم قال: وإذا وقع الطلاق فالظاهر الرجوع إلى مهر المثل لفساد صيغة المعاوضة كما لو قال بعتك هذا نصف بيعه أو بعته من نصفك. قال: وعن حكاية الإمام واختياره وجه أنه يجب المسمى لأنهما وإن ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

خصصا العوض بما لا يختص فإن الشرع قد كمله فلا يتعد أن ينزل ما كمله الشرع منزلة الكامل. انتهى. وذكر مثله في "الشرح الصغير" واقتصر عليه، ولم يذكر الموضع الأول وقد ظهر بهذا أن الخلع على نصف طلقة ونحوه فاسد، والصيغة الفاسدة لا يفترق الحال فيها بين أن يصدر من العاقدين أو من أحدهما، وحينئذ فالوجهان المتقدمان في أنه هل يستحق ثلثى الألف أو نصفهما إنما هو تفريع على صحة هذا الخلع فأما إذا فرعنا على الفساد وهو الأصح فيكون الوجهان في أنه هل يستحق ثلثي مهر المثل أو نصفه؟ فافهمه واشكر الله تعالى على ما ألهم من التنبيه على هذه الأمور الدقيقة في هذه الأبواب المتشعبة، ولم يذكر هذه المسألة في "المحرر" فإن قيل مهر المثل قد يكون أكثر مما التزمته المرأة فينبغي أن لا يلزمها إلا ما رضيت به، قلنا لم ينظر الأصحاب إلى ذلك، بل أوجبوا المهر، وإن انتفى الرضى به كما لو قبل بزيادة على ما سمته فإنه يقع بمهر المثل على الصحيح وعللوه بأن من دخل على عقد الخلع بمسمى دخل على أن فاسده مقتض لمهر المثل. الأمر الثالث: أنه قد تقرر من كلامهم هنا أن تكميل الشرع وسرايته ليست كإنشاء الشخص وذكروا في الإعتاق خلاف ذلك، فقد قال الرافعي في كتاب الظهار: إذا أعتق الموسر عبدًا مشتركًا عن الكفارة جاز إذا نوى عتق الجميع عن الكفارة سواء وجه العتق إلى جملته أو إلى نصيبه فقط لحصول العتق بالسراية. وقال القفال: لا يجزئ عن جميع الكفارة إذا وجه العتق إلى نصيبه فقط لأن نصيب الشرع عتق بالسراية لا بإعتاقه هذا كلامه، ولم يصرح بما إذا قال لغيره: اعتق عبدك عني على كذا فأعتق نصفه. نعم ذكر قبيل كتاب التدبير في فروع حكاها الروياني أنه لو وكل وكيلًا في

عتق عبد فأعتق الوكيل نصفه فهل يعتق نصفه فقط أم يعتق ويسري إلى باقيه أم لا يعتق منه شيء لمخالفته؟ فيه أوجه: أصحها الأول هذا كلامه، وقياس ما صححه هناك أن لا يقع العتق هنا عن السائل لأجل المخالفة وحينئذ فيقع العتق عن المالك لكون العتق لا يزيد كما في نظائر، كذلك ذكروها في كتاب الظهار. قوله: وهذا كلام غير مخمر فإن الخلاف في أن الفراق إلى آخره. المخمر بالخاء المعجمة مأخوذ من العجين المخمر وهو الذي أصلح بوضع الخمير فيه والحاصل أنه كناية عن الكلام الذي ليس محررًا. قوله: الصورة الثالثة: قالت طلقني واحدة بألف فقال: أنت طالق ثلاثًا وقع الثلاث واستحق الألف، ثم قال: وهل هي مقابلة الثلاث أم الواحدة فيه وجهان ظاهر النص الثاني ولا يتعلق بالخلاف فائدة حكمية. انتهى. تابعه في "الروضة" على أنه لا فائدة لهذا الخلاف وهو غريب فإن له فوائد منها إذا وكل وكيلًا في طلاق زوجته طلقتين مجانًا وواحدة بما شاء من العوض فسألته طلقة على ألف فأوقع ثلاثًا، فإن قلنا الواحدة في مقابلة الألف وقعت الثلاث لأنه طلق على وفق الإذن، وإن قلنا: الألف في مقابلة الثلاث، فقد خص كل طلقة بثلث الألف وهو ممنوع من إيقاع طلقتين بعوض فلا يقعان وأما الثالثة المأذون فيها بالعوض فهي قد سألتها بألف وأجابها بثلثها وفي مثل هذا وجهان حكاهما الرافعي في هذا الموضع وقال: الأصح وقوع الطلاق وإذا قلنا به فالأصح أنه يستحق المسمى بخلاف البيع فإن الصحيح البطلان فاستفدنا من ذلك وقوع الواحدة بثلث الألف، ومن فوائده أيضًا: ما لو أذنت لشخص في وفاء ما يخص المطلقة المسئول عليها أو ضمن شخص عن المرأة ذلك، أو أبرأ الزوج زوجته عنه.

قوله: ولو قالت طلقني واحدة بألف فقال أنت طالق فطالق فطالق روجع فإن قال أردت مقابلة الأولى بالألف ولم تقع الأخرتان، وإن قال أردت الثانية وقعت الأولى رجعية، ويجيء في الثانية الخلاف في مخالعة الرجعية فإن صححنا لغت الثالثة وإن لم يصححها لم تلغ وإن قال أردت الثالثة وقعت الأوليان بغير عوض والثالثة على الخلاف، وإن قال أردت مقابلة الكل بالألف وقعت الأولى بثلث الألف ولغت الأخريان، ولو لم يكن له نية قال صاحب "التهذيب": تبين بالأولى بالألف، وأورد الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مثل هذا التفصيل في ما إذا قال ابتداء أنت طالق وطالق وطالق بألف. انتهى كلامه. وما ادعاه من ذكر الشيخ أبى إسحاق للتفصيل السابق تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، بل إنما أورد بعضه فاعلمه على أن صاحب الاستقصاء قد ادعى أن هذه المسألة غير المسألة التي تكلم فيها الرافعي. قوله: وإذا علق الطلاق نصفه على عوض بأن قال: إذا جاء الغد فأنت طالق على ألف فقبلت أو سألته التعليق على ذلك وأجابها وقع الطلاق عند وجود المعلق عليه، وقيل ولا يشترط القبول على الفور، وعن القفال احتمال وجه آخر أنها تخير بين القبول في الحال أو عند وجود الصفة والواجب المسمى وقيل مهر المثل، ثم قال: وإذا قلنا بثبوت المسمى ففي التتمة وجهان في أنه متى يلزم تسمية أحدهما يلزم عند وجود المعلق عليه لأن المعوض متأخر فكذلك العوض. والثاني: في الحال وهو اختيار ابن الصباغ لأن الأعواض المطلقة يلزم تسليمها في الحال والمعوض يتأخر بالتراضي، فعلى هذا فلو تعذر تسليم المعوض بأن حصلت فرقة قبل وجود المعلق عليه لزم رد العوض كما إذا تعذر تسليم المسلم فيه، والوجهان متفقان على أن المال ثابت في الحال

وكذلك ذكره في "التهذيب" وهو الوجه لتمام شقى العقد وفي مجامع الإمام وصاحب "الكتاب" أن المال إنما يجب عند حصول البينونة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من صحة تعليق الخلع يستثنى منه مسألة ذكرها في باب تعليق الطلاق في أوائل الطرف الثالث المعقود للحمل والولادة ناقلًا له عن نص الشافعي في "الإملاء" وسوف أذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى لغرض آخر يتعلق بها. الأمر الثاني: أن ما ذكره من أن الوجه ثبوت الملك في الحال كيف يستقيم؟ فإنه لا شك أن ملك العوضين يكون في زمان واحد أن يكون ملك أحدهما مقارنًا لملك الأخر وقد صرح الرافعي بذلك في مواضع منها في الباب قبله، وصورة التعليق بالإعطاء فقال فإذا ملكت المعوض يوقع الطلاق اقتضت الضرورة دخول العوض في ملك الزوج فإن ملك العوضين يتفارقان. هذا كلامه. وذكر في أول الباب الثاني مثله فقال في الكلام على اختلاع الأمة ما نصه: لأنه لو حصلت الفرقة لقارنها ملك الرقبة، فإن العوضين يتساوقان. هذا لفظه أيضًا، والمساوقة المعية وإذا تقرر أنهما في وقت واحد، فيقال: إذا قلت بأنه يملك العوض من حين القبول فلابد من أن تكون المرأة قد ملكت العوض وذلك المعوض لا جائز أن يكون منفعة البضع لأنها باقية على ملك الزوج ويستمتع بها إلى حين الطلاق، ولا جائز أن يكون هو الطلاق في الغد لأنه لا يمكن التزام الطلاق في الذمة، وقد صرح هو به قبل هذا بنحو ورقة فقال: لأنه سلم في الطلاق والطلاق لا يثبت في الذمة هذا لفظه، وما ذهب إليه هنا غريب مع استشهاده في

مسألتنا بالسلم، لا جرم أن الإمام في "النهاية" جزم بما قلناه ونقل نفي الخلاف فيه فقال: لا خلاف أن المال لا يثبت في ذمتها ما لم تتحقق الصفة فإن الطلاق يقع عندها ويستحيل ثبوت المال مقدمًا على حصول الفراق. الأمر الثالث: أن تقييد الرافعي الخلاف في هذه المسألة بالمسمى يدل على أن مهر المثل على الفور والآخر ملكه متأخر وهو ظاهر فإنه بدل متلف، والتلف إنما حصل بوقوع الطلاق فلا يجب قبله. قوله: أما إذا اختلعا يعني الأب والزوج على الصداق فقد حكى الإمام وصاحب "الكتاب" والشيخ أبو الفرج الزاز تخريج المسألة على أنه هل يجوز للأب العفو عن صداق الصغيرة، ونقله أيضًا العراقيون عن ابن أبى هريرة وزيفوه وقالوا أحد شروط القول الذاهب إلى أن للولي أن يعفو عن الصداق وقوع العفو بعد الطلاق وهذا الشرط غير حاصل في الخلع، ثم قال ما نصه: والأقوى أنه لا يشترط كذلك القول بعدم العفو على الطلاق بل يكتفي باشتراط عدم تأخر العفو عن الطلاق لأن الغرض تخليصها من ذلك الزوج، [وبأهليتها] (¬1) الرغبة [الخاطبين] (¬2) فيها وهذا الغرض يحصل بالعفو المقارن حصوله بالعفو المتقدم لما بيناه، هذا لفظه وفيه أمران: أحدهما: أن ما رجحه من جواز العفو المقارن قد ذكر خلافه في كتاب الطلاق في الكلام على عفو الولي وهو في باب تشطير الصداق وقد ذكرت هناك لفظه فراجعه. الأمر الثاني: أن الرافعي اعتقد أن الذي لا يكتفي بالمقارنة شرط التقدم وهو غلط حصل من اعتقاده أغلاط متعددة في اللفظ الذي نقلناه عنه هنا فإن أحدًا لم يشترطه وإنما اشترطوا التأخير كما تقدم ذكره في بابه وكان ¬

_ (¬1) في جـ: وتأهيلها. (¬2) في جـ: الطالبين.

صوابه أن يقول هنا: والأقوى أنه لا يشترط لذلك القول تأخر العفو عن الطلاق بل يكتفي باشتراط عدم تقدم العفو على الطلاق لأن الغرض تخليصها من ذلك الزوج وتأهيلها لرغبة الخاطبين فيها وهذا الغرض يحصل بالعفو المقارن حصوله بالعفو المتأخر لما بيناه. قوله: ولو اختلع أب الزوج بعبد أو غيره، وذكر أنه من مالها، ولم يتعرض لبيانه، ولا استقلال، وقع الطلاق رجعيًا كمخالفة السفيهة ذكر في تشبيهه بالسفيهة أنه أهل للقبول لكنه محجور عليه في مالها. انتهى. وتعبيره بقوله: وذكر هو بضم الذال على البناء للمفعول أى ذكره بعضهم وعبر في "الشرح الصغير" بعبارة واضحة. فقال: ووجه الشبه إذا علمت ذلك فقد عبر في "الروضة" بقوله: وذكرا بألف في آخره على أنه ضمير المثنى، وكأنه توهم أن المراد الزوجان فأتى بذلك، وهو وهم فتفطن له.

الباب الخامس في النزاع

الباب الخامس في النزاع قوله: وإذا أقام كل واحد منهما بينة على ما يقوله فيها تدان أو يقرع بينهما؟ قال الحناطي: فيه قولان. انتهى. والصحيح [التدابر] (¬1) -أي: التساقط- كما هو معروف في تعارض البينتين مطلقًا، وكذلك صححه النووي من "زياداته". قوله: ولو خالعها بألف درهم وتوافقا على أنها أرادت الفلوس، وقال هو: أنا أردت النفرة ولا فرقة للمخالفة، فقالت: بل أردت الفلوس أيضًا، وبنت منك، حصلت البينونة ظاهرًا الاتفاق اللفظين، وهل للزوج مهر المثل؟ وجهان. انتهى. والأصح المنع كذا صححه في "الروضة" من "زوائده". قوله: ولو قالت: قبلت الخلع بألف في ذمة فلان، وقال الزوج: بل في ذمتك فيبنى على أن العقد بألف في ذمة الغير هل يجوز فيه خلاف، فإن قلنا بالجواز فيتحالفان وهذا أصح عند الشيخ أبى محمد وابن الصباغ وغيرهما وهو الذي أورده صاحب "المهذب". انتهى. وحاصله أن المشهور جواز العقد بذلك وهذه المسألة مذكورة في الرافعي في الكلام على المبيع قبل القبض أيضًا، وفي باب الكتابة وقد اختلف فيها كلامه وكلام "الروضة" وقد أوضحت ذلك في البيع. قوله: وفي "فتاوى القاضي الحسين" أنه لو خالعها على مالها في ذمته [وعلى ألف أخرى في ذمتها] (¬2) وعلى أن تنفق على ولده كل يوم كذا إلى مدة كذا فهو فاسد لشرط الإنفاق وتبين بمهر المثل. انتهى. ¬

_ (¬1) في جـ: التهاتر. (¬2) سقط من أ.

وما جزم به هاهنا من أن شرط الإنفاق مفسد وأن بين ما ينفقه تابعه عليه في "الروضة" وهو وجه ضعيف والأصح القطع بصحته إذا ضبطه بصفات السلم كذا ذكره في الباب الثاني من أبواب الخلع. نعم في فتاوي "القاضي الحسين" تصوير المسأله بالدراهم فقال على أن تنفق عليه كل يوم درهمًا فعدل الرافعي عنه وعبر بقوله: كذا، وقد يلزم البطلان عند التصريح بالدراهم فإن إنفاقها إنما يكون في شراء المطعومات بها وتلك المطعومات مجهولة وقد يقال بالصحة على وفق ما قالوه في الطعام الموصوف لأنهم جعلوا الطعام ملكًا للأب. قوله نقلًا عن الفتاوى المذكورة: وأنه لو قالت: إن طلقتني أبرأتك من الصداق أو فأنت برئ منه فطلق لا يحصل الإبراء لأن تعليق الإبراء لا يصح، ولكن عليها مهر المثل لأنه لم يطلق مجانًا بل بالإبراء وظن صحته. انتهى. وما نقله هنا عن القاضي من وجوب مهر المثل وأقره عليه تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، والمشهور في المذهب أنه لا يجب عليها شيء وهو الذي جزم به الرافعي في الباب السابق، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه وينبغي أن يعلم أن القاضي الحسين قد نص في تعليقه على خلاف ما أفتى به فجزم بوقوعه رجعيًا كما هو المشهور.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق وفيه أبواب: الباب الأول في "السنة والبدعة" قوله: فلتحريم الطلاق سببان أحدهما: وقوعه في حال الحيض، والثاني: وقوعه بعد جماع من تحبل بشروط تأتي فيهما. انتهى. وما ذكره هنا من حصر التحريم في هذين السببين تابعه عليه في "الروضة" وأهمل سببًا ثالثًا ذكره في باب القسم فقال: قال المتولي: لو قسم لواحدة فلما جاءت نوبة الأخرى طلقها قبل توفية حقها عصى وهذا سبب آخر لكون الطلاق بدعيًا هذا كلام الرافعي، والنقل المذكور ليس مختصًا بالمتولي فهو مشهور حتى في "التنبيه". قوله: المسألة الثانية: إذا طلق في الحيض طلاقًا بدعيًا استحب له أن يراجعها فإذا رجع فهل له أن يطلقها في الطهر الثاني لتلك الحيضة؟ فيه وجهان: أحدهما نعم لأن الإضرار قد ارتفع، وأظهرهما لا لأنه إن وطئها بعد ما طهرت كان الطلاق بدعيًا وإن لم يطأها أشبه أن يكون المقصد من المراجعة مجرد الطلاق، وكما ينهي عن النكاح الذي بقصد الطلاق فنهى عن الرجعة التي يقصد بها الطلاق، ثم قال: والوجهان كأنهما في أنه هل يتأدى به الاستحباب بتمامه؟ ، فأما أصل الإباحة فما ينبغي أن لا يكون في حصوله خلاف وكذا أصل الاستحباب لأنه يندفع بذلك إضرار التطويل. انتهى كلامه. وما دل عليه كلامه من عدم وقوعه في هذه المسألة على نقل حتى توقف فيه وذكر ما ذكره بحثًا غريب فإن الإمام في "النهاية" قد صرح ببيانه وكذلك الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" والقاضي مجلي في "الذخائر" واختلفوا فجزم الإمام بما قاله الرافعي فقال: قال الجمهور يستحب

أن لا يطلقها فيه، وقال بعضهم: لا بأس به، وأما الغزالي فجعل الخلاف في الجواز، وعبر في "الوسيط" بقوله: هل يجوز؟ وفي "الذخائر" بقوله: هل يحرم؟ قوله: وذكر الإمام أن المراجعة وإن كانت مستحبة فلا ينتهي الأمر فيه إلى أن يقول: ترك المراجعة مكروه. انتهى. وفي عدم الكراهة نظر قال في "الروضة": وينبغي أن يقال بالكراهة للحديث الصحيح الوارد فيها ولدفع الإيذاء. قوله: واعلم أن الطلاق في النفاس بدعى كالطلاق في الحيض لأن المعنى المحرم شامل. انتهى. وما ذكره هاهنا من التحريم قد خالفه في أوائل الحيض وسبق التنبيه عليه هناك وذكر لفظه فراجعه. قوله: وتعليق الطلاق في الحيض ليس ببدعي لكن إن وجدت الصفة في الحيض نفذ بدعيًا. انتهى. ومعنى كونه بدعيًا أنه يترتب عليه أحكام البدعي لا التحريم فاعلمه وكلام الرافعي بعد هذا يدل عليه وجزم به في "الروضة" من "زوائده". قوله: ولو أتاها في غير المأتى فالأصح أنه يوجب تحريم الطلاق كما يثبت به النسب. انتهى. وهذه المسألة -أعني ثبوت النسب بالإتيان في الدبر- مذكورة في الرافعي في مواضع في الفصل المعقود لما يملك الزوج من الاستمتاع وهو أخر أبواب النكاح وفي هذا الموضع وفي كتاب اللعان وفي آخر الإستبراء واختلف كلامه وكلام "الروضة" فيها، وسيأتي الكلام عليها في أواخر الاستبراء فلتراجع منه.

قوله: وإذا وصف الطلاق بصفة من صفات الذم كقوله: أقبح الطلاق وأسمجه وأفضحه وأفظعه إلى آخره. أما أسمجه: فمعناه أيضًا أقبحه، تقول سمج الشئ بالضم سماجة فهو سمج بالإسكان مثل ضخم فهو ضخم وسمج بالكسر مثل خشر بالخاء والشين المعجمتين فهو خشر، وسميج بالياء كقبح فهو قبيح. وأما أفضحه: فمأخوذ من قولهم فضحه فافتضح إذا كشف مساوئه، وأما الأفظع فهو بالفاء والظاء المعجمة فمعناه أشنعه، تقول: فظع الأمر بالضم فظاع فهو فظيع أي شديد شنيع وكذلك أفظع الأمر فهو مفظع. قوله: فيما إذا قال أنت طالق افتح الطلاق فإن قال أردت أن طلاق مثل هذه في حال السنة أفتح فقصدت بقولى أفتح أن يطلق في حال السنة لم يقبل في الظاهر ويدين. انتهى. وما جزم به من عدم القبول ظاهرًا قد تابعه عليه وحكى الماوردي في قبوله ظاهرًا وجهين. قوله: ولو جمع بين صفتي المدح والذم فقال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحًا وجميلة فاحشة، والمخاطبة من ذوات الأقراء وقعت في الحال، وحكى في توجيهه اختلاف والأظهر أن وجهه أنه وصف الطلاق بصفتين متضادتين فيلغو ويبقى أصل الطلاق، وعن أبى إسحاق أن الطلاق إنما يقع لأن إحدى الحالتين حاصلة لا محالة والصفة التي هي موجب تلك الحالة واقعة موقعها فيقع الطلاق موصوفًا بتلك الصفة، وتلغو الصفة الأخرى ويجوز أن يقال لو لم تكن المرأة متعرضة للسنة والبدعة فقضية التعليل الأول وقوع الطلاق، وقضية التعليل الثاني أن لا يقع لأن واحدة من الحالتين غير حاصلة. انتهى. وما ذكره من عدم الوقوع في غير المتصفة بالأمرين بناء على المعنى

الثاني مردود لأنا نجعل ذلك بمنزلة ما لو قال للسنة أو للبدعة، ولو قال ذلك وقعت في الحال فكذلك إذا وصفها بالأمرين معًا لا لأجل أنها متصفة بإحدى الحالتين في الحال، بل لأن ذلك يجري مجرى التعليل، وهذا الاعتراض قد اعترضه ابن الرفعة. قوله الرابعة: إذا قال لها أنت طالق في كل قرء طلقة فلها أحوال: أحدها: أن تكون حائلًا فإن كانت حائضًا لم يقع الطلاق على المشهور لأن الأقراء عندنا هي الأطهار. انتهى. وتعليله عدم الوقوع بكون الأقراء هي الأطهار عجيب، فقد قال في أوائل العدد بعد أن ذكر أن القرء يطلق على الطهر والحيض ما يخالف ذلك فقال: ثم في كيفية وقوع الاسم وجهان للأصحاب أحدهما: أنه حقيقة في الطهر مجاز في الحيض. وأصحهما: أنه حقيقة فيهما هذا لفظه. نعم المراد بالأقراء في العدة هو الأطهار لمعنى دل عليه كما حملناها على الحيض في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "دعى الصلاة أيام أقرائك" لدليل ولا يلزم من حمل المشترك في موضع على معنى لقيام دليل يدل عليه أن يكون محمولًا على ذلك المعنى في كل موضع يأتي، بل إما أن يحمل على الجميع على قاعدة الشافعي وحينئذ فيقع في الحيض كما يقع في الطهر وإما أن يدعى [وجود] (¬1) قرينة تدل على اختصاصه بواحد معين، وحينئذ فيلزمه أن يبدي في مسألتنا معنى يخص الطهر، ويكون إذ ذاك عدم الوقوع في الحيض مستندًا إليها لا إلى المعنى الذي ذكره ولا شك أنا وجدنا هنا قرينة تدل على اختصاصه بالطهر وهي أن الطلاق في الحيض لما كان حرامًا كان الظاهر من حال المسلم عدم إرادته بهذا اللفظ المشترك وإرادة المعنى الآخر ولهذا المعنى يقع النظر في أنه إذا وكل شخصًا في ¬

_ (¬1) سقط من ب.

طلاق زوجته فطلقها في الحيض، هل ينفذ الطلاق للإذن أم لا للمعنى المتقدم؟ ولأنه لما كان محرمًا صار كالمستثنى شرعًا [والمستثنى شرعًا] (¬1) كالمستثنى شرطًا، بل لو صرح بالتوكيل في حالة الحيض لكان يتجه عدم نفوذه لأن التوكيل في المعاصي ممتنع. قوله: الحالة الثالثة: أن تكون حاملًا فإن كانت لا ترى الدم على الحمل وقعت في الحال طلقة. قال في "التتمة": إذا لم تحض وبلغت بالحمل مثلًا فيكون وقوع الطلاق على وجهين أو قولين بناء على أن القرء عبارة عن الطهر بين الدمين أو عن الانتقال من الطهر إلى الدم، إن قلنا بالأول لم يقع حتى تضع وتطهر من النفاس، وإن قلنا بالثاني يقع لأنه طهر ينتقل منه إلى دم النفاس وهذا أظهر. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الذي صححه المتولي صححه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: فإن كانت حاملًا نظر إن كانت لا ترى الدم وقع في الحال طلقة، وقيل إن قلنا: إن القرء عبارة عن الطهر بين الدمين ولم تحض قط فلا يقع الطلاق حتى تحض وتطهر من النفاس هذا لفظه. الأمر الثاني: أن هذا البناء الذي ذكره صاحب "التتمة" ليس بمرضي عند الرافعي وإن سكت عليه هاهنا وقد تبين لك ذلك من كلامه في "الشرح الصغير" فإنه حكم بوقوع الطلاق في الحال سواء قلنا القرء هو الانتقال أو الطهر المحتوش ولم يجزم بوقوع الطلاق بناء على أن القرء هو المحتوش بل جعله وجهًا ضعيفًا، فقال: وقيل إن قلنا إلى آخره، وهو صريح في ما قلناه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمر الثالث: أن هذا الخلاف الذي تردد الرافعي في أنه وجهان أو قولان قد اختلف فيه كلامه وستعرفه في كتاب العدد. الأمر الرابع: أن النووي في "الروضة" عبر عن قول الرافعي وإن قلنا بالثاني وقع وهو الظاهر بقوله وإن قلنا بالثاني وهو الأظهر وقع فقدم صيغة الترجيح وهو صريح في تصحيح كون الطهر هو الانتقال، وحينئذ فيكون مناقضًا لما صححه في أوائل العدد فإنه قال هناك: الأظهر أنه الطهر المحتوش بدمين لا مجرد الانتقال، والرافعي -رحمه الله- لا يرد عليه شيء فإنه قال هناك: وقد ذكر صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني وغيرهما أن هذا الثاني أصح لكنه يخالف ما حكينا في الطلاق أن أكثرهم حكموا بوقوع الطلاق في الحال إذا قال للتي لم تحض أنت طالق في كل قرء طلقة مع تعلق الصور بهذا الأصل ويجوز أن يجعل ترجيحهم لوقوع الطلاق لمعنى يختص بتلك الصورة لا لرجحان القول بأن القرء هو الإنتقال من الطهر إلى الحيض هذا لفظه، فلما قدم النووي صيغة الترجيح وجعلها عائدة إلى قول الانتقال اندفع التأويل الذي ذكره الرافعي بعد أن كان محتملًا. قوله المسألة الخامسة: قال أنت طالق ثلاثًا للسنة، ثم قال نويت تفريقها على الأقراء لم يقبل في الظاهر على المنصوص والمشهور، لأنه لا سنة في التفريق عندنا كما تقدم ومقتضى اللفظ وقوع الكل في الحال إن كانت طاهرًا، والوقوع عند طهرها إن كانت حائضًا. قال في "التتمة": إلا أن يكون الرجل ممن يعتقد تحريم الجمع بين الثلاث في قرء واحد كالحنفي فإنه يقبل قوله في الظاهر، ولو قال أنت طالق ثلاثًا ولم يقل للسنة، ثم فسر بالتفريق على الأقراء لم يقبل ظاهرًا، وهل يدين في الصورتين؟ على وجهين: أصحهما وهو المنصوص: أنه

يدين لأنه لو وصل باللفظ ما يدعيه لانتظم ومعنى التديين مع نفي القبول ظاهرًا أن يقال للمرأة أنت بائن بثلاث في ظاهر الحكم وليس لك مطاوعته إلا إذا علمت صدقه أو غلب على ظنك بقرينة وأمارة، ويقال للرجل لا تمكنك منها ولك الطلب في ما بينك وبين الله تعالى، وتحل لك إذا راجعتها وهذا هو معنى قول الشافعي له الطلب وعليها الهرب، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من عدم القبول ظاهرًا فيما إذا قال ثلاثًا ولم يقل للسنة قد خالفه في "المحرر" وتبعه النووي عليه في "المنهاج" فجزم بالقبول ظاهرًا في الصورتين أعني في قوله ثلاثًا وثلاثًا للسنة. [واعلم أنه] (¬1) إنما ذكر الحل بالرجعة مع أنه قد تقدم من كلامه أنها بائن بثلاث؛ لأن الكلام في حلها للزوج باطنًا والزوج معترف بوقوع طلقة الآن فيتوقف الحل على الرجعة، ولذلك إذا جاء القرء الثاني فإنها تطلق على ما يدعيه طلقة ثانية فيتوقف حلها على الرجعة أيضًا. نعم هذا إنما يستقيم إذا كانت الآن في زمن السنة فإن كانت في زمن البدعة بأن كانت حائضًا أو في طهر قد [جامعها] (¬2) فيه، ونحو ذلك فلا يتوقف الحل على رجعة بالكلية، فلا يستقيم هذا الحكم مع تقدم ذكر القسمين. ¬

_ (¬1) سقط من أ، جـ. (¬2) في جـ: خالعها.

الباب الثاني في أركان الطلاق

[القسم الأول] (¬1) في أركان الطلاق الركن الأول: المطلق قوله: وشرط [المطلق] (¬2) التكليف اعترض عليه في "الروضة" فقال: قلت: هكذا اقتصر الغزالي وغيره في شرط [المطلق] (¬3) على كونه مكلفًا وقد يورد عليه السكران فإنه يقع طلاقه على المذهب وليس مكلفًا كما قاله أصحابنا وغيرهم في كتب الأصول، ولكن مراد أهل الأصول أنه غير مخاطب حال السكر ومرادنا هنا أنه مكلف بقضاء العبادات بأمر جديد، والله أعلم. هذا لفظه. فأما ما ذكره من هذا الإيراد فقد تقدم في البيع أنه إيراد باطل مخالف للمنقول والمعقول ويتعين على الناظر هنا أن يراجعه، وأما الاعتذار الذي ذكره آخرًا وهو أن مراد أهل الأصول إلى آخره فاعتذار عجيب لا ارتباط له بالسؤال فإنه قد نقل عن أصحابنا وغيرهم أن السكران غير مكلف وسؤاله إنما يتم على هذا التقدير إذ لو قالوا: إنه مكلف لكان السؤال منتفيًا، وحينئذ فكيف يجيء الحمل الذي ذكره؟ وكأنه انتقل ذهنه من قول الفقهاء يقع طلاقه إلى كونه مكلفًا فتوهم أن البحث في تكليفهم له فشرع يجمع بينه وبين قولهم إنه ليس مكلفًا فوقع في ما وقع، فلو أمسك عن ذلك من أصله لكان الإمساك أجمل ولو أضرب عن الخوض فيه لكان الإضراب عنه أمثل إلا أنه أدخل نفسه في ما لا يعنيه وكلف حاله فوق ما يقتضيه. ¬

_ (¬1) في جـ: الباب الثاني. (¬2) في ب: المعلق. (¬3) في ب: المعلق.

الركن الثاني: اللفظ وما يقوم مقامه

الركن الثاني: اللفظ وما يقوم مقامه قوله: ولو قال أنت طالق ثم قال [أردت عن وثاق، أو إن دخلت الدار، أو إن شاء زيد فإنه يدين على الصحيح، ثم قال: ] (¬1) وألحق الغزالي بهذه الصور ما إذا قال أنت طالق إن شاء الله، والمشهور في كتب كبراء المذهب أنه لا يدين وفرقوا بأن التعليق بمشيئة الله تعالى يرفع حكم الطلاق جملة فلابد فيه من اللفظ , والتعليق بالدخول لا يرفعه ولكنه يخصصه فأثرت فيه النية. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من أنه لا يدين في مشيئة الله تعالى قد خالفه في الباب الذي بعد هذا في الكلام على طلاق المكره وستعرف هناك لفظه إن شاء الله تعالى، وتبعه في "الروضة" على الموضعين. قوله. وفي بعض التعاليق أن القاضي الحسين قال إذا قال نسائى طوالق ثم قال: كنت عزلت ثلاثًا لم يقبل لأن اسم النساء لا يقع على الواحدة ولو قال: عزلت واحدة، يقبل، وذكر تفريعًا على هذا وجهين في ما لو عزل اثنتين. انتهى. وما نقله عنه الرافعي من كونه إذا عزل ثلاثًا لا يقبل قد أسقطه النووي من "الروضة". قوله: ولو قال: إن كلمت زيدًا فأنت طالق، ثم قال أردت التكليم شهرًا فيقبل كذا حكي عن نص الشافعي - رضي الله عنه - والمراد على ما نقل في "البسيط" و"الوسيط" القبول في الباطن حتى لا يقع في الباطن إذا كان التكليم بعد شهر. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الغزالي ولم يصرح بمخالفته ولا موافقته جزم به في "الشرح الصغير" هنا وجزم به في "الكبير" في مواضع فقال في الإيلاء قبيل الركن الرابع فقال: والله لا أجامعك ثم قال أردت شهرًا دين ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولم يقبل ظاهرًا، وذكر نحوه في آخر كتاب الأيمان في أوائل الفصل المعقود للأصول فقال ما نصه: حلف لا يدخل الدار ثم قال أردت شهرًا أو يومًا فإن كانت اليمين بالطلاق أو العتاق لم يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ويلحق بهما الإيلاء لتعلقه بحق الآدمى، وإن كانت اليمن بالله تعالى ولم يتعلق بحق الآدمى قبل ظاهرًا وباطنًا. هذا لفظه، وذكر بعده بنحو ورقتين ما يوافقه فقال نقلًا عق "المبتدأ" للروياني إذا قيل له كلم زيدًا اليوم فقال: والله لا كلمته فاليمين على الأبد إلا أن ينوي اليوم فإن كان ذلك في الطلاق، وقال أردت اليوم لم يقبل في الحكم وذكر بعد هذا بنحو ورقة مثله فقال: ولو حلف لا يدخل دار زيد ثم قال أردت ما يسكنه دون ما يملكه فيقبل في اليمين بالله تعالى ولا يقبل [في الحكم إذا حلف بالطلاق والعتاق ذكره ابن الصباغ وغيره، ويؤيده أيضًا ما نقله في أواخر الشرط في الطلاق عن البغوي أنه لو قصد ضرب غيرها فوقع الضرب عليها طلقت ولا يقبل] (¬1) قوله لأن الضرب مؤثر. واعلم أن النووي قد وافق في هذه المواضع على عدم القبول في الظاهر ثم خالف في الموضع الذي نقلناه عن "المبتدأ" للروياني فقال: قلت: الصواب قبوله كما سبق في نظائره في الطلاق والله أعلم. قوله: قال الشافعي في "المختصر": ولو قالت له طلقني فقال: كل امرأة لي طالق طلقت إمرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بثنية، وتكلموا في النص من وجهين أظهرهما: الحمل على أنها لا تطلق بينه وبين الله تعالى، والثاني: قيل: إن لفظ النص أن لا يكون عزلها بثنية وهو الاستثناء. انتهى كلامه. واعلم أن الثنية بضم الثاء المثلثة وسكون النون وبالياء بنقطتين من تحت هو الاستثناء، وكذلك الثنوي بالفتح وبالواو وحينئذ فيقرأ لفظ الرافعي ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

بأحد الوجهين والأقرب هو الوجه الأول والياء فيه للمرة. قوله في "الروضة": وضبط الأصحاب ما يدين فيه بضبط آخر فقالوا: ينظر في التفسير خلاف ظاهر اللفظ إن كان لو وصل باللفظ لا ينتظم لم يقبل ولم يدين وإلا فلا يقبل ظاهرًا ويدين، مثال الأول: قال أردت طلاقًا لا يقع ومثال الثاني أردت طلاقًا عن وثاق أو إن دخلت الدار، واستثنوا من هذا نية التعليق بمشيئة الله تعالى فقالوا لا يدين فيه على المذهب. فرع قال: أنت طالق ثلاثًا ثم قال: ما أردت إلا واحدة، أو قال: أربعتكن طوالق، ثم قال: نويت بقلبي إلا فلانة لم يدين على الأصح لأنه نص في العدد. انتهى كلامه. والمسألة الأولى من الفرع الذي ذكره ناقضة لهذه القاعدة التي ذكرها فإن العدد يصح الاستثناء منه هنا، وأما المسألة الثانية وهي العدد المخاطب فلم يتعرض الرافعي هنا لصحة الاستثناء منه لكنه ذكرها في أواخر تعليق الطلاق ونقل عن القاضي الحسين [والمتولي أنه لا يصح ولم ينفذ غيره ونقل عن القاضي] (¬1) المذكور أنه استثني ما إذا قدم المستثنى على لفظ الطلاق فقال: أربعتكن إلا فلانة طوالق فإنه يجوز ثم بحث معه الرافعي فيه واقتضى كلامه الجواز مطلقًا. قوله أيضًا في أصل "الروضة": ولو قال فلانة وفلانة وفلانة طوالق، ثم قال إستثنيت بقلبي فلانة لم يدين قطعًا لأنه رفع لما نص عليه لا تخصيص عموما. ذكره القاضي أبو الطيب. انتهى. ودعوى القطع بعدم التديين مردودة ولذلك لم يذكرها الرافعي وسببه أن لنا خلافًا شهيرًا في جمع المفرق في الاستثناء كما إذا قال أنت طالق وطالق وطالق إلا واحدة فإن جمعناه صار كقوله أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة فيصح الاستثناء، وإن لم يجمعه وهو الصحيح لم يصح لكونه مستغرقًا ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

وهذا مثله. قوله في أصل "الروضة": وفي قوله أنت طالق أو الطلاق أو طلقة وجهان: أصحهما: أنه كناية، ولو قال أنت نصف طلقة فكناية، ثم قال عقبه من غير فاصل ما نصه: قال البغوي ولو قال أنت كل طلقة أو نصف طالق فصريح كقوله نصفك طالق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي نقله عن البغوي وأقره من أن قول القائل أنت طالق كل طلقة صريح كيف يستقيم مع أنه قد تقدم من كلامه أنه لو وصفها بالمصدر بدون فاصل وقال أنت طلقة كان كناية وكذلك إذا فصل ببعض فقال أنت بعض طلقة وهو نظير المسألة؟ . الأمر الثاني: أن قياسه كل طلقة على نصفك طالق قياس باطل لا جامع بينهما. نعم قياس نصف طالق عليه قياس صحيح، وبالجملة فكلام البغوي في "التهذيب" على الصواب وقد نقله عنه الرافعي على وجهه فقال ما نصه: وفي قوله أنت طالق أو الطلقة أو طلقة وجهان: أصحهما: أنه كناية لأنه مصدر والمصادر غير موضوعة للأعيان ويستعمل فيها على سبيل التوسع ولو قال أنت نصف طلقة فكناية أيضًا وذكر في "التهذيب" أن قوله للطلقة صريح وأن قوله أنت نصف طالق كقوله نصف طالق. هذا لفظه فتحرف على الشيخ محيي الدين لك طلقة بقوله كل طلقة فوقع في الغلط الذي نبهنا عليه أولًا ثم ضمها إلى نصف طالق وقاسهما جميعًا على نصف طالق فوقع في الغلط الثاني، وقد راجعت النسخة التي بخط النووي فرأيته فيها كما هو مذكور في باقي النسخ على أن الرافعي صرح بقوله لك طلقة بعد هذا بأسطر وحكى فيها

وجهين من غير ترجيح وتابعه في "الروضة" عليه وسأذكرها عقب هذه المسألة. قوله: فحصل تردد في ما إذا وقع عليه الطلاق وكانت له امرأتان هل يقع عليهما معًا أو على إحداهما وتعين؟ انتهى ملخصًا. والمرجح أنه لا يقع إلا على واحدة كذا ذكره ابن الصلاح في "فتاويه" وتبعه النووي في "الفتاوى" أيضًا وقال في "الروضة": إنه الظاهر المختار الجاري على القواعد لأن الاسم يصدق عليه فلا يلزمه زيادة من غير نية. قوله: في الكنايات لا أنده سربك -أى لا أزجر إبلك ومعناه لا أهتم بشأنك. انتهى. النده بالنون والدال المهملة هو الزجر والسرب بفتح السين المهملة وسكون الراء والباء الموحدة هو الإبل، وما رعى من المال قاله الجوهري في الكلام على سرب قال ومنه قولهم اذهب فلا أنده سربك أى لا أرد إبلك تذهب حيث شاءت أى لا حاجة لي فيك وكان ذلك طلاقًا في الجاهلية. قوله: ولو قال لأمته اعتدي أو اشترى رحمك ونوى العتق أو قاله لزوجته قبل الدخول ونوى الطلاق فوجهان: أظهرهما: الوقوع لأن لهما محلية العدة واستبراء الرحم في الجملة وذلك كافٍ في صحة الكناية. انتهى. المحلية بالحاء المهملة وبياء النسبة في آخره كون الشيء محلًا أي ما تقتضيه العدة والاستبراء من المحل مستقر لهذين الشخصين من حيث الجملة. قوله: الثانية: الطلاق ليس كناية في الظهار ولا الظهار في الطلاق وإن كان كل واحد منهما محتملًا للآخر لما يشتركان فيه من إفادة التحريم وذلك

أنه أمكن تنفيذ كل واحد منهما في موضوعه الذي هو أصل فيه فلا يعدل عنه إلى ما هو فرع ولا سبيل إلى الجمع بينهما لأن المعنيين الذين يصلح اللفظ لهما لا يجمع بينهما كما في الأسماء المشتركة، بل تارة يستعمل لهذا وتارة يستعمل لذاك وإنما الذي يتناول الآحاد ويجمع بينهما هو اللفظ العام. انتهى كلامه. وما ذكره في تقرير امتناع الجمع غير صحيح بل يجوز استعمال اللفظ في المعنيين معًا على مذهب الشافعي سواء كان اللفظ حقيقة فيهما كالمشترك أو حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر، وقد صرح الرافعي في كتاب الأيمان بأن الجمع بين الحقيقة والمجاز ليس بممتنع لكنه بعيد عند أهل الأصول ورد عليه النووي هناك ولم يتعرض في "الروضة" في هذا الباب للتقرير المذكور بل ذكر الحكم فقط. قوله: وإن أراد بقوله أنت على حرام تحريم عينها أو ذاتها ووطئها لزمه كفارة يمين في الحال فعلى هذا لو قال أردت به الحلف على الامتناع من الوطء لم يقبل في أظهر الوجهين، ثم قال: فإن قبلناه فقد ترددوا في أن التحريم هل يصير يمينًا بالنية في غير الزوجات والإماء كالمطاعم والملابس أو يختص ذلك بالأبضاع. انتهى كلامه. والأصح هو الاختصاص كذا ذكره في "الروضة" من زوائده. قوله الرابع: إذا قال متى قلت لامرأتي أنت على حرام فإنني أريد به الطلاق ثم قال لها بعد مدة أنت حرام فعن أبى العباس الروياني أنه يحصل وجهان. أحدهما: الحمل على الطلاق لكلامه السابق. والثاني: المنع لاحتمال أن نيته قد تغيرت. انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": أصحهما الثاني ويقرب من هذه

المسألة ما ذكره في كتاب الإقرار أنه إذا قال أريد أن أقر بما ليس على لفلان على ألف له أو قال ما طلقت امرأتي وأريد أن أقر بطلاقها قد طلقت امرأتي ثلاثا، قال العبادي: لا يصح إقراره وقال صاحب "التتمة": الصحيح أنه يصح كما لو قال على ألف لا يلزمني. قوله: ولو اقترنت النية بأول اللفظ وعزبت قبل تمامه بأن قصد إيقاع الطلاق عند قوله: أنت، ولم يبق هذا القصد عند الانتهاء إلى طالق فوجهان ولو كان بالعكس فوجهان أيضًا وأظهر الوجهين عند الإمام والغزالي في الأولى أنه يقع، وكلامهما يشعر برجحان عدم الوقوع في الثانية. انتهى ملخصًا. وذكر نحوه في "الشرح الصغير" إلا أنه أطلق الترجيح في المسألة الأولى فقال: وأظهرهما الوقوع لأن النية إذا اقترنت بأول اللفظ عرف قصده من اللفظ، إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أنه قد ذكر في "المحرر" ما يشعر بمخالفة المذكور هاهنا فقال: وهل يكفي اقترانها بأول اللفظ أو يشترط بقاؤها إلى آخره؟ فيه وجهان رجح منهما الثاني هذا لفظه وهو يخالفه من وجهين: أحدهما: في ترجيحه اشتراط البقاء. وثانيهما: ما أوهمه كلامه من الجزم بعدم الاكتفاء بمقارنة الأخير، وكلام "المنهاج" صريح في الثانية، ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج" فقال في "المنهاج" وشرط نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، وقيل: يكفي أوله وقال في "الروضة" ولو اقترنت النية بأول اللفظ [وقيل ما] (¬1) دون أخره أو عكسه طلقت في الأصح هذا لفظه، وفيهما مع ما ذكرناه من المخالفتين أمر ثالث: وهو أن الرافعي لم يصحح ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

شيئًا في الاقتران بالأخر دون الأول، وأما في العكس فصرح بتصحيحه نقلًا عن الإمام والغزالي والفتوى على التفصيل بين الأول والأخير كما أشعر به كلام الشرحين فقد قال الماوردي في "الحاوي" بعد تصحيحه له أنه أشبه بمذهب الشافعي. الأمر الثاني: أن اللفظ الذي تردد الأصحاب فيه أن النية هل يشترط إقترانها بجميعه أم يكفي اقترانها ببعضه إنما هو لفظ الكناية فقط لأن المقصود من النية تفسير إرادة الطلاق باللفظ الذي يحتمله ويحتمل غيره والمفتقر إلى التفسير لما فيه من الاحتمال إنما هو صيغة الكناية دون ما معها فتقدم النية عليها لا يعتد قطعًا، وإن كان متصلًا بأنت أو غيرها مما قبله، وقد صرح بهذا الذي ذكرته البندنيجي والماوردي وصاحب "الشامل"، وإذا علمت هذا علمت أن تمسك الرافعي بالنية عند أنت غير مستقيم إلا أن ابن الرفعة في "المطلب" قد أثبت وجهين في المسألة وأيد الإكتفاء [عند أنت] (¬1) بما إذا وقع أنت في زمن الطهر وطالق في زمن الحيض، فإن ابن سريج قال يكون الطلاق سنيًا ويحصل لها قرء واحد. الأمر الثالث: أن تعبيره بطالق غلط سرى أيضًا منه إلى الكفاية لابن الرفعة، بل الصواب التعبير ببائن ونحوه فإن الكلام في الكنايات. الأمر الرابع: أن تمثيل الاكتفاء بقوله أنت قد حذفه النووي من "الروضة" ففاته مسألة مهمة وهو يظن أن لا فائدة فيها. قوله: لكن صاحب "التتمة" قرب الوجهين في ما إذا اقترنت النية بأول دون أخره والوجهين فيما إذا اقترنت بآخره دون أوله من القولين في ما إذا نوى المسافر الجمع في أثناء الصلاة ولم ينو في أولها وقضية هذا التشبيه والتقريب أن يقال إذا كان الوقوع فيما إذا اقترنت بأوله أظهر فأولى أن يكون فيما إذا اقترنت بآخره أظهر لأن الأظهر من الخلاف في ما إذا ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

اقترنت النية بأول التكبير دون آخره والانعقاد، والأظهر فيما إذا نوى الجمع في أثناء الصلاة صحة الجمع. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من كون الأظهر في مسألة التكبير هو الانعقاد وهو كذلك في نسخ الرافعي، وفيه أمران: أحدهما: أنه مخالف للمذكور في صفة الصلاة، وقد تقدم ذكر لفظه هناك. الأمر الثاني: أن ترجيح الانعقاد المذكور لا يستقيم معه ما ذكره الرافعي من الأولوية، فإن تقرير كلامه أن جواز الشيء في مسألة مع تشبيهها بما يقتضي المنع منها أضعف من جوازه عند تشبيهه بما لا يقتضي المنع لأن الشيء يضعف بمعانده، وحينئذ فإذا صححوا الجواز في حالة قيام الشبه المانع كتصحيحه في الحالة الأخرى أظهر وأما إذا استوى الشبهان في الجواز أو استويا في المنع فلا يكون تصحيحه في أحدهما يقتضي أولوية التصحيح في الآخر بلا شك. إذا علمت هذا فطبقه على كلام الرافعي تجده لا يستقيم إلا مع دعوى تصحيح عدم الانعقاد في التكبير فتأمله فعلمنا بهذا أنه سقط من كلام الرافعي صيغة عدم فإن أصله عدم الانعقاد، وهذا لا شك فيه. قوله: وفي زيادات الشيخ أبى عاصم العبادي أنه إذا قال بعت منك طلاقك فقالت إشتريت ولم يذكر عوضًا لا تحصل الفرقة إذا لم تكن نية، وقيل يقع طلاقه بمهر المثل. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وهو يشعر بكونه صريحًا عند العبادي إذا اقترن بالعوض، والأمر كذلك لكن الصحيح أنه كناية فافهمه فقد صرح بهذا كله الرافعي في أوائل الخلع فقال وبيع الطلاق بالمهر من جهة الزوج وبيع المهر بالطلاق من جهتها يعبر بهما عن الخلع وليكونا كنايتين، وفي

"الزيادات" لأبي عاصم العبادي أن يقع الطلاق مع ذكر العوض صريح هذا كلامه. قوله: وفيها أيضًا -يعني: الزيادات- أنه لو قال: لم يبق بيني وبينك شيء ونوى الطلاق لم يطلق وفي هذا توقف. انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": الصواب الجزم بالطلاق، لأنه لفظ صالح ومعه نية. قوله نقلا عن العبادي أيضًا: وأنه إذا قال الطلاق لازم لي أو واجب على، طلقت للعرف، بخلاف فرض على، ورأى البوشنجي أن الجميع كناية وحكى صاحب "العدة" عن الأكثرين أن الطلاق لازم صريح. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وما دل عليه كلامه من رجحان الصراحة قد جزم به في كتاب النذر ولم يحك فيه خلافًا كذا ذكره في أصل "الروضة" هناك. قوله نقلًا عن فتاوى القفال: وأنه لو قال: كل امرأة لي طالق إلا عمرة ولا امرأة له سواها طلقت لأن الاستثناء مستغرق فبطل، ولو قال: النساء طوالق إلا عمرة ولا زوجة له سواها لم تطلق. انتهى. واعلم أن المسألة الأولى التي نقل فيها الوقوع عن القفال حكمها متجه وشرطها أن يكون الإخراج بـ"إلا" كما صوره الرافعي، أما إذا عبر بسوى كغير فإن الموجود نقلًا والمتجه معنى أن لا يقع فافهمه فإنه قد يلتبس على من لا اطلاع له به ولا تحقيق. أما النقل: فقد صرح به الخوارزمي في "الكافي" في كتاب الأيمان ومثل بسوى. وأما المعنى فلأن إلا أصلها الاستثناء وسوى وغير ونحوهما أصلهما الصفة فإذا أورد ذلك حملنا كل لفظ على أصله فلزم الاستغراق في إلا إذ

هو إخراج بعد إدخال فأبطلناه بخلاف سوى وشبهها فإن مدلوله إيقاع الطلاق على المغاير للمخاطبة فقط، وسكوته عن المخاطبة، ويدل عليه ما ذكره الرافعي بعد هذا بدون الورقة أنه لو قال: امرأتي التي في هذه الدار طالق ولم تكن امرأته فيها لا يقع الطلاق، وأما المسألة الثانية ففيها كلام يأتي بعد هذا بقليل. قوله نقلًا عن الفتاوى المذكورة أيضًا: وأنه لو قال لامرأته: يا بنتي، وقعت الفرقة بينهما عند احتمال السن، كما لو قاله لعبده أو أمته، وأنه لو كانت زوجته تنسب إلى زوج أمها فقال: بنت فلان طالق لم تطلق لأنها ليست بنته حقيقة ولغيره في هذا احتمال، وأنه لو قال: نساء المسلمين طوالق لم تطلق امرأته، وعن غيره أنها تطلق وبنى الخلاف على أن المخاطب هل يدخل في الخطاب. انتهى. وقد تكلم النووي في "الروضة" على هذه المسائل فقال في الأولى: المختار أنه لا يقع به فرقة إذا لم يكن له نية لأنه إنما يستعمل في العادة للملاطفة وحسن المعاشرة وهذا التعليل يأتي بعينه في العبد والأمة والذي اقتضاه كلامه من العتق فيهما ممنوع. وأما الثانية: وهي بنت الزوجة فينبغي أن يقال: إن نواها طلقت ولا يضر الغلط في نسبها كنظيره من النكاح، وإلا فلا، ومراد القفال بقوله لم تطلق أي في الظاهر ويتعين في الباطن ما ذكرته. وأما الثالثة: فالأصح عند أصحابنا في الأصول أن المتكلم لا يدخل، وكذا هنا الأصح أنها لا تطلق هذا كله كلام النووي، وما ذكره في آخر كلامه من تصحيح عدم الوقوع وأن الأصح عند أصحابنا الأصوليين عدم الدخول كلاهما مردود، فإن المعروف في كتب الأصول إنما هو الدخول فقد قال إمام الحرمين في "البرهان" الرأى الحق عندي دخولهم. وقال الغزالي في "المستصفى": إن القول بعدم الدخول فاسد، وقال

الإمام فخر الدين: الأكثرون على الدخول. وقال الآمدي: إنه المختار الذي عليه الأكثرون، وذكر نحوه ابن الحاجب وصاحب "الحاصل والتحصيل" وغيرهم ممن لا يحصى. والعجب من النووي حيث قال ما قال مع شهرة هذه الكتب، والظاهر أن ذلك صدر منه من غير مراجعة. وإذا علمت ما ذكرناه ظهر أن الأصح هو وقوع الطلاق، ويؤيده ما حكاه في كتاب الوقف أنه لو وقف كتابًا على المسلمين أو مرجلًا أو بئرًا كان له أن ينتفع، وكذا صححوه في ما لو وقف على الفقراء وافتقر مع أن الدخول هنا أولى منه هناك لأن الوقوف على نفسه باطل من حيث الجملة وإن كان إدخال نفسه في العموم جائزًا في ما أصله الإباحة [كماء البئر ومنافع المسجد دون ثمار النخلة ونحوها] (¬1) كما قاله الماوردي هناك. قوله: وأنه لو قالت له زوجته واسمها فاطمة: طلقني، فقال: طلقت فاطمة، ثم قال: نويت فاطمة أخرى، طلقت ولا يقبل قوله لدلالة الحال بخلاف ما لو قال ابتداء: طلقت فاطمة، ثم قال: نويت أخرى وقد يشكل هذا بما سبق أن السؤال لا يلحق الكناية بالصرائح. انتهى كلامه. وقد اشتمل على مسألتين الأولى ما إذا كان ذلك جوابًا لقولها: طلقني وقد جزم فيه بأنه لا يقبل قوله ثم بحث فيه البحث المتأخر المقتضي لعدم الإيقاع عليه، ثم ذكر بعده بنحو الصفحة ما حاصله رجحان عدم الوقوع فقال نقلًا عن شريح الروياني فإنه لو قيل لرجل اسمه زيد [يا زيد] (¬2) فقال: امرأة زيد طالق، قال جدى: تطلق امرأته، وقيل لا تطلق حتى يريد نفسه لجواز إرادة زيدًا آخر. وليجيء هذا الوجه في ما إذا قال: فاطمة طالق واسم زوجته فاطمة ويشبه أن يكون هو الأصح ليكون قاصدًا تطليق زوجته. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ، ب.

ولا نزاع في أن هذا كله في الظاهر أما الباطن فيقبل جزمًا، وما ذكره آخرًا من رجحان عدم الوقوع راجع إلى ما إذا كان ذلك جوابًا، فأما إذا قاله ابتداء فلا يتصور عود البحث إليه لأنه جزم فيه بقبول قوله على وفق البحث. المسألة الثانية: أن يذكر ذلك في غير الجواب وقد جزم فيه بالقبول كما أشرنا إليه الأن، والصحيح خلافه، فقد ذكر المسألة بعد ذلك في أوائل الباب الخامس المعقود للشك في الطلاق ومثل بزينب فقال: إن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يقبل. والثاني: قاله القاضي أبو الطيب وغيره أنه يقبل. والثالث: قاله إسماعيل المقري، إن قال: زينب طالق لم يقبل، وإن قال: طلقت زينب، قُبِل. قوله نقلًا عن القفال أيضًا: وأنه لو قال لولي امرأته: زوجها، كان إقرارًا بالفراق، ولو قال لها: انكحي لم يكن إقرارًا لأنها لا تقدر أن تنكح، ولكن المفهوم ما يفهم من قول الله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1). قال في "الروضة" الصواب أنه كناية إذا خاطبها بخلاف الولي فإنه صريح فيه. هذا كلامه. قوله: ومما نقل عن معلقات القاضي شريح الروياني من أصحابنا المتأخرين ما حكاه عن جده أبى العباس الروياني وغيره أنه لو قال أحللتك ونوى طلاقها هل هو كناية؟ وجهان: وأنه لو قال: امرأته طالق وعنى نفسه. قال جدي: يحتمل وقوع الطلاق ويحتمل عدمه. انتهى. الأصح في الأولى: أنها كناية، والأرجح في الثانية، الوقوع. قاله ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 230.

في "الروضة". قوله نقلًا عن المعلقات المذكورة: وأنه لو قال لابنه: قل لأمك أنت طالق قال جدى: إن أراد التوكيل فإذا قاله لها الابن طلقت ويحتمل أن يقع ويكون الابن مخبرًا لها بالحال. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" ومعناه أنه إذا لم يرد التوكيل لا يقع، ويحتمل وقوعه، ومدرك التردد في هذه المسألة أن الأمر بالأمر بالشيء إن جعلناه كصدور الأمر من الأول كان الأمر بالإخبار بمنزلة بالإخبار من الأب فيقع، وإن قلنا [ليس كصدوره منه لم يقع شيء. قوله أيضًا نقلًا عنها: وإنه لو قال: ] (¬1) امرأة كل من في السكة طالق وهو في السكة، حكى جدى عن بعض الأصحاب أنه لا يقع طلاقه قال: والصحيح أنه يقع. انتهى كلامه. وهذه المسألة عبر عنها في "الروضة" بقوله: وأنه لو قال: كل امرأة في السكة طالق وزوجته في السكة طلقت على الأصح هذا لفظه، وهو عكس ما صور به الرافعي، وأما الصورة التي تكلم فيها الرافعي فقد تقدم في نظائرها أنها مبنية على أن المتكلم هل يدخل في عموم كلامه أم لا وتقدم أن النووي صحح أنه لا يدخل وأن الطلاق لا يقع فيكون هنا كذلك فإنها نظائرها أو هي هي، ووقع في بعض نسخ الرافعي وهي في المسألة بضمير المؤنث وهو تحريف ولعله السبب في انقلاب المسألة على النووي. قوله: نقلًا عنها أيضًا وأنه لو وكل في طلاقها فقال الوكيل: طلقت من يقع الطلاق عليها بلفظي، هل تطلق التي وكله في طلاقها؟ أو طلقها ولم ينو عند الطلاق أنه يطلق لموكله ففي الوقوع وجهان. انتهى. والصحيح في الثانية هو: الوقوع، كذا نقله الرافعي في أواخر تعليق الطلاق عن أبي العباس المذكور، وقد ذكرت المسألة هناك لغرض يتعين ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الوقوف عليه فراجعها. ونقل الرافعي قبيل كتاب الديات بأسطر عن فتاوى البغوي فرعًا آخر متعلقًا بما نحن فيه فقال: وأن الوكيل في استيفاء القصاص إذا قال: قتلته بشهوة نفسي لا عن جهة الموكل لزمه القصاص، هذه عبارته وحاصلها إشتراط عدم الصارف ولا يلزم منه اشتراط القصد على ما تقدم عن بعضهم، ولا شك أن هذا كله في ما لا يصح فيه الوقوع لنفسه، أما ما يصلح فيه الوقوع له فلا شك في اشتراط القصد كما سبق في الوكالة. قوله: وفي "فتاوي الغزالي" أنه إذا كتب الشروطي إقرار رجل بالطلاق فقال له الشهود: نشهد عليك بما في هذا الكتاب، فقال: اشهدوا لا يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، بل لو قال: اشهدوا على أني طلقتها من أمس وهو كاذب، لم يقع في الباطن. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من الوقوع في الظاهر في مسألة الشروطي أي الشاهد قد ذكر من "زوائده" في آخر الباب الأول من أبواب الإقرار ما يخالفه وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. وقد ذكر الغزالي في باب الوقف من "فتاويه" أيضًا هذه المسألة، وأوهم كلامه النفوذ باطنًا فقال: إذا قال للشهود: اشهدوا على أني وقفت جميع أملاكي، وذكر مصارفها ولم يذكر شيئًا منها صارت الجميع وقفًا ولا يضر جهل الشهود بالحدود ولا سكوته عن ذكر الحدود، والصواب في ذلك وأشباهه أنه لا يكون إقرارًا كما أوضحه ابن الصلاح في "فتاويه". فقال: وصرح به الطبري في "العدة" والهروى في "الإشراف"، والعمراني في "البيان" اللهم إلا أن يصدر ذلك ممن عرف منه استعماله في الإقرار فينبغي أن يكون إقرارًا. قال: وهذا كله إذا لم يسند ذلك إلى نفسه كما تقدم التمثيل به، فإن

أسنده إليها بأن قال: أشهدكم على بكذا أو بما في هذه الورقة فإنه يصح. قوله: وفي "التتمة" أنه لو قال لواحدة من نسائه: أنت طالق مائة طلقة فقالت: يكفيني ثلاث، فقال: الباقي على صواحبك، لا يقع على صواحبها طلاق؛ لأنه لم يخاطبهن وإنما رد عليها شيئًا لاغيًا، فإن نوى به الطلاق كان طلاقًا وكان التقدير: أنت طالق بثلاث وهن طوالق بالباقي. انتهى كلامه. وما نقله هنا من الوقوع في مسألة الزائد على العدد الشرعي إذا نوى وأقره عليه، قد نقل عن البغوي في آخر الباب الذي بعد هذا عكسه وأقره عليه، وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: ولو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق وأنت يا أم أولادي، قال أبو عاصم العبادي: لا تطلق، وهو كما قال غيره أو قال لزوجته: نساء العالمين طوالق وأنت يا فاطمة؛ لا تطلق؛ لأنه عطف على نسوة لم يطلقن. انتهى كلامه. وما تلخص من كون العطف على الباطل باطل سيأتي في الكلام على الإكراه ما يخالفه وتبعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: ولو قال: وله امرأتان: امرأتي طالق، وأشار إلى إحداهما، ثم قال: أردت الأخرى، فوجهان عن أبى العباس الروياني: أحدهما يقبل ولا تلزمه الإشارة، والثاني: أنهما تطلقان. انتهى. والأرجح الأول، كذا ذكره في "الروضة" من "زوائد" في آخر باب الشك في الطلاق. قوله: والأشبه انعقاد البيع بالمكاتبة وأنه يشترط اتصال القبول بورود الكتاب ثم قال: وقد أشرنا إلى ذلك كله في أول البيع وحكينا عن بعض المسودات أن المشتري لو أجاب بالقول كان ذلك أقوى من أن يكتب،

وهكذا ذكره الإمام. انتهى كلامه. والذي قاله هنا من النقل عن بعض المسودات في ما إذا أوجب بالكتابة تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غلط، ليس هو في هذه المسألة، فإن الذي قاله في البيع ما نصه: وفي مسودات بعض أئمة طبرستان تفريعًا على انعقاد البيع بالمكاتبة أنه لو قال: بعت دارى من فلان وهو غائب فلما بلغه الخبر قال: قبلت، ينعقد، لأن النطق أقوى من الكتابة. وقال أبو حنيفة: لا ينعقد، هذا لفظه فثبت أن هذا النقل إنما هو في ما إذا أوجب باللفظ لا بالكتابة. نعم: صح القبول لفظًا إذا أوجب بالكتابة كذا ذكره الرافعي بعد هذا في ما إذا وقع ذلك في النكاح، والبيع أولى بالصحة منه. قوله: وإن كتب إذا قرأت كتابي فأنت طالق فقرأته طلقت، قال الإمام: ولم يختلف علماؤنا، أنها إذا طالعته وفهمت ما فيه يقع الطلاق، وإن لم يتلفظ بشيء فإن قرأ غيرها عليها فوجهان أحدهما: يقع الطلاق لأنها اطلعت على المقصود. وأصحهما: المنع لأنها أهل للقراءة ولم تقرأ فإن كانت لا تحسن القراءة فقرأ عليها طلقت وفيه وجه ضعيف، وقائله جعله من التعليق بالمستحيلات، ولو كان الزوج لا يعرف هل هي قارئة أم لا فيجوز أن يقال ينعقد التعليق على قراءتها بنفسها نظرًا إلى حقيقة اللفظ، ويجوز أن يتعلق على الفهم والإطلاع لأن الأصل في النساء عدم المعرفة بذلك، والأول أقرب. انتهى ملخصًا. وهذه المسائل كلها يفرض مثلها في تعليق عزل القاضي، ولم يصرحوا هناك إلا ببعضها لكن صحح الرافعي في ما إذا قرأ عليه وهو قارئ أنه ينعزل وستعرف لفظه هناك، والصواب التسوية وعدم العزل والطلاق،

وما صححوه أيضًا هنا من الطلاق إذا لم تحسن القراءة مشكل؛ لأن الصحيح في التعليق بالمستحيل أنه لا يقع، وهذا أولى منه؛ لأنه ممكن في نفسه، وقد علق عليه ولم يخرجه عن مدلوله فإن فرض أنه أراد الاطلاع على المقصود فمسلم وليس الكلام فيه. قوله: أما إذا كتب: إذا أتاك أو بلغك أو وصل إليك كتابي فأنت طالق فوصلها بعض الكتاب دون بعض، فإن انمحى موضع الطلاق فأوجه: أصحها: لا يقع، وثالثها: إن قال: كتابي وقع، وإن قال: كتابي هذا لم يقع. وإن بقي موضع الطلاق ولكن انمحت المقاصد كلها كسبب ذكر الطلاق ونحوه ففيه الأوجه، والوقوع هنا أولى. وإن بقيت المقاصد كلها ولكن انمحت السوابق واللواحق كالتسمية، وصدر الكتاب والحمد والصلاة ففيه الأوجه، والأظهر عند الإمام هو الوقوع. انتهى ملخصًا. والأصح في القسم الأخير هو ما صححه الإمام كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". قوله: قال الإمام: وكنت أحب أن يفرق في هذه الصور الثلاث بين أن يبقى معظم الكتاب أو يختل -فإن للمعظم أثرًا في بقاء الاسم وعدمه. انتهى كلامه. وهذا الذي رده الإمام قد صرح بنقله الشاشي في "الحلية" فقال: وقيل: إن وجد أكثر الكتاب طلقت. هذا لفظه، لكنه لم يطرده في ما إذا انمحى موضع الطلاق. قوله: ولو كتب: إذا بلغك نصف كتابي هذا فأنت طالق فبلغها كله فهل يقع لاشتمال الكل على النصف أم لا؛ لأن النصف في مثل هذا يراد منه المنفرد؟ وجهان عن صاحب "التقريب". انتهى.

والأصح في نظائر المسألة هو: الوقوع، فقد جزم الرافعي قبيل كتاب "التدبير" نقلًا عن زيادات أبى عاصم العبادي أنه إذا قال: إن اشتريت عبدان في صفقة فلله على إعتاقهما فاشترى ثلاثة صفقة فيلزمه إعتاق اثنين لوجود الصفة، وقال أيضًا في تعليق الطلاق في أوائل الفصل السابع منه: لو قال: إن أكلت رمانة فأنت طالق وإن أكلت نصف رمانة فأنت طالق فأكلت رمانة طلقت طلقتين فلو كان التعليق بصيغة كلما طلقت ثلاثًا؛ لأنها أكلت رمانة ونصف رمانة مرتين، وقد صحح النووي من "زوائده" الوقوع في مسألتنا أيضًا إلا أنه لم يستحضر شيئًا من هذه المسائل المستند إليها وقوع الطلاق. قوله: فرع: حرك لسانه بكلمة الطلاق ولم يرفع صوته قدرًا يسمع نفسه. قال المتولي: حكى الزجاجي أن المزني نقل فيه قولين: أحدهما: تطلق؛ لأنه أقوى من الكتب مع النية. والثاني: لا؛ لأنه ليس بكلام؛ ولهذا يشترط في قراءة الصلاة أن يسمع نفسه. انتهى. قال في "الروضة" الأظهر: الثاني؛ لأنه في حكم النية المجردة بخلاف الكتب فإن المعتمد في حصول الطلاق به حصول الإفهام ولم يحصل. قوله في "الروضة": ولو فوض الطلاق فلا يشترط إتفاق اللفظين على الصحيح، ثم قال: ولو قال: طلقي نفسك فقالت للزوج: طلقتك، ففيه هذا الخلاف. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الصحيح الوقوع بمجئ هذا وليس كذلك، فإن الصحيح أن هذا اللفظ كناية كما صرح به المصنف بعد ذلك في آخر الركن الرابع،

وإذا كان كناية فلا يكون مما يجئ فيه إلا بالنية، وقد صرح به الرافعي هنا ولكن أهمله النووي وكأنه نظر إلى لفظ الطلاق وذهل عما ذكروه هناك فتركه. قوله: ولو قال: طلقي نفسك، فقالت: سرحت نفسى، طلقت بلا خلاف لاشتراكهما في الصراحة. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف باطل فقد سبق قول الشافعي أن الفراق والسراح كنايتان. قوله أيضًا في "الروضة": فرع: قال المتولي: لو قال ثلاث مرات اختاري، وقال: أردت واحدة لم تقع إلا واحدة. انتهى كلامه. لم يزد النووي على هذا، وذكر الرافعي بعد هذا ما نصه: خلافًا لأبي حنيفة وذكر إسماعيل البوشنجي إذا قال: اختاري اختاري اختاري فقالت: اخترت الأولى أو الوسطي فالقياس أنه يقع واحدة، وقال أبو حنيفة: تقع الثلاث. انتهى. ثم ذكر الرافعي بعده فروعًا ذكرها النووي وأسقط ما ذكرته فاعلمه. قوله: ولو قال: طلقي نفسك ثلاثًا فطلقت واحدة أو اثنتين وقع ما أوقعته، ثم إن أوقعت واحدة فراجعها في الحال قال البغوي في "الفتاوى": لها أن تطلق ثانية أو ثالثة؛ لأنه لا فرق بين أن يطلق الثلاث دفعة وبين قولها طلقت نفسي واحدة وواحدة فلا يقدح تخلل الرجعة بين الطلقتين. انتهى كلامه. والصواب تقييد الجواب أيضًا بالحال فنقول: لها أن تطلق في الحال ثانية وثالثة ; لأن الصحيح أن هذا تمليك لا توكيل وحينئذ فلابد من القبول على الفور فتفطن لذلك.

الركن الثالث: القصد إلى الطلاق

قال -رحمه الله-: الركن الثالث: القصد إلى الطلاق فيشترط أن يكون قاصدًا لحروف الطلاق لمعنى الطلاق ولا يكفي القصد إلى حروف الطلاق من غير قصد معناه. ثم قال بعد ذلك: ولو لقن الطلاق بلغة لا يعرفها فقالها وهو لا يعرفها لم يقع طلاقه، فلو قال: أردت بهذا اللفظة معناها بالعربية لم يقع على الأصح، ولو قال: لم أعلم أن معناها قطع النكاح ولكن نويت بها الطلاق، وقصدت قطع النكاح لم يقع الطلاق كما لو خاطبها بكلمة لا معنى لها، وقال: أردت الطلاق. انتهى كلامه. ولقائل أن يقول إذا كان الأمر على ما ذكره فما الفرق بين الصريح والكناية؟ حيث قالوا: إن الصريح لا يحتاج إلى النية بخلاف الكناية، وقد جمع بينهما بعض فضلاء العصريين بأن. الصريح: يشترط فيه قصد اللفظ والمعنى. وأما الكناية فيشترط فيها أيضًا أن يكون الإيقاع بذلك اللفظ. وقد ذكر الرافعي في الكناية ما يؤيد مقالة هذا القائل فيها، فقال: قال إسماعيل البوشنجي: إنما يقع الطلاق بقوله: أنت حرام على إذا نوى حقيقة الطلاق وقصد إيقاعه بهذا اللفظ. هذا كلامه. وقول الرافعي في أول الكلام بمعني الطلاق هو بلام الجر لا بالباء وقد تقرر مما سبق من كلام الرافعي أنه لابد أيضًا من العلم بمدلول اللفظ وحينئذ فلا يكفي قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق. قوله: ولو كانت زوجته تسمى طالقًا وعبده يسمى حرًا فقال لها: يا طالق، وله: يا حر، فإن قصد النداء فلا طلاق ولا عتق، وإن قصد الطلاق والعتق حصلا، وإن أطلق ولم ينو شيئًا فعلى أيهما يحمل؟ وجهان: أصحهما على النداء وبه قطع البغوي. انتهى كلامه.

وصورة المسألة ما إذا كانت التسمية بطالق وحر ونحوه كعتيق مستمرة إلى حال النداء، فإن كان اسم العبد قبل جريان الرق عليه حرًا فناداه به فإن قصد العتق أو لم يقصد شيئًا عتق، وإن قصد نداءه بالاسم العتيق لم يعتق في الأصح، وقيل: يعتق؛ لأنه صريح كذا ذكره الرافعي في أول كتاب العتق إلا أنه لم يذكر النداء بطالق، بل اقتصر على النداء بالعتق ولما ذكر صور المسألة بما إذا كان اسمه حرًا قبل جريان الرق، والمتجه اعتبار التسمية بذلك في حال النداء سواء كان قبل جريان الرق أو بعده وسواء كان في ملكه أو ملك غيره فتفطن له. قوله: وحكى الغزالي في "البسيط" أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئًا فلم يعطوه، فقال [متضجرًا] (¬1) منهم: طلقتكم ثلاثًا، وكلانت زوجته فيهم وهو لا يعلم فأفتى إمام الحرمين بوقوع الطلاق قال: وفي القلب منه شيء، ولك أن تقول: ينبغي أن لا تطلق؛ لأن قوله: طلقتكم لفظ عام وهو يقبل الاستثناء بالنية كما لو حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه لم يحنث وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم كان مقصوده غيرها. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- ذكر مقدمتين يستنتج منهما عدم الوقوع. الأولى: أن طلقتكم عام قابل للاستثناء قياسًا على ما ذكره الأصحاب فيما إذا قال السلام عليكم. والمقدمة الثانية أنه إذا لم يعلم أن زوجته في القوم يكون مقصوده بالطلاق غيرها، لأن قصدها يستدعى العلم بها وقصد غيرها تخصيص للفظ. إذا علمت ذلك، ففيه أمران: ¬

_ (¬1) في جـ: متبرمًا.

أحدهما: أن المقدمة الأولى واضحة الصحة، وقد توهم النووي أن مراد الرافعي بها إثبات عدم الطلاق بالقياس على السلام فشرع يفرق بينهما فقال ما نصه: قلت: هذا الذي قاله إمام الحرمين والرافعي كلامهما عجب منهما. أما العجب من الرافعي: فلأن هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد؛ لأنه هنا علم به واستثناه وهناك لم يعلم بها ولم يستثنها، واللفظ يقتضي الجميع إلا ما أخرجه. هذا لفظه وهو إعتراض فاسد، وقد تبين لك وجه فساده. الأمر الثاني: أن المقدمة الثانية ليست صحيحة لأن الواعظ المذكور قصد خطاب الحاضرين جميعهم بالطلاق غير أنه لم يعلم أن زوجته فيهم وعدم العلم عند قصد الخطاب باللفظ الصالح للإيقاع لا يمنع الإيقاع، ولهذا إذا خاطب زوجته بالطلاق وهو يعتقدها أجنبية وقع فهاهنا كذلك بل أولى؛ لأنه في هذا وأمثاله لا تخطر له زوجته لا نفيًا ولا إثباتًا وحينئذ فلا يلزم من عدم علمه بكونها فيهم أن يكون مقصوده غيرها فقط لا هي لأنه قد لا يستحضرها بالكلية، بل قد يقصد المخاطبين ذاهلًا عن حكم الزوجة. وأما دعواهم أن قصد بعض الأفراد يخصص فاعلم أن هذه المسألة كثيرة الوقوع في الفتاوي تلتبس على من لا اطلاع لديه ولا تحقيق وإيضاح الحق فيها أن نقول: إذا قال الشخص مثلًا: والله لا كلمت أولاد زيد فله أحوال: أحدها: أن لا يقصد شيئًا معينًا فلا إشكال في حنثه بالجميع؛ لأن اللفظ يدل على الجميع بالوضع فلم يحتج إلى قصده. الثاني: أن يقصد إخراج بعضهم ويقصد مع ذلك إثبات الباقي أو لا يقصد شيئًا فلا إشكال في عدم الحنث بالمخرج لأنه خصص يمينه بالقصد. الثالث: أن يقصد بعض الأفراد وسكت عما عداه فهذا هو محل

الالتباس والحق فيه أن الحنث بالجميع أيضًا؛ لأن دلالة اللفظ عليه موجوده غير أنه أكد بعض الأفراد بقصده فاجتمع على البعض المنوى قصده ودلالة اللفظ ووجد في غير المنوى دلالة اللفظ فقط وهي كافية لما ذكرناه. وهذا الذي ذكرته قد أجاب به القرافي بعينه وحقيقته الفرق بين القصد إلى البعض وبين تخصيص البعض، فإن الثاني يستدعى إخراج غيره فإن التخصيص هو الإخراج. نعم: إن قصد إخراج اللفظ عن ما وضع له واستعماله في بعضه مجازًا فمعناه التخصيص ولا يحنث بغير المقصود. قوله: في المسألة من "زياداته" وأما العجب من الإمام فلأنه تقدم في أول الركن أنه يشترط قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق ولا يكفي قصد لفظه من غير قصد معناه ومعلوم أن هذا الواعظ لم يقصد معنى الطلاق وأيضًا فقد علم أن مذهب أصحابنا أو جمهورهم أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال إلا بدليل، وقوله: طلقتكم خطاب رجال فلا تدخل امرأته فيه بغير دليل فينبغي أن لا تطلق لما ذكرناه، لا لما ذكره الرافعي فهذا ما تقتضيه الأدلة. انتهى كلامه. وما اعترض به أولًا على الإمام لا يرد عليه؛ لأن الشرط قصد لفظ الطلاق لمعنى الطلاق لا قصد إيقاع الطلاق ولا شك أن هذا الواعظ لم يقصد الإيقاع إما أنه لم يقصد معناه فممنوع، واعتقاد عدم الوقوع لا يمنع قصد المعنى بدليل ما قلناه في من طلق زوجه ظانًا أنها أجنبية وأما ما ذكره ثانيًا من أنه قد علم من مذهب أصحابنا إلى أخره. فيقال: دل الدليل على دخول امرأته؛ لأن الفرض أنه خاطب الحاضرين وامرأته منهم ولا نزاع في جواز التعبير بلفظ المذكر عند اجتماع المذكر والمؤنث. واعلم أن في "فتاوي الغزالي" أنه لو زاحمته امرأة في طريق فقال

تأخرى يا حرة فبانت أمته لا تعتق كذا نقله الرافعي عنه في أوائل العتق ولم يخالفه هو ولا النووي وهي نظير مسألتنا فإنه قد نص هنا على أن النداء بالصريح صريح كقوله: يا طالق. قوله: واحتجوا على أن طلاق المكره لا يقع بما روى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا طلاق في إغلاق" (¬1). والإغلاق: هو الإكراه (¬2). وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3)، وروى أن رجلًا تدلى من جبل بحبل ليشتار عسلًا فجاءته امرأته وقالت طلقني ثلاثًا أو لأقطعن الحبل فطلقها ثلاثًا ثم أتى عمر - رضي الله عنه - فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق (¬4). انتهى. أما الإغلاق فهو بالغين المعجمة والقاف. وأما الشتار فإنه بالشين المعجمة والراء المهملة، يقال: شرت أشور ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2193) وابن ماجه (2046) وأحمد (26403) والحاكم (2802) والدارقطني (4/ 36) وأبو يعلى (4444) وابن أبي شيبة (4/ 83) والبيهقي في "الكبري" (14874) والطبراني في "مسند الشاميين" (500) وابن الجوزي في "التحقيق" (1709) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الألباني: حسن. (¬2) وهو تفسير أكثر علماء الغريب. (¬3) أخرجه ابن ماجه (2045) وابن حبان (7219) والدارقطني (4/ 170) والطبراني في "الكبير" (11274) وفي "الأوسط" (8273) وفي "الصغير" (765) والبيهقي في" الكبري" (14871) والطحاوي في "شرح المعاني" (4292) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. صححه الحاكم والذهبي والحافظ ابن حجر والشيخ أحمد شاكر. وحسنه الشيخ الألباني. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور (1128) والبيهقي في "الكبرى" (14876) وابن الجوزي في "التحقيق" (1710).

على وزن قلت أقول واشترت على وزن اخترت واجتلت إذا جنيته من مكان النحل في الجبال أو غيرها، وأشوت لغه فيه كذا ذكره الجوهري في الكلام على شور. وحديث: "رفع عن أمتي" حسن، وقد نبه عليه في "الروضة" من "زوائده" في آخر تعليق الطلاق وأما الطلاق في إغلاق [. .] (¬1). قوله: الثانية: إن ورى المكره بأن قال: أردت بقولى طلقت فاطمة غير زوجتي أو نوى الطلاق من الوثاق، أو قال في نفسه: إن شاء الله لم يقع الطلاق، وإذا ادعى التورية صدق ظاهرًا في كل ما كان يدين فيه عند الطواعية. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به من عدم الوقوع في ما إذا قال في نفسه: إن شاء الله تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو وجه ضعيف، والمشهور أن التعليق بمشيئه الله تعالى لا يؤثر إلا إذا تلفظ به ولا أثر لنيته بل يحكم عليه والحالة هذه بالوقوع في ما بينه وبين الله تعالى ولابد من ذكره كذا ذكره الرافعي في آخر الباب السابق وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: وإن ترك التورية مع إمكانها فوجهان: أحدهما وهو المذكور في الكتاب واختيار القفال: أنه يقع طلاقه. وأصحهما: على ما ذكره صاحب "التهذيب" والروياني: المنع؛ لأنه مجبر على اللفظ ولا نية له. انتهى. والأصح هو الثاني فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأصح وفي "المحرر": إنه الأظهر وصححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له فإنه غريب. ¬

_ (¬1) بياض في الأصول.

قوله في الإكراه: وتخويف ذى المروءة بالصفع في الملأ. اعلم أن الملأ بالميم هو الجمع كما قاله الجوهرى وقال: غيره: إنه يطلق أيضًا على الأشراف. قوله: ولو قال: طلقت وأنا صبي أو أنا نائم قال أبو العباس الروياني: يصدق بيمينه. انتهى. أقره الرافعي في النائم على ما قاله ولم يزد في "الروضة" على قوله: إن فيه نظرًا، وهو عجيب منهما فقد جزما في أول كتاب الأيمان بأن من ادعى عدم القصد في الطلاق والعتاق لا يصدق في الظاهر، لتعلق حق الغير به، هذا لفظهما. قوله: لا يقع طلاق المجنون والمغمى عليه وكل من زال عقله بسبب هو غير متعد فيه كما لو أوجر الخمر، ثم قال ما نصه: وعد من هذا القبيل ما إذا شرب دواء يزيل العقل على قصد التداوى، ولك أن تقول في التداوي بالخمر خلاف يذكر في موضعه فإن جرى ذلك الخلاف في الدواء المزيل للعقل وقد اطرد في القليل والكثير فالمذكور هاهنا جواب على جواز التداوى ويمكن أن يقدر تخصيص الخلاف بالقدر الذي يزيل العقل [وتصوير] (¬1) هذه الصورة [في ما] (¬2) إذا ظن أن القدر الذي تناوله لا يزيل العقل، وكذلك صوره أكثرهم، وإن لم يجر ذلك الخلاف في الدواء المزيل للعقل فكان السبب فيه أن الطبع يدعو إلى شرب الخمر فيحتاج فيه إلى المبالغة في المنع والزجر بخلاف الأدوية. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وحاصله التردد من غير ترجيح في أنه هل يتخرج عليه أم لا؟ وإذا خرج فهل يخرج القليل والكثير أم الكبير فقط ويجزم في القليل بالجواز؟ وقد أعاد الرافعي المسألة في باب حد الخمر وجزم بالتخريج ولم ينقل خلافه فقال: ولو احتيج في قطع اليد ¬

_ (¬1) في جـ: وتتصور. (¬2) في جـ: بما.

المتآكلة -نعوذ بالله- إلى ما يزيل عقله من غير الأشربة كالبنج خرج ذلك على الخلاف في التداوي بالخمر هذه عبارته، فإذا كان يمتنع هذا عند من يمنع التداوي بالمسكر مع كونه مقطوعًا بحصول المطلوب منه وهو زوال العقل المخفف للألم فلأن يمتنع في ما عداه من المظنونات بطريق الأولى، وقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على الجواز ولم يلحقه بالتداوي بالخمر فقال في باب طلاق السكران ما نصه: ولو شرب بنجًا أو حريفًا أو مرقدًا ليعالج به من مرض فأذهب عقله فطلق لم يلزمه الطلاق من قبل أنه ليس في شيء من هذا أن يضربهم على شربه في كتاب ولا سنة ولا إجماع، فإذا كان هذا هكذا كان جائزًا أن يؤخذ الشيء منه للمنفعة هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته، ويتضح به بطلان ما ذكره الرافعي هناك، ولم يتعرض في "الروضة" هنا لما ذكره الرافعي من الترديد في التخريج واقتصر على عدم وقوع الطلاق، وذكر هناك ما ذكره الرافعي ثم اعترض عليه فقال: الأصح هنا الجواز، وقد سبق في مسائل طلاق السكران ومن زال عقله ما يقتضي الجزم به، ولو احتاج إلى دواء يزيل العقل لغرض صحيح جاز تناوله قطعًا كما سبق هناك والله أعلم. هذه عبارته، وهو عجيب من وجهين: أحدهما: أنه يناقض بعضه بعضًا فإنه أثبت الخلاف أولًا ونفاه آخرًا. الثاني: في دعواه الجزم به هناك، وسببه أنه يختصر فيتصرف ثم ينسى فيستدرك. قوله: فإذا تعدى بشرب الخمر فسكر فقولان. أصحهما: يقع طلاقه. والأظهر على ما ذكره الحليمي وغيره: أن القولين جاريان في الأقوال والأفعال، قال الإمام: لكن شارب الخمر يعتريه ثلاثة أحوال: أحدها: هزة ونشاط يأخذه إذا ذيب الخمر فيه ولم يستول عليه بعد ولا يزول العقل

في هذه الحالة وربما احتد. والثانية: نهاية السكر وهو أن يصير طافحًا ويسقط كالمغشي عليه لا يتكلم ولا يكاد يتحرك. والثالثة: حالة متوسطة بينهما، وهو أن تختلط أحواله ولا تنتظم أقواله وأفعاله ويبقي تمييز وفهم [كلام] (¬1)، فهذه الثالثة سكر وفي نفوذ الطلاق فيها الخلاف المذكور، وأما الحالة الأولى فينفذ طلاقه فيها بلا خلاف لبقاء العقل وانتظام القصد [والكلام] (¬2). وأما الحالة الثانية: فالأصح عند الإمام والغزالي أنه لا ينفذ طلاقه؛ إذ لا قصد له، ولفظه كلفظ النائم، ومن الأصحاب من جعله على الخلاف لتعديه بالسبب إلى هذه الحالة، وهذا أوفق لإطلاق الأكثرين. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تنفيذ تصرفه على القول بصحته محله إذا لم يتوقف على نظر فأما إذا توقف عليه بأن كان نائبًا فيه من غيره كتصرف الوكيل والولى والإمام وكذا الوصى إن قلنا: لا ينعزل بالفسق، ففي نفوذه وجهان حكاهما الرافعي في النكاح في الفصل المعقود لسوالب الولاية في الكلام على ولاية السكران وتقدم ذكر لفظه هناك، وأسقطه النووي من "الروضة". الأمر الثاني: أن ما ذكره في القسم الثاني من ترجيح جريان الخلاف قد جزم بعكسه في النكاح في الموضع المذكور وهو غريب، وقد أسلفنا هناك لفظه فراجعه ووقع الموضعان في "الروضة" على هذا التناقض. والطافح بالفاء والحاء المهملة، قال الجوهرى هو الذي ملأه الشراب. ¬

_ (¬1) في الأصول: وكلام، والمثبت من الروضة. (¬2) سقط من جـ.

الركن الرابع: المحل

الركن الرابع: المحل قوله: وحكى الحناطي قولًا ضعيفًا في الشعر أنه لا يقع به الطلاق كما لا ينقض الوضوء، ولا شك في اطراده في السِّن والظفر. انتهى. وبين المسألتين فرق ظاهر ذكره في "الروضة" وهو أن اتصال السن آكد من الشعر، قال: وأما اشتراكهما في نقض الوضوء وعدمه فلعدم الإحساس أو لأنهما جزءان فأشبها اليد. قوله: وفي الشحم تردد للإمام -رحمه الله- وميله إلى أنه لا يقع الطلاق، والأقرب وقوعه لأنه جزء من البدن وبه قوامه، ولأن الشحم كالسمن ولو قال: سمنك طالق يقع الطلاق. انتهى كلامه. واعلم أن السمن معنى من المعاني كالحسن والملاحة وإذا أضاف الطلاق إلى المعاني لا يقع الطلاق، وحينئذ فما ذكره الرافعي هنا غير مستقيم ولأجل ما ذكرناه اختلفت نسخ الرافعي اختلافًا كبيرًا ففي كثير منها ما ذكرناه وهو الموجود في "الشرح الصغير" أيضًا، وفي بعضها سمين بزيادة الياء وهو جيد، وفي بعضها لم يقع بزيادة لم وهو عكس مقصود الرافعي؛ فإنه يعلل الوقوع لا عدمه، وصرح في بعضها بجعله علة لعدم الوقوع فقال: ووجه المنع أن الشحم كالسمن ولو قال: سمنك طالق لم يقع. هذه عبارته، وقد ذكر المسألة في "الروضة" على الصواب فجزم بعدم الوقوع فقال: ولو أضاف إلى الشحم طلقت على الأصح وإلى معنى قائم بالذات كالسمن والحسن إلى أن قال: لم تطلق، غير أن الرافعي لم يحك في الشحم إلا ترددًا للإمام، ولم يصرح بما صرح به في "الروضة" من حكاية الوجهين. قوله في أصل "الروضة": ولو أضاف إلى الدم طلقت على المذهب. انتهى.

هذا الكلام يؤخذ منه حكاية طريقين في المسألة، وأما كون الأصح طريقة الوجهين أو القطع فلا؛ إذ لا اصطلاح له فيه مع أن الرافعي قد ذكره وصحح طريقة الوجهين. قوله: [ولأن] (¬1) لو قال: أنت طالق نصف طلقة تقع طلقة ويجعل النصف عبارة عن الكل، ولا يمكن أن يقال: يقع النصف ثم يسرى عليه، فكذلك هاهنا أي في طلاق العضو. انتهى كلامه. وهذا الذي ادعاه من عدم إمكان السراية غريب، بل هو ممكن ومذهوب إليه، وقد صرح هو به في الباب الذي بعد هذا في أول القسم الثاني من الفصل الثالث فقال: وذكر الإمام -رحمه الله- أن وقوع الطلاق ببعض الطلقة على سبيل التعبير بالبعض عن الكل، ولا يتخيل هنا مجئ السراية في قوله: نصفك طالق ولكن لا يظهر بينهما فرق محقق، وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره أنه يجوز أن يكون ذلك بطريق السراية ويجوز أن يلغى قوله: نصف طلقة، ويعمل قوله: أنت طالق. هذا كلامه ومقتضاه رجحان كونه بطريق السراية، ووقع الموضعان في "الروضة" كذلك ولا ذكر للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر" وقد استفدنا من المذكور هناك ثلاث تنزيلات: أما السراية أو التعبير بالبعض عن الكل، أو إيقاع طلقة كاملة بلفظ حقيقي وللخلاف فائدتان: إحداهما: إذا قال: أنت طالق ثلاث طلقات إلا نصف طلقة، فإن جعلناه من باب السراية أوقعنا هاهنا ثلاثًا؛ لأن السراية في الإيقاع لا في الرفع، وإلا لم يكن بعض الطلقة موقعًا للطلاق. الفائدة الثانية: إذا قالت المرأة: طلقني طلقة على ألف فطلقها نصف طلقة، وقد تقدمت المسألة في الخلع لأمر مهم فراجعها. ¬

_ (¬1) في جـ: وأنه.

قوله: ومنها قال المتولي: إن القول بعدم الطلاق في ما إذا قال القائل: حسنك أو بياضك طالق، مبني على القول بالسراية؛ لأنه لا يمكن وقوع الطلاق على الصفات، أما إذا جعلنا البعض عبارة عن الجملة فتجعل الصفة عبارة عن الموصوف. انتهى. قال في "الروضة": هذا الذي قاله المتولى ضعيف مخالف للدليل ولإطلاق الأصحاب. قوله: لو أضاف العتق إلى يد عبده أو رأسه ففيه الوجهان المتقدمان في أنه من باب السراية أو من باب التعبير بالبعض عن الكل، فإن أضافه إلى جزء شائع قال الإمام: المذهب تقدير السراية؛ لأن العبد يمكن تبعيض العتق فيه ووقوعه عليه بخلاف الطلاق، وقيل: فيه الوجهان؛ لأن إعتاقه بعض عبده غير متصور. انتهى. قد أعاد المسألتين في أوائل العتق، فأما المسألة الأولى فحاصل ما ذكره فيها طريقان: أحدهما: القطع بأنه من باب التعبير بالبعض عن الكل حتى يقع دفعة واحدة. والثاني: على وجهين [وأما المسألة الثانية فحكى فيها وجهين] (¬1) ولم يذكر الطريق التي نقل عن الإمام تصحيحها، ولم يخالفه فيها، وأما ما ادعاه من عدم التصور وأقره عليه فليس كذلك، بل يتصور فيما إذا أعتق عبده المرهون وهو موسر بقيمة بعضه، وقلنا بالأظهر: أنه ينفذ عتق الموسر، وكذلك إذا رهن بعض عبد وكان موسرًا بقيمة الباقي الذي ليس بمرهون، ثم أعتق ذلك البعض وهو غير المرهون. قوله: ولو فصلت أذنها ثم ألصقت فالتحمت أو سقطت شعرة ثم نبتت في موضع آخر ونمت فأضاف الطلاق إليها لم تطلق المرأة على الأصح. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الركن الخامس: الولاية على المحل

وقوله في موضع آخر تبع فيه الغزالي: وليس هو شرطًا فلو نبتت في موضعها كان كذلك، ثم إن مسألة الشعرة قل أن توجد في غير "الوسيط" بخلاف مسألة الأذن فإنها مشهورة بالوجهين، لكن أنكر إمام الحرمين تصورها في العادة ولا امتناع في ذلك، وقد نبه عليه في "الروضة". قوله: ولو قال لزوجته: أنا منك طالق ونوى إيقاع الطلاق عليها طلقت، وإن لم ينو إيقاعه عليها فالصحيح وبه أجاب الجمهور: أنها لا تطلق، وقيل: تطلق، فعلى هذا لابد من نية أصل الطلاق؛ لأن اللفظ كناية لكونه أضيف إلى غير محله، وعلى الأول فمتى نوى إيقاعه عليها كان ناويًا أصل الطلاق، ولو جرد اللفظ إلى تطليق نفسه، ولم يقتصر على نية أصل الطلاق لم يقع طلاقه، وقيل: على الوجهين. انتهى كلامه. واعلم أن هذا العمل جميعه ينتظم بدون تقييد المسألة بقوله منك، وحينئذ فلا يكون ذلك شرطًا في المسألة على خلاف ما يوهمه كلام الرافعي و"الروضة" ولأجل ما ذكرناه حذف الدارمي في "الاستذكار" هذا القيد وحينئذ فإذا كانت له زوجة واحدة وقصد طلاقه منها فلا كلام، وإن كانت له زوجات وقصد طلاق واحدة منهن وقع على واحدة وتعين. الركن الخامس: الولاية على المحل قوله: وإن علق بفعلها فإن لم يكن لها منه بد كالنوم والقيام والقعود والأكل والشرب والطهارة ففار. انتهى. قال في "الروضة": وهذا في الأكل الذي تحتاج إليه فإن أكلت متلذذة أكلًا يضرها فليس بفار قاله الإمام. انتهى كلامه. وقد ذكر الإمام أقسامًا أخرى أهمل النووي التصريح ببعضها فقال: أما الضرورة فلا يرعاها، وإذا أكلت أكلًا عدمه يضرها فليست مختارة، وإن تلذذت بالطعام وهو يضرها فيجعلها كالمختارة، وإن تلذذت والأكل ينفعها فيجوز أن يلحق بجنس الطعام فإن الفصل بين هذه المراتب عسر

ويجوز أن تجعل كالمختارة، والذي أراه التعويل في هذا على ظنها وإن كان في نفس الأمر خلاف ذلك فإن ظنت أن ذلك لا يضر فليست مختارة وإن ظنت أنه يضر فهى مختارة. قوله: ولو فسخ النكاح بعينها أولًا عنها، وكان القذف في المرض فليس بفار على الصحيح. انتهى. وما ذكره من تخصيص الخلاف فيما إذا كان القذف في المرض ليس كذلك، بل نقل ابن الرفعة فيما إذا كان القذف في الصحة أيضًا وجهين وفيما إذا كان في المرض ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان هناك ولد أو لم يكن، ولكن طلبت فلا إرث، وإن لم تطلب ولا نسب فترث، وحكى الماوردي في اللعان أوجهًا، ثالثها: إن كان القذف في الصحة لم ترث وإلا ورثت. قوله في "الروضة": قلت: المبتوتة إنما ترث المبتوتة زوجها على القديم ثم إذا أنشأ بتحرير طلاق لزوجته الوارثة بغير رضاها في مرض مخوف واتصل به الموت ومات بسببه في ذلك المرض. انتهى. وتقييده بالإنشاء يرد عليه ما ذكره قبل ذلك أنه إذا علق طلاقها بشئ لابد لها منه كالأكل والشرب ففعلت فإنه يكون فارًا. مع أنه ليس بتنجيز. وقوله: زوجته الوارثة بغير رضاها لابد فيه من زيادة قيد العلم وإلا يخرج عنه من طلق زوجته الأمة بعد عتقها وقبل علمه فإنه لا يكون فارًا مع صدق الحد عليه، وكذلك طلاق الذمية قبل العلم بإسلامها بعد إسلامها كطلاق الأمة بعد عتقها. قوله: ولو أبان المسلمة في المرض فارتدت وعادت إلى الإسلام في العدة ورثت؛ لأنها بصفة الوارثين يوم الطلاق ويوم الموت وكذا لو عادت بعد انقضاء العدة إن قلنا: إن المبتوتة ترث بعد انقضاء العدة. انتهى كلامه.

وهذا الذي جزم به من كونها ترث تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو خلاف ما نص عليه الشافعي في "الأم" فإنه قال في باب طلاق المريض تفريعًا على أن الفار يورث منه ما نصه: ولو طلقها ثلاثًا وهو مريض ثم ارتدت عن الإسلام ثم عادت إليه، ثم مات ولم يصح لم [ترثه] (¬1) لأنها أخرجت نفسها من الميراث. هذا لفظه، فجزم بأنها لا ترث وإن عادت قبل الموت وبينه وبين كلام الرافعي تباين فاحش. قوله: ولو طلق الأمة في المرض وعتقت واختلفا فقالت: طلقني بعد العتق فأرث وقال الوارث: بل قبله فلا إرث فالقول قول الوارث بيمينه لأن الأصل بقاء الرق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصل بقاء الزوجية كما أن الأصل بقاء الرق، وحينئذ فيتعارض أصلان، وقد نقله الدارمي في "الاستذكار" عن ابن المرزبان بأن المرأة تحلف وعلى الورثة البينة. الثاني: أنه لم يتعرض لهما إذا اختلفا في تقدم الإسلام وتأخره عن الطلاق، وقد ذكرها الدارمي أيضًا وقال: إن المرأه تحلف، وحكى عن الربيع قولًا آخر أن القول قول الورثة. قوله: ولو أقر في المرض بأنه أبانها في الصحة فلا يجعل فارًا ويصدق في ما يقوله [وتحسب] (¬2) العدة يومئذ، وفيه وجه للتهمة. انتهى. وتعبيره بيومئذ تبعه عليه في "الروضة" والمراد به يوم الحكم بالوقوع لا يوم الإقرار كذا صرح به الرافعي في [أوائل] (¬3) باب تعليق الطلاق في الكلام على ما إذا قال: أنت طالق أمس فتفطن له فإن المسألة قل من نقلها في بابها. ¬

_ (¬1) في جـ: ترث منه. (¬2) في جـ: وتجب. (¬3) سقط من جـ.

الباب الثالث في تعدد الطلاق

الباب الثالث في تعدد الطلاق قوله: روى أن ركانة بن عبد يزيد أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "آلله ما أردت إلا واحدة؟ " [فقال: والله ما أردت إلا واحدة] (¬1) فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2). انتهى. ورُكانة براء مهملة مضمومة وبالنون بعد الألف وهو مأخوذ من الوقار بمعنى السكينة، يقال منه: ركن بالضم ركانة فهو ركين، وهذا الحديث رواه الشافعي وأبو داود والدارقطني، وقال أبو داوود: إنه حديث صحيح إلا أنهم إنما رووه بواو القسم مع لفظ الله في المرات الثلاث. نعم رواه البيهقي بتكراره مرتين فقط بلا واو ولفظه: "فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فقال: "ما نويت بذلك؟ " فقال واحدة، قال: "آلله؟ " فقال: آلله، قال: "فهو ما أردت" (¬3). وقد ذكر الرافعي الحديث في كتاب الأيمان عاريًا عن الواو. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (2206) والترمذي (1177) وابن ماجه (2051) والدارمي (2272) وابن حبان (4274) والحاكم (2807) والشافعي (740) والدارقطني (4/ 33) والطبراني في "الكبير" (4613) وأبو يعلى (1537) وسعيد بن منصور (1671). قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب. وقال ابن عبد البر: ضعفوه. وقال الألباني: ضعيف. (¬3) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 181) حديث (20515).

قوله: ولو قال: أنت طالق واحدة بالنصب ونوى طلقتين أو ثلاثًا ففيه وجوه: أصحها عند الغزالي: وقوع واحدة؛ لأن الملفوظ مناقض للمنوى والنية وحدها لا تعمل. وأصحها عند صاحب "التهذيب" وغيره: وقوع المنوي ويكون المراد بقوله واحدة أنك تتوحدين مني بالعدد الذي أوقعته. والثالث: ويحكى عن اختيار القفال أنه إن بسط نية الثلاث على جميع اللفظ لم تقع الثلاث، وإن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق وقع الثلاث ولغى ذكر الواحدة. انتهى ملخصًا. ذكر في "الشرح الصغير" نحوه أيضًا وحاصله رجحان وقوع المنوى، وصرح بتصحيحه في "الروضة" وكلامه في "المحرر" يشعر برجحان وقوع الواحدة، فإنه قال: فيه وجهان رجح منهما الثاني يعني الواحدة وصرح النووي في "المنهاج" بتصحيحه فوقع في صريح التناقض. قوله: ولو قال أنت طالق واحدة بالرفع فهذا إتباع الصفة للصفة وهو على ما ذكر في "النهاية" مبني على ما إذا قال: أنت واحدة بخلاف الطلاق ونوى الثلاث وفيه وجهان: أصحهما: وقوع ما نواه حملًا للتوحيد على التوحيد والتفرد عن الزوج. والثاني: المنع لأن السابق إلى الفهم من قوله: أنت واحدة أنك طالق بواحدة ولفظ الواحدة ينافي الثلاث. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى التعليل المذكور للوجهين أنه لا فرق في واحدة بين الرفع والنصب والجر والسكون، ويكون التقدير في الجر أنت ذات واحدة أو متصفة بواحدة أو يكون المتكلم لاحنًا واللحن لا يمنع الحكم

عندنا. الأمر الثاني: أنه ليس المراد من الصفة والإيقاع في كلام الرافعي هو المعنى المعروف عند النحاة، وإنما المراد ذكر الخبر بعد الخبر؛ لأن الخبر في المعنى صفة وكل شيء أتى عقب شيء كان تابعًا له. واعلم أن ما نقله الرافعي عن الإمام فقط، قد جزم به في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في "الروضة". قوله: ولو قال أنت طالق عدد التراب قال الإمام: تقع واحدة، وقال البغوي: عندي تقع الثلاث كما لو قال عدد أنواع التراب. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف من غير ترجيح ولا شك أن المسألة متوفقة على أن التراب جمع أم لا؟ وفيها خلاف مشهور قد حكاه النووي في "تهذيب الأسماء" وفي غيره، ونقل عن المبرد أنه جمع واحده ترابة ومنه قول الشاعر (¬1): ثم قالوا تحبها قلت بهرًا ... عدد الرمل والحصا والتراب وبهرًا بباء موحدة مفتوحة ثم هاء ساكنة أي عجبًا قاله الجوهري. فعلى هذا يقع الثلاث، ونقل عن الجمهور أنه اسم جنس فعلى هذا يتجه وقوع واحدة وهو قريب مما إذا قال: أنت طالق بعدد شعر إبليس والمرجح كما قاله النووي في باب الشك في الطلاق وقوع واحدة. قوله: ولو قال: أنت طالق إن لم أو أنت طالق إن، قال إسماعيل البوشنجي: ينظر إن قصد الاستثناء أو التعليق فلم يتمه فلا أرى أن يقع طلاقه ويصدق إذا فسر به للقرينة الظاهرة، وإن لم يقصد الاستثناء ولا التعليق وقع، لأنه لو أتى بالاستثناء بلا نية لم ينفع فهاهنا أولى. انتهى. ¬

_ (¬1) هو أبو الخطاب، عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، المخزومي، القرشي، أرق شعراء عصره، من طبقة جرير والفرزدق، ولم يكن في قريش أشعر منه ولد في الليلة التي توفي فيها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسمى باسمه، وتوفي سنة 93 هـ.

فيه أمران: أحدهما: ما ذكره نقلًا عن البوشنجي وأقره من عدم وقوع الطلاق عند قصد الاستثناء أو التعليق قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" لكنهما ذكرا في أوائل الشرط في الطلاق ما حاصله وقوع الطلاق إلا إذا كان معه قرينة أخرى بأن قام إلى شخص وسد ومنعه من الكلام، وستعرف لفظه هناك إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أنه سكت عما إذا تعذر مراجعته بموت أو غيره والقياس فيه عدم وقوع الطلاق؛ لأن الصيغة بوضعها للتعليق وكانت مرجحة لإرادته بل لو استوى الأمران لترجح أيضًا عدم الوقوع مراعاة للأصل. واعلم أن الرافعي قد ذكر هذه المسألة أيضًا في أوائل القضاء في الكلام على المفتي والمستفتي في ضمن حكاية ولم يذكر لها جوابًا وسأشير إليها في موضعها إن شاء الله تعالى. قوله: ولو قال لمدخول بها [أنت طالق] (¬1) أنت طالق أي بالتكرار فإن قصد التأكيد قبل ولم يقع إلا واحدة وإن قصد الاستئناف وقع طلقتان، وكذا إن أطلق في أظهر القولين، ولو كرر طالقًا فقط فقال: أنت طالق طالق فقال القاضي حسين: يقع عند الإطلاق طلقة قطعًا، وقال الجمهور: لا فرق بين اللفظين. انتهى كلامه. وما نقله عن الجمهور من أنه لا فرق بين الأمرين حتى يقع عليه طلقتان عند الإطلاق قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه قد خالف ذلك في باب تعديد الطلاق في آخر النوع الثاني من الطرف الثالث فجزم بأنه لا يقع عند تكرار طالق فقط إلا واحدة. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الثاني: أن محله ما إذا أتى باللفظ المكرر وهو طالق مرفوعًا سواء ذكر بعده شيئًا آخر كقوله مثلًا: أنت طالق طالق فاخرجي أم لم يذكره، وإن كان لحنًا، لكونه وقفًا على متحرك، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه قد ذكر في باب تعليق الطلاق قبيل الفصل الثالث المعقود للحمل والولادة فرعًا حاصله ما ذكرناه فقال: إذا قال: أنت طالق طالقًا أى بالنصب قال أبو عاصم العبادي: لا يقع في الحال شيء لكنه إذا طلقها وقع طلقتان والتقدير إذا صرت مطلقة فأنت طالق وهذا في المدخول بها هذا كلامه، وهو واضح وإن كان فيه شيء آخر يأتي ذكره في موضعه، فإذا تقرر أن المنصوب لا يقع به إلا واحدة وجب حمل الساكن عليه لاحتمال أن يكون عن نصب وأن يكون على رفع فنأخذ بالمتيقن. واعلم أنه لا فرق في ما ذكره الرافعي هناك بين أن يكون المنصوب هو الأول أو الثاني. نعم إن نصبهما معًا أو جرهما أو جر أحدهما مع نصب الأخر أو رفعه فالقياس في الجميع إلحاقه بالساكن أيضًا فتأمله. قوله: قال لها قبل الدخول: أنت طالق وطالق أو فطالق، أو أنت طالق أنت طالق وقعت واحدة؛ لأنها تبين بالأولى، وحكى وجه وقول قديم أنه كما لو قال ذلك لمدخول بها لأنه كلام واحد فأشبه قوله لها: أنت طالق ثلاثًا، والمذهب الأول؛ لأن قوله ثلاثًا بيان للأول بخلاف هذه الألفاظ. انتهى. وما جزم به هاهنا من وقوع الثلاث باللفظ الأول والثلاث مبينة له قد تقدم في أول الباب ما يوافقه فقال: لو أراد أن يقول لها: أنت طالق ثلاثًا فماتت بعد تمام قوله: أنت طالق وقبل قوله ثلاثًا فهل تقع الثلاث أم واحدة أم لا يقع شيء؟ ثلاثة أوجه قال البغوي أصحها: الأول: وهو اختيار المزني.

وقال البوشنجي: الذي تقتضيه الفتوى أنه إن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق فكان قصده أن تحققه باللفظ وقع الثلاث وإلا فواحدة، وهكذا ذكر المتولى في تعبيره عن الوجه الأول. انتهى. ثم صحح بعد ذلك ما يخالف الموضعين معًا فقال بعد الموضع الأول بنحو ورقة: ولو قال: أنت طالق ثلاثًا، فالصحيح وقوع ثلاث عند فراغه من قوله ثلاثًا وقيل: نتبين بالفراغ وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق هذا كلامه. قوله في المسألة: قال الإمام: وقياس من قال: تقع طلقة إذا أراد أن يقول: أنت طالق ثلاثًا فماتت المرأة قبل قوله ثلاثًا أن تقع هنا طلقة بقوله أنت طالق وتتم الثلاث بقوله ثلاثًا لكنه ضعيف، لأنه لا خلاف أنه لو قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثًا وقع الثلاث، وذلك يدل على أنها لا تقع مرتبة. انتهى كلامه. وهذا الاستدلال تبعه عليه في "الروضة" وهو ذهول فقد سبق في ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق أنه تقع طلقتان في وجه للأصحاب وقول الشافعي وعللوه بأنه كلام واحد وهذا بعينه موجود في مسألتنا بل أولى. قوله: قال لمدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق أو قال: أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت فدخلت وقع الثلاث. انتهى. وما ذكره في القسم الثاني وهو تأخير الشرط قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو يقتضي عود الشرط إلى الجمل المتقدمة عليه وصرح به أيضًا في باب تعليق الطلاق قبيل الفصل الثالث المعقود للتعليق بالحمل والولادة. إذا علمت ذلك فقد ذكر في بابنا هذا، وهو تعدد الطلاق بعد الوضع الأول بنحو ورقة ما يخالفه فقال: ولو قال للمدخول بها: أنت طالق

واحدة بل ثلاثًا إن دخلت، فوجهان أصحهما وبه قال ابن الحداد: تقع واحدة بقوله: أنت طالق، وتتعلق طلقتان بدخول الدار. والثاني: تتعلق الثلاث بالدخول، هذا كلامه، والأصحاب لم يفصلوا في حروف العطف بين بل وبين غيرها. نعم للإمام طريقة في ثم وحدها سبق إيضاحها في الوقف. قوله في غير المدخول بها: ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فوجهان: أحدهما: لا تقع إلا واحدة كما لو قال في التخيير: أنت طالق وطالق وطالق لا تقع إلا واحدة. وأقر بهما: وقوع الطلاق وإن قدم الجزاء فقال: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار فطريقان أحدهما أنه على الوجهين المذكورين فيما لو أخر الجزاء. والثاني: وهو الذي أورده في "التهذيب" القطع بوقوع الثلاث، لأنها جميعًا تعلقت بالدخول وفيما إذا تقدم الشرط أمكن أن يقال: إن المعلق بالدخول الطلقة الأولى وحدها والأخريان معطوفتان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه مخالف لما ذكره في الاستثناء فإنه [قال: ] (¬1) لو قال: أنت طالق واحدة وثلاثًا إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الأخيرة وتقع الواحدة، وقياسه هنا أن تقع واحدة منجزة فيما إذا قدم أنت طالق ولم يقولوا به هاهنا. الأمر الثاني: أن ما ذكره من التعليل المذكور أن يمشي في هذه الصورة فلا يمشي في قوله: أنت طالق وأنت طالق إن دخلت الدار. قوله: ولو كرر فقال: إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

طالق إن دخلت الدار فأنت طالق، إن قصد التأكيد لم يقع بالدخول إلا طلقة وإن قصد الاستئناف وقع الثلاث، وإن أطلق ففي "التتمة" أنه يحمل على التأكيد إذا لم يقع فصل أو وقع ولكن اتحد المجلس، وإن اختلف فيحمل على التأكيد أو الاستئناف؟ فيه وجهان وإذا حمل على التأكيد فتقع عند الدخول طلقة أو طلقتان؟ فيه وجهان بناء على ما إذا حنث بفعل واحد في يمينين تلزمه الكفارة أو كفارتان؟ انتهى كلامه. وفيه غلط من وجهين تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: ما ذكره آخرًا من أن الوجهين في ما يقع عند الدخول هل هو طلقة أو طلقتان مفرعان على قولنا بالتأكيد، بل الصواب تفريعهما على قولنا بالاستئناف، فإن المجزوم به في المذهب، وقد ذكره هو -أعني الرافعي- في باب الإيلاء أن الإيمان إذا تكررت فإن حكمنا باتحادها وجبت كفارة واحدة، وإن حكمنا بالتعدد كما إذا قصد الاستئناف فقولان: أظهرهما عند الجمهور: كفارة واحدة أيضًا فتفطن له واستحضره، وقد ذكره أيضًا في "التتمة" هنا على الصواب، فقال: إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق طالق، إن دخلت الدار فأنت طالق، موصولًا بالكلمة فإن أراد بالثانية يمينًا أخرى لزمه أو التأكيد قبل، وإن أطلق حمل على التوكيد وكذا لو فصل بين الكلمتين واتحد المجلس فإن للمجلس تأثيرًا في ضم الكلام بعضه إلى بعض وتكرير اليمين معتاد، وإن اختلف المجلس فوجهان أحدهما: يحمل إطلاقه على التأكيد والثاني: يجعل يمينًا أخرى وكل موضع قلنا بتعدد اليمين، فهل يقع بالدخول طلقة أو طلقتان؟ فيه وجهان مبنيان على ما لو حنث بفعل واحد في يمينين هذا كلام المتولى، وقد حكى الرافعي في باب الإيلاء وجهًا أنه لا تقبل إرادة التأكيد إذا طال الفصل، قال: ويجئ مثله في تكرير تعليق الطلاق وقد وقع هذا الموضع في بعض نسخ الرافعي على الصواب.

الأمر الثاني: في تعبيره بقوله طلقة أو طلقتان، وصوابه أن يقول أو ثلاث لأنه فرض الكلام مع التعليق ثلاث مرات، وسبب غلطه في هذا أن المتولى فرضه في التعليق مرتين فلما صور هو المسألة في الثلاثة ثم انتهى إلى ما حكاه عن "التتمة" حكاه عنه على ما وجده فيها وهو التعليق مرتين، وغفل عن ما فرضه هو من التصوير فلزم الخطأ في التعبير. الأمر الثالث: أنه إذا حصل الفصل كيف يستقيم حمله على التأكيد؟ سيما إذا تعدد المجلس وقد تقرر أن الفصل اليسير لا يفتقر في ألفاظ التأكيد واعلم أن في كلام الرافعي أيضًا إشكالًا من وجهين آخرين: أحدهما: في تفرقته بين تعدد يمين الطلاق ويمين الكفارة فيقال له: لم جزمت في يمين الطلاق بتعدده عند إرادة الاستئناف وصححت في الأيمان والحالة هذه اتحاد الكفارة مع أن التعليق المذكور أيضًا يمين؟ ولهذا قالوا اليمين إما حنث أو منع أو تصديق. ثانيهما: إذا حملنا الإطلاق على الاستئناف فقد سوى بينهما في الأيمان ولم يسو بينهما هاهنا، فإنه جزم بالتعدد عند الاستئناف، وحكى خلافًا في التعدد عند حمل الإطلاق عليه، هذا مع أن المتولى قد سوى بينهما في الكلام الذي نقله عنه فراجعه، ومن العجب إهمال الرافعي له مع نقله لبعض كلامه. قوله: ولو قال لغير المدخول بها: أنت طالق خمسًا، أو قال: إحدى عشر وقع الثلاث، ولو قال لها: واحدة ومائة لم تقع إلا واحدة، ولو قال: إحدى وعشرين فهل تقع الثلاث أم واحدة؟ وجهان لترددهما بين الصورتين. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" أنه تقع واحدة لأنه معطوف كقوله: واحدة ومائة.

قال: وبخلاف إحدى عشرة فإنه مركب فهو بمعني المفرد، والمسألة مشبهة بالإقرار والأصح فيه أن إحدى وعشرين درهمًا ونحوها كخمسة وعشرين تلحق بإحدى عشر حتي يكون الكل دراهم لا بألف وثوب ونحو ذلك كثوب وألف، وذلك لأن المعلوم أن الطلاق جنس واحد فلا حاجة إلى الجمع في الإيقاع بخلاف الإقرار فإنا محتاجون فيه إلى التفسير فجعلنا تفسير المعطوف تفسيرًا للمعطوف عليه. قوله: ولو قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث فقيل ثلاث، وصححه صاحب "التهذيب"، وقيل طلقتان، وقيل طلقة. انتهى. هذه المسائل لها نظائر اختلف فيها كلامهم، وقد سبق الكلام عليها واضحًا في باب الضمان فراجعه. قوله: ثم فيه صور أخرى إحداها: لو زاد في الأجزاء فقال أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة أو أربعة أثلاث طلقة وقع طلقتان على الأصح، وقيل طلقة وقيل ثلاث طلقات حكاه الحناطي -وعلى هذا القياس قوله خمسة أرباع طلقة أو نصف وثلثي طلقة. انتهى. وهذا الخلاف في ما إذا زادت الأجزاء على طلقة ولم تجاوز طلقتين فإن جاوزت كقوله خمسة أنصاف وأشباهه كان الخلاف في أنه تقع طلقة أو ثلاث؟ كذا ذكره الإمام وغيره وذكره أيضًا النووي من زوائده وهو واضح. قوله: ولو قال أنت طالق نصفي طلقة أو ربعي طلقة [أو ثلثي طلقة] (¬1) لم تقع إلا واحدة إلا أن يزيد نصفًا من طلقة ونصفًا من أخرى، وأشار في "الوسيط" إلى خلاف فقال: الصحيح أنه تقع طلقة والكتب ساكتة عن حكاية الخلاف، لكنه جار على قياس ما نقله الحناطي في المسألة السابقة. انتهى. فيه أمران: ¬

_ (¬1) سقط من ب.

أحدهما: أن هذه المسألة ليست نظير تلك فإن الطلقة الواحدة يستحيل أن تكون لها ثلاثة أنصاف فكان ذلك قرينة على إرادة نصف من كل طلقة بخلاف ما يجيء فيه. الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر في "الروضة" أن هذا الوجه منقول عن شرح "المفتاح". قوله: ولو قال أنت طالق نصف طلقة [في نصف طلقة] (¬1) فطلقة واحدة سواء أراد الطرف أو الحساب أو المعية، أو لم يقصد شيئًا. انتهى. والقياس وقوع طلقتين فيما إذا قصد المعية لأن التقدير أن طالق نصف طلقة مع نصف طلقة، وهو لو صرح بهذا كان كما لو قال نصف طلقة ونصف طلقة. قوله: ولو لم يدخل الواو فيها فقال أنت طالق ثلث طلقة ربع طلقة سدس طلقة لم تقع إلا واحدة، لأنه إذا لم يدخل الواو تصير كالجملة الواحدة، ثم قال ما نصه: ولهذا لو قال أنت طالق طالق لم تقع إلا واحدة، ولو قال أنت طالق وطالق وقعت طلقتان. انتهى كلامه. وهذا الاستشهاد الذي ذكره وهو وقوع الطلقة الواحدة عند التكرار بدون الواو هو وجه ضعيف والصحيح التعدد كذا صرح به قبل ذلك في أوائل الفصل الثاني فقال ولو قال أنت طالق أنت طالق وقصد التأكيد فواحدة، وإن قصد الاستئناف فطلقتان، وكذا إن أطلق في أصح القولين، ثم قال وإن قال أنت طالق طالق فعن القاضي الحسين القطع بأنه لا تقع عند الإطلاق إلا طلقة بخلاف قوله أنت طالق، أنت طالق والجمهور أنه لا فرق بين اللفظين. هذا كلامه. قوله: وفي "فتاوي القفال" أنه لو قال: طلقتك واحدة أو اثنتين على سبيل الإنشاء فيختار ما شاء من واحدة أو اثنتين كما لو قال أعتقت هذا أو هذين. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما ذكره من التخيير ذكر نحوه أيضًا في أوائل تعليق الطلاق قبيل الكلام على التعليق بالتطليق ونفيه فقال لو قال: أنت طالق غدًا أو عبدي حر بعد غد، قال البوشنجي: يؤمر بالتعيين فإذا عين الطلاق أو العتق تعين في اليوم الذي ذكره، وذكر قريبًا منه في آخر تعليق الطلاق عن البوشنجي أيضًا فقال: لو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر أو كلمت فلانًا فأنت طالق سألناه لنتبين أي اليمينين أراد. انتهى. والحاصل أنه يجوز أن يأتي بصيغة تقتضي التخيير في المنجز والمعلق سواء كان المعلق من نوع واحدًا أو من نوعين وإن أتى أيضًا بما يقتضي التخيير بين تعليقين مستقلين مختلفي الشرط. إذا علمت ذلك فقد ذكر في أوائل تعليق الطلاق في الكلام على التعليق على الأوقات أنه إذا قال: أنت طالق اليوم أو غدًا، فقيل يقع في الحال تغليبًا للإيقاع والصحيح أنه لا يقع إلا في الغد لأنه اليقين، قال ومثله إذا قال: غدًا أو بعد غد أو قال: إذا جاء الغد أو بعد الغد. انتهى. والصواب وهو قياس ما سبق أن يتخير أيضًا في هذه المسألة، وذكر أيضًا ما يوافق هذا الموضع في آخر الباب الأول من أبواب الطلاق وهو المعقود للأركان فقال: ولو قال أنت طالق للسنة أو للبدعة لا تطلق حتى ينتقل من الحالة التي هي فيها إلى الحالة الأخرى، لأن اليقين حينئذ كما لو قال: أنت طالق اليوم أو غدًا لا تطلق حتي يجيء الغد هذا كلامه. قوله: فرع: قال: أنت طالق عشرًا فقالت: يكفيني ثلاث فقال: البواقي لضرتك فلا يقع على الضرة شيء، لأن الزيادة على الثلاث لغو ولو قالت: يكفيني واحدة فقال: البواقي لضرتك وقع عليها ثلاث وعلى الضرة طلقتان إذا نوى ذكره البغوي. انتهى. وهذا الذي ذكره هنا عن البغوي وأقره قد نقل عن صاحبه وهو المتولى في الباب الذي قبله قبيل الفصل الثاني ما يخالفه وأقره عليه أيضًا وقد سبق ذكر لفظه هناك.

الباب الرابع في الاستثناء

الباب الرابع في الاستثناء قوله: وسكتة التنفس والعى لا تمنع الاتصال، ثم قال: ولذلك لا ينقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول بالكلام اليسير على الأصح. انتهى. وهذه المسألة -أعني الفصل بين الإيجاب والقبول بالكلام اليسير- ذكرها الرافعي في مواضع واختلف كلامه فيها وقد أوضحت ذلك كله في أوائل النكاح فراجعه. قوله في "الروضة": وهل يشترط قرن نية الاستثناء بأول اللفظ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا بل لو بدا له الاستثناء بعد تمام المستثنى منه فاستثنى حكم بصحة الاستثناء. وأصحهما وادعى أبو بكر الفارسي الإجماع عليه: أنه لا يعمل بالاستثناء حتى يتصل بأول الكلام. قلت: الأصح وجه ثالث وهو صحة الاستثناء بشرط وجود النية قبل فراغ اليمين، وإن لم يقارن أولها، والله أعلم. وهذا الذي ذكره -رحمه الله- أصلًا وزيادة صريح في أن الرافعي نقل عن الفارسي أنه يذهب إلى وجوب اقتران النية بأول اليمين حتى لا يكفي اقترانها في أثنائه وأنه حكى الإجماع على ذلك وليس الأمر فيه كما فهمه النووي، بل الذي نقل عنه الرافعي وأنه نقل فيه الإجماع إنما هو عدم الاكتفاء بوجودها بعد فراغ اليمين متصلة بأول الاستثناء، وعلله بقوله؛ لأن الاستثناء بعد الفصل ينشأ بعد لحوق الطلاق فيلغوا، بل المفهوم من كلام

الرافعي إنما هو حكاية الوجهين في ما بعد الفراغ من اليمين خاصة كما يدل عليه تعليله إلا أن في ابتداء تعبيره إيهامًا يندفع بالتأمل فإنه قال: وهل يشترط أن يكون قصد الاستثناء مقرونًا بأول الكلام؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ولو بدا له الإستثناء بعد تمام المستثنى منه فاستثنى حكم بموجبه. وأصحهما وادعى أبو بكر الفارسي الإجماع عليه: أنه لا يعمل بالاستثناء ويقع الطلاق؛ لأن الاستثناء بعد الفصل ينشأ بعد لحوق الطلاق فيلغوا، هذه عبارته، وهي كما قلناه إلا أنه عبر بأول الكلام عن المستثنى منه ويكون المستثنى هو الأخير، وهو تعبير صحيح يدل عليه التعليل إلا أنه موهم ووقع التعبير به أيضًا في كتب جماعة من أصحابنا، ثم إن النووي أبدل ألفاظًا من ألفاظ الرافعي بألفاظ مطابقة لما فهمه هو فوقع في صريح الغلط، وكلام الغزالي يبين المراد ويعين غلط النووي في فهمه هنا وكذلك إمام الحرمين فإنه قال: فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ولم يخطر له الاستثناء إلى استتمام لفظ الطلاق ثم لما تم اللفظ خطر له أن يقول على الإتصال إن شاء الله تعالى، فقال ذلك بعد، قال أبو بكر الفارسي في كتابه المترجم "بمسائل الإجماع": يقع الطلاق في هذه المسألة إجماعًا، ووافقه معظم الأصحاب في دعوى الإجماع، ومن أصحابنا من قال: لا يقدح. هذا لفظه، ذكر ذلك في باب ما يقع به الطلاق من الكلام. في فصل أوله، قال: ولو جعل لها أن تطلق نفسها، وذكر الرافعي في أوائل الباب الثالث نحوه أيضًا. نعم لو نوى في أثناء اليمين ففيه وجهان مشهوران في "التنبيه" و"المهذب" وغيرهما، أصحهما: أنه يكفي كما أشعر به كلام الرافعي وصححه النووي من زوائده، وقد حكى الرافعي هذين الوجهين في أول كتاب الأيمان فقال: لو حلف ثم بدا له أن يستثني فأتى بلفظ الاستثناء لم يعتد به وإن كان موصولًا باليمين، وإن قصد الاستثناء في خلال اليمين

واستثني على الاتصال ففيه وجهان ذكرناهما في كتاب الطلاق، وممن صحح هذا الاستثناء الداركي والقاضيان أبو الطيب والروياني، وممن لم يصححه أبو الحسن ابن المرزبان والقاضي ابن كج هذه عبارته وهو يشعر بأن المصححين أكثر وذلك ينفي إرادة الوجهين المذكورين في الحضور بعد تمام اليمين لأن الخلاف هناك ضعيف حتى ادعى أكثر الأصحاب الإجماع فيها على البطلان كما تقدم، نقله عن الإمام، وحينئذ فيتحصل من الموضعين ثلاثة أوجه، وإذا علمت ذلك كله علمت أن ما قاله الرافعي في الأيمان أن الوجهين سبقا في الطلاق غلط، فإن الوجهين غير الوجهين فسبحان من لا يتطرق إليه سهو ولا خلل. قوله: ولو قال: أنت طالق طلقتين وواحدة إلا واحدة، فعلى الأول -أي الوجه الذاهب إلى جمع المفرق- يجمع بينهما فتكون الواحدة مستثناة من الثلاث فتقع طلقتان، وعلى الثاني -أى الذي لا يجمع وهو الأصح- تكون الواحدة مستثناة من الواحدة فتقع الثلاث. انتهى. وما ذكره تفريعًا على الوجه الأول واضح، وأما الثاني فينبغي بناؤه على أن الاستثناء عقب الجمل هل يعود إليها أم إلى الأخيرة؟ فإن أعدناه إليها وقعت طلقتان وإلا ثلاثًا، ويؤيد ما قلناه أنه لو قال ثلاثًا وثلاثًا إن شاء الله كان مخرجًا عليه عند الرافعي كما سيأتي بعد هذه المسألة. قوله قال: أنت بائن إلا بائنًا ونوى بقوله أنت بائن الثلاث، قال إسماعيل البوشنجي يبني على أنه لو قال: أنت واحدة ونوى الثلاث هل تقع الثلاث اعتبارًا بالنية أم واحدة اعتبارًا باللفظ؟ فإن غلبنا اللفظ بطل الاستثناء كما لو قال: أنت طالق واحدة إلا واحدة، وإن غلبنا النية صح الاستثناء ووقع طلقتان وهذا هو الذي رجحه ونصره. انتهى كلامه. وهذا البناء الذي قاله البوشنجي ظاهر، فأما إذا غلبنا اللفظ في ما إذا

تلفظ بالواحدة ونوى الثلاث فلا تصح في مسألتنا؛ لأنه تلفظ ببائن واستثني منها بائنًا فلا يصح كاستثناء الواحدة من الواحدة، وإن غلبنا النية صح هاهنا، وقد اعترض في "الروضة" على البوشنجي اعتراضًا فاسدًا سببه أنه فهم كلامه على غير وجهه فقال: قلت: الأول غلط ظاهر فإنه لا خلاف أنه إذا قال: أنت بائن ونوى الثلاث وقع الثلاث فكيف يبنى على الخلاف في قوله: أنت واحدة هذا كلامه، وقد ظهر لك بطلانه. قوله: ولو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا طلاقًا صح الاستثناء كقوله ثلاثًا إلا طلقة، وكذا لو قال: طالق وطالق وطالق إلا طالقًا ونوى التكرار وفيه إحتمال. انتهى كلامه. والقياس في هذه المسألة وقوع ثلاث: لأن القاعدة أنه لا يجمع المفرق على الصحيح فيكون استثناء مستغرقًا كما لو قال: أنت طالق إلا طالقًا من غير تكرار، فإن قلنا أنا لا نجمع المفرق فيأتي الذي قاله الرافعي. قوله: فرع: لو قدم المستثني على المستثنى منه فقال: أنت إلا واحدة طالق ثلاثًا، حكى صاحب "المهذب" عن بعض الأصحاب أنه لا يصح الاستثناء وتقع الثلاث، لأن الاستثناء لاستدراك ما تقدم من الكلام، قال: ويحتمل عندى أنه يصح ولا تقع إلا طلقتان، واستشهد بقول الفرزدق. وما مثله في الناس إلا ملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه الملك الذي ملك الشيء يقال ملكته المال والملك وتقدير البيت وما مثله في الناس حي يقاربه إلا ملك أبو أم ذلك الملك أبو الممدوح. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية ذلك من غير ترجيح وزاد فعبر بقوله قال: وعندي ولم يذكره احتمالًا فأوهم أن الشيخ جازم به على خلاف ما في الرافعي وما في "المهذب" أيضًا، وقد ظهر لك من الاستدلال ومن المعني أنه لا فرق في تقديمه بين أن يكون في طلاق أو إقرار أو غيرهما،

وهو الأصح. إذا علمت ذلك فقد صحح الرافعي في أوائل الباب الأول من أبواب الأيمان أنه يصح التقديم فقال: ولا فرق بين التقديم والتأخير، وكذا لو قال لفلان على إلا عشرة دراهم مائة درهم، وفي هذه الصورة وجه آخر في كتاب القاضي ابن كج. هذا لفظه، وبالغ في "الروضة" فعبر بقوله وجه ضعيف، والوجهان قد رأيتهما في كتاب ابن كج في أول كتاب الأيمان ولم يرجح منهما شيئًا، وجزم الدارمي في كتاب الأيمان من "الاستذكار" بالصحة ولم يتعرض الرافعي للمسألة في كتاب الإقرار أيضًا والبعض الذي أشار إليه في "المهذب" هو الماوردي. واعلم أن الرافعي إذ تكلم على البيت لم يوضح حاله وقد أوضحه الجوهري فقال: إن الفرزدق مدح بذلك حال هشام بن عبد الملك، قال: والمعنى وما مثله في الناس حي يقارنه إلا ملك أي شخص قد ملكه الناس عليهم أبو أم ذلك الملك هو أبوه.

الفصل الثاني في التعليق [بالمشيئة] (¬1) قوله: وإذا قال: أنت طالق إن شاء الله نظر إن سبقت الكلمة إلى لسانه لتعوده بها، أو قصد التبرك بذكر الله تعالى، أو الإشارة إلى أن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى ولم يقصد تعليقًا محققًا لم يؤثر ذلك، وإن قصد التعليق حقيقة لم تطلق. انتهى. أهمل قسمًا ثالثًا وهو ما إذا أطلق، وحكمه أن الطلاق لا يقع كما سبق إيضاحه في نية الوضوء. قوله: وفي قول آخر أنه لا يؤثر الاستثناء عند قصد حقيقة التعليق، وأخذ بعضهم هذا القول من نص روى في الظهار أنه لو قال: أنت على كظهر أمي إن شاء الله يكون مظاهرًا ويلغو الاستثناء، وفرق بعضهم بأن الظهار إخبار، والإخبار عن الواقع لا يتعلق بالصفات بخلاف الإنشاء، ثم قال: وكذا يمنع الاستثناء انعقاد التعليق والعتق واليمين والنذر، وصحة العفو عن القصاص والبيع وسائر التصرفات. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي لم يتكلم على تعليق الظهار بالمشيئة في بابه واقتصر على ما ذكره فيه هاهنا، وليس فيه تصريح بحكمه إلا أن عموم الكلام الأخير قد يؤخذ منه أنه لا يصح عند التعليق كغيره من التصرفات، وقد صرح الغزالي هنا في "الوجيز" بحكم المسألة فقال: فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله لم يقع، ونص أنه لو قال: أنت على كظهر أمى إن شاء الله يكون مظاهرًا، وقد قيل ويطرد هذا القول في سائر التصرفات، هذا كلامه. وحاصله تسليم النص والعمل به، والعجب من الرافعي في عدم ¬

_ (¬1) في أ: بالتطليق ونفيه.

شرحه لهذه المسألة وكأنه توهم أنها تأتي في بابها فأهملها هنا وذكر في "الوسيط" نحوه إلا أنه قال في آخر كلامه: إن التفريع على الصحة في الجميع والصحيح أن الظهار كغيره في صحة الاستثناء، صرح به إمام الحرمين فقال: نقلوا أيضًا للشافعي أن الاستثناء فيه لا يؤثر وطرد المحققون هذا القول في جميع العقود والحلول، ثم قال ما نصه: ورام بعض الأصحاب أن يفرق بين الظهار وغيره، ولست أرى لذكر ما لا أفهمه وجهًا، والصحيح أن التعليق بالمشيئة يفسد جميع ما تقدم من [إقرار] (¬1) وإنشاء وحَلّ وعقد وطلاق وظهار. هذا لفظ الإمام بحروفه، وعجب من الغزالي في نقل كلام إمامه على غير وجهه. الأمر الثاني: أن النووي قد حذف هذه المسألة من "الروضة" لتوهمه أن الرافعي يأتي بها في بابها فلزم خلو "الروضة" عنها. الأمر الثالث: أن ما نقله الرافعي من كون الظهار إخبارًا وأقره ليس كذلك فاعرفه فقد رجح في كتاب الظهار في الكلام على ما إذا قال لأربع نسوة: أنتن على كظهر أمى أنه إنشاء وعبر بقوله الظاهر. الأمر الرابع: أن الذي نقله أيضًا وأقره من أن الإخبار لا يعلق بالمشيئة يتعلق بها مسألة مهمة نفيسة وقل من نقلها وقد ذكرها المتولى في كتاب الأيمان وصرح بأن تعليقها بالمشيئة صحيح، ويأتيك إن شاء الله تعالى في كتاب الدعاوى. قوله: قال ابن الصباغ: وكذا لو قال: إن شاء الله أنت طالق أي بحذف الفاء لم يقع، وفي هذه الصيغة وجه حكاه الحناطي. انتهى. وما نقله عن ابن الصباغ قد جزم به في أول تعليق الطلاق نقلًا عن جماعة، وفي أول الأيمان نقلًا عن القاضي أبي الطيب. ¬

_ (¬1) في ب: تقرير.

قوله في "الروضة": ولو قال: أنت طالق إن شاء الله [أو أن شاء الله] (¬1) بفتح الهمزة وقع الطلاق في الحال، وكذا لو قال [إن شاء زيد أو أن] (¬2) شاء زيد، ونقل الحناطي وجهًا في أن شاء الله أنه لا يقع، وثالثًا أنه يفرق بين عارف النحو وغيره، واختار الروياني هذا. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من أن الثالث هو في التعليق بمشيئة الله تعالى صرح به الرافعي، وحاصل هذا الكلام الجزم بالوقوع في غير مشيئة الله وتصحيحه معها -أي مع المشيئة المذكورة- سواء كان المتكلم خبيرًا باللغة أم لا وقد خالف ذلك في باب تعليق الطلاق قبيل الفصل الثالث المعقود للتعليق بالحمل والولادة وصحح من زوائده أن الطلاق مع فتح أن لا يقع عند صدوره من الجاهل وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: ولو قال: أنت طالق ثلاثًا وثلاثًا إن شاء الله، قال ابن الصباغ: الذي يقتضيه المذهب أنه لا يقع شيء، وتابعه المتولى عليه والوجه بناؤه على الخلاف السابق في أن الاستثناء بعد الجملتين ينصرف إليهما أو إلى الأخيرة، ولذلك أورده الإمام، وقد ذكرنا أن الظاهر الانصراف إلى الأخيرة [وحدها. انتهى كلامه. وما رجحه في الاستثناء عقب الجمل من عوده إلى الأخير] (¬3) فقط قد ذكر في الوقف ما يخالفه، وتبعه في "الروضة" على الموضعين وزاد فصحح في أول كتاب الأيمان أنه يعود إليهما كما في الوقف، ولفظ كل من الموضعين مذكور في بابه. واعلم أن محل هذا الخلاف ما إذا لم ينو المتكلم عود الاستثناء إلى الجملتين، فإن نوى ذلك عاد إليهما جزمًا، كذا ذكره الرافعي في أول كتاب الأيمان فتفطن له. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ، ب.

قوله في المسألة: ويوافق هذا البناء ما ذكره في "التهذيب" أنه لو قال: حفصة وعمرة طالقان إن شاء الله فيرجع الاستثناء إلى عمرة وحدها أو إليهما جميعًا؟ وجهان والأصح الأول. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن "التهذيب" غلط تبعه عليه في "الروضة" سببه انتقال نظره أو نظر الكاتب للنسخة التي وقف عليها، فإن البغوي قد قال ما نصه: ولو قال: حفصة وعمرة طالقان إن شاء الله، لا تطلق واحدة منهما، ولو قال: حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله، تطلق حفصة ولا تطلق عمرة، لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه، وقيل: يرجع إليهما والأول أصح. هذا لفظه في "التهذيب"، فسقط المتوسط كله كما قلنا وقد سلم ابن الرفعة من هذا الغلط من وجه دون وجه. قوله: ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله فعن القفال أنه حكى عن النصر أنه لا يقع واختاره؛ لأن هذه الصيغة أيضًا تعليق بعدم المشيئة؛ لأنها توجب حصر الوقوع في حال عدم المشيئة، وعن ابن سريج أنه يقع الطلاق لأنه أوقعه وجعل الخلاص والمخرج عنه المشيئة وأنها غير معلومة فلا يحصل الخلاف وصار كما لو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد ولم يعلم مشيئته فإنه يقع الطلاق، والأقوى الأول. انتهى كلامه. وفيه إشكال يظهر بذكر شيء استدركه الرافعي في آخر المسألة فقال: ولتعلم أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله معناه إلا أن يشاء وقوع الطلاق، [وحينئذ فالطلاق معلق بعدم مشيئة الطلاق] (¬1) لا بمشيئة عدم الطلاق، وعدم مشيئة الطلاق تحصل بأن يشاء عدم الطلاق وبأن لا يشاء شيئًا أصلًا، وإنما لا يقع إذا شاء زيد أن يقع، وذكر بعضهم أن معناه أنت طالق إلا أن يشاء زيد أن لا تطلقي، والصحيح الأول. انتهى كلامه. وإذا علمت ذلك علمت أن اختلافهم في الحكم نشأ من اختلافهم في ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تنزيل التعليق على أي شيء، وإذا كان كذلك فكيف يستقيم كما قاله الرافعي من جعل واحد من المعنيين دليلًا لقائله على القائل الآخر؟ وكان ينبغي أن يقدم ما أخره ويستدل على ما ذكره كل منهم من الخلاف المتأخر ثم يبني عليه الخلاف في الوقوع وعدمه. قوله: ولو قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، أو إن لم يدخل الدار، أو إن لم يفعل كذا، فإن وجدت المشيئة أو غيرها مما علق عليه لم يقع الطلاق، وإن لم توجد وقع، وإن شككنا فوجهان سواء عبر بقوله إن لم يدخل كما ذكرناه أو بقوله إلا أن يدخل، أجاب الأكثرون بالوقوع حيث شككنا في الفعل المعلق عليه، واختار الإمام عدم الوقوع في الصورتين وهو أوجه وأقوى , انتهى. وهذه المسألة -أعني مسألة الشك- قد اختلف فيها تصحيح النووي في "الروضة" فصحح هنا من زياداته عدم الوقوع وذكر مثله في آخر تعليق الطلاق، وصحح في أوائل كتاب الأيمان وفي أواخره عكسه وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى، والفتوى في ذلك على الوقوع فقد نص عليه الشافعي في "الأم" في السدس الأخير منها في باب الاستثناء في اليمين إلا أنه خص ذلك باليمين على الإثبات وأجاب في النافية بالعكس فقال ما نصه: قال الشافعي كذا وكذا إلا أن يشاء فلان لم يحنث إن شاء فلان، فإن مات فلان أو خرس أو غاب عنا معنى فلان حتي يمضي وقت يمينه حنث؛ لأنه إنما يخرجه من الحنث مشيئة فلان، ولو كانت المسألة بحالها وقال: والله لا أفعل كذا وكذا إلا أن يشاء فلان لم يفعل حتى يشاء فلان، وإن غاب عنا معنى فلان فلم يعرف شيئًا أو لم يشأ لم يفعل حتي يشاء فلان، وإن غاب فإن فعله لم أحنثه من قبل أن يمكن أن يكون قد شاء، هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته وفي الفرق بين المسألتين نظر.

الباب الخامس في الشك في الطلاق

الباب الخامس في الشك في الطلاق قوله: ولو قال: إن كان هذا الطائر غرابًا فعبدى حر، وقال الآخر: إن لم يكن كذلك فعبدى حر، واجتمع لأحدهما العبدان منع التصرف فيهما وأمر بتعيين العتق في أحدهما، وقيل يمتنع في الذي كان للآخر خاصة فلو باع أحدهما عبده ثم اشتر عبد صاحبه قال في "البسيط": لم أره مسطورًا، والقياس أنه ينفذ تصرفه في الثاني؛ لأن بيع الأول كواقعة انقضت وتصرفه في الثاني واقعة أخرى كما لو صلى إلى جهتين باجتهادين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقل احتماله عن "البسيط" من جواز التصرف قد جزم به الماوردي فقال في "الحاوي": لو ابتاع كل منهما عبد الآخر ولم يتكاذبا جاز لكل منهما أن يتصرف في الذي اشتراه وجهًا واحدًا -أي وإن كان لا يجوز على وجه لو اجتمعا في ملكه-، وقال في "الروضة": أما على الوجه الثاني فيعتق عليه الثاني بلا شك، وأما على الطريقة الأخرى فيحتمل ما قاله في "البسيط" ويحتمل بقاء الحجر في الثاني قال: وهو الأقيس احتياطًا للعتق، قال: وقد ذكر في "الوسيط" احتمالين: أحدهما ما ذكره في "البسيط"، والثاني: عدم النفوذ فيه. الأمر الثاني: أن القول بمنع التصرف في الثاني مخالف لما ذكره [الأصحاب في] (¬1) العتق فيما إذا كان عبد بين معسرين فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابًا فنصيبى حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فنصيبي حر ولم يعلم الطائر ثم تبادلا إحدى الحصتين بالأخرى وصححنا مثل هذا ¬

_ (¬1) في أ: وللأصحاب، وفي ب: ولا ضجار.

التبادل أن كلا منهما يتصرف فيما انتقل إليه كما كان يتصرف فيما نقله عنه، وهذا الاستشهاد ذكره ابن الرفعة، واستشكل جواز التبادل قال: لأنا نقطع بفساد أحد العوضين. قوله: فرع: قال البوشنجي: ولو قال: أنت طالق بعدد كل شعرة على جسد إبليس فقياس مذهبنا أنه لا يقع شيء؛ لأنا لا ندرى عليه شعر أم لا؟ والأصل العدم، وعن بعض أصحاب أبي حنيفة وقوع طلقة. انتهى. والصواب هو الوقوع فقد جزم الرافعي في أوائل باب عدد الطلاق بأنه إذا قال: أنت طالق وزن درهم أو وزن ثلاثة أو عشرة ونحو ذلك وقعت عليه طلقة ومسألتنا أولى من تلك بالوقوع؛ لأن ربط الطلاق بالعدد ممكن من حيث الجملة بخلاف ربطه بالوزن، وقد رجح النووي أيضًا ما ذكرناه إلا أنه لم يستحضر هذا النقل الذي ذكرناه فقال: القياس المختار وقوع طلقة وليس هذا تعليقًا على صفة فيقال: شككنا فيها، بل هو يتخير طلاق وربط تعدده بشيء شككنا فيه فيوقع أصل الطلاق ويلغى العدد فإن الواحدة ليست، بعدد لأن أقل العدد إثنان. هذا كلامه، والمتجه في مسألتنا إيقاع طلقتين؛ لأنه واقع عددًا والمتيقن منه اثنان وشككنا في الزائد. قوله: ولو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق وقال: نويت الأجنبية قبل قوله بيمينه على الصحيح، فلو قال: لم أنو واحدة منهما طلقت زوجته: قاله البغوي في فتاويه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن البغوي يتجه أن يكون محله في ما إذا لم يصدر على الأجنبية طلاق منه أو من غيره، فإن كان قد وقع عليها ذلك لم يحكم بطلاق زوجته بما وقع منه، لأن الكلام الذي صدر منه صادق عليهما صدقًا واحدًا، والأصل بقاء الزوجية، وقد ذكر في العتق قبيل

الكلام على الولاء ما يقوى ما قلناه فقال: إذا عتق عبدًا ثم قال له ولعبد آخر له: أحدكما حر لم يقبض ذلك عتق الآخر. هذا كلامه، فاقتضى أن لا يقع عليه به شيء عند الإطلاق. الأمر الثاني: أن الماوردي أيضًا قد جزم بما نقل عن البغوي فإنه قال ولو قال: إحداكما طالق فكان قد نكح إحداهما نكاحًا صحيحًا والأخرى فاسدًا فإن كان الطلاق مرسلًا غير معين وقع على المنكوحة نكاحًا صحيحًا، وإذا كان الطلاق ينصرف هنا إلى الزوجة مع صحة إرادة من لها شبهة نكاح ففي الأجنبية أولى، لكن قال ابن الرفعة أن كلام الغزالي يقتضي أنه لو لم يرد شيئًا لم ينصرف إلى الزوجة بل تراجع. قوله: ولو نكح امرأة نكاحًا فاسدًا وأخرى نكاحًا صحيحًا فقال لهما: إحداكما طالق، وقال: أردت فاسدة النكاح فيمكن أن يقال: إن قبلنا التفسير بالأجنبية فهذه أولى وإلا فوجهان. انتهى. وما ذكره من احتمال قبول إرادة الأجنبية قد جزم به الماوردي في "الحاوي" فقال: إذا قال: إحداكما طالق وكان قد نكح إحداهما فاسدًا والأخرى صحيحًا فإن كان الطلاق مرسلًا غير معين وقع على المنكوحة نكاحًا صحيحًا، وإن تبين أنه أراد التي نكحها نكاحًا فاسدًا قبل منه. انتهى. قوله: فيما إذا طلق إحداهما بعينها ثم نسيها أولا بعينها بأن أبهم الطلاق فيجب عليه التعيين أو التبيين على الفور فإن أخر عصى. انتهى. وظاهره أنه لو استمهل لا يمهل لكن قال ابن الرفعة: إنه لو استمهل أمهل فإن الروياني قال في المسلم على أكثر من أربع يمهل إذا استمهل ثلاثة أيام، وما قاله ابن الرفعة ينبغي أن يكون محله إذا طلق ثم نسى أو أبهم، أما إذا عين ولم يدع النسيان فلا وجه للإمهال.

قوله: فإن امتنع حبس وعزر، ظاهره أنه يجمع بين نوعي تعزير من الحبس وغيره وهو مخالف لما سيأتي في كتاب التعازير في آخر المسألة، ولو أبهم طلقة رجعية فهل يلزمه أن يبين أو يعين في الحال؟ وجهان حكاهما الإمام: أحدهما، نعم لحصول التحريم، وأصحهما: لا لأن الرجعية زوجة. انتهى. وما ذكره من عدم وجوب التعيين أو التبيين ينبغي أن يكون محله إذا كانت العدة قائمة، أما إذا انقضت العدة فإنه يطالب بحصول البينونة وانتفاء الزوجية. قوله: وإذا طلق واحدة لا بعينها فهل يقع الطلاق من حين التلفظ أو من حين التعيين؟ فيه وجهان: رجح مرجحون الثاني، منهم الشيخ أبو علي وقال: إنه ظاهر المذهب، وذهب الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والروياني وغيرهم إلى ترجيح الأول والنفس إلى قبوله أسرع، انتهى ملخصًا. والراجح الأول فقد قال في "المحرر": إنه أقرب الوجهين، وفي "الروضة": إنه الصواب. قوله: ولو ماتتا أو ماتت إحداهما بقيت المطالبة بالتعيين لبيان حكم الميراث، وحينئذ فإن أوقعنا الطلاق باللفظ فذاك وإن أوقعناه بالتعيين فلا سبيل إلى إيقاع طلاق بعد الموت ولابد من استناده للضرورة، وإلى ما يسند؟ وجهان: أصحهما عند الإمام: إلى وقت اللفظ فيرتفع الخلاف. وأرجحهما عند الغزالي: إلى قُبيل الموت. انتهى كلامه. وما ذكره من الجزم بالوقوع على القول بإيقاعه بالتعيين أيضًا قد خالفه في نظيره من العتق فجزم بأنه لا يقع، وسوف أذكر لفظه في موضعه وهو

في أثناء الخاصة الرابعة من خواص العتق فراجعه، ووقع الموضعان في "الروضة" كذلك. قوله: وإن لم ينو واحدة بعينها فهل يكون الوطء تعيينًا؟ فيه وجهان وقيل قولان: أحدهما: أنه يكون تعيينا وبه قال المزني وأبو إسحاق وأبو الحسن الماسرجسي، ورجحه ابن كج. والثاني: لا يكون وبه قال ابن أبى هريرة، قال في "الشامل" و"التتمة": إنه ظاهر المذهب. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، ورجح في "المحرر" أنه لا يكون تعيينًا وعبر بالأظهر، وقال في "الروضة" من "زوائده": إنه المختار، وفي "الشامل": إنه ظاهر نص الشافعي. قوله في آخر المسألة: ولما أطلق الجمهور بالمنع منهما جميعًا أشعر ذلك بأن الأصح عندهم أنه ليس بتعيين. انتهى. وما ذكره قد نازع فيه ابن الرفعة وقال: لا يلزم من كونه تعيينًا أن يكون حلالًا؛ لأن ابتداء الوطء من المقدمات، وقد منعوه منها، قال: ويحتمل أن يقال: إذا حصل التغييب بجميع الحشفة تبينا أن ابتداء الإيلاج كان جائزًا بطريق الانعطاف على ما مضى. قوله: ولو قال: أردت هذه ثم هذه أو هذه فهذه، قال القاضي الحسين وصاحباه المتولى والبغوي: تطلق الأولى دون الثانية لاقتضاء الحرفين الترتيب، وحكى الإمام هذا عن القاضي واعترض بأنه اعترف بطلاق الثانية أيضًا فليكن كقوله هذه وهذه, والحق هو الاعتراض. انتهى. والمتجه من جهة البحث هو المنقول لا الاعتراض، وقد رجحه أيضًا في "الروضة" فقال: إنه الأظهر.

قوله: ولو قال: وهن ثلاث أردت أو طلقت هذه بل هذه أو هذه، طلقت الأولى وإحدى الأخريين ويؤمر بالبيان، وإن قال هذه أو هذه، بل هذه طلقت الأخيرة وإحدى الأوليين ويؤمر بالبيان، ثم قال عقبه من غير فاصل ما نصه: ولو قال هذه وهذه أو هذه نظر إن فصل الثالثة عن الأوليين بوقفة أو بنغمة أو أداء فالطلاق مردد بين الأوليين وبين الثالثة وحدها وعليه البيان، فإن بين في الثالثة طلقت وحدها، فإن بين في الأوليين أو إحداهما طلقتا -لأنه جمع بينهما بالواو العاطفة فلا يفترقان، وإن فصل الثانية عن الأولى طلقت وحدها وإن بين في الأخيرتين أو إحداهما طلقتا جميعًا وإن سرد الكلام ولم يفصل احتمل كون الثالثة مفصولة عنهما واحتمل كونها مضمومة إلى الثانية مفصولة عن الأولى فيسأل ويعمل بما أظهر إرادته. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن جميع ما ذكره في ما إذا فصل الثانية عن الأولى غلط عجيب تبعه عليه في "الروضة"، فأما قوله تردد الطلاق بين الأولى وإحدى الأخريين فصوابه أن يقول: طلقت الأولى وتردد الطلاق بين الأخرتين، لأن كلامه فيما إذا عطف الثانية بالواو والثالثة بأو، وقد ذكر بعده في ما إذا عكس فقدم لفظه أو نظير ما ذكرته فقال: طلقت الأخرى وتردد الطلاق بين إحدى الأولتين. وأما قوله فإن بين في الأولى طلقت وحدها فالغلط فيه من وجهين: أحدهما: أن الأولى لا تحتاج إلى بيان. والثاني: أن الطلاق لا يقع عليها وحدها، بل لابد معها من إحدى الأخريين. وأما قوله فإن بين في الأخريين أو إحداهما طلقتا، فإن الذي ذكره في

إحداهما غلط، بل إذا بين فيها اقتصر الطلاق عليها مع الأولى، واعلم أن هذه الأغاليط المذكورة كما أنها لا تستقيم في القسم الذي يتكلم فيه لا يستقيم أيضًا مجموعها في شيء من الأقسام. الأمر الثاني: أنه قد وقع في نسخ "الروضة" إسقاط الثالثة المعطوفة "بأو"، فقال: ولو قال هذه وهذه نظر. . . . إلى آخره. وكذلك في كثير من نسخ الرافعي وهو غلط فإن كلامه فيما إذا كن ثلاثًا. قوله: ولو طلق إحداهما ثم مات الزوج قبل البيان أو ماتتا ثم مات الزوج فهل يقوم الوارث مقامه؟ فيه أقوال: أظهرها: أنه يقوم في الطلاق المعين دون المبهم وإذا لم يقم مقامه فإن مات الزوج قبلهما وقف ميراث زوجة بينهما حتي يصطلحا أو يصطلح ورثتهما بعد موتهما، وإن ماتتا قبل موت الزوج وقف من تركتهما ميراث زوج، وإن توسط موته بينهما وقف من تركة لأولى ميراث زوج ومن تركة الزوج ميراث زوجة حتى يحصل الاصطلاح. انتهى ملخصًا. وحكم الوقف للزوجتين ما إذا تحققنا أن كل واحدة منهما، فإن لم نتحقق بأن كانت إحداهما كتابية ففي الوقف وجهان: أصحهما وهو المنصوص: لا يوقف شيء للزوجات، بل يقسم كل التركة بين باقي الورثة لأن استحقاق الزوجين غير معلوم لاحتمال أنها الكتابية. والثاني: يوقف لأن استحقاق باقي الورثة قدر نصيب الزوجات غير معلوم، هكذا صرح الرافعي بالمسألة في نكاح المشركات ومثل بهذا المثال ومثله ما لو كانت إحداهما أمة أو غيرها ممن قام به مانع، وكذلك يأتي أيضًا هذا الخلاف في وقف نصيب إحداهما للزوج. واعلم أن الاصطلاح لابد فيه من التصريح بالتواهب كما سبق إيضاحه في كتاب الفرائض في الكلام في ميراث الخنثى وإذا كان في الزوجات محجور عليها فلا ينقض ولها في المصالحة عن ما في يدها ظاهرًا، ففي

الزوجين لا ينقص عن النصف، وفي الثلاث لا ينقص عن الثلث كما أوضحه الرافعي في نظيره من نكاح المشركات فاستحضر ذلك هنا والله أعلم. قوله: ولو قال: إن كان هذا الطائر غرابًا فعبدى حر، فإن لم يكن فزوجتي طالق، وأشكل الحال ومات الزوج قبل البيان فلا يقوم الوارث مقامه على المذهب فإنه قد يخبر بالحنث في الطلاق ليرق العبد ويسقط إرث الزوجة، قال السرخسي في "الأمالي": هذا الخلاف إذا قال الوارث حنث مورثي في الزوجة فإن عكس فيقبل قطعًا لإضراره نفسه وهذا حسن. انتهى. زاد في "الروضة" فقال: قد قال به أيضًا غير السرخسي وهو متعين. هذا كلامه، وما ذكره السرخسي من الاتفاق على القبول وتصريح الرافعي والروياني بموافقته باطل نقلًا ومعنى، وأما النقل فلأن مقتضى كلام الأصحاب يخالفه، ولهذا نقله ابن يونس شارح "التنبيه" عن بعض المتأخرين، وقال ابن الرفعة في "الكفاية": إن هذه المقالة تلائم كلامًا ذكره الشيخ أبو حامد في نظير المسألة وطريقة الإطلاق تلائم كلامًا ذكره القاضي أبو الطيب. وأما بطلانه من جهة المعنى فيتضح بالكلام على القسمين فنقول: أما القسم الأول: وهو ما إذا أقر بالطلاق فلا شك أن العبد لا يعتق، ولكن قد يرث الزوج منها كما تقدم وهو واضح، وقد ترث المرأة من الزوج بأن يكون الطلاق الواقع رجعيًا وبموت الزوج في العدة، وقد لا يرث أحدهما من الآخر كما إذا كانت المرأة رقيقة أو كافرة أو كان الطلاق بائنًا أو رجعيًا ولكن مات الزوج بعد انقضاء العدة، ثم إن الإرث قد يزيد على قيمة العبد. القسم الثاني: أن يقر بالحنث في العتق وأن الطلاق لم يقع فقد ترث المرأة من الزوج وهو واضح ويحصل للوارث الضرر من جهة إرث المرأة

وفوات الرقبة ولكن لو كان قد قتله قاتل فإنه يأخذ منه دية الأحرار مع أنها قد تزيد على القيمة وعلى حصتها من الإرث فيكون منهما في ذلك، وقد لا ترث المرأة من الزوج كما إذا طلقها بعد ذلك طلاقًا بائنًا، لاسيما وقد يقتل العبد كما سبق فيأخذ الوارث بهذا الاعتراف دية الأحرار، وقد لا يرث أحدهما من الآخر وهو معلوم مما سبق، وإذا استحضرت جميع ما قلناه علمت أن كل واحد من هذه الأقسام قد يكون فيه تهمة وقد لا يكون فبطل ما وقع في الرافعي و"الروضة" من دعوى الاتفاق على قبول العكس استنادًا إلى عدم التهمة ويبقى النظر في أنا هل نقبله مطلقًا كما أطلقه الأصحاب أو نرده في كل صورة تحصل فيها تهمة دون ما عداها؟ يتجه تخريجه على إقرار الخنثى بالذكورة أو الأنوثة في محل التهمة وفيه اضطراب نبهت عليه، وعلى ما عليه الفتوى في موضعه وهو باب الأحداث فراجعه. قوله في المسألة: فإن لم يعتبر قول الوارث، أو قال: لا أعلم أقرعنا بين العبد والمرأة فإن خرجت القرعة على العبد عتق، وإن خرجت على المرأة لم تطلق، وهل يرق العبد؟ وجهان: أصحهما: لا لأن القرعة لم تؤثر في ما خرجت عليه فغيره كذلك فعلى هذا يبقي الإبهام كما كان، وقيل لا نزال نعيد القرعة حتى تخرج على العبد. قال الإمام: وعندي يجب إخرج القائل به من أحزاب الفقهاء ومن قال به فليقطع بعتق العبد وليترك تضييع الزمان في إخرج القرعة، وهذا قويم، لكن الحناطي حكى الوجه عن ابن أبي هريرة، وهو في الفقهاء، زعيم عظيم فلا يتأتى إخراجه عن أحزابهم. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ابن أبي هريرة قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس كذلك، فقد رأيته في تعليقه الذي علقه عنه أبو على الطبري الجزم بمقالة غيره، ولم يذكر هذه بالكلية لا عنه ولا عن غيره.

قوله نقلًا عن أبى العباس الروياني: لو كانت له امرأتان فقال مشيرًا إلى إحداهما: امرأتى طالق وقال: أردت الأخرى فهل تطلق الأخرى وتبطل الإشارة أم تطلقان معًا؟ وجهان. انتهى. قال في "الروضة" الأرجح الأول. قوله نقلًا عن البوشنجي: وأنه لو جلست نسوته الأربع صفًا فقال: الوسطى منكن طالق، فوجهان: أحدهما: لا يقع شيء، إذ لا وسطى. والثاني: يقع على الوسطيين؛ لأن الاتحاد ليس شرط في وقوع اسم الوسطى. انتهى كلامه. والصواب في هذه المسألة خلاف الوجهين جميعًا بل يقع الطلاق على واحدة من الوسطيين ويعينها الزوج، فقد نص الشافعي على أن هذا هو مدلول الوسط فقال في "الأم" في باب من أبواب الكتابة في باب الوصية للمكاتب في الكلام على الوصية له بأوسط النجوم ما نصه: ولو كانت عليه أربعة أنجم فأرادوا وضع الأوسط من النجوم المؤجلة وضعوا عنه أى النجمين شاؤوا الثاني أو الثالث؛ لأن ليس منهما واحد أولى باسم الأوسط من الآخر، وذكر أيضًا بعده فيما إذا قال: ضعوا عنه أوسط نجومه عددًا مثله أيضًا، وقد حكى الرافعي في مسألة النجوم عن ابن الصباغ التخيير وعن "التهذيب" أنه كلاهما وحاول ترجيحه ولم يطلع على نص الشافعي في المسألة وقد تفقه النووي هنا تفقهًا جيدًا وافق النص فقال: قلت: كلا الوجهين ضعيف والمختار وجه ثالث وهو أنه يطلق واحدة من الوسطيين ويعينها الزوج: لأن موضوع الوسطى لواحدة فلا يزاد. والله أعلم.

الشرط الثاني من الكتاب في التعليقات

قال -رحمه الله-: الشرط الثاني من الكتاب في التعليقات وفيه فصول: الفصل الأول في التعليق بالأوقات قوله: ولو علق طلاقها بصفة ثم قال: عجلت تلك الطلقة المعلقة لم تتعجل لتعلقها بذلك الوقت المستقبل، وفيه وجه آخر عن رواية الشيخ أبى على وغيره، وإذا قلنا: لا تتعجل فأطلق ثم قال: عجلت لك الطلاق سألناه فإن قال: أردت تلك الطلقة صدقناه بيمينه، ولم يتعجل شيء، وإن أراد طلاقًا مبتدأ وقع في الحال طلقة، انتهى كلامه. تبعه عليه في "الروضة" وزاد عليه فقال في أواخر الكلام: فإن لم يكن له نية لم تقع في الحال شيء، والله أعلم. إذا علمت ذلك فاعلم أن الخلاف الذي ذكره يقتضي أن محله في أصل وقوع الطلاق حتى لا يقع شيء بالكلية على الصحيح، ويدل على ذلك أيضًا ما ذكره في آخر كلامه خصوصًا ما ذكره النووي من "زوائده" وليس الأمر كما اقتضاه كلامهما، بل تقع في الحال طلقة جزمًا، وإنما محل الخلاف في أنه هل يقع مع ذلك طلقة أخرى عند وجود الصفة أم لا؟ وقد ذكره الإمام في موضعين: أحدهما: قبل كتاب الرجعة بنحو ثلاثة أوراق ونقله عن الشيخ أبى على، كما نقله الرافعي ولا شك أن الرافعي إنما نقله عن الإمام.

والموضع الثاني: في كتاب الخلع بعد أوله [بدون] (¬1) كراس واحد فقال: وإذا علق طلقة واحدة وهو يملك الثلاث، ثم قال: نجزت تلك الطلقة التي علقتها ينجز الطلاق لا محالة. هذا لفظه، وصرح به أيضًا القاضي الحسين في "تعليقه" فيما إذا كان التعليق على دخول الدار ونحوه فقال: فأما إذا قال إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: عجلت ذلك الطلاق الآن وقع الطلاق، فإذا دخلت الدار وقعت طلقة أخرى، قال بخلاف ما إذا قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، ثم قال: عجلت تلك الصفة الآن فإنه يقع الآن ولا يقع في آخره عند مجئ أول الشهر. انتهى. وقال في فتاويه أيضًا: مسألة: إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: عجلت تلك الطلقة لا يتعجل، لأن كلمة إن للشرط ولم يوجد، فأما إذا قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: عجلت تلك الطلقة تتعجل الآن؛ لأن إذا للوقت وقد انتظم من مجموع ذلك خلاف في بقاء التعليق وانحلاله ووقوع الطلاق مع بقائه وعدم وقوعه فحيث قلنا بانحلال اليمين وقعت طلقة لا محالة وحيث قلنا ببقائه، فقال الفورانى في "الإبانة": تقع طلقة عند وجود التعليق وطلقة في الحال وذهب إليه أيضًا القاضي كما سبق نقله عن التعليق والفتاوي وابن خلف وابن الصباغ، وحمل عليه نص الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال في "الإملاء": لو قال لامرأته: أنت طالق إلى شهر، ثم قال: أنت طالق تلك الطلقة الساعة لم يلزمه إلا واحدة إن كان أراد أني عجلتها الآن قبل الشهر، وإن لم يكن أراد به طلقات الآن طلقة وطلقت في الشهر. انتهى. ثِم قال: وهل يَنْحَلّ التعليق بشيء على أنه إذا علق الثلاث ثم نجزها فهل ينحَلّ تعليقه حتى لا يقع الثلاث في نكاح آخر أم لا؟ فإن قلنا: لا ينحل فلا معنى لحله بالجهة التي ذكرها، وإن قلنا: ينحل عند استيفاء الثلاث فإذا علق واحدة ثم نجز واحدة وزعم أنها التى علقها ففي انحلال ¬

_ (¬1) في جـ: بنحو.

التعليق وجهان، ووجه الانحلال بين، ووجه مقابله أنه ليس متعلقًا بطلقة معينة، ولا خلاف أنه لو علق طلقة ثم نجز طلقة مطلقة فإن التعليق لا ينحل؛ لأن فك التعليق ليس إليه. انتهى كلامه ملخصًا. وفيه فوائد. قوله: ولو عقب لفظ الطلاق بحرف شرط فقال: أنت طالق إن فمنعه غيره من الكلام بأن وضع يده على فيه، ثم قال: أردت أن أعلق على شرط كذا صدق بيمينه وإنما حلفناه لاحتمال أنه أراد التعليق على شيء حاصل كقوله: إن كانت فعلت كذا وقد فعله، ولو قطع الكلام مختارًا حكم بوقوع الطلاق. انتهى كلامه. وما ذكره من الوقوع عند القطع مختارًا قد سبق منه في أوائل باب تعدد الطلاق ما يخالفه وسبق ذكر لفظه هناك وتبعه النووي على الموضعين فراجعه. قوله: ولو حذف الفاء فقال: إن دخلت الدار أنت طالق قد أطلق البغوي وغيره أنه تعليق، وقال البوشنجي: يسأل فإن قال: أردت التخيير حكم به، وإن قال: أردت التعليق أو تعذرت المراجعة حمل على التعليق. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا والصواب أنه إن كان عارفًا بالعربية وقع الآن على جعل إن نافية كما سيأتي إيضاحه، ويدل عليه كلامهم في ما إذا فتح أن التي ظاهرها الشرط وإن كان جاهلًا لم يقع شيء. قوله: ولو قال: إن دخلت الدار وأنت طالق بالواو، قال البغوي: إذا قال: أردت التعليق قبل أو التنجيز وقع، وإن قال: أردت جعل الدخول وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق قبل. قال البوشنجي: فإن لم يقصد شيئًا طلقت في الحال وألغيت الواو، كما لو قال ابتداء: وأنت طالق. انتهى.

قال في "الروضة": المختار أنه عند الإطلاق تعليق بدخول الدار إن كان قائله لا يعرف العربية، وإن عرفها فلا يكون تعليقًا ولا عبرة إلا بالنية لأنه غير مفيد عنده، وأما العامي فيطلقه للتعليق ويفهم منه التعليق، قال: وما قاله البوشنجي فاسد حكمًا ودليلًا وليس كالمقيس عليه. انتهى. وما ذكره النووي من أن مقالة البوشنجي فاسدة فمسلم، وأما قوله في عارف العربية أنه غير مقيد عنده فعجيب بل هو صحيح على جعل إن نافية وهو كثير في القرآن، وحينئذ فيحتمل أن تكون الواو هاهنا بعدها واو الحال فلا يقع أو واو العطف فيقع فيسأل فإن أراد الأول فلا شيء، وإن أراد الثاني وقع الطلاق نواه أم لا اكتفاء بنية العطف، فإن تعذرت مراجعته بموت أو غيره لم يقع شيء لجواز إرادة الحال، ثم إنه أهمل قسمًا آخر وهو ما إذا جهلنا حاله فلم ندر أنه ممن يحسن العربية أم لا؟ والمتجه عدم الوقوع فيه عند تعذر المراجعة، وقد أوضحت ذلك كله في كتابنا المسمى "بالكواكب" فراجعه. قوله: ثم الكلام في صورتين إحداهما: لو قال: أنت طالق في آخر شهر كذا فوجهان: أحدهما: يقع في آخر جزء من الشهر فإنه الآخر المطلق. والثاني: يقع في أول جزء من ليلة السادس عشر؛ لأن النصف الثاني كله آخر الشهر، وفي "التهذيب" وجه ثالث: وهو أنه يقع في أول اليوم الأخير حملًا للآخر على اليوم الآخر، وإيراده يقتضي ترجيحه. انتهى. والأصح هو الوجه الأول فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر": إنه أظهر الوجهين، وصححه النووي في "الروضة" ولم ينبه فيها على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له فإنه غريب.

قوله: الثانية: إذا قال: أنت طالق في سلخ الشهر، ففيه وجوه: أحدها: أنه يقع في آخر جزء من الشهر؛ لأن الانسلاخ يحصل به وهو ما أجاب به الشيخ أبو حامد ورجحه الغزالي. والثاني: يقع في أول اليوم الأخير وهو المذكور في "التتمة" و"التهذيب" وعن رواية صاحب "التقريب" وجه أنه يقع بمضى أول جزء من الشهر فإنه يأخذ في الانسلاخ من حينئذ، قال الإمام: اسم السلخ يقع على الثلاثة الأخيرة كما تقع الغرة على الثلاثة الأول فيحتمل أن يقع في أول جزء من الأيام الثلاثة. انتهى. والصحيح هو الأول فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأظهر، والنووي من "زوائده": إنه الصواب، ولم يذكر المسألة في "المحرر". قوله: ولو قال بالنهار: إذا مضى يوم فأنت طالق طلقت إذا جاء مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني هكذا أطلقوه، ولكن فيه تلفيق اليوم من البعضين المفرقين، وقد سبق في الاعتكاف أنه لو نذر أن يعتكف يومًا لم يجز تفريق الساعات في أصح الوجهين. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من محاولة جريان الوجهين غلط حصل من ذهول عما قرره في الاعتكاف، وذلك أن الزمان المنذور ليس محمولًا على الزمان المتصل بالنذر، بل يجوز للناذر تأخيره عنه وفعله في أى وقت أراد ما لم يلتزم زمنًا معينًا كقوله من هذا الوقت وشبهه، وأما التعليق فلا خلاف أنه محمول عند الإطلاق على أول الأزمنة المتصلة به فنظير مسألتنا من النذر أن يقول يومًا من هذا الوقت، ولو قال ذلك لجاز فيه التفريق بلا خلاف، وقد توهم النووي أيضًا صحة هذا البحث فأشار إليه بقوله هكذا أطلقوه ولم يذكر المستند.

قوله: ولو قال: إذا مضى شهر فأنت طالق، لم يقع حتى يمضى شهر كامل، فإن اتفق قوله في ابتداء الهلال طلقت بمضيه تامًا أو ناقصًا، وإلا فإن قاله ليلًا طلقت إذا مضى ثلاثون يومًا ومن ليلة الحادي والثلاثين بقدر ما كان سبق من ليلة التعليق، [وإن قاله نهارًا كمل من اليوم الحادي والثلاثين بعد التعليق] (¬1). انتهى كلامه. وما أطلقه من تتميم الثلاثين عند الانكسار تبعه عليه في "الروضة" أيضًا ومحله إذا كان ذلك في غير اليوم الأخير، فإن عقد فيه وحصل بعده شهر هلالي فالصواب الذي قاله صاحب "التتمة" وغيره: أنه يكفي، كذا ذكره الرافعي في كتاب السلم. قوله: ولو قال: إذا مضت سنة فأنت طالق وانكسر الشهر الأول كملناه بعد مضي أحد عشر شهرًا وأشار الإمام إلى أن تصوير عدم الانكسار عسير، لكن يظهر تقريبه بما إذا قال: إذا مضت من أول رمضان سنة فأنت طالق، ثم قال: فلو شك في ما كان قد مضى من الأول لم يقع الطلاق إلا باليقين، وذكر الحناطي في حِلّ الوطء في حال التردد وجهين. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" من "زوائده" هو الحِلّ. قوله: وإذا علق الطلاق بصفة مستحيلة عرفًا كقوله: إن طرت أو صعدت السماء أو حملت الجبل فأنت طالق، أو عقلًا كقوله: إن أحييت ميتًا، أو إن اجتمع السواد والبياض، أو شرعًا كقوله: إن نسخ صوم رمضان لم يقع الطلاق في الأصح. والثاني: يقع مطلقًا. والثالث: يقع في العقلى والشرعى دون العرفي. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي قد ذكر في كتاب الأيمان أنه إذا حلف لا يصعد السماء فإن يمينه لا ينعقد في أصح الوجهين، وذكر نحوه في ما إذا حلف ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

لا يشرب ماء النهر فشرب فإنه صحح أنه لا يحنث، ثم نقل عن القاضي أبى الطيب أنه قال: ينبغي على هذا أن يقال: لا ينعقد يمينه، كما لو حلف لا يصعد السماء، وإذا علمت ذلك فقياس ما يجيء فيه أن يقال: لا ينعقد اليمين في الأشياء التي ذكرها أيضًا حتى لا حنث بها الحالف على الحلف، ويكون قول الأصحاب اليمين إما حنث أو منع أو تصديق محمولًا على ما إذا كان الحلف على الأشياء الممكنة، وقد ذكر الرافعي هذه القاعدة في أول هذا الفصل وأطلقها فتفطن لذلك. قوله: الثانية: إذا قال: أنت طالق أمس، وقال: أردت أنى طلقتها في الشهر الماضي وبانت [مني ثم جددت النكاح، أو أن زوجًا آخر طلقها في نكاح سابق وبانت] (¬1) منه فنكحتها، قال الأصحاب: ينظر إن عرف نكاح سابق وطلاق سابق، وأقام على ذلك بينة وصدقته في إرادته فذاك، وإن كذبته وقالت: لم ترد ذلك وإنما أردت إنشاء الطلاق الآن فيحلف، قالوا: ويحالف هذا ما إذا [قال] (¬2) طلقها في هذا النكاح حيث يصدق ولا يطالب بالبينة؛ لأنه معترف هناك بطلاق في هذا النكاح وهاهنا يريد صرف الطلاق عن هذا النكاح، وإن لم يُعرف نكاح سابق وطلاق في ذلك النكاح، فإن كان محتملًا فينبغي أن يقبل التفسير به، وإن لم يقم بينة وأن لا يقع الطلاق وإن كان كاذبًا ألا ترى أنه لو ابتدأ فقال: طلقك في الشهر الماضي زوج غيرى لا يحكم بوقوع طلاقه وإن كذب. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- في القسم الثاني وهو ما إذا لم يعرف ما ادعاه من كونه ينبغي القبول تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو يقتضي أن المسألة ليست مصرحًا بها للأصحاب وأن الحكم فيها ما ذكره بحثًا، وليس كذلك بل الأصحاب مصرحون بالمسألة وقائلون بعدم القبول، والمذكور هنا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

إنما هو بحث للإمام فاعلمه، والمسألة مذكورة في "النهاية" على الصواب فنقلها الرافعي منها فأسقط موضع الحاجة، فإن الإمام قد قال ما نصه: إن أقام بينة قبل يمينه فإن اتهم حلف، وإن لم يمكنه أن يثبت ذلك لم يقبل منه ويحكم بانتجاز الطلاق، هكذا قال الأصحاب، وفي القلب من هذا شيء فإن اللفظ إذا كان محتملًا، وهو صاحب اللفظ والإرادة فإذا فسر لفظه بممكن لم يبعد قبوله ثم يكذب في إخباره، وإن كنا نجعل المسألة على وجهين في ما لو فسر لفظه بمحال وهو إسناد الوقوع إلى ما مضى حتى نقول في وجه: لا يقع فلا يبعد أن ينزل لفظه إذا فسره بالإقرار منزلة ما لو ابتدأ فقال: طلقك في الشهر الماضي زوج غيري، وهذا لا يوجب وقوع الطلاق منه وإن كان كاذبًا هذا كلام الإمام، وأسقط الرافعي منه منقول الأصحاب وأبقى منه ما يوهم أن الحكم ما ذكره، وقد ذكره في "الشرح الصغير" على الصواب فقال: وإن لم يُعرف نكاح سابق وطلاق ولم يقم عليه بينة حكم بوقوع الطلاق في الحال. وقال الإمام: ينبغي أن يقبل التفسير به هذه عبارته وجزم في "المحرر" بأنه لا يقبل ولم يذكر فيه توقفًا وقد صرح أيضًا بما نقله الإمام جماعة منهم البغوي في "تهذيبه"، وقد تبين لك أن الحكم بخلاف المذكور هنا وفي "الروضة" فاعلمه واحمد الله على تيسيره وتيسير أمثاله. قوله: ولو قال: أنت طالق للشهر الماضي، ففي "المجرد" للقاضي أبى الطيب أنه يقع الطلاق في الحال بلا خلاف كما لو قال لرضى فلان، لكن الكلام في مثل ذلك يستعمل للتاريخ، واللفظ محتمل للمعاني المذكورة في قوله في الشهر الماضي. انتهى. والذي بحثه الرافعي قد جزم به ابن داوود في شرحه "للمختصر" وزاد عليه قسمًا أخر فقال: إن أراد باللام الوقت فكما لو قال في الشهر

الماضى وإن أراد التعليل وقع ولم يتعرض لحالة الإطلاق. قوله في أصل "الروضة": التاسعة: قال: إذا مات فلان أو إذا قدم فلان فأنت طالق قبله بشهر، أو قال: أنت طالق قبل أن أضربك بشهر، نظر إن مات فلان أو قدم أو ضربها قبل مضى شهر من وقت التعليق لم يقع الطلاق، وقيل: يقع عند الضرب، والصحيح الأول وبه قطع الجمهور. انتهى كلامه. وما ذكره من اختصاص الوجه بالضرب غلط عجيب، فإن الرافعي حكاه في الجميع إلا أنه حكاه عن الشيخ في "المهذب" والشيخ إنما حكاه في القدوم، وأما في التعليق على الموت فجزم بمقالة الجمهور وسكت عن التعليق على الضرب فلم يذكره بالكلية فحصل للرافعي غلط فيما نقله عن "المهذب"، ثم حصل للنووي غلط آخر فيما نقله [عن الرافعى وهو أفحش من غلط الرافعى إلا أن الرافعى بعد نقله] (¬1) في الجميع في أثناء الاستدلال مثل بالقدوم على وفق ما حكاه الشيخ. قوله في المسالة: فإن مات أو قدم أو ضرب بعد مضى شهر من وقت التعليق تبينا وقوع الطلاق قبله بشهر. انتهى. وما جزم به من الاكتفاء بالشهر في الوقوع تبعه عليه في "الروضة"، لكن جزم في "المهذب" في التعليق على الموت بأنه لابد من زيادة لحظة على الشهر ليقع الطلاق فيها إلا أنه صور ذلك في التعليق على موت نفسه، ولم يذكره في التعليق على القدوم ولا فرق بينهما، وقد جزم به في القدوم أيضًا ابن الصباغ أيضًا في "الشامل" والمحاملي في "المجموع" والبندنيجي في "تعليقه" وغيرهم. قوله: ولو قال: أنت طالق اليوم أو غدًا، فوجهان: الصحيح: لا يقع إلا في الغد؛ لأنه اليقين. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: يقع في الحال تغليبًا للإيقاع. انتهى. وقد وقع في الرافعي مسائل متشابهة في المدرك وبعضها كالمعارض لبعض فقال في آخر هذا الفصل: قال: أنت طالق غدًا أو عبدى حر بعد غد، قال البوشنجي: يؤمر بالتعيين، وقال في أخر عدد الطلاق في فتاوي القفال: لو قال: طلقتك واحدة أو اثنتين على سبيل الإنشاء فيختار ما شاء من واحدة أو اثنتين وقال في آخر تعليق الطلاق نقلًا عن البوشنجي: وأنه لو قال إن دخلت الدار فعبدى حر أو كلمت فلانًا فامرأتي طالق سألناه لنتبين أي اليمينين أراد فما أراد تقرر. وقال في آخر الباب الثالث من أبواب الأيمان: وفي "الإقناع" للماوردي أنه لو قال: لا أكلت خبزًا أو لحمًا فرجع إلى مراده منهما فيتعلق به اليمين. قوله: ولو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد فوجهان: أحدهما عن ابن سريج وصاحب "التقريب": لا تطلق. والثاني: تطلق. انتهى. والأصح هو الأول، كذا جزم به صاحب "التنبيه" وصححه في "الروضة" من زوائده. قوله: ولو قال أنت طالق ثلاثًا في ثلاثة أيام، أو في كل يوم طلقة نظر إن قاله بالنهار وقعت في الحال طلقة وبطلوع الفجر في اليوم الثاني أخرى وبطلوعه في الثالث أخرى، ولو قال: أردت أن يكون بين كل طلقتين يوم فيدين. وهل يقبل ظاهرًا؟ فيه وجهان أحدهما: نعم كالسنة، والثاني: لا لأن النوم عبارة عن هذا الزمان المحصور لا يدخل بعضه في بعض بخلاف السنة والوجهان ينطبقان على الوجهين في أن من نذر اعتكاف يوم، هل يجوز له أن يعتكف ساعات متفرقة بقدر يوم؟ وقياس ما أجابوا به في ما

إذا قال: إذا مضى يوم فأنت طالق، أنه يقبل. انتهى كلامه. والقياس على مسألة النوم قياس عجيب لا أدرى كيف وقع للرافعي فقد تقدم أنه قال ذلك في أثناء يوم أنها لا تطلق إلا بنظيره من اليوم الثاني وإن أطلق، وأما في مسألتنا فإنها تطلق في اليوم الذي قاله فيه عند الإطلاق، فكيف يقيس القبول في ما يخالف الظاهر والأصل على القبول في ما يوافقهما، وقد تبعه النووي في "الروضة" على دعوى القياس فقال: أقيسهما: القبول، ولم يذكر مستنده فاستتر وقد ظهر لك أن الترجيح المذكور في هذه المسألة من الكتابين كلا ترجيح فتفطن له. قوله: ولو قال: أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم فمضى اليوم ولم يطلقها فعن ابن سريج: أنه لا طلاق؛ لأن الشرط إنما يوجد بمضى اليوم وإذا مضى اليوم تعذر الطلاق اليوم، وقال الشيخ أبو حامد: يقع في آخر لحظة من اليوم وهذا إذا بقى من اليوم زمن لا يسع التطليق؛ لأن الشرط قد تحقق حينئذ. انتهى. قال في "الروضة": الأفقه المختار هو الثاني، والله أعلم. فيه أمران: أحدهما: أن في المسألة اعتبارًا آخر هو أظهر مما ذكره وهو آخر لحظة من اليوم، لكن لا بالتفسير الذي ذكره، وذلك لأن زمن التطليق أوسع من زمن وقوع الطلاق، فإنه إذا مضى مثلًا زمن الطلاق فقد بقي من اليوم زمن لا يسع التطليق واليوم باق وبقاؤه يمنع الطلاق، وإذا حصل اليأس من التطليق، وقد صرح الرافعي بحكاية ذلك وجهًا في نظير المسألة وأشعر إيراده برجحانه، ذكر ذلك في الباب الثاني من كتاب الأيمان في أول النوع السادس منه. الأمر الثاني: أن الأصوب ما قاله ابن سريج لا للمعني الذي ذكره،

بل لأنه لو وقع الطلاق المعلق لوجد التطليق اليوم؛ لأن التعليق مع وجود الصفة تطليق فإذا وجد التطليق لم يقع المعلق لانتفاء شرطه وهو عدم التطليق. قوله: وفي فتاوى القفال أنه لو قال: أنت طالق في أفضل الأوقات طلقت في ليلة القدر، وإن قال: أفضل الأيام طلقت يوم عرفة وفي وجه يوم الجمعة عند الغروب. انتهى كلامه. وحاصله أن في التعليق على أفضل الأيام خلافًا من غير ترجيح؛ لأنه نقل عن فتاوى القفال أنه يوم عرفة ونقل وجهًا آخر أنه يوم الجمعة، وقد اختصر في "الروضة" هذا الكلام على وجه يقتضي أن يكون الأول هو الصحيح وأن المذكور في فتاوي القفال إنما هو الوجه خاصة، فقال: قال: أنت طالق في أفضل الأوقات طلقت ليلة القدر، ولو قال: أفضل الأيام طلقت يوم عرفة وفي وجه يوم الجمعة عند غروب الشمس، ذكره القفال في فتاويه. هذا لفظه، فإن كان الكلام جميعه من كلام القفال وهو الظاهر، ورد عليه أن التصحيح الذي أدخله في كلام الرافعي ليس للرافعي، بل لا تصحيح في كلامه بالكلية، وإن كان صدره خاصة للقفال، والمسألة الثانية نجملها من كلام الرافعي فيرد عليه نسبة الوجه الأخير إلى القفال، وقد استدرك في "الروضة" على الوجه القائل بالوقوع عند الغروب استدراكًا صحيحًا فقال: تخصيصه بوقت الغروب ضعيف أو غلط لأن اليوم يتحقق بطلوع الفجر فإن تخيل متخيل أن ساعة الإجابة قد قيل؛ إنها آخر النهار فهو وهم ظاهر لوجهين: أحدهما: أن الصواب أن ساعة الإجابة من حيث يجلس الإمام على المنبر إلى أن يقضي الصلاة، كذا صرح به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في "صحيح مسلم" (¬1). ¬

_ (¬1) حديث (82) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والثاني: أنه لم يعلق بأفضل أوقات اليوم بل اليوم الأفضل واسم اليوم الأفضل يحصل بالفجر. هذا كلامه، وقد راجعت فتاوى القفال فرأيته قد جزم بالأول وحكى الثاني وجهًا ضعيفًا وعلله بقوله لأن تلك الساعة أفضل. قوله: وقد سكت جمهورهم عن التعليق بأفضل الشهور والمنقول فيه أنه رمضان لا الأشهر الحرم، كذا جزم به الشيخ عز الدين في أوائل القواعد في الفصل المعقود لتفاوت أجور الأعمال لاختلاف الأزمان، وروى الحليمي في "شعب الإيمان" أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "سيد الشهور رمضان" (¬1). قوله: نقلًا عن "فتاوى القفال": ولو قال: أنت طالق بين الليل والنهار، لا تطلق ما لم تغرب الشمس. انتهى. محل هذا إذا كان بالنهار فإن كان ليلًا لم تطلق حتى يطلع الفجر، وقد نبه عليه في "الروضة". قوله في "الروضة" نقلًا عن الفتاوي المذكورة: ولو قال: أنت طالق قبل موتى طلقت في الحال، وإن قال قبل بضم القاف وفتح الباء أو قبيل بزيادة ياء لا تطلق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته. انتهى كلامه. وما ذكره في ضبط قبل من فتح الباء غلط لم يذكره أحد بل فيه لغتان إسكان الباء وضمها كنقيضه وهو الدبر كذا ذكره الجوهري وغيره، ولم يتعرض الرافعي وابن الرفعة إلا لضم القاف فقط وما ذكره في صدر المسألة ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (3637) و (3755) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 393) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا بسند ضعيف، لضعف يزيد بن عبد الملك النوفلي. قال الألباني: ضعيف. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (9000) وعبد الرزاق (7894) وابن أبي شيبة (1/ 477) والبيهقي في "الشعب" (3638) من حديث ابن مسعود موقوفًا.

تبعًا للرافعي من نقله عن القفال فقط مشهور ذكره القاضي حسين في تعليقه والمتولى في "التتمة"، والقاضي أبو الطيب في آخر تعليقه ونقله في "الشامل" عن ابن الحداد. قوله: ولو قال: أنت طالق قبل أن تدخلى الدار وقبل أن أضربك ونحو ذلك مما لا يقطع بوجوده. قال إسماعيل البوشنجي: يحتمل وجهين: أحدهما: وقوع الطلاق في الحال لقوله قبل موتى أو قبل موت فلان. وأصحهما: لا يقع حتى يوجد ذلك الفعل فحينئذ يقع الطلاق مستندًا إلى حال اللفظ لأن قولنا هذا قبل هذا يستدعى وجودهما وربما لا يوجد. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي أيضًا بعد ذلك في الطرف السادس المعقود للمسائل الدورية إلا أنه مثل بمثال آخر فذكر ما حاصله أنهما ماداما حيين. لا يقع الطلاق قبل الصفة وأنه إذا مات أحدهما حكم بوقوعه قبيل الموت وهذه المقالة مخالفة لكل من الاحتمالين [المذكورين في هذا الباب، أما على الإحتمال] (¬1) الأول فواضح، وأما على الثاني الذي صححه فقد خالفه هناك من وجهين: أحدهما: إيقاع الطلاق بالموت مع أن المعلق عليه لم يوجد. والثاني: كونه واقعًا قبيل الموت لا مستندًا إلى حال اللفظ وسأذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه، وقد تبعه في "الروضة" على الموضعين. واعلم أنه إذا قال لنسوته أول من تدخل منكن الدار طالق فدخلت واحدة طلقت وإن لم يدخل غيرها ولفظ الأول لا يستدعى ثانيًا فأى فرق بينه وبين قبل. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولو قال: أنت طالق تطليقة قبلها يوم الأضحى سألناه فإن أراد الأضحى الذي بين يديه لم تطلق حتي يجئ ذلك الأضحى وينقرض ليكون قبل التطليقة، وإن أراد الأضحى الماضي طلقت في الحال كما لو قال يوم السبت: أنت طالق طلقة قبلها يوم الجمعة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه في الوصف بقبلية يوم الجمعة يوهم الوقوع في الحال وليس كذلك، بل الوصف كالوصف بقبلية يوم الأضحى سواء ولا فرق بينهما. الأمر الثاني: أن كلامه ساكت عما إذا لم يكن له نية وحكمه أنه لا يقع حتي ينقضي الأضحي الذي بين يديه؛ لأنه المتيقن وقد نبه عليه في "الروضة" وهو واضح، ومثله ما إذا تعذرت مراجعته بسبب من الأسباب كالموت والجنون ونحوهما، ويستدل بهذه المسألة ونحوها على أنه لا يقع إلا واحدة إذا قال: أنت طالق وكرره ولم يعلم هل أراد التأكيد أو الإستئناف، ولم يصرح به الرافعي هناك، وذكر الرافعي في باب استثناء الطلاق نحوه أيضًا فقال نقلا عن البوشنجي من غير اعتراض عليه: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا نصفًا فإنه يراجع، فإن أراد إلا نصفها فطلقتان، وإن أراد إلا نصف طلقة طلقت ثلاثًا، وإن لم تكن نية فطلقتان وقد تقدم أيضًا في كتاب الإقرار في الباب الأول منه ما يوضح ما ذكرناه وهو لزوم الأقل فراجعه. قوله: ولو قال: أنت طالق قبل موت فلان وفلان بشهر فمات أحدهما قبل شهر لم تطلق، وإن مات أحدهما بعد مضي شهر فوجهان: أحدهما: تطلق قبل موته بشهر؛ لأنه وإن تأخرت بموت الآخر فيصدق عليه أنه وقع قبل موتهما بشهر. والثاني: لا تطلق أصلًا لأنه في العرف لا يقال: طلقت قبل موته بشهر إلا إذا لم يزد ولم ينقص وهذا الوجه خرجه البوشنجي، ونظير المسألة

قوله: أنت طالق قبل عيدى الفطر والأضحى بشهر، فعلى الأول تطلق أول رمضان، وعلى الثاني لا تطلق. انتهى. قال في "الروضة" الصواب الأول، والثاني غلط. قوله: وحكى أبو العباس الروياني وجهين في ما لو قال: أنت طالق كل يوم فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- أنها لا تطلق كل يوم حتى يكتمل الثلاث. والثاني: لا تطلق إلا واحدة، والمعنى أنت طالق أبدًا. انتهى. والأصح هو الأول لأنه السابق إلى الفهم، كذا قاله في "الروضة" من زوائده. قوله: ولو قال: أنت طالق غدًا أو عبدي حر بعد غد، قال البوشنجي: يؤمر بالتعيين فإذا عين الطلاق أو العتق تعين في اليوم الذي ذكره. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد نقل عن فتاوى القفال في بعض نظائر المسألة ما يخالف المذكور هنا، وأقره هو والنووي عليه وقد تقدم إيضاحه في الباب الثالث المعقود لتعدد الطلاق فراجعه. الأمر الثاني: أن هذه المسألة قد ذكرها أيضًا ابن الصباغ في "شامله" وكلامه يشعر بأن التعيين إنما يكون بعد الغد لا قبله، فإنه عبر بقوله: فإذا جاء بعد الغد كان الخيار إليه في تعيين الطلاق أو العتق هذا لفظه، والذي أشعر به كلامه.

الفصل الثاني في التعليق بالتطليق

الفصل الثاني في التعليق بالتطليق قوله: من له أربع نسوة وعبيد فقال: إن طلقت واحدة من نسائي فعبد من عبيدي حر، وإن طلقت اثنتين فعبدان حران، وإن طلقت ثلاثة فثلاثة أعبد أحرار، وإن طلقت أربعًا فأربعة أعبد أحرار، ثم طلقهن معًا أو على الترتيب عتق عشرة أعبد؛ لأنه طلق واحدة واثنتين وثلاثًا وأربعًا، وهذه الأعداد إذا جمعت بلغت عشرة، وكذا الحكم لو علق بإذا أو متى أو مهما أو ما يقتضي التكرار. انتهى كلامه. وهذه الواو المذكورة في تصوير المسألة حيث قال: وإن طلقت كذا وكذا هي على سبيل الشرط فإن أتى بثم فقال: ثم إن طلقت إلى آخره فلا يضم المأخوذ أولًا إلى التعليق الثاني لتمام اسم الاثنين والثلاث والأربع، فقد ذكر الرافعي بعد ذلك في نظير المسألة مثله فقال في أول الطرف الرابع المعقود للتعليق بالحيض أنه لو قال: إن حضت حيضة فأنت طالق وإن حضت حيضتين فأنت طالق فإذا حاضت حيضة وقعت طلقة فإذا حاضت أخرى وقعت ثانية، وإن قال إن حضت حيضة فأنت طالق، ثم إن حضت حيضتين فأنت طالق، فإنما تقع الثانية إذا حاضت بعد الأولى حيضتين. هذا كلامه، فعلى هذا إذا عطف بـ"ثم" في مسألتنا وطلق الأولى فيعتق عبدًا، وإذا طلق الثانية فلا يعتق بها شيء إلا بوصف الواحدة لأنه لم يعلق بحرف يقتضي التكرار ككلما، بل علق بأن، ولا يوصف المرأتين لأن الأولى قد عددناها فإذا طلق الثالثة صدق هذا الوصف -أعني: وصف الاثنين- ولا يصدق بعد ذلك وصف الثلاثة ولا وصف الأربعة، وحينئذ فلا يعتق إلا ثلاثة أعبد ويتجه أن تكون الفاء في ذلك كثم.

قوله: أما إذا علق هذه التعليقات بكلمة كلما ثم طلقهن معًا أو على الترتيب فظاهر المذهب وهو المذكور في الكتاب أنه يعتق خمسة عشر عبدًا؛ لأن كلمة كلما تقتضي التكرار، وإذا طلق واحدة حصلت صفة وهي تطليق واحدة فيعتق عبد، وإذا طلق أخرى حصلت صفتان تطليق واحدة مرة أخرى وتطليق اثنتين فيعتق ثلاثة أعبد، فإذا طلق ثالثة حصلت صفتان طلاق واحدة مرة أخرى فطلاق ثلاث فيعتق أربعة أعبد، فإذا طلق الرابعة حصل ثلاث صفات طلاق واحدة مرة أخرى فطلاق الاثنتين غير الأوليين وطلاق أربع فيعتق سبعة، المجموع خمسة عشر ووراء هذه وجوه. أحدها عن ابن القطان: أنه يعتق عشرة. والثاني: أنه يعتق سبعة عشر عبدًا لأن في طلاق الثالثة وراء الصفتين المذكورتين صفة أخرى وهى طلاق اثنتين بعد الأولى فيعتق عبدان آخران. والثالث: يعتق عشرون عبدًا سبعة عشر عبدًا لما ذكرناه وثلاثة لأن في إطلاق الرابعة صفة أخرى وراء الصفات الثلاث وهو طلاق ثلاث بعد الأولى، وهذه الوجوه ضعيفة باتفاق الأئمة، أما الأول فلأنه إسقاط لمقتضي كلما، وأما الآخران فلأن الثانية معدودة مع التي قبلها في يمين الاثنتين والثالثة معدودة مع اللتين قبلها في يمين الثلاث فلا يعدان مع من بعدهما في اليمين فإن ما عُد في عدد مرة لا يعد فيه مرة أخرى، واستشهد على ذلك بأنه لو قال كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر، ثم أكل رمانة فيعتق عبدان لأنه أكل نصفي رمانة ولا يقال يعتق ثلاثة أعبد لأنه الربع الثاني مع الثالث نصف رمانة لأن الربع عد مرة مع الأول فلا يعده مرة أخرى، وبأنه لو قال: كلما دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة وطلقت ثم دخلت مرة أخرى تطلق طلقة ثانية، ولا يقال تطلق طلقتين طلقة بهذه الدخلة وأخرى بالدخلة الأولى؛ لأن الأولى قد حسبت مرة فلا تحسب مرة

أخرى، والشيخ أبو حامد والإمام وجماعة نفوا وجه العشرين وألزموا من قال: سبعة عشر أن يقول بعتق عشرين تبعًا لما صار إليه، ووجه إعتاق سبعة عشر أولى بالنفي، لأن من لم يقل بالعشرين ومن قال به يلزمه أن لا يقتصر عليه ويقول بالعشرين، وفي "المجرد" للقاضي أبي الطيب وجه آخر أنه يعتق ثلاثة عشر عبدًا. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من اشتراط كلما في التعليقات الأربع حيث قال: أما إذا علق هذه التعليقات بكلمة كلما إلى آخره سبقه إليه الأصحاب فتابعهم عليه هنا وفي "الشرح الصغير" و"الروضة" وتصحيح "التنبيه" وهو غلط والصواب اشتراطه في التعليق الأول والثاني خاصة؛ لأن الثلاثة والأربعة لا يتصور فيهما التكرار. الأمر الثاني: أن ما ذكره من الاستشهاد للصحيح بصورة الدخول ذهول، فإن الاقتصار على كلما دخلت هو نظير الاقتصار على كلما طلقت امرأة فعبد حر وليس كلامنا فيه إنما كلامنا فيما إذا قال: وكلما طلقت امرأتين إلى آخره فنظيره أن يقول: كلما دخلت مرتين، وحينئذ فتصير مسألتنا بعينها فثبت أنه لا فرق في الحكم بين الدخول والعتق. الأمر الثالث: أن ما ذكره آخرًا في البحث مع الإمام وغيره من نفاة وجه العشرين عجيب فإن المذكور في "النهاية" أنهم نفوه من جهة النقل ففهم الرافعي أن المراد نفي توجيهه فذكر ما ذكر. الأمر الرابع: أنه أهمل قسمًا ثالثًا ذكره في "التنبيه" وإن كان قد غلط في حكمه، وهو ما إذا صرح بكلما في الأول خاصة وحكمه أنه يعتق ثلاثة عشر عبدًا وقد نبه عليه النووي في تصحيحه وهو واضح. قوله: ولو قال: إن تركت طلاقك فأنت طالق، فإذا مضى زمان يمكنه

أن يطلق فلم يطلق طلقت، وإن طلقها في الحال واحدة ثم سكت لا تقع أخرى؛ لأنه لم يترك طلاقها، قال في "التهذيب": ويمكنه لو قال: إن سكت عن طلاقك فأنت طالق فلم يطلقها في الحال طلقت بحصول الصفة، وإن طلقها في الحال ثم سكت طلقت أخرى بالسكوت ولا تطلق بعد ذلك لانحلال اليمين. انتهى كلامه. وتفريقه بين أن يقول إن سكت أو تركت بالنسبة إلى الوقوع ثانيًا تابعه عليه في "الروضة" ولا أدري ما وجهه فالصواب التسوية وأن يجعل هذا من الأجوبة المختلفة، ولم يتعرض للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". قوله: فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق لم يقع الطلاق حتى يحصل اليأس ولليأس ثلاثة أسباب: أحدها: موت أحد الزوجين. الثاني: الجنون، فإذا جن أحدهما لم يوجب ذلك يأسًا؛ لأن الإفاقة والتطليق بعدها متوقعان، فإن اتصل الموت به تبين حصول اليأس من وقت الجنون فيطلق قبيل الجنون. الثالث: الفسخ، فإذا انفسخ النكاح بسبب أو انفسخ بردة أو غيرها فلا يحصل اليأس؛ لأنه قد يجدد نكاحًا وينشأ فيه طلاقًا ولا يختص ما به البر والحنث بحال فإذا ماتا أو أحدهما ولم يوجد تجديد أو تطليق فقد تحقق الفوات، ولا يمكن القول بوقوع الطلاق هاهنا قبيل الموت فتعين الاستناد إلى ما قبل الانفساخ كما استندنا إلى ما قبل الجنون، كذا ذكره الإمام على تلوم وتردد فيه وتابعه عليه المصنف وغيره قالوا: وهذا إذا كان [الطلاق رجعيًا] (¬1) فإن كان بائنًا لم يقع إذ لو وقع؛ لما حصل الفسخ، ولو لم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يحصل الفسخ لم [يحصل اليأس وإذا لم يحصل اليأس لم] (¬1) يقع الطلاق. انتهى كلامه. وهذا الذي نقلته من كلام الرافعي كالمقدمة والمقصود سيأتي فمراده بقوله، ولا يختص ما به البر والحنث بحال النكاح إنما هو النكاح الأول لا نفي الاختصاص عن النكاح مطلقًا لأن الصفة المعلق عليها هاهنا هو الطلاق والطلاق أيضًا يتوقف على النكاح فتعين أن يكون المراد ما قلناه، وقد صرح به الغزالي في "الوسيط" وذكره لابد منه، ثم قال -أعني الرافعي-: ولو جدد نكاحها بعد الانفساخ فإن طلقها في النكاح الثاني لم يفت التطليق ولا يقع الطلاق، وإن لم يطلقها حتى مات أحدهما في النكاح المجدد فيبني على قولى عود الحنث إن قلنا: يعود الحنث طلقت في النكاح الثاني قبل الموت وبنينا النكاح على النكاح، وإن قلنا: لا يعود الحنث فلا يمكن إيقاع الطلاق قبيل الموت فيستند إلى ما قبل الانفساخ كما سبق. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد ذكر ما يخالفها في أواخر الباب: وسأذكر لفظه هناك فراجعه. ثم قال: واعلم أن هذه الطرق الثلاثة في ما إذا كان التعليق بنفي التطليق، أما إذا علق بنفي الضرب وسائر الأفعال فالجنون لا يوجب اليأس وإن اتصل به الموت. قال في "الوسيط": لأن ضرب المجنون في تحقيق الصفة ونحوه كضرب العاقل على الصحيح. انتهى. ومراده بهذا أن الطلاق في هذه الحالة إنما يقع قبيل الموت لا قبيل الجنون فاعلمه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثم قال: ولو أبانها ودامت البينونة إلى الموت ولم يتفق الضرب فلا يقع الطلاق ولا يحكم بالوقوع قبل البينونة، بخلاف ما في قوله إن لم أطلقك؛ لأن الضرب بعد البينونة ممكن والطلاق بعد البينونة غير ممكن. انتهى كلامه. ومراده بقوله ولو أبانها إنما هو البينونة بالفسخ أو الانفساخ لا البينونة بالطلاق؛ لأنه إذا أبانها بالطلاق لم يقع بالتطليق المعلق على نفيه شيء آخر، لأنه لم ينتف الطلاق، بل وجدوا الرافعي قد ذكر بأنه يقع قبل هذه البينونة طلقة أخرى فقال، بخلاف ما في قوله: إن لم أطلقك إلى آخره كما تقدم وإذا علمت صورة المسألة فاعلم أن الحكم الذي ذكره في الضرب من عدم وقوع الطلاق في هذه الحالة غلط، بل الصواب وقوعه وذلك لأنه قد سبق تعليق صحيح ووجد المعلق عليه وهو انتفاء الضرب فيوجد المعلق وهو وقع الطلاق، غير أنه لما لم يكن وقوعه قبيل الموت أوقعناه قبيل الانفساخ، وقد ذكر الرافعي مثل هذا في ما إذا جن أو انفسخ النكاح ولم يجدد وتقدم نقله عنه في أول الكلام، وأما قوله؛ لأن الضرب بعد البينونة ممكن فمسلم لم يقع وإذا لم يقع فقد وجد المعلق عليه. وأما قوله: والطلاق بعد البينونة غير ممكن فليس كذلك، بل هو ممكن بتجديد نكاح آخر، وقد صرح هو به قبل ذلك وتقدم نقله عنه أيضًا ثم نقول للرافعي: لولا أنه ممكن لكان يلزم أن يقع الطلاق بمجرد البينونة وليس كذلك، ويدل أيضًا على ما ذكرناه من كون الحكم المذكور غلطًا أن الرافعي ذكر بعده عكسه فقال عقبه من غير فصل: وإذا كان التعليق بنفي الضرب ونحوه من الأفعال كعروض الطلاق كعروض الفسخ والانفساخ، لكن ينبغي أن يبقى من الطلاق عدد يمكن فرضه مستندًا إلى ما قبل الطلاق، فأما في التعليق بنفى التطليق فإنما تفرض البينونة بالانفساخ؛ لأنه

لو طلقها بطلت الصفة المعلق عليها، ويمكن أن يفرض في طلاق الوكيل فإنه لا يفوت الصفة هذا كلامه، وأراد بقوله فعروض الطلاق أى البائن، وأما الرجعي فلا يأس معه، وأشار بقوله: لكن ينبغي إلى آخره إلى أن الطلاق؛ وإن كان كالفسخ لكن الفسخ لا شرط له، وأما الطلاق أي المنجز فيشترط فيه أن يكون ناقصًا عن الثلاث حتي يمكن إيقاع طلاق آخر قبيله، وحينئذ فيقع الطلاق المعلق بالضرب لكنه يشترط أن يكون المعلق رجعيًا كما تقدم فاستحضره، أما إذا أوقع الثلاث فلا يمكن إيقاع شيء آخر قبله وحينئذ فلا يقع المعلق وهذا الذي قاله الرافعي كله صريح في أنه إذا أبانها بالطلاق واستمرت البينونة إلى الموت يقع الطلاق المعلق بالضرب قبيل هذا الطلاق ولهذا شرط فيه أن يكون المنجز ناقصًا عن الثلاث، فإنه لو لم يقع شيء والحالة هذه لكان الحال لا يفترق بين أن يكون ثلاثًا أو أقل وأشار بقوله فأما في التعليق يبقي التطليق إلا أن التعليق بنفى الضرب يحصل اليأس فيه بالفسخ والطلاق فلهذا قلنا: إن عروض الطلاق كعروض الفسخ بخلاف التعليق بنفي التطليق فإن الطلاق ليس كالفسخ فإنه إذا طلق لا يقع شيء آخر، لأنه لم يوجد المعلق عليه وهو انتفاء الطلاق هذا معني كلامه وحاصله أنه إذا علق بنفي الضرب ثم طلقها ولم يجدد إلى الموت ارتفع المعلق، وحينئذ فيلزم بالضرورة أن تكون البينونة بالفسخ مثله أيضًا وأن يكون الرافعي ساق هذا الكلام لذلك فإنه سوى بين الطلاق والفسخ، وبالجملة فقد صرح الغزالي بالمسألة التي ذكرها الرافعي، وهي مسألة الانفساخ وأتى بها على الصواب وجزم بالوقوع فقال في "البسيط": الصورة الثالثة: طرءان الانفساخ على النكاح، أو طرءان الفسخ وذلك لا يحصل اليأس من تطليقها فإنه يتصور أن ينكحها وينشأ طلاقًا والذي يرى أن الصفة لا يختص وجودها بالنكاح، ولذلك قلنا: ينحل اليمين بوجود الصفة في حالة البينونة خلافًا للإصطخري، ثم قال ما نصه: ولنفرض

الكلام في ما إذا قال إن لم أضربك ليكون أظهر، فالضرب غير ميئوس عنه فيتوقف فإن ضربها بعد ذلك فهو المُنى، وإن مات أحدهما قبل الضرب، فقد تحقق الحلف ولكن صادف وقت اليأس حالة لا يمكن الإيقاع قبلها فعند هذا يتعين الاستناد إلى ما قبل الإنفساخ [ويكون الانفساخ] (¬1) مع الموت عليه. هذا لفظه بحروفه. واعلم أن ما قاله من أن التعليق بنفى التطليق إنما تفرض البينونة فيه بالإنفساخ أو بطلاق الوكيل، ليس كما ادعاه من أنه لا يتصور إلا بما ذكره، بل يتصور في صورة أخرى وهي ما إذا قال للرجعية: إن لم أطلقك فأنت طالق ثم لم يطلقها حتى إنقضت العدة، فإن البينونة قد عرضت بغير الفسخ أيضًا. وقوله في أصل المسألة: الطلاق يقع عند اليأس قبيل الموت والجنون غير محرر، بل الصواب أن يقال يقع الطلاق عند العجز، وقد نبه الماوردي في "الحاوي" على هذا فقال: يقع الطلاق إذا ضاق عمره عن قوله: أنت طالق، وذكر الروياني نحوه في "البحر" فقال: يقع في أخر جزء من حياة الميت وهو الزمن الذي لا يسع إيقاع حروف الطلاق. قوله في "الروضة": إِنْ الشرطية هي بكسر الهمزة فإن فتحت صارت للتعليل، فإذا قال أنت طالق أن لم أطلقك بفتح الهمزة طلقت في الحال، ثم الذي قاله الشيخ أبو حامد والإمام والغزالي والبغوي أن هذا في حق من يعرف اللغة ويفرق بين إن وأن فإن لم يعرف فهو للتعليق. وقال القاضي أبو الطيب: يحكم بوقوع الطلاق في الحال إلا أن يكون الرجل ممن لا يعرف اللغة ولا يميز وقال: قصدت التعليق فيصدق، وهذا أشبه وإلى ترجيحه ذهب ابن الصباغ، وبه قطع المتولى، قلت: الأول أصح وبه قطع الأكثرون، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من زوائده والخبير قد خالفه قبل ذلك في آخر الباب الرابع فذكر أن الطلاق يقع من الجاهل والخبير فقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. الأمر الثاني: أن ما ادعاه من قطع صاحب "التتمة" به غلط لم يذكره الرافعي، بل عبر بقوله وهو المذكور في "التتمة"، وقد صرح صاحب "التتمة" والخبير -لخلاف، فإنه عبر أولًا بقوله: قال عامة أصحابنا: تطلق في الحال إلا أنه لو لم يكن من أهل العلم بالإعراب وادعى أني أردت الشرط فيقبل قوله، ثم قال ما نصه: ومن أصحابنا من قال: هذا حكمه في حق من يعرف اللغة فأما إن كان لا يعرف اللغة فيكون تعليقًا؛ لأن ظاهر حاله يدل على أنه أراد الشرط هذه عبارته. واعلم أن الروياني في "البحر" قد رجح ما قاله القاضي أبو الطيب فقال: إنه الأولى، ونقل عن القفال ما يقتضيه واستدل عليه بوجوب حمل اللفظ على مقتضاه إلا أن يصرفه عن مقتضاه ببيان مراده وقد تقدم من كلام "التتمة" أن عامة الأصحاب عليه، ولم يذكر الشاشي في "الحلية" غيره. قوله: ولو قال: أنت طالق طالقًا قال الشيخ أبو عاصم: لا يقع في الحال شيء، لكن إذا طلقها وقع طلقتان والتقدير إذا صرت مطلقة فأنت طالق، وهذا في المدخول بها. انتهى. وتخصيص هذا المدخول به قد تبعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي أن غير المدخول بها لا يقع عليها إلا واحدة، لكن الصحيح المذكور في باب تعدد الطلاق أنه إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة وقعت طلقتان وقياسه هنا كذلك.

قوله نقلًا عن البوشنجي: إنه لو قال: أنت طالق إن لم أضربك أو إن لم أضربك فأنت طالق، وقال: عنيت به وقتًا معينًا دين سواء عين الساعة أو وقتًا آخر قريبًا منه أم بعيدًا وهكذا يكون الحكم في التعليق بنفي الطلاق وسائر الأفعال. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا الفرع ولم يصرح بنقله عن البوشنجي وهو إما تحرف أو غلط؛ لأن التديين هو العمل به باطنًا لا ظاهرًا أو كلمة إن لا تقتضي الفور ولا يحكم بالوقوع في التعليق المذكور وأمثاله إلا في آخر العمر فأي وقت ادعى أنه أراده قريبًا كان أو بعيدًا رجعنا إليه فيه باطنًا وظاهرًا إلا أنه قد غلط على نفسه، وإنما يكون التديين إذا ادعى أمرًا هو أخف مما يلزمه به. قوله: ولو قال: أنت طالق طالقًا أي بالنصب، قال الشيخ أبو عاصم: لا يقع في الحال شيء، لكن إذا طلقها وقع طلقتان، والتقدير إذا صرت مطلقة فأنت طالق وهذا في المدخول بها. انتهى. وما ذكره من تقييد وقوع الطلقتين بالمدخول بها قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو وجه ضعيف، فقد ذكر الرافعي في باب تعدد الطلاق أنه إذا قال لمدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة وقع طلقتان وهل تقعان معًا بتمام الكلام أو متعاقبين؟ وجهان: أصحهما: الأول، فإن قال ذلك لغير المدخول بها طلقت على الأول طلقتين، وعلى الثاني طلقة. هذا لفظه ولا شك أن ما ذكره الرافعي في هذا الباب قد التبس عليه بفرع آخر شرط الأصحاب فيه هذا الشرط ولكن أضربت عنه لطوله، وقد تقدم في الباب الثالث ذكر هذه المسألة لمعنى آخر فراجعه. قوله: ولو قال: أنت طالق، فطالق إن دخلت الدار طالقًا فهذا تعليق طلقتين بدخولها الدار طالقًا، فإن دخلت طالقًا وقعت طلقتان بالتعليق. انتهى.

وما ذكره صريح في أن الشرط المتعقب للحمل يعود إلى الجميع، وفيه كلام سبق في مواضع منها: باب عدد الطلاق فراجعه، ومنها: كتاب الوقف وغير ذلك. قوله: ولو قال أنت طالق إن لم أضربك: أو إن لم أضربك فأنت طالق، وقال: أردت وقتًا، دُيِّن، سواء عَيَّن الساعة أو وقتًا قريبًا أو بعيدًا وهكذا يكون الحكم في التعليق بنفى الطلاق وسائر الأعمال. انتهى كلامه. وما ذكره من كونه يُدَيَّنُ في هذه المسائل حتي لا يقبل في الظاهر قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب، فقد تقدم قبل ذلك بنحو ورقة أن التعليق على نفي الفعل بصيغة أن لا تقتضي الفور على الصحيح كقوله إن لم أضربك أو لم أطلقك أو لم تدخلي.

الفصل الثالث في التعليق بالولادة والحمل

الفصل الثالث في التعليق بالولادة والحمل قوله: ولو قال: إن كنت حاملًا فأنت طالق، فإن كان الحمل بها ظاهرًا وقع في الحال وإلا فلا يحكم بوقوع الطلاق مع الشك، ثم ينظر إن ولدت لدون ستة أشهر من التعليق تبينا وقوع الطلاق وكونها حاملًا حينئذ لأنه لا يمكن أن يأتي به كاملًا لأقل من ذلك. انتهى. وما ذكره من الحكم بوقوع الطلاق إذا أتت به لدون ستة أشهر قد نازع فيه ابن الرفعة وقال: إن كمال الولد ونفخ الروح فيه يكون بعد أربعة أشهر كما شهد به الخبر، وحينئذ فإذا أتت به لخمسة أشهر مثلًا احتمل العلوق به بعد اليمين، قال: والستة أشهر معتبرة لحياة الولد غالبًا. قوله: بعد ذلك: وإن ولدته لستة أشهر فأكثر لابد فيه من زيادة لحظة على الستة الأشهر كما سيأتي في العدد أنه لابد من مراعاة لحظتين لحظة الوطء ولحظة للوضع قوله: فرع: قال: إن أحبلتك فأنت طالق وكانت حاملًا لم تطلق، بل يقتضي ذلك حملًا حادثًا منه [فإن وضعت أو كانت حائلًا لم يمنع من الوطء] (¬1) فإذا وطئها منع حتى تحيض. انتهى كلامه. فيه أمران: تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: أن ما ذكره في آخر كلامه من المنع من الوطء ليس على جهة الإيجاب على الصحيح كما تقدم إيضاحه في كلامه قريبًا فلتتفطن له. الأمر الثاني: أن كلامه يوهم زوال المنع بالكلية بالحيض وليس كذلك فينبغي أن يقول: وكلما وطئها مرة منع حتى تحيض؛ لأن العلة في المنع الأول موجودة في ما بعده فتأمله. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

[الفصل الرابع في التعليق بالحيض]

قوله: فرع: نص في "الإملاء" على أنه لو قال لامرأته: إن كنت حاملًا فأنت طالق على مائة دينار، وهي حامل في غالب الظن طلقت إذا أعطته المائة وله عليها مهر المثل، ووجه فساد المسمى أن الحمل مجهول لا يمكن التوصل إليه في الحال فأشبه إذا جعله عوضًا. انتهى كلامه. وما جزم به من حصول الطلاق بالإعطاء قد جزم بخلافه في الباب الرابع من الخلع فذكر أنه يشترط القبول وأن يكون متصلًا، وقد تقدم هناك الإحالة على هذا الموضع لغرض آخر فراجعه. ولا يخفى أيضًا ما في هذه المسألة من إشكال القول بالفساد وضعف التعليل. قوله في "الروضة": ولو قال: كلما ولدت ولدًا فأنت طالق فولدت ثلاثة طلقت بالأولين طلقتين وانقضت عدتها بالثالث ولا تطلق به شيئًا آخر على المنصوص في "الأم" وعامة كتب الشافعي. وقال في "الإملاء": يقع بالثالث طلقة فقيل قولان، والصحيح عند المعتبرين القطع بما نص عليه في "الأم". انتهى ملخصًا. وما ذكره هنا في كيفية الخلاف قد خالفه في "المنهاج" فإنه عبر بقوله: ولا يقع به ثالثة على الصحيح. هذا لفظه، فجزم بطريقة الخلاف وجعله وجهين أيضًا، وعبر في "المحرر" بالأصح، إلا أنك قد عرفت غير مرة أنه لا اصطلاح له فيه. [الفصل الرابع في التعليق بالحيض] (¬1) قوله: فرع: قال لأربع نسوة كلما ولدت ثنتان منكن فالآخريان طالقتان فولدت مرتبًا لم تطلق واحدة بولادة الأولى، فإذا ولدت الثانية ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

طلقت الثالثة والرابعة طلقة طلقة ولا يقع على الأوليين شيء، فإذا ولدت الثالثة فالصحيح أنها لا تضم إلى الثانية ولا يقع بولادتها شيء، فإذا ولدت الرابعة طلقت الأوليان طلقة طلقة على قول ابن الحداد وتعتدان أن بالأقراء وتنقضي عدة الآخريين بولادتهما، وعلى قول ابن القاص لا تطلق الأوليان بولادة الآخريين. انتهى. وما ذكره من اختلاف ابن الحداد وابن الصباغ إنما جرى في الصورة السابقة مثل هذه المسألة لأجل ذكر الزوج لفظ الصاحبة، وليس هنا لفظ الصاحب، بل فيه الأوليان والأخريان وهو صادق مع البينونة فضلًا عن الرجعيات، ثم يلزمه إن سلك ذلك في المسألة قبلها ويخرجها على الخلاف بين ابن الحداد وابن القاص وأن لا تقع على الأولى ثلاث ولا على الثانية والثالثة، والصواب تصوير المسألة بما إذا قال: كلما ولدت واحدة منكن فصاحبتاها طالقتان، وقد نقل عن "شرح الفروع" للشيخ أبى على السنجي أنه صورها بذلك. قوله: إذا قال لامرأته: إذا حضت حيضة أو إن حضت حيضة فأنت طالق لا يقع الطلاق حتى تحيض وتطهر، وحينئذ فيقع سنيًا ولو قال: إن حضت فأنت طالق طلقت بالشروع في الحيض، وقيل: لا تطلق حتى يمضي يوم وليلة، فحينئذ نتبين وقوعه من حين رأيت الدم، وهذا هو الراجح عند الإمام والغزالي، قال الإمام: وعلى هذا هل يحرم الاستمتاع بها ناجزًا حكمه كما لو قال: إن كنت حائلًا فأنت طالق وقد سبق. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره في أول كلامه بقوله وحينئذ فيقع سنيًا هو بسين مضمومة ثم نون ومعناه أنه يقع سنيًا لا بدعيًا فاعلمه، فإنها قد تنحرف

على الناظر فيعبر عنها بقوله تبينا بالتاء بنقطتين من فوق ثم بالباء الموحدة، وقد وقع ذلك لابن الرفعة في "الكفاية" فنقله عن الرافعي، ثم اعترض عليه بأن الطلاق لا يقع من حين رؤية الدم فكيف يقال بالتبين؟ وهو اعتراض فاسد كما ظهر لك مما ذكرناه، وقد نبهت على ذلك أيضًا في كتابنا المسمى "بالهداية إلى أوهام الكفاية" وأوضحته فيه فراجعه. الأمر الثاني: أنه إذا علق طلاق امرأته على الحيال أي الخلو من الحمل فقال: إن كنت حائلًا فأنت طالق فإنه يحرم الإستمتاع بها قبل ظهور الأمر على الصحيح بخلاف ما لو علق على الحمل فإن الصحيح عدم التحريم، والفرق واضح، وإذا علمت ذلك فالذي نقله في آخر كلامه عن الإمام إنما هو الحامل بالميم؛ لأن الأصل عدم الحيض كما أن الأصل عدم الحمل والحيال هو نظير الطهر. قوله: لو قال لامرأتيه: إذا حضتما حيضة فأنتما طالقتان فثلاثة أوجه: أصحهما: يكفي قوله حيضة فإذا ابتدأهما الدم طلقتا، والثاني: إذا تمت الحيضتان طلقتا وهذا احتمال رآه الإمام، والثالث: أنه يلغو ولا تطلقان وإن حاضتا، ويجرى الخلاف في ما إذا قال: إن ولدتما ولدًا. قال الحناطي: فإن قال: إن ولدتما ولدًا واحدًا فأنتما طالقان فإنه محال ولا يقع الطلاق، وعلى الوجه الذي يوقع بالتعليق على المحال يقع هنا في الحال وإن لم تلدا. انتهى كلامه. وما ذكره القاضي من تصحيح إلغاء الحيضة وتعلق الطلاق بمجرد رؤيتهما الدم مخالف للقواعد فإنا إن نظرنا إلى التقييد بالحيضة، وأن اشتراكهما فيها محال لزم تصحيح عدم الوقوع، وإن نظرنا إلى المعنى وهو تمام الحيضة من كل واحدة لزم توقف الوقوع على تمامها، فالتصحيح الخارج عن كل منهما مشكل، ثم إنه ذكر أن الخلاف أيضًا جار في الولادة وأنه إذا صرح فيه بالوحدة كان محالًا حتى لا يقع على الصحيح، وهذا

بعينه يجرى في الحيضة؛ لأن الحيضة للمرة الواحدة كقوله ولدًا واحدًا. قوله: وإذا قالت: حضت فأنكر الزوج صدقت بيمينها لأنها أعرف بحيضها ويتعذر إقامة البينة عليه فإن الدم وإن شوهد لا يعرف أنه حيض بل يجوز أن يكون استحاضة. انتهى كلامه. وهذه المسألة -أعني الكلام في أنه هل يمكن إقامة البينة على الحيض أم لا- ذكرها الرافعي في أبواب: أحدها: هذا، وثانيها: في كتاب الديات في ثلاث مواضع منه، وثالثها في كتاب الشهادات واختلف كلامه فيها وكذلك كلام "الروضة" وقد أوضحت ذلك في الشهادات فلتراجع. قوله: وذكر إسماعيل البوشنجي أنه لو قال: إذا حضت حيضة فأنت طالق وعادتها ستة أيام مثلًا فإذا مضى ثلاثة أيام يقضي بوقوع الطلاق على ما يقتضيه ظاهر اللفظ. انتهى كلامه بحروفه. وتعبيره بقوله: إذا حضت حيضة هو الواقع في نسخ الرافعي، وصوابه نصف حيضة، وقد تفطن لذلك في "الروضة" فزاد هذه اللفظة، ونقل ابن الرفعة كلام الرافعي ثم اعترض عليه.

الفصل الخامس في التعليق بالمشيئة

الفصل الخامس في التعليق بالمشيئة قوله: ولو قال: امرأتي طالق إذا شاء زيد، لم يشترط الفور بالاتفاق. انتهى. لكن ذكر في "الحاوي" عند الكلام على ما إذا قال: أنت طالق لفلان أو لرضى فلان أنه إذا قال: إن رضى زيد فأنت طالق يشترط رضاه على الفور. قوله: أما لو علق بمشيئتها وهي صبية لا تميز أو مجنونة أو بمشيئة غيرها وهو بهذه الصفة لم يقع بلا خلاف. انتهى. وما ادعاه من نفي الخلاف ليس كذلك، فقد نقل في "الإبانة" عن القفال أنه قال بصحة المشيئة من المجنونة والصغيرة. قوله: وإذا علق الطلاق على مشيئتها فقالت: شئت وهي كارهة بقلبها وقع الطلاق في الظاهر، وهل يقع باطنًا؟ قال أبو يعقوب: لا يقع، وإليه مال القاضي الحسين. وقال القفال: يقع، وقال البغوي: إنه المذهب؛ لأن التعليق في الحقيقة على لفظ المشيئة. انتهى. والأصح هو الوقوع فقد صححه الرافعي في "المحرر" وعبر بالأظهر ونقله عنه في "الروضة" وسكت عليه، لكن ذكر الرافعي في أوائل كتاب الإقرار ما يشكل على الوقوع، ويقتضي أنه لا يقع فراجعه. قوله: ذكر البغوي أنه لو قال: أنت طالق كيف شئت، قال أبو زيد والقفال: تطلق شاءت أم لم تشأ.

وقال الشيخ أبو على: لا تطلق حتى توجد مشيئة في المجلس إما بالطلاق وإما بعدمه. قال البغوي: وكذا الحكم إذا قال، على أي وجه شئت. انتهى. وهذه المسألة قد أعادها الرافعي في أواخر كتاب العتق قبيل الولاء بنحو أربعة أوراق واقتضى نقله رجحان اشتراط المشيئة فراجعه هناك. قوله: ولو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا أن يشاء أبوك أو فلان واحدة فشاء واحدة فثلاثة أوجه: أصحها: لا يقع شيء كما لو قال: أنت طالق إلا أن يدخل أبوك الدار فدخل وعلى هذا لو شاء اثنين أو ثلاثًا لم يقع أيضًا شيء لأنه شاء واحدة وزاده. والثاني: أنه إذا شاء واحدة وقعت فكأنه قيل إلا أن يشاء واحدة فتطلقي تلك الواحدة لا الثلاث. والثالث: يقع طلقتان، والتقدير إلا أن يشاء أبوك واحدة فلا تقع الواحدة وتقع ما سواها، فإذا قلنا بالأول فقال: أردت المراد بالثاني قبل، وإن قلنا بالثاني فقال: أردت معني الأول قبل أيضًا في أظهر الوجهين حتى لا يقع به شيء، ثم قال: ولو قال: أنت طالق واحدة إلا أن يشاء أبوك ثلاثة، فإن شاء ثلاثًا لم يقع شيء جوابًا على الوجه الأول، وهو الصحيح فإن لم يشأ شيئًا أو شاء واحدة أو اثنتين وقعت واحدة. انتهى كلامه. وقد سكت في المسألة الأخيرة عن التفريع على ما عدا الأول. قال ابن الرفعة في "الكفاية": يظهر أنها على الوجه الثالث تطلق ثلاثًا، وعلى الثاني أن يكون الحكم مثل الأول، وخالف في "المطلب" فقال: قياس الأوجه الثلاث عدم الطلاق.

قوله: لو قال: أنت طالق لولا أبوك لم تطلق، وفيه وجه ضعيف حكاه المتولى، ثم قال: ولو قال: أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، قال الأصحاب: لا تطلق؛ لأنه أخبر بأنه لولا حرمة أبيها لطلقها، وأكد هذا الخبر بالحلف بطلاقها كقوله: والله لولا أبوك لطلقتك، قال المتولى: وإنما لا تطلق إذا كان صادقًا في خبره. انتهى كلامه. وهذا الكلام في ظاهره مشكل فإنه جعل أنت طالق حلفًا بمثابة قول القائل: الطلاق يلزمني، وقوله: والله وهذا شيء غير معهود وجوابه يتضح بما ذكره الرافعي بعد هذا بنحو ستة أوراق، فإنه نقل عن المتولى أن عادة البغداديين أن يجعلوا هذه اللفظة محلوفًا بها كما يحلف الحالف بقوله؛ والله ونحوه، ومعنى الكلام إن فعلت فأنت طالق. إذا تقرر هذا فالرافعي أخذ هذه المسألة من المتولى وهو رجل بغدادي فجرى على قاعدة البغداديين، وكان ينبغي للرافعي أن يذكر المسألة الثانية أولًا ثم يفرع عليها تلك. قوله: قال: أنت طالق إلا أن أشاء أو يبدو لي، قال البغوي: يقع في الحال؛ لأنه ليس بتعليق، بل أوقع الطلاق وأراد رفعه إذا بدا له ويمكن أن يقال هو كما لو قال: إلا أن يشاء فلان أو يشاء الله. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: [قال ابن الرفعة] (¬1): إن ما ذكره احتمالًا هو ما نص عليه الشافعي كما حكى عنه في "الإشراف" أنه لو قال: لفلان على ألف إلا أن يبدو لي فهو استثناء صحيح وهو ما حكاه في "التتمة" فيما إذا قال: إلا أن أشاء أنا، وخالف أبو الطيب النص ولم يصحح ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الاستثناء. قال صاحب "الإشراف": كل قول في عقد إيجاب أو إقرار إذا عقب بالاستثناء أو التخصيص أو بقوله إلا أن يبدو لي أمر فيه هذه المعاني، إلا إذا قال: يا زانية أنت طالق إن شاء الله فإنه قاذف ولا طلاق، وما نقله عن "التهذيب" موافق لأحد الاحتمالين لصاحب "التقريب" فيما إذا قال الناذر: لله على كذا إلا أن يبدو لى كما حكاه الإمام عنه في كتاب الاعتكاف وفيما إذا قال: إلا أن يشاء زيد. الثاني: أنه قد جزم بعده بأسطر بما يخالفه فقال نقلا عن البوشنجي من غير مخالفة له ولو قال أنت طالق إلا أن يرى فلان غير ذلك، أو إلا أن يشاء أو يريد غير ذلك، أو إلا أن يبدو لفلان غير ذلك فلا يقع الطلاق في الحال، بل يقف الأمر على ما أن يبدوا من فلان ولا يختص ما يبدو منه بالمجلس، ولو مات فلان وفات ما جعله مانعًا من الوقوع تبين وقوع الطلاق قبيل موته. هذا كلامه، إلا أنه أولًا جعل البداء راجعًا إليه وجعله ثانيًا راجعًا إلى فلان. وقد جزم النووي بالموضع المذكور ثانيا ولم ينقله عن البوشنجي، وأما الأول فنقله عن "التهذيب" إلا أنه لم يذكر البحث الذي أشار إليه الرافعي فصار أشد في الاختلاف، والسبب في وقوع مثل هذا للرافعي أنه يلحق أشياء بكتابه ظنا منه أنها لم تتقدم مع كونها قد تقدمت بالعكس. قوله: فرع: ذكر البوشنجي أنه لو قال: إن لم يشأ فلان فقال فلان: لم أشأ وقع الطلاق، وكذا لو قال: إن لم يشأ فلان طلاقك اليوم فقال فلان في اليوم: لا أشاء وقع الطلاق وقياس التعليق بنفي الدخول وسائر الصفات أن يقال: إنه وإن لم يشأ في الحال فقد يشاء بعد، فلا يقع الطلاق

إلا إذا حصل اليأس، وفاتت المشيئة، [وفي صورة التقييد باليوم، لا يقع الطلاق إلا إذا مضى اليوم خاليا عن المشيئة] (¬1) ويجوز أن يوجه ما ذكره البوشنجي بأن كلام المعلق محمول على تلفظه بعدم المشيئة فإذا قال: لم أشأ، فقد تحقق الوصف، انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وفيه كلام متوقف على مقدمة ذكرها في آخر باب الاستثناء في الطلاق فقال: لو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد فالصحيح أن معناه إلا أن يشاء الوقوع، كما إذا قال: إن شاء زيد فإن معناه أيضا أن يشاء الوقوع، وقيل: إن معناه إلا أن يشاء عدم الوقوع فعلى الأول يقع الطلاق إذا لم يشأ زيد شيئا أصلا أو يشاء عدم وقوعه ولا يقع إذا شاء الوقوع، قال: والحاصل أن الطلاق معلق بعدم مشيئة الطلاق لا بمشيئة عدم الطلاق، والمعنى الثاني أخص من الأول ومسألتنا فرد من أفرادها، لأن قوله: إن لم يشأ زيد يكون معناه إن لم يشأ الوقوع وذلك إما بأن لا يشاء شيئا أصلا أو بأن يشاء عدم وقوعه وهو كالأول سواء. إذا علمت ذلك ففي ما نقله الرافعي في هذا الباب عن البوشنجي وأقره هو والنووي عليه فيه أمور: أحدها: أن حاصل كلامه أولا وآخرا أنه محمول على التلفظ بعدم المشيئة وهو مخالف للصواب المجزوم به هناك. الأمر الثاني: أن تعبيره بقوله فقال فلان: لم أشأ وقع الطلاق صريح في وقوع الطلاق إذا اقتصر فلان على قوله: لم أشأ وهذا يخالف كلا من الوجهين المذكورين في أن الذي شاءه هل هو الوقوع أو عدمه، وفي كلام الرافعي في هذا الفصل مواضع مذكورة قبل هذه المسألة توهم أيضا ما اقتضاه كلامه هنا إلا أن في بعضه تصريحا بالمقصود. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الأمر الثالث: أنه سوى بين لم ولا فعبر تارة بقوله لم أشأ وتارة بقوله لا أشاء وبينهما فرق ظاهر، فإن لم فيما مضى، وأما لا فإنها إما للمستقبل أو محتملة له وللحال على خلاف للنحاة.

الفصل السادس في مسائل الدور

الفصل السادس في مسائل الدور قوله: وإذا قال لامرأته: إذا طلقتك أو مهما أو متى فأنت طالق قبله ثلاثًا ثم طلقها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يقع عليها شيء وهو المشهور عن ابن سريج وإليه ذهب ابن الحداد والقفال الشاشي والقفال المروزي، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو علي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني، وأجاب به المزني في "المنثور" وحكاه صاحب "الإيضاح" عن نص الشافعي. والثاني: يقع المنجز ولا يقع المعلق؛ لأنه جعل الجزاء سابقًا على الشرط حيث قال: فأنت طالق قبله ثلاثًا والجزاء لا يتقدم على الشرط فيلغو التعليق ولأن الطلاق تصرف شرعي والزوج أهل له وهي محل فبعد أن ينسد عليه باب التصرف، وهذا ما اختاره صاحب "التلخيص" والشيخ أبو زيد وابن الصباغ وصاحب "التتمة" والشريف ناصر العمري واختاره الغزالي بعد أن كان يختار الأول وصنف على كل اختيار تصنيفًا ويشبه أن تكون الفتوى به أولى. والثالث: وهو اختيار أبي بكر الإسماعيلي وختنه وهو أبو عبد الله المشهور بالختن أنه يقع ثلاث طلقات، وله تنزيلان: أظهرهما: تقع المطلقة المنجزة وطلقتان من الثلاث المعلقة. والثاني: تقع الثلاث المعلقة ولا تقع المنجزة ويجعل كأنه قال: متى تلفظت بأنك طالق فأنت طالق قبله ثلاثًا، انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن ابن الصباغ من اختيار وقوع المنجز خاصة قد تبعه عليه في "الروضة" وهو غلط فإن الذي اختاره إنما هو وقوع الثلاث

المطلقة المنجزة وطلقتين من الثلاثة المعلقة كذا صرح به في الشامل، إلا أنه ذكره في فصل يلي الفصل المعقود للمسألة فرجح في الفصل الأول وقوع المنجز، ثم ذكر في أول الفصل الذي يليه أنه يقع مع المنجز طلقتان أخريان وهو التنزيل الأول على الوجه الثالث كما سبق، وتفريق الحكم في الفصلين هو الذي أوقع الرافعي في الوهم، وذكر ابن الصباغ بعد هذا فرعًا مبنيًا على المسألة فقال: ويترتب على هذه المسألة مسألة جاءت من عمان وهي بلاد شرقي اليمن بساحل البحر أن رجلًا حلف بالطلاق الثلاث أنه يحج في هذه السنة فأفتاه بعض من ذهب إلى أنه لا يقع الطلاق بالكلية بأن يقول لامرأته إن حنثت في يميني فأنت طالق قبل ذلك ثلاثًا فإذا قال ذلك ولم يحج لم يطلق، وامتنع منهم قوم وفرقوا بأن هذا قد انعقدت يمينه على الحج فلا يملك حلها، وأما تلك المسألة فإنه علق بها ما يحلها قبل أن يعقدها قال: وأجاب القاضي أبو الطيب بحل اليمين. الأمر الثاني: أن ما أشار إليه الرافعي من رجحان وقوع المنجز قد ذكر في "الشرح الصغير" مثله أيضًا. وقال في "المحرر": أنه أولى الوجوه، وهذا الترجيح الذي ذكره في هذه الكتب مخالف للنص كما تقدم، ولكلام الأكثرين كما دل عليه كلامه، وتعداده للقائلين بكل منهما، وقد صرح الإمام بذلك فقال: ذهب معظم الأصحاب إلى أنه لا يقع شيء بالكلية, وكذلك الكيا الهراسى, وصنف في دْلك تصنيفًا إلا أنه صحح فيه وقوع المنجز وطلقتين من المعلق، ونقل في "البحر" عن القاضي أبي الطيب أن الشافعي نص في "المنثور" عليه -أي: على عدم الوقوع- فكيف شرع الفتوى بما يخالف نص الإمام وكلام الأكثرين، وقد صححه أيضا الغزالي في "الوسيط" في آخر الفصل فقال: إنه الصحيح وكذلك صاحب "الذخائر" وصنف فيه تصنيفًا واقتصر عليه أبو حاتم القزويني في كتاب "الحيل" وصححه أيضًا الشاشي في "المعتمد"

وكذلك ابن الخل شارح "التنبيه" وكان يفتي به ببغداد كما نقله عنه ابن خلكان في تاريخه. الأمر الثالث: أن تعليله عدم وقوع المعلق يكون الجزاء لا يسبق الشرط باطل فإنه قد نص في مسائل على عكسه منها: ما هو مذكور هاهنا فإنه قال في أثناء هذه المسألة: أنه إذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبلها طلقتين وهي مدخول بها وطلقها وقعت الطلقتان المعلقتان. الأمر الرابع: أن تعليله بانسداد باب الطلاق فيه بحثان: أحدهما: ذكره الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في مجموع له سماه بـ"اقتناص السوانح" ونقلته من خطه فقال: ذكر بعضهم أنه إذا عكس التعليق فقال: كلما تلفظت بطلاقك فلم يقع عليك فأنت طالق قبله ثلاثًا فإذا طلقها انحل الدور ووقع الطلاق قال: لأن الطلاق القبلي قد صار والحالة هذه معلقًا على النقيضين وهو الوقوع وعدم الوقوع وكلما كان لازمًا للنقيضين فهو واقع ضرورة لاستحالة خلو الواقع عن أحدهما، قال: وقريب منه قولهم في الوكالة كلما عزلتك فأنت وكيلي فنفاذ العزل أن يقول: وكلما عدت وكيلي فأنت معزول ثم يقول: عزلتك. قلت: ولك أن تجيب بجوابين. أحدهما: أن الطلاق إنما يقع على تقدير صحة التعليق المتأخر، ولقائل أن يمنع صحته لكونه غير قادر على التنجيز الذي هو فرعه. الجواب الثاني: سلمنا صحة التعليق الثاني لكن التعليق الأول لا يترتب عليه شيء؛ لأن التفريع على صحة الدور واستحالة وقوع المعلق فيه وحينئذ فلم يصر الطلاق واقعًا على كل من التقديرين. واعلم أن المدرك في الطلاق علي تقدير صحة التعليق إنما هو وقوعه على تقدير كل من النقيضين ولهذا يحصل المقصود وهو الطلاق بلا لفظ آخر

على هذا التقدير، والمدرك في الوكالة إنما هو تعارض التعليقين؛ لأن كل تعليق مطلوبه خلاف مطلوب الآخر بخلاف الطلاق، فلما تعارض اعتضد العزل بالأصل؛ إذ الأصل الحجر؛ ولهذا لا يحصل المقصود وهو العزل إلا بلفظ. البحث الثاني: أن الوقوع بالسراية إما بالنسبة إلى الطلقة أو إلى المرأة المطلقة هل ينسب إلى المطلق أم لا بل السراية تكميل من الشرع؟ اختلف فيه كلام الرافعي كما سبق إيضاحه في كتاب الخلع، وحينئذ فإذا أضاف الطلاق إلى يدها مثلا وقلنا إنه سراية وأن السراية تكميل من الشرع لم ينسد باب الطلاق؛ لأن المعلق عليه وقوع طلاقه عليها وفي مثالنا لم يقع عليها بل إنما وقع على بعضها. قوله: والوجهان الأولان يجريان في المدخول بها وغير المدخول بها جريانًا واحدًا. وأما الثالث: فموضعه ما إذا كانت المرأة مدخولًا بها وغير المدخول بها لا يتعاقب عليها طلاق. انتهى كلامه. وما ذكره من أن محلهما في المدخول بها تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك فإن القائل به له تنزيلات كما سبق، وهذه الدعوى من الرافعي صحيحة على التنزيل الأول منه. وأما على الثاني: فلا، وحينئذ فتجري الأوجه في المدخول بها وغيرها. نعم: على ذلك التنزيل هل يقع على غير المدخول بها طلقة واحدة أم طلقتان؟ قوله: ولو قال أنت طالق ثلاثًا قبل أن أطلقك واحدة ثم طلقها واحدة فعلى الوجه الأول وهو انحسام باب الطلاق لا يقع شيء بالكلية، وكذا لو طلق ثلاثا أو اثنتين لاشتمال العدد على واحدة، وإذا مات أحدهما حكم

بوقوع الطلاق قبيل الموت كما لو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، قاله المتولي، وعلى الوجه الثاني وهو القائل بوقوع المنجز يقع المنجز أيضًا، انتهى. وما ذكره هنا قد تقدم ما يخالفه في آخر الفصل الأول من هذا الباب وقد سبق ذكره واضحًا فراجعه. قوله: ومن تصويرات ابن الحداد إذا قال لامرأته متى أعتقت جاريتي هذه وأنت زوجتي فهي حرة ثم قال: متى أعتقتها فأنت طالق قبل عتقك إياها بثلاثة أيام، ثم أعتقها قبل مضي ثلاثة أيام فتعتق الجارية لأنها أعتقها وهي زوجة له ولا تطلق لأنه أوقع الطلاق قبل العتق بثلاثة أيام ولو أوقعناه كذلك لقدمناه على اللفظ وذلك محال وإن أمهلت ثلاثة أيام ثم أعتقها قبل مضي ثلاثة أيام لم تعتق لأنه إنما أذن لها في العتق بشرط أن تكون زوجة له، وقد علق الطلاق بثلاثة قبل العتق، ولو نفذ العتق لوقع الطلاق قبله بثلاثة أيام ولو كان كذلك لم تكن زوجة وإذا لم يحصل العتق لا يقع الطلاق أيضًا لأنه معلق به. انتهى كلامه. وهذه المسألة يقع فيها تحريف وفي حكمها وقفة، وقوله في أولها متى أعتقت هو بتاء مكسورة على أنه خطاب للزوجة فاعلمه، وفي آخر كلامه ما يدل عليه وإنما نفذنا العتق منها بهذا اللفظ الصادر من الزوج وإن كانت الجارية ملكًا له لا لها لأنه توكيل للمرأة في الإعتاق وهذا حاصل ما تلخص لي من كلام الفروع وكلام الشارحين لها كالصيدلاني وغيره والقول بنفوذه منها بهذا اللفظ مشكل جدًا، نعم: يحتمل أن يكون كناية لا تصريحا أو يكون من باب المؤاخذة.

الشطر الثاني: في التعليقات

قال -رحمه الله-: القسم الثاني في فروع التعليقات قوله: وقال أبو حنيفة وأحمد: التعليق بالطلوع ونحوه خَلَفَ كالتعليق بالدخول إلا في قوله: إذا حضت، أو إذا طهرت، أو إذا شئت، انتهى. هكذا وقع في نسخ الرافعي "شئت" بمعنى الإرادة، ونقل في "البيان" نفست عوضًا عنه. قوله: قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما فصاحبتها طالق، قال صاحب "التلخيص": إذا سكت ساعة يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما طلقتا. قال الشيخ أبو علي: عرضت قوله على القفال وشارحي "التلخيص" فصوبوه، والقياس أن هذه الصيغة لا تقتضي الفور بل لابد من اليأس بموته أو موتها؛ إذ ليس في عبارته تعرض للوقت بخلاف قوله: متى لم أحلف، وتابعه الإمام، وغيره على قوله، واستبعده صاحب "التلخيص". انتهى كلامه. لم يصحح في "الروضة" شيئًا من ذلك والصحيح مقالة الشيخ أبي علي فقد جزم بها الرافعي بعد هذا بنحو كراس ونصف عقب الكلام على الناسي والمكره، فقال: ولو قال: أيتكن لم أطأها فالأخريان طوالق ولم يقيد بوقت فجميع العمر وقت له. قوله: والبشارة هي الخبر الأول الصدق انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" و"الروضة" ومقتضاه أنه لا فرق في ذلك بين السار والمكروه، وجزم في "الكفاية" هنا بأنه لابد فيه من قيد السرور، قال: لأن الصرف يقتضي ذلك وإن كانت البشارة مأخوذة مما يغير البشرة سواء كان بخير أو شر، وحكى الماوردي في اشتراطه وجهين، ثم قال: والصحيح عندي تفصيل، فإذا قال مثلا: من بشرني بخبر زيد فينظر حال

الحالف معه فإن كان صديقا له أي لزيد فليس المكروه ببشارة، وإن كان عدوًا فهو بشارة، ونقله عنه صاحب "البحر" في كتاب الأيمان، وتابعه عليه وهذا منهما يقتضي أن البشارة يعتبر فيها سرور المخبر بكسر الباء دون المخبر والمتجه عكسه، فإن المسألة لها أربعة أقسام. إما أن يسرهما معًا. أو يسوؤهما معًا. أو يَسُر المُخْبِر دون المُخْبَر. أو بالعكس. وسيأتيك في التعليق على ابتداء السلام كلام آخر متعلق بالبشارة فراجعه. وسكت الماوردي عن قسم ثالث وهو ما إذا لم يكن بينهما صداقة ولا عداوة ويتجه فيه عدم الوقوع. قوله: وإذا قال: من بشرتني بكذا منكما أو منكن فهي طالق فبشرتا معًا فالمنقول أنهما تطلقان وقد يفهم من قوله من بشرتني منكما استقلال الواحدة بالبشارة وكذلك يصدق أن يقال ما بشرته حفصة ولا عمرة إنما بشرته زينب، ولو قال: من أكلت منكما هذا الرغيف فأكلتاه لم تطلق -انتهى كلامه. فيه أمور: أحدهما: أن الوقوع في هذه المسألة مشكل لا يوافق القواعد وذلك لأن البشارة كما ذكره الرافعي مختصة بالخبر الأول الصدق الذي لم يكن المبشر عالما بمدلوله فلابد من وجود قيد الأولية، والمعية ليس فيها أول كما ذكره الرافعي في آخر الفصل الثالث المعقود للحمل والولادة فقال: ولو قال: إن أول ولد تلدينه ذكرًا فأنت طالق واحدة وإن كان أنثى فأنت طالق ثلاثًا

فولدتهما معًا لم يقع شيء؛ لأنه لا يوصف واحد منها بالأولية، ولهذا لو أخرج رجل دينارًا للمتسابقين وقال: من جاء منكما أولًا فهو له فجاءا معًا لم يستحقا شيئًا. قال الشيخ أبو علي: ويحتمل أن يطلق ثلاثًا، ثم قال: وعرضته على الشيخ -يعني: القفال- فلم يستبعده، انتهى كلامه. فتلخص أن البشارة لابد فيها من الأولية والأولية منتفية عن المعية فلزم انتفاء البشارة عن المعية وإذا انتفت البشارة لم يقع الطلاق فتلخص أن ما قاله الرافعي هنا لا معول عليه ولا التفات إليه. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلامه من الاتفاق على طلاقهما معًا عند مخاطبة المرأتين فقط تبعه عليه في "الروضة" وليس كذلك فقد جزم جماعة بعدم الوقوع وعللوه بأن صيغة من تقتضي التبعيض منهم الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" كلاهما في كتاب الأيمان، وهو صحيح يؤيده ما ذكروه في الوكالة في ما لو قال: بع ما تراه من عبيدي وقد تكلمنا عليه هناك، وقد حذف النووي من "الروضة" هذه المسألة -أعني: وجود البشارة من جميع المعلق عليهم دفعة واحدة عند الإتيان بصيغة من وهي مسألة مهمة. الأمر الثالث: أن الرافعي قد استدل على ما ادعاه وهو فهم الاستقلال بصحة نفيه عن كل واحدة على انفرادهما، ثم ذكر أن ما يفهم منه الاستقلال من السرور ما لا أثر له عند الاشتراك بدليل مسألة الرغيف، وهذا الذي ذكره صحيح لا اعتراض عليه من هذا الوجه وإن كان فيه شيء آخر سأذكره بعد هذا. إذا علمت ذلك فاعلم أن النووي قد فهم كلام الرافعي على غير وجهه فاختصره على ما فهمه منه ثم اعترض عليه فإنه قال: فلو بشرتاه معًا فالمنقول أنهما تطلقان وفيه نظر، فإنه لو قال: من أكل منكما هذا الرغيف

فهي طالق فأكلتاه لم تطلقا، قلت: الصواب أنهما تطلقان، وليس كمسألة الرغيف؛ لأنه لم تأكله واحدة منهما، وأما البشارة فلفظة من ألفاظ العموم لا تنحصر في واحدة فإذا بشرتاه معًا صدق اسم البشارة من كل واحدة مطلقًا هذه عبارته. قوله: ولو أرسلت رسولًا لم تطلق؛ لأن المبشر هو الرسول ذكره البغوي، انتهى. وما أطلقه من كون المبشر هو الرسول قد تابعه عليه أيضا في "الروضة" وفيه تفصيل ذكره الرافعي قبل كتاب التدبير نقلا عن "الزيادات" للعبادي ولابد منه، فقال: وأنه إذا قال: من بشرني من عبيدي بقدوم زيد فهو حر فبعث بعض عبيده عبدًا آخر ليبشره به فجاء وقال: عبدك فلان يبشرك بقدومه وأرسلني لأخبرك فالمبشر المرسل دون الرسول هذا لفظه، وحاصله التفصيل بين أن يستند إليه أم لا وهو واضح بخلاف ما يوهمه إطلاق المذكور هنا. قوله: ولو قال: من أخبرني منكما بكذا فهي طالق فلفظ الخبر يقع على الكذب والصدق ولا يختص بالخبر الأول فإذا أخبرتاه صادقتين أو كاذبتين معًا أو على الترتيب طلقتا جميعًا، انتهى. وما ذكره من وقوع الطلاق عليهما جميعًا مع كونه قد عبر بمن الدالة على التبعيض قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا والقواعد تنفيه لما ذكرناه من الإتيان بمن، وقد سبق في كتاب الوكالة أنه لو قال بع من عبيدي من رأيت لا يجوز له بيع جميعهم بالجملة فقد ذكر الروياني المسألة في كتاب الأيمان من "البحر" فقال: لو قال: من بشرني [بخبر زيد] (¬1) من عبيدي [فهو حر فبشره جميع عبيده في حالة واحدة لم يعتق واحد منهم؛ لأنه قال: من بشرني من عبيدي] (¬2) فيقتضي التبعيض دون الجميع هذه عبارته. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قوله: فرع: لو قال: أنت هكذا وأشار بأصابعه الثلاث ففي "فتاوى القفال" أنه لو نوى الطلاق طلقت ثلاثًا والإشارة صريحة في العدد وإن لم ينو أصل الطلاق لم يقع شيء وقال غيره: يحتمل أن لا يجعل هذا كناية؛ لأن اللفظ لا يشعر بالطلاق بحال. انتهى. وقوله: ولو قال: إن دخلت وكلمت زيدًا فأنت طالق، طلقت بوجودهما كيف كان، وأشار في "التتمة" إلى وجه في اشتراط تقديم الأول بناء على أن "الواو" تقتضي الترتيب ولو أتى بـ"ثم" أو "الفاء" فيشترط تقديم الأول. انتهى ملخصا. وما ذكره هنا في "الواو" قد نقل في باب التدبير عن البغوي ما يخالفه وأقره عليه وسوف أذكره هناك فراجعه. وأما اقتصاره في "الفاء" و"ثم" على اشتراط تقديم الأول فليس بجيد، بل يشترط في الفاء إيصاله بالأول على الأصح كذا صححه الرافعي في باب التدبير وقياسه اشتراط الانفصال في ثم. قوله: ولو قال: إن دخلت الدار إن كلمت زيدًا فأنت طالق أو قال: أنت طالق إن دخلت إن كلمت، فلابد منهما ويشترط تقديم المذكور آخرًا على المذكور أولًا سواء كان الشرطان متفقين كما ذكرنا أو مختلفين كأن وإذا، ويسمى هذا اعتراض الشرط على الشرط؛ لأنه جعل الكلام شرطًا لتعليق الطلاق بالدخول والتعليق يقبل التعليق ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} [وفي فتاوي القفال أنه يشترط تقديم المذكور أولًا وهو غريب] (¬1) وذكر الغزالي في "الوجيز" نحوه، وهو محمول على سبق القلم، ويدل عليه أنه في "البسيط" جزم بالمعروف، ومال الإمام إلى أنه لا يشترط ترتيب أصلا والظاهر الذي ذكره الجمهور هو الأول حتى إذا دخلت ثم كلمت لا يقع، قال في "التتمة": وتنحل اليمين؛ لأنها انعقاد على المرة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأولى. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما صححه هاهنا من وجوب تقديم الثاني قد خالفه في كتاب التدبير فذكر ما يوافق الوجه الثاني، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى وتبعه في "الروضة" على هذا الاختلاف. الأمر الثاني: أن نقله تقديم الأول عن هذا الكتاب الغريب فقط ثم استغرابه له هو الغريب فإنه يقتضي أنه لم يظفر به لغيره مع أن الإمام قد جزم به في "النهاية" وزاد على ذلك فنقله عن الأصحاب ثم ذكر البحث الذي تقدم نقله عنه وهو الاكتفاء بوقوعهما كيف كان، ونقله أيضًا القاضي الحسين في "تعليقه"، ثم قال: والعراقيون قالوا بعكسه. واعلم أن ما ذكرناه يعرفك أن ما في "الوجيز" وقع عن قصد لا عن سبق قلم. الأمر الثالث: أن مرجع هذه المسألة إلى أهل العربية وقد قال شيخنا في "الارتشاف": إن الأصح اشتراط تقديم الثاني على وفق ما صححه الفقهاء؛ لأن ابن مالك في باب الجوازم من شرح الكافية قد جزم بأن الشرط الثاني في موضع نصب على الحال وهو لا يوافق شيئًا مما تقدم وقد بسطت المسألة في "الكوكب الدري" فراجعها. الأمر الرابع: أن هذا النقل المذكور في آخر المسألة عن المتولي صحيح ذكره قبيل الرجعة بأوراق قلائل ولكنه غير مستقيم في نفسه؛ لأن المحلوف عليه في قول القائل مثلًا: إن قمت إن قعدت، إنما هو قيام سبقه قعود ولم يوجد ذلك، وإنما وجد خبر المحلوف عليه وهو القعود؛ لأنا ألغينا القيام السابق فتكون اليمين باقية حتى إذا وجد بعده قيام آخر حصل الحنث. قوله: قال لنسوته الأربع: أربعتكن طوالق إلا ثلاثة قال القاضي الحسين والمتولي: لا يصح هذا الاستثناء؛ لأن الأربع ليست صيغة عموم، وإنما هي

اسم لعدد معلوم خاص، فقوله: إلا فلانة رفع للطلاق عنها بعد التنصيص عليها، فهو كقوله: أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك، ومقتضى هذا التعليل أنه لا يصح الاستثناء من العدد في الإقرار، ومعلوم أنه ليس كذلك، وحكى الإمام عن القاضي أنه لو قال: أربعتكن إلا فلانة طوالق صح الاستثناء، وادعى أن هذا معهود دون ذاك وهذا كلام كما تراه. انتهى كلامه. وقد تضمن استشكال الفرق بين الصورتين والإشارة إلى التعجب منه حيث قال: كما تراه مع أن الفرق واضح فإن الصورة الثانية وقع فيها الإخراج قبل الحكم فلم يؤد إلى التناقض بخلاف الصورة الأولى فإنه وقع بعد الحكم على أن في المسألة كلامًا للأصوليين ذكرته في ما ألفناه في علم الأصول. قوله: ولو قيل له على وجه الإنشاء: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، فهل هو صريح أو كناية؟ فيه قولان: قال الأئمة: وهما مبنيان على أنه لو قال الولي: زوجتك ابنتي فقال: قبلت ولم يقل نكاحها هل يصح؟ وقضية هذا البناء ترجيح قول الكناية، لكن ابن الصباغ والروياني رجحوا كونه صريحًا ومنهم من لا يذكر غيره. انتهى ملخصا. والصحيح أنه صريح كذا صححه الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" وعبر فيهما بالأظهر وجعل الخلاف وجهين. قوله: فرع: إذا قيل له أطلقت [زوجتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك] (¬1) ولم يفسر بشيء قال في "التتمة" إذا كان السؤال عن ثلاث لزمه الطلاق وإن كان عن واحدة لم يلزمه شيء لأن الطلقة لا بعض لها، والأصل أن [لا طلاق] (¬2) في واحد من الطرفين، وفي هذا توقف لا يخفى. انتهى. قال في "الروضة": الصواب أنه لا يقع شيء في الحالتين، وقد اختصر ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في جـ الطلاق.

البحث الذي أشار إليه الرافعي فقال: والأصل: أن لا طلاق وفي كل واحد من الطرفين نظر. هذا لفظه. قوله: وإذا علق الطلاق بالأكل ففي الحنث بالابتلاع وجهان أوردهما صاحب "التتمة"، والأظهر: المنع؛ لأنه يصح أن يقال: ابتلع وما أكل، انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من تصحيح عدم الحنث قد جزم بخلافه في كتاب الأيمان في موضعين في أثناء النوع الثاني وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. وتبعه في "الروضة" على الموضعين لكنه اختصر كلامه هنا على غير ما هو عليه فإنه نسب الوجهين والتصحيح إلى "التتمة" فقال: ولو علق على الأكل فابتلعت لم يجب على الأصح؛ لأنه يقال: ابتلع ولم يأكل. ذكره المتولي هذا لفظه. وقد رأيت التصحيح في "التتمة" كما ذكره لكنه لا يكفي في الاعتذار لفوات ما دل عليه لفظ الرافعي من الصحيح على وفق ما صححه في "التتمة" فتعين أنه سهو منه بلا شك والموقع للرافعي في هذا الاختلاف هو صاحب "التتمة" فإنه مع تصحيحه هنا عدم الحنث قد جزم في كتاب الأيمان بعدمه وصور المسألة في السكر فتابعه الرافعي عليها. قوله: قال الإمام: واكتفوا فيما إذا قال: إن لم تعدي الشيء فأنت طالق بذكر اللسان، ولم يعتبروا تولي العدد فعلًا -أي: باليد- قال: ولست أرى الأمر كذلك، ثم قال: نعم لو كان يرمق الواحد بعد الواحد، ويضبط فهذا يقام مقام النقل باليد. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره آخرًا من إقامة الرمق مع الضبط مقام النقل باليد قد أسقطه من "الروضة". الأمر الثاني: أن ما ذكره من اشتراط النقل أو الإشارة لا يتصور القول به

إلا على الوجه الثاني على خلاف ما دل عليه كلامه فتأمله. قوله: لو قال: إن لم تخبريني بعدد حبات هذه الرمانة قبل كسرها أو أن تخبريني بعدد ما في هذا البيت من الجوز فأنت طالق، أو قال: إن لم تذكري، قال الأصحاب: يحصل الخلاص بأن تبتدئ من عدد يستيقن أن الحبات والجوز لا ينقص عنه وتذكر الأعداد بعده على الولاء بأن تقول: مائة، مائة وواحد، مائة واثنين، وهكذا إلى أن تنتهي إلى عدد تستيقن أنه لا يزيد عليه فتكون مخبرة عن ذلك العدد أو ذاكرة له وهذا إذا لم يقصد التعين والتعريف وإلا فلا يحصل البراء. انتهى. وما ذكره هنا من توقف الخلاص على الطريقة المذكورة تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو مشكل مخالف للقاعدة، فقد ذكر الرافعي قبل ذلك بأوراق أن الخبر لا يختص بالصدق على الصحيح، بل يطلق على الصدق والكذب وحينئذ فيتخلص الحالف المذكور بأي عدد ذكرته المرأة له صدقا كان أو كذبا إذ الفرض أنه لم يقصد التمييز، وقد حصل مسمى الخبر بعدده فيكفي وإن كان خبرًا غير مطابق ولم يذكر هذا الموضع في "الشرح الصغير". قوله: فرع: لابد من النظر في مثل هذه التعليقات إلى وضع اللسان وإلى ما يسبق إلى الفهم في العرف الغالب فإن تطابق العرف والوضع فذاك وإن اختلفا فكلام الأصحاب يميل إلى اعتبار الوضع والإمام والغزالي يريان اتباع العرف وقد سبق في هذه الفروع أمثلة هذا. انتهى كلامه. وما ذكره من رجحان الوضع قد صرح أيضًا بتصحيحه بعد هذا بأسطر فقال: إنه الأصح الذي أجاب به المتولي وعلله بأن العرف يتخبط وما نقله هنا عن المتولي قد تقدم [في عليه] (*) في أول الباب الثالث من أبواب الخلع ما يخالفه وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله من زياداته: قلت: القحبة هي البغي وهي كلمة مولدة ليست عربية والله أعلم. انتهى. وما ذكره من كونها ليست عربية ليس كذلك فقد ذكر الشيخ عز الدين

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، ولم أفهمها، ولو حُذفت لاستقام الكلام، والله أعلم

في مجموع له مشتمل على مسائل التفسير وغيرها ما حاصله: أنها عربية فقال: القحبة مأخوذ من القحاب بالضم وهو السعال وذلك أنهم كانوا يقولون للزانية إذا عطست الورا والقحاب، والورا بالفتح والقصر هو داء في الجوف ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأن يمتليء جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرًا" (¬1) فلما لازمها ذلك عند الدعاء عليها عند العطاس اشتق لها منه اسم. هذا كلامه، وغايته أن يكون مجازًا إن لم يكن حقيقة، والمجاز ليس خارجا عن لغة العرب لانقسام اللغة إلى حقيقة ومجاز، وذكر الجوهري أن القحبة مولدة ولم يزد على ذلك، قال: ويقال: وري القيح جوفه وريًا إذا أكله ثم ذكر الحديث. قوله: وقال -يعني: أبا العباس الروياني-: إن الأحمق من نقصت مرتبة أموره وأحواله عن مراتب أمثاله نقصًا بينًا بلا مرض ولا سبب. انتهى كلامه. وهذا التفسير الذي ذكره في الأحمق واقتصر عليه قد ذكر خلافه في كتاب الكفارات واقتصر عليه أيضًا فقال: ويجزئ الأحمق، وفسر بأنه الذي يضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه، والمجنون لا يعلمه. هذا لفظه وذكر مثله هناك أيضًا صاحب "المهذب" و"التهذيب" وفي "الحاوي" أنه الذي يضع كلامه في غير موضعه فيأتي بالحسن في موضع القبيح وعكسه وفي "التتمة" و"البيان" أنه من يعمل ما يضره مع علمه بقبحه، والعجب من تركه لهذه المقالات المذكورة في هذه الكتب المشهورة واقتصاره على نقلها عن من نقل، ولم يتفطن النووي لما ذكرناه من مخالفة الرافعي هناك، وإنما نقل كلام بعض من نقلنا عنه. قوله: وذكر الغزالي في "الوسيط" أنه وقع في الفتاوى أن رجلا قال لزوج ابنته: في مخاصمتهما لم تحرك لحيتك فقد رأيت مثل هذه اللحية كثيرًا، فقال: إن كنت رأيت مثل هذه اللحية كثيرًا فابنتك طالق، قال: وليس المراد المماثلة في الشكل والصورة وعدد الشعر وإنما يكنى باللحية في هذا الموضع عن الرجولية والفتوة ونحوهما فإن حمل اللفظ على المكافأة وقع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5803) ومسلم (2257) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الطلاق وإلا فلا يقع لكثرة الأمثال. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على تعليل عدم الوقوع بكثرة الأمثال وهو غلط، فإن كثرة الأمثال تعليل للوقوع الذي هو عكس الحكم الذي ادعاه إذ الزوج علق الطلاق على رؤية كثير من أمثالها وقد ذكره في "الوسيط" على الصواب فراجعه، وكان ينبغي أن يقول: وإلا فيقع لكثرة الأمثال، وحينئذ فتطلق على كل تقدير لكنه إن قصد المكافأة فالتنجيز وإلا فالتعليق. قوله: قال في "الوجيز": ولو علق على مخالفتها الأمر فقال: لا تكلمي زيدًا فكلمته لم تطلق؛ لأنه مخالفة للنهي، وهذا ينازع فيه العرف. ولو علق على النهي فقال: قومي فقعدت قيل: إنها تطلق؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وهو فاسد، ولو قال: أنت طالق إلى حين أو زمان طلقت بعد لحظة، وكذلك قالوا في العصر والحقب وهو بعيد، ثم قال: ولو علق على الضرب إلى آخره. واعلم أن هذه المسائل الثلاث المذكورة في كلام "الوجيز" قبل مسألة الضرب ليست موجودة في نسخ الرافعي وكأنه انتقل نظره من قوله ولو علق إلى قوله: ولو علق أو سقط ذلك من الناقل من مسودة الرافعي حالة تصنيفه لهذا الكتاب، وقد شرح هذه المسائل في "الشرح الصغير" فقل بعد ذكره لهذه المسائل ما نصه: فيه مسألتان: إحداهما: إذا قال لامرأته: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي زيدًا فكلمته لم تطلق؛ لأنها ما خالفت أمره وإنما خالفت النهي، هذا هو المشهور. وقوله: -أي الغزالي- تنازع فيه العرف أي: مخالفة قول الإنسان تعد في العرف مخالفة أمره فيحتمل أن يقال: إنها تطلق، ولو قال: إن خالفت نهيي فقال لها: قومي فقعدت فللأصوليين من الأصحاب وغيرهم خلاف في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟ فذهب بعض من جعله نهيًا إلى وقوع الطلاق، والأظهر عند الإمام وغيره المنع المطلق، وإن جعلنا الأمر

بالشيء نهيًا عن ضده؛ لأن الأيمان والتعليقات لا تحمل على القواعد الأصولية، وإنما ينظر فيها إلى العرف والإطلاقات الغالبة ولا يقال في عرف اللغة لمن قال قم: إنه نهي، هذا كلام "الشرح الصغير". ولم ير النووي إخلاء الروضة عن هذه المسائل فأثبتها ناقلًا لها من "الوجيز" إلا أنه بسط كلامه، فقال: فصل: قال: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال: لا تكلمي زيدًا فكلمته قالوا: لا تطلق، لأنها خالفت النهي دون الأمر، ولو قال: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم قال: قومي فقعدت وقع؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن أضداده، وهذا فاسد؛ إذ ليس الأمر الشيء نهيًا عن ضده في ما نختاره وإن كان فاليمين لا يبنى عليه، بل على اللغة أو العرف، لكن في المسألة الأولى نظر بسبب العرف هذا كلام النووي -رحمه الله- وهو مخالف لما ذكره الرافعي في "الشرح الصغير" في ما إذا قال: إن خالفت نهيي فقعدت فإن كلام الرافعي يقتضي أن المعروف في النقل أنه لا يقع، وكلام النووي يقتضي عكسه وكان ينبغي للنووي أن ينبه على أن هذه المسائل من "زوائده"، فإن الواقف عليها في "الروضة" يتوهم أن الرافعي ذكرها، وأن كلامه قد اختلف، على أنه قد وقع في بعض نسخ الرافعي إثباتها من "الوجيز" أيضًا. قوله: فيه صور إحداها: إذا علق الطلاق بالضرب طلقت إذا حصل الضرب بالسوط أو بالوكز أو اللكز ولا يشترط أن لا يكون حائل والأشهر أنه يعتبر أن يكون فيه إيلام ومنهم من لم يشترط الإيلام واكتفى بالصدمة. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من تصحيح اشتراط الإيلام قد خالفه في كتاب الأيمان في النوع السابع فصحح عدم اشتراطه وتابعه في "الروضة" على هذا الاختلاف وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى وأبين ما يقتضي أن المذكور هنا غلط حصل من تحريف فراجعه، والوكز هو الضرب على الذقن باليد وهي

[مقبوضة] (¬1) الأصابع، واللكز باللام هو الضرب على الصدر بذلك، وقال أبو زيد في جميع الجسد. وأما نكزه بالنون فمعناه ضربه ودفعه وليس له ذكر في الرافعي. قوله: الثالثة: إذا علق بقدوم زيد طلقت إذا قدم راكبا أو ماشيا وإن قدم به ميتًا نظر إن كان بأمره واختياره فهو كما لو قدم راكبًا، وإن لم يكن بإذنه لم يقع سواء كان زمنًا أو صحيح البدن هذا هو الظاهر، ويأتي فيه خلاف؛ لأن صاحب "المهذب" وغيره نقلوا طريقًا في ما إذا حلف أن لا يدخل الدار فحمل بغير إذنه واختياره وأدخل أنه على القولين في ما إذا أكره حتى دخل بنفسه ووجهه أنا سوينا في حال الاختيار بين دخوله بنفسه ودخوله محمولًا فكذلك يسرى في عدم الاختيار بين الأمرين، انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من التسوية حال الاختيار بين أن يدخل بنفسه أو يدخل محمولًا حتى إذا حمل وهو قادر على الامتناع قد خالفه في كتاب الأيمان في آخر الباب الثالث في الفصل المعقود لحنث الناسي والجاهل فصحح أنه إذا حمل بغير إذنه ولكن قدر على الامتناع والهرب أنه لا يحنث، وتابعه في "الروضة" على ذلك، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى: ثم إن المسألة المترجم لها هاهنا وهي مسألة القدوم لاشك أنها كمسألة الدخول وهو قادر على الامتناع؛ لأنه تارة يعبر في الحنث بالأمر والاختيار وتارة يقتصر على الاختيار وقد اختصره في "الروضة" اختصارًا فاسدًا حاصله أنه يكفي في الحنث قدرته على الامتناع على خلاف ما قرره في كتاب الأيمان فإنه قال: فصل: علق بقدوم زيد طلقت إذا قدم راكبًا أو ماشيًا، وإن قدم به ميتًا لم تطلق وإن حمل وقدم به حيًا إن كان باختياره طلقت وإلا فلا على المذهب هذه عبارته، والفتوى على المذكور في الأيمان، فإنه الموضع المعقود للمسألة. ¬

_ (¬1) في جـ: مفتوحة.

قوله: ولو نظرت في المرأة أو الماء قال الإمام: هذا فيه احتمال، لأنه وإن حصلت الرؤية في الحقيقة لكنه يصح في العرف أن يقال: ما رآه وإنما رأى مثاله أو خياله، والظاهر أنه لا يقع، وبه أجاب البغوي في المرآة والمتولي في المرآة والماء جميعًا، انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح عدم الوقوع خالفه في "الشرح الصغير" فقال: ولو نظرته في الماء أو المرآة قال الإمام: فيه احتمال لأنه يصح أن يقال في العرف ما رآه وإنما رأى مثاله وخياله والظاهر وقوع الطلاق هذا لفظه وهو غريب لتعبيره في الموضعين بالظاهر. قوله: ولو قال للعمياء: إن رأيت زيدًا فأنت طالق، قال الإمام: الصحيح أن الطلاق معلق بمستحيل، وقيل: يحمل على اجتماعهما في مجلس. انتهى. وما أطلقه الإمام من كونه تعليقًا بمستحيل حتى لا يقع على الصحيح قد تابعه هو والنووي عليه وفيه أمران: أحدهما: أن هذا ليس من باب التعليق على المستحيل فإن الأعمى كثيرًا ما يحصل له الإبصار بالتداوي خصوصًا من عمى بنزول الماء فيعالج بالقدح فنسأل الله تعالي العافية في الدارين. الثاني: أنه يتعين فيه تفصيل وهو أنه إن كان أكمه وهو الذي ولد أعمى كان من التعليق على المستحيل عادة كطلوع السماء ونحوه؛ ولهذا جعله الله تعالى آية للمسيح -عليه الصلاة والسلام-، فقال: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وإن لم يكن أكمه فلا. قوله: وإذا علق برؤيتها الهلال وفسر الرؤية بالمعاينة أو صرح بها في تعليقه فقال في "التهذيب" إن الرؤية في الليلة الثانية والثالثة كهي في الأولى ولا أثر لها في الرابعة, فإنه لا يسمى هلالًا بعد الثلاث وفي "المهذب" أنه لو لم ير حتى صار قمرًا لم تطلق بالرؤية بعده وحكى وجهين في أنه يصير

قمرًا باستدارته أم بأن يبهر ضوءه؟ انتهى. قال في "الروضة" من زوائده: المختار ما ذكره البغوي وإن كان ما ذكره في "المهذب" مذكورًا في "الحاوي" وفي ما تفرع عنه. واعلم أن يبهر بياء مفتوحة بنقطتين من تحت بعدها باء ساكنة تقول العرب: بهر القمر أي أضاء حتى غلب ضوؤه ضوء الكواكب، قاله الجوهري. قوله: ولو قال: إن كلمت زيدًا فأنت طالق فكلمته في حال سكرها طلقت على الأصح، ثم قال: إلا إذا انتهت إلى السكر الطافح، انتهى. والطافح بالطاء المهملة والفاء قال الجوهري: هو الذي ملأه الشراب، وما ذكره من استثناء الطافح إنما يأتي إذا جعلنا للسكران ثلاث مراتب وخالفنا بينها في الحكم، وقد اختلف في ذلك كلامه وكلام "الروضة" أيضا والمشهور خلاف المذكور هنا، وقد أوضحت ذلك في الباب الثاني في كتاب الطلاق فراجعه. قوله: فإن لم يسمع لعارض لغط أو ريح أو لما به من الصمم فوجهان: أحدهما: وهو الذي أورده الإمام وصاحب الكتاب في اللغط وأجاب به القاضي الروياني: أنه يقع الطلاق؛ لأنها كلمته وعدم السماع إنما كان لعارض فأشبه ما إذا كان للذهول. وأصحهما عند صاحب "التهذيب": أنه لا يقع حتى يرتفع الصوت بقدر ما يسمع في مثل تلك المسافة مع ذلك العارض فحينئذ يقع، انتهى. والراجح هو الوقوع فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين، وجزم به في هذا الكتاب أعني "الشرح الكبير" في باب صلاة الجمعة في الكلام على إسماع الأربعين لكنه فرضها في الصمم خاصة، ونقله في "التتمة" هناك عن نص الشافعي، وقد اختلف تصحيح النووي فصحح في "تصحيح التنبيه" أنه لا يقع وجزم في "الروضة" [في صلاة

الجمعة بالوقوع تبعا للرافعي ولم يصحح هنا في "الروضة"] (¬1) شيئًا. قوله: وحكى الحناطي قولين في ما إذا قال: إن كلمت نائمًا أو غائبًا عن البلد هل يقع الطلاق في الحال بناء على الخلاف في التعليق على المحال ويحتمل أن يقال: إنها لا تطلق حتى تخاطبه مخاطبة المتكلمين، وبنحو منه أجاب القاضي أبو الطيب في ما إذا قال: إن كلمت ميتًا أو حمارًا، انتهى. وما أشعر به كلامه من رجحان الحنث عند مخاطبة النائم ونحوه مخاطبة المتكلمين وأن القاضي أبا الطيب ذكر نحوه قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو مخالف للقواعد فستعرف في الأيمان أنه إذا حلف لا يبيع فباع بيعًا فاسدًا كالخمر ونحوه لم يحنث [فلو صرح في اليمين بذلك فقال مثلا: لا أبيع الخمر لم يحنث] (¬2) به أيضًا على الأصح لانتفاء حقيقة البيع، وقيل: يحنث؛ لأن المراد منه الحلف على صورة البيع وما يجيء فيه مثله أيضا؛ لأن كلام النائم ونحوه لا يقع به الطلاق عند الإطلاق فلا يقع عند التصريح به كبيع الخمر. قوله: ولو علق بفعل الزوجة أو أجنبي فإن لم يكن للمعلق بفعله شعور بالتعليق ولم يقصد الزوج إعلامه أو كان المعلق بفعله ممن لا يبالي بتعليقه وقع الطلاق مع الإكراه والنسيان، وإن كان شاعرًا بالتعليق وكان ممن يبالي بتعليقه فالقولان، ويعتبر مع ذلك قصده الحث والمنع، فإنه يقصد التعليق بصورة الفعل، وإن كان ممن يبالي بتعليقه، انتهى ملخصًا. واعلم أن في أقسام هذه المسألة مسألة مهمة كثيرة الوقوع وهي ما إذا فعل المحلوف علمه غير عالم باليمين فلنذكر أولًا ما ذكره الرافعي فيها ثم نذكر ما عليه الفتوى. فنقول: أشار الرافعي -رحمه الله- بقوله ولم يقصد الزوج إعلامه إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

اعتبار الشرط الأخير وهو قصد الحث والمنع وعبر عنه به لأن قاصده يقصد عادة إعلام الحالف بذلك ليمتنع منه ويدل على ما قلناه أنه لما رجع إلى حكم القيود لم يذكر اعتبار الإعلام وذكر الحث والمنع عوضًا عنه. إذا تقرر هذا فالظاهر أن هذا الشرط إنما هو معطوف بأو لا بالواو وسنذكر سبب ذلك، وحينئذ فالذي لا يبالي وهو الذي لا يؤثر عرض الحالف حكمه واضح وهو الوقوع بفعله، وأما الذي يبالي فيتلخص من كلام الرافعي فيه أنه إن لم يكن له شعور باليمين فوقع الفعل الصادر منه على سبيل الإكراه والنسيان حنث الحالف به سواء قصد إعلامه ومنعه أم لم يقصد إذ كان من حقه أن يعلمه، وهذا القسم كثير الوقوع في الفتاوى، وكذلك يحنث أيضًا إذا شعر ولكن لم يقصد الحالف المنع وهو واضح، وقد أهمله في "المحرر". ووجه ما قلناه أولًا: أنه معطوف بأو لأنه لو كان معطوفًا بالواو لكان المجموع شرطًا، وحينئذ فيقتضي أن الذي يبالي إذا لم يكن له شعور ولكن كان قصد الزوج الحث والمنع أنه لا يقع وليس كذلك، فإن الرافعي قد شرط بعد ذلك لعدم الوقوع شروطًا ثلاثة وهي أن يكون شاعرًا وأن يبالي وأن يقصد الزوج الحث والمنع كما تقدم حكايته منه فلو لم يكن كما قلناه لزم أن يشترط أمران فقط، وأن يكون ذكره للأول باطلًا ويؤيده أيضا أن المذكور في "المحرر" و"المنهاج" عند عدم العلم هو الوقوع من غير تفصيل أيضًا فإنه قال: ولو علق بفعله ففعل ناسيًا للتعليق أو مكرهًا لم تطلق في الأظهر أو بفعل غيره ممن يبالي بتعليقه وعلم به فكذلك وإلا فيقع قطعًا انتهى. إلا أن فيه نظرًا فإنه كيف يقع بفعل الجاهل قطعًا ولا بفعل الناسي على الصحيح مع أن الجاهل أولى بالعذر من الناسي؟ وقد ذكر الرافعي بعد هذا مسألة تقوي ما ذكرناه فقال: ولو علق بدخول طفل أو بهيمة أو سنور وحصل دخولهم مكرها لم تطلق ويحتمل أن تطلق، انتهى.

واعلم أن ما اقتضاه كلام الرافعي في الحنث إذا لم يعلم المحلوف عليه قد رجحه الصيدلاني في ما جمعه من طريقة شيخه [الشاشي] (¬1) فقال في الطلاق فإن قصد منعه، فإن لم يعلم القادم حتى قدم حنث الحالف وإن علم ثم نسي فعلى قولين، ومنهم من قال على قولين بكل حال، انتهى. وذكر نحوه الغزالي في "البسيط" وقال: فأما إذا علق بفعلها في عينها فلا أثر لنسيانها وإن كانت مكرهة فالظاهر الوقوع؛ لأن هذا في حكم التعليق لا على قصد المنع، ومنهم من طرد الخلاف؛ لأن المكره عليه كالمعدوم، وهذا ما اختاره القاضي، انتهى. وخالف الجمهور فخرجوه على القولين منهم الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، فقال في الكلام على تعليق الطلاق بالقدوم ما نصه: ولو قدم وهو لا يعمل عقد صفة الطلاق، وتعليقه على قدوم أو كان علم ذلك ثم نسيه فإن كان ممن يقصد بعقد اليمين منعه من الدخول مثل أن يقول إذا قدم أبوك أو أخوك أو وكيلك فوجد ذلك والفاعل لا يعلمه أو علم باليمين ثم نسيها لم يطلق على أحد القولين، وطلقت على القول الآخر كما ذكرناه في المكره، انتهى. وذكر المحاملي في "المقنع" مثله وكذلك الشيخ في "المهذب" والبغوي في "التهذيب" والجرجاني في "الشافي" والخوارزمي في "الكافي ". قوله: ولو قصد منعها من المخالفة فقال الغزالي في "الوسيط" و"الوجيز": لا يقع الطلاق؛ لأنه لم يتحقق مخالفة ونفي الخلاف عنه في "الوسيط" ويشبه أن يراعي معنى التعليق ويطرد الخلاف، انتهى. قال في "الروضة": الصحيح قول الغزالي ويقرب منه عكسه وهو أنه لو حلف لا يدخل عمدا ولا ناسيا، فدخل ناسيا فنقل القاضي حسين [أنه يحنث بلا خلاف والله أعلم، وهذه الزيادة التي استشهد بها هنا ناقلًا لها عن القاضي حسين] (¬2) خاصة قد جزم بها الرافعي في كتاب الأيمان في أواخر الباب الثالث في الكلام على الناسي والمكره. ¬

_ (¬1) في أ، جـ: القفال. (¬2) سقط من أ.

قوله: ولو قال: أنت طالق عشرًا فقالت: يكفيني ثلاث فقال: الباقي لضرتك يقع عليها ثلاث، وليس على الضرة شيء؛ لأن الزيادة على الثلاث لغو ولو قالت: يكفيني واحدة فقال الباقي: لضرتك، يقع عليها ثلاث، وعلى الضرة طلقتان إذا نوى، كذا قاله في "التهذيب"، انتهى كلامه. وما نقله عن "التهذيب" وأقره عليه من كونه لا يقع شيء بالزائد على العدد في الشرعي وإن نوى، قد نقل في الباب الثاني في أركان الطلاق عن المتولي خلافه، وأقره عليه أيضًا وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه، ووقع الموضعان في "الروضة" كذلك. قوله: ولو قال لرجل: إن بدأتك بالسلام فعبدي حر، وقال الآخر: إن بدأتك بالسلام فعبد حر فسلم كل منهما على الآخر دفعة واحدة لم يعتق عبد واحد منهما لعدم ابتداء كل منهما وينحل اليمين، فإذا سلم أحدهما على الآخر بعد ذلك لم يعتق واحد من عبديهما ذكره الإمام، انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام وأقره وتابعه عليه في "الروضة" يشكل ما سبق في التعليق على البشارة فراجعه. قوله: ولو قال: إن أعطيتك حقك فامرأتي طالق فأعطاه باختياره طلقت ولا تطلق بإعطاء الوكيل والسلطان، انتهى كلامه. وما أطلقه من كون الوكيل لا يتنزل منزلة إعطاء الموكل حتى لا يقع الطلاق في مسألتنا قد تابعه على إطلاقه في "الروضة" أيضًا لكن قد تقدم في الباب الثالث من أبواب الخلع نقلا عن المتولي من غير مخالفة له تخصيص ذلك بحالة غيبة الموكل وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: قال لامرأتيه إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان فدخلت كل واحدة إحدى الدارين فهل تطلقان، أم لا تطلقان؟ فيه وجهان، ولو قال: إن أكلتما هذين الرغيفين فأكلت كل واحدة منهما رغيفًا قالوا: يقع الطلاق

لأنه لا مشاع فيه لاحتمال الثاني، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح في مسألة الدارين عدم الوقوع كذا صححه الشيخ في "المهذب" والنووي في "زوائده"، وأما مسألة الرغيفين فمقتضى كلام الرافعي الاتفاق على الوقوع وليس كذلك فقد جعلها الشيخ في "المهذب" على الوجهين في الدارين، ونقله عنه في "الروضة" أيضًا إلا أنه صحيح الوقوع. الأمر الثاني: أن تصحيح النووي في الأولى عدم الوقوع يلزم منه تصحيحه في الثانية أيضًا إذا أطلق الحالف هذا الكلام ولم ينو شيئًا؛ لأنه إذا كان مدلول اللفظ أن كلًا منهما يتعاطى المجموع وكان تعاطي ذلك مستحيلًا يكون قد علق على المستحيل عدم الوقوع. نعم: إن أراد الحالف خلاف ذلك اتبعنا إرادته ولكن الكلام فيما إذا لم ينو شيئًا قوله: قال: إن ملكت أكثر من مائة فأنت طالق فكان يملك خمسين روجع فإن قال: أردت لا أملك زيادة على مائة لم تطلق وإن قال: أردت أني أملك مائة بلا زيادة طلقت، وإن قال: إن كنت أملك إلا مائة، وكان يملك خمسين فقيل: تطلق، وقيل على الوجهين، انتهى. واعلم أن النووي قد صحح في المسألة الأولى أنها لا تطلق وهو واضح وسكت عن الثانية، والأصح فيها طريقة القطع بالوقوع، كذا صححه في "الشامل" في أوائل باب ما يهدم الزوج من الطلاق وسيأتيك في كتاب الإيلاء ما يوضحه واقتضى كلامه أعني ابن الصباغ أن محل الخلاف هو محله في المسألة قبلها وهو حالة الإطلاق، وهذا لابد منه فاعلمه. قوله: وإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم قضت حاجة أخرى لم تطلق، وإن خرجت لحاجة

أخرى، ثم عدلت إلى الحمام [طلقت، وإن خرجت إلى الحمام] (¬1) وغيره ففي وجه تطلق كما لو قال: إن كلمت زيدًا فأنت طالق فكلمت زيدًا وعمرًا وفي وجه لا تطلق؛ لأن المفهوم من قوله: إن خرجت إلى غير الحمام الخروج بمقصود أجنبي عن الحمام وهاهنا الحمام مقصود الخروج، انتهى كلامه. والمعروف في هذه المسألة أن الطلاق لا يقع، وهو المنصوص كذا نقله الرافعي في كتاب الإباق، واختلف كلام النووي في هذه المسألة إختلافًا عجيبًا فقال: هاهنا ما نصه: قلت: الأصح الوقوع وممن صححه الشاشي والله أعلم، ثم خالف في كتاب الإيمان فقال من "زوائده" أيضًا: الصواب الجزم بأنه لا يحنث هذا لفظه، وسوف أذكره مع لفظ الرافعي هناك فراجعه. قوله نقلا عن فتاوى القفال: بخلاف ما لو قال: نكحتها وأنا واجد طول حرة نجعل ذلك فرقة بطلقة لأنه أقر بالنكاح وادعى مفسدًا، وقيل: يتلطف به الحاكم حتى يقول: إن كنت نكحتها فقد طلقتها. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله من وقوع طلقة وأقره عليه قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو خلاف الصحيح، فإن الصحيح أنها فرقة فسخ لا ينقص عددًا كما صرح به من "زوائده" في آخر الباب الثالث من أبواب النكاح، ولم يصحح الرافعي هناك شيئًا. الأمر الثاني: أن تعبيره عن التلطف بقوله: وقيل، يقتضي على اصطلاحه ثبوت خلاف ذلك وليس فيه خلاف ولا يتصور أيضًا مجيء الخلاف فيه. قوله: وأنه لو قال: إن فعلت ما ليس لله تعالى فيه رضا فأنت طالق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فتركت صومًا أو صلاة ينبغي أن لا تطلق لأنه ترك وليس بفعل فلو سرقت أو زنت طلقت. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق الحنث في الزنا لكن قياس ما قاله في الصوم والصلاة أن لا يحنث بالزنا إذا كان الموجود بها إنما هو مجرد التمكين بأن كشف عورتها فسكنت أو كانت مكشوفة العورة؛ لأن الموجود منها إنما هو ترك الدفع وليس بفعل على ما قاله. قوله نقلا عن العبادي: أنه لو كان له أمة وزوجة فدعى الأمة إلى فراشه فحضرت الحرة فوطئها فقال: إن لم تكوني أحلى من الحرة فهي طالق وهو يظنها الأمة فقال أبو حامد المروزي: تطلق لأنها هي الحرة فلا تكون أحلى من الحرة، وحكى أبو العباس الروياني وجهًا أنها لا تطلق لأن عنده أنه يخاطب غيرها، قال: وهذا أصح وبه أفتى الحناطي. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" واعلم قاعدتنا اعتبار المخاطب وإن ظنه أنها غيره كما إذا قال: يا زينب فأجابته عمرة فقال: أنت طالق ظنًا أنها زينب فإن عمرة تطلق، وقياس هذا في مسألتنا تصويب مقالة أبي حامد. قوله في "الروضة" نقلًا عن فتاوى القاضي: وأنه لو قال: إن غسلت ثوبي؛ فأنت طالق فغسلته أجنبية ثم غمست المحلوف بطلاقها في الماء تنظيفًا لم تطلق لأن العرف في مثل هذا يغلب والمراد في العرف الغسل بالصابون والأشنان ونحوهما، وإزالة الوسخ، وقال غير القاضي: إن أراد الغسل من الوسخ لم تطلق، وإن أراد التنظيف فلا، وإن أطلق قال: لا حنث فيه. انتهى كلامه. وتعبيره في آخره بقوله: فلا، غلط؛ لأنه موافق لما قبله، وصوابه: حنث وهو المذكور في الرافعي. قوله نقلًا عن فتاوى البغوي: أنه لو قال: إن ضربتك فأنت طالق فقصد ضرب غيرها فضربها لم يقبل قوله؛ لأن الضرب يقين ويحتمل أن يقبل لأن

الأصل بقاء النكاح، انتهى. ذكر قريبًا منه في "الروضة" وهي عبارة ناقصة غير منتظمة، وقد راجعت "فتاوى البغوي" فرأيت المسألة فيها على الصواب، فإنه قال: مسألة: إذا قال لامرأته: إن ضربتك فأنت طالق فقصد ضرب أخرى أو ضرب نفسه فأصابها، قال: فهو ضارب بدليل أنه يكون قائلًا في مثله تجب الدية وهل يحنث؟ قال: فعلى قولي حنث المكره، فإن قلنا: لا حنث على المكره، ثم ادعى أني كنت أقصد ضرب غيرها أو ضرب نفسي فأصابها لا يقبل لأن الضرب يقين، ويحتمل أن يقبل لأن الأصل بقاء النكاح هذه عبارة البغوي فسقط الكلام المتوسط جميعه، إما لغلط في النسخة التي وقعت للرافعي أو لانتقال نظره أو نظر الكاتب من أصل الرافعي كما تقدم في نظائر لهذه المواضع، فلله الحمد على الإلهام إلى الصواب. قوله نقلًا عن الفتاوى المذكورة: أنه لو نادى أمه فأجابته فلم يسمع فقال: إن لم تجبني أمي فامرأتي طالق فإن رفعت الأم صوتها في الجواب بحيث يسمع في تلك المسافة لم تطلق وإلا فتطلق، انتهى. وما ذكره هنا قد ذكر بعده في أوائل الفصل الذي يليه ما يشكل عليه فقال نقلًا عن البوشنجي: وأنه لو حلف بالطلاق أنه بعث فلانًا إلى بيت فلان، وعلم أن المبعوث لم يمض إليه فقيل: يقع الطلاق لأنه [يقتضي حصوله هناك والصحيح أنه] (¬1) لا طلاق لأنه يصدق أن يقال بعثه فلم يمتثل. انتهى. وما قالوه في تعليل عدم الطلاق هنا يصدق في مسألتنا بعينه فيقال أجابته فلم يسمع. قوله أيضًا نقلًا عن الفتاوى المذكورة: وأنه لو حلف لا يخرج من البلد ¬

_ (¬1) سقط من أ.

حتى يقضي دين فلان بالعمل فعمل له ببعض دينه، وقضى الباقي من موضع آخر، ثم خرج طلقت، وإن قال أردت أني لا أخرج حتى أخرج إليه من دينه وأقضي حقه قبل قوله في الحكم. انتهى كلامه. وما نقله عن "فتاوى البغوي" من القبول في الحكم، قد تابعه في "الروضة" عليه أيضًا، وهو غلط، فإن المجزوم به فيها إنما هو العكس فقال: قبل قوله في الباطن دون الظاهر. هذه عبارته، فكأنه سقط من النسخة التي وقف الرافعي عليها إما لنقل نظره أو سقط من نسخ الرافعي.

فصل: في مسائل منثورة ذكرها أبو العباس الروياني

فصل: في مسائل منثورة ذكرها أبو العباس الروياني قوله: وأنه لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان، وشهد شاهدان أنه ليس بذلك الذهب، فظاهر المذهب وقوع الطلاق، وإن كانت هذه الشهادة على النفي لأنه نفي يحيط العلم به، فإن الشاهد ربما رأى ذلك الذهب وعلم أنه غير ذلك المحلوف عليه، وفيه وجه أنه لا تقبل هذه الشهادة، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله من أن ظاهر المذهب قبول الشهادة على النفي المحصور وأقره عليه، قد ذكر ما يخالفه في أثناء باب القسامة، وفي أواخر الشهادات في الباب المعقود لمسائل منثورة، واختلف فيه كلام "الروضة" أيضًا، وسوف أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: إنما يتعذر تسليم قبول الشهادة على النفي المحصور وهو الحق فما ذكره تقريبًا عليه من الحنث غير صحيح على قاعدته، فإنه إذا حلف معتقدًا أنه ذلك الشيء وليس هو إياه يكون جاهلًا، والأصح أن الجاهل لا يحنث، وقد صرح الرافعي بهذه القاعدة في أول كتاب الأيمان فقال: ينعقد اليمين علي الماضي كما ينعقد على المستقبل، فإن كان كاذبًا وهو عالم بالحال فهي اليمين الغموس قال: وإن كان جاهلا ففي وجوب الكفارة قولان كما لو فعل المحلوف عليه ناسيًا هذه عبارته فتفطن لذلك واستحضره فإنه كثير الوقوع في الفتاوى، وقد ذهل عنه الرافعي والنووي في مسائل وإن كانا قد تفطنا لذلك في مسائل أخرى. قوله: ولو حلف بالطلاق أن لا يفعل كذا وشهد شاهدان عنده أنه فعله وتيقن صدقهما أو غلب على ظنه صدقهما لزمه أن يأخذ بالطلاق، انتهى.

تابعه في "الروضة" وهو قريب مما تقدم، وقد بسطت المسألة في آخر الفصل فراجعها. قوله أيضًا عنه: وأنه لو قال: امرأتي طالق إن دخلت دارها ولا دار لها وقت الحلف ثم ملكت دارًا فدخلتها طلقت، وأنه لو قال: إن لم تكوني الليلة في داري فأنت طالق ولا دار له، ففي وقوع الطلاق وجهان مبنيان تارة على التعليق بالمستحيل، وأخرى أن الحنث هل يحصل بفعل المكره؟ انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره أولًا من الجزم بالحنث وأنه لا يشترط وجود الدار حملًا للكلام على أن يكون التقدير دارًا لها لا يتصور معه أن تكون اليمين الثانية من باب التعليق على المحال بل يكون التقدير أيضًا إن لم تكوني الليلة في دارٍ لي -أي: بالتنوين وعدم الإضافة- ولو صرح بهذا لكان تعليقًا صحيحًا بلا شك، ثم إن ملك دارًا ودخلتها لم يحنث وإلا حنث، والمذكور أولًا هو الموافق للقواعد ولاسيما أن اللفظ قد تعذر حمله على الحقيقة فحملناه على المجاز. الأمر الثاني: أن مقتضى ما ذكره الروياني المذكور من كون البناء على الأصل الأول أن يكون الراجح هو الحنث عقب الغروب لأن الراجح في التعليق على عدم الإتيان بالمستحيل وقوع الحنث وأنه يتعجل لأن الزوج في التعليق على عدم الإتيان بالمستحيل وقوع الحنث وأنه يتعجل، فإن علقه على وقت معين تعجل في أول ذلك الوقت، كذا ذكره الرافعي في أوائل الباب الثالث من كتاب الأيمان فتفطن له، وإنما لا يقع الطلاق المعلق على المستحيل إذا كان التعليق على فعله. وأما الأصل الثاني: فمقتضى البناء عليه ترجيح عدم الحنث لأنه الراجح في فعل المكره الذي يراعي مرض الحالف وقد اختصر في "الروضة"

هذا الكلام على غير وجهه، فإنه اقتصر فيه على البناء الأول. قوله: وأنه لو قال لمن يسمى زيدًا يا زيد فقال امرأة زيد طالق طلقت امرأته، وقيل: لا تطلق إلا أن يريد نفسه. انتهى كلامه. تابعه عليه "الروضة" والراجح هو الوجه الثاني، كذا رجحه الرافعي في باب أركان الطلاق بعد نقله هذا عن أبي العباس المذكور فقال نقلًا عن القاضي سريج الروياني: وأنه لو قيل لرجل اسمه زيد يا زيد فقال امرأة زيد طالق. قال جدي أبو العباس الروياني: تطلق امرأته، وقيل: لا تطلق حتى يريد نفسه لجواز إرادة زيد آخر هذا الوجه فيما إذا قال فاطمة طالق واسم زوجته فاطمة ويشبه أن يكون هذا هو الأظهر ليكون قاصدًا إلى تطليق زوجته هذا كلامه. وذكر هناك أيضًا قبل الموضع المذكور بقليل نقلًا عن "فتاوى القفال": أنه إذا ادعى أنه نوى فاطمة أخرى قبل قوله، وذكر أيضًا في آخر الباب الذي نحن فيه الآن عن "فتاوى القفال" أيضًا أنه لو قال لأم امرأته: بنتك طالق، ثم قال: أردت البنت التي ليست زوجتي صدق، وذكر الرافعي هنا عقب المسألة الأولى أنه لو عزل عن القضاء فقال: امرأة القاضي طالق ففي وقوع طلاقه وجهان وقد ظهر لك مما نقلناه عنه ترجيح عدم الوقوع وإن كان باقيًا على ولايته فتفطن له. قوله: وأنه لو قال إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق، فأخرجها هو فهل يكون إذنًا؟ فيه وجهان، القياس المنع. ذكر مثله في "الروضة" والحكم على الإخراج بأنه لا يكون إذنًا يشعر بالحنث، ولكن يتعين أن يقال إن أكرهها حتى خرجت فالأمر كذلك لأنها خرجت باختياره وإن لم يكن بإذنه وإن لم يكرهها عليه، بل حملها إلى

خارج لم يحنث فقد قال الرافعي في كتاب الأيمان في مثل هذه الصورة بما ذكرناه وعلله بأنها لم تخرج بل أخرجت. قوله: وأنه لو قيل أطلقت امرأتك فقال: اعلم أن الأمر على ما يقوله لم يكن إقرارًا بالطلاق على الأصح، انتهى. واعلم أنه قد ذكر في أبواب العتق قبل كتاب التدبير تصويرًا قريبًا من هذا نقلًا من الروياني أيضًا وأجاب عنه بما يخالف جوابه هنا إلا أنه فرض المسألة هنا في المضارع من علم وهنا في الأمر منه، وقد يفرق بينهما. قوله: وأنه لو جلس مع جماعة فقام ولبس خف غيره فقالت له زوجته: استبدلت بخفك ولبست خف غيرك فحلف بالطلاق أنه لم يفعل ذلك، فإن كان خرج بعد خروج الجماعة ولم يبق هناك إلا ما لبسه لم تطلق؛ لأنه لم يستبدل بل استبدل الخارجون قبله، وإن بقي غيره طلقت. وأنه لو رأى امرأته تنحت خشبة فقال: إن عدت إلى مثل هذا الفعل فأنت طالق فنحتت خشبة من شجرة أخرى ففي وقوع الطلاق وجهان؛ لأن النحت كالنحت لكن المنحوت غيره. ولو حلف لا يخرج من الدار إلا مع امرأته فخرجا لكن تقدم عليها بخطوات ففي وجه لا يحنث للعرف وفي آخر يحنث، وإنما يحصل البر بأن يخرجا من غير تقدم. وأنه لو حلف أن لا يضربها إلا بالواجب، فشتمته فضربها بالخشب طلقت لأن الشتم لا يوجب الضرب بالخشب وإنما تستحق به التعزير، وقيل: خلافه. وأنها لو سرقت منه دينارًا فحلف بالطلاق لتردنه وكانت قد أنفقته لا تطلق حتى يحصل اليأس من رده بالموت، فإن تلف الدينار وهما حيان فوقوع الطلاق على الخلاف في الحنث بفعل المكره. وأنه لو قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق وأشار إلى موضع من الدار فدخلت غير ذلك الموضع من الدار ففي وقوع الطلاق وجهان.

ولو قال: إن ولدت ذكرًا فأنت طالق واحدة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق ثلاثًا فولدت ولدًا ميتًا ودفن ولم يعلم حاله فهل ينبش ليعرف؟ يحتمل أن يخرج على وجهين. وأنه لو قال: إن كان هذا ملكي فأنت طالق، ثم وكل من يبيعه، هل يكون إقرارًا بأنه ملكه؟ وجهان، وكذا لو تقدم التوكيل على التعليق. انتهى. وقد تكلم النووي على هذه المسائل فقال: أما الأولى فالصواب فيها أنه إن خرج بعد خروج الجميع فينظر إن قصد أني لم آخذ بدله كان كاذبًا فإن كان عالمًا بأنه أخذ بدله طلقت، وإن كان ناسيًا فعلى قولي الناسي، وإن لم يكن له قصد خرج على الخلاف السابق في أن اللفظ الذي تختلف دلالته بالوضع والعرف على أيهما يحمل؟ وأما إن خرج وقد بقي بعض الجماعة فإن علم أن خفه مع الخارجين قبله فحكمه ما ذكرناه وأن علم أنه كان باقيًا أو شك ففيه الخلاف في تعارض الوضع والعرف. وأما الثانية: وهي مسألة النحت فالأصح فيه الوقوع. وأما الثالثة والرابعة: فالأصح فيهما عدم الوقوع. وأما الخامسة: وهي مسألة الدينار فالأصح وقوع الطلاق إذا تلف بعد التمكين من الرد. وأما السادسة: فالأصح فيها الوقوع ظاهرًا لكنه إن أراد الموضع المعين دين. وأما السابعة: فنقلها النووي من هنا إلى الفصل المعقود للتعليق بالجمل والولادة، وقال: الراجح: النبش وللمسألة نظائر تأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني من الشهادات يتعين مراجعتها. وأما الثامنة: فالمختار في الحالين أنه لا طلاق إذ يحتمل أن يكون وكيلًا في التوكيل ببيعه أو كان لغيره وله عليه بينة، وقد تعذر إستيفاؤه أو باعه غصبًا أو بولاية. واعلم أن ما نقله الرافعي في التوكيل يجري في البيع بنفسه بلا شك،

وكأنه إنما فرض المسألة في الوكيل لكون الروياني سئل عنها بخصوصها، وحينئذ فيكون الراجح عدم الطلاق فيه، بل أولى. إذا علمت ذلك فقد صحح هو والرافعي في كتاب الصلح أن قول المدعي عليه للمدعى بعنيه أو هبه لي إقرار بالملك له مع الاحتمالات المذكورة هاهنا تأتي جمعيها فيجوز أن يكون له مالك غيره فوض إليه هذه التصرفات ولم يعينه. قوله: وأنه لو كان بين يديه تفاحتان فقال لزوجته: إن لم تأكلي هذه التفاحة اليوم فأنت طالق، وقال لأمته: إن لم تأكلي الأخرى اليوم فأنت حرة واشتبهت تفاحة الطلاق بتفاحة العتق فعن بعض الأصحاب أن الوجه أن تأكل كل واحدة [منهما تفاحة فلا يقع الطلاق ولا العتق؛ لأن الأصل بقاء النكاح والملك والزوال غير معلوم، وعن آخرين أن الوجه أن تأكل كل واحدة] (¬1) منهما ما يغلب على ظنها أن يمينها معقودة عليها ويجتهد الزوج معهما، ولو خالع زوجته ذلك اليوم وباع الأمة، ثم جدد النكاح واشترى يخلص وقيل: يبيع الأمة من المرأة في ذلك اليوم وتأكل المرأة التفاحتين، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره ليس اختلافًا للأصحاب بل لكل مما ذكره طريق سائغ موافق لقواعدنا أجاب به بعضهم عند السؤال، وكان الصواب أن يقول: له طريقان، وكلامه يوهم من لا حاصل عنده أن ذلك خلاف حتى وقع فيه النووي في اختصاره "للروضة" فإنه قال: فيه وجهان: أحدهما: كذا وسرد الكلام إلى آخره فاجتنبه فإنه وهم فاحش وسيأتي من كلام النووي في نظير المسألة ما يوافق الطريق الأول. الأمر الثاني: أن مسألة الخلع قد ذكرها الرافعي مبسوطة قبل ذلك في الفصل المعقود للتعليق بالتطليق ونفيه، وقد ذكرت لفظه هناك إلا أنه هناك ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فرضها في العمر وهاهنا في اليوم فيكون اليوم كالعمر، وقياس ما ذكره هناك أنه إذا خالع وباع الأمة، ثم عقد عليها أنه لا يتخلص بل ينتظر الحال، فإن أكلتا في اليوم فلا كلام وإلا وقع الطلاق قبل الخلع والعتق قبل البيع وبان بطلانهما. قوله: وأنه لو قال لامرأتيه: كلما كلمت رجلًا فأنتما طالقتان، ثم قال: لرجلين اخرجا طلقتا. ولو قال: كلما كلمت رجلًا فأنت طالق فكلم رجلين بكلمة طلقت طلقتين على الصحيح، وقيل: طلقة، انتهى كلامه. وفي الصورة الأولى منه خلل تبعه عليه في "الروضة" فإن وقوع الطلاق لا يتوقف على القولين لرجلين، فإنه لو خاطب واحدًا وقع الطلاق بلا نزاع وإنما جواب هذا التصوير الحكم بالتعدد أو عدمه، والقياس: إلحاقه في ذلك بالصورة الثانية، وحينئذ فصوابه أن يعبر بقوله: طلقتا طلقتين وقيل: طلقة، والظاهر أنه كان هكذا ولكن سقط إما من كلام الروياني أو من كلام الرافعي. قوله: وأنه لو قال: إن تزوجت النساء أو اشتريت العبيد فأنت طالق لم تطلق إلا إذا تزوج ثلاث نسوة أو اشترى ثلاثة أعبد، انتهى. وما نقله من اشتراط الثلاثة وأقره ذكر بعده بنحو ورقة في المسائل المنقولة عن البوشنجي نحوه وأقره أيضًا فقال: ولو قال: إن كلمت بني آدم فأنت طالق فالقياس أنها لا تطلق بكلام واحد ولا اثنين وهذان الفرعان قد ذكر في آخر الباب الثالث من كتاب الإيمان في الفصل الأول من الفصلين الزائدين ما يخالفهما مخالفة عجيبة وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" وذكر الرافعي أيضًا في أوائل القذف أن الناس تتناول الكل ومقتضى هذا أنه لا يحنث بتكليم البعض وهو القياس، لأنه جمع محكي وهو للعموم فلا يحنث بالبعض وإن كان يستحيل

تكليم الكل، كما لو حلف لا يشرب ماء النهر فإنه لا يحنث بشرب بعضه وإن كنا نعلم استحالة شرب الجميع. قوله: وأنه لو قال: أنت طالق إن لم أطأك الليلة فوجدها حائضًا أو محرمة فعن المزني أنه حكى عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة -رضي الله عنهم- أنه لا طلاق فاعترض، وقال: يقع لأن المعصية لا تعلق لها باليمين، ولهذا لو حلف أن يعصي الله تعالى فلم يعص حنث، وقيل: ما قاله المزني هو المذهب واختيار القفال، وقيل: على قولين لفوات البر بالإكراه، انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي قد ذكر نظير هذه المسألة في الباب الثالث من أبواب الأيمان في النوع السابع منه في الكلام على الحلف على استيفاء الحقوق، وجزم فيها بما قاله المزني حكمًا وتعليلًا، وسوف أذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: وأن الوكيل إذا طلق لا يحتاج إلى نية إيقاع الطلاق عن موكله في الأصح، انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وللوكيل في الفعل ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يقصد إيقاعه عن موكله وهو واضح. والثاني: أن لا يقصد شيئًا فيقع عنه أيضًا على الراجح كما تقدم في هذا اللفظ. والثالث: أن يقول: أتيت به لغرض نفسي ووقوعه عني لا عن الموكل، فمقتضى ما نقله الرافعي هنا وقوعه أيضًا لكنه نقل قبيل كتاب الديات عن "فتاوى البغوي"، ولم يخالفه أن الوكيل في استيفاء القصاص إذا قال: قتلته بشهوة نفسي لا عن جهة الموكل لزمه القصاص، وينتقل حق الموكل إلى التركة هذا كلامه ومقتضاه من هنا أن الطلاق لا يقع، وأنه لابد من عدم

الصارف عن [الموكل] (¬1)، ويؤيده أيضًا ما نقله الرافعي في الكلام على الإكراه عن أبي العباس المذكور أن الوكيل في الطلاق إذا أكره على الطلاق فيحتمل أن يقال يقع اختيار المالك ويحتمل أن لا يقع لأنه المباشر قال أبو العباس: وهذا أصح. قوله: وأنه لو قال: إن لم أصطد ذلك الطائر اليوم فأنت طالق فاصطاد طائرًا وادعى أنه ذلك الطائر قبل للاحتمال فإن قال الحالف: لا أعرف الحال واحتمل الأمرين فيحتمل وقوع الطلاق وعدمه، انتهى. وهذه المسألة قد اختلف فيها تصحيح النووي وسبق أيضًا إيضاح ذلك في آخر الباب الرابع المعقود للاستثناء. ¬

_ (¬1) في جـ: التوكيل.

فصل: في مسائل [منقولة عن] إسماعيل البوشنجي

فصل: في مسائل [منقولة عن] (¬1) إسماعيل البوشنجي قوله في "الروضة": لو حلف بالطلاق لا تساكنه في شهر رمضان تعلق الحنث بمساكنة جميع الشهر ولا يحنث ببعضه، وبهذا قال إمام العراقيين يعني أبا بكر الشاشي وعن محمد بن يحيى يحنث بمساكنة ساعة منه كما لو حلف لا تكلمه شهر رمضان يحنث بتكليمه مرة، انتهى كلامه. هذا النقل عن محمد بن يحيى غلط مخالف لما في الرافعي فإن فيه محمد بن الحسن أي صاحب أبي حنيفة فتحرف على النووي ومراده بأبي بكر الشاشي صاحب "الحلية"، وتوضيحه أن الرافعي صرح بأن البوشنجي سأله وقد كان في طبقة تلامذته. قوله نقلًا عن إسماعيل البوشنجي أيضًا: أنه لو قال: أنت طالق في الدار، فمطلق هذا يقتضي وقوع الطلاق إذا دخلت هي الدار، انتهى كلامه. وما نقله عن البوشنجي المذكور من توقف الطلاق على دخول الموضع وأقره قد نقل بعده بنحو ورقة عن البويطي خلافه فقال: ما نصه عن البويطي أنه لو قال: أنت طالق في مكة أو بمكة أو في البحر طلقت في الحال إلا أن يريد إذا حصلت هناك، وكذا لو قال: في الظل وهما في الشمس بخلاف ما إذا كان الشيء منتظرًا غير حاصل كما إذا قال في الشتاء وهما في الصيف لا يقع حتى يجيء الشتاء. هذا لفظه وحكى العبادي في "الطبقات" أن الصعلوكي حكى عن الربيع أنه إذا قال: أنت طالق في مكة لا تطلق حتى تدخل مكة، قال: وقال ابن سريج: في الحال، انتهى. فتعارض كلام البويطي مع كلام الربيع. قوله: وأنه لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار ثنتين أو ثلاثًا أو عشرًا ¬

_ (¬1) في ب: ذكرها.

فهو مجمل، فإن قال: أردت أنها تطلق واحدة إن دخلت الدار مرتين أو ثلاثًا يصدق فإن اتهم حلف وإن أراد وقوع الطلاق بالعدد المذكور تقع الثلاث وتلغو الزيادة. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من وقوع الثلاث مع كونه قد عبر بأو وتبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غير صحيح ففي الرافعي والروضة الجزم بأنه إذا قال لزوجته: أنت طالق طلقة أو ثلاثًا أنه يختبر ويقع ما أراده منهما، والحمل على أنه قد يريد ثنتين وقد يريد ثلاثًا فاسد أيضًا؛ لأنه جزم بوقوع الثلاث. قوله: وللدار بستان بابه لافظ فيها انتهى. واعلم أن صيغة لفظ بالفاء والظاء المعجمة المشالة معناها رمى، تقول: لفظته من فمي أن رميته، والمعنى هاهنا أن باب البستان يرمي في الدار ولهذا عبر في "الروضة" بقوله: بابه مفتوح إليها. قوله: وأنه لو حلف لا يطعنه بنصل هذا الرمح أو نصل هذا السهم فنزع الزج وأدخل فيه رمحًا آخر فطعنه به يحنث. انتهى. الزج بزاي معجمة مضمومة ثم جيم مشددة هو: الحديدة التي في أسفل الرمح، والجمع زجاج بكسر الزاي، وزجة بالكسر أيضًا علي وزن عنبة. قوله: وأنه لو قال: إن شتمتيني أو لعنتيني فأنت طالق فلعنته لا يقع الطلاق لتعلقه بهما. انتهى. تابعه في "الروضة" علي هذا الحكم مع تعبيره بقوله: وإن -ومن خط النووي نقلت- وهو غير مستقيم فإن الرافعي قد ذكر قبيل الكلام على اعتراض الشرط على الشرط أن الشرطين المعطوفين بالواو يمينان سواء تقدما أو تأخرا وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وحينئذ فيقع الطلاق في مسألتنا باللعن وبالشتم وحده وإنما يستقيم ما ذكره مع حذف واو العطف. قوله: وأنه لو قال نصف الليل: إن بت مع فلان فأنت طالق فبات معه

بقية الليل طلقت على مقتضى القياس ولا يشترط أن يبيت جميع الليل ولا أكثره، انتهى. والمختار كما قاله في "الروضة" أن المبيت يحمل مطلقه على أكثر الليل إذا لم تكن قرينة كما سبق في المبيت بمنى قال لكن الظاهر الحنث هنا لوجود القرينة. قوله: وأنه لو حلف لا يأكل من مال فلان فنثر مأكولًا فالتقطه وأكله حنث، وكذا لو تناهدا فأكل من طعامه، انتهى. قال في "الروضة" الصورتان مشكلتان والمختار في مسألة النثار بناؤه على الخلاف السابق في الضيف ونحوه أنه هل يملك الطعام المقدم إليه ومتى يملكه؟ وأما بالنسبة للمناهدة وهي خلط المسافرين نفقتهم وإشتراكهم في الأكل من المخلتط ففيها نظر لأنها في معنى المعاوضة، وإلا فتخرج على مسألة الضيف، هذا كلامه. وقد ذكر الرافعي المناهدة في آخر الأيمان وفسرها بتفسير هو أعم من هذا التفسير الذي ذكره النووي وذكر أيضًا ما ذكره النووي من التخريج على مسألة الضيف بعد أن نقل عن بعض الحنفية أنه لا يحنث وسوف أذكره هناك والمناهدة بالنون والدال المهملة. قوله: وأنه لو حلف لا يكلم أحدًا أبدًا إلا فلانًا وفلانًا فكلمهما جميعًا يحنث كما لو قال: لا أكلم إلا هذا وهذا فكلمهما جميعًا، انتهى. هذه المسألة لم يذكرها في "الروضة" وهذا الحكم إنما يتجه إذا كانت الصورتان بأو لا بالواو. قوله: وأنه لو حلف لا يصوم زمانًا فالقياس أنه يحنث بصوم ساعة من يوم إذا قلنا في من حلف أن لا يصوم يحنث بالشروع فيه، ولو حلف ليصومن أزمنة، بَرَّ بصوم يوم لاشتماله على أزمنة. انتهى.

أما المسألة الأولى فقد تحرفت في "الروضة" فوقع فيها التعبير بقوله: ليصومن أي: على الإثبات. وأما الثانية: فلا يشترط في البر أن يصوم يومًا، بل يكفي ثلاث لحظات. قوله: وأنه لو قال: إن كان الله يعذب الموحدين فأنت طالق طلقت. انتهى. قال في "الروضة" هذا إذا قصد الحلف على عذاب أحد منهم، فإن قصد المجموع أو لم يقصد شيئًا لم تطلق لأن التعذيب يختص ببعضهم. قوله: وأنه لو قال: اكررسيه مرين مران فأنت طالق فظاهر اللفظ يقتضي وقوع الطلاق إذا لبسه أو ألقاه على نفسه، انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي بالفارسية فأسقطها من "الروضة". قوله: وأنه لو اتهمته امرأته بالغلمان فحلف أن لا يأتي حرامًا ثم قبل غلامًا أو لمسه يحنث لعموم اللفظ بخلاف ما لو قالت له: فعلت كذا حرامًا؟ فقال: إن فعلت حرامًا فأنت طالق لأن هاهنا ترتب كلامه على كلامها وهناك اختلف اللفظ فحمل كلامه على الإبتداء لأنها اتهمته بنوع من الحرام فنفى عن نفسه جنس الحرام، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن البوشنجي في اللمس من إطلاق الحكم عليه بالتحريم، وإيقاع الطلاق به، وتابعه هو والنووي عليه مستقيم على ما صححه النووي من تحريم النظر إلى الأمرد بغير الشهوة فإن ذلك إذا حرم كان تحريم القبلة والمس بطريق الأولى، وأما على ما قال الرافعي والجمهور من جواز النظر فالمتجه جواز المس وهذه المسألة الثانية وهي التي أجاب فيها بعدم الحنث قد أسقطها النووي من "الروضة"، وحكمها مشكل بل الصواب وقياس نظائره أنه يحنث ولا أثر لترتيب كلامه على كلام غيره ولهذا لو قال له قائل كلم زيدًا اليوم، فقال: والله لا كلمته، إنعقدت

اليمين على الأبد إلا أن ينوي اليوم كذا قاله الرافعي في أواخر كتاب الأيمان. قوله: وأنه لو حلف لا يأكل من مال ختنه فدفع إليه الدقيق ليخبره فخبزه بخمير من عنده لم يحنث لأنه مستهلك، انتهى. وما نقله عن العبادي من عدم الحنث وأقره تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غير مستقيم لأن هذا المال مشترك بلا شك فيأتي فيه ما قالوه فيه في الأيمان وهو أنه إن أكل الكل أو شيئًا يزيد على حصته حنث وإلا فلا. والختن بالخاء المعجمة والتاء بنقطتين من فوق هو: زوج البنت. قوله: ولو قال: إن لم تكوني أحسن من القمر، أو إن لم يكن وجهك أحسن من القمر فأنت طالق. قال القاضي أبو علي الزجاجي والقفال وغيرهما: لا تطلق، واستدلوا بقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: هذا الحكم والاستشهاد متفق عليه وقد نص عليه الشافعي -رحمه الله- وقد ذكرت النص في ترجمة الشافعي من كتاب "الطبقات" هذا كلامه. وما ذكره -رحمه الله- عن الطبقات سهو فإن "الطبقات" المذكورة لم يترجم فيها للشافعي فضلا عن كونه ذكر هذا النص فيها، وقد وقع له أيضًا نظير هذا الموضع في كتاب الوليمة. قوله نقلًا عن أبي العباس الروياني: أن امرأة قالت لزوجها: اصنع لي ثوبًا ليكن لك فيه أجر، فقال: إن كان لي فيه أجر فأنت طالق فقالت: استفتيت فيه إبراهيم بن يوسف العالم، فقال: إن كان إبراهيم بن يوسف [عالمًا فأنت طالق، فاستفتي إبراهيم بن يوسف] (¬1) في ذلك فقال: لا يحنث في اليمين الأولى لأنه مباح والمباح لا أجر فيه، ويحنث في الثانية لأن الناس يسمونني عالمًا، وقيل: يحنث في الأولى أيضًا لأن الإنسان يؤجر في ذلك أيضًا إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قصد البر، وحكى الوجهين معًا القاضي الروياني في كتاب "التجربة" وقال: الصحيح الثاني، انتهى. قال في "الروضة": لا معنى للخلاف في مثل هذا لأنه إن قصد الطاعة كان فيه أجر ويحنث وإلا فلا، ومقتضى الصورة المذكورة أن لا يحنث لأنه لم يقع فعل بنية الطاعة، انتهى كلامهما. وما ذكراه معًا كلام غير محرر، والصواب ما ذكره الرافعي في أوائل كتاب النذر نقلًا عن الأئمة وهو أن المباح إذا قصد به الطاعة فإنه يثاب على القصد الجميل لا على نفس المباح فلابد من مراعاة ذلك هنا، وأما قول النووي أن مقتضى التصوير أنه لا يحنث أنه لم يقع منه فعل بنية الطاعة، وهذا كلام عجيب موهم فإن الثواب لا يتوقف علي الفعل بل إذا قصد أن يفعل بنية الطاعة حصل له الثواب سواء فعله أم لم يفعله، وأيضًا فإن الفعل هنا لم يقع بالكلية حتى يعدل بنفي الفعل المقيد. واعلم أن ما ذكره الرافعي في أوائل النذر قد ذكر ما يخالفه في آخر باب القسم والنشوز فقال: إن هجران المرأة بترك الكلام حرام، وقيل مكروه. قال الإمام: وعندي أنه لا يحرم ترك الكلام أبدًا لكن إذا كلم فعليه أن يحنث وهو كابتداء السلام وجوابه. ثم قال -أعني: الرافعي- ولمن ذهب إلى التحريم أن يقول: لا منع من ترك الكلام بلا قصد، فأما بقصد الهجران فحرام كما أن الطيب ونحوه إذا تركه الإنسان لا يحرم ولو قصد بتركه الإحداد أثم هذا كلامه. وتبعه عليه في "الروضة" وذكر ما يوافق هذا أيضًا في أوائل الشهادات في الكلام على الغناء المحرم. قوله نقلًا عن الشيخ إبراهيم المروروزي: وأنه لو قال: أفرغي هذا البيت من قماشك فإن دخلت ووجدت فيه شيئًا من قماشك ولم أكسره على

رأسك فأنت طالق، فدخل البيت ووجد فيه منحازًا لها، فقيل: لا يقع للإستحالة، وقيل يقع عند اليأس. انتهى. المنحاز بميم مكسورة ثم نون ساكنة ثم حاء مهملة وفي آخره زاي معجمة هو الهاون، ومن كلام العرب له دق دقك بالمنحاز حب الفلفل. إذا علمت ذلك فالصحيح في هذه المسألة وسائر التعاليق المستحيلة وجه ثالث وهو الحنث الأن، كذا ذكره الرافعي في الأيمان في أول النوع الثالث المعقود للأكل والشرب فقال: إنه الأشبه، وفي "الروضة" إنه الأصح، وعللاه بأن العجز متحقق في الحال، وإنما يحسن الانتظار في ما يتوقع حصوله، نعم: إن قال إن طرت أو أحييت ميتًا ونحوه مما جعل فيه الطلاق معلقًا على وجود ما يستحيل وجوده فلا يقع على الصحيح وليس كلامنا فيه. قوله نقلًا عنه: وأنه لو تخاصم الزوجان إلى آخره. هذه المسألة وقعت في نسخ الرافعي مغيرة كما قاله في "الروضة" قال وقد حققتها من كتاب إبراهيم المذكور فلنذكر عبارة النووي فيها لمعرفة صورة المسألة، فنقول: قال في أصل "الروضة": وأنه لو تخاصم الزوجان فخرجت مكشوفة الوجه فعدى خلفها وقال كل امرأة خرجت من الدار مكشوفة ليقع بصر الأجانب عليها فهي طالق فسمعت قوله ورجعت ولم يبصرها أجنبي طلقت، ولو قال: كل امرأة لي خرجت مكشوفة ويقع بصر الأجانب عليها فهي طالق فخرجت ولم يبصرها أجنبي لا تطلق، والفرق أن الطلاق في الصورة الثانية معلق على صفتين ولم توجد إلا إحداهما، وفي الأولى على صفة فقط، وقد وجدت هذا كلامه. قوله نقلًا عن أبي العباس الروياني: وأنه لو حلف أنه لا يفعل كذا فشهد عنده عدلان أنه فعله وظن صدقهما لزمه الأخذ بالطلاق، انتهى.

فظاهره اشتراط العدلين في الإخبار وينبغي الاكتفاء بالواحد عند غلبة الظن وهذه المسألة تشكل على مسألة الإخبار بنقضان الصلاة وزيادتها حيث صححوا هناك عدم الرجوع إلى المخبر، ويجوز أن يكون الروياني هذا ممن يقول في الصلاة بالرجوع إلى قول المخبرين فإن صح عنه لزم القول بعدم الرجوع هنا إلى قولهم، وقوله: يشهد عدلان أنه فعله لابد أن يريد فيه أنك فعلته عمدًا وإلا فلا يستقيم إطلاق القول بالحنث، إلا أن يكون الروياني هذا ممن يرى بحنث الناسي. وقوله: لزمه الأخذ بقولهم، يحتمل اللزوم باطنًا ويحتمل ظاهرًا أيضًا حتى أنها تقضي العدة وتنكح غيره من غير إنشاء طلاق، وهو مشكل، لإنا لو فتحنا هذا الباب لاتخذه الشهود ذريعة إلى التفريق بين المرء وزوجه عند التعليق على أي فعل كان ولو علق على فعل غيره من غير إستفصال الحاكم لهم فشهد الشهود أنه فعله كان ممن لا يبالي به أو يبالي، والقياس إلحاقه بفعله ولو شهد عنده عدلان فشك في إخبارهما لم يلزمه الأخذ ويلزم الشهود في جميع الصور أن يشهدوا أنه فعله وطريق الزوج في رفعهم عنه وبقاء الزوجية أن يحلف أنه فعله ناسيًا. وقوله: فيشهد عنده عدلان يقتضي أنه لو شهد عنده صبيان أو عبيد أو فسقة لم يلزمه الأخذ عند غلبة الظن، وفيه نظر، ولو شهد عنده نسوة أو عبيد عدول لزمه الأخذ، ويحتمل خلافه لأنهم ليسوا مقبولين الشهادة في الطلاق، ولو أخبرته المرأة بأنه فعله وغلب على ظنه لم يلزمه الأخذ لأنها قد تريد قطع نكاحه وكثيرًا ما يقع هذا، لكن إذا كان المدار على غلبة الظن فينبغي طرحه في الجميع ولا ينبغي تقييده بالشهادة، بل إذا غلب على ظنه أنه فعله لزمه الأخذ بالترك، وقد ذكروا في مسألة التحليل فيما إذا أخبر به المرأة فإنها حلت وغلب على ظنه الكذب أنه يجوز النكاح على الأصح، فإذا كان ابتداء النكاح مع غلبة الظن يكذب المخبر فجواز استدامته مع غلبة

ظن صدق المخبر أولى لأنه يفتقر في الدوام ما لا يفتقر في الابتداء، ويلزم أبا العباس أن الشهود لو شهدوا عنده أنها حلت وغلب على ظنه الكذب أن لا يجوزه ويجوز أن يكون قائلا به. ولو علق عتقًا أو نذرًا على فعله أو فعل غيره أو عبده أو أمته فأخبره عدلان فالعتق نظير الطلاق. ولو حلف يمينًا بالله على عدم الفعل فشهدوا عنده لزمته الكفارة على هذا. ولو كانت عليه ديون وكفارات فشهدوا عنده بأدائها أو بأداء زكاة أو صلاة أو حج أو صوم أو رد لقطته أو وديعة أو عارية أو مغصوبة وغلب الصدق فينبغي القبول فيما عدا الصلاة. ولو شهدوا بإبراء أو استيفاء أو قرض أو رهن أو إجارة أو تزويج بنته أو أمته أو غيرهما من غيره أو باستيلاده أمته أو تدبيرها أو وقفها أو بجميع ما يتعاطاه المكلف فهذه مسائل ينبغي الإعتناء بتحريرها. وإيضاح قول أبي العباس في أصل المسألة وإيضاح محله هل هو عند الفعل عمدًا أو سهوًا؟ وأن ما قاله هل يطرد في جميع هذه الصور، وتبين مذهبه في حنث الناسي والجاهل وفي مسألة الصلاة أعني من قول المخبر وقول المرأة للزوج إنك فعلته هل يلزمه مع غلبة الظن؟ وهذه المسائل لم يتعرض لها أحد.

فصل: قد بقى من كلام الرافعي ألفاظ لم يتقدم ضبطها

فصل: قد بقى من كلام الرافعي ألفاظ لم يتقدم ضبطها منها: المأتم. بفتح التاء المثناة من فوق قال الجوهري: مدلوله عند العرب النساء يجتمعن في الخير والشر، وعند العامة المصيبة يقولون: كنا في مأتم فلان، قال: والصواب أن يقال: كنا في مناحة فلان. ومنها قولهم: سجر التنور بمعنى: أحماه، هو بالسين المهملة وبالجيم قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}. ومنها: توابل القدر أن الحوائج الموضوعة فيها للإصلاح وهي بالتاء المثناة ومفرده تابل بفتح الباء وكسرها، يقال فيه: توبلت القدر.

كتاب الرجعة

كتاب الرجعة وفيه فصول الفصل الأول: فيأركانها قوله: يقال فلان علي امرأته رجعة ورجعة والفتح أفصح، انتهى. لم يبين اللغة الأخري التي هي مقابل الفتح وهي بالكسر لا بالضم، وقد صرح ببيانها في أصل "الروضة". قوله: وينبغي أن يجوز للولي الرجعة حيث يجوز له ابتداء النكاح لكن إذا جوزنا التوكيل بالرجعة وهو الأظهر، انتهى. وما ذكره بحثًا من الجواز تفريعًا على جواز التوكيل جزم به في "المحرر" وصوره في المجنون وجزم به أيضًا الجيلي في شرحه. قوله: وفي لفظ الرد وجهان: أصحهما: أنه صريح لورود القرآن، والسنة به قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، وروى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لركانة: "ارددها" وعلي هذا فيشترط أن يقول رددتها إلي أو إلى نكاحي في أظهر الوجهين، انتهى. أما تصحيح الصراحة فقد نص في "الأم" على خلافه، وأما تصحيحه في إلى أو على ونحوهما الاشتراط فقد تبع فيه الغزالي في "الوسيط" وعبر بالأظهر كما عبر، والمشهور كما قاله ابن الرفعة في "الكفاية" عدم الاشتراط، وركانة: براء مهملة مضمومة وبالنون. قوله: ولو قال: أمسكتك ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بصريح وإلى ترجيحه ذهب الشيخ أبو حامد والقاضيان أبو الطيب والروياني وغيرهم.

والثاني: أنه صريح ويحكي عن أبي الطيب بن سلمة، والأصطخري وابن القاص وفي "التهذيب" أنه الأصح، انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" وصحح في "المحرر" أنه صريح، وعبر بالأظهر ونقله عنه في "الروضة" وسكت عليه والصواب أنه كناية فقد قال في "البحر": إن الشافعي نص عليه في عامة كتبه. قوله: ولو قال: تزوجتك أو نكحتك فوجهان: أحدهما: أنهما صريحان في الرجعة لأنهما صريحان لابتداء العقد والتدارك أولى. وأصحهما: على ما ذكر في "التهذيب" المنع، وعلى هذا ففي كونه كناية وجهان. انتهى ملخصًا. والأصح ما ذكره في "التهذيب" وهو أنه ليس بصريح ففي المحرر أنه الأظهر وفي "الشرح الصغير" أنه الأصح وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة" وأما الوجهان الأخيران فالأصح منهما أنه كناية كذا ذكره الرافعي في "الشرح الصغير" فإنه قال: وعلى هذا ففي كونه كناية الخلاف المذكور في الإمساك. هذا لفظه. والصحيح في الإمساك إذا قلنا ليس بصريح أن يكون كناية، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة". وأما الوجهان الأخيران فالأصح منهما أنه كناية كذا ذكره الرافعي في "الشرح الصغير" فإنه قال: وعلى هذا ففي كونه كناية الخلاف المذكور في الإمساك هذا لفظه. والصحيح في الإمساك إذا قلنا ليس بصريح أن يكون كناية وصححه أيضًا النووي في "الروضة" من غير تنبيه عليه بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له ولم يتعرض لذلك في "المحرر" بل في "المنهاج" فإنه اختصر قول "المحرر" فإن التزويج والنكاح كنايتان فأهمل ما ذكره الرافعي وتعرض لما لم يذكره. قوله: ويجري الخلاف في ما لو جرى العقد على صورة الإيجاب

والقبول قال الروياني: لكن الأصح هنا الصحة لأنه آكد في الإباحة، انتهى. والصحيح هو الصحة كذا صححه النووي في "فتاويه". قوله: وصرائح الرجعة محصورة في أظهر الوجهين كصرائح الطلاق. والثاني: لا، بل تنعقد بما يؤدي معناه مثل رفعت التحريم، وأعدت الحل، بخلاف الطلاق فإنه يشتمل على أحكام غريبة لا يحيط بها أهل اللغة فتؤخذ صرائحها من الشرع، انتهى ملخصًا. واعلم أنه قد قال في كتاب الطلاق: أنه إذا اشتهر لفظ كحلال الله علي حرام كان صريحًا في الأصح، والذي قاله هنا مناف للمذكور هناك. قوله: من زوائده، ولو كان تحته حرة وأمة فطلق الأمة طلقة رجعية فله رجعتها قاله إبراهيم المروذي، انتهى. وهذه المسألة مشهورة فقد ذكرها صاحب "التتمة" وقال: المذهب الجواز، وذكرها القاضي الحسين في "تعليقه" وخرجها على أن الرجعة استدامة أو ابتداء؟ والصحيح أنها: استدامة. قوله: ولو قال: الزوج طلقتك في رمضان فقالت: بل في شوال فقد غلظت علي نفسها فتؤاخذ بقولها، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" لكن التغليظ عليها إنما هو بالنسبة إلى تطويل العدة خاصة، وأما النفقة في العدة الزائدة علي ما يقوله الزوج فإنها تستحقها كما تعرفه في كتاب العدة، وصرح به هاهنا ابن الصباغ والخوارزمي في "الكافي". قوله: ومهما ادعت وضع الحمل أو اسقاط السقط أو إلقاء المضغة صدقت بيمينها في ظاهر المذهب، وقال أبو إسحاق المروزي: تطالب بالبينة إذا ادعت وضع الولد الكامل أي التام [الخلق] (¬1) لأن الظاهر أن القوابل يشهدن الولادة، وعن الشيخ أبي محمد وجه في السقط مثله لأن ما نالها من العسر يمكنها من الإشهاد، وقيل لا تصدق إذا ادعت وضع الحمل الميت ولم ¬

_ (¬1) في أ، جـ: المدة.

تظهره، ثم قال بعد ذلك وفي "التتمة" وجه شامل أنها لا تصدق في دعوى الولادة، انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن أبي إسحاق قد تبع فيه المتولي مع أن أبا إسحاق ليس جازما به، ثم قال: يحتمل أن تصدق فيه أيضًا لأنه ربما غلطت في الحساب فولدت قبل أوان الولادة في ظنها ولم تحضرها القوابل. الثاني: أن الوجه الذي نقله الشيخ أبو محمد في السقط لا نقول بعكسه في دعوى الولادة بل تقول به فيها أيضًا بطريق الأولى، وقد نقله عنه كما ذكر به الإمام والغزالي في "البسيط" كلاهما في كتاب العدد فتفطن له، وعلله الغزالي بقوله لأن ما ينالها من العسر في وضعه يقتضي التمكن من الإشهاد. الأمر الثالث: أن الوجه الذي نقله عن "التتمة" هو الوجه الذي نقله قبل ذلك عن أبي إسحاق بعينه، فإن أراد بقوله بالولد في ما نقله عن "التتمة" ما يشمل السقط فهو تكرار أيضًا لأنه الوجه الذي نقله عن الشيخ أبي محمد بعينه، وهذا الوهم إنما جاء من تقييد الرافعي بالولادة ولم يخصه في "التتمة" بذلك حكاه في الولد والسقط والمضغة فذهل الرافعي فعبر بما عبر فلزم التكرار وقد سلمت "الروضة" من ذلك فنقله على الصواب وقد تحصلنا في المسألة على وجوه. أصحها: تصديقها في الولد، والسقط والمضغة سواء أجهرت للكامل أم لا. والثاني: لا تصدق مطلقًا بل تطالب بالبينة، وهو ما نقله في "التتمة". والثالث: قول أبي إسحاق أنها تطالب بها في الولد حيًا كان أو ميتًا دون السقط والمضغة. والرابع: ما نقله الشيخ أبو محمد تطالب في الولد والسقط دون

المضغة. والخامس: إن أظهرت الولد لم تطالب وإلا طولبت. وقد اختصر هذه المسألة في "الروضة" إختصارًا جيدًا فتأمله. قوله: في "الروضة" قال الأئمة وإنما يصدقها في ما يرجع إلى العدة بشرطين: أحدهما: أن يكون ممن يختص، والثاني: أن يدعي الوضع لمدة الإمكان، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه احترز بقوله: في ما يرجع إلى العدة عن إلحاقه بالزوج فإنه لا يرجع إليها فيه، وقد صرح به الرافعي هنا فقال ما نصه، وإنما تصدق فيما يرجع إلي إنقضاء العدة، فأما في ما يرجع إلى النسب والإستيلاد إذا إدعت الأمة الولادة فلابد من البينة، وإنما تصدق في ما يرجع إلى إنقضاء العدة بشرطين هذا لفظه، والظاهر أنه أسقطه من "الروضة" نسيانًا أو لغلط في النسخة. الأمر الثاني: أن اشترط كونها ممن تحيض هو بناء على أن من لا تحيض لا تحبل وفيه اضطراب يأتي إيضاحه في كتاب العدد. قوله: في المسألة ويختلف الإمكان بحسب دعواها، فإن إدعت ولادة ولد تام فأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر ولحظتان من حين إمكان اجتماع الزوجين لحظة لإمكان الوطيء ولحظة للولادة، فإن إدعت لأقل من ذلك لم تصدق، وكان للزوج رجعتها فإن إدعت إسقاط سقط ظهرت فيه الصورة فأقل مدة إمكانه أربعة أشهر ولحظتين، وإن إدعت إلقاء مضغة لا صورة فيها فأقل مدة إمكانها ثمانون يومًا ولحظتان، انتهى كلامه. وما ذكره في إلقاء ما ظهر فيه التصوير من إشتراط أربعة أشهر قد خالفه

في كتاب العدد في الكلام على عدة الصغيرة والآية فجزم باعتبار شهرين وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: فأقل مدة يمكن انقضاء العدة فيها إذا طلقت في الطهر إثنان وثلاثون يومًا ولحظتان، انتهى. سيأتي عقبه أن اللحظة الثانية ليست من العدة على الصحيح، وإنما هي لاستيقان انقضاء العدة وحينئذ فلا يستقيم هذا التعبير، واعلم أنهم لم يتعرضوا منها لمدة إمكان المستحاضة، وقد ذكروه في باب العدة. قوله: وإن كانت لها عادة مستقيمة دائرة على ما فوق الأقل فتصدق في انقضاء العدة على وفق العادة، فإن إدعت الانقضاء بما دونها فوجهان: أحدهما: عند الأكثرين أنها تصدق باليمين أيضًا لأن العادة قد تتغير. والثاني: المنع، وعن الشيخ أبي محمد أنه المذهب، قال الروياني: وهو الاختيار في هذا الزمان، انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا ومقتضاه أن الحكم بالإنقضاء هو المعمول به لكن نص الشافعي في "الأم" على خلافه فقال في باب ما يكون رجعة: وإن قالت: قد حضت في أربعين ليلة ثلاث حيض وما أشبه هذا نظر إن كانت هي قبل الطلاق أو غيرها من النساء يذكر ذلك صدقت. ثم قال ما نصه: وإن لم تكن هي ولا أحد من النساء يذكرن مثل هذا لم تصدق هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلت. قوله: لو قال: إن ولدت فأنت طالق فولدت فأقل زمن يمكن إنقضاء أقرائها فيه مبني على أن الدم الذي تراه في الستين هل يجعل حيضًا؟ وفيه خلاف والأصح: أنه حيض، انتهى. صورة المسألة أن تراه بعد أقل الطهر وإلا فيكون نفاسًا.

قوله: فإن جعلناه حيضًا فأقل زمن تصدق فيه سبعة وأربعون يومًا ولحظة كما لو طلقت في الحيض فتعذر كأنها ولدت ولم تر ماء وتعتبر مضي ثلاثة أطهار وثلاث حيض والطعن في الحيضة الرابعة وإن لم نجعله حيضًا لم تصدق فيما دون اثنين وتسعين يومًا ولحظة منها ستون للنفاس، ويحسب ذلك قرأ، والذي بعدها مدة حيضتين وطهرين واللحظة فللطعن في الحيضة الثالثة، هكذا ذكره البغوي ولم يعتد المتولي بالنفاس قرأ، واعتبر مضي مدة وسبعة أيام ولحظة وهي مدة النفاس ومدة ثلاثة أطهار وحيضتين واللحظة للنفاس، انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف من غير ترجيح، والصحيح ما قاله المتولي فقد جزم به الرافعي وغيره في كتاب العدد في الكلام على اجتماع عدتين من شخصين، وقد حملت من أحدهما ولم يعلم وكان الطلاق رجعيًا، فإنهم قد قالوا هناك: إن زمن النفاس لا يحسب من العدة إلا أن الفوراني قد وافق البغوي والخلاف في المسألة ينبني على أنه هل يشترط أن يكون بين دم النفاس ودم الحيض أقل الطهر أو لا يشترط؟ فإن قلنا باشتراطه جعلنا له حكم الحيض وهو رأي البغوي، وإن قلنا بعدم اشتراطه وهو الأصح الذى قاله المتولي فلا يجعل له حكم الحيض. قوله: الرجعة مختصة بعدة الطلاق فلو وطيء الزوج الرجعية في العدة فعليها أن تستأنف ثلاثة أقراء من وقت الوطء، انتهى. وأول الزمن الذي يستأنف فيه العدة هو من حين فراغ الوطء كذا ذكره الرافعي في كتاب العدد في تداخل العدتين نقلًا عن المتولي وأقره. قوله: ولو وطئها الزوج فأحبلها أعتدت بالوضع عن الوطء، وفي دخول ما بقي من عدة الطلاق في عدة الوطء وجهان أظهرهما: الدخول، فإن قلنا: لا تدخل فإذا وضعت رجعت إلى بقية الأقراء وللزوج الرجعة في تلك

البقية، ثم قال: وهل له ذلك قبل الوضع؟ فيه وجهان أصحهما على ما ذكر في "التتمة" الثبوت لبقاء عدة الطلاق عليها، انتهى. لم يصرح أيضًا بتصحيح في "الشرح الصغير" وإنما نقله عن صاحب "التتمة" والأصح ما صححه في "التتمة" كذا صححه النووي في أصل "الروضة" ولم يتعرض للمسألة في "المحرر" ولا في مختصره.

الفصل الثاني: في أحكام الرجعة

الفصل الثاني: في أحكام الرجعة قوله: وكما يحرم وطيء الرجعية يحرم سائر الاستمتاعات كاللمس والنظر بالشهوة، انتهى. وتقييده النظر بما إذا كان بالشهوة مشعر بجوازه إذا لم يكن كذلك، وعبر في "الروضة" بقوله: يحرم وطيء الرجعية ولمسها والنظر إليها وسائر الاستمتاعات، وهذه العبارة أخف من تعبير الرافعي وإن كان التعبير بسائر وهو الباقي يشعر بأن ما سبق مفروض أيضًا مع الاستمتاع، فإن قلت: فما الذي بقي من الاستمتاعات حتى يعبر في "الروضة" بلفظ سائر، قلت: التقبيل والمعانقة مع الساتر للبشرة وإن كان بحضرة من تزول معه الخلوة المحرمة. قوله: فإن وطيء عزر معتقد التحريم، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو يعارض قولهم: إن الإنكار لا يكون في المختلف فيه، وفيه كلام تعرفه في السير وغيره. قوله من "زوائده": والمختار من الخلاف في أن الرجعية زوجة أم لا؟ ما اختاره الرافعي أنه لا يطلق ترجيح ونظيره القولان في النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أم جائزه؟ وأن الإبراء إسقاط أم تمليك؟ ويختلف الراجح بحسب المسائل لظهور دليل أحد الطرفين في بعضها وعكسه في بعض، انتهى. وما إختاره هنا في النذور والإبراء مخالف لما قال في بابها، وقد سبق ذكر الابراء في بابه ويأتيك النذر في بابه إن شاء الله. قوله: وإن اختلفا فقال: راجعتك قبل إنقضاء العدة وقالت: بل بعد إنقضائها، نظر: إن إتفقا على وقت واحد فالقول قول من تعلق به الشيء

المتفق عليه على وقت الرجعة، واختلفا في إنقضاء العدة صدق الزوج، وإن كان بالعكس صدقت المرأة، وإن لم يتفقا فالقول قول السابق، انتهى ملخصًا. وذكر ما يخالف ذلك في آخر الباب الأول من أبواب العدة إلا أنه ليس في غير المسألة، بل في ما إذا ولدت فطلقها واختلفا في المتقدم منهما فقال: إن اتفقا على وقت أحدهما فالعكس مما تقدم، وإن لم يتفقا صدق الزوج ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". قوله: وإذا كانت العدة باقية واختلفا في الرجعة فالقول قول الزوج ثم قال: وإذا قبلنا قوله فقد أطلق جماعة منهم صاحب "التهذيب" أن إقراره ودعواه إنشاء، وحكى ذلك عن القفال، وذكر الشيخ أبو محمد أن من قال به يجعل الإقرار بالطلاق إنشاء أيضًا، قال الإمام: وهذا لا وجه له فإن الإقرار والإنشاء متنافيان، انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والصواب: أنه رجعة كذلك نص عليه الشافعي فقال في "الأم" في ما يكون رجعة ما نصه: قال الشافعي: وإذا قال لها في العدة قد راجعتك أمس أو يوم كذا ليوم ماض بعد الخلاف كان رجعة وهكذا لو قال: قد كنت راجعتك بعد الطلاق، هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته، وذكر مثله في "البويطي" أيضًا وهو صريح في كونه إنشاء. قوله: القسم الثاني: إذا نكحت زوجًا بعد العدة فجاء الأول وادعى الرجعة ففي سماع دعواه على الزوج وجهان: أصحهما عند الإمام: لا، لأن الزوجة ليست في يده. والثاني: نعم، لأنها في حباله وفراشه، وبهذا قطع المحاملي وغيره من العراقيين، فإذا ادعى عليها فإن أقرت بالرجعة لم يقبل إقرارها علي الثاني، ثم قال ما نصه: بخلاف ما لو ادعى علي امرأة في حبالة رجل أنها زوجته فقالت: كنت زوجتك فطلقتني فإنه يكون إقرارًا له وتجعل زوجة له والقول

قوله في أنه لم يطلقها لأنه لم يحصل الاتفاق على عدم الطلاق وهنا حصل والأصل عدم الرجعة، انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من تسليم المرأة إلى الأول قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وكيف يستقيم ذلك مع أنه قد سبق تعلق حق الأول وقد صحح الرافعي في ما إذا باع شيئًا ثم اعترف بعد البيع، بأنه كان ملكا لغيره أنه لا يقبل لأنهما قد يتواطآن على ذلك، ولعل المسألة مصورة بما إذا أثبت نكاح الأول. قوله: في المسألة فإن ادعى على الزوج فإن أنكر صدق بيمينه، وحينئذ فإن حلف حكم له وإن نكل ردت اليمين على المدعي، فإن حلف حكم بارتفاع نكاح الثاني ولا تصير المرأة للأول بيمينه، ثم إن قلنا: إن اليمين المردودة كالبينة، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح ولا شيء لها على الثاني إلا مهر المثل إن دخل بها، وإن قلنا: إنها كالإقرار فإقراره عليها غير مقبول فلها كمال المسمى إن كان بعد الدخول ونصفه إن كان قبله. قال في "التهذيب": والصحيح عندي أنها وإن جعلت كالبينة لا تؤثر في سقوط حقها من المسمى، بل يختص أمر اليمين المردودة بالمتداعيين، انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من أنا إذا جعلناها كالبينة يكون كما لو لم يكن بينهما نكاح حتى لا يجب لها عليه شيء إذا لم يدخل بها، تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو خلاف الصحيح فتفطن له. وذلك لأن الصحيح المعروف في المذهب على ما ستعرفه في كتاب الدعاوى هو ما قاله البغوي هنا وهو اختصاص أثر اليمين المردودة بالمتداعيين فقط والغريب أن الرافعي قد صرح قبل هذا الموضع بأسطر قلائل بكونها لا تتعدى إلى ثالث، وتبعه عليها في "الروضة" أيضًا فكيف غفل عنه في هذا الزمن اللطيف.

قوله: ولو زوجت المرأة وهي ممن يحتاج إلى رضاها فقالت: لم أرض بعقد النكاح ثم رجعت فقالت: رضيت وكنت أنسيته فوجهان: أظهرهما: عند الغزالي أنه يقبل، والمنصوص أنه لا يقبل، انتهى ملخصًا. وهو صريح في قبول قولها أنها لم تكن راضية بعد النكاح، وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي قبيل الصداق نقلًا عن البغوي فقال: إن أقامت معه لم يقبل قولها وإلا قبل منها. قوله: لو قال طلقتها بعد الدخول فلي الرجعة فأنكرت الدخول فالقول قولها بيمينها فإذا حلفت فلا رجعة ولا سكنى ولا نفقة ولا عدة، ثم هو مقر لها بكمال المهر وهي لا تدعي إلا نصفه، فإن كانت قبضت الجميع فليس له مطالبتها بشيء وإن لم تقبضه فليس لها إلا أخذ النصف فإذا أخذته ثم عادت واعترفت بالدخول فهل لها أخذ النصف الآخر أم لابد من إقرار جديد من الزوج؟ فيه وجهان حكاهما إبراهيم المرزوي، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" والأصح الوجه الثاني كذا صححه الرافعي في كتاب الإقرار، ثم إن كلامه هنا يشعر باستغراب الخلاف وهو مشهور في المختصرات فإنه فرد من أفراد ما إذا كذب المقر له ثم رجع. قوله: وفي "شرح المفتاح" لأبي منصور البغدادي أنها لو كانت قبضت المهر وهو عين وامتنع الزوج من قبول النصف فيقال له: إما أن تقبله وإما أن تبريها منه، انتهى. وهذا الكلام من تتمة ما ذكره في المسألة السابقة وهو أنها إذا قبضت الجميع فليس له مطالبتها بشيء وهذا الذي نقله الرافعي، وأقره عجب منه لأن البراءة من الأعيان لا تصح، والإجبار على أخذه كيف يستقيم مع أن المرأة تدعي إنتقاله إلى ملك الزوج، ومن أقر لشخص بشيء وهو ينكره، فإن المقر له لا يجبر على قبوله، بل يترك في يد المقر على الأصح في المسألتين.

إذا علمت هذا فمراد الرافعي إنما هو استحباب التلطف من القاضي في قول ذلك للزوج كما سبق مثله في الوكالة عند الاختلاف ولهذا لم يعبر هاهنا بالوجوب، بل بقوله: فيقال له، والمراد بالإبراء هو إيقاع شيء يحصل به خلاص المرأة والتعبير عنه بالإبراء صحيح. قوله: في المسألة ولو كانت العين المصدقة في يده وامتنعت من أخذ الجميع أخذه الحاكم، وإن كان دينًا في ذمته قال لها: إما أن تبرئيه وإما أن تقبليه، انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وهو غير مستقيم، أما في العين فلأن من أقر لشخص بها وهو ينكرها فإنها لا تنزع منه، بل تقر في يده كما سبق. وأما في الدين فلأنها لا تدعي إستحقاقه حتى يلزمها الأخذ والبراءة منه وينبغي تأويله بما ذكرناه قريبًا من التلطف ولكن الظاهر أن الرافعي ذكره ذهولًا ولم يرد ما ذكرناه، وقول الرافعي في هذا الفصل أنه لا نفقة يأتي فيه ما في المهر، وقد يكون ذهولًا. قوله: وفي "التتمة" أنه لو طلق زوجته الأمة واختلفا في الرجعة فحنث قلنا: إن القول قول الزوج إذا كانت المطلقة حرة فكذلك هاهنا وحيث قلنا أن القول قول الزوجة فهاهنا القول قول السيد لأن نكاح الأمة حقه، وقال في "التهذيب" هو مذهب الشافعي فقد نص عليه في "الأم" في باب الوقت الذي تكون فيه الرجعة، فقال ما نصه: وإذا قضت فقال قد كنت راجعتك في العدة وصدقته فالرجعة ثابتة، فإن كذبته بعد التصديق أو كذبته قبل التصديق ثم صدقته كانت الرجعة ثابتة وهكذا لو كانت زوجته أمة فصدقته كانت كالحرة في جميع أمرها، ولو كذبه مولاها لم أقبل قوله: لأن التحليل بالرجعة والتحريم بالطلاق فيها ولها هذا لفظه بحروفه. وذكر في "البويطي" مثله أيضًا ومن الأم والبويطي نقلت، وقد رجح

في "الروضة" من زوائده ما في "التتمة" فقال واختار الشاشي ما ذكره المتولي وهو قوي والله أعلم. وهذا الكلام مردود ودليل على عدم اطلاعه على كلام إمام المذهب، وحامل على العمل بقول متأخر لم يطلع على كلام إمامه.

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء وفيه بابان: الباب الأول: في أركانه قوله في "الروضة": الركن الأول: الحالف وشرطه أن يكون زوجًا يتصور جماعه بالغًا عاقلًا. أهمل أمرين: أحدهما: كونه مختارًا فلا يصح إيلاء المكره. والثاني: السكران فإنه غير عاقل ويصح إيلاؤه، وهذا الثاني لا يرد على الرافعي فإنه شرط فيه التكليف والسكران مكلف، وفي هذا الثاني كلام مذكور في أوائل البيع ينبغي مراجعته. قوله: فمن جب ذكره وآلى فقد ذكر الأصحاب فيه طرقًا أظهرها: قولان، اختار المزني أنه لا يصح وهو أصح على ما ذكره أبو الطيب والروياني والطريق الثاني القطع بالبطلان. والثالث: القطع بالصحة، انتهى ملخصًا. وقد اختصر في "الروضة" هذا الكلام بقوله: فمن جب ذكره لا يصح إيلائه على المذهب، هذا لفظه من غير زيادة عليه، فلم يستوف الطرق لأن لفظ المذهب يصدق بطريقين ولم يبيّن أيضًا الأصح منهما أي من الطرق إذ لا اصطلاح له فيه، بل تارة يكون الأصح طريقة الخلاف وتارة طريقة القطع. قوله: قال في "الشامل" لكن إذا صححنا الإيلاء من الإبقاء فلا تضرب مدة الإيلاء لأن الامتناع بسبب من جهتها كما إذا آلى عن الصغيرة لا تضرب المدة حتى تدرك، انتهى كلامه.

وهو يشعر بأن المدة لا تضرب في الصغيرة إلا بعد بلوغه لأن الإدراك هو البلوغ كما قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وليس كذلك بل تضرب المدة إذا كانت في سن يحتمل الجماع أو وصلت إليه، كما صرح به بعد ذلك في أول الباب الثاني فينبغي حمل الإدراك هنا على الوصول إلى هذا السن لا إلى سن البلوغ، والتعليل يرشد إليه أيضًا. قوله: وإن آلى ثم فاء بالوطء فلا كفارة عليه، وعن أحمد أنه تلزمه كفارة اليمين لأنه قد حلف بالله تعالى وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". وفي القديم قولان: أحدهما: هذا، والثاني: لا كفارة عليه، انتهى كلامه بحروفه. والذي قاله في أول كلامه من عدم وجوب الكفارة، وإسناده إياه إلى الجديد سهو فاحش مخالف لما ذكره في آخره، بل الجديد وهو المعروف في المذهب وجوبها، وقد ذكره في "الشرح الصغير" على الصواب فقال: فإذا حلف بالله أو ببعض صفاته انعقد الإيلاء ثم إذا وطئها وقد طولب بالنية أو الطلاق، فالقول الجديد وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد: تلزمه كفارة اليمين، لأنه قد حنث في اليمين بالله تعالى، ثم ذكر ما نقلناه عنه في "الكبير" وهو يدل على أن "الكبير" قد سقط منه شيء. لا جرم أن النووي قد اختصره في "الروضة" على الصواب فقال: المذهب: الجديد، وأحد قولي القديم أنه تلزمه الكفارة. قوله: ولو قال إن وطئتك فكل عبد يدخل في ملكي فهو لغو، ثم قال وكذا لو قال: فعلي أن أطلقك لأنه لا يلزمه بالوطء شيء، انتهى كلامه. وما ذكره في المسألة الثانية، وهي التزام المباح طلاقًا كان أو غيره من أنه لايلزمه به شيء تابعه عليه في "الروضة" أيضًا والمسألة قد اختلف فيها كلامه وكذلك كلام النووي أيضًا، وسوف أذكر ذلك في كتاب النذر مبسوطًا إن

شاء الله تعالى فراجعه. قوله: ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر قبله بشهر فإنما يصير مؤليًا إذا مضى شهر من وقت تلفظه لأنه لو وطئها قبل تمام شهر لم يعتق وينحل الإيلاء بذلك الوطء فإذا مضى شهر ولم يطأ ضربت مدة الإيلاء ويطالب في الشهر الخامس هذا ما ذكروه هاهنا ويجيء فيه وجه أنه لو وطيء قبل الشهر عتق كما سبق في نظيره من الطلاق فعلى هذا يصير مؤليًا في الحال، انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا من مجيء وجه في مسألتنا، واقتضى كلامه أنهم لم يذكروه، وتبعه عليه في "الروضة" وليس كذلك فقد حكاه الفوراني في "الإبانة"، وحكى في مسألة الطلاق أنه لابد بعد مضي الشهر من مضي زمن يقع فيه الطلاق فليكن الحكم هاهنا كذلك إذا فرعنا على الصحيح. قوله: الثالثة: إذا قال لامرأتيه إن وطئت إحداكما فالأخرى طالق وعين بقلبه واحدة منهما وامتنع بعد المدة من بيانها، قال ابن الحداد وكثيرون: يطلق القاضي إحداهما على الإبهام، وعن القفال أنه مخالفه في ذلك، ثم قال ما نصه: وإذا قيل أي بقول ابن الحداد فلو قال الزوج: راجعت التي وقع عليها الطلاق ففي صحة الرجعة هكذا وجهان سبقا في الرجعة، وبالصحة أجاب ابن الحداد وعلى هذا تضرب المدة مرة أخرى علي الإبهام، ويطلق القاضي على الإبهام مدة أخرى، وهكذا إلى استيفاء الثلاث والأظهر أن الرجعة لا تصح على الإبهام، بل تبين المطلقة أولا، ثم يراجع إن شاء، انتهى كلامه. والتفريع الذي ذكره على قول ابن الحداد قد تابعه عليه في "الروضة" وهو سهو فإن الكلام مفوض في ما إذا نوى واحدة معينة، ومحل الوجهين على ما ذكره في كتاب الرجعة إنما هو في الطلاق المبهم. وقد صرح الرافعي هنا بأن طلاق القاضي يصادق المعينة، وإذا وقع

الطلاق على معينة وهو يعلمها إذا الفرض أنه الذي عينها لم يتصور معه القول بعدم صحة رجعتها فثبت أن هذا التفريع إنما محله في ما إذا لم ينو معينة فنقله الرافعي إلى غيره، وقد أتى به في "الوسيط" على الصواب فقال: وإن أبهم ففي صحة الرجعة قبل التعيين وجهان. قوله: قال الإمام والذي أراه أن الوطء في الدبر كهو في القبل في حصول الحنث استدرك عليه في "الروضة" فقال: قلت: هذا الذي قاله الإمام متفق عليه، صرح به جماعات من أصحابنا، وقد نقله صاحب "الحاوي" و"البيان" عن الأصحاب، والله أعلم. وما ادعاه النووي -رحمه الله- من الاتفاق ليس كذلك فقد حكى الغزالي في الفتاوى فيه خلافًا وزاد على ذلك فقال الأولى أن لا يحنث ونقله عنه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: لو قال: لا أجامعك في سنة إلا مرة فمضت السنة ولم يطأ فهل تلزمه كفارة لاقتضاء اللفظ الوطء أم لا لأن المقصود منع الزيادة؟ وجهان حكاهما ابن كج، قال في "الروضة" من زوائده أصحهما: لا كفارة والله أعلم. وفيه أمران: أحدهما: أنه قد تقدم في أواخر تعليق الطلاق في نظير هذه المسألة أنه لابد من مراجعة الحالف فإن لم يرد شيئًا فهو الخلاف ولابد من مجيء ذلك أيضًا في مسألتنا فاعلمه. الأمر الثاني: إن قيل مذهبنا أن الاستثناء من النفي إثبات فكيف ارتضيتم ما صححه النووي هنا؟ فالجواب: أنا لم نخالف القاعدة، بل هو إثبات أيضًا وذلك لأنه في مثالنا وهو المستقبل قد منع نفسه من وطيء غير المرة وأخرج المرة بعضهم بقول الثابت بعد الاستثناء نقيض الملفوظ به قبله فعلى

هذا إذا لم يطأ المرة يحنث لأن الثابت فيهما الوطء إذ هو يقتضى ما قبلها، وبعضهم يقول الثابت يقتض ما دل عليه لفظ وهو الامتناع فعلى هذا إذا انتفى الامتناع من يثبت التخيير فيها، وهذا كله بخلاف ما إذا كان الحلف على ماض أو حاضر، فإنه إذا قال مثلا والله لا وطئت إلا مرة فيحنث إذا لم يكن قد وطئها جزمًا لانتفاء توجيه الوجه الأخير وهو التخيير لعدم إمكانه فلما لم يحتمل الاستثناء إلا وقوعه في الخارج حنث إذا لم يكن كذلك، ولهذا جزم الأصحاب بأنه إذا قال: ليس له علي إلا مائة بأن المائة تلزم ولم يخرجونها على هذا الخلاف فافهم ما ذكرناه، فإنها قاعدة نافعة، نعم ذكر الرافعي في آخر تعليق الطلاق قبيل الفروع المنقولة عن فتاوى القفال، أنه إذا قال إن كنت أملك إلا مائة فأنت طالق، وكان يملك خمسين فقيل يطلق جزمًا، وقيل على وجهين، وقد تقدم الكلام عليه هناك فراجعه. قوله: في "الروضة" ولو قال والله لا أجامعك إن شئت وأراد تعليق الإيلاء بمشيئتها اشترط في كونه موليًا مشيئتها، وإن أراد تعليق فعل الوطيء بمشيئتها كأنه قال: لا أجامعك إن شئت أن لا أجامعك، فلا يكون موليًا كما لو قال لا أجامعك إلا برضاك، ولو قال لا أجامعك فإنما يصير موليًا إذا شاءت أن يجامعها، ثم قال ما نصه: وإذا أطلق قوله إن شئت حملناه على عدم مشيئة المجامعة لأنه السابق أطلق إلى الفهم، انتهى كلامه. وتعبيره بقوله على عدم المشيئة غلط يقتضي الوقوع إذا لم يشأ شيئًا أصلًا وهو غلط وصوابه ما في الرافعي وهو مشيئة العدم على عكس المذكور هنا. قوله: ولو وصل اليمين فقال: والله لا أجامعك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا أجامعك أربعة أشهر فليس لمؤل على الأصح لأنها بعد مضي أربعة أشهر لا يمكنها المطالبة بموجب اليمين الأولى لانحلالها ولا بموجب الثانية لأن الأربعة فيها لم تمض.

قال الإمام: وهل يأثم الموالي بين هذه الأيمان، كما ذكرنا في ما إذا زادت اليمين على أربعة أشهر يلحظه لطيفة يحتمل أن لا يأثم لعدم الإيلاء ويحتمل أن يأثم إثم الإيذاء أو الإضرار لا إثم المؤلين، انتهى. قال في "الروضة": الراجح تأثيمه، والأمر كما قاله، واعلم أنا قد استفدنا من تصوير الرافعي أن صورة المسألة أن يكون قد ذكر اسم الله تعالى في كل مرة، فإن لم يذكر ذلك بأن قال مثلا والله لا وطئتك أربعة أشهر، فإذا مضت فلا وطئتك مثلها فقال في "المطلب": يكون مؤليًا وجهًا واحدًا لا يكاد يختلف فيه لأنها يمين واحدة واشتملت على أكثر من أربعة. قوله: والقديم وهو محكي عن أبي حنيفة أن لفظ المباضعة صريح لأنه مأخوذ من البضع، وقيل: بل مأخوذ من البضعة وهي القطعة، انتهى. البضع بضم الباء هو الجماع كما قاله ابن السكيت قال ومنه ملك فلان بضع فلانة، والمباضعة المجامعة قال الجوهري: وحينئذ فيتجه ما قاله أبو حنيفة، وذكر غير الجوهري أن البضع يطلق أيضًا على المهر، وحينئذ فقول الفقهاء ملك بضعها أي وطئها صحيح على الأول، وأما البضعة للقطعة فبفتح الباء وجمعها بحذف التاء كثمرة وثمر، وقيل بالكسر كبذرة وبذر. قوله: في "الروضة" ولو قال: لا أطأك إلا في الدبر فمؤل، ولو قال لا أطأك إلا في الحيض أو النفاس. قال السرخسي: لا يكون مؤليًا لأنه لو جامع فيه حصلت الفيئة. وقال البغوي في الفتاوى: هو مؤلى وكذا لو قال إلا في نهار رمضان أو إلا في المسجد، انتهى. وما قاله البغوي قد جزم به في "الذخائر" وهو الذي لا يتجه غيره خصوصًا في مسألة النفاس إذا لم تكن المرأة حاملًا، وما ذكره من حصول الفيئة أراد به في الحال وجب ضرب المدة ثانيًا لأن اليمين لم يرتفع فاعلم

ذلك، وقد صرح به الرافعي إلا أن النووي قد أسقطه من "الروضة". قوله: ولو قال لا جامعتك جماع سوء لأنه لم يمنع من سائر أنواع الجماع، ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء ووجع، فإن أراد أن لا يجامعها إلا في الموضع المكروه أو فيما دون الفرج فهو مؤل، وإن أراد الجماع الضعيف لم يكن مؤليًا، انتهى كلامه. وهذه المسائل يقع فيها تغيير في النسخ واشتباه، وأما المسألة الأولى فإنها مصدرة بلام القسم والهمزة وعدم الإيلاء فيها واضح لأنه ليس يخالف على ترك وطء بالكلية، بل على زيادة وطء قد لا يسوغ، ولهذا لم يعلله الرافعي، وأما الثانية فإنها مصدرة بلا النافية، والفعل بعدها ماض اتصل به تاء المتكلم، ويقع في بعض النسخ لأجامعك وهو صحيح ووجه كونه ليس مؤليًا قد ذكره الرافعي، وأما الثالث فإنها بلا وإلا الدالان على الحصر والتفضيل الذي ذكره الرافعي فيها صحيح إلا أنه أهمل قسمًا ثالثًا، وهو ما إذا أطلق ولم يرد شيئًا والمتجه فيه أنه ليس بمؤل لأن الأصل عدم الحلف على القسم الذي يكون فيه.

الباب الثاني: في أحكامه

الباب الثاني: في أحكامه قوله: ولا خلاف في أن حيضها لا يمنع احتساب المدة، ثم قال: وفي النفاس وجهان: أصحهما على ما ذكره في "التهذيب" أنه كالحيض، انتهى. وهنا الذي صححه البغوي هو الأصح كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة" ولم يتعرض للمسألة في "المحرر". قوله: في "أصل الروضة" ولو طلب الزوج وطء المرأة وهناك مانع شرعي مختص به كصومه الواجب وإحرامه فوجهان: أحدهما: يلزمها التمكين لأنه لا مانع فيها وليس لها منع ما عليها من الحق، وأصحهما: المنع لأن موافقة عن الحرام وأعانه عليه، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ذكر في الكلام على ألفاظ "الوجيز" طريقة قاطعة يلزمها التمكين، وصرح بها في "الشرح الصغير" هنا فحذفها من "الروضة". الأمر الثاني: أن التمكين على الوجه الثاني حرام صرح به جماعة منهم الغزالي حتى في "الوجيز" والتعليل يشير إليه وحينئذ فيكون المراد بالمنع إنما هو منع التمكين لا منع ما سبق وهو وجوب التمكين، وإن كان هو المتبادر إلي الفهم فتأمله. قوله: في المسألة فإن جوزنا التمكين فلها المطالبة بأحد الأمرين وإن منعناها طالبت بالطلاق لأنه المضيق على نفسه، وقيل تقنع منه بفيئة اللسان، انتهى. وهذا الخلاف قد أطلقه في "الروضة" أيضًا ومحله إذا امتنع من ذلك امتناعًا كليًا، فإن استمهل في الصوم إلى الليل أو كان يتحلل من إحرامه

عن قرب أمهلناه كما ذكره الرافعي بعد هذا. قوله: لمن غصب دجاجة ولؤلؤة فابتلعها يقال له إن ذبحتها غرمتها أي مع العصيان وإلا غرمت اللؤلؤة، انتهى كلامه. واعلم أن من غصب حيوانًا مأكولًا وذبحه فإن الذي يلزمه إنما هو رد اللحم مع أرش النقصان أن حصل ولا يلزمه مثل الحيوان ولا يمته كذا ذكره الرافعي في أول الباب الثاني من أبواب الغصب وكلام المصنف هنا يوهم خلافه فاحذره، ولم يصرح الرافعي في باب الغصب بهذه الصورة التي ذكرها. قوله: قد تكرر أن المؤلي بعد المدة يطالب بالفيئة أو الطلاق ويبين أن المقصود الفيئة لكنه يؤمر بالفيئة أو الطلاق إن لم يفء، قال الإمام: وليس لها توجيه الطلب لحق الفيئة وحدها، فإن النفس قد لا تطاوع بل يجب أن تكون المطالبة مترددة، انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الإمام وارتضاه ولم يعقبه بإنكار قد ذكر قبل ذلك في أول هذا الباب أعني الثاني ما يخالفه، فإن الغزالي في "الوجيز" قال: فإن لم يطأ رفعته إلى القاضي ليأمره بالفيئة فإن أبى طلق القاضي عليه، فتكلم الرافعي عليه فقال وقوله ليأمره بالفيئة إلى آخره يبين أنه لا مطالبة بالطلاق إبتداء، وإنما تطالب المرأة بالاستمتاع الذي هو حقها، فإذا لم يوف يأمره الحاكم بإزالة الضرر عنها بالطلاق وهذا لفظ صاحب "التتمة" وعلي هذا فحيث قلنا: يأمره القاضي بالفيئة أو الطلاق تعبير عن مجموع ما أمر به هذا لفظه، وهو جازم بعكس المذكور هاهنا، وقد حذف النووي من "الروضة" الموضع المذكور في أول الباب، واقتصر على ما نقله عن الإمام، وعكس الرافعي في "الشرح الصغير"، وقد تبين لك أن العمرة على غير المذكور في "الروضة".

قوله: ولو لم يصرح بالامتناع بل استمهل ليفيء أمهل بلا خلاف قدر ما يتهيأ لذلك الشغل، فإن كان صائمًا فحتى يفطر أو جائعًا فحتى يشبع أو ثقيلًا من الشبع فحتى يخف إلى آخره. تبعه في "الروضة" على دعوى عدم الخلاف وليس كما إدعياه فقد حكى في "الذخائر" وجهًا أنه لا يمهل أصلًا. قوله: ولا تحصل الفيئة بالجماع في ما دون الفرج ولا بالإتيان في غير المأتي، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في الإتيان في غير المأتي يعني في الدبر تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غير صحيح لأنه إذا حلف على ترك الوطء حنث بالوطيء في الدبر كما تقدم ذكره في أواخر الباب الأول، وإذا حنث إنحلت اليمين فلا يبقى معه مطالبة كما لو طالبه فلم تتفق الفيئة إلا بعد انقضاء المدة المحلوف عليها، فإن الأصحاب قد قالوا أن مطالبتها تسقط وينبغي أن يفرضوا هذه المسألة بما إذا كان الحلف على ترك الوطء في القبل. قوله: وإذا حلف مرات ولم تحكم بتعدد اليمين لم يجب بالوطء إلا كفارة واحدة، وحيث حكمنا بالتعدد ففي الكفارة قولان: أحدهما: أنها تتعدد بحسب تعدد الأيمان، وهذا ما رجحه الإمام. والثاني: أنه لا يجب إلا كفارة واحدة، وهو الأظهر عند الجمهور وسيعود القولان في الأيمان إن شاء الله تعالى، انتهى كلامه. ولم يتعرض لحكاية القولين في الأيمان نعم حكى هناك وجهين في آخر الباب الثالث. قوله: وقد بينا هناك أي في فصل التعيين أنه إذا اختلف الزوجان في الإصابة فالقول قول النافي إلا في مسائل إلى آخره. وقد سبق هناك الاعتراض على هذا الحصر فراجعه.

قوله: في أصل "الروضة" فصل في فتاوى البغوي أن القاضي إذا طالب المؤلى بالفيئة أو الطلاق فامتنع منهما وطلبت المرأة من القاضي أن يطلق عليه لم يشترط حضوره في تطليق القاضي، ولو شهد عدلان أن زيدًا آلى ومضت المدة وهو ممتنع من الفيئة أو الطلاق لم يطلق عليه، بل لابد من الامتناع بين يديه كما في العضل فلو تعذر إحضاره بتمرد أو توار أو غيبة حكم عليه بالعضل بشهادة الشهود، انتهى كلامه. واعلم أن البغوي قد حكى في مسألة الفصل عدم إمكان الإحضار احتمالين: أحدهما: ما جزم به هاهنا من أنه لابد من الامتناع بين يدي القاضي ورجحه أعني البغوي، وقاسه على المؤلي. والاحتمال الثاني: أنه لا يشترط الإحضار بل يجوز أن يحكم بالعضل بشهادة الشاهدين، فجزم النووي بمسألة العضل، ثم قاس مسألة الإيلاء عليها وكلاهما عكس ما ذكره البغوي، وقد حكى الرافعي هذين الاحتمالين عنه فأسقطهما من "الروضة" غير أن الرافعي قاس الإيلاء على العضل.

كتاب الظهار

كتاب الظهار وفيه بابان: الباب الأول: في أركانه قوله: فإن لم نجوز للكافر شراء رقبة مسلمة لإعتاقها عن كفارته فمادام موسرًا لا يباح له الوطء، ويقال له: إن أردت ذلك فأسلم وأعتق، وكذا لو كان معسرًا وهو قادر على الصوم لا يجوز له العدول إلى الإطعام لأنه يمكنه أن يسلم ويصوم كذا ذكره في "التهذيب" و"التتمة" وحكاه الإمام عن القاضي وتردد فيه من حيث أن الذمي مقرر على دينه فحمله على الإسلام بعيد. وقد يجاب بأنا لا نحمله على الإسلام ولا نخاطبه بالصوم بل نقول: لا نمكنك من الوطء إلا هكذا إلى آخره. وما نقله عن الإمام بحثًا من إسقاط اعتبار الصوم ولم يقف عليه منقولًا، وتابعه عليه أيضًا في "الروضة" قد صرح بنقله الماوردي في باب حكم المهادنين فقال: وفي جواز إطعام الكافر فيها أي في كفارة الظهار وجهان: أحدهما: يجوز لأنها إطعام. والثاني: لا، لأنه بدل عن الصيام هذه عبارته. قوله: وإن شبهها بعضو يذكر في معرض الإكرام كقوله: أنت علي كعين أمي، وأطلق، فقال القفال: يحمل علي الكرامة. وقال القاضي حسين: يكون ظهارًا، ونظم "التهذيب" يشعر بترجيحه، ثم قال: ولو قال: أنت على كأمي أو مثل أمي ففيه وجهان:

بالمنع أجاب ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، والوجهان قريبان من الوجهين السابقين، أو هما هما ويشبه أن يرجح فيهما المنع، انتهى. وهذا الذي ذكره في آخر كلامه عجيب فقد نقل هو عن صاحب "التهذيب" التفرقة بينهما، أو ذلك يمنع الاتحاد وبمثله أجاب القاضي الحسين، إلا أن الرافعي اقتصر على النقل عنه في إحدى المسألتين وغيار بينهما أيضًا جماعة كثيرون غير من ذكرناه وقد سلمت "الروضة" من هذا الاعتراض. قوله في الكنايات: إنه يصير مظاهرًا إذا نوى. لم يبين هنا حقيقة النية في الظهار وقد بينه صاحب "الشامل" في كتاب الطلاق تعليلًا لمسألة ما نصه: لأن معنى نية الظهار أن ينوي أنها كظهر أمه في التحريم هذه عبارته، وقد نقله عنه الرافعي في الباب الثاني في أركان الطلاق فيما إذا قال لأمته: أنت على حرام، وحذفه النووي من "الروضة" ظنًا منه أنه تعليل محض، وذكر صاحب "البيان" هناك نحو ما ذكره في "الشامل". قوله: ولو قال: إن ظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي، فنكحها وظاهر منا فهل يصير مظاهرًا عن الأولى؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم لأن ذكر الأجنبية في مثل ذلك للتعريف دون الشرط، كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها يحنث، ثم قال: والوجهان كالوجهين فيما إذا قال: لا أكلم هذا الصبي فكلمه بعد ما صار شيخًا ونظائره، انتهى كلامه. وظاهره يقضي أن الصحيح في مسألة الصبي ونظائرها الحنث أيضًا وليس كذلك بل الصحيح المذكور في كتاب الأيمان أنه لا يحنث. قوله: ولو قال إن ظاهرت من فلانة أجنبية أو هي أجنبية فهو كقوله: إن بعت الخمر فأنت طالق، أو كظهر أمي، ثم يأتي بلفظ البيع لا يقع الطلاق

ولا الظهار تنزيلًا للفظ العقود على الصحة، وعند المزني ينزل في مثل هذا على صورة العقد ومن الأصحاب من وافقه أيضًا، فإن في تعليق الطلاق بالمستحيل خلافًا قد تقدم في كتاب الطلاق، انتهى. وما ذكره من تقوية مقالة المزني ومن تبعه بالتوجيه السابق غلط عجيب فإن قائله يقول بإلغاء التعليق وتنجيز الطلاق، والمزني ومتابعوه يقولون: لابد من وجود المعلق عليه لفظًا، وسأذكر المسألة إن شاء الله تعالى واضحة في كتاب الأيمان لغرض متعلق بالمسألة يتعين معرفته. قوله: فرع: لو قال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، فدخلت وهو مجنون أو فاسق فعن أبي الحسين ابن القطان أن في حصول العود ولزم الكفارة قولين، قال القاضي ابن كج: وعندي أنها تلزم بلا خلاف كما لو علق طلاقها بالدخول فدخلت وهو مجنون، وإنما يؤثر الإكراه والنسيان في فعل المحلوف على فعله وهذا هو الوجه، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من ترجيح عدم التخريج على فعل المكره والناسي قد خالفه في الباب الذي بعد هذا مخالفة عجيبة، وستعرفه عند ذكري للفظه. الأمر الثاني: أن ما ادعاه الرافعي من أن الثاني هو الوجه أي المتجه عجيب، بل الوجه ما قاله ابن القطان في الناسي لأن وزان الطلاق المعلق إنما هو حصول الظهار لأنه المعلق، وابن القطان لم يخالف فيه، وإنما خالف في حصول العود ووجوب الكفارة، وهو أمر يطرأ بعد وجود الظهار، وقد حصل في حالة النسيان فكان كالفعل في تلك الحالة، وأما المجنون فالوجه القطع بعدم الوجوب لأنه لو جن عقب الظهار لم يكن عائدًا، لأنه لم يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلم يطلق.

الباب الثاني: في حكم الظهار

الباب الثاني: في حكم الظهار قوله: من حكم الظهار الصحيح تحريم الوطء، وهل تحرم القبلة واللمس بالشهوة وسائر الاستمتاعات؟ فيه قولان، أو يقال: وجهان. ثم قال: وأما الأظهر من الخلاف، مال ابن الصباغ والإمام وصاحب "التتمة" إلى ترجيح التحريم، والأكثرون رجحوا القول الآخر، يؤيده أن التحريم منسوب إلى القديم ومقابله إلى الجديد، وحكى القاضي ابن كج طريقة قاطعة بعدم التحريم انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" ورجح في "المحرر" التحريم فقال: فيه قولان: أولاهما: التحريم، وقد سلم النووي من هذا التعارض فإنه رجح في "المنهاج" من زوائده جوازه. قوله: ثم عد الإمام هنا الصورة التي يحرم فيها القبلة وسائر الإستمتاعات مع الوطء، والصورة التي يختص فيها التحريم بالوطء فقال: ما يحرم الوطء لتأثيره في الملك كالطلاق الرجعي، والردة، أو لحلها لغيره كالأمة المزوجة، أو لإستبراء الرحم عن الغير كزوجته المعتدة عن وطيء شبهة، فكل هذا يحرم فيه الإستمتاعات كلها، وما حرم الوطء بسبب الأداء لا يحرم الإستمتاع. وأما العبادات المحرمة للوطء: فالإحرام يحرم كل استمتاع تعبدًا، والصوم والاعتكاف، يحرمان كل ما يخشى منه الإنزال. وإذا قلنا في الظهار لا تحرم القبلة واللمس ففي ما بين الركبة والسرة احتمالان. أقواهما: أنه على الخلاف في حق الحائض.

والثاني: أنه كسائر الاستمتاعات وذكر الغزالي أيضًا أنه يحرم الاستمتاع بزوجته المعتدة، كما ذكر الإمام وحكى البغوي فيه وجهين، انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الصحيح في المعتدة بالشبهة أنه يحرم الاستمتاع بها فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" ولم ينقله عن الإمام كما نقله هنا، وكذلك أيضًا صحح ما صححه الإمام من الخلاف المتقدم في ما بين السرة والركبة، فإن هذا التقسيم لم ينقله عن الإمام فيه كما فعل في "الكبير" بل أطلق القول به. وقد حذف النووي من "الروضة" الترجيح المذكور فيما بين السرة والركبة، وحكى وجهين فقط فاعلمه. وقد صرح القاضي الحسين بالمسألة وجزم بالتحريم ونقله عنه في "الكفاية". الأمر الثاني: أن الخلوة بالمعتدة عن الشبهة حرام كما جزم به في الفصل الثاني من باب الاستبراء وفي أوائل القسم والنشوز أيضًا، لكن نقلًا عن المتولي من غير اعتراض عليه فتفطن له، فإن كلامه هنا يوهم خلافه. الأمر الثالث: أن ما قاله الإمام من تحريم الاستمتاعات بالإحرام فإنما هو في غير النظر، أما الاستمتاع بالنظر فلا يحرم، كما صرحوا به في بابه وأشار إليه النووي، وسأذكر عبارته بعد هذه المسألة. قوله: من زوائده وقول الإمام الإحرام يحرم كل استمتاع الصواب حمله على المباشرة بشهوة، وأما اللمس ونحوه بغير شهوة فليس بحرام كما سبق في الحج، والأمة الوثنية والمجوسية والمرتدة يحرم فيها كل استمتاع، وكذا المشركة والمكاتبة ومن بعضها حر والله أعلم. وما اعترض به النووي على الإمام في إطلاقه [الاستمتاع وأنه ينبغي

تقيده بما إذا كان بغير شهوة فغريب، فإن الاستمتاع] (¬1) لا يطلق إلا مع الشهوة. قوله: ويشبه أن يجيء في الاستمتاع بالمرهونة خلاف، انتهى. لم يذكر الرافعي في المرهونة هنا غير هذا الكلام ولا يعرف منه الحكم فيها، وقد بينه الرافعي في باب الاستبراء فذكر أنه يجوز ولم يحك فيه خلافًا. قوله: فرع: لو قال: أنت علي كظهر أمي يا زانية أنت طالق ففيه وجهان: قال ابن الحداد: هو عائد لأنه ممسك لها حالة القذف. والثاني: لا كما لو قال يا زينب أنت طالق، وتردد الإمام في أن ابن الحداد هل يسلم هذه الصورة، انتهى كلامه. واعلم أن الإمام ذكر عقب نقله لهذا التردد أن الأصح التسليم وقد نقله عنه في "الروضة" أيضًا والعجب من ترك الرافعي له. قوله: الثانية: قد سبق أن تعليق الظهار صحيح فلو علقه فوجد المعلق عليه وأمسكها جاهلًا نظر إن علق على فعل غيره فلا يكون عائدًا حتى يعلم ويمسكها بعد العلم وإن علق على فعل نفسه ونسي الظهار، فالمشهور أنه يكون عائدًا، ورأى صاحب "التهذيب" وغيره تخريج المسألة في الطرفين على حنث الناسي والجاهل وهو أحسن وهو الذي أورده صاحب "التتمة"، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما رجحه في حصول العود بفعل الغير من تخريجه على قولي حنث الناسي عند عدم العلم به قد سبق منه ما يخالفه في أواخر الباب الذي قبله مخالفة عجيبة فإن الموضعين كليهما من تفقهه لا من نقله، وتابعه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

في "الروضة" على ذلك. الأمر الثاني: أن ما نقله عن المتولي من كونه خرج فعل الغير وفعل نفسه على الخلاف في حنث الناسي صحيح في فعل نفسه، أما في فعل الغير فهو غلط، فكان الذي قاله في "التتمة" أنه إن علق بفعل نفسه ففي مصيره عائدًا الخلاف في حنث الناسي، وإن تعلق بفعل غيره لم يصر عائدًا على المذهب، وقيل: يخرج على الناسي، قال: والفرق إن الشخص يشتبه عليه فعل غيره وقل ما يشتبه عليه حال نفسه. قوله: والأظهر في الظهار تغليب مشابهة الطلاق على ما سبق فيكون الأظهر فيما إذا قال أردت التأكيد أنه لا يقبل، وكذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، انتهى كلامه. وهكذا الذي رجحه من تغليب شبه الطلاق، قد ذكر ما يوافقه أيضًا في أثناء الباب السابق لكن سبق منه في أوائل كتاب الوكالة ما يقتضي خلافه، وقد سبق ذكر لفظه هناك.

كتاب الكفارات

كتاب الكفارات وهي ثلاث خصال: الأولى العتق قوله: في "الروضة" ويشترط أن تكون النية مقارنة للإعتاق والإطعام، وقيل يجوز تقديمها عليهما؟ كما ذكرناه في الزكاة، انتهى. وما ذكره من تصحيح المنع في الكفارة قد خالفه في كتاب الزكاة وهو "شرح المهذب" فقال في باب قسم الصدقات في الكلام على النية: أصح الوجهين جواز تقديم فيه الزكاة على الدفع، قال أصحابنا: والكفارة والزكاة سواء في ذلك، وهذا هو الصواب وظاهر النص أيضًا، انتهى ملخصًا. واعلم أن شرط الجواز في الزكاة أن تكون النية مقارنة للعزل كما تقدم إيضاحه هناك فراجعه. قوله: وقول "الوجيز" ويصح الإعتاق والإطعام من الذمي بغير نية أي بغير نية التقرب، فأما نية التمييز فيشبه أن تعتبر كما في قضاء الديون، انتهى كلامه. وما جزم به من وجوب نية أداء الدين واقتضى كلامه الإتفاق عليه حيث جعله أصلًا وقاس عليه غيره قد أهمله النووي من "الروضة" أو هي مسألة نفيسة مهمة ينبغي إستحضارها، والحكم الذي قاله فيها صحيح، وقد صرح به الإمام في باب صفة الوضوء من "النهاية" ومحمد بن يحيى في كتاب الزكاة من "تعليقته" في الخلاف فذكر ما حاصله: أن نية التمييز في الدين ونحوه لابد منها بخلاف نية التقرب، وذكر نحوه في كتاب الصيام: فقال: والنية على ضربين: تقرب، وتمييز. أما التقرب فكما في العبادات من الصوم والصلاة وهو إخلاص العمل

لله تعالى. وأما نية التمييز فكما في أداء الدين فإنه يحتمل التمليك هبة وقرضًا فافتقر إلى قصد تمييزه هذه عبارته. وصرح به أيضًا الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى" في أثناء قوله: قاعدة في بيان متعلقات الأحكام في النوع الخامس والعشرين منه: ومثله أيضًا القراءة ونحوها. وقد صرح به أيضًا في "القواعد" قبل الموضع المتقدم بنحو ثلاث كراريس، قال: ولكن لا يشترط نية التقرب. قوله: ويجزيء الأحمق وفسر بأنه الذي يضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه، والمجنون لا يعلمه، انتهى كلامه. وهذا التفسير الذي ذكره للأحمق قد ذكر خلافه في القسم الثاني من تعليق الطلاق نقلًا عن أبي العباس الروياني وأقره، وقد سبق ذكر لفظه هناك مع زيادات أخرى فراجعه. قوله: فإن أعتق الذي لا يرجى زوال مرضه، فاتفق أن زال، فهل يجزئ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأنه لم ينو كفارة صحيحة، وإنما هو كالتلاعب. وأظهرهما عند الإمام: نعم، لأن المنع كان بناء على ظن قد تبين خلافه انتهى. والصحيح ما رجحه الإمام كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ويجزئ الأعور والأعرج إلا أن يكون العرج شديدًا يمنع متابعة المشي، انتهى. والمراد هنا بالأعور إنما هو من لم يضعف نظر عينه السليمة.

قال الشافعي - رضي الله عنه - في "الأم": فإن ضعف بصرها فأضر بالعمل إضرارًا بينًا لم يجزئه. قال صاحب "الحاوي": إن كان ضعف البصر يمنع معرفة الخط وإثبات الوجوه القريبة منع، وإلا فلا، وقد نبه في "الروضة" على ما ذكرناه. قوله: ويجزئ الأخرس الذي يفهم الإشارة، وعن القديم منعه، وفيهما طريقان: أحدهما أن المسألة على قولين: وجه المنع أنه يعسر مناطقته، وأشهرهما: حمل النصين على حالين، ثم منهم من حمل الإجزاء على ما إذا فهم الإشارة، والمنع على ما إذا [لم يفهم، ومنهم من حمل المنع على ما إذا] (¬1) انضم إلى الخرس الصمم، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن صاحب "التنبيه" قد جعل الشرط أن يفهم غيره إشارته، ولم يذكر غير ذلك، وهو عكس ما اقتصر عليه الرافعي من كونه يشترط أن يكون العبد هو الفاهم، وأقر النووي الأمرين فإنه لم ينبه في "الروضة" ولا في "تصحيح التنبيه" على ذلك. الأمر الثاني: أن ما ذكره في كيفية حمل النصين قد تبعه عليه في "الروضة" وهو عجيب، فإن الكلام والنصين مفروضان في الذي يفهم إشارة غيره فكيف يحمل أحدهما على من لا يفهمها؟ وقد ذكر الطريقين في "النهاية" على وجه صحيح قريب في اللفظ مما ذكره الرافعي فتحرف عليه حالة النقل فإنه حمل المنع على ما إذا لم يفهم غيره إشارته فقال: حيث منع أراد إذا كان لا يفهم بإشارته، وحيث أجاز إذا كان يفهم بالإشارات هذا كلامه. قوله من "زوائده": قال الإمام: ولا يؤثر ضعف الرأي والخرق والكوع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والوكع، انتهى. أما الخرق فالبخاء المعجمة والراء الساكنة والقاف فهو نقيض الدقق في الأمر كذا فسره الجوهري، وتفسير بعضهم بنقصان العقل يرجع إليه. والكوع بالفتح هو الاعوجاج، يقال: رجل أكوع، وامرأة كوعاء. وأما الوكع فهو بواو مفتوحة، ثم كاف ساكنة وعين مهملة أيضًا ومعناه الكذب وقد وكع الرجل بالفتح وكعًا ووكعانًا أي كذب فهو واكع. قوله: ولا موصي بمنفعته لا يجزئ على الأصح، والمستأجر إن قلنا: يرجع على السيد بأجرة منافعه أجزأه، وإلا فلا، لنقصان منافعه، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل ما ذكره تصحيح عدم الإجزاء، وكيف يستقيم ذلك في المستأجر والموصي بمنفعته مدة مع ما سبق من إجزاء المريض الذي لا يقدر على العمل ولكنه يرجى وكذلك الصغير والمجنون إذا لم يكن جنونه أكثر من إفاقته سواء كان مجنونًا حال الإعتاق لا يمكنه الإكتساب أم لم يكن ونفقة الجميع في بيت المال؟ الأمر الثاني: أنه ينبغي التفطن إلى أن العتق نافذ في هذه الصور وأمثالها وإن منعنا الإجزاء عن الكفارة وقد سبق مثل ذلك في المكاتب ونحوه. قوله: إذا أعتق عن الكفارة مرهونًا بني على الخلاف في نفوذ عتقه إن نفذناه أجزأ عن الكفارة إذا نواها، وكذا إن لم تنفذه في الحال ونفذناه بعد الانفكاك باللفظ السابق، ويكون كما لو علق عتق عبده عن الكفارة بشرط، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما أطلقه من الجواز قد تابعه عليه في "الروضة" هنا، وقيده في كتاب الرهن من زوائده فقال: وإن أعتقه عن كفارة غيره فلا يعتق لأنه

بيع، قاله القاضي الحسين في "فتاويه" وما نقله النووي عن الفتاوى المذكور قد رأيته فيها كذلك تصويرًا وتعليلًا وهو تعليل قاصر موهم لأن الإعتاق على غير عوض، وكذلك لأنه هبة للرهن وهو ممتنع. الأمر الثاني: أن ما ذكره أصلًا وتشبيهًا يشكل على ما سبق قبل هذا بأسطر في المكاتب، فإنه ذكر أن إعتاقه عن الكفارة لا يجوز، ثم قال: ولو قال له: إذا عجزت عن النجوم، فأنت حر عن كفارتي فعجز عتق ولم يجزئ عن الكفارة لأنه حين علق لم يكن بصفة الإجزاء وكذا لو قال لعبده الكافر: إذا أسلمت، أو قال: إن خرج الجنين سليمًا، ويحتمل أن يقال إذا لم يعتق عن الكفارة لم يعتق على ما مر نظيره في الإيلاء. قوله: من زوائده: ولو أعتق عن الكفارة من تحتم قتله في المحاربة أجزأه ذكره القاضي حسين في "تعليقه"، انتهى. وما ذكره من المنع مخالف لما نقله الرافعي قبل ذلك بنحو ورقة عن القفال وأقره فقال: ولو أعتق من وجب عليه قتل، قال القفال: إن أعتقه قبل أن يقدم للقتل أجزأه وإلا فلا، كمريض لا يرجى هذا كلامه، فكيف يستقيم المنع في القتل بعد التقديم مع إمكان العفو والجواز في المحارب مع تحتمه؟ قوله: والمغصوب يجزئ، وفيه وجه لنقصان التصرف، ولأن الغصب يمنع من الاستقلال، ثم قال: والآبق كالمغصوب، انتهى. وما اقتضاه كلامه من جريان خلاف المغصوب في الآبق كيف يستقيم مع أن الآبق كيف يستقيم مع أن الآبق مستقل بخلاف المغصوب؟ ولهذا جزم الماوردي والفوراني وغيرهما بالإجزاء وقال في "الروضة": إنه الصواب. قوله: ولو ملك نصفًا من عبد ونصفًا من آخر فأعتق النصفين عن الكفارة وهو معسر فقيل: لا يجزئه، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق،

وقيل: يجزئه وقيل: إن كان الباقي حرًا جاز، وإلا فلا وهو الأظهر على ما ذكره الموفق وغيره انتهى ملخصًا. نقل صاحب "الشامل" أن الأكثرين على الجواز، لكن أطلق في "المحرر" و"الشرح الصغير" و"الروضة" تصحيح الثالث ويبقى النظر فيما لو كان باقي أحدهما فقط حرًا وسيأتي شيء يتعلق به. قوله: ولو كان عليه كفارتان عن ظهارين، أو عن ظهار وقتل، فأعتق عبدين عن كل واحد منهما، نصفًا من هذا ونصفًا من هذا، فالحكاية عن نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه يجزئه، وذكر الإمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- في "البسيط" أن منهم من أثبت خلافًا، وحكى خلاف في كيفية وقوع العتقين فقيل: يعتق نصف كل واحد منهما عن كفارة كما أوقعه، وقيل: يقع عبد عن هذه الكفارة، وعبد عن الأخرى، ويلغوا قوله: النصف من هذا والنصف من ذلك، انتهى. واعلم أن هذا الاختلاف في كيفية الوقوع لم يحكه الإمام ولا الغزالي وإنما حكاه صاحب "الشامل" وقال: إن الأكثرين على الأول، وإن الشيخ أبا حامد نقل الثاني عن نصه في "الأم". وإذا علمت ذلك، علمت أن الثاني هو الصحيح، وأن تعبير الرافعي بقوله وحكى هو مضموم على البناء للمفعول، وقد أنكر ابن الرفعة هنا على الرافعي إثبات الخلاف الأول، وإنكاره غلط نبهت عليه في "الروضة". قوله: ويجري الخلاف في ما لو أعتق رقبة واحدة عن كفارتين فعلى وجه: يعتد به وعليه إتمام كل واحدة من عبد عن كفارة أو يعتق عن كل واحدة نصفًا من هذا ونصفًا من هذا. قال: ولا حاجة إلى هذا التقدير والتصوير، وظاهر إعتاق العبدين عن الكفارتين صرف عتق كامل إلى كل كفارة، انتهى كلامه.

وهو كلام غير منتظم يدفع بعضه بعضًا، فإن صدر المسألة وتصويرها إنما هو في العبد الواحد، وآخرها صريح في أن الكلام في العبدين، ثم إن الصيرفي قال: ليس له مرجع بالكلية، وقد اتضح المراد بكلام الإمام، وأن الرافعي حاول نقله فأسقط منه مسألة، فإن الإمام قال: وقالوا -يعني: العراقيين-: لو قال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتي فينفذ العتقان عنهما واختلف أصحابنا في كيفية الوقوع فمنهم من قال: يقع عن كل كفارة عتق عبد، ومنهم من قال: يقع عن كل كفارة نصاف العبدين ولا حاجة إلى هذا عندنا فإن ظاهر إعتاق العبدين عن الكفارتين صرف عتق كامل إلى كل كفارة، ولا معنى للحمل على التبعيض أو اللفظ ليس يشعر به، والإعتاق المطلق لا يفهم منه في العرف التبعيض] (¬1) والتشقيص، هذه عبارة الإمام. وتلخص أن صدر كلام الرافعي مسألة مستقلة لم يذكرها الإمام، وهي: ما إذا أعتق واحدًا عن كفارتين، وآخره كلام في المسألة التي ذكرها الإمام، وهي: إعتاق العبدين عن كفارتين فأسقطهما الرافعي أو الناقلون من المسودة، وقد مشى النووي على هذا الغلط، واختصر كلام الرافعي باجتهاده، فقال ويجري الخلاف في ما لو أعتق عبدًا عن كفارتين ففي وجه يعتد به وعليه إتمام كل واحدة قال الإمام: ولا حاجة إلى هذا التقدير هذه عبارته. فصرح الإمام أو حذف آخر كلام الرافعي المنقول عن الإمام] (¬2) وهو المرشد إلى الغلط، وحينئذ فلا يبقى لقوله ولا حاجة إلى هذا التقدير ارتباط ولم يفهم منه شيء بالكلية. قوله: الثانية: إذا قال أعتق عبدك عن نفسك ولك علي كذا، أو علي كذا، فأجابه فهل يستحق العوض؟ فيه وجهان: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أصحهما: نعم، كما لو قال: أعتق مستولدتك، أو طلق زوجتك على كذا. والثاني: واختاره الخضري: أنه لا يستحق؛ لأن ذلك إنما جوز في الطلاق والمستولدة على سبيل الإفتداء ضرورة أنه لا يمكن انتقال الملك فيهما، وهاهنا يمكن تمليكه بالشراء وغيره، انتهى كلامه. واعلم أن ما ذكره هاهنا من حكاية الخلاف وجهين، ومن تصحيح وجوب العوض قد ناقض الأمرين جميعًا قبل كتاب الصداق في الفصل الرابع العقود لتزويج الإمام، وهو مترجم في "الروضة" بالباب الحادي عشر، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: ولو قال: أعتق عبدك عني على كذا بشرط أن يكون الولاء لك. قال في "التتمة" في باب الخلع: المذهب المشهور أن هذا الشرط يفسد ويقع العتق عن المستدعي، وعليه القيمة، وفيه وجه أن العتق يقع من المالك ويكون الولاء له، انتهى كلامه. وما نقله عن "التتمة" من لزوم القيمة تابعه أيضًا عليه في "الروضة" وليس كذلك فإن الذي في "التتمة" أنه يلزمه القدر المسمى لا القيمة. قوله: لا خلاف في أن العبد المعتق عن الغير باستدعائه يدخل في ملك المعتق عليه فلا عتق في ما لا يملكه ابن آدم، انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك فقد صرح بالخلاف فيه الماوردي في "الحاوي" في كتاب الأيمان، وصاحب "الذخائر" في البيع في الكلام على شراء الكافر العبد المسلم، وأشار الرافعي بقوله فلا عتق فيما لا يملكه ابن آدم إلى الحديث المشهور.

الصيام

قال -رحمه الله-: الخصلة الثانية: الصيام قوله: ويشترط في العبد كونه فاضلًا عن حاجته كنفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم، ثم قال: ولم يقدر للنفقة والكسوة مدة، ويجوز أن تعتبر بكفاية العمر، ويجوز أن تعتبر بسنة لأن المؤنات تتكرر فيهما، ويتجدد الإعداد لها، وقد يؤيده أن صاحب "التهذيب" قال: يترك له ثوب للشتاء وثوب للصيف، انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من التوقف في هذه المسألة، وسكوت الأصحاب عنها غريب، فإن المسألة مشهورة في كتب الأصحاب المتقدمين والمتأخرين، إلا أنهم ذكروها في كتاب الأيمان، والذي نص عليه الشافعي وذهب إليه الجمهور وبه جزم الرافعي والنووي في "الروضة": أن من يحل له أن يأخذ من الزكوات والكفارات فهو فقير يكفر بالصوم، ومن لا يحل له الأخذ فهو غني، وقال الماوردي: أن العبرة بكفاية الوقت، حتى أن التكفير بالمال قد يجب على من تحل له الزكاة والكفارة، وهو من كان عنده شيء فاضل عن قوته، وقوت عياله في ذلك الوقت، ولا يصير بفضلها غنيًا، وعلى الأول، وهو اعتبار الأخذ من الزكاة، منهم من قال: يشترط أن يكون ثمن الرقبة فاضلًا عن كفاية سنة وبه جزم البغوي في "فتاويه" وقال الأكثرون: يعتبر العمر الغالب. والخلاف ينبني على أنه يأخذ من الزكاة كفاية السنة أو العمر؟ وقد تلخص من مجموع ذلك ثلاثة أوجه في المسألة. الأمر الثاني: أن النووي -رحمه الله- قد قال من "زوائده": إذن الصواب اعتبار السنة، واعتباره لذلك لا يلائم ما نقله بعد هذا عن

الجمهور، ووافقهم عليه أن من كان له رأس مال يتجر فيه ولو بيع لصار مسكينًا أنه يكفر بالصوم. قوله: ولو كان ماله غائبًا أو لم يجد الرقبة فلا يجوز العدول إلى الصوم في كفارة القتل واليمين والجماع في رمضان، بل يصبر إلى أن يصل إلى المال أو يجد الرقبة لأن الكفارة على التراخي. انتهى كلامه. وهو صريح في أن الكفارة التي وجبت بسبب محرم لا تجب على الفور، وقد ذكر أيضًا ما يقتضيه في كتاب التيمم في الكلام على ما إذا قدر على بعض الماء -وفي باب الوصاية، وفي الباب الثاني من كتاب الأيمان. إذا علمت ذلك فقد ذكر ما يخالف هذه المواضع كلها في كتاب الصيام في أوائل صوم التطوع فجزم بأنها على الفور، ونقله أيضًا في كتاب الحج في الكلام علي تحريم الجماع عن القفال من غير اعتراض عليه، وهناك ذكر ضابط أحوال الواجبات في الفورية والتراخ، وقد سبق ذكر عبارته في كل من الموضعين فراجعها. وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" وصرح في "شرح مسلم" في حديث المجامع في نهار رمضان بأنها على التراخي. قوله: إحداهما يبين أن الموسر المتمكن من الإعتاق يعتق. انتهى. اعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد ذكر في كتاب الحجر أن السفيه حكمه حكم المعسر حتى إذا حلف وحنث كفر بالصوم، وفيه وجه حكاه في "الروضة" أنه يكفر بالمال، فاستحضر ما ذكرناه، فإن كلامهما هنا يقتضي خلافه، فإنهما تعرضا للذمي والمرتد والعبد والمبعض لكونهم لا يكفرون بجميع الخصال، وسكتوا عن من عداهم، فاقتضى ذلك عدم الاستثناء مع أنه ليس كذلك. قوله: ولو شرع المعسر في الصوم ثم آيس لم يلزمه الإعتاق خلافًا لأبي

حنيفة والمزني وبعض أصحابنا، ثم قال: واحتج الأصحاب للمذهب بأنه قدر علي البدل بعد شروعه في صوم البدل فلا يلزمه الرجوع إلى المبدل، كما لو وجد الهدي بعد الشروع في صوم السبعة، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الاحتجاج على المزني غفلة عن مذهبه، فإنه قائل في صوم السبعة باللزوم أيضًا، وقد نقله عنه الرافعي هناك. الأمر الثاني: أن تقييده بالسبعة عجيب يوهم أن القدرة على الهدي بعد شروع المتمتع أو القارن في الثلاثة موجبة لإخراجه وليس كذلك، بل الحكم فيهما واحد كما صرح به في ذلك الموضع. قوله في "الروضة": فصل: العبد لا يملك بغير تمليك سيده قطعًا. انتهى. وما ذكره هنا من نفي الخلاف ذكره أيضًا في مواضع من "الروضة" بعضها قلّد فيه الرافعي، وبعضها من تصرفه، وليس الأمر كذلك، بل فيه خلاف سبق بيانه وبيان المواضع التي أشرنا إليها في أواخر البيع في باب معاملات العبيد. قوله: وإن حلف بإذنه وحنث بغير إذنه فوجهان: أحدهما: أنه له أن يصوم بغير إذنه، وهذا ما رجحه في "التهذيب"، وأصحهما عند الأكثرين وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يستقل بالصوم لأن لزوم الكفارة لا يلازم اليمين. وإن حلف بغير إذنه وحنث بإذنه ففيه طريقان: أحدهما: وهو الذي أورده في الكتاب أن فيه وجهين: أحدهما: أنه لا يصوم إلا بإذنه لأن الحلف هو السبب ولم يأذن السيد فيه. والثاني: يجوز لأن الحنث يستعقب الكفارات.

والطريق الثاني: القطع بالجواز: وهذا هو الأظهر على طريقة إثبات الخلاف، انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل ما ذكره أن الاعتبار بالحنث وهو الذي صححه أيضًا في "الشرح الصغير" هنا وصحح في "المحرر" في كتاب الأيمان أن العبرة بالحلف، وعبر بالأصح، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"المنهاج". الأمر الثاني: أنه لم يصحح شيئًا من الطريقين في المسألة الثانية وهو ما إذا حلف بغير إذنه وحنث بإذنه، وكذلك أيضًا في "الروضة" فإنه عبر بالمذهب وليس له فيه إصطلاح سوى أنه من الطريقين أو الطرق، والأصح منهما هو: طريقة الوجهين، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: فإن حلف بغير إذنه وحنث بإذنه فوجهان أيضًا، وأظهرهما: أن له ذلك وقطع به قاطعون، هذا لفظه. وقد علمت بأن اعتبار الحنث هو رأي الأكثرين فلتكن الفتوى عليه لا على المذكور في "المحرر" و"المنهاج". قوله من زوائده: ولو أراد العبد صوم تطوع في وقت يضر بالسيد فله منعه، وفي غيره ليس له المنع حكاه المحاملي عن أبي إسحاق المروزي، بخلاف الزوجة فإن للزوج معها من صوم التطوع لأنه يمنعه الوطئ، وحكى في "البيان" أنه ليس للسيد منعه من صلاة النفل في غير وقت الخدمة إذ لا ضرر. انتهى كلامه. فأما ما حكاه عن أبي إسحاق في صوم التطوع، وعن صاحب "البيان" في صلاة النفل فقد ذكر الرافعي في كتاب الأيمان في الكلام على تكفير العبد، وصحح الجواز، وتابعه عليه النووي فتأمل ذلك، وكلامه هنا يوهم

ضعف المنقول عن "البيان". وأما تعليل منع الصوم بكونه يمنع الوطئ فيستشكل بأن لكل من الزوجين الخروج من التطوع بالجماع وغيره، لكنه أجاب في "شرح مسلم" بجواب أذكره إن شاء الله تعالى في كتاب النفقات مع زيادات أخرى يتعين الوقوف عليها، وقياس تجويز منع الزوجة من الصوم أن تكون الأمة الموطؤة كذلك، فإن لم يطأها مع كونها تحل له ففي المنع نظر. قوله: ومن بعضه حر وبعضه رقيق كالحر في التكفير بالمال على ظاهر المذهب. انتهى. تابعه في "الروضة" على إلحاقه بالموسرين وفيه كلام أذكره إن شاء الله تعالى في أوائل النفقات. قوله أيضًا من زوائده: ولو أفطرت الحامل المرضع خوفًا على أنفسهما فقال المحاملي في "المجموع" وصاحب "الشامل" والأكثرون: هو كالمرض، وفي "تجريد" المحاملي: أنه لا ينقطع قطعًا، انتهى كلامه. وما نقله -رحمه الله- عن "التجريد" سهو، والمذكور فيه الجزم بما قاله في "المجموع" وقال به غيره وهو إلحاقه بالمرض فإنه قال ما نصه: فأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا، فإنهما إن أفطرتا لمرض لحقهما في أنفسهما فحكمهما حكم المريض، وإن أفطرتا خوفًا على ولدهما فمن أصحابنا من قال: إنه كالمرض لأنه عذر، ومنهم من قال: إنه يقطع التتابع قولًا واحدًا. هذا لفظه على ما نقله بعضهم، فمن أحب الوقوف عليه فليراجعه، وحينئذ فلا خلاف في المسألة. قوله فيها أيضًا: ولو أوجر الطعام مكرهًا لم يفطر ولم يبطل تتابعه، وهكذا قطع به الأصحاب في كل الطرق، وشذ المحاملي فحكى في "التجريد" وجهًا أنه يفطر وينقطع تتابعه وهذا غلط. انتهى كلامه.

فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من قطع الأصحاب في جميع الطرق بعدم الإفطار بالإيجار غريب: فقد حكى في كتاب الصيام تبعًا للرافعي عن الحناطي أن في الفطر بالإيجار وجهين. الأمر الثاني: أن ما نقله -رحمه الله- عن "التجريد" غلط منه عليه فإن المحاملي لم يذكر فيه خلافًا، بل صرح بنفي الخلاف فقال ما نصه: أما إذا أكره علي الفطر فإن أوجر الطعام والشراب لم يفطر قولًا واحدًا، وإن ضرب حتى أفطر فهل يفطر؟ على قولين، فإن قلنا: لا يفطر هنا، وفي القسم قبله فالصوم على حاله والتتابع باق، وإن قلنا: إنه يفطر [إذا أكره وأكل فالتتابع ينقطع لأنه أفطر بسبب لا يعود إليه. هذا لفظه بحروفه على ما نقله الناقل عنه في الفرع قبله وكأنه -رحمه الله- يمسك بقوله، وإن قلنا أنه يفطر] (¬1) هنا وفي القسم قبله، ذاهلًا عما صرح به قبل هذا من الإتفاق على أنه لو لم يصرح أيضًا بنفي الخلاف لما أمكن إثبات خلاف بمجرد هذه اللفظة، فإنه إنما عطفه عليه لمشاركته له في التفريع. قوله: وإذا أوجبنا التتابع في كفارة اليمين فحاضت في خلال الأيام الثلاثة فقد قيل: هو كالإفطار بالمرض أي حتى يكون فيه قولان، ويشبه أن يكون فيه طريقة قاطعة بانقطاع التتابع، لأن إيقاع الثلاثة في الوقت الذي لا يطرأ الحيض فيه متيسر. انتهى. وهذه الطريقة التي توقف الرافعي -رحمه الله- في أثنائها وحاول إثباتها تفقهًا قد صرح هو بها في الباب الثاني من كتاب الأيمان مع طريقين آخرين وسوف أذكر ذلك في موضعه لغرض آخر، ولم يستحضر النووي ذلك، بل شرع في إثبات هذه الطريقة بنقلها من غير الرافعي فقال: قلت: صرح ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بالطريقة الجازمة الدارمي وصاحب "التتمة" فقالا: المذهب إنقطاعه. ذكره الدارمي في كتاب الصيام، وفيه طريق ثالثًا أنه لا ينقطع قطعًا لأن وجوب التتابع في كفارة اليمين هو القول القديم، والمرض لا يقطع على القديم. هذا لفظه. وما نقله عن الدارمي من حكاية طريقين صحيح، وأما حكايته إياهما عن "التتمة" فغلط عجيب، وإن كان قد عبر بالمذهب، فإن كون هذا اللفظ موضوعًا للطريقين أو للطرق إنما هو إصطلاح من النووي، وكأنه لما تقرر عنده إصطلاحه وتكيف به نسي أنه من جهته.

الإطعام

قال -رحمه الله-: الخصلة الثالثة: الإطعام قوله: اعلم أن في تقدير الكفارة والفطر وغيرهما نوع إشكال، وذلك أن الصيدلاني وغيره من الأئمة ذكروا أن الاعتبار في ذلك بالكيل دون الوزن وأرادوا به أن المقدار الذي يحويه الصاع يختلف وزنه باختلاف جنس المكيل ثقلًا وخفة، فالبر أثقل من الشعير، وأنواع البر أيضًا قد تختلف أوزانها، فالواجب الذي يحويه المكيال بالغًا وزنه ما بلغ، وذكر بعضهم أن الذي قيل في وزن الصاع على ما قدمنا في زكاة الفطر كأنه اعتبر فيه البر أو التمر، وقضية هذا الكلام أن يجزئ من الشعير ما هو دون ذلك المقدار في الوزن إذا كان مليء الصاع، لكن اشتهر عن أبي عبيد القاسم بن سلام، ثم عن ابن سريج أن درهم الشريعة خمسون حبة وخمسا حبة، ويسمى ذلك درهم الكيل لأن الرطل الشرعي منه يركب، ويركب من الرطل المد، ومن المد الصاع. وذكر الفقيه أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر بن عطية أن الحبة التي يتركب منها الدرهم هي حبة الشعير المتوسطة التي لم تقشر وقطع من طرفها ما امتد. وقضية هذا أن يحوي الصاع هذا المقدار من الشعير، وحينئذ فإن اعتبر الوزن لم يملأ أكثر بهذا الوزن الصاع، ولم ينتظم القول بأن الواجب ما يحويه المكيال، وإن اعتبر الكيل كان ما يحوي من البر أكثر مما يحوي من الشعير بالوزن. انتهى. زاد النووي فقال: قلت: هذا الإشكال وجوابه قد أوضحته في باب زكاة المعشرات، والله أعلم. فيه أمران:

أحدهما: أن الإشكال وجوابه إنما أوضحهما النووي في زكاة الفطر لكنه قد أشار إلى شيء منه في زكاة المعشرات فاعلمه. الأمر الثاني: أن الصواب في التقدير بالوزن المذكور إنما هو بالشعير كما قاله ابن عطية، فقد امتحنه ابن الرفعة بالعمل فوجده صحيحًا فقال في تصنيفه المسمي "بالإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان": أحضر إلى من يوثق به من الفقهاء الورعين مدا من خشب مخروط لم يتشقق ولم يسقط منه شيء وأخبرني أنه عايره على مد الشيخ محب الدين الطبري شيخ الحرم الشريف بمكة وأن الشيخ محب الدين المذكور ذكر أنه عايره على مد صح عنده بالسند أنه معاير على ما عوير على مد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فامتحنته بما قال بعض أصحابنا وغيرهم أنه يقع به المعيار وهو الماش والعدس فوجدت كيله بها يزيد على المائتين زيادة كثيرة فاستحضرت أن الغالب على الظن أن المعيار إنما وقع بالشعير لأنه الغالب من أقوات أهل المدينة في الصدر الأول، كما دلت على ذلك الأخبار فاعتبرت بالشعير الصعيدي المغربل المنقى من الطين وإن كان فيه حبات من القمح يسيرة فصح الوزن المذكور بكيل المد المذكور. ثم وزن فجاريته مائة وثلاثة وسبعين درهمًا وثلث دراهم بالمصري، ثم وزن من الشعير المقدار المذكور ووضع في المد المذكور فكان بقدره من غير زيادة عليه، وكان ذلك بحضرة جمع من أهل العلم الأخيار ففرحت بذلك وفرحوا فرحًا شديدًا، ومنه يظهر صحة قول من ادعى أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهمًا، وبه يظهر أيضًا صحة صنج الدراهم الموجودة حينئذ بمصر، هذا كلام ابن الرفعة. قوله: ولو جمع ستين مسكينًا ووضع بين أيديهم ستين مدًا وقال: خذوا ونوى الكفارة، فأخذوا بالسوية أجزأه، ثم قال: فإن تفاوتوا لم يجزئه إلا واحدًا، لأنا نتيقن أن أحدهم أخذ، انتهى ملخصًا.

والإجزاء في هذه الحالة فيه إشكال لأن الكيل ركن في قبض المكيل، فتباينه فيه عن المظاهر يؤدي إلى اتحاد القابض والمقبض، ولهذا قال في كتاب البيع في الكلام على القبض: ولو قال لمستحق الطعام كل قدر حقك لم يصح في الأصح لأن الكيل أحد ركني القبض، وقد صار وكيلًا فيه من جهة البائع فالمذكور هنا لا يأتي إلا على الوجه الضعيف. قوله: ولا يجوز صرف الكفارة إلى هاشمي ومطلبي وكافر ولا إلى من تلزمه نفقته كزوجة وقريب. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله، واعلم أن الشيخ أبا إسحاق قد عبر في "التنبيه" أيضًا بقوله: من تلزمه أعني -بالهاء- فاعترض عليه النووي في "التحرير" بأنه كان الصواب حذف الهاء ليتناول من يجب على غير المكفر الإنفاق عليه، فإن الدفع إليه أيضًا ممتنع، وهذا الاعتراض وارد عليه في "الروضة". قوله: وفي الأقط الخلاف المذكور في الفطرة، وفي اللحم واللبن خلاف، ثم قال: والخلاف كالخلاف في الأقط وأولى بعدم الإجزاء، انتهى كلامه. وذكر النووي في "الروضة" نحوه، والأصح في الفطرة التفصيل بين اللحم واللبن فيجزئ إخراج اللبن، ولا يجزئ إخراج اللحم، هكذا صحح الرافعي هناك، وتبعه عليه في "الروضة" فيكون هو أيضًا الصحيح هاهنا فإنهما قد صرحا في هذا الباب بأن المجزئ في الفطرة يجزئ هاهنا، وأنه يجئ في كل باب ما يجئ في الآخر. لا جرم أنه لم يتعرض لهما بخصوصهما في "المحرر"، بل أحال المجزئ هنا على المجزئ في الفطرة، وتبعه عليه في "المنهاج" وصحح النووي في "تصحيح التنبيه" هنا أن اللبن لا يجزئ على خلاف المذكور في هذه الكتب، وكأنه لما لم يجد في "الروضة" في هذه المسألة بخصوصها تصحيحًا ورأى فيها أنه أولى بالمنع وذهل عن جميع ما قلناه صحح عدم الإجزاء، لكن

الأولوية لا تقتضي اختلافًا في التصحيح، بل مقتضاها اشتراك الجميع في حكم واحد وبعضها أولى به من بعض كما صرح به الرافعي في كتاب التيمم. قوله: وعن ابن خيران أنه يجوز له أن يعطي كل مسكين رطلي خبز وقليل أدم. انتهى. هذه المسألة أسقطها النووي فلم يذكرها في "الروضة". قوله: ويجوز العدول عن الصوم إلى الإطعام بالمرض، والأكثرون على أنه يشترط فيه أن يكون غير مرجو الزوال، وقال الإمام والغزالي: إذا كان المرض يدوم شهرين في غالب الظن فله العدول إلى الصوم، فعلى الأول لو كان غير مرجو الزوال فاتفق زواله نادرا فيشبه أن يلحق بما إذا أعتق عبدًا لا يرجى زوال مرضه فزال، انتهى كلامه. ومقتضى هذا التشبيه أن يكون الأصح هو الاكتفاء بذلك، لكن تشبيهه بالمغصوب إذا استناب في الحج ثم برئ أقرب مما ذكره، وحينئذ فيكون الأصح أنه لا يكفي.

كتاب اللعان

[كتاب اللعان وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: فيألفاظ القذف وموجبه قوله] (¬1): ولو قال بالوطء فهو كناية. انتهى. استدرك في "الروضة" فقال قد غلب في العرف لإرادة الوطيء في الدبر، بل لا يفهم منه إلا هذا فينبغي أن يقطع بأنه صريح، وإلا فيخرج على الخلاف في ما إذا شاع لفظ في العرف، كقوله: الحلال على حرام وشبهه، هل هو صريح أم كناية؟ وأما احتمال كونه أراد على دين قوم لوط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يفهمه العوام أصلًا ولا يسبق إلى فهم غيرهم، فالصواب الجزم بأنه صريح، وبه جزم صاحب "التنبيه" وإن كان المعروف في المذهب أنه كناية، والله أعلم. وهذا الذي قاله من زوائده قد خالفه في "تصحيح التنبيه" فجعله كناية كما جعله الرافعي، والغريب أنه عبر بالعبارة التي عبر بها في "الروضة" وهي لفظة الصواب، فقال: والصواب أن قوله للرجل والمرأة يا لوطي كناية. قوله: وكذا لو قرطبه أو ديثه، أو قال للمرأة: أصابتك فلانة ينسبها إلى السحاق فلا حد. اعلم أن اللفظتين الأولتين مأخوذتان من القرطبان، والديوث بالثاء المثلثة في آخره، وقد فسرهما الرافعي في أثناء تعليق الطلاق، وأما السحاق فبالسين والحاء المهملتين. وأنشدنا شيخنا أبو حيان للعرب: ¬

_ (¬1) بياض في ب.

يا عجبا لساحقات الورس ... الجاعلات الكس فوق الكس وفيه دليل أيضًا على أن التعبير عن فرج المرأة بهذا اللفظ عربي ولأجله أنشدنا -رحمه الله- إياه. قوله: والحكاية عن الأصحاب أنه يجب عليه إظهار القذف ليستوفي منه الحد وتبرأ ذمته، فمن قتل إنسانًا في خفية يجب عليه إظهاره، وفيه إحتمال أنه لا يجب لأنه إيذاء فعلى هذا لا نحكم بوجوب الحد، ونظم الكتاب يميل إلى ترجيح هذا الاحتمال، انتهى. وهو يقتضي الإتفاق على الوجوب في القتل والقذف إلا على احتمال خاص بالقذف وهو غريب، فقد صرح البغوي بعدم الوجود فيهما جميعًا واقتصر على الإستحباب ونقله عنه الرافعي في باب حد الزنا، وحذفه من "الروضة". قوله في "الروضة": ولو قال ابتداء: أنت أزنى مني، ففي كونها قاذفة وجهان حكاهما ابن كج. انتهى. والصحيح فيهما عدم الوجوب فقد ذكر الرافعي بعد هذا أنه إذا قال: أنت أزنى من فلان، لا يكون قذفًا على الصحيح إلا إذا أراده، ثم جعل الجميع خلافًا واحدًا، ولو لم يذكر الرافعي هذا لكان أخذ التصحيح من ما ذكره ثانيًا واضحًا أيضًا، فإن اختلافهما إنما هو بالتمثيل، والعجب من النووي في ما ذكره، بل كان الصواب حذف أحدهما أو التنبيه على ما نبه عليه الرافعي. قوله: ولو قال للمرأة يا زان أو يا زاني كان قذفًا على المشهور، ثم قال: وحمل الشافعي حذف الهاء على الترخيم، واعترض عليه بأن قول القائل: يا زان، حذف منه حرفان، والترخيم إنما يحذف فيه حرف واحد، وأجيب بأنه إنما لا يزاد على واحد إذا كان ما قبل الآخر صحيحًا، وأما حرف العلة فلا

اعتبار به، انتهى ملخصًا. والكلام [على] (¬1) هذه المسألة يتضح بما قاله النحاة فيها، وقد قالوا: إذا كان في الإسم تاء التأنيث فقال المبرد: لا يجوز ترخيمه إذا كان نكرة مقصورة نحو: ضاربة، وقاضية، والجمهور جوزوه مطلقًا. ثم إذا رخم بحذف تاء التأنيث جاز أن يرخم ثانيًا بحذف ما قبلهما إذا بقي بعد حذفهما على ثلاثة أحرف سواء كان المحذوف ثانيًا صحيحًا نحو: ضاربة، أو معتلًا نحو: قاضية وأرطأة، هذا مذهب سيبويه وبه ورد السماع، وذلك على تقدير أن التكلم نوى الترخيم أولًا، ثم نوى الترخيم ثانيا حال النطق بالكلمة. ومنع الجمهور هذا الحذف أي حذف الثاني، وتوسط شيخنا أبو حيان فأجازه، لكن على تقدير حذفهما معًا. وإذا تقرر ذلك علمت منه أمرين: [أحدهما: ] (¬2) فساد الاعتراض على ما قرره سيبويه، لاسيما أن ما ينطق به الشافعي يحتج به على جواز ذلك فكيف ما يصرح بحكمه؟ الأمر الثاني: فساد الجواب الذي نقله الرافعي فإنه إن أراد ما ذكره من الحذف لم يتقيد الجواب بكونه حرف علة، وإن أراد حذف الحرفين معًا كما في: منصور، ومفتاح، وجبريل، فله شروط منها: أن يكون الحرف المعتل ساكنًا كما نقلناه وهو في مثالنا متحرك. قوله: ولو قال زنيت في الجبل وصرح بالياء، أي: لا بالهمز، ففيه ثلاثة أوجه أيضًا حكاها صاحب الكتاب والشيخ أبو الفرج السرخسي وغيرهما. أصحها: أنه قذف. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والثاني: أنه ليس بقذف إلا أن يريده، لاحتمال أنه أراد الصعود وليّن الهمزة، ويروى هذا عن صاحب "التلخيص". والثالث: الفرق بين الجاهل باللغة والبصير بها. واعلم أن حكايته للوجه الثاني مخالفة لحكاية الغزالي فإنه قال في "الوجيز": ولو قال: زنيت في الجبل وصرح بالياء، ثم قال أردت: الرقي وتركت الهمز، قبل على وجه، ولم يقبل على وجه، ويفرق على وجه بين الجاهل والبصير باللغة. وذكر مثله في "البسيط" و"الوسيط"، وكذلك الإمام أيضًا. ووجه المخالفة أن لفظ الرافعي يدل على عدم الإيجاب إلا إذا أراد القذف، ولفظ الغزالي يدل على الإيجاب إلا إذا أراد [القذف، ولفظ الغزالي يدل على الإيجاب إلا إذا أراد] (¬1) عدمه، وحينئذ فيظهر أثر المخالفة في ما إذا لم يقصد شيئًا، فتعبير الرافعي يدل على عدم الإيجاب عند الغزالي، وليس كذلك، بل تعبيره وتعبير الإمام أيضًا يفيدان الوجوب كما ذكرناه. نعم الذي نقله فيه عن السرخسي مطابق فقد رأيته في "الأمالي" له كما نقله عنه هاهنا. قوله: من صرائح القذف أن يقول: زنى فرجك أو ذكرك، انتهى. أطلق المسألة هنا ومحلها إذا قاله للواضح، فإن قاله للخنثى فقال في "البيان": الذي يقتضيه المذهب أنه كإضافته إلى اليد حتى يكون كناية على الأصح، إلا أن يجمع بينهما فيكون صريحًا، والذي قاله واضح، وقد نقله عنه الرافعي في باب حد القذف وارتضاه، وذكره في "الروضة" هنا مستدركًا به على كلام الرافعي متوهمًا أنه لم يذكره في بابه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله من زوائده: ولو قال لإمرأة وطئك رجلان في حالة واحدة، قال صاحب "الحاوي": يُعزّر ولا حد لاستحالته وخروجه من القذف إلى الكذب الصريح فيعزر للأذى ولا يلاعن. انتهى كلامه. وما نقله عن الماوردي وأقره عليه مردود بل يجب الحد لأنه قد يطأها رجلان في حالة واحدة أحدهما في القبل والآخر في الدبر، فانتفى ما قاله من الإستحالة. نعم: إن صرح القاذف بمحل واحد فسلم. قوله: ولو استلحقه النافي ثم قال له قائل: لست ابن فلان فهو كما لو قاله لغير المنفي، والظاهر: أنه قذف على ما سبق، وقد يقال: إذا كان أحد التفاسير المقبولة أن الملاعن نفاه فالإستلحاق بعد النفي لا ينافي كونه نفاه فلا يبعد أن لا يجعل صريحًا ويقبل التفسير به. انتهى. استدرك عليه في "الروضة" فقال هذا الذي أورده الرافعي حسن من وجه، ضعيف من وجه، فحسنه: في قبول التفسير، وضعفه: في دعواه أنه ليس بصريح، والراجح فيه ما قاله صاحب "الحاوى" فقال: هو قذف عند الإطلاق فيحده من غير أن يسأله ما أراد، فإن ادعى احتمالًا ممكنا كقوله: لم يكن ابنه حين نفاه قبل قوله بيمينه. قوله: قال لقرشي لست من قريش، أو يا نبطي ونحوه فقد يريد القذف وقد يريد عدم الشبه في الخلق أو الخلق أو اللغة إلى آخره. أهمل قسمًا ثالثًا نبه عليه في أول الباب وهو ما إذا قال: لم أرد شيئًا فإنه لا يحد ولكن للخصم تحليفه. قوله: وإذا أولج في دبر الرجل، فنقل البغوي أنه تبطل حصانة الفاعل دون المفعول به لأن الإحصان لا يحصل بالتمكين في الدبر، فكذا لا تبطل به الحصانة، ورأى هو أن تبطل حصانتهما جميعًا لوجوب الحد عليهما. انتهى. قال في "الروضة": إبطال حصانتهما هو الراجح، وأي عفة وحرمة لمن

مكن من دبره مختارا عالمًا بالتحريم؟ قوله: القسم الثاني: الوطء الجاري في غير الملك كالوطء بالشبهة ووطئ جارية الابن، وفي النكاح الفاسد والنكاح بلا ولي ولا شهود، وفي الإحرام ونكاح المتعة والشغار ووطيء المكاتبة ووطيء الرجعية في العدة، ففي بطلان الحصانة بها وجهان: أحدهما: البطلان، ويحكى هذا عن اختيار أبي إسحاق، وذكر الروياني أنه أقرب. والثاني: لا يبطل، وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد وهو في وطء الشبهة أظهر، وقد رجحه فيه صاحب الكتاب. انتهى. والأصح أن الحصانة لا تبطل بشيء من ذلك، كذا صححه الرافعى في "الشرح الصغير" وعبر بالأصح، وفي "المحرر" أيضًا وعبر بالأظهر. واعلم أن قول الرافعي: وهو في وطء الشبهة أظهر معناه أن القول بعدم البطلان في وطء الشبهة أظهر من القول به في باقي الصور فافهمه، وليس المراد منه تصحيحه على خلاف باقي الصور فإنه خلاف مدلول اللفظ وخلاف ما في "الشرح الصغير" و"المحرر". قوله من زوائده: قد جمع إمام الحرمين هذا الخلاف المنتشر مختصرًا فقال: ينتظم منه ستة أوجه: أحدها: لا تسقط الحصانة إلا ما يوجب الحد. والثاني: يسقطهما هذا ووطيء ذوات المحارم بالملك، وهذا هو الأصح عند الرافعي في "المحرر"، وهو المختار، إلى آخره. وهذا الذي ذكره من سقوطها بشيئين فقط ليس كذلك، بل أهمل ثالثًا تقدم ذكره في التقسيم السابق وهو: وطء الزوجة في دبرها، فإن الأصح عنده وعند الرافعي سقوط الحصانة أيضًا به. قوله: الثالثة: إذا قذف زوجته أو غيرها وعجز عن البينة على زنا

المقذوف، فأراد أن يحلفه على أنه لم يزن ففي تمكينه منه قولان، ويقال وجهان: أحدهما: لا يحلف، لأن شريك بن السحماء الذي رميت به الملاعنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل فأنكر فلم يحلفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: نعم، وهو الموافق لجواب الأكثرين، قالوا: ولا تسمع الدعوى بالزنا والتحليف على نفيه إلا في هذه المسألة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد جزم في موضعين من كتاب الدعاوى بأن الخلاف وجهان على خلاف ما رجحه هاهنا. أحدهما: في أوائل الباب. والثاني: بعده في الكلام على الحالف، وتبعه في "الروضة" على هذا الاختلاف. الأمر الثاني: وقد نبه عليه في "الروضة" أن العجز عن البينة ليس بشرط بل متى طلب يمينه جاء الخلاف، وشريك بفتح الشين المعجمة، والسحماء بسين مفتوحة ثم حاء ساكنة مهملتين والألف الممدودة مأخوذة من السحمة بضم السين وهو السواد، والمذكر أسحم، والمؤنثة سحماء، وسحماء، أم شريك المذكور، ويقال: هذا اللفظ، وما يصرف منه للسواد أيضًا ولكن بالخاء المعجمة، والسحام سواد القدر خاصة. قوله في "الروضة": حد القذف وتعزيره حق آدمي يورث عنه ويسقط بعفوه. انتهى. وما ذكره في التعزير من سقوطه بالعفو لم يتعرض له الرافعي هاهنا، وهو مخالف لما ذكره في باب التعزير، فإنه صحيح هناك جواز إستيفاء السلطان له مع العفو.

الباب الثاني في قذف الأزواج

الباب الثاني: في قذف الأزواج قوله: وما لم يكن هناك ولد لا يجب على الزوج القذف، بل يجوز أن يستر عليها ويفارقها بغير طريق اللعان. انتهى كلامه. وهو يوهم إنتفاء الوجوب فقط مع أن الأصحاب قد قالوا بأن الأولى ألا يلاعن، وقد نبه عليه "النووى". قوله: فإن لم يستبرئ زوجته بحيضة أو استبرأها وأتت بالولد لما دون ستة أشهر من وقت الإستبراء فلا يحل له النفي ولا غيره بريبة يجدها في نفسه، وإن إستبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر ففيه وجوه جمعها الإمام. أحدها: أنه يباح له النفي، ولا أولى أن لا ينفي لأن الحامل قد ترى الدم. والثاني: إن رأى بعد الإستبراء مخيلة الزنا التي تصلته على القذف أو تيقن الزنا جاز النفي، بل وجب وإن لم ير شيئًا لم يجوز. والثالث: يجوز النفي سواء وجدت مخيلة وأمارة أو لم توجد، ولا يجب بحال لمكان التردد. والاحتمال الأول من هذه الوجوه هو المذكور في "التهذيب"، والراجح عند صاحب الكتاب لأنه فصل بين المخيلة وغيرها، وكلام أصحابنا العراقيين يوافقه أو يقرب منه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذه الأوجه متداخلة فإن الثالث هو الأول، فرجعت إلى وجهين على مقتضى ما ذكره الرافعي. واعلم أن الإمام قد قال: فيه وجهان صريحان وفي كلام الأئمة ما يدل

فحواه على ثالث. أحدهما: يجوز مطلقًا ولا يجب. والثاني: قاله العراقيون: [إن لم ير مخيلة يجب ولا يجوز] (¬1) وإن رآها وجب. ثم قال ما نصه: وإيجاب النفي قد لا يتجه مع إمكان العلوق من الزوج، وهذا هو المسلك الثالث، هذه عبارته. فعلمنا أن الثالث الذي إستخرجه من فحوى كلامهم أنه إن لم ير مخيلة فلا يجوز، وإن رآها جاز ولا يجب، فوافق العراقيين في قسم دون قسم، ولا شك أن في كلام الإمام هنا غموضًا، ولأجل ذلك التبس الأمر فيه على الغزالي في "البسيط" فمن بعده كالرافعي والنووي وابن الرفعة في "الكفاية". نعم تفطن في "المطلب" إلى ما يداخلها، ولم يتفطن إلى الثالث الذي خفي إستخراجه على هؤلاء الأئمة ووفقنا الله تعالى له فلله الحمد على ذلك. الأمر الثاني: أن ما عزاه إلى صاحب الكتاب والعراقيين من رجحان الأول غلط فإنهم إنما ذهبوا إلى الثاني، وتعبير الرافعي يشير إليه، وكأنه سقط من كلام الرافعي لفظة واحدة، وهي الثاني، وأصله والراجح عند صاحب الكتاب هو الثاني، لأن ذلك هو الذي ينتظم معه ما ذكره بعد ذلك ولأن الغزالي في "البسيط" حكى عن العراقيين الوجه الثاني لا الأول، وقد وقع هذان الأمران في "الشرح الصغير" أيضًا على كيفية هي أشد في الإعتراض في "الكبير" فإنه قال فيه ثلاثة أوجه: وحكاها، ثم قال ما نصه: والإحتمال الأول أظهر، وإلى ترجيحه ذهب في الكتاب لأنه جوز النفي إذا ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

رأى مخيلة إلى آخر ما ذكره والتأويل المتقدم في "الكبير" وهو سقوط لفظة الثاني لا يأتي هنا، وهو يبين أن اللفظة سقطت من خط الرافعي نفسه فلما لخص "الشرح الصغير" من "الكبير" مشى عليه ولم يتفطن لما فيه وتصرف في العبارة، وعبر بعبارة لا تحتمل ذلك التأويل. الأمر الثالث: أن النووي في "الروضة" قد وقع في الإعتراض الأول وسلم من الثاني فإنه أصلحه باجتهاده فإنه حكى الأوجه كما حكاها الرافعي، ثم قال عقب ذلك ما نصه: وأصح هذه الأوجه الثاني صححه الغزالي، وبه قطع العراقيون وبالأول قطع البغوي. قلت: جعل الرافعي الأوجه في ما إذا أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر من وقت الإستبراء وكذا فعل القاضي الحسين والإمام والبغوي والمتولي، والصحيح ما قاله المحاملي، وصاحب "المهذب" و"العدة" وآخرون أن الاعتبار في ستة أشهر من حين يرمى الزاني بها، لأن مستند اللعان زناه فإذا ولدت لدون ستة أشهر من حين زناه ولأكثر من سنة من الاستبراء أثبتنا أنه ليس من ذلك الزنا فيصير وجوده كعدمه فلا يجوز النفي، وهذا واضح والله أعلم، هذا كلام "الروضة" وكلامه يوهم أن القاضي والبغوي حاكيان للأوجه، وليس كذلك بل هما جازمان. الأمر الرابع: أن الغزالي في "الوجيز" قد جزم بالجواز إذا رأى مخيلة وصحح المنع إذا لم يرها وهو غير الأوجه الثلاثة. قوله: ولو كان الزوج يطأ ويعزل لم يكن له النفي في الأصح، وفي المجامعة في ما دون الفرج وجهان أظهرهما: أنها لا تمنع. ثم قال: وفي إتيانه في غير المأتي وجهان يقربان من هذين الوجهين. انتهى. وهذه المسألة الأخيرة وهي الإتيان في غير المأتي -يعني الدبر- قد

اختلف فيها كلامه، وكذلك كلام "الروضة" أيضًا فراجع المسألة من آخر الاستبراء. قوله: وإن أتت بولد أسود والزوجان أبيضان أو بالعكس فإن لم ينضم إليه مخيلة الزنا لم يجز النفي، وإن انضمت أو كان يتهمها برجل فأتت بولد على لون ذلك الرجل فوجهان: أظهرهما عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي حامد: أنه لا يجوز لأن العرق نزاع. وأرجحهما عند البندنيجي والقاضي الروياني وغيرهما: الجواز. انتهى ملخصًا. والراجح المنع فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أولى الوجهين، والنووي في زوائده: إنه أصحهما. قوله: الثانية: إذا أتت بولد يحتمل أن يكون من الزوج لكونه رأها تزني، واحتمل أن يكون من الزنا أيضًا فلا يباح له نفي الولد، وهل له القذف واللعان؟ حكى الإمام عن العراقيين والقاضي أنه ليس له ذلك قال: والقياس جوازه فحصل وجهان، والمشهور المنع. انتهى ملخصًا. وإطلاق النقل عن العراقيين مردود فقد قال في "المهذب": إن غلب على ظنه أنه ليس منه بأن علم أنه كان يعزل عنها أو رأى فيه شبه الزاني لزمه نفيه باللعان، وإن لم يغلب على ظنه لم ينفه. وقال صاحب "الحاوي": إذا وطئها ولم يستبرئها ورأها تزني فهو بالخيار بين اللعان بعد القذف أو الإمساك، فأما نفي الولد فإن غلب على ظنه أنه ليس منه نفاه، وإن غلب على ظنه أنه منه لم يجز نفيه، وإن لم يظن أحد الأمرين جاز أن يغلب حكم الشبه. قال في "الروضة" من زوائده: وهذا هو القياس الجاري على قاعدة اللعان.

الباب الثالث: في ثمرة اللعان

الباب الثالث: في ثمرة اللعان قوله: وثمرته نفي النسب وقطع النكاح وتحريمها مؤبدًا ودفع المحذور الذي يلحقه بالقذف وإثبات حد الزنا عليها. انتهى ملخصًا. وليست الثمرة منحصرة في ما ذكره بل من ثمراته أيضًا سقوط حد قذف الزاني بها عن الزوج إن سماه في لعانه وكذا إن لم يسمه على خلاف فيه. ومنها: سقوط حصانتها في حق الزوج إن لم يلاعن كما سيأتي. ومنها: تشطير الصداق قبل الدخول. ومنها: استباحة نكاح أختها وأربع سواها. قوله: وإن قذف الكبيرة بزنا ثبت بالبينة أو بالإقرار عزر ولم يلاعن في أصح القولين، ثم قال: والتعزير الواجب في هذه الصورة إنما يستوفي بطلبها، وحكى الإمام وجهًا أنه يستوفيه السلطان على سبيل الإيالة، والمذهب الأول. انتهى. وما ذكره هنا من توقف التعزير على طلب صاحبه تابعه عليه في "الروضة"، لكنهما قد ذكرا في آخر باب التعزير أن مستحق التعزير إذا عفي عنه جاز للإمام إقامته في أصح الوجهين بخلاف العفو عن الحد فإن الإمام لا يعزر عليه في الأصح، لأن التعزير يتعلق أصله بنظر الإمام فلم يؤثر فيه إسقاط غيره بخلاف الحدود فإنها مقدرة لا نظر للإمام فيها، فإذا ثبت على ما قالاه هناك جواز إقامة الإمام له بعد عفو صاحبه فكيف تتوقف إقامته على طلبه؟ وذكر أيضًا هناك ما حاصله أن الراجح عدم وجوب التعزير إذا طلبه مستحقه، ورأى الإمام أن المصلحة في العفو، وقول الرافعي على سبيل الإيالة هو بكسر الهمزة، وبالياء بنقطتين من تحت وهو السياسة. قوله: ويعتبر في اللعان أهلية اليمين وذلك بالتكليف، لأن المعروف عند

أصحابنا أن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة، وقيل هو يمين فيها ثبوت الشهادة. انتهى. واعلم أنه سيأتي في كتاب الأيمان أن لفظ أشهد كناية على الصحيح لابد فيها من النية، وحينئذ فإن لم تشترط النية هاهنا كان مخالفًا لما قرروه في بابه، وإن شرطناها فالقاضي لا يطلع عليها، وقد قالوا: إن ما يشترط فيه الشهود فلا مدخل فيه للكناية لأن الشهود لا يطلعون على النية، وإذا امتنع لهذا المعنى فالمتوقف على القاضي أولى ومقتضى كلامهم هنا هو الأول ولهذا لم يتعرضوا إلى إرشاد القاضي الحالف إلى النية. نعم أشار الرافعي في كتاب الأيمان إلى طرف من المسألة، فقال: لو قال الملاعن: أشهد بالله وكان كاذبًا ففي وجوب الكفارة [وجهان: أصحهما: نعم، والخلاف شبيه بالخلاف في وجوب الكفارة] (¬1) على المؤلي إذا وطيء. قال الإمام: والصورة مفروضة في ما إذا زعم أنه قصد اليمين أو أطلق وجعلنا مطلقه يمينًا، قال: ويمكن أن يجئ الخلاف، وإن قصد غير اليمين، لأن ألفاظ اللعان مفروضة عليه في مجلس الحكم، ولا أثر للتورية في ذلك المجلس. هذا كلامه، والذي ذكره أخرا مردود لأن التورية هو صرف اللفظ عن مقتضاه وإذا كان مطلقة لا يكون يمينًا لم يكن عدم النية تورية لاسيما نية العدم. واعلم أن الرافعي قد أهمل قيد الاختيار ولابد منه فإن لعان المكره باطل. قوله: الثانية: لو بانت زوجته أو أبانها بخلع أو ثلاث طلقات أو فسخ، أو كانت رجعية فبانت بانقضاء العدة، ثم قذفها إما بزنا مطلق أو بزنا مضاف ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إلى حالة النكاح فينظر إن كان هناك ولد يلحقه فله اللعان للحاجة. ثم قال: ولو كان هناك فهل له اللعان قبل الإنفصال؟ روى المزني -رحمه الله- في "المختصر": إن له ذلك، وفي "الجامع الكبير": إنه يؤخره إلى الانفصال، وللأصحاب طريقان: أصحهما: أن فيه قولين: أحدهما: أنه لا يلاعن قبل الإنفصال لأن هذا اللعان ينفي الولد فيعتبر تحققه فقد يكون هذا الذي يجده ريحًا وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد وجماعة. والثاني: له ذلك كما في صلب النكاح، وهذا أظهر عند أكثرهم ومنهم صاحب "التهذيب" و"المهذب". والطريق الثاني وبه قال أبو إسحاق: القطع بالمنع. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من ترجيح اللعان في الحمل قد خالفه في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: ولو كان هناك حمل فأصح القولين أنه لا يلاعن قبل الانفصال لأن هذا اللعان كنفي الولد فيعتبر تحققه، هذا لفظه. وكلام "المحرر" يشعر به أيضًا لأنه شرط وجود ولد. قوله: الثالثة: قذف زوجته بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجية، فإن لم يكن هناك ولد لم يلاعن، وإن كان فوجهان: أحدهما: لا يلاعن، وبه قال أبو إسحاق، وهو الأرجح عند الشيخ أبي حامد، وجماعة لأنه مقصر [بذكر] (¬1) التاريخ. والثاني: نعم، وبه قال أبو علي ابن أبي هريرة، وأبو علي الطبري، وهو أصح عند القاضي أبي الطيب، ومال الإمام والروياني وغيرهما إلى ترجيحه. انتهى ملخصًا. وقد اختلف كلام الرافعي في هذه المسألة، فصحح في "المحرر" أنه لا ¬

_ (¬1) في ج: بذلك.

يلاعن فقال: ولا لعان إذا قذف زوجته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح إن لم يكن ولد، وكذا إن كان في أظهر الوجهين، وذكر عكسه في "الشرح الصغير" فقال: وأظهرهما عند أكثرهم: أن له اللعان. هذا لفظه، ولم يذكر ترجيحا غيره، ونقل في "الروضة" من زوائده ترجيح "المحرر"، ثم قال: وهو قوي. وقد علمت أن الفتوى على خلاف المذكور فيها، وفي "المحرر"، لكن الأكثرون، كما صرح به الرافعي على خلافه فتفطن له. قوله: فرع: قذف زوجته وهي بكر، ثم طلقها قبل اللعان فتزوجت غيره ووطئها وصارت محصنة، فقذفها الثاني ثم طالبت فلاعن كل واحد منهما وامتنعت هي من اللعان فقد ثبت عليها بلعان الأول زنى بكر وبلعان الثاني زنى محصن، وفي ما عليها وجهان: أحدهما: الرجم فقط لأن شأن الحدود التداخل. والثاني: وبه قال ابن الحداد أنها تجلد ثم رجم. قال الشيخ أبو علي: وهو ظاهر المذهب. انتهى. والذي رجحه الشيخ أبو علي قد صححه النووي في أصل "الروضة" ولم يصحح الرافعي شيئًا من الوجهين في كتاب الحدود. قوله: ولو قال لها: وطئت بشبهة وهناك ولد فمنهم من أطلق في جواز اللعان وجهين، وقال الأكثرون: إن لم يعين الواطيء بالشبه أو عينه فلم يصدقه فالولد ملحق بالنكاح وله نفيه باللعان، وإن صدقه وادعى الولد عرض على القائف فإن ألحقه بالواطيء فلا لعان، وإن ألحقه بالزوج فلا لعان أيضًا إذا كان يمكن أن لا يلحقه القائف به، واللعان إنما شرع حيث لا طريق سواه، فإن لم يكن قائف ترك حتى يبلغ الصبي فينتسب، لكن لو انتسب إلى الزوج نفاه، إذ لا طريق الآن سواه.

ولقائل أن يقول: إن كان النظر إلى آخر الأمر، ووقت انقطاع الطمع عن انتفاء النسب بطريق آخر فهذا المعنى حاصل في ما إذا ألحقه القائف بالزوج فليجر اللعان، وإن كان النظر إلى الإبتداء، وتوقع الانتفاء بطريق آخر، فهذا المعنى حاصل فيما إذا توقفنا إلى بلوغه وانتسابه، فليمتنع اللعان إذا انتسب إلى الزوج. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن حاصله الجزم بأن الولد يعرض على القائف إذا اتفق الزوجان على أن فلانًا وطئها بشبهة، وأن الولد منه، ووافقهما الواطيء على ذلك، وهذا الذي ذكره من العرض عليها عند اتفاقهم على ذلك، قد خالفه في باب دعوى النسب وهو قبل كتاب العتق فذكر أن الاتفاق لا يكفي، بل لابد من [البينة] (¬1) على الوطء، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أن هذا الإشكال الذي ذكره الرافعي على التفريق بين القافة والانتساب غير وارد على هذه المسألة في الحقيقة فإنه إنما أورده بناء على التعليل الذي ذكره هو، وللتفريق معنى آخر غير هذا في غاية الظهور والجودة لا يرد عليه هذا، وهو أن القافة كالبينة، فلذلك قلنا: إذا ألحقت الولد بالزوج ليس له أن يلاعن بخلاف الإنتساب، فظهر أن التفريق حق لا إشكال فيه، فلو علل الرافعي بهذا لم يرد عليه شيء. وقد جزم ابن الرفعة بأن للزوج أن يلاعن إذا ألحقت القافة الولد به علي العكس مما جزم به الرافعي، ولم يحك فيه خلافًا أصلًا، وهو غريب، وكأنه لم ينظر الرافعي في هذا الموضع. نعم جزم الروياني في "البحر": بأنه يلاعن موافقًا لما قاله. ¬

_ (¬1) في جـ: التنبيه.

قوله: ولو اقتصر على قوله ليس هذا الولد مني، فعن صاحب "التقريب" حكاية تردد في أنه هل يلاعن؟ والذي أجاب به المعظم: أنه لا يلتفت إلى ذلك، ويلحق الولد بالفراش إلا أن يستند التفريق إلى سبب معين ويلاعن. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من إشتراط بيان سبب النفي، ذكر بعد ذلك في الركن الرابع ما يعضده أيضًا فقال: وإذا كان هناك ولد فعليه ذكره في الكلمات الخمس فيقول: وأنه من الزنا وليس مني، ثم قال: فإن اقتصر على أنه ليس مني فالمشهور: أنه لا يكفي لاحتمال أنه يراد له عدم المشابهة خلقًا أو خلقًا وفيه وجه. انتهى كلامه. وقد ذكر موضعين يخالفان هذين الموضعين: أحدهما: قبل هذا بنحو كراس، وهو في أوائل الشرط الثاني من الركن الثالث، فقال: الثانية إذا وطيء امرأة في نكاح فاسد أو بشبهة، فإن ظنها زوجته أو أمته ثم قذفها وأراد اللعان، فإن كان هناك ولد منفصل فله اللعان، وحينئذ فينتفي به النسب ويسقط به أيضًا حد القذف تبعًا، وفي "أمالي" السرخسي وجه في نظير المسألة: أنه لا يسقط لعدم الزوجية وإنتفاء الضرورة. ثم قال ما نصه: وكان يمكنه أن يقتصر على أن الولد ليس مني ولا يقذفها. انتهى. وهو صريح في عكس المتقدم، وذكر مثله أيضًا قبل ذلك في أوائل الباب، فقال متعقبًا لكلام الغزالي أشار بهذه اللفظة إلى أنه لو نفى الولد ولاعن حكم بنفوذه في الظاهر، ولا يكلف بيان السبب الذي بنى عليه النفي، لكن يجب عليه في ما بينه وبين الله تعالى رعاية الأسباب وبناء النفي على ما يجوز البناء عليه. انتهى كلامه.

ووقعت هذه المواضع أيضًا في "الروضة" وأفرد الأخير بفرع ولم يعزه إلى الغزالي. والمفتى به من ذلك هو: عدم الجواز، فقد نص عليه الشافعي في "الأم" في أوائل كتاب اللعان، وقال ما نصه: ولو قال رجل لامرأته: وقد ولدت هذا الولد: ليس بإبني، قيل له: ما أردت؟ فإن قال: زنت به لاعن، أو حُد إذا طلبت ذلك، فإذا لاعن نفى عنه الحد، وإذا سكت لم ينتف عنه ولم يلاعن، وإن طلبت الحد حلف ما أراد قذفها، وإن حلف بريء وإن نكل حد أو لاعن، وذلك أنه يقال: قد تستدخل المرأة ماء الرجل فتحبل، فلذلك لم نجعله قذفًا ولا تلاعن بينهما حتى يقذفها بالزنا فيحد أو يلتعن لأنه الموضع الذي جعل الله فيه اللعان لا غير. انتهى لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته. واستفدنا منه أيضًا جواز دعواها إرادة القذف وحلفها عليه عند نكوله. فإن قلت: إذا علم الزوج أن الولد الذي ولد على فراشه ليس منه ولم يعلم هل هو من زنا أو من وطء شبهة؟ فلا يقبل قوله: إنه ليس مني، لأنه قد تقرر أن الجمهور والنص على اشتراطه بيان السبب، ولا سبيل إلى رميها بالزنا لأنه لا يعلم ضروره منها، وكذلك وطء الشبهة، وحينئذ فكيف السبيل إلي نفيه؟ قلت: اعتراض ظاهر، ولم يتعرض له الرافعي ولا النووي، وطريق الجواب عنه أن يقال: ينسبه إلى وطء غير حلال فإنه إن كان من زنا فدخوله في كلامه واضح، وإن كان من وطء شبهة فيدخل أيضًا لأنه لا يوصف بحل ولا حرمة على الصحيح، وهذا الجواب إستفدته من كلام الإمام في "النهاية" فإنه قال: فصل: اللعان لا يجري إلا بعد أن تنسب المرأة إلى وطء محرم في النكاح، وإن أوجبنا قلنا: إلى وطء لا يحكم بتحليله حتى لا يمنع وطء الشبهة عن الدخول تحت موجب الكلام فإذا أتت المرأة بولد في النكاح لمدة يحتمل أن يكون العلوق بها في النكاح

وثبتت الولادة بلا نزاع فأراد الرجل أن ينفيه، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يملك نفيه ما لم ينسبه إلى وطء غير حلال. هذا كلامه. قوله: إحداهما: إذا قذف زوجته برجل معين، فإن ذكره في اللعان سقط حده وإن أغفله فقولان: أصحهما على ما ذكره الروياني: أنه لا يسقط. انتهى ملخصًا. والذي صححه الروياني هو الصحيح، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة" وعبرا جميعًا بالأصح. قوله: واستدل بقصة العسيف إلى آخره. وقد ذكر في آخر الحديث من أن بعث أنيس إنما كان لأجل أن يخبرها بأن الرجل قذفها، لا للفحص عن زناها، وقد اختلف فيه كلامه، فقال في الوكالة: إنه لاستيفاء الحد منها بالوكالة، وقال في أخر باب القضاء على الغائب: إنه لأجل سماع الدعوى على المخدرة، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. والعسيف: بعين مفتوحة وسين مكسورة مهملتين، ثم ياء بنقطتين من تحت ومعناه: الأجير، وقد فسره الرافعي بذلك. قوله: ولو قال لزوجته: زنيت وأنت مجنونة أو مشركة أو أمة، ولم يعلم حالها، فالقول قولها في الأظهر، ثم قال: ويجيء القولان في ما لو قال: أنت أمة في الحال فقالت: بل حرة، ولا يجيئان فيما لو قال: أنت كافرة في الحال فقالت: بل مسلمة، لأنها إذا قالت أنا مسلمة حكم بإسلامها. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما جزم به من الحكم بالإسلام إذا اعترف الشخص بكونه مسلما قد ذكر في كتاب الردة ما يخالفه، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء

الله تعالى. الأمر الثاني: أن الحكم بإسلامها الآن كيف يدفع وجوب الحد لأن الإسلام وإن إستفدناه بقولها: إني مسلمة، فذلك متأخر عن التنازع، والتنازع متأخر عن القذف والإسلام الطارئ، لا ينعطف حكمه علي الماضي؟ فإذا إنما حكمنا به من حين الاعتراف، فأما قبل ذلك فعلى قياس سائر المجهولين. الأمر الثالث: أن الشافعي قد نص في "الأم" في مسألة الإسلام على قبول قولها فقال ما نصه: وإذا قذف الرجل المرأة فقال: أنت أمة أو كافرة فعليها البينة أنها حرة مسلمة والقول قوله مع يمينه إن لم تكن بينة، لأنه يوجد منه الحد. انتهى لفظه بحروفه من "الأم" نقلته. ذكر ذلك في كتاب اللعان الذي بعد باب الشك في الطلاق في آخر باب الوقت في نفي الولد. قوله: وإذا كان هناك ولد ينفيه تعرض له في الكلمات الخمس فيقول: وأن الولد الذي ولدتيه أو هذا الولد -إن كان حاضر- من الزنا وليس مني، فلو قال: هو من زنا واقتصر عليه، فوجهان: أجاب كثيرون بأنه لا يكفي ولا ينتفي به الولد لأنه قد يعتقد الوطء بالشبهة أو في النكاح الفاسد زنا. وأصحهما علي ما ذكر في "التهذيب": الاكتفاء حملًا للفظ على حقيقته. انتهى. وإيراده يشعر برجحان الأول من جهة النقل لكنه صحح في "الشرح الصغير" أنه يكفي وعبر بالأصح، وصححه النووي أيضًا في "الروضة"، ولم ينبه على أنه من زياداته، بل [أدخله] في كلام الرافعي فتفطن له فإنه غريب.

قوله: في أصل "الروضة": فرع: يشترط في لعان الرجل والمرأة أن يأمر الحاكم به فيقول للملاعن: قل: أشهد بالله أني لمن الصادقين إلى أخرها، انتهى. هذا الكلام ليس فيه تصريح بوجوب تلقين كلمات اللعان كلها، بل يوهم الإكتفاء بتلقين أوله وليس كذلك بل صرح الرافعي بوجوب تلقين الجميع. قوله: ثم المفهوم من كلام الأكثرين، وفي "الشامل" وغيره التصريح به أنه: يصح لعان الأخرس بالإشارة وحدها وبالكتابة وحدها، وذكر المتولي أنه إذا لاعن بالإشارة أشار بكلمة الشهادة أربع مرات، ثم بكلمة اللعن ويشير إلى كلمة الشهادة أربع مرات، ولا يتكلف أن يكتب أربع مرات. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وهو يشعر بأن المتولي قائل بالصحة منه بالإشارة مع قدرته على الكتابة، وليس كذلك، فقد قال -أعني الرافعي- في كتاب الطلاق: وقال المتولي: إنما تعتبر إشارته إذا لم يقدر على الكتابة المفهمة، فإن قدر فالكتابة هي المعتبرة لأنها أضبط، وينبغي أن يكتب مع ذلك: إني قصدت، هذا كلامه، ثم حكى بعد ذلك وجهًا آخر عن حكاية الحناطي والقاضي أبي الطيب في "المجرد" أن الكتابة وحدها لا تكفي، بل لابد معها من الإشارة. قوله: في المسألة: وأما قول الغزالي في الوجيز: عليه أن يكتب مع الإشارة أو [يورد] اللفظ عليه ناطق فيشير بالإجابة فلم يقله أحد من الأصحاب وإنما قال الإمام: لو قال به قائل لكان قريبًا، وحكاه في "البسيط" [عن] بعض الأصحاب، ولا يعرف عن غيره، انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من كونه قد ذكر ذلك بحثًا فليس كذلك أيضًا، فإن الذي ذكره الإمام ما نصه: ولو كان في الأصحاب من اشترط الكتابة إن كان

يحسنها أو يشترط من ناطق أن ينطق بالصيغة ويشير إليه بها، ويقول: تشهد هكذا؟ فهذا يقرب بعض القرب هذا [كلامه]، فاكتفى بالكتابة، ولم يشترط الإشارة معها. قوله: ولو لاعن الأخرس بالإشارة ثم عاد نطقه وقال: لم أرد اللعان بإشارتي، قبل قوله في ما عليه فيلحقه النسب والحد، ولا يقبل في ماله، فلا ترتفع الفرقة والتحريم المؤبد، ولو قال: لم أرد القذف أصلًا لم يقبل. انتهى. والذي ذكره من وجوب الحد تابعه عليه في "الروضة" وهو خلاف ما نص عليه الشافعي في "الأم" في باب من أبواب اللعان مذكور بعد باب لاشك في لا طلاق، فإنه قال في ما إذا ادعى أنه لم يقذف، ولم يلتعن: إنه لا يحد ولا ترد إليه. قوله: فمنها التغليظ بالزمان وذلك بالتأخير إلى ما بعد صلاة العصر فإن لم يكن طلب حاث فليؤخر إلى يوم الجمعة، ذكره القفال وغيره، ووجه بما اشتهر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، قال كعب الأحبار: هي الساعة بعد العصر، واعترض عليه بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصلي، والصلاة بعد صلاة العصر مكروهة، وأجاب بأن العبد في الصلاة مادام ينتظر الصلاة. انتهى كلامه. والصواب في تفسير ساعة الإجابة ما فسرها به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حين يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضي الصلاة، كذا رواه مسلم في صحيحه من رواية أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-. قوله: أحدها: من لا ينتحل دينًا كالزنادقة والدهرية لا تغلظ عليهم بالمكان وغيره عند الأكثرين. انتهى. وما ذكره في تفسير الزنديق قد خالفه في باب صفة الأئمة، وكتاب الفرائض وقتل المرتد، فذكر في الجميع أنه الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، والصواب هو المذكور هنا.

قوله: الثانية: الحائض تلاعن عند باب المسجد ويخرج إليها الحاكم أو يبعث إليها نائبًا والمشرك والمشركة يمكنان من المكث في المسجد، واللعان فيه في حال الجنابة والحيض ولا يؤاخذان بتفاصيل الأحكام المتعلقة بحق الله تعالى، هذا هو الظاهر وفيه وجه مذكور في آخر الباب الخامس من كتاب الصلاة، انتهى كلامه. وما ذكره من تمكين الحائض المشركة من المكث في المسجد على الظاهر وأن فيه وجهًا سبق هناك عجيب، فإن المجزوم به هناك هو: المنع، وتخصيص الخلاف بالجنب يوهم هنا أن الخلاف السابق فيها معًا وليس كذلك، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: فعن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من حلف على منبري على يمين آثمة ولو شراك وجبت له النار، انتهى. الشراك: بكسر الشين المعجمة هو: السير الذي في أعلى النعل تدخل فيه الرجل للاستقرار. قوله: ومنها: إذا فرغ من الكلمات الأربع أمر القاضي رجلًا أن يضع يده على فيه فلعله ينزجر، انتهي. واعلم أن الغزالي في "الوجيز" قد ذكر أن الواضع يده يأتي من ورائه فقال: وأن يأتيه رجل من ورائه عند الخامسة فيضع يده على فيه، هذا لفظه، ونسيه الرافعي، فلم يتعرض له في الشرحين معًا، وكأنها سقطت من مسودة "الكبير" نسيانًا أو لغلط في نسخة "الوجيز" المشروح، وقد ذكره الغزالي أيضًا في "الوسيط" و"البسيط" وإمام الحرمين في "النهاية". قوله: ولو أتت زوجته بولد فنفاه بعد الولادة باللعان، ثم ولدت آخر فله حالان: أحدهما: أن يكون بينهما دون ستة أشهر منهما حمل واحد، فإن نفى

الثاني بلعان آخر انتفى الأول، وإن لم ينف الثاني بل استلحقه أو سكت عن نفيه مع إمكان النفي لحقاه جميعًا، ولكن لا يلزمه الحد عند السكوت لأنه لم يناقض كلامه الأول، واللحوق حكم الشرع، وهذا بخلاف ما لو حصل اللعان بعد البينونة، ثم أتت بولد آخر قبل ستة أشهر فسكت عن نفيه لزمه الحد، كما لو استلحقه. والفرق أن اللعان بعد [البينونة] لا يكون إلا لنفي النسب، فإذا ألحق النسب لم يبق للعان حكم، فحذف اللعان في صلب النكاح يتعلق به مقاصد من درء الحد، ووقوع الفرقة ونفي النسب، فإذا ألحق النسب نفى سائر المقاصد التي تفرد باللعان، انتهى كلامه. وما ذكره من كون اللعان بعد البينونة لا حكم له إلا قطع النسب ليس كذلك، بل له فائدة أخرى وهو تأبد التحريم على أظهر الوجهين. قوله: في المسألة: الحال الثاني: أن يكون بينهما ستة أشهر فصاعدًا، فالثاني حمل آخر، [فإن نفاه] باللعان انتفى أيضًا، وإن استلحقه أو سكت عن نفيه لحقه، ولا يمنع من ذلك كونها بانت بعد اللعان لاحتمال أنه وطئها بعد وضع الأول فعلقت قبل اللعان فتكون حاملًا حال البينونة فتصير كالمطلقة ثلاثًا إذا ولدت لدون أربعة سنين من وقت الطلاق يثبت نسبه للمطلق لاحتمال كونها حاملًا وقت الطلاق فلا يلزمه من لحوق الثاني لحوق الأول، وهذا الذي ذكرناه من لحوق الثاني [إذا] لم ينفه هو الصواب، وبه قطع الأصحاب وقال في "المهذب": ينتفي الثاني بلا لعان لحدوثه بعد الفراش، وهذا ليس وجهًا آخر بل الأشبه أنه سهو والتوجيه الذي ذكره ممنوع، انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من تغليط "المهذب" في هذه المقالة قد تابعه عليه النووي في "الروضة" وكذلك ابن الرفعة في "الكفاية" فإنه نقل تغليط الرافعي له ووافقه عليه وليس الأمر كما زعموه، فقد جزم بذلك شيخه

القاضي أبو الطيب في "تعليقته" ثم ذكر ما استند إليه الرافعي من القياس على المطلقة ثلاثًا فإنه تكلم أولًا على ما إذا أتت امرأته بولد فنفاه باللعان، ثم أتت بعده بولد آخر لدون ستة أشهر، ثم تكلم بعد ذلك على ما إذا أتت به لأكثر من ذلك وهي المسألة التي أجاب فيها صاحب "المهذب" بما تقدم فقال -أعني القاضي- ما نصه: فأما إن أتت به لستة أشهر فصاعدًا فإن الولد الثاني ينتفي عنه بغير لعان هذا لفظه بحروفه، ثم استدل عليه فقال: لأنه لا يجوز أن يكون منه على وجه يلحقه، فإنه حمل حادث، فإما أن يكون [الزوج قد وطئها بعد فرقة اللعان فيكون زنا فلا يلحقه، وإما أن يكون] (¬1) من غيره فلا يلحق به. فإن قيل: هلا [قلتم] إنه يلحق به كما قلتم أن رجلًا لو طلق امرأته ثلاثًا واعتدت بثلاثة أقراء ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدًا، ولدون أربع سنين إن ولدها يلحقه؟ قلنا: الولد هناك إنما لحقه لجواز أن تكون قد حملت منه قبل الطلاق ويكون الدم الذي رأته حيضًا: على الجديد، ودم فساد: على القديم، وليس كذلك في الطلاق لأنا تحققنا أن الولد هناك حادث بعد الطلاق لأن الله تعالى قد أجرى العادة بأن لا يتوسط بين الوضعين مدة حمل، فوزان مسألتنا من مسألة الطلاق أن تطلق امرأته ثلاثًا فتأتي بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق فلا يلحقه لأنه لا يمكن أن يكون منه، هذا كلام القاضي أبي الطيب ذكره في أثناء أبواب اللعان في باب ما يكون قذفًا وما لا يكون بعد ورقتين من أوله فأخذ الشيخ كلام شيخه، وجزم به في "المهذب" والعجب من موافقة ابن الرفعة على الإنكار مع كثيرة نقله عن التعليقة المذكورة. تم الجزء السابع بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء الثَّامِن مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (8)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب "العدد"

كتاب "العدد" أما عدة الطلاق ففيها بابان الباب الأول في "كيفية عدة الطلاق" قوله: في كيفية وقوع اسم القروء على الطهر والحيض وجهان: أحدهما: أنه حقيقة في الطهر، وأصحهما: أنه حقيقة فيهما والوجهان مبنيان على أنه يعتبر في اللفظ خصوص المعنيين، وأنه ليس عبارة عن المعنى المشترك بينهما، وإذا كان وقوعه عليهما كوقوع الحيوان على الإنسان وغيره لم يكن حقيقة في أحدهما، مجازًا في الآخر ولا مشتركًا بينهما، ثم قال: هذا ما يتعلق باللفظ في اللغة، وأما في العدة فالمراد بالأقراء عندنا: الأطهار، ويروى أن الشافعي - رضي الله عنه -، وأبا عبيد القاسم بن سلام تناظرا في القروء وكان الشافعي [يرى] (¬1) أنه الحيض، وأبو عبيد أنه الطهر، فلم يزل كل واحد منهما يقرر قوله حتى تفرقا وانتحل كل واحد منهما مذهب صاحبه، وتأثر بما أورده من الشواهد، وهذه الحكاية تقتضي أن يكون للشافعي قول قديم أو حديث يوافق مذهب أبى حنيفة في أنه الحيض. انتهى ملخصًا. وهذا القول المذكور في آخر كلام الرافعي لم يتعرض له في "الروضة"، وأبو عبيد المذكور ليس في آخره تاء التأنيث بخلاف أبى عبيدة معمر بن المثنى، توفي الأول مجاورًا بمكة شرفها الله تعالى سنة أربع وعشرين ومائتين، وعمره سبع وستون سنة، وأما أبو عبيدة بالتاء توفي سنة عشر ومائتين وقد قارب المائة وهو شيخ الأول. قوله: ثم الطهر المفسر به القروء هل هو المحتوش بدمين أم مجرد الانتقال إلى الحيض؟ ¬

_ (¬1) زيادة ليست في الأصل.

إلى آخره. هذه مسألة قد اضطرب فيها ترجيح النووي وقد تقدم إيضاحه مع فوائد أخرى في الباب الأول من أبواب الطلاق. قوله: وإن أعتقت الأمة المطلقة في العدة، فإن كانت رجعية فالقول الجيد وأحد قولي القديم أنه يجب عليها تكميل عدة حرة، وإن كانت بائنة فقولان، القديم وأحد قولي الجديد أنها تقتصر على عدة أمة وهو أصح في ما ذكره صاحب "التهذيب" وجماعة والثاني: من قولي الجديد: تكمل عدة الحرائر واختاره المزني، وصححه أبو إسحاق والمحاملي، وصاحب "المهذب" وغيرهما. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "المحرر" ينافي المسألة الثانية، بل قال: فالقديم وأحد قولي الجديد أنها تقنع بقرءين هذا لفظه. وحاصله أن في الجديد قولين: أحدهما موافق للقديم، وقد صحح النووي في أصل "المنهاج"، وأصل "الروضة" أيضًا أنها تعتد بعدة أمة وهو غريب، فإن "المحرر" لا ترجيح فيه بالكلية وأما "الشرح" فإن لم يؤخذ منه العكس فلا يؤخذ منه ترجيح لشيء، غير أن ما صححه هو مقتضى إيراده في "الشرح الصغير"، ثم إنه عبر في "الروضة" عند ترجيحه له بأنه الجديد، وذلك يقتضي أن يكون مقابله قديم، وليس كذلك، بل مقابله أيضًا جديد. قوله: ولو طلق العبد زوجته طلاقًا رجعيًا فعتقت في العدة فقد مر في خيار العتق أن لها أن تفسخ في الحال أو تؤخر وأنها وإن فسخت فتستأنف عدة أخرى أو تبني على تلك العدة؟ فيه خلاف يذكر فيما إذا طلق الرجعية طلقة أخرى، وعن أبى إسحاق وغيره القطع بأنها تبني ويجري الطريقان فيما لو أخرت الفسخ حتى راجعها الزوج، ثم فسخت قبل الدخول. قال في "التتمة": والمذهب أنها تستأنف لأن الفسخ سبب لانقضاء

العدة. انتهى كلامه. وما نقله عن "التتمة" من تصحيح الاستئناف قد صححه النووي في أصل "الروضة" إذا علمت ذلك، فاعلم أن هذه الطريقة التى نقلها عن أبى إسحاق في آخر كلامه غلط عجيب لا يلائم ما قبلها، لأنه تكلم أولًا هل تبني أو تستأنف؟ ثم شرع بعد ذلك في كلام آخر، وهو التفريع على البناء وعلى الاستئناف فكيف يصح أن يحكى طريقة بالبناء والاستئناف في أثناء هذا التفريع، فإن الكلام ليس فيه، فراجع لفظه تجده غير منتظم، وبتقدير أن لا يكون عائدًا على ما قبله، بل على أصل المسألة، فلا تصح أيضًا لأنه إن أراد ما إذا فسخت قبل الرجعة فقد نقل هو عن أبى إسحاق فيه عكسه وهو القطع بالبناء، وإن أراد الفسخ بعدها، فقد حكى أيضًا أن فيه الطريقين وأحدهما: ما نقله عن إسحاق وهو القطع بالبناء، وبتقدير انتظام الكلام وصحة الحكم، فالتعليل الذي ذكره لتلك الطريقة لا يوافق حكمها ولا يلائمه، فتلخص أن الواقع هنا في الرافعي تعليلًا وتركيبًا غير مستقيم، ولما أشكل ذلك على النووي حذف هذه الطريقة من "الروضة". واعلم أن استمداد الرافعي من "التتمة" أمر غير خاف خصوصًا في هذه المسألة، فإنه لم يصرح عن أحد بنقل إلا عنه، وقد اتضح الحال بحمد الله تعالى، وتحرر لى بمراجعة "التتمة" أنها طريقة منقولة عن أبى إسحاق في التفريع على قول البناء كما هو مقتضى سياق الرافعي، فإنه قال: وإذا قلنا تبنى، فهل تبنى على عدة أمة أو حرة؟ فيه طريقان: إحداهما: أنه على الخلاف فيما إذا عتقت المعتدة والثانية قالها أبو إسحاق: أنها تكمل عدة حرة لأن الفسخ سبب لوجوب العدة، فإذا وجد في أثناء العدة وجب التكميل، هذا كلامه، وهو كلام صحيح فحصل في كلام الرافعي تحريف بالنسبة إلى الحكم، وتحريف وإسقاط بالنسبة إلى التعليل فافهمه، واشكر الله تعالى على ما يسر لك من الوقوف على حال هذه المواضع المكتسبة من

هذه الأبواب الشاسعة. قوله: ولو وطيء أمة إنسان على ظن أنها زوجته الحرة وجب ثلاثة أقراء اعتبارًا باعتقاده، وقيل قرءان، وقيل قروء، ثم قال: ولو وطيء حرة على ظن أنها أمته المملوكة فقد قطع قاطعون بأنه يلزمها ثلاثة أقراء وأن الظن يؤثر في الاحتياط لا في المساهلة وأجرى المتولي الوجهين، إن اعتبرنا بحالها وجب ثلاثة أقراء، وإلا فيكفيها قرء واحد والأشبه النظر إلى ظن الرجل واعتقاده فإن العدة إنما تجب رعاية لحقه، فكما يؤثر الظن في صفة العدة وقدرها. انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح النظر إلى ظن الواطئ ذكر ما يخالفه في "الشرح الصغير" فقال: ولو وطيء حرة على ظن أنها مملوكة فالمشهور القطع بأن عليها ثلاثة أقراء، وقال في "التتمة": فيه وجهان، هذا لفظه، ولم يذكر غير ذلك. قوله: والمستحاضة المتحيرة تعتد بثلاثة أشهر في الأصح، ولا يلزمها الاحتياط لعظم المشقة والمفهوم مما قالوه تصريحًا وتلويحًا: أن الأشهر ليست متأصلة في حقها، وإنما تعتد بها لاشتمال كل شهر على حيض وطهر غالبًا، وأشار بعضهم إلى أنها متأصلة كما في حق الصغيرة والمجنونة. انتهى. والتعبير بالمجنونة تبعه عليه في "الروضة" وصوابه الآيسة، فإن المجنونة إن كانت ممن تحيض، وعرف حيضها فعدتها به وإلا فمتحيرة. قوله: ولو ولدت المرأة ولم تر حيضًا قبل الولادة ولا نفاسًا بعدها فتعتد بالشهور لظاهر الآية، وكمن انقطع دمها بلا سبب ظاهر، لأن الحمل لا يكون إلا لذوات الأقراء؟ فيه وجهان، وينسب الأول للشيح أبي حامد. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي بعد هذا في موضعين بوجه جازمًا به، أحدهما: في أثناء النوع الثالث قبيل الشرط الثاني في الكلام على ما إذا مات عن زوجته أو طلقها وهي حامل من زنا فقال: وتنقضى العدة مع الحمل في عدة الوفاة، وفي عدة الطلاق إذا كانت المرأة من ذوات الأشهر، أو كانت من ذوات الأقراء، ولم تر دمًا، أو قلنا: ما رأته الحامل ليس بحيض. انتهى. فجزم هنا بأنها تعتد بالأشهر. والموضع الثاني: بعد هذا الموضع بنحو ورقتين في الكلام على المدة التي يلحق فيها الولد فقال معترضًا على مسألة نقلها ما نصه: ولك أن تقول هذا إن استمر في الأقراء لا يستمر في الأشهر، فإن التى تحمل من النساء لا تعتد بالأشهر، هذا لفظه وهو عكس ما تقدم، وذكر المسألة أيضًا في آخر العدد نقلًا عن "فتاوى البغوى" وحاصل ما نقله الخلاف فيها، وهو الموضع الأول المبدوء به في صدر هذه المسألة، فقال: الصحيح الاعتداد بالأشهر لدخولها في قول الله تعالى: {وَاللَائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] هذا لفظه، ولم ينقل في آخر العدد ما نقله عنه هنا من زوائده، وصحح أيضًا في "الفتاوى" ما صححه في "الروضة" من زوائده فقال: هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وقال بعضهم: حكمها حكم من انقطع حيضها بلا سبب، والصواب الأول، قال: ولا فرق بين أن ترى نفاسًا أم لا، هذا كلامه. الأمر الثاني: أن تقييد الرافعي بقوله ولا نفاسًا بعدها يقتضى أن وجود النفاس كوجود الحيض قبل ذلك ففي كونه مانعًا من الاعتداد بالشهور، وقد ظهر لك مما نقلناه عن "فتاوى النووي" أن الأمر ليس كذلك فاعلمه. قوله: وإذا طلقت الصغيرة اعتدت بالأشهر فإن حاضت في أثنائها انتقلت إلى الأقراء وهل يحسب ما مضى قروءًا؟ فيه وجهان.

أحدهما: وبه قال ابن سريج: نعم؛ لأنه طهر يعقبه حيض، والثاني: وبه قال أبو إسحاق: لا. كما ذات الأقراء إذا آيست قبل تمامها تعتد بثلاثة أشهر ولا تحسب ما مضى شهرًا، وهذا أقرب إلى ظاهر النص. انتهى كلامه. وهذا الخلاف حكاه أيضًا في "الشرح الصغير" وجهين، وصرح بالتصحيح فقال ما نصه: فيه وجهان: أظهرهما: المنع، وحكاه في "المحرر" قولين فقال: فيه قولان يبنيان على أن المعتبر في القروء الانتقال من الطهر إلى الحيض أو الطهر المحتوش بدمين، والأظهر الثاني، ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج". واعلم أن الرافعي لما ذكر في الطلاق السنى والبدعى هذه المسألة أعنى أن القرء ما هو؟ قال: فيها قولان أو وجهان بالترديد من غير ترجيح. قوله: أما الأمة إذا كانت صغيرة أو آيسة فبم تعتد؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بشهرين، والثاني: بشهر ونصف والثالث: بثلاثة أشهر لأن الماء لا يظهر أثره في الرحم إلا بعد هذه المدة إذ الولد يتخلق في ثمانين يومًا، ثم يبين الحمل بعد ذلك. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من كون الولد يتخلق في الثمانين أى يتصور قد خالفه في كتاب الرجعة فجزم بأنه لا يتصور إلا بعد أربعة أشهر ولحظتين، وقد سبق ذكر لفظه هناك، ولم يذكر النووي التعليل المذكور فسلم من الاختلاف ولا يمكن حمل كلامه هنا على أن المراد بالتخليق هو المضغة، لأن الله تعالى في كتابه قسم المضغة إلى مخلقة وغير مخلقة، والمراد بالمخلقة المصورة التى نفخ فيها الروح، ويدل له ما رواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله تعالى وكل في الرحم ملكًا فيقول: يا رب نطفة يا رب مضغة، فإذا أراد أن يخلقها قال: يا رب ذكر أو أنثى؟

يا رب شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ "، وروى البخاري أيضًا قبيله عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمة أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح". وقد تكلم الخطابي على أن المراد بقوله يجمع خلقه فروى بسنده إلى عبد الله بن مسعود أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرًا سارت في بدن المرأة تحت كل ظفر وشعرة ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تنزل دمًا في الرحم فذلك جمعها. واعلم أن مسلمًا روى في صحيحه حديثًا آخر معارض لما سبق، وهو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم قال يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما يشاء" وفي الجمع بينهما نظر، والمعروف للأصحاب ما قاله الرافعي في الرجعة، وقد وافقه على المذكور هنا، وهو أن التخليق والتصوير يحصل بمضى الثمانين جماعة منهم الماوردي في كتاب العدة، والقاضي أبو الطيب في كتاب الرجعة من "تعليقه" وذكر نحو ذلك صاحب "البيان" في الكلام على من تباعد حيضها فقال: لأن الحمل يتبين بثلاثة أشهر، وذكر في "النهاية" مثله، وذكر الماوردي أيضًا في الكلام على عدة الأمة، أن المضغة تتصور وتتخلق عند بعض الشهر الثالث. قوله: وهل النظر في سن اليأس إلى جميع النساء، أم إلى نساء عشيرتها؟ فيها قولان، نظم "التهذيب" يشعر بترجيح القول الثاني، وإيراد أكثرهم يقتضي ترجيح الأول. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا فقال: إنه الأصح عند الأكثرين

يعني الأول، ورجح في "المحرر" الثاني، فقال بعد حكاية القولين ما نصه: الثاني أقرب إلى الترجيح، واستدرك عليه النووي فصحح في "المنهاج" الأول فلذلك سلم من التعارض. قوله: والمجبوب الذكر الباقى الأنثيين قد تقدم أنه يلحقه الولد فتعتد امرأته عن الوفاة بوضع الحمل، ولا تجب عدة الطلاق عليها، لأنه إنما تجب بعد الدخول ولا يتصور منه دخول. انتهى كلامه. وهو صريح أو كالصريح في أنها لا تعتد بالحمل عن الطلاق، وقد تابعه عليه أيضا في "الروضة" وهو عجيب، فإن المعنى المقتضي لاعتدادها به في عدة الوفاة، وهو استدخال الماء هو بعينه يقتضي الاعتداد به عن الطلاق وقد صرح في أول الباب بخلاف ما ذكره هنا فقال: وأما مجبوب الذكر الباقى الأنثيين فلا يوجد منه الدخول، فلا تجب عدة الطلاق على زوجته إذا كانت حائلًا فإن ظهر بها حمل، فقد ذكرنا في اللعان أنه يلحقها الولد فعليها العدة بوضع الحمل هذا لفظه وهو الصواب. قوله: وكذلك تبقى سائر أحكام الجنين في الذي خرج بعضه دون بعض كنفي توريثه وسراية العتق إليه من الأم وعدم إجزائه عن الكفارة، ووجوب الغدة عند الجنابة على الأم، وتبع الأم في البيع والهبة وغيرهما، وفي [وجه] إذا صرخ واستهل كان حكمه حكم الولد المنفصل في جميع ما ذكرنا إلا في العدة ونسب هذا إلى القفال في "البسيط" انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من أن الجنين إذا خرج بعضه لا يكون حكمه حكم ما لو انفصل جميعه، ذكر مثله أيضًا في كتاب الفرائض، وخالفهما في الكلام على دية الجنين، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه، ووقعت هذه المواضع أيضًا في "الروضة". قوله: فإن لم يظهر الحمل ولكنها ترتاب وتتوهمه لثقل وحركة تجدهما

نظر: إن كان ذلك قبل تمام الأشهر والأقراء فليس لها أن تتزوج حتى تزول الريبة، فلو تزوجت كان التزويج باطلًا للتردد في انقضاء العدة، وإن كان بعد إنقضاء الأقراء أو الأشهر وتزويجها لم نحكم ببطلان النكاح إن تحققنا حملها تبين البطلان. انتهى. وما ذكره في القسم الأول من بطلان النكاح مطلقًا يقتضى القول به فيما إذا نكحت بعد تمام الأشهر أو الأقراء، وبان أن لا حمل بها، وهو خلاف القواعد، بل تنبغي الصحة، كما لو باع الأب ظانًا حياته أو شاكًا فيها، ثم بان موته على أن المسألة فيها كلام مذكور في باب الزنا. قوله: في المسألة قال الشيخ أبو على: وهذا فاسد لأن العقود لا تتوقف (على الجديد) والقول بالوقف هنا منقول عن الجديد. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من نفي قول الوقف عن الجديد ليس كذلك، بل هو ثابت فيه أيضًا وقد أوضحته في كتاب البيع فليراجع. قوله: وإن حصلت الريبة بعد انقضاء العدة، وقبل التزويج فالمذهب القطع بصحة نكاحها، ووجه البطلان أنه لو صح لجعلناه موقوفًا، والوقف باطل عندنا، وأجيب بأن المنكر في الجديد هو التوقف في العقود ابتداء، وقد يتخلف وجه الصحة إلى أن يوجد ذلك الشرط كالوقف على إجازة المالك إذا باع الفضولي وهاهنا لا يتوقف في [الانعقاد]، بل يحكم بأن النكاح منعقد بناء على الظاهر ثم إن بان خلافه غيرنا الحكم. انتهى كلامه. وما ذكره في تفسير الوقف الباطل عندنا غير صحيح لأنه يقتضى البطلان في من باع مال أبيه معتقدًا حياته أو شاكًا فيها مع أن الصحيح فيها الصحة وهما من قولي وقف العقود أيضًا، بل صواب العبارة في الوقف الممتنع أنه الوقف على شيء حادث كالإجارة المتقدم ذكرها، وأما الموقوف على مقارن العقد فليس منه، ولهذا يعبر عنه بوقف التبين.

قوله: وعن مالك أنه قال: هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها زوج صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة تحمل كل بطن أربع سنين، وروى العتيبي أن هرم بن حيان حملت به أمه أربع سنين. أما رجل صدق وامرأة صدق منونان على الوصف بالمصدر للمبالغة بمعنى صادق كقولك رجل عدل، وامرأة عدل أى: عادل وعادلة وفي تأويله مذاهب للنحاة مشهورة. وأما هرم فهو بهاء مفتوحة وراء ساكنة وحيان بياء بنقطتين من تحت وهرم المذكور من كبار التابعين الصلحاء الزهاد، وقد ذكره النووي في آخر "فتاويه" وقال إنه قد اشتهر في كتب الرقائق أنه لما دفن أرسل الله تعالى سحابة فأمطرت حوالي القبر. ولم يصب القبر منه شيء. قوله: فرعان: أحدهما: لو أتت بولد إلى أن قال ما نصه، وإن قلنا بالثاني لحقه إذا أتت به لدون أربع سنين. انتهى. وهذا الذي قاله يقتضي أنه إذا كان لأربع سنين لا يلحقه، وليس كذلك بل الصواب، وهو الذي ذكره هو في أوائل هذا الباب أن الأربع حكمها حكم ما دونها وأنه يلحقه إذا أتت به لأربع سنين فأقل، وقد مشى النووي على هذا الموضع فلم يتفطن له في "الروضة". قوله: وهل تجب العدة في النكاح الفاسد من آخر وطأة أو من وقت التفريق بينهما بانجلاء الشبهة، وظهور الفساد؟ فيه خلاف، الأصح على ما ذكر في "التهذيب": أنها تحسب من وقت التفريق. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح ما صححه البغوى، كذا صححه النووي في أصل "الروضة"، ثم إنه عبر بالأصح فاستفدنا منه أن الخلاف وجهان كما تقرر لك من اصطلاحه، ولا يؤخذ ذلك من كلام الرافعي.

قوله: وإذا ولدت المرأة وطلقها زوجها ثم اختلفا فقال الزوج: طلقتك بعد الولادة فأتت في العدة ولي الرجعة، وقالت المرأة: بل قبله، نظر: إن اتفقا إلى آخره. هذه المسألة فيها كلام سبق في كتاب الرجعة فليراجع.

الباب الثاني في "تداخل العدتين"

الباب الثاني في "تداخل العدتين" قوله: وإذا طلق زوجته فشرعت في العدة بالأقراء أو بالأشهر ثم وطئها وطء يوجب العدة فتستأنف العدة ويتدرج فيها ما بقي بحيث يكون مشتركًا واقعًا عن الجهتين جميعًا، ثم قال: وقل إن عدة الطلاق تنقطع بما طرأ من الوطء ويسقط باقيها وتتمحض العدة الواجبة عن الوطء وهذا ما حكاه أبو الحسن العبادي عن الحليمي قال: وقياسه أن لا تثبت الرجعة في البقية لكن الإجماع صد عنه. انتهى كلامه. وهذا الإجماع الذي حكاه وارتضاه، تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك فقد ذكر بعد هذا بأسطر في نظيره أنه لا رجعة فإنه ذكر أنها إذا حبلت من هذا الوطء فتعتد بالحمل، ويدخل فيه البقية على أشبه الوجهين، فعلى هذا له الرجعة في أظهر الوجهين، ثم قال: والثاني لا رجعة له بناء على أن عدة الطلاق قد سقطت وهي الآن معتده عن الوطء هذا لفظه. قوله: وإن كانت حاملًا من الزوج ووجب عليها عدة الآخر من وطء الشبهة فراجعها الزوج فتنقطع عدته في الحال وتبقى عدة الشبهة مؤخرة إلى أن تضع وتعود إلى أقرائها وهل له وطؤها في الحال؟ فيه وجهان؛ قيل: نعم؛ لأنها منكوحة وليست في الحال في عدة غيره، وقيل: لا. لأنها معرضة للعدة ولا يليق تسلطه عليها في الحال، والمنع من الاستقبال، ومال صاحب "التتمة" إلى ترجيح الثاني ومنهم من يرجح الأول. انتهى ملخصًا. لم يصحح في "الشرح الصغير" أيضًا شيئًا منهما، وقال في "الروضة" من زوائده الراجح الجواز. قوله: ولو وطئت بشبهة وظهر بها حمل واحتمل كونه من الزوج ومن الواطئ فمات هذا الولد في زمن الإشكال وكان للأم ولدان آخران، أو كان

لكل واحد من الزوج والواطئ ولدان فلها السدس، فإن كان لأحدهما ولدان دون الآخر فهل لها الثلث للشك في كونهما أخوين للميت أم السدس لأنه اليقين؟ فيه وجهان. انتهى. قال في "الروضة" الأصح أو الصحيح السدس. قوله: ولو أوصى إنسان لهذا الحمل بشيء أو سمى الموصى أحدهما، إما الزوج أو الواطيء فقال: أوصيت بحمل فلان هذا فإن ألحقه القائف بغير المسمى بطلت الوصية. انتهى. تابعه في "الروضة" على الجزم ببطلانها والمتجه تخريجها على الإشارة والعبارة، فإن غلبنا العبارة بطلت أو الإشارة فتصح. قوله: وإذا فرعنا على أن الحربيتين تكفي لهما عدة واحدة فهل نقول إنها للواطيء الثاني، ونسقط بقية عدة الأول لضعف حقوق الحربي وبطلانها بالاستيلاء عليه أو على زوجته أو نقول تدخل بقية العدة الأولى في الثانية؟ وجهان. وأرجحهما على ما قاله في "الروضة" من زوائده هو الأول. قوله: وإذا طلق زوجته طلاقًا رجعيًا ولم يهجرها في العدة، نظر: إن كان يطؤها قال المتولي: لا تشرع في العدة مادام يطؤها لأن العدة لبراءة الرحم وهي مشغولة، وإن لم يطأها ولكن كان يعاشرها معاشرة الأزواج ففي انقضاء العدة ثلاثة أوجه: ثالثها: وهو الذي أخذ به الأئمة أنها تنقضى في المطلقة البائنة دون الرجعية، لأن في المخالطة بها شبهة وفي الفرع فائدتان: إحداهما: قال البغوى في "الفتاوى": الذي عندى أنا وإن حكمنا بعدم الانقضاء فلا رجعة له للاحتياط من الجانبين، وفي "فتاوى القفال" ما يوافقه، وأما صحة إيقاع الطلاق عليها فتستمر إلى انقضاء العدة، وبه صرح الرويانى في "الحلية". انتهى ملخصًا.

ذكر مثله في "الروضة" وفيما ما ذكره من عدم ثبوت الرجعة كلام يتوقف على ما قاله فيها البغوي في "فتاويه" فلنذكره فنقول: قال ما نصه: قال أصحابنا: لا يحكم بانقضاء العدة، وإن مضت لها أقراء وله الرجعة. قال شيخنا: والذي عندى أنه لا يحكم بالانقضاء كما ذكروه، لكن بعد مضي الأقراء لا رجعة أخذًا بالاحتياط في الجانبين، هذا كلام البغوى في "فتاويه". إذا علمت ذلك فتعود إلى المقصود وهو أمران: أحدهما: أن ما وقع في الفتاوى المذكورة من التعبير بقوله قال شيخنا: يحتمل أن يكون كلام تلميذ البغوي الجامع لفتاويه، فيكون الشيخ هو البغوي، ويحتمل أن يكون من كلام البغوي نفسه فيكون المراد بالشيخ هو القاضي الحسين، ولا شك أن المراد هو الأول، أعني البغوي، فإن القاضي الحسين قد ذهب إلى ثبوت الرجعة بعد مضي الأقراء، سواء كان يطأها أم لا كذا ذكره في "تعليقه" وفي "فتاويه" أيضًا في أواخر كتاب الطلاق، ولأجل هذا صرح الرافعي بالبغوي عوضًا عن التعبير بالشيخ، وهو تصرف حسن فتفطن له، واعلم مستنده. الأمر الثاني: أي ما نقله الرافعي عن البغوي من عدم ثبوت الرجعة، ولم ينقل خلافه بل قواه بكلام القفال، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو يشعر بأن هذا هو المنقول المعمول به لا غير ولهذا جزم به الرافعي في "الشرح الصغير" فقال ما نصه: ثم قال الأئمة لا رجعة للزوج بعد انقضاء الأقراء وإن لم تنقض العدة بسبب المعاشرة أخذًا بالاحتياط في الطرفين، هذه عبارته، وجزم به أيضًا في "المحرر" وتبعه عليه النووي في "المنهاج" وليس تقدم نقله عن "فتاوى البغوى" أن الرجعة تثبت إلا أن الرافعي اقتصر على نقل آخره دون أوله، وكأنه انتقل نظره أو سقط ذلك من النسخة التى وقف عليها، ويمكن أن يقال: إنما لم يصرح الرافعي في

"الكبير" بثبوت الرجعة لأنه مقتضى القول ببقاء العدة فسكت عنه لذلك، ولم يحتج إلى التصريح به، وصرح بمقالة البغوى لكونها على خلاف الأصل، وحينئذ فيكون كلام "الشرح الصغير" و"المحرر" و"المنهاج" غلطًا حصل من الإلباس الواقع في "الشرح" و"الروضة" وهذا هو الظاهر الموافق للمنقول، وعلى كل حال فالفتوى على ثبوت الرجعة، وقد وقع هنا في كلام "الكفاية" لابن الرفعة ما وقع للرافعي بزيادة غلط آخر فاحش، وقد نبهت على ذلك في "الهداية" فراجعه. وإذا قلنا: لا تنقضي العدة فأراد المطلق تزويجها في العدة من الولى فالقياس جوازه جزمًا. واعلم أن ما نقله في أول المسألة عن المتولي قد سبقه إليه القاضي الحسين في "تعليقه"، وقال: إنه لا خلاف فيه. قوله: وأما إذا خالط المعتدة أجنبى عالمًا فلا يؤثر وطؤه، وإن خالط بشبهة فيجوز أن يمنع الاحتساب كما سبق أنها في زمن الوطء بالشبهة خارجة عن العدة. انتهى. وتوقفه في هذه المسألة وهى مسألة المحافظة غريب، فقد ذكرها قبل ذلك وحكى فيها خلافًا فقال ما معناه وإذا نكح معتدة على ظن الصحة ووطئها لم يحسب زمن استفراشه إياها [من] عدة الطلاق ومن أي وقت يحكم [بانقطاع] العدة، فيه وجوه، أصحها: من وقت الوطء، لأن النكاح الفاسد لا حرمة له. والثاني: من حين يخلو بها ويعاشرها، وإن لم يطأ. والثالث: من وقت العقد إن اتصل به رفاق وإلا فلا، والرابع: من وقت العقد وإن لم يتصل به رفاق. قوله: الثانية من نكح معتدة جاهلًا ووطئها لم تحرم عليه مؤبدًا، وعن

القديم أنها تحرم، ثم قال: ونقل القاضى الروياني إجراء القول القديم في كل وطء يفسد النسب كوطء زوجة الغير أو أمته بالشبهة. انتهى كلامه. وما نقله من الروياني ذكر نحوه أيضًا المقدسي في "التهذيب"، والتقييد بإفساد النسب يقتضي أنها لا تحرم بلا خلاف إذا كان وطؤها لا يخشى منه إفساد كما لو وطيء صغيرة أو آيسة أو من تبين حملها، أو غير مدخول بها إذا مات عنها زوجها. قوله: ولو خالع الممسوسة ثم جدد نكاحها ومات بعد التجديد، فقد حكى صاحب الكتاب وجهين في اندراج تلك البقية تحت عدة الوفاة، وهذا يشعر بلزوم البقية وإنما التردد في أنها هل تدخل في عدة الوفاة أم لا؟ ثم قال: والذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره أن تلك البقية تسقط كما لو مات عن الرجعية يسقط ما بقي من عدتها وتكفيها عدة الوفاة بلا خلاف. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من نفي الخلاف ليس كذلك، ففي "الذخائر" للقاضي مجلي حكاية وجهين في أنها هل تندرج أو تسقط.

القسم الثاني في "عدة الوفاة" والسكنى

قال -رحمه الله-: القسم الثاني في "عدة الوفاة" والسكنى وفيه بابان الأول: في عدة الوفاة قوله: لكن ثبت أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حللت فانكحى من شئت"، وغسل أبا بكر زوجته أسماء بنت عميس -رضي الله عنها-، وكان أوصى بذلك. انتهى. أما سبيعة فبضم السين تصغير سبعة بفتحها وضم الباء وقد تسكن للتخفيف وهى اللبؤة أى أنثى الأسد قاله الجوهرى، وأما عميس فتصغير العمس بفتح العين المهملة وسكون الميم وبالسين المهملة وهو التجاهل أى إظهار الجهل بالشيء وأنت عارف به. قوله: وإذا قلنا في المفقود بالقول القديم وهو أن المرأة تمكث أربع سنين ثم يحكم الحاكم بوفاة زوجها وتعتد عدة الوفاة اقتصرت المدة إلى ضرب القاضي، وقيل: لا بل يكفي مضيها، ثم قال: وإذا ضرب المدة فهل يكون ذلك حكمًا بوفاته أم لابد من استئناف الحكم؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه لابد من الحكم. انتهى. وهذه المسألة فرد من أفراد تصرفات الحاكم، وقد اختلف كلام الرافعي وكلام "الروضة" في أن تصرفه حكم أم لا؟ وقد تقدم ذكره مبسوطًا في النكاح في بيان الأولياء فليراجع. قوله: وإذا حكم الحاكم بالفرقة فهل تعتد ظاهرًا وباطنًا أم ظاهرًا فقط؟ وجهان، أو قولان. انتهى. هذه المسألة فرد من أفراد قاعدة وهي ما إذا حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها، فهل ينفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا حتى يحل للمحكوم له ذلك أم لا؟ وجهان، والأكثرون مائلون إلى النفوذ في الباطن أيضًا، كذا ذكره

الرافعي في كتاب دعوى الدم، وفي كتاب الدعاوى، وقد جزم الرافعي في الموضعين المذكورين وفي غيرهما بأن الخلاف وجهان، فعلم منه الراجح مما تردد فيه الرافعي هنا، وذكر في "الروضة" هنا مثل ما ذكر الرافعي، ثم شرع من زوائده في ذكر الأصح من الخلاف فلم يتجوز له لكونه مذكورًا في غير مظنته فلم يكمل الكلام، وذكر مبتدأ بلا خبر وترك بياضًا ليلحقه إن يحرر له -رحمه الله تعالى-. قوله: وإذا أرضعت المتزوجة ولدها من غير الزوج في بيت زوجها ولم يقع خلل في التمكين فعلى الزوج نفقتها وسواء وجب عليها الإرضاع أم لا وإن خرجت للإرضاع بغير إذنه سقطت نفقتها، وإن خرجت له بإذنه فوجهان بناء على ما لو سافرت بإذنه لحاجتها، وإذا كان الإرضاع واجبًا كاللبأ أو عند فقد غيرها فعليه أن يأذن. انتهى. وما ذكره من كون الخروج للإرضاع بغير إذن الزوج مسقطًا للنفقة إن كان المراد به حالة وجود الزوج في البيت أو حالة غيبته ولكن خرجت للاستقرار فغربت وإن أراد مطلق الخروج حتى يتناول الخروج للمرة الواحدة في غيبة الزوج، فقد ذكر في كتاب النفقات في الباب الثاني في مسقطات النفقة في نظير المسألة ما يخالفه، فإنه نقل عن البغوى أن الخروج في غيبة الزوج إلى بيت أبيها لزيارة أو عيادة لا على وجه النشوز لا يكون مسقطًا للنفقة وارتضاه ولم يخالفه، والخروج لإرضاع الابن كزيارة الأب فكل منهما طاعة وبر وصلة رحم لا على جهة النشوز، وقد تابعه في "الروضة" على الموضعين وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى والصواب هو المذكور هناك، فإن المقصود وهو الاستمتاع لم يقع فيه خلل، غاية ما في الباب أن يكون صدر منها ذنب وإذا تقرر الاستحقاق عند عدم الإذن فمع الإذن أولى، والتخريج على السفر تخريج عجيب، فإن الاستمتاع يتعذر به بخلاف الخروج للإرضاع.

قوله: روي عن أم عطية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار". وعن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المتوفي عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلى إلا الشيء اليسير، وقوله من قسط أو أظفار هما نوعان من البخور، والمعنى لا تمس طيبًا إلا إذا طهرت من الحيض تمس شيئًا يسيرًا منهما لقطع الروائح الكريهة، والممشقة المصبوغة بالمشق وهو المعرة ويقال شبه المغرة وهو شبه الطين الأحمر، وقد تحرك العين. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في آخر كلامه من جواز القليل منها للحائض إذا طهرت، ذكر مثله النووي في "شرح مسلم" فقال هما نوعان من البخور وليسا من مقصود الطيب، رخص لها فيه لإزالة الرائحة الكريهة لا للطيب هذا كلامه، وقد أسقط النووي هذه المسألة من "الروضة" وهى مسألة مهمة نفيسة، ويظهر إلحاق المحرمة إذا طهرت من حيض أو نفاس بالمعتدة، بل أولى لقصر زمن الإحرام، ولأن الطيب فيه أخف بدليل وجوب إزالته إذا شرعت في العدة بخلاف الإحرام. الأمر الثاني: في الكلام على هذه الألفاظ وهى العصب والنبذة والقسط والأظفار والمشق والمعزة فالعصب بعين مفتوحة وصاد ساكنة مهملتين وبالباء الموحدة نوع من برود اليمين. والنبذة بضم النون وبالذال المعجمة هى: القطعة. والقسط بقاف مضمومة وسين ساكنة وطاء مهملتين: طيب معروف، وكذلك الأظفار بالظاء المعجمة، وهو جمع لا واحد له من لفظه وقيل مفرده ظفر حكاه ابن الأثير في "النهاية"، قال: وروي قسط ظفار أى بالإضافة،

وروى أيضًا بالوطف كما سبق، والمشق بميم مكسورة وشين معجمة ساكنة، وقد فسرها الرافعي بالمعرة وهى ميم مفتوحة، وعين معجمة ساكنة وقد تفتح كما ذكره الجوهري، والعامة تنطق به مضموم الميم، وأما الدمام فهو بدال مهملة مكسورة وميمين بينهما ألف وهو كل شيء يطلى به الوجه. قوله: وعن عائشة وحفصة -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" قال الأئمة إلا على زوج مستثنى من قوله: "لا يحل وظاهره لا يقتضى إلا الجواز لكن أجمعوا على أنه أراد الوجوب، ثم قال ولا إحداد على المعتدة عن الوطء بالشبهة والنكاح الفاسد وأم الولد، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحل لامرأة" الحديث، قد يحتج به لتحريم الإحداد على الموطوءة بالشبهة وأم الولد. انتهى كلامه. وما ذكره من الإجماع على وجوب الإحداد ليس كذلك ففي "الشامل" عن الحسن البصري أنه مستحب لا واجب، وما ذكره أيضًا من أنه قد يحتج بالحديث المذكور على هذين تبعه في "الروضة" أيضًا على خلاف الغالب من حاله وهو غريب جدًا، فإنه لا إشعار له بذلك بالكلية، والظاهر أن الرافعي سها من حديث إلى حديث فتابعه عليه النووي غير متأمل له. واعلم أن القاعدة الأصولية أن ما كان ممنوعًا منه لو لم يكن واجبًا فإذا دل دليل على جوازه كان ذلك نفسه دليلًا على وجوبه كالركوعين في الخسوف، فإن زيادة الركوع الثاني والقيام الثاني في غير الكسوف لا تجوز ولما دل الدليل على جواز فعلهما في تلك الصلاة، وهو فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له كان فعلهما واجبًا فيها. هكذا ذكر هذه القاعدة جماعة منهم الإمام فخر الدين في "المحصول" وغيره. وإذا استحضرت هذه القاعدة استفدت من الحديث المذكور وجوب الإحداد على المتوفي عنها زوجها وجهًا؛ لأن الإحداد حرام، وقد جاز في هذه الصورة فيكون واجبًا.

قوله: ويجوز لها التنظيف بغسل الرأس والامتشاط ودخول الحمام وقلم الأظفار والاستحداد وإزالة الأوضاح فإنها ليست من الزينة. انتهى. وما ذكره من التعليل بنفي الزينة ذكره في "الروضة" أيضًا، لكنه صرح في الباب الثالث من أبواب الجمعة بأن هذه الأمور من الزينة؛ فإنه قال: يستحب للذاهب أمور. . . . ثم قال: الثالث: التزين: فيستحب التزين للجمعة بأخذ الشعر والظفر والسواك وقطع الروائح الكريهة وبلبس أحسن الثياب. هذا كلامه.

الباب الثاني: في السكنى

الباب الثاني: في السكنى قوله: والأصح أنها -أي: المتوفي عنها زوجها تستحق السكنى؛ لما روي أن فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ترجع إلي أهلها وقالت: إن زوجي لم يتركني في منزل ملكه، فأذن لها في الرجوع. قالت: فانصرفت حتي إذا كنت في الحجرة أو المسجد دعانى فقال: "امكثي في بيتك حتي يبلغ الكتاب أجله". فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا (¬1). انتهى. فريعة: بفاء مضمومة، وراء مهملة مفتوحة، وبالعين المهملة، يجوز أن تكون تصغيرًا للفرعة بفتح الفاء وبالراء مفتوحة وساكنة، اسم للقملة، وهو الذى اقتصر عليه الجوهري. ويجوز أن تكون من قولهم: فلانة فراعة قومها فهي فارعتهم إذا كانت أجمل منهم، ثم حذفت الألف لتصغيره تصغير الترخيم. وهذا هو الظاهر إلا أن يثبت الأول بخصوصه. قوله: ومنها: المعتدة عن النكاح بما سوى الطلاق من أسباب الفراق في الحياة كالتي فسخ نكاحها بالردة أو بالإسلام أو بالرضاع ففيها طرق: أحدها: إطلاق قولين في استحقاقها السكنى كما في عدة الوفاة في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (3532)، وابن ماجه (2031)، وأحمد (27132)، والدارمي (2287)، وابن حبان (4292)، والحاكم (2832) والطبراني في "الكبير" (24/ 440) حديث (1077) وسعيد بن منصور في "سننه" (1365)، وعبد الرزاق (12075)، وابن أبي شيبة (4/ 155)، والبيهقي في "الكبرى" (15274). قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألبانى: صحيح.

قول: تستحق كالمطلقة تحصينًا للماء. وفي قول: لا تستحق لأن إيجاب السكنى إنما ورد في المطلقة فيبقى حكم غيرها علي الأصل. والثاني: إن كان لها مدخل في ارتفاع النكاح بأن فسخت بخيار العتق أو بعيب الزوج، أو فسخ هو بعيبها فلا سكنى لها قطعًا، وإن لم يكن لها مدخل في ارتفاع النكاح كما إذا انفسخ بإسلام الزوج أو ردته أو الرضاع من الأجنبي ففي استحقاقها السكنى القولان. والثالث: في "تعليقة إبراهيم المروروذي التفصيل المذكور في الطريق الثاني مع القطع باستحقاق السكنى في القسم الأول. والرابع: في "التهذيب" أن الفرقة إن كانت بالعيب أو الغرور فلا سكنى لها، وإن كانت بسبب رضاع أو صهرية أو خيار عتق فوجهان: المذهب منهما: أنها كالمطلقة. قال: والملاعنة تستحق قطعًا كالمطلقة. والخامس: القطع بأنها تستحق. قال في "التتمة": وهذا هو المذهب. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الرافعي قد اختلف كلامه في الترجيح في هذه المسألة اختلافًا عجيبًا؛ فصحح في "المحرر" الاستحقاق فقال بعد ذكره الوجوب في حق المطلقة ما نصه: والأظهر أن المعتدة عن سائر أسباب الفراق في الحياة كالمطلقة. هذا لفظه. وكلام "الشرح الصغير" هنا يشعر به؛ فإنه اقتصر على التصحيح المنقول عن "التتمة"، وصرح أيضًا بتصحيحه في الباب الثاني من أبواب النفقات من الشرحين معًا، لكن في الملاعنة خاصة ولم يصرح بغيرها.

ثم خالف ذلك كله في الكلام على ثبوت الخيار بعيوب النكاح فقال: إنها إن كانت حائلًا فالمشهور أنها لا تستحق [وقيل: فيه قولان، وإن كانت حائلًا لم تستحق] (¬1) في أصح القولين، وقيل: لا تستحق قطعًا. وقد ذكرت لفظه هناك لمعني آخر يتعلق به، فراجعه. الأمر الثاني: أن الرافعي سوى هنا بين الحائل والحامل وخالف بينهما في النكاح، وقد وقع الأمران معًا في "الروضة" على كيفية غريبة جدًا فإنه بالغ في عدم الاستحقاق في الحائل حتى نفى الخلاف عنها، وقد بسطته هناك فراجعه. الأمر الثالث: أن تعبيره في الطريق الثاني بقوله: في القسم الأول، غلط بين بل صوابه القسم الثاني، وقد تفطن له في "الروضة" فقال: والثالث: إن كان لها مدخل فلا سكني وإلا فلها السكني قطعًا. الأمر الرابع: أن الذي نقله عن "التهذيب" هنا مخالف لما نقله عنه في خيار النكاح فتأملهما. نعم هذا الإختلاف قد وقع في "التهذيب" أيضًا، فاعلمه. قوله: والأمة المعتدة وغير المعتدة حكمهما في استحقاق [السكني] كحكمهما في استحقاق النفقة، فإن كان قد سلمها قبل ذلك ليلًا أو نهارًا استحقت، وإلا فلا علي الصحيح. ثم قال ما نصه: وزاد الإمام فبني استحقاق السكني على أنه هل يجب عليها ملازمة المسكن في العدة وبنى وجوب الملازمة على أنها في صلب النكاح تكون في المسكن الذي يعينه الزوج أو السيد إن بنوا لها بيتًا؟ ، وفيه خلاف. فإن قلنا: تكون في المسكن الذي عينه الزوج، فعليها ملازمة المسكن، وإلا فإذا طلقها وهي في البيت الذى عينه السيد ففي وجوب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ملازمته وجهان: وجه الوجوب: أنه المسكن الذى تراضوا به وكانت في صلب النكاح فيه. وأظهرهما: المنع لأن العدة فرع النكاح وأثره، فإذا لم تستحق إسكانها في صلب النكاح لم تستحقه في العدة. انتهى كلامه. وهذا الكلام الذي نقله الرافعي عن الإمام قد حذفه من "الروضة" وهو مشتمل على مسألتين: إحداهما: أن الأمة إذا بوأها السيد بيتًا أي: هيأه لإقامتها وطلب الزوج إخراجها عنه. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي قبل كتاب الصداق في الفصل الرابع المعقود لأحكام نكاح الأمة، وحكي فيها قولين وصحح أن المجاب هو الزوج. المسألة الثانية: ولم يقع لها ذكر في "الروضة" أنه هل يجب على الأمة المعتدة ملازمة المسكن أم لا؟ . إن قلنا: فيما تقدم: إن المجاب هو الزوج، أوجبنا عليها الملازمة، وإن قلنا يجاب السيد فوجهان: أظهرهما أنه لا يجب عليها ذلك. هذا حاصل كلام الإمام؛ وحينئذ فيؤخذ منه أن الصحيح: وجوب الملازمة. قوله: فليس للزوج ولا لأهله إخراج المعتدة من المسكن الذى طلقت فيه. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، لكن محل هذا في الطلاق البائن، فإن كانت جعية فللزوج أن يسكنها حيث شاء. ذكره [الماوردي] في "الحاوي" والشيخ في "المهذب" وغيرهما من العراقيين كما قاله ابن الرفعة وجزم به النووي في تعليقه على التنبيه.

نعم: في "النهاية": أنه يتعين عليها ملازمة المسكن. قوله: وإن وجد سبب الفراق بعد خروجها من المنزل على قصد السفر لغرض مهم كالتجارة والحج والاستحلال عن المظلمة ولكن لم تفارق عمران البلد فالأصح عند الجمهور: أنه يلزمها العود إلى المنزل. ثم قال: وحكي وجه غريب فارق بين أن يكون السفر سفرًا لحج فلا يلزمها الانصراف، وبين أن يكون غيره فيلزم. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكايته وجهًا وعلى استغرابه أيضًا، وهو غريب؛ فقد نص عليه الشافعي في "الأم"، بل لم يذكر -كما قاله ابن الرفعة- في "المطلب" غيره فقال -أعني الشافعي-: ولو أذن لها أن تخرج إلى حج وخرجت من منزله ففارقت المصر أو لم تفارقه ثم مات عنها أو طلقها كان لها أن تمضي في وجهتها وتقيم فيه مقام الحج وتعود مع الحاج فتكمل بقية عدتها في منزله. ولو أذن لها إلى سفر يكون مسيرة يوم وليلة غير حجة الإسلام فخرجت من منزله ولم تبلغ السفر حتى طلقها أو مات عنها كان عليها أن ترجع فتعتد في منزله. هذا لفظ الشافعي بحروفه. قوله: ولو أذن لها في الانتقال إلى المسكن الثاني ثم عادت إلى الأول لنقل متاع وغيره وطلقها فالمسكن الثاني تعتد فيه؛ وهو كما لو خرجت عن المسكن لحاجة وطلقها وهي خارجة. قال الإمام: وهذا إذا كانت قد دخلت الثاني دخول قرار، فأما إذا لم تدخله على قصد القرار بل كانت تتردد بينهما وتنقل أمتعتها فإن طلقها وهي في المسكن الثاني فتعتد فيه، وإن طلقها وهي] (¬1) في الأول ففيه احتمالان: انتهى كلامه. وهذا الذى نقله الرافعي هنا عن الإمام أسقطه من "الروضة". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وإن حدث سبب الفراق في الطريق تخيرت بين العودة والمضى؛ فإن اختارت المضى إلى القصد وانقضت حاجتها قبل تمام مدة المسافرين ففي "التهذيب" و"الوسيط" وغيرهما أن لها أن تقيم إلى تمام مدة المسافرين. وهذا ما حكاه القاضي الروياني عن بعضهم وغلط قائله، وقال: نهاية سفرها قضاء الحاجة لا غير. انتهى كلامه. ومقتضاه رجحان الأول، وعبارة "الشرح الصغير" أظهر في اقتضاء رجحانه؛ فإنه قال: ففي "التهذيب" وغيره أن لها إتمام هذه المدة ومنهم من نازع فيه. إذا علمت ذلك فقد ذكر في "المحرر" ما يقتضي الجزم بالثاني فإنه قال: تخيرت بين المضي والانصراف؛ فإن اختارت المضي فلها أن تقيم إلى أن تنقضي حاجتها ثم عليها الانصراف. هذا لفظه، وقال: في "الروضة": إنه الأصح الذي قطع به صاحب "المهذب" والجرجاني. قوله: ولو أحرمت بعد الطلاق بغير إذن فحكمه أنه لا يجوز لها الخروج .. إلى آخره. ولم يتعرض هنا لجواز التحليل، وقد بينه في كتاب الحج فقال: لا يجوز للزوج ذلك إلا أن تكون رجعية فله تحليلها بعد الرجعة. قوله: ويروي أن فاطمة بنت أبي حبيش بت زوجها طلاقها فأمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم (¬1). قال سعيد بن المسيب: كان في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود (2284)، والترمذي (1135)، والنسائي (3245)، وأحمد (27368) من حديث فاطمة بنت قيس.

وما ذكره الرافعي من كون فاطمة هذه هي بنت أبي حبيش غلط وإنما صوابه: فاطمة بنت قيس. وحبيش: [مصغر حبش] (¬1) بحاء مهملة وباء موحدة وشين معجمة. والذرابة: بفتح الذال المعجمة وبالباء الموحدة: هى الحدة، يقال منه لسان ذرب، وفيه ذرابة. قوله: وفي البائن بطلاق أو فسخ قولان: القديم: ليس لها الخروج، والجديد جوازه [كالمتوفى عنها. قال المتولي: هذا في الحائل أو الحامل، أما الحامل: إذا قلنا تعجل نفقتها] (¬2) فهي مكفية فلا تخرج إلا لضرورة. انتهى. وما نقله عن المتولي من منع الخروج تابعه عليه في "الروضة". ولا شك في جواز الخروج لبقية حوائجها كشراء القطن وبيع الغزل، وكذلك إذا أخذت النفقة دراهم فخرجت لتحصل القوت. قوله: فرع: عن أبي إسحاق إن زنت المعتدة عن الوفاة وهى بكر في عدتها فعلى السلطان تغريبها ولا تؤخر إلى انقضاء العدة لا كتأخير الحد لشدة الحر والبرد لأنهما يؤثران في الحد ويعينان على الهلاك، والعدة لا تؤثر في الحد. وعن "الحاوي" وجه أنها لا تغرب لحق الزوج. انتهى كلامه. وحاصله حكاية خلاف في التغريب من غير ترجيح، وقد صحح في "الروضة" أنها تغرب في هذه الحالة، ولم ينبه على أنه من زياداته، بل أدخله في كلام الرافعى، وهو غريب، فتفطن له. قوله - نقلًا عن "الوجيز" -: وعليه ألا يخرجها من ملكه إلا إذا كان نفيسًا ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من جـ.

لا يليق بحالها، فله أن ينقلها إلى موضع آخر. انتهى. استدرك عليه الرافعي فقال: وقوله: إلا إذا كان نفيسًا يقتضي حصر الإخراج فيه، ومعلوم أن له أن يخرجها لسائر الأعذار -أي: من الحريق والغرق والهدم وغيرها- كما سبق، ويحسن أن يحمل ["إلا" على "لكن"] ويجعل هذا استثناء منقطعًا. انتهى كلامه. وهذا التأويل الذي ذكره تأويل عجيب؛ فإن الاستثناء المنقطع ضابطه ألا يصدق المستثنى منه على المستثنى. وأما ما يرد على الكلام من عدم الحصر ونحوه فليس مسوغًا لجعله منقطعًا؛ فإن الأول صادق عليه سلمنا أنه يصح انقطاعه وتقديره بقولنا لكن فليس الأمر كما توهمه من ذلك يكون دافعًا لإيراد هذه الصورة عليه؛ فإن لفظه مع التصريح بلكن لا يؤخذ منه إلا استثناء المنزل النفيس فيبقى الإيراد باقيًا. قوله: ولا يجوز للزوج مساكنة المعتدة في الدار إلا أن يكون فيها محرم. ثم قال: واشترط الشافعي البلوغ [قال القاضي أبو الطيب: لأن من لم يبلغ لا تكليف عليه ولا يلزمه إنكار الفاحشة، وقال الشيخ أبو حامد: يكفي حضور المراهق. انتهى. ذكر في "الشرح الصغير" نحوه أيضًا فقال ما نصه: واشترط الشافعي البلوغ] (¬1)، ووجه بأن من لم يبلغ لا تكليف عليه فلا يلزمه إنكار الفاحشة. وقيل: يكفي حضور المراهق. انتهى. وقد اختلف كلام النووي في هذه المسألة؛ فوافق في "الروضة" على اشتراط البلوغ، وجزم في "فتاويه" بأنه يكفي المميز، وكذلك في "المنهاج". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وعبارة "المحرر": نعم لو كان في الدار محرم لها من الرجال أو محرم له من النساء أو زوجة أخرى أو جارية فلا بأس بشرط أن يكون المحرم مميزًا. هذا لفظه، والظاهر مخالفته لما في "الشرح"، ولكن يحتمل أنه احترز بالرجال عن الصبيان وبالمميز عن المجانين. ويؤيده أن الرافعي قال: ولابد في المحرم ومن في معناه من التمييز فلا عبرة بالمجنون هذا لفظه. قوله: والحكاية عن الأصحاب أنه لا يجوز أن يخلو رجلان بامرأة واحدة، ويجوز أن يخلو رجل بنسوة إذا كن تقيات، وقد يفرق بأن استحياء المرأة من المرأة كبير من استحياء الرجل من الرجل. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذى ذكره من امتناع خلوة الرجلين بالمرأة مقتضاه أنه لا فرق بين أن تبعد مواطأتهم على الفاحشة أم لا. وقد اختلف فيه كلام النووي فقال في "شرح المهذب" في باب صفة الأئمة ما نصه: أما إذا خلا رجلان أو رجل بامرأة فالمشهور تحريمه لأنه قد يقع اتفاق رجال على فاحشة بامرأة. وقيل: إن كانوا ممن تبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز. وأما الأمرد الحسن فلم أر لأصحابنا فيه كلامًا، وقياس المذهب التحريم؛ لأن الصحيح تحريم النظر إليه مطلقًا. انتهى كلامه. وقال في "شرح مسلم" في باب تحريم الخلوة بالأجنبية -وهو في الربع الأخير من الكتاب- ما يخالف هذا؛ فإنه لما ذكر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان" (¬1). قال: المغيبة: بضم الميم وكسر الغين المعجمة وإسكان الباء: هى المرأة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2173) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.

التى غاب عنها زوجها عن منزلها. ثم قال ما نصه: ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه؛ فيتأول الحديث على جماعة تعبد المواطئة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من جواز خلوة الرجل بالنسوة قد جزم بامتناعه في كتاب صلاة الجماعة في الكلام على صلاة النسوة في جماعة، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. وذكر المسألة في "الشرح الصغير"، في هذا الباب فقط كما ذكرها في "الكبير"، وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" أيضًا فقال فيه في باب صفة الأئمة: وإن أم بأجنبيات خاليات فطريقان: قطع الجمهور بالجواز. وحكى أبو الفتوح في كتاب الخناثى وجهين، ونقل الإمام وصاحب "العدة" في أول كتاب الحج في الكلام على الاستطاعة أن الشافعي نص على التحريم، لكن المذهب ما سبق؛ لأن النساء المجتمعات لا يمكن الرجل في العادة من مفسدة ببعضهن. انتهى كلامه. وذكر مثله أيضًا في كتاب الحج من "الشرح المذكور" فقال في الكلام على الاستطاعة: جزم القفال وإمام الحرمين بأنه لا يجوز أن يصلى رجل بنسوة لا محرم له فيهن، وحكاه عن النص. وهذا الذى قالاه ضعيف، والمشهور الجواز. ثم قال بعده بدون صفحة: وإذا كان مع الخنثى نسوة من محارمه جاز، وإن كن أجنبيات فلا، لأنه يحرم عليه الخلوة بهن. ذكره القاضي أبو الفتوح، وصاحب "البيان" وغيرهما. هذا لفظه من غير مخالفه له، ومقتضاه: التحريم جزمًا على عكس ما صححه قبله في الحج وفي الصلاة، وقد جزم الإمام في الحج بتحريم خلوة

الرجل بالنساء. وقال في هذا الباب: ولا تزول الخلوة عند اجتماع رجلين بامرأة على ظاهر ما ذكره الأصحاب، وليس كخلوة رجل بامرأتين. قوله: وإذا كانت المرأة تسكن منزل نفسها ففي "المهذب" و"التهذيب" أنه يلزمها أن تعتد فيه، لكن لها أن تطالبه بأجرة المسكن؛ لأن السكني عليه، والأولي ما ذكره صاحب "الشامل" وغيره وهو: أنها إن رضيت بالإقامة فيه بإجارة أو إعارة جاز وهو الأولي، وإن طلبت أن ينقلها فله ذلك وليس عليها بدل مسكنها بالإعارة ولا بالإجارة. انتهى كلامه. ومقتضى كلام "المحرر" و"المنهاج" الجزم بأنه يجب عليها ملازمته على خلاف المذكور هنا وفي "الروضة". قوله: فإن لم يكن تركة ولم يتبرع الوارث بالإسكان ففي "التهذيب" أنه يستحب للسلطان أن يهيء لها مسكنًا من بيت المال خاصة إذا كانت تزن بريبة. ولفظ الروياني في "البحر" أن السلطان لا يلزمه أن يكتري لها إلا عند الريبة فيلزمه. انتهى كلامه. وتزن: بتاء بنقطتين من فوق مضمومة ثم زاي معجمة مفتوحة ثم نون مشددة، ومعناه: تتهم، يقال: أزنه بالشيء على وزن أمده إذا اتهمه به، وأزنته أنا على وزن أعلمته أي: اتهمته. قوله: فلو تبرع الوارث بإسكان المتوفي عنها زوجها من ماله حيث لا تركة لزمها الإجابة. ثم قال: فلو أسكنها أجنبي متبرع قال الروياني: إن لم يكن المتبرع ذا ريبة فهو كالوارث، فعليها أن تسكن حيث يسكنها. انتهى.

القسم الثالث: في الاستبراء

وهذا الذى نقله عنه الرافعي من وجوب القبول من الأجنبي وأقره عليه قد ذكر نحوه أيضًا في التكفير عن الميت وتبعه عليه في "الروضة" فقال في الباب الثاني من كتاب الأيمان واللفظ "للروضة" ما نصه: فإن لم تكن تركة فتبرع أجنبى بالإطعام أو الكسوة عنه من مال نفسه جاز على الأصح، فإن تبرع بها الوارث جاز على الصحيح، وقيل: لا؛ لبعد العبادات على النيابة. هذه عبارته: والإيجاب فيه نظر، خصوصًا في المسألة الأولى؛ فإن القبول فيه فاته، وإنما أوجبنا في الوارث لأن له غرضًا صحيحًا في حفظ ماء مورثه، وقد ذكر الرافعي نظير هذا في وفاء الدين عن الميت المعسر فقال نقلًا عن الإمام: إن أعطاه الوارث وجب على رب الدين قبوله، وإن أعطاه الأجنبي فلا. ذكره في باب القسامة، وفيه كلام يأتيك في موضعه فراجعه. وذكر النووي من زوائده هنا أن ما قاله الروياني فيه نظر، ولم يذكر غير ذلك. قال -رحمه الله-: القسم الثالث: في الاستبراء وفيه فصول: الفصل الأول: في قدره وحكمه قوله: وإن كان الحمل من زنا ففي حصول الاستبراء بوضعه وجهان: أحدهما -وهو الذى أورده أبو الفرج السرخسي-: لا يحصل؛ لأن اشتغال الرحم به لا يوجب منعًا؛ فالفراغ منه لا يفيد حلًا. وأصحهما: على ما ذكر أبو سعد المتولي، وهو الذى أورده في "الكتاب" -أنه يحصل؛ لإطلاق الخبر. انتهى. والأصح ما صححه المتولي؛ فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير"

والنووي في أصل "الروضة" و"زيادات المنهاج": إنه الأصح. قوله: وكما لا يجوز الوطء قبل الاستبراء لا تجوز سائر الاستمتاعات كاللمس والقبلة والنظر بالشهوة إن ملكها بغير السبي؛ لأنها قد تكون حاملًا من سيدها أو من وطء شبهة فتكون أم ولد لغيره. وتبين أنه لم يملكها. وإن ملكها بالسبى ففي حل الاستمتاع بها في غير الوطء وجهان: أظهرهما: الحل؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. أنه قال: وقعت في سهمي جارية من سبي جلولاء، فنظرت إليها فإذا عنقها مثل إبريق الفضة فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون ولم ينكر عليّ أحد (¬1). انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره الرافعي في تعليل التحريم في غير المسبية تعليل عجيب؛ فإنه ليس كل وطء شبهة تصير به الجارية أم ولد للواطئ بل هو خاص بوطء الأب جارية ابنه ووطء الشريك، وأما وطء الأجنبي فلا تصير به الجارية أم ولد إلا إذا ملكها على رأي مرجوح. نعم لو علل بأن الموطوءة بشبهة حامل بحر -وذلك يمنع الملك بالبيع ونحوه على الصحيح- لكان أحسن، ومع ذلك فيستثنى منه ما إذا ملكت بالوصية؛ فإن الذى يظهر -كما قاله ابن الرفعة في "المطلب"- أن حملها لا يمنع تملكها كما لا يمنع تمليك الأمة دون الحمل. الأمر الثاني: أن تعليل ذلك باحتمال مصيرها أم ولد يقتضى الحل في مسائل أخرى غير المسبية؛ وذلك حيث لا يمكن مصيرها أم ولد؛ بأن تكون الجارية ممن لا يمكن أن تحمل، أو كانت حاملًا من الزنا، أو اشتراها وهي مزوجة وطلقها زوجها قبل الدخول، أو كانت في ملكه فزوجها ثم طلقها زوجها بعد الدخول وأوجبنا الإستبراء بعد انقضاء العدة، وقد صرح بمساواة هذه الأمور [للمسبية] الماوردي في "الحاوي". ¬

_ (¬1) قال ابن الملقن: لم أر من أخرجه إلا ابن المنذر فإنه ذكره بغير إسناد.

الأمر الثالث: أن المسبية قد نص عليها الشافعي وأجاب فيها بعكس ما صححه الرافعي فقال في كتاب السير في باب الرجل يأسر جارية ما نصه: قال الشافعي: وإذا اشترى الرجل جارية من المغنم أو وقعت في سهمه أو في سوق المسلمين: لم يقبلها ولم يباشرها ولم يتلذذ بشيء منها حتى يستبرئها. هذا لفظه، ومن "الأم" نقلته. وجلولاء: بفتح الجيم والمد: قرية بنواحي فارس، والنسبة إليها جلولي، على غير قياس: قاله الجوهري. قوله: إحداها: ما يحصل به الاستبراء لو وقع بعد الملك وقبل القبض هل يعتد به؟ نظر إن ملك بالإرث اعتد به، وإن ملك بالهبة فلا؛ لتوقف الملك على القبض. . . . إلى آخره. وهذا التقسيم قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو سهو؛ لأن الجديد أن الموهوب لا يملك إلا بالقبض كما ذكره هو في التعليل، فكيف يصح التقسيم في المملوك قبل القبض ومورد التقسيم لابد أن يكون مشتركًا بين أقسامه وأقسام أقسامه كما قررناه فيما ألفناه في علم الأصول؛ فالصواب أن يجعل مورد التقسيم مصبه بعد العقد لا بعد الملك. وقد وقع في "الروضة" فيما هو أشد من ذلك؛ فإنه تابع الرافعي على هذا التقسيم وحذف التعليل الذى ذكره الرافعي؛ فاقتضى أنا إذا فرعنا على حصول الملك بدون القبض لا يصح الاستبراء أيضًا، وهو عكس ما ذكره الرافعي وغيره. قوله: الثانية: إذا وقع الحيض أو وضع الحمل في زمان الخيار المشروط، وقلنا الملك للمشترى أو بالتوقف فوجهان: أظهرهما: أنه لا يكفي لأن الملك غير لازم في تلك الحالة. انتهى ملخصًا. وما صححه هنا من عدم الإكتفاء قد ذكر ما يخالفه في كتاب البيع في

الكلام على خيار الشرط فإنه قال فيما إذا اشتراها وشرط الخيار له فقط أن في حل الوطء طرقًا الصحيح منها أنه يبني على أقوال الملك. والصحيح أن الملك للمشترى؛ فيكون الصحيح حل الوطء، ويلزم مما قاله من الحل أن الاستبراء يكفي في زمن الخيار وإلا لكان الوطء ممتنعًا لفقدان الاستبراء. وقد وقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" و"الروضة". واعلم أن السبب في وقوع هذا الاختلاف أن الإمام والغزالي يذهبان إلى الاكتفاء بوقوع الحيض أو الحمل في زمن خيار الشرط، إذا قلنا: الملك للمشتري لأنهما صححا ذلك في هذا الباب، فلما تكلم الغزالي في "الوجيز" في البيع على الوطء أجاب بحله بناء على ما يراه في هذا الباب فلما تكلم الغزالي في "الوجيز" في البيع على الوطء أجاب بحله بناء على ما يراه في هذا الباب] (¬1) فشرح الرافعي ما قاله، ثم إنه في هذا الباب لما أشبع الكلام على المسألة رأي أن الجمهور على خلاف ما قالاه فخالفهما غير مستحضر لما سبق منهما في البيع، ثم اختصر في "الروضة" الموضعين على ما هما عليه. وقد حاول ابن الرفعة في "شرح الوسيط" الجمع بين الموضعين بأن المراد بالحل المذكور في البيع هو ارتفاع التحريم المستند إلى ضعف الملك وانقطاع سلطة البائع فيما يتعلق بحقه خاصة وإن كان التحريم باقيًا لمعنى آخر وهو الاستبراء. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفصل الثاني في السبب

الفصل الثاني: في السبب قوله: الثانية: إذا اشتري جارية مزوجة أو معتدة عن زوج أو وطء شبهة، وأجاز المشتري أيضًا البيع أو كان عالمًا بحالها فلا استبراء في الحال لأنها مشغولة بحق الغير. فإن طلقها زوجها قبل الدخول أو بعده وانقضت العدة أو انقضت عدة الشبهة فهل يجب الاستبراء على المشتري؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب لأن الموجب للاستبراء حدوث الملك ولم يكن حينئذ في مظنة الاستحلال. وأظهرهما الوجوب؛ لأن الموجب قد وجد ولا تعد في تراخي الحكم عن السبب. ثم قال: وقد يقال بوجوب الاستبراء وبرد الخلاف إلى أنه هل يدخل في العدة؟ ويقرب منه ما حكيناه عن "التهذيب" من قبل. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره بحثًا قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو عجيب؛ فإنه إنما يأتي فيمن تجب عليها العدة -وهي المطلقة بعد الدخول-، وهو قد حكي القولين في المدخول بها وغير المدخول بها مع أن المذكور في "الحاوي" و"التنبيه" و"التهذيب" لنصر المقدسي هو الجزم في غير المدخول بها بوجوب الاستبراء، وحكاية القولين في المدخول بها، وصرحوا بأن الخلاف في دخول الاستبراء في العدة. واعلم أنه لو طلق زوجته الأمة طلاقًا رجعيًا ثم اشتراها وجب الاستبراء؛ كذا جزم به الرافعي في كتاب الرجعة فينبغي استحضاره. قوله: ولو اشتراها من شريكين [وطئاها] في طهر واحد فهل يكفي

استبراء واحد لدلالته على البراءة أم يجب استبراآن كالعدتين من شخصين؟ فيه وجهان. ويجريان فيما لو وطئاها وأرادا تزويجها. انتهى. والصحيح لزوم استبراءين. كذا صححه الرافعي في كتاب العدد في آخر باب تداخل العدتين. واقتضى كلامه أن مقابله ضعيف؛ فإنه نقله عن حكاية الروياني فقط. قوله: لو وطئها قبل الاستبراء أو استمتع وقلنا بتحريمه أثم ولا ينقطع الاستبراء لأن الملك لم يمنع الاحتساب؛ فكذا المعاشرة، بخلاف العدة؛ فلو أحبلها بالوطء في الحيض فانقطع الدم حلت له لتمام الحيضة وإن كانت طاهرة عند الإحبال لم ينقض الاستبراء حتى تضع الحمل. هذا لفظه في "الوسيط". انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها القفال في "فتاويه" وجزم بأن الوطء والاستمتاع يقطعان الاستبراء، ويستمر تحريم الوطء إلى أن ينعزل عنها وتستبرئ بعد ذلك. ثم ذكر بعد ذلك كلامًا حاصله مجيء احتمال في ذلك وأنه كان يذهب إليه في نظيره من العدة لما كان مقيمًا بهراة وقبل انتقاله إلى مرو. واعلم أن ما نقله الرافعي -رحمه الله- عن "الوسيط" صحيح إلا أنه عبر عن الطاهر بالحايل -أعني بالياء- فاعلمه. قوله: ولو اشترى الأمة الموطوءة ثم أعتقها قال الأئمة: لا استبراء عليها ولها أن تتزوج في الحال ولم يطردوا فيها الخلاف المتقدم في المستولدة؛ لأن المستولدة لها حق الحرية وفراشها يشبه فراش النكاح. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم طردهم للخلاف ذكره في "الشرح الصغير" أيضًا،

وكذلك النووي في "الروضة". وليس الأمر كما قالاه؛ ففد نقل القاضي حسين في "تعليقه" عن بعضهم جريان الخلاف فيها. وصرح به أيضًا في "النهاية" و"البسيط" و"الذخائر"؛ فحكوا في الصورتين ثلاثة أوجه: والغريب أن الغزالي في "الوجيز" قد حكي هذه الأوجه، وأغرب من ذلك أن الرافعي أيضًا قد نقلها عنه في الكلام على ألفاظه وبسطها فقال: وقوله: فلو استبرأها ثم أعتقها، أراد في المستولدة والقنية جميعًا؛ ألا تراه ذكر من بعد وجهًا ثالثًا فارقًا فقال: وقيل: يمتنع ذلك -يعني التزويج- في المستولدة دون الرقيقة، وهو في وجهة اللفظ راجع إلى الجارية الموطوءة، وهذا اللفظ ينتظم المستولدة وغيرها. هذه عبارة الرافعي. قوله: وفي جواز تزويج أمّ الولد خلاف مذكور في باب أمهات الأولاد، والأصح الصحة. انتهى. وقد ذهل النووي في "الروضة" فتابع الرافعي على تعبيره بالأصح فاقتضي أن الخلاف في المسألة وجهان، وليس كذلك بل الخلاف على ما ذكره هو في ذلك الباب إنما هو قولان. قوله في المسألة: ولو استبرأها ثم أعتقها فهل يجوز تزويجها في الحال أم تحتاج إلى استبراء جديد؟ فيه وجهان. ثم قال: ويشبه أن يبني الخلاف على أن فراش أم الولد هل ينقطع بمجرد الاستبراء؟ وقضية قولنا لا ينقطع وجوب الاستبراء. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره الرافعي غريب جدًا؛ فقد صرح هو بالمسألة قبل هذا بأسطر قلائل وصحح وجوب الاستبراء، وعبر بلفظ الأصح، وذكر هذا البناء بعينه ولم يتوقف فيه كما توقف هاهنا فقال: لو مضت مدة الاستبراء

[على أم الولد ثم أعتقها سيدها أو مات عنها فهل تعتد بما مضى أم يلزمها الاستبراء] (¬1) بعد العتق؟ قال المتولي: فيه وجهان. وكذلك حكاه الروياني عن القفال، وقال في "التهذيب" فيه قولان: أصحهما أن عليها الاستبراء، لا تعتد بما مضى كما لا تعتد بما تقدم من الأقراء على ارتفاع النكاح، والخلاف مبني على أن أم الولد هل تخرج عن كونها فراشًا بالاستبراء أو الولادة. هذا لفظه. وأغرب من ذلك أن النووي حكي وجهين فقط ولم يذكر البناء الذى أشار إليه الرافعي، ثم شرع من زياداته يذكر ترجيحًا فلم يتحرر له؛ فإنه قال: قلت: أصحهما هذا لفظه، ثم ترك بياضًا يسع كلمة واحدة. هذا مع أنه ذكر قبله بأسطر مثل ما ذكره الرافعي أيضًا من التصحيح والبناء؛ فانظر كيف غفلا في هذا الزمن اللطيف؛ فسبحان من لا يسهو. واعلم أن مقتضى هذا البناء أن الصحيح أن أم الولد لا يزول فراشها بالاستبراء ووضع الحمل حتى إذا أتت بولد بعد ذلك يلحقه، بخلاف الأمة إذا استبرأها. وهذا الذى اقتضاه بناؤه قد اختلف فيه كلامه وكلام "الروضة" اختلافًا عجيبًا، وسأذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. قوله: الثانية: إذا أعتق مستولدته أو مات وهي في نكاح أو عدة زوج فلا استبراء عليها لأنها ليست فراشًا للسيد. وخرج ابن سريج قولًا أنه يلزمها الاستبراء إذا مات السيد وهي في نكاحه أو عدته بعد فراغ عدة الزوج، وحكاه السرخسى قولًا قديمًا، وحكى القول به عن الإصطخري. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يوهم أنا إذا أوجبنا الاستبراء في [الزوجة] والمعتدة فإنما يجب بعد فراغ العدة منهما معًا حتى لا يحرم على الزوج أن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يطأها ولكن إن فارقها بطلاق أو غيره اعتدت منه ثم تشرع في الاستبراء. والذى أوهمه كلامه ليس الأمر فيه كذلك بل تحرم على الزوج على هذا القول بمجرد الموت أو العتاق. كذا ذكره إمام الحرمين فإنه جعل موت السيد وهى متزوجة كعتقه لها. ثم قال: وفيهما قول مخرج أنه يجب الاستبراء كما سنضيفه. ثم قال في التفريع على وجوب الاستبراء: وإن جري العتق في أثناء النكاح فهو بمثابة ما لو جري وطء شبهة في أثناء النكاح فلابد من استعقاب سبب العدة للعدة، كذلك إذا جري العتق في أثناء النكاح فالوجه استقبال الاستبراء على الاتصال بالعتق. هذا كلامه. ولا شك أن الرافعي إنما فرع على المعتدة فذكر أن الاستبراء لا يتقدم على العدة بل يتأخر عنها؛ وكأنه ترك التفريع على المزوجة لوضوحه. وقد اختصره في "الروضة" اختصارًا فاسدًا فإنه عبر بعبارة تقتضي العود إليها معًا فقال: إذا أعتق مستولدته أو مات وهي في نكاح أو عدة زوج فلا استبراء. وخرج ابن سريج قولًا أنه يلزمها الاستبراء بعد فراغ عدة الزوج. هذه عبارته. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي من أنا إذا فرعنا على وجوب الاستبراء فشرط كونه بعد العدة قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" ومحله إذا كانت من ذوات الأشهر. فإن كانت من ذوات الأقراء كفاها الحيض الواقع في العدة. كذا جزم به الرافعي بعد هذا بنحو ورقة في الكلام على ما إذا مات السيد والزوج جميعًا في الحال الثاني منه وهو موت الزوج أولًا، فاعلمه

والعجب من إطلاق الحكم في موضعه، وذكر تفصيله الذى لا شعور للذهن به في بعض تفاريعه التي قد يغرب الشخص عنها ولا ينظر فيها، ولكن الظاهر أن الرافعي لم يقف في الموضع الأول على التفصيل، ثم وقف عليه بعد ذلك. على أن الرافعي قد ذكر بعد الموضع الثاني بنحو صفحة ما يقتضي موافقة الأول فقال في أثناء كلام: وعن أبي إسحاق رواية وجه أنه يشترط أن يكون الحيض بعد مضي شهرين وخمسة أيام من هذه المدة لئلا يقع الاستبراء وعدة الوفاة في زمان واحد. قال الأئمة: وهذا غلط من قائله؛ لأن الاستبراء إنما يجب على تقدير تأخر موت السيد وحينئذ فتكون عدة الوفاة منقضية بالمدة المتخللة ولا يتصور الاجتماع. هذا كلامه، فاقتضي أن الاجتماع حيث أمكن ممتنع، ولكن هنا غير ممكن. قوله في المسألة: وأشعر إيراد التتمة بتخصيص الوجوب بما إذا أعتقها أو مات عنها وهي في نكاح زوج انتهى وهذه الطريقة قد أسقطها النووي من "الروضة". قوله: والمستولدة المزوجة إذا مات سيدها وزوجها جميعًا فلها أحوال: أحدها: أن يموت السيد أولًا وقد مات وهي مزوجة. وقد ذكر أنه لا استبراء عليها على المذهب. فإذا مات السيد بعده اعتدت عدة حرة. الحال الثاني: أن يموت الزوج أولًا فتعتد عدة أمة، ثم إن مات السيد وهي في عدة الزوج كفاها ذلك، وإن مات بعد خروجها من العدة لزمها الاستبراء علي الأصح تفريعًا على عودها فراشًا للسيد.

الحال الثالث: أن يموت السيد والزوج معًا فلا استبراء لأنها لم تعد إلى فراش السيد، ويجيء فيها الخلاف المذكور فيما إذا أعتقت وهي معتدة، وهل تعتد عدة أمة أو عدة حرة؟ وجهان: أصحهما عند الغزالي: عدة أمة، وقطع البغوي بعدة حرة احتياطًا. الحال الرابع: أن يتقدم أحدهما ويشكل السابق. . . . إلى آخر ما قال. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التعبير قد تابعه عليه في "الروضة" وقد أهملا قسمًا خامسًا؛ وهو ألا يعلم هل ماتا معًا أو أحدهما قبل الآخر، وقد صرح به الإمام في "النهاية" وقال: إن الوجه فيه الأخذ بالأحوط وهو أربعة أشهر وعشرًا مع مراعاة الحيضة .. الأمر الثاني: أن الراجح من الوجهين الأخيرين هو ما قاله البغوي؛ فقد ذكر الماوردي في كتاب العدة بأن الطلاق والعتق إذا وقعا معًا بأن علقا على شيء واحد فإنها تعتد عدة الحرائر جزمًا، ومسألتنا مثلها، والذي قاله الغزالي إنما يأتي إذا فرعنا على أنها إذا أعتقت في أثناء العدة تتم عدة أمة، أما إذا قلنا: تتم عدة حرة، فهاهنا أولى؛ لأن الحرية مقارنة. قوله: في القسم الرابع وفيه صور: أحدها: أن يعلم أنه لم يتخلل بين موتهما شهران وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشرًا من موت آخرهما موتًا لاحتمال تأخر موت الزوج، ولا استبراء عليها على الصحيح؛ لأنها عند موت السيد زوجة أو معتدة. فإن أوجبنا الاستبراء فحكمه كما نذكره إن شاء الله في الصورة الثانية. انتهى كلامه. وما ذكره تفريعًا على إيجاب الاستبراء من أن حكمه كالحكم في الصورة الثانية قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو ذهول؛ فإنه قد حكم هناك بالتداخل؛ على ما ستعرفه، والتداخل هنا مردود؛ لأن التفريع على

إيجاب الاستبراء [والاستبراء لحق السيد] (¬1) والعدة لحق الزوج. والحقان إذا كانا الشخصان لا يتداخلان على الصحيح سواء كانا عدتين أو استبرائين أو عدة واستبراء. ولنذكر لفظه في الصورة الثانية فنقول: قال: الصورة الثانية: أن يعلم أنه تخلل بين الموتين أكثر من شهرين وخمسة أيام فعليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام من موت آخرهما موتًا، ثم إن لم تحض في هذه المدة فعليها أن تتربص بعدها بحيضة؛ لاحتمال أن الزوج مات أولًا وانقضت عدتها وعادت فراشًا للسيد، وإن حاضت في هذه المدة فلا شيء عليها، وسواء كان الحيض في أول المدة أو آخرها. انتهى كلامه. وإذا تأملته اتضح لك ما ذكره من عدم التداخل، وقد صرح به الغزالي في "البسيط" حتى أنه عبر فيه بقوله: ولا يخفى أنهما لا يتداخلان، وذكر في "النهاية" ما يشير إليه أيضًا. واعلم أن الحاصل من أصل المسألة ستة أقسام، تكلم الرافعي على خمسة منها وأهمل سادسها؛ وهو أن تعلم عين السابق ثم تنشيء، وقياسه الاحتياط. قوله: ولو تخلل شهران وخمسة أيام بلا مزيد فهل هو كما لو كان التخلل أقل من هذه المدة أم كما لو كان أكثر؟ فيه الوجهان السابقان. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره في آخر كلامه بالوجهين ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وهو يشير بذلك إلى وجهي الغزالي والبغوي المتقدمين المذكورين فيما إذا مات السيد والزوج معًا هل تعتد عدة حرة أو عدة أمة؟ لأن تردد هذا بين الأكثر والأقل كتردد ذلك بين تقدم العتق وتأخره؛ فاستويا في مراعاة الاحتياط والتيقن. الأمر الثاني: أن الفتوى على أن حكم ذلك حكم الأكثر فقد نقله المزني في "المختصر" عن الشافعي - رضي الله عنه -[ونقله عنه الماوردي فقال: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قال الشافعي - رضي الله عنه -]: (¬1) فإن ماتا فعلم أن أحدهما مات قبل الآخر بيوم أو شهرين وخمس ليال أو أكثر ولا يعلم أيهما مات أولًا اعتدت من الأخير منها بأربعة أشهر وعشرًا فيها حيضة؛ فقد نص الشافعي على الشهرين والخمس ليال وعلى الأقل منها وألحقها الأكثر، ثم إن المزني سلم إلحاق الشهرين والخمس ليال بالأكثر، واعترض على الأول فقال: هذا عندي غلط في الأول؛ لأنه لا معني للحيضة. ثم إن الماوردي سلم للمزني صحة الحكم الذي قاله، وكذلك غيره من الأصحاب. قوله: ولهذا ولد أمّ الولد يلحقه إذا ولدته بعد ستة أشهر من حين استبرأها، وولد الأمة لا تلحقه. قاله الروياني. انتهى كلامه. وما ذكره في ولد الأمة مسلم، وأما في ولد أمّ الولد فقد اختلف فيه كلامه، وسأذكره واضحًا في الفصل الذي يلي هذا. قوله: ولو قال السيد: قد أخبرتني بتمام الاستبراء فقد أطلق في الكتاب أنه يصدق السيد. ووجه بأن الاستبراء من باب التقوى ففوّض إلى السيد وليس ذلك بحال الخصومات ولو لم يكن كذلك لحلنا بين السيد وبينها كلما نحول بين الزوج والمعتدة عن وطء الشبهة واستند فيه إلى وجه آخر توجها بأن الأصل عدم انقضاء الاستبراء. وهل لها أن تحلفه؟ فيه وجهان. . . . إلى آخره. لم يصحح شيئًا من المسألتين في "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح في الأولي تصديق السيد. كذا جزم به الرافعي في "المحرر" وصححه في "الروضة" ولم ينبه فيها على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي؛ فتفطن له فإنه غريب. وأما الثانية: فالأصح فيها أن للأمة التحليف. كذا صححه في "الروضة" من "زوائده". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الفصل الثالث فيما تصير به الأمة فراشا

الفصل الثالث: فيما تصير به الأمة فراشًا قوله في أصل "الروضة": ولو نفي الولد مع الاعتراف بالوطء بأن ادعى [الاستبراء] بحيضة بعد الوطء فينظر إن ولدته لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء فالاستبراء لغو ويلحقه الولد، فلو أراد نفيه باللعان فقد سبق في كتاب اللعان أن الصحيح جوازه في هذه الصورة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تصحيح الجواز عكس ما ذكره الرافعي؛ فإنه قال ما نصه: فلو أراد نفيه باللعان فقد مر أن الصحيح أن نسب ملك اليمين لا ينفي باللعان، وادعي أبو سعد المتولي أن الصحيح في هذه الصور أن له أن يلاعن؛ لأن من وطئ زوجته في طهر ورماها بالزنا في ذلك الطهر وأتت بولد كان له نفيه باللعان؛ فيبعد أن نلزمه بنسب ولد الأمة في هذه الحالة ولا نلزمه بنسب المنكوحة هذا لفظه؛ ومقتضاه: أن الصحيح خلاف ما قاله المتولي، وقد حذف في "الشرح الصغير" مقاله المتولي واقتصر على المذكور قبله وهو تصحيح عدم النفي؛ فدل على ضعف تلك المقالة كما قلناه؛ وحينئذ فيكون كلام "الروضة" على العكس مما في الرافعي وهو المدعي. الأمر الثاني: أن كلامه هذا مخالف لما قد سبق منه في الباب الثالث من أبواب اللعان قبل الطرف الثالث بأسطر فإنه قال: فصل: إذا لحقه بسبب ملك يمين في مستولدة أو موطوءة بشبهة لم ينتف عنه باللعان على الأظهر، وقيل قطعًا. ثم قال بعد ذلك ما نصه: ولو اشترى أمة فوطئها بعد الشراء أتت بولد لستة أشهر فصاعدًا من وقت الوطء ولدون أربع سنين من وقت الشراء فإن

لم يدع الاستبراء بعد الوطء لحقه الولد بملك اليمين. وهل له نفيه باللعان؟ فيه الطريقان: فإن ادعي الاستبراء بعد، فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الاستبراء فالحكم كذلك وتلغو دعوي الاستبراء، وإن كان لستة أشهر فأكثر لم يلحقه الولد على الأصح. هذا لفظه. وبه يعلم أن المذكور هنا غير صحيح. واعلم أنا إذا قلنا: ينتفي بدعوي الاستبراء، هل معناه أن دعوي الاستبراء هل تكفي أو لابد مع الدعوي من اليمين؟ لم يتعرض له الرافعي، وفيه نظر. قوله: ويقرب من هذا الخلاف اختلافهم فيما إذا أتت بولد بعد الولد الذي ألحقناه بالسيد لستة أشهر فصاعدًا هل يلحقه الولد الثاني؟ فأحد الوجهين أنه يلحقه لأنها قد صارت فراشًا فيلحقه أولادها عند الإمكان كما في النكاح. والثاني: أنه لا يلحقه إلا أن يقر بوطء جديد لأن هذا الفراش يبطل بالاستبراء فلأن يبطل بالولادة كان أولى. ثم قال: لكنهم مائلون إلى أنه لا يلحق الولد الثاني إلا بالإقرار بوطء جديد لأن الولادة أقوي من الاستبراء، والاستبراء يبطل هذا الفراش كما تقرر. انتهى كلامه. وحاصله ترجيح الأصحاب لعدم اللحوق، وهو ظاهر متجه، وقد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وعبر بالأصح. إذا علمت ذلك فقد خالفه مخالفة عجيبة في أثناء الباب الرابع من أبواب الإقرار؛ فإنه جزم بأنه يلحق، ثم نقل عدم اللحوق وجهًا عن

"التتمة"، وأشعر به حتى قال: إنه لم يره لغيره، وقد تقدم ذكر لفظه هناك وتابعه في "الروضة" أيضًا. قوله الثالثة: الإقرار بالإتيان في غير المأتي لا يكون كالإقرار بالوطء فلا يلحق به الولد، وفيه وجه ضعيف. انتهى كلامه. وما صححه في الإتيان في غير المأتي -أي: في الدبر- من كونه لا يلحقه الولد حتى بالغ فضعف اللحوق: غريب جدًا، فإنه كان قد ذكر ما يقتضيه أيضًا قبل ذلك في أوائل باب قذف الزوج، وصرح في "الروضة" بتصحيحه [لأجل ما فهمه من اقتضاء كلام الرافعي له. فقد جزم -أعني الرافعي- بالذي ادعى] (¬1) هنا أنه ضعيف في أوائل الطلاق في الكلام على السبب الثاني من الأسباب التي تقتضي كون الطلاق بدعيًا فقال: ولو أتاها في غير المأتي ففيه تردد للشيخ أبي علي، والأصح أنه يوجب تحريم الطلاق كما يثبت به النسب وتجب به العدة. هذا لفظه وصححه أيضًا قبل ذلك في أوائل القسم الخامس المذكور بعد ثبوت الخيار للقنية، وعبر بلفظ الأصح فقال: وهل يثبت به النسب؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأنه قد يسبق الماء إلى الرحم من غير شعور به، وإنما يظهر الوجهان فيما إذا أتي السيد أمته في غير المأتي، أو فرض ذلك في النكاح الفاسد، فأما في النكاح الصحيح فإمكان الوطء كاف في ثبوت النسب. هذا لفظه. فانظر كيف جزم باللحاق في موضع ثم صححه في آخر ثم ضعفه في موضع ثالث فقال: إنه وجه ضعيف، ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الشرح الصغير" و"الروضة". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في أركانه قوله: فلبن البهيمة لا يتعلق به تحريم حتى إذا شرب منه صغيران لم تثبت بينهما أخوة لأن الأخوة فرع الأمومة، فإذا لم تثبت الأمومة التي هي الأصل لا تثبت الأخوة. انتهى. وما ذكره في الاستدلال قد صرح بعكسه بعد هذا فقال: وإذا كان لرجل خمس مستولدات فارتضع صبي من كل واحدة رضعة، فقيل: لا يصير الرجل أبًا له؛ لأنه [لا] (¬1) أمومة فلا أبوة. ثم قال: وأصحهما أنه يصير، ويجوز أن تثبت الأبوة دون الأمومة كما [يجوز أن تثبت الأمومة دون الأبوة كما] (¬2) إذا در لبن بكر أو ثيب لا زوج لها. قوله: وعن ابن أبي هريرة أنه يستدل باللبن على أنوثة الخنثي عند فقد سائر الأمارات. وظاهر المذهب أن اللبن لا يقتضي الأنوثة، وقد أشرنا إلي الخلاف فيه في كتاب الطهارة. انتهى. وهذا الوجه الذي أشار إلى تقدمه قد ذكره -أعني الرافعي- في نواقض الوضوء، ولا ذكر له في "الروضة" بالكلية، وقد أوضحت ذلك في باب النواقض فليراجع. قوله: فإن حلب لبن امرأة بعد موتها وأوجر الصبي أو ارتضع من ثدي ميتة لم يتعلق به التحريم، خلافًا للأئمة الثلاثة، ثم قال: واحتج ¬

_ (¬1) سقط من جـ. (¬2) سقط من أ، ب.

الأصحاب بأنه لبن حرام قبل انفصاله فلا يتعلق به التحريم اللبن المنفصل من الرجل. انتهى كلامه. وما ذكره من تقييد الحرمة بكونه قبل الانفصال تقييد عجيب لا فائدة له بل غير معقول؛ لأن الأعيان لا توصف بالحل والحرمة، وإنما الموصوف بذلك أفعال المكلفين المتعلقة بها؛ فالذي يمكن تعلق التحريم به في مسألتنا إنما هو حلبه مثلا أو شربه أو نحو ذلك، ولفظه لا يدل عليه، وبتقدير إرادته فللخصوم منع هذا الحكم في المقيس والمقيس عليه معًا. وقد اختلفوا في طهارة لبن الرجل والمرأة الميتة كما تقدم إيضاحه في كتاب الطهارة. قوله: نقلًا عن الحليمي: وهذا شيء استنبطته أنا وكان في قلبي منه شيء حتى عرضته على القفال الشاشي، وابنه [القاسم فارتضياه. فسكت. انتهى] (¬1). وابنه بالنون لا بالياء؛ فإن القاسم هو ابن القفال، والقاسم هذا هو صاحب "التقريب" كما تقدم إيضاحه في مقدمة الكتاب. قوله: ولا يحصل التعدد بأن يلفظ الثدي ثم يعود إلى الاكتفاء في الحال، ولا بأن يلهو عن الامتصاص والثدي في فمه ثم يعود إلى [الامتصاص]. انتهى كلامه. وما ذكره في المسألة الثانية من التقييد ببقاء الثدي في الفم قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو يوهم اشتراطه. وليس كذلك؛ فقد قال الشافعي في "المختصر": فإن التقم الثدي فلها قليلًا فإن تفله ثم عاد إليه كانت رضعة واحدة هذا لفظه بحروفه. وهو واضح من جهة المعنى. قوله: ولو حلب خمس نسوة في إناء واحد وأوجر الصبي دفعة واحدة حصلت من كل واحدة رضعة، وإن أوجر في خمس دفعات فقد حكي فيه وجهان؛ والذي أورده القاضي الروياني منهما ثبوت الحرمة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

انتهى كلامه. والأصح أن ذلك لا يثبت التحريم بل يحسب من كل واحدة رضعة؛ فقد ذكر الرافعي قبل هذا أن المرأة إذا حلبت دفعة واحدة ثم أوجر الصبي في خمس دفعات كان رضعة على الأصح عند الأكثرين. وهذه هي المسألة بعينها ولأجل هذا صححه النووي في أصل "الروضة" والعجب من الرافعي في ذكره له ثانيًا على صورة توهم رجحان خلاف الراجح. قوله: لنا ما روي عن عائشة -رضى الله عنها- أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن (¬1). . . . إلى آخر الحديث. القعيس: بقاف وعين مفتوحتين وسين مهملة: هو خروج الصدر ودخول الظهر، ضد الحدب، تقول: رجل أقعس وقعيس، والواقع في الحديث مصغر فيجوز أن يكون تصغيرًا لكلٍ من الثلاثة المذكورة، إلا أنه إن كان تصغيرًا لأبي قعيس فيكون محذوف الزائد لكونه تصغير ترخيم والحديث صحيح رواه الشيخان. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1256)، والبخاري (4518)، ومسلم (1445) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

الباب الثاني: فيما يحرم بالرضاع

الباب الثاني: فيما يحرم بالرضاع قوله: أما اللبن النازل على ولد الزنا فلا حرمة له حتى لا يحرم على الزاني أن ينكح الصغيرة التي ارتضعت من ذلك، لكنه يكره، وقد حكينا في النكاح وجهًا أن الزاني لا يجوز له أن ينكح بنت الزنا؛ فيشبه أن يجيء ذلك الوجه هاهنا أيضًا. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إجراء هذا الوجه بحثًا، وهو يقتضي أنه لم يقف على نقله، وقد صرح بنقله الإمام في "النهاية" والغزالي في "البسيط". قوله: واستشهد لذلك بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أنا سيد ولد آدم بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت في بني زهرة" ويروي: (¬1) "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش. ." إلى آخره. وكانت هذه القبائل أفصح العرب. انتهى كلامه. وبيد.: بباء موحدة مفتوحة، ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت، بعدها دال مهملة معناها غير. ¬

_ (¬1) تقدم.

الباب الثالث: في بيان الرضاع القاطع للنكاح وحكم الغرم فيه

الباب الثالث: في بيان الرضاع القاطع للنكاح وحكم الغرم فيه قوله: وكل امرأة يحرم عليه أن ينكح بنتها إذا أرضعت تلك المرأة زوجته الصغيرة خمس رضعات ثبتت الحرمة وانقطع النكاح وغرمت المرضعة للزوج نصف مهر مثلها على الأظهر المنصوص. وفي قول: المهر. وفي ثالث: المسمى. وفي رابع: نصفه. انتهى. وما ذكره من تصحيح القول بنصف المهر تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وقد سبق منهما ما يخالفه في الحج في باب محرمات الإحرام في النوع الرابع المعقود للحلق والقلم، فإنهما جزما هناك بإيجاب المهر، وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: ولا فرق في الغرم بين أن يجب عليها الإرضاع بأن لا تكون هناك مرضعة غيرها أم لا، وفيه احتمال للشيخ أبي حامد. انتهى كلامه. وهذا الاحتمال الذى نقله واقتضي كلامه عدم التصريح بحكايته وجهًا قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو وجه صرح به جماعة منهم الماوردي هنا، والعمراني في "الزوائد" في كتاب النكاح. قوله: الثاني: عن ابن الحداد أنه قال: لو كانت الصغيرة مفوضة وأرضعتها أم الزوج فالواجب لها على الزوج المتعة والزوج يرجع على المرضعة بالمتعة. قال الأئمة: هذا إنما يتصور أولًا فيما إذا كانت الصغيرة أمة فزوجها السيد بلا مهر، وأما الحرة الصغيرة فلا يتصور في حقها التفويض.

ثم القول بأن الزوج يرجع بالمتعة يوافق من الأقوال المذكورة القول الذاهب إلى أنه يرجع بنصف المسمى، والظاهر أنه يرجع بنصف مهر المثل أو جميعه وإن كان الذى غرمه نصف المسمى فكذلك الحكم هاهنا. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على تصوير المسألة بما ذكرناه، وقد أهملا أمرًا آخر لا تتصور المسألة بدونه؛ وهو أن يكون الزوج عبدًا؛ فإن الحر المستجمع لشروط نكاح الأمة ليست له نكاح أمة صغيرة على الصحيح المذكور في بابه؛ لأنه لا يأمن بها من العنت. إذا علمت أنه لا يتصور إلا بما ذكرناه اتجه لك حينئذ أن تقول: إذا كان عبدًا لم يثبت الرجوع له بل لسيده كما صرح به الرافعي قبل هذه المسألة، وتصريحه هنا بقوله: والزوج يرجع .. إلى آخره، لا يستقيم إلا في الحر، وقد تقرر أن المسألة لا تتصور إلا في العبد. نعم إذا عتق العبد قبل الرضاع استقامت هذه المسألة فتلخص أنها لا تتصور إلا بأن تكون الزوجة أمة والزوج عبدًا وقد عتق قبل استكمال الرضاع. قوله: ولو أوجرها خمسة أنفس من لبن أم الزوج أو غيرها من المذكورات كل واحدة مرة فعلى كل واحد منهم خمس الغرم. ولو أوجر واحد مرة وآخران كل واحد مرتين فقيل: يوزع الغرم عليهم أثلاثًا لاشتراكهم في إفساد النكاح، وقيل: على عدد الرضعات وهو أصح ما ذكره ابن كج. انتهى ملخصا. صحح النووي في "أصل الروضة" ما صححه ابن كج. قوله: الرابع: لو أرضعت بتخويف الغير قال في "البحر": فالغرامة عليها في أصح الوجهين، وعلى المخوف في الثاني. انتهى كلامه.

وما نقله هنا عن تصحيح الروياني وأقره ذكر مثله في "الروضة" وصرح بتصحيحه ابن الرفعة في "الكفاية" والصحيح خلافه؛ وذلك لأن الإكراه على الإرضاع في هذه الحالة إكراه على إتلاف البضع؛ وحينئذ فتكون هذه المسألة فردًا من قاعدة الإكراه على الإتلاف وفيها أربعة أوجه ذكرها الرافعي في الجنايات بعد الكلام على الإكراه على القتل: الأول والثاني: ما ذكره الرافعي هنا. والثالث: عليهما نصفان، والرابع: للمالك أن يطالب من شاء منهما، غير أنه إذا طولب المتلف رجع على الآمر. قال الرافعي: وهذا أصح الوجوه وتبعه عليه في "الروضة". قوله في الروضة: ولو ارتضعت منها وهي مستيقظة ساكتة فهل يحال الرضاع على الكبيرة لرضاها به أم لعدم فعلها كالنائمة؟ وجهان حكاهما ابن كج. قلت: الأصح الثاني، والله أعلم. وهذا التصحيح الذي ذكره من زوائده وهو كونه لا ينسب إلى الكبيرة غلط؛ فقد جزم في أول الفرع بعكسه فقال: فرع: إنما يجب الغرم في الصور السابقة على أم الزوج ومن في معناها إذا أرضعت أو مكنت الصغيرة من الإرضاع. هذا لفظه. فجزم بأن الفعل لا يشترط بل يكفي التمكين. وذكر الرافعي مثله أيضًا وهو الحق فقد جعلوا مثل هذا تمكينًا منسوبا إليه فيما إذا أتلف شخص وديعة تحت يده، أو صب في جوفه وهو صائم شيئًا من المفطرات، أو حمله فدخل به الدار المحلوف عليها، وغير ذلك. واعلم أن الرافعي لم يذكر هذه المسألة هنا بل ذكرها في آخر الباب الذي يلي هذا وهو آخر أبواب الرضاع؛ فإما أن يكون النووي نسى هذه المسألة التي مر عليها في هذا الباب -وهو الظاهر- فرجح من عنده هذا الترجيح، وإما أن يكون قد أراد التعبير بالأول فعبر بالثاني غلطًا. قوله: ولو أرضعتها الأم أربع رضعات ثم ارتضعت الصغيرة منها

وهي نائمة المرة الخامسة فقد قال صاحب "التتمة" في نظيره لأصحابنا اختلاف؛ وهو أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا على التلاحق يتعلق التحريم بالطلقة الثالثة وحدها أو بالطلقات الثلاث؟ إن قلنا: تعلق بالثالثة وحدها فكذلك هاهنا يحال التحريم على الرضعة الأخيرة، ويكون الحكم كما لو ارتضعت الخمس وصاحبه اللبن نائمة فلا غرم على الكبيرة ويسقط مهر الصغيرة. وإن قلنا بالثلاث تعلق التحريم هاهنا بالرضعات. ثم قال ما نصه: وعلي هذا قياس التوزيع على الرضعات أن يسقط من نصف المهر خمسه، ويجب على الزوج أربعة أخماسه، ويرجع على المرضعة بأربعة أخماس مهر المثل تفريعًا على القول الأظهر. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من أنه يرجع على التي أرضعت بأربعة أخماس المهر إذا فرعنا على القول الراجح غلط، تبعه عليه في "الروضة"، بل الأمر كما قال من أنه يرجع بالأخماس الأربعة، فأما كون تلك الأربعة من مهر المثل كاملًا فلا بل من نصف مهر المثل؛ وذلك لأن أمّ الزوج مثلًا إذا أرضعت زوجة ابنها وحكمنا باندفاع نكاح الصغيرة أوجبنا لها نصف المسمى بلا نزاع. وهل يرجع الزوج بالمسمي كاملًا أو نصفه أو بمهر المثل كاملًا أو بنصفه؟ فيه أقوال أربعة: أظهرها الأخير. هكذا ذكره الرافعي قبل هذا بنحو ورقة، وتبعه عليه النووي. فإذا فرعنا علي ما قالا أنه الأظهر -وهو أنه لا يرجع علي من أفسده إلا بالنصف- لزم حينئذ ما قلناه وهو أنه يرجع علي التي أرضعت بأربعة أخماس ذلك النصف خاصة؛ لأنه الذي وجب له. وقد ذكر الرافعي والنووي أمثله أخرى غير هذا علي ما ذكرناه من الصواب.

الباب الرابع: في النزاع

الباب الرابع: في النزاع قوله: ويروي أن عقبة بن الحارث نكح ثيبًا لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة وقالت: قد أرضعت عقبة والتي نكحها. قال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتيني، فركب إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة فسأله عن ذلك فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف وقد قيل؟ ففارقها ونكحت زوجًا غيره (¬1). قوله: ولو شهد اثنان بالرضاع وقالا تعمدنا النظر إلى الثدي لا لتحمل الشهادة لم تقبل شهادتها لأنهما فاسقان بقولهما. انتهى كلامه. والحكم بفسقهما بالنظر مردود فإنه ليس كبيرة ولا إصرار على صغيرة، وقد اعترض النووي عليه في ذلك. فقال: قلت: مجرد النظر معصية صغيرة لا ترد الشهادة ما لم يصر عليه فاعله ويشترط أيضًا أن لا تكون ظهرت توبته بعد ذلك والله أعلم. وكلامه يقتضي أنه إذا أصر على النظر وحده ردت شهادته، والراجح على ما ذكره هو الرافعي في كتاب الشهادات خلافه؛ فإنهم صححوا أن تكرار النوع الواحد لا يقتضي رد الشهادة، وسوف أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: الثانية: أطلق جماعة أن الشهادة المطلقة بأن يكون بينهما رضاعًا محرمًا مقبولة. وقال الأكثرون: لابد من التعرض للشرائط. ثم قال: ويحسن أن يفصل فيقال: إن كان المطلق فقيهًا موثوقًا بمعرفته فنقبل منه الإطلاق وإلا فلابد من التفصيل. انتهى كلامه. وكونه فقيهًا لا يكفي بل ينبغي أن يكون فقيهًا على مذهب القاضي، وكلاهما مقلد. فلو كانا مجتهدين قال في "المطلب": ففيه نظر؛ لأنه قد يتغير اجتهاد أحدهما عند الشهادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (88) من حديث عقبة بن الحارث - رضي الله عنه -.

كتاب النفقات

كتاب النفقات وأسبابها ثلاثة: النكاح، والقرابة، والملك. السبب الأول: النكاح: وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في قدر النفقة وكيفيتها قوله: لوجوب النفقة أسباب ثلاثة: ملك النكاح، وملك اليمين، وقرابة البعضية. فالأول والثاني يوجبان النفقة [للمملوك] على المالك دون العكس، والثالث يوجبها لكل من القريبين على الآخر. انتهى. وهذا الحصر يرد عليه أمور: منها: إذا نذر هديًا أو أضحية تجب نفقتها عليه مع انتقال الملك إلى الفقراء. ومنها نصيب الفقراء من الماشية بعد الحول وقبل إمكان الإخراج تجب نفقته على المالك على ما يقتضيه كلامهم. ولا يحضرني الآن نقله. ومنها نفقة خادم الزوجة، على ما بينوه بعد ذلك؛ فإن الأسباب الثلاثة منتفية عنه مع وجوب نفقته. وكذلك استعارة الحيوان؛ فإنها توجب نفقته علي المستعير كما قاله القاضي حسين، وقال الماوردي في "الإقناع" والعمراني في "البيان": تجب علي المالك وهو القياس، وبه جزم ابن الرفعة في "الكفاية" في الكلام علي نفقة خادم المرأة. قوله: واستخرج الأصحاب من خبر هند -وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذي

من النفقة ما يكفيك ويكفي ولدك" (¬1) فوائد منها: أنه يجوز للقاضي أن يقضى بعلمه على الغائب. وأجيب عنهما بأنه أفتى ولم يقض. انتهى كلامه. وما ذكره هاهنا من أنه أفتى أو حكم على غائب ذكره في ثلاثة مواضع من كتابه: أولها ما ذكرناه، وثانيها: في باب نفقة الأقارب، وثالثها: في أول القضاء على الغائب، واختلف فيها كلامه؛ فرجح في الموضع الثاني أنه إفتاء وبه يشعر كلامه هنا، وجزم في الثالث بأنه حكم علي غائب، وسوف أذكر لفظ كل موضع في بابه إن شاء الله تعالى. قوله: وفي قدر الواجب ثلاثة أقوال: أصحها أنه يجب على الموسر مدان؛ لأنه أكثر ما وجب للمحتاج الواحد؛ وذلك في كفارة الحلق ونحوه. وعلى المعسر مد؛ لأنه أقل ما وجب؛ وذلك في كفارة الجماع في رمضان ونحوه؛ لأنه يكتفي به الزهيد ويتبلغ به الرغيب. وعلى المتوسط نصف هذا ونصف هذا؛ وهو مد ونصف. والثاني: أنها معتبرة بالكفاية كما في نفقة القريب. والثالث: عن رواية صاحب "التقريب" أن الاعتماد فيها على فرض القاضي، وعليه أن يجتهد ويقدر، وقيل: المعتبر عرف الناس في البلد. انتهى ملخصًا. وما نقله عن صاحب "التقريب" من عدم التقدير مطلقًا غلط فإن أصل معرض حكايته عنه هو الإمام في "النهاية" فقال ما نصه: حكى صاحب "التقريب" والشيخ أبو عليّ في نفقة التوسط والزيادة على المد في نفقة الخادمة في حق الموسر أنه لا تقدير في الزيادة وإنما النظر إلى اجتهاد القاضي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5049) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

هذه عبارته. وحاصله أنه إنما يرجع إلى اجتهاد القاضي في نفقة المتوسط خاصة؛ فظاهره أيضًا أنه لا يرجع إليه في [المد، بل في] (¬1) الزيادة عليه. ثم إن الغزالي في "الوسيط" نقل كلام الإمام بعبارة موهمة فقال: ونقل صاحب "التقريب" قولًا أن الزيادة على المد لا مرد لها، وهو إلى فرض القاضي. هذا لفظه، وهو موافق لنقل الإمام في أنه لا مدخل لاجتهاد القاضي في نفقة المعسر ولا في المد بالنسبة إلي الموسر والمتوسط لكنه مخالفة له في أنه يرجع فيما زاد علي المد في حقهما معا. ثم إن الرافعي نقل كلام "الوسيط" علي أزيد مما فيه من الخلل فانتهى إلي ما قد علمت. وقد تقدم الكلام علي الزهيد في الشركة وغيرها. قوله: وفيما يضبط به اليسار والإعسار والتوسط أوجه. ثم قال: والرابع -وهو أحسنها، وهو الذي ذكره الإمام والغزالي- أن من لا يملك شيئًا يخرجه عن استحقاق سهم المساكين فهو معسر، ومن يملكه ولا يتأثر بتكليف المدين موسر، والذي يملكه ويتأثر بتكليف المدين ويرجع إلي حد المسكنة متوسط. ولابد في ذلك من النظر إلى الرخص والغلاء. انتهى. وهذا الذي نقله عن الإمام ليس وافيًا بما قاله؛ فإن في كلامه زيادات شارحة لما ذكره الرافعي ومقيدة له؛ فإنه قال -أعني الإمام-: المعسر هو الذي يستحق سهم المساكين، ولذلك من لا يستحق سهم المساكين لقدرته على الكسب ولا يملك مال فهو معسر أيضًا وإن كان يحصل له من كسبه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أضعاف ما يحتاج إليه، والمتوسط هو الذي يملك من المال ما يخرجه عن استحقاق سهم المساكين لكنه لو كلف مدين لأوشك أن ينحط للإعسار، والموسر هو الذي يملك من المال ما يخرجه عن استحقاق سهم المساكين ولو كلف المدين لم ينحط بذلك إلى المتوسط فضلًا عن الإعسار هذا كلامه. إذا علمت ذلك فقول الرافعي في الموسر (ولا يتأثر بتكليف المدين)، لم يبين المراد بالتأثر صريحًا، وقد فسره الإمام بأنه لا ينحط بذلك إلى التوسط فضلًا عن الإعسار، وأيضًا لم يبين حقيقة المعسر علي التمام؛ بل كلامه يوهم أن من خرج عن استحقاق سهم المساكين لا يكون معسرًا، وقد بينه الإمام كما تقدم. وأيضًا فإنه قال في المتوسط: بل يرجع إلى حد المسكنة، وليس ذلك شرطًا عند الإمام؛ بل الشرط عنده أن يرجع بذلك إلى حد الإعسار، وهو أعم من حد المسكنة؛ فإن كل مسكين معسر وليس كل معسر مسكينا؛ فإن من خرج عن استحقاق سهم المساكين بالكسب الواسع معسر عند الإمام وليس مسكينًا كما صرح هو به -أعني: الإمام-. قوله: وفي من بعضه حر وبعضه رقيق وجهان: أصحهما: أنه ليست عليه إلا نفقة المعسرين؛ لنقصان حاله وإن كثر ماله ببعضه الحر. والثاني: نفقة الموسر. انتهى. تابعه في "الروضة" علي إلحاقه بالمعسرين، لكنهما في الكفارات ألحقاه بالموسرين وأوجبوا عليه التكفير بما عدا العتق من المال كما أوضحوه في كتاب الظهار وكتاب الأيمان، وذكرا في نفقة الأقارب نحوه أيضًا؛ فإنهما نقلا عن "البسيط" أن الظاهر وجوبها عليه، وأقراه كما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالي. قوله: وليس من المعاشرة بالمعروف تكليفها الصبر علي الخبز

البحت. انتهى. البحت: بباء موحدة مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم تاء بنقطتين: هو الصرف الخالص، والمراد به هاهنا: الخالي من الأدم. قوله: ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو صبيًا أو محرمًا لها. وفي مملوكها والشيخ الهم اختلاف، وفي الذمية وجهان؛ لأن النفس تعاف استخدامها. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه وفيه أمور تعرف مما سبق في أوائل النكاح في الكلام علي النظر. الأول: أن هذا الحصر يرد عليه الممسوخ -وهو مقطوع الذكر والأنثيين معًا-؛ فإن الأصح أن نظره كنظر المحارم، بخلاف مقطوع أحدهما. الثاني: أن الصبي المراهق حكمه حكم البالغ علي الأصح؛ فلابد من استثنائه. الثالث: أن المرجح في مملوكها الجواز، بخلاف الشيخ الهم والذمية. الأمر الرابع: أن تعليل المنع في الذمية بأن النفس تعاف استخدامها تعليل مناف لتصوير المسألة فإنه ينتظم في عدم الجواز، وهذا التعليل إنما يصلح لعدم إجبار المرأة عليه، ولا شك أنهما خلافان: أحدهما: ما ذكره الرافعي هنا أعني الخلاف في الجواز وهو الخلاف المذكور في النكاح في جواز نظر الذمية إلى المسلمة لكون الخدمة لا تنفك عن النظر؛ ولأجل ذلك أجروا الخلاف في عبدها والشيخ الهرم لما ذكرناه من ملازمة الخدمة للنظر، والأصح من ذلك الخلاف هو التحريم. وأما الخلاف الثاني فهو إجبار المرأة عليه، إذا قلنا بجوازه وفيه وجهان حكاهما صاحب البيان ولم يذكر الخلاف في الجواز بالكلية وعلل عدم

الإجبار بما ذكره الرافعي وهو عفافة النفس، وعبر باللفظ الذي ذكره فاختلط علي الرافعي الخلاف الأول بالخلاف الثاني؛ فأخذ تعليل الثاني وعلل به الأول، أو سقط الخلاف الثاني من نسخ الرافعي وبقي تعليله فقط. قوله: الثالثة: لو قالت: أنا أخدم نفسي، وطلبت الأجرة أو نفقة الخادمة لم يلزمه ذلك؛ لأنها أسقطت مرتبتها وله أن لا يرضى بذلك لأنها تصير مبتذلة، وأشار في "البسيط" و"الوسيط" إلى خلاف فيه. انتهى كلامه. واعلم أن كلام الإمام في "النهاية" يقتضي أنه لم يقف في المسألة على نقل؛ فإنه قال: ولو قالت له: أنا أخدم نفسى فسلم إليّ نفقة الخادم فلست أري لها ذلك فإنها أسقطت مرتبة نفسها، وذكر الغزالي في "البسيط" نحوه فقال: فيه: نظر، والظاهر أنه لا يجب. هذا لفظه. ثم اختصر في "الوسيط" فعبر بقوله: فالظاهر أنه لا يلزمه، ولم يزد عليه. وإذا نظرت إلى جميع ما ذكرناه قطعت بأن الغزالي لم يقصد إثبات خلاف في المسألة على خلاف ما فهمه الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة". قوله: وهاهنا كلامان: أحدهما ذكره أبو الفرج الزاز أن الذي يجب على الزوج كفايته في حق المخدومة الشريفة الطبخ والغسل ونحوهما دون حمل الماء إليها للشرب وحمله إلى المستحم؛ لأن الترفع عن ذلك رعونة لا عبرة بها. والثاني: قال البغوى يعني بالخدمة: ما هو حاجتها كحمل الماء إلى المستحم وصبه علي يدها وغسل خرق الحيض ونحوها، فأما الطبخ والكنس والغسل فلا يجب شيء منها على المرأة ولا على خادمها بل هو

على الزوج إن شاء فعله بنفسه وإن شاء بغيره. فالكلامان متفقان علي أنه لا يتوظف النوعان على خادم المرأة والاعتماد من الكلام على ما ذكره البغوي. انتهى. قال في "الروضة" الذي أثبته الزاز من الطبخ والغسل ونحوهما هو في ما يختص بالمخدومة، والذي نفاه البغوي منهما هو فيما يختص بالزوج كغسل ثيابه والطبخ لأكله ونحوه. والطرفان متفق عليهما؛ فلا خلاف بين الجميع في ذلك، والله أعلم. قوله: فإن جرت عادة أهل البلد بالكتان أو الخز أو الحرير فوجهان: أحدهما: لا يلزم ذلك، بل له الاقتصار على القطن. وأصحهما اللزوم على عادة البلد وتفاوت بين الموسر والمعسر في مراتب ذلك الجنس. انتهى كلامه. وما ذكره من إطلاق عادة البلد تبعه عليه في "الروضة"، وقيده في "المحرر" بما إذا جرت لمثله فقال: فإن جرت عادة البلد بالكتان والحرير لمثله فأظهر [الوجهين] لزومه، هذا لفظه. وذكر في "المنهاج" مثله أيضًا. قوله: ففي الشتاء على الموسر نهارًا طنفسة، وعلى المتوسط زلية، ولليل مصرية وثيرة أو قطيفة ولحاف، وأوجب الغزالي مع ذلك الشعار. ثم قال: الأكثرون سكتوا عنه، ويمكن تخصيص الشعار بالصيف كما يخصص اللحاف بالشتاء، ويمكن أن يقال في الشتاء يجب الشعار مع اللحاف ويجب القميص مع الجبة، والحكم في جميع ذلك مبني على العادة. انتهى كلامه. وما ذكره بحثا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه قد نص عليه الشافعي

في "الأم" وأجاب بالاحتمال الأول وصرح به أيضًا بعض الأصحاب. كذا نقله في المطلب. واعلم أن الطنفسة بساط صغير ثخين له وبرة كثيرة. والزلية: بكسر الزاي وتشديد اللام شيء مضروب صغير. والوثيرة: بالثاء المثلثة هي الوطيئة من كثرة حشوها، وكذلك الوثر بالكسر، والوثار، وامرأة وثيرة كثيرة اللحم، ووثر الشيء بالضم وثارة فهو أوثر أي: أوطأ وألين. والشعار بالكسر هو الثوب الذي يلي الجسد؛ سمي بذلك لأنه يلاصق الشعر. واعلم أن إطلاق الشعار علي الملحفة صحيح لمن ينام عاريًا علي عادة العرب. قوله: وأنه لا اختصاص لهذا النوع [بفضل] (¬1) الكسوة، والأولي أن يجعل ذنان للطعام .. إلى آخره. الذنان: بضم الذال المعجمة، سبق الكلام عليه في آخر الفلس. قوله: وأما ما يفرش وينام عليه -يعني الخادم- فقد قال المتولي: لابد من شيء يجلس عليه كبارية في الصيف وقطيفة لبد في الشتاء، ولابد من مخدة وشيء يتغطي به بالليل من كساء ونحوه. قال في "البحر" ولا يجب لها الفراش بل يكتفي بالوسادة والكسي. انتهى. [البارية] بتشديد الياء ويجوز تخفيفها في لغة وهي نوع من أنواع الحصير، وسبق في الوقف إيضاحه. ¬

_ (¬1) في جـ: بقصد.

قوله: وقياس مسائل الباب أن تجب الزيادة على الجبة الواحدة حيث يشتد البرد ولا تكفي الواحدة. انتهى. وما ذكره بحثا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة" قد صرح به الخوارزمي في "الكافي". قوله: ويجب من الدهن ما يعتاد استعماله غالبًا كالزيت والسيرج وغيرهما، وإذا كانوا يعتادون المطيب بالورد والبنفسج وجب المطيب. انتهى كلامه. المطيب في الموضعين بالميم؛ أي: إذا اعتادوا الدهن المطيب وجب علي الزوج إعطاؤه. ووقع في "الروضة": التطيب، بالتاء مصدرًا وهو غير مستقيم. قوله: ولا يجب إلا ما يقصد به قطع السهوكة. انتهى. والسهوكة: بسين مهملة مضمومة وبالكاف؛ قال الجوهري: السهك بفتح الهاء: ريح السمك وصدأ الحديد؛ يقال: يدي من السمك ومن صدأ الحديد سهكة؛ كما يقال: يدي من اللبن والزبد وصرة، ومن اللحم عمرة. هذا كلامه. فكأنهم توسعوا فيه فأطلقوه على الرائحة الكريهة أو على التغيير مطلقًا. وقد ذكر في الزهومة نحو هذا فقال: الزهمة نحو هذا فقال: الزهمة بضم الزاي وإسكان الهاء هي الريح المنتنة؛ تقول: زهمت يدي بالكسر زهمًا بالفتح فهي زهمة. قوله في أصل "الروضة" فرع: إذا احتاجت إلى شراء الماء للغسل إن كانت تغتسل من الاحتلام لم يلزم الزوج قطعًا. وكذا إن اغتسلت عن الحيض على الأصح. انتهى كلامه.

والذي ادعاه من القطع بعدم الوجوب ليس كذلك؛ فقد حكى هو في "المنهاج" فيه وجهين فقال: والأصح وجوب أجرة حمام بحسب العادة، وعن ماء غسل جماع ونفاس لا حيض واحتلام في الأصح. هذا لفظه، وهو غريب جدًا حيث نفي الخلاف في الكتاب المبسوط وأثبته في "المختصر". وأغرب من ذلك كونه جعله عمومًا؛ فإنه عبر بالأصح، وقد اصطلح علي أن هذه الصيغة للخلاف القوي، والرافعي -رحمه الله- سالم من ذلك؛ فإنه لما جزم في الشرحين بعدم الوجوب لم ينف الخلاف، فغايته أنه حكي في "المحرر" خلافًا لم يحكه في الشرحين. واعلم أن هذا الوجه الغريب مستنده صحيح؛ فقد رأيته مجزومًا به في "فتاوي القفال" فقال: مسألة: إذا احتلمت المرأة فثمن الماء علي الزوج؛ لأنه لحاجتها بخلاف ما لو زنت أو وطئت بالشبهة. هذه عبارته من غير زيادة عليها. وحكاه أيضًا صاحب "البحر" في باب الغسل؛ فإنه حكي في الجنابة والحيض والنفاس طريقين حاصلهما ثلاثة أوجه: أحدها: علي الزوج في الجميع. وثانيها: علي المرأة. وثالثها: يجب عليها من الحيض والنفاس لأن التسليم واجب عليها فلزمها ثبوته بخلاف الجنابة. وهو تعليل قوي. ويستفاد من كلام "الروضة" الذي ذكرناه من كلامه عقب هذا الذي سنذكره أيضًا. وجهًا رابعًا: أنه إن كان سببه كالجماع] (¬1) والنفاس لزمه، وإن لم يكن بسببه كالحيض والاحتلام فلا. ¬

_ (¬1) نهاية سقط من جـ بمقدار ورقة.

وخامسها: أنها إن اغتسلت من الاحتلام لم يجب، وإلا فيجب. وسادسها: أنه يجب في الاحتلام والحيض دون الجماع والنفاس. قوله: وإن اغتسلت عن الجماع أو النفاس لزمه علي الأصح لأنه بسببه، وينظر علي هذا القياس في ماء الوضوء إلي أن السبب منه كاللمس أم لا. انتهى. ذكر مثله في "الروضة". وهذا التعليل المذكور للجماع والنفاس يقتضي تخصيص المسألة بوطء الزوج وقد تقدم التصريح به من جملة ما نقلناه عن "فتاوى القفال" في المسألة السابقة. نعم. هل يجب على الواطئ؟ يتجه أن يقال: إن مكنت المرأة مختارة لم يجب عليه لرضاها بذلك وإلا وجب، ويحتمل ألا يجب وإن كانت غير مختارة؛ لأنها أخذت المهر في مقابلة هذا الوطء، ويحتمل عدم الوجوب في النفاس من الزنا؛ لأن الولد ليس منسوبا إليه بخلاف الواطئ بالشبهة. وقد ذكر الرافعي في الرهن هذا التفصيل في ضمان الأجنبية إذا حملت منه وماتت من الطلق. قوله: ولو كانت تأكل معه على العادة وهي بالغة أو صغيرة بإذن وليها ففي سقوط نفقتها وجهان: أقيسهما: لا تسقط، وأحسنهما -كما قال الغزالي- أنها تسقط .. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أنه لم يصرح بتصحيح في "الشرح الصغير" أيضًا بل ذكر أن الأول أقيس والثاني أحسن من غير إعزائه إلي الغزالي، والراجح هو السقوط؛ فقد قال في "المحرر" إنه أولى الوجهين وصححه النووي في "الروضة" و"المنهاج" و"التصحيح"؛ قال: وعليه جرى الناس في زمن

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده من غير نزاع ولا إنكار، ولم ينقل أن امرأة طالبت بنفقة بعده، ولو كانت لا تسقط مع علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإطباقهم عليه لأعلمهم بذلك ولقضاه من تركة من مات ولم يؤقته، وهذا مما لا شك فيه. الأمر الثاني: أن تصوير المسألة بالأكل معه علي العادة يشعر بأنها إذا أتلفت ذلك المقدار أو أعطته لغيرها أن النفقة لا تسقط، وبأنها إذا أكلت معه دون الكفاية لا تسقط، وبه صرح في "النهاية". وعلي هذا فهل لها المطالبة بالجميع أو بالتفاوت؟ فيه نظر. الأمر الثالث: أن التعبير بالبالغة تعبير ناقص؛ فإنها قد تكون سفيهة أو مجنونة وحينئذ فتكون كالصغيرة؛ فالصواب التعبير بالرشيدة. قال الإمام: وإذا قلنا بالسقوط فكأن نفقتها مترددة بين الكفاية إن أرادت وبين التملك علي قياس الأعواض إن طلبت. قال: وهذا حسن غامض. قوله: ولو تراضيا باعتياضها عن النفقة دراهم أو دنانير أو ثيابًا ونحوها جاز على الأصح لأنه مستقر في الذمة كمعين. والثاني: لا؛ لأنه طعام يثبت في الذمة عوضًا فصار كالمسلم فيه، وأيضًا فهو بيع طعام في الذمة فأشبه بيع طعام الكفارة. ولو اعتاضت خبزًا أو دقيقًا أو سويقًا فالأكثرون علي المنع؛ لما سبق، ولأنه ربا. انتهى. والتعليل بكونه ربا قد اقتصر عليه في "الروضة"؛ وحينئذ فيتعين تصوير المسألة بما إذا كان العوض من جنس المعوض كما إذا اعتاض عن الحنطة مثلًا بدقيقها أو خبزها أو سويقها، وكذا في الشعير ونحوه. فإن اعتاضت عن الحنطة دقيق الشعير ونحوه جاز لأن بيعه به جائز؛ إذ المحذور -وهو التفاضل- جائز هنا لاختلاف الجنس.

والتعليل الأول الذي حذفه في "الروضة" وإن كان يقتضي المنع فإنه تعليل ضعيف؛ بدليل وجوده في الدراهم مع أن الصحيح فيها الجواز. قوله: والنفقة تستحق يومًا فيومًا، ولها المطالبة بها إذا طلع الفجر، وقال في المهذب: إذا طلعت الشمس. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" فيه أمران: أحدهما: أن ما صححه من الإيجاب بطلوع الفجر قد ناقضه في الباب الأول من كتاب الضمان فجزم بطلوع الشمس، وقد تقدم ذكر لفظه هناك، والمعروف هو المذكور في هذا الباب. لا جرم أن النووي في "الروضة" هناك قد عبر بالفجر فسلم من التناقض إلا أنه أدخله في كلام الرافعي ولم ينبه على أنه من زوائده. الأمر الثاني: أن الإمام في "النهاية" قد نبه علي أمر مهم كلام الرافعي يوهم خلافه فقال في باب الرجل لا يجد نفقة: قدمنا أن للمرأة أن تطلب النفقة وقت طلوع الفجر، فإذا طلبت فقال الزوج: إذا أصبحنا حصلت النفقة، فسألت المرأة القاضي أن يوكل به من يدور معه فليس لها ذلك، ولا يجوز أن تعتقد فيه خلاف لأن شطر البرية -أي: الخلق- يصحون ويأخذون في التمحل إما من رؤوس الأموال وإما من الحرف والصنائع. ثم قال: ومما يتعلق بتمام الكلام أن المرأة إذا كانت لا تملك إزهاق الزوج عند طلوع الفجر ولا تملك أن تستدعي التوكيل به فليس يتحقق الوجوب على التضييق. ولست أشبه ذلك إلا بقولنا تجب الصلاة بأول الوقت وجوبًا موسعًا، والذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها فهو حتم لا يجوز تأخيره وإن كان لا يحبس ولا يوكل به ولكنه يقتضي بمنعه وإن لم يكن في يده أو كان يلقي

عسرًا فله أن يتوسع على الاعتياد. هذا كلام الإمام، وهو نفيس مهم. وذكر مثله الغزالي في "البسيط" بعبارة حسنة فقال: فإن قيل: ما معني قول الأصحاب: إن النفقة تجب بطلوع الفجر؟ . قلنا: معناه: أنه يجب وجوبًا موسعًا كما في الصلاة، أو معناه أنه إن قدر وجب عليه التسليم وإن ترك عصي ربه، ولكن لا يحبس ولا يخاصم. هذه عبارته. وذكر الماوردي ما يوافقه فقال: والوقت الذي تستحق فيه نفقة يومها هو أول أوقات التصرف فيه، لأنها إن طالبته مع طلوع فجره خرجت عن العرف، وإن أخرها إلى غروب الشمس أضر بها. قوله: ولو قبضت نفقة يوم ثم ماتت أو أبانها في أثناء النهار لم يكن له الاسترداد [وفي كتاب ابن كج: أن له ذلك، ولو نشزت في النهار فله الاسترداد] (¬1). انتهى. لم يبين القدر المسترد حيث أثبتناه هل هو الجميع أو البعض؟ ، ولا شك أن الرافعي قد ذكر بعد ذلك بدون ورقتين وجهين فيما لو نشزت بعض النهار: أحدهما: لا شيء لها، والثاني: تقسطه زمن الطاعة إلا أن تسلم ليلًا وتنشز نهارًا أو بالعكس فلها نصف النفقة، ولم يصرح بترجيح إلا أنه مال إلى أنها لا تستحق شيئًا. ولا شك في جريانهما في النشوز وكذلك في الموت والإبانة علي القول بالاسترداد. وظاهر كلام [المصنف] هو استرداد الجميع. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وإذا علمت ذلك توجه على "الروضة" اعتراض ظاهر؛ فإنه ادعى عدم الخلاف في مسألة النشوز فقال: ولو نشزت في النهار فله الاسترداد قطعًا هذه عبارته. والتقييد بالنهار لا معنى له لما ذكرته لك قريبًا. قوله: وفي وجوب تمليك الكسوة وجهان: أحدهما -وبه قال ابن الحداد واختاره القفال وهو قضية نصه في "الإملاء"- أنه لا يجب كالمسكن. وأصحهما -على ما ذكر صاحب "المهذب" و"التهذيب" والروياني وينسب إلى النص- أنه يجب كالنفقة. انتهى ملخصًا. والصحيح وجوب التمليك؛ فقد قال الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة" إنه الأصح. قوله: وهذا الخلاف طرده صاحب "التهذيب" في كل ما ينتفع به مع بقاء عينه كالفرش وظروف الطعام والمشط، وألحق صاحب "الكتاب" في البسيط الفرش والظروف بالمسكن وأخرجها عن حيز الخلاف. انتهى كلامه. لم يصحح في "الصغير" أيضًا شيئًا من هاتين المقالتين، بل فيه وفي "الروضة" مثل ما هاهنا، والصحيح في "المحرر": أنه من باب التمليكات؛ فإنه قال: وما يدفع إليها وتنتفع به مع بقاء عينه كالكسوة يجب فيها التمليك أو الامتناع؟ فيه وجهان: أصحهما الأول. ثم قال: وفي معناه الفرش وظروف الطعام. هذا لفظه، وتبعه عليه في "المنهاج"، وذكر في "الحاوي الصغير" عكسه.

الباب الثاني: في مسقطات النفقة

الباب الثاني: في مسقطات النفقة قوله: ولا خلاف في أن وقت وجوب التسليم في النفقة صبيحة كل يوم، والكسوة أول كل فصل وذلك بعد حصول التمكين، فأما وقت ثبوتها في الذمة فقولان: القديم: يجب بالعقد كالمهر ولا تتوقف علي التمكين لكن لو نشزت سقطت؛ فالعقد موجب والنشوز مسقط، وإذا حصل التمكين استقر الواجب يومًا فيومًا والجديد: أنها لا تجب بالعقد بل التمكين يومًا فيومًا. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في آخر كلامه حاصله أن النفقة لا تستقر علي القديم إلا بالتمكين، وهو مناقض لما جزم به بعد هذا من أنها تستقر وإن انتفي التمكين، إلا أنها تسقط بالنشوز فقال: ولو لم يطالبها الزوج بالزفاف ولم تمتنع هي منه ولا عرضت نفسها عليه ومضت علي ذلك مدة؛ فإن قلنا بالقديم: وجبت نفقة تلك المدة، وإن قلنا بالجديد: فلا. هذا كلامه. ونقل في "النهاية" عن العراقيين أنهم قطعوا بأن النفقة لا تثبت في زمن السكوت، ثم ضعف مقالتهم. واعلم أن العراقيين قالوا: إن النفقة تجب بالعقد ولا يجب التسليم إلا بالتمكين يومًا فيومًا، وبه جزم الشيخ في "التنبيه". ولأجل ذلك قطع العراقيون بأن النفقة لا تجب في زمان السكوت، والمراوزة قالوا: إن القديم وجوبه بالعقد ولا يتوقف علي التمكين إلا أن شرطه عدم النشوز، فلها المطالبة عندهم حال السكوت. ويتلخص من ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: العقد وحده إلا أنه لا يستقر إلا بعدم النشوز. الثاني: العقد بشرط التمكين. الثالث: التمكين. وفائدة الخلاف في الضمان وفيما لو حلف ما له مال. ولا شك أن الرافعي فرع تارة علي قاعدة العراقيين وتارة علي قاعدة المراوزة فوقع في الخلل. الأمر الثاني: أنه لو حصل العقد والتمكين وقت الغروب فالقياس الوجوب بالغروب لأن النفقة كما سيأتي في كلام الرافعي في مقابلة اليوم والليلة. قوله: وهذا الخلاف قيل: منصوص عليه، وقيل: مستنبط؛ ويدل عليه شيئان، فذكر الأول ثم قال: الثاني: أنه قد نقل عن صاحب "الحاوي" اختلاف الأصحاب في تحرير سبب النفقة؛ فالبغداديون علقوها بالتمكين وجعلوا سبق العقد شرطًا فقالوا: يجب بالتمكين المستند إلى العقد، والبصريون قالوا: يجب بالعقد بشرط التمكين. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذا الخلاف المحكي في "الحاوي" غير المحكي في الرافعي؛ فإن الماوردي قال ما نصه: وأما النفقة فلا تجب بمجرد العقد. ثم قال: واختلف أصحابنا في تحرير العبارة؛ فجعل البغداديون الوجوب معلقًا بالتمكين وتقدم العقد شرط، وجعله البصريون معلقًا بالعقد وحدوث التمكين شرط. قال: وفائدة الخلاف في الاستحقاق في زمن التأهب للتمكين فلا يستحق على الأول ويستحق علي الثاني. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد أسقط هذا الخلاف بالكلية ظنًا منه أنه الخلاف السابق كما ظنه الرافعي.

الأمر الثالث: أن فائدة الخلاف قد ظهرت من كلام الماوردي. قوله: ثم ذكر في "الكتاب" من فوائد القولين صورتين: إحداهما: لو اختلفا في التمكين فقالت المرأة مكنت وأنكر الزوج، فإن قلنا: النفقة تجب بالتمكين، فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدم التمكين، وإن قلنا تجب بالعقد، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم النشوز. ثم قال: وقوله في "الكتاب": فعلي هذا لو تنازعا [في النشوز كذا ذكره هاهنا، وفي "الوسيط" ولفظ الأكثرين: لو تنازعا] في التمكين كما ذكرناه، وكذلك هو في "البسيط" وسببه أن يكون الذي ذكره هاهنا محمولا عليه، فأما إذا توافقا علي حصول التمكين ثم اختلفا على النشوز بعده فينبغي أن يقطع بصدقها لأن الأصل استمرار الواجب، وهكذا صرح به ابن كج وحكي معه وجهًا ضعيفًا أن القول قوله؛ لأن الأصل براءة الذمة. انتهى كلامه. وما ذكره في حمل النشوز في كلام "الوجيز" على التمكين ذهول عجيب؛ فإن القديم لا يوجب النفقة بالتمكين بل بالعقد بشرط عدم النشوز كما تقرر لك في هذا الباب؛ وحينئذ فيتعين تصوير النزاع في النشوز. وأما النزاع في أصل التمكين أو في [النشوز] الواقع بعد التمكين فغير ما نحن فيه. واعلم أن دعوى المرأة وقوع العقد مع التمكين أو مع عدم النشوز مسموعة إن انضم إلى ذلك طلب حق من حقوق الزوجية، فإن لم ينضم إليه ذلك فتكون كدعوى الزوجية المجردة، والأصح فيه القبول لأنه ينفع في الحق. قوله: فلو نشزت بعض النهار فوجهان: أحدهما: لا شيء لها. والثاني: لها يقسط زمن الطاعة.

قال: وبالوجه الثاني أجاب السرخسي، ومنهم من رجح الأول وهو أوفق لما سبق في مسألة الأمة. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" هنا علي حكاية الوجهين وترجيح عدم الوجوب، ورجح -أعني النووي- في آخر كتاب النكاح القطع بعدم الوجوب إذا امتنعت في بعض الزمان فقال في أول الباب الحادي عشر: قلت: الصحيح الجزم في الحرة بأنه لا يجب شيء في هذا الحال. قوله: وامتناعها عن التسليم إلي قبض المهر الحال ليس بنشوز. ثم قال: ولو حل المؤجل فهل هو كالمؤجل أم كالحال؟ وجهان؛ وأجاب البغوي بالأول. انتهى. والصحيح جواز الحبس، وقد تقدم إيضاحه في البيع. قوله: وتعذر المرأة في الامتناع من الوطء إذا كان الرجل عبلًا لا تحتمله. انتهى. العبل بعين مهملة وباء ساكنة هو كبير الذكر، وقد فسره به في أصل "الروضة". قوله: والسفر بغير إذنه نشوز أيضًا، ولو سافرت بإذنه فإن كان الزوج معها أو لم يكن وكان السفر لحاجته بأن بعثها لتقضي أشغاله وجبت النفقة، وإن كان في حاجتها فقولان: أشهرهما: المنع. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وهو كالصريح في أنها إذا سافرت بغير إذنه فلا نفقة لها وإن كانت معه، وليس كذلك بل هي واجبة في هذه الحالة. كذا صرح به في أوائل كتاب قسم الصدقات ولم يحك فيه خلافًا؛ فإنه ذكر أن المرأة إذا سافرت مع الزوج فلا تعطى من سهم ابن السبيل، ثم علله بقوله: لأنها إن سافرت بإذنه فهي مكفية المؤنة، وإن سافرت بغير إذنه فالنفقة عليه لأنها معه. هكذا ذكروه. ولا تعطي مؤنة السفر لأنها عاصية بالخروج. هذا لفظه. فينبغي أن يتفطن له، ولم يصرح بها في الكلام على

القسم بين الزوجات. قوله من "زياداته": ولو حبست ظلما أو بحق فلا نفقة لها كما لو وطئت بشبهة فاعتدت. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه لا فرق فيما إذا حبست بين أن تكون قد توجه الحبس عليها بإقرارها أم بالبينة، وهو كذلك؛ فقد صرح هو به في كتاب الفلس من زوائده أيضًا، وكذلك في "فتاويه"، وعبارته فيها: أنه المختار. قوله: الثالثة: لو نشزت المرأة وغاب الزوج ثم عادت للطاعة في غيبته لم يعد استحقاق النفقة في أظهر الوجهين؛ فعلي هذا يفعل ما ذكرناه في ابتداء التسليم من رفعها الأمر إلي القاضي ليقضي بطاعتها وبحق الزوج بذلك. ثم قال: ولو ارتدت المرأة وسقطت نفقتها علي ما بينا في آخر نكاح المشركات فغاب الزوج وعادت في العدة إلى الإسلام وهو غائب فيبقي عود النفقة بمجرد الإسلام وإن فرض فيه خلاف. والفرق أن نفقة المرأة قد سقطت بردتها، فإذا عادت إلى الإسلام ارتفع المسقط فعمل الموجب عمله، والناشزة سقطت نفقتها بخروجها عن يد الزوج وطاعته وإنما تعود إذا عادت إلي قبضته، وذلك لا يحصل في غيبته. انتهى كلامه. وما ذكره في المرتدة من وجوب نفقتها إذا أسلمت في غيبة الزوج مسألة نفيسة وقد أسقطها النووي من "الروضة" فلم يتعرض لها في هذا الموضع كما ذكره الرافعي ولا قدمها إلي نكاح المشركات بل كلامه يوهم التسوية بينها وبين الخارجة من المنزل ونحوها؛ لأن الردة نشوز كما صرح [به الأصحاب كلهم، وذكره هو في آخر نكاح المشركات من "الروضة"] (¬1) وكأنه توهم ذكرها في ذلك الموضع فأسقطها من هاهنا. قوله: المانع الثاني: الصغر: فإذا كانت المرأة صغيرة فسلمت إلى الزوج البالغ أو عرضت [عليه] (¬2) فقولان: أحدهما: أنها تستحق ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

النفقة لأنها معذورة ومحبوسة عليه. وأصحهما: المنع؛ لتعذر الاستمتاع بها لمعنى فيها؛ فأشبهت الناشزة. وقد يبنى القولان على أن النفقة تجب بالعقد أو بالتمكين، فإن لم يوجد تسليم ولا عرض كان الحكم كما في حق الكبيرة. وفي "الوسيط" و"البسيط" ما يقتضي خلافه. والظاهر الأول. انتهى ملخصًا. وما ذكره من اختصاص قول الوجوب بما إذا سلمت تابعه عليه في "الروضة"، وهو غير مستقيم؛ فإن القديم يقول: إن النفقة تجب بمجرد العقد وإن لم يحصل تمكين إذا لم يحصل نشوز، وقد صرح الرافعي نفسه بذلك في أوائل الباب أيضًا كما سبق ذكره؛ فصار أول كلامه مخالفًا لآخره. وما اقتضاه كلامه من عدم الوقوف علي التصريح بعدم اشتراط التسليم فقد صرح به جماعات منهم الماوردي في "الحاوي" وإمام الحرمين في "النهاية" والغزالي في كتابيه والروياني في "البحر"، وزاد الماوردي فصرح بأن أولياءها لهم منع تسليمها وإن أوجبنا النفقة؛ وعلله بقوله: لأنه ربما أنكاها إن تسلمها. نعم في تعليقة القاضي الحسين و"المهذب" و"التهذيب" تصوير محل القولين بما إذا سلمت إلي الزوج. قوله في أصل "الروضة": المانع الثالث: العبادة فإذا أحرمت بحج أو عمرة فلها حالان أحدهما: أن تحرم بإذن الزوج، فإذا خرجت فقد سافرت في غرض نفسها، فإن كان الزوج معها لم تسقط النفقة على المذهب، وإلا فتسقط علي الأظهر. أما قبل الخروج فوجهان: أصحهما وجوبها لأنها في قبضته وتفويت الاستمتاع لسبب أذن فيه. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن الرافعي قد حكي في المسألة الأخيرة طريقة قاطعة فقال: وقطع به قاطعون. ونقل الإمام هاتين الطريقتين وقال: إن طريقة القطع أشهر في الحكاية وإليها ذهب الأكثرون، فإن طريقة الخلاف أقيس. الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوسيط" قد تبعه علي أن هذين الوجهين فيما إذا [لم] (¬1) تخرج مفرعان علي قولنا أنها إذا خرجت لا تستحق، والذي قاله لابد منه وهو مدرك حكاية الطريقين، وإلا فكيف تستقيم التسوية بين حالتي الخروج وعدمه حتي يكون في الأولي قولان وفي الثانية وجهان. قوله: الحال الثاني: أن يكون إحرامها بغير إذنه فإذا أحرمت بفرض وقلنا بالصحيح وهو جواز تحليلها فلها النفقة ما لم تخرج في ظاهر الوجهين، لأنها في قبضته والزوج يقدر على تحليلها وأما بعد خروجها فقد يكون بغير الإذن وقد يكون بالإذن؛ فإن خرجت بغير الإذن نظر إن لم يخرج الزوج معها فلا نفقة. وإن خرج معها فعلى ما تقدم [انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: فعلى ما تقدم، ذكر مثله] (¬2) في "الروضة" وليس فيه بيان المتقدم المحال عليه. فإن أراد به ما نقلناه عنه قبل ذلك وهو ما إذا سافرت بغير إذن فليس فيه أن الزوج خرج معها بل أطلق كما سبق. وأيضًا فلو أراد ذلك لأحال عليه القسمين معا وهما خروج الزوج وعدم خروجه لأنهما معًا داخلان بطريق الإطلاق، والظاهر أنه أراد ما قبل خروجها لأنهما قد اشتركا في الإحرام بغير الإذن وفي صحبة الزوج لها وحينئذ فيكون الصحيح هو الاستحقاق. ¬

_ (¬1) زيادة من جـ. (¬2) سقط من أ.

قوله: أما صوم رمضان فلا منع منه ولا تسقط النفقة لوجوبه على الفور، وأما قضاء رمضان فإن كان واجبًا على الفور فلا تمنع منه، وفي النفقة وجهان المذكور منهما في "التهذيب" ورجحه غيره أنها لا تسقط، وفي التتمة أنها تسقط. انتهى. وما ذكره الرافعي من التعليل بالفور يقتضي أنهما لو كانا مسافرين سفرًا يباح فيه الفطر كان للزوج منعها، وفي كلام الماوردي إشعار به؛ فإنه قال: فإذا تعين عليها كان مستثنى. واعلم أن النووي قد صحح في أصل "الروضة" من الوجهين المذكورين عدم السقوط ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا. قوله: وإذا فات رمضان بعذر وكان الوقت واسعًا فله منعها من المبادرة إلى قضائه، فلو شرعت فيه ففي جواز إلزامها الإفطار وجهان مخرجان من القولين في التحليل في الحج؛ فإن قلنا: لا يجوز، ففي سقوط النفقة وجهان: أحدهما: تسقط كالحج. والثاني: لا لقصر الزمان وقدرته على الاستمتاع ليلًا. انتهى. والأصح -على ما قاله في "الروضة" من زوائده- هو السقوط. قوله: ولا ينبغي أن تستقبل صوم التطوع بغير إذن الزوج انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وقد عبر في "الروضة" بقوله: ولا تشرع فيه بغير إذن. وليس في ذلك كله تصريح بأنه يحرم أو يكره، وقد صرح بتحريمه في "الروضة" في آخر باب صوم التطوع فقال من زوائده: قال أصحابنا: لا يجوز، وحكى في "شرح المهذب" هناك وجهين: أصحهما هذا، والثاني: أنه مكروه. قال: فلو صامت فمقتضى المذهب في نظائره الجزم بعدم الثواب وإن كان صحيحًا كما سبق في الصلاة في الدار المغصوبة. هذا كلامه. وقال في "شرح مسلم" في كتاب الزكاة في باب أجر الخازن الأمين بعد ذكره للتحريم: فإن قيل: ينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإن

أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها. فالجواب: أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد. انتهى. ويؤخذ من هذا التعليل أنها لا توصف بفعل محرم بالنية من الليل بل بطلوع الفجر، وصرح النووي في الموضع المذكور من "شرح مسلم" بأن المراد بالحضور أن يكون في البلد. نعم لو كان الزوج حاضرًا ولكن حرم عليه الجماع لتلبسه بواجب من صوم أو إحرام أو اعتكاف ففي التحريم نظر، والمتجه الإباحة. قوله: فإن شرعت فيه -أي: في صوم التطوع- فله قطعه وأمرها بالإفطار، فإن أبت سقطت النفقة في أصح الوجهين لامتناعها من التمكين بما ليس بواجب. والثاني: لا تسقط لأنها في داره وقبضته ولها الخروج عما شرعت فيه متى شاءت. وفي العدة وجه فارق بين أن يدعوها إلى الأكل أو إلى الوطء. وإذا قلنا بالسقوط فعن "الحاوي" أن ذلك فيما إذا أمرها بالإفطار في صدر النهار، فإن أنفق في آخره فلا تسقط؛ لقرب الزمان، واستحسنه الروياني وسكت الأكثرون عنه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من حكاية الخلاف وجهين ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وخالف في "المحرر" فحكاهما قولين، وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. الأمر الثاني: أن الماوردي لما جزم بهذا التفصيل جزم أيضًا فيه بما نقله الرافعي عن العدة فنقل الرافعي بعضه عنه وبعضه عن غيره لكونه لم يقف على كلامه.

قوله: وأما صوم النذر فإن كان نذرًا مطلقا فللزوج منعها منه فإنه لم يتضيق وقته، فإن نذرت صوم أيام معينة فينظر إن نذرت قبل النكاح لم يكن له المنع لتعين الوقت وتقدم وجوبه على حق الزوج، وإن نذرت بعده فإن أذن الزوج لم يكن له المنع، وإن لم يأذن فله ذلك لأنها بالنذر منعت حقه السابق، وحيث قلنا له المنع فلو شرعت فيه وأبت أن تقطعه فعلى ما ذكرناه في صوم التطوع. ثم قال: وقوله -يعني "الوجيز"-: وله منعها عن صوم نذرته بعد النكاح. التقييد بما بعد النكاح يبين أنه لا يمنع مما نذرته قبل النكاح وهذا الفرق فيما إذا نذرت أيامًا معينة على ما بيناه. فأما عند الإطلاق فله المنع في الحالتين، هذا هو الظاهر المشهور، ونقل إبراهيم المروذي فيه وجهين سواء نذرت قبل النكاح أو بعده. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: فيه وجهين [سواء نذرت قبل النكاح أو بعده، وتعبيره بقوله: فيه] (¬1) الضمير فيه عائد على صوم النذر المعين الذي بدأته أولًا فيكون على هذا في النذر المعين الذي نذرته قبل النكاح وجهان وكذا بعده. كذا بينه في "الشرح الصغير" فقال: وإذا نذرت صوم يوم أو أيام ولم تعين فله منعها من الاشتغال به، وإن عينت أيامًا نظر إن نذرته قبل النكاح فليس له منعها، وإن نذرته بعده فإن أذن فيه لم تمنع منه، وإن لم يأذن فيه فله المنع، ومنهم من حكى فيه وجهين سواء نذرت قبل النكاح أو بعده، والظاهر الأول. هذا كلامه. وتوهم النووي أن الضمير راجع إلى صوم النذر المطلق فقط حتى لا يكون في النذر المعين خلاف ويكون في المطلق المنذور قبل النكاح وبعده وجهان؛ فإنه قال في "الروضة": فإن كان نذرًا مطلقًا فللزوج منعها منه على الصحيح وإن كانت أيامًا معينة [نظر: إن نذرتها قبل النكاح أو بعده ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

بإذنه فليس له منعها] (¬1)، وإلا فله ذلك. هذا كلامه. ووقع هذا الموضع في "الكفاية" على الصواب، وألحق الماوردي النذر المطلق بصوم الكفارة حتى يأتي فيه الخلاف. قوله: فإن كان نذرًا مطلقًا فللزوج منعها منه علي الصحيح لأنه موسع انتهى. واعلم أنها إذا نذرت الاعتكاف بغير إذنه ودخلت فيه بإذنه وكان متتابعا فقد جزم الرافعي في كتاب الاعتكاف بأنه ليس له منعها، وعلله في "شرح المهذب" بأنه يتضمن إبطال العبادة الواجبة بعد الدخول، وهذا بعينه موجود في نذر الصوم المتتابع فينبغي استثناؤه هنا. قوله: وأما صوم الكفارة فهو على التراخي فللزوج منعها منه انتهى. وما اقتضاه كلامه من أنه لا فرق في كونها على التراخي بين أن يكون سببها معصية أم لا، تابعه عليه في "الروضة" أيضًا. والمسألة قد اختلف فيها كلامهما معًا وقد أوضحت ذلك في كفارة الظهار فراجعه. قوله: وحيث قلنا: تسقط النفقة بالصوم فهل تسقط جميعها أم نصفها للتمكين من الاستمتاع ليلًا؟ وجهان في "التهذيب" انتهى. والمرجح في منع بعض الزمان أنها لا تستحق شيئًا بالكلية، وقد سبق ذلك في أوائل الباب مع اعتراض آخر خاص بالروضة في حكايته للوجهين. قوله: ولو قال الزوج: طلقتك بعد الولادة فأنت في العدة ولي الرجعة، وقالت: بل قبلها وقد انقضت عدتي، فالقول قول الزوج ولكن لا نفقة لها لزعمها. انتهى. وهذه المسألة فيها تفصيل مذكور في آخر الباب الأول من أبواب العدة. قوله: المسألة الثانية: إذا كانت المرأة خلية فحملت من وطء الشبهة، ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

فإن قلنا نفقة البائن الحامل إنما هي للحامل لم تجب وإن قلنا للحمل وجبت كما تجب عليه نفقته بعد الوضع. ثم قال: فإن كانت الحامل من الشبهة منكوحة فإن أوجبنا النفقة على الواطيء بالشبهة سقطت عن الزوج، ولم تجمع بين نفقتين، وإن لم نوجبها على الواطئ ففي سقوطها عن الزوج وجهان: أفقههما السقوط؛ لفوات الاستمتاع عليه. والثاني: لا تسقط؛ لأنها معذورة فيه، وهذا ما أورده في "البسيط"، واستحسن في "الوسيط" توسطًا وهو أنها إن كانت نائمة أو مكرهة فلها النفقة، وإن مكنت على ظن أنه زوجها فلا نفقة لأن الظن لا يؤثر في الغرامات. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التوسط الذي نقله عن "الوسيط" هو للإمام فإنه ذكره في "النهاية" فقال: والأولى عندنا: التفصيل، فإن وطئت في حالة نوم أو وطئت وهي [مضبوطة] (¬1) فالوجه القطع بثبوت نفقتها على الزوج إلحاقا للمنع الطارئ بالمرض، وإن مكنت على ظن أن الواطيء زوجها فهذا فيه التردد الذي حكاه الأصحاب. هذا كلام "النهاية". وذكر الغزالي في "البسيط" مثله وهو مثل ما في "الوسيط" إلا أنهما لم يرجحا شيئًا في القسم الثاني وهو ما إذا مكنت على ظن الإباحة. الأمر الثاني: أن ما نقله الرافعي من "البسيط" من جزمه بالوجه الثاني غلط عجيب بل المذكور فيه ما تقدم نقله عنه. قوله: الخامسة: إذا مات الزوج قبل أن تضع البائن حملها، فإن قلنا: النفقة للحمل سقطت، لأن نفقة القريب تسقط بالموت، وإن قلنا: للحامل، فوجهان؛ قال ابن الحداد: تسقط أيضًا لأنها كالحاضنة للولد وصححه ¬

_ (¬1) هكذا في الأصول. ولعلها أن تكون: مغلوبة.

الإمام، وقال الشيخ أبو على: لا تسقط لأنها باقية على عدة الطلاق والطلاق كأنه يوجبها دفعة واحدة فيكون لبس عليه؛ ولهذا يبقى لها حق السكني، ولا يجيء فيه القولان في أن المتوفى عنها زوجها هل تستحق السكنى، وهذا أقيس عند الغزالي. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح في هذه المسألة هو عدم السقوط فقد جزم به الرافعي في الشرحين "الكبير" و"الصغير" في كتاب العدد في أول باب عدة الوفاة، وكذلك النووي في "الروضة" إلا أنه قد يؤخذ من كلامه هنا -أعني كلام النووي- رجحان السقوط؛ فإنه نقل تصحيحه عن الإمام ولم ينقل ترجيح مقابله عن أحد وكما تستحق البائن الحامل النفقة تستحق الأدم والكسوة سواء قلنا النفقة للحامل أو للحمل. كذا نقله في "الروضة" من زوائده عن صاحب "التتمة" وأقره. واعلم أن ما اقتضاه كلامه من وجوب السكنى للمعتدة دفعة واحدة قد خالفه في آخر أبواب العدة قبيل الاستبراء فقال من جملة مسائل قد نقلها عن "فتاوى القفال": وأن المعتدة لو أسقطت مؤنة السكنى عن الزوج لم يصح الإسقاط؛ لأن السكنى تجب يومًا فيومًا. هذا لفظه. قوله: ومن فوائده القولين في أن نفقة البائن الحامل لها أو للحمل ما ذكره المتولي وهو أنها لو أبرأت الزوج من النفقة فإن قلنا: إنه للحامل سقطت وإن قلنا: إنه للحمل لم تسقط ولها المطالبة بعد الإبراء. ولك أن تقول: إن كان الإبراء عن نفقة الزمان المستقبل فقد مر حكمه وإن كان عن ما مضى فالنفقة مصروفة إليها على القولين فينبغي أن يصح إبراؤها على القولين. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره بحثا من الصحة على كلا القولين واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا قد صرح به القاضي الحسين في "تعليقته" جازمًا به ونقله عنه أيضًا في "المطلب".

الباب الثالث: في الإعسار بالنفقة

الباب الثالث: في الإعسار بالنفقة قوله: وسئل سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته فقال: يفرق بينهما. فقيل له: سنّة؟ فقال: نعم (¬1). قال الشافعي - رضي الله عنه -: الذي يشبه قول ابن المسيب أنه سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. وما نقل عن الشافعي من كون لفظ السنة مرفوعًا قد نقل عنه الداودي وهو الصيدلاني في "شرح المختصر" نحوه أيضًا ولكن في القديم خاصة فقال في باب أسنان إبل القتل الخطأ: إن الشافعي في القديم كان يرى أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي ثم رجع عنه لأنهم قد يطلقونه ويريدون سنة البلد. هذا لفظه. ورأيت في "الأم" ما يوافق الأول فقال في باب عدد كفن الميت بعد ذكر ابن عباس والضحاك ما نصه: قال الشافعي وابن عباس والضحاك بن قيس رجلان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقولان السنة إلا لسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا لفظه بحروفه، وذكر بعده بقليل مثله، وظاهره يقتضي أن التابعي ليس كذلك. وحينئذ فيتلخص في المسألة ثلاثة أقوال: وأن الرفع بالنسبة إلى الصحابي منصوص عليه في القديم والجديد معًا فيكون أرجح من عكسه. قوله في "الروضة": فإذا امتنع من دفع النفقة مع قدرته فوجهان: أحدهما: لها الفسخ لتضررها، وأصحهما: لا فسخ لتمكنها من تحصيل ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "المسند" (1273)، والدارقطني (3/ 297)، وسعيد بن منصور (2022)، والبيهقي في "الكبري" (15485).

حقها بالسلطان وكذا لو قدرت على شيء من ماله أو غاب وهو موسر في غيبته ولا يوفيها حقها ففيه الوجهان: أصحهما: لا فسخ، واختار القاضي الطبري الجواز وإليه مال ابن الصباغ، وذكر الروياني وابن أخته صاحب "العدة" أن المصلحة الفتوى به. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في القدرة على شئ من ماله من كونه على الخلاف قد شاهدته بخط المصنف كما هو مذكور في النسخ أيضًا وهو غلط مخالف لكلام الرافعي؛ فإن فيه التصريح بنفي الخلاف فإنه ذكر ما ذكره المصنف من أنه لا فسخ؛ للامتناع مع القدرة على الأصح. ثم قال عقبه ما نصه: وإن كان له مال ظاهر أنفق السلطان منه، وليس ذلك موضع الخلاف. وكذا لو قدرت على شيء من ماله. ولو غاب وهو موسر في غيبته ولا يوفيها حقها جرى الوجهان؛ فعلى الأظهر: لا فسخ، وكان المؤثر تعنته بخراب ذمته. هذا لفظ الرافعي، وهو كما ذكرته لك صريح في عدم الخلاف. وكيف يمكن خلاف ذلك مع وصولها إلى حقها؟ وقوله: تعنته، هو مصدر بمعنى التعنت على وزن التعجب؛ يعني أن المؤثر ما حصل فيه من العنت لسبب خراب الذمة. الأمر الثاني: أن لفظة أخته هنا هي بالتاء بنقطتين من فوق بعد الخاء لا بنقطتين من تحت فإنه ابن أخت لا ابن أخ، وقد صرح به الرافعي في القضاء في الكلام على أن التحكيم هل يشترط فيه فقدان القاضي فقال: حكى صاحب "العدة" القاضي أبو المكارم الطبري ابن أخت القاضي الروياني وجهين في اشتراطه. هذا كلامه. قوله: ولو تبرع رجل بأداء النفقة عن المعسر لم يلزمها القبول ولها

الفسخ كما لو كان له دين على إنسان فيتبرع غيره بقضائه لما في التبرع من المنانة، وقيل: لا فسخ لها. انتهى. وما ذكره من عدم القبول في المسألتين قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" ويستثنى من المسألة الأولى ما إذا كان المتبرع أبا أو جدًا للزوج، والزوج تحت حجره فإنه يجب القبول؛ لأن المدفوع يدخل في ملك المؤدى عنه في هذه الحالة ويكون الولي كأنه وهب له وقبل له كما ذكروه في مواضع. وأما أداء الدين عن الغير فيستثنى منه ما إذا كان المديون ميتًا والمؤدى وراثًا فإنه يجب القبول وإن كان الميت معسرًا لأنه خليفة الميت وقائم مقامه بخلاف الأجنبي. كذا نقله الرافعي في آواخر باب القسامة عن الإمام. ثم قال -أعني: الإمام-: غالب ظني أنني رأيت فيه -أي: في الوارث- خلافًا. قوله: ولو كان يجد بالغداة ما يغديها وبالعشي ما يعشيها فوجهان: أحدهما: أن لها الخيار؛ لأن نفقة اليوم لا تتبعض. وأصحهما -على ما قال في "التهذيب"-: لا خيار لها لوصول وظيفة اليوم إليها. انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير"، وصحح في أصل "الروضة" ما قاله في "التهذيب". قوله: وهل يثبت الخيار بالإعسار بالأدم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لعسر الصبر على الخبز البحت (¬1) دائمًا، وبه قال الداركي ورجحه الروياني. والثاني: لا لأنه تابع والنفس تقوم بدونه. ¬

_ (¬1) أي الذي بلا أدم.

وهذا أصح عند الإمامين أبي حامد والقفال وغيرهما، وتابعهم الإمام والغزالي والفراء. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الأكثرين على عدم الفسخ؛ ولهذا صرح به النووي في أصل "الروضة"، وقد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" فقال: والأصح المنع، وصحح عكسه في "المحرر" فقال: والإعسار بالكسوة كهو بالنفقة، وكذا الإعسار بالأدم والمسكن في أصح الوجهين. هذا لفظه. وهو غريب حيث عبر بلفظ الأصح في الموضعين، وسلم النووي من هذا الاختلاف فإنه استدرك على "المحرر" وصحح المنع. واعلم أن المراد بالفراء هو البغوي. قوله في "الروضة" يثبت الخيار بالإعسار بالكسوة على المذهب. انتهى. وهذا الكلام لا يعلم منه أن الخلاف وجهان أو قولان ولا أن الصحيح طريقة الخلاف أو طريقة القطع فإنه لا اصطلاح له في ذلك، وقد بين الرافعي ذلك فحكى الخلاف وجهين وضعف الطريقة القاطعة. قوله: الرابعة في الإعسار بالمهر طرق: أحدها: وبه قال أبو على بن أبي هريرة وأبو على الطبري وأبو حفص بن الوكيل والقاضي أبو حامد -أنه إن كان بعد الدخول فلا فسخ وإن كان قبله فقولان. والثاني: وهو أظهر عند الشيخ أبي حامد والإمام وغيرهما -أنه إن كان قبله ثبت الفسخ وإلا فقولان. وقد أشير إلى بناء القولين في الفسخ بعد الدخول على تردد في أن المقابل بالمهر الوطء الأول فيكون المعوض تالفًا ويمتنع الفسخ، أو في مقابلة الوطئات فيكون بعض المعوض باقيا فيشبه بقاء بعض المبيع في يد

المفلس. والثالث: طرد القولين في الحالين. والرابع: القطع بثبوته قبل الدخول وبالنفي بعده وبه قال أبو إسحاق. والخامس: القطع بأنه لا يثبت في الحالين وهو الأصح عن الإمام وصاحب "الكتاب". وحاصل الطرق ثلاثة أقوال ذكرها في "التهذيب": أحدها: ثبوت الخيار في الحالين. والثاني: منعه فيهما. والثالث: [يثبت قبله لا بعده. والأصح منها الأول عند صاحب "التهذيب" وغيره. والثالث: ] (¬1) أصح عند أكثرهم. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أنه لم يصحح شيئًا من الطرق هاهنا، وقد صحح في "الشرح الصغير" الثاني فقال: وأظهرها أنه يثبت الخيار قبل الدخول بلا خلاف، وفيما بعده قولان، والئبوت مبني على أن المهر في مقابلة جميع الوطئات. هذا لفظه. ثم ذكر بعده أيضًا في آخر المسألة أنه الأصح عند الأكثرين. الأمر الثاني: أن ما توقف فيه من بناء القولين على أن المهر هل يقابل جميع الوطئات أم لا؟ قد ارتضاه في "الشرح الصغير"، وقد تقدم ذكر عبارته. ¬

_ (¬1) سقط من جـ.

الثالث: إن هذا البناء يقتضي تصحيح مقابلة المهر لوطئة واحدة؛ لأن الصحيح امتناع الفسخ. لكن الصحيح أنه مقابل للجميع فقد جزم به الرافعي في كتاب الصيام في الكلام على ما إذا طلع عليه الفجر وهو مجامع فيلزم إما إفساد التخريج أو ضعف ما جزم به. الرابع: حيث جوزنا الفسخ فشرطه ألا تكون المرأة قبضت شيئًا من المهر، فإن قبضت شيئًا منه كما هو معتاد فيمتنع عليها الفسخ بخلاف البائع إذا قبض بعض الثمن فإنه يجوز له الفسخ بإفلاس المشتري عن باقيه، والفرق بينهما أن الزوج بإقباض بعض المهر قد استقر له من البضع بقسطه؛ فلو جاز للمرأة الفسخ لعاد إليها البضع بكماله لأنه لا يمكن فيه التشريك فيؤدي إلى الفسخ فيما استقر للزوج، بخلاف المبيع فإنه وإن استقر بعضه بقبض بعض الثمن لكن الشركة فيه ممكنة فجوزنا الفسخ ولكن في الباقي خاصة. كذا ذكره ابن الصلاح في "فتاويه" وادعي أنه حكي، وأن بعض قضاة الشام توقف فيه وأرسل يستدعي ما عنده فيه فبعث له به. وتعرض ابن الرفعة في باب الفلس من المطلب للمسألة وتوقف فيها. الخامس: أن النووي قد اختصر كلام الرافعي هنا اختصارًا فاسدًا غير مطابق فقال: الإعسار بالمهر فيه طرق منتشرة: المذهب منها عند الجمهور يثبت الفسخ إن كان قبل الدخول [ولا يثبت بعده وقيل: يثبت فيها قطعًا، ورجحه البغوي] (¬1) وغيره، وقيل بالمنع قطعا، وقيل قولان، وقيل: يثبت قبله وبعده قولان، وقيل: لا يثبت بعده وقبله قولان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هذا لفظه. فصحح طريقة القطع بثبوته قبل الدخول وبمنعه بعده، وزاد فعزاه إلى الجمهور مع أن هذا كله إنما حكاه الرافعي في القول الثالث من الأقوال الثلاثة المستفادة من الطرق لا في شيء من هذه الطرق، بل لم ينقل الرافعي هذه الطريقة إلا عن أبي إسحاق، وأيضا فإنه نقل عن البغوي أنه رجح طريقة القطع بالثبوت فيهما، وإنما نقل الرافعي عنه ترجيح قول الثبوت فيهما لا ترجيح طريقة القطع بالثبوت فيهما فإن البغوي قد قال ما نصه: وإذا أعسر الزوج بالصداق هل يثبت لها الفسخ؟ فيه أقوال: أصحها: يثبت سواء كان قبل الدخول أو بعده. هذا لفظه. ولم يذكر مع ذلك طريقة أخرى بالكلية. قوله: فإن علمت قبل العقد بعجزه ففي تمكينها من الفسخ وجهان: أشبههما المنع. انتهى. والمذهب خلاف ما رجحه الرافعي هنا فقد حكي العمراني في "الزوائد" في المسألة قولين: الجديد: ثبوت الفسخ، والقديم: عدم ثبوته. كذا ذكره في باب ما يحرم من النكاح، وهذا الترجيح الضعيف الذي ذكره الرافعي من عنده لما لم يقف في المسألة على غيره وقد اغتر به في "الروضة" فتابعه عليه وزاد فعبر بالأصح. قوله: ثم نفقة الزمان الماضي لا تسقط بل تصير دينًا، بخلاف مؤنة السكنى، وخرج من النفقة في مؤنة السكنى وجه أنها تثبت أيضًا. انتهى ملخصًا. تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو يوهم أن النفقة تستقر بلا خلاف؛ فإن التخريج لا يأتي فيها، وليس كذلك بل هو ثابت فيها أيضًا وقد صرح هو به قبيل باب الاستبراء. قوله: والصحيح المشهور أن المرأة لا تستقل بالفسخ بل لابد من الرفع إلي القاضي كما في العنة. وقيل: إن المرأة تتولى الفسخ بنفسها كالرد بالعيب. فعلى الأول إذا

ثبت عنده الإعسار تولى الفسخ بنفسه أو أذن لها فيه، وقيل إنها تستقل بالفسخ بعد ثبوت الإعسار عنده. انتهى كلامه. وفيه كلام يتعين الوقوف عليه سبق ذكره في النكاح في الكلام على العنة، فراجعه. قوله: وإذا قلنا لابد من الرفع إلى القاضي فلم ترفع وفسخت بنفسها لعلمها بعجزه لم ينفذ في الظاهر. وهل ينفذ باطنًا حتى إذا ثبت إعساره متقدمًا على الفسخ إما باعتراف الزوج أو بالبينة يكتفي به وتحسب العدة منه؟ فيه تردد وجه قال في "البسيط": ولعل هذا فيما إذا قدرت على الرفع إلي القاضي. فإن لم يكن في الصقيع حاكم ولا محكم فالوجه إثبات الاستقلال بالفسخ. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة" والكلام جميعه ذكره في "النهاية" والغزالي في "البسيط"، وفيه أمور: أحدها: أن الراجح من التردد المذكور أنه لا ينفذ باطنًا فقد قال في "النهاية": إنه الذي يقتضيه كلام الأئمة. الثاني: أن ما نقله عن الغزالي في "البسيط" احتمالًا قد جزم به في "الوسيط"، وادعى عدم الخلاف فيه، وزاد على ذلك صورة أخري فقال: ولا خلاف في أنه ينفذ ظاهرًا إذا لم يكن في الناحية حاكم أو عجزت عن الرفع. الثالث: أنا إذا قلنا بالنفوذ باطنًا إذا استقلت بالفسخ لعلمها بعجزه فلا شك في ترتب جميع أحكام الفسخ عليه في نفس الأمر حتى يحل للمرأة فيما بينها وبين الله تعالى أن تتزوج ولا تستحق نفقة ولا إرثًا في حالة البينونة وغير ذلك.

وأما قول الرافعي: حتى إذا ثبت إعساره .. إلى آخره. فمراده بذلك أن أثر الفسخ النافذ في الباطن لا يظهر إلا في هذه الحالة. قوله: فإنما يتولى القاضي الفسخ أو يأذن لها فيه بعد إمهاله ثلاثة أيام من إعساره في أصح القولين. والقولان كالقولين في أن المولى والمرتد هل يمهلان هذه المدة. انتهى. وكلام الرافعي يوهم أن المولى والمرتد يمهلان ثلاثة أيام، والصحيح فيهما خلافه، فاعلمه. قوله: التفريع إن قلنا: لا يمهل ثلاثا فمتى يفسخ؟ وجهان: أحدهما: أن لها المبادرة إليه في أول النهار لعجزه وقت الوجوب. وأقربهما: المنع ليرتفع البأس فيتردد ويكتسب. وعلى هذا فقد ذكرت احتمالات: أحدها: يؤخر الفسخ إلى نصف النهار لأن الأكل لا يؤخر عنه غالبًا. والثاني: إلى آخره وهو وقت إفطار الصائمين. والثالث: إلى انقضاء اليوم والليلة بعده لأن النفقة لهما وبمضيهما تستقر والعجز عن الحق يتحقق بعد استقراره، وهذا أوجه عند الغزالي، وذكر في "الوسيط" أن حاصله الإمهال يوم وليلة، وفي هذا الوجه توقف لأن الاستمرار غير متوقف على قبضهما؛ ألا ترى أنه لو سلم النفقة فماتت في أثناء النهار لا تسترد. واعلم أنه قد نقل عن الإملاء أن المعسر يمهل عن النفقة يومًا، وأثبته السرخسي قولًا ثالثًا. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، وفيه أمور: أحدها: أن هذه الاحتمالات قد ذكرها الإمام ورجح أيضًا الذي رجحه

الغزالي فقال: فإن لم ير الإمهال فلا يتجه الإعسار انقضاء اليوم والليلة. هذه عبارته، ومنه أخذ الغزالي، ولا شك أن الرافعي لم يطلع على ذلك. ومنها: أن التوقف الذي ذكره ضعيف؛ فإن الكلام في مطالبة المرأة وما دامت حية مطالبة لا تستقر النفقة إلا بمضي اليوم والليلة فإنها لو نشزت سقطت. ومنها: أن حقيقة القول المنقول عن "الإملاء" هو حقيقة الاحتمال الثاني من الاحتمالات المفسرة للقول الأول وهو القائل بالمبادرة، وقول المبادرة ثابت بلا محالة والأخذ بظاهره متروك على الراجح، والاحتمالات المذكورة في تفسيره متجهة وثالثها مرجوح على ما اقتضاه كلام الرافعي؛ فيكون المراد من ذلك القول إما الاحتمال الأول أو الثاني، وقد نقل الثاني عن النص فلا يستنكر أن يكون تفسيرًا له وحينئذ فيكون قولًا ثالثًا على أن المحاملي في كتاب "التهذيب" قد حكى وجهين تفريعًا على هذا القول في أنها تفسخ في أول النهار أو آخره. قوله: وإذا فرعنا على الأصح -وهو الإمهال ثلاثًا- فإذا مضت الثلاثة فلها الفسخ صبيحة اليوم الرابع إن لم يسلم نفقته ثم قال ما نصه: وإن سلمها لم يجز الفسخ للماضي وليس لها أن تقول: آخذه عن نفقة بعض الأيام الثلاثة وأفسخ لعجزه اليوم؛ لأن الاعتبار في الأداء بقصد المؤدي. انتهى كلامه بحروفه. وما ذكره في تصوير المسألة وتعليلها قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غلط عجيب؛ وذلك لأنها إذا قالت آخذه عن بعض الأيام الثلاثة لم يكن لها الفسخ في اليوم المذكور -وهو الرابع- وإن قبلنا قولها لأن المدة حينئذ لم تكمل بل يبقى منها على هذا التقدير يوم آخر وهو اليوم الذي

قبضت فيه فإذا جاء الغد منه يكون هو الرابع حقيقة فتطالب بنفقته، فإن عجز فسخت بتعذر النفقة عنه -أي: عن الغد الذي جعلناه رابعًا-، وهذا واضح، والصواب في تصوير المسألة أن تحاول المرأة قبضه عن بعض الأيام الماضية، وقد صورها في "النهاية" بذلك فقال: وليس للمرأة أن تقول أقبض ما جئت به عن نفقة ما مضى وأطالب بنفقة اليوم فإن الرجوع فيما يؤديه من عليه الحق إلى قصده لا إلى قصد القابض. هذا لفظه. وهو صحيح. وذكر في "الوسيط" مثله فتصرف الرافعي فيه فوقع في الغلط. قوله: الثانية: يجوز لها في مدة الإمهال أن تخرج لتحصيل النفقة فإن التمكين والطاعة في مقابلة النفقة. قال في "البحر": وعليها أن ترجع بالليل إلى منزله، ولو أراد الاستمتاع بها لم يمنع وقضية التوجيه المذكور أن لها المنع، وكذلك ذكر صاحب "التهذيب"، ولا كلام في أنها إذا منعت نفسها منه لم تستحق النفقة لمدة الامتناع. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن الروياني من كونه لا يمنع من الاستمتاع بها محله في الليل كما أشعر به سياق كلام الرافعي، وقد رأيته مصرحًا به كذلك في "البحر". الأمر الثاني: أن ما نقله عن الروياني فيه وفي ملازمة المنزل ليلًا قد صرح به أيضًا الماوردي في "الحاوي". وأما ما نقله عن صاحب "التهذيب" فمردود؛ فإنه أطلق أن الملازمة والتمكين لا يجبان ولم ينص على الليل بخصوصه؛ وحينئذ فلا منافاة بين الكلامين؛ وحينئذ يترجح كلام الماوردي والروياني.

الأمر الثالث: أن الماوردي والروياني قد صرحا بأنه لا فرق في هذين الحكمين وفي غيرهما مما ذكر في هذه المسألة بين مدة الإمهال وما بعدها إذا رضيت بالمقام معه على إعساره. وقد فرق الرافعي المسألة وأوهم كلامه تغايرهما في الحكم؛ فإنه قال بعد هذا بأسطر: وإذا اختارت المقام مع المعسر لم يلزمها التمكين من الاستمتاع وكان لها الخروج من المنزل. ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. وإذا لم تمنع نفسها منه ثبت في ذمته ما يجب على المعسر، وخروجها بالنهار للاكتساب لا يوجب نقصًا من حقها. هذا كلامه. والأمر كما نقله عن صاحب "التهذيب" إلا أنه مطلق فيحمل على تقييد الماوردي والروياني كما أشرنا إليه؛ ويدل عليه تقييده بقوله: وخروجها بالنهار. فتامل ذلك فإنه مناف أيضًا لما أطلقه الآن عن صاحب "التهذيب". الأمر الرابع: أنه قد علم بآخر كلامه أن دعواه أنه لا كلام .. إلى آخره محمول على ما إذا كان المنع بالليل خاصة فاعلمه. ولا شك أن السبب في وقوع مثل هذه المواضع المتفرقة إلحاق ما يظفر به المصنف بعد تقدم بعضه وذهوله عنه. قوله: فإذا عجز عن نفقة أمّ ولده فعن الشيخ أبي زيد أنه يجبر على عتقها أو تزويجها إن وجد راغب فيها. وقال غيره: لا يجبر عليه بل يخليها لتتكسب وتنفق على نفسها. انتهى. والأصح الثاني. كذا صححه في "الروضة" من زوائده.

السبب الثاني للنفقة: القرابة

قال -رحمه الله-: السبب الثاني للنفقة: القرابة وفيه ثلاثة أبواب الباب الأول: في أصل النفقة قوله في أصل "الروضة": وهل يكلف الكسب لنفقة القريب؟ فيه أوجه: الصحيح أنه يكلف، وثانيها: لا. ثم قال ما نصه: والثالث: يكلف الولد دون الوالد. انتهى كلامه. وقد اختلفت النسخ في التعبير عن الولد؛ ففي بعضها مجرور بلام؛ أي: يكلف الوالد ليكتسب لأجل ولده بخلاف العكس. وفي بعضها وهو المتبادر إلى الفهم محذوف اللام مرفوع أي: يكلف الولد أن يكتسب لنفقة والده دون عكسه. والأول هو الصواب الذي شاهدته بخط المصنف، وصرح به الرافعي نقلًا عن "التتمة" وفرق بأن نفقة الوالد سبيلها سبيل المواساة ولا يكلف أن يكتسب ليصير من أهل المواساة، وأما الولد فبسبب حصوله للاستمتاع فألحقت نفقته بالنفقة الواجبة للاستمتاع وهي نفقة الزوجة. قوله: فإن كان القريب يقدر على كسب لائق فإن كان فرعًا فقيل لا تجب نفقته قطعًا، وقيل: قولان أصحهما عند الأصحاب عدم الوجوب. قال في "العدة": لكن الفتوى اليوم على الوجوب وإن كان أصلًا ففيه القولان، ومال جماعة هنا إلى ترجيح الوجوب. انتهى ملخصًا. فأما ما دَلّ عليه كلامه في الأصل من ترجيح الوجوب فَمُسَلّم، وحكى الرافعي في زكاة الفطر طريقة قاطعة به. وأما الذى قاله في الفرع من عدم الوجوب فقد صرح به أيضًا في "الشرح الصغير" ولم يذكر ترجيحًا غيره، ولكنه رجح الوجوب في "المحرر" فإنه جمع بينه وبين الأصل فقال ما نصه: وإلا فثلاثة أقوال أحسنها: الوجوب، والثالث: تجب نفقة الأصل

على الفرع دون العكس. واستدرك النووي عليه في "المنهاج" وصحح التفصيل. قوله: ولا تتقدر نفقة القريب لأنها تجب على سبيل المواساة لتزجية الوقت بل يعتبر حاله في سنه وزهادته ورغبته ويعطيه ما يستقل به ويتمكن معه من التردد والتصرف. وعن ابن خيران: أنها تتقدر بقدر نفقة الزوجة ويجب له أيضًا الأدم والكسوة والسكنى، والإخدام. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن الغزالي قد صرح في "الوجيز" بأنه لا يجب إشباع القريب، ولم يصرح به الرافعي هنا، وفي أخذه من كلامه وقفة. وحكى الرافعي في نفقة المملوك ثلاثة أوجه: أحدها هذا وكلامه يقتضي ترجيحه. الثاني: يجب ما يكفي مثله غالبًا ولا تعتبر كفايته في نفسه. والثالث: إن أثر فقد الزيادة في قوته وبدنه لزمت وإلا فلا. ثم قال: وينبغي أن تجيء هذه الوجوه في نفقة القريب. الأمر الثاني: أن الرافعي قد حكى في باب نفقة الزوجات عن ابن خيران أن نفقة الزوجة ليست مقدرة بل المعتبر عرف الناس في البلد فينبغي استحضاره، وتأويل أحد النقلين عنه موهم. الأمر الثالث: أنه يجب للقريب أجرة الطبيب وثمن الأدوية. كذا صرح به الرافعي في كتاب قسم الصدقات. وأما التزجية بزاي معجمة ثم جيم فمعناه التكفية قال الشاعر: تزج من ديناك بالبلاغ

أي: اكتف. والزهادة: قلة الأكل عكس الرغبة. قوله: ولو سلم نفقة القريب إليه فتلفت في يده فعليه الإبدال، وكذا لو أتلفها بنفسه لكن يؤخذ منه الضمان إذا أيسر. انتهى. ووجوب الضمان مختص بالمسألة الثانية فاعلمه فإنه وإن كان مشكلًا لكونه قبض العين لمحض غرض نفسه إلا أنه المنقول فقد صرح به هكذا البغوي في "التهذيب" والنووي في أصل "الروضة" وابن الرفعة في "الكفاية". قوله: وتسقط نفقة القريب بمضي الزمان ولا تصير دينًا في الذمة وإن تعدى بالامتناع من الإنفاق. ثم قال ما نصه: ويستثني ما إذا فرضها القاضي أو أذن في الاستقراض لغيبة أو امتناع فيصير ذلك دينًا في الذمة. انتهى كلامه بحروفه. وما ذكره من أن نفقة القريب لا تسقط بمرور الزمان إذا فرضها القاضي ذكره الغزالي في "الوسيط" و"الوجيز" فتابعه الإمام الرافعي عليه، ثم إن الشيخ محيي الدين تبع الرافعي على ذلك، وهو لبعضه بعض الفضلاء. أما بطلانه من جهة النقل فإني مردود فعلًا وبحثًا سبق إلى التفطن قد تتبعت كتب الأصحاب وكشفت ما عددته لك في مقدمة الكتاب من التصانيف على كثرتها مشهورها ومهجورها فلم أر أحدًا استثنى ذلك، بل الذى رأيته التصريح بأنها لا تستقر في هذه الحالة -أي: حالة الفرض- وممن صرح بذلك الإمام أبو العباس أحمد بن القاص والإمام أبو علي الطبري صاحب "الإفصاح"، وناهيك بهما. كذا نقله عنهما في "شرح المهذب" المسمى "بالاستقصاء" ورأيته أيضًا للمحاملي في كتابه المسمى "عدة المسافر وكفاية الحاضر" في الاستدلال على أبي حنيفة على أن نفقة الزوجات تسقط بمضي الزمان فقال: فإن قيل: كل نفقة تجب يومًا بيوم تسقط بمضي الأيام قياسًا على نفقة الأقارب.

قيل: نفقة الأقارب لو فرضها الحاكم لم تستقر في الذمة وهذه النفقة لو فرضها الحاكم استقرت في الذمة فافترقا. هذا لفظه، ورأيته أيضًا في كتاب "الحيل" لأبي حاتم القزويني (¬1) شيخ صاحب "التنبيه" فقال: نفقة الأقارب لا تثبت في الذمة وإن حكم الحاكم بها. هذه عبارته بحروفه. ذكر ذلك في أثناء الكلام على الحيل المباحة قريبًا من نصف الكتاب، وكذلك في كتاب "تذكرة المسئولين" للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وهو كتاب كبير معقود للخلاف بيننا وبين الحنفية فقال في المسألة السابق ذكرها ما نصه: ولأنه لو حكم الحاكم في نفقة الأقارب لم تستقر في الذمة هذا لفظه. وكذلك الغزالي في كتابه المسمى "تحصين المأخذ" في علم الخلاف في المسألة المذكورة، ونصر المقدسي في "التهذيب"، ومحمد بن يحيى في "التمهيد"، ونقل أيضًا عن البندنيجي في "المعتمد"، وجزم به الجيلي في "شرح التنبيه"، ولم يحك استقرارها بفرض القاضي إلا عن الغزالي، ولم يحكه ابن الرفعة مع اطلاعه إلا عن الرافعي، وكان من جملة ما راجعته شرح الوجيز لأبي المعالي محمد بن يونس الموصلي فرأيته لما وصل إلي قوله: إلا بفرض القاضي لم يشرحه وترك بياضًا وشرح ما بعده، وكأنه توقف فيه ليحترر هل هو بالقاف أو بالفاء فلم يتفق. وبالجملة فقد صرح الرافعي في باب زكاة الفطر بما حاصله الجزم بعدم الاستقرار فقال: الثانية: إذا وجبت نفقة الابن على أبيه فملك الابن قوت ليلة العيد ويومه فإن كان كبيرًا لم تجب فطرته على الأب لسقوط نفقته. ثم قال ما نصه: وإن كان صغيرًا فوجهان: قال الصيدلاني: لا تسقط ¬

_ (¬1) هو محمود بن الحسن بن محمد، القزويني، المتوفى سنة (440 هـ). وكتابه هذا كتاب كبير، وهو قيد العمل عندي، أسأل الله إتمامه على خير، آمين.

والفرق أن نفقة الكبير لا تثبت في الذمة بحال وإنما هي للكفاية ونفقة الصغير قد تثبت؛ ألا ترى أن الأم لها أن تستقرض على الأب الغائب لنفقة الصغير فكانت نفقته آكد. وقال الشيخ أبو محمد: تسقط كما تسقط النفقة، وتردد فيما ذكره من جواز الاستقراض على الأب الغائب لنفقة الصغير وقال الأظهر منعه إلا بإذن السلطان، ومثله يفرض في حق الكبير أيضًا، وما ذكره الشيخ أظهر عند الإمام وغيره. هذا كلامه. هذا ما تحرر في دفعة من جهة المنقول، وأما من جهة المعني فلأنهم عللوا عدم الاستقرار بأنها تجب علي سبيل المواساة لإحياء النفس، فإذا كان كذلك فالزمن الماضي قد حيت نفسه فيه فلا معني لإيجاب النفقة وأيضًا فإن نفقة القريب إمتاع لا تمليك كما جزم به الرافعي ونقله عن الأئمة. وقد قال الإمام: وما لا تمليك فيه وانتهى إلى الكفاية استحال مصيره دينًا في الذمة، وأيضًا فكيف يتصور تأثير القاضي في الفرض لأنه إن عنى به الإيجاب كان تحصيلا للحاصل ويلزم عليه بقاء الأمر على ما كان عليه من السقوط، وإن عنى به التقدير لزم ألا يؤثر إلا في قدر ما كان يجوز أن يزيد أو ينقص حتى إنه يمتنع طلب الزيادة على من يأخذ والنقص على من يعطي، وأما صفة الوجوب من السقوط فباقية على ما كانت عليه لأن الحكم إنما يوجه على هذا التقدير إلى التقدير مع أنا نمنع جواز التقدير للقاضي لأن الواجب هو الكفاية بالمعروف كما هو منصوص عليه في حديث هند، والتقدير مناف لها، وإذا كان الواجب هو الكفاية [فكيف] يجوز له أن يحكم بالتقدير الذى هو خلاف معتقده؟ واعلم أن لفظ الرافعي قريب من التصحيف فإنه عبر بقوله ويستثنى ما إذا فرض القاضي أو أذن في الاستقراض كما تقدم النقل عنه وكأن مراده إذا

اقترض بالقاف -ويدل على التصحيف فيه أمران: أحدهما: وجدانها في بعض النسخ كذلك -أعنى بالقاف-. والثاني: أن البغوي والمتولي صرحا باستثنائها وأنه لا يستثنى غيرها، وقد علمت كثرة نقل الرافعي عنهما فيبعد عادة تركه لذلك، واستثناها أيضًا في "البحر" مع أن الاستثناء لا حاجة إليه لأن القرض يدخل في ملك المقترض عليه أولًا ثم يأخذه من يجب له. قوله في الروضة: إذا كان الابن في نفقة أبيه وله زوجة فوجهان حكاهما أبو حامد وغيره. أحدهما: يلزم الأب نفقتها ونفقة زوجة كل قريب وجبت نفقته لأنه من تمام الكفاية، وبهذا قطع صاحب "المهذب". وأصحهما: لا يلزمه. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من حكاية الوجهين هو الصواب، وقد ادعى في باب زكاة الفطر من "شرح المهذب" عدم الخلاف فقال: وأما زوجة الابن المعسر فلا تجب نفقتها ولا فطرتها بلا خلاف. هذا لفظه. قوله: وإذا امتنع الأب من الإنفاق على الولد الصغير أو كان غائبًا فهل تستقل الأم بالأخذ من ماله؟ فيه وجهان: أظهرهما عند صاحب الكتاب وغيره: نعم كقضية هند. والثاني: لا؛ لأنها لا تلي التصرف في ماله فلا تلى التصرف في مال ابنه، ومن قال به حمل ما ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند على أنه كان قضاء أو إذنًا لها لا إفتاء وحكمًا عامًا. انتهى كلامه. وقد استفدنا منه أن المرجح أنه إفتاء وحكم عام؛ لأن المرجح جواز الأخذ، وقد تعرض الرافعي لذلك في مواضع؛ واختلف فيه كلامه فراجعه في أول النفقات.

قوله: وفي استقلالها بالاستقراض عليه إذا لم تجد له مالًا وجهان بالترتيب؛ أي: على الأخذ عند الوجدان، والاقتراض أولى بالمنع لخروجه عن صورة الحديث ومخالفة القياس. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ولا يؤخذ منه تصحيح لأن معنى الترتيب الذى ذكره أنه إن امتنع هناك امتنع أيضًا هنا، وإن جاز هناك فهاهنا وجهان، والراجح في هذه المسألة هو المنع؛ فقد سبق من كلام الرافعي في باب زكاة الفطر ما يدل عليه. قوله: يجب على الأم أن ترضع ولدها [اللبن] لأن الولد لا يعيش إلا به غالبًا. ثم إن لها أن تأخذ الأجرة عليه إن كان لمثله أجرة، وفيه وجه منقول عن الحاوي أنه لا أجرة لها لأنه حق تعين عليها والأب عاجز عنه كما إذا أيسرت بالنفقة والأب معسر. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل هذا الوجه عن "الحاوي"، وليس كذلك، إنما ذكره احتمالًا فقط فقال: ولو قيل لا أجرة لها لأنه حق واجب قد تعين عليها وعجز الأب عنه فجرى مجرى نفقته لكان له وجه. هذا كلامه. قوله: وهل للزوج منع زوجته من إرضاع ولدها منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا وهو اختيار القاضي أبي الطيب لأنها أشفق على الولد من الأجنبية ولبنها له أصلح وأرفق. وأقواهما -وهو اختيار الشيخ أبي حامد-: أن له المنع؛ لأنه يستحق الاستمتاع بها في الأوقات المصروفة إلى الإرضاع، وهذا ما أورده الغزالي في "الوجيز" والشيخ في "المهذب" قال: لكنه يكره له ذلك. انتهى. وقد ذكر الرافعي -رحمه الله- بعد هذا قبيل الجنايات بنحو ورقة في الكلام على ولده من أمته ما يشكل على هذا فقال: وهل للسيد تسليمه إلى

مرضعة غيرها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها ملكه وقد يريد استخدامها والاستمتاع بها. وأظهرهما -وهو المذكور في "الوجيز"- لا؛ لما فيه من التفريق بين الوالدة وولدها. انتهى. والمتجه التسوية بين المسألتين، وتعليل الرافعي المنع في الموضع الثاني بالتفريق عجيب؛ فقد جزم الرافعي في كتاب السير بأن أحدهما لو كان حرًا جاز بيع الآخر، فإذا جاز التفريق بالبيع فبالرضاع أولى، وقد استدرك في "الروضة" هنا على الرافعي غير مستحضر للمذكور هناك فقال: قلت الأول أصح وصححه البغوي والروياني في "الحلية" وقطع به الدارمي والقاضي أبو الطيب في "المجرد" والمحاملي والفوراني وصاحب "التنبيه" والجرجاني، والله أعلم. واعلم أن صاحب "التنبيه" قد عبر فيه بقوله: لم يمنعها الزوج، وهذه العبارة تحتمل التحريم والكراهة؛ فلا يستدل بها على التحريم بل حملها على الكراهة أولى لتصريحه به في "المهذب" كما تقدم نقله عنه. قوله: وهل للزوج أن يستأجر زوجته لإرضاع ولده؟ فيه وجهان: قال العراقيون: لا يجوز، وربما طردوه في الخدمة لأنه يستحق الاستمتاع بها في تلك المدة فلا يجوز أن يعقد عليها عقدًا آخر يمنع استيفاء المستحق، والأصح: الجواز، ويكون الاستئجار رضا بترك الاستمتاع واحتج له بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، ولو لم يجز استئجارها لم تكن لها أجرة. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن الاستدلال بالآية سهو فإن أول الآيات وهو قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. . إلى آخرها إنما هو

مذكور في المطلقات، وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في كتاب الإجارة أيضًا، واقتضى كلامه أن العراقيين سلموا أن الاستئجار لغير الرضاع يصح، ونقل عنهم أنهم احتجوا للمنع بأنها أخذت منه عوضًا للاستمتاع وعوضًا للحبس فلا تستحق شيئًا آخر. الأمر الثاني: أن الرافعي في الإجارة قيد الخلاف بما إذا كان ولده منها، وقد تقدم ذكر لفظه هناك لأمر آخر فراجعه. قوله: فإذا فرعنا على أن الزوج ليس له منع زوجته من إرضاع الولد أو قلنا إن له ذلك فاتفقا على الإرضاع فطلبت الأجرة وقلنا بالأصح أنه يجوز له استئجار زوجته لإرضاع ولده كانت كالثانية إذا طلبت الأجرة. انتهى ملخصًا. وحكم الثانية أنه يجب لها أجرة المثل، فإن وجد الأب متبرعة أو من ترضى بدون المثل ففي الانتزاع وجهان: الأصح أن له ذلك. إذا علمت ذلك فما ذكره الرافعي من التحاقها في ذلك بالثانية صحيح في الحالة الأولى وهو ما إذا قلنا: ليس له المنع، وأما ذكره ذلك في الحالة الثانية أيضًا وهو ما إذا قلنا: بالصحيح أن له المنع فتوافقا، فقد تابعه عليه في "الروضة" وهو عجيب لا يعقل، بل إذا قال الزوج: لا أرضى بتسليمه لك إلا إذا كنت متبرعة أو راضية بدون أجرة المثل، فإنه يجاب بلا خلاف؛ لأن التفريع على أنه لا يجب عليه تمكينها من ذلك. قوله أيضًا في المسألة: وإذا أرضعت بالأجرة فإن كان الإرضاع لا يمنع من الاستمتاع ولا ينقصه فلها مع الأجرة النفقة، وإن كان يمنع أو ينقص فلا نفقة لها. كذا ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، ويشبه أن يجيء فيه الخلاف [فيما إذا سافرت لغرض نفسها بإذنه. انتهى. وهذا البحث الذي ذكره قد تابعه عليه في "الروضة" وهو صحيح فيما إذا قلنا: له المنع فتوافقا بالأجرة، وقد نقل في كتاب العدد ما يؤخذ منه

الخلاف] (¬1) بطريق الأولى فقال في باب عدة الوفاة في الكلام على المفقود: وحيث قلنا الولد للثاني وحكمنا ببقاء نكاح المفقود فله منعها من إرضاع الولد إلا [اللبن] الذي لا يعيش إلا به، وإذا لم يكن بد من الإرضاع ولم يوجد غيرها، ثم إن لم تخرج من بيت الزوج وأرضعته فيه ولم يقع خلل من التمكين فعلى الزوج نفقتها. قال في "الشامل": سواء وجب عليها الإرضاع أو لم يجب. وإن خرجت للإرضاع بغير إذنه سقطت نفقتها، فإن خرجت بإذنه فوجهان كما لو سافرت في حاجتها بإذنه. هذا كلامه. فإذا جرى الخلاف في الرضاع مع الخروج بالكلية فجريانه مع بقائها في المنزل بطريق الأولى. وأما حكايته لهذا البحث أيضًا على الوجه الآخر الذى صححه النووي؛ وهو أنه لا منع له فلا يستقيم لأن إذنه مفقود بالكلية أو غير معين لأنه يجبر على التسليم، فإذا كان يجبر على ذلك ومع الإجبار تعطى الأجرة ولم يحصل له استمتاع بالكلية أو الاستمتاع التام كيف يأتي إيجاب النفقة؟ واعلم أن ما نقلناه عنه في العدد يقتضي الجزم بأنها لا تستحق النفقة عند الخلل من التمكين وإن لم تخرج من المنزل وأن ذلك لا يخرج على الخلاف في السفر، فإذا كان لا يخرج عليه مع وجوب الإرضاع عليها فكيف يتخرج مع عدم الوجوب؟ ¬

_ (¬1) سقط من أ، ب.

الباب الثاني: في ترتيب الأقارب

الباب الثاني: في ترتيب الأقارب قوله: وإذا اجتمع اثنان منهم -أي من المنفقين- نظر: إن استويا في القرب والوراثة أو عدمها والذكورة والأنوثة كابنين أو ابنتين فالنفقة بينهما بالتسوية. ثم قال ما نصه: فإن اختلفا في شيء من ذلك ففيه طريقان: أحدهما: النظر إلى القرب؛ فإن كان أحدهما أقرب فالنفقة عليه لأنه أولى بالاعتبار. ولا فرق بين أن يكون الأقرب وارثًا أو غير وارث ولا بين أن يكون ذكرًا أو أنثى، فإن استويا في القرب ففي التقديم بالإرث وجهان: أحدهما: أن النفقة على الوارث لقوة قرابته، والثاني: أنه لا أثر للوراثة لأن القرابة المجردة عن الإرث موجبة للنفقة، فالإرث غير مرعي في الباب. فإن قدمنا بالإرث، فلو استويا في أصل الإرث فيستويان أو تكون النفقة بحسب الإرث؟ فيه وجهان: وجه الثاني: إشعار زيادة الإرث، [بزيادة قوة القرابة، والطريقة أن النظر أولًا إلى الإرث] (¬1) فإن كان أحدهما وارثًا دون الآخر فالنفقة على الوارث، فإن كان غير الوارث أقرب، فإن تساويا في الإرث وأحدهما أقرب فالنفقة على الأقرب، فإن تساويا في القرب أيضًا فالنفقة عليهما، ثم يسوي أو يراعي قدر الإرث؟ فيه الوجهان: وإذا استويا في المنظور إليه على اختلاف الطريقتين وأحدهما ذكر والآخر أنثى فهل يختص الذكر بوجوب النفقة عليه؟ فيه وجهان؛ وجه الاختصاص أنه أقوى وأقدر على الكسب. وأيضًا فإنه لو اجتمع الأب والأم تكون النفقة على الأب دون الأم. هكذا قيد في "الوسيط" وجه اعتبار الذكورة فيما إذا استويا في سائر الأسباب عن رواية الشيخ أبي عليّ؛ وكأنه لذلك لم يجعله هاهنا طريقة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تقابل الطريقتين السابقتين بل جعله وجهًا بين الطريقتين، ومنهم من حكاه طريقة برأسها فقال: إن كان أحدهما ذكرًا فالنفقة عليه قريبًا كان أو بعيدًا وارثًا كان أو غير وارث. وإن كانا ذكرين أو أنثتين فالنفقة على المدلي بالذكر، فإن استويا في الإدلاء فهي على الأقرب. والأظهر عند صاحب "الكتاب" والإمام وصاحب "التهذيب" وغيرهم: الطريقة الأولى دون اعتبار الإرث والذكورة؛ واحتجوا بأن الإرث والذكورة لا يشترطان في وجوب النفقة والمنفرد منهم تلزمه النفقة وإن لم يكن جائزًا ولا وارثًا. ويدل على قوة القرب أن من اعتبر الإرث أو الذكورة قطع عند استوائهما في الإرث أو الذكورة بالاعتماد على القرب، والمعتبرون للقرب ترددوا عند استوائهما في الدرجة في أنه هل يعتبر الإرث والذكورة؟ . واختيار العراقيين يخالف اختيارهم أولًا في بعض المنازل كما نبينه في الأمثلة. أمثلته: ابن وبنت النفقة عليهما بالسوية إن اعتبرنا بالقرب، وبه قال أبو حنيفة. وكذا في اعتبار الإرث أن اكتفينا بأصله، وإن اعتبرنا مقدار الإرث فيكون عليهما أثلاثًا وبه قال أحمد: وهي على الابن إن اعتبرنا الذكورة، وهو ما اختاره العراقيون، وربما لم يوردوا غيره. قوله: بنت وابن ابن هى على البنت إن اعتبرنا القرب، وبه قال أبو حنيفة، وعليهما بالسوية إن اعتبرنا الإرث، وعلى ابن الابن إن اعتبرنا الذكورة وهذا ما اختاره العراقيون. انتهى كلامه بحروفه.

فيه أمور: أحدها: أن الصحيح إنما هو اعتبار الإرث على خلاف ما أشعر به كلامه هنا من رجحان القرب، وستعرف ذلك بعد هذا الموضع بنحو ورقتين. الأمر الثاني: أن المثال الأول من المثالين المذكورين في آخر كلامه صحيح، وأما الثاني -وهو البنت مع ابن الابن- فحكمه فيه بأن النفقة على البنت إن اعتبرنا القرب وعلى ابن الابن إن اعتبرنا الذكورة صحيح، وأما حكمه بأنها عليهما بالسوية إن اعتبرنا الإرث فقد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو غلط محض لا قائل به، بل تجب على البنت على الطريقين معًا، أما على الطريقة الأولى فواضح، وأما على الطريقة الثانية فلأن الذى يعتبر الإرث يقول فيما إذا كانا معا وارثين بتقديم الأقرب، فإن استويا في القرب أيضًا كانت عليهما. وفي مثالنا لم يتساويا؛ فراجع ذلك، مع ما ذكره في كل من الطريقين يظهر لك بطلانه ولا تجد له شيئًا يتفرع عليه، ولا شك أن الرافعي بقي في ذهنه أصل الخلاف ففرع عليه ذاهلًا عن شرطه فوقع في الغلط في أمثلة هذا منها، وباقيها ستعرفه. الأمر الثالث: أن الرافعي قد حكى خلافًا عند القائلين باعتبار الذكورة في أنها هل تعتبر مطلقا أو عند استوائهما في المنظور إليه، ثم فرع عليهما في أمثله كما تقدم فأسقط النووي القائل باعتبارها بلا شرط لكونها قد وقعت في أثناء تعديل وكلام يظن معه الفراغ من نقل الحكم كما تقدم ذكره ثم تابع الرافعي في التفريع عليها فلزم منه أنه فرع على شيء غير مذكور بحيث لا ينطبق ما ذكره في تلك الأمثلة على الخلاف المتقدم منها مثالنا هذا بعينه وهو البنت مع ابن الابن فإن جميع ما ذكره لا يؤخذ منه أن قائلًا يقول بتقديم ابن الابن على البنت فإنهما لم يتساويا في المنظور إليه فتأمله

فإنه واضح. الأمر الرابع: ذكر الرافعي بعد هذا أنه إذا احتاج البالغ وله أب وأم وفَرّعْنَا على أن النفقة عليهما لا على الأب فهل يسوى بينهما أو يجعل أثلاثًا بحسب الإرث؟ فيه وجهان رجح منهما الثاني. هذا كلامه. وفي "الشرح الصغير" و"الروضة" مثله أيضًا، وقياسه أن يكون الراجح في هذه المسألة وهي اجتماع الفروع كذلك. قوله: بنت وبنت ابن هي على البنت إن اعتبرنا القرب، وعليهما إن اعتبرنا الإرث. انتهى كلامه. وما ذكره من كونها عليهما إن فَرَّعْنَا على الإرث تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غلط، بل يجب على البنت بلا خلاف لما عرف من أن الذى يعتبر الإرث يقول فيما إذا كانا معًا وارثين أنه يقدم الأقرب قطعًا، وقد ذكر في "النهاية" هذا المثال بعينه وقال: إن النفقة على البنت على جميع الطرق. قوله: بنت وابن بنت هي على البنت إن اعتبرنا القرب أو الإرث، وعلى ابن البنت إن اعتبرنا الذكور. انتهى. وحكمه كله صحيح إلا إيجابه على ابن البنت فإنه لا يصح على ما في "الروضة"؛ إذ ليس فيها طريقة اعتبار الذكورة مطلقًا بل عند التساوي في المنظور إليه كما تقدم إيضاحه. قوله: ابن وولد خنثى إن قلنا في اجتماع الابن والبنت تكون عليهما فكذا هاهنا، وإن قلنا تكون على الابن فهاهنا وجهان: أحدهما: على الابن نصفها لأنه المستيقن والنصف الآخر يفرضه الحاكم، فإن بان ذكرًا فالرجوع عليه وإلا فعلى الابن وأظهرهما: يؤخذ الجميع من الابن، فإن بان الخنثى ذكرًا رجع عليه بالنصف. انتهى كلامه.

ذكر في "الروضة" نحوه. وفيه أمران: أحدهما: أنه سكت عما إذا لم يوجد من يقرض، والحكم أنه يجب على الخنثى. قاله القاضي الحسين في "تعليقه" في نظير المسألة، وكذلك ابن الصباغ في "الشامل". الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي فيما إذا استمر الإشكال إلى الموت أن الرجوع على الابن، فتفطن له. وخالف ابن الرفعة في "الكفاية" فقال: لا يرجع عليه، وما قاله الرافعي أصوب لأنه لا يمكن تفويت ذلك على من اقترض منه وقد تيقنا أهلية الذكر للوجوب وسلكنا في المشارك له والأصل عدمه وحكى الماوردي وجهًا ثالثًا أن النفقة عليهما نصفين. قوله: بنت وولد خنثي إن قلنا في اجتماع الابن والبنت النفقة عليهما فكذا هاهنا، وإن قلنا: على الابن فوجهان: أحدهما: على الخنثى، فإن بانت أنوثته رجعت على أختها بالنصف. والثاني: لا يؤخذ منه إلا النصف لأنه اليقين ويؤخذ النصف الآخر من البنت، فإن بانت ذكورته رجعت عليه. انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا منهما في "الروضة" أيضًا وإنما زاد فقال: كان ينبغي أن يجيء وجه الاقتراض ولا يؤخذ من البنت شيء، والذى قاله صحيح، والراجح من الوجهين هو الثاني؛ كذا رجحه ابن الصباغ فقال: إنه القياس. والأمر كما قال؛ فإن الأصل عدم المرجح. قوله: تقدم نفقة الزوجة على نفقة الأقارب. هكذا أطبق عليه الأصحاب لأن نفقتها آكد لأنها وجبت عوضًا،

واعترض الإمام بأن نفقتها إذا كانت كذلك كانت كالديون ونفقة القريب في مال المفلس تقدم على الديون، وخرج لذلك احتمالًا في تقديم القريب وأيده بالحديث أن رجلًا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: معي دينار فقال: "أنفقه على نفسك" فقال: معي آخر فقال: "أنفقه على ولدك" فقال معى آخر. فقال: أنفقه على أهلك (¬1). فقدم [نفقة الولد على الأهل. انتهى كلامه. وهذا الحديث أخرجه أبو داود بإسناده عن سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن الفضل بن أبي سعيد المقري عن] (¬2) أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخرجه النسائى (¬3) بإسناده عن إسحاق بن سعيد القطان عن محمد بن عجلان .. إلى آخر السند المذكور في أبي داود وفيه تقديم الزوجة على الولد؛ فتعارضت الروايتان. قوله: وذكر أنه لو اجتمع جدان في درجة واحدة وأحدهما عصبة كأبى الأب مع أبي الأم فالعصبة أولى، وأنه لو اختلفت الدرجة واستويا في العصوبة أو عدمها فالأقرب متقدم وإن كان الأبعد غيره تعارض القرب والعصوبة فيستويان. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من استواء القرب والعصوبة خلاف الصحيح، فاعلمه؛ فقد ذكر في النكاح في إعفاف الجد أنه دائر مع النفقة وأنه لو كان الأبعد عصبة قدم في الأصح. ومما ذكره هناك يعلم أن الصحيح عند اجتماع المنفقين هو التقديم بالإرث أيضًا على خلاف ما أشعر به كلامه عند ذكره لهذه المسألة، وهو قبيل هذا الموضع بنحو ورقتين، وقد تقدم هناك الوعد بذكره. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1691)، وابن حبان (4235)، والحاكم (1514)، والبيهقي في "الشعب" (3421) و"الكبرى" (15512) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال الألباني: حسن. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه النسائي (2535)، وأحمد (7413). قال الألباني: صحيح.

واعلم أنه ليس في كلام الرافعي ولا في كلام "الروضة" تصريح بتعيين ذاكر هذه الفروع؛ فإن قبله ذكر الروياني وذكر البغوي وكل منهما يحتمل عود الضمير إليه والبغوي أقرب في اللفظ وهو القائل فاعلمه. قوله: أب وابن إن كان الابن صغيرًا قدم وإلا فهل يقدم الابن أم الأب أم يستويان؟ فيه ثلاثة أوجه: ثالثها اختيار القفال. انتهى. لم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا من هذا الخلاف والصحيح تقديم الأب. كذا صححاه في باب زكاة الفطر. قوله: أب وأم، تُقدم الأم على الأصح، وقيل: الأب، وقيل: يستويان. انتهى. وما صححه هنا من تقديم الأم تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو مخالف لما سبق منهما في زكاة الفطر؛ فإنهما صححا هناك تقديم نفقة الأب، وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. واعلم أن الرافعي قد أهمل صورا من اجتماع الآخذين منها: الأم والبنت، وهو قياس الأب مع الابن. ومنها: الجد مع الجدة، فإن كانت مساوية له في الدرجة فهي قياس الأم مع الأب، فإن كان هو أعلى منها فهو قياس اجتماع الجد مع الأم، وإن كانت هي أعلى فكالجدة مع الأب. قوله: وفي "البحر" أنه لو كان له ولدان ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما وله أب موسر وجب على الأب نفقة الآخر، فإن اتفقا على الإنفاق بالشركة أو على أن يختص كل واحد بواحد فذاك، وإن اختلفا عمل بقول من يدعو إلى الاشتراك. وذكر أنه لو كان للأبوين المحتاجين ابن لا يقدر إلا على نفقة أحدهما وللابن ابن موسر فعلى ابن الابن باقي نفقتهما، فإن اتفقا على أن ينفقا عليهما بالشركة أو على أن يختص كل واحد منهما بواحد فذاك، وإن اختلفا رجعنا إلى اختيار الأبوين إن استوت نفقتهما، وإن

اختلفت اختص أكثرهما نفقة بمن هو أكثر يسارًا. وجوابا الصورتين متقاربان كما ترى والقياس أن يسوي بينهما بل ينبغي في الصورة الثانية أن يقال: تختص الأم بالابن تفريعًا على الأصح وهو تقديم الأب على الأم، وإذا اختصت به تعين الأب لإنفاق ابن الابن. انتهى كلامه. وما بحثه في الصورة الثانية تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو غير متجه لأن تصحيحهم تقديم نفقة الأم إنما ذكروه حيث لم يكن بعد الابن من تجب عليه نفقة الأم، وتعليلهم بعجز النسوة يدل عليه، وإذا كان كذلك امتنع ما قاله من تقديمها على الأب، ولابد من نقل صريح في هذه المسألة على ما قاله سَلّمْنا لكن إنما يتم هذا أن لو سَلّم عن ورود مثله في حق ابن الابن لكنه غير سالم؛ وذلك لأن الأم والأب على حد واحد في حق ابن الابن فكما تتقدم الأم على الأب في حق الابن فتتقدم الجدة على الجد في حق ولد الولد لأنه لا فرق بينهما؛ فيندفع ما قاله من تعين الأب لإنفاق ابن الابن. وما ذكره الروياني أيضًا في الصورة الثانية من اختصاص أكثرهما نفقة بالأكثر يسارًا لا يستقيم على إطلاقه بل الذى ينبغي أن يختص به إنما هو القدر الزائد الذى هو موسر به وما عداه هو محل التراحم. قوله: ولا تجب على العبد نفقة ولده ولكن إن كانت الأم حرة فالولد حر وعليها نفقته. انتهى. وما ذكره ليس بلازم فقد تعتق الأم ويبقى الولد على رقه. قوله: ولو استولد المكاتب جارية نفسه وإن كنا لا نُجوز له ذلك فيتكاتب الولد عليه. انتهى كلامه. وما ذكره من منع التسرى تابعه عليه في "الروضة" ومقتضاه امتناعه وإن كان بإذن السيد، وفيه اضطراب وقع في كلامه وكلام "الروضة" أيضًا تقدم التنبيه عليه في معاملات العبيد وغيرها.

قوله: وهل تجب نفقة المكاتب على ولده الحر؟ عن "الحاوي" أنه يحتمل وجهين: أحدهما: لا؛ لبقاء أحكام الرق. والثاني: نعم؛ لانقطاع النفقة عن سيده. انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن الرافعي -رحمه الله- لم يقف في هذه المسألة على نقل، وقد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وزاد فقال: الأول أصح لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فلينفق من كسبه، فإن تعذر عجز نفسه والنفقة على سيده. هذا كلامه. وما قالاه غريب جدًا؛ فإن المسألة منقولة موجودة في كلامهما مجزوم بها على العكس من هذا التصحيح المذكور هنا، ذكرا ذلك في أول كتاب قسم الصدقات، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: من نصفه حر ونصفه رقيق قال في "البسيط": الظاهر أنه تلزمه نفقة القريب لأنها كالغرامات. وهل تلزمه نفقة تامة أم نصفها؟ وجهان حكاهما ابن كج. انتهى. وما نقله عن "البسيط" من ترجيح الوجوب وأقره عليه قد تبعه عليه في "الروضة"، وزاد فصحح وجوب نفقة كاملة قال: لأنه كالحر بدليل الكفارة، وما ذكراه من إيجابها عليه يقتضى إلحاقه بالموسرين، وفيه كلام سبق في أوائل النفقات فراجعه. قوله: ولو كان من نصفه حر ونصفه رقيق محتاجًا هل يلزم قريبه الحر نفقته بقدر ما فيه من الحرية؟ وجهان حكاهما ابن كج. والراجح على ما قاله في "الروضة" هو الوجوب قال: ويمكن بناؤهما على أنه هل يورث، وهذا الذى قاله من البناء عجيب؛ فإن النفقة ليست دائرة مع الإرث؛ ألا ترى أنا نوجب نفقة أولاد البنات والجد للأم والمخالف في الدين.

الباب الثالث: الحضانة

الباب الثالث: الحضانة قوله في "الروضة": لكن لاستحقاق الأم شروط: أحدها: كونها مسلمة إن كان الطفل مسلمًا بإسلام أبيه. . . . إلى آخره. والتقييد بإسلام الأب ذكر الرافعي نحوه أيضًا والصواب حذفه لأنه لو كان مسلمًا بإسلام بعض أجداده أو جداته أو بالسبى كان كذلك أيضًا، وكلامهم بعد هذا يؤخذ منه. ولم يذكر من الشروط كونها بصيرة، وهو يقتضي أن العمياء تثبت لها الحضانة، وهو كذلك؛ فإن الحضانة عبارة عن القيام بحفظ الطفل ومصالحه في نفسه، والحاضنة لا يجب عليها تعاطيه بنفسها بل لها أن تستنيب فيه. وقد صرحوا في باب الإجارة أنه يجوز استئجار الأعمى في الحفظ إجارة ذمه لا إجارة عين. قوله: ولو وصف صبى منهم الإسلام -أي: من أهل الذمة- نزع من أهل الذمة ولم يمكنوا من كفالته صححنا إسلامه أو لم نصححه احتياطًا للإسلام. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا وهو يوهم أو يدل بظاهره على أنه لا يجوز تركه في أيديهم، وليس كذلك بل الصحيح الجواز. كذا ذكره الرافعي في كتاب اللقيط وتبعه عليه في "الروضة" لكن ذكر أيضًا في باب الهدنة كما ذكر هاهنا بل عبر بعبارة هي أصرح من هذا في الإيجاب.

قوله: والطفل الكافر هل يثبت لقريبه المسلم حق حضانته؟ قال في "التتمة": الصحيح من المذهب ثبوته. قال: ويجرى هذا الخلاف فيما إذا جُنّ الذمى وله قريب مسلم هل يثبت له حق الحضانة؟ انتهى. صحح في "الروضة" ما قاله في "التتمة" فقال: والطفل الكافر والمجنون الكافر تثبت لقريبه المسلم حضانته وكفالته على الصحيح. هذا لفظه. ومقتضاه أن الحكم جار في الأصول وغيرهم على الإطلاق، وقد ذكر في كتاب اللقيط من أصل "الروضة" كلامًا يخصص هذا فقال: فرع: المحكوم بكفره إذا بلغ مجنونًا حكمه حكم الصغير حتى إذا أسلم أحد والديه تبعه، وإن بلغ عاقلًا ثم جن فكذلك على الأصح. هذا كلامه. ومقتضاه أن لا فرق في ذلك بين ابتداء الإسلام ودوامه حتى إذا جن البالغ الذى أبوه مسلم كان كذلك. قوله: ولا حضانة لرقيقه، ثم إن كان الولد رقيقًا فحضانته على السيد. وهل له نزعه من الأب وتسليمه إلى غيره؟ وجهان بناء على القولين في جواز التفريق. ولو كانت الأم حرة والولد رقيقا بأن سُبى طفلا ثم أسلمت أمه أو قتلت الذمية فحضانته للسيد وفي الانتزاع منها الوجهان: انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، فيه أمور: أحدها: أن أمّ ولد الكافر إذا أسملت فإن ولدها يتبعها في الإسلام وحضانته لها وإن كانت رقيقة. كذا نقله الرافعي في كتاب أمهات الأولاد عن أبي إسحاق المروزي وأقره ونقل معه عنه حكمًا آخر فاعترض عليه في

"الروضة" في ذلك وارتضى هذا وكأن المعنى فيه فراغها لمنع السيد من قربانها مع [وجوب نفقتها] (¬1). الأمر الثاني: أن تصوير حرية الأم ورق الولد بالتصوير النادر الذي ذكره -وهو السبي والذمية- عجيب؛ فإن أسهل من ذلك كله أن يصور بما إذا اشتراها ثم أعتق الأم، ولا شك أنه لم يستحضر هذا التصوير ثم إن النووي في "الروضة" قد عبر بقوله بأن أعنى بباء الجر الداخلة على أن التفسيرية المقتضية للحصر في هذا التصوير فليته مع ذلك عبر بكاف التشبيه كما عبر به الرافعي. الأمر الثالث: أنه أراد بقبول الذمية دخولها بأمان؛ فاعلمه. قوله: ويشترط كونها أمينة فلا حضانة لفاسقة. انتهى. سكت -رحمه الله- عن مستورة الحال فلم يصرح بحكمها، وقد ذكر النووي في "فتاويه" أنه لابد من ثبوت أهلية الأم للحضانة عند القاضي إذا نازعها الأب أو غيرها من المستحقين، لكن جزم الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" بالاكتفاء بالستر وأنه لا ينزع منها الولد إلا إذا ثبت فسقها. وهذا واضح. وذكر النووي في باب الحجر ما يوافقه، وقال من زوائده: وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالة الأب والجد لثبوت ولايتهما وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب والشاشي وآخرون، وينبغي أن يكون الراجح الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، والله أعلم. فإذا كان الراجح عنده هو الاكتفاء بذلك في التصرف في المال فبطريق الأولى في الحضانة لأن احتراز الآباء على ذات الطفل أشد من احترازهم على ماله بالاستقراء؛ فلزم من ذلك كله بطلان ما قاله النووي في "فتاويه" هنا. ¬

_ (¬1) في جـ: وفور شفقتها.

وقد سبق الكلام في باب الحجر على طرف من هذه المسألة فراجعه. قوله: فلو نكحت أجنبيًا سقطت حضانتها لما سبق من الخبر، وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأيم أحق بولدها مما لم تتزوج" (¬1). انتهى. وأشار بالخبر السابق لقوله -عليه السلام-: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (¬2). إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن الحديثين لا دلالة فيهما على سقوط حضانتها؛ إنما يدلان على عدم تقديمها؛ وحينئذ فيحتمل السقوط كما قالوه ويحتمل التساوي حتى لا يقدم أحدهما إلا بقرعة أو تخيير من الطفل أو اجتهاد من الحاكم أو غير ذلك. الأمر الثاني: أن ما أطلقه من سقوط حضانتها بالتزويج تستثنى منه مسألة ذكرها في آخر كتاب الخلع نقلًا عن فتاوى القاضي الحسين فقال: لو خالع زوجته بألف وحضانة الصغير سنة فتزوجت في أثناء السنة لم يكن له انتزاع الولد منها بتزوجها لأن الإجارة عقد لازم. قوله: ونَصّ الشافعي - رضي الله عنه - على أن الجدة إذا تزوجت جد الطفل لا يبطل حقها من الحضانة؛ وعلل بأنه ولى تام الشفقة قائم مقام الأب. انتهى. وهذا التعليل يؤخذ منه تصوير ذلك بالجد أب الأب خاصة حتى لو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6893)، والدارقطني (3/ 304) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند حسن. (¬2) أخرجه أبو داود (2276)، وأحمد (6707)، والحاكم (2830) والبيهقي في "الكبرى" (15541)، والدارقطني (3/ 204)، وعبد الرزاق (12596) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. قال الألباني: حسن.

تزوجت بأبي الأم بطل حقها وهو كذلك على ما صرح به النووي في "فتاويه" وفي "لغات التنبيه" وفي الجد أبي الأم وجه أن الحضانة لا تبطل أيضًا لأن له الحضانة في وجه، وقد قال الرافعي: إن الأم متى تزوجت ممن له حق في الحضانة لا تسقط. قوله: الثانية: إذا امتنعت الأم من الحضانة أو غابت انتقلت الحضانة إلى الجدة في أصح الوجهين كما لو ماتت أو جنت. والثاني: لا لولاية النكاح، وذكروا على هذا أن الحضانة تكون للأب ونزلوه منزلة السلطان، وهو بعيد، وحق التشبيه أن تكون للسلطان، وبه قال ابن الحداد: والفرق على الأول أن التزويج ممكن من الغائب بخلاف الحضانة. انتهى ملخصًا. وهذا الفرق إنما يستقيم في مسألة الغيبة، والكلام في شيئين في الغيبة والامتناع وجزم في "النهاية" بأن الغيبة تنقل إلى الأبعد، وحكى الوجهين في الامتناع وقاس وجه الانتقال في الامتناع على الغيبة، وكلام الوسيط مشعر به أيضًا، وكأن الفرق تعذر حضانتها مع الغيبة دون الامتناع، فلما كانت حضانتها ممكنة في صورة الامتناع أمكن القول بالنيابة عنها بخلاف الغيبة، وقد ذكر في "الروضة" في آخر المسألة كلامًا هو بعض ما سبق في أولها؛ فاعلمه، وفي الرافعي قريب منه أيضًا. قوله: ولو نكحت عم الطفل فوجهان: أصحهما لا تبطل حضانتها لأن العم صاحب حق في الحضانة وشفقته تحمله على رعاية الطفل فيتعاونان على كفالته. ثم قال بعد ذلك: وهذان الوجهان يطردان في كل من لها حضانة نكحت قريبًا للطفل له حق في الحضانة. بأن نكحت أمه ابن عم الطفل أو عم أبيه، أو نكحت خالته عم

الطفل، أو نكحت عمته خاله. هكذا ذكره الشيخ أبو علىّ وغيره. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من أن الخال له حق في الحضانة تبعه عليه في الروضة، والصحيح أن الخال وكل محرم ذكر غير وارث كالجد للأم لا حق له فيها كما ذكره بعد ذلك في الكلام على ترتيب المستحقين. قوله: وإذا بلغت البكر فتقيم عند أبويها، فإن افترقا فعند أحدهما. وهل تجبر على ذلك؟ فيه خلاف؛ ذهب العراقيون إلى أنها لا تجبر، وقال الإمام والغزالي: الأظهر أنها تجبر، وقال ابن كج: إنه ظاهر المذهب. ثم صرح الغزالي باختصاص هذه الولاية بالأب والجد كولاية الإجبار في النكاح، وذكر البغوي في ثبوتها أيضًا للأخ والعم وجهين. انتهى. أما الخلاف الأول فالفتوى منه على ما قاله العراقيون فقد نقله الماوردي عن نص الشافعي فقال: وأكره للجارية أن تعتزل أبويها حتى تتزوج؛ لأن لا يسبق إليها ظن ولا تتوجه إليها تهمة إن لم تجبر على المقام معهما. وأما الخلاف الثاني فالأرجح منه كما قاله النووي: هو الثبوت. قوله: وهذا إذا لم تكن تهمة ولم تزن بريبة، فإن كان فللأب والجد ومن يلي تزويجها من العصبات منعها من الانفراد. انتهى. تزن: بتاء مضمومة ثم زاي مفتوحة ثم نون مشددة، ومعناه: تذكر، ومنه قول حسان مدح عائشة -رضى الله عنها- عقب قصة أهل الإفك من جملة قصيدة (¬1): حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ¬

_ (¬1) وهي سبعة أبيات.

والحصان في البنت معناه: العفيفة؛ يقال: حصنت المرأة حصنًا بالضم فيهما فهي حصان بالفتح حاصن وحصنًا. والرزان بالفتح أيضًا هو الوقور بمعنى العقل والسكينة. والغرثى: بالغين المعجمة هي الجائعة كناية عن عدم الغيبة إذ يعبر عنها بأكل اللحم. قوله: ونقل في العدة عن الأصحاب أن الأمرد إذا خيف من انفراده فتنة وانقدحت تهمة منع من مفارقة الأبوين. انتهى. قال في "الروضة": الجد كالأبوين في حق الأمرد. قال: وكذا ينبغي أن يكون الأخ والعم ونحوهما؛ لاشتراك الجميع في المعنى. قوله في أصل "الروضة": فأما إذا صار الصبي مميزًا فيخير بين الأبوين إذا افترقا سواء كان ابنًا أو بنتًا. ثم قال: ويجرى التخيير بين الأم والجد عند عدم الأب، ويجري أيضًا بينهما وبين من على حاشية النسب كالأخ والعم على الأصح، وقيل: تختص به الأم، وفي ابن العم مع الأم هذان الوجهان إن كان الولد ذكرًا، فإن كان أنثى فالأم أحق بها قطعًا. انتهى كلامه. وما ادعاه في آخر كلامه من عدم الخلاف ليس كذلك، ولم يذكره الرافعي بل إنما نقله عن البغوي فاغتر النووي بنقله وسكوته؛ فقد حكى جماعة الوجهين من غير تفصيل بين الذكر والأنثى، واقتضى كلامهم التعميم وبه صرح الروياني في "البحر" فقال: وإذا لم يكن أب ولا جد فهل يخير الولد بين الأم وسائر العصبات؟ فيه وجهان: ثم قال ما نصه: وقيل: إن كان ابن عم لا تخير الجارية بينه وبين الأم، إذ لا يحل له الخلوة بها.

قال القفال: إلا أن تكون صغيرة لا يشتهى مثلها فحينئذ هي كالغلام، وهذا غريب؛ هذا لفظه، وجزم ابن الصباغ في "الشامل" بنحوه وقال: إنه إذا [كانت] (¬1) بنت سلمت إليها، وهو حاصل كلام الشيخ في "التنبيه" أيضًا؛ فإنه قال: فإن لم يكن له أب ولا جد وله عصبة غيرهما خير بين الأم وبينهم على ظاهر المذهب، فإن كان العصبة ابن عم لم تسلم البنت إليه. هذا كلامه. ثم إن النووي أقره عليه في تصحيحه وزاد عليه ما يؤكده فقال: الصواب أن ابن العم تسلم إليه البنت الصغيرة التى لا تشتهى وإنه تسلم إليه المشتهاة أيضًا إذا كانت له بنت مميزة. قوله نقلًا عن الروياني: ولو تدافع الأبوان كفالته وامتنعا منه فإن كان بعدهما من يستحق الحضانة كالجد والجدة خير بينهما، وإلا فوجهان: أحدهما: يخير الولد ويجبر من اختاره على كفالته؛ فعلى هذا لو امتنعا من الحضانة قبل سن التمييز يقرع بينهما ويجبر من خرجت قرعته على حضانته. والثاني: يجبر عليها من تلزمه نفقته. انتهى. والأصح هو الثاني. كذا صححه الرافعي بعد هذا بنحو ورقة في أول الفصل الثاني وبالغ الترجيح فعبر بقوله: ولا شك أنه الأصح، وصححه أيضًا النووي من "زوائده" غير مستحضر لما ذكرناه من تصحيح الرافعي له هناك. قوله: وأما الأنثى فلا تسلم إلى غير المحرم عند إرادة السفر. قال في "التتمة": إلا إذا لم تبلغ حدًا تشتهى مثلها. وفي الشامل أنه لو كانت له بنت ترافقه فتسلم إلى بنته. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واعلم أن الرافعي قد ذكر بعد هذا بنحو ثلاثة أوراق أن غير المحارم من العصبات الذكور كابن العم يستحق حضانة الأنثى على الصحيح. ثم جزم بتسليم المشتهاة إذا كان له بنت، وهو نظير مسألتنا؛ فيكون الحكم فيها هو ما قاله في "الشامل" ولا يكون حكاية لوجه ضعيف. نعم فيه كلام آخر. قوله: الفرع الثاني: المنصوص أنه لا حضانة لكل جدة تسقط في الميراث وهي من تدلي بذكر بين [أنثيين] كأم أبي الأم وفي معني الجدة الساقطة كل محرم يدلي بذكر لا يرث كبنت ابن البنت وبنت العم. ثم قال عقبه: الثالث الأنثى التي ليست بمحرم كبنتي الخال والخالة وبنتي العم والعمة في [استحقاقهن] الحضانة وجهان: أظهرهم عند الغزالي أنها لا تستحق لأن الحضانة تحوج إلى معرفة بواطن الأمور فالأولى تخصيصها بالمحارم. والثاني: وهو الأشبه بكلام غيره، وهو الذي أورده الفوراني وصاحب "التهذيب" والروياني: نعم؛ لشفقتهن وهدايتهن بالأنوثة. انتهى. وما أشعر به كلامه من ترجيح الاستحقاق قد تبعه عليه في "الروضة" وعبر بالأصح، وهو مستقيم إلا في بنت الخال فإنها تدلي بذكر غير وارث وقد تقدم أن من كانت بهذه الصفة لا حضانة لها وإذا لم نثبتها لأم أبي الأم لهذا المعني مع وجود الولادة فيها فبطريق الأولى بنت الخال بخلاف بنت الخالة والعمة فإنها تدلي بأنثي وبخلاف بنت العم فإنها تدلي بذكر وارث. قوله: فرع: لبنت المجنون حضانته إذا لم يكن له أبوان؛ ذكره ابن كج. قال الروياني: ولو كان للمحضون زوجة كبيرة وكان له بها استمتاع

أو لها به استمتاع فهي أولى بكفالته من جميع الأقارب. وكذا لو كان للمحضونة زوج كبير وهناك استمتاع وإلا فالأقارب أولى، فإن كانت قرابة له فهل ترجح تلك القرابة بالزوجية؟ على وجهين: انتهى. ذكر مثله في "الروضة". وما نقلاه عن الروياني قد سبقه إليه الماوردي والراجح من الخلاف عدم الرجحان فسيأتي في نظيره ترجيحه من كلام "الروضة" وهو مقتضي القواعد أيضًا. قوله: ولو كان القريب وارثًا غير محرم كابن العم فله الحضانة على الصحيح. ثم إن كان الولد ذكرًا أو أنثى لا تشتهي سلمت إليه، وإن بلغت حدا تشتهي لم تسلم إليه لكن له أن يطلب تسليمها إلى امرأة ثقة وتعطى أجرتها، فإن كانت له بنت سلمت إليه. انتهى. ذكر مثله في "الروضة". وعبارة "المحرر": ولا تسلم إليه مشتهاة بل إلى ثقة بعينها. انتهى. وكلام "الشرح" و"الروضة" ليس فيه تقييد البنت بكونها ثقة ولابد منه كما شرطاه في الأجنبية وهو مقتضي كلام "المحرر" و"المنهاج". ثم إن عبارتهما مختلفة في أن الثقة هي التى تتسلم أو هو الذى يتسلم، والأصوب الأول ولكن بإذنه لأن الحضانة له، فإن كانت مميزة غير بالغة فهو الذى يتسلم. قوله: وفي ثبوت الحضانة للمعتق وجهان: أظهرهما: المنع لعدم القرابة التى هي مظنة الشفقة فعلى هذا لو كانت له قرابة وهناك من هو أقرب منه فهل يترجح لانضمام عصوبة القرابة إلى عصوبة الولاء؟ وجهان حكاهما الروياني؛ مثاله عم وعم أب معتق. انتهى.

والأصح كما قاله في "الروضة" من زوائده عدم الترجيح. قوله: وهل يقدم بنو الأعمام على أعمام الأب والجد؟ قال في "التتمة": نعم، ومنهم من يقتضي كلامه تأخرهم. انتهى. والصحيح هو الأول، وقد صححه النووي في أصل "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله في أصل الروضة: وإذا لم يوجد مستحق للحضانة من الأجداد والجدات فثلاثة أوجه: أحدها: تقدم النساء. والثاني: العصبات. ثم قال: والثالث -وهو الأصح-: لا يرجح واحد من الفريقين بل يقدم الأقرب فالأقرب، فإن استوى اثنان قدم الأنوثة. ثم قال ما نصه: فعلى هذا يقدم بعد الآباء والأمهات الأخوة والأخوات، وتقدم الأخوات على الأخوة ثم بعد الإخوة بنات الأخوات ثم بنو الأخوة، وتقدم بنت الأخ على ابن الأخت اعتبارًا بمن تحضن، فإن فقدوا كلهم فالحضانة للخولة ثم العمومة، وتقدم الخالات على الأخوال والعمات على الأعمام. انتهى موضع الحاجة من كلامه. وهذا الذي ذكره من تقديم بنات الأخوة وبنات الأخوات على الخولة قد خالفه قبل ذلك في أوائل الضرب الأول فجزم بعكسه وهو تقديم الخالات على بنات الأخوات وبنات الأخوة وهو المذكور في "المحرر" و"المنهاج" و"الحاوي الصغير" وغيرهم، والرافعي سالم من صريح التناقض؛ فإنه في الشرحين نقل التصحيح المذكور في الموضع الثاني عن الروياني فقط لكنه أقره فاغتر النووي بذلك؛ فاعلمه. واعتمد على الموضع الأول. قوله: ولو كان من أهل الحضانة خنثي فهل يقدم على الذكر في

موضع لو كان أنثى لتقدم لاحتمال الأنوثة أم لا لعدم الحكم بها؟ وجهان انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" من "زوائده" هو الثاني. قوله؛ وإذا أخبر -أي؛ الخنثى- عن ذكورته أو أنوثته عمل بقوله في سقوط الحضانة، وهل يعمل به في استحقاقها؟ فيه وجهان حكاهما الروياني. انتهى. هذه المسألة مذكورة في مواضع من هذا الكتاب واختلفت فيها كلام النووي خاصة، وقد أوضحت ذلك في باب نواقض الوضوء فراجعه، والذى صححه هنا من "زوائده" أنه يعمل به. قال: وهو الجاري على قواعد المذهب.

السبب الثالث للنفقة ملك اليمين

قال -رحمه الله-: السبب الثالث للنفقة: ملك اليمين قوله: وإذا كان له عبيد فالأولى التسوية بينهم في الإطعام والكسوة، وفيه وجه أنه يفضل [النفيس] على الخسيس. وفي الجواري وجهان: أحدهما: التسوية كالعبيد، وأظهرهما تفضيل ذوات الجمال والفراهة للعادة. ثم قال في كلامه على لفظ "الوجيز": وقوله في الكتاب: ولا يجب تفضيل النفيس في جنس الكسوة لفظ الوجوب لم يستعمله أكثر الأئمة. ثم إن التفضيل لا يختص بالكسوة بل الطعام كالكسوة، ولفظه يشعر بتخصيص التفضيل بالسرية لكن لفظ الشافعي وعامة الأصحاب أن ذات الجمال والفراهة تفضل، ولم يفرقوا بين السرية وغيرها، بل صرح صاحب "التهذيب" بنفي الفرق. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الفراهة بالفاء هي الحذق والمعرفة، قال الجوهري: الفاره: الحاذق بالشيء، وقد فره بالفم يفره فهو فاره. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي الإنكار على الغزالي في التعبير بالوجوب وفي تخصيصه بالكسوة وبالسرية وإنكار الثلاثة عجيب؛ أما الوجوب فقد صرح به إمام الحرمين فقال: ومنهم من فرق بين الجواري والعبيد. وقال: العبيد يجوز التسوية بينهم، وأما الجواري اللواتي تكن بمحل التسرى فيجب التفاوت بينهن. هذا كلام الأصحاب. هذه عبارة الإمام بحروفه. وأما التخصيص بالكسوة فقد صرح به [إمام] الحرمين أيضًا والشيخ في

"المهذب" والعمراني في "البيان" وزاد العمراني فقال: كما لا يستحب تفضيلها بالطعام. وأما التفرقة بين السرية وغيرها فقد وقع أيضًا في "المهذب" و"التنبيه" و"البيان" وغيرها؛ فإنهم عبروا بالسرية كما عبر به في "الوجيز"، وقد اغتر في "الروضة" بما ذكره الرافعي فحذى في جميعه على ما قاله. قوله: في الحديث: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم" (¬1). انتهى. الخول بالخاء المعجمة وواو مفتوحتين وهو مفرد يقع على العبد والأمة. وقال الفَرَّاء: إنه جمع خاول وهو الراعي، وقال غيره: هو مأخوذ من التخويل وهو التمليك حكاه الجوهري. قوله: وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه حريمه وعميله فليقعده فليأكل معه وإلا فليناوله أكلة من الطعام" (¬2)، ويروى: "أنه إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه فليجلسه معه فإن أبي فلينزع له لقمة" (¬3). والأكلة بالضم اللقمة، وروعها إذا رواها دسمًا، وأشار الشافعى في ذلك إلى ثلاثة احتمالات: أحدها: أنه يجب الترويغ والمناولة، فإن أجلسه معه فهو أفضل. وثانيها: أن [الواجب] أحدهما لا بعينه وأصحها: أنه لا يجب واحد منهما. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (2418)، ومسلم (1663) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه مسلم (1663)، وأبو داود (3846)، والترمذي (1853) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ومنهم من نفي الخلاف في الوجوب وذكر قولين في أن الإجلاس أفضل أو هما متساويان، والظاهر الأول؛ ليتناول القدر الذى يشتهيه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل الثلاثة هكذا صرح بأنها أقوال، وقد يتوفق الناظر في تغايرها لأن حقيقة الأول التخيير، والثاني كذلك، والذي تحرر في المغايرة بعد اتحادهما في وجوب أحدهما أن الأول يقول بأفضلية الإجلاس والثاني يسوى بينهما، وفي أول كلام الرافعي وآخره إشعار به، ولما ذكر الغزالي في "الوسيط" هذه الثلاثة ذكر بدل الأول أنه يجب الترتيب، والذي ذكره جيد يدفع الاعتراض. الأمر الثاني: أن الشافعي لما ذكر هذه الثلاث ذكر ما حاصله أن الأول واجب؛ فإنه قال في "المختصر" بعد ذكر الحديث: هذا عندنا -والله أعلم- على وجهين: أولاهما بمعناه أن إجلاسه معه أفضل، فإن لم يفعل فليس بواجب أو يكون بالخيار بين أن يناوله أو يجلسه، وقد يكون أمره إجباريًا عَبّر بالجيم. هذه عبارته. فقد رجح الاحتمال الأول فقال: إنه أولى لمعنى الحديث، ومعنى الاحتمال الأول أن إجلاسه معه ليس بواجب ولكنه أفضل، فإن لم يفعل فيجب أن يطعمه منه؛ إذ لو حمل ذلك على أنهما معًا غير واجبين لاتحد مع الاحتمال الثاني فظهر أن الراجح عند الشافعي هو الأول على خلاف ما رجحه الرافعي، والحديث المذكور روي مسلم في صحيحه معناه. قوله: ولو لم يكن ولد الأمة من السيد بل مملوكا له من زوج أو زنا فهو كولده، وإن كان الولد حرا فله طلب الأجرة على الإرضاع ولا يلزمه التبرع به. انتهى.

ذكر مثله في "الروضة" وهو يوهم عدم منعها من رضاعه أو سكت عنه، وصرح الماوردي بأن له المنع لأن إرضاعه على والده، قال: وكذلك لو كان مملوكًا لغيره. قوله في المسألة: ولو رضي بأن ترضعه مجانًا لم يكن له الامتناع. انتهى. وتعبيره بقوله (رضي) وبلفظ (له) قد عبر به الرافعي أيضًا، وليس فيه بيان من يعود الضميران عليه. قوله في "الروضة": لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقة من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه؛ فلا يجوز أن يكلفه عملًا يقدر عليه يومًا ويومين ثم يعجز عنه. انتهى. وهذا الذي ذكره عجيب غير مطابق لكلام الرافعي؛ فإن مقتضاه أنه إذا عجز عن حمل الشيء في يوم مثلًا لا يجوز تكليفه إياه ساعة، وأنه إذا أطاق الحمل في يومين فقط مثلا لا يجوز تكليفه الحمل فيهما، وليس كذلك، والذي قاله الرافعي ما نصه: ولا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل إلا ما يطيقه ولا يكلفه الأعمال الشاقة إلا في بعض الأوقات ولا ما إذا قام به يومًا أو يومين عجز وضعف شهرًا أو شهرين. هذا لفظ الرافعي، وهو صحيح واضح، ثم إن النووي ذكر بعد ذلك في العبد مثل ما ذكره هنا في البهيمة فقال من "زوائده": يحرم تحميلها ما لا تطيق الدوام عليه وإن كانت تطيقه يومًا ونحوه كما سبق في الرقيق. هذه عبارته. قوله: الثانية: إذا امتنع من الإنفاق على مملوكه باع الحاكم ماله في نفقته؛ وهل يبيع شيئا فشيئا أم يستدين عليه فإذا اجتمع عليه شيء صالح باع؟ فيه وجهان. انتهى.

والأصح كما قاله في "الروضة" من "زوائده" هو الثاني. قوله: ويبقي للنحل شيئا من العسل في الكوارة، فإن كان الإشبار في الشتاء وتعذر الخروج فينبغي أن يكون المتبقي أكثر. انتهى. واعلم أن الكواري بلا ألف ولا تاء موضع الزنابير التي يخرج منها العسل، والكوارة بضم الكاف وبالألف وبالتاء أيضًا في آخره هو العسل في الشمع؛ كذا قاله الجوهري؛ وحينئذ فالتعبير بالكور أقرب من التعبير بالكوارة. وأما الإشبار فهو بالشين المعجمة، وقد سبق الكلام عليه في طلاق المكره. قوله: لكن يكره ترك سقي الزرع والأشجار عند الإمكان لما فيه من إضاعه المال. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذا الحكم والتعليل، وما جزما به من أن إضاعة المال مكروهة قد خالفاها في مواضع صرحا فيها بأنها محرمة؛ منها في الجنايات في الكلام على إلقاء المتاع في البحر لإشراف السفينة على الغرق؛ وحينئذ فلا يجتمع ما ذكره من الحكم والتعليل بل إن ثبتت الإضاعة بطل القول بالكراهة، وإن ثبتت الكراهة بطل القول بكونه إضاعة. والصواب أن يقال: إن كان سبب الإضاعة ترك أعمال كمسألتنا فلا حرمة لأن الأعمال قد تشق عليه، وإن كان عكسه كإلقاء المال في البحر حرمت. ويشهد له أيضًا بيع نصف معين من ثوب ينقص بالقطع فقد قالوا بتحريمه وبطلانه وعللوه بالإضاعة، وقد ذهب الروياني في مسألتنا إلى التحريم ونقله عنه الرافعي في الباب الأول من كتاب الرهن في الكلام على ما إذا اتفق الراهن والمرتهن على ترك السقي إلا أنه صحح خلاف ما قاله.

كتاب الجراح

كتاب الجراح قوله: ويتعلق بالقتل المحرم وراء العقوبة الأخروية مؤاخذات في الدنيا: [إحداها]: القصاص: قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬1)، وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬2). قال الأصحاب: هذا وإن كان خبرًا عما في التوارة لكن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد ناسخ له على رأي الأصوليين، وبتقدير أن لا يكون كذلك فإن ورد ما يقرره فهو شرع لنا لا محالة، وقد روي أن الرُبيع بنت النضر عمة أنس بن مالك -رضى الله عنهما- كسرت ثنية جارية فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع لا والله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كتاب الله القصاص" (¬3). وليس في كتاب الله تعالى ذكر قصاص السّن إلا في هذه الآية. والثانية: الدية. والثالثة: الكفارة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن النووي في "الروضة" قد عدل عن تعبير الرافعي بالقتل المحرم، وعبر بقوله: القتل الذى ليس بمباح، وغرضه بذلك إدخال قتل الخطأ فإنه لا يدخل في المحرم ويدخل في غير المباح فإنه لا يوصف بحرمة ¬

_ (¬1) البقرة: 179. (¬2) المائدة: 45. (¬3) أخرجه البخاري (2556)، ومسلم (1675) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

ولا إباحة، وفي كل من التعبيرين نظر. الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي يدل بظاهره على بقاء العقوبة في الآخرة وإن استوفي منه القصاص أو الدية، وقد تابعه في "الروضة" عليه ولكنه أجاب في "فتاويه" بخلافه وقال: إن ظواهر الشرع تدل على السقوط، وذكر مثله في "شرح مسلم". ودليله الحديث الصحيح في مسلم: "من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فعوقب به كان كفارة له وإن لم يعاقب به فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه" (¬1). الأمر الثالث: أن [الرافعي] قد أهمل ما يتعلق بالقتل في الدنيا أيضًا التعزير وذلك في كل قتل أثم به وامتنع وجوب القصاص فيه؛ وذلك كقتل السيد عبده والوالد ولده كما نص عليه الشافعي في "الأم"، ومنه قتل المسلم للذمي والحر للعبد أو المبعض، ومنه عمد الخطأ وشريك المخطئ، ونحو ذلك. ثم قد يكون إيجاب ذلك مع الضمان كما مثلناه، وقد يكون بدونه كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم. وإن قيل: كيف يجب التعزير في الصور السابقة مع أن الكفارة فيها تجب والقاعدة أن التعزير يجب في ما لا عقوبة فيه من حد أو كفارة؟ . فالجواب: أن الكفارة في مقابلة إعدام النفس وليست في مقابلة ما ارتكبه من الإثم والتعدي بدليل وجوبها في قتل الخطأ، وإذا لم تكن الكفارة في مقابلة ذلك فلابد له من شيء يقابله فيشرع [التعزير]؛ فافهم ما ذكرته فإنه دقيق. الأمر الرابع: أن ما ذكره من أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كتاب الله القصاص" (¬2). تقرير لشرع من قبلنا كلام عجيب فإنه إخبار عما في كتاب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم.

الله لا إنشاء حكم، بل الجواب عند من لا يقول بأنه شرع لنا أن ذلك إشارة إلى آيات تدل عليها بالعموم لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬1)، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ. . . .} (¬3) الآية، وهذه الآيات وإن [كان] (¬4) طريقها التخصيص إلا أن دلالتها باقية على ما لم يثبت تخصيصه. والرُبيّع: براء مضمومة وبالياء المشددة [المكسورة]، وحديثها ثابت في الصحيحين. قوله: فلو جرحه بمحدد وجب القصاص. ثم قال: وهذا في الجراحات التى لها وقع وتأثير فإما أنه فلقة خفيفة من اللحم فهو كغرز الإبرة، كذلك ذكره الإمام. انتهى. والصحيح في غرز الإبرة أنه لا يجوب إلا بشروط؛ فمقتضاه أن الجراحة الخفيفة لا توجب أيضًا لكنه جزم بالوجوب بعد هذا بأسطر قلائل وجعله دليلًا للوجه القائل في الإبرة أنه يجب مطلقًا فقال: أحدها: يجب كالجراحات الصغيرة بغير الإبرة. هذا لفظه، وقد ذكر المسألة في كتاب موجبات الضمان في الكلام على ضمان إتلاف الإمام في آخر مسألة الختان، وحكي فيها وجهين من غير ترجيح فقال: قال السرخسي: ينبني على أن الجرح اليسير هل فيه قصاص؟ فيه وجهان. قوله: فأما إبانة فلقة خفيفة من اللحم. . . . إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 40. (¬2) سورة البقرة: 194. (¬3) سورة النحل: 126. (¬4) سقط من أ.

اعلم أن الرافعي قد ذكر في هذا الموضع ألفاظًا أخرى لابد من شرحها وهي الأخدع والعجان والضمان وجمع الكف والغرامة. فأما الفلقة فيجوز أن تكون بفاء [مكسورة] وبالقاف بعد اللام؛ تقول: فلقت الشيء أي: شققته فلقا بفتح الفاء وسكون اللام، وسمي كل واحد من القطعتين فلقا بكسر القاف وسكون اللام وفلقة بالتاء أيضًا. ويجوز أن تكون بضم القاف وسكون اللام مأخوذًا من الجلدة التي تقطع في الختان؛ يقال: قلفها قلفًا أي: قطعها. وأما القلفة بفتح القاف واللام فإنه موضع القطع كالقطعة في حق الأقطع. وأما الأخدع فهو بالخاء المعجمة والدال المهملة. قال الجوهري: إنه عرق منبعث من الوريد. وفسره الرافعي بأنه عرق في الخاصرة والخاصرة والشاكلة والطفطفة بمعني واحد. أما العجان: بكسر العين المهملة والجيم هو ما بين الدبر، الأنثيين، ويسمى العضرط بعين مفتوحة وضاد معجمة ساكنة وراء مفتوحة ثم طاء مهملتين وأما الضمن بفتح الضاد المعجمة وكسر الميم فهو التألم. وأما الجمع فهو بجيم مضمومة وميم ساكنة فهو قبض الكف، تقول أيضًا أخذت فلانًا بجمع ثيابه بضم الجيم. والعرامة: بفتح العين وبالراء المهملتين والعارم والعرم هو الشرس من الصبيان أي: لا يمتثل ما يقال له؛ يقال: صبي عارم من العوارم بالضم، وقد عرم بالفتح يعرم ويعرم بالضم والكسر عرامة. قوله: ولو منعه الشراب دون الطعام فلم يأكل المحبوس خوفًا من

العطش فمات فلا قصاص. وحكي أبو الحسن العبادي عن القفال أنه يجب الضمان، وعن غيره المنع لأنه المهلك لنفسه، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". انتهى. والأصح على ما قاله النووي في أصل "الروضة" هو الثاني. قوله في "الروضة": ولو لم يوجره السم القاتل لكن أكره على شربه فشربه قال الداركي وغيره في وجوب القصاص قولان: أظهرهما الوجوب، والوجه أن يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه، وسيأتي أنه لا قود على الصحيح. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي -رحمه الله- لم يطلق التصحيح كما أطلقه في "الروضة" بل نقله عن "العدة" فقط، ثم خالفه فقال: قال في "العدة" أصحهما الوجوب، والوجه أن يكون كالكراهة على قتل نفسه. هذا لفظه، وهو تركيب واضح، وحاصله مخالفة صاحب "العدة". وأما تعبير "الروضة" فمتدافع ويوهم أن المشهور هو الوجوب. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي بحثًا من إلحاقه بالإكراه على قتل نفسه وتابعه عليه في الروضة صرح في الكفاية بنقله عن النهاية والتتمة وتعليق القاضي حسين. قوله: ولو ناوله الطعام المسموم وقال: كله، أو قدمه إليه وضيفه به فأكله ومات، فإن كان صبيًا أو مجنونا لزمه القصاص سواء قال لهما هو مسموم أم لا، وذكروا مثله في الأعمى الذى يعتقد أنه لابد من الطاعة في كل ما يشار عليه به، ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ وللنظرين مجال. انتهى.

وما ادعاه من عدم التفرقة بين المميز وغيره قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك؛ فقد فرق بينهما ابن الصباغ في "الشامل" والمتولي في "التتمة"، وهو مقتضى ما في "التهذيب" و"البيان". قوله: ولو قدمه لبالغ عاقل ولم يبين له حاله ففي القصاص قولان مرويان عن الأم؛ قياس ما سبق منهما عدم وجوبه. ثم قال: وطرد في "التهذيب" القولين فيما إذا قال: كل وفيه شيء من السم لا يضر، وفيما إذا جعل السم في دَنّ ما على الطريق فشرب منه إنسان ومات، وليكن الفرض فيما إذا كان طريق شخص معين إما مطلقا أو في ذلك الوقت، وإلا لم يتحقق العمد به. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن البغوي من إجراء القولين في هذه الحالة وأقره قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو مردود مخالف لما قاله الشافعي؛ فإن الشافعي في "الأم" لما نص على القولين ذكر هذه المسألة ولم يخرجها عليها بل جزم بأنه لا شيء فقال: ولو قال له: في هذا سم ولا يتلف صاحبه، أو يتلفه، أو قل ما يتلف به، فشربه فمات لم يكن على الذى خلطه له ولا أعطاه إياه عقل ولا قود. هذا لفظ الشافعي بحروفه. وصرح الماوردي في "الحاوي" أيضًا بأنه لا شيء جزمًا. الأمر الثاني: أن ما جزم به الرافعي من أن العمدية تعمد تعيين الشخص قد اختلف فيه كلام "الروضة" فجزم هنا به، وكذلك في الباب الرابع المعقود لموجب الدية في المسألة الثامنة من الطرف الرابع وخالف الموضعين المذكورين قبيل كتاب الديات فرجح من "زوائده" وجوب

القصاص، وسوف أذكر لفظ الموضعين في محلهما. قوله: ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقًا بأن كان واقفًا في موضع منبسط فاضطجع فيه حتى هلك فلا قصاص ولا دية. انتهى. وتقييد الماء بالواقف تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وعَبّر بالراكد، ولا حاجة إليه، والصواب حذفه كما حذفه من "المحرر". قوله: سقاه سمًا موحيًا. ثم قال: ويجوز نزف الدم ونزف إذا جرح، ويقال: دهش دهشًا إذا تحير ودهش على ما لم يسم فاعله. انتهى. فأما موحيًا فهو بتشديد الحاء المهملة أي: مسرعًا؛ يقال وحاه -بالتشديد- يوحيه إذا عجله وأسرع به، وهو موت وحيّ بتشديد الياء أي: سريع. وأما نزف فيتلخص فيه من كلام الجوهري أنه يجوز فيه بناؤه للمفعول، ويجوز أيضًا بناؤه للفاعل مع فتح الزاي وكسرها؛ وحينئذ فلك أن تحمل الوجهين في كلام الرافعي على ما شئت من هذه الثلاثة وأما دهش المذكور أولًا فإنه بكسر الهاء والمصدر بالفتح ومعناه التحير. قوله: فرع: قال الملقي: كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من الماء أو النار فقصر وقال الولي: لم يمكنه فهل يصدق الملقي لأن الأصل براءة ذمته أو الولي لأن الظاهر أنه لو أمكنه الخروج لخرج؟ فيه وجهان، ويقال قولان: انتهى. والراجح منهما -كما قاله في "الروضة" من "زوائده"- تصديق الولي. قوله: ويعزر الممسك للقاتل؛ لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال:

"يقتل القاتل ويصبر الصابر" (¬1)، قيل: معناه: أنه يحبس تعزيرًا. انتهى. اعلم أن الصبر هو الحبس؛ يقول: صبر يصبر -بكسر الباء في المضارع، وصبرته أنا- أي: حبسته؟ قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (¬2) الآية. كذا ذكره الجوهري. ثم ذكر بعده الحديث المذكور فقال: وفي حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رجل أمسك رجلًا وقتله آخر قال: "اقتلوا القاتل واصبروا الصابر" أي: احبسوا الذي حبسه للموت حتى يموت. هذا لفظ الجوهري، والفقهاء ينازعون في حبسه للموت كما تعرفه في التعزير. والحديث المذكور [. .] (¬3). قوله: ولو أمسك محرم صيدًا فقتله محرم آخر فقرار الضمان على القاتل، وتتوجه المطالبة على الممسك. انتهى. هذه المسألة ذكرها الرافعي في ثلاثة مواضع من كتابه واختلف فيها كلامه وكذلك كلام "الروضة" أيضًا، وقد بسطت ذلك في محظورات الإحرام فراجعه. قوله: فإن لم نوجب القصاص على المكره -بفتح الراء- لزمه ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 140)، وعبد الرزاق (17892)، وابن أبي شيبة (5/ 439)، والبيهقي في "الكبرى" (15809) من حديث إسماعيل بن أمية مرسلًا. قال الدارقطنى: الإرسال فيه أكثر. وقال البيهقي: إنه موصول غير محفوظ. وقال ابن القطان: هو عندي صحيح. (¬2) الكهف: 28. (¬3) بياض بالأصل.

نصف الدية على الأصح، ولكن هل تكون في ماله أم على عاقلته؟ فيه تردد للإمام. انتهى. فإن في "الروضة": الأرجح أنه في ماله. قوله: في "الرقم" إن بعض النظار طابق في تصوير إكراه الذمى المسلم، وقال: إنه إذا أكرهه انتقض عهده وصار حربيًا. انتهى كلامه. ومراده أنه إذا صار حربيًا فلا قصاص عليه كسائر الحربيين. وما قاله غريب لأن الذى صححه الرافعي وتبعه عليه في "الروضة" أنه لا ينتقض العهد إلا إذا شرط ذلك عليهم وشرط عليهم النقض به أيضًا. ولو سَلَّمْنَا انتقاض العهد به فالتفريع على إلحاق الإكراه بمباشرة القتل، والذمى إذا قتل ونقضنا عهده بذلك قتلناه قصاصًا فكذلك إذا أكره. قوله: ولو أكره إنسانًا على أن يرمي إلى طلل غرفة المكره إنسانًا وظنه المكره جرثومة، أو أن يرمى إلى ستر وراءه إنسان وعرف المكره ذلك دون المكره فقد ذكر الإمام الغزالي في أن وجوب القصاص على المكره وجهين كالوجهين فيما إذا أكره صبيًا على القتل وجعلنا عمد الصبي خطأ، ومال صاحب "التهذيب" إلى القطع بوجوب القصاص. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والذى ألحقه الإمام والغزالي به وهو ما إذا أكره صبيا وجعلنا عمده خطأ قد ذكر الرافعي فيه طريقين: أصحهما: القطع بعدم الوجوب. والثاني: فيه وجهان: إذا علمت ذلك ظهر لك أنه لا ترجيح في مسألتنا بالكلية، أو أن الراجح عدم الوجوب؛ فإنه نقل عن اثنين ما يقتضيه، ونقل الوجوب عن

واحد، وقد صحح النووي في "الروضة" أنه يجب، ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن لذلك. والطلل بفتح الطاء المهملة ما شخص من آثار الدار، والجمع: أطلال وطلول. والجرثومة أصل الشيء، ويقال: تجرثم الشيء واجرثم أي: اجتمع. وقول الرافعي إلى ستر وراءه [. .] (¬1) على قتل نفسه بأن قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، ففي وجوب القصاص على المكره من يتخلص بما أمر به عما هو أشد عليه ولا يتخلص بقتل نفسه عن القتل. انتهى. استثنى في "الشرح الصغير" ما إذا أكرهه بشئ فيه تعذيب قال: فيشبه أن يكون إكراهًا؛ أي: حتى يجب القصاص لغيره. قوله في المسألة: فإن قلنا: يجب القصاص عليه، فلو فرض العفو وجب كمال الدية. انتهى. وما ذكره من إيجاب الدية كلها لا يستقيم إلا إذا قلنا: إن المكره -بفتح الراء- في غير هذه الصورة لا ضمان عليه. أما إذا قلنا بالصحيح وهو: أنه يضمن نصف الدية والنصف الآخر على المكره فكذلك أيضًا هنا، وقد صرح بذلك البغوي في "التهذيب" وحكاه في "المطلب" عنه واقتصر عليه، ثم قال: ووقع في الرافعي هنا سهو تبعته عليه في "الكفاية"، والحق ما ذكرته هاهنا. قوله في المسألة: وإن قلنا: لا يجب، فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره، وجميعه إن لم نوجبه. انتهى. وما ذكره من الإيجاب على المكره -يعني الآمر- تفريعًا على عدم القصاص لا يستقيم؛ لأنا إنما أسقطنا القصاص لانتفاء الإكراه كما تقدم، ¬

_ (¬1) بياض بالأصل.

وإذا انتفي لزم أن لا يجب عليه شيء أصلًا لا نصف الدية ولا كلها، والمسألة مذكورة في "التهذيب" على الصواب فلما نقلها الرافعي منه جعل تفريع أحد القولين للآخر فوقع في الوهمين معًا. قوله في أصل "الروضة": ولو قال: اقطع يدي، فقطعها فلا قصاص ولا دية قطعًا. انتهى. والذي ادعاه من عدم الخلاف محله إذا لم يمت، فإن مات من القطع ففيه الخلاف فيما إذا قال: اقتلني؛ والأصح فيه عدم الوجوب أيضًا؛ كذا ذكره قبيل كتاب الضمان. قوله: ولو قال: اقذفني وإلا قتلتك فقذفه ففى وجه: لا حد عليه كما لو قال: اقطع يدى فقطعه. قال في التهذيب: والصحيح وجوبه بخلاف القصاص؛ لأنه قد يستعين بغيره في قتل نفسه أو قطعه ولا يستعان بالغير في القذف فيجعل القاذف مبتدئًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد صحح في موضعين من "الكتاب" عدم الوجوب ونقله عن الأكثرين علي خلاف هذا التصحيح الذى نقله هنا وأقره: أحدهما في آخر الباب الأول من أبواب اللعان، وثانيهما في حد القذف، ثم إنه فرض المسألة في الموضعين المذكورين في الإذن المجرد عن الإكراه فما ظنك مع الإكراه كما فرضه هنا. الأمر الثاني: أن ما نقله عن البغوي من تصحيح ذلك مع الإكراه تبعه على نقله عنه في "الروضة" أيضًا، وهو غلط؛ فإنه إنما صحح ذلك في الأمر المجرد فقال: ولو قال لآخر: اقذفني فقذفه، فقد قيل لا حد عليه لأن الحق له كما لو قطع يده بإذنه لا قود عليه، والصحيح أنه يجب ..

إلى آخر ما ذكر. هذا لفظه؛ فتلخص أنه لا حد في هذه المسألة بلا خلاف على خلاف ما توهمه الرافعي وأنه يباح له ذلك بلا خلاف أيضًا كما أشعر به كلامهم، بل في وجوبه نظر، وتوهم النووي صحة هذا النقل عن البغوي فقال: هذا الذي قاله البغوي عجيب، والصواب أنه لا حد. هذا لفظه من غير زيادة عليه؛ فتوهم صحة نقل الخلاف ولم يستحضر أيضًا ما سبق في اللعان ولا ما سيأتي في حد القذف. قوله (¬1): ولو قال: اقتل زيدًا أو عمروًا وإلا قتلتك، فهذا تخيير لا إكراه، وقد سبق نظيره فيما إذا قال: طلق إحدي زوجتيك. ثم قال: وفي "الرقم" نقل وجه أنه يكون إكراهًا، وفي "التتمة" نسبته إلى القاضي حسين، ويجيء مثله في الطلاق. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه وفيه أمران: أحدهما: أنه يشعر بأنه لم يستحضر في الطلاق خلافًا؛ ولهذا أشار إلى تخريجه من هذه المسألة، وهو غريب؛ فقد صرح هو بحكايته هناك نقلًا عن صاحب "التتمة" كما حكاه عنه هنا. الأمر الثاني: أن الوجه القائل هنا بأنه إكراه لا يلزم طرده في الطلاق لأنه يمكنه هناك أن يأتي بما أكره عليه وهو أن يقول: إحداهما طالق، فإن أراد الرافعي جريان الخلاف في هذه الصورة فباطل؛ إذ لا يقع جزمًا في هذه الحالة كما أوضحوه في بابه لأنه أتي بنفس ما أكره عليه، وإن أراد جريان الخلاف فما إذا عين المطلقة فالفرق واضح؛ لأن القتل لا يكون إلا في معين بخلاف الطلاق، فإذا عدل إلى التعيين أشعر بالاختيار. ¬

_ (¬1) انظر: "الروضة" (9/ 138).

قوله: ولو أمر عبدًا صغيرًا لا تمييز له أو مجنونًا ضاريًا أو أعجميًا يرى طاعة السيد لازمه في كل ما يأمر به فالقصاص أو الدية على السيد، وفي تعلق المال برقبة العبد وجهان: أصحهما المنع لأنه كالآلة فأشبه إغراء البهيمة الضارية. ثم قال: ولو قتل مثل هذا الصبي أو المجنون أو أتلفا مالًا من غير حث من أحد فهل يتعلق الضمان بمالهما؟ عن الشيخ أبي محمد تخريجه على الخلاف المذكور في التعلق برقبة العبد لأنه يشبه إتلاف البهيمة العادية. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه في إتلافهما من غير حث قد تابعه في "الروضة" عليه؛ ومقتضاه أن الراجح في هذه المسألة أنه لا شيء في مال هذا الصبي ولا في مال المجنون، وهو مردود مخالف لما سبق في كتاب الرضاع أن الصبي إذا دب وارتضع وانفسخ النكاح وجب عليه الغرم، ومخالف أيضًا لما سيأتي بعد ذلك بدون كراستين في الكلام على شريك السبع. قوله: وكذا لا يباح الزنا بالإكراه. انتهى. ومقتضى إطلاقه أنه لا فرق في عدم إباحته بين الرجل والمرأة، وهو كذلك؛ فقد صرح به الرافعي في كتاب الجهاد. قوله: ويباح بالإكراه التلفظ بكلمة الكفر ولكن لا يجب ذلك في أصح الوجهين؛ روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فينشر اثنين وما يصده عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب وما يصده ذلك عن دينه" (¬1). انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3416) من حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه -.

واعلم أنه قد تلخص من كلام الجوهري في مادة أشر ونشر ووشر أن في لفظه المنشار لغات فينطق بها بعد الميم إما بالنون أو بالهمز أو بالياء فإنه يقال: نشرت الخشبة بالنون، وأشرتها بالهمز، ووشرتها بالواو؛ وحينئذ فإذا ثبتت من ذوات الواو مفعالًا لزم قلب الواو ياء لوقوعها بعد كسرة كما في الميقات والميزان، وإذا ثبتت من المهوز جاز التسهيل أيضًا. قوله: وهل يجب شرب الخمر عند الإكراه؟ في "الوسيط" أنه على وجهين مرتبين على الوجهين في كلمة الردة وهو أولى بمنع الوجوب. انتهى. وهذا النقل عن "الوسيط" قد ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وليس كذلك فإن الذي قاله في "الوسيط": وفي وجوبه خلاف مرتب على الردة وأولى بالوجوب. هذه عبارته. وقد اغتر في "الروضة" بكلام الرافعي فأطلق تصحيح عدم وجوبه. قوله: إذا أنهشه حية أو ألدغه عقربا بأن ضبطها وأدناها منه فقتلته نظر إن كانت تقتل غالبًا كأفاعي مكة وثعابين مصر وعقارب نصيبين وجب القصاص، وإن كانت مما لا يقتل غالبًا فقولان: أصحهما عند صاحب "التهذيب" والروياني وغيرهما أنه شبه عمد. والثاني: أنه يتعلق به القصاص، وهو ما أورده الإمام وصاحب "الكتاب". انتهى. وما نقله عن الإمام والغزالي من الوجوب عجيب؛ فإنهما صرحا بأنه كغرز الإبرة؛ كذا في "النهاية" و"البسيط" و"الوسيط" وقد فصلا في

الإبرة وحكيا خلافًا من غير ترجيح فيما إذا لم تقتل غالبًا. قوله: وإن أرسل عليه سبعًا أو أغري به كلبًا عقورًا في موضع واسع كالخضراء فقتله أو طرحه في مسبعة أو بين يدى سبع في الصحراء مكتوفا أو غير مكتوف فقتله فلا قصاص ولا ضمان سواء كان المطروح صغيرًا أو كبيرًا لأنه لم يلجئه إلى قتله، والذى وجد منه ليس بمهلك، وهو كالممسك مع القاتل. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الوجوب في إغراء الكلب ونحوه لا يجتمع مع ما قاله قبل ذلك فيما إذا أغرى به مجنونًا ضاريا أو عبدًا أعجميا يعتقد أن طاعة سيده واجبة فإنه قد جزم فيه بوجوب القصاص، والإيجاب هو الصواب؛ فقد جعل الشارع قتل الكلب للصيد بالإغراء نازلًا منزلة قتل الغري. وأما استدلاله بأنه ليس بمهلك فإن أراد أنه ليس بمباشر فمسلم، وإن أراد أنه ليس سببًا فليس كذلك بل هو سبب ملجئ عرفًا بلا شك، وقياسه على الممسك مع القاتل لا يستقيم لأن العاقل له رؤية بخلاف ما نحن فيه، وبالجملة فما الذى يقوله في الفرق بين إغراء المجنون وبين الكلب ونحوه. قوله: ولو ربط في دهليز داره كلبًا عقورًا ودعى إليه غيره فافترسه الكلب فلا قصاص ولا ضمان ولم يجعل على الخلاف الذى سبق في حفر البئر في الدهليز وتغطية رأسها لأن الكلب يفترس باختياره، ولأنه ظاهر يمكن دفعه بالعصا والسلاح. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من عدم الضمان وبقية الخلاف غريب؛ فقد حكى الخلاف فيه في كتاب ضمان البهائم، واقتضى كلامه أن الأصح هو الوجوب، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى، ووقع الموضعان

كذلك في "الروضة" (¬1). قوله: والمريض المشرف على الوفاة إذا قتل وجب القصاص على قاتله. قال القاضي الروياني وغيره: وإن انتهى إلى حالة النزع وصار عيشه عيش المذبوحين. ولفظ الإمام: أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت وبدت أماراته وتغيرت الأنفاس في الشراسيف فلا يحكم له بالموت بخلاف المقدود لأن موته غير مقطوع به، وأيضا فإن المريض لم يسبق فيه فعل يحال القتل عليه. نعم لو أصاب الحشوة خرق أو قطع وكان يتيقن موته بعد يوم أو يومين وجب القصاص بقتله. انتهى. وما ذكره هاهنا من أن المريض لا يقطع بموته وإن انتهى إلى حالة النزع وأن حكمه كحكم الأحياء قد ذكر ما يناقضه أو يقيده في الباب الأول من أبواب الوصية في الكلام على المرض المخوف، وكذلك النووي من "زوائده" في الفرائض في الكلام على ميراث الحمل، وقد سبق لفظ كل من الموضعين في بابه مع زيادة أخرى في الفرائض ينبغي معرفتها، وذكر مثل ما ذكر هاهنا في العاقلة وفي باب الأضحية. والشراسيف جمع شرسوف بشين معجمة مضمومة ثم راء مهملة ساكنة بعدها سين مهملة ثم فاء، وهو ما أشرف على البطن من أطراف الأضلاع، ويقال: عظام لينة معلقة بكل ضلع. قوله: إحداها: إذا قتل شخصًا على ظن أنه كافر بأن كان عليه زي ¬

_ (¬1) الروضة (9/ 317).

الكفار أو رآه يعظم آلهتهم فبان أنه كان مسلمًا؛ نظر: إن كان في دار الحرب وجبت الكفارة ولا يجب القصاص وكذا الدية في أصح القولين، وإن كان في دار الإسلام وجبت الدية والكفارة، وفي القصاص قولان رجح منهما الوجوب. انتهى ملخصًا. واعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد اعتمد في كتاب الردة في تفصيل ما يكون ردة وما لا يكون على كلام نقله عن الحنفية، وقد نقل ما يقتضي أن التزيي بزي الكفار يكون رده على الصحيح عندهم وأقره، لكن استدرك عليه في "الروضة" ورجح خلافه كما ستعرفه هناك. وأما ما ذكره هنا في التعظيم فقد تابعه عليه في "الروضة" ولم ينقله عن البغوي بل أطلق القول به وهو عجيب لاسيما إطلاقه، وقد ذكر في باب الردة أن تعظيم الأصنام بالسجود لها والذبح ردة، والظاهر أنه على سبيل المثال. قوله: ويشترط لوجوب القصاص كون القتيل معصومًا إما بالإسلام أو بعقد الجزية أو بالعهد والأمان. انتهى. تابعه في "الروضة" على حصر العصمة في هذه الثلاث، ويرد عليه صرف الرق على كتابي بلا خلاف وكذا على وثني ونحوه على المذهب. قوله: والزاني المحصن إذا قتله ذمى يلزمه القصاص، وإن قتله مسلم فوجهان: أحدهما: يجب القصاص لأن الرجم إلى الإمام. والثاني: المنع لأنه مباح الدم كالمرتد، وهذا هو الظاهر على ما اختاره الإمام ورواه عن المراوزة ويعزي إلى النص. انتهى ملخصًا. فيه أمور:

أحدها: ما قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه" ونبّه عليه في "الروضة" أن الخلاف قبل أن يأمر الإمام بقتله، فإن كان بعد الأمر به فلا قصاص قطعًا. الأمر الثاني: أن مقتضي إطلاق الرافعي أنه لا فرق في عدم الوجوب بين أن يثبت زناه بالبينة أم بالإقرار وهو المذكور في أوائل حد الزنا، ومقتضي إطلاقه أيضًا في كتاب الأطعمة في الكلام على المضطر. وقد وافق النووي في "الروضة" على هذه المواضع كلها ثم خالف في "تصحيح التنبيه" فصحح وجوب القصاص إذا ثبت بالإقرار، وذكر ابن يونس شارح "التنبيه" أنه لا قصاص، قال: ولكن تجب الدية. الأمر الثالث: أن تعليل السقوط هنا بكونه مباح الدم يقتضي الجزم بوجوب القصاص إذا وقع القتل بعد الرجوع بل لا يخطر للناظر في هذا المكان غيره لكن نقل الرافعي في أوائل حد الزنا في ذلك وجهين ونقل أن الصحيح عدم الوجوب فتفطن له، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. وبالجملة فقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على المسألة وصرح بأنه لا شيء على القاتل فقال في باب الرجل يقتل الرجل فيعدو عليه أجنبي فيقتله ما نصه: وهذا يخالف الرجل يقضي عليه الإمام بالرجم في الزنا فيقتله الإمام أو أجنبي هذا لا شيء على قاتله لأنه لا يحل حقن دم هذا أبدًا حتى يرجع عن الإقرار بكلام إن كان قضى عليه بإقراره ويرجع الشهود عن الشهادة إن كان قضى عليه بشهادة شهود. هذا لفظ الشافعي بحروفه، ومن الأم نقلته، وهو صريح في بطلان ما قاله النووي في "تصحيح التنبيه" وظاهر في دفع ما نقله هو والرافعي بعد الرجوع في أوائل حد الزنا.

قوله: ولو قتل عبد مسلم عبدًا مسلمًا لكافر هل يثبت القصاص؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لئلا يثبت القصاص ابتداء لكافر على مسلم. وأظهرهما يجب؛ لأن العبدين متكافئان والسيد كالوارث. ولو مات ولى القتيل الذمى وقد طرأ إسلام القاتل بعد القتل ثبت القصاص لوارثه. وللخلاف نظر إلى أن القصاص يثبت للوارث أو تلقيًا. انتهى كلامه. وفي صورة موت الولى وجه أنه لا يثبت؛ حكاه في "النهاية" و"البسيط" وإليه أشار في "الوسيط" بقوله: المذهب، والتخريج الذى أشار إليه الرافعي على ثبوته ابتداء أو [تلقيًا] صرح به القفال في فتاويه، وتعبير الرافعي بقوله: "ولو مات ولى القتيل" ذكره استشهادا على حكم الوارث المشبه به وعبر في "الروضة" بقوله: كما لو مات. وهو سهو. قوله: ولو قتل عبد كافر عبدًا كافرًا لمسلم فعن القاضي الحسين فيه احتمالان. انتهى لفظ الرافعي بحروفه. وذكر في "الروضة" مثله أيضًا وقال: والراجح ثبوت القصاص. وهذه المسألة لا يتصور مجيء الاحتمالين فيها بل يجب القصاص جزمًا سواء كان العبد المذكور أولًا مرفوعا على الفاعلية أو مضافًا إلى الكافر فإن العبدين متكافئان وكون سيد المقتول مسلمًا لا ينقصه عن القاتل إن لم يزده شرفًا، وبالجملة فهذا النقل إنما هو عن القاضي الحسين، وقد راجعت النسختين المختلفتين من تعليقته فوجدته قد حكى وجهين فيما إذا قتل عبد مسلم لمسلم أو كافر عبدًا مسلما لكافر، والخلاف هنا واضح إلا أنه سبق ذكره في كلام الرافعي قبيل هذه المسألة فامتنعت إرادته منه. نعم تشبيه الرافعي السيد بالوارث مع القاعدة المعروفة وهي أن المسلم لا يرث الكافر يقتضي أن القصاص لا يجب في المسألة المذكورة، فتأمله.

قوله: الثانية: لا قصاص على المسلم بقتله المرتد، ولو قتل مرتد مرتدًا ففي وجوب القصاص عليه وجهان: الصحيح منهما الوجوب. انتهى. وما ذكره من حكاية الخلاف وجهين قد [خالفه] في "المحرر" فجزم بأنه قولان، ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج"، ولم يجزم في "الشرح الصغير" بشئ؛ فإنه قال: ففي وجوب القصاص عليه قولان أو وجهان. هذا لفظه. قوله: ولو قتل ذمى مرتدًا ففي وجوب القصاص قولان أو وجهان: أصحهما المنع لأنه مباح الدم. انتهى. وهذا الخلاف الذى تردد فيه الرافعي هو قولان؛ كذا جزم به في أصل "الروضة". قوله: ولو قتل مسلم حر من لا يعلم أنه مسلم أو كافر، أو من لا يعلم أنه حر أو عبد فلا قصاص للشبهة قاله في "البحر". انتهى. وما نقله عن "البحر" وأقره قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا لكنهما قد صححا في اللقيط وجوب القصاص بقتله قبل البلوغ وعللوه بأن الدار دار حرية وإسلام والمقتول في مسألتنا نظيره، وذكر الرافعي بعد ذلك في أوائل الكلام على اختلاف الجاني ومستحق الدم مثله أيضًا فقال: ولو قتل إنسانًا وادعي رقه وأنه ليس عليه إلا القيمة وقال قريبه: بل كان حرًا فالمنصوص -وهو الأظهر- تصديق القريب لأن الغالب والظاهر الحرية، وكذلك يحكم بجزية اللقيط المجهول الحال. هذا كلامه، وذكر مثله في "الروضة" أيضًا. قوله: وحكى القاضي ابن كج أنه لو حكم حاكم بقتل حر بعبد لم [ينتقض] حكمه، وأنه لو حكم بقتل مسلم بذمي [ينتقض] حكمه. قال:

ويحتمل ألا ينتقض أيضًا وهو الوجه. انتهى كلامه. والراجح في المسألة الثانية على ما ذكره الرافعي في كتاب الأقضية في جامع آداب القضاء أنه لا ينتقض، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لغرض آخر يتعلق به. قوله: ومن بعضه حر وبعضه رقيق إذا قتل مبعضًا نظر إن كان قدر الجزية في القاتل أكثر فلا قصاص وإن استوى القدران أو زادت جزية المقتول فوجهان: أشهرهما عند المتقدمين وجوب القصاص، وأصحهما عند المتأخرين لا قصاص لأنه لا يقتل بجزء الحرية جزء الحرية وبجزء الرق جزء الرق بل يقتل جميعه بجميعه. انتهى ملخصًا. وذكره مثله في "الشرح الصغير" و"الروضة"، والصحيح عدم القصاص؛ كذا صححه الرافعي في "المحرر" والنووي في "المنهاج". قوله: الثالثة: لو قتل المكاتب أباه وهو في ملكه ففي القصاص وجهان: أشبههما المنع لأنه مملوكه والسيد لا يقتل بعبده. والثاني: ويحكى عن إشارة النص أنه يجب لأن أباه إذا دخل في ملكه يكاتب عليه ويثبت له حق الحرية كما ثبت للمكاتب. ولو قتل عبدًا له غير أبيه فلا قصاص، وقيل: وجهان: انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح عدم وجوب القصاص في قتل أبيه قد خالفه في "الشرح الصغير" فقال: فيه وجهان: أحدهما المنع لأنه مملوكه والسيد لا يقتل بعبده، وأقواهما: الوجوب؛ لأن أباه. . . . إلى آخر التعليل السابق. وعبر في "الروضة" بالأصح عوضًا عن الأشبه، ولا ذكر للمسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج". قوله في المسألة من "زوائده": قلت: إذأ أوجبنا القصاص استوفاه

سيد المكاتب لأنهما عبدان للسيد قتل أحدهما الآخر فهو كما لو قتل أجنبي، والله أعلم. وما ذكره في آخر كلامه من أن الأجنبى إذا قتل عبد المكاتب استوفاه السيد: عجيب؛ فقد ذكر هو في باب الكتابة تبعًا للرافعي بأنه لو جنى بعض عبيد المكاتب على بعض أو جنى عبد غيره على عبده فله أن يقتص بدون إذن سيده على المشهور. وفي قول: إن لم يأذن للسيد وإلا أخذ الأرش. ولو جنى عبد المكاتب على المكاتب فله أن يقتص بغير إذن السيد. ولو جنى -أي: عبد المكاتب- على سيد مولاه [فكما] لو جنى على أجنبي فيباع في الأرش إلا أن يفديه المكاتب. هذا كلامه. ثم إن الحكم الذى ذكره في أول زياداته وهو أن السيد يستوفيه تفريعًا على ثبوت القصاص مشكل؛ لأن سيد المكاتب لا حق له في المكاتب، وتعليله بقوله لأنهما عبدان للسيد مردود أيضًا لأن عبد المكاتب ملك للمكاتب لا للسيد. قوله. وحكى -أي: الإمام- خلافًا في أن القصاص لا يجب على الأب أو يجب ثم يسقط لتعذر الاستيفاء قال: وهذا من حشو الكلام، والمانع من الاستيفاء مانع من الوجوب. انتهى كلامه. وهذا الخلاف قد أسقطه النووي من "الروضة". قوله: أخوان لأب وأم قتل أحدهما الأب والآخر الأم، فإن لم تكن الزوجية باقية بين الأب والأم فلكل واحد منهما حق القصاص على الآخر. وهل يقدم بالقرعة أو يقتص من المبتديء بالقتل؟ فيه وجهان. انتهى. لم يرجح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا، والراجح الثاني فقد أجاب

به القاضي أبو الطيب والبغوي ونقله الإمام عن الأصحاب وقال في "الروضة" من زوائده: إنه أرجح. قوله في المسألة: وقول الغزالي: وكل واحد من الأخوين يستحق قصاص صاحبه يجوز أن يعلم بالواو لأن ابن كج حكى عن ابن أبي هريرة وابن القطان فيما إذا قتل زيد ابن عمرو وعمرو ابن زيد وكل واحد من الأبوين حي مكافئ أنه يقع القصاص ولا قصاص بينهما، وذلك الوجه لابد أن يجئ فيما نحن فيه. انتهى كلامه. وهذا الوجه قد صرح بنقله في مسألتنا صحب "البيان" عن ابن اللبان ونقله عنه في "الروضة". قوله: ولو قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه فلا قصاص في الحال. فلو قال: أنا رجل فهل يقبل قوله لإيجاب القصاص أو الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كما قبل الجناية؛ لأنه أعرف بحاله. وأظهرهما -على ما ذكره القفال والإمام- المنع لأنه متهم. انتهي كلامه. وهذه المسألة مذكورة في هذا الكتاب وفي "الروضة" في مواضع واختلف في الترجيح كلام النووي اختلافًا عجيبًا سبق إيضاحه في نواقض الوضوء فراجعه، وذكرته أيضًا أبسط من ذلك في كتابنا المسمى "بالاستيعاب" المعقود لأحكام الجنايات. قوله: ويشبه ذلك بما لو ثبت الغضب عليه بشهادة رجل وامرأتين. ثم قال: إن كنت غصبت فامرأتي طالق فأقامت رجلا وامرأتين على أنه غصب لا يقع الطلاق على الأظهر. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من جزمه في الصورة الأولي وإثبات الخلاف في الثانية على العكس مما ذكره هو وغيره في الباب الثاني من أبواب الشهادات فإنهم

جزموا في الثانية بعدم الوقوع، وحكوا في الأولى وجهين وصححوا أنه يقع، وسوف نذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. والسبب فيما وقع هنا أن الإمام -رحمه الله- عكسه فتبعه عليه الرافعي ثم النووي، وقد ذكره -أعني الإمام- في ذلك الموضع كما ذكره غيره. قوله: وروي أن عمر قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا. انتهى. الغيلة بغين معجمة مسكورة بعدها ياء ساكنة بنقطتين من تحت هي الحيلة. والقتل على أنواع: أحدها: قتل الغيلة: وهو أن يحتال في قتله بأن يذهب به إلى موضع مثلًا فيقتله فيه. والثاني: قتل الفتك [بفاء] (¬1) مثلثة أي: بضم وبكسر [وفتح] (¬2) وبعدها تاء ساكنة مثناة بنقطتين من فوق ثم كاف، وهو أن يكون آمنا فيراقب حتى يجد منه غفلة فيقتله. والثالث: قتل الصبر بصاد مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة ساكنة، وهو قتل الأسير مجاهرة. والصبر في اللغة هو الحبس فلما قتل بعد حبسه سمى قتل الصبر. والرابع: قتل الغدر: وهو القتل بعد الأمان. والمراد بقوله تمالأ أي: تعاون، وهو مهموز الآخير، قال - رضي الله عنه - ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله أي: عاونت. ¬

_ (¬1) في أ: به. (¬2) سقط من أ، والمثبت من المعاجم اللغوية.

قوله: ولو شارك جراحة لا ضمان فيها كجراحة الحربي فقولان: أصحهما وجوب القصاص ثم قال: ولو جرحه سبع أو لدغته عقرب أو حية وجرحه مع ذلك رجل فطريقان: أشهرهما طرد القولين، والثاني: القطع بأن لا قصاص عليه لأنه لا تكليف عليه فكان شريكه كشريك الخاطئ. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى هذا الكلام تصحيح وجوب القصاص في شريك السبع ونحوه، وقد وافق عليه في "الروضة" ثم خالفه في تصحيح التنبيه فصحح أنه لا يجب، ولا ذكر للمسألة في المحرر ولا في مختصره. الأمر الثاني: أن التعبير بالخاطئ عن المخطئ وقع في مواضع من الرافعي وغيره من كتب الأصحاب، وهو لغة، قال أبو عبيدة: خطئ بكسر الطاء وأخطأ لغتان بمعنى واحد. قال: وفي المثل مع الخواطئ: سهم صابت. تصرف للذي يكثر خطؤه ويأتي بالصواب أحيانًا. لكن قال الأموى: المخطئ من أراد الصواب فوقع في غيره، والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي. حكاه الجوهري. قوله: ولو رمي اثنان سهمين إلى مسلم في صف الكفار وقد علم أحدهما أنه مسلم ولم يعلم الآخر أن هناك مسلما فوجوب القصاص على العالم ينبي على الخلاف في شريك السيد لأن فعل الجاهل مضمون بالكفارة. انتهى كلامه. وبناؤه هذه المسألة على شريك السيد بناء عجيب لأن شريك السيد شريك عامد مأثوم، وإنما سقط القصاص عن السيد لعدم الكفارة ولكونه ملكه وإسقاط وسقطت الدية لاستحالة إيجابها له في ملكه فصار السقوط

في هذه الحالة إنما هو لمعنى في السيد فشريكه كشريك الأب بخلاف الجاهل فينبغي أن يكون شريكه كشريك المخطئ بل أولى؛ لأن المخطئ تلزمه الدية بخلاف هذا. واعلم أنه لا قصاص على شريك المخطئ على ما قطع به الجمهور، ويجب على شريك الأب وكذا شريك السيد في أصح القولين. قوله: فرع: وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون ينبنى على الخلاف في أن عمدهما عمدًا وخطأ؛ إن قلنا: عمد وجب وهو الأصح، وإن قلنا: خطأ فلا؛ كشريك الخاطئ. هكذا أطلق مطلقون. وعن القفال وغيره أن الخلاف في الصبي الذي يغفل عقل مثله وفي المجنون الذى له نوع تمييز، فأما من لا تمييز له بحال فعمده خطأ وشريكه شريك الخاطيء لا محالة، وهذا ما جرى عليه الأئمة. انتهى ملخصًا. والمشهور القطع في شريك المخطئ أنه لا قصاص، والمشهور في شريك البهيمة طريقة القولين. إذا علمت ذلك فالذى ذكره هنا من إلحاق فعل غير المميز بالمخطئ دون البهمية قد تابعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي وجوب الضمان في ماله -أعنى مال غير المميز- لكنه قد نقل قبل ذلك قبيل الكلام على ما يباح بالإكراه خلافه، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: ولو خلط الإمام جرح الصغير أو المجنون في لحم حي بقصد المداواة وكان ذلك يقتل غالبًا ففي وجوب القصاص عليه قولان كما لو قطع سلعة من صغير أو مجنون فمات منه. انتهى. والصحيح في السلعة أنه لا ضمان كما قاله في موضعه وهو بعد حد الخمر.

إذا تغير حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت

قال -رحمه الله-: فصل: فيما إذا تغير حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت قوله: ولو جرح حربي مسلمًا ثم أسلم الجارح أو عقدت له الذمة ثم مات المجروح. فالجواب في "التهذيب" أنه لا شيء على الجارح، ونقل بعضهم أنه يلزمه الضمان لأن المجنى عليه مضمون في الحالتين. انتهى. لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا والصحيح عدم الضمان. كذا في "الروضة" من زوائده. قوله: ولو جرح مسلمًا فارتد ومات بالسراية فالنفس هدر ويجب القصاص في الجراحة في أصح القولين إن كان مما يجرى فيها القصاص، وعلى هذا فيستوفيه وريثه في أظهر القولين؛ ولهذا قال في "المختصر": لوليه المسلم القصاص. والثاني: يستوفيه الإمام لأن المرتد لا يورث، وحملوا الولي على الإمام. ثم رد الرافعي بعد ذلك على هذا التأويل فقال: وبأنه قال في "الأم" يقتص منه أولياؤه، بلفظ الجمع والإمام واحد، وربما حكى وريثه. هذا لفظه، والمذكور في الأم لفظ الولى فإنه قال: وإذا ضرب الرجل رجلًا فقطع يده ثم برأ ثم ارتد فمات فلوليه القصاص في اليد. هذا لفظه، ونقله عنه أيضًا في "المطلب". قوله: ولو جرح مسلم مسلمًا ثم ارتد المجروح ثم أسلم ومات بالسراية لم يجب القصاص في أصح القولين، وفي الدية أقوال: أصحهما عند الجمهور: أنها تجب كاملة.

والثاني: نصفها. والثالث: ثلثاها. والرابع: أقل الأمرين من كل الدية، وأرش الجراحة. ثم قال ما نصه: قال الإمام: إن أوجبنا القصاص فلو آل الأمر إلى المال ففيه الوجوه، وهذا يشعر بما إذا عفى عن القصاص، وقد يشير به إلى ما إذا كان الجرح خطأ، وكذا صور صاحب الكتاب، وفي "التهذيب" أنه إذا عفى وجب كمال الدية بلا خلاف وهذا أوجه ولتكن كذلك صور الخطأ. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذا النقل عن الإمام، وهو غريب جدًا؛ فإن الذى ذكره الإمام أن الخلاف محله إذا قلنا: لا يجب القصاص لأجل تحلل المهدر، قال الإمام: أما إذا قلنا بوجوبه فلا شك في وجوب كمال الدية وحينئذ فيوافق مقالة "التهذيب". ذكر ذلك قبل كتاب الديات بكراس وشيء في أثناء فصل أوله قال: ولو جرح مسلمًا فقال ما نصه: ثم إذا أوجبنا القصاص في المسألة التى نحن فيها فلو آل الأمر إلى المال وجبت الدية بكمالها لا شك فيه، وإن درأنا القصاص لمكان اعتراض المهدر وآل الأمر إلى المال فظاهر النص أنه تجب الدية الكاملة؛ هذا لفظ الإمام بحروفه، وكأن نظر الرافعي قد انتقل من قوله: وآل المال، إلى هذا اللفظ المذكور ثانيًا أو سقط ذلك من النسخة التي وقف عليها الرافعي. قوله في "الروضة": فرع: رمي إلى مسلم فارتد وعاد إلى الإسلام فأصابه السهم فلا قصاص على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقال الإمام: ويجئ فيه قول. انتهى. لقائل أن يقول: كيف قطع الجمهور بأنه لا قصاص مع ذهابهم لطريقة

القولين فيما إذا تخللت الردة بعد الجراحة مع أن إثبات القولين في مسألتنا أولى لعصمته حالة الرمى وحالة الإصابة، وتخلل الردة إنما كان لتأثير السبب. قوله: ولو جرح نصراني نصرانيًا ونقض المجروح العهد والتحق بدار الحرب ثم سبى واسترق ومات بالسراية فلا قصاص في النفس، فإن أراد المستحق المال ففي ما يجب على الجاني قولان: أحدهما: أول الأمرين من أرش جناية حر أو كمال قيمة عبد لأنه بالالتحاق بدار الحرب صار مهدرًا فأشبه ما إذا ارتد المسلم. وأصحهما على ما قال في "التهذيب" أن الواجب قيمته بالغة ما بلغت. انتهى كلامه. والأصح في أصل "الروضة" ما صححه في "التهذيب". قوله: وقول "الوجيز" أقل الأمرين من كمال كل الدية أو كل القيمة الأغلب في لسان أهل الفقه في مثل هذا الموضع كلمة -أو- ولو قلت -بالواو- لصح وكان أوضح. انتهى كلامه. والتعبير هنا بالواو واجب؛ لأن الأمرين هما كذا وكذا قالوا ولا بأو، وقد نبه عليه أيضًا النووي في مواضع من "الدقائق" و"لغات التنبيه". قوله: قطع حر يد عبده فعتق ثم عاد فحرر رقبته قبل الاندمال، فإن اقتص الوارث سقط حق السيد، وإن عفى وجب كمال الدية، للسيد منه الأقل من نصف الدية ونصف القيمة، ثم الواجب في الدية إنما هو الإبل فليس للسيد تكليف الجاني سلم الدراهم. ثم قال ما نصه: فلو أتى الجاني بالدراهم ففي إجبار السيد على القبول وجهان ذكرهما الإمام: أحدهما: المنع لأن الواجب المتعين الإبل فله أن يقول سلم حقى إلىّ.

والثاني: نعم لأنه الواجب بحق الملك، وحاصل هذا الوجه تخيير الجاني بين تسليم الإبل وتسليم الدراهم، وهو أفقه وأغرض عند الإمام، وإيراد الكتاب يشعر بترجيحه. انتهى كلامه. واعلم أن هذا الكلام من الرافعي قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو يقتضي أن هذين الوجهين نقلهما الإمام عن الأصحاب، وليس كذلك، بل إنما ذكرهما الإمام بحثًا، وقد صرح القاضي أبو الطيب في "شرح الفروع" بالمسألة وجزم بعدم الإجبار، ونص عليه الشافعي أيضًا ونقله عنه في "المطلب" في باب القسامة. قوله: الفراشة: قال الجوهري: الفراشة بالفتح وبالشين المعجمة: كل عظم دقيق، وفراش الرأس عظام رقاق في القحفة.

قال -رحمه الله-: النوع الثاني: القصاص في الطرف.

قال -رحمه الله-: النوع الثاني: القصاص في الطرف. قوله: وفرق فارقون بأن اليد الشلاء ميتة والحي لا يؤخذ بالميت كما لا يقتل الحي بجز رقبة الميت، وذكر علي هذا وجهان في اليد الشلاء من المذكاة هل تؤكل، وضعف القاضي أبو الطيب وجماعة هذا الفرق ومنعوا كون اليد الشلاء ميتة وقالوا: لو كان كذلك لتغيرت ولكانت نجسة. انتهى كلامه. وقد نص الشافعي في "الأم" على أن الشلل موت فقال: فإن قطع رجل من رجل طرفًا فيه شيء ميت لشلل أو غيره أو شيء مقطوع كأن قطع يده وفيها أصبعان شلاوان وإن لم تقطع يد الجاني بها. هذا لفظ الشافعي بحروفه، وقد نقله عنه في "المطلب" أيضًا وحينئذ فيكون الصحيح التحريم، ونقل في "الروضة" هذه المسألة إلى الأطعمة وصحح الحل. قوله: الثانية: الدامية: وهي التى يدمي موضعها من الشق والخدش، وذكر الإمام وصاحب الكتاب في تفسيرها سيلان الدم، وهو خلاف ما حكى عن لفظ الشافعي - رضي الله عنه - واشتهر في اللغة، أما لفظ الشافعي فقد حكى الروياني أنه قال: الدامية هي التي تدمي ولا يقطر منها شيء، وأما أهل اللغة فقد ذكروا أن الدامية التي يظهر دمها ولا يسيل، فإن سال فهي الدامعة بالعين أي: المهملة. انتهى. وما ذكره في الإنكار على الإمام والغزالي قد تابعه عليه في "الروضة" وزاد فقال: إن ما قالاه خلاف الصواب. والذى قاله الرافعي والنووي عجيب يوهم انفراد الإمام والغزالي بذلك وليس كذلك؛ فقد ذكر القاضي الحسين في "تعليقه" في ذلك جوابين

مختلفين ذكرهما في موضعين نقلهما عنه ابن الرفعة في "الكفاية": أحدهما: مثل مقالة الجمهور. والثاني: كمقالة الإمام والغزالي، ومنه أخذا ما قالاه. ورأيت في "شرح المختصر" للداودي وهو المعروف بالصيدلاني عن ابن الأعرابي مثله أيضًا فإنه ذكر في أول الباب أن الدامية هي الدامعة، ثم نقل عن ابن سريج مثل مقالة الجمهور، ثم روي عن الأزهري عن ابن الأعرابي عكسه فقال: الدامعة ألا يسيل الدم، والدامية أن يسيل. وأغرب من ذلك أن الجوهري قد نص عليه في "الصحاح" في فصل نصع فقال: الناصعة: الشجة التي تقطع الجلد وتشق اللحم وتدمى إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال فهي الدامية. هذا لفظه. نعم، ذكر ما يناقضه في فصل دمي فقال: الدامية: الشجة التي لا يسيل الدم منها.

فصل: في ألفاظ ذكرها الرافعي فسر معانيها ولم يضبط لفظها

فصل: في ألفاظ ذكرها الرافعي فسر معانيها ولم يضبط لفظها: منها: المنشار بالنون والشين المعجمة، وقد سبق إيضاحه قبل ذلك عند الكلام على الإكراه. ومنها: البضعة بمعني القطعة، ومنها إطار الشفة والأحْرق والمسبار والأعسم وفراوة اسم للبلد والسن الشاغبة. فأما البضعة فإنها بفتح الباء، وأما إطار الشفة وهو: المحيط بها فهو: بكسر الهمزة وتخفيف الطاء المهملة، وقد ضبطه النووي في أصل "الروضة". وأما الشاغبة فبالشين والغين المعجمتين وهي الزائدة المخالفة لسمت الأسنان؛ يقال: رجل أشغى وامرأة شغواء. وأما فراوة اسم للبلد: فبفتح الفاء وضمها والفتح أشهر وبعد الألف واو وهي بلدة من ثغر خراسان. وأما الأخرق: فبالخاء المعجمة والقاف، وهو قليل المعرفة، على عكس الماهر، ومصدره الخرق. وأما المسبار: فهو بميم مسكورة وسين مهملة ساكنة بعدها باء موحدة وهو حديدة تدخل في الجرح ليمتحن بها، مأخوذ من السبر وهو الامتحان كالمفتاح من الفتح. والأعسم: بعين وسين مهملتين مأخوذ من العسم بالفتح يكون في الكف والقدم؛ وهو أن يكسر مفصلهما حتى يعوجا؛ تقول منه: رجل أعسم، وامرأة عسماء. قوله: وعن إبراهيم الحربي. . . . إلى آخره.

الحربي: بحاء مهملة مفتوحة وبالباء الموحدة، تقدم ذكره في "الطبقات". قوله في أصل "الروضة": الطريق الثاني: أن يكون للعضو حد مضبوط ينقاد لآله الإبانة فيجب القصاص في فقء العين وفي الأذن والجفن والمارن والذكر والأنثيين قطعًا. انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق في الجفن ليس كذلك؛ فقد ذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا قصاص فيه كما حكاه ابن الرفعة في "الكفاية" ولم يدع الرافعي القطع بذلك. قوله أيضًا في "الروضة": ويجب أيضًا في الشفة واللسان على الصحيح، وفي الشفرين والإليتين عند الأكثرين، ولا قصاص في إطار الشفة -بكسر الهمزة وتخفيف الطاء المهملة- وهو المحيط بها لأنه ليس له حد مقدر. انتهى كلامه. وتعبيره بالشفة غلط لأن القصاص يجب في آخرها كما يجب في جميعها وفي أولها، وصوابه: بالسه بسين مهملة مشددة بعدها هاء بلا فاء؛ وهو حلقة الدبر كما تقدم إيضاحه في نواقض الوضوء؛ لأن المحيط بالحلقة المذكورة لا ضابط له، وقد وقع على الصواب في نسخ الرافعي الصحيحة. قوله: الثانية: لو كسر العظم وأبان اليد منه فللمجني عليه أن يقطع من المرفق ويأخذ حكومة ما بقي من العضو ولو أراد أن يترك المرفق ويقطع من الكوع فهل يمكن؟ فيه وجهان: ثم قال: وفي "التهذيب" بترجيح هذا الوجه -يعني التمكين-، وإفراد الروياني وغيره يشعر بترجيح الأول. انتهى كلامه. ومقاضاه رجحان الثاني وهو أنه لا يمكن وبه صرح في "الشرح الصغير" فقال: فيه وجهان: أولاهما: لا يتمكن كمن تمكن هذا لفظه، ولم يذكر

ترجيحًا غيره، وكلامه في "المحرر" مقتضاه رجحان التمكين؛ فإنه قال: فيه وجهان رجح منهما التمكين. هذه عبارته. وعبر في "المنهاج" بلفظ: الأصح، وأبقي كلام الرافعي في "الشرح الكبير" على ما هو عليه فصار أبلغ في الاختلاف. قوله: ولو زاد المقتض في الموضحة على قدر المستخرج وآل الأمر إلى الثاني وجب أرش كامل، وقيل: يوزع الأرش عليهما فيجب قسط الزيادة، وينسب هذا للقفال. انتهى. واعلم أن هذه المقالة قد رجع عنها القفال كما قاله في "النهاية" فقال: الذى استقر عليه جوابه وجواب "الكامل"، وفي "تعليق القاضي حسين": أنه اختيار الشيخ -يعني به القفال-. قوله: الثانية: إذا اشترك جماعة في موضحة بأن تحاملوا على الآلة وحزوها معا ففيه احتمالان للإمام: أحدهما أنه يوزع عليهم ويوضح من كل واحد منهم قدر حصته، لأن الموضحة قابلة للتجزئة والقصاص جار في أجزائها فصار كما لو أتلفوا مالًا يوزع عليهم الغرم؛ وعلى هذا تتعين الموضحة إلى اختيار المقتص أو المقتص منه. والثاني: أنه يوضح من كل واحد منهم مثل تلك الموضحة لأنه لا جزء إلا وكل واحد منهم جان عليه؛ فأشبه ما إذا اشتركوا في قطع يد، وهذا ما أجاب به صاحب "التهذيب". ويجرى الاحتمال فيما إذا آل الأمر إلى المال أنه يجب الأرش موزعًا عليهم، أو يجب على كل واحد منهم أرش كامل. قال الإمام: والثاني أقرب، والأول هو المذكور في التهذيب. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: حيث شرع القصاص في موضحة كان تعيين محلها إلى الجاني وقيل: المجني عليه كما تقدم في كلام الرافعي؛ وحينئذ فقول الرافعي هنا بتعيين الموضحة إلى اختيار [المقتص] أو المقتص منه وقع هكذا في النسخ وهو ناقص وتكملته أن يقول فيه الخلاف السابق، وهكذا قالوا في "النهاية". الأمر الثاني: أن ما نقله في أجزاء الأرش عن الإمام والبغوي هو الصواب المذكور في "التهذيب" و"النهاية"، وقد غلط فيه النووي في "الروضة" [فانعكس] عليه؛ فإنه قال: ويجري الاحتمالان فيما لو آل الأمر إلى المال هل يجب على كل واحد أرش كامل أم يوزع عليهم؟ ؛ قال الإمام: وهذا الثاني أقرب، وبالأول قطع البغوي. هذا لفظه. فأخر احتمال التوزيع عن الكامل وأبقى ما قاله الرافعي على حاله فلزم منه وقوع الغلط. قوله: الثانية: لا تقطع يد صحيحة بشلاء وإن رضي به الجاني. انتهى. صورة هذه المسألة عند وقوف القطع، فإن سرى إلى النفس فالأظهر عند الأكثرين قطعها بها، وكذا إذا كان ساعد المجني عليه بلا كف، فاعلمه، وقد بين الرافعي ذلك في الطرف الثالث في كيفية المماثلة. قوله؛ ولو قطع أو شل إحدى الأنثيين وقال أهل البصر يمكن القصاص من غير إتلاف الأخرى اقتص. وذكر الروياني أن الماسرجسي قال: إنه ممكن وإنه وقع في عهده لرجل من فزاره. انتهى كلامه. وهو يوهم أن القصاص وقع للفزاري بالمذكور، وليس كذلك، والذي حكاه القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي ونقله عنه في "الكفاية" قبيل باب العفو والقصاص وقوع الحكاية على غير هذه الصورة فقال: وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي أنه قال: رأيت رجلًا من فزارة له إحدى الأنثيين

فسئل عن ذلك فقال: كانت بي حكة فقعدت في الشمس فكنت أحك خصيتي إلى أن انشقت فخرجت إحدى البيضتين وبقيت الأخرى. قوله: ولا فرق بين المثقوبة وغيرها إذا كان الثقب للزينة ولم يورث شيئًا. انتهى. واعلم أن الغزالي قد نص في "الإحياء" على أن ثقب أذن الصبية لتعليق الحلق حرام وبالغ فيه مبالغة شديدة لأنه جرح لم تدع إليه حاجة، قال: إلا أن تثبت فيه من جهة النقل رخصة ولم تبلغنا. ذر ذلك في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الباب الثالث منه في الكلام على منكرات الضيافة. فإن قيل: للبخاري (¬1) في حديث أم زرع قولها بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وآنس من حلي أذني ولم ينكر عليها، بل قال لعائشة: إن عشت كنت لك كأبي زرع لأم زرع. قلنا: الذي أقر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو نفس التعليق والتثقيب كان قد وقع في صغرها، والتعليق بعد وقوع التثقيب غير حرام لأنه لا محذور فيه. وآنس بهمزة ممدودة ونون مفتوحة وبالسين المهملة أي: حرك وأسمع يقال: أنست الصوت أي: سمعته. قوله: ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند البكاء وغيره وإلا لم يقطع، وإن بلغ أوان التكلم ولم يتكلم لم يقطع به لسان المتكلم. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه وهو يقتضي أنه لا يجب القصاص فيه إذا قطع قبل أن ينتهي إلى حد يظهر فيه أثر النطق بالتحريك وغيره حيث قال: ¬

_ (¬1) الزاهر (ص/ 480).

وإلا -أي: وإن لم يظهر فيه الأثر المذكور- لم يقطع، وعدم ظهوره إما بأن لم ينته إلى ذلك الزمن، أو بأن ينتهي إليه ولم يحصل فيه ذلك، وقد ذكر الرافعي في كتاب الديات قولين في أن هذا اللسان هل يعطي حكم لسان المتكلم حتى تجب فيه الدية أم لا؟ ، وصحح وجوب الدية وبالغ فيه فقال إنه الذي يوجد في كتب عامة الأصحاب، وعلله بأن الظاهر السلامة، وقاسه على قطع الرجل وغيرها؛ ومثل له بقطع اللسان عقب الولادة. قال: والذي أورده في "الكتاب" أن الدية لا تجب لأن سلامته غير متيقنة، وحكى الإمام قطع الأصحاب به. هذا كلامه. ومقتضاه تعليلًا وتشبيهًا وجوب القصاص، فتفطن له. وأما ما دل عليه كلامه هنا من عدم الوجوب فسببه متابعة الإمام والغزالي في التقسيم. قوله: ولو التأمت الموضحة والتحمت لم يسقط القصاص ولا الدية لأن العادة المستمرة فيها الالتحام؛ فلو أسقطناه لصارت معظم المواضح هدرًا. ثم قال ما نصه: وكذلك الحكم في الجائفة، وعن صاحب "التقريب" وجه أنها إذا التحمت زال حكمها. انتهى. واعلم أن هذا الكلام الذى ذكره في الجائفة يوهم أن حكم الجائفة كحكم الموضحة في أن التئامها لا يسقط القصاص حتى اغتر ابن الرفعة في "الكفاية" بهذا الإيهام فصرح به، وهو غلط ينبغي التفطن له؛ فإن الجائفة لا قصاص فيها بلا خلاف لأنها لا تنتهى إلى عظم كما صرحوا به في الكلام على الشجاج، فتفطن له. والذى أراده الرافعي بقوله وكذلك الحكم في الجائفة إنما هو عدم إسقاط واجبها وهو الدية. قوله: ولو قطع من له ستة أصابع يد معتدلة وقال أهل الخبرة: إن

الست كلها أصلية؛ وذلك بأن انفتقت الأصابع بتقدير العزيز العليم إلى ستة [أجزاء] متساوية في القوة والعمل فللمجنى عليه أن يلتقط بها خمسًا على الولاء من أىّ جانب شاء. هكذا أطلق. ولك أن تقول: إن لم تكن الست المفروضة على مقطع الخمس المعهودة وهيئاتها فهذا لعله قريب، وإن كانت على تقطيعها فمعلوم أن صورة الإبهام من الخمس تباين صورة سائرها، فإن كانت التي تشبه الإبهام على الطرف فينبغي أن تلتقط الخمس من ذلك الجانب الآخر. قال الإمام: ويختلج في النفس أن يقال: ليس له لفظ الخمس لوقوع الست على نظم يخالف نظم الخمس المعتدلة، وغموض القطع فيها ثم حقه لا يتوفر بقطع الخمس منها لأنها خمسة أسداس اليد ويده مقطوعة بتمامها فله مع ذلك سدس الدية لكن يحط من السدس شيء لأن الخمس الملقوطة وإن كانت خمسة أسداس فهي في الصورة كالخمس المعتدلة. انتهى. وما ذكره من عدم التقاط الخمس من إسناده إلى احتمال الإمام فقط تابعه عليه أيضًا في "الروضة"، وقد جزم بذلك القاضي في "تعليقه" قال: لأن في كل أصبع نقصانا من وجه وزيادة من وجه، وتلك الزيادة لم تكن دون حقه فيؤدى إلى أن يأخذ غير حقه فلا يجوز، فإن بادر وقطع الكف ألزمناه حكومة لمكان الزيادة التي كانت في حلقة يد الجاني، وإن قطع خمسًا منها فقد استوفي خمسة أسداس اليد ويبقي له سدس دية اليد ويحط من ذلك شيء لتكون حكومة لزيادة الحلقة فيما استوفي. هذا كلامه. والعجب من الإمام في عدم وقوفه عليه مع أن مادة "النهاية" من تعليقه.

قوله في المسألة: لو بادر المجني عليه وقطع الست قال صاحب "التهذيب": يعزر ولا شيء عليه، ولو قلت: يلزمه شيء لزيادة الصورة، لم يبعد، وهو القدر المحطوط من سدس الدية الواحدة مع قطع الخمس. انتهى كلامه. [وتابعه] في "الروضة" على ذلك، وما أبداه احتمالًا قد جزم به القاضي الحسين في "تعليقه"، وقد تقدم ذكره فيما نقلناه عنه في المسألة السابقة وهو القياس الواضح فتعين العمل به لاسيما أن القاضي المذكور أجل من [تلميذه] البغوي. قوله في "الروضة": المستحب في قصاص الجروح والأطراف التأخير إلى الاندمال، فلو طلب المستحق الاقتصاص في الحال مكن منه على المذهب والمنصوص. ولو طلب الأرش لم يمكن منه على المذهب والمنصوص. وقيل: في التعجيل في المال والقصاص قولان، فإن قلنا: يعجل المال، ففى القدر المعجل وجهان: أحدهما: تعجل أروش الجراحات وديات الأطراف وإن كثرت فإن حصلت سراية استرد. والثاني: لا تعجل إلا دية نفس لاحتمال السراية. قلت: الثاني أصح، والله أعلم. في كلامه -رحمه الله- أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يصحح شيئًا من الطريقين لا في القصاص ولا في المال، وإنما صحح أنه يجاب إلى القصاص ولا يجاب إلى المال ولكنه لما فصل الخلاف لم يصحح منه شيئًا. الثاني: أن تصحيحه هنا لطريقة القطع في المال يخالف ما ذكره في آخر الكتاب فإنه جزم هناك بطريقة القولين. وفي المسألة كلام أخر نذكره هناك إن شاء الله تعالى.

مسائل الاختلاف الواقعة بين الجاني والمجني عليه أو وليه

قال -رحمه الله-: هذه مسائل الاختلاف الواقعة بين الجاني والمجني عليه أو وليه قوله: منها لو قدّ ملفوفًا في ثوب وقال: كان ميتًا فقال الولي كان حيًا فالمصدق الولي في أظهر القولين. زاد في "الروضة" على هذا فقال: وإذا صدقنا الولي فالواجب الدية دون القصاص ذكره البغوي والمحاملي، وقال المتولي: هو على الخلاف في استحقاق القود بالقسامة. انتهى. وحاصل ما ذكره من "زوائده" تصحيح عدم القصاص، أما على قول البغوي والمحاملي فواضح، وأما على قول المتولي فلأن الأصح أن القسامة لا يجب فيها القصاص. إذا علمت ذلك فقد ذكر بعد ذلك في آخر باب الشهادة على الدم ما يقتضي أن الأكثرين على خلاف المذكور هنا وسوف أذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى، فراجعه. قوله: قال الإمام: تلقيت من كلام الأصحاب في الظاهر والباطن وجهين: أحدهما: أن الباطن ما يجب ستره عن الأعين، وأليقهما بفقه الفصل: أن الباطن ما يعتاد ستره إقامة للمروءة، والظاهر بخلافه. انتهى. والتعبير بالأليق هو من لفظ الإمام. إذا علمت ذلك فقد اختصره في "الروضة" بقوله: والعضو الباطن ما يعتاد سترة مروءة، وقيل: ما يجب وهو العورة، والظاهر ما سواه، وفيه أمران:

أحدهما: إيهامه أن الترجيح للرافعي، وليس كذلك. الثاني: أنه لم يبين المراد من الوجوب على الوجه الثاني هل هو الوجوب في الصلاة أو عن الأعين؟ ويظهر أثر ذلك في المرأة؛ فإن عورتها في الصلاة معلومة، وفي النظر كعورة الرجل؛ ولهذا يجوز للمرأة والمحارم ونحوهم أن ينظروا منها لما عدا ما بين السرة والركبة، وإنما حرم على الأجنبي ما عدا الوجه والكفين لخوف الوقوع في المحذور، وتعبير الرافعي يدل على الثاني فإنه قال: أحدهما: أن الباطن ما يجب سترة عن الأعين. قوله: الرابع: إذا اختلفا، فعن بعضهم إطلاق الخلاف في الشك، واستدرك الإمام فقال: من أنكر أصل العضو أنكر أصل الجناية فيقطع بتصديقه، وإنما موضع الخلاف ما إذا اتفقا على أصل العضو والجناية عليه. انتهى. وما ذكره الإمام وأقره عليه قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وإنكارهم لهذا التصوير عجيب؛ فإن ذلك يتصور بما إذا اتفقا على أنه ضربه بالسيف ما يحاذي المرفق مثلًا أو بعده بأصبع أو غيره إلى أن بلغ بالضرب حدًا لو كانت اليد موجودة لقطعته، وأيضًا فإنه لا يلزم من إنكار أصل العضو إنكار وجود شيء ثابت في محله وردت الجناية عليه من سلعة ليست على صورة العضو أو على صورته إلا أنها زائدة. قوله: ولو قطع إحدي يديه ومات فقال الجاني مات بسبب آخر من قتل أو شُرب سم موحٍ وليس علي] إلا نصف الدية، وقال الولي: مات بالسراية وعليك دية تامة فوجهان؛ قال في "التهذيب": أصحهما أن القول قول الولي لأن الأصل أنه لم يوجد سبب آخر. انتهى. صحح النووي في أصل "الروضة" ما قاله صاحب "التهذيب"

ويضعفه تصديق الولي أيضًا في عكسه على الصحيح، وذلك كما لو قطع يديه ورجليه فمات وقال الجاني مات بالسراية فعلىّ دية واحدة فقال الولي بل بسبب آخر. قوله من "زوائده": لو قطع أصبعه فداوي جرحه وسقطت الكف فقال الجاني تآكل بالدواء وقال المجني عليه. بل تآكل بسبب القطع. قال المتولي: نسأل أهل الخبرة فإن قالوا: هذا الدواء يأكل اللحم الحي والميت صدق الجاني وإن قالوا لا يأكل الحى صدق المجنى عليه، وإن اشتبه الحال صدق المجني عليه. انتهى. هذه المسألة قد سبق ذكرها من كلام الرافعي في آخر باب مساواة القتيل للقاتل بهذا التفصيل بعينه.

حكم القصاص

قال -رحمه الله-: الفصل الثاني: في حكم القصاص وفيه بابان: الباب الأول في استيفاء القصاص وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول فيمن يلي الاستيفاء قوله في الروضة: ولو قتل من ليس له وارث خاص فهل للسلطان أن يقتص من قاتله أم يتعين أخذ الدية؟ فيه قولان سبقا في كتاب اللقيط. انتهى. وقد سبق منه في اللقيط طريقان: أحدهما: هذه، والثاني: طريقة القطع وهي التي صححها الرافعي سالم من هذا الاختلاف كما تقدم إيضاحه هناك. قوله: وذكر ابن الصباغ أن الحاكم ليس له أخذ مال الغائب المغصوب، وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه ويشعر بأنه يأخذه ويحفظه له. انتهى. واعلم أن قبض الحاكم أموال الغائبين ديونًا كانت أو أعيانًا قد ذكره الرافعي في مواضع من هذا الكتاب، واختلف فيه كلامه وكلام "الروضة" أيضا وقد سبق إيضاحه وبيان ما عليه الفتوي في أول التفليس فراجعه. قوله: وإذا ثبت القصاص لجماعة اقتص منهم واحد بالقرعة. ثم قال: وهل يدخل في القرعة من يعجز عن الاستيفاء كالشيوخ والصبيان والنسوة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه صاحب حق فإن خرجت له القرعة استناب من يقدر عليه. والثاني: لا؛ لأنه ليس أهلًا للاستيفاء والقرعة إنما تجرى بين المستويين في الأهلية. والأرجح الأول عند صاحب "التهذيب"، والثاني عند القاضي ابن كج وأبي الفرج والإمام وغيرهم، وعن بعض الأصحاب طريقة قاطعة به. انتهى كلامه. فيه أمور:

أحدها: أن تعبيره بالصبيان سهو ولذلك حذفه من "الروضة" لأن المستحقين إذا كان فيهم صبى لا يقتل الجاني إلا بعد بلوغه ومطالبته، وقد يحمل ذلك على ما إذا حكم بالقتل حاكم يرى إجابة البالغ إذا طلبه. الأمر الثاني: أن هذا الكلام يقتضي أن الأكثرين على عدم الدخول؛ ولذلك صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" فقال: أظهرهما المنع؛ وقطع به بعضهم. هذا لفظه، وصحح عكس ذلك في المحرر والغريب أنه عبر بالأظهر أيضًا فقال: والأظهر أنه يدخل في القرعة من يعجز عن الاستيفاء كالشيخ والمرأة، فإذا خرجت له استناب. هذه عبارته. وقد وقع هذا الاختلاف للنووي أيضًا فصحح في "المنهاج": أنه يدخل وقال في "الروضة": أصحهما عند الأكثرين لا يدخل. واعلم أن هذه المسألة قد نص عليها الشافعي في "الأم" وصرح بأن العاجز لا يدخل فقال في باب تشاح الأولياء على القصاص ما نصه: ولا يقرع لامرأة ولا يدعها وقتله لأن الأغلب أنها لا تقدر على قتله إلا بتعذيبه، وكذلك لو كان فيهم أشل اليمنى أو ضعيف أو مريض لا يقدر على قتله إلا بتعذيبه أقرع بين من يقدر على قتله ولا يعذبه بالقتل هذا لفظ الشافعي بحروفه ومن الأم نقلته. وذكر بعده بدون صفحة مسألة قريبة من مسألتنا فقال: قال الشافعي: وإذا اقترع الولاة فخرجت قرعة أحدهم وهو يضعف عن قتله أعيدت القرعة على الباقين، وهكذا تعاد أبدًا حتى تخرج على من يقوى قلبه. انتهى. وصورة هذا في صحيح يجبن عن الاستيفاء ونحو ذلك. الأمر الثالث: أن النووي قد حذف من "الروضة" الطريقة بالمنع المذكورة في كلام الرافعي، هذا مع أن الرافعي قد ذكرها مرتين؛ مرة عند حكاية الخلاف، ومرة في آخر المسألة عند الكلام على إعلام عبارة "الوجيز".

واعلم أن القاضي الحسين في "تعليقه" قال: إن المرأة إذا كانت جلدة قوية كان لها أن تستوفي القصاص؛ ذكره في المسألة المعقودة لإرث المرأة القصاص. قوله: وإذا قتل رجلًا له ابنان فبادر أحد الإبنين بقتل الجاني، نظر: إن قتله قبل عفو أخيه فلا قصاص في أظهر القولين لمعنيين أظهرهما أنه صاحب حق في المسبوق فتكون شبهة، والثاني أن من علماء المدينة من ذهب إلى أنه يجوز لكل واحد من الورثة الانفراد عن الباقين أم لا. وإن قتل بعد عفو الأخ وهو عالم بعفوه فإن لم يحكم الحاكم بسقوط القود فيترتب عليه ما قبل العفو، فإن أوجبناه هناك ففيما هنا أولى وإن لم نوجبه فوجهان يبنيان على المعنيين إن عللنا بأنه صاحب حق وجب لسقوط الحق وهو الأصح، وإن عللنا بشبهة الاختلاف فهو قائم إقصاء وإن حكم الحاكم بالسقوط فعليه القصاص قولًا واحدًا لانتفاء المعنيين، وإن كان جاهلًا بالعفو يترتب على ما إذا كان عالمًا، فإن لم نوجب القصاص عند العلم فعند الجهل أولى، وإن أوجبناه عند العلم فوجهان على الخلاف فيما إذا قتل من عرفه مرتدًا، وقد مر أن الأظهر الوجوب. انتهى كلامه. لم يتعرض -رحمه الله- في القسم الأخير وهو حالة الجهل إلى التفصيل بين أن يحكم الحاكم أم لا؟ كما تعرض له في حالة العلم، والمنقول فيه أن القصاص يجب بلا خلاف. كذا صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. قوله: وحيث قلنا: لا قصاص عليه، فللأخ الذى لم يبادر نصف الدية، وممن يأخذ؟ فيه قولان: أحدهما: من أخيه المقتص لأنه استوفي حق أخيه مع حق نفسه فصار كما إذا أودع إنسان وديعة ومات عن ابنين فأتلفها أحدهما. وأصحهما من تركة الجاني لأن القائل فيما وراء حقه كالأجنبى، وفي

قول مخرج أنه يتخير بينهما، فإن قلنا: إنه على أخيه فإن أخاه برئ، ولو أن وارث الجاني ابن المبادر عن الدية فلا يسقط النصف الذى ثبت عليه لأخيه، وأما النصف الثابت للوارث فينبني على أن التقاضى في الديتين هل يحصل بنفس الوجوب؟ ؛ إن قلنا نعم؛ فالعفو لغو، وإن قلنا لابد من التراضي فيصح الإبراء ويسقط ما ثبت للوارث على الابن المبادر ويبقي للابن القاتل النصف في تركة الجاني على المبادر دية تامة وله في تركة الجاني نصف الدية فيقع في التقاض .. إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من بقاء حق الابن المبادر قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو عجيب جدًا؛ فإنه لا يوافق إلا المعنى الضعيف من المعنيين المذكورين في أول المسألة وهو قول بعض علماء المدينة، لا على المعنى الذى صححه وهو أنه صاحب حق في المستوفى بل قد ذكر في هذه المسألة وفي التي قبلها مواضع تناقضه. منها: تعبيره في أول المسألة بقوله لأنه استوفى حق أخيه مع حق نفسه. ومنها تنظيرهم بالوديعة المشتركة إذا أتلفها. ثم إن الموجود في كتب المذهب خلافه؛ فقد نص في "التنبيه" (¬1) على أنه يكون مستوفيًا لحقه، وكذلك إمام الحرمين في "النهاية" وابن الصباغ في "الشامل" والغزالي في "البسيط"، ومجلى في "الذخائر" وغيرهم. وقال في "التتمة": إنه الصحيح، قال: لأن له فيه شركاء فصار كما لو اشتريا شيئًا فباعه أحد المشترين. قال: ومن علل من أصحابنا سقوط القصاص باختلاف العلماء ولم ¬

_ (¬1) انظر: "التنبيه" (ص/ 218).

يجعل للشركة تأثيرًا لا يكون مستوفيًا. هذا كلامه، والوجه الذى حكاه غريب في النقل، وهذا يخالف ما لو قبله بعد عفو أخيه فإنه لما لم يبق له حق في القصاص لم يكن مستوفيًا لحقه فأوجبنا الدية بكمالها. الأمر الثاني: أنه جازم هنا بحصول التقاض ولكنه متردد في أنه هل يتوقف على الرضا أم لا؟ وقد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب فإنهما قد ذكرا في الكلام على التقاض وهو في باب الكتابة أن شرط التقاض أن يكون الدينان نقدين وضعفا تعديه إلى المثليات وأضعف منه عندهما تعديه إلى المتقومات، وهو نظير مسألتنا؛ لأن الواجب هنا هو الإبل وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لغرض يتعلق به. قوله: فإن عفى أحد الإبنين على مال ثم بادر الآخر بعد العفو قال الرافعي: فيعود الخلاف في أن الأخ العافي ممن يأخذ؟ انتهى ملخصًا. وهذا الذى ذكره من عود الخلاف بعد العفو قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غير مستقيم لأن حقه من عينه قد سقط بالعفو فكيف يتخيل مطالبة متلفها؟ وأيضًا فيلزم ما يجمع على أخيه بين قتل ونصف دية، وذلك بدل ونصف كمبدل واحد، وقد ذكر المسألة بعد ذلك في الكلام على العفو على الصواب فقال في الكلام على استيفاء الوكيل بعد عفو الموكل: إنه إذا وكل رجلًا في القصاص ثم عفى عنه على مال ثم اقتص الوكيل غير عالم بالعفو فلا قصاص على المنصوص، ولكن تجب عليه الدية في أصح القولين، ثم قال ما نصه: ثم الدية الواجبة بقتل الوكيل لورثة الجاني لا تعلق للموكل بها بخلاف ما إذا ثبت القصاص لابنين فبادر أحدهما بقتله فإن فيه قولين، وفرق بينهما بأن القاتل هنا أتلف حق أخيه فتعلق الأخ ببدله وهاهنا قتله بعد سقوط حقه، وحكى ابن كج أن بعض

الأصحاب جعله على الخلاف في الابنين. هذا كلامه. وحاصله أن الأخ إذا قتل بعد العفو أنه لا يجري القولان لأنه لم يتلف حق أخيه، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان الفرق المذكور فاسدًا. قوله: والواحد إذا قتل جماعة قتل بالأول، فلو كان وليه غائبًا أو صبيًا أو مجنونًا حبس القاتل إلى أن يحضر ولى الأول أو يكمل حاله، وفي "إبانة" الفوراني قول عن رواية حرملة أن للثاني أن يقتص ويصير الحضور والكمال مرجحًا. ثم قال بعده: وإن قتلهم معًا أقرع بينهم فلو كان ولى بعض القتلى غائبًا أو صبيًا أو مجنونًا فالقياس الظاهر: الانتظار إذا قلنا: لابد من الإقراع، وفي "الوسيط" عن رواية حرملة: أن للحاضر والكامل أن يقتص ويكون الحضور والكمال مرجحًا كالقرعة. انتهى كلامه. وهو كالصريح في استغراب النقل الأخير عن حرملة دون الأول فإنه ضعف الأخير واقتصر على نقله عن "الوسيط"، وذكر في "الروضة" ما هو أبلغ منه فإنه جزم في الأول بحكاية قولين وقطع في الثاني بالانتظار فإنه عبر عنه بالمذهب. وما ذكراه غريب مؤذن بعدم التأمل لما سبق منهما هاهنا؛ فإن الغائب ونحوه في الصورة الأولى قد ثبت لهم التقديم بالقتل وليس للنافين منازعتهم فيه لأن الفرض أن [مورثهم] قد سبق [قتله]، وفي الصورة الثانية لم يثبت لهم ذلك. فإذا لم ينظر لهم في الصورة الأولى لزم أن لا ينظر أيضًا في الصورة الثانية بطريق الأولى. ولاشك أن الغزالي كان يلازم النظر في الإبانة لكونه أخذ ترتيب كتبه

من ترتيبها فرأي فيه النقل في المسألة الأولى فاستعمله في بعض ما دخل فيه من الصور، وقد تفطن الرافعي لشيء مما ذكرته في الكلام على عبارة "الوجيز". قوله: ثم الكلام في فروع: أحدها: العبد إذا قتل جماعة أحرارًا أو عبيدًا هل يقتل بجميعهم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لأن في تخصيصه ببعضهم تضييع حق الآخرين، ولأن العبد لو قتل جماعة خطأ يتضاربون في رقبته فكذلك في القصاص، بخلاف الحر فإن جناياته لا تتداخل إذا كانت خطأ فكذلك في القصاص، وهذا ما أورده ابن كج. وأصحهما عند الإمام والروياني وغيرهما أنه لا يقتل بهم جميعًا ويكون بمنزلة الحر المعسر يقتل بواحد وللباقين الديات في ذمته إلى أن يلقي الله تعالى. انتهى كلامه. هذا الكلام مقتضاه تصحيح الثاني، وقد صرح به في "الروضة" فقال: وأصحهما عند الأكثرين كذا وكذا. وما ذكره غريب فقد ذكر هو في آخر باب العاقلة في الكلام على جناية العبد أن المال المتعلق برقبة العبد لا يتعلق بذمته على الأصح عند الأكثرين، وهو اختلاف عجيب بالنسبة إلى "الروضة"؛ فإن الرافعي لم يتعرض للأكثرين في الموضعين، لا جرم أن الإمام مشى في الموضعين على نمط واحد، ولما حكى -أعني الإمام- الوجه الأخير قال: وزعم هؤلاء أن هذا يخرج على خلاف سيأتي في أن العبد هل له ذمة في الجنايات؟ . قوله: لينصب الإمام من يقيم الحدود ويستوفي القصاص ويرزقه من خمس الخمس، فإن تعذر فالأجرة في القصاص على المقتص منه، وقيل على المستحق، وأما في حدود الله تعالى وقطع السرقة فعلى المحدود أيضًا والسارق، وقيل: في بيت المال.

ثم قال: وفي كلام الأئمة ترتيب الخلاف في أجرة الجلاد في الحد على الخلاف في القصاص، فإن قلنا: تجب في بيت المال، فأجرة الجلاد في الحد على بيت المال بطريق الأولى. وإن قلنا: إنها على المقتص منه، ففى الحدود تجب على المحدود أو في بيت المال؟ فيه وجهان: انتهى كلامه. وهو غير منتظم؛ فإن كلامه الأول ليس فيه إثبات قائل بأن أجرة القصاص في بيت المال، وكلامه آخرًا يدل على إثباته أن الخلاف في الحد مرتب عليه، وقد أسقط النووي من "الروضة" هذا الوجه فلم يذكره، وسبب إسقاطه عدم انتظام كلام الرافعي له، ولا شك أن الرافعي ظن أنه قدمه ففرع عليه؛ فتلخص أن كلًا منهما يرد عليه شيء. قوله: وإذا قلنا: بالوجوب في بيت المال والتصوير فيما إذا لم يكن في بيت المال ما يمكن صرفه إليه فيستقرض الإمام على بيت المال إلى أن يجد سعة. قال الروياني: أو يستسخر بأجرة مؤجلة أو يستأجر من يقوم به والاستئجار قريب والاستسخار بعيد، وبتقدير أن يجوز ذلك فيجوز أن يأخذ الأجرة ممن يراه من الأغنياء ويستأجر بها. انتهى كلامه. وما دل عليه من تضعيف التسخير واستبعاده قد جزم به. في نظير المسألة وهو في غسل الميت ناقلًا له عن جماعة؛ ذكر ذلك في الباب الثاني في كيفية الجهاد فقال: وأطلق مطلقون القول بأنه إذا عين الإمام رجلًا وألزمه غسل الميت ودفنه لم يكن لذلك المقهور أجرة، واستدرك الإمام فقال: هذا إذا لم يكن للميت تركة ولا في بيت المال متسع والتفصيل حسن. هذا كلامه. قوله: ولو استقل المقذوف باستيفاء حد القذف بإذن القاذف وبغير

إذنه ففي الاعتداد به وجهان. انتهى. والصحيح عدم الاعتداد؛ كذا صححه الرافعي في باب حد القاذف وتابعه عليه في الروضة وصرح بتضعيف مقابله فقال: وفي وجه ضعيف يقع الموقع. هذه عبارة "الروضة". قوله: ولو قال الجاني: إنما أقتص من نفسي لم يمكن في أظهر الوجهين. ثم قال: يمكن السارق إذا قال: أقطع بنفسى، وفيه وجهان يحسن ترتيبهما على الخلاف في أنه هل يمكن من الاقتصاص من نفسه والتمكين هاهنا أولى؛ لأن الغرض التنكيل ويحصل ذلك بفعل السارق أو هو أشد وهناك الغرض التشفي. انتهى كلامه. والصحيح في السارق أنه لا يمكن؛ فقد قال الرافعي في أوائل الباب الثاني من أبواب الوكالة: إنه ظاهر المذهب، وتابعه عليه في "الروضة" ورجح هنا في أصل "الروضة" أنه يمكن فقال: وهل يمكن إذا قال: أقطع بنفسى؟ وجهان؛ أقربهما: نعم. هذا لفظه. وكأنه توهم أن الأولوية تقتضي تصحيح العكس فصرح به غير مستحضر لما سبق منه في الوكالة فوقع في صريح التناقض.

الفصل الثاني في أن القصاص على الفور

الفصل الثاني في أن القصاص على الفور قوله في الروضة: ولو التجأ الجاني إلى المسجد الحرام، قال الإمام: أو غيره من المساجد، أخرج منه وقتل، لأن هذا تأخير يسير وفيه صيانة للمسجد، وفيه وجه ضعيف أنه تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلًا لتوفية الحق وإقامة للهيبة. قلت: ولو التجأ إلى الكعبة أو إلى بيت ملك لإنسان أخرج قطعًا، والله أعلم. وما ذكره من نفي الخلاف في الكعبة وإخراجها عن باقي المسجد قد خالفه في "التتمة" فقال: لو التجأ إلى المسجد الحرام أو إلى الكعبة أو إلى مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو غيرها من المساجد أخرج واستوفى القصاص، فلو أراد الاستيفاء فيه لم يجز إن لوث المسجد وإلا بأن فرش فيه الأنطاع كره ذلك. هذا كلام "التتمة". قوله: الثالثة: لا يؤخر قصاص الطرف لشدة الحر والبرد ولا لعذر المرض وإن كان محظرًا بخلاف قطع السرقة والجلد في حدود الله تعالى لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة. انتهى كلامه. والتأخير في حدود الله تعالى بالمرض محله إذا كان المرض مرجوًا، فإن لم يرج زواله لم يؤخر له الجلد. كذا صرح به الرافعي في باب حد الزنا، وكلامه هنا ربما يشعر به. قوله: والمرأة الحامل لا تقام عليها حدود الله تعالى قبل الوضع. انتهى.

وإذا وضعت فلابد من انقضاء النفاس أيضًا. كذا جزم به ابن الرفعة في "الكفاية". قوله: وإذا بادر الولي فقتل الحامل أثم، ووجبت غرة إن انفصل الجنين ميتًا. انتهى. تابعه في "الروضة" على تقييد الوجوب بحالة انفصال الجنين، والصحيح على ما صرح به في باب الغرة أن الانفصال لا يشترط حتى إذا قدت نصفين أو شق جوفها بعد القتل فتحققنا الجنين أوجبنا الغرة. قوله: فلو بادر مستحق القصاص والحالة هذه -أي بعد الوضع وقبل سقي اللبا أو قبل وجود مرضعة ونحو ذلك- فقتلها فمات الطفل ففي تعليق الشيخ أبي حامد أنه قاتل عمدًا فيلزمه القود إلحاقًا بما إذا حبس رجلًا في بيت ومنعه الطعام والشراب وكذا حكاه القاضي ابن كج عن النص وعن الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد. فقلت له: أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته فمات جوعًا أو بردًا لا ضمان عليه؟ ، فما الفرق؟ فتوقف، ثم لما عاد إلى الدرس قال: لا ضمان فيهما جميعًا، وهذا مصير إلى نفي القصاص بطريق الأولى. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن سليمًا الرازي قد نقل في "تعليقه" عن الشيخ أبي حامد وجوب الدية والكفارة وعلله بقوله: لأن الجنين يحيا بحياة الأم ويموت بموتها، فإذا قتل الأم فقد صار قاتلًا له، ولأنه كالرجل يحبس غيره بكرة ولا يطعمه ولا يسقيه حتى يموت. الأمر الثاني: أن ما دلت عليه هذه الحكاية التي نقلها -رحمه الله- عن

ابن أبي هريرة من استقرار جوابه على عدم الضمان قد نقلها عنه القاضي أبو الطيب في "المجرد"، ثم رأيت في باب القصاص بالسيف من تعليق القاضي المذكور بسنده عكسه ونقله عنه ابن الرفعة في "المطلب" وفي "الكفاية" أيضًا فقال -أعني القاضي-: سمعت أبا علىّ بن أبي هريرة يقول: لا يضمنه لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ما يقوم به فهو بمنزلة ما لو أخذ زاده في البرية فمات من الجوع فإنه لا يضمنه كذلك هاهنا. قال الماسرجسي: ثم سمعته يقول بعد ذلك: إن عليه القصاص فإنه لو حبس رجلا في بيت ومنعه الطعام والشراب فمات وجب عليه القصاص كذلك هاهنا. انتهى كلامه. وقد اقتضى كلام الرافعي الجزم بأن منع الزاد من غير حبس لا يقتضي وجوب الضمان، وجزم الماوردي في باب الأطعمة في الكلام على المضطر بوجوب الدية في الحر. قوله: ولو ادعت المرأة أنها حامل ولم تقم بينة على ظهور [مخائل] (¬1) الحمل فقال الإصطخري: لا يقبل قولها لأن الأصل عدمه، وقال الأكثرون: يقبل لأن [الحمل] له أمارات خفية تختص الحامل بمعرفتها وتتعذر إقامة البينة عليها فقبلنا قولها فيه كالحيض. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه من التعذر في الحيض قد تناقض فيه كلامهما وأوضحته في الشهادات، فراجعه. قوله في المسألة: وذكر في "الوسيط" أنا إذا قلنا بالوجه الأول فلا يمكن استيفاء القصاص من منكوحة يخالطها زوجها، فإن كان مراده فيما إذا ادعت الحمل فمسلم، وإن كان المراد منع القصاص بمجرد الوطء من غير دعواها الحمل فهو ممنوع لأن الأصل عدمه. انتهى. ¬

_ (¬1) أي علامات.

ذكر مثله في "الروضة" فيه أمران: أحدهما: أن نقله عن الوسيط تفريع ذلك على الوجه الأول سهو، بل صوابه وهو المذكور فيه إنما هو تفريعه على الثاني فهو واضح أيضًا. الأمر الثاني: أن إنكاره منع القصاص لمجرد دعوى الحمل مردود مخالف لما سبق في الفرائض فإنه قد قال: ومهما ظهرت مخائل الحمل فلابد من التوقف، وإن لم تظهر مخائله وادعته المرأة ووصفت علامات خفية ففيه [تردد] للإمام والظاهر الاعتماد على قولها، وطرد التردد فيما إذا لم تدعه ولكنها قريبة عهد بوطء واحتمال الحمل قريب. هذا كلامه. واعلم أن الماوردي قال: لا يقبل قول المرأة إلا باليمين، وادعى ابن الرفعة أنه لا خلاف فيه وهو كلام غير محرر، بل إن قلنا بامتناع القول بمجرد الوطء من غير دعوى الحمل فلا يمين أصلًا، وإن قلنا لابد من دعوى الحمل فادعته فيتجه ألا يتوقف على اليمين، لأن الحق هنا للغير وهو الجنين، ولا شك أن المرأة يجب عليها الإخبار بالحمل، فإن سكتت عنه فمات وجب الضمان على عاقلتها في وجه غريب حكاه ابن داود في "شرح المختصر"، والمتجه أن الزوج لا يمنع من وطء المرأة وإن كان يؤدى إلى منع القصاص على ما سبق. قوله في "الروضة": فرع: إذا قتلت الحامل على خلاف ما أمرناه نظر: إن بادر إليه الولي مستقلًا أثم ووجبت غرة الجنين إن انفصل ميتًا وتكون على عاقلة الولي، وإن انفصل حيًا متألمًا فمات وجبت الدية. وإن أذن له الإمام في قتلها نظر إن كانا عالمين أو جاهلين فالصحيح المنصوص أن الضمان على الإمام لأن البحث عليه وهو الآمر به، وقيل: على الولي لأنه المباشر، وقيل: عليهما بالسوية. انتهى كلامه. وقد ذكر الرافعي طريقة قاطعة نقلها عن الشيخ أبي حامد أن الضمان

يجب على الإمام عند جهلهما، وأسقط النووي هذه الطريقة من "الروضة". قوله: وإن كان الإمام عالمًا والولى جاهلًا فإن أوجبنا على الإمام إذا علما فهاهنا أولى وإلا فوجهان، وإن كان بالعكس فالمشهور وجوبه على الولى، وقيل: على الإمام. ثم قال -أعني الرافعي- بعد ذكره للأقسام الأربعة ما نصه: ويخرج مما سقناه أربعة أوجه: وجوب الضمان على الإمام مطلقًا، ووجوبه على الولى مطلقًا، والشركة مطلقًا، ووجوبه على الإمام إذا كانا عالمين أو جاهلين وعلى الولى إذا اختص بالجهل. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية وجه بالاشتراك مطلقًا فسهو سلمت منه "الروضة" فإنه لم يتقدم له ذكر في القسم الأخير وهو ما إذا كان الإمام جاهلًا والولى عالمًا بل ذكر أن المشهور أنه على الولى، وقيل على الإمام، ولا يأتي أيضًا في العكس وهو ما إذا كان الإمام وحده عالمًا فإنه قال: إن قلنا: يجب الضمان على الإمام فيما لو كانا عالمين فهاهنا أولى وإلا فوجهان من الخلاف فيمن عليه قرار الضمان في تقديم الطعام. ومقتضى هذا أنا جعلناه على المباشر اختص به أولى أو على المقدم اختص به الإمام فلا شركة؛ فتلخص أن وجه الشركة مطلقًا إنما يأتي مع علمهما وجهلهما. قوله في "الروضة": وحيث ضمنا الولى فالغرة على عاقلته والكفارة في ماله، وحيث ضمنا الإمام فإن كان عالمًا ففي ماله وإن كان جاهلًا فعلى القولين في أن ما يجب بخطأ الإمام في الاجتهاد هل هو على عاقلته أم في بيت المال؟ أظهرهما على العاقلة. وإذا قلنا: الدية والغرة في بيت المال، ففي الكفارة وجهان: انتهى كلامه.

وما ذكره في حال علم الإمام صريح في أن الغرة في مال نفسه لا على عاقلته ولا على بيت المال ويدل عليه حكاية القولين في القسم الأخير وهو ما إذا كان جاهلًا أن الغرة والدية هل تجبان في بيت المال أو على عاقلته، وهذا الذي ذكره غلط على العكس مما ذكره الرافعي؛ فإن المجزوم به في الرافعي أنها على عاقلته فإنه قال ما نصه: التفريع حيث أوجبنا الضمان على الولى فالغرة على عاقلته والكفارة في ماله، وحيثما أوجبناه على الإمام فإن كان عالمًا فكذلك وإن كان جاهلًا فعلى القولين. هذه عبارة الرافعي وعلله في أول المسألة بأن الجنين لا يباشر بالجناية ولا يتيقن جناية فإهلاكه خطأ أو شبه عمد، ثم إن النووي قد صرح بالوجوب على عاقلة الجاني مع العلم كما سبق من لفظه فما الذي تخيله في الفرق بينهما؟ وحكى الرافعي في باب ضمان إتلاف الإمام طريقة ضعيفة أنه يأتي مع العلم القولان المذكوران مع الجهل. قوله: ونقل أبو الفرج السرخسي وجهين في أنه هل يعتبر علم الولى مع الإمام والجلاد وقال: أصحهما أنه يعتبر حتى إذا كان عالمًا وهما عالمان بكون الضمان عليهما أثلاثًا. انتهى. والأصح على ما صححه النووي في أصل "الروضة" ما رجحه السرخسي إلا أن إطلاق هذا التصحيح غير مستقيم لأن الأصح فيما إذا كانا عالمين أو جاهلين أن الضمان على الإمام خاصة فكيف يستقيم مع ذلك ما صححه هنا؟ فالصواب تفريع هذه المسألة على القول بالوجوب عليهما إذا كانا عالمين. قوله: هذا كلامنا في ضمان الجنين وأما الأم فلا يجب ضمانها لأنها تلفت في حد أو عقوبة وجب عليها. قال في "التهذيب": هذا إذا ماتت

من ألم الولادة تجب ديتها، وإن بانت منهما تجب نصف ديتها. انتهى كلامه. وهذا الذى ذكره في "التهذيب" لابد منه، وقد أعاد الرافعي المسألة بعد كتاب الحدود في باب ضمان الولادة ثم نقل هذا الاستثناء عن الشيخ أبي حامد وغيره.

الفصل الثالث في كيفية المماثلة

الفصل الثالث في كيفية المماثلة قوله: الثانية: إذا قتله باللواط وهو مما يقتل غالبًا فالأصح وجوب القصاص ثم قتل بدس خشبة في دبره قريبة من السه ويقتل بها، والأصح قتله بالسيف لأنه قتل بفعل محرم في نفسه فأشبه السحر. ثم قال ما نصه: قال في "التتمة": وموضع الوجهين ما إذا كان موتًا متوقعًا من المقابلة بمثل ما فعل أما إذا لم يتوقع وكان موت المجنى عليه لطفوليته ونحوها فلا معنى للمقابلة. انتهى. وما نقله عن المتولى قد صرح به أيضًا الإمام فقال: وهذا إذا كان يظن أنه يهلك به فإن لم يهلك بذلك التحق بالضربات في حق النحيف والجاني لا يهلك بها. هذا كلامه. وذكر الرافعي بعد هذا بدون الورقة عن الإمام كلامًا عامًا تندرج فيه مسألتنا فقال: قال الإمام: لو قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبًا وتيقنًا أو ظننا ظنًا مؤكدًا أن الجاني في جسمه وقوته لا يهلك بتلك الضربات فالوجه القطع بأنه لا يضرب بتلك الضربات، لأنها لا تقتله، وإنما تراعى المماثلة إذا توقعنا حصول الاقتصاص بذلك الطريق ثم بدا له بالآخرة احتمال آخر. انتهى كلامه. واعلم أن التعليل المذكور في منع الاقتصاص بمثل فعلة القاتل في مسألتنا يحتاج إلى تحقيق وتأمل لأن الجنايات كلها محرمة بدون أسبابها؛ فالقاتل بالسيف أو النار أو الماء أو الحجارة ونحوه يحرم قتله أيضًا به لولا المماثلة لاسيما وقد عهدنا جواز إدخال خشبة ونحوها في المحل المذكور لأجل الاحتقان ونحوه.

وله: الثالثة: إذا سقاه خمرًا حتى مات قتل بالسيف في الأصح، فأما البول فعن القاضي الحسين وجهان: أحدهما: أنه كالخمر. والثاني: يسقى البول لأنه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر. انتهى. والأصح الأول. كذا صححه النووي في أصل "الروضة" لا من "زيادته" فاعلمه. قوله: وفي الضرب بالمنقل يراعى الحجر وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر أو قدر النار أو عدد الضربات فعن القفال أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم يؤخذ باليقين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه أهمل موضع الضربات ولابد من اعتباره أيضًا كما في الاستيفاء بالمحدد، وقد صرح بذلك الماوردي وغيره. نعم إن عدل عنه إلى موضع يكون الموت فيه أسرع جاز. الأمر الثاني: أن الرافعي قد صحح في كتاب الشهادات الوجه الثاني ذكر ذلك في باب الرجوع عن الشهادة في الكلام على من شهد بزنا محصن ثم رجع، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لغرض يتعلق به وصححه أيضًا هنا النووي من زوائده ذاهلًا عن تصحيح الرافعي له هناك، وتصحيحهما لذلك في غاية الإشكال لأنا إذا علمنا قدر الحجر فأراد المقتص العدول عنه إلى ما دونه لم يجز كما دل عليه كلام الرافعي المتقدم، وسببه ما فيه من طول التعذيب، فإذا كان التساوى في المقدار شرطًا في جواز الاستيفاء بالحجر وهو غير حاصل عند الشك في مقداره فلا يكون ضربه بالقدر المحقق محققًا جوازه لجواز أن يكون أكبر؛ إذ لا فرق في المنع بين الأكبر والأصغر، فليس الآخذ باليقين هنا متيقن الجواز، فإن ذلك ليس لمن أخذ دون حقه، فظهر بذلك ضعف هذا الوجه بل بطلانه.

قوله: الحالة الثانية: أن تكون الجراحة بحيث لا يقتص منها لو وقعت كالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد فقولان: أظهرهما عند الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين والروياني أنه يستوفى بذلك الطريق تحقيقًا للمماثلة. وأظهرهما عند صاحب التهذيب أنه يعدل إلى الشق لأن ما لا قصاص فيه لا ينضبط ولا يوثق فيه بالمماثلة. انتهى ملخصًا. وحاصله رجحان الأول، وكلامه في "الشرح الصغير" أظهر في ذلك فإنه اقتصر على نقل ترجيحه ولم يذكر ترجيح صاحب "التهذيب" لكن كلام "المحرر" يشعر برجحان الثاني فإنه قال: فيه قولان؛ رجح كثيرون: تعين السيف. هذا لفظه. وقد صرح النووي بالترجيح في اختصاره للكتابين فوقع في صريح التناقض فقال في "الروضة": أظهرهما عند الأكثرين أنه يستوفى بما فعل وصححه أيضًا في "تصحيح التنبيه". وقال في "المنهاج": ولو مات بجائفة أو كسر عضد الحز. وفي قول كفعله. هذا لفظه. ومحل القولين ما قاله الماوردي إذا لم يرد العفو. قال: فإن أراد العمل به مع عفوه عن النفس لم يجز في الصورتين لأنه قد صار بالعفو عن النفس كالمنفرد عن السراية، ونقل الرافعي مثل هذا عن البغوي في الجائفة خاصة وأقره عليه حتى قال: إنه لو أخافه ثم عفى عنه عزر على ما فعل ولم يجبر على قتله. قوله: وإذا وجب القصاص في اليمين فاتفقا على قطع اليسار بدلًا عنها لم يكن بدلًا ولا قصاصًا في اليسار بل تجب ديتها وفي سقوط قصاص اليمين وجهان: أحدهما: لا؛ لفساد المعاوضة.

والثاني: نعم؛ لأن ذلك عفو عن اليمين، قال ابن الصباغ: وهذا أصح. انتهى ملخصًا. والأصح ما رجحه ابن الصباغ فقد قال المتولي: إنه المذهب، والروياني في "البحر" إنه الأصح، وصححه النووي في أصل "الروضة" وقال القاضي حسين: إن علم الحكم لم يسقط وإن ظنه سقط. قوله: فلو أن مستحق القصاص في اليمين طالب الجاني بإخراج اليمين فأخرج يساره فقطعها المستحق، وقال الجاني: دهشت فأخرجت اليسار، وقال القاطع أيضًا: دهشت فلم أدر ما صنعت. قال الإمام: لا يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار لأن الدهشة السالبة للاختيار لا تليق بحال القاطع. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل وجوب القصاص عن الإمام مع أن الإمام لم يتعرض له، والذى قاله الإمام أن الدهش لا يليق بحاله ولابد وأن يكون قطعه صادرًا عن عمد وظن اعتياض أو ظن بأن المخرج يمين. هذا كلامه. ومعناه أن هذا القطع من المفصل المعلوم لا يكون عادة مع الدهش ولا يكون إلا مع العمد، وحينئذ فإما أن يكون ظانًا إجزاء اليسار عن اليمين أو ظانًا أن المخرج هي اليمين، وعلى كل من التقديرين فلا قصاص عند الأصحاب، وفي الأولى احتمال للإمام وفي الثانية وجه ضعيف باتفاقهم؛ فحاصل كلام الإمام أنه لا قصاص، وذكر الغزالي في "البسيط" كما ذكر الإمام. نعم صرح في "الوسيط" بوجوبه، فلعل الرافعي أراده وإنما سبق القلم، وفيما قاله الغزالي نظر، وكلام الإمام أوجه منه. قوله: فرع: ثبت له القصاص في أنملة فقطع من الجانى أنملتين وقال:

أخطأت وتوهمت أنى أقطع أنملة واحدة صدق بيمينه ووجب أرش الأنملة الزائدة، ويكون في ماله أو على العاقلة؟ فيه قولان أو وجهان. قال الروياني: والأصح الأول. انتهى. صحح النووي في أصل "الروضة" ما رجحه الروياني. قوله: وأما إذا وجب قطع اليمين في السرقة فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها فعن النقال وغيره حكاية قول أن الحكم على ما ذكرنا في القصاص، وهذا القول ينسب إلى القديم، ويقال أيضًا أنه مخرج، وظاهر المذهب أنه يكتفى في الحد بما جرى ويسقط قطع اليمين، والفرق أن المقصود من الحد التنكيل والقصاص مبني على المماثلة. ثم قال: واستدرك القاضي الحسين فحمل ما أطلقه الأصحاب على الحالتين الأخيرتين وقال في الحالة الأولى وهي أن يخرج يساره على قصد الإباحة أو البدل وجب ألا يسقط القطع. انتهى. والنقال المذكور هنا بنون بعدها قاف مشددة؛ وهو الحارث بن سريج بالسين المهملة والجيم وقد بينه الرافعي في آخر باب السرقة وسوف أذكر لفظه هناك لغرض يتعلق به، وهذا الشخص قد أوضحت حاله في "الطبقات"، ويجوز أن يكون المذكور هنا إنما هو القفال بقاف ثم فاء، ويكون قد أثبت ما نقله النقال بالنون فإن الروياني في "البحر" في هذا الباب قد نقله عنه إلا أنه بعد نقله عنه صرح بأنه القفال الشاشي فاعلمه. ثم إنه بعد نقله عنه قال: إنه غريب، ومراد الرافعي بالحالتين الأخيرتين أن يقول المخرج ظننتها اليمين أو علمت أنها اليسار وظننت أنها تجزئ.

الباب الثاني في العفو

الباب الثاني في العفو قوله في "الروضة": وفي موجب العمد في النفس والطرف قولان: أظهرهما عند الأكثرين أنه القود المحض والدية بدل منه. والثاني: أنه القصاص أو الدية. انتهى. خالف في "النكت" التي له على "التنبيه" فصحح الثاني، والفتوى على الأول. قوله: ولو عفى عن القود على نصف الدية قال القاضي حسين: هذه معضلة أسهرت الجلة، قال غيره: هو كعفوه عن القود ونصف الدية وهو صحيح. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وهو يقتضي أن القاضي لم يجب فيها بشيء وليس كذلك بل الذي نقله الرافعي عن غيره قد أجاب القاضي به وذكره في تعليقته وصرح بأنه لا خلاف فيه ونقله عنه أيضًا في "الكفاية". والجلة: بكسر الجيم وتشديد اللام تقول العرب مشيخة جلة أي: طاعنون في السن، قاله الجوهري. قوله: لو جرى الصلح عن القصاص على أكثر من الدية من جنسها كما لو صالحه على مائتين من الإبل، فإن قلنا الواجب أحد الأمرين لم يصح الصلح لأنه زيادة على الواجب كالصلح من ألف على ألفين، وإن قلنا الواجب القصاص فوجهان أصحهما الصحة إذ لا معنى للتقدير كبدل الخلع. انتهى.

واعلم أن الرافعي قد قال في آخر الباب: أنه إذا صالح عن القصاص على عبد أو ثوب جاز وإن لم تكن الدية معلومة لهما، فإن تلفت العين قبل القبض أو خرجت مستحقة أو ردها بعيب فلا رجوع إلى القصاص. وهل يرجع بقيمة العين أو بأرش الجناية؟ يبنى على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد أم ضمان اليد، وفيه خلاف ذكرناه في البيع. هذا كلامه. وجزمه بذلك مع الجهل بمقدار الدية يدل على أن المقابل بالعبد والثوب القصاص دون الدية، ويؤيده حكايته للخلاف في أن ذلك المال مضمون ضمان يد أو عقد ولم يلاحظا في ذلك النظر إلى الدية، ومقتضى ذلك أنه لا فرق بين أن تكون قيمته تنقص عن قدر الدية أو تزيد عليها، وإذا ظهر ذلك ظهر أن ما ذكره الرافعي هنا محله إذا كانت الإبل المصالح عليها في الذمة بالصفة الواجبة في جناية العمد فإنه يصح حينئذ أن يقال في تعليل المنع أن في المصالحة على ذلك زيادة على الواجب، أما إذا وقع على إبل بغير تلك الصفة إما معينة أو في الذمة؛ فهي كالمصالحة على العبد والثوب فينبغي الجزم فيها بالصحة على القولين. قال في "المطلب": ويرشد إلى ذلك قول القاضي في كتاب البيع حيث حكى القول بجواز بيع الصلح عن دم العبد أنه مخصوص بما إذا قلنا أن موجب العمد القود عينا أو قلنا الواجب أحد الأمرين وصرح بالمصالحة عن القود دون ما إذا صرح بالمصالحة عن الدية. قوله: الثانية: قطع عضوًا من شخص فقال: عفوت عن هذه الجناية ولم يزد، فإن اندملت فعن نصه في "الأم": أنه عفو عن القود، وعن الأصحاب أنه مفرع على قولنا أن موجب العمد القود.

فإن قلنا: موجبه أحد الأمرين، ففي بقاء الدية احتمالان للروياني. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقل الاحتمالين فقط عن الروياني مع أن صاحب "الحاوي" قد صرح بالمسألة وجزم بأنا إذا فرعنا على هذا القول كان عفوًا عنهما جميعًا. ثم إن الاحتمالين قد سبق الروياني إليهما المحاملي وما نقله الرافعي عن النص والأصحاب ذكره الروياني في "البحر" بعينه فنقله الرافعي منه. قوله: وإن سرى القطع إلى النفس فلا قصاص في النفس على الصحيح وأما المال فقسمان: أحدهما: أرش اليد فينظر إن جرى لفظ الوصية بأن قال: أوصيت له بأرش هذه الجناية، فهي وصية للقاتل، وفي صحتها قولان: أصحهما: الصحة. ثم قال: وإن جرى لفظ العفو أو الإبراء أو الإسقاط فقيل هو كالوصية للاتفاق على أنه يعتبر من الثلث والمذهب أنه يسقط قطعًا لأنه إسقاط ناجز والوصية هو الذى يتعلق بالموت. انتهى كلامه. ثم عبر بعد ذلك في "التفريع" عليه بقوله: فلا يلزمه شيء، وهذا الذى ذكره قد ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وحاصله أن إسقاط الدين عن الوارث مسقط له أيضًا ويرتب عليه عدم اللزوم وإن كان محسوبا من الثلث للمعنى الذى ذكره، وكذلك التمليك الناجز لكنه ذكر في أوائل الوصية في أثناء الكلام على الركن الثاني ما ظاهره المخالفة، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله أيضًا في المسألة: وإن عفى المجنى عليه عنه وعما يحدث منه فسرت إلى النفس سقط ضمان العضو، وفي الباقي قولان: أصحهما لا يبرأ عنه، وهذا هو الخلاف الذي سبق في الإبراء عما لم يجب

وجرى بسبب وجوبه. انتهى ملخصًا. واعلم أن ابن الرفعة قد اعترض هنا على الأصحاب فقال: وعلى من صحح العفو عن أرش الأصبع دون القدر الزائد عليه من الدية لكونه إبراء سؤال لا يكاد يندفع ويحتاج في تقريره إلى تجديد العهد بأصلين: أحدهما: أن الإبراء عن المجهول غير صحيح على المذهب. والثاني: أن الجراحات إذا سرت إلى النفس فأفضى الأمر إلى الدية لا نظر إلى أروشها سواء كانت مقدرة أو غير مقدرة بل الواجب كما قال الإمام دية واحدة عن النفس لا عن الأطراف لا يختلف مذهبنا في ذلك، وإذا كان كذلك فالإبراء حصل عما قابل الأصبع من الدية وقد بينا بآخر الأمر أن لا مقابل لها، ولو قيل بأن لها مقابلا فليس هو عشرًا من الإبل بل جزءًا من الدية وهو مجهول، وقضية ذلك أن لا تصح فيما ادعوه. فإن قلت: إنما صح عن أرش الأصبع لأني أنزل الإبراء منزلة الاقتصاص وهو لو اقتص في الأصبع لسقط من الدية العشر فكذلك إذا عفى على أرشه. قلت: إنما سقط العشر عند القصاص قيمة لأنه استوفى ما قيمته العشر مع أنه لا يمكن رده فصار كما لو تسلم عشرًا بخلاف الإبراء فإنه يقبل الرد. فإن قلت: قد أشار ابن الصباغ في آخر باب القصاص بالسيف إلى شيء يمكن أخذ. الجواب: منه وهو أنا عند السراية في مثل هذه الحالة لا نسقط أرش الجناية السابقة بالسراية بل نوجب بالسراية تمام الدية. قلت: قد تقدم لنا خلاف فيما إذا قطع يده ثم ارتد ومات في الردة أن القصاص في اليد هل يجب أم لا؟ بناء على خلاف حكاه الأصحاب فيما إذا قطع يده فمات أنه يجوز لولى المقتول عندنا قطع يده فإن مات وإلا جز

رقبته. وهل يكون قطع اليد مقصودًا في الاستيفاء أم يكون القطع طريقًا في الاستيفاء؟ والثاني هو الذى فرع عليه الأصحاب؛ فينبغي أن تنبني هذه المسألة على هذا الخلاف. فإن قلنا: إن قطع اليد إنما وجب طريقًا في الاستيفاء، فالمقصود النفس فيكون الواجب ديتها فلا ينظر إلى أرش الطرف. وإن قلنا: وجب مقصودًا، فحينئذ يتجه الجواب. ولك أن تجيب عن هذا بأن محل التردد إذا لم يتعلق بأرش اليد حق لغير مستحق النفس، أما إذا تعلق فذلك الحق لا يسقط عند السراية إلى النفس ولا شيء منه ما أمكن استيفاؤه اتفاقًا وإن وجبت دية النفس. دليله ما لو قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات فإن حق السيد لا يسقط. وإن كان كذلك فالجاني هنا قد تعلق له حق بأرش الأصبع وهو براءته منه، فإذا صار القطع قتلًا ووجبت دية النفس وجب ألا يسقط الحق السابق كما في حق السيد. انتهى كلام ابن الرفعة -رحمه الله-. قوله: إحداها: إذا جنى عبد على حر جناية توجب المال وعفى المجنى عليه عن أرش الجناية ثم مات بالسراية أو اندمل الجرح ثم عفا في مرض الموت فإن أطلق العفو ولم يضفه إلى السيد ولا إلى العبد أثبتت صحته على أن أرش جناية العبد يتعلق برقبته فحسب أو بها وبذمته؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فحسب، فيصح العفو. وإن قلنا: يتعلق بالذمة أيضًا، ففائدة العفو ترجع إلى العبد؛ فينبني على الوصية للقاتل. انتهى.

وما ذكره من التخريج في السراية واندمال الجرح على الوصية للقاتل قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو سهو، بل التخريج خاص بالأولى، وأما في اندمال الجرح فلا؛ إذ لا قتيل فيها ولا قاتل. قوله: وإذا استحق على الجاني قصاص النفس وقصاص الطرف نظر إن كان مستحق هذا غير مستحق ذاك فلا شك في أن عفو أحدهما لا يسقط حق الآخر. ومن صوره أن يقطع عبد يدى عبد فيعتق المجنى عليه ثم يسري القطع إلى نفسه فالقصاص في الطرف للسيد وفي النفس لورثته الأحرار، وإن استحقها واحد فلو عفى عن النفس وأراد القصاص في الطرف فله ذلك لأنهما حقان ثبتا له فالعفو عن أحدهما لا يسقط الآخر. وفي "الوسيط" حكاية وجه أنه إذا عفى عن النفس فقد التزم بقاء الأطراف فيسقط قصاص الطرف، ولم ينقل الإمام في هذه الصورة خلافًا، بل إنما حكاه في عكسه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في أول كلامه من نفى الخلاف حيث عبر بقوله: ولا شك. . . . إلى آخره قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس كذلك فقد ذهب القفال إلى سقوط قصاص الطرف بعفو الورثة عن قصاص النفس في التصوير الذى صور الرافعي به بعينه وهو قطع العبد المتقدم ذكره. كذا حكاه إمام الحرمين في آخر "النهاية" عن الشيخ أبى علىّ عنه، ونقله أيضًا ابن الرفعة في "المطلب" هنا عنه وعلله القفال بأن ورثته الأحرار شركاء في الطرف للسيد، فإذا عفوا عن النفس صاروا بالنسبة إلى الطرف كعفو بعض الشركاء فيسقط، ثم رده الشيخ أبو علىّ بأنه ليس من

باب الشركة بدليل أن مستحق الطرف لا يحتاج في القصاص إلى استئذان مستحق النفس. الأمر الثاني: من الواضحات أن القول في المسألة الثانية بسقوط الطرف عند العفو عن النفس أقرب من القول به في المسألة الأولى فإنه إذا أسقط حق الغير لما يتخيل من الشركة فعند الخلوص له أولى، وقد ظهر لك ذلك أيضا من كلام الرافعي فإنه عبر في الأولى بقوله ولا شك ثم ذكر الثانية وحكى فيها وجهًا عن الغزالي وتوقف فيه. إذا علمت ذلك علمت صحة الوجه الذى ذكره في الوسيط وقائله ومن أين أخذه، وقد توهم النووي أنه لا أصل له فقال في "الروضة" (¬1): وانفرد الغزالي بحكاية وجه. هذا لفظه، وقد صرح في "البسيط" أيضا بهذا الوجه وعلله بما ذكره في "الوسيط". قوله: ولو رمى الولى إلى الجاني ثم عفا قبل الإصابة ففي نفوذه وجهان نقلهما الإمام: أحدهما: أنه لا ينفذ؛ لخروج الأمر عن اختياره. وأظهرهما -وهو المذكور في "الكتاب"- أنه كقطع اليد؛ فإن لم يصبه السهم فالعفو صحيح وإن أصابه فقتله بان أن العفو باطل، وفى وجوب الدية على العافي وجهان سبق ذكرهما في فصل تغير الحال بين الجرح والموت، والأصح عند صاحب "التهذيب" ويحكى عن القفال أنه تلزمه الدية لأنه محقون الدم عند الإصابة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن صاحب "التهذيب" هنا قد صرح -أعنى الرافعي- بتصحيحه في الفصل الذى نص على سبق ذكر الوجهين فيه، وبالغ في تصحيحه مبالغة شديدة وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا هناك ¬

_ (¬1) انظر: "الروضة" (9/ 246).

وأطلق تصحيحه أيضًا هنا. الأمر الثاني: أن ما ذكراه هنا من تصحيح الوجوب بعد جزمهما ببطلان العفو غلط واضح فإنه إذا أبطل العفو لا يتصور إيجاب ضمان الجانى لاستحقاق العافى دية. نعم حكى الغزالي في هذا الباب من "البسيط" في آخر الحالة السادسة وجهًا أن عفوه صحيح مع الإصابة ويلزمه ضمانه بناء على أن الاعتبار بحالة الإصابة؛ وحينئذ فيستقيم بناء المذكور هنا عليه، وكلام الإمام يشير إليه أيضًا، وكلام القاضي حسين صريح فيه. قوله: ولو وكله في القصاص ثم عزله فقتله الوكيل جاهلًا بالعزل وجبت الدية في أصح القولين، وتكون على الوكيل، وقيل: على الموكل. فإن قلنا: على الوكيل، فهل هي حالة أم مؤجلة؟ فيه وجهان حكاهما الإمام. انتهى. والأصح على ما قاله في "الروضة" من "زوائده": أنها حَالّة. قوله: ولو جنت امرأة فتزوجها المجنى عليه على القصاص الثابت عليها، أو قتلت إنسانًا فتزوجها وارثه على القصاص جاز وسقط القصاص، فإن طلقها قبل الدخول فترجع بنصف أرش الجناية أو بنصف مهر المثل؟ فيه قولان: أصحهما -على ما ذكره صاحب التهذيب- هو الأول. انتهى كلامه. ذكر في "المحرر" نحوه أيضًا فقال: إنه الذى رجح من القولين. واعلم أنه إذا أصدقها تعليم سورة فعلمها ثم طلقها قبل الدخول فإنه يرجع عليها بنصف أجرة التعليم. كذا جزم به الرافعي في باب التشطير، وقياسه من هنا أن يكون الأصح ما قاله في "التهذيب" وقد صححه النووي في أصل "الروضة".

قوله نقلًا عن "التتمة": وإنه لو رمى إلى شخص أو جماعة وقصد إصابة واحد منهم -أيّ واحد كان- فأصاب واحدًا ففي وجوب القصاص وجهان؛ لأنه لم يقصد عينه. انتهى كلامه. والصحيح عدم الوجوب. كذا جزم به الرافعي في أول الجنايات في الكلام على تقديم الطعام المسموم، وفي آخرها أيضًا قبيل الكلام على العاقلة، ولفظ كل من الموضعين مذكور في محله، وقد تابعه في "الروضة" عليهما وغفل عنه هاهنا فرجح من "زوائده" الوجوب فقال: قلت: الراجح وجوبه، والله أعلم.

كتاب الديات

كتاب الديات وفيه أبواب: الباب الأول: في دية النفس قوله: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن أعتى الناس على الله تعالى ثلاثة: رجل قَتَلَ في الحرم، ورجل قَتَلَ غير قاتله ورجل قَتَلَ رجلًا بذحل في الجاهلية" (¬1).انتهى. العتو: بالتاء المثناة: وهو التجبر والتكبر، يقول: عتا يعتو عتوًا وعتيا بضم العين وكسرها فهو عات، وأما عثيا بالثاء المثلثة يعثو فمعناه أفسد، وكذلك عثي بكسر الثاء يعثي بفتحها؛ قال تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬2) وأما تعبيره بقوله: غير قاتله، فهو مجاز جعل قاتل مورثه قاتلًا له، ومنه في حديث جبير: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6757)، والحارث في "مسنده" (697)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 410) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد (16423) (16425)، والحاكم (8025)، والطبراني في "الكبير" (22/ 190) حديث (498)، والبيهقى في "الكبرى" (15671)، وابن أبي عاصم في "الآحاد المثاني" (2303) والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 277)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 302) من حديث أبي شريح مرفوعًا. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) البقرة: 60. (¬3) أخرجه البخاري (6769)، ومسلم (1669).

وأما الذحل فهو بذال معجمة وحاء مهملة ساكنة وهو الحقد والعداوة، يقال: طلب بذحله أي: بثأره، والجمع ذحول، قاله الجوهري. والحديث المذكور رواه جماعة منهم ابن عدى في "الكامل". ووقع في الباب هنا ألفاظ. منها: السن الشاغبة بشين وغين معجمة بعدهما باء، وهي الزائدة التى خالف نباتها نبات الأسنان. ومنها الفسطاط بيت من شعر، وفستاط بالتاء، وفساط بسين مشددة لغتان فيهما وكسر الفاء لغة فيهن؛ فتحصلنا على ست لغات. وسميت مدينة مصر بالفسطاط لأنها بنيت في الموضع الذى كانت فيه خمية عمرو بن العاص حين فتحها لما كان أميرًا على الجيش. ومنها المهرية والأرحبية نوعان من الإبل تقدم الكلام عليهما في الزكاة. ومنها الإيالة بهمزة [مكسورة] وياء بنقطتين من تحت وهي السياسة وأما الثندوة فبثاء مثلثة تفتح وتضم بعدها نون ساكنة ثم دال مهملة مضمومة وواو مفتوحة إن فتحت الثاء، وإن ضممتها قلبت الواو همز. قوله: إحداهما: إذا قتل في دار الحرب مسلمًا ظنه كافرًا فلا دية في أصح القولين، فإن أوجبنا فثلاثة أوجه: أحدها: أنها دية العمد؛ لأنه قتله متعمدًا، والثاني: دية شبه العمد؛ لأنه وإن تعمد القتل لم يقصد قتل المسلم، والثالث: دية الخطأ المحض؛ لأنه معذور في الفعل. انتهى. لم يرجح شيئًا في "الروضة" أيضًا والصحيح الثاني؛ فقد نص عليه الشافعي في "الأم" فقال بعد حكايته لهذه الصورة وغيرها ما نصه: وكل هذا عمد خطأ يلزمه اسم الخطأ لأنه أخطأ بأنه لم يعمد قتله وهو مسلم وإن كان عمدًا بالقتل.

واعلم أن الغزالي في "الوجيز" جعل الخلاف ثلاثة أوجه فتبعه عليه الرافعي وقال في "الوسيط": إن الأولين قولان والثالث وجه. قوله: الثانية: إذا رمى إلى مرتد أو حربي فأسلم ثم أصابه السهم ومات فالأصح وجوب الدية وفي كيفيتها الوجوه الثلاثة المذكورة في المسألة الأولى، وهذه الصورة أولى بأن تلحق بالخطأ لأنه لم يكن معصومًا عند الرمى، ويشبه أن يكون هو الأظهر لما ذكرنا أن الإمام رأي القطع به فيما إذا خرج مرتدًا أو حربيًا فأسلم ثم مات، ولكن في كتاب ابن كج أنه إذا أصاب سهمه من أسلم وكان مرتدًا عند الرمى ولم يكن قصد إلى رميه تكون الدية في ماله لا على عاقلته لأنهم يقولون إنك لما أرسلت السهم كان الرمى مهدرًا لا يلزمنا في قتله شيء. انتهى كلامه. وما أشار إليه الرافعي من ترجيح إلحاقه بالخطأ حتى يجب على العاقلة صرح بترجيحه في "الروضة" فقال: إنه الأرجح، وما قالاه مردود بل الصواب أنها في ماله. كذا نص عليه الشافعي في "الأم" فقال ما نصه: إذا ارتد الرجل عن الإسلام فرماه رجل ولم تقع الرمية به حتى أسلم فمات منها فلا قصاص على الرامى وعليه الدية في ماله حالة. كذا أرش الجرح إن لم يمت منها حالا لأنه عمد. هذا لفظه بحروفه. فانظر إلى أمثال هذه النصوص الصريحة الواضحة كيف يغفلون عنها ويتحيلون في ترجيح ضعيف مستند إلى مقالة بعض المتأخرين المعدودين من المصنفين، ثم إن ما استدل به الرافعي من كلام الإمام على الأولوية فليس نظير ما نحن فيه لأن الإهدار هناك اقترن بالسبب الحقيقي وهو الجرح بخلاف مسألتنا، ولهذا لم يضمنه هناك وضمنه هنا. قوله في "الروضة": فرع: الغالب أن الناقة لا تحمل حتى يكون

لها خمس سنين وهي الثنية، ولو حملت قبل ذلك ففي قبولها في الخلفات قولان: أظهرهما: نعم. انتهى كلامه. وما ذكره من جعل الخلاف قولين هو الصواب، وجعله في "المنهاج" وجهين؛ فإنه عبر بلفظ: الأصح، والرافعي سالم من هذا التناقض فإنه عبر في "المحرر" أيضًا بالأصح فقط، وليس له فيه اصطلاح كما تقدم لك ذكره. قوله: ومن لزمته الدية فإنه لم يملك إبلًا فيلزمه من غالب إبل البلد، فإن تعذر لزمه النقل إلا إذا تعدت المسافة، وأشار بعضهم إلى ضبط البعد بمسافة القصر. ثم قال: وقال الإمام: إن زادت مؤنة إحضارها على قيمتها في موضع الغرة لم يلزمه [تحصيلها] وإلا لزمه. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" ومقتضاه أن الإمام يعتبر المؤنة خارجة عن القيمة وليس كذلك وقد صرح الغزالي في "البسيط" باعتبارها لما [شرح] كلام إمامه فقال: ومعنى العجز أن يبعد عن القطر بعدًا تزيد قيمته مع مؤنة النقل على ما يشتري به في المحل المطلوب وهو محل العير زيادة تعد عنتًا في نقل الإبل. هذه عبارته. قوله: وإن ملك إبلًا فإن كانت من غالب إبل البلدة أو القبيلة فذاك، وإن كانت من صنف آخر أخذت أيضًا، وقيل: يجب الغالب. وإذا اعتبرنا إبل من عليه فتنوعت فوجهان: أحدهما: يؤخذ من الأكبر، فإن استويا دفع ما شاء. والثاني: يؤخذ بالقسط. قال: والوجهان مبنيان على القولين في الزكاة إذا تنوع النصاب نوعين فصاعدًا. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أنه يؤخذ من هذا البناء تصحيح الثاني لأنه المصحح في الزكاة، وقد حذف النووي البناء المذكور من "الروضة"، وحكي وجهين فقط، وهو اختصار عجيب. الأمر الثاني: أَنّا إذا فرعنا على الأخذ من الغالب فاستويا فقد جزم هنا بإعطاء ما شاء، والمذكور في صدقة المواشي تفريعًا عليه أنه يتعين الأغبط وقيل يتخير. قوله: الرابعة: إذا كانت الإبل موجودة وعدل من عليه الدية ومستحقها إلى القيمة أو غيرها بالتراضي جاز كما لو أتلف مثليًا وتراضيا على أخذ القيمة مع وجود المثل. قال صاحب "البيان": هكذا أطلقوه، وليكن ذلك مبنيا على أنه يجوز الصلح عن إبل الدية. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله الرافعي هنا من إطلاق الأصحاب وأن صاحب "البيان" قيده واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه من كلام غيره غريب؛ فقد جزم بهذا التخريج قبل هذا الموضع بنحو أربعة أوراق في أوائل المسائل المنثورة التى ختم بها الباب الذى قبل هذا الباب. الأمر الثاني: أنه أيضًا قيد هناك محل الخلاف بتقييد أهمله هاهنا، ولنذكر عبارته ليعلم منه الأمران فنقول: قال: هناك: إذا [جهل] (¬1) أحد المتبايعين عدد الإبل الواجب أو سنها لم يصح البيع وإن علما ذلك ولم يبق إلا الجهل بأوصافها ففي صحة البيع الوجهان أو القولان في صحة الصلح عن إبل الدية على مال كما سبق في الصلح. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: فدية المرأة على النصف من دية الرجل لحديث عمرو بن حزم. ثم قال: ويروي ذلك عن عمر وعثمان وعلىّ والعبادلة ابن مسعود وابن عمر وابن عباس -رضى الله عنهم-. انتهى. واعلم أن تفسير الرافعي العبادلة بهؤلاء قد سبقه إليه الزمخشرى في أوائل "المفصل" (¬1) في الكلام على علم الغلبة، والمشهور أن العبادلة أربعة آباؤهم صحابيون وهم: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن العاص. قال النووي بعد ذكره لهؤلاء الأربعة: أن "صحاح الجوهرى" قد وقع فيها إبدال ابن العاص بابن مسعود. قال: وهو غلط نبهت عليه لئلا يغتر به. كذا قال في "تهذيب الأسماء واللغات" (¬2) في ترجمة ابن الزبير: والذى قاله النووي غلط عجيب فإن الجوهري قد ذكر ابن العاص ولم يذكر ابن مسعود. نعم عليه -أعنى الجوهري- انتقاد من وجه آخر وهو أنه أخرج ابن الزبير منهم وجعلهم ثلاثة فقط فقال في آخر الكلام على لفظه عبد ما نصه: والعبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص. هذا لفظه: والظاهر أن الوهم سرى إلى النووي من "المفصل" للزمخشرى فإن فيه ما عزاه إلى الجوهري من الإتيان بابن مسعود وإسقاط ابن العاص وزاد على ذلك فأسقط ابن الزبير أيضًا كما سبق لك، ولا شك أنه لم يستحضر كلام الرافعي؛ فإنه لو استحضره لنقل عنه؛ إذ وقوعه في ¬

_ (¬1) المفصل (ص/ 28 - 29). (¬2) ترجمة رقم (296).

ذلك أغرب لكونه من الفقهاء المحدثين، والظاهر أنه قلد ما في المفصل لتداول المعجم له غالبًا. قوله من "زوائده" سبق خلاف في الذمى والمرتد إذا قتلا مرتدًا هل تجب الدية؛ فإن أوجبناها فهي دية مجوسي. ذكره البغوي. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي لما حكى هنا الخلاف في وجوب الدية حكى في مقدارها وجهين من غير تصحيح أحدهما: ما اقتصر النووي على حكايته هنا وهو دية مجوسي، ونسبه أيضًا هناك إلى البغوي كما هو منسوب هنا. والثاني: أن الواجب دية مسلم. فعلم بذلك أن هذا النقل لا عمل عليه، وأن على كلام "الروضة" انتقادًا من وجهين وهما ذكره من زوائده لما ذكره الرافعي، وإيهام العمل بهذا النقل الذى لابد له من مرجح من خارج.

الباب الثاني في دية ما دون النفس وهو جرح أو إبانة أو إبطال منفعة

الباب الثاني في دية ما دون النفس وهو جرح أو إبانة أو إبطال منفعة النوع الأول: الجرح اعلم أنه قد ذكر في هذا الباب ألفاظًا منها الهامة بتخفيف الميم وهي الرأس وجمعها هام بحذف التاء، وتطلق الهامة أيضًا على الرئيس. ومنها الخشاء: اسم للعظمة الناتئة خلاف الأذن -أي المرتفعة-، وهي بخاء معجمة مضمومة بعدها شين معجمة مشدودة ثم همزة ممدودة، وزنه فعلاء بفتح العين على وزن الحبلاء ولكن سكن للإدغام. قاله [الجوهري]. ومنها القمحدوة: بقاف ثم ميم مفتوحتين ثم حاء مهملة ساكنة ثم دال مهملة مضمومة ثم واو مفتوحة ثم هاء؛ هي ما خلف الرأس، وجمعها: قماحد، والميم زائدة. قاله الجوهرى، ونقله عنه في "تهذيب الأسماء واللغات". ومنها الفقحة: بفاء مفتوحة ثم قاف ساكنة ثم حاء مهملة وهي حلقة الدبر. ومنها: العجان: اسم لما بين الخصيتين، والعجان: هو بكسر العين المهملة بعدها جيم وفي [آخره] نون. ومنها المشقص: بميم مكسورة وشين معجمة ساكنة ثم قاف بعدها صاد مهملة، هو من النصال ما طال وعرض. وهذا لفظ الجوهري. وخالف ابن الأثير في "النهاية" (¬1) فقال: المشقص نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض، فإذا كان عريضًا فهو المعبلة: أي: بكسر الميم وسكون ¬

_ (¬1) النهاية (2/ 1193).

العين المهملة وفتح الباء الموحدة. قوله: ولو أوضحه موضحة واحدة في بعضها مخطئ وفي بعضها متعمد فموضحتان على الصحيح، فلو أوضح موضحتين عمدًا ورفع الحاجز بينهما خطأ وقلنا بالصحيح أنه لو رفعه عمدًا تداخل الأرشان فهل يلزمه أرش ثالث أم أرش واحد؟ وجهان: انتهى. والأرجح منهما على ما ذكره في "زوائد الروضة" وجوب أرش فقط. قوله: أوضح وهشم في موضعين واتصل الهشم بينهما في الباطن فوجهان: أحدهما: أن الحاصل هاشمة واحدة؛ لاتصال الكسر وإن بقي اللحم والجلد حاجزًا بين الموضحتين، والثاني: أنهما هاشمتان، وهذا ما اقتصر على إيراده جماعة منهم صاحب "الشامل"، ووجهوه بأن الهاشمة تتبع الموضحة، وقد وجدت الموضحتان فتتعدد الهشم بتعددها. انتهى. صحح النووي في "أصل الروضة" أنهما هاشمتان وعبر: بالصحيح. قوله: وفي "المهذب" أنه لو أدخل حديدة أو خشبة في دبر إنسان وخرق حاجزًا في الباطن هل عليه أرش جائفة؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في أن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن هل يكون كخرق الظاهر حتى لا يلزم إلا أرش موضحة واحدة. انتهى كلامه. وهذا البناء الذي ذكره الرافعي يؤخذ منه أن الصحيح من الوجهين وجوب أرش الجائفة لأن الصحيح في مسألة الموضحتين أنه لا أثر له لبناء الظاهر حتى ترجع الموضحتان إلى موضحة، وأسقط النووي من "الروضة" هذا البناء الذى يستفاد منه الترجيح. واعلم أن نسخ الرافعي قد اختلفت في نسبة هذه المسألة؛ ففي بعضها إلى المهذب كما ذكرت، وفي بعضها إلى "التهذيب"؛ فالأول هو الصواب؛

النوع الثاني: القطع المبين للأعضاء

فإن الشيخ أبا إسحاق ذكره كذلك ولم يذكره البغوي. قوله: شجه متلاحمة وجاء آخر وأوضح في ذلك الموضع بقطع ما بقي من اللحم فعلى كل واحد منهما الحكومة ولننظر فيما مر من تقدير السمك عند الإمكان. انتهى كلامه. وما ذكره من وجوب الحكومة على الثاني قد ناقضه بعد ذلك بنحو كراستين ونصف في الكلام على المنفعة الخامسة وهي منفعة النطق في مسألة ما إذا كان لا يحسن بعض الحروف فجزم بوجوب الموضحة وهو القياس، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". قوله: النوع الثاني: القطع المبين للأعضاء اعلم أنه قد ذكر في هذا النوع ألفاظًا فلنذكرها قبل الخوض في الأحكام فمنها: الثاليل بفتح الثاء المثلثة والمد جمع ثؤلول بالضم وهي الدماميل ونحوها. ومنها: الوترة: الحاجز بين المنحرين هو بواو مفتوحة وتاء مثناة من فوق مفتوحة أيضًا. ومنها عمور الأسنان: اسم لما بينهما من اللحم، والمفرد عمر بعين مهملة مفتوحة وميم ساكنة وراء مهملة على وزن فلس وفلوس. ومنها محرب القوس. ومنها اللَّهاة: بفتح اللام اسم للقطعة من اللحم التى في أقصى سقف الفم تنطبق مع ما تحتها، وجمعها لهوات ولهيات، أيضًا بالتاء ولهى بحذف تاء التأنيث والقصر، وقد ورد ممدودًا في بيت مشهور بفتح اللام وكسرها فالفتح من مد المصقور للضرورة وأما المكسور فجمع للمقصور مثل أصاه وأصا بالقصر وإصا بكسر الهمز والمد. كذا نقله الجوهري عن أبي عبيد.

ومنها الشاغبة، وقد تقدم الكلام عليها غير مرة. ومنها السنخ: بسين مهملة مكسورة ثم نون ساكنة ثم خاء معجمة. كذا صرح به النووي في "تهذيبه"، وجمعه: أسناخ وهو أصل السن المستتر باللحم، وسنخ كل شيء أصله، ومن ذلك قولهم: سنخ في العلم سنوخا إذا رسخ فيه. قاله الجوهري. ومنها الثندوة وقد سبق الكلام عليها في الباب السابق. ومنها في أسماء الأسنان الناجذ بالنون والجيم والذال المعجمة، قال الجوهري هو آخر الأضراس في أقصى الأسنان. قال: ويسمى ضرس الحلم -أي: العقل- لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل، وأما الحديث: أنه -عليه الصلاة والسلام- ضحك حتى بدت نواجذه (¬1). فالمراد [بالنواجذ] فيه الضواحك وهي الأسنان لأن ضحكه -عليه السلام- إنما كان تبسمًا. ومنها: الإسكتان: تثنية إسكته بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الكاف، وهما ناحيتا الفرج، وأما الشفرين فطرفا الناحيتين. كذا قاله الأزهري. ومنها الرَكَب: براء مهملة وكاف مفتوحتين وبالباء الموحدة هو منبت العانة. قال الخليل: هو للمرأة خاصة (¬2). وقال الفراء: هو للرجل والمرأة، وأنشد: لا يقنع الجارية الخضاب ... ولا الوشاحات ولا الجلباب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5737) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) كتاب العين (5/ 362).

من دون أن تلتقى الأركاب ... ويقعد الأثر له لعاب ومنها: الرباعية: من أسماء الأسنان كما سيأتي، وهو بفتح الراء وتخفيف الباء. ذكره الجوهري: ومنها: عذبة اللسان: بعين مهملة وذال معجمة مفتوحتين بعدهما باء موحدة، اسم لطرفه الرقيق. ومنها المقر: بالقاف والراء المهملة، هو المُر من المطعوم، يقال: مقر الشيء بالكسر يقر مقر بالفتح فيهما فهو مقر بالكسر إذا صار مرا. قاله الجوهري: قوله: فلو ضرب على أذنه فاستحفت -أي: يبست- ففي ما يجب قولان منقولان عن "الأم" أصحهما على ما ذكر في "التهذيب" كمال الدية كما لو ضرب على يده فشلت. انتهى. والأصح ما قاله في "التهذيب"؛ فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" والنووي في "أصل الروضة". قوله في "الروضة": والأخفش هو صغير العين ضعيف البصر، وقيل: هو من يبصر بالليل دون النهار. انتهى كلامه. وهذا الذى ذكره في تفسير الأخفش مخالف لتفسيره له في البيوع في الكلام على الفسخ بالعيوب فإنه قال من "زوائده": والأخفش نوعان: أحدهما: ضعيف البصر خلقة، والثاني: يكون لعلة حدثت وهو الذى يبصر بالليل دون النهار، أو في العتم دون الصحو. هذا لفظه. قوله: وإنما يجب كمال الدية في الأجفان إذا استؤصلت وقد تقطع معظم الجفن فتقلص الثاني ويوهم الاستئصال فليتحقق. انتهى.

هذا الكلام قد حذفه من "الروضة" وهو لا يعلم منه الحكم في الصورة المذكورة، وإن كان يوهم الجزم بعدم كمال الدية، وقد صرح الرافعي بنظيره في الكلام على الشفة وحكى فيه وجهين: أحدهما: أن الدية توزع، والثاني: يجب كمالها؛ لأن منفعة الباقي قد بطلت فأشبه قطع بعض الأصابع فشل الباقي. قوله: والمارن ثلاث طبقات: الطرفان والوترة الحاجزة بينهما. ثم قيل: تتوزع الدية على الطرفين فقط، ويحكى عن ابن سريج وأبي إسحاق، وفي "التهذيب": إنه الأصح، ونقل الشيخ أبو إسحاق أنه المنصوص؛ وقيل: توزع الدية على الثلاث وبه قال أبو على الطبري والقاضي أبو الطيب والروياني، وإيراد "الكتاب" يقتضى ترجيحه، ويؤيد بأنه إذا قطع. . . . إلى آخره. تابعه عليه في "الروضة"، وأرجح الوجهين على ما قال في "الشرح الصغير" توزيعها على الثلاث، وقال في "المحرر": إنه الأصح وتبعه عليه في "المنهاج". قوله: ومنها: في المارن كل الدية على ما سبق، ولو قطعه مع القصبة فهل تجب حكومة القصبة أو لا يجب [إلا] (¬1) الدية؟ ذكر الإمام أن فيه وجهين وأن المذهب الظاهر منهما الاندراج. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي حكى فيها وجهين ونقل الرجحان فيها عن الإمام فقط قد نص عليها الشافعي في "الأم" وصرح بوجوب الحكومة على عكس ما نقله من الترجيح واقتصر عليه فقال في باب الزيادة على المارن ما نصه: قال الشافعي: فإذا قطع من العظم المتصل بالمارن شيء مع المارن كانت فيه حكومة مع دية المارن. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته. وقد صحح النووي في أصل "الروضة" ما رجحه الإمام مشيًا على غالب عادته عند عدم وقوفه على ترجيح غيره، وقد تحرر أن الفتوى على خلاف ما صححه فيها؛ فتفطن له. قوله في المسألة: وهاهنا كلام وهو أنا قدمنا أن قضية الأنف محل الموضحة في الوجه، وكذا محل الهاشمة والمنقلة، وذكرنا وجهين في أن الجراحة الواصلة إلى داخل الأنف هل تكون جائفة؟ ، وإذا كان كذلك فقطع قصبة الأنف وإبانتها أعظم من المنقلة فيجب أن يجب فيه مع أرش المارن أرش المنقلة، وهكذا حكى القاضي ابن كج الجواب فيه عن نصه في "الأم". انتهى كلامه. وهذا النص المنقول عن "الأم" ليس منقولًا على وجهه بل ذكره الشافعي على وجه هو أبلغ مما يريده الرافعي فقال: ولو [أوضح] مع قطع المارن شيئًا من القصبة وجب فيه أرش موضحة، أو هشم كان فيه أرش هاشمة، وكذلك منقلة، ولو بلغ ذلك قطعًا كانت فيه حكومة أكبر من هذا كله لأنه أزيد من المنقلة. هذا كلامه، ونقله عنه في "المطلب". قوله: الأسنان في غالب الفطرة اثنتان وثلاثون منها أربع ثنايا وهي الواقعة في مقدم الفم ثنتان من أعلى وثنتان من أسفل وبينهما أربع من أعلى وأربع من أسفل يقال لها الرباعيات. ثم أربع ضواحك ثم أربع أنياب وأربعة نواجذ واثنا عشر ضرسًا ويقال لها الطواحن. انتهى (¬1). وما ذكره في النواجذ مع الأضراس يقتضي أن النواجذ ليست آخر الأسنان بل هي في أثنائها، وليس كذلك بل النواجذ آخر الأسنان وهي من ¬

_ (¬1) مجموع ما عدّه ست وثلاثون.

جملة الأضراس كما سبق إيضاحه في الكلام على لغات الفصل. والذى أوقع الرافعي في هذه العبارة الموهمة هو صاحب "البحر" فإنه عَبّر بعبارة الرافعي بعينها. قوله: ولو كانت إحدى الثنيتين من الأعلى أو الأسفل أقصر من أختها فقلعت القصيرة نقص من ديتها بقدر نقصانها لأن العادة الغالبة أنهما لا يختلفان. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق النقص وسبقهما إليه الماوردي لكن شرط في "الأم" كذلك أن يكون النقص متباينًا فقال: فإن كان متقاربًا ففيها كمال الدية. قوله: ولو قلع سن صغير لم يثغر انتظر عودها، فإن مات الصبي قبل أن يتبين الحال ففي وجوب الأرش وجهان وقيل قولان أقواهما -على ما قاله القاضي ابن كج وغيره- عدم الوجوب. انتهى. وترجيحه لكون الخلاف وجهين ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" ثم خالف في "المحرر" فجزم بأنه قولان، وتابعه في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. وقول الرافعي يثغر هو بياء مثناه من تحت مضمومة ثم مثلثة ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة، ومعناه لم تسقط أسنانه التي هي رواضعه، فإذا سقطت قيل ثغر يثغر فهو مثغور كضرب يضرب فهو مضروب، فإذا نبتت بعد ذلك قيل اتغر بتشديد التاء المثناة من فوق وأصله ايتغر بالياء بنقطتين من تحت فقلبت الياء تاء ثم أدغمت. قال الجوهري: وإن شئت قلت أيضًا اثغر بالمثلثة المشددة، وكله مأخوذ من الثغر وهو مقدم الأسنان. قوله: والترقوة هو العظم المتصل بين المنكب وثغرة النحر. ولكل

واحد ترقوتان وما الذى يجب في كسرهما؟ عن نص الشافعي - رضي الله عنه - في "اختلاف الحديث" وغيره: أن فيه جملًا. وفى "الأم" وغيره: أن فيه حكومة؛ فقيل: قولان: القديم: جمل، والجديد: حكومة، والأكثرون قطعوا بالحكومة. انتهى ملخصًا. وما ذكره على طريقة إثبات الخلاف من أن إيجاب الجمل قول قديم مع تقديمه بأنه منصوص عليه في "اختلاف الحديث" قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وما أدري كيف وقع لهما ذلك فإن الكتاب المذكور من كتب الجديدة. ولو ثبت مع وجود هذا النقل أن الشافعي نص عليه في القديم وصرح به الرافعي أيضا في كلامه لم يستقم أيضا معه أن يقال أنه قديم بل جديد منصوص على وفقه في القديم، وأبلغ من هذا كله أنه منصوص عليه في "المختصر" أيضًا فقال قال الشافعي: وفي الترقوة جمل. هذا لفظه. ثم نقل المزني بعده بأنه قال في موضع آخر أن فيه الحكومة ورجحه المزني. قوله في "أصل الروضة" في الكلام على الأسنان: ولو جنى على يده فذهب بطشها أو على عينه فذهب بصرها فأخذ ديتها لظن زوال البطش أو البصر ثم قويت اليد والعين فصار يبطش [ويبصر] (¬1) استرددت الدية قطعًا لأن الشلل والعمى المحققين لا يزولان، وكذا الحكم في السمع وسائر المعاني. انتهى كلامه. وما ادعاه من القطع بالرد غريب لم يذكره الرافعي أيضًا. أما عود البطش فقد حكى جماعة فيه وجهين منهم القاضي الحسين وكذلك الماوردي وبناهما على القولين في عود السن، وهذا البناء يقتضي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

تصحيح عدم الرد لأنه الصحيح في السن، وأما عود البصر فقد حكى أيضًا جماعة فيه وجهين منهم الروياني في "البحر" والماوردي وبالغ -أعنى الماوردي- فضعف الرد وقال: إن الاستقرار هو المذهب، وحكى ابن الرفعة أيضًا هذا الخلاف. قوله: ولو كان له يدان فإن لم يبطش بواحدة منهما فلا قصاص، وإن بطش نظر إن كانت إحداهما أصلية والأخرى زائدة ففي الأصلية القصاص أو الدية وفي الزائدة الحكومة، وطريق معرفة الزائدة كذا وكذا. ثم قال: وإن لم تتميز الزائدة عن الأصلية بوجه من الوجوه فهما كيد واحدة حتى يجب في قطعهما القصاص أو كمال الدية ويجب مع القصاص أو الدية حكومة لزيادة الصورة. ولو قطعت إحداهما لم يجب القصاص وتجب فيها نصف دية وزيادة حكومة. انتهى كلامه. وظاهره التدافع لأن تعبيره بقوله وإن لم تتميز الزائدة عن الأصلية يقتضى أن إحداهما أصلية والأخرى زائدة ولكنها التبست؛ وحينئذ فلا ينتظم الحكم الذى ذكره فيه وهو وجوب نصف الدية بقطع كل منهما، وتعبيره بقوله: فإن كانت إحداهما أصلية والأخرى زائدة يقتضى أنهما قد تكونان أصليتين ولم يصرح به. قوله: فرعان: أحدهما: تقطع حلمة المرأة بحلمة المرأة، وفي "التتمة" وجه أنه إن لم يتدل الثدي لا يجب القصاص لاتصاله بلحم الصدر وتعذر التمييز، والمشهور الأول. قال في "التهذيب": ولا يجوز القصاص في الثدي لأنه لا يمكن رعاية المماثلة فيه، ولك أن تقول الثدي هو الشاخص وهو أقرب إلى الضبط من الشفتين والإليتين ونحوهما. انتهى.

فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره عن "التتمة" من حكاية خلاف في الحلمة إذا لم يتدل الثدي قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غلط؛ فإنه جازم بالوجوب بل صرح بعدم الخلاف فيها، وإنما حكى الخلاف في الثدي نفسه، فإنه ذكر المسألة في الباب الخامس في الجنايات على ما دون النفس في الفصل الثالث منه فقال: التاسعة: الرجل إذا قطع حلمة رجل وهو رأس الثدي يلزمه القصاص لأنه جزء مفرد عن غيره فهو كالأذن، وكذلك المرأة إذا قطعت حلمة امرأة يلزمها القصاص لما ذكرناه، وكذلك إذا قطعت حلمة ثديها يجب القصاص على المذهب المشهور سواء كان قد تدلى أم لا لأنه جزء مفرد عن غيره، وقيل: فيه وجه آخر أنه إن كان قد تدلي ثديها يجب القصاص لتمييزه، وإن لم يكن قد تدلي لا يجب لأنه متصل بلحم الصدر وكان بمنزلة الإليتين هذه عبارة المتولي. ثم صرح بعد ذلك بعدم الخلاف في الجملة فقال: فأما الرجل إذا قطع حلمة امرأة فيلزمه القصاص بلا خلاف. الأمر الثاني: أن ما نقله عن البغوي من عدم القصاص في الثدي واقتضى كلامه عدم الوقوف على ما يخالفه، وأنه ليس فيه إلا البحث الذى ذكره قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو عجيب فقد ظهر لك من الكلام الذى نقلناه عن "التتمة" أن المذهب المشهور وجوب القصاص، وأغرب من ذلك أن الرافعي قبل ذلك قد ذكر هذا الفصل جميعه عن "التتمة" أيضًا، ونقل هاتين المسألتين عنه على الصواب فقال قبل كتاب الديات: فصل في "التتمة" إن حلمة الرجل تقطع بحلمة الرجل وحلمة المرأة بحلمة المرأة والثدي بالثدي، وفيما إذا لم يتدل وجه ضعيف لأنه لا يميز عن لحم الصدر. هذا كلامه واللفظ "للروضة".

النوع الثالث: ما يفوت المنافع

النوع الثالث: ما يفوت المنافع قوله: الأول: العقل: فيجب بإزالته كمال الدية. ثم قال: وذكر المتولي أن الدية إنما تجب عند تحقق الزوال بأن يقول أهل الخبرة: إن العارض الحادث لا يزول، فأما إذا توقعوا زواله فيتوقف في الدية، فإن مات قبل ذلك ففي الدية وجهان كما لو قلع سن مثغور فمات قبل عودها. انتهى. وما ذكره في توقع العود من التوقف في الوجوب قد ذكر -أعنى الرافعي- بعد ذلك في البطن ما يوافقه لكنه يخالف ما نقله في السمع فإنه قال: إن لم يقدر أهل الخبرة مدة أخذت الدية في الحال، وإن قدروا مدة انتظرناها، واستثني الإمام ما إذا قدروا مدة يغلب على الظن انقراض العمر قبل فراغها، وقال: الوجه ألا تنتظر هذه المدة بل تؤخذ الدية. هذا كلامه. قوله: ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: ينظر في الجناية التى ذهب بها العقل فإن لم يكن لها أرش [كاللطم فعليه دية العقل وإن كان لها أرش] (¬1) مقدر أو غير مقدر، فالقديم: أنه يدخل الأقل في الأكثر، والجديد: وجوب أرش الجناية ودية العقل. ثم قال: ووراءه شيئان: أحدهما في "المهذب" وغيره: إن كان أرش الجناية مثل الدية أو أكثر وجبت دية العقل معه ولا تداخل قولًا واحدًا، إنما الخلاف فيما إذا كان أرشها دون الدية. والثاني: نقل الإمام عن القاضي الحسين أن أرش الجناية إن لم يكن مقدرًا لم يدخل في دية العقل قولًا واحدًا وإنما الخلاف في الجناية التى ¬

_ (¬1) سقط من ب.

لها أرش مقدر. انتهى كلامه. وهذه الطريقة الثانية التى نقلها عن الإمام قد تبعه على نقلها هكذا النووي في "الروضة" وهو سهو في التعبير والصواب أن نقول: إن لم يكن مقدرًا فيندرج قولًا واحدًا عوضًا عن تعبيره بقوله: لا يندرج فإنه نقلها عن "النهاية" وهكذا ذكره في "النهاية" وكذلك الغزالي في "البسيط" والقاضي الحسين وصاحب "التنبيه" وهو الصواب أيضًا من جهة المعنى فإن المقدر أبعد عن الدخول؛ ولهذا عبر الرافعي في آخر كلامه على قطع الأذنين بقوله: لأنه لا يتبع مقدر مقدرًا. هذه عبارته، وذكر أيضًا هو وغيره أنه لو قطع الكف مع الأصابع دخلت حكومة الكف تحت ديتها، وإذا فرعنا على اندراج الأقل في الأكثر فتساويا ما حكمه؟ فيه نظر، ولم يتعرض له الرافعي وغيره لكن الإمام قد حكى فيما إذا قطع يديه فزال عقله أنه تجب دية واحدة. قوله: وإذا ادعى المجني عليه زوال البصر وأنكر الجاني فالذي أورده جماعة وهو المنقول عن الأم أنه يراجع أهل الخبرة، وقال آخرون: يمتحن بتقريب حية أو عقرب، ويمكن أن يقدر في هذا اختلاف، ورد في "التتمة" الأمر إلى خبرة الحاكم. انتهي ملخصًا. وليس فيه تصريح بأنه على جهة التخيير أو على جهة الاختلاف، وقد جزم في "المحرر" بالتخيير فقال: روجع أهل الخبرة أو يمتحن، وجزم في "الشرح الصغير" بالثاني؛ فإنه بعد حكايته للمقالتين عبر بقوله: وقيل يتخير الحاكم، ولم يذكر غير ذلك، وجزم النووي في "المنهاج" بما قاله في "المحرر" من التخيير وخالف في "الروضة"

فصرح بأن المقالتين وجهان فقال: فرع: ادعى المجنى عليه زوال البصر وأنكر الجاني فوجهان. ثم قال: وقال المتولي: الأمر إلى خبرة الحاكم؛ فجعل ذلك خلافًا ولم يصحح منه شيئًا. قوله: وقول "الوجيز" ومن في حدقته بياض لا يمنع أصل البصر، ظاهره وجوب الدية مادام يبصر شيئًا وإن ضعف بصره ونقص [ضوؤه]، لكن ذكرنا في [فقئ] العين التى فيها بياض أنه إن لم ينقص الضوء تجب فيه الدية، وإن نقص فلا تكمل الدية فليكن في إذهاب ضوء العين وفيها بياض مثل هذا التفصيل. انتهى كلامه. وما ذكره بحثا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه قد صرح به الماوردي في "الحاوي"، وكلام الشافعي في "الأم" يشير إليه أيضًا، وقد حذف النووي هذه المسألة من "الروضة" [لوقوعها] في أعقاب الكلام. قوله: وإن انتقص الشم نظر إن علم قدر الذاهب وجب قسطه وإلا فالحكومة. ثم قال ما نصه: ولم يذكروا هاهنا الامتحان بمن هو في سنة، ولا بعد في طرده هاهنا. وإن انتقص الشم من أحد المنخرين فيمكن أن يعتبر بالجانب الآخر ولم يذكروه ولعلهم اكتفوا بالمذكور في السمع والبصر. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم ذكرهم لهاتين المسألتين قد تابعه في "الروضة" فأما الأول فقد صرح الأصحاب بخلاف ما يحاوله فقال في "النهاية": لا وجه إلا الرجوع إلى المجنى عليه. وقال القاضي الحسين وابن الصباغ: إنه لا يعرف إلا من جهته، وقد صرح به [الرافعي بعد هذا وسأذكر لفظه عقب هذه المسألة.

وأما الثاني فقد صرح به] (¬1) على وفق ما بحثه سليم في "المجرد" فقال: وإن ادعى نقصان الشم من أحد منخريه حكم بمقدار النقصان على الاعتبار الذى مضى إذا ادعى نقصان السمع من إحدي أذنيه. هذا كلامه. قوله: وإن ادعي النقص صدق بيمينه؛ إذ لا يعرف ذلك إلا من جهته، وشبه ذلك بما إذا ادعت المرأة الحيض، وقد [علق الطلاق بحيضها. انتهى. ومقتضاه أنه لا يمكن إقامة البينة على الحيض وقد] (¬2) اختلف فيه كلامه في مواضع أبسطها إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات فراجعها. قوله: ولو جرح رأسه متلاحمة وجاء آخر وجعلها موضحة فعلى من أوضح أرش موضحة محطوطًا عنه واجب المتلاحمة سواء قدرنا واجبها أو أوجبنا الحكومة. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من وجوب الموضحة على الثاني هو القياس ولكنه قد ذكر في الكلام على الموضحة ما يناقضه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله نقلًا عن الغزالي قال: الخامسة: النطق: وفي إبطاله كمال الدية وإن بقى في اللسان فائدة الذوق والحروف الشفوية والحلقية، وفي بعض الكلام بعض الدية وتوزع على ثمانية وعشرين حرفًا وتدخل الشفوية والحلقية في التوزيع. انتهى كلام الغزالي. وذكر في "الوسيط" نحوه، ومراد الغزالي وغيره بالنطق هو الكلام، وقد شرحه الرافعي أيضًا بذلك فقال: إذا جنى على لسانه فأبطل كلامه فعليه الدية، فإن ذهب بعض الحروف نظر إن كان له فيما بقى كلام مفهوم ¬

_ (¬1) الروضة (9/ 295). (¬2) سقط من أ.

وزعت الدية على الحروف. وقال الإصطخري: لا تدخل في التوزيع الشفوية وهي: الباء والميم والفاء والواو، ولا الحلقية وهي: الهاء والعين والغين والخاء والحاء والهمزة وإن لم يبق له كلام مفهوم فعن أبي إسحاق والقفال وجوب الدية وهو المذكور في "التهذيب". وقال الروياني: إنه المذهب، وقيل: يجب بالقسط. قال في "التتمة": وهو المشهور في المذهب والمنصوص لأنه لم يعبأ بما سواها من الحروف، وإنما تغلظت منافعها فصار كما إذا كسر صلبه فتعطل مشيه والرجل سليمة فإنه لا يلزمه بتعطل المشى دية أخرى. ثم قال مستدركًا على الغزالي ما نصه: فأما وجوبها بكمالها وإن بقيت الحروف الشفوية والحلقية فقد ذكره هاهنا وفي "الوسيط" وعلل هناك [بأن] الذى بطل جزء مقصود برأسه، وهذا لم أجد له تعرضًا لباقى الأصحاب، وهو مناقض لما ذكره من بعد وهو أنه يجب في بعض الكلام بعض الدية وتوزع على جميع الحروف من الشفوية وغيرها، وإنما يستمر ذلك على طريقة الإصطخري. هذا لفظه. وفيه أمور: أحدها: أن ما ذكره معترضًا به على الغزالي كلام عجيب جدًا لا أدري كيف وقع من الرافعي، فإن الغزالي فرض المسألة الأولى فيما إذا ذهب الكلام وبقي بعض الحروف، وحكمه بتكميل الدية فيها هو ما نقله الرافعي عن "التهذيب" وجماعة، وفرض الثانية فيما إذا ذهب بعض الكلام وحكمها أيضًا واضح، والذي أجاب به الغزالي فيها هو ما صححه أيضًا الرافعي؛ فما قاله الغزالي فيهما معًا قد قاله هو ولا تناقض فيه أيضًا،

وقد ذكرت لك عبارته فتأملها. وحذف النووي هذا الكلام فلم يتعرض له بالكلية وكأنه توهم صحته فحذفه لكونه خارجًا عن مقصوده من تجريد الأحكام دون الاعتراض على ما وراءها. الأمر الثاني: أن مسألة الصلب التى ذكرها في الاستدلال حاصلها الجزم بوجوب الدية في الصلب؛ فإنه جعله أصلًا مقيسًا عليه ولكنه قد صحح قبل ذلك أن كسر الصلب لا دية فيه إنما تجب فيه الحكومة. ذكر ذلك في الكلام على دية السمع في أثناء بحث مع الغزالي وحذفه من "الروضة"، وجزم به هو والنووي بعد ذلك في الكلام على الإمناء والإحبال والجماع. الأمر الثالث: أن ما ذكره من أن كسر الصلب إذا تعطلت به منفعة الرجل من المشى لا تجب به دية أخرى هو نظير ما إذا ارتيق داخل الأذن بالجناية وامتنع نفوذ الصوت ولم يتوقع زوال الإرتياق، والأصح: أن الواجب فيه الحكومة، وقيل الدية، وهكذا الحكم إذا زال سمع صبى فتعطل نطقه لأن نطق الصبي إنما هو بوساطة سماعه من أبويه وغيرهما. وحاصله أنه إذا جنى على عضو فتعطلت منفعة آخر لا يجب شيء للذى تعطل لكنه خالفه فيما إذا كسر صلبه فذهب مشيه وجماعه؛ فإن الرافعي صحح وجوب ديتين وعلله بأن المشي في الرجل لا في الصلب وقد فات المشي وإن كانت الرجل سليمة. واعلم أنه إذا كسر صلبه فتعطل مشيه فقطع قاطع رجليه فقد صحح الرافعي وجوب الدية في قطعهما لأنهما صحيحتان، وهذا التصحيح موافق لما تقدم من عدم وجوب الدية إذا كسر صلبه فتعطل مشيه. قوله: ولو جنى على لسان فأبطل صوته واللسان على اعتداله وتمكنه

من التقطيع والترديد فعليه الدية لأنه من المنافع المقصودة في غرض الإعلام والزجر وغيرها، وإن أبطل مع ذلك حركة اللسان حتى عجز عن الترديد والتقطيع فوجهان: أرجحهما على ما يقتضيه نظم الكتاب أنه تلزمه ديتان لأنهما منفعتان مختلفتان. انتهى كلامه. والراجح وجوب الديتين. فقد قال الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة": إنه أرجح الوجهين. قوله: الثامن: المضغ: وفي إبطاله كمال الدية، ولإبطاله طريقان: أحدهما: أن يصلب مغرس اللحيين حتى تمتنع حركتهما مجيئا وذهابًا، والثاني: أن يجنى على الأسنان فيصيبهما خلل وتبطل صلاحيتهما للمضغ. انتهى. واعلم أن الضمير المتصل بقوله: (فيصيبهما) هو مبنى عائد إلى اللحيين، وقد نبه عليه النووي بخطه على "حاشية الروضة" لأنه قد يلتبس. قوله: ولو جنى على ثديها فانقطع لبنها لزمه حكومة، وكذا إن لم يكن لها لبن عند الجناية ثم ولدت ولم يدر لها لبن وصور أهل الخبرة أن يكون الانقطاع بجنايته، وللإمام احتمال أن الدية تجب بإبطال الإرضاع. انتهى. تابعه في "أصل الروضة" على نقل ذلك احتمالًا فقط عن الإمام مع أن المتولي قد جزم به في "التتمة". قوله: وفي إفضاء المرأة ديتها فقال قائلون: هو رفع الحاجز بين مدخل الذكر ومخرج البول، وبهذا قال الشيخ أبو حامد ومتابعوه وهو الذى رجحه صاحب "التهذيب" وغيره، وقال آخرون: هو رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج الغائط، ويحكى عن ابن أبي هريرة

والقاضي أبي الطيب والشيخ أبي محمد والشريف ناصر، وهو الذي أورده الروياني في الحلية وصاحب "الكتاب"، وقال المتولي: الصحيح أن كلًا منهما إفضاء موجب للدية. انتهى ملخصًا. وقد اختلف ترجيح الرافعي في هذه المسألة فجزم في كتاب النكاح في الكلام على مثبتات الخيار بالأول، وقد سبق ذكر لفظه في موضعه فراجعه. وقال في "الشرح الصغير" هنا: الأشبه الثاني. وقال في "المحرر": إنه الأظهر، وصححه النووي في "الروضة" من غير تنبيه عليه بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له فإنه غريب، واختلف أيضًا كلام النووي فيها فصحح في "المنهاج"، وفي "الروضة" هنا الثاني على خلاف ما جزم به في النكاح تبعًا للرافعي. قوله: فلو أفضي الخنثي المشكل ففي "البيان": أنّا إن قلنا: إن الإفضاء رفع الحاجز بين منفذ البول ومدخل الذكر لم تجب الدية لأنا لا نعلم هل هو فرج أصلى أم لا، وإن قلنا: إنه رفع الحاجز بين القبل والدبر ففيه اختلاف، ولو أزيلت البكارة من فرج المشكل فتجب حكومة جراحة، ولا تعتبر البكارة لأنا لا نتحقق كونه فرجًا. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الروضة" وعبر بوجهين عوضًا عن تعبير الرافعي بالاختلاف، وقد تتبعت هذه المسألة فوجدت الأصل الذي اعتمد عليه الرافعي في هذه المسألة وهو "البيان" قد اعتمد على أبي الفتوح وصرح به في نقل هذه المسألة، وأبو الفتوح قد استمد من "الشامل" و"التهذيب"، وهما قد استمدا من تعليق القاضي أبي الطيب ورأيت في نقل بعضهم عن بعض عدم مطابقة وفي ذكر ذلك طول فنقتصر على بعضه وهو الأهم. فنقول: إن أبا الفتوح لما تكلم على هذه المسألة نقل عن صاحب

"الشامل" تعليلًا وقال: إن مقتضاه وجوب الدية في إفضاء الخنثى بالتفسير المعروف، وهو اختلاط الدبر بمسلك الذكر، وذكر عن الشيخ في "المهذب" تعليلًا آخر وقال: إنه يقتضى وجوب الأرش مع ما يجب في الجائفة -وهو ثلث الدية-، وقد صرحوا في الكلام على الجائفة أن الجناية على هذا المحل بهذه الصفة من جملة الجوائف، ثم إن صاحب "البيان" نقله عنه وغفل أن يذكر دية الجائفة فتابعه عليه الرافعي ثم النووي معبرًا -أعنى النووي- بالوجهين، فتلخص أن الوجهين لم يصرح بهما أحد وإنما هو إشعار بعيد من تعليل على ما فهمه من ليس معدودًا من أصحاب الوجوه، وتلخص أيضًا أن دية الجائفة لابد منها على خلاف ما يشعر به كلام الرافعي لإيهام عبارة "البيان" فاعلم ذلك، وإن حصل لك فراجع هذه الأصول يظهر لك باقي الخلل. قوله: وإن أزالها -يعنى البكارة- بآله الجماع من لا يستحق إزالتها نظر إن طاوعته المرأة فلا أرش كما لا مهر، وإن كانت مكرهة أو هناك شبهة نكاح فاسد أو غيره فوجهان: أظهرهما وينسب إلى النص -أنه يجب مهر مثلها وأرش البكارة لأن المهر للاستمتاع والأرش لإزالة تلك الجلدة. والثاني: يجب مهر مثلها بكرًا. انتهى ملخصًا. وهذه المسألة قد اختلف فيها كلام الرافعي اختلافًا عجيبًا؛ فإنه أجاب فيها ثلاثة أجوبة متعارضة وتابعه عليها في "الروضة" وقد سبق إيضاح ذلك في كتاب البيع في الكلام على البيوع المنهي عنها فراجعه. والمراد بالمطاوعة أن تصرح بالإذن، فإن سكتت ففي وجوب المهر لها وجهان سبق نقلهما عن الرافعي في آخر باب استيفاء القصاص وأنه شبههما بما يقتضي رجحان الاستحقاق، ولا شك أنه في أرش البكارة أظهر من

المهر فإنه إتلاف والسكوت فيه لا يدفع الأرش عن المتلف. قوله: وقال الغزالي: يتصور أن يجب في شخص قريب من عشرين دية، وإذا تأملت ما سبق وجدتها أكثر من ذلك. وهي هذه الأذنان أو إبطال حسهما العينان أو البصر، الأجفان المارن، الشفتان اللسان، أو النطق الأسنان اللحيان اليدان الذكر والأنثيان أو الحلمتان والشفران الإليتان الرجلان العقل، السمع، الشم، الصوت، الذوق، المضغ، الإمناء، أو الإحبال، إبطال لذة الطعام ولذة الجماع الإفضاء في المرأة البطش، المشي. انتهى كلامه. وهذا العدد الذى ذكره قد تابعه عليه في "الروضة"، واعترض عليه ابن الرفعة في "المطلب" فقال: عده الأذنين أو إبطال حسهما شيئًا واحدًا يقتضى عد اليدين وإبطال بطشهما شيئًا واحدًا وكذلك عد الرجلين وإبطال المشى لشللهما شيئًا واحدًا وبذلك تسقط ديتان، والذكر والأنثيان لا يكونان في شخص له شفران ولا حلمتان تجب فيهما الدية وبذلك تسقط ديتان أيضًا ودية إبطال المضغ تدخل في دية اللحيين لأن صورة إبطال المضغ تكون بعدم تحرك اللحيين كما هو مصور في موضعه، وأما في إدراج أرش ما عليهما من الأسنان في ديتهما خلاف فإن أدرجنا تسقط أيضًا ديتان وإلا دية واحدة وفي إدراج دية الصوت تحت دية الكلام خلاف، وكذلك أيضًا في إدراج الذوق تحت دية اللسان فإن أدرجنا تسقط ديتان أيضًا، وإذا ضممت ما أدرجناه إلى ما أسقطناه اجتمع منه ثمان ديات، وإن ضممت إلى ذلك أن الأذنين لا دية فيهما فإنه وجه صار الساقط سبع ديات وتبقى ثمانية عشر؛ وبذلك يصدق قول الغزالي قريب من عشرين أي: بلا خلاف وكلامه في "البسيط" يدل على أن هذا هو المراد.

باب بيان الحكومة

باب بيان الحكومة اعلم أن الكلام في الحكومات ذكره الرافعي في الباب الثاني من كتاب الديات عقب الكلام في مسائل الموضحة فنقله في "الروضة" إلى آخر أبواب الديات وأفرده بالتبويب فتبعته على ذلك. قوله: والأصل في الدية الإبل وأطلقوا القول في الحكومة بأن الواجب جزء من الدية إذا عرفنا قدر النقصان فدل ذلك على أن الحكومة الواجبة تكون من جنس الإبل، ورأيته مصرحًا به لبعضهم. انتهى. وهو يقتضي أنه لم يقف على خلاف ذلك، وقد ذكر المسألة في إفضاء المرأة في الكلام على الحكومة المأخوذة لإزالة البكارة فقال: وذكر في "التهذيب" وجهين في أن جنس الواجب يكون من الإبل أو من نقد البلد، والأصح الأول على ما هو قاعدة الجناية على الأحرار. هذا كلامه. قوله في "الروضة": فرع: إزالة الشعور من الرأس وغيره بحلق أو غيره من غير إفساد المنبت لا تجب فيها حكومة أصلًا بلا خلاف لأن الشعور تعود. انتهى. وما ذكره من نفي الخلاف ليس كذلك؛ فقد حكى الماوردي في ذلك وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: تجب فيه حكومة دون حكومة ما لم يعد. وحكى القاضي الحسين وجهًا أنه إن حصل للمجنى عليه ألم بالإزالة وجب وإلا فلا؛ فتحصلنا على ثلاثة أوجه حكاها ابن الرفعة في "الكفاية" وهذه المسألة مع باقي أحكام الحكومات ذكرها الرافعي في آخر النوع الأول تبعًا للغزالي، ولكنه أشار إلى أن تأخيرها إلى هذا الموضع أنسب ففعل ذلك في "الروضة"، ولم يصرح الرافعي في هذه المسألة بنفي الخلاف بل عبر بقوله: لا تجب فيها حكومة أصلًا.

القسم الثاني في الموجب

قال: القسم الثاني في الموجب؛ أي: أسباب وجوب الدية: اعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد ذكر في الفصل هنا ألفاظًا منها: القذى: بالقاف والذال المعجمة وألف مقصورة؛ وهو ما يسقط في العين من التراب؛ تقول قذيت عينه تقذي قذي فهو قذ على وزن عميت تعمي عما فهو عم إذا سقطت في عينه قذاة. قال الأصمعي: وتقول: قذيت عينه -بفتح الذال وسكون الياء- يقذي -بكسر الذال- قذيا -بسكونها- إذا رمت بالقذي، وأقذيت عينه إذا جعلت فيها القذا، وقذيتها بقذية إذا أخرجته منها، حكاه الجوهري. ومنها: طي البئر: وهو بناؤها. ومنها: الأخدود -بالخاء المعجمة والدال المهملة-، وهو شق في الأرض مستطيل، تقول فيه: خد الأرض يخدها، وضربه أخدود أي: [خدت] في الجلد. ومنها القانول: اسم للجناح. ومنها: العماد: قال الجوهري: هو جمع، واحده: عمادة بالتاء، وهو اسم للأبنية الرفيعة. قال: وتقول: عمدت الشيء فانعمد إذا أقمته بعماد يعتمد عليه. ومنها السباطات: اسم للمزابل: وهي جمع سباطة بسين مهملة مضمومة ثم باء موحدة وبعد الألف طاء مهملة، وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال قائمًا في سباطة قوم (¬1). ومنها: البحر المغتلم: أي: الهائج، يقال غلم البعير بغين معجمة مفتوحة ولام مكسورة، غلمة بالضم، واغتلم إذا هاج من شهوة النكاح. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (222)، ومسلم (273) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.

منها انبثقت السفينة أي: انخرقت، يقال: بثق السيل موضع كذا بباء موحدة وثاء مثلثة مفتوحتين بعدهما قاف، يبثق بالضم، بثقًا بالفتح والكسر أي: خرقه، وشقه فانبثق أي انشق. قوله: الثانية: إذا صاح على صبي غير مميز على طرف سطح أو بئر أو نهر فارتعد وسقط منه ومات وجب ضمانه. وهل عليه القصاص؟ فيه وجهان، ويقال: قولان: أصحهما: المنع. انتهى كلامه. وهذا الذي رجحه من كون الخلاف وجهين ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وخالف في "المحرر" فجزم بأنه قولان فقال: وأصح القولين أنه لا يجب القصاص. هذا لفظه. ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج". قوله: والدية الواجبة في هذه الحالة تكون معطلة على العاقلة، وقياس من يوجب القصاص أن تكون معطلة على الجاني. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضي كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة" قد صرح به البندنيجي ونقله عنه ابن الرفعة. قوله: إحداها: إذا وضع صبيًا لا يقدر على الانتقال في مسبعة فافترسه سبع لم يجب ضمانه في أصح الوجهين. ثم قال: وفي تقييد الغزالي بالصبي هاهنا وفي الغصب ما يفهم أنه لو كان الموضوع بالغًا لم يجب الضمان بلا محالة والخلاف مخصوص بالصبي، وذكروا في القصاص نحوًا من هذا، ويشبه أن يقال: الحكم منوط بالقوة والضعف لا بالكبر والصغر. انتهى كلامه. واعلم أن الشيخ في "المهذب" قد جزم فيما إذا ألقى حرًا مشدودًا في مسبعة فقتله السبع أنه يكون عمدًا، وهذا هو عين ما ذكره الرافعي بحثًا،

بل هو أبلغ لكون الشيخ قد جعله عمدًا، وقد ادعي النووي في "الروضة" نفي الخلاف ذاهلًا عما قاله الشيخ فقال: فإن كان الموضوع بالغًا فلا ضمان قطعًا. ثم قال: ويشبه أن يناط الحكم بالقوة والضعف لا بالصغر والكبر. قوله: والخلاف راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع، وبينا أن الأكثرين قالوا نعم، وجوزوا [للمقطع] أن يبني فيه ويتملكه. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من أنه قد سبق في إحياء الموات عن الأكثرين أنه يجوز للإمام إقطاع التمليك في الشوارع غلط على العكس مما سبق هناك، وقد تقدم إيضاحه فيه فراجعه. قوله: وإن انقلع خشب الميزاب والروشن من أصله فأتلف شيئًا فوجهان أو قولان: أشهرهما وجوب النصف، والثاني تقسيط الخارج. وإذا قلنا بالثاني، فقال الغزالي وجماعة إن التوزيع يكون باعتبار الوزن، وفي "التتمة" وغيرها اعتبار المساحة. انتهى. والأصح اعتبار الوزن؛ كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي؛ فتفطن له فإنه غريب. قوله: فرعان: الأول: أسند خشبة إلى جدار لغيره فسقط الجدار على شيء فأتلفه فعليه ضمان الجدار وما سقط عليه سواء سقط عقب الإسناد أم لا، وإن كان الجدار له أو لغيره وقد أذن لم يجب ضمان الجدار، وفي ضمان ما يسقط عليه وجهان عن صاحب "التلخيص" [أحدهما] وبه قال أبو زيد: أنه إن سقط في الحال ضمن وإلا فلا، وعن القفال أنه لا يضمن في الحالتين. انتهى ملخصًا. لم يذكر -رحمه الله- حكم ما يتلف بالخشبة وقد ذكره في آخر باب

الغصب فقال: إن وقعت في الحال ضمن وإلا فلا. قال: وسواء كان الجدار له أم لا. ويظهر لك من هذا التفصيل المذكور هناك تصحيحه أيضًا في المسألة المختلف هاهنا فإنها شبهها. قوله: ولو حفر بئرًا قريبة العمق فعمقها غيره تعلق الضمان بها في أظهر الوجهين؛ وعلى هذا فهل يتنصف أم يوزع على الأذرع؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو على. انتهى. لم يرجح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا وقال في "الروضة" من "زوائده": أصحهما التنصيف. قوله: ولو حفر بئرًا متعديًا ثم طمها فأخرج غيره ما طمت به فهل يتعلق ضمان التالف فيها بالأول لأنه المبتدئ أم بالثاني لانقطاع أمر الأول بالطم؟ وجهان. انتهى. والصحيح تعلقه بالثاني. كذا صححه في "الروضة" من "زوائده". قوله: وإذا وقع في البئر واحد ثم وقع عليه آخر فماتا فأطلق مطلقون أنه تجب دية الأول على الثاني، وقال آخرون: إنما على الثاني نصف الدية لأن الأول مات بوقوعه في البئر وبوقوع الثاني عليه، ويكون النصف الآخر على الحافر إن كان الحفر عدوانًا، وهذا أصح عند المتولي وغيره. انتهى ملخصًا. واعلم أن الرافعي قد ذكر بعد هذا في الكلام على ألفاظ الوجيز أن الذى نوجبه على الثاني وهو النصف أو الكل يكون قراره على عاقلة الحافر، وقيل: هم المطالبون ابتداء، ولا تطالب به عاقلة الواقع في البئر وجعل مستند الخلاف أن الحفر ألجأه إليه فصار كالإكراه على إتلاف المال وحينئذ فيجئ الخلاف في أن الآمر هل يطالب وحده أم يطالب أيضًا المتلف ويرجع به على الآمر؟ ، وذكر أيضًا نحوه في "الشرح الصغير" وتبعه عليه

صاحب "الحاوي الصغير"، وحذف النووي هذه المسألة من "الروضة"، والعجب من حذفه لها. قوله: وإن تردى في البئر فجرف ثانيًا والثاني ثالثًا وماتوا ففي الأول وجوه أظهرها: أنه مات بثلاثة أسباب: صدمة البئر وثقل الثاني والثالث فهدر ما يخص ثقل الثاني وهو الثلث لحصوله بفعله. والوجه الثاني: أن صدمة البئر لا أثر لها وموته بسببين، فتهدر نصف دية نجدية الثاني ويجب نصفها على عاقلة الثاني نجدية الثالث فإنه مات بثقلها. وأعرض ابن الحداد عن نقل الثالث وقال إنه مات بالوقوع في البئر وبجرفه الثاني فتهدر نصف ديته ونصفها على عاقلة الحافر. ثم قال: ولو كانت الصورة بحالها وجرف الثالث رابعًا ففيه وجوه: منها أنه لا يجب للأول شيء لأنه باشر قتل نفسه بحد الثاني وما تولد من جرفه. ثم قال: وقضية هذا الوجه أنه لا يجب للأول في صورة الثلاثة شيء أصلًا وإن لم يذكروه هناك. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم ذكر هذا الوجه في الثلاثة تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب جدًا فقد ذكره الإمام في "النهاية" وكذلك الغزالي في "البسيط" وتبعهما صاحب "الذخائر". قوله: فرع: لو كانت السفينة مثقلة بتسعة أعدال فجاء رجل ووضع فيها عدلًا آخر تعديا فغرقت فهل يضمن الأعدال التسعة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لأن الهلاك ترتب على فعله. والثاني: لا يضمن كل الضمان لأن الغرق حصل بثقل الجميع لا بما فعله، والوجهان على ما حكى الإمام وغيره مبنيان على ما إذا رمى إلى

صيد فأبطل بعض امتناعه ولم يرمه ثم رمى إليه آخر فأزمنه ولولا رمى الأول لما كان الثاني مزمنا فلمن الصيد؟ فيه وجهان؛ قال الإمام: الأقيس الأصح أنه لهما. انتهى. والأصح عند الجمهور أنه للثاني على خلاف ما نقله عن الإمام وسكت عليه؛ كذا صرح به الرافعي في أواخر باب الصيد وتبعه عليه في "الروضة" وقد اغتر النووي بسكوت الرافعي على الترجيح المذكور في هذا الباب نقلا عن الإمام فأطلقه فقال: الأصح أنه لهما فوقع في صريح التناقض فتفطن له واجتنبه. وقد علم من ذلك أن الصحيح في مسألة السفينة وجوب ضمان التسعة كلها على الثاني. قوله: الخامس: إذا كان في الإلقاء تخليص الملتمس وغيره بأن التمس بعض الركاب من بعض فيجب الضمان على الملتمس لأن له غرضًا في تخليصه وتخليص غيره. قال الإمام: ويجئ الوجهان في أنه هل تسقط حصة المالك؟ ويجيئان أيضًا فيما إذا كان الملتمس خارج السفينة وملقي المتاع من الركبان. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في آخر كلامه حيث قال ويجيئان .. إلى آخره. غريب؛ فقد تقدم التصريح بهما قبل هذا بنحو سطرين في القسم الرابع، وأشد من ذلك أن الوجهين المشار إليهما هنا هما المذكوران في القسم الرابع فكأنه قال: إن الوجهين في القسم الرابع يأتيان فيه -أي في القسم الرابع- أيضًا، وهو كلام غير مقيد؛ ولأجل هذا المعنى حذفهما من "الروضة" فتفطن لذلك.

الأمر الثاني: أن الإمام فرضهما فيما إذا كانا معا فيها وكان معهما غيرهما، ولم يصرح الرافعي باجتماع الثلاثة. واعلم أن الأقسام في هذه المسألة سبعة: أحدها: أن يختص النفع بصاحب المتاع. والثاني: بالمستدعي. والثالث: بهما. والرابع: بغيرهما. والخامس: بصاحب المتاع وأجنبي. والسادس: بالملتمس وأجنبي. والسابع: أن يعم الثلاث. وأهمل الرافعي قسمين: أحدهما: الثالث ومقتضى المنقول فيه وجهان: أحدهما: يضمن جميع المتاع. والثاني: نصفه وكلام الإمام يدل عليه. والثاني: مما أهمله: السادس، ومقتضى المنقول [وجوب الجميع ولم يصرح بالسابع لكن يمكن دخوله في كلامه. وقضية المنقول] (¬1) أن يضمن جميعه في وجه، وثلثيه في آخر. قوله: وحكى الإمام أن المتاع الملقي لا يخرج عن ملك مالكه حتى لو لفظه البحر على الساحل وظفرنا به فهو لمالكه، ويسترد الضامن المبذول. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: [أن هذا الذى نقله عن الإمام قد حكى الماوردي فيه وجهين أحدهما] (¬2) هذا، والثاني: أن الآمر يملكه قبيل الإلقاء. ذكر ذلك في ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الكلام على ما إذا أمر غيره بأن يعتق عنه عبده على كفارة اليمين. الثاني: أن مقدار النقصان بالغرق لا يسترده الضامن بلا شك. قوله: ولو قال الملتمس: ألق متاعك وأنا وركبان السفينة ضامنون وأطلق فكلام الوجيز يشعر بحمل كل واحد على الانفراد بالضمان؛ فإنه قال: ولو قال الملتمس: ألق وأنا وركبان السفينة ضامنون، ثم قال: أردت التوزيع صدق بيمينه ولزمه حصته فأشعر بأنه لا ينصرف عنه إلا بدعوى الإرادة، وصرح في "النهاية" بخلافه فقال بأنه لا يحمل عند الإطلاق على الانفراد. انتهى. وهذا الذي قاله الإمام قد صرح به الغزالي في "البسيط" فقال: لو قال أنا وركبان السفينة ضامنون فهذا ظاهر في التقسيط، ويحتمل التعميم إن اعترف به وإذا زعم أنه أراد التقسيط قبل والقول قوله مع يمينه. هذا كلامه. وهو صريح في موافقة الإمام، وكلام "الوجيز" يقتضيه إلا أنه أوجز العبارة في "الوجيز" وبسطها في "البسيط". قوله: وإن قصدوا بالمنجنيق شخصًا أو جماعة بأعيانهم فالذي أورده العراقيون أنه شبه عمد إذا أصاب الحجر من قصده، لأنه لا يمكن أن يقصد بالحجر شخص معين أو جماعة معينون فتجب الدية على عاقلتهم مغلظة. وقال آخرون: إن كان الغالب أنه يصيب من قصد فهو عمد يتعلق به القصاص، وهذا ما أورده الصيدلاني والإمام والمتولي وصاحب "الكتاب"، ورجحه صاحب "التهذيب" والروياني وأقاما الكلام وجهين، ويشبه أن يقال: الخلاف راجع إلى أنه هل يتصور تحقيق هذا القصد في المنجنيق. انتهى كلامه. والراجح أنه عمد يتعلق به القصاص؛ فقد قال الرافعي في "المحرر"

و"الشرح الصغير" إنه الأظهر، ونقل النووي تصحيح "المحرر" وسكت عليه. قوله في المسألة: وإن قصدوا واحدًا أو جماعة والغالب أنه لا يصيب من قصده فهو شبه عمد، والعلم بأنه يصيب واحدًا منهم لا بعينه أو جماعة من القوم لا بأعيانهم لا يحقق العمدية ولا يوجب القصاص لأن العمدية تعمد قصد عين الشخص؛ ولهذا لو قال: اقتل أحد هؤلاء وإلا قتلتك؛ فقتل أحدهم، لا يجب القصاص على المكره لأنه لم يقصد عين أحدهم. انتهى كلامه. وما جزم به من اشتراط قصد عين لشخص في العمدية الموجبة للقصاص قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا هنا وفي أوائل الجنايات في الكلام على تقديم الطعام المسموم، ورجح من "زوائده" في باب العفو عن القصاص خلافه، وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله في "الروضة": وفي "صحيح مسلم" (¬1): إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العين حق وإذا استغسلتم فاغسلوا". قال العلماء: الاستغسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد بماء ثم يصب على المعين. انتهى. استغسلتم: بضم التاء على البناء للمفعول؛ أي: طلب منكم الغسل. وداخلة: بتاء التأنيث في آخره على وزن ضاربة. ¬

_ (¬1) حديث (2188) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

القسم الثالث من الكتاب

القسم الثالث من الكتاب قال: القسم الثالث من الكتاب: فيمن تجب عليه الدية. قوله في "الروضة": وأما أبو الجاني وأجداده وبنوه وبنو بنيه فلا يتحملون لأنهم أبعاضه وأصوله فلا يتحملون كما لا يتحمل الجاني، والحديث الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بدية مقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها والولد (¬1). انتهى كلامه. وما ذكره -أعنى النووي- من صحة هذا الحديث الذى فيه الدلالة على موضع الحاجة وهو تبرئة الولد ليس كذلك ولم يتعرض له الرافعي، وأيضًا فإن الحديث رواه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وقد تكلم فيه الجمهور إلا أن مسلمًا استشهد به في صحيحه. نعم يغني عنه حديث أبي هريرة في الصحيحين (¬2) وأن في الحديث المذكور فيه فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها. قوله في "الروضة": فرع: إذا ضربنا على المعتق فبقي شيء من الواجب فهل يضرب على عصباته في حياته؟ نقل الإمام والغزالي المنع؛ إذ لا حق لهم في الولاء ولا بالولاء في حياته، وتردد الإمام فيما لو لم يبق المعتق وضربنا على عصبته فهل يختص بالأقربين لأنهم أهل الولاء والإرث أم يتعدي إلى الأباعد كعصبة الجاني؟ ورجح الاحتمال الثاني ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4575)، وابن ماجه (2648)، وأبو يعلى (1823)، وابن أبي شيبة (5/ 393)، والبيهقي في "الكبرى" (16151) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. قال النووي: صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (6359)، ومسلم (1681) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وجزم به الغزالي وصرح [صاحبا] (¬1) الشامل و"التتمة" وغيرهما بالضرب عليهم. انتهى كلامه. وهذا الذى ذكره عن "الشامل" وغيره ليس عائدًا إلى المسألة التى قبله، بل إلى المسألة الأولى وهي الضرب على عصبات المعتق في حياته؛ فاعلم ذلك؛ فقد صرح به الرافعي، والمتبادر إلى الفهم من كلام "الروضة" خلافه. قوله: وألا يضرب على خنثى لاحتمال الأنوثة، فإن بان ذكرًا فهل يغرم حصته التى أداها غيره؟ فيه وجهان مرويان في "التهذيب". انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": لعل أصحهما أنه يغرم. قوله: وهل يتحمل اليهودي عن قريبه النصراني وعكسه؟ فيه قولان: انتهى. والراجح التحمل؛ فقد قال القاضي الحسين في تعليقته: إنه أظهر القولين، وهو المذكور في "الحاوي" و"تعليق البندنيجي" وغيرهما، ولأجل ذلك قال الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر": إنه الأصح، وفي "زوائد الروضة": إنه الأظهر. قوله: إحداهما: إذا انتهى التحمل إلى بيت المال فلم يوجد فيه مال فهل يؤخذ الواجب من الجاني؟ وجهان بنوهما على أن الدية تجب على العاقلة ابتداء. أو تجب على الجاني وتتحمل عنه العاقلة؟ فيه وجهان، ويقال: قولان. فإن قلنا: تجب على العاقلة ابتداء، لم يؤخذ من الجاني. وإن قلنا: بالتحمل، فإذا تعذر التحمل أخذ الواجب من الأصل. انتهى. ¬

_ (¬1) في الأصول: صاحب، والمثبت من الروضة.

تابعه في "الروضة" على جعل الخلاف في الأخذ من الجاني وجهين، وخالف في "المنهاج" فجعل الخلاف قولين، وسبب ما وقع في "المنهاج" أن الرافعي عَبّر في "المحرر" بالأظهر ولم يزد عليه فتابعه عليه النووي غافلًا عن اصطلاحه أو غير كاشف عن حقيقة الخلاف فوقع في التناقض. قوله: وإذا اعترف الجاني بالخطأ أو شبه العمد وكذبه العاقلة وجبت الدية عليه، فلو مات معسرًا، قال البغوي: يحتمل أن تؤخذ الدية من بيت المال كمن لا عاقلة له، ويحتمل المنع كما لو كان حيًا معسرًا. قال في "الروضة": الاحتمال الثاني أرجح قوله: وإن كان بعض العاقلة حاضرًا وبعضهم غائبًا واستووا في الدرجة فهل يقدم الحاضر؟ فيه قولان، أصحهما: لا، بل يسوى بينهم. ثم قال: والنظم هاهنا وفي "الوسيط" يشعر بتخصيص الخلاف بما إذا كانت المسافة بحيث لا يمكن التحصيل منها في سنة حتى إذا كانت دون ذلك لا يقدم الحاضر بلا خلاف، وكلام الشافعي والأصحاب لا يساعد عليه؛ فإنهم فرضوا فيما إذا كان القاتل بمكة والعاقلة بالشام، وحكوا فيه الخلاف. انتهى كلامه. وهو يشعر بانفراد الغزالي بذلك حتى أنه في "الروضة" أسقطه بالكلية وهو غريب؛ فإنه الإمام قد صرح بذلك في النهاية فإنه بعد ذكر المثال عن الشافعي بمكة والشام قال في أثناء الكلام: يجب أن لا يجري هذا في كل غيبة وإن كانت إلى مسافة القصر فإن الضرب سهل على من بعد عن مكان القتل بمرحلتين، وكذا لو زادت المسافة؛ فلابد من رعاية التعذر، وأقرب معتبر في هذا التعذر عندي متلقي من الأجل الشرعي؛ فإن كان يمكن تحصيل الغرض من الغيبة في مدة سنة فليس الأمر متعذرًا، وإن كان لا يتوصل إلى الضرب عليهم في سنة فيمكن أن يقضى عند ذلك بالتعذر،

ويجرى فيه القولان. هذا كلام الإمام وذكر مثله في "البسيط" أيضًا. قوله: الثالثة: ابتداء المدة في دية النفس من وقت الزهوق. هذا ما يوجد لأئمة الأصحاب على اختلاف طبقاتهم، وفي الكتاب إن ابتداء الحول من وقت الرفع إلى القاضي، وكذا ذكر في "الوسيط"، وعلله بأن هذه مدة تناط بالاجتهاد، وصاحب "الكتاب" كالمنفرد بنقل ما ذكره عن المذهب حتى إن الإمام ساعد الجمهور على رواياتهم. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إنكاره وعبر بقوله: فلا يعرف لغيره. لكن هذا الحكم قد ذكره أيضًا في "البسيط" وعبر بقوله: قال الأصحاب: أول الحول من وقت الرفع إلى القاضي، إلا أن في النقل المذكور نظرًا فإن الفوراني بعد جزمه بما قاله غيره نقل هذا عن أبي حنيفة، والغزالي كثير النقل عنه؛ فالظاهر أنه انتقل نظره أو سقط من النسخة المنقول منها، ووقع في "الكفاية" لابن الرفعة أن الفوراني في "الإبانة" سبق الغزالي إليه. وهو وهم عجيب؛ فقد راجعت ثلاث نسخ من "الإبانة" فرأيت فيها ما ذكرته لك وهو الجزم بما قاله غيره، ثم استظهرت فراجعت نسختين من كتابه المسمى "بالعمد" أيضًا فرأيته موافقًا "للإبانة". قوله: وإذا جنى العبد تعلق الأرش برقبته. اعلم أنه لم يتكلم -رحمه الله- على أنه إذا حصلت البراءة عن بعض الواجب بإعطاء أو غيره هل ينقل من العبد بقسطه أم لا كالمرهون؟ ، وقد صرح بها الرافعي في كتاب الوصايا عند الكلام في الدور الرابع المعقود للجنايات وصحح الانفكاك فقال: إذا جنى عبد على حر وعفى المجنى عليه ومات فإن أجازه الورثة فذاك، وإلا نفذ في الثلث وانفك ثلث العبد

عن تعلق الأرش. قال: وأشار الإمام فيه إلى وجه آخر كما أن شيئًا من المرهون لا ينفك ما بقي شيء من الدين. قوله في أصل "الروضة": إن أراد سيد العبد فداءه فبكم يفديه؟ قولان: أظهرهما -باتفاق الأصحاب وهو الجديد- بأقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية. والقديم: بالأرش بالغًا ما بلغ. ثم قال لو قتل السيد عبده الجاني أو أعتقه أو باعه وقلنا بنفوذهما أو استولد الجانية، لزم الفداء، وفي قدره طريقان: أحدهما: طرد القولين، وأصحهما: القطع بأقل الأمرين، لتعذر البيع وبطلان توقع زيادة راغب. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من تصحيح طريقة القطع قد خالفه في كتاب البيوع من "الروضة" في الكلام على بيع العبد الجاني فجزم بطريقة القولين، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه.

القسم الرابع: في غرة الجنين

قال: القسم الرابع: في غرة الجنين قوله: وهل يعتبر العلم بالجنين أو الانفصال التام؟ وجهان، أصحهما: الأول فلو ضرب بطنها فخرج رأس الجنين وماتت الأم ولم ينفصل الولد أو خرج رأسه ثم جنى عليها فمات فعلى الأصح تجب الغرة لتيقن وجوده، وعلى الثاني: لا شيء لعدم الانفصال. ثم قال: ولو خرج رأسه وصاح فجرّ جارٌّ رقبته، فإن اعتبرنا العلم بحصول الجنين وجب القصاص أو كمال الدية لأنا تيقنا بخروج الرأس وجوده وبالصياح حياته، وإن اعتبرنا الانفصال التام لم نوجب القصاص ولا الدية. انتهى كلامه. وما صححه هنا من أن حكمه كحكم سائر الأحياء في وجوب القصاص أو الدية قد خالفه في الباب الأول من أبواب العدد وكذلك في كتاب الفرائض أيضًا، وقد سبق ذكر لفظ كل من الموضعين في بابه فراجعه، ووقعت هذه المواضع في "الروضة" أيضًا على هذا الاختلاف. قوله في الكلام على الجنين المحكوم عليه باليهودية أو النصرانية: وقول الغزالي: والثاني ثلث الغرة، الذى يتبادر إلى الفهم منه وجوب جزء من الغرة. وهذا لم يذكره أحد وإنما هو محمول على إيجاب غرة قيمتها ثلث الغرة الكاملة على ما بيناه. انتهى كلامه. وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وليس الأمر كما زعم من إنكار هذا الوجه، والذي قاله الغزالي صحيح؛ فإنه وجه ثابت جزم به القاضي الحسين في "تعليقه" والغريب أن الإمام في "النهاية" حكاه عنه فقال: ونقل عن من يوثق به عن القاضي الحسين أن الجنين إذا كان كافرًا

وجب فيه جزء من الغرة نسبته من الغرة نسبة دية أهل الجنين من الدية الكاملة، فإذا كان الجنين نصرانيًا ففيه ثلث الغرة، وفي الجنين المجوسي خمس ثلث الغرة؛ فإن الديات هكذا نسبتها. ثم قال: وهذه الطريقة مقاسة لكنه يجزم على القياس فيما الأصل فيه التعبد. انتهى موضع الحاجة من كلامه. وهذا الذي حكاه الإمام قد ذكر جميعه القاضي في "تعليقته" وحكاه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" ولم يتعرض في "الروضة" لشيء من ذلك لتوهمه أن ما قاله الرافعي صحيح وأن عبارة الغزالي مُؤولة. قوله في أصل "الروضة": ويجب في الجنين الرقيق عشر قيمة الأم ذكرًا كان أو أنثى، وفي الوقت الذى تعتبر فيه قيمتها وجهان، أحدهما: قيمة يوم الإجهاض، والأصح المنصوص تعتبر قيمته أكبر ما كانت من الجناية إلى الإجهاض. انتهى. وما ذكره هاهنا قد خالفه في "المنهاج" فقال: والرقيق عشر قيمة أمه يوم الجناية، وقبل: الإجهاض هذا لفظه. وقد صحح الرافعي في "الشرح" اعتبار قيمته يوم الجناية كما صححه في "المحرر" وعزاه إلى النص، ثم قال: وإنما يعتبر يوم الجناية لأن القيمة يومئذ أكمل غالبًا، فإن فرضت زيادة القيمة مع تواصل الآلام اعتبرنا تلك الزيادة، وحقيقة هذا الوجه النظر إلى أقصى القيم هذا كلام الرافعي، ويعلم به أيضًا أن الشافعي لم ينص على الأكبر وإنما هو من تصرف الأصحاب. قوله: فروع من "مولدات ابن الحداد" وغيرها. منها: الجارية المشتركة بين اثنين بالسوية إذا حبلت من زوج أو زنا

فأعتقها أحدهما بعد ما جنى ثم ألقت جنينا ميتا نظر إن كان معسرًا عتق نصيبه من الأم والجنين وعليه نصف عشر قيمة الأم لشريكه. وهل يلزمه نصف الغرة للنصف الحر؟ فيه وجهان: قال ابن الحداد: لا؛ لأنه وقت الجناية كان ملكه له وجناية الإنسان على ملكه لا توجب ضمانًا. وقال آخرون: نعم، وحكوه عن نصه في "الأم" لأن الجناية على الجنين إنما تتحقق عند الإلقاء وهو حر حينئذ. والخلاف مبني على وجهين ذكرا في أن الموجب للضمان هو الضرب أو الإجهاض؟ . أحدهما: الضرب؛ لأنه يؤثر في الجنين؛ ألا تري أنه يري أثره عليه عند الانفصال. والثاني: الإجهاض؛ لأن الرحم محل نشوء الطفل وسبب الهلاك مفارقته. وكلام أكثر الناقلين للمسألة يميل إلى الوجوب، والأولى بالترجيح ما رجحه الشيخ أبو على في جماعة أنه لا يجب، وأن الموجب هو الضرب. انتهى كلامه. وما رجحه الرافعي هنا من عدم الوجوب صرح بتصحيحه النووي في أصل "الروضة"، ثم ذكر الرافعي بعد ذلك بدون الورقة فرعًا حاصله الجزم بالوجوب وتبعه عليه في "الروضة" فقال: وإن أعتقاها معًا بعد ما جنيا. أو وكلا وكيلًا فأعتقها بكلمة ثم أجهضت فقد عتق الجنين مع الأم قبل الإجهاض فيضمن بالغرة. وفيما يجب على كل واحد منهما وجهان .. إلى آخر ما ذكر. قوله: ومنها مات رجل عن زوج حامل وأخ، وفي التركة عبد فضرب بطنها فألقت الجنين ميتًا تعلقت الغرة برقبة العبد، وللأم ثلثها

وللعم ثلثاها والعبد ملكهما والمالك لا [يستحق] على ملكه شيئًا فيقابل ما يرثه كل واحد بما يملكه؛ فالأخ يملك ثلاثة أرباع العبد فتتعلق به ثلاثة أرباع الغرة وله ثلثا الغرة يذهب الثلثان بالثلثين يبقى نصف سدس الغرة متعلقا بحصته من العبد والزوجة تملك ربع العبد فيتعلق به الغرة ولها ثلث الغرة يذهب ربع بربع يبقى لها نصف سدس الغرة متعلقا بنصيب الأخ وهو ثلاثة أرباع العبد فيفديه بأن يدفع نصف سدس الغرة إلى الزوجة. والفرع لابن الحداد أيضًا، وقد يورد جوابه بغير هذا الإيراد ولا يكاد يختلف المقصود. انتهى كلامه. واعلم أن الإمام أورد جواب ابن الحداد بهذا الطريق الذى ذكره الرافعي وأورده الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" بطريق آخر يخالفه في المعنى لكنه لم ينبه على المخالفة إلا في "البسيط" ولم يقف الرافعي هنا على "البسيط" بل وقف على "الوسيط" فظن أن ما قاله ليس مخالفًا في المعنى فقال -أعني الرافعي- في آخر كلامه وقد يورد جوابه إلى آخره، والذى في البسيط أنه حكى هذه الطريقة. ثم قال: هكذا أورده الإمام، وفيه نظر عندي بل الكشف فيه أن يقول فوات الثلث المستحق للأم يضاف إلى جميع الرقبة فيخص ربعها ربع ثلث الغرة فيبقي لها ربع الغرة متعلقا بنصيب الأخ ويعود إلى جانب الأم ويقول ثلثا الغرة فوته العبد فيوزع على الجميع فيخص نصيبه ثلاثة أرباع الثلثين فيبقى له سدس الغرة متعلقًا بنصيب المرأة. فإن قيل: فإذا كان لها عليه الربع له عليها السدس فيصير السدس قصاصًا بمثله ويبقي للمرأة نصف سدس على الأخ، وهو الجواب كما سبق -أي: على طريقة الإمام-. قلنا: نعم هو كذلك ولكن في التقاضي نظر لعدم تعلق الواجب

بدينهما وإنما تعلقه بالرقبة المملوكة لهما ولا تعد في تقدير التقاضي لكن تبقي فائدة وهي أن الأصح أن الواجب في العبد أقل الأمرين وربما لا تفي حصة الأم من العبد بالأرش الذي للأخ وتفي حصة الأخ وهو ثلاثة أرباع أرشها، فإذا سلمت نصيبها للبيع تعطل ما زاد من نصيبه ولم يتعطل شيء من نصيبها؛ فعلى هذا الوجه ينبغي أن تعلل المسألة. هذا كلامه. وهذه الطريقة التى ذكرها الغزالي وهي أن ينسب الساقط من نصيب كل منهما إلى النصيب لا إلى جملة الغرة متجه؛ فإن العبد كما يقال: إنه جنى على الجنين. يقال: إنه جنى على كل جزء من أجزائه فلا يقال ربع العبد جنى على ربعه ولا نصفه على نصفه وإذا أضيف تلف النقص إلى جملة العبد اقتضى أن يكون الساقط من النصيب مضافًا إليه لا إلى الكل. ووجه اختلاف الطريقين أما في المثال المذكور فنقول على الإيراد الأول يسلم للأخ نصف العبد وقيمته عشرة، وعلى الإيراد الثاني يبقي له سدس الغرة متعلقًا بنصيب المرأة، فهو وإن كان يستحق عشرة التى هي سدس الغرة لكن إنما يجب على المرأة أن تسلم ما تعلق به وهو ربع العبد وقيمته خمسة، فإذا بيع بها لم يصل إليه غيرها وضاعت عليها الخمسة الثانية؛ فعلى الأول يستقر له ما يساوى عشرة وعلى الثاني يستقر له خمسة فقط. نعم: إن قلنا الفداء بالأرش لا بالأقل ظهر الاستواء. واعلم أن التقاضي خاص بالنقدين على المعروف فلا يجئ البحث السابق إلا على وجه ضعيف. قوله: ومنها قال ابن الصباغ: إذا جنى حر أمه عتيقة وأبوه رقيق على امرأة حامل ثم أعتق أبوه فانجر ولاؤه من معتق الأم إلى معتق

الأب، ثم أجهضت الحامل؛ فعلى قياس قول ابن الصباغ يتحمل بدل الجنين مولى الأم اعتبارًا بحال الجناية، وعلى قياس قول غيره يتحمل مولى الأب اعتبارًا بحال الإجهاض. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبير الرافعي أولًا بقوله: فعلى قياس قول ابن الصباغ، سهو وصوابه -وهو المذكور في "الشامل"- إنما هو ابن الحداد، وقد أصلحه في "الروضة" بذلك. الأمر الثاني: أن ما ذكره ابن الصباغ هنا من الجزم بالوجوب وحكاية الوجهين فيمن يجب عليه وأن قياس ابن الحداد وجوبه على موالى الأم وأقره عليه [وتابعه] عليه في "الروضة" وهو غلط مخالف لكلام الأصحاب في هذه المسألة بخصوصها ومخالف لكلام ابن الحداد بخصوصه أيضًا فيها؛ فإن ابن الحداد قد جزم بأن هذا الحر الذى عليه الولاء لا يجب عليه شيء، وتابعه عليه الأصحاب، وقد أوضح الرافعي المسألة في أوائل العاقلة في الكلام على الولاء فقال: والمتولد من عتيقة ورقيق إن قتل إنسانًا فالدية على مولى الأم، ولو جرح إنسانًا فأعتق أبوه ثم مات المجنى عليه فقدر أرش الجناية على موالى الأم والباقي يجب على الجاني لأنه لا يمكن إيجابه على معتق الأم لأنه خرج بإعتاق الأب عن استحقاق الولاء فلا يلزمه ما يجب بعد ذلك ولا يمكن إيجابه على معتق الأب لأنه وجب بسراية جناية وجدت قبل انجرار الولاية إليه فلا يلزمه تحمله ولا يمكن إيجابه على بيت المال لأنه لم يحل عن المعتق، وأيضًا فالضرب على العاقلة على خلاف القياس فتسقط بالشبهة كالقصاص. هذا ما أجاب به ابن الحداد وساعده الأصحاب والإمام وصاحب الكتاب احتمال في الضرب على بيت المال لأنه إذا تعذر الضرب على المعتق كان كمن لا معتق له. هذا كلام الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة".

وهو كما قلنا دليل على بطلان ما ذكره هنا، وإنه إنما حصل من غفلة وذهول عما قاله هناك. والحاصل أن ابن الصباغ اعتبر وقت الجناية في المسألة الأولى وهي ما إذا أعتق أحد الشريكين لأنه كان على ملكه إذا ذاك فاعتباره يقتضي عدم الوجوب فقدم على المقتضى لأن الأصل العدم ولم يعتبر في المسألة الثانية وهي التي فيها انجرار الولاء واحدًا من الأمرين لأنه يقتضي أيضًا عدم الوجوب على العاقلة الذى هو الأصل. قوله في صفة الغرة: هي رقيق سليم من عيب يثبت رد المبيع، له سن مخصوص. ثم قال: ولا يجبر على قبول خصى وخنثى وكافر. انتهى. وما ذكره في الكافر قد تبعه عليه في "الروضة" وهو غريب جدًا؛ فإنه لم ينقل في البيع عن أحد أن الكفر عيب على الإطلاق، بل قيل: إنه ليس بعيب مطلقًا، والصحيح: أنه إن كان في بلد تقل فيه الرغبة كان عيبًا، وكذلك إن كانت الرغبة لا تقل ولكن كانت أمة وكفرها مانع من وطئها كالتمجس والتوثن، ولا اعلم أحدًا ذكر هنا ما ذكره الرافعي. قوله؛ ولم يتكلموا في التغليظ عند وجود الغرة إلا أن الروياني قال: ينبغي أن تجب عن عشر قيمتها بنصف عشر الدية المغلظة، وهذا أحسن. انتهى كلامه. وما ادعاه من أنه لم يتكلم فيها إلا الروياني تبعه عليه في "الروضة" وهو غريب؛ فقد تكلم جماعة في المسألة منهم القاضي أبو الطيب في "تعليقته" فقال ما نصه: عندنا أن الغرة تكون مقدرة بخمس من الإبل فينظر في حال الجناية فإن كانت خطأ فهي مخمسة في حق العاقلة، وإن كانت شبه عمد فتكون مثلثة حقة ونصف وجذعة ونصف وخلفتان. هذا لفظه.

وذكر مثله البندنيجي أيضًا وقال إنه مفرع على الجديد، أما إذا قلنا قيمة الإبل عند الإعواز مقدرة فيعتبر هنا أن تكون قيمة الغرة في الخطأ خمسين دينارًا أو ستمائة درهم، ويزاد التغليظ قدر الثلث، وجزم أيضًا الماوردي بالتغليظ وحكى وجهين في كيفيته فقال: إذا ثبت تقدير الغرة بنصف عشر الدية فقال البصريون: تقوم بالإبل لأنها الأصل في الدية؛ فإن كانت الجناية خطأ قدرت بخمس من الإبل مخمسة: بنت مخاض وبنت لبون وابن لبون وحقة وجذعة، وإن كانت شبه عمد قدرت بخمس مثله كما سبق، ثم إنا نقوم الإبل بعد ذلك بالدراهم لأنها القيمة، فإن بلغت قيمتها في الغليظ ألف درهم مثلًا وفي التخفيف سبعمائة أخذنا منه غرة قيمتها كذلك، وقال جمهور البغداديين: نقدرها بالدراهم دون الإبل لأن الإبل ليست مأخوذة ولا من جنس ما تقوم به، ولو قومت بالإبل لاحتيج إلى تقويم الإبل أيضًا فوجب التقويم ابتداء بالدراهم. هذا كلامه. وذكر القاضي الحسين في باب الديات من "تعليقته" كلامًا ظاهره حكاية وجهين وأن الصحيح عدم التغليظ. قوله: أما بدل الجنين الرقيق فلسيده. انتهى. هذه العبارة أحسن من قول "المنهاج" لسيدها؛ فإنه يخرج منه ما إذا أوصى بأحدهما دون الآخر فإنه يصح كما سبق في الوصية ويستحق بدل الجنين في هذه الحالة مالكه لا مالك الأم وقد سبقت الإشارة هنا إلى ذلك. قوله: وإن اتفقا على سقوط الجنين بالجناية فقال الجاني: سقط ميتًا فالواجب الغرة، وقال الوارث بل حيًا ثم مات فالواجب الدية فعلى الوارث البينة لما [يدعيه] من استهلاك وغيره وتقبل فيه شهادة النساء لأن الاستهلاك حينئذ لا يطلع عليه غالبًا إلا النساء. وعن رواية الربيع قول أنه يشترط رجلان. انتهى كلامه.

وهذا الذى حكاه عن رواية الربيع صحيح فقد رأيته في "الأم" في كتاب ديات الخطأ في باب جنين المرأة لكن شرط فيه شرطًا يتعين الوقوف عليه فإنه قال بعد حكايته لهذا القول ما نصه: هذا إذا أمكنهم أن يخرجوه حيًا بعد ما يولد، فأما إذا لم يمكنهم أن يخرجوه لسرعة موته قبلت عليه شهادة أربع نسوة فيشهدن على موته بعد الجناية. هذا لفظه.

باب: كفارة القتل

باب: كفارة القتل قوله: الثالثة: القتل المباح لا يوجب الكفارة؛ وذلك كقتل مستحق القصاص الجاني، وكقتل الصائل والباغي. انتهى. وهذا الكلام يوهم أن قتل الباغي للعادل يوجب الكفارة وكذلك كلامه بعد هذا أيضًا في شرط القتيل فإنه قال: الشرط فيه أن يكون معصومًا بإيمان أو أمان، مع أن أشبه الوجهين كما قاله في قتال البغاة أنها لا تجب فتفطن له. قوله: وإذا وجبت الكفارة على الصبي والمجنون أعتق الولي من مالهما كما يخرج الزكاة. ثم قال: ولو أعتق الولي من مال نفسه عنهما أو أطعم قال في "التهذيب": يجوز ذلك إن كان الولي أبا أو جدا وكأنه ملكهما ثم مات عنها في الإعتاق والإطعام، وإن كان وصيًا أو قيمًا لم يجز حتى يقبل القاضي التمليك ثم يعتق عنهما القيم أو يطعم. انتهى كلامه. وهذا الذى جزم به هنا من جواز إعتاق الولي من ماله ومن مال الطفل قد خالفه في الباب الثاني من أبواب الصداق في السبب الخامس المعقود لتفريط الولي في المهر، وقد ذكرت لفظه هناك مع بيان ما فيه من الخلل مبسوطًا فراجعه، وقال في كفارة الظهار نقلًا عن القفال من غير مخالفه له: ولو قال الولي اعتق عبدك عن ابني فأعتقه صح لأنه يتضمن ولاء إلى مضرة. انتهى. وجواز هذه الصورة يدل على جوازه في الكفارة بطريق الأولى. قوله: ولا تجب الكفارة بقتل الحربي فإنا مأمورون بقتله، ولا بقتل المرتد فإنه مهدر مراق الدم وبمثله أجابوا في قاطع الطريق والزاني المحصن، ولم يوردوا فيه خلافًا لكن قد سبق ذكر خلاف في القصاص ولا يبعد مجيئه في الكفارة. انتهى كلامه.

واعلم أن الرافعي قد ذكر في باب قطع الطريق أن قتله فيه معنى القصاص ومعنى الحدود. وما الذي يُراعي منهما؟ فيه خلاف والأصح كما قاله في "المحرر" و"المنهاج": رعاية معنى القصاص. قال الرافعي: وللخلاف فوائد. منها: لو قتله قاتل بغير إذن الإمام فإن راعينا معنى القصاص فعليه الدية لورثته ولا قصاص لأن قتله متحتم، ويجئ فيه وجه آخر، وإن لم يراعه: فليس عليه إلا التعزير هذا كلامه. وحاصله تصحيح وجوب الدية ويلزم منه أن يكونوا قد سلكوا به مسلك المعصومين وحينئذ فيلزم القول بوجوب الكفارة على خلاف ما جزم به هاهنا، وبتقدير تسليم كل من الجوابين بكون التزام إيجاب الدية بدون الكفارة موضعًا لا نظير له. واعلم أن الرافعي قد ذكر في باب استيفاء القصاص في فصل الحامل أن الجلاد إذا جرى على يده قتل غير مستحق لا تلزمه الكفارة إذا كان جاهلًا بظلم الإمام. تنبيه: ذكر الرافعي هنا البيات، وهو بباء موحدة مفتوحة بعدها ياء بنقطتين من تحت هو الإيقاع بالعدو ليلًا؛ يقول منه بيّت العدو بالتشديد، قال تعالى: {بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الأعراف: 4.

كتاب دعوى الدم

كتاب دعوى الدم قوله: الشرط الثالث أن يكون المدعي مكلفًا ملتزمًا، فلا تسمع دعوي صبي ولا مجنون وحربي. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم سماعها من الحربي قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو ذهول عجيب عن قواعد مذكورة في كتاب السير وغيره فقد نصوا هناك على أن الحربي إذا دخل إلينا بأمان وأودع عندنا مالًا ثم عاد للاستيطان فإن الأمان فيه لا ينتقض على الصحيح، حتى لو كان من جملة ماله عبد كافر فقتله كافر طالبه الحربي بالقصاص أو الدية، وكذا لو أسلم العبد ولم يتفق بيعه فقتله مسلم. وذكروا أيضًا هناك أنه إذا اقترض حربي من حربي شيئًا أو اشتراه منه ثم أسلم المديون أو دخل إلينا بأمان فالصحيح المنصوص أن دين الحربي باق بحاله، وقيل يسقط لأنه يبعد تمكين الحربي من مطالبة مسلم أو ذمي حتى لو قدرنا أن الذى اقترضه أو اشتراه كان عبدًا ثم قتل بعد رجوعه إلى مالكه بسبب من الأسباب إما برجوع المقرض أو بفسخ المشتري بالعيب ونحو ذلك طالب بدمه. وذكروا أيضًا أنه إذا كان في دار الحرب مسلم فاقترض منهم شيئًا أو اشترى منهم عينًا ليبعث إليهم ثمنها أو أعطوه شيئًا ليبيعه في دار الإسلام ويبعث ثمنه فيجب عليه إرساله إليهم، فلو قتل العبد المذكور طالب بدمه كما سبق، ولو كان بعد إسلام المقتول وقتل المسلم إياه كما سبق. قوله: وإقرار المحجور عليه بإتلاف هل يقبل ويوآخذ به؟ فيه وجهان مذكوران في كتاب الحجر. انتهى.

تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف وجهين فإنهما هكذا مذكوران في الحجر، والذى سبق منهما هناك إنما هو قولان لا وجهان، وهو الصواب. قوله: وإن كانت الدعوي على عبد فإن ادعي العمد ففي القصاص القولان في ثبوته بالقسامة فإن منعناه -وهو الأظهر- أو ادعي خطأ أو شبه عمد تعلقت القيمة برقبته، وذكر الروياني أن المحاملي حكي في "المقنع" قولا أن العاقلة تحمل عن العبد جناية الخطأ، وحمله على غلط الكاتب. انتهى. وهذا القول قد رأيته في "المقنع" كما نقله عنه الروياني وزاد على حكايته فقال إنه أصح القولين ذكر ذلك في أثناء باب العاقلة، وقد حذفه النووي من "الروضة" اعتمادًا على قول الروياني إنه غلط من الكاتب، والظاهر أنه كذلك فإنه لم يذكره في كتبه المبسوطة. قوله: وللوث طرق منها أن يوجد قتيل في قبيلة أو حصن أو قرية صغيرة وبين القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة". وفيه أمران: أحدهما: أن وجود بعض القتيل كاف سواء كان الموجود كثيرًا أم قليلًا إذا تحقق موته. كذا ذكره الرافعي في أثناء الباب. الأمر الثاني: أن ذلك الموضع لو كان لا يدخله غير أهله لا يشترط فيه وجود العداوة. صرح به العمراني في "الزوائد"، وذكر ابن عصرون في "الانتصار" و"المرشد" وجهًا أن عداوة الأكثر كافية، ووجهًا ثالثا أنه -تكفي عداوة واحد نظرًا إلى المعنى. قوله: ثم قيل: يشرط أن لا يساكنهم غيرهم، وقيل: يشترط أن لا يخالطهم غيرهم حتى لو كانت القرية بقارعة طريق ويطرقها التجار

والمجتازون وغيرهم فلا لوث، والأول أوجه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على ترجيح الأول ثم خالفه في "شرح مسلم" فجعل مقابله هو مذهب الشافعي فقال في كتاب القسامة: السابعة: أن يوجد القتيل في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا تثبت بمجرد هذا قسامة. قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم. هذا لفظه. وهو الصواب الذى عليه الفتوي؛ فقد رأيته منصوصًا للشافعي وذهب إليه جمهور الأصحاب بل جميعهم إلا الشاذ فقد جزم به أبو الفضل منصور التميمي في كتابه المسمي بـ"المسافر" ونقله فيه عن نص الشافعي، وقال به أيضًا أبو العباس ابن سريج كما نقله عنه الدارمي في "الاستذكار"، وجزم به أبو حفص معمر ولد الإمام أبي العباس المذكور -أعني: ابن سريج- في كتابه المسمي "تذكرة العالم"، وابن سراقة في "التلقين"، وأبو الحسن بن خيران في "اللطيف"، وأبو الحسن الزجاجي في "تهذيبه"، والشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر"، والقاضي الحسين والبندنيجي، وأبو الطيب في تعاليقهم، والصيمري في "شرح الكفاية"، والماوردي في "الإقناع"، والدارمي في "الاستذكار"، وسليم في "المجرد" و"الكافي"، والفوراني في "العمد" و"الإبانة"، والشيخ في "المهذب" و"التنبيه"، والمتولي في "التتمة"، وأبو الفرج السرخسي المعروف بالزاز في كتابه المسمى بـ"الأمالي"، وأبو عبد الله الطبري في "العدة"، وأبو نصر البندنيجي في "المعتمد"، والشاشي في "الحلية" و"المعتمد" و"الترغيب"، والبغوي في "التهذيب"، والروياني في "البحر"، ونصر المقدسي في "المقصود" وفي "الكافي"، والجرجاني في "الشافي"

و"التحرير"، وابن عصرون في "المرشد" و"الانتصار"، وابن جماعة المقدسي في "شرح المفتاح"، وصاحب "الذخائر" في تصنيفه في أدب القضاء المسمى "عمدة الأحكام" ونقله في "المطلب" أيضًا عن نص الشافعي. نعم ذهب ابن الحداد إلى اعتبار السكني وأخذ به أبو خلف الطبري في "شرح المفتاح" وابن الصباغ وصاحب "البيان" و"الذخائر" فيها خاصة فإنه خالف في أدب القضاء كما سبق فتبعهم الرافعي ثم النووي غير مطلعين على مجموع ما سبق. الأمر الثاني: أن ذلك الغير الذى [تسقط] القسامة باختلاطه يشترط فيه أن لا تعلم صداقته للمقتول أو كونه من أهله، فإن كان كذلك لم تمتنع القسامة قاله ابن عصرون في كتبه الثلاث: "الانتصار" و"المرشد" و"التنبيه" وتدل عليه قصة جبير فإن المقتول فيها كان معه إخوته ومع ذلك شرعت القسامة. قوله: ثم إن شهد العدل الواحد بعد دعوي المدعي فاللوث حاصل، وإن تقدم قول العدل على الدعوي فينبغي أن يكتفى به لحصول اللوث ولا يجعل السبيل فيه سبيل الشهادات المخصوصة بمجلس الحكم المسبوقة بالدعوي، وفي لفظ الكتاب إشعار به. انتهى كلامه. وحاصله أنه لم يطلع في المسألة على نقل لأحد فأبدي ما أبداه تفقهًا، وقد صرح الإمام بالمسألة فنقل عن بعض الأصحاب أن سبيلها سبيل سائر الشهادات، ثم رأي هو لنفسه ما ذكره الرافعي، ثم قال في آخر ذلك ما نصه: وينتظم من مجموع ما ذكرناه مسلك أحببته واخترته ومسلك آخر للأصحاب. هذه عبارته. وذكر أيضًا في الباب مثله فقال: أقول إن العدل الواحد الذي تقبل

شهادته إذا أخبر بوقوع القتل على صيغة الإخبار ثبت اللوث؛ فإنا لا نشترط في ثبوته مراتب الخصومات. هذه عبارته. وحكى أبو بكر بن داود الداودي [والمعروف بالصيدلاني [وجهين] في الاكتفاء بصيغة الخبر فتلخص] (¬1) أن المسألة مختلف فيها اختلافًا قديمًا. واعلم أن النووي قد جزم في "الروضة" بما أبداه الرافعي بحثا فتفطن له. قوله: ولو شهد جماعة تقبل روايتهم كعبيد ونسوة فإن جاءوا متفرقين فلوث وإن جاءوا دفعة فوجهان: أشهرهما المنع لاحتمال أنهم تواطئوا أو لقنوا، وأقواهما: أنه لوث. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في أصل "الروضة" قد أطلق التصحيح بأنه لوث ولم يذكر ما ذكره الرافعي من كونه بحثا وأن الجمهور على خلافه وهو عجيب لاسيما وقد نقل ابن الرفعة في "المطلب" عن الشافعي أيضًا [أنه ليس بلوث فتعين أن تكون الفتوي عليه. الأمر الثاني] (¬2): أنه يشترط مع مجيئهم متفرقين أن لا يمضي زمان يمكن فيه الاتفاق على ما صدر منهم وهو أن يتفرقوا ثم يخبروا فقد حكى صاحب "البيان" فيه وجهين، وأن أكثر الأصحاب على اشتراط ذلك، وهو ظاهر. قوله: وفي "التهذيب" أن شهادة عبدين أو امرأتين كشهادة الجميع، وفي "الوجيز": أن القياس أن قول واحد منهم لوث. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" والحكم ما ذكره البغوي من الاكتفاء بالاثنين؛ ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

فقد جزم به الماوردي ومثل بالنسوة ونقله عنه الروياني في "البحر" وارتضاه وجزم به أيضًا الخوارزمي في "الكافي" ومحمد بن يحيي في "المحيط"، وأما ما نقله عن "الوجيز" واقتضي كلامه عدم الوقوف على نقله فقد صرح به في "الذخائر" فقال: فإن شهد به امرأة واحدة أو عبد واحد تقبل روايته، فقد اختلف فيه أصحابنا، فمنهم من قال: تقبل، وهو اختيار إمام الحرمين. هذا كلامه، وحكاهما أيضًا ابن يحيي في "المحيط".

الكلام في مسقطات اللوث

قال -رحمه الله-: الكلام في مسقطات اللوث قوله: لكن لو قال الولي: القاتل أحدهم ولست أعرفه، لم يتمكن من القسامة وله أن يحلفهم، فإن حلفوا إلا واحدًا منهم فنكوله يشعر بأنه القاتل. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا من التحليف وتبعه عليه في "الروضة" خلاف الصحيح؛ فقد تقدم في أول الباب أنه لو قال الولي: قتله أحد هذين أو واحد من هؤلاء العشرة وطلب من القاضي أن يسألهم ويحلف كل واحد منهم فإنه لا يجيبه في أصح الوجهين للإبهام كمن ادعي دينًا على أحد رجلين. والسبب فيما وقع فيه الرافعي هنا أن الغزالي في "الوجيز" ذكره هاهنا كذلك وهو ممن يصحح سماع الدعوي على غير المعين وهو وجه ضعيف فقلده الرافعي فيما ذكره هاهنا ذاهلًا عما تقدم فوقع فيما وقع. قوله: ولو قال المدعي عليه بالقتل كنت غائبًا يوم القتل وأقام بينة بغيبته وأقام المدعي بينة بحضوره ففي "الوسيط" أنهما يتساقطان، وقال في "التهذيب": بينة الغيبة مقدمة لأن معها زيادة علم، وهذا عند الاتفاق على أنه كان حاضرًا من قبل. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن الصحيح ما قاله البغوي فقد نقله الإمام عن أصحابنا مطلقًا وعبر بقوله فقد قال الأصحاب. إلا أنه ضعف مقالتهم ثم اختار ما حاصله أنهما يتعارضان حتى يسقطا على الجديد، وذكر مثله الغزالي في "البسيط"، واختصر في "الوسيط" فجزم بالتساقط وهو الذى وقف عليه الرافعي لا غير.

الأمر الثاني: أنه قيد محل الخلاف بقوله في آخر كلامه إن هذا عند الاتفاق على الحضور قبل ذلك، ولم يبين الحكم عند عدم الاتفاق عليه، والمتجه فيه التعارض جزمًا لانتفاء التعليل بزيادة العلم. قوله: ويعتبر في بينة الغيبة أن يقولوا إنه كان غائبًا إلى موضع كذا، أما إذا اقتصروا على أنه لم يكن هاهنا فهذا نفي محض لا تسمع الشهادة به. انتهى كلامه. واعلم أن ما ذكره وإن كان شهادة على نفي إلا أنه نفي محصور، وقد اختلف كلامه وكلام "الروضة" في قبول الشهادة بمثله، وسوف أذكره مبسوطًا في آخر أبواب الدعاوي في الباب المعقود لمسائل منثورة فراجعه. والخلاف يجرى أيضًا في دعوي بعض الورثة غيبة القاتل إذا قلنا: أن التكذيب يبطل اللوث. قاله الماوردي وسكت الرافعي عما لو اقتصر الشهود على قولهم كان غائبًا، وكلام الغزالي يوهم أنه لا يكفي أيضًا، والمتجه الاكتفاء بذلك نظرًا إلى اللفظ وبه جزم أبو عبد الله الطبري في "العدة". قوله: ولو شهد عدل أو عدلان أن زيدًا قتل أحد هذين القتيلين فليس بلوث لأن ذلك لا يوقع في القلب صدق ولي أحدهما. انتهى. وهذا التعليل يؤخذ منه أن صورة المسألة فيما إذا لم يكن ولى القتيلين واحدًا، فإن كان كذلك كان لوثًا، وقد صرح به ابن يونس شارح "التنبيه" قال في "المطلب" ويقوي ما قاله إذا قلنا بالصحيح إن الواجب بالقسامة إنما هو الدية خاصة وكانت ديتهما متساوية. قلت: ويؤيده أيضًا كلام ذكره الرافعي بعد هذا في الباب المعقود للشهادة على الدم فقال: وهل يجب في الأرش إذا أطلق الشهود أنه أوضح موضحة وعجزوا عن تعيينها؟ وجهان: أصحهما: نعم، لأن الأرش لا يختلف باختلاف محلها وقدرها، ويدل عليه ما نص عليه في "الأم"

أنهما لو شهدا أنه قطع يد فلان ولم يعينا والمشهود له مقطوع اليدين لا يجب القصاص وتجب الدية. ولو كان مقطوع يد واحدة والصورة هذه فهل تنزل شهادتهم على ما شاهدها مقطوعة أم يشترط تنصيصهم؟ يجوز أن يقدر فيه خلاف. هذا كلام الرافعي. قال في "الروضة": الصواب هنا الجزم بالتنزيل على المقطوعة. قوله: فلو لم يوجد بالمقتول أثر أصلًا قال الصيدلاني وصاحب "التتمة": لا قسامة لاحتمال أنه مات فجأة، وهو المتوجه، وقال الروياني: إنها تثبت، وسياق كلام الإمام يشعر به. انتهى ملخصًا. والمذهب المنصوص وقول الجمهور: ثبوت القسامة على خلاف المذكور هنا؛ فقد صرح بأنه لا يشترط الأثر بالكلية الدارمي في "الاستذكار"، والماوردي في "الحاوي"، وابن سراقة في "التلقين"، وابن القطان، وابن كج -على ما سنوضحه- والقاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وابن الصباغ في "الشامل"، والغزالي في "البسيط" و"الوسيط"، والشاشي في "المعتمد"، والروياني في "البحر"، والجرجاني في "الشافي"، والبندنيجي في "المعتمد"، والقاضي مجلي في "الذخائر"، وهو مقتضي كلام المحاملي في "المقنع"، والصيمري في "شرح الكفاية"، وسليم الرازي في "المجرد"، وأبو عبد الله الطبري في "العدة"، ومحمد بن يحيي في "المحيط"، وتعبير "الوسيط" يدل على أنه مذهبنا لا غير؛ فإنه قال: لا يشترط عندنا خلافًا لأبي حنيفة، ونقله أبو الطيب والماوردي والروياني عن نص الشافعي، وكذلك ابن كج وابن القطان فإنهما نقلا في فروعهما عن الشافعي: أن الرجل إذا دخل دار أعدائه وجرح وسقط ومات فينظر إن كان قد أقبل وأدبر فلا لوث، لأنهم لو قتلوه لصرح

به أو أشار إليه، وإن لم يقبل ولم يدبر فلوث لأن الظاهر أنه مات من جنايتهم بأن سقوه سمًا أو عصروا أنثييه وما أشبهه، وبهذا النص تندفع الآراء، وقد اغتر النووي بهذا الترجيح الضعيف الذى ذكره الرافعي على خلاف نص الشافعي والجمهور فصرح في "الروضة" بتصحيحه على عادته؛ فتفطن له واحذره. وإذا تأملت كلام الرافعي علمت أنه لم يمعن النظر في هذه المسألة. قوله: وكيفية القسامة أن يحلف المدعي خمسين يمينًا. ثم قال: فإن كان الوارث جماعة فقولان: أحدهما: أن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينًا، وأصحهما: أن الأيمان توزع عليهم على قدر مواريثهم لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يحلفون خمسين يمينًا"، فلم يوجب على الجماعة إلا الخمسين. انتهى كلامه. وأشار بذلك إلى الحديث الذى قدمه الرافعي قبيل ذلك وهو حديث جبير المعروف المتعلق بحويصة ومحيصة، والاستدلال به سهو لأن الوارث إنما هو أخو القتيل وهو أخو عبد الرحمن بن سهل، وحويصة ومحيصة عماه، والحالف إنما هو الوارث، وإنما عبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله يحلفون؛ لأن الحلف وإن صدر من واحد لكن بعد اتفاق مع العمين في العادة فإنهما قد حصرا معهما خائضين في القصة فعبر عن اتفاقهم على الحلف بالحلف مجازًا وهو مجاز سائغ حسن، والغريب أن الإمام قد نبه على ما ذكرناه فكيف غفل عنه الرافعي. قوله: ولو غاب بعض الورثة فالحاضر بالخيار بين أن يصبر حتى يحضر الغائب ويحلف كل واحد قدر حصته وبين أن يحلف في الحال خمسين ويأخذ قدر حقه، فلو كان الورثة ثلاث بنين أحدهم حاضر فأراد أن يحلف حلف خمسين يمينا وأخذ ثلث الدية، فإذا قدم ثان حلف

نصف الخمسين وأخذ الثلث، فإذا قدم الثالث حلف ثلث الخمسين ويكمل المنكسر وذلك سبعة عشر يمينا ويأخذ ثلث الدية، ولو قال الحاضر: لا أحلف إلا بقدر حصتي، لا يبطل حقه من القسامة حتى إذا قدم الغائب حلف معه بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر لا آخذ إلا قدر حصتي فإنه يبطل حقه لأن الشفعة إذا أمكن أخذها فالتأخير تقصير مفوت واليمين في القسامة لا يبطل بالتأخير. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من أنه يجوز لبعضهم أن يحلف ويأخذ حصته يتجه إذا قلنا: إن تكذيب بعض الورثة لا يمنع القسامة وهو رأي البغوي. فإن قلنا: يمنع -وهو الصحيح عند الرافعي والنووي- فيتعين انتظارهم لأن توافق الورثة شرط ولا نقول إن الأصل هو التوافق حتى نستند إليه، والبغوي ذكر هذا الفرع هنا على طريقته المتقدمة فوافقه عليه الرافعي ذهولًا عن مخالفته له أولًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي في آخر كلامه من بطلان الشفعة ليس كذلك أيضًا فقد مر هناك أن الصحيح أن الحاضر له أن يؤخر الأخذ إلى قدوم الغائب. قوله في أصل "الروضة" وهنا صور أخرى في الخناثي تعلم من الضابط والمثال المذكور. حذفها اختصارًا ولعدم الفائدة فيها وتعذر وقوعها. انتهى. اعلم أن هذا من زوائد النووي وأشار بذلك في حذفه من كلام الرافعي لهذه المعاني وما توهمه -رحمه الله- من العلم بتلك الصور من الأمثلة السابقة غلط عجيب سببه عدم النظر فيها فتوهم أنها مجرد أمثله مع أن كثيرًا منها مسائل مقصودة وفيها خلاف الأصحاب ومباحث للرافعي ولغيره

فلنذكرها فنقول: قال الرافعي: ولابن الحداد صور من هذه القاعدة. منها: جد وولدان أحدهما مشكل. فالحكم فيها كالحكم فيما إذا خلاف ابنًا وولدًا خنثي. والطريق فيهما أن يقال: إن كان المشكل ذكرًا فالمسألة من اثنين، وإن كان أنثى فمن ثلاثة يضرب أحدهما في الآخر فتبلغ ستة فمنها تصح المسألة فيجعل المشكل أنثي في تحليف الجد حتى يحلف ثلثي الأيمان، وذكرًا في ميراثه حتى لا يأخذ إلا نصف الدية، ويجعل ذكرًا في تحليف نفسه حتى يحلف نصف الأيمان وأنثى في الميراث حتى لا يأخذ سوى الثلث. ومنها: بنت وجد وولد أب مشكل، فإن كان المشكل ذكرًا فالمسألة من أربعة، سهم للبنت، وسهمان للجد والأخ، وإن كان أنثى فهي من ستة: ثلاثة للبنت والباقي بين الجد والأخ بالأثلاث. والمسألتان متوافقان بالنصف فيضرب أحد العددين في نصف الآخر يحصل اثني عشر فتحلف البنت نصف الأيمان بكل حال؛ لأن نصيبها لا يختلف بذكورة المشكل وأنوثته وتأخذ نصف الدية، ويحلف الجد ثلث الأيمان لاحتمال أنوثة المشكل ولا يأخذ إلا ربع الدية لاحتمال ذكورته، ويحلف المشكل ربع الأيمان لاحتمال ذكورته ولا يأخذ إلا السدس لاحتمال الأنوثة. ومنها: جد وأخت من الأبوين ومشكل من الأب، وإن كان المشكل ذكرًا فالمسألة من خمسة وتصح من عشرة، لأن الأخ من الأب يرد على الأخت من الأبوين تمام النصف وهو سهم ونصف فتضرب الخمسة في مخرج النصف تصير عشرة، وإن كان أنثى فالمسألة من أربعة وتصح من اثنين لأن الأخت من الأب ترد ما معها إلى الأخت من الأبوين فيصير المال بينها وبين الجد نصفين فيحلف الجد نصف الأيمان لاحتمال أنوثة المشكل ولا

يأخذ إلا خمسي الدية لاحتمال ذكورته، وتحلف الأخت من الأبوين نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية لأن نصيبها لا يتغير بذكورة المشكل أو أنوثته، ويحلف المشكل عشر الأيمان ويوقف عشر الدية بينه وبين الجد فإن بان ذكرًا رد إليه وإن بان أنثي دفع إلى الجد. وعن بعض الأصحاب: أنه لا يحلف المشكل لجواز أن يتبين أنثي فلا يكون له شيء من الميراث ولكن يوقف فإن بان أنثي فقد حلف الجد والأخت المستحقان تمام الأيمان، وإن كان ذكرًا حلف. عشر الأيمان ودفع العشر إليه. وقال الشيخ أبو علي: والصحيح عند الجمهور ما قاله ابن الحداد؛ لأنا وإن حلفنا الجد والأخت تمام الأيمان فلا يتيقن أنهما مستحقان للجميع [فكيف] يأخذ من الجاني الدية بتمامها ولم يأخذ تمام الأيمان ممن يتيقن أنه يستحق تمام الدية بل يحلف المشكل عشر الأيمان وحينئذ فقد تمت الأيمان ممن يتيقن له الاستحقاق. واعلم أن صاحب ذلك الوجه إن كان يقول: لا يجوز أن يحلف المشكل، لاحتمال أنه لا يرث شيئا فحقه أن يقول فيما إذا حلف ولدا خنثي وأخًا لا يحلف الأخ لمثل هذا الاحتمال، وإن كان يقول لا يكلف أن يحلف ويأخذ تسعة أعشار الدية ويوقف العشر باقيًا على من عليه ما تقدم هناك، ولو كان بدل الأخت من الأبوين أخ من الأبوين فيحلف الجد خمسي الأيمان لاحتمال أنوثة المشكل ويأخذ ثلث الدية لاحتمال ذكورته، ويحلف الأخ ثلثي الأيمان ويأخذ ثلاثة أخماس الدية بالعكس، وتصح من خمسة عشر. ومنها جد وأخت من الأبوين ومشكل من الأبوين أيضًا فالمسألة على تقدير الذكورة من خمسة وبتقدير الأنوثة من أربعة فيضرب أحد العددين في

الآخر يبلغ عشرين منها تصح فيحلف الجد نصف الأيمان لاحتمال أنوثة الخنثي ولا يأخذ إلا خمسي الدية لاحتمال ذكورته، وتحلف الأخت ربع [الأيمان] ولا تأخذ إلا خمس الدية، ويحلف المشكل الخمسين من الأيمان لاحتمال الذكورة ولا يأخذ إلا ربع الدية لاحتمال الأنوثة فمبلغ الأيمان ثمانية وخمسون والمأخوذ سبعة عشر من عشرين من الدية وتوقف ثلاثة أسهم؛ فإن بان الخنثي ذكرًا فهي له ليتم له الخمسان وإن بان أنثي فسهمان من الثلاثة للجد ليتم له النصف وسهم للأخت ليتم لها الربع. قال القاضي أبو الطيب: لو أراد الجد والخنثي أن يصطلحا في السهمين من الثلاثة الموقوفة بينهما على أن يتبين حال الخنثي جاز، أو يصطلحا على التساوي أو التفاضل ولكن بشرط أن يجعل السهم الثالث للأخت فلا يوقف لأن الوقف إنما يكون بحق الجميع فلا يجوز أن يمكنا من التصرف في السهمين ويبقي الثالث على الوقف، وتوقف ابن الصباغ فيما ذكره وقال: السهمان اللذان اصطلحا عليهما لا حق للأخت فيهما فلا يلزم إسقاط حق الخنثي من السهم الذي يحتمل أن يكون له ويحتمل أن يكون للأخت. هذا كلام الرافعي. ثم ذكر بعده مثالين آخرين ليس فيهما زيادة علم فلم أذكرها. قوله: ولو كان مع المدعي شاهد واحد وارد أن يحلف معه فإن قلنا بتعدد اليمين مع الشاهد فلابد من خمسين يمينا، وإن قلنا لا تتعدد بل تتحد قال في "الوجيز": إن شهد على اللوث حلف معه خمسين، وإن شهد على القتل حلف يمينا واحدة. ولك أن تقول: هذا يشعر بالاكتفاء في اللوث بالشاهد الواحد، وما ينبغي للقاضي أن يكتفي به، فإن قول الواحد لا يصلح مثبتًا وما لم يثبت اللوث عند القاضي لا يمكنه البداءة بتحليف المدعي وكأن المراد إثبات الشاهد بما يقيد اللوث وهو الإخبار

عن القتل بدون صيغة الشهادة، لكن لفظ "الوسيط" بعيد عن هذا التأويل. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله الرافعي عن "الوجيز" خاصة وتوقف فيه قد أطلق نقله في "الروضة" فلم يضفه إلى "الوجيز"، ثم إنه أيضًا لم يذكر فيه توقفًا فقال: فإن قلنا تتحد اليمين، فإن جاء بصيغة الإخبار أو شهد على اللوث حلف معه خمسين وإن جاء بلفظ الشهادة وحافظ على شرطها حلف معه يمينا واحدة. هذا لفظه، وهو اختصار عجيب. الأمر الثاني: أن تعبير النووي أيضًا بقوله: وإن جاء بلفظ الشهادة وحافظ. . . . إلى آخره تعبير ناقص مؤذن باشتباه الأمر عليه فإنه لم يذكر المشهود به وهو القتل فأوهم أن المراد اللوث. قوله: حتى لو مات من عليه دين ولا تركة له فقضاه الورثة من مالهم لزم المستحق قبوله، بخلاف ما لو تبرع به أجنبي، قال الإمام: وغالب ظني أني رأيت فيه خلافًا. انتهى. وهذا الكلام لا يعلم منه أن الخلاف راجع إلى المسألة الأولي أو الثانية، وقد بينه في "النهاية" وصرح بأنه في الوارث خاصة، وكذا ذكره الغزالي في "البسيط" فقال: المذهب وجوب القبول. قوله: قال الإمام: ولو أوصي لإنسان بمال ومات فجاء من يدعي استحقاقه هل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية؟ فيه احتمالان. انتهى. تابعه في "الروضة" على ذلك وفيه أمران: أحدهما: أن محل هذين الاحتمالين فيما إذا كانت العين في يد الورثة، فإن كانت في يد الموصي له فهو الحالف جزمًا. كذا صرح به

في "المطلب". الأمر الثاني أن الإمام قد رجح منهما الحلف فقال: إنه متجه حسن فقيه، وقال في الآخر: يجوز أن يقال كذا وكذا، ولم يزد عليه، وقد ذكر الماوردي والروياني أيضًا المسألة وجزما بأن الوارث يحلف، وقد ذكر في أوائل باب الشاهد واليمين فرعًا آخر قد يشتبه بهذا وهو غيره كما سيأتي إيضاحه. قوله: نقلا عن الإمام: فالأيمان لا تجب قط. انتهى. وما ذكره الإمام قد جزم به في "الروضة" وفيه تفصيل متعين استدركه عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنبه عليه إن شاء الله تعالى في الدعاوي. قوله: ولو شهد شاهدان أنه قطع يد فلان ولم يعينا اليد فوجدناه مقطوع يد واحدة فهل تنزل شهادتهما على ما شاهدناها مقطوعة أم يشترط تنصيصهم؟ يجوز أن يقدر فيه خلاف. انتهى كلامه. زاد في "الروضة" فقال: الصواب التنزيل وما ذكره واقتضي كلامهما عدم الوقوف على نقله قد ذكره الماوردي وجزم بالتنزيل، وهو مقتضي كلام الغزالي أيضًا، وقد سبق ذكر المسألة قبل ذلك لغرض آخر. قوله: وتعليم السحر وتعلمه حرام عند الأكثرين، وقيل: لا كما لا يحرم تعلم [مقالة] (¬1) الكفرة وهو ما أورده في "الوسيط". انتهى. والنقل في "الوسيط" في هذا الباب هو ما ذكره الرافعي ولكنه قد جزم في كتاب الإجارة من "الوسيط" أيضًا بالتحريم كما قاله الجمهور. قوله في "الروضة": قد ملفوفًا وادعي أنه كان ميتًا، فالمصدق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الولي في أظهر القولين. ثم قال: فإن صدقناه -يعني الولي- فحلف فله الدية، وفي القصاص وجهان؛ قال الشيخ أبو حامد: لا؛ للشبهة، وقال الماسرجسي والقاضي أبو الطيب وغيرهما: يجب القصاص لأنه مقتضي تصديقه. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الأكثرين على الوجوب لكنه قد ذكر قبل ذلك في باب اختلاف الجاني ومستحق الدم من زوائده ما يخالفه، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه.

كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات

كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات وهي سبع: الجناية الأولى: البغي قوله: عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله (¬1). وما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" (¬2). وأنه قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا" (¬3) وأنه قال: "من خرج عن الطاعة فميتته جاهلية" (¬4). محمولة على من خالف بلا عذر. انتهى. أما المَنْشَط: فهو بميم مفتوحة بعدها نون ساكنة ثم شين معجمة مفتوحة. قال ابن الأثير (¬5): هو مفعل من النشاط؛ وهو الأمر الذى ينشط له ويخف إليه ويؤثر فعله. وأما المكره: فهو على وزن مفعل أيضًا. وأما قيد شبر بكسر القاف فمعناه: قدر شبر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6647)، ومسلم (1709). (¬2) أخرجه أبو داود (4758)، والحاكم (401) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) أخرجه البخاري (6480)، ومسلم (97) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) أخرجه مسلم (1848) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) النهاية في غريب الحديث (5/ 131).

وأما ربقة: فهو براء مهملة مكسورة ثم باء موحدة ساكنة بعدها قاف؛ وهي العروة التي في الحبل؛ وذلك أن صغار الغنم إذا أرادوا ربطها أخذوا حبلًا فجعلوا فيه عري ثم أدخلوا رأس كل واحدة في عروة، وتسمى كل واحدة من تلك العري ربقة، ويسمى الحبل نفسه ربقًا أي: بغير تاء التأنيث. وأما الميتة بكسر الميم وهي هيئة الموت وحالته. قوله: [ويشترط] أن يكون الإمام شجاعًا ليحمي البيضة، ذا رأي؛ فالرأي قبل شجاعة الشجعان. ثم قال: فلا يصلح الناس فوضي. انتهى. قال ابن الأثير (¬1): بيضة الإسلام: مستقر دعوته وموضع سلطانه ومكان اجتماعه، ويقال لها: الحوزة، أيضًا يقال فلان مانع لحوزته أي: لما في حيزه، والحوزة فعلة منه. وأشار بقوله: فالرأي قبل شجاعة الشجعان إلى قول المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني وأشار بقوله: فلا يصلح الناس فوضي إلى قول [الأفوه] الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا والبيت لا يبني إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وفوضى: بفاء مفتوحة وواو ساكنة وضاد معجمة بعدها ألف. قال الجوهري: تقول: قوم فوضي، إذا كانوا متساويين لا رئيس لهم، ثم أنشد بيت الأفوه السابق ذكره. قوله: وفي عدد الذين تنعقد الإمامة ببيعتهم وجوه: أحدها: أربعون. ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث (5/ 451).

والثاني: أربعة. والثالث: ثلاثة؛ لأنها مطلق الجمع. والرابع: اثنان؛ لأن أقل الجمع اثنان. والخامس: واحد. والسادس -وهو الأصح- أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد ولو كان واحدًا. انتهى. وما ذكره في تعليله هذا الوجه من أن أقل الجمع اثنان ذكره كذلك القاضي الحسين في "تعليقته" ثم البغوي في "تهذيبه" فقلده فيه الرافعي وهو خلاف المشهور من مذهب الشافعي ومخالف لما جزم به أيضًا في مواضع منها الوقف على الفقراء غير المحصورين أو الوصية لهم وقسم الصدقات. قوله: وهل يشترط في البيعة حضور شاهدين؟ فيه وجهان حكاهما في "البيان". قال في "الروضة" من زوائده: الأصح أنه لا يشترط إن كان العاقدون جميعًا، وإن كان واحدًا اشترط ذلك، والمراد بالواحد أي: المطاع كما سبق. وقوله: ويشترط في انعقاد الإمامة أن يجيب الذى يبايعوه، فإن امتنع لم تنعقد إمامته ولم يجبر عليها. انتهى. ومحل ما ذكره فيما إذا كان هناك غيره، فإن لم يكن من يصلح إلا واحد أجبر، وقد ذكر الرافعي في نظير هذه الصورة من القضاء خلافًا، وحكى عن الأكثرين أنه يجوز ثم استشكله، وسوف أذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وادعى في "الروضة" هنا من زوائده أنه يجبر بلا خلاف، والقياس

تخريجه على الخلاف في القضاء إلا أن يفرق بأن أمر الإمامة أهم. قوله: وتنعقد الإمامة أيضًا باستخلاف الإمام من قبل وعهده إليه كما عهد أبو بكر إلى عمر -رضي الله عنهما-، وانعقد الإجماع على جوازه. انتهى. وما نقله من الإجماع مردود؛ فإن فيه وجهين حكاهما الهروي في "الإشراف" فقال: ومن أصحابنا من قال: إنه لا يجوز إلا أن الناس؛ لأن أبا بكر استرضي الناس فرضوا وسكتوا، ولأن معاوية لما استخلف ولده قيل له: قد جعلت الخلافة إمارة كسروية يرد الأب على الابن. هذا كلام الهروي. وحكى الماوردي والروياني كلاهما في كتاب الوصاية عن بعضهم: أنه لا يصح إلا بالرضا، ورضاهم أن يعلموا به فلا ينكروا، كما وقع في استخلاف أبي بكر لعمر، وحكاه أيضًا الماوردي في "الأحكام السلطانية"، والإمام في "العتابي" وهو قريب من الأول. قوله: قال صاحب "التهذيب": والاستخلاف أن يجعله خليفة في حياته ثم يخلفه بعد موته، ولو أوصى له بالإمامة من بعده ففيه وجهان لأنه بالموت يخرج عن الولاية فلا يصح منه توليه للغير. ولك أن تقول أولا هذا التوجيه مشكل بكل وصاية، ثم ما ذكره من جعله خليفة في حياته إما أن يريد به استنابته فلا يكون هذا عهدًا إليه بالإمامة، أو يريد به جعله إمامًا في الحال فهذا إما خلع النفس أو فيه اجتماع إمامين في وقت واحد، أو يريد به أن يقول جعلته خليفة أو إمامًا بعد موتي، فهذا هو معني لفظ الوصية ولا فرق بينهما. انتهى كلامه. ولم يذكر -رحمه الله- في كيفية الاستخلاف غير هذه المقالة التي للبغوي،

وقد ظهر لك من كلامه -أي: كلام الرافعي- أنه لا فرق بين الوصية وبين أن يقول جعلته خليفة أو إمامًا بعد موتي، وقد اختصره في "الروضة" على غير وجهه، فإن مقالة البغوي المذكورة أولا لم يحكها بالكلية بل حكي شيئًا آخر، وذكر أيضًا ما يقتضي أن الرافعي يغاير بين الوصية بها وبين العقد بها له بعد موته فقال: والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده، فإن أوصي له بالإمامة فوجهان حكاهما البغوي. هذا لفظه من غير زيادة عليه. واعلم أن ما ذكره البغوي قد أخذه من "تعليقه" شيخه القاضي الحسين؛ فإنه قال: وإذا استخلف الإمام واحدًا في مرضه خلفه بعد وفاته فيما كان يتولاه؛ لأنه لما خلفه في العجز الأوهى فلأن يخلفه في حال العجز الأقوي أولي. وإذا أوصي إلى واحد بالإمامة بعده فوجهان: أحدهما: يجوز كما إذا استخلف في حياته. والثاني: لا لأنه بالموت خرج عن أن يكون صالحًا للإمامة، ولم ينعقد الاستخلاف قبله. هذا كلامه. وقد علمنا به مراد البغوي وإن كان كلام "الروضة" غير مطابق له بالكلية؛ فتفطن لذلك كله. وليس فيه ما يدل على أن الخليفة ينوب عن المستخلف في حال الحياة حتى يخرج ثبوت ولايته بعد الموت على انعزال ثواب الإمام بموته، بل معناه أنه صار في حياته خليفة بعد موته، والمحذور من اجتماع خليفتين ما يترتب على ذلك من اختلاف الكلمة، وليس ذلك في مسألتنا لأن أحدهما فرع عن الآخر وتصرفه موقوف على موته، وإنما جوزنا ذلك لاتفاق الصحابة عليه ومسيس الحاجة إليه جمعًا للكلمة ومنعًا للطالبين. قوله: نقلًا عن الماوردي من غير اعتراض عليه: وإنه إذا خلع الخليفة نفسه كان كما لو مات فتنتقل الخلافة إلى ولي العهد، ويجوز أن

يفرق بين أن يقول: الخلافة بعد موتي لفلان أو بعد خلافتي. انتهى كلامه. زاد النووي فقال: قلت: توقف إمام الحرمين في كتابه "الإرشاد" في انعزال الإمام بعزل نفسه، والله أعلم. والذي ذكره النووي أصلًا وزيادة يقتضي أن ما ذكره الماوردي هو المعروف وأنه لم يظفر بما يخالفه إلا هذا التوقف المذكور عن الإمام، وهو غريب؛ فقد ذكر المسألة بعد هذا بنحو ورقة من "الروضة" فقال: ولو خلع الإمام نفسه نظر إن خلع لعجزه عن القيام بأمور المسلمين لهرم أو مرض أو نحوهما انعزل، ثم إن ولي غيره قبل عزل نفسه انعقدت ولايته وإالا فيبايع الناس غيره. وإن عزل نفسه بلا عذر ففيه أوجه: أصحها: لا ينعزل، وبه قطع صاحب "البيان" وغيره. والثاني: ينعزل لأن إلزامه الاستمرار قد يضره في آخرته ودنياه. والثالث: وبه قطع البغوي-: إن لم يظهر عذرًا بعزل نفسه ولم يول غيره أو ولي من هو دونه لم ينعزل، وإن ولي مثله أو أفضل ففي الانعزال وجهان. هذا لفظ "الروضة". ولم يطلق الرافعي التصحيح وإنما حكى ما صححه النووي عن صاحب "البيان" وغيره. قوله أيضًا نقلًا عنه: وإنه إذا عهد إلى اثنين أو أكثر على الترتيب فقال الخليفة بعد موتي فلان وبعد موته فلان جاز وانتقلت الولاية إليهم على ما رتب كما رتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمراء جيش مؤتة. انتهى. وترتيب الأمراء المذكورين اختلف فيه كلام الرافعي فذكر في الباب الرابع من أبواب الوصية خلاف ما ذكره في الباب الأول من أبواب الوكالة، وقد سبق ذكر لفظ البابين في موضعهما وبينا وجه الصواب فيه.

ومؤتة: بميم مضمومة ثم همزة ساكنة ثم تاء بنقطتين من فوق: موضع بالشام قريب من الكرك وفيه مشهد عظيم في موضع الوقعة. فيه قبور الأمراء المذكورين -رضي الله عنهم-. قوله: ولو سبق أحدهما وتعين واشتبه وقف الأمر حتى يظهر، فإن طالت المدة ولم يمكن الانتظار فقد ذكر الماوردي أنه تبطل البيعتان وتستأنف بيعة لأحدهما، وفي جواز العدول إلى غيرهما خلاف. انتهى. والأصح كما قاله في "زوائد الروضة": المنع. قوله: وهل للإمام عزل ولي العهد؟ قال المتولي: نعم، والماوردي: لا، لأنه ليس ثابتًا له بل المسلمين. انتهى. والأصح هو الثاني. كذا صححه للإمام في "العتابي" والنووي في "زوائده". قوله: ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا، وإن عرّضوا ففي تعزيرهم وجهان. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والأصح عدم التعزير. كذا جزم به المحاملي في "المقنع" والبغوي في "التهذيب" والشيخ أبو إسحاق في "التنبيه"، وصححه الجرجاني في "التحرير"، وكلام "الروضة" يشعر به؛ فإنه قال: الأصح أنهم لا يعزرون قاله الجرجاني وقطع به في "التنبيه". ويقتضي أنه لم يقف على ترجيح لغير هذين، ولا شك أن الأكثرين ساكتون عن الترجيح. ممن سكت عنه القاضي أبو الطيب في "تعليقه" والماوردي في "الحاوي"

وسليم الرازي في "المجرد" والإمام في "النهاية" والشاشي في "الحلية" والجرجاني في "الشافي" والروياني في "البحر" والعمراني في "البيان"، واستدل الإمام على التعزير بأن التعريض حرام، وشذ أبو نصر البندنيجي فجزم في كتابه العمد بالتعزير، وصححه ابن عضرون في "الانتصار". قوله: ولو بعث إليهم واليًا فقتلوه فعليهم القصاص. وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطريق لأنه شهر السلاح؟ أم لا. لأنه لم يقصد إخافة الطريق؟ وجهان. انتهى. والأصح في "زوائد الروضة": إنه لا يتجه. قوله: وإن كان لهم قاض قال المعتبرون من الأصحاب: ينظر إن كان يستحل دماء أهل العدل لم ينفذ حكمه لأنه ليس بعدل ومن شرط القضاء العدالة، ومنهم من يطلق نفوذ قضائهم رعاية لمصلحة الرعايا، وصرح مصرحون أن من ولاه صاحب الشوكة نفذ قضاؤه وإن كان جاهلًا أو فاسقًا كقضاء أهل البغي، وإن لم يكن قاضيهم يستحل الدماء والأموال نفذ حكمه. ثم قال: وعندنا ليس البغي بفسق على ما قدمناه، ومن الأصحاب من قسم البغي إلى ما هو فسق وإلي ما ليس بفسق، ويرد قضاء الباغي الذي بغيه فسق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره أولًا صريح في أن الباغي الفاسق ببغيه لا ينفذ قضاؤه، وهو مخالف لكلامه في كتاب القضاء فإنه حكى هذا وجهًا وأبداه في صورة المستغرب ومثل بأهل الهروان وهم ممن يستحل الدماء والأموال، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. الثاني: أن ما ذكره آخرًا يقتضي تصحيح انتفاء الفسق بالكلية عن البغي

وجزم في كتاب القضاء بانقسامه إلى فسق وغيره، ولكن حكي الخلاف في صحة قضائه وسنذكره أيضًا. وقد ذكر في كتاب الشهادات وكذلك النووي ما حاصله أنه لا فرق بين من يستحل الأموال والدماء في تنفيذ قضائه أم لا ونقله عن نص الشافعي فإنه نص على قبول شهادته وإن اتصف هذا الوصف، وذلك كله على خلاف المذكور هنا وهو الصواب أيضًا لموافقة النص. قوله: وإن كتب قاضيهم بسماع البينة دون الحكم المبرم فهل يحكم قاضينا به؟ ، فيه قولان: أحدهما: لا لما فيه من معاونة أهل البغي وإقامة مناصبهم، وأصحهما: نعم. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية الخلاف قولين ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وخالف في "المحرر" فحكاه وجهين فقال: ويحكم بكتاب سماع البينة في أصح الوجهين. هذا لفظه. وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. قوله: ولو أتلف البغاة أو من لهم شوكة شيئًا في حال القتال فلا ضمان عليهم في أصح القولين ترغيبًا في تسكين الفتنة. ولو ارتدت طائفة لهم شوكة وأتلفوا مالًا أو نفسًا في القتال ثم تابوا وأسلموا ففي ضمانهم القولان: أشهرهما -عن بعضهم- لا ضمان، وخالفه البغوي. انتهى. وما ذكره في المرتدين قد ذكر نحوه في كتاب الردة، ولم يصرح في البابين بتصحيح، والصحيح وجوب الضمان كما أوضحته هناك فراجعه. قوله: ولا يقتل أسيرهم، فلو قتله عادل ففي وجوب القصاص عليه وجهان لشبهة خلاف أبي حنيفة. انتهى.

والأصح أنه لا قصاص؛ فقد نقله في "البحر" عن نص الشافعي في "البويطي" وصرح بتصحيحه النووي من "زوائده" غير مطلع على هذا النص، ونقل أيضًا في "البحر" قبل ذلك بأوراق أن الشافعي نص فيه على أنه لا قصاص أيضًا على قاتل المدبر ولا على المذفف على الجريح لشبهة أبي حنيفة؛ فإنه جوز ذلك فيهما أيضًا، ولم يتعرض الرافعي لذلك إلا أن المسائل الثلاث متقاربة في المعنى. قوله في أصل "الروضة": ولو انقضت الحرب وجمعوهم باقية لم يطلق الأسير إلا أن يبايع، وإن بذل الطاعة أو تفرقت جموعهم أطلق. ثم قال: هذا في أسير هو أهل للقتال، فأما إذا أسُر نساؤهم وأطفالهم فيحبسون إلى انقضاء القتال ثم يطلقون هذا هو الأصح. انتهى. وما ذكره في النساء والصبيان قد جزم في "المنهاج" بعكسه فقال: ولا يطلق وإن كان صبيًا أو امرأة حتى تنقضي الحرب ويتفرق جمعهم. هذا لفظه. والرافعي سالم من هذا الاختلاف؛ فإنه جزم في "المحرر" بمثل ما جزم به في هذا الكتاب -أعني: الشرح- فقال: ولا يطلق الأسير قبل انقضاء الحرب ولا بعد الانقضاء إذا كانت جموعهم باقية إلا أن يرجع إلى الطاعة باختياره، وإذا وقع نساؤهم وصبيانهم في الأسر حبسوا إلى انقضاء القتال ثم يخلون. هذا لفظه فاختصره في "المنهاج" على غير ما هو عليه؛ فتحرر أن الصواب هو المذكور في غير "المنهاج". قوله: حتى إنه -يعني: عليا- - رضي الله عنه - قتل بنفسه ليلة الهرير ألفًا وخمسمائة. انتهى.

والهرير: بهاء مفتوحة ثم راء مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت بعدها راء مهملة هي والتي قبلها؛ وهي حرب وقعت بينه وبين الخوارج، وكان بعضهم يهر على بعض فسميت بذلك، وقيل: هي ليلة صفين بين على - رضي الله عنه - ومعاوية. وصفين: بصاد مهملة مكسورة بعدها فاء مشددة ثم ياء ثم نون؛ وهي اسم لمكان الوقعة. وقد ذكر هنا ألفاظا أخرى. منها: ابن ملجم قاتل على - رضي الله عنه -، اسمه عبد الرحمن، وملجم: بضم الميم وفتح الجيم، هو من بني مراد وكان من الخوارج. ومنها: الاصطلام: ومدلوة الاستئصال وهو افتعال من الصلم وهو استئصال الأذنين؛ يقال: صلمت أذنه أصلمتها صلما على وزن ضربت أضرب ضربا إذا استأصلها فهو أصلم. قوله في أصل "الروضة": السادسة: لو استعان البغاة علينا بأهل الحرب وعقدوا لهم ذمة ليقاتلوا معهم لم ينفذ أمانهم علينا فلنا أن نقتلهم مدبرين. ثم قال: فلو قالوا: ظننا أنه يجوز لنا أن نعين بعض المسلمين على بعض، أو ظننا أنهم المحقون، أو ظننا أنهم استعانوا بنا في قتال الكفار، فوجهان: أصحهما أنا نبلغهم المأمن. انتهى. وهذا الذي ذكره فيما إذا قالوا ظنناهم محقين له شرط آخر وهو أن يقولوا: ظننا أيضًا أن لنا إعانة المحق؛ كذا صرح به الرافعي في الشرحين "الكبير" والصغير ولكن أهمله من "الروضة" ولم يتعرض له أيضًا في "المحرر".

الجناية الثانية الردة

الجناية الثانية: الردة قال: الجناية الثانية: الردة. قوله: وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع أو نفي ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالمًا وقادرًا أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كالألوان، أو أثبت له الانفصال والاتصال، أو استحل محرمًا بالإجماع أو حرم حلالًا بالإجماع، أو نفي وجوب شيء مجمع على وجوبه أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كفر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن المجسمة ملتزمون بالألوان والاتصال والانفصال مع أننا لا نكفرهم على المشهور كما دل عليه كلام الرافعي في الشهادات ووافقه عليه في "الروضة" لكن جزم النووي في باب صفة الأئمة من "شرح المهذب" بتكفيرهم؛ ذكر ذلك قبيل الكلام على منع اقتداء الرجل بالمرأة. الأمر الثاني: أن جحد المجمع عليه ليس بكفر على الإطلاق بل فيه تفصيل سبق في باب تارك الصلاة. قوله: وفي كتب أصحاب أبي حنيفة اعتناء تام بتفصيل الأقوال والأفعال المقتضية للكفر وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه. فمنها: إذا قال: لو أعطاني الله تعالى الجنة ما دخلتها. كفر. وكذا إذا قرأ القرآن على ضرب الدّف أو القضيب. أو قيل له: تَعلمِ الغيب؟ فقال: نعم.

واختلفوا فيمن خرج لسفر فصاح العقعق فرجع. ولو حضر جماعة وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبهًا بالمذكرين -أي: الوعاظ- فسألوه المسائل وهم يضحكون منه ثم يضربونه بالمخراق، أو تشبه بالمعلمين فأخذ خشبة وجلس القوم حوله كالصبيان وضحكوا أو استهزءوا كفر. وكذا لو قال النصرانية خير من المجوسية، أو عطس السلطان فقال له رجل: يرحمك الله. فقال آخر: لا تقل [للسلطان] هذا، أو يسقي فاسق ولده الخمر فينثر أقرباؤه الدراهم والسكر. وكذا إذا تمني ما لم يحل في زمن كتحريم الظلم والزنا أو شد الزنار على وسطه، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه والصحيح أنه يكفر. ولو شد على وسطه [حبلا فسأل عنه فقال هذا زنار فالأكثرون على أنه يكفر. أو شد على وسطه] (¬1) زنارًا ودخل دار الحرب للتجارة كفر. انتهى. والحق ما قاله في "الروضة" أن الصواب في جميع هذه المسائل أنه لا يكفر بشيء منها إذا لم تكن له نية. واعلم أن الرافعي قد ذكر في أوائل الجنايات في الطرف الرابع ما حاصله أن لبس زي الكفار لا يكون ردة، ونقل عن صاحب التهذيب أن تعظيم آلهتهم كذلك أيضًا وأقره ولم يبين النوع الذى حصل به التعظيم بل أطلق اللفظ وقد سبق هناك ذكره مع ما ذكره هنا مما ظاهره المعارضة. واعلم أن هذه المسائل إنما جمعت بعضها إلى بعض وإن كان في خلالها مسائل أخرى فيها كلام لاشتراكها في ظهور عدم التكفير وتصويب النووي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لذلك في جميعها كما ذكره على خلاف ما أشعر به إيراد الرافعي حيث ارتضاه ولم يرده، وقد ذكر الرافعي مسائل بالفارسية فحذفها النووي. واعلم أن المخراق بميم مسكورة ثم خاء معجمة وبالراء المهملة وبالقاف هو المنديل يلف ويضرب به. قاله الجوهري. قوله في الروضة: ولو قال: لو كان فلان نبيًا آمنت به كفر. انتهى. كذا شاهدته بخط المصنف آمنت بدون ما النافية قبلها، وهو كذلك في بعض نسخ الرافعي، وفي بعضها: ما آمنت بإثبات ما وهو الصواب. قوله: ولو قيل له: قَلّم أظفارك فإنه سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: لا أفعله وإن كان سنة. كفر. قال في "الروضة": المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد الاستهزاء. قوله: واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدًا أو مع ثوب نجس أو إلى غير القبلة؛ قال في الروضة: مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكفر إن لم يستحله. انتهى. وهذا الذي يقتضيه كلامه من الكفر إذا استحل الصلاة مع الثوب النجس ممنوع فإنه ليس مجمعًا على المنع منه، بل قد ذهب جماعة من العلماء إلى الجواز وأن إزالتها سنة. منهم ابن عباس وسعيد بن جبير وهي إحدى الروايات عن مالك -رحمه الله-، وقد ذكر النووي في كتاب الصلاة من "شرح المهذب" ذلك. قوله: ولو قيل له: يا يهودي يا مجوسي فقال: لبيك؛ كفر، ولو أسلم كافر فأعطاه الناس أموالا فقال مسلم: ليتني كنت كافرًا، فأسلم حتى أعطي، قال بعض المشايخ: يكفر. قال في "الروضة": في الحكم بالكفر في المسألتين نظر.

قال: وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في قصة أسامة - رضي الله عنه - حين قتل من نطق بالشهادة فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كيف صنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ" (¬1). ويمكن الفرق بينهما، والله أعلم. الطرف الثاني: فيمن تصح ردته. قوله: ولا تصح ردة صبي ولا مجنون ومن ارتد ثم جن لا يقتل في جنونه، وكذا من أقر بالزنا ثم جن لا يقام عليه الحد لأنه قد يرجع عن الإقرار، بخلاف ما لو أقر بقصاص أو حد قذف ثم جن فإنه يستوفي في جنونه لأنه لا يسقط برجوعه، وبخلاف ما لو قامت بينة بزناه ثم جن. قال البغوي: هذا كله على سبيل الاحتياط، فلو قتل في حال الجنون أو أقيم عليه الحد فمات لم يجب بشيء. انتهى. وما نقله عن البغوي وسكت عليه قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" (¬2) وظاهره الاستحباب، وهو غير مستقيم بالنسبة إلى المرتد؛ فإنه تصحيح وجوب الاستتابة ينفيه. قوله: وتصح ردة السكران على المذهب كما سبق في طلاقه، فإن صححناها فارتد في سكره أو أقر بالردة وجب القتل، لكن لا يقتل حتى يفيق فيعرض عليه الإسلام. وفي صحة الإستتابة في السكر وجهان حكاهما البغوي: أحدهما: نعم؛ لكن يستحب أن تؤخر إلى الإفاقة. والثاني: المنع، وهو المذكور في "الشامل" لأن الشبهة لا تزول في ذلك الحال، ولو عاد إلى الإسلام في السكر صح إسلامه وارتفع حكم الردة. انتهى كلامه. فيه أمران: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (97). (¬2) انظر: "الروضة" (10/ 71).

أحدهما: أن الفتوي على صحة الإستتابة في حال السكر؛ فقد قال الماوردي: إنه ظاهر مذهب الشافعي. وقال الروياني في "البحر": إنه أصح الوجهين. الأمر الثاني: أنه سيأتي أن توبة المرتد لا تحصل إلا بما يحصل به إسلام سائر الكفار وهو التلفظ بالشهادتين وحينئذ فجزمه بصحة إسلامه في حال سكره بعد حكاية الوجهين جزم منه بصحة توبته وذلك عين المسألة الأولى على خلاف ما اقتضاه كلامه من التغاير، ولا يصح أن يريد بالمسألة الأولى حكاية الخلاف في صحة امتناعه حتى يرتب عليه جواز القتل لأنه علل عدم الصحة بأن الشبهة لا تزول، وهذا إنما يستقيم أن يكون تعليلًا لعدم صحة الإسلام المانع من القتل لا لعدم صحة الامتناع، والظاهر أن قوله ولو عاد محله بعد الوجه الأول على أنه تفريع عليه ويكون بالفاء لا بالواو، وكأنه كان ملحقًا بالحاشية فأخره الناقل لما بعده. قوله: ولو ارتد صاحيًا ثم سكر فأسلم في سكره حكي ابن كج القطع بأنه لا يكون إسلامًا، والقياس جعله على الخلاف. انتهى كلامه. وهذا الذى ذكر الرافعي أنه القياس واقتضي كلامه عدم الوقوف على نقله قد صرح بمقتضاه القاضي أبو الطيب في آخر باب الردة من "تعليقته" فقال: فصل: إذا ارتد وهو صاح ثم سكر فأسلم حال سكره صح إسلامه. هذه عبارته. ثم نقل بعد ذلك ما يدل على أن الشافعي نص عليه. قوله: وهل تقبل الشهادة على الردة مطلقًا أم لابد من التفصيل؟ نقل الإمام تخريجه على الخلاف في أن الشهادة على البيع وسائر العقود هل يجب فيها التفصيل والتعرض للشرائط أم تسمع مطلقة؟ ؛ فعلى قول لابد من التفصيل لأن مذاهب العلماء فيما يوجب التكفير مختلفة

والحكم بالردة عظيم الوقع فيحتاط له، والظاهر قبولها مطلقة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وتعبيره بالظاهر هو من تتمة كلام الإمام، وقد رأيته في "النهاية" كذلك. إذا علمت ما ذكرناه فاعلم أن ما نقله عن الإمام بحثًا من الاكتفاء بالإطلاف وأقره عليه، واقتضي كلامه عدم وقوفه على ما يخالفه حتى اغتر به هو فأطلق تصحيحه في "المحرر" وكذلك النووي في أصل "الروضة" عجيب مردود عقلًا ونقلًا. أما النقل فلأن المعروف وجوب التفصيل على خلاف ما قاله فقد صرح به القفال في "الفتاوي" وكذلك الماوردي في "الحاوي" والغزالي في "الوسيط" في هذا الباب وصرح به في كتاب الشهادات جماعة منهم الشيخ في "المهذب" والشاشي في "المعتمد" وابن عصرون في كتابه المسمى "بالانتصار" والعمراني في "البيان" وهو مقتضي كلام القاضي أبي الطيب في "تعليقته" قبل كتاب القاضي إلى القاضي بأوراق، وأجاب الرافعي في أوائل الطرف الثالث من الباب الخامس المعقود لتعارض البيتين بنحوه، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. وأما المعقول فلأن الإقرار بكفر مورثه المانع له من الإرث لم ينقله الرافعي في هذا الباب إلا مفصلًا كما ستعرفه مع أن الإقرار أسهل من الشهادة ولهذا لو قال الشخص هذه أختي من الرضاع قال الرافعي ففي "البحر" وغيره أنه لا يفتقر إلى ذكر الشروط إن كان فقيها وإلا فوجهان. قال: وفرقوا بينه وبين الشهادة بأن المقر يحتاط لنفسه فلا يقر إلا عن تحقيق، وأيضًا فإن الرافعي والنووي قد صححا أن الشهادة على الجرح لا تقبل إلا مفسرة لاحتمال اعتقاد ما ليس بجرح جرحًا فإن الناس مختلفون

في أسباب الجرح، وما قالاه فيها مع ما قالاه هنا من قبول الشهادة المطلقة على الردة في غاية التباين فإن الاختلاف فيها أكثر وأمرها أغلظ ولا ينفع في هذا إمكان تلفظ الشهادتين فإنه قد يكون ميتًا فتترتب عليه أحكام المرتدين ويفسخ عليه نكاح زوجاته اللاتي لم يدخل بهن بتقدير حياته. ثم إن إخبار العدل بتنجيس الماء قد فصلوا فيه بين أن يكون موافقا للمخبر له في اعتقاده أم لا؛ فإن كان موافقا فيقبل من غير بيان السبب، وإن كان مخالفًا فإن بين السبب قبل وإلا فلا، وهذا التفصيل لم يذكره في شئ مما تقدم، ولو قيل به هاهنا لم يكن بعيدًا؛ فإن المدرك في الكلام واحد. وأيضًا فقد قالوا في الشهادة بالرضاع: إن تعرض للشرائط قبلت وإلا فوجهان، قال الرافعي: والأكثرون على أنها لا تقبل لاختلاف المذاهب. قال: ويحسن أن يتوسط، فيقال: إن أطلق فقيه يوثق بمعرفته قبل وإلا فلا. واعلم أن القولين في مسألتنا مخرجان وحينئذ فلا اعتراض على النووي حيث جعله في "الروضة" قولين وفي "المنهاج" وجهين. قوله: وعلى هذا -أي: قبول الشهادة المطلقة- لو شهد شاهدان عليه ردته فقال: كذبا أو ما ارتددت قبلت شهادتهما ولم يعينه التكذيب بل عليه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا، ولا ينفعه ذلك في بينونة زوجته، وكذا الحكم لو اشترطنا التفصيل ففصلا وكذبهما المشهود عليه، وليس ذلك كما لو شهد شهود على إقراره بالزنا وأنكر لا يحد لأن الإقرار بالزنا يقبل الرجوع فيجعل إنكاره رجوعًا، ولا يسقط القتل عن المرتد بقوله رجعت فلا يفيد الإنكار والتكذيب. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه لا يحد إذا قال كذبا وقال لم أزن لكنه قد نص على الأولى

في باب حد الزنا، وحكى فيها وجهين وصحح أنه يحد فاعلمه ولم يتعرض له في "الروضة" هنا. قوله: ولو مات رجل معروف بالإسلام عن ابنين مسلمين فقال أحدهما إنه مات مسلمًا، وقال آخر: كفر بعد إسلامه ومات كافرًا، فإن بين سببه بأن قال سجد للصنم فنصيبه فيء لبيت المال، وإن أطلق فثلاثة أقوال: أحدها: يرثه لأنه قد يتوهم ما ليس بكفر كفرًا. والثاني: يجعل فيئًا لإقراره بكفره وأظهرها: إنه يستفصل؛ فإن ذكر ما هو كفر كان فيئًا وإلا صرف إليه. هكذا نقل صاحب الكتاب. انتهى ملخصًا. وقد اختلف كلام الرافعي في الأصح من هذه الأقوال؛ فصحح في "الشرح الصغير" القول الثالث الذى صححه الغزالي وهو الاستفصال وعبر بالأظهر كما عبر به أيضًا، وصحح في "المحرر" الثاني فقال: فإن بين سبب كفره لم يرثه وإن أطلق فكذلك في أظهر القولين. هذا لفظه. وقد اختلف كلام النووي أيضًا؛ فإنه صحح في أصل "الروضة" ما صححه الغزالي ثم وافق في "المنهاج" على ما في "المحرر". قوله: ولو ارتد الأسير مختارًا ثم رأيناه يصلي صلاة المسلمين؛ فإن كان في دار الحرب كان إسلامًا وإن كان في دار الإسلام فلا؛ لأنها قد تكون تقية، وأما الكافر الأصلي فلا يكون إسلامًا مطلقًا، وسوى صاحب البيان بينهما في التفصيل. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن اقتصار الرافعي على نقل التسوية عن البيان فقط قد تابعه عليه أيضًا في الروضة وهو مشعر بأنهما لم يستحضرا ذلك عن غيره، وهو

غريب؛ فإن القاضي أبا الطيب قد صرح بذلك في كتاب صلاة الجماعة، وحكاه المتولي هناك عن نص الشافعي، وقال المحاملي: يحكم به في الظاهر فإن ادعى خلافه رجعنا فيه إليه، وقد نقل ذلك جميعه النووي في "شرح المهذب" في ذلك الباب، إلا أنه صحح الأول وهو لا يكون إسلامًا مطلقًا. الأمر الثاني: أن النووي قد استدرك عليه هناك في "شرح المهذب" وقال: هذا إذا لم نسمع منه صيغة الشهادة، إن سمعناها كان إسلامًا مطلقًا حيث ما كان من أي كافر كان إلا على وجه ضعيف سبق في باب الأذان هذا كلامه. لكن الذي سبق في باب الأذان من كلامه وكلام الرافعي أنه إن كان عيسويًا لم نحكم بإسلامه وإلا فهو محل الخلاف والصحيح أَنّا نحكم به.

الفصل الثاني في أحكام الردة

الفصل الثاني في أحكام الردة قوله: وكذا الكافر الأصلي إذا أسلم وتاب هل يفترق الحال بين أن يكون ظاهر الكفر وبين أن يكون زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن الكفر. انتهى كلامه. وتفسير الزنديق بما ذكره سبق منه أيضًا في صلاة الجماعة وفي كتاب الفرائض، وقال في كتاب اللعان في الكلام علي التغليظ: إن الزنديق هو الذي لا يتنحل دينًا، وكلامه في نكاح المشركات قريب منه أيضًا، وهذا التفسير هو الأقرب؛ فإن الأول هو المنافق وقد غايروا بينه وبين الزنديق. وفي "الصحاح" للجوهري الزنديق من الثَنويّة وهو مُعرَّب، والجمع: الزنادقة. وقال الرافعي في الديات فيما لو جاء المرتد أو الزنديق أو الوثني رسولًا فقتل: إن المرتد لا شيء فيه، وفي الوثني دية المجوس، وفي الزنديق تردد والأصح إلحاقه بالوثني لأنه لم يسبق منه التزام الإسلام وإن كان إلحاقه بالمرتدين من جهة أنه يظهر الإسلام ويتستر بالكفر فإظهاره الإسلام يجعل كإسلام المرتد. قوله: وتجب الاستتابة، وفي قول: تستحب، وهي على الفور، وفي قول: تمتد إلى ثلاثة أيام؛ لما روي أن رجلًا وفد على عمر - رضي الله عنه - من قبل أبي موسي الأشعري فقال له عمر - رضي الله عنه -: هل من مغربة خبر؟ فأخبره أن رجلًا كفر بعد إسلامه. فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه فقال: هلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب؟ اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض

إذ بلغني (¬1). انتهى. المغربة: بفتح الراء وكسرها على ما دل عليه كلام الجوهري وصرح به غيره قال: وهو الخبر الذي طرأ عليهم من بلاد سوى بلادهم، وقد تقدم في تارك الصلاة كلام في الفرق بينه وبين المرتد، فليراجع. قوله في "الروضة": فرع: إذا وجب قتل المرتد إما في الحال وإما بعد الإستتابة فقال: عرضت لى شبهة فأزيلوها لأعود إلى ما كنت عليه فهل نناظره لإزالتها؟ وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن [الحجة] مقدمة على السيف. والثاني: لا؛ لأن الشبهة لا تنحصر فيورد بعضها بإثر بعض فتطول المدة فحقه أن يسلم ثم يستكشفها من العلماء. والأول أصح عند الغزالي، وحكي الثاني الروياني عن النص واستبعد الخلاف. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره -رحمه الله- من حكاية المناظرة عن الغزالي وعدمها عن النص غلط، بل النص على المناظرة والغزالى ذهب إلى عدمها؛ كذا ذكره الرافعي فقال فيه وجهان: أحدهما: نعم لأن الحجة مقدمة على السيف. والثاني: لا. ثم قال: وهذا أصح عند صاحب "الكتاب". وحكى القاضي الروياني الأول عن النص فاستبعد الخلاف] (¬2) فيه. هذا لفظ الرافعي. فانعكس علي النووي حالة الاختصار، وكذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1414)، والشافعي (1500) وسعيد بن منصور (2585)، والبيهقي في "الكبرى" (16664) من حديث عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه. قال الحافظ: زعموا أن هذا الخبر ليس بمتصل. وقال البيهقي: ليس بثابت، لأنه لا يعلم متصلًا. (¬2) سقط من ب.

أيضًا الموجود في كلام هذين هو ما ذكره الرافعي كالروياني إنما نقل عن النص المناظرة؛ كذا رأيته في "البحر" وجزم به في "الحلية" والغزالي إنما صحح خلافها فقال في "الوجيز": لم يناظره في أصح الوجهين، ولم يصحح [شيئا] (¬1) في "البسيط" و"الوسيط". قوله: وفي معني توبة المرتد إسلام الكافر الأصلي، وقد وصف الشافعي - رضي الله عنه - توبته فقال: أن يأتي بالشهادتين ويبرأ من كل دين خالف الإسلام، وذكر في موضع آخر أنه إذا أتي بالشهادتين حكم بإسلامه، وليس ذلك باختلاف قول عند الجمهور بل يختلف باختلاف الكفار. قال في "التهذيب" إن كان الكافر وثنيًا أو ثنويًا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول سائر الأحكام وإن كان مقرًا بالوحدانية غير أنه ينكر رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا نحكم بإسلامه بمجرد كلمة التوحيد حتي يقول: محمد رسول الله، وإن كان من الذين يقولون: إن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبعوث إلى العرب خاصة أو يقول إن النبي محمدًا سيبعث من بعد لم نحكم بإسلامه حتي يقول محمد رسول الله إلي جميع الخلق ويبرأ من كل دين خالف الإسلام. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الذي قاله البغوي طريقة نسبها الإمام في الظهار إلى المحققين، والظاهر المشهور أن الكلمتين لابد منهما في هذه الحالة، وقد نبه عليه الرافعي بعد هذا بأسطر؛ فتفطن له. الأمر الثاني: أنا إذا اكتفينا في إسلام الوثني ونحوه بالإقرار بالوحدانية على هذه الطريقة فلابد من عرض الشهادة بالرسالة عليه أيضًا، فإن أنكر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كان مرتدًا. كذا قاله الرافعي أيضًا في الظهار، وكلامه هنا يشعر بأن العرض لا يجب. الأمر الثالث: أن هذا الكلام يقتضي بظاهره أن المقر بالوحدانية المنكر للرسالة لا يحكم بإسلامه حتي يقر بهما معًا، وقد صرح في "الروضة" بذلك فقال: حتي يقول مع ذلك: محمد رسول الله. وهو غلط؛ فإن أصحاب هذه الطريقة قائلون بالاكتفاء بالإقرار بالرسالة كذا صرح الرافعي في كتاب الظهار. الأمر الرابع: أن الطائفة التي تقول أن النبي محمدًا سيبعث من بعد. ذكرها الرافعي أيضًا في الظهار وحكم عليها بمثل ما حكم به هاهنا وحذف النووي ذلك في الموضعين. قوله: ولو قال الكافر: أنا ولي محمد، لم يصح إسلامه؛ لأنه قد يحبه بخصالة المحمودة، وكذا لو قال: أنا مثلكم أو مسلم أو آمنت أو أسلمت. انتهى. وهذا الذي قاله فيما إذا قال أسلمت أو أنا مسلم قد ذكر فيه بعد ذلك تفصيلا فقال قبيل الكلام علي ولد المرتد نقلًا عن "المنهاج" للحليمي ما نصه: وإنه إذا قال لملي -أي لصاحب ملة-: أسلم: فقال: أسلمت أو أنا مسلم، لم يكن مُقرًّا بالإسلام، ولو قيل لمعطل: أسلم. فقال: أنا مسلم أو من المسلمين، كان مقرًا بالإسلام؛ لأنه لا دين له حتي يسميه إسلامًا، وقد يتوقف في هذا. انتهى كلامه. وقد خالف في الموضعين جميعًا في آخر الباب الثاني من كتاب اللعان فجزم بأنه قد يكون إسلامًا، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. فتحصلنا على ثلاثة مواضع متخالفة، ولا ذكر للمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر".

قوله: وإن حدث الولد من مرتدين ففيه ثلاثة أقوال: أصحهما -على ما أورده في "التهذيب"- أنه محكوم له بالإسلام والثاني أنه مرتد. والثالث: أنه كافر أصلي. انتهى. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وصحح في "المحرر" الأول وعَبّر: بالأصح، وصحح النووي في "المنهاج": أنه مرتد. واعلم أن النووي صحح في أصل "الروضة" أنه مسلم، ولم ينقله عن صاحب "التهذيب" كما نقله عنه الرافعي، ثم استدرك عليه فقال: كذا صححه البغوي وتابعه الرافعي. هذه عبارته، ونسبة ذلك إلي الرافعي مردودة لما عرفته؛ وسببه أنه يختصر ويتصرف ثم ينسى فيستدرك بعد مدة عليه بناء على أنه من كلام الرافعي. قوله: فإن قلنا: إنه مرتد؛ فلا يجوز استرقاقه، وإن قلنا: كافر أصلي، جاز استرقاقه. قال الإمام: ويجوز عقد الجزية معه إذا بلغ، وهو كالكافر الأصلي في كل معنى. والذي قطع به البغوي وغيره وحكاه الروياني عن المجموع أنه لا يجوز عقد جزية له لأنه ليس كتابيًا. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به الإمام هنا قد حكاه في باب عقد الذمة وجهًا وقال: إنه لا أصل له، وأن المذهب أنها لا تعقد له، وإنا إذا قلنا بعقدها ففي حل المناكحة والذبيحة تردد، وإن الوجه: القطع بالتحريم. قوله: وهل يزول ملك المرتد عن أمواله بالردة؟ فيه ثلاثة أقوال. ثم قال: وأصحها -على ما ذكر صاحب "التهذيب"- التوقف. فإن هلك على الردة بان زوال ملكه بالردة وإن عاد إلى الإسلام بان أنه

لم يزل. انتهى. صحح في "المحرر" ما صححه البغوي، وكذلك النووي في أصل "الروضة"، ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" هنا أيضًا. نعم ذكر في كتاب الكتابة ما حاصله ترجيح القول بزوال الملك بنفس الردة؛ فإنه قال ما نصه: وإذا وقفنا ملكه فالكتابة موقوفة أيضًا. وقيل: لا يجيء في الكتابة الوقف؛ لأن العقد لا يوقف على أصل الشافعي. وأجيب عنه بأنه وقف تبين. ثم قال: والأشبه من حيث الجملة بطلانها. هذا لفظه. فترجيحه للبطلان مع القول بصحتها على قول الوقف يلزم منه ترجيح زوال الملك بنفس الردة. قوله: والخلاف في زوال الملك يجري في ابتداء التملك إذا اصطاد أو احتطب، فإن قلنا: يزول، قال الإمام: ظاهر القياس أنه يثبت الملك لأهل الفيء فيما اصطاد أو احتطب كما يتحصل ملك السيد فيما احتطب، وليكن شراؤه واتهابه كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد حتي يجيء فيه الخلاف، والذي ذكره المتولي أنه يبقي على الإباحة، وإن قلنا إن ملك المرتد باق فيملك وإن قلنا: إنه موقوف، فموقوف، فإن عاد إلى الإسلام بان أنه ملكه من يوم الأخذ وإن مات مرتدًا قال المتولي يكون المأخوذ باقيًا على الإباحة وعلى قياس ما ذكره الإمام يتيقن أنه لأهل الفيء. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران:

أحدهما: أن ما قاله الإمام من كونه لا يبقي على الإباحة بل يملكه أهل الفيء قد تابعه عليه الغزالي، والمعروف ما قاله في "التتمة" من بقائه على الإباحة. قد جزم به الماوردي في "الحاوي"، وقال ابن الرفعة في "الكفاية": إنه متعين. الأمر الثاني: أن ما ذكره الإمام أيضًا في الشراء والاتهاب مردود؛ فإن الإمام قد ذكر في باب العبد المأذون أن شراء العبد إذا صح وقع للعبد ويكون السيد بالخيار بين أن يقره عليه وبين أن ينزعه من يده. وقضية هذا التخريج أن يقع المرتد ثم ينتقل إلى الفيء وذلك ممتنع؛ فتعين ما قاله المتولي. قوله: إذا قلنا: يزول ملكه. لا يصح تصرفه ببيع وشراء وإعتاق ووصية وغيرها لأنه لا مال له، وفي الشراء ما سبق عن الإمام. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، فأما ما ذكره في البيع فهو صحيح وإن ورد على عين، وأما إذا ورد على الذمة فإنه يخرج على الخلاف السابق بين الإمام والمتولي، فإن قلنا بما قاله المتولي من امتناع تجدد الملك له فلا يصح إلا ثبوت مقابلة له، والتفريع على أنه لا يثبت، وإن قلنا بمقالة الإمام صح وانتقل عوضه إلى أهل الفيء. وأما ما ذكره في الشراء فهو أيضًا على هذا التفصيل، وكذلك القول في الإجارة وغيرها من هذه التصرفات. وأما الوصية: فإن أوصي بشيء غير معين [كالوصية بعبد ودرهم وثلث ماله صح لأن العبرة بحال الموت، وإن وصي بشيء معين] (¬1) كهذه الدار فالمتجه الصحة؛ وذلك لأنه إذا أوصي بعين هي ملك لغيره حالة ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الوصية ففي الرافعي وجهان من غير تصحيح رجح النووي الصحة، ثم إن اتفق أنها في ملكه عند الموت [أخذها] الموصي له وإلا فلا. ومسألتنا أولى بالصحة؛ لأن المرتد قادر على تملكها بالإسلام بخلاف ملك الغير فإنه لا يستقل بتملكه. قوله: وإن قلنا بالوقف فكل تصرف يحتمل الوقف كالعتق والتدبير والوصية فهو موقوف ثم قال: وأما البيع والكتابة والهبة ونحوها فهو على قولي وقف العقود؛ فعلي الجديد: هي باطلة، وعلى القديم: توقف إن أسلم حكم بصحتها وإلا فلا. انتهى كلامه. وما ذكره في كتابة المرتد من بطلانها على الجديد تفريعًا على قول الوقف قد خالفه في كتاب الكتابة؛ فإنه نقل بطلانها عن القاضي أبي حامد فقط ونقل صحتها عن ابن القطان وابن الوكيل وأبي إسحاق المروزي والشيخ أبي حامد، ورد مقالة الأول بأن هذا وقف تبين لا وقف صحة، وهو صحيح على الجديد. ووقع هذا التناقض أيضًا في "الشرح الصغير" فإنه صرح هنا ببطلانها وصرح في كتاب الكتابة بالصحة، وقد تقدم ذكر عبارته فيه في المسألة السابقة وجزم في "المحرر" هنا في باب الكتابة بأنها مخرجة على القولين في وقف العقود على عكس ما قاله في الشرحين هناك. قوله في أصل "الروضة": ولا يصح نكاح المرتد ولا إنكاحه لسقوط ولايته، وحكي البغوي على قولنا: لا يزول ملكه، وجهًا أنه يجوز تزويج أمته إذا لم يحجر القاضي عليه كسائر تصرفاته المالية. قال: وهذا غير قوي وقطع المتولي وغيره بهذا. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله في آخر كلامه عن المتولي ومن وافقه كلام ناقص غير متضح، وقد بينه الرافعي فقال: وهذا ما أورده صاحب "التتمة" وغيره وقالوا: إنه كسائر التصرفات التي لا تقبل الوقف. هذه عبارته.

الجناية الثالثة: الزنا

فعلمنا: أن الصحيح عندهم البطلان أيضًا وإنما حاولوا تخريج وجه ضعيف. قوله: وإذا أتلف المرتد شيئًا في حال الحرب هل يضمن؟ فيه خلاف سبق في قتال البغاة. انتهى. لم يصرح هو ولا النووي في شيء من كتبهما بتصحيح في هذه المسألة لا في هذا الباب ولا في قتال البغاة إلا أن الشيخ في "التنبيه" قد قال: في الضمان قولين كأهل البغي، وأقره النووي عليه في تصحيحه، والأصح في أهل البغي عدم الضمان؛ فأشعر ذلك برجحان عدم الضمان في المرتد أيضًا. وليس كذلك بل الصحيح وجوبه فإن الذي نص عليه الشافعي في أكثر كتبه كما قاله الماوردي في باب قتال أهل الردة وصححه الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والبغوي ونقله ابن الرفعة عن الجمهور وقطع به القاضي أبو حامد وأبو القاسم الصميري وأكثر البصريين. قال -رحمه الله-: الجناية الثالثة: الزنا. قوله: ويروي أن عليًا - رضي الله عنه - جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها (¬1). ومنها: فدك التي غرب ابن عمر أمة إليها. هي بفاء ودال مهملة مفتوحتين بعدهما كاف؛ وهي قرية [بخيبر] بينها وبين مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرحلتان، وقيل ثلاث. ومنها: أنه ورد في الخبر نفي المخنثين؛ هو جمع مخنث بكسر النون وفتحها والكسر أفصح كما سبق إيضاحه في أوائل النكاح. قوله في "الروضة": وهل يغرب العبد نصف سنة أم سنة أم لا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1190) بسند صحيح.

يغرب؟ فيه أقوال: أظهرها الأول. انتهى كلامه. أهمل من كلام الرافعي طريقة قاطعة بتغريب النصف فقال: وعن أبي إسحاق القطع بالنصف. هذا لفظه. قوله: ولا تغرب المرأة وحدها في أصح الوجهين، هكذا أطلق مطلقون الوجهين وخصصهما الإمام وصاحب "الكتاب" بما إذا كان الطريق آمنا. ثم قال ما نصه: وفيه قول بشرعية التغريب من غير أمن الطريق، وفي البيان وغيره ما يشعر بخلافه. انتهى. ومعني كلامه أنه يؤخذ مما ذكرناه القول والحكم بأن أصل التغريب لا يتوقف على الأمن فإن تخصيص المرأة المنفردة به يدل عليه. ثم نقل بعده من كلام العمراني وغيره ما يدفعه حتى لا يغرب أيضًا الرجل ولا المرأة المستصحبة للزوج أو المحرم في حالة الخوف، وقد حذف في "الروضة" هذا الكلام الذي يؤخذ منه ما ذكرناه، واقتصر على الأول وهو غريب. قوله: وإن لم يخرج الزوج أو المحرم إلا بأجرة فهل هي في مالها أم في بيت المال؟ وجهان كأجرة الجلاد: أصحهما الأول. انتهى ملخصًا. واعلم أن أجرة الجلاد في بيت المال، فإن تعذر فقيل: لا تجب على المحدود أصلًا بل بفرض الإمام. قال الروياني: أو يستأجر بأجرة مؤجلة أو يستأجر من يقوم به، وقيل: يجب عليه وهو الصحيح، وقيل: إن كان موسرًا وجب وإلا فلا. هكذا في الرافعي و"الروضة" في باب استيفاء القصاص؛ وحينئذ فتكون أجرة المحرم هنا في بيت المال، فإن تعذر جاء فيه الخلاف، فتفطن له، وكلامه هنا يوهم أو يقتضي خلافه.

قوله: فإن امتنع مع الأجرة لم يجبر، وقال ابن سريج: يجبر؛ فعلى هذا إذا اجتمع محرمان أو محرم وزوج فأيهما يقدم؟ ولم يتعرض له الأصحاب. انتهى. قال في "الروضة": يحتمل وجهين كنظائره: أحدهما: الإقراع. والثاني: يقدم الإمام باجتهاده من يراه، وهذا أرجح، والله أعلم. قوله: ولو عين الإمام جهة للتغريب وطلب الزاني أن يغرب إلى جهة أخرى فهل يجاب الزاني؟ فيه وجهان حكاهما الإمام ورأى الأظهر إجابته وهو ما أورده في الكتاب، والمذكور في غيره أنه لا يجاب ويوافقه ما في التهذيب أن الإمام لا يرسله إرسالًا بل يغربه إلى بلد معين. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله الرافعي هنا عن "التهذيب" فليس مما نحن فيه بل أن دل فإنما يدل على المسألة الآتية من بعد هذه. الثاني: أن الراجح عدم إجابته؛ فقد قال في "الشرح الصغير" إنه الأشبه، وذكر نحوه في "المحرر" وصححه النووي في أصل "الروضة". قوله: وإذا غرب إلى موضع معين فهل يمنع من الانتقال إلى بلد آخر؟ الذي أورده المتولي واختاره الإمام أنه لا يمنع، ومنهم من قال: يمنع. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا وصحح في أصل "الروضة" الأول. واعلم أن الرافعي قد ذكر بعد هذا بدون الصفحة كلامًا قد يعارض هذا أو يخصصه فينبغي معرفته فقال: وفي الحلية للقاضي الروياني أنه يلزم

المغرب أن يقيم في القرية حتى تكون كالحبس له في أصح الوجهين ولا يمكن من السير والضرب في الأرض فتكون كالنزهة. قوله: فإن لاط ففيه أقوال: أصحها: أن حده حد الزنا، والثاني: يجب التعزير، والثالث: يجب القتل. وفي كيفيته وجوه: أحدها: يقتل بالسيف. والثاني: يرجم. والثالث: يهدم عليه جدار أو يرمي من شاهق. انتهى. أسقط من "الروضة" القول الموجب للتعزير فلم يذكره بالكلية ولم يصحح في "الشرح الصغير" أيضًا شيئًا من هذه الأوجه المفرعة على القتل، وأصحها في "زوائد الروضة" هو الأول. قوله: ولو وطئ زوجته أو أم ولده في دبرها فالمذهب أن واجبة التعزير، وقيل في وجوب الحد قولان كوطء الأخت المملوكة. انتهى. وهذه المسألة فيها كلام سبق إيضاحه في أواخر أبواب النكاح في الباب المترجم له في "الروضة" بالباب التاسع فراجعه. قوله: ولو وجدنا بامرأة خلية حملًا أو ولدت فأنكرت الزنا فلا حد. انتهى. وهذه العبارة ناقصة؛ فإنها لو سكتت لم تُحد أيضًا وقد نَبّه عليه في "الروضة". قوله: إحداهما: إذا أولج في فرج ميتة ففيه وجهان: أحدهما: يجب الحد؛ لأنه حصل إيلاج فرج في فرج محرم لا شبهة فيه. وأصحهما: لا يجب؛ لأنه مما ينفر الطبع عنه فلم يحتج إلى زجر

عنه كشرب البول. انتهى. تابعه النووي في "الروضة" وفي "فتاويه" على تصحيح عدم وجوب الحد؛ ومقتضاه أنه لا فرق بين أن تكون الميتة مباحة له في حال الحياة أم لا، وبه صرح في باب الغسل من "شرح المهذب"؛ فإنه حكى فيها ثلاثة أوجه، ثم قال: أصحها: لا حد مطلقا، والثاني: يجب، والثالث: إن كانت مباحة له في حياتها بزوجية أو ملك فلا حد وإلا فيجب. وهذا الثالث قيل: إنه منصوص عليه. انتهى. ثم صحح -أعني النووي- في باب الغسل أيضًا من "النكت" التي صنعها على "الوسيط" الوجه الثالث وعبر بالأصح، ومن خطه نقلته. قوله في إتيان البهيمة: وهل تقتل؟ نظر إن كانت مأكولة قتلت عند الشيخ أبي حامد وجماعة، ومنهم من قال: فيه وجهان، وإن لم تكن مأكولة فوجهان. انتهى ملخصًا. وحاصله: رجحان القتل في المأكولة وعدم الترجيح في غيرها، والأصح فيها -أعني غير المأكولة- عدم القتل. كذا صححه النووي في "الروضة" و"تصحيح التنبيه" ولم ينبه في "الروضة" على أنه من "زياداته" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. ولم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضا ولا تعرض للمسألة في "المحرر". قوله: وهل يحل أكلها إذا كانت مأكولة وذبحت؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وهو ما أورده الإمام وصاحب "التهذيب". وأصحهما عند الشيخ أبي حامد: المنع. انتهى. والراجح على ما دل عليه كلام الرافعي في "الشرح الصغير" وهو الحل وقد صرح بتصحيحه صاحب "التنبيه" والنووي في أصل "الروضة".

قوله: القسم الأول: الشبهة في المحل بأن يكون مملوكًا له كما لو وطئ جاريته المحرمة عليه بمحرمية رضاع أو نسب بأن كانت أخته من الرضاع أو النسب أو كانت بنته أو أمه من الرضاع ففي وجوب الحد قولان: أصحهما: لا يجب. ويجري الخلاف فيما إذا كانت موطوءة ابنه أو أبيه. ولو كانت جارية مشتركة بينه وبين غيره أو جاريته المزوجة أو المعتدة عن زوجها ففيه طريقان: أحدهما طرد القولين، وأقواهما: القطع بالمنع؛ لأن تحريمهن لا يتأكد؛ فأشبه وطء الحائض والمحرمة ومن في معناهما، ولا الجارية المجوسية والوثنية. وكذا إذا أسلمت جارية ذمي فوطئها قبل أن تباع عليه. ويدخل في هذا القسم وطء الأب جارية الابن لشبهة حقه في مال الابن ويجوز أن يعد منه وطء الحائض والمحرمة ومن في معناهما. انتهى كلامه. واعلم أن بعض ما يزيد التنبيه عليه موقوف على ذكر عبارة "الروضة" فنقول: قال في اختصاره لكلام الرافعي ما نصه: أما الشبهة في المحل فوطئ زوجته الحائض والصائمة والمحرمة وأمته قبل الاستبراء أو جارية ولده لا حد فيه، ولو وطء أمته المحرمة عليه بمحرمية رضاع أو نسب أو مصاهرة كأخته منهما وأمه وبنته من رضاع وموطوءة ابنه وأبيه لم يجب الحد على الأظهر. ولو وطئ جارية له فيها شرك أو أمته المزوجة أو المعتدة من غيره أو المجوسية أو الوثنية أو أسلمت أمة ذمي فوطئها قبل أن تباع فلا حد على المذهب، وقيل: فيه القولان. فإن قلنا: لا حد، ثبت النسب والمصاهرة، وإلا فلا، وقيل: يثبت

النسب وتصير الجارية أم ولد بلا خلاف. انتهى كلام "الروضة" (¬1)، وحينئذ فنعود إلى ما أردناه من التنبيه على كلام الرافعي وهو أمور: الأول: أن ما صححه من عدم ثبوت النسب إذا قلنا بوجوب الحد فتدخل فيه مما تقدم مسائل فيها كلام: أحدها: وطئ جاريته المحرمة عليه برضاع أو غيره، وقد اختلف كلامه فيها فصحح في أواخر النكاح في الفصل المعقود لوطء جارية الابن المترجم له في "الروضة" بالباب العاشر ما اقتضاه كلامه هنا من نفي النسب، وقد سبق ذكر لفظه هناك ثم خالف الموضعين جميعا في كتاب أمهات الأولاد فجزم بثبوته مع القول بوجوب الحد وسوف أذكره هناك إن شاء الله تعالى فراجعه. المسألة الثانية: أن يطأ الجارية المشتركة وما دل عليه كلامه هنا قد خالفه في الكلام على وطء جارية الابن فجزم بثبوت الاستيلاد، وإن قلنا بثبوت الحد، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه، وجزم أيضًا في باب الكتابة، وإذا قلنا بثبوت نسبه من الجارية المشتركة كان مبعضًا، وقيل: يكون كله حرًا، وهل الخلاف وجهان أو قولان؟ وقع فيه اختلاف في كلام الرافعي بين كتاب السير وكتاب الكتابة سوف أبينه في موضعه إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: في الكلام على قول الرافعي وتصير الجارية مستولدة بلا خلاف، وهو من وجهين: الأول: أن ظاهره أنه حكم مستأنف ثابت على [كل] قول وليس تفريعًا على القول بثبوت النسب فإنه لو نفاه أولًا تفريعًا على ما قبله لكان إثباته بعد ذلك يكون تفريعًا على ما بعده لكنه لم يفعله فاقتضى القول تأمنة الولد على كل قول، وليس كذلك، أما إذا قلنا بعدم ثبوت النسب فلا يمكن المصير إليه، وأما إذا قلنا بثبوته فقد ذكر الرافعي تفريعًا عليه في وطء جارية الولد التي ليست مستولدة له ثلاثة ¬

_ (¬1) انظر: "الروضة" (10/ 93).

أقوال: أصحها: أنها تفسير أم ولد، وثانيها: لا، وثالثها: إن كان موسرًا فنعم وإلا فلا. وأما الثاني من الوجهين المشار إليهما أولًا فهو أن الجارية المشتركة إنما تفسير كلها أم ولد إذا كان الواطيء موسرًا. كذا نبه عليه الرافعي في كتاب الكتابة. الأمر الثالث: في الكلام علي قوله: ويجوز أن نعد منه وطء الحائض والمحرمة ومن في معناهما والكلام عليه من وجهين: أحدهما: أن المعنى والتقسيم من أوله إلى آخره يقتضي تصوير ذلك في الإماء أو أنهن داخلات إن لم يرد تخصيصهن. الوجه الثاني: أن تعبيره بقوله: ومن في معناهما يدخل فيه المرهونة والمكاتبة والصائمة والمعتكفة اعتكافًا واجبًا وغير ذلك، وإن أدرجنا فيه الزوجة دخل فيه أيضا الرجعية والمظاهر عنها. وإذا علمت ذلك فقد اختصره في "الروضة" اختصارًا عجيبًا؛ فإنه خصص الكلام بالزوجة وحصر الذي في معناهما بالصائمة فراجعه في أول كلامه فإنه قدمه إليه. ثم إنه -أعني النووي- جعل الأمة قبل الاستبراء وجارية الولد من القسم المتفق عليه ولم يلحقه بما بعده مما فيه القولان ولا مما فيه الطريقان. فأما المشتراه فلم يذكرها الرافعي، والقياس فيما إذا كانت موطوءة البائع أن تكون كالأمة المعتدة عن غيره لاسيما إذا لم يستبرئها البائع، وقد حكى فيها طريقين -أعني المعتدة- وأما جارية الابن ففيها قولان مذكوران في النكاح، وكلام الرافعي ظاهر في إلحاق ذلك بالمختلف فيه فتأمله. قوله: ولو ظنها جارية له فيها شرك وكانت غيرها وقلنا لا يجب الحد بوطء المشتركة قال الإمام: فيه تردد، ويجوز أن يقال: لا حد؛ لأنه

ظن ما يسقط الحد، ويجوز أن يقال: يحد؛ لأنه علم التحريم وإنما جهل وجوب الحد، وكان من حقه أن يمتنع. انتهى. والصحيح عدم الوجوب؛ فقد صحح الرافعي والنووي ذلك فيما إذا سرق مال غيره على ظن أنه لأبيه أو ابنه وأن الحرز ملكه، وهو نظير مسألتنا إن لم يكن إياها. والفرق بين هذه المسائل وبين ما إذا علم التحريم ولكن اعتقد عدم الحد أو سرق دنانير يظنها فلوسًا أنه هنا قد اعتقد أمرًا نعتقده نحن مسقطًا وأما هناك فإنا نعتقده موجبًا، وقد ذهل النووي عن المنقول في باب السرقة وعن التفرقة بين المعينين المذكورين ورجح هنا من "زوائده" الوجوب فقال: إنه الظاهر الجاري على القواعد في نظائره، وقال ابن الرفعة في أوائل الجنايات من المطلب أيضًا إنه الظاهر. وما قالاه هو السابق إلى الوهم في بادي الرأي؛ فمن حقق المعنى وتأمله ووقف على المنقول هناك ظهر له بطلانه. قوله: ولو علم التحريم ولم يعلم تعلق الحد به فقد جعله الإمام على التردد الذي ذكره فيمن وطء من يظنها مشتركة فبانت غيرها. انتهى. والصحيح في هذه المسألة وجوب الحد؛ كذا جزم به الرافعي في شارب الخمر فقال: وإن قال: علمت التحريم ولم أعلم أن فيه حدًا أقيم عليه الحد؛ لأنه إذا علم التحريم فحقه أن يمتنع. هذا لفظه. وهو نظير المسألة إن لم تكن إياها، ولم يستحضر النووي ما ذكره الرافعي هناك إلا أنه صحح من "زوائده" الوجوب فقال: الصحيح الجزم به. قال: وهو المعروف في المذهب والجاري على القواعد. قوله: وهل يستحب للشهود كتمان الشهادة في حدود الله تعالى؟

فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لئلا تتعطل. انتهى. وما ذكره هنا من تصحيح عدم الكتمان قد جزم بخلافه في الباب الأول من كتاب الشهادات في أثناء السبب السادس في الكلام على شهادة الحسبة، وقد اختلف كلام "الروضة" أيضًا في المسألة فإنه جزم باستحباب الستر في كتاب الشهادات متابعة للرافعي وفي آخر الباب الثاني من أبواب القضاء من "زوائده" ثم ذكر هنا من "زوائده" تفصيلًا فقال: الأصح التفصيل؛ وهو أنه إن رأى المصلحة في الشهادة شهد وإن رآها في الستر ستر، وذكر الرافعي المسألة في "الشرح الصغير" في هذا الباب فقط كما ذكرها في الكبير ولم يتعرض لها في "المحرر" ولا في "مختصره". قوله: وإذا أقر بالزنا ثم رجع سقط الحد. وهل يستحب له الرجوع؟ فيه وجهان يقاس أحدهما باستحباب الستر في الابتداء، ويفرق في الثاني بأن الهتك قد حصل. انتهى كلامه. والراجح على ما تلخص من كلام الرافعي في الشهادات بعد الكلام على شهادة الحسبة الوجه الثاني؛ فإنه جزم بأن من ظهر عليه الحد يستحب له أن يأتي الإمام ليقيمه عليه. قال: لأن الستر قد فات، وإذا جزم بالإتيان إليه عند الظهور لفوات الستر كان الجزم بعدم الرجوع عن الإقرار أولى وقد وافق النووي في "الروضة" على المذكور هناك ولم يستحضره هنا فرجح من زوائده بحثًا الأول فقال: مقتضى الحديث الصحيح في قصة ماعز - رضي الله عنه - أنه يستحب؛ فهو الراجح والله أعلم. قوله: ولو قتله رجل بعد الرجوع ففي وجوب القصاص وجهان نقلهما ابن كج ورأي الأصح أنه لا يجب، ونسبه إلى أبي إسحاق لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع. انتهى. ومقتضى هذا الكلام رجحان السقوط بعد الرجوع والجزم بذلك قبله،

وقد وافق في الروضة عليه. وإذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن النووي قد ناقض ذلك في "تصحيح التنبيه" فصحح وجوب القصاص على من قتل زانيا محصنا ثبت زناه بالإقرار من غير تفصيل بين ما قبل الرجوع وما بعده، وهو تناقض عجيب. الأمر الثاني: أن مقتضى كلامه في كتاب الجنايات في الركن الثاني المعقود للقتل الجزم بالوجوب إذا كان بعد الرجوع، وقد تقدم هناك إيضاح المسألة. وما يفتي به منها فراجعها. قوله: وهل يشترط في الإقرار بالزنا التفسير كما في الشهادة أو لا يشترط كما في القذف؟ فيه وجهان. انتهى كلامه. والراجح اشتراط ذلك؛ كذا رجحه الرافعي في كتاب السرقة في أواخر النظر الثاني المعقود لإثبات السرقة فقال بعد حكاية الوجهين ما نصه: أولاهما أنه يجب التفصيل احتياطًا للحد وسعيًا في ستر الفاحشة بما أمكن. هذا كلامه. وعبر عنه في "الروضة": بالأصح، ورجحه أيضًا في "الروضة" هنا من "زوائده" غير مستحضر لكلام الرافعي في ذلك الموضع فقال: الاشتراط أقوي، ويستأنس فيه بقصة ماعز. قوله: وإن كان المرض مما لا يرجى زواله كالشل والزمانة، أو كان مخدجًا ضعيف الخلقة لا يحتمل السياط فلا يؤخر الحد؛ إذ لا غاية تنتظر. انتهى. قال الجوهري: المخدج: بميم مضمومة وخاء معجمة ساكنة ودال مهملة مفتوحة بعدها جيم، وهو ناقص الخلقة، ومنه قول على في ذي الندية مخدج اليد؛ أي: ناقص اليد، وفي الحديث: "كل صلاة لا يقرأ فيها

بأم القرآن فهي خداج" (¬1)؛ أي: نقصان، بمعنى ناقصة. قوله: وإذا وجب حد القذف على مريض قال القاضي ابن كج يقال للمستحق: إما أن تصبر إلى البرء أو تقتصر على الضرب بالعتكال، وفي "التهذيب": أنه يجلد بالسياط سواء كان المرض مما لا يجري زواله أو مما يرجي لأن حقوق العباد مبينة على التضييق. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح، والصحيح ما قاله في "التهذيب"؛ فقد جزم به الرافعي في كتاب الجنايات في باب استيفاء القصاص في الكلام على وقت القصاص ونقله عن البغوي والغزالي وغيرهما. قوله: وفرق صاحب "التهذيب" بأن الرجوع على الإقرار مستحب وإن كان صادقًا. انتهى. وما ذكره من استحباب الرجوع فيه كلام سبق ذكره فراجعه. قوله في "الروضة": فرع: لو جلد الإمام في مرض أو حر شديد أو برد شديد فهلك المجلود بالسراية فالنص أنه لا يضمن ونص أنه لو ختن أقلف في شدة حر أو برد فهلك أنه يضمن؛ فقيل في وجوب الضمان: فيهما قولان، وقيل: بظاهر النصين وهو الأصح لأن الجلد ثبت بالنص والختان بالاجتهاد. فإن أوجبنا الضمان فهل يضمن جميعه أو نصفه؟ فيه وجهان. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن مقتضاه تصحيح طريقة التقرير والرافعي لم يصححها ولا نقل أيضًا تصحيحها عن أحد. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الثاني: أنه لم يصحح في الختان هنا شيئًا وإنما قال والظاهر في الجلد أنه لا يضمن وإن أثبتنا الخلاف. نعم صححه في باب ضمان إتلاف البهائم. الثالث: أن الأصح من الوجهين الأخيرين ضمان النصف. كذا صححه الرافعي في الباب المذكور. لكن في الختان خاصة إلا أن الجلد أولى بذلك منه لأنه أخف؛ ولهذا كان الصحيح فيه عدم الضمان بخلاف الختان. قوله في المسألة: قال الإمام: فإن لم نوجب الضمان فالتأخير مستحب لا محالة وإلا فوجهان، وفي "المهذب" وغيره إطلاق القول بأنه لا يجوز، ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف في الضمان. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وجزم في "المحرر" بأن التأخير مستحب إذا فرعنا على الأصح وهو عدم وجوب الضمان، ولم يصحح شيئا على القول الآخر، ووافق النووي في "المنهاج" على ما في "المحرر" وخالف في "الروضة" فصحح من "زوائده" وجوب التأخير سواء قلنا بالضمان أم لا. فقال: المذهب وجوب التأخير مطلقًا هذا لفظه. قوله في الحديث: "إذا زنت أمة أحدكم وتبين له زناها فليجلدها ولا يثرب عليها. . . ." (¬1) إلى آخره. قيل: معناه لا يوبخها ولا يعيرها، وقيل: لا يبالغ في جلدها بحيث يدميها. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2119)، ومسلم (1703) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

التثريب: بالثاء المثلثة، ومنه قوله تعالى: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (¬1)؛ أي: لا توبيخ ولا لوم. والتفسير الثاني الذي ذكره الرافعي مأخوذ من الثرب بفتح الثاء المثلثة وهو شحم يغشي الكبد؛ أي: لا يبالغ في الضرب بحيث ينتهي إلى الثرب. قوله: وهل الأولي للسيد إقامته بنفسه ليكون أستر أم الأولى أن يفوضه إلى الإمام ليخرج من خلاف أبي حنيفة في إلحاقه بالحر؟ فيه وجهان نقلهما الشيخ أبو خلف الطبري. انتهى. قال في "الروضة": الأصح الأول لثبوت الحديث. قال: ولا يراعي الخروج من خلاف بخلاف السنة. قوله في "الروضة": ومن بعضه حر لا يحده إلا الإمام. انتهى. ذكر الرافعي عن الإمام أنه رأى عن الصيدلاني أنه كالمدبر وأنه غلط، ولم يذكر هذا الوجه في "الروضة". قوله: ثم ما سبيل إقامة السيد الحد على مملوكه؟ فيه وجهان. تتخرج عليهما أكثر صور الفصل: أحدهما: أنه يقيمه بالولاية كما يلي أمر تزويج المملوكة، وأصحهما بالملك. انتهى. وقياسه على النكاح عجيب؛ فإن الخلاف في النكاح والحد واحد وكذلك الراجح فيهما أيضًا. قوله: وفي المرأة وجهان أصحهما أن لها إقامة الحد على رقيقها بناء على أن سبيلها سبيل الإصلاح. ثم قال: والوجهان في المرأة يجريان في الفاسق والكافر والمكاتب، والأظهر أنهم يقيمون، ويقال: إنه منصوص عليه في القديم في حق الفاسق. انتهى. ¬

_ (¬1) يوسف: 92.

وما ذكره في المكاتب مردود فإنه مصادم لنص الشافعي في "الأم" فإنه قال في الكتابة في أوائل [باب] (¬1) الجناية على المكاتب ورقيقه ما نصه: قال الشافعي: وليس لسيد المكاتب إن زنا أن يحده ولا إن أذنب أن يجلده، وللمكاتب أن يؤدب عبده وليس له أن يحده لأن الحد لا يكون إلى غير حر. هذا لفظه بحروفه ومن الأم نقلته، وهو ظاهر مقيس. وإذا منع الشافعي العبد فالكافر أولى. قوله في أصل "الروضة": وهل يقيم الأب والجد والوصي والقيم [الحد] (¬2) على رقيق الطفل؟ وجهان، وقيل: لا يجوز لغير الأب والجد وفيهما الوجهان، ويشبه أن يقال: إن قلنا: الحد إصلاح، فلهم إقامته، وإن قلنا: ولاية، ففيه الخلاف. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن حكايته للطريقة الثانية غلط على العكس مما قاله الرافعي؛ فإن الرافعي قد قال ما نصه: ورقيق المجنون والصبي ذكر فيه طريقان إحداهما: أن أباه وجده يقيمان الحد عليه، وفي الوصي والقيم وجهان. والثاني: أن في الكل وجهين. هذا لفظه فانعكس عليه حالة الاختصار. الأمر الثاني: أن تصحيحه لطريقة الوجهين لم يذكره الرافعي كما عرفت. قوله: ولو شاهده السيد فهل يقيم الحد عليه؟ فيه وجهان بناء على أن القاضي هل يقضي بعلمه في الحدود؛ والأظهر نعم. انتهى كلامه ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

الجناية الرابعة: القذف

بحروفه. وهو عجيب؛ فإن المشهور أن القاضي لا يقضي في الحدود بعلمه؛ كذا ذكره في كتاب القضاء، وبالغ فرجح طريقة القطع به، وصحح في "الروضة" هنا أن السيد يقيمه ولم يتعرض للبناء المذكور، وقد ظهر لك أن مدرك الوجهين هو التخريج على هذا الأصل فيكون المذكور في هذا الموضع سهوًا فاجتنبه. قوله: فروع عن "التهذيب": لو قذف المملوك زوجته المملوكة فهل يلاعن السيد بينهما كما يقيم الحد؟ فيه وجهان. انتهى. هذه المسألة نقلها الرافعي في اللعان عن المتولي وبين للوجهين مدركًا يقتضي تصحيح اللعان فقال: فيه خلاف بناء على إقامته الحد على عبده وسماع البينة؛ فعلمنا أن مدرك الخلاف مع تجويز إقامة الحد إنما هو سماع البينة والمرجح سماعه إياها. قال: الجناية الرابعة: القذف قوله: ولا يحد الأب والجد بقذف الولد وولد الولد، وقال ابن المنذر: يحد. انتهي. والأم والجدات كالأب؛ نص عليه الشافعي في "الأم" ونبه في "الروضة" من "زوائده" على الحكم، إلا أنه لم ينقله عن أحد. قوله: فرع: لو عفي عن الحد على مال فأحد الوجهين أنه يجوز كما تفتدي المرأة بالمال في الخلع، والثاني: المنع، ونظيره العفو عن الشفعة على مال. انتهى. والصحيح عدم الجواز، وقد جزم به الرافعي في أول باب العفو عن القصاص، وصححه في "الروضة" هنا من "زوائده" غير مستحضر للمذكور هناك.

قوله: وعن الشيخ إبراهيم المروروزي أنه حكي عن أستاذه النيهي .. إلى آخره. النيهي: بنون مكسورة، وقد تقدم الكلام عليه في أول الكتاب. قوله: فرع: لو تقاذف شخصان لم يتقاصا لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة، والحدان لا يتفقان في الصفة أو لا يعلم التساوي لاختلاف القاذف والمقذوف في الخلقة وفي القوة والضعف غالبًا. كذا ذكره إبراهيم المروروزي. انتهى. واعلم أن الرافعي والنووي قد صححا في الكلام على التقاص -وهو في باب الكتابة- أن التقاص مختص بالنقدين وحينئذ فتعليله ونقله عن المذكور خاصة لا حاجة إليها، بل مضران موهمان.

الجناية الخامسة: السرقة

قال -رحمه الله-: الجناية الخامسة: السرقة والنظر في أطراف: النظر الأول: في الأركان قوله: ولو سرق ربعًا من الذهب الخالص كالسبيكة والحلي وهو لا يبلغ ربعًا مضروبًا بالقيمة ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما: يجب؛ لبلوغ عين الذهب قدر النصاب، وإلى ترجيحه ميل كلام جماعة منهم البغوي، وقال في البيان إنه المذهب. والثاني: المنع، ويحكى عن الإصطخري وابن أبي هريرة وأبي على الطبري وأبي الحسين العبادي، وهو أظهر عند الإمام وغيره، ووجه بأن لفظ الخبر هو الدينار وهو إنما يقع على المضروب، ويؤيده أن التقويم إنما هو بالمضروب دون غيره. ولو سرق خاتمًا وزنه دون الربع وقيمته يبلغ بالصنعة ربعًا ففي القطع الوجهان؛ إن اعتبرنا القيمة وجب، وإن اعتبرنا العين فلا. انتهى كلامه. وحاصله أن المسألتين تشتركان في التخريج على الوجهين، إلا أن المسألة الثانية يثبت لها من الحكم عكس ما يثبت للأولى؛ لأنها عكسها في التصوير؛ وحينئذ فإن اعتبرنا الوزن: أوجبنا في الأولى دون الثانية، وإن اعتبرنا القيمة أوجبنا: في الثانية دون الأولى. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "المحرر" قد صحح اعتبار القيمة؛ فإنه اقتصر على المسألة الأولى وصحح عدم وجوب القطع، وفي كلام "الشرح" إشعار به، وصرح النووي بتصحيحه في "أصل الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له.

الأمر الثاني: أن النووي قد حصل له في "الروضة" غلط فاحش وذهول عجيب فإنه سوي بين المسألتين وصحح فيهما معًا عدم الوجوب ثم عقب ذلك بقوله: والخلاف في المسألتين راجع إلى أن الاعتبار بالوزن أم بالقيمة؟ هذه عبارته. ولو اقتصر على التصحيح فيها ولم يعقبه بما عقب لكان أستر له، بل أقام دليلًا قطعيًا على غلطه. وأعجب من ذلك أنه لما صحح في الأولى عدم الوجوب عبر بالأصح ولما صحح في الثانية عبر بالصحيح فاقتضى أن الذي من حقه أن يصححه في الثانية -وهو الوجوب- ضعيف بالنسبة إلى تصحيحه في الأولى، وذلك كله عجيب وأوقع النووي في الغلط تعبير الرافعي بقوله: ففي القطع وجهان. قوله: وإذا ادعى السارق الملك لنفسه لم يقطع على المنصوص الذي قال به أكثر الأصحاب، فإن قلنا به فسرق اثنان وادعى أحدهما أن المسروق لنفسه أو لهما وأنكره الآخر واعترف بالسرقة فلا قطع على المدعي، وفي المنكر وجهان: أظهرهما عند الإمام والغزالي أنه يجب، وبه قال ابن القاص واختاره ابن الصباغ لأنه مقر بأنه سرق نصابًا فلا شبهة. ولو قال أحدهما: هذا ملك شريكي وأخذت معه بإذنه وأنكر الآخر فالذي نقلوه أنه كالصورة المتقدمة لا قطع على من يدعي أنه ملك صاحبه، وفي المنكر وجهان: قال في "التهذيب" والأولى أن يقال: يجب القطع على المنكر؛ لأنه لا يدعي شبهة، وفي المدعي وجهان. ثم قال ما نصه: ولو سرق عبد وادعى أن المسروق ملك سيده فإن صدقة السيد سقط القطع تفريعًا على النص وإن كذبه فوجهان:

أحدهما: لا يسقط لأنه يدعي الملك لسيده وهو منكر كما ذكرنا في الشريك، والثاني: يسقط كالحر [يدعي الملك لنفسه] (¬1) وهذا ما أورده في "الكتاب" مع حكاية الوجهين فيما إذا ادعي الملك للشريك، وإليه ذهب صاحب "التلخيص"، وقد يفرق بأن يد العبد كيد السيد فجعلت دعوي ملك السيد كدعوى الحر ملك نفسه بخلاف الشريك. انتهى كلامه. وفيه ذهول من وجوه: أحدها: في قياس القطع على ما سبق في الشريك. والثاني: ما دل عليه كلامه من التعجب من طريقة الغزالي حيث جزم بعدم القطع في العبد وحكى الوجهين فيمن ادعى أنه لشريكه. والثالث: في الفرق على طريقة الغزالي وبيان الوهم أن العبد هو نظير الشريك المدعي الملك لنفسه، وقد جزم الغزالي فيه بالقبول كما جزم في العبد، وإنما حكى الوجهين في الشريك الذي هو معترف بأن الملك لغيره ونظيره في مسألة العبد إنما هو السيد لكن السيد لم يسرق حتى يأتي فيه الوجهان. فإذا استحضرت ما ذكرناه وتأملته ظهر لك الأوهام التي حصلت وكأن الرافعي وقع في ذهنه أن العبد كالشريك المكذب فبني عليه، وقد تبعه في "الروضة" على الوهم أيضا وصحح في أصل "الروضة" في مسألة العبد سقوط القطع. قوله: الثانية: إذا سرق شيئًا من الملاهي كالطنبور والمزمار وفي معناهما الأصنام، فإن لم يبلغ بعد الكسر نصابًا فلا قطع، وإن بلغ فوجهان: أظهرهما عند الأكثرين: أنه يقطع. انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ذكر في "الشرح الصغير" نحوه أيضا، وخالف في "المحرر" فصحح عدم القطع عند بلوغه النصاب وعبر بالأصح، واستدرك عليه في "المنهاج" فصحح الوجوب. قوله: أما إذا سرق ذمي مال المصالح فالصحيح أنه يقطع لأنه مخصوص بالمسلمين، ولا ينظر إلى إنفاق المال عليهم عند الحاجة لأنه للضرورة ومشروط بالضمان، وفي وجه: لا قطع واختاره البغوي وقال: لا ينبغي أن يكون إنفاق الإمام عليهم مشروطًا بالضمان. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن البغوي لم يختر عدم القطع بل ذكره احتمالًا بعد أن جزم بالقطع. الثاني: أن الرافعي قد أطلق في كتاب اللقيط أنه إذا لم يكن له مال أنفق عليه من بيت المال من غير رجوع على الصحيح. ثم حكى بعد ذلك في الحكم بإسلامه أو كفره وجهين في اللقيط الكافر وقال: أصحهما أنه كالمسلم في الإنفاق عليه من بيت المال. قوله: ولو سرق المكاتب من سيده فوجهان، وبالمنع قال صاحب "التلخيص" وهو الذي أورده الروياني. انتهى. والراجح عدم القطع؛ كذا صححه النووي في أصل "الروضة". تنبيه: قد ذكر الرافعي هنا ألفاظًا منها الكثير الوقاع في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا قطع في أكثر ولا تمر" (¬1). قال: والكثر: جمار النخل؛ وهو شحمه. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4388 - 4389)، والترمذي (1449)، والنسائي (4975 - 4985)، وابن ماجه (2593) من حديث رافع بن خديج. قال الشافعي في القديم: إنه مرسل.

الكثر: بكاف ثم ثاء مثلثة مفتوحتين بعدها راء مهملة. كذا قاله ابن الأثير وغيره، وضبطه الجوهري، وأورده الحديث المذكور وفسروه بما فسر به الرافعي وهو الجمار -بضم الجيم وتشديد الميم-: اسم لقلب النخلة الذي يقطع ويؤكل عند قطع النخلة أو سقوطها. قال الجوهري: ويقال إن الكثر هو الطلع. ومنها: المجن: بكسر الميم، اسم للترس الذي يتقى به في الحرب مأخوذ من الجنة بالضم وهو السترة. ومنها العيبة: بعين مهملة مفتوحة ثم ياء ساكنة بنقطتين من تحت بعدها باء موحدة، وهي وعاء تجعل فيه الثياب. جمعها عياب. ومنها الصيادلة: بصاد وقال مهملتين بينهما ياء بنقطتين من تحت، اسم، للعطارين، واحده صيدلاني، ويقال أيضًا بالنون من الصندل وهو شجر طيب الرائحة. ومنها الفامي: بالفاء والميم، وهو بائع الفوم؛ وهو الخمس بلغة الشام كما قال الجوهري لكنهم غيروه في النسب، ويطلق الفوم أيضًا في لغة العرب على الثوم وقرئ قوله تعالى: {وَفُومِهَا} (¬1) بالفاء والثاء أيضًا (¬2). ومنها: الشرائج: بالشين المعجمة والجيم: اسم لما ينصب على الحوانيت التي تباع فيها أواني الخزف لتكون عوضًا عن الأبواب، واحده شريجة قال الجوهري: هو شيء ينسج من سعف النخل يحمل فيه البطيخ ونحوه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (61). (¬2) وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، قال ابن جني: يقال: الثوم والفوم بمعني واحد؛ كقولهم جدث وحدف، وقام زيد ثم عمرو، ويقال أيضًا: فُمَّ عمرو، فالفاء بدل فيهما جميعا. "المحتسب" (1/ 88).

ومنها المسوح: بميم مضمومة وسين وحاء مهملتين، وجمعه مسح بكسر الميم وهو ثوب من شعر أسود يسمى بالثلاثين تتخذ منه الغرائر ليحمل فيه التبن. ومنها الكدس: بضم الكاف وسكون الدال والسين المهملتين هو الصبرة من الحب، جمعه أكداس. ومنها التنضيد بالضاد المعجمة وهو جعل بعض الأمتعة فوق بعض، يقال نضده تنضيدًا ونضده بالتخفيف نضًا. ومنها الردء: براء مكسورة ودال مهملة ساكنة بعدها همزة هو العون، قال تعالى حكاية عن موسى في طلبه لهارون -عليهما الصلاة والسلام-: {رِدْءًا يصَدّقنِي} (¬1) وتقول: أردأه. أي: أعينه. ومنها الجوالق: بجيم مضمومة وقاف، اسم الوعاء، وجمعه جوالق أيضًا لكن بفتح الجيم، وجواليق بزيادة الياء؛ قال الراجز: ياحبذا ما في الجواليق السود ... من حسكيان وسويق وقيود أي: جعل فيه القيد بالقاف وهو المطبوخ من قصب السكر. قوله: ولا يشترط أن يكون المسروق في يد المالك بل المسروق من المودع والمرتهن والوكيل وعامل القراض والمستعير والمستأجر يوجب القطع، والخصم فيها المالك. انتهى. وما ذكره في المودع من أنه لا مخاصمة له بل المخاصمة للمالك قد اختلف فيه كلامه وكلام "الروضة"، وقد بسطت ذلك في كتاب الإجارة فليراجع منه. قوله: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة ¬

_ (¬1) سورة القصص (34).

جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن (¬1). وحريس وخريب الجبل ما سرق من الجبل من المواشي، ويقال إن سارقها يسمى خاربًا. انتهى كلامه. الخريبة: بخاء معجمة مفتوحة وراء مهملة مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم باء موحدة، هي المسروقة فالخريبة بمعنى المخروبة؛ يقول: خرب فلان إبل فلان يخرب خرابة فهو خارب على وزن كتب يكتب كتابة فهو كاتب. قال الشاعر: والخارب اللص يحب الخاربا ونقل الجوهري عن الأصمعي أن هذا اللفظ لا يطلق إلا على سرقة الإبل خاصة وأقره عليه. ومعنى الحديث: أنه لا قطع في الثمار المعلقة على النخيل ولا في الإبل المسروقة من الجبال لعدم الحرز. قوله: والمتبن حرز للتبن. انتهى. فصل بعد هذا بدون ورقتين فقال: إن كان في العمران فذاك، وإن كان في الصحراء فلابد من حارس. قوله: ولو نام في صحراء أو مسجد أو شارع فسرق سارق المنديل من رأسه أو المداس من رجله قطع؛ لأنه محرز به. انتهى. المراد بالمنديل هو العمامة، وهو اصطلاح كثير من المشارقة. والمداس: بفتح الميم وحكي كسرها، وهو مشتق من الدوس بالفتح ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1518)، والبيهقي في "الكبرى" (17001) بسند ضعيف لانقطاع فيه، لكن أخرجه أبو داود (1710)، والترمذي (1289)، والنسائي (4957)، وابن ماجه (2596)، والحاكم (8151)، والدارقطني (3/ 194)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4510) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وسنده حسن.

على المحل والكسر على الآلة. قوله: والدار إن كانت منفصلة عن العمارة فليست بحرز إن لم يكن فيها أحد، فإن كان فيها نائم وبابها مغلق ففيه وجهان؛ الذي أجاب به الشيخ أبو حامد ومن تابعه أنها تكون حرزًا، والموافق لما أطلقه الإمام وصاحب التهذيب خلافه. انتهى. وقد اختلف كلام الرافعي في الراجح من هذين الوجهين، وكذلك النووي؛ فأما الرافعي فقال في "الشرح الصغير": أقربهما أنها حرز ولم يذكر ترجيحًا غيره، وخالف في "المحرر" فقال ما نصه: والدار المنفصلة عن العمارات ليست بحرز إن لم يكن فيها أحد، وكذا لو كان من فيها نائمًا، فإن كان مستيقظًا فما فيها محرز سواء أكان الباب مفتوحًا أم مغلقًا. هذا لفظه بحروفه. وهو عكس ما تقدم. وأما النووي فقال في "الروضة" من "زوائده": الذي قاله الشيخ أبو حامد أقوى، وجزم الرافعي في "المحرر" بأنه غير محرز. هذا كلامه. ثم إنه في "المنهاج" وافق الرافعي على ما قاله في "المحرر". قوله: ولو فتح صاحب الدار بابها وأذن للناس في الدخول عليه لشراء متاعه كما يفعله الذي يتجر في داره فوجهان لأن الزحمة تشغل الحس على ما سبق. انتهى. قد ذكر الرافعي بعد هذا بنحو كراس قبيل الركن الثالث ما يوجه منه تفصيل لما أطلقه هاهنا وتصحيح للخلاف الذي أرسله فقال: وإذا أذن صاحب الدكان في دخول الناس للشراء فمن دخل مستترًا وسرق لم يقطع، ومن دخل سارقًا قطع. هذا لفظه. وحينئذ ففي مسألتنا من دخل للشراء لم يقطع، ويؤيده ما قالوه في سرقة ثياب الحمام، ومن دخل لسرقة ففيه الوجهان، واستفدنا من جزمه هناك أن الراجح منهما هو القطع. قوله: وهل يشترط إسبال باب الخيمة إذا كان من فيها نائمًا حكى

ابن كج فيه وجهين ورأي أن الأظهر أنه لا يشترط. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا وصحح في أصل "الروضة" ما صححه ابن كج. قوله: وإن لم تكن الإبل مقطرة بل كانت تقاد أو تساق فمنهم من أطلق القول بأنها غير محرزة لأن الإبل لا تسير هكذا في الغالب وعلى هذا جري صاحي "التهذيب"، وعن "الإفصاح": أنه لا فرق، وبهذا أخذ القاضي الروياني وقال: المعتبر أن يقرب منها ويقع نظره عليها. انتهى. لم يصحح شيئا في "الروضة" أيضًا، وقد اختلف كلام الرافعي في المسألة فرجح الأول في "المحرر" فقال: وغير المقطرة منها غير محرزة على الأشبه. هذا لفظه. ورجح الثاني في "الشرح الصغير" فقال: إنه أولي الوجهين، والفتوي على الأولى فقد نص عليه الشافعي -رحمه الله- في الأم فقال في كتاب القطع في السرقة المذكورة بعد كتاب صفة النفي في باب ما يكون حرزًا: وأي إبل كانت لرجل تسير وهو يقودها فيقطر بعضها إلى بعض فسرق منها أو مما عليها شيء قطع فيه. ثم قال بعد ذلك فلو اضطجع مضطجع في صحراء ووضع ثوبه بين يديه أو أرسل رجل إبله ترعي أو تمضي على الطريق وليست مقطرة فسرق من هذا شيء لم يقطع لأن العامة لا ترى هذا حرزًا هذا كلامه. قوله: وإذا اعتبرنا بالتقطير فينبغي ألا يزيد القطار الواحد على تسعة للعادة الغالبة، فإن زادت فهي كغير المقطرة. ومنهم من أطلق ذكر التقطير ولم يقيد بعدد، والأحسن توسط أورده السرخسي فقال: في الصحراء لا يتقيد وفي العمراني يعتبر بما جرت العادة بأن نجعلها قطارًا وهو ما بين سبعة إلى عشرة. انتهى كلامه. صرح -رحمه الله- في "الشرح الصغير" بتصحيح الأول ولم يذكر ما

ذكره هنا من استحسان الثالث. ولم يصرح في "المحرر" بشئ بل قال: وينبغي ألا يزيد على تسعة، وصحح في "الروضة" الثالث فقال: فإن اعتبرناه -يعني التقطير- فيشترط ألا يزيد القطار الواحد على تسعة للعادة الغالبة فإن زاد فهي كغير المقطورة، ومنهم من أطلق ذكر القطر ولم يقيده بعدد والأصح توسطه. ذكره السرخسي فقال: في الصحراء لا يتقيد القطار بعدد وفي العمران يعتبر بما جرت العادة بأن يجعل قطارًا وهو ما بين سبعة إلى عشرة. هذا لفظه. وهو تركيب عجيب آخره يدفع أوله. ثم إنه صحح في "المنهاج" عكسه فقال: ويشترط التفات قائدها إليها كل ساعة بحيث يراها وألا يزيد قطار على تسعة. هذه عبارته. قوله: فإذا كفن من تركته فالكفن ملك للورثة، وقيل: للميت، وقيل: لله تعالى. ثم قال: فإن كفنه أجنبي أو كفن من بيت المال فلمن الملك؟ فيه طريقان: أحدهما: على الأوجه. والثاني: يبقى للأجنبي أو على حكم بيت المال ويكون كالعارية. انتهى. والأصح على ما قاله في "زوائد الروضة" هو الطريق الثاني. قوله: فروع: إذا كفن السيد عبده فالملك في الكفن للسيد أو لا ملك لأحد؟ فيه وجهان. انتهى. والصحيح أنه باق على ملك السيد. كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي؛ فتفطن له فإنه غريب. قوله: وإن سرق أجنبي المال المغصوب أو المسروق فوجهان: أحدهما: يقطع، وإلى ترجيحه مال صاحب الشامل. والثاني: لا؛ لأن المالك لم يرض بإحرازه في ذلك المكان.

قال في "البيان" وهذا هو الصحيح، ويؤيده ما أشار إليه في "النهاية" و"الوسيط" وهو بناء الوجهين على الخلاف في أنه هل يجوز للأجنبي أخذ المغصوب حسبة ليرده إلى مالكه ثم قال: وهذا البناء هو الوجه. أي: المتجه. انتهى كلامه. واعلم أن أخذ الأجنبي للمغصوب قد ذكره الرافعي في أوائل كتاب اللقطة فقال: فليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن معرضًا للضياع ولا الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهرا وإن كان كذلك فوجهان: أصحهما المنع؛ لأن القاضي هو النائب عن الناس ولأنه قد يؤدي إلى الفتنة. والثاني: الجواز احتسابًا ونهيًا عن المنكر. انتهي. وإذا علمت ما قاله هناك توجه على كلامه هنا أمران: أحدهما: أنه أطلق محل الخلاف مع أنه يستثنى ما إذا لم تكن معرضة للضياع فإن سارقها يقطع جزمًا على مقتضي البناء الذي ذكره وهو جواز الأخذ فإن الأخذ في هذه الحالة ممتنع اتفاقًا. الثاني: أن ما ذكره هنا من تأييد تصحيح "البيان" بالبناء المذكور ومن دعواه أن هذا البناء هو الوجه وغير ذلك مقتضاه تصحيح عدم القطع وأن المستند في ذلك تصحيح جواز الأخذ للآحاد وهو مناقض لما ذكره هنا من تصحيح منع الأخذ، وقد اغتر في "الروضة" بهذا الكلام فصحح في الأصل مقالة صاحب "البيان" ولم يتعرض للبناء، ولاشك أن هذا الكلام من الرافعي يقتضي أن الذي كان في ذهنه مقررًا هو تجويز الأخذ لغير الحاكم. قوله: إحداها: إذا نقب ثم عاد أخرج النصاب في ليلة أخرى، حكى ابن كج عن النص: أنه إن علم صاحب الحرز بالنقب أو كان ظاهر إيراده الطارقون وبقي كذلك فلا قطع لانتهاك الحرز، وإلا فعن ابن سريج وغيره: أنه يقطع، كما لو نقب في أول الليل وأخرج المال في آخره وعن غيره أنه يحتمل أن لا يقطع لآخذه بعد انتهاك الحرز فحصل

وجهان، والخلاف شبيه بالخلاف فيما إذا أخرج نصابا بدفعات. انتهى كلامه. واعلم أن المشابهة بين المسألتين ظاهرة وقد ذكر الرافعي الإخراج بدفعات في أول الباب فقال فيه أوجه: أظهرها: يجب القطع، والثاني: لا، والثالث: إن عاد. بعد ما اشتهر هتك الحرز وعلم الناس به أو المالك لم يقطع وإلا قطع. قال صاحب "التهذيب": ولا فرق بين أن يعود في تلك الليلة أو في ليلة أخرى. وفيه وجه أنه إن عاد في ليلة أخرى لم يقطع قولًا واحدًا. انتهى كلامه. وهو مخالف لتلك المسألة من وجهين: أحدهما: أنه جزم هناك عند الاشتهار بعدم القطع وصحح هنا وجوبه. الثاني: أن كلامه يقتضي الاتفاق على أنه يقطع إذا نقب في أول الليل وسرق في آخره؛ لأنه جعله أصلًا مقيسًا عليه، وحكي فيه الخلاف في مسألتنا. قوله: وإذا نقب الحرز وأخرج غيره المال لم يقطع. انتهى. تابعه عليه في "الروضة"، وقد اختلف كلامه في "المنهاج" فقال: ولو نقب وأخرج غيره فلا قطع. ثم قال ما نصه: ولو تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج، أو وضعه ناقب بقرب النقب فأخرجه آخر قطع المخرج. هذا لفظه. فجزم بأنه إذا نقب واحد ووضعه قريبا من النقب ثم جاء آخر فأخرجه أنه يقطع المخرج. وهذا مع ما تقدم في غاية التباين؛ فإن غير الناقب إذا لم يقطع فيما إذا كان هو الداخل والسارق فبطريق الأولى ألا يقطع مع عدم الدخول وتقريب الناقب له من النقب، وبالجملة فهذا الغلط حصل من اختصاره لكلام الرافعي؛ فإن الرافعي قال في "المحرر"

ما نصه: ولو تعاونا على النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع على المخرج، وكذا لو دخل أحدهما ووضع المتاع قريبًا من النقب فأدخل الآخر يده وأخرج. انتهى. فعلمنا أن صورة المسألة في الناقبين فتوهم النووي خلاف ذلك فوقع فيما وقع فيه. قوله: ولو ابتلع في الحرز جوهرة أو دينارًا فأطلق مطلقون أن في القطع وجهين، وعن الشيخ أبي حامد وابن الصباغ وغيرهما أنه إن لم تخرج فلا قطع وإن خرجت فوجهان: أصحهما فيما ذكر المحاملي وطائفة: أنه لا يجب، وأصحهما عند الإمام والروياني: وجوبه. انتهى. لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" وصحح النووي في "الروضة" التفصيل بين أن تخرج فيجب أو لا فلا، ولم ينبه على أنه من زوائده بل أدخله في كلام الرافعي وهو غريب فتفطن له. قوله: ولو أكره عبدًا صغيرًا بالسيف حتى خرج من الحرز فقد حكى الإمام وصاحب الكتاب فيه وجهين: أحدهما: لا يجب القطع لأنه فارق الحرز بفعله. والثاني: يجب كما لو سارت البهيمة بالضرب والتعنيف، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". انتهى كلامه. والصحيح: وجوب القطع. كذا صححه في "الروضة" ولم ينبه على أنه من زوائده فتفطن له، بل في بعض نسخ الرافعي تصحيح عكسه. قوله: الثالثة: من دخل الحمام مستحمًا فسرق لم يقطع، وإن دخل سارقًا وهناك حافظ من الحمامي أو غيره قطع إذا لم يكن نائمًا أو معرضًا. قال في "التهذيب" وغيره: ولابد من الاستحفاظ، فإن لم

يستحفظه فلا ضمان على الحمامي بترك الحفظ، ولا [قطع] (¬1) على من سرقه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد أهمل شرطًا آخرًا نقله في آخر الباب عن "فتاوي الغزالي" وهو أن يخرج السارق الثياب من الحمام. الثاني: وينبغي أن يستحضر قبل الخوض فيه كون البغوي هو جامع فتاوي شيخه القاضي الحسين أن البغوي في الفتاوي المذكورة عقب [نقله] (¬2) عن الأصحاب اشتراط الاستحفاظ في الضمان خالفهم فقال الأصح تضمينه وإن لم يستحفظ للعادة؛ فعلمنا بذلك أن المذكور في التهذيب إنما هو حكاية المذهب المعروف وأن اختيار البغوي خلافه. قوله: وأما المعاهد ومن دخل بأمان ففي قطعه أقوال: أحدها: نعم كالذمي، والثاني: لا وهو المنصوص في أكثر كتبه، وثالثها: إن شرط عليه القطع قطع وإلا فلا. ولم يذكر كثير من الأصحاب الثالث، ورجحوا الثاني، والتفصيل حسن. انتهى ملخصًا. وحاصله رجحان عدم القطع ولهذا صرح بتصحيحه في "أصل الروضة" فقال: أظهرهما عند الأصحاب. إذا علمت ذلك فقد اقتصر في "الشرح الصغير" على ترجيح الثالث فقال: وأقر بها كذا وكذا، ولم يذكر ترجيحًا غيره بالكلية ولا نقله عن أحد، وذكر مثله في "المحرر" ولكن عبر: بالأحسن، وقد استدرك النووي عليه في "المنهاج" فصحح القطع كما دل عليه كلامه في "الكبير". ¬

_ (¬1) في أ: ضمان. (¬2) سقط من أ.

النظر الثاني: في إثبات السرقة

قال: النظر الثاني: في إثبات السرقة قوله: فإذا ادعي على إنسان سرقة نصاب يوجب القطع فأنكر ونكل فحلف المدعي ثبت المال، وأما القطع فنقل الإمام عن الأصحاب: أنه يثبت أيضًا، وكذلك ذكره الغزالي وإبراهيم المروروزي لأن اليمين المردودة كالإقرار أو كالبينة، والذي أورده ابن الصباغ وصاحب "البيان" وغيرهما: أنه لا يثبت، لأنه حد الله تعالى، وقد يؤيد بظاهر لفظه في "المختصر". انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وليس فيه تصريح بتصحيح وقد اختلف في ذلك كلام الرافعي والنووي؛ فأما الرافعي فصحح في "المحرر" هنا ثبوته وعبر بالأظهر وجزم في الشرحين "الكبير" و"الصغير" في كتاب الدعاوي بعدم ثبوته وعلله بقوله: لأن حدود الله تعالى لا تثبت باليمين المردودة؛ ذكر ذلك في الباب الثالث المعقود لليمين في الطرف الثالث منه، وأما النووي فتابع الرافعي على هذا الاختلاف الواقع بين الشرحين و"المحرر"، وزاد فصحح هنا في "أصل الروضة" في أواخر الشرط الثاني أنه يثبت، والرافعي في الموضع المذكور حكى خلافًا من غير ترجيح. قوله في الروضة: فلو أقر ثم رجع فالمذهب أنه لا يقبل في المال وأنه يقبل في سقوط القطع. انتهى. وما قاله -رحمه الله- لا يعلم منه أن المسألتين مستويتان أم مختلفتان ولا أن الأصح طريقة القطع أم طريقة الخلاف ولا أن الخلاف قولان أو وجهان؟ ، وقد بين الرافعي كل ذلك وحاصله: أنه لا يقيد في المال، وقيل: وجهان. أما القطع ففيه وجهان: أصحهما أنه يقيد فيه، وقيل قطعا.

قوله: ولو أقر بإكراه جارية غائب على الزنا فوجهان: أصحهما: يحد للزنا ولا يؤخر لأنه لا يتوقف على طلبه ولو حضر وقال كنت أتحتها له لم يسقط الحد، وقال ابن سريج: يؤخر لاحتمال أنه يقر بأنه وقف عليه تلك الجارية قال الإمام: وعلى الأول لو قال المالك: كنت بعتها أو وهبتها له فأنكر المقر بالزنا ينبغي ألا يسقط الحد، وعلى قياسه ينبغي ألا يسقط الحد إذا أقر بوقف الجارية وكذبه المقر المذكور. انتهى. قال في "الروضة": ليس الوقف كالبيع لأنه يصح بلا قبول على المختار والله أعلم. وفيما ذكر من زوائده أمران: أحدهما: أن الفرق الذي ذكره ردًا به على قياس الإمام لا يستقيم لأن الإمام يرى أن الصحيح افتقار الوقف إلى القبول فلذلك صح منه التسوية بين البيع والوقف فلا يقدح في قياس الإمام اختيار غيره. الثاني: أن ترجيحه لعدم اشتراط القبول قد خالفه في باب الوقف من "المنهاج" فصحح اشتراطه، وقد تقدم بسطه هناك فراجعه. قوله: وفرق بينهما بأن الحاكم لا مطالبة له بمال الغائب. انتهى. وهذه المسألة ذكرها الرافعي [في مواضع] (¬1) فيها كلامه وكلام "الروضة"، وقد سبق مبسوطًا في أول التفليس فراجعه. قوله: ومن رفع إلى مجلس القاضي واتهم بما يوجب عقوبة فللقاضي أن يعرض له بالإنكار ويحمله عليه. ولو أقر بذلك ابتداء أو بعد تقدم دعوى فكذلك على الصحيح. انتهى. وهو صريح في سماع الدعوى في حدود الله تعالى، والمسألة قد اضطرب فيها كلامه وكلام "الروضة" كما سأوضحه لك في الشهادات. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وهذا -أي: جواز التعريض بالرجوع للمقر- محله إذا كان المقر جاهلًا بالحد إما لقرب عهده بالإسلام، أو لأنه نشأ في بادية بعيدة عن أهل العلم. انتهى. وهذا الكلام قد أسقطه من "الروضة" وإسقاطه غريب. قوله: وهل للحاكم أن يعرض الشهود بالتوقف في حدود الله تعالى؟ وجهان. انتهى. والأصح على ما قاله في "الروضة" أنه إن رأى المصلحة في الستر فعله وإلا فلا. قوله: ألا تري أن ماعزًا لما ذكر لهزال أنه زنا وقال له بادر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قبل أن ينزل الله فيك قرآنًا. فذكر ذلك للنبي] (¬1) فقال: هلا سترته بثوبك يا هزال (¬2)؟ انتهى. هزال: بهاء مفتوحة ثم زاي معجمة مشددة في آخره لام. قوله: فرع: قال الإمام في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أتي شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله" (¬3) فيه دليل على أنه لا يجب من قارف موجب حد إظهاره. قال: وكان شيخي يقطع به. وفيه احتمال إذا قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة. انتهى. وهذا الاحتمال عجيب ومستنده أعجب؛ فإن الإجماع قائم كما ذكره ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أبو داود (4377)، وأحمد (21940)، والحاكم (8080)، والطبراني في "الكبير" (22/ 201) حديث (530) وابن أبي شيبة (5/ 540)، والبيهقي في "الكبرى" (16735)، والنسائي في "الكبرى" (7278)، وابن [أبي] عاصم في "الآحاد والمثاني" (2393) وهناد في "الزهد" (1408) من حديث يزيد بن نعيم عن أبيه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬3) تقدم.

في الشهادات على أن التوبة مسقطة وقد رده في "الروضة" أيضًا هنا فقال: الصواب الجزم بأنه لا يجب الإظهار لقصة ماعز وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فالتوبة تسقط أثر المعصية. والقاذورات: بالذال المعجمة، والمراد به هاهنا ما يوجب العقوبة، وتطلق القاذورة أيضًا على الذي يمتنع من تعاطي المستقذر، وعلى الرجل الذى لا يبالي بما قال ومما صنع. قاله ابن الأثير. قوله: ولو سرق من حرز هو بما فيه في يد إنسان ولم تقم بينة مفصلة فقال السارق هو ملكي، فعلى قولنا يسقط القطع بدعوى الملك كما هو المنصوص المعروف ويبقي النزاع بينهما في المال والمصدق فيه المأخوذ منه مع [يمينه]، وإن قلنا: لا يسقط القطع بالدعوى، فإن حلف المسروق منه ثبت القطع مع المال. ويرجع الخلاف في أنه هل يثبت القطع باليمين المردودة؟ انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" عليه، ونقل المسألة من هنا إلي ما قبله وهذه اليمين ليست هي اليمين المردودة بل هذه يمين المدعى عليه، وكيف يحسن أيضًا التردد في وجوب القطع والتفريع على أنه لا يسقط القطع بهذه الدعوي. قوله: فرع: إذا قلنا يسقط القطع بدعوى الملك فهل يستفصله القاضي سعيًا في سقوط الحد؟ فيه تردد للإمام. انتهى. والأصح على ما قال في "الروضة": أنه لا يستفصله لأنه إغراء بادعاء الباطل.

النظر الثالث: في الواجب

قال: النظر الثالث: في الواجب قوله: فتقطع يمين السارق والسارقة قال الله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1)، وقرأ ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أيمانهما" والقراءة الشاذة تتنزل منزلة أخبار الآحاد. انتهى كلامه. وما ذكره من تنزيلها منزلة الآحاد صحيح؛ فقد جزم به أيضًا جماعات منهم الشيخ أبو حامد في الصيام وفي الرضاع، والماوردي في الموضعين أيضًا، والقاضي أبو الطيب في موضعين من "تعليقه": أحدهما: الصيام، والثاني: في باب وجوب العمرة، والقاضي الحسين في الصيام، والمحاملي في الأيمان من كتابه المسمي "عدة المسافر وكفاية الحاضر"، وابن يونس شارح "التنبيه" في كتاب الفرائض في الكلام على ميراث الأخ للأم، ونص عليه الشافعي في موضعين من "مختصر البويطي" في باب الرضاع وفي باب تحريم الجمع، وذكر إمام الحرمين في "البرهان": أن الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يحتج بها، فقلده فيه النووي فجزم به في "شرح مسلم" (¬2) في الكلام على قوله -عليه الصلاة والسلام-: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" (¬3)، وفي غيره أيضًا فاحذر ذلك. قوله: ولو كانت اليمين شلاء فيراجع أهل الخبرة فإن قالوا لو قطعت لم يرقأ الدم قطعت الرجل، وإن قالوا يرقأ قطعت يمينه. انتهى كلامه. اعلم أن يرقأ المذكور هنا معناه ينقطع وهو مهموز الأخير؛ تقول: منه رقأ الدم والدمع يرقأ بالفتح فيهما رقاء بالسكون ورقوء على وزن فعول. وأما يرقا بلا همز فمعناه صعد؛ يقول منه رقيت في السلم بالكسر أرقي ¬

_ (¬1) سورة المائدة (38). (¬2) شرح مسلم (5/ 127 - 128). (¬3) أخرجه مسلم (627) من حديث علي - رضي الله عنه -.

رقيًا بالسكون ورقيا ورقي الدم يرقا. قوله: ولو قطع يسار السارق جان أو قطعها الجلاد عمدا لم يسقط عنه القطع في اليمين. ولو قال الجلاد له: أخرج يمينك، فأخرج يساره فقطعها ففيه طريقان: أحدهما قاله القاضي أبو الطيب وآخرون: إن قال المخرج: ظننت المخرج يمينا أو أن اليسار تجزئ عن اليمين؛ ففي قيامها مقامها قولان: أحدهما: المنع كالقصاص ويروى هذا عن رواية الحارث بن سريج النقال، وعلى هذا فيراجع القاطع. فإن قطع عالمًا عامدًا فعليه القصاص وإلا فالدية، وأصحهما القسوط لأنه حد لله تعالى. والطريق الثاني قاله الشيخ أبو حامد: يراجع القاطع أولًا فإن قال علمت أنها اليسار وأن اليسار لا تجزئ عن اليمين فعليه القصاص وبقي القطع في اليمين، وإن ظنها اليمين أو أن اليسار تجزئ عنها فعليه الدية وفي سقوط القطع في اليمين القولان، وإيراد الإمام وغيره يوافق هذه الطريقة إلا أن القصاص على القاطع وإن كان عالمًا بالحال إنما يجب إذا لم يوجد من المخرج قصد بدل وإباحة. انتهى. لم يصحح في "الروضة" أيضًا شيئًا من هذا الخلاف، والصحيح هو الطريق الأول؛ وهو النظر أولا إلى المخرج، كذا صححه الرافعي في آخر باب استيفاء القصاص وبالغ في تصحيحه، وقد سبق ذكر لفظه، وصححه أيضًا في "تصحيح التنبيه" فقال: وإنه إذا وجب قطع يمينه فقطع الجلاد يساره عمدًا أو سهوًا أجزأت عن اليمين ولا قصاص على القاطع ولا دية. هذا لفظه. وهو يقتضي بعمومه تصحيح الإجزاء في صورتين: إحداهما: إذا قطع الجلاد من غير إخراج السارق وليس كذلك اتفاقًا. الثانية: إذا قال المخرج علمت أنها اليمين وأنها لا تجزئ مع أنه ليس الآمر أيضًا كذلك، وكلام الرافعي في القصاص يقتضي أنه لا فرق في

الصورة الثانية بين أن يكون الإخراج على قصد حسابها عن اليمين أم لا، وهو واضح لأن القصد المذكور مع علمه بأنه لا يقع لا أثر له فلذلك ألحقه بالمبيح؛ فتفطن له. والنقال: المنقول عنه هو بالنون كما تقدم إيضاحه في "الطبقات" وفي الجنايات أيضًا. قوله: ولو كان بمعصمه كفان نقل الإمام عن الأصحاب أنهما تقطعان سواء تميزت الأصلية أم لا، وفي "التهذيب" أنه إن تميزت الأصلية قطعت وإلا فإحداهما، وهو أحسن. انتهى. والصحيح المنصوص كما قاله في صفة الوضوء من "شرح المهذب" وفي "زوائده" هنا: أنه لا تقطع إلا إحداهما. قوله: وفي "فتاوي الحسين الفراء": أنه لو وضع الميت على وجه الأرض ونضدت الحجارة عليه كان ذلك كالدفن حتى يجب القطع بسرقة الكفن خصوصًا إذا كان ذلك [حيث] (¬1) لا يمكن الحفر، وأنهم لو كانوا في البحر وطرح الميت فيه وغيبه الماء فغاص سارق وأخذ الكفن لم يقطع أيضًا لأن طرحه لا يعد إحرازًا فهو كما لو وضعه على الأرض فغيبته الريح بالتراب، وقد يتوقف في هذا. انتهى. واعلم أن الأقرب في التوقف الذي ذكره الرافعي عوده إلى مسألة تغييب التراب فإنها أقرب لفظًا وأولى بذلك معنى من تغييب البحر لأنها بالقبر الأصلى أشبه من التغييب في البحر، وقد حذف النووي التغييب في التراب فلم يذكره بالكلية وجعل الوقفة راجعة إلى الماء، وقد بحث النووي في المسألة الأولى وهي تنضيد الحجارة فقال: ينبغي ألا يقطع إلا أن يتعذر الحفر لأنه ليس بدفن والبحث الذي ذكره يتقوى بالمنقول في تغييب التراب. والتنضيد: هو أن يجعل الشيء بعضه فوق بعض. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الجناية السادسة: قطع الطريق

قال: الجناية السادسة: قطع الطريق قوله: ولابد في قاطع الطريق مع الشوكة والبعد عن العون من الإسلام؛ فالكفار ليس لهم حكم القطاع وإن حافوا السبيل وتعرضوا للأنفس والأموال، ومن التكليف .. إلى آخر كلامه. وما ذكره -رحمه الله- من اشتراط الإسلام قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، ومقتضاه أن أهل الذمة لا يكونون قطاعًا وكذلك لو كان في القوم ذمي لا يثبت له حكمهم، ولا وجه له؛ فإن زعم انتقاض عهدهم بذلك وأننا نقتلهم كما نقتل الحربيين فليس كذلك أيضًا لأن الصحيح أن العهد لا ينتقض به إلا إذا شرط عليهم تركه وشرط عليهم الانتقاض به أيضًا لو فعلوه، وبتقدير القول بالانتقاض فسيأتي أن من انتقض عهده به أو بغيره يقام عليه ما يقتضيه ذلك الشيء ثم يفعل فيه بعد ذلك من القتل أو غيره مما ذكروه فالصواب الإلتزام للأحكام بدلًا عن الإسلام ويكون احترازًا عن الحربيين فإنهم لا يضمنون نفسًا ولا مالًا. تنبيه: ذكر الرافعي هنا في الباب ألفاظًا منها: جمع الكف: هو بضم الجيم وسكون الميم، وهو اسم للكف المقبوضة، يقال: ضربته بجمع كفي أي: بكفي وهي مقبوضة وهو المسمى باللكم. ومنها قولهم: الحرب سجال: هو بسين مهملة مسكورة بعدها جيم قال الجوهري: وهو مأخوذ من المساجلة وهو المفاخرة بأن يصنع] (¬1) مثل صنعه في جري أو سقى قال: وأصله من السجل بفتح السين وسكون الجيم، وهو الدلو الذى فيه ماء قليلًا كان أو كثيرًا، ولا يقال له وهو فارغ سجل ولا ذنوب، وجمعه سجال. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومنها: الدعارون: بالدال المهملة، وهم [المفسدون]، يقال: هو داعر من الدعر بالفتح والدعارة، وامرأة داعرة بالتاء، وهو مأخوذ من قولهم: دعر العود بالكسر يدعر داعر بالفتح فيها فهو داعر إذا كان رديئا كثير الدخان. ومنها: الردء: براء مسكورة هو المعين، وقد سبق ضبطه في السرقة. قوله: أما إذا لم يأخذ مالًا ولا قتل ولكن كثر جمع القاطعين وكان ردأهم فوجهان: أصحهما: يعزره الإمام بما يراه والثاني: ينفيه، وإذا عين صوبًا منعه من العدول إلى غيره. وعلى هذا هل يعزر في البلد المنفي إليه بضرب وحبس وغيرهما أم يكفي النفي؟ وجهان. انتهى. الأصح على ما قاله في "الروضة": أنه إلى رأي الإمام. قوله: فرع: إذا اجتمع عليه القتل والصلب لو مات قبل أن يقتل هل يجب صلبه؟ فيه وجهان. قال القاضي أبو الطيب: نعم؛ لأنهما مشروعان وقد فات أحدهما فيستوفى الآخر. وقال الشيخ أبو حامد: لا؛ لأن الصلب صفة تابعه للقتل وقد سقط المتبوع فيسقط التابع، وهذا ما نسب إلى رواية الحارث بن سريج النقال. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا النص الذي نقله الرافعي عن النقال قد نقله عنه الشيخ أبو على في كتاب الجنائز من "شرح التلخيص" في مسألة أخرى قريبة من هذه فقال: وإذا قلنا: إنه يصلب بعد القتل، فإلى متى يصلب؟ قولان: أحدهما: إلى ثلاثة أيام. حكاه الحارث بن سريج النقال عن

الشافعي؛ لأن الثلاث في حد القليل. هذا كلامه. الأمر الثاني: لقائل أن يقول: لا يخلو إما أن يريد بهذه التبعية أن مشروعية الصلب تابعه لوجود القتل، أو أن مشروعيته تابعه لمشروعيته؛ فإن أراد الأول فهو محل النزاع لأن معناه أنه لا يشرع الصلب إلا إذا وجد القتل قبله، وإن أراد الثاني فمسلم ولا يلزم سقوط الصلب لأن معني ذلك أنه لا يشرع الصلب إلا إذا شرع القتل وقد وجدت مشروعية القتل في مسألتنا فيلزم وجود مشروعية الصلب. فإن قلت: فقد زالت مشروعية القتل بالموت فتسقط مشروعية الصلب على هذا التقدير. قلنا: بتقدير سقوطها تكون تابعه لوجود القتل لا لمشروعيته، وقد تقدم إبطاله وليس الكلام فيه؛ فثبت أن المراد على الاحتمال الثاني إنما هو بتبعتها لأصل المشروعية لا لبقائها ودوامها، وأصل المشروعية قد وجد. واعلم أن النقال الراوي لهذا النص هو بنون بعدها قاف، وقد تقدم الكلام عليه في مقدمة الكتاب، وسبق أيضًا التعرض له في أواخر الجناية الخامسة. قوله: وهل تؤثر التوبة في إسقاط حد الزنا والسرقة والشرب قبل القدرة وبعدها؟ فيه قولان: أصحهما -على ما ذكره الإمام وصاحب "التهذيب" وغيرهما وينسب إلى الجديد- أنها لا تؤثر. والثاني -ورجحه جماعة من العراقيين- أنها تؤثر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح من هذين القولين هو الأول كذا صححه الرافعي في باب حد الزنا وصرح بأنه الجديد فقال: وأصحهما -وهو الجديد وبه قال أبو حنيفة- أنه لا يسقط هذا لفظه.

وأشار إلى ترجيحه في "المحرر" فقال: رجح منهما منع السقوط وهذا الكلام لا يؤخذ منه تصحيح للرافعي لأنه بناه للمفعول فكأنه قال رجحه بعضهم، ولم يستحضر النووي هنا ما صححه هو والرافعي في حد الزنا بل اقتصر على ما نقل في "المحرر" نقلًا غير مطابق أيضًا فقال: قلت: رجح الرافعي في "المحرر" منع السقوط وهو أقوى، والله أعلم. الأمر الثاني: ما نبه عليه النووي من "زوائده" في كتاب السرقة فقال محل الخلاف في عدم السقوط إنما هو في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فيسقط بلا خلاف لأن التوبة تسقط أثر المعصية. والذي قاله صحيح لا شك فيه وقد صرحوا به في الشهادات في الكلام على أركان التوبة وغيرها لكنه ذكر هنا بعد هذا ما ظاهره يخالف ما ذكره هناك. قوله: ثم ما يسقط بالتوبة في حق قاطع الطريق قبل القدرة يسقط بنفس التوبة، وأما توبته بعد القدرة وتوبة الزانى والسارق والشارب فوجهان: أحدهما: كذلك. والثاني: يشترط مع التوبة إصلاح العمل، ونسب الإمام هذا الوجه إلى القاضي الحسين والأول إلى سائر الأصحاب، والذى أورده جماعة من العراقيين وتابعهم صاحب "التهذيب" والروياني هو ما نسبه إلى القاضي. انتهى. لم يصرح في "الروضة" أيضًا بتصحيح، والأصح الاشتراط. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر: بالأظهر. قوله: وإذا اجتمع عليه حدود قذف جماعة حد لكل واحد ولا يوالي بل يمهل بعد كل حد حتى يبرأ. هكذا ذكره البغوي وغيره، لكن سبق في القصاص أنه يوالي بين قطع الأطراف قصاصًا وقياسه أن يوالي

بين الحدود. انتهى. وما ذكره من استشكال القصاص على مسألتنا قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غريب فإن قطع الأطراف على قسمين: أحدهما: أن يكون لواحد كما لو قطع يديه. [فاندمل ثم قطع رجليه فيجوز للمقطوع أن يوالي بين قطع يديه] (¬1) ورجليه على المذهب وإن كان فيه مزيد خطر. كذا ذكره الرافعي في الفصل الثاني المعقود لكون القصاص على الفور، وليس هذا نظير مسألتنا. والقسم الثاني وهو نظيرها أن يكون لجماعة، وقد صرح به الرافعي في الكلام على ما إذا قال أخرج يمينك فأخرج يساره وقال: إنه لا يوالي وذكر معها أيضًا المسألة الأولى وذلك قبيل باب العفو عن القصاص بأسطر فقال: وإذا قطع طرفي اللسان معًا فيقتص منهما معا ولا يفرق على الصحيح المنصوص بخلاف ما إذا قطع يمين واحد ويسار آخر حيث لا يوالي بين القصاص لأنه لم يجتمع خطر القطعين على واحد حتى يقابل بمثله. هذا كلامه. وبه يظهر أنه اشتبهت عليه مسألة بمسألة، وتعبيره أيضًا بقوله معًا قد علم مما سبق أنه ليس بشرط وقد حذف في "الروضة" ما إذا كان القصاص لمتعدد ومشى على ما ذكره الرافعي في هذا الباب فتفطن له فإن خطأ محض. قوله: من زنا مرارًا وهو بكر حد للجميع حدًا واحدًا، وكذا لو سرق أو شرب مرارًا. وهل يقال: تجب حدود ثم يعود إلى حد واحد أم لا يجب إلا واحد وتجعل الزنيات كالحركات في زنية واحدة، ذكروا فيه احتمالين. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمران: ¬

_ (¬1) سقط من ب.

أحدهما: أن اقتصار الرافعي والنووي على نقل احتمالين عجيب مؤذن بأنهما لم يقفا على خلاف صريح للأصحاب، وقد صرح الإمام بنقله في آخر هذا الباب فقال: وقد تردد العلماء على وجه آخر فقال قائلون: تجب حدود على أعداد الزنيات ثم تتداخل، وقال آخرون: الزنيات إذا لم يتخللها الحد كالحركات في زنية واحدة، وهذا أقرب. هذه عبارة الإمام، وكأن الرافعي استحضر لفظ التردد الواقع أولًا في كلام الإمام وغفل عما بعده أو لم يقف على كلام النهاية. الأمر الثاني: أنا قد استفدنا أيضًا من كلام الإمام أن الراجح هو الاحتمال الثاني وهو ظاهر. قوله: ولو زنا وهو بكر ثم زنا قبل إقامة الحد عليه وهو قد أحصن فوجهان: أصحهما -عند الإمام وصاحب الكتاب- أنه يكتفي بالرجم ويدخل الجلد فيه، وأصحهما -عند صاحب التهذيب وغيره- أنه يجمع بينهما. انتهى. لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا ولا في "الروضة" هنا، والصحيح وجوب الحدين؛ فقد قال الشيخ أبو على السنجي: إنه ظاهر المذهب. قال: وعلى هذا لو زنا العبد ثم عتق فزنا قبل الإحصان فقيل: عليه خمسون جلدة لزناه في الرق، ومائة لزناه في الحرية، لاختلاف الحدين، والأصح أنه يجلد مائة فقط ويدخل الأقل في الأكثر لاتحاد الجنس. كذا نقله عنه الرافعي في الباب الثاني من أبواب اللعان وجزم به أيضا في مسألتنا الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" وأبدي الاقتصار على الرجم احتمالًا له فقط فقال: جلد ورجم، ويحتمل أن يقتصر على رجمه. هذا لفظه. وهو يدل على أنه لا يعرف في المذهب غيره، وصححه النووي في "أصل

الروضة" في اللعان في الموضع المشار إليه وعبر بالأصح إلا أنه في الباب الثالث لا الثاني كما في الرافعي ولا ذكر للمسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج". قوله: قال الماسرجسي وغيره: لو شهد رجلان بوصية لهما فيها نصيب أو إشراف لم تقبل في شيء، وإن قالا نشهد بها سوي ما يتعلق بنا من الأموال والإشراف قبلت شهادتهما. انتهى. وقياس ما ذكره في الشهادات في نظائر هذه المسألة أن تبطل فيما يتعلق بهما ويصح في الباقي لأنه إذا جمع في الشهادة بين المقتول وغيره قبلت فيما يقبل.

الجناية السابعة: شرب الخمر

قال -رحمه الله-: الجناية السابعة: شرب الخمر قوله: والفرق بفتح الراء: مكيال يسع ستة عشر رطلًا. انتهى. هو بفاء وراء مهملة مفتوحتين بعدهما قاف، وإنما ضبطه الرافعي بفتح الراء للاحتراز عن ساكنها فإنه مائة وعشرون رطلًا كما قاله ابن الأثير في الغريب. قال: وأما العرق بالعين المهملة فهو المنسوخ من ظفائر الخوص. ثم قال: -أعني الرافعي-: وهذا كالنهي عن الانتباذ في الأوعية التي كانوا ينتبذون فيها كالدباء -وهو القرع- والحنتم -وهي جرار خضر- والنقير -وهو جذع ينقر ويتخذ منه إناء- والمزفت -وهو المطلي بالزفت، وهو القار ويقال له المقير-؛ لأن هذه الأوعية ينتبذ فيها ولا يعلم به بخلاف الأسقية من الأدم. انتهى. فأما الدباء فهو بدال مهملة مضمومة في آخره همزة، مفرده: دباءة، ووزن الدباء فعال ولامه همزة لازمة لأنه لم يعرف هل انقلبت همزته عن واو أو ياء. كذا قاله الزمخشري. وأخرجه الجوهري في المعتل فإنه جعله من مادة دبا فيكون وزنه فعالا أيضًا إلا أن همزته منقلبة. وقال الهروي: همزته زائدة ووزنه فعلا. قال ابن الأثير: بعد حكاية هذا كله إن ما قاله [الجوهري] (¬1) أشبه، وأما الخنتم: فهو بخاء معجمة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم تاء مثناه من فوق. وأما النقير فبالنون. والأدم: بفتح الهمزة والدال جمع أديم وهو الجلد والأدمة بالفتح باطن ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الجلد الذي يلي اللحم والبشرة ظاهره. واعلم أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخ كما ثبت في "صحيح مسلم" (¬1)، وقد نَبّه عليه في "الروضة". قوله في "أصل الروضة": والمذهب جواز إساغة اللقمة بالخمر إذا لم يجد غيرها بل تجب الإساغة بها. ثم قال: وأما شربها للتداوي والعطش والجوع إذا لم يجد أيضًا غيرها ففيه أوجه: أصحهما -وهو المنصوص وقول الأكثرين- لا يجوز. انتهى كلامه. وما ذكره من كون المنع منصوصًا للشافعي في جميع ما ذكره غير مطابق لكلام الرافعي فإنه إنما حكاه في العطش خاصة، وقد ذهل النووي في "شرح المهذب" عن هذا الخلاف المذكور في الإساغة فقال: يجوز بلا خلاف. ذكر ذلك في باب الأطعمة. قوله: ولو [احتيج] في قطع اليد المتآكلة -نعوذ بالله منه- إلى ما يزيل عقله من غير الأشربه كالبنج خرج ذلك على الخلاف في التداوي بالخمر. انتهى. واعلم أن الفتوي في هذه المسألة على خلاف ما ذكره الرافعي، وقد تقدم ذلك مبسوطًا في الباب الثاني من أبواب الطلاق. قوله في "الروضة": ومن تبخر بالند (¬2) المعجون بالخمر هل ينجس؟ فيه وجهان كدخان النجاسة. انتهى. ومقتضاه تصحيح نجاسته حتى لا يجوز الصلاة معه ولا التبخر به؛ لأن استعمال الأشياء النجسة ممتنع في الثوب والبدن على المشهور كما سبق في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2005) من حديث عائشه -رضي الله عنها-. (¬2) هو ضرب من الطيب.

صلاة الخوف، وصرح في "التحقيق" و"شرح المهذب" بأن دخان المتنجس كدخان النجس وما اقتضاه كلامه هنا من المنع سيأتي من "زوائده" في كتاب الأطعمة ما يخالفه فراجعه. قوله: روي الشافعي - رضي الله عنه - بإسناده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى له بشارب فقال: اضربوه فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال بكتوه فبكتوه ثم أرسله (¬1). فلما كان أبو بكر - رضي الله عنه - سأل من حضر ذلك المضرب فقومه أربعين. ويروي فقدره فضرب أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين ثم عمر - رضي الله عنه -، ثم تبايع الناس في الخمر فاستشار فضرب ثمانين. انتهى. وأما بَكَّتُوه فهو بباء موحدة وكاف مشددة بعدها تاء مثناة بنقطتين من فوق. قال ابن الأثير في هذا الحديث: التبكيت هو التقريع والتوبيخ بأن يقال له [يا] فاسق أما اتقيت الله تعالى أما استحييت منه. قال الهروي: ويكون أيضًا باليد والعصا ونحوهما. وقد جزم الماوردي في "الإقناع" بحث التراب والتبكيت كما ورد في الحديث، واقتضى كلامه وجوبه. وأما تبايع المذكور في آخر الحديث فهو بياء بنقطتين من تحت قبل العين، وهو عبارة عن أن يفعل من أفعال القبيح مثل ما فعل غيره من غير فكرة ولا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4488)، والدارقطني (3/ 157)، والطبراني في "الكبير" (1003) و"الأوسط" (1916)، وابن أبي شيبه (5/ 503)، والبيهقي في "الكبرى" (17320)، والنسائي في "الكبري" (5283)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4544)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (638) من حديث عبد الرحمن بن أزهر قال الألباني: صحيح.

روية. قوله: فرع آخر: لا تقام الحدود في المساجد ويسقط الفرض لو أقيمت كما لو صلي في مكان مغصوب. انتهى. وهذا الكلام قد تبعه عليه في "الروضة" وهو مشعر بأن فعل ذلك في المسجد حرام، وليس كذلك؛ فقد ذكر في كتاب الأقضية في الأدب الثالث من أدب القضاء بأنه لا يحرم بل يكره، ونص عليه الشافعي في "الأم" فقال في أول باب ما يستحب للقاضي ما نصه: وإذا كرهت له أن يقضي في المسجد كنت لأن يقيم الحد في المسجد أو يعزر أكره. هذا لفظه بحروفه، ومن الأم نقلته. ونقل ابن الرفعة عن الرافعي الموضع المذكور في هذا الباب فقط ولم يطلع على الثاني، وقد اختلف كلام ابن الصباغ في المسألة فأجاب في الأقضية بما دل عليه كلام الرافعي في هذا الباب من التحريم وأجاب في الحدود بالكراهة.

القول في التعزير

القول في التعزير قوله: وهو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة. انتهى. يستثنى من كلامه أمور: أحدها: إذا صدرت الصغيرة من بعض أولياء الله تعالى قال الشيخ عز الدين في "القواعد الكبري" فلا يجوز للأئمة والحكام تعزيرهم عليها بل تقال عثرتهم وتستر زلتهم، وقد جهل أكثر الناس فزعموا أن الولاية تسقط بالصغيرة ذكر ذلك في أوائل الفصل المعقود لبيان التسميع بالعبادات وهو نحو ثلث الكتاب. الثاني: إذا جامع زوجته في نهار رمضان فإنه يجب فيه التعزير بالإجماع. كذا رأيته في "شرح السنة" للبغوي في حديث الأعرابي الذي جامع زوجته في نهار رمضان، وعبر بقوله: أجمعت عليه الأمة، وجزم به أيضًا ابن يونس صاحب "التعجيز" في شرحه له، ورأيت للرافعي في "شرح مسند الإمام الشافعي" ما يقتضيه أيضًا ذكر ذلك في الحديث المذكور. فعلى هذا تستثني هذه المسألة مما فيه الكفارة وذهل في "الكفاية" عن هذه النقول فذكر ما حاصله الجزم بعدم الوجوب وقد نبهت عليه في "الهداية". الثالث: جماع المرأة حائضًا إذا قلنا بوجوب الكفارة فإنه [يوجب] (¬1) التعزير بلا خلاف كما صرح به بعض الأصحاب ولا يحضرني الآن قائله. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الرابع: إذا قتل من لا يقاد به كما لو قتل ابنه أو عبده أو قتل المسلم الكافر أو غير ذلك فإن الكفارة تجب ومع هذا يجب التعزير كما نص عليه الشافعي في "الأم" ونقله عنه جماعة منهم صاحب "الشامل"، وسوف أذكر لفظه في الكافر لغرض تعلق به. نعم يجاب عن هذا بأن إيجاب كفارة القتل ليس هو لما صدر عنه من المعضية بل لأجل إعدام النفس بدليل إيجابها في قتل الخطأ؛ وحينئذ فيبقي التعمد خاليًا عن الزاجر فأوجبنا فيه التعزير زاجرًا، وهذا المعنى الذى قلناه بعينه يقتضي إيجاب التعزير في محرمات الإحرام إن كانت إتلافات كقتل الصيد والحلق ونحوهما دون الاستمتاعات كاللبس والطيب، ولأجل ما ذكرناه من المعنى اتضح ما ذكره الأصحاب من الجمع بين الكفارة والتعزير في يمين الغموس، فإن التعزير لأجل الكذب والكفارة لانتهاك الاسم المعظم حيث أكد الكذب به. وقد أجاب بما ذكرناه الشيخ عز الدين في [القواعد الصغري] [والشيخ تقي الدين بن الصلاح في "فتاويه" ومثله ما ذكر الشيخ عز الدين في [القواعد الصغرى] (¬1) أنه لو زنا بأمه في جوف الكعبة في رمضان وهو صائم معتكف محرم لزمه العتق والبدنة ويحد للزنا ويعزر لقطع رحمه وانتهاك حرمة الكعبة، ومثله الظهار فإن الصحيح على ما قاله بعض الأصحاب أنه يعزر مع إيجاب الكفارة لأن سبب التعزير هو الكذب والكفارة وجبت بالعود. الخامس: إذا نظر شخص إلى بيت غيره وجوزنا رمي عينه فلم يرتدع ضربه بالسلاح ونال منه بما يردعه. قال الرافعي هناك: ولو لم ينل منه صاحب الدار عاقبه السلطان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هذا لفظه. ومقتضاه عدم التعزير إذا نال منه وكأن ذلك بمثابة الحد على هذه المعصية، وهو واضح. السادس: إذا ارتد ثم أسلم فإنه لا يعزر إلا إذا تكرر منه كما ذكره الشيخ في "التنبيه" (¬1) وغيره، وكذلك من وطيء زوجته في دبرها كما ذكره البغوي في "التهذيب" والروياني في "الحلية". السابع: إذا دخل واحد من أهل القوة إلى الحمي الذي حماه الإمام للضعفة ونحوهم فرعي منه قال القاضي أبو حامد: لا تعزير عليه ولا غرم وإن كان عاصيًا. الثامن: إذا رأي من يزني بزوجته وهو محصن فقتله في تلك الحالة فلا تعزير عليه وإن افتات على الإمام ويعذر لأجل الحمية والغيظ. كذا نقله ابن الرفعة عن ابن داود شارح "المختصر" وقد أعلمتك أنه الصيدلاني، ونقل الماوردي وغيره وكذلك الخطابي في "معالم السنن" عن الشافعي: أنه يحل له قتله في ما بينه وبين الله تعالى إذا لم يكن له بينة وإن كان يقاد في الظاهر. التاسع: إذا كتب بعض المسلمين إلى المشركين بأخبار الإمام فقال الشافعي إن كان من ذوي الهيئات لم يعزر؛ لحديث حاطب بن أبي بلتعة، وإن لم يكن عزر؛ كذا نقله في كتاب السير من "الشامل" في باب جامع السير. قوله: ثم جنس التعزير من الجبس أو الضرب جلدًا أو صفعًا إلى رأي الإمام وله الجمع والاقتصار على أحدهما أو علي التوبيخ بالكلام. انتهى. سكت عن التعزير بالنفي وقد ذكره في باب حد الزنا فقال إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

_ (¬1) التنبيه (ص/ 231).

نفي المخنثين قال: وهو تعزير، وكذلك في قاطع الطريق فقال في أوائله وفيما يعاقب به المعين لهم وجهان: أصحهما: يعزره الإمام باجتهاده بالحبس أو التغريب أو سائر وجوه التأديب كسائر المعاصي. انتهى. ونقل في "الكفاية" عن الماوردي وغيره: أن النفي يجوز التعزير به. قوله: وأما قدره فيتعلق باجتهاده أيضًا إن خالف جنسه جنس الحد كالحبس وإن رأى الجلد فلابد وأن ينقص عن الحد. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وهو صريح في أن مدة الحبس لا تتقدر بوقت، وليس كذلك بل شرطها أن تكون ناقصة عن سنة فإن الشارع قد جعل تغريب السنة واجبًا في حد الزنا والحبس في معناه بل أشد منه فيجب أن يكون التعزير به ناقصًا عنه على قياس سائر التعازير، وقد نص عليه الشافعي في "الأم" في باب من لا قصاص عليه لاختلاف الدين ما نصه: قال الشافعي: فإذا قتل المؤمن الكافر عزر ولا يبلغ في تعزيره في قتل ولا غيره حدًا ولا يبلغ بحبسه سنة ولكن حبس يبتلى به وهو ضرب من التعزير. هذا لفظه بحروفه ومن الأم نقلته، وهي مسألة مهمة جليلة وحكمها متجه مقاس، والعذر في عدم وقوف الأصحاب على هذا النص كونه مذكورًا في غير مظنته فلله الحمد على تيسير مثل هذه الأمور التي غفل عن مثلها فحول المتقدمين وتسهيل الاطلاع عليها لتسليم الحاكم والمفتي بخلافها عن الخطأ. وقد ذهل إمام الحرمين في كتابه المسمي "بالعتابي" عن نص إمام المذهب على المسألة فنقل التقدير المذكور عن بعضهم ثم خطأه فيه فقال: ولست أرى للسلطان إيساع التعزير إلا في إطالة الحبس وليس الحبس ثابتًا في حد حتى يحط التعزير عنه. ويشرع للقاضي أن يحبس في درهم أمدًا بعيدًا إلى إتقان القضاء أو

الإبراء، وقد منع بعض الفقهاء تبليغ مدة الحبس في التعزير سنة نظرًا إلى مدة الحبس في التعزير في حد الزنا، وهذا عندي فاسد كما قدمت ذكره. وليس التغريب حدًا كاملًا وإنما هو جزء من حد. هذا كلامه، ذكر ذلك قبيل نصف الكتاب بقليل. نعم المثال الذي مثل به وهو الحبس في وفاء الحق متجه مسلم لأجل استمرار المنع على التلبس بالمعصية وقد صرح الرافعي في مواضع بذلك وبما هو أبلغ منه؛ منها في باب تارك الصلاة تعليلًا لوجه فقال: وعن صاحب "التخليص" أن الممتنع من الصلاة. ينخس بحديدة ويقال له: قم صل، حتى يصلي أو يموت؛ لأن المقصود حمله على الصلاة فإن فعل فذاك وإلا عوقب كما يعاقب الممتنع من سائر الحقوق ويقاتل. هذه عبارته. وذكر النووي في باب طهارة البدن والثوب من "شرح المهذب" نحوه فقال في تعليل إكراه من جبر عظمه بعظم نجس بلا ضرورة ما نصه: لأنه حصل بفعله وعدوانه فانتزع منه وإن خيف عليه التلف كما لو غصب مالًا ولا يمكن انتزاعه منه إلا بضرب يخاف منه التلف. هذه عبارته. وذكر ابن الرفعة عن الزبيري أنه قدر ذلك بستة أشهر قال: وغيره لم يقدرها. والتقدير بما قاله الزبيري هو على طريقة من يقول: لابد أن ينقص التعزير عن أدني الحدود مطلقًا والعبد يغرب نصف عام فلذلك وجب النقصان عنه، وأما المنصوص عليه في "الأم" فإنه مفرع على الصحيح؛ وهو أن العبرة بأدني حدود المعزر؛ وحينئذ فكلام الشافعي محمول على الحر فأما العبد فيتعين النقصان عن ستة أشهر؛ وبهذا يظهر أن في نقل الأشهر الستة عن الزبيري خللًا، وأن الصواب التقييد: لما دونها لا بالستة نفسها.

قوله: وقيل: لا يزاد على عشر جلدات لما روي عن أبي بردة بن نيار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يجلد فوق العشر إلا في حد" (¬1). انتهى. واعلم أن اللفظ المذكور في الصحيحين عن الراوي المذكور وهو أبو بردة لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد أعني بتقييد النهي عن الزيادة بالأسواط لا بإطلاق النهي عن الزيادة مطلقًا كما قاله الرافعى وهو ظاهر من جهة المعني، وقد صرح الإصطخري بذلك في تصنيفه في أدب القضاء في الكلام على تعزير من أساء أدبه فقال: أحب أن يضرب بالدرة فإن ضرب بالسوط فأحب أن لا يزاد على العشرة وإن ضرب بالدرة فلا يزاد على تسعة وثلاثين. قوله: وقول الغزالي في الكتاب: فيوجب الحد أي: يقتضيه ويثبته، ولا ينبغي أن يحمل على الوجوب بمعني اللزوم؛ ففي ترك أصل التعزير كلام سيأتي. انتهى. وما ذكره عجيب فإن مرتكب ما يوجب التعزير لو لم يجب عليه بمعني يلزمه لكان له الامتناع وعدم التمكن من الاستيفاء. نعم جوزنا للمستوفي تركه لأن ذلك مفوض إليه وهو نائب عن الله تعالى كغيره ممن له حق إذا فوض الأمر فيه لشخص وجوز له قبضه وتركه فتركه لا ينافي وجوبه. قوله: والزوج يعزر زوجته في النشوز وما يتعلق به ولا يعزرها فيما يتعلق بحق الله تعالى والسيد يعزر في حق نفسه وكذا في حق الله تعالى على الأصح. انتهى ملخصًا. واللفظ "للروضة"، وتنويعه هذه المسائل إلى مجزوم بها ومختلف فيها يوهم أن تعزير الزوج فيما يتعلق به كالضرب والشتم من المتفق عليه، وليس كذلك فإنه قد ذكر فيها وجهين في الكلام على النشوز حتى إنه لم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6456)، ومسلم (1708) من حديث أبي بردة - رضي الله عنه -.

يرجح منهما شيئًا، وتعبير "الروضة" بالأصح، يقتضي قوة الخلاف مع أنه ضعيف. كذا صرح هو به في الباب الثاني من كتاب حد الزنا فقال: وهو ضعيف. هذه عبارته. قوله: وحكي الإمام عن المحققين أن المعزر إذا علم أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح لم يكن له أن يضرب مبرحًا ولا غيره، أما المبرح فلأنه مهلك وأما غيره فلا فائدة فيه ويشبه ضربه ضربًا لا يبرح إقامة لصورة الواجب. انتهى. أهمل في "الروضة" ما رجحه الرافعي من جهته وهو ظاهر ويقوي ما قاله المحققون أنه لو قتل نحيفًا بضربات تقتل مثله غالبًا وتيقنا أو ظننا ظنًا مؤكدًا أن الجاني لا يموت بتلك الضربات فلا تراعي المماثلة بل يقتل بالسيف كذا نقله الرافعي عن الإمام. ومثله إذا لاط بصبي فمات. وقلنا: يدس في دبره خشبة قريبة من السّه ليموت بها، فإن ذلك لا يفعل إذا لم يتوقع موته بتلك الخشبة بل يقتل بالسيف. كذا نقله الرافعي عن "التتمة". قوله في الاستدلال على ترك التعزير بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عن جماعة استحقوا التعزير كالذي غل في الغنيمة والذي لوي شدقه حين حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير في سراج الحرة. وأساء الأدب. انتهى. الغلول: بالغين المعجمة هو السرقة. والشدق: بالشين المعجمة وسكون الدال المهملة وبالقاف. وليه هو فعل المستهزئ بالناس. وسراج الحرة تقدم إيضاحه في إحياء الموات. قوله: ولو عفي مستحق التعزير عن القصاص أو الحد أو التعزير

فهل للإمام التعزير؟ فيه وجوه: أشبهها: الفرق بين أن يكون العفو عن الحد فلا [يعزر]، وبين أن يكون عن التعزير فيعزر لأن الحد لازم مقدر ولا يتعلق بنظر الإمام بخلاف التعزير. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر في أوائل الفصل الثالث من الباب الثاني من أبواب اللعان ما يتبادر إلى الفهم منه مخالفته لهذا، وليس كذلك بل يستفاد منه حكم آخر فحصل الغلط هاهنا من عدم استحضاره فقال: والتعزير على نوعين. تعزير تكذيب: وهو الذي شرع في حق الزاني الكاذب ظاهرًا فإنه يكذب بما يجري عليه وذلك كما إذا قذف زوجته الذمية أو الصغيرة التي يوطأ مثلها. وتعزير تأديب: وهو أن يكون كذبه معلومًا أو صدقة ظاهرا فيعزر لا تكذيبا له ولكن تأديبًا. فأما النوع الأول فالتعزير فيه يستوفي بطلبها. وأما الثاني فظاهر كلام الشافعي أنه إنما يستوفي أيضا بطلبها، وحكي الإمام وجهًا أنه يستوفيه السلطان ولا يتوقف على طلبها كما يؤدب من يقول الناس زناة. والمذهب الأول لأنها المقصودة بالإبداء والمتضررة بإشاعة الفاحشة انتهى ملخصًا. فاستفدنا بما قاله هناك أن التعزير يتوقف على الطلب على الصحيح، وهذا الحكم لم يذكره هنا بل قد ربما. يتوهم خلافه فيقال إذا جاز بعد الإسقاط جاز قبل الطلب بطريق الأولى، وليس كذلك بل الفرق أنه إذا عفى فقد أسقط حقه فيبقي حق الإصلاح إلى الإمام، وإذا لم يطالب فالإصلاح منتظر بطلبها فلم يؤنس منه، وأيضا فلو أقيم قبل الطلب لفوت عليه هذا الحق وهو حق الطلب وحصول التشفي.

كتاب موجبات الضمان

كتاب موجبات الضمان والمراد منها أسباب ثلاث: أحدها: ما يلزم الولاة بتصرفاتهم. قوله: ولو ضرب في حد الشرب أربعون جلدة فمات ففي وجوب الضمان قولان، ويقال وجهان: أحدهما: يجب لأن التقدير بالأربعين كان بالاجتهاد. وأصحهما أنه لا يجب كما في سائر الحدود، وحكي ابن كج طريقة قاطعة بذلك. انتهى ملخصًا. وهذه الطريقة قد أسقطها النووي من "الروضة" وسببه أن الرافعي ذكرها بعد ذلك في الكلام على علامات لفظ "الوجيز". قوله: ولو وقع في نار وعلم أنه لا ينجو منها وأمكنه أن يلقي بنفسه في بحر ورأي ذلك أهون من الصبر على لفحات النار فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه افتتاح سبب مهلك، وأصحهما على ما ذكر صاحب الكتاب الجواز لأنه أهون. انتهى ملخصًا. والأصح ما رجحه الغزالي؛ كذا صححه النووي في "أصل الروضة". قوله: والختان واجب في حق الرجال والنساء. انتهى. وما ذكره من الوجوب فمحله في غير الخنثي فلا يختن في صغره فإذا بلغ فوجهان: أحدهما: يجب ختان فرجيه ليتوصل إلى المستحق وبهذا قطع في "البيان"، وأصحهما: لا يجوز ختانه لأن الجرح لا يجوز بالشك وبه قطع البغوي. فعلي الأول إن أحسن الختان ختن نفسه وإلا اشتري جارية تختنه، فإن

لم يكن تولاه الرجال والنساء للضرورة. هكذا ذكره النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة". قوله: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم عطية وكانت تخفض: "أشمى ولا تنهكي" (¬1)؛ أي: اتركي الموضع أشم وهو المرتفع ولا تبالغي في القطع. انتهى. الخفض: بخاء وضاد معجمتين بينهما فاء، هو الختان كما سبق إيضاحه في عيوب البيع. وأما أشمي: فهو بشين معجمة مأخوذ من الشمم وهو ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاه فإن كان فيها إحديداب فهو القنا، نقول رجل أشم الأنف وجبل أشم أي: طويل الرأس. وأما تنهكي فهو بتاء مفتوحة بعدها نون من قولهم نهكت الثوب [أنهكه] نهكًا على وزن دفعت أدفعه دفعًا؛ أي: لبسته حتى خلق وبلي. قوله: من "زوائده": وهل يحسب يوم الولادة من السبعة المستحبة وجهان في "المستظهري": أصحهما: لا، وحكاه عن الأكثرين. انتهى كلامه. وما ذكره من رجحان عدم الحسبان ذكره أيضًا في باب السواك من "شرح المهذب"، وكذلك في "النكت" التى له على التنبيه، فإنه نقله فيها أيضًا عن الأكثرين. إذا علمت ذلك فقد صحح في "شرح مسلم": أنه يحسب، ذكر ذلك في باب خصال الفطرة في الكلام على الختان وعبر بالأصح وصحح أيضًا الحسبان في "شرح المهذب" وفي "أصل الروضة" بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5271)، والحاكم (6236)، والطبراني في "الكبير" (8137)، والأوسط (2253) و"الصغير" (122) والبيهقي في "الشعب" (8645) وفي "الكبري" (17337) من طرق. وقال الألباني: صحيح.

العقيقة وهو نظير المسألة؛ فإن العقيقة والختان وحلق رأس المولود وتسميته يستحب فعلهن يوم السابع، والفتوي على عدم الحسبان فإنه المنصوص للشافعي في "البويطي". قوله في "الزيادات" أيضًا: ولو كان لرجل ذكران عاملان خُتنا، فإن كان أحدهما عاملًا ختن وحده، وهل يعرف العمل بالجماع أو البول؟ وجهان. انتهى. وقد ذكر في باب الغسل من الجنابة من "زوائده" ما حاصله الجزم باعتبار البول فإنه قال: ولو كان له ذكران يبول بهما فأولج أحدهما وجب الغسل ولو كان يبول بأحدهما وجب الغسل بإيلاجه ولا يتعلق بالآخر حكم في نقص الطهارة هذه عبارته. ومقتضاه ما ذكرناه، وذكر أيضًا في نواقض الوضوء نحوه. نعم: لقائل أن يقول: محل هذا الخلاف عند التعارض أما عند وجود أحدهما فقط فإنا نستدل به على العمل جزمًا، لكن مقتضي كلامه أن الخلاف أعم من ذلك. قوله في "الروضة": وأما الضمان الواجب بخطأ الإمام في الأحكام وإقامة الحدود فهل هو على [عاقلته] أم في بيت المال؟ قولان: أظهرهما على عاقلته، وقد سبقا في باب العاقلة. انتهى كلامه. وما ذكره من سبق القولين في الباب المذكور سهو؛ فإنه لا ذكر لهما فيه بالكلية. نعم سبقا في استيفاء القصاص وفي الديات والمذكور في الرافعي إحالتهما على الديات. قوله في "الروضة": فلو أقام الحد بشهادة اثنين ثم بانا ذميين أو عبدين أو امرأتين أو مراهقين ومات المحدود فقد بان بطلان الحكم،

وكذا لو بانا فاسقين على الأظهر، ثم إن لم يقصر في البحث بل بذل وسعه جري القولان في أن الضمان على عاقلته أم في بيت المال؟ ثم قال ما نصه: ثم إذا ضمنت العاقلة أو بيت المال فهل يثبت الرجوع على الشاهدين؟ فيه أوجه: أحدها: نعم لأنهما غرا القاضي. وأصحها: لا لأنهما يزعمان أنهما صادقان ولم يوجد منهما تعد، والثالث: يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال، فإن أثبتنا الرجوع طولب الذميان في الحال، وفي العبدين يتعلق بذمتهما على الأصح وقيل بالرقبة، وأما المراهقان فإن قلنا يتعلق برقبة العبدين نزلنا ما وجد منهما منزلة الإتلاف وإلا فقول الصبي لا يصلح للالتزام فلا رجوع وإن بانا فاسقين فإن قلنا لا ينتقض الحكم فلا أثر له، وإن قلنا ينقض ففي الرجوع عليهما أوجه: أحدهما: نعم كالعبدين. والثاني: لا لأن العبد مأمور بإظهار حالة بخلاف الفاسق. وأصحهما: إن كان مجاهرًا بالفسق ثبت الرجوع لأن عليه أن يمتنع من الشهادة ولأن قبول شهادته مع مجاهرته يشعر بتغريره، وإن كان كاتمًا فلا. انتهى كلامه. وهو كلام محبط مظلم لأن قوله: فإن أثبتنا الرجوع، بعد قوله: فهل يثبت الرجوع على الشاهدين، صريح في أن التفريع على الرجوع على جميع من تقدم ومنهم المراهقان والفاسقان؛ وحينئذ فكيف يستقيم أن يذكر في هذا التفريع وجهًا أن المراهق لا ضمان عليه ووجهين في النقض إذا كانا فاسقين. وأفحش من ذلك كله تصحيحه عدم الرجوع إذا كانا يكتمان فسقهما.

واعلم أن كلام الرافعي صحيح واضح، وهذا الخلل إنما حصل من سوء اختصار النووي؛ فإن الرافعي إنما حكي الخلاف أولًا في الذميين والعبدين خاصة ثم فرع عليهما فإنه قال: ثم إذا ضمن العاقلة أو ضمن بيت المال فهل يثبت الرجوع على الذميين والعبدين؟ فيه وجهان، وفي أمالي أبي الفرج تخصيص الوجهين بما إذا غرمنا بيت المال أحد الوجهين ثبوت الرجوع .. إلى آخره. ثم قال: التفريع إذا أثبتنا الرجوع طولب الذميان، ثم ذكر ما ذكره في "الروضة" وهو حسن لا إشكال عليه ولا إلباس لديه، وقد أعاد الرافعي المسألة قبل كتاب الدعاوي وحكي عن جماعة أن المزكين يغرمون. قوله: وذكر الإمام أن هذا الخلاف يناظر الخلاف في أن القاضي الحنفي إذا قضي للشافعي بشفعة الجوار وبالتوريت بالرحم والرد هل يحل للمقتضي له. قال: والوجه عندنا القطع بأنه لا يحل أن يأخذ ما يخالف معتقده. انتهى كلامه. والأصح في هذه المسائل وأشبهها هو الحل باطنًا على خلاف ما نقله عن الإمام وأقره. كذا صححه الرافعي في باب القسامة. قوله: ولو قطع يدًا صحيحة بإذن صاحبها لم يجب شيء بلا خلاف، فإن سرى إلى النفس وجبت الدية على قول، والأظهر خلافه. انتهى. وما ذكره من إيجاب الدية على القول بالوجوب، وتابعه عليه في "الروضة"، والصواب -كما نبه عليه ابن الرفعة وغيره- إنما هو النصف فقط لأنه قد أسقط ما يقابل النصف وهو دية اليد؛ ولهذا لو قطعت يده فقال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث فيها أو سكت عن الذي يحدث فسري إلى النفس وجب النصف فقط. والخلاف المذكور قد حكاه الرافعي

على هذا الوجه أيضًا في أوائل باب العفو عن القصاص وكذلك في "المحرر" و"المنهاج"، وما نقلناه في أول المسألة عن الرافعي من أن الأظهر عدم الوجوب قد أسقطه من "الروضة" فاعلمه.

دفع الصائل

قال: النظر الثاني في دفع الصائل قوله: وإذا صال على نفسه مسلم لم يجب عليه دفعه في أصح القولين. ثم قال: وعن القاضي الحسين الفرق بين أن يمكنه دفعه من غيره أن يقتله فيجب وبين أن لا يمكنه دفعه إلا بالقتل فيجوز الاستسلام. انتهى. وهذا النقل عن القاضي [نقله عنه البغوي في "التهذيب" ولكنه أهمل منه شرطًا آخرًا ذكره القاضي] في "تعليقه" فقال: إن الأصحاب أطلقوا القول بأن المقصود بالخيار بين الاستسلام وبين الدفع عن نفسه. وقلت أنا: إن أمكنه أن يدفعه من غير أن يجرحه أو يقتله وجب عليه الدفع. قوله: وفي تعليق إبراهيم المروزي وجهان فيمن جلد رجلًا ثمانين وقال قد كان قذفني وأقام بينة به هل يحسب ذلك عن الحد؟ وبنى على الوجهين أنه إن عاش هل يعاد الحد وإن مات هل يجب القصاص على الشارب؟ انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح، والأصح منهما عدم الحسبان؛ كذا صححه الرافعى قبل ذلك في باب حد القذف وضعف مقابله. قوله: فمن رأى إنسانًا يتلف مال نفسة مثل أن يحرق كدسه ويغرق متاعه جاز له دفعه، وإن كان حيوانا بأن يراه يشدخ رأس حماره ففى وجوب الدفع بحرمة الحيوان وجهان؛ المذكور منهما في "التهذيب": أنه يجب. انتهى.

والأصح كما ذهب إليه البغوي كذا صححه في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. والكدس: بالكاف سبق إيضاحه في حد السرقة. والشدخ: بشين وخاء معجمتين بينها دال ساكنة: كسر الشيء الأجوف. ثم ذكر الرافعي في الفصل ألفاظًا. منها: الفهر: بفاء مكسورة وهاء ساكنة وراء مهملة، هو الحجر الذي يملأ الكف، يذكر ويؤنث، ويجمع على أفهار. ومنها قولهم: فلان من عرض الناس: هو بعين مهملة مضمومة وراء ساكنة وضاد معجمة؛ أي: من عامتهم. ومنها: القضم: بقاف مفتوحة وضاد معجمة ساكنة هو العض بالأسنان. وأما الخضم: بالخاء والضاد المعجمتين فهو الأكل بجميع الفم. ومنها: ينبعج بطنه: هو بباء موحدة وعين مهملة بعدها جيم؛ أي: يشقة، يقال: بعج بطنه بالسكين يبعجه بالفتح بعجا فهو مبعوج وبعيج. ومنها: صير: بصاد مهملة مكسورة بعدها ياء ساكنة بنقطتين من تحت وبالراء المهملة هو الشق؛ يقول: نظرت إليه من صير الباب، أي: من الشق الذي فيه. ومنها: أنه روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخاتل الناظر ليرمي عينه بالمدري (¬1). المخاتلة: بالخاء المعجمة والياء المثناه بنقطتين من فوق هي المخادعة والمراصدة. ومنها الفسطاط: بضم الفاء وكسرها هو بيت من شعر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5580) ومسلم (2156) من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -.

قوله: ولو كان للقتيل وارثان فحلف أحدهما ونكل الآخر حلف القاتل للآخر وعليه نصف الدية للحالف، وإن كان أحدهما بالغًا والآخر صغيرًا وحلف البالغ لم يقتص حتى يبلغ الصغير فيحلف أو يموت فيحلف وارثه. وإن أخذ البالغ نصف الدية حكى الروياني أنه يؤخذ للصغير أيضًا، فإذا بلغ حلف، فإن نكل وحلف القاتل رد عليه ما أخذ. انتهى كلامه. واعلم أن الدعوى بمال الصبي والمال الذي عليه مذكور في موضعين: أحدهما في كتاب الدعاوي في الكلام على النكول قبيل الباب الخامس المعقود للبينة، والموضع الثاني في آخر الصداق وفيه اضطراب أوضحته هناك فليراجع منهما. قوله: السادسة: لو كان باب الدار مفتوحًا فنظر منه أو نظر من كوة واسعة أو من ثلمة حصلت في الجدار، فإن كان مجتازًا لم يجز فصد عينه، وإن وقف ونظر متعمدًا فوجهان: أصحهما عند صاحب "التهذيب" وبه أجاب الإمام: المنع. انتهى. والأصح ما صححه البغوي، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". قوله: ولو نظرت المرأة أو المراهق جاز رميهما على الأصح. لقائل أن يقول: كيف يجوز رمى المراهق مع أنه غير مكلف ولهذا لا يقام عليه شيء من الحدود قصاصًا كان أو غيره، وقد ذكر الرافعي قبل ذلك أنه لو كان في الدار محرم للبالغ الناظر أو زوجة أو متاع لم يرم لأجل الشبهة وأي شبهة أقوى من عدم التحريم؟ قوله: قال السرخسي: لو كان من في الدار غاصبًا لم يستحق الناظر الرمى، وإن كان مستأجرًا فله الرمى، وإن كان مستعيرًا فوجهان. ذكر في "الروضة" مثله، وفيه أمران:

أحدهما: أن صورة المسائل الثلاث أن يكون الناظر هو المالك. كذا رأيته في "الأمالى" للسرخسي فتفطن له. الثاني: أن الرافعي قد ذكر في السرقة أن الدار المستعارة حرز بالنسبة إلى غير المعير، وكذا في حق المعير على الأصح. وقياس مسألتنا أن يكون مثله أيضًا حتى يكون الأصح من الوجهين أنه يرمي كما في القطع؛ بل أولى. قوله: ولو صال العبد المبيع على البائع أو أجنبي قبل القبض فقتله دفعًا انفسخ العقد. ولو صال على المشتري فقتله ففي مصيرة قابضا وجهان. انتهى. والأصح: أنه لا يصير؛ كذا صححه النووي في كتاب البيع من "الروضة". قوله: وفي "البيان": أنه لو قطع يد الصائل في الدفع فلما ولى تبعه فقتله وجب عليه القصاص عن النفس، وحكى عن بعض الأصحاب أن لورثة المصول عليه أن يرجعوا في تركة الصائل بنصف الدية. قال: والذي يقتضيه المذهب أنهم لا يرجعون بشيء لأن النفس لا تنقص بنقصان اليد. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" مثله. وهو غلط وقع في "البيان" سببه أنه نقل المسألة عن "العدة" لأبي عبد الله الطبري فغلط في فهم ما ذكره عنه، ثم اعترض عليه بسببه فتبعه عليه الرافعي ثم النووي في "الروضة"؛ وذلك أن صورة المسألة أن القاطع هو الصائل ثم إن الصائل ولي فينتبه المصول عليه وهو المقطوع يده فيقتله أي يقتل الصائل فإن القصاص يجب على المقطوع لأنه قتل الصائل بعد هربه، وإذا قتل أي المقطوع قصاصًا وجبت لورثته في تركة الصائل نصف الدية لأن القصاص في اليد قد تعذر بموته. هكذا صور المسألة صاحب العدة وعلى هذا التصوير لا إشكال فإنه قال أعني صاحب

العدة: وإذا ولي عنه القاصد وترك [قصده] (¬1) لم يكن له أن يصيبه بشيء. ثم قال ما نصه: فإن قطع يد رجل عند القصد فلما ولي تبعه وقتله كان لوليه القصاص في النفس لأنه حين ولي عنه لم يكن له أن يقتله، ولورثة المقصود أن يرجعوا في تركة القاصد بنصف الدية لأن القصاص سقط عنه بهلاكه. هذا لفظ "العدة" ومنها نقلت، وهو كلام صحيح متفق عليه فنقله عنه صاحب البيان متوهمًا أن القاطع هو الصائل فقال: وإن قصده فقطع يده فولي عنه ثم تبعه فقتله كان لوليه القصاص في النفس لأنه لما ولي عنه لم يكن له قتله. قال الطبري في "العدة": ولورثة المقصود أن يراجعوا في تركه القاصد بنصف الدية لأن القصاص سقط عنه بهلاكه. قلت: والذي يقتضيه المذهب أنهم لا يرجعون بشئ كما لو اقتص منه فقطع يده ثم قتله، ولأن النفس لا تنتقص بنقصان اليد؛ ولهذا لو قتل رجل له يدان رجلًا ليس له إلا يد قتل به ولا شيء لورثة القاتل. هذا كلام "البيان"، وتصويره المنقول عن صاحب العدة صحيح، والضمير في قوله: فقطع يعود على القاصد الصائل، والتعليل الذي ذكره صاحب "العدة" يوضحه، فتوهم صاحب "البيان" عوده إلى المصول عليه فاعترض عليه، ثم إن الرافعي زاد الأمر إشكالًا والتعبير خللًا فصرح بذلك في التصوير، ثم إنه حذف المنقول عنه والتعليل المرشدين إلى الصواب فزاد الأمر فسادًا وتبعه على ذلك كله في "الروضة"؛ فلله الحمد على الإرشاد إلى الصواب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إتلاف البهائم

قال النظر الثالث: في إتلاف البهائم قوله: ولو كان مع الدابة سائق وقائد فالضمان عليهما بالسوية لأنها تحت يدهما، وفي الركب مع السائق أو القائد وجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك، والثاني: يخص الراكب بالضمان لقوة يده وتصرفه؛ وينبني ذلك على الخلاف فيما إذا تنازع الركب والسائق في الدابة تجعل في يدهما أو تختص بالراكب. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الوجهين من غير ترجيح، والأصح أن اليد للراكب خاصة. كذا ذكره الرافعي في آخر كتاب الصلح فقال: إنه المذهب ونقل التشريك عن أبي إسحاق إلا أن الرافعي إنما ذكر ذلك في القائد مع الراكب ولم يتعرض للسائق مع الراكب إلا أنه مثله كما اقتضاه كلامه وكلام غيره وقد حذف النووي المسألة من كتاب الصلح فلزم منه خلو "الروضة" عن المرجح المذكور في الرافعي، وعن التصريح بمن له اليد في الراكب والقائد فإنه لا تصريح فيها بذلك في موضع من المواضع. قوله: قال الإمام: والدابة النزقة التي لا تنضبط بالكبح والترويد في معاطف اللجام لا تركب في الأسواق ومن ركبها فهو مقصر ضامن. انتهى. أما النزقة: فبنون وزاي معجمة وقاف، وقد فسرها الرافعي بما ذكره. والكبح: بكاف مفتوحة ثم باء موحدة ساكتة ثم حاء مهملة، هو جذب الدابة باللجام. كذا ذكره الجوهري. وذكر أيضًا ذلك بالضبط المذكور إلا أنه بالتاء المثناة من فوق وفسره برمي الجسم بما يؤثر فيه، وتفسير كلام الرافعي به أيضًا محتمل. وذكر الرافعي أيضًا هنا من أفعال الدابة الخبط والرمح.

فالخبط: ضرب الأرض بيديها، وهو بالخاء المعجمة، ومنه قيل: يخبط خبط عشواء، وهي الناقة التي في بصرها ضعف تخبط إذا مشت لا تتوقى شيئًا. والرمح: بفتح الراء وسكون الميم وبالحاء المهملة ضربها بالرجل. قوله: وإذا راثت الدابة أو بالت في سيرها وزلق به إنسان وتلف نفس أو مال أو تلف شيء من الرشاش بممشاها وقت الوحل فلا ضمان في ذلك كله. وإذا بالت أو راثت في الطريق وقد أوقفها فيه فأفضى المرور في موضع البول إلى تلف فالمذهب أنه لا ضمان، وقيل: يفرق بين الطريق الواسع [والضيق]. انتهى ملخصًا. وما جزم به هاهنا من عدم ضمان ما تلف بسبب الزلق في بول الدابة وروثها قد جزم بخلافه في كتاب الحج في الكلام على محرمات الإحرام في النوع السابع المعقود للصيد، وقد سبق ذكر لفظه في موضعه، وذكر في "الروضة" هذا الموضع على حاله. وأما المذكور في الحج فحذف منه التصريح بالآدمي والبهيمة لكنه أحال ذلك في أول الفصل المعقود له على الجنايات ثم ذكر ما ذكر فعلم بذلك مناقضه، بل لو لم يصرح بذلك لعلم من ضمان الصيد أيضًا. وقد صرح أيضًا في "شرح المهذب" بضمان الآدمي والبهيمة كما قال الرافعي ولم يحك فيه خلافًا ولم يتعرض هناك في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر" للمسألة. نعم: هي مذكورة فيهما في هذا الباب كما في "الكبير". قوله: ولو كان في داره كلب عقور أو دابة رموح قد حلها إنسان بإذنه ولم يعلم الحال فقولان كما لو وضع بين يديه طعامًا مسمومًا فأكله، ومنهم

من خصص الخلاف بما إذا كان أعمى أو كان في ظلمة، وقطع بنفي الضمان إذا كان بصيرًا يرى. انتهى كلامه. ومقتضاه تصحيح وجوب الدية لأن أصح الأقوال في تقديم الطعام المسموم وجوبها كما هو مذكور في أوائل الجنايات، وهذا الذي ذكره هنا مخالف لما سبق في كتاب الجنايات في آخر الطرف الثالث منه مخالفة عجيبة فإنه جزم بعدم الضمان وزاد فادعى أنه لا خلاف فيه وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله نقلًا عن "فتاوى البغوي": بخلاف الطفل يسقط على قارورة يضمن لأن للطفل فعلًا بخلاف الميت. انتهى. وهذا الكلام يشعر بأن غير المميز يجب عليه ضمان، ما أتلفه وفيه كلام سبق في أوائل الجنايات يتعين الوقوف عليه.

كتاب السير

كتاب السير وفيه ثلاث أبواب: الباب الأول: في وجوب الجهاد اعلم أن النووي قد رتب مسائل هذا الباب على غير ترتيب الرافعي وأنا تابع للأصل فاعلمه. قوله في أصل "الروضة": ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين. انتهى. ذكر بعده من "زوائده" ما حاصله أن افتراضه كان بعد ستة أشهر من الثانية لا بعد سنتين فإنه قال: إنه فرض في شعبان من السنة الثانية وما ذكره أولًا تبعًا للرافعي ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما. قوله: وفرض الحج سنة ست، وقيل سنة خمس. انتهى. وما ذكره هنا من تصحيح الست قد خالفه في أوائل الحج في الكلام على أنه ليس على الفور فجزم بأنه فرض في سنة خمس، وقد سبق ذكر لفظه في موضعه، وذكر النووي بعد هذا من "زوائده" وجهًا آخرًا أنه فرض سنة تسع، وذكر غيرهما فيه وجوهًا أخرى. قوله من "زوائده": واختلف أصحابنا في أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا لم يرد ما ينسخ ذلك الحكم، والأصح: أنه ليس بشرع، وقيل: بلى، وقيل: شرع إبراهيم فقط. انتهى. وهذه المسألة بترجيحها مذكورة في باب الأطعمة من الرافعي وذكرها أيضًا في "الروضة" هناك وحكى الخلاف قولين.

قوله من "زوائده" أيضًا: وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من أن وفاته -عليه الصلاة والسلام- في ربيع الأول فصحيح، وأما كونها يوم الاثنين مع كونها في الثاني عشر فذكره أيضًا غيره، وهو غلط. وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبضه الله تعالى إليه بعد رجوعه من الحج وكان وقوفه بعرفة يوم الجمعه بالاتفاق فيكون أول ذي الحجة يوم الخميس؛ وحينئذ فإن كانت الأشهر الثلاث التي بقيت من عمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلها تامة كان الثاني عشر من ربيع إنما هو يوم الأحد لأنه يكون أول ذي الحجة الخميس كما قلناه وآخره الجمعة وأول المحرم السبت وآخره الأحد وأول صفر الاثنين وآخره الثلاثاء وأول ربيع الأربعاء وحينئذ فيكون ثاني عشرة يوم الأحد، وإن نقص شهر واحد وتم شهران كان أول ربيع متقدمًا على اليوم الذي قلنا إنه أوله بتقدير تمام الأشهر الثلاث يوم واحد، فيكون أوله الثلاثاء، وإذن يكون ثاني عشرة يوم السبق وإن نقص شهران وتم شهر واحد كان أول ربيع متقدما بيوم آخر فيكون أوله الاثنين وحينئذ فثاني عشرة الجمعة، وإن نقصت الأشهر الثلاث كان أول ربيع سابقًا على ما قبله بيوم أيضًا فيكون أوله الأحد فيكون ثاني عشرة يوم الخميس؛ فثبت بطلان الجمع بين الاثنين مع كونه ثاني عشر. قوله أيضًا من "زياداته": ثم نسخ أي: قيام الليل بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به من كون هذه الليلة التي أسرى به فيها وفرضت فيها الصلاة كانت في رجب قد خالفه في "فتاويه" في كتاب الصلاة فجزم بأنها ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول فقال: ثم نسخ قيام الليل ليلة الإسراء ووجب فيها الصلوات الخمس، وكان الإسراء سنة خمس أو ست من النبوة، وقيل غير ذلك، وكان الإسراء ليلة السابع والعشرين من ربيع

الأول. هذا كلامه. وخالفهما معًا في "شرح مسلم" فجزم بأنها ليلة السابع والعشرين من ربيع الآخر، وسبقه إلى ذلك القاضي عياض في "شرح مسلم" أيضًا فقلده فيه النووي. قوله: فللكفار حالتان: إحداهما: إذا كانوا مستقرين في بلادهم فالجهاد معهم فرض على الكفاية فإن امتنع الجميع أثموا. وهل يعمهم أم يختص بالذين ندبوا إليه؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجهين. انتهى. والأصح على ما ذكره في "الروضة" من "زوائده" أنه يأثم كل من لا عذر له. قوله: فإنه روى أن غزوة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة وكانت غزوة أحد في الثالثة وغزوة ذات الرقاع في الرابعة وغزوة الخندق في الخامسة وغزوة بني النضير في السادسة وفتح خيبر في السابعة وفتح مكة في الثامنة وغزوة تبوك في التاسعة. انتهى. وهذه الغزوات قد حذفها النووي من كلام الرافعي ثم أتى بها في أثناء "زياداته" مخالفا لما ذكره الرافعي من الترتيب من غير تنبيه عليه؛ فإنه ذكر أن غزاة بني النضير في السنة الثالثة وقد تقدم من كلام الرافعي أنها في السادسة وهو المذكور في "النهاية"، وذكر في غزوة الخندق خلافًا أنها في الرابعة أو الخامسة وصحح أنها في الرابعة على خلاف ما جزم به الرافعى، وذكر أن غزوة ذات الرقاع في الخامسة وجزم الرافعي بأنها في الرابعة. وقريظة: بالظاء [المعجمة] المشالة بخلاف النضير فإنها بالمعجمة غير المشالة، وهما جميعًا من يهود [خيبر] وينتسبان إلى هارون -عليه الصلاة والسلام- قاله الجوهري. والنضير: هو المذهب، وكذلك النضار بضم النون، والنضير أيضًا على وزن التصرف.

قوله: ويأمرهم المحتسب بصلاة العيد وهل هو جائز أو لازم؟ فيه وجهان: انتهى. والأصح وجوب الأمر بها، وإن قلنا إنها سنة، كذا قاله في "الروضة". قال: لأن الأمر بالمعروف هو الأمر بالطاعة لاسيما ما كان شعارًا ظاهرًا. وفيما ذكره من كون الأمر بالمعروف هو الأمر بالطاعة قد سبق منه، وفيه أمور: أحدها: أن ما ذكره قبل هذا بأسطر خلافه فقال في أصل "الروضة": والمراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأمر بواجبات الشرع والنهي عن محرماته. هذه عبارته. الثاني: أن الأكثرون على خلاف ما صححه فقد نقل الإمام في "الشامل" عن معظم الفقهاء أن الأمر بالمعروف في المستحب مستحب، ونقل عن القاضي أبي بكر أنه أوجبه. ثم قال أعني الإمام: إن الأظهر عندي قول الفقهاء. ويؤيد كلامه أنا لا نقاتل على ترك الأذان وصلاة الجماعة والعيد على قولنا: إنها سنة. الثالث: أن النووي قد ذكر في "فتاويه" وغيرها: أن الإمام إذا أمر بصلاة الاستسقاء صارت واجبة، وقياسها في العيد كذلك أيضًا؛ أي: يجب عليه أن يأمر وعليهم أن يفعلوا، والمتجه أنه يكون فرض كفاية لا عين. قوله: ويسقط فرض الكفاية بالصغر والجنون والأنوثة، وللإمام أن يأذن للمراهقين والنساء. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن في ما ذكره في المجنون إجمالًا فهل المراد بالجنون وقت الخروج خاصة أم ما هو [أعم] من ذلك؟ ، وبتقدير الثاني فهل المراد الغالب أو الكثير [أو] مطلق ذلك وإن كان نادرًا فيه نظر، والمتجة اعتبار ما عدا الأخير. الأمر الثاني: أن ما ذكروه في الصبي إن كان المراد أنه يحضر ويقاتل فهو مشكل؛ لأن فيه تغريرا بنفسه وقد منعوا التغرير بماله فبنفسه أولى، ورضاه أو رضا الولي لغرض الشهادة لا أثر له كما لا أثر لذلك في إتلاف. قوله في "أصل الروضة": ولا جهاد على أشل اليدين ولا على من فقد معظم أصابعه بخلاف فاقد الأقل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في فقدان الأصابع حاصله أن الكثرة معتبرة بالنسبة إلى الأصابع كلها لا بالنسبة [إلي] يد واحدة حتى لو قطعت مثلًا أربع أصابع لم يسقط الوجوب، وليس كذلك بل يسقط عنه لأنه يصير كمقطوع إحدى اليدين، وهو الذي اقتصر على نقله ابن الرفعة في "الكفاية" فقال: ولا يجب على مقطوع إحدى اليدين، فلو كان مقطوع بعض أصابعها، فإن كان المقطوع الأكثر فكذلك الحكم وإن كان المقطوع الأقل وجب. قاله المصنف والماوردي، وكذلك حكم الأنامل. هذا كلامه. وعبارة الرافعي ليست كعبارة "الروضة" بل هي إلى عبارة "الكفاية" أقرب فإنه قال: ولا جهاد على الأقطع والأشل لأنه لا يتمكن من الضرب والاتقاء، ومفقود معظم الأصابع كالأقطع. الأمر الثاني: أن الاصحاب في كتاب الظهار لما تكلموا في سلامة الرقبة من العيب الذى يخل بالعمل سلكوا في قطع الأصابع والأنامل طريقة أخرى مباينة لهذه بالكلية وقالوا: إذا كان مقطوع [الخنصر] والبنصر معًا لم يجز، وكذا إن قطع أحد الثلاثة الباقية وهي الإبهام والسبابة والوسطى، بل

لو قطعت أنملة واحدة من الإبهام لم نجزه. وهذه الطريقة أسد من الطريقة التي سلكوها في هذا الباب مع أن القتال منوط بالأيدي والعمل المحصل للقوت لا يستلزم ذلك؛ لأنه قد يستأجر للحراسة أو للضبط أو للتعليم وغير ذلك، ولا شك أن مقصود الإعتاق وهو تخليص الرقبة للحرية غير مناف لوضعه لهذه الأشياء، ووضع القتال مناف لذلك لاسيما والكلام في القتال الذي هو فرض على الكفاية، فإن قيل فائدة حضوره تكثير السواد والصياح ونحو ذلك. قلنا: قولهم: إن الفرض لا يتعلق بمن لا يستطيع القتال مبطل لذلك وأيضًا فإنه يقتضي الإيجاب على مقطوع اليد بكمالها ولا قائل به. قوله: فإن أمر السيد عبده بالجهاد قال الإمام: الوجه أنه لا تلزمه طاعته لأنه ليس من أهل هذا الشأن والملك لا يقتضي التعرض للهلاك، فليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد على العبد، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف، ولا يلزمه الذب عن سيده عند الخوف على روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير بل السيد في ذلك كالأجانب وللسيد استصحابه في سفر الجهاد وغيره ليخدمه. وقوله في "الكتاب": وليس عليه الذب عن سيده، ينبغي أن يعلم بالواو فإنه جواب على أن الدفع عن الغير لا يجب. انتهى كلامه. وما ذكره من الإعلام بالواو لأجل الخلاف قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" (1): فقال: ولا يلزمه الذب عن [سيده] عند خوفه على روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير هذه عبارته. والذي قالاه وهم فقد سبق في كتاب العيال أنه لا يجب الدفع عن الغير عند الخوف على النفس بلا خلاف فراجعه. ولا شك أن الرافعي قد اعتمد في ذلك على فهم غير مطابق فهمه من كلام الإمام فإن الإمام لما ذكر ما نقله عنه الرافعي عبر في هذه المسألة بقوله

وإذا لم نوجب الدفع عن المسلم المقصود على التفصيل الذي قدمناه للفقهاء فلا يجب على العبد أن يدفع عن سيده إذا كان في الدفع تعريض نفسه للقتل. نعم له استصحابه لخدمته. . . . إلى آخر ما ذكر. والذي قاله الإمام صحيح فتأمله. قوله: وإن كان معسرًا فقد ذكر القاضي ابن كج أن المذهب أنه ليس لصاحب الدين منعه لأنه لا مطالبة عليه في الحال، وأن أبا إسحاق قال: له المنع. انتهى. والصحيح ما قاله ابن كج؛ فقد قال في "المحرر": إنه الأظهر، والنووي في أصل "الروضة": إنه الأصح. قوله: ولو مرض بعد ما خرج أو عرج أو فنى زاده أو هلكت دابته فهو بالخيار بين أن ينصرف أو يمضى، فإن حضر الوقعة فعن رواية القاضي أبي الطيب وصاحب "التقريب": أنه يلزمه الثبات، وعن غيرهما يجوز الرجوع لأنه لا يمكنه القتال وهذا أظهر، وخص الإمام الخلاف بما إذا كان لا يورث انصرافه فشلًا وانحلالًا في الجند، فإن أورثه لم يجز الرجوع، وفي التهذيب في صورة هلاك الدابة أنه يلزمه القتال راجلًا إن أمكنه ذلك وإلا فله الانصراف، وعن بعضهم فيما إذا انقطع عنه سلاحه أو انكسر أنه أمكنه القتال بالحجارة لزمه ذلك. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره عن الإمام من تخصيص الخلاف وأقره عليه قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو وجه ضعيف لا قيد معمول به فقد نقله الرافعي بعد هذا في الباب الثاني المعقود لكيفية الجهاد عن الغزالي وضعفه، ووافقه عليه النووي. الأمر الثاني: أن ما حكاه عن بعضهم حكاية الأوجه الضعيفة من

وجوب الرمي بالحجارة عند تعذر السلاح قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا لكن قد حكى الرافعي في الباب الذي أشرنا إليه قريبًا فيه وجهين وصحح النووي هناك من "زوائده" الوجوب على عكس المذكور هنا وسأذكره في موضعه. قوله: ولو علمت المرأة أنها لو استسلمت لامتدت الأيدى إليها لزمها الدفع وإن كانت تقتل. ثم قال: وإن كانت لا تقصد الفاحشة في الحال وإنما تظن ذلك بعد السبي فيحتمل أن يجوز لها الاستسلام في الحال ثم تدفع حينئذ. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على التوقف في المسألة والاقتصار على هذا الاحتمال وهو يقتضي أنهما لم يظفرا في المسألة بنقل مع أن الغزالي قد ذكرها في "الوسيط" وحكى فيها وجهين فقال: والمرأة إن علمت ذلك يعني القتل ولكن تعلم أنها تقصد الفاحشة ففي وجوب المكافحة وجهان. أحدهما: نعم حتى تقتل فإن الفاحشة لا تباح بخوف القتل. والثاني: لا لأن القتل معلوم والفاحشة موهومة. هذا لفظه. وهي المسألة بعينها. وتعبيره بقوله: ولكن يعلم، ليس المراد به حقيقة العلم قطعا لاستحالته بل المراد به الشعور ويؤيده التصريح بذلك في التعليل حيث قال: والفاحشة موهومة. قوله: الثانية: لو أسروا مسلمًا أو جماعة فهل هو كدخول دار الإسلام حتى يصير الجهاد فرض عين؟ فيه وجهان أظهرهما عند الإمام نعم لأن حرمة دار الإسلام كحرمة المسلمين. انتهى. لم يصحح في "الشرح الصغير" شيئا أيضًا وصحح النووي في "أصل الروضة" ما رجحه الإمام. قوله من زوائده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ولا يسقط

ذلك عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وليس الواجب عليه أن يقبل منه بل واجبه أن يقول كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬1) انتهى كلامه. وما ذكره من عدم السقوط عند العلم بعدم التأثير باطل لا نعرف أحدًا قال به بل نقله إمام الحرمين في كتابه المسمى بـ"الشامل" في علم أصول الدين عن القاضي أبي بكر أنهم أجمعوا على عدم الوجوب ولم يخالفه الإمام [فيه وهذا متجه يعضده ما قالوه: أن الوالد والزوج وغيرهما ممن شرع له الضرب تأديبًا لا يجوز له الضرب إذا لم يترتب على ضربه فائدة، وذكر الغزالي في "الإحياء" نحو ما ذكره الإمام] وحكى خلافًا في حالة تعارض الاحتمالين وصحح الوجوب، وذكر الإمام نحوه فإنه نقل عن كثير من أنه لا يجب ثم خالفهم. قوله: قالوا: ومن أمثله المنكر أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام. انتهى كلامه. ذكر بعد هذا أن الإنكار لا يكون في مختلف فيه وحينئذ فالعورة المكشوفة إما أن تكون من الفخذ أو من السوأتين، فإن كانت من السوأتين وإلا فلا على كلام يأتي فيه. قوله أيضًا من "زوائده": ثم العلماء إنما ينكرون على ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ. انتهى كلامه. وما قاله من عدم الإنكار في المختلف فيه محله إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه، فإن كان ممن يراه فوجهان: الصحيح منهما: أنه كالمجمع عليه؛ كذا قاله الرافعي في كتاب الوليمة وتبعه عليه في "الروضة"، وما ذكروه من عدم الإنكار إذا كان الفاعل لا يرى التحريم يشكل عليه ما إذا شرب الحنفي ¬

_ (¬1) سورة المائدة (99).

النبيذ فإن الصحيح أنه يحد مع أن الإنكار بالفعل أبلغ من الإنكار بالقول. قوله فيها أيضًا: لأن العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه الإخلال بسنة ثابته أو وقوعه في خلاف آخر. انتهى كلامه. ومحل هذا كما قاله الشيخ عز الدين في "القواعد": إذا كان مأخذ المخالف قويًا فإن ضعف فلا يستحب الخروج منه وذكر أيضًا النووي في "شرح المهذب" وغيره نحوه فقال: لا حرمة بخلاف يخالف السنة أي لما ثبت في الحديث الصحيح. قوله في "الزوائد" أيضًا: واعلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن يخاف منه على نفسه أو ماله أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع. انتهى. أهمل قسمًا آخرا يسقط فيه؛ وهو ما إذا غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عنادًا. كذا أشار إليه في "الإحياء"، وذكر الإمام أيضًا نحوه. قوله: ومن فروض الكفاية: إحياء الكعبة بالحج كل سنة. هكذا أطلقوه وينبغي أن تكون العمرة كالحج بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام فإن التعظيم وإحياء البقعة يحصل بكل ذلك. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره الرافعي بحثًا قد أشار إليه في "المحرر" فقال: وإحياء الكعبة بالزيارة، وتبعه عليه في "المنهاج" وخالف في "الروضة": فقال: لا يحصل مقصود الحج بما ذكر فإنه يشتمل على الوقوف والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى وإحياء تلك البقاع بالطاعات، والله أعلم. وما ذكره النووي -رحمه الله- لا يلاقي المعنى الذي ذكره الرافعي فإنا نسلم أنه لا يحصل مقصود الحج لكن الكلام في إحياء الكعبة لا في إحياء هذه الأماكن.

نعم. المتجه في الصلاة والاعتكاف في المسجد الحرام ما ذكره فإنه ليس فيهما إحياء للكعبة بالكلية بل ولا يختص الاعتكاف بمسجد معين ولا الصلاة بمكان، وأما العمرة فإلحاقها بالحج قريب، وسكت عن الطواف والمتجه أنه كالعمرة، وأما الاعتكاف داخل الكعبة فالمتجه خلافه بعدم الاختصاص كما سبق. واعلم أن كلامهم يقتضي أنه يخاطب بهذا الفرض من حج و [من] (¬1) لم يحج وإذا أتى به من لم يحج فيقع على الفرضين معًا وإن حج وقع على فرض الكفاية وحينئذ فلا يكون لنا حج تطوع أصلًا ويقرب منه قولهم في صلاة الجنازة: إن الجميع تقع صلاتهم فرضًا حتى الطائفة الثانية وإذا انحصر الحال فيمن حج لتعذر غيره فيلزمه الحج ثانيًا وثالثًا. الأمر الثاني: لا يشترط في القائمين بهذا الفرض قدر مخصوص بل الفرض أن يوجد حجها في الجملة من بعض الناس. كذا ذكره النووي في آخر الباب الخامس من "مناسكه"، ومقتضاه الاكتفاء بواحد، وفيه بعد؛ لاسيما إذا كان مكثًا واكتفينا بالصلاة ونحوها مما أشار إليه الرافعي، والمتجه: اعتبار الحج من عدد يظهر بهم الشعار يقدمون على مكة فإنهم اعتبروا هذا العدد في الجماعة على القول بوجوبها فهاهنا أولى. قوله: ومنها دفع الضرر عن المسلمين وإزالة فاقتهم، كستر العارين وإطعام الجائعين وإعانة المستغيثين في النائبات. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن تخصيصه بالمسلمين باطل، فإن أهل الذمة والمستأمنين يجب أيضًا دفع ضررهم بالستر والإطعام وغيرهم كما يجب للمسلم، وقد صرح الرافعي بالمسألة في باب الأطمعة في الكلام على المضطر. الثاني: أن تعبيره: بستر العارى، ذكر مثله أيضا في "المحرر" ويقرب من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ذلك تعبير "المنهاج" فإنه عبر: بكسوة العارى، والمفهوم من ذلك عرفًا هو ما يحتاج إليه البدن جميعه، وهو كذلك بلا شك، وحينئذ فيختلف الحال بالنسبة إلى الشتاء والصيف والصحة والمرض. إذا علمت ذلك كله فقد عدل في "الروضة" إلى التعبير بقوله: كستر العورة، وهو تعبير لا مطابق ولا صحيح في نفسه كما سبق. الأمر الثالث: أن ما ذكره من وجوب دفع وجوب إعانه المستعين في الباب بعد تقريره وجوب (¬1) دفع الضرر يقتضي وجوب دفع الصائل على الغير، والذي صححاه في كتاب الصيال عدم الوجوب، وقيل: يجب وإن لم يجب عليه الدفع عن نفسه لكن كيف يقال: يقدم الوجوب على جمع قادرين على ذلك؟ ! قوله في "أصل الروضة" [في الكلام] (¬2) على إطعام الجائع: فإذا اشتدت الضرورة فهل يكفي ذلك أم يجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟ حكى الإمام فيه وجهين: انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الكلام يوهم أنهما وجهان لأصحابنا، وليس كذلك بل هو خلاف للأصوليين كذا ذكره الإمام ونقله عنه الرافعى. الأمر الثاني: أن الراجح الاكتفاء بما يسد الضرورة؛ فإن الرافعى قد أعاد المسألة في كتاب الأطعمة وجزم بأنها على القولين فيما إذا وجد الميتة والأصح في الميتة ما ذكرناه، والثاني: أنه يشبع. الأمر الثالث: الواجب في نفقة القريب إنما هو المقدار الذي يتمكن معه من التصرف على العادة لا المشبع ولا دافع الضرورة فقط وهو ما يسد الرمق. هذا حاصل ما في الرافعي وصرح به في "الوجيز" فتفطن له؛ فإن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الرافعي هنا قد أحال أحد القولين عليه. وإذا علمت ذلك علمت أنه يتلخص في الواجب في مسألتنا ثلاث مقالات: أحدها: سد الرمق. والثاني: فوق هذا ودون الشبع وهو ما يجب على القريب وهذا من كلام الأصوليين. والثالث: الشبع. قوله من "زيادته" قال الإمام في كتابه "الغياثي" يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة، والله أعلم. وما نقله عن "الغياثى" وارتضاه سيأتي ما يخالفه في كتاب الأطعمة فإنه قال في "أصل الروضة": وإن لم يكن المالك مضطرًا لزمه إطعام المضطر مسلمًا كان أو ذميًا أو مستأمنًا، وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح. قوله: وأما الحرف والصناعات ففرض كفاية. انتهى هذه عبارته وهذا الكلام يوهم أن الحرف غير الصناعات وقد نص الجوهري في باب الفاء على أنها هي. قوله: وإن كان له مال زكوى لزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة. قال الروياني: هذا إذا لم يكن له ساع يكفيه الأمر. انتهى. والراجح [على ما] (¬1) في "الروضة" أنه لا يسقط عنه التعلم بالساعى؛ إذ قد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. قوله: ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعين عليه معرفة أحكام التجارات، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وكذا ما [يحتاج] (¬1) إليه صاحب كل حرفه يتعين عليه تعليمه، والمراد الأحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة. انتهى كلامه. وهذه العبارة قد ذكرها أيضًا في "الروضة" ولم يرتضيها في "شرح المهذب" فقال: هذه العبارة أطلقها الإمام والغزالي قال: الأصح قول غيرهما أنه يحرم عليه أن يبيع ويشتري إلا بعد التعلم. قال: ومن كان ذا زوجة فيجب عليه تعلم عشرة النساء. قوله: ولا يكفي أن يكون في الإقليم مفت واحد لعسر مراجعته واعتبر الأصحاب قدر مسافة القصر وكأن المراد أن لا يزيد ما بين كل مفتيين على مسافة القصر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد تابعه في "الروضة" على اعتبار هذه المسألة بين المفتين، وفيه نظر؛ بل الظاهر اعتبارها بين المستفتي ولا يكلف المستفتي في ذهابه للمفتي إلى قطع مسافه القصر لطولها شرعًا بل لابد أن يكون ناقصًا عنها، والاعتبار الذي ذكره يقتضي أنه يجوز أن يكون بين المفتين أكثر من مسافة القصر فاضرب له مثلًا في مكان معين يظهر لك بالعمل. الأمر الثاني: أن الغزالي في "الوسيط" قبيل باب القسمة قد جزم بأنه لا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن القاضي، وذكر مثله إمام الحرمين أيضًا وغيرهما ولم يعتبروا ما اعتبروه هنا من مسافة القصر، والوجه استواء المسألتين في المسافة. قوله من "زوائده": قال صاحب "الحاوى": وإنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربع شروط فهو أن يكون مكلفًا وممن يتقلد القضاء لا عبدًا وامرأة وأن لا يكون تلميذًا وأن يقدر على الانقطاع إليه بأن تكون له كفاية. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ويدخل الفاسق في الفرض ولا يسقط به، لأنه لا يقبل قوله، وفي دخول العبد والمرأة وجهان؛ لأنهما أهل للفتوى دون القضاء. انتهى. وما نقله عن الماوردي من حكاية الخلاف في دخول المرأة والعبد غلط بل جزم بأنهما لا يدخلان في الفرض وحكى الوجهين في سقوط الفرض بهما. قوله: وإذا تعطل فرض كفاية أثم كل من علم به وقدر على القيام، وكذا من لم يعلم وكان قريبًا من الموضع يليق به البحث والمراقبة. انتهى. قد سبق قبل هذا بنحو ورقة وصفحة من كلام الرافعي شئ يتعلق بهذا ينبغي معرفته. قوله أيضا من "زياداته": وقد قال إمام الحرمين في كتابه "العتابى": الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم ولو فعله اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو تركه أثم الجميع ففاعله ساع في صيانة الأمة عن المأثم، ولا شك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بهم عن مهمات الدين. انتهى كلامه. واقتصار النووي على النقل عن الإمام خصوصًا مع تعبيره بقوله: والذي أراه كذا وكذا يوهم أن ذلك لا يعرف لغيره، وليس كذلك فقد سبقه والده في المحيط بذلك حكمًا وتعليلًا. كذا نقله ابن الصلاح في "فوائد رحلته" من خط الشيخ أبي محمد، ثم نقله أيضًا في موضع آخر من "الفوائد" المذكورة عن الأستاذ أبي إسحاق، ثم أطلقت على هذا النقل لأقدم من المذكورين فرأيته في أول "شرح التلخيص" للشيخ أبي على السنجي نقلًا عن جماعة فقال: قال أهل التحقيق: إن فرض الكفاية أهم من فرض الأعيان والاشتغال به أفضل من الاشتغال بأداء فرض العين. هذا لفظه. ثم ذكر ما سبق من التعليل، والكتاب المذكور كتاب عظيم جليل المقدار كثير الفوائد.

فصل في السلام

فصل في السلام اعلم أن مسائل الفصل قد غير النووي ترتيبها الواقع في الرافعي فتبعته عليه على خلاف العادة. قوله: ولو قال عليكم السلام قال الإمام: هو تسليم، وقال المتولي: ليس بتسليم. انتهى. والأصح مقاله الإمام. كذا صححها الرافعي والأصحاب في باب صفة الصلاة فإنهم نقلوا عن النص إجزاءه في الصلاة بخلاف الأكبر الله، وفرقوا بأن هذا يسمى تسليمًا، وذاك لا يسمى تكبيرًا، وصححه أيضًا في مسائل السلام النووي في كتبه "كالروضة" و"الأذكار" و"شرح المهذب". قوله من "زوائده": لكن يكره الابتداء به أي: بقوله عليكم السلام. نص على كراهته الغزالي في "الإحياء" ويدل عليه الحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي عن أبي جرى بضم الجيم تصغير جرو، - رضي الله عنه - قال: قلت عليك السلام يا رسول الله. قال: "لا [تقل عليك السلام. فإن عليك السلام تحيه الموتى" (¬1) انتهى كلامه. واعلم] (¬2). إن هذا الحديث الذي ذكره ليس مطابقًا للمسألة؛ فإن الحديث دل على الكراهة مع الكاف التي للمفرد، وكذلك أيضًا الغزالي في "الإحياء" إنما صرح بالكراهة في هذه الحالة وكلامه إنما هو مع ضمير الجمع. قوله: وصيغة الجواب: وعليكم السلام، للواحد، ولو ترك حرف ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5209) والترمذى (2722) والنسائي في "الكبرى" (50150) و"عمل اليوم والليلة" (318) والطبراني في "الكبير" (6387) وابن أبي شيبه (5/ 166) والبيهقي في "الشعب" (8885) و"الكبرى" (20882) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1183). قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬2) سقط من أ.

العطف وقال: عليكم السلام ففي "النهاية" أنه يكفي ذلك ويكون جوابًا، وفي التتمة أنه ليس بجواب. انتهى. والصحيح المنصوص وقول الأكثرين كما قاله في "الروضة" و"شرح المهذب" و"الأذكار": أنه جواب. قوله: ولو تلاقي رجلان فسلم كل واحد منهما على صاحبه وجب على كل واحد منهما جواب الآخر ولا يحصل الجواب بالسلام وأن يرتب السلامان. قاله المتولي. انتهى. وهذا الذي قاله المتولي عند الترتيب قد خالفه فيه الشاشي فقال: يكون جوابًا. قال النووي: وهو حسن وينبغي الجزم به. قوله نقلًا عن التتمة: والسنة أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على المجالس والطائفة القليلة على الكثيرة، ولا يكره ابتداء الماشي والجالس. انتهى. وكلام "التتمة" يوهم الكراهة في ابتداء الكثيرين بالقليلين وليس كذلك فقد استدركه في "الروضة" فقال بعد أن أطلق النقل ولم يسنده إلى "التتمة": وكذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليلين وإن كان خلاف السنة والسنة أن يسلم الصغير على الكبير، ثم هذا الأدب فيما إذا تلاقيا أو تلاقوا في طريق، فأما إذا ورد على قاعد أو قعود فإن الوارد يبدأ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا قليلًا أو كثيرًا. هدْا لفظه. وما ذكره من كونه لا يكره، وإن كان خلاف السنة فمناقض لما قرره من أن ما ثبت أنه سنة فإن تركه مكروهًا. وذكر ذلك في مواضع من "شرح المهذب". قوله من "زياداته": والأصح عدم سقوط الفرض برد الصبي مع وجود البالغ.

ثم قال: وهذا كالخلاف في سقوط الفرض بصلاته على الميت. انتهى كلامه. وهو يوهم أن الصحيح في صلاة الجنازة عدم السقوط أيضًا، وليس كذلك بل الصحيح فيها السقوط فاعلمه. قوله نقلًا عن المتولي: ولو سلم الصبي ففي وجوب الرد وجهان بناء على الخلاف في صحة إسلامه. انتهى. وما ذكره المتولي قد خالفه فيه الشاشي وأوجب الرد وقال: إن البناء فاسد، وصحح النووي في كتبه مقالته. قوله أيضًا نقلًا عنه أي: عن المتولي: إن سلام النساء على النساء كسلام الرجال على الرجال. انتهى. نقل الرافعي في آخر الفصل عن بعضهم احتمالين في استحباب سلام النساء بعضهن على بعض ولم يرجح منهما شيئًا وأسقطهما النووي وجزم بالنقل الأول ولم يسنده "للتتمة". قوله: ولو سلم رجل على امرأة أو عكسه فإن كان بينهما زوجته أو محرمية جاز ووجب الرد وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزًا خارجة عن مظنة الفتنة. انتهى. واعلم أن الجارية بمثابة الزوجة، وكذلك عبد المرأة بالنسبة إلى المرأة فإنه ليس بمحرم بدليل انتقاض الوضوء مع أنه مباح الخلوة بها ونظره إليها، واستدرك في "الروضة" الجارية فقط. ثم قال: إن التعبير بالجواز ناقص والصواب أنه سنة كسلام الرجل على الرجل، ثم إن هذا الكلام لا يقتضي جواز رد الرجل على الشابة وبالعكس فإنه نفي عدم الوجوب فقط وحكمه، كما قال في "الروضة" أنه يحرم عليها الرد عليه ويكره له الرد عليها. واعلم أن ما ذكرناه عن الرافعي هو من جملة [فروع] نقلها عن "التتمة".

قوله: في السلام بالفارسية ثلاثة أوجه. ثالثها: إن كان قادرًا على العربية لم يجز. انتهى. وتعبيره بقوله لم يجز قد عبر به في "الروضة" أيضًا وهو بضم الياء من أجزأ يعنى أنه لا يجزئ في سنة الابتداء ولا في وجوب الرد، وليس مضارعًا لجاز؛ فإن المعنى يفسد؛ لأن المبتدئ لا إثم عليه والمجيب لا يأثم، وأيضًا إنما يأثم بترك الجواب. وقد عبر النووي في كتاب الجمعة من "شرح المهذب" بتعبير صحيح بين المراد وصوب فيه وفي "زيادات الروضة" أنه كالتسليم بالعربية. قوله: وفي استحباب السلام على الفساق ووجوب الرد على المجنون والسكران إذا سلما وجهان. انتهى. أما المجنون والسكران فقد صحح في شرح المهذب أنه لا يجب الرد عليهما ولا يستحب السلام أيضًا، ويتجه أن يقال: إن كان للمجنون تمييز فهو كالصبي المميز، وأما السكران إذا كان له تمييز، فإن لم يعص به فلكغيره وإن عصى فهو من جملة الفساق، وقد ذكر في "الروضة" بعد هذا من زوائده في المبتدع وهو منهم أي الفساق أن المختار أنه يستحب أن لا يبدأهم بالسلام إلا لعذر أو خوف من مفسدة؛ وقياسه أنه لا يجيبهم أيضًا وأما إذا لم يكن للمجنون والسكران تمييز أصلًا فلا يتأتى مجيء الخلاف. قوله في الفروع المنقولة عن المتولي: وإذا سلم عليه ذمي لم يزد في الجواب على قوله: وعليك. انتهى. نقل الرافعي في باب عقد الجزية عن البغوي أنه لا يجيبه أصلًا وأقره عليه أيضًا كما أقر المتولي هنا، والصحيح وهو الثابت في الأحاديث الصحيحة هو ما نقله هنا، وقد جزم به النووي ولم يسنده إلى المتولي، وكذلك أرسل مسائل [أخرى كثيرة أسند] الرافعي جميعها وقد تقدم التنبيه على بعضها والغريب أنه بعد إرسالها نبه

في بعضها من "زوائده" على أن صاحب "التتمة" ذكره وسببه ما ذكرته غير مرة أنه يختصر فيتصرف ثم ينسى فيستدرك أو يزيد متوهمًا أن المذكور في الأصل للرافعي. قوله: فإن سلم على من لم يعرفه فبان ذميًا استرد سلامه بأن يقول استرجعت سلامي؛ تحقيرًا له. انتهى. والتقييد بمن لم يعرفه تبعه عليه في "الروضة". وقياس التعليل بالتحقير أنه الأقرب، وفي تعدي هذا الحكم إلى الأصول نظر. قوله أيضًا في الفروع المذكورة: ما يعتاده الناس من السلام عند القيام، ومفارقة القوم دعاء وليس بتحية فيستحب الجواب ولا يجب. انتهى. وهذا الذي قاله المتولي سبقه إليه القاضي الحسين وقد أنكره الشاشي وقال: إنه فاسد؛ لأن السلام سنة عند الانصراف كما هو سنة عند القدوم، واستدل بالحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة" (¬1). قال النووي في كتاب الجمعة من "شرح المهذب": إن الصواب ما قاله الشاشي. قوله نقلًا عن بعضهم: ومن سلم على من يقضي حاجته هل يستحق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5208) والترمذى (2706) وأحمد (7142) والبخارى في "الأدب المفرد" (1007) وابن حبان (493) وأبو يعلى (6566) والطبرانى في "الصغير" (371) والنسائى في "الكبرى" (10201) والبيهقي في "الشعب" (8846) وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" (4/ 109) والخطيب في "التاريخ" (14/ 60) وتمام في "الفوائد" (782) من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: حسن صحيح.

الجواب بعد الفراغ؟ فيه جوابان. انتهى. ولم يحك في "الروضة" هذا الخلاف بل جزم بعدم الوجوب. قوله: وذكر في القديم أن المصلي إذا سلم عليه يرد بالإشارة وفي لزومه وجه، وفي لزومه بعد الفراغ وجهان. انتهى لفظ الرافعي بحروفه. وتعبيره في حكاية المنقول عن القديم ظاهر في استحباب الإشارة، ويؤيده أن جوازها مشهور مقرر ليس بمستنكر لا في قديم ولا في جديد، وقد عبر في "الروضة" بقوله: ويجوز أن يجيب. . . . إلى آخره، وهو سهو بلا شك في الاختصار وقد ذكر بعد ذلك من "زوائده": أنه مستحب وأنه قد تقدم ذكره، وهو وهم آخر. واعلم أنه ليس المراد من نقله عن القديم كون الجديد على خلافه بل المراد أنه لم ينص عليه إلا في القديم. وهل يعمل بمثل هذا أم لا؟ فيه كلام سوف أذكره إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء. قوله نقلًا عن المتولي: وإن التحية بالطليقة أي: أطال الله تعالى بقاءك وحنى الظهر وتقبيل اليد لا أصل له، لكن لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، ولا يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن، ويكره للداخل أن يطمع في قيام القوم. (¬1) انتهى. وما نقله عن "التتمة" وما دل عليه كلام المتولي من جواز الانحناء مردود ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذى (2728) وابن ماجه (3702) وأحمد (13067) وأبو يعلى (4287) وأبو يعلى (1289) والبيهقى في "الكبرى" (13351) والطحاوى في "شرح المعانى" (6398) وعبد بن حميد (1217) وابن عدى في "الكامل" (2/ 422) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: حسن.

مخالف للحديث الصحيح وللمعروف في المذهب؛ أما الحديث: فروى أنس أن رجلًا قال يا رسول الله: الرجل منا يلقي أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: "لا". قال: أفيلزمه ويقبله؟ قال: "لا". قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: "نعم" رواه الترمذي وقال: حديث حسن وأما كلام أئمة المذهب فقد قال البغوي في كتاب الصلاة من "التهذيب" في كلام مع أحمد في وجوب الذكر، في الركوع والسجود ما نصه: وكذلك لا يجوز أن يحني ظهره لمخلوق فلا يحتاج إلى ذكر لأنه متميز بخلاف القيام [والقعود] في التشهد لأنه يكون عبادة وعادة فاشترط فيه الذكر لتمتاز العبادة عن العادة. وذكر نصر المقدسي في الموضع المذكور من كتابه التهذيب مثله أيضًا ولخصه الرافعي في أوائل سجود السهو فقال نقلًا عن الأصحاب ما نصه: فقالوا الركوع والسجود لا تشترك فيهما العادة والعبادة بل هما محض عبادة فلا حاجة إلى ذكر مميز بخلاف القيام والقعود. انتهى. [وجزم] أيضًا بالتحريم الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل الفزاري كما نقله عنه ابن الصلاح في "فوائد رحلته" وكان المذكور عالما مشهورًا متبحرًا في عدة علوم اشتغل على إمام الحرمين ومات سنة أربعين وخمسمائه وله تسعون سنة بالتاء في أولها كما أوضحته في "الطبقات"، وقد تكلمت على فزارة في أثناء الجنايات، وقد أرسل النووي النقل المذكور ولم يسنده إلى "التتمة"، ثم ذكر أيضًا من زوائده نحوه مع أمور أخرى ينبغي معرفتها فقال أما أطال الله بقاءك: فقد جماعة من السلف على كراهته وأما حنى الظهر فمكروه للحديث الصحيح في النهي عنه، وأما القيام فالذي نختاره أنه يستحب لمن له فضيله ظاهرة من علم أو صلاح أو ولاية أو قرابة مصحوبة بصيانه وتكون على جهة البر والإكرام لا للرياء والإعظام، وأما الداخل

فيحرم عليه أن يحب قيامهم له، ففي الحديث الحسن: "من أحب أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬1). وأما قوله: لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، فلا نوافق عليه. وأما تقبيل اليد فيستحب إن كان لأمر ديني وإلا فمكروه كراهة شديدة، وقال المتولي: لا يجوز. انتهى كلامه. وقال ابن أبي الدم في "أدب القضاء": يستحب للشاهد أن يبجل قدر القاضي في الأداء فيقول أطال الله بقاء سيدنا الحاكم ويزيد من الدعاء له ما يقتضيه حاله وقدره. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5229) والترمذي (2755) وأحمد (16891) والبخاري في "الأدب المفرد" (977) والطبراني في "الكبير" (19/ 320) حديث (724) وفي "الأوسط" (4208) وابن أبي شيبه (5/ 234) والبيهقي في "الشعب" (8160) وعبد بن حميد (413) وابن الجعد (1482) وهناد في "الزهد" (837) وابن طهمان في "مشيخة ابن طهمان" (95) من حديث معاوية - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: صحيح.

الباب الثاني: في كيفية الجهاد وفيه أطراف

الباب الثاني: في كيفية الجهاد وفيه أطراف الأول: اعلم أن الرافعي قد ذكر هاهنا ألفاظًا منها: البيات: وهى الإغارة على العدو ليلًا، وقد تقدم غير مرة؛ قال تعالى: {بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬1). ومنها: يهود بنى قينقاع: هو بضم النون. ومنها: الغناء في القتال: هو بغين معجمة مفتوحة وبهمزة ممدودة هو النفع. ومنها: (¬2) واحد من عرض الناس: بغين مضمومة وراء ساكنة وضاد معجمة أي: واحد من عامتهم، وقد تقدم غير مرة. ومنها العسيف: بمعنى الأجير هو بغين مهملة مفتوحة وسين مهملة مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم فاء. ومنها الأخرق: بخاء معجمة وراء مهملة وبالقاف هو قليل المعرفة، وقد تقدم في استيفاء القصاص. قوله: ويجوز الاستعانة بالكفار بشرط أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم، وشرط الإمام والبغوي وآخرون شرطًا ثالثًا وهو أن يكثر المسلمون بحيث لو جاز المستعان بهم وانضموا إلى الذين نغزوهم لأمكننا مقاومتهم جميعًا، وفي كتب العراقيين وجماعة: أنه يشترط أن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف (4). (¬2) سقط من أ.

يكون في المسلمين قلة وتمس الحاجة إلى الاستعانة. وهذان الشرطان كالمتنافين، لأنهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقة إلى الاستعانة بالأخرى فكيف يقاومونها. انتهى. قال في "الروضة": لا منافاة فالمراد أن يكون المستعان بهم فرقة لا يكثر العدو بهم كثرة ظاهرة وشرط الماوردي أن يخالفوا معتقد العدو كاليهود مع النصارى. قوله: وظاهر ما نقله القفال عن الشافعي يقتضي جواز إحضار الذرية مطلقًا إلا أن من لا يميز يجب أن لا يجوز إحضاره. انتهى. وهذا الكلام قد أسقطه من "الروضة" ويؤخذ منه جواز إخراج من ميز ولم يراهق إذا كان فيه نفع، وفيه إشكال مع ما قالوه في المنع من إركاب ماله في البحر الملح وإن كان الغالب السلامة. قوله الثالثة: في جواز قتل الرهبان والعسفاء وهم الأجراء والحارفون المشغولون بحرفهم ومن لا قتال فيه قولان: أصحهما: نعم. ثم قال: وفي السوقة طريقان؛ قيل على القولين؛ لأنهم لا يمارسون القتال، وقيل: يقتلون قطعا لقدرتهم واستقلالهم. انتهى ملخصًا. صحح النووي في أصل "الروضة" طريقة القطع بالقتل. والعسفاء: جمع عسيف مثل كريم وكرماء، وهو بغين وسين مهملتين كما تقدم قريبًا. والمراد بالحارف المحترف كالخياط ونحوه يقال: فلان يحرف لعياله على وزن يضرب أي يكسب. والسوقة: بضم السين وسكون الواو من ليس يملك يستوي فيه الواحد

والجمع إلا أن الرافعي قد استعمله هاهنا على ما عدا المحترف والأجير. قوله في المسألة: فإن قلنا: يجوز قتلهم، فيجوز استرقاقهم وسبي نسائهم وذراريهم واغتنام أموالهم، وإن قلنا لا يجوز فيرقون بنفس الأسر، وفي قول يتخير الإمام بين رقه والمن عليه والفداء كالأسير إذا أسلم، وفي قول: لا يتعرض لهم بالكلية. ثم قال ما نصه: وفي جواز سبي نسائهم وذراريهم وجوه أيضًا؛ ففي وجه يجوز كإرقاقهم، وفي وجه: لا يتعرض لهم، وفي الثالث: يجوز سبي نسائهم ولا يجوز سبي ذراريهم؛ لأنهم أبعاضهم. انتهى كلامه. ذكر مثله في "شرح الصغير" أيضًا وهو عجيب؛ لأن التعليل الأول مناقض لتعليل الثالث؛ فإن تعبيره في الأول بقوله: كإرقاقهم، يقتضي أن هذه الأوجه على القول بجواز إرقاق الرجال المذكورين، وتعبيره في الثالث بقوله: لأنهم أبعاضهم، يقتضي أنها مفرعة على منع إرقاقهم، وذلك مباينة ظاهرة والفساد جاء من تعليل الأول فإن الأوجه مفرعة على منع إرقاقهم وهو القول الثالث الضعيف المذكور قبل هذا الكلام من غير فصل وهو المعبر عنه بقوله وفي قول: لا يتعرض لهم بالكلية. كذلك صرح به الإمام والغزالي في "البسيط" و"الوسيط"، ولنذكر عبارة البسيط فإنها أبسط فقال: والثالث: يمتنع إرقاقهم كما يمتنع قتلهم. وهذا فاسد فإنه يشير إلى نوع حرمة. ثم قال: التفريع إن قلنا بامتناع الإرقاق ففي نسائهم وذراريهم ثلاثة أوجه. فذكر الأوجه ثم قال: وكل ذلك تفريع على ضعيف. هذا كلام "البسيط"، وكلام "الوجيز" لا ينافي ذلك.

ثم إن الرافعي شرحه بما سبق ولو حذف التعليل الأول وعبر عقب الثالث بقوله: فعلى هذا ففي جواز سبي نسائهم وذراريهم .. إلى آخره لاستقام، وقد اشتبه هذا كلام [المظلم] على النووي فجعلها مسألة مستقلة غير مفرعة على شيء وصحح فيها الجواز من عنده وحذف منها التعليل الأول وهو القياس على إرقاقهم ولا يعلم من كلامه ما هو المفرع عليه إلا أنه معذور. قوله: وهذا الذي ذكرناه من تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أو متحيز هو في حالة القدرة، فأما من عجز لمرض أو لم يبق معه سلاح فله الانصراف. ثم قال: فإن أمكنه الرمي بالحجارة فهل يقوم مقام السلاح؟ ذكر فيه وجهين. انتهى. هذه المسألة قد سبق ذكرها في الباب الأول وضعف الرافعي الوجه الذاهب إلى اللزوم وتبعه عليه في "الروضة" وسبق ذكر لفظه هناك وصحح النووي هنا من "زوائده" أنه يقوم مقامه ذهولًا كما سبق هناك فوقع في الاختلاف. قوله: وإذا لم يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بأن كانوا مثلي المسلمين أو أقل حرمت الهزيمة، وهل يجوز أن يفر مائة من الأبطال من مائتين وواحد من ضعفاء الكفار؟ فيه وجهان: أصحهما على ما ذكر صاحب الكتاب المنع؛ لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا. انتهى كلامه. والأصح ما صححه الغزالي. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة". قوله: ويجري الوجهان في عكسه؛ وهو فرار مائة من ضعفائنا عن مائة وتسعة وتسعين من أبطالهم، فإن اعتبرنا العدد لم يجز، وإن اعتبرنا المعنى جاز. انتهى كلامه.

والتمثيل بهذا العدد مع التكليف فيه بالتنصيص على المائة والآحاد والعشرات مع إمكان التعبير بالمائتين تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو ذهول؛ فإن المائتين في الحكم كذلك لأن الفرار لا يجوز من الضعيف، والغزالي -رحمه الله- قد وقع في هذا الموضع فقال في "الوسيط": وكذا الخلاف في فرار عشرين من ضعفاء المسلمين عن تسعة وثلاثين من أبطال الكفار، وعبر في "البسيط" بقوله: وكذلك لو كان عدد الكفار ناقصًا عن الضعف لكنهم أبطال. هذا لفظه. وكأن الغزالي توهم أن الضعف هنا كالزائد فعبر بما ذكر ثم قلده فيه الرافعي فحصل ما حصل، وقد ذكره الإمام في "النهاية" على الصواب فقال: وهل للمسلمين الفرار إذا قاتلهم أبطال الكفار وغلب على الظن غلبتهم ولم يزيدوا على الضعف فعلى الخلاف المتقدم. هذا كلامه. قوله: وإذا جاز الفرار نظر إن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا استحب الثبات وإن غلب على ظنهم الهلاك ففي وجوب الفرار وجهان. وقال الإمام: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية وجب الفرار، وإن كان فيه نكاية فوجهان. انتهى. قال في "الروضة": الذي قاله الإمام هو الحق. قال: وأصح الوجهين أنه لا يجب بل يستحب. قوله: والنص فيما إذا تحرف للقتال ثم انقطع عن القوم قبل أن يغنموا أنه لا يشاركهم. وهل يشارك المتحيز إلى الفئة القريبة الغانمين في المغنوم بعد ما ولى؟ ذكر صاحب "الكتاب" فيه وجهين أشبههما الاستحقاق؛ لأنه لا تفوت نصرته والاستنجاد به فهو كالسرية تشارك الإسلام فيما يغنمون إذا كانت بالقرب منهم.

وإذا عرفت ذلك ونظرت في قول صاحب "الكتاب" في قسم الفئ والغنائم لمن غاب في آخر القتال إن كان بانهزام سقط حقه إلا إذا قصد التحيز إلى فئة أخرى عرفت أن هذه اللفظة إنما تجري على ظاهرها إذا جعلنا التحيز إلى الفئة القريبة كالتحيز إلى الفئة البعيدة، فإن فرقنا بينهما حملنا اللفظ على الفئة البعيدة وأن حق المتحيز إنما لا يسقط عن المغنوم قبل مفارقته وأما المغنوم بعده فلا حق له فيه وإنما يسقط الانهزام الحق إذا اتفق قبل القسمة، أما إذا اغتنموا شيئًا واقتسموه ثم انهزم بعضهم لم يسترد منه ما أخذ. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره الرافعي على كلام الغزالي غلط فتأمله. قوله: فروع: لقي مسلم مشركين فإن طلباه فله أن يولي عنهما لأنه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما ولم يطلباه فوجهان: أحدهما: أنه لا يولي عنهما لأن طلبهما والحمل [عليهما] (¬1) مشروع في الجهاد فلا يجوز الإعراض عنه. وأظهرهما على ما ذكر في البحر أنه يجوز. انتهى. صحح النووي في "أصل الروضة" ما صححه صاحب "البحر". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثاني

قال: الطرف الثاني في سبي الكفار واسترقاقهم اعلم أن الرافعي قد ذكر في الفصل ألفاظًا منها الخول: بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو أيضًا تقدم إيضاحه في نفقة الأرقاء. منها: القتل صبرا: هذا أحد أنواع القتل، وهي أربعة، سبق إيضاحها في الجنايات قبيل الكلام على القصاص في الأطراف. ومنها: أنه -عليه الصلاة والسلام- من على ثمامة بن أثال الحنفي، وكذلك علي أبي عزة الجهني على أن لا يقاتله؛ أما الأول فقد تقدم الكلام عليه واضحًا قبيل باب سجود السهو، وأما عزة: فإنه بغين مهملة مفتوحة بعدها زاي معجمة مشددة. ومنها: ثعلبة وأسيد ابنا سعية القرظي أما أسيد: فإنه بهمزة مفتوحة وسين مكسورة، وقيل: بضم الهمزة وفتح السين، وقيل: بفتح الهمزة والسين من غير ياء. وأما سعيه: فإنه بسين مفتوحة وعين ساكنة مهملتين بعدهما ياء مثناة من تحت. قوله: وهل يسترق بعض الشخص؟ فيه وجهان: أقيسهما عند الإمام وغيره الجواز، وهما مبنيان على القولين في أن أحد الشريكين إذا أولد الجارية المشتركة هل يكون الولد كله حرًا أو يكون بقدر نصيب الشريك رقيقًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به من حكاية الخلاف في الشريك قولين قد جزم به الرافعي في الجنايات في الكلام على دية الجنين وخالفه في

آخر كتاب الكتابة فجزم بأنه وجهان وسوف أذكر لفظه إن شاء الله تعالى في موضعه. الأمر الثاني: أن ظاهر كلامه في استيلاد الجارية المشتركة أن الراجح فيها تبعيض الحرية أيضًا [في الولد. وقد جزم به في باب: ما يحرم من النكاح. وصرح أعني الرافعي بتصحيحه في] (¬1) الكلام على دية الجنين وهو مقتضى كلامه أيضًا في آخر باب الكتابة، ولهذا أطلق في "الروضة" تصحيحه هناك وخالف في آخر هذا الباب أي: باب السير في الكلام على ملك الغانمين فذكر ما حاصله أنه لا يتبعض بل يكون الجميع حرًا وصرح بتصحيحه في أصل "الروضة" هناك. قوله: إحداها: إذا أسلم الكافر قبل الأسر فهل يجوز استرقاق زوجته؟ فيه وجهان: الظاهر الجواز. ثم قال: ويجري الخلاف فيما إذا نكح المسلم حرة في دار الحرب هل يجوز استرقاقها. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا ومقتضاه تصحيح الجواز في الثانية أيضًا لكنه صحح في "المحرر" المنع فقال: والأظهر أنه لا يجوز استرقاق معتق المسلم ولا زوجته الحربية. هذا لفظه. مع أنه صحح جواز الاسترقاق في الكافر إذا أسلم وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. قوله: وهل يجوز سبي عتيق الذمي؟ فيه وجهان؛ قال الروياني: ظاهر المذهب أنه يجوز. انتهى والراجح الجواز. كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: قال في "التهذيب" ولو أعتق الذمي عبدًا ثم نقض السيد العهد والتحق بدار الحرب فاسترق فالمذهب أن ولاءه على عتيقه لا يبطل حتى لو عتق كان ولاؤه عليه باقيًا. انتهى كلامه. والصحيح ما ذكره البغوي. كذا صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: نعم لو سبي صاحب الدين من عليه الدين فسقوطه على الوجهين فيما إذا كان له دين على غيره فملكه. انتهى. اعلم أنه إذا دخل واحد أو شرذمة دار الحرب وأخذوا شيئًا اختلاسًا أو سرقة فالصحيح على ما سيأتي قريبًا أنه يكون غنيمة مخمسة وعلى هذا فلا يملك السابي من هذا العبد إلا أربعة أخماسه؛ وحينئذ فلا يسقط الدين، وإنما يجري الخلاف إذا فرعنا على الوجه الآخر وهو القائل بأنه لا يخمس بل يكون الجميع للأخذ فتفطن له. والترجيح في سقوط الدين عند ملك المديون مختلف تقدم إيضاحه في الباب الثالث من أبواب الرهن.

الثالث

قال: الطرف الثالث: في إتلاف أموالهم قوله إن ابن شعوب قتل حنظلة بن الراهب - رضي الله عنه - يوم أحد. اعلم أن شعوب: بفتح الشين المعجمة وضم العين المهملة وبالباء الموحدة. قال الواقدي: هو الأسود بن شعوب الليثي. وقال ابن سعد: هو شداد بن أوس بن شعوب. وقال غيرهما: هو شداد بن الأسود المعروف بابن شعوب، ذكره النووي في "تهذيب الأسماء". والراهب بالراء المهملة. قوله: وما يحرم الانتفاع به ككتب الشرك تغسل إن أمكن وإلا فتمزق. قال الإمام: وقد يخطر للفطن أن كتب الشرك ينتفع بها على معنى أن الحاجة تمس إلى الاطلاع على مذاهب المعطلين ليتوجه الرد عليها، فإن كانت تلك المقالات مشهورة فالرأي أبطالها، وإن كان فيها ما لم يتقدم الاطلاع عليه ففي جواز استصحابه تردد واحتمال بين. انتهى. وهذا التردد الذي نقله الرافعي عن الإمام قد ذكره أيضًا في "الوجيز" وأسقطه النووي من "الروضة". قوله: الثانية: إذا دخلنا دارهم قتلنا الخنازير. انتهى. لم يبين هل قتلها واجب أم لا؟ ، وحكمه كما قاله في البيع من "شرح المهذب" أنه إن كان يعدو على الناس وجب وإلا فوجهان؛ ظاهر نص الشافعي أنه لا يجب بل يتخير فيه. قال: وأما اقتناؤه فلا يجوز بحال.

قوله: وإن وقع كلب ينتفع به للاصطياد أو للماشية أو للزرع فحكى الإمام عن العراقيين أن الإمام له أن يسلمه إلى واحد من المسلمين ممن يحتاج إليه ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به فليكن حق اليد فيه لجميعهم كما لو مات وله ورثه والموجود في كتب العراقيين أنه إن أراده بعض الغانمين أو بعض أهل الخمس ولم ينازع سلم إليه فإن نوزع فيه فإن أمكنت القسمة عددًا قسمت وإلا أقرع بينهم، وهذا هو الظاهر، وقد سبق في الوصية أنه تعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة وتعتبر منافعها فيمكن أن يقال به هاهنا. انتهى. فيه أمران. تابعه عليهما في "الروضة". أحدهما: أن نقله عن الإمام إعطاؤه لواحد من المسلمين غلط، بل غير واحد من الغانمين كذا ذكره في آخر كتاب السير وهو قبيل الجزية بقليل وكلام العراقيين يوافقه كما سيأتي، وهو الصواب. الثاني: أن إنكار الرافعي ما نقله الإمام عن العراقيين غريب جدًا فإنه موجود في كتبهم مشهور؛ فقد جزم به البندنيجي في "تعليقه" في كتاب السير في باب جامع الغنائم فقال ما نصه: وإن كانت كلابًا لم تقسم في الغنيمة ولكن إن كان في الغانمين من يحل له اقتناؤها لماشية أو صيد أو حرب سلمت إليه، لم يكن أعطيت لمن يحل له من أهل الخمس، فإن تعذر خلاها أو قتلها. انتهى. وذكر الشيخ في "المهذب" نحوه فقال: دفع إلى من ينتفع بها من الغانمين أو من أهل الخمس. هذا كلامه. وعبر الشاشي في "المعتمد" بمثل هذه العبارة، وكذلك سليم الرازي في "المجرد"، وابن الصباغ في "الشامل" في السير أيضًا فإنه قال: إنها لا تكون

الرابع

غنيمة. . . . ثم ذكر ما نقلناه عن البندنيجي. نعم ذكر بعد ذلك أن أصحابنا لم يذكروا الحكم عند تنازع الغانمين وينبغي أن يقسم عددًا إن أمكن ذلك وإلا فيقرع. انتهى. فكأنه أراد بكونهم لم يذكروه أنهم لم يصرحوا به وإلا فكلامهم شامل له بل تعبيره في أول كلامه بقوله أنه لا يكون غنيمة كالصريح فيه، ولا شك أن الرافعي لم يقف هاهنا إلا على كلام "الشامل" فقلده فيما أوهمته عبارته، ونقل في "الكفاية" عن "الحاوى" للماوردي ما يوافق ما نقلناه عن بقية العراقيين. قال: ونص عليه الشافعي. فثبت أن المذهب المعروف المنصوص عليه للشافعي خلاف ما رجحه الرافعي وتبعه عليه في "الروضة" تقليدًا له، والفرق بين هذا وبين الميراث كما قاله ابن الرفعة أن سبب الإرث أقوى لأنه يجلب الملك مع عدم الرضا به؛ فجاز أن ينقل الاختصاصات بخلاف سبب ملك الغانمين. نعم ما نقله الرافعي عن العراقيين من القسمة قد ذكره منهم أبو نصر البندنيجي في المعتمد وابن عصرون في "الانتصار"، وقال ابن الرفعة: إن الموجود في كتب العراقيين أن الإمام يعطيه لمن شاء كما نقله عنهم الإمام. قال: ولم أجد ما نقله الرافعي عن العراقيين موجودًا فيما وقفت عليه من كتبهم إلا احتمالًا لابن الصباغ، وما ذكره في "الكفاية" مردودًا بما سبق قريبًا. قال: الطرف الرابع: في الاغتنام ذكر الرافعي في الفصل ألفاظًا منها: القرطي بقاف مضمومة ثم راء

ساكنة ثم طاء مهملة مفتوحة وقد تضم، وهو اسم للبقاء وهو الثوب المعروف الملبوس للأجياد، وهو فارس معرب كما قاله ابن الأثير. ومنها: التوقيح: بالقاف والحاء المهملة يقال: وقح حافر دابته -بالتشديد- إذا صلبه وقواه بالشحم المذاب، نقول: حافر وقاح -بالتخفيف- أي: صلب، والجمع وقح؛ مثال: فداك وفدك، وقح بالضم يوقح على وزن يخرج وقاحة بالفتح وقوحه ووقحًا بالضم، وقحة بالكسر وقحة أيضًا أي بالفتح. ومنها: الرغبة: بالغين المعجمة. والزهدة: بالزاي المعجمة. و[التناهد: ] (¬1) بالتاء بنقطتين من فوق وبالنون تقدم إيضاحها في مواضع منها الشركة وأواخر تعليق الطلاق. ومنها: أن عمر قال بعد فتحه لسواد العراق: لولا أني أخشى أن يبقى آخر الناس بببان لا شئ لهم لتركتكم وما قسم لكم. قيل: إن معناه شيئًا واحدًا، وقيل: متساوين في الفقر. انتهى. وبببان: بثلاث باءات موحدات الثانية منهن ساكنة وفي آخره نون؛ كذا ضبطه الجوهري وذكر فيه قول عمر وقال: إنه يريد التسوية في القسم. ومنها أن غربي دجلة البصرة موضع يقال له: نهر الصراة، هو بصاد وراء مهملتان، كأنه مأخوذ من الصرا بفتح الصاد وكسرها وبالألف المقصورة في آخره وهو الماء إذا طال مكثه وتغير. ومنها: [عثمان] (¬2) بن حنيف قاسم أرض السواد، هو -أعني حنيف- ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) في الأصول: عمرو، والمثبت من كتب التراجم.

بضم الحاء تصغير "حنيف" بمعنى المائل. قوله في الروضة: إذا دخل واحد أو شرذمة دار الحرب مستخفون وأخدوا مالًا على صورة السرقة فوجهان: أحدهما -وبه قطع الغزالي وادعى الإمام أنه المذهب المعروف-: أنه ملك من أخذه. والأصح الموافق من كلام الجمهور أنه غنيمة مخمسة. ولو أخذه على جهة السوم ثم جحده أو هرب فهو قريب من السرقة. ثم قال: والمأخوذ على صورة الاختلاس كالمأخوذ على جهة السرقة. وقال صاحب "الحاوي" هو غنيمة وعن أبي إسحاق أنه فيء. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ادعاه من قطع الغزالي به ليس كذلك؛ فقد حكى الخلاف في "البسيط" فقال: وفيه وجه أنه يخمس. هذا لفظه. نعم لم يحك هذا الخلاف في الوسيط ولا في "الوجيز" لأنهما مختصران بالنسبة إلى "البسيط". وقد عبر الرافعي هنا بعبارة صحيحة فقال: وهو الذي أورده في "الكتاب" -يعني "الوجيز"- فعدل في "الروضة" إلى ما ذكره فوقع في الغلط. الأمر الثاني: أن ما ذكره في "الروضة" هنا من تخميس المأخوذ على جهة الاختلاس والسرقة ونحوهما قد ذكر في أواخر زكاة المعدن ما يخالفه، وقد سبق "التنبيه" عليه وأنه مخالف لكلام الرافعي فراجعه. نعم ذكر الرافعي قبيل هذا في الكلام على السبي مسألة تخالف المذكور هنا وقد تقدم "التنبيه" عليها.

الأمر الثالث: أن تعبير النووي بقوله وقال صاحب "الحاوى": إنه غنيمة، بعد تصريحه بأنه كالسرقة يوهم أن المسروق لا يكون غنيمة أو أن الماوردي قائل بالخلاف في المسروق ومانع لإلحاق المختلس به قاطع بأنه غنيمة، وليس الأمران كذلك بل ذكر الرافعي هذه المسألة، وكلام الحاوي فيها لأجل إبراز المنقول وكثرة الصور التي ترد على ما ادعاه الإمام من أنه المشهور فافهمه. قوله نقلًا عن الإمام إذ لا يجوز التغرير بالمهج في اكتساب الأموال. انتهى. وهذه المسألة قد أسقطها النووي من "الروضة" وهي مسألة مهمة، لكن قد ذكر الأصحاب في كتاب الحجر أن الولي ليس له أن يسافر بالمال في البحر -يعني الملح- وعللوه بأنه تغرير وذكروا في عامل القراض نحوه فقالوا: ليس له السفر فيه عند إطلاق الإذن وذلك ظاهر أو صريح في جواز ركوبه مع التغرير. قوله: ويجوز للغانمين قبل القسمة إذا كانوا في دار الحرب أن يتناولوا القوت وإدامه من لحم وفاكهة وكل طعام يعتاد أكله على العموم. ثم قال: ولو لحق الجند مدد بعد انقضاء القتال، فإن كان بعد حيازة المال فهل لهم التبسط في أطعمتها؟ فيه وجهان: أصحهما المنع لأنه معهم كغير الضيف مع الضيف، وإن كان قبله فكذلك أيضًا على الأصح. انتهى. وقد ذكر في "المحرر" ما يقتضي الجواز في المسألة الثانية فإنه قال: والأصح أنه يجوز لمن لحق بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة التبسط. هذا لفظه.

وذكر في "الشرح الصغير" نحوه أيضًا؛ فتقييده المنع بما إذا لحق بعد الحيازة دليل على الجواز قبلها، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"المنهاج". قوله: ومنها لو باع الغانم ما أخذه لغانم آخر فهذا إبدال مباح وهو كإبدال الضيفان لقمة بلقمة وكل منهما أولى بما يتناوله من يد الآخر. ولو تبايعا صاعًا بصاعين لم يكن ربا قال الإمام: من جعل الفرض اعتبارًا يلزمه أن يجعل للبيع اعتبارًا حتى يجب على الآخذ تسليم الصاع إلى بائعه وإن تبايعا صاعًا بصاعين، فإن سلم بائع الصاع الصاع لم يملك إلا طلب صاع تشبها بالفرض وإن سلم الآخر الصاعين لم يطلب إلا صاعًا ويحمل الزائد على البدل والإيثار. انتهى كلامه. وقد حذف النووي مقاله الإمام جميعها وحكمهم بالإباحة في هذا الفعل كيف يستقيم مع فساده إذ لا يتصور فيه انتقال الملك كما صرحوا به، وقد جزموا في أول الربا وغيره بأن تعاطي العقود الفاسدة حرام، وصرح به صاحب "التنبيه" في النكاح حيث قال: ويحرم عليه نكاح جاريته، ورأيت حاشية بخط ابن الرفعة ذكر فيها أنه سمع من شيخنا قاضي القضاة جمال الدين الوجيزي أن في تحريمها خلافًا. قوله: وفي صحة إعراض ذوي القربى عن سهمهم وجهان: أحدهما: يصح كما يصح إعراض الغانمين، وأظهرهما -على ما ذكره الإمام- المنع. انتهى كلامه. والصحيح ما رجحه الإمام؛ فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وكذلك النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو أعرض محجور عليه بسفه قال الإمام: ففي صحة إعراضه تردد ولعل الظاهر المنع. انتهى.

كيف يستقيم رجحان المنع مع جزمه في المفلس بالجواز وأن اعتراضه يمحض جهاده للثواب وهو نظيره، وقد تقدم في القصاص أن حكم السفيه حكم المفلس في جواز العفو على غير مال ومسألتنا أولى لأن سهم الغنيمة وقع تبعًا لما تعين عليه أو ينزع بابتدائه؛ فإذن الراجح الجواز على خلاف ما نقله عن الإمام وأقره. قوله: فإذا أبرز الإمام الخمس وأبرز نصيب كل واحد من الغانمين أو أفرز لكل طائفة شيئا معلومًا فلا يملكونه قبل اختيار التملك في الأصح. قاله البغوي. انتهى. ذكر أيضًا قبل ذلك أنه ينبغي أن يكون الحكم كما قاله البغوي وتابعه على ذلك في "الروضة" ولكن نص الشافعي وجماعة على أنهم يملكون أيضًا بإقرار الإمام مع قبضه لهم، وكذا بدون القبض مع حضورهم، ونقله عنهم في كتاب الزكاة من "الكفاية". قوله: وإذا استولد بعض الغانمين جارية من المغنم وهو موسر ففي ثبوت الاستيلاء في نصيبه قولان أو وجهان يحكي المنع عن ابن أبي هريرة وهو الذي يوجد في كتب العراقيين وكثير من الأصحاب. وإذا قيل به فلو ملك الجارية بالوقوع في سهمه أو ملكها بسبب آخر يومًا ففي نفوذ الاستيلاد حينئذ قولان مطردان في نظائره، والظاهر المنصوص أنه ينفذ وهو الذي رجحه الإمام ولم يورد في "التهذيب" غيره. وعن "الحاوي": أنهم إن كانوا محصورين ولم يغنموا غير تلك الجارية فيقطع بنفوذ الاستيلاد في حصته منها بخلاف ما إذا كان في الغنيمة غيرها فإنه يحتمل أن يجعل الإمام الجارية لغيره. انتهى كلامه. وقد ذكر الرافعي هنا مسألتين: إحداهما: أنه هل ينفذ الاستيلاد في

الحال أم لا؟ والثانية: إذا لم ينفذه فملك الجارية بعد ذلك فهل ينفذ أيضًا أم لا؟ فأما الثانية: فحكى فيها قولين فقط من غير تصحيح هنا والصحيح في نظائرها عدم النفوذ كما هو المعروف في كتاب أمهات الأولاد. وأما الأولى فحكى فيها ثلاثة أوجه وصحح النفوذ ونقله عن النص بقوله: والظاهر المنصوص أنه ينفذ راجع إلى أصل المسألة، والحاصل أنه لما حكى أحد الأوجه في أصل المسألة وهو أنه لا ينفذ في الحال فرع عليه مسألة أخرى فحكى فيها قولين ثم عاد إلى حكاية باقى الأوجه، وإنما قلنا ذلك لأن النقول التي صرح بها إنما هى في المسألة الأولى، أما نقله عن النص فمشهور عند الأصحاب ذلك، وقد صرح هو به أعنى الرافعي بعد هذا بنحو ورقتين فقال عند فراغه من هذه المسألة ما نصه: وأما مسألة عتق القريب: فإذا وقع في الأسر من يعتق على بعض الغانمين ورق إما بنفس الأسر أو بإرقاق الإمام فالنص أنه لا يعتق قبل القسمة واختيار التمليك والنص فيما إذا استولد بعض الغانمين جارية من المغنم أنه يثبت الاستيلاد على ما مر. هذا لفظ الرافعي بحروفه وهو تصريح بعود النص إلى الأولى وأما باقي النقول المذكورة عن الإمام وغيره فكذلك أيضًا. إذا علمت ذلك فقد توهم النووي أن المنصوص وما بعده عائد إلى المسألة الثانية فصرح به الروضة فقال: فإن كان موسرًا ففي نفوذه في نصيبه طريقان: المذهب أنه لا ينفذ وبه قطع العراقيون وكثير من غيرهم؛ فعلى هذا إن ملك الجارية بالوقوع في سهمه أو بسبب آخر في وقت ففي نفوذ الاستيلاد قولان يطردان في نظائره الأظهر النفوذ، وبه قطع البغوي وصاحب

"الحاوى" .. إلى آخره. هذا لفظه. فحصل الغلط بسبب ذلك من وجوه كثيرة منها أن الصحيح في المسألتين معًا عكس ما قاله، ومنها نسبة ذلك إلى المذكورين. قوله في المسألة: ومتى حكمنا بالاستيلاد في الحال أو بعد وقوعه في حصته لزمه القيمة، وإن لم نحكم بالاستيلاد فما حكمها [قبل] الوضع إذا جعلنا القسمة تبعا؟ قيل تسلم إليه بحصته وإن احتملها. وقيل: تقوم عليه ويؤخذ منه قيمتها وتجعل في المغنم، لأنه بالإحبال حال بين الغانمين وبينها تبعًا وقسمة، وقيل: تقسم للضرورة, وللإمام احتمال آخر أنا نتوقف إلى أن تلد ثم يلقيها في القسمة. قال الأكثرون: وهذا الخلاف ينبني على أنا إذا لم ننفذ الاستيلاد في الحال هل ننفذه بعد ذلك فإن أثبتناه أوجبنا القيمة وإلا قسمت. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله في أول المسألة: وإن لم نحكم بالاستيلاد قسم لقوله قبله: ومتى حكمنا بالاستيلاد في الحال أو بعد؛ وحينئذ فيكون مقتضى كونه قسيمًا له أن يكون [المراد] (¬1) نفي الاستيلاد في الحال وفي باقي الحال، وليس كذلك بل الصواب أن يقيد كلامه فيقول: وإن لم نحكم بالاستيلاد في الحال فإن الخلاف مبني عليه كما صرح به في "المهذب" و"الشامل" و"البيان"، وقد أشار إليه أيضًا الرافعي في آخر كلامه بالبناء المنقول عن الأكثرين، وقد ضعف النووي البناء المذكور وأبقى الأول على عدم تقييده فورد عليه ما ذكرناه. الأمر الثاني: أن البناء الذي ذكره الرافعي يؤخذ منه أن الصحيح إدخالها في القسمة لأن الصحيح عدم ثبوت الاستيلاد بعد ذلك كما سبق إيضاحه ¬

_ (¬1) في ب: الخلاف.

على ما صححه النووي في أصل "الروضة" قبل ذلك فاعترضنا عليه فيه من ثبوته بعد ذلك تلزمه قيمتها، وقد حذف النووي هذا البناء وأبقى خلافًا من غير ترجيح بالكلية. الأمر الثالث: أنه حذف أيضًا الاحتمال الذي نقله الرافعي فورد على "الروضة" ثلاث اعتراضات. قوله أيضًا في المسألة: والولد حر نسيب لأنه مالك لحصته منها في الحال فأشبه غيره من الشركاء. وهل تجب عليه قيمته؟ فيه خلاف مبني عندنا على أن الجارية هل تقوم عليه؟ إن قلنا: نعم، لم تلزمه لأنها في ملكه حين وضعت. وإن قلنا: لا، لزمته لأنه منع من رقها بوطئه وشبهه مشهور بالخلاف في وجوب قيمة الولد إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة وهو موسر. ثم منهم من بنى الخلاف فيهما على أن الملك يحصل للمستولد قبل العلوق أو ينتقل معه أو بعده؟ ، وقد سبق ذلك في استيلاد الأب. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله مبني عندنا لا معنى له هنا، وعبارة الشرح الصغير: مبني عند بعضهم فكأنه تحرف على النساخ أو سقط فكلموه بالاجتهاد. الأمر الثاني: أن قوله: وإن قلنا: نعم، لم تلزمه قيمته لأنها في ملكه حين وضعت، إنما يتمشى له إذا فرض التقويم قبل الوضع، وأما إذا تأخر التقويم فالحكم كما إذا قلنا لا تقوم عليه، وقد صرح به صاحب "البيان". الأمر الثالث: أن حاصل كلامه أنهم اختلفوا في وجوب قيمة الولد

فمنهم من بناه على [الخلاف في أن الأم تقوم عليه أم لا؟ ومنهم من بناه على (¬1) أنه مبني ينتقل ملكها إليه وهو كلام عجيب متهافت، لأن الأول محله ما إذا فرعنا على أنه لا ينفذ الاستيلاد في الحال لا في كلها ولا في بعضها وهو خلاف النص. والثاني محله ما إذا قلنا: يحصل في حصته وسرى في الحال، وكأن الرافعي قد ارتسم في ذهنه ما نقله أولًا عن العراقيين وهم إنما قالوا ذلك بناء على أنه لا يحصل الاستيلاد عندهم في شئ فيها كما صرح هو به قبل ذلك، والخلاف في التقويم مبني على الخلاف في أنه لو ملكها يومًا من الدهر هل تصير أم ولد؟ إن قلنا: نعم، فتقوم عليه وإلا فلا. قوله: فرع لابن الحداد: إذا دخل مسلم دار الحرب منفردًا وأسر أباه أو ابنه البالغ لم يعتق منه شئ في الحال لأنه لا يصير رقيقًا بنفس الأسر وإن اختار الإمام قتله أم المن عليه أو الفداء فذاك، وإن اختار تملكه نظر إن لم يختر الأسير التملك ولا يعتق أيضًا في ظاهر المذهب. وإن اختار تملكه صار له أربعة أخماسه فيعتق عليه ويقوم عليه الباقي إن كان موسرًا وهو الخمس المستحق لأهله. ولو أسر أمه أو بنته البالغة رقت بنفس الأسر فلا حاجة إلى اختيار الإمام، وإذا اختار التملك كان الحكم على ما بينا، وألحق ابن الحداد أسر الابن الصغير بأسر الأم والبنت، وهو هفوة عند الأصحاب لأن الأب المسلم يتبعه ولده الصغير في الإسلام [فلم] يتصور منه سبي ولده. انتهى كلامه. وما ذكروه من كون الذي قاله ابن الحداد هفوة عجيب؛ بل يتصور سبي ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ولده في صور ضابطها أن يكون الابن فيها رقيقًا لكافر كما إذا تزوج حربي بأمة لحربي فأتت بولد أو قهر حربي ابنًا لحربي أو اشتراه منه ثم أسلم الأب في الأحوال كلها، فإن الابن يصير مسلمًا مع كونه ملكًا لحربى، وإذا سباه شخص ملك أربعة أخماسة، وهذه هي مسألة ابن الحداد بعينها وقد صرح به الرافعي قبل هذا بكراس وأوراق في أول الطرف الثاني المعقود للاسترقاق ناقلًا له عن ابن الحداد أيضًا فقال: واحتج له الشيخ أبو علي بأن عبد الحربي لو أسلم في دار الحرب ولم يخرج ولا قهر سيده لا يزول ملك الحربي عنه، وإذا سباه المسلم كان عبدًا مسلمًا، لا يجوز المن عليه ويجوز استرقاقه ولولا أنه مال لجاز تخلية سبيله كالحر ولما جاز استرقاقه لأنه مال مسلم. هذا ما ذكره ابن الحداد. انتهى لفظ الرافعي بحروفه فانجلى بذلك واتضح ما قاله ابن الحداد فلله الحمد على تيسر ما خفي على مثل هؤلاء الفحول واشتبه خصوصًا [في] (¬1) أمثال هذه المسالك القليلة الطرق. قوله: وقد أطلق البغوي أن البصره لا تدخل في حكم السواد وفي الإطلاق تساهل، والثابت ما في "المهذب" وغيره من إخراج البصرة عن هذا الحد إلا موضعًا من شرقي دجلتها يسمى الفرات ومن غربيه يسمى نهر الصراة. انتهى. وعبر في "الروضة" عن قول الرافعي: الأثبت، بقوله: والصحيح؛ فاقتضى ثبوت خلاف وليس كذلك فاعلمه. ¬

_ (¬1) في ب: على.

الباب الثالث: في ترك القتل والقتال بالأمان

الباب الثالث: في ترك القتل والقتال بالأمان قوله: عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (¬1). انتهى. بقول: خفرت الرجل بالخاء المعجمة أخفره بالكسر خفرًا، فإنه خفير أى: أجرته من عدو له، فأنا مجير له، وتقول: أخفرته، بالهمز إذا نقضت عهده وغدرت به، على أنه يصح أن يقال: أخفرته، بالهمز [أيضًا] إذا بعث معه خفيرًا، والواقع في الحديث مشهور على إرادة المعنى الأول. ثم ذكر في الباب ألفاظًا منها: الهرمزان المحمول إلى عمر: هو بضم الهاء والميم وبالزاي المعجمة، اسم لبعض أكابر الفرس وهو دهقانهم الأصغر، أسره أبو موسى وبعث به إلى عمر فأسلم ومنها: فصل الرقاشى: هو بالراء المهملة. ومنها السعادة: أي: تبليغ الخبر، هو بكسر السين كما تقدم في البيع وغيره. ومنها: العضباء: ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هي بالغين المهملة والضاد المعجمة والباء الموحدة. نقول: هذه ناقة عضباء أي: مشقوقة الأذن، وكذلك الشاة. قال الجوهري. ولم تكن ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشقوقة وإنما كان ذلك لقبًا لها. ومنها: الفرس العائر أي: الهارب، هو بعين مهملة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1771) ومسلم (1370) من حديث علي - رضي الله عنه -.

ومنها: قيس بن الشماس، أبوه المذكور بشين معجمة وبالمهملة في آخره. ومنها: الزبير بن باطا: أما الزبير فهو بفتح الزاي المعجمة وكسر الباء بلا خلاف. وأما باطا: فهو بباء موحدة بلا مد ولا همز ويقال: باطيا. قوله: ويجوز للآحاد أمان عدد محصور ولا يجوز لهم أمان من لا ينحصر كأهل إقليم وناحية وبلد، وفي البيان أنه يجوز أن يؤمن واحد أهل قلعة, ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها، وعن الماسرجسي: أنه لا يجوز أن الواحد يؤمن أهل قرية وإن قل عدد من فيها، والأشبه الأول. انتهى. وحاصل ذلك ثلاثة أوجه: الأول: وهو أشبهها أن العبرة بالحصر وعدمه فيجوز أمان المحصور وإن كانوا هم أهل جميع القرية، ولا يجوز أمان غيرهم كأهل الناحية والبلد. والثاني: وهو الذي في "البيان" يجوز أمان أهل القرية وما في معناها كالقلعة وإن كانوا غير محصورين لقلتهم غالبًا. والثالث: يمتنع في القرية ونحوها وإن كانوا محصورين لكونهم جميع من فيها وهو كالعكس من الثاني، وهذا التقرير الذي ذكرته للأوجه قد صرح به في "الشرح الصغير" وإن كان ظاهرا فقال: ولا يجوز لآحاد المسلمين إلا أمان واحد من الكفار أو جماعة محصورين كعشرة وعشرين. وقيل: يجوز أن يؤمن أهل قلعة وفي معناها القرية الصغيرة. وقيل: لا يجوز أن يؤمن الواحد أهل قرية وإن قل عددهم، والأشبه الأول. هذه عبارته فجعلها ثلاثة أوجه وإن أشبهها السابق فتفطن

لذلك كله، وكلام ابن الرفعة هنا في "الكفاية" غير محرر. قوله: قال يعني الإمام: ولو أمن مائة ألف من المسلمين مائة ألف من الكفار فكل واحدًا إذا ظهر انحسام باب الجهاد أو نقصانه فأمان الجميع مردود، ولك أن تقول: إن أمنوهم معًا فرد الجميع ظاهر، وإن أمنوهم متعاقبين فينبغي أن يصح أمان الأول فالأول إلى ظهور الخلل على أن الروياني ذكر أنه لو أمن كل واحد واحدًا جاز، وإن كثروا حتى زادوا على عدد أهل البلدة. انتهى. قال في "الروضة": المختار أنه يصح أمان المتعاقبين إلى أن يظهر الخلل. قال: وهو مراد الإمام. قوله: فالصريح كقوله أجرتك أو أنت مجار أو أمنتك أو أنت آمن أو في أمان. قال في "البحر": وكذا لو قال: لا بأس عليك، وفي إيراد بعضهم ما يقتضي كونه كناية، ومن الصرائح: لا خوف عليك، وكذا لا تخف أو لا تفزع عند الرويانى، وعن الماوردي أنهما كنايتان. انتهى ملخصًا. والصحيح أن هذه الألفاظ جميعها صرائح؛ فقد جزم به في "الشرح الصغير" وجزم في "الروضة" بأن لا بأس صريح وصحح ذلك في لا تخف ولا تفزع مدخلًا له في كلام الرافعي فتوجهت عليه اعتراضات ثلاث ذكر التصحيح في الأولى وفي الثانية وحذف الخلاف من الأولى ولم يتعرض لهذه الألفاظ في "المحرر". قوله: وللأمان شرطان: أحدهما: أن لا يزيد على سنة ويجوز إلى أربعة أشهر وفيما بينهما قولان: أصحهما المنع وحكمه حكم المهادنة حيث لا ضعف. انتهى كلامه.

وما ذكره من أنه لا تجوز الزيادة على سنة وأن فيما بينها وبين أربعة أشهر قولين حتى يجئ القولان في السنة هي طريقة لبعض الأصحاب، والصحيح أن حكم السنة حكم ما فوقها حتى لا يجري فيه القولان، وكذا ذكره الرافعي في باب عقد الهدنة، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه، وهذا الاختلاف وقع للغزالي في البابين فتابعه عليه الرافعي، وقد تفطن له في "الروضة" فأصلحه هنا غير منبه عليه فقال: وفي قول يجوز ما لم يبلغ سنة. قوله: وذكر في "البحر" أنه لو زاد على سنة بطل في الزيادة على المشروع دون الباقي، وفي وجه يبطل في الكل تخريجًا من تفريق الصفقة وأنه لو أطلق حمل على أربعة أشهر ويبلغ بعدها المأمن. انتهى كلامه. واعلم أن في الزيادة على المدة المشروعة طريقين أصحهما تخريجه على تفريق الصفقة، والثاني: القطع بالصحة في الجائز لعدم جهالة العوض. كذا قاله الرافعي في باب الهدنة؛ ولهذا صرح النووي بتصحيحه هنا في أصل "الروضة". وأما ما ذكره في الإطلاق عن صاحب "البحر" من كونه يصح فالصحيح المذكور في باب الهدنة، خلافه فاعلم ذلك. قوله: ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه بدار الحرب من الأهل والمال، وأما ما معه منهما فإن وقع التعرض له اتبع الشرط وإلا فوجهان أطلقهما في "النهاية" ورجح المنع لقصور اللفظ، وفي هذا مزيد نورده في خاتمة الكتاب. انتهى. ثم ذكر هذه المسألة أعني دخول الأهل والمال عند الإطلاق في أخر الباب قبيل كتاب الجزية كما أشار إليه فحكى فيها وجهين من غير ترجيح أيضًا.

ثم قال: وفي "البحر" تفصيل حسن حكاه هو أو بعضه عن "الحاوى"؛ وهو أنه إذا أطلق الأمان يدخل فيه ما يلبسه من ثياب وما يستعمله في حرفته من الآلات وما ينفقه في مدة الأمان للعرف الجاري بذلك ومن كونه إن كان لا يستغنى عنه ولا يدخل غير ذلك. انتهى. وليس هذا تصريحًا أيضًا بتصحيح والراجح الدخول مطلقًا فقد جزم به الرافعي في أثناء الباب قبيل قوله الثانية المستأمن فقال: إذا دخل الكافر دار الإسلام بعقد أمان أو ذمة كان ما معه من المال والأولاد في أمان، فإن شرط الأمان في المال والولد فهو زيادة تأكيد. هذا لفظه. وذكر أيضًا مثله في آخر كتاب الجزية فقال في الكلام على الذمي إذا انتقض عهده: وهل يبطل أمان النساء والصبيان ببطلان أمانهم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كما كانوا تبعًا في ثبوت الأمان. انتهى. وقد أطلق النووي تصحيح الموضع الأول في أصل "الروضة" ذاهلًا عن ما ذكره الرافعي بعد ذلك ووافقه عليه فوقع في صريح التناقض, وعبر في "الشرح الصغير" و"المحرر" بقوله: فيه وجهان، رجح منهما منع الدخول ولا تصريح فيه أيضًا لكن صرح في "المنهاج" بتصحيحه. قوله: قال في "التهذيب": ولو قالوا للأسير لا نطلقك حتى تحلف أنك لا تخرج فأطلقوه لم تلزمه كفارة بالخروج، ولو حلفوه بالطلاق لم يقع كما لو أخذ اللصوص رجلًا وقالوا: لا نتركك حتى نحلفك أنك لا تخبر بمكاننا، فحلف ثم أخبر بمكانهم لا تلزمه الكفارة، لأنه يمين إكراه، وليكن هذا تفريعًا على أن التخويف بالحبس إكراه. انتهى. قال في "الروضة": ليس هذا كالتخويف بالحبس فإنه هناك تلزمه الهجرة والتوصل إليها بما أمكنه. هذا لفظه.

والذي ذكره -رحمه الله- لا ينافي ما ذكره الرافعي بالكلية فإن كلام الرافعي في الحنث وعدمه لا في وجوب الهجرة ووجوب أسبابها، ولو حلف كافر شخصًا أنه لا يصلي لزمه أن يصلي، وهل يحنث وتلزمه الكفارة؟ ينبني على أن الحبس هل يحصل به الإكراه أم لا؟ قوله: ولو أطلقوا الأسير وشرطوا عليه أن يعود أو يبعث إليهم مالًا فالعود ممتنع وأما بعث المال فإن قبل الشرط مكرها فهو لغو وإن صالحهم عليه مختارًا فلا يجب بعثه لكن يستحب؛ أما أنه لا يجب فلأنه التزام مال بغير حق، وأما أنه يستحب فليعتمدوا الشرط ويطلقوا الأسارى، وعن "سير الواقدي" حكاية قول: أنه يجب بعثه، وعن أبي إسحاق القطع به، وحكى الإمام بدل هذا عن القديم قولًا: أنه يجب العود إليهم. انتهى كلامه. هذا الذي ذكره من عدم وجوب المال ذكر في أخر الباب ما يخالفه فقال: ولو قال الأسير للكافر: أطلقني على كذا، ففعل، أو قال له الكافر: افتد نفسك بكذا، ففعل، لزمه ما التزم. هذا لفظه. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة"، واقتصر في "الشرح الصغير" على الموضع الأول. قوله: فإن لم يشترطا في المبارزة ترك الإعانة لكن اطردت العادة بها فهل هو كالمشروط؟ فيه وجهان؛ الذي أورده الروياني في "جمع الجوامع": أنه كالمشروط. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا. والصحيح أنه كالمشروط. كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي وهو غريب فتفطن له. قوله: وإذا عاقد الإمام على البدل على قلعه كذا بجارية منها فيجوز وهي جعالة على مجهول غير مملوك احتملت للحاجة, ولو وقعت المعاقدة

مع مسلم فوجهان: أصحهما عند الإمام لا يجوز لما فيه من الغرر، وإنما جوزنا في الكافر لأنه أعرف بقلاعهم وطرقهم غالبًا. والثاني: يجوز، وبه قال العراقيون للحاجة ولأنه أنصح وقد يكون أعرف. قال الإمام: والوجهان مفرعان على تجويز استئجار المسلم للجهاد وإلا فلا. انتهى. والصحيح أن استئجاره لا يجوز وحينئذ فإن كان الأمر على ما قاله الإمام لزم تصحيح المنع، وإن كان الأمر على ما أطلقه العراقيون لزم رجحان الجواز، فالحاصل أنه لا يؤخذ من كلام الرافعي هنا تصحيح، وقد سبقت المسألة قبيل النكاح في أول الباب المعقود للغنائم وجزم بما حاصله: الجواز، فتأمله وتفطن له فإنه جزم بجواز النفل بفتح النون والفاء وقال: إنه زيادة، فقال: على سهم الغنيمة، ثم مثل له أعني: المنفل بأمور منها ما ذكره هاهنا، وقد علم أن السهم لا يكون إلا للمسلم فلزم من إطلاقه وتعبيره بالسهم جوازه مع المسلم فراجعه يظهر لك ما قلناه. قوله في المسألة: وإذا دلنا عليها ولكن فتحناها بطريق أخر لا بدلالته ففي استحقاقه الجارية وجهان نقلهما القاضي ابن كج ورجح منهما المنع. انتهى. صحح النووي في أصل "الروضة" ما صححه ابن كج. قوله: ولو ماتت الجارية بعد الظفر بها وقبل التسليم وجب بدلها. وهل تجب قيمتها أو أجرة المثل؟ فيه قولان بناء على أن الجعل المعين في يد المجعول له مضمون ضمان عقد أم ضمان يد، فيه قولان كالصداق؛ فإن قلنا: ضمان عقد، أوجبنا أجرة المثل.

وإن قلنا: ضمان يد، أوجبنا قيمتها. هكذا قاله الإمام. ثم قال بعد ذلك: والذي يوجد لعامة الأصحاب في المسألة إيجاب قيمة الجارية. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" وخالف في "المحرر" فلم يذكر ما قاله الجمهور وجزم بمقالة الإمام فقال: وبدلها أجرة المثل إن جعلنا الجعل مضمونا ضمان العقد وقيمتها إن جعلناه مضمونًا ضمان اليد، وفيه قولان كما في الصداق. انتهى. وكأنه حال تصنيف "المحرر" لم يستوعب ما في هذه المسألة من الشرح بل نظر أوائلها دون آخرها، وقد تبعه النووي على هذا الاختلاف، وقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على المسألة فقال في أواخر "كتاب سير الواقدي" في باب: العلج يدل على القلعة ما نصه: وإن كانت الجارية قد أسلمت قبل أن يظفر بها فلا سبيل إليها ويعطى قيمتها وإن ماتت عوض منها بالقيمة ولا يبين إذا أسلمت هذا لفظه. قوله: فرع: قال القاضي ابن كج: ولو كان الإمام نازلًا تحت قلعة وهو لا يعرفها فقال: من دلني على قلعة كذا فله منها جارية, فقال علج: هي هذه التي أنت عليها، فالمذهب أنه يستحق تلك الجارية إذا فتحت كما لو قال: من جاءني بعبدي الآبق فله كذا، فوجده إنسان في البلد فجاء به. انتهى كلامه. وما نقله عن ابن كج من الاستحقاق وأقره عليه قد تابعه عليه في "الروضة" لكن الراجح على مقتضى ما ذكروه في باب: الجعالة، عدم الاستحقاق فإنهم شرطوا التعب ولا تعب هنا، وقياسه على رد العبد من

البلد واضح البطلان لما ذكرناه من الكلفة. قوله: ولو دخل حربي دارنا بأمان أو رسالة ثم نقض العهد والتحق بدار الحرب لم ينتقض الأمان في المال الذي خلفه عندنا في ظاهر المذهب. ثم قال: فإن مات أو قتل ففيه قولان: أحدهما: وقد نص عليه في "المختصر" وفي "سير الواقدى" واختاره أبو إسحاق أنه يكون فيئًا. وأصحهما على ما ذكر في "التهذيب" ونص عليه في كتاب المكاتب: أنه ينتقل إلى وارثه. انتهى. والأصح ما رجحه في "التهذيب"، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". قوله: ولو حاصرنهم فنزلوا على حكم حاكم فحكم بقتلهم لم يكن له بعد ذلك استرقاقهم، وقيل: يجوز. وهل يجوز استرقاق المحكوم بقتله إذا أسلم؟ نقل الروياني وغيره أنه لا يجوز، ويجئ على تجويز استرقاقه لو لم يسلم أم يجوز استرقاقه بعد الإسلام أيضًا. ثم قال: وإذا حكم بالإرقاق فأسلم المحكوم عليه قبل الإرقاق ففي "الوسيط" بناؤه على أن الرق هل هو فوق القتل؟ إن قلنا: لا، جاز إرقاقه كما قبل الإسلام. وإن قلنا: نعم، لم يجز، والأشبه الجواز؛ لأن الإسلام لا يمنع الإرقاق. انتهى كلامه. واعلم أن الغزالي في "البسيط" لم يرد ما فهمه عنه الرافعي؛ فإنه ذكر أنه إذا حكم بالقتل فهل له الاسترقاق [فإن] (¬1) فيه وجهان، ثم ذكر أنه لا فرق في هذين الوجهين بين أن يسلم أو لا يسلم، وهذا الخلاف هو الذي نقل الرافعي المنع فيه عن الروياني وغيره وأبدى مقالته وهو الجواز في صورة التخريج غير واقف عليه، وهذا الذي أشار إليه ¬

_ (¬1) زيادة من أ.

الغزالي قد أوضحه في "البسيط" وأوضحه قبله الإمام في "النهاية"، ولو راجع الرافعي هنا هذين الكتابين لم يذكر ما ذكره. قوله: وعن نصه في حرملة: أنه إذا أهدى مشرك إلى الإمام أو الأمير هدية والحرب قائمة فهي غنيمة، بخلاف ما إذا أهدى قبل أن يرتحلوا عن دار الإسلام. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي في الباب السابق في أول الطرف الرابع المعقود للاغتنام قد نقل هذا الفرع عن الروياني ولم يقيده بالإمام أو أمير الجيش بل صرح بأن غيرهما كذلك فقال: نقل الروياني أن ما يهديه الكافر إلى الإمام أو إلى واحد من المسلمين والحرب، قائمة لا ينفرد به المهدي إليه بكل حال. هذا لفظه. وسكت الرافعي عن الهدية في غير حالة الحرب، وقد صرح به الروياني أيضًا في كتاب القضاء فقال: إن كانت الهدية من أجل سلطانه فهي للمسلمين، وإن كانت لمودة تقدمت كانت له، وإن كانت لحاجة عرضت له، فإن كان لا يقدر على قضائها إلا بالسلطان فهي للمسلمين، وإن قدر عليها بدونه فهى له. قوله: ولو قال الأسير أي للسابي: افدني بكذا، على أن يرجع على ما جاء به فأجابه، رجع عليه، وكذا لو لم يشترط الرجوع في أصح الوجهين على ما ذكر صاحب "التهذيب". انتهى. صحح النووي في أصل "الروضة" ما صححه صاحب "التهذيب". قوله: ولو قال الأسير للكافر: أطلقني على كذا، أو قال له الكافر: أفديتك بكذا، ففعل؛ لزمه ما التزم. انتهى. وما ذكر من اللزوم في المسألتين وتابعه عليه في "الروضة" قد تقدم بنحو أربعة أوراق ما يخالفهما جميعًا؛ فأما المسألة الأولى: فقال فيها هناك:

ولو شرطوا أن يعود حرم العود، فإن شرطوا العود أو يبعث إليهم مالًا فالعود حرام، وأما المال فإن شارطهم عليه مكرهًا فهو لغو وإن صالحهم مختارًا لم يجب بعثه؛ لأنه التزام بغير حق لكن يستحب؛ وفي قول: يجب، لئلا يمتنعوا من إطلاق الأسارى، وفي قول قديم: يجب المال أو العود، والمشهور الأول. هذا كلامه. وحينئذ فنقول: مقتضى هذا الكلام بطلان اشتراط المال سواء شرطه وحده أو مع غيره فإنه علله بكونه التزاما بغير حق ولم يعلله بشئ آخر، وأيضًا فلو كان شرط المال صحيحًا لكان شرط العود معه المحكوم ببطلانه إما أن يقتضي الصحة في الآخر وهو المال أو الرجوع إلى بدل ذلك وهو ما يبذل في العادة في مثل هذا الأسير؛ فإن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه. وأما المسألة الثانية: وهي امتثال الأمر فقد جعله هناك كالإكراه فقال عقب الموضع الأول: إنه إذا اشترى منهم الأسير شيئًا ليبعث ثمنه وكان مكرهًا على قبوله فإن العقد لا يصح على المنصوص، وفي قول: يصح، لأنها معاملة مع الكفار. ثم قال: ولم يجز عقد بل قالوا: خذ هذا وابعث لنا كذا من المال، فقال: نعم، فهو كالشراء مكرهًا. هذا كلامه. وقياسه أن يقال في مسألتنا وهي ما إذا قال له: افد نفسك بكذا، أنه كالفداء مكرهًا حتى لا يلزمه المال، وأيضًا فقوله: خذه، ليس صريحًا في البيع بل يتوقف على النية ولم يفرض الرافعي وجودها؛ وحينئذ فكيف يكون مقبوضًا بالبيع؟ بل يحتمل الهبة أيضًا والقرض والوديعة ويكون الأمر ببعث المال طلبًا لشئ آخر في مقابلة ما أحسن إليه مثلًا. قوله في المسألة: فلو استولى المسلمون على المال الذي فدا به الأسير

كتاب [عقد] الجزية والمهادنة

نفسه فهل يكون غنيمة أم يرد إليه؟ فيه وجهان؛ قال في "الروضة": الأصح أنه يرد إليه. قال: وقد سبق عن صاحب "البيان": أنه مقتضى المذهب. كتاب [عقد] (¬1) الجزية والمهادنة فيه بابان الباب الأول: في الجزية اعلم أن الرافعي -رحمه الله- قد ذكر في الباب ألفاظًا منها: بريدة: أحد الصحابة -رضي الله عنهم-، هو بباء موحدة مضمومة تصغير بردة. ومنها: الأكيدر: الذي أحضره خالد من الشام، هو بهمزة [مضمومة] مصغر أكدر وهو الذي في لونه كدرة. ومنها: السفارة: أي: النيابة، وهي بالكسر كما سبق في مواضع. ومنها: الخول: بفتح الخاء المعجمة والواو وباللام في آخره، وهم العبيد كما سبق في الغنيمة. ومنهما: في حدود الحجاز حرة: أما الحرة فبالحاء المفتوحة والراء المهملتين، وهي أرض ذات حجارة سود. وأما واقم: فبالقاف المكسورة، قال الجوهري: هو اسم لحصن من حصون المدينة، والحرة المذكورة مضافة إليه. ومنها: فلسطين: وهي بكسر الفاء وفتح اللام، ناحية مشهورة من الشام متصلة بديار مصر وكرسيها بين المقدس وغزة. ومنها: المخاليف: جميع مخلاف بميم مكسورة وخاء معجمة ساكنة، وهي القرى، وهو -أي: المخلاف- اسم لقرى مجتمعة، ويعبر عنه أيضًا ¬

_ (¬1) سقط من ب.

بالكورة، ولكل من تلك القرى اسم يخصه. ومنها: يبرين: هي بفتح الياء بنقطتين من تحت وإسكان الباء الموحدة وكسر الراء وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم نون، وهو موضع معروف شرقي مكة وراء اليمامة وفيه نخل، ذكره الجوهري في فصل الباء الموحدة من باب النون، فجعل الباء زائدة والنون أصلًا على أن وزنه تفعيل، وغلطوه في هذا وقالوا: الصواب ذكره في فصل الياء المثناة من تحت من باب الراء على أن الباء أصل والنون زائدة ووزنه فعلين ومنها: وج: بواو مفتوحة وجيم مشددة شعب في الحج. ومنها: زهاء: بضم الزاي والمد، يقول: له عندي زهاء ألف أي: قدر ألف. ومنها: الميرة: بكسر الميم، اسم للطعام، ومنه قوله تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} (¬1). ومنها: الفتك: بثاء مثلثة أي: تضم وتفتح وتكسر وفاء ساكنة ثم كاف، وهو القتل على غفلة من المقتول، وقد تقدم في الجنايات أن القتل ينقسم إلى أقسام هذا أحدها. ومنها: أيلة: بهمزة مفتوحة وياء ساكنة بتقطتين من تحت، هي بلدة معروفة على ساحل البحر الملح في طريق الحاج المصرى، وعقبة أيلة مضافة إليها، وهذه البلدة هي آخر الشام وأول الحجاز، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (¬2). ومنها: المعتمل: بميم مضمومة وعين مهملة ساكنة وتاء مثناة من فوق بعدها لام، معناه: الكسوب، وهو مفتعل من الكسب أى العمل. ¬

_ (¬1) سورة يوسف (65). (¬2) سورة الأعراف (163).

ومنها: ياروس المجوس: لم أقف فيه على كلام. ومنها: نسف: بنون ثم سين مهملة مفتوحة، اسم لبلدة من بلاد الشرق، وإليها ينسب النسفي صاحب "الخلافيات". ومنها: الأكهب: بكاف ثم هاء ثم باء موحدة، وهو الأحمر الذي ليس بخالص في الحمرة؛ يقال بغير أكهب واضح المكهبة بضم الكاف، والكهب بفتحها وفتح الهاء. ومنها: الكستيحات: اسم للزنار، أما الزنار: فبضم الزاى، وأما اللفظ الأول فلا أعلم من ذكره. ومنها: أنه -عليه الصلاة والسلام- قتل ابن خطل والقينتين (¬1). أما خطل: فبخاء معجمة ثم طاء مهملة مفتوحتين بعدها لام، واسم ولده المقتول عبد العزى، وقال ابن الكلبي: غالب، وقال ابن إسحاق: عبد الله، وأما القينتان: فتثنية القينة بقاف وياء بنقطتين من تحت ونون، وهي الأمج سواء كانت تغني أم لا والعبد يقال له قن، والقينتان المذكورتان كانتا لابن خطل المذكور وكانتا تغنيان بهجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهجاء المسلمين. ومنها القت: بقاف مفتوحة وبالمثناة من فوق، وهو نبات رطب تأكله الدواب، يعبر عنه في صعيد مصر: بالقرط. قوله: ولو طلب الأسير عقد الذمة ففي تحريم قتله قولان: أولاهما التحريم، فإن دخل حربي دارنا وبقى مدة ثم اطلعنا عليه فطلب عقد الذمة. فإن قلنا: إن الأسير يقرر، فكذلك هذا وإلا فوجهان، وإيراد الإمام يشعر بترجيح الإجابة. انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى شيبه (7/ 398) والحارث في "مسنده" (698).

رجح في "الشرح الصغير" ما أشعر به كلام الإمام فقال: والأرجح الإجابة وصححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" فتفطن له. قوله: وما اشتهر أن الرسول آمن فقال الروياني: هو في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها، فإن كان رسولًا في [وعيد] وتهديد فلا أمان له ويتخير الإمام فيه بين الخصال الأربع كالأسير. انتهى. وهذا الذي قاله الروياني قد جزم به أيضًا الماوردي، وقد رد في "الروضة" هذه المقالة واقتضى كلامه انفراد الروياني بذلك فإنه قال: ليس ما ادعاه بمقبول والصواب: إنه لا فرق. هذا لفظه. نعم ذكر الرافعي قبل ذلك في باب كيفية الجهاد أن الرسول لا يجوز قتله ولم يستثن شيئًا بالكلية فدل على ضعف هذه المقابلة. قوله: فإن أعتقه ذمي فيستأنف له عقد أم يكتفي بعقد سيده في حقه؟ أجرى صاحب "التهذيب" فيه الخلاف المذكور في الصبي إذا بلغ. وعن "الحاوي" حكاية وجوه في أنه تلزمه جزية سيده، أو جزية عصبته لأنهم أخص به، أو يستأنف له عقد آخر. انتهى. ومقتضى كلامه في "الشرح الصغير" رجحان الاستئناف؛ فقد صرح بتصحيحه النووي في "زوائده". قوله: ولا جزية على امرأة أو خنثى، فإن بانت ذكورته فهل تؤخذ منه السنين الماضية؟ وجهان. انتهى. قال في "الروضة": ينبغي أن يكون الأصح الأخذ. قلت: بل ينبغي تصحيح عكسه؛ فقد تقدم قبل هذا بقليل في أثناء الركن الأول أنه إذا دخل حربي دارنا وبقى مدة ثم اطلعنا عليه لا نأخذ منه

شيئا لما مضى على الصحيح الذي حكاه الإمام عن الأصحاب؛ لأن عماد الجزية القبول وهذا حربي لم يلتزم شيئًا، وما قالوه بعينه موجود هنا بل أولى؛ لأنا تحققنا الأهلية هناك ولم نتحققها هنا. قوله: وإذا حاصرنا قلعة ولم يكن فيها إلا النساء فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان منقولان عن الأم: أحدهما: أنه يعقد لهن عقد الذمة لأنهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق كما يحتاج الرجال إلى صيانة أنفسهم عن القتل؛ فعلى هذا يشترط عليهن أن تجري عليهن أحكام المسلمين ولا نسترقهن ولا [نأخذ] منهن شيئا. والثاني: لا يعقد الإمام لهن، فإذا فتح القلعة سباهن. والقولان متفقان على أنه لا تقبل منهن جزية ولا تؤخذ منهن أخذ إلزام. هذا ما نقله عامة الأصحاب على اختلاف طبقاتهم، وشذ عنهم الإمام فنقل الخلاف وجهين وجعلهما في أنه هل يلزم قبول الجزية وترك إرقاقهن؟ انتهى ملخصًا. وما ذكره من حكاية الإمام لوجهين لا قولين هو كذلك في هذا الباب من "النهاية" لكنه ذكرها أيضًا في باب جامع السير وحكى الخلاف قولين كما ذكره غيره فذهل الرافعي عن هذا الموضع. واعلم أن الماوردي حكى وجهين في وجوب إعطائهن ذلك بعد التزامه فقال: فعلى هذا هل تلزمهن الجزية ببذلهن أم لا؟ على وجهين: أحدهما: [يلزمهن أداؤها بعد إعلامهن عند العقد أنهن من غير أهلها] (¬1) فإن امتنعن من بذلها بعد لزومها خرجن عن الذمة. والوجه الثاني: لا. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وأما حرم مكة -زادها الله تعالى شرفًا- فيمنع الكافر من دخوله ولو كان مجتازًا، وهو من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على سبعة ومن طريق جدة على عشرة؛ كذا حكاه الماوردي وجماعة، ولعله أورده في كتاب الحج. انتهى. لم يذكره الرافعي هناك، وقد حذفه النووي من هنا اعتمادًا على تقدمه في ذلك الموضع فلزم خلو "الروضة" عنه، وقد جزم البغوي في هذا الباب من "التهذيب" بالتحديد المذكور وعجب من ذهوله عنه حتى نقله عن الأحكام السلطانية. والسبعة المذكورة في العراق والطائف هي بسين ثم باء، بخلاف المذكورة مع الجعرانة فإنها بتاء مثناة ثم سين، وقد جمع بعضهم الحدود المذكورة في بيتين فقال: وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه وسبعه أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانة قوله: وإن استأذن في دخوله عبر الحجاز أذن له إن كان في دخوله مصلحة للمسلمين كرسالة أو عقد هدنة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون، وإن كان دخوله لتجارة ليس فيه كبير حاجة للمسلمين لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئًا. انتهى. [. .] (¬1). قوله: أقل الجزية دينار لكل سنة, ويستحب للإمام أن يماكسهم حتى يأخذ من الغنى أربعة دنانير ومن المتوسط دينارين. ¬

_ (¬1) بياض في الأصل.

قال الإمام: وموضع المماكسة ما إذا لم يعلم الكافر جواز الاقتصار على دينار، فإن علم بطلت الزيادة استماحه. انتهى. قال الجوهري: محت فلانًا أعطيته واستمحته سألته العطاء. قوله: تؤخذ الجزية على سبيل الصغار بأن يكون الذمي قائمًا والمسلم الذي يأخذها جالسًا ويأمره أن يخرج يده من جيبه أى طوقه ويحني ظهره ويطأطئ رأسه ويصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في همزته وهي مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن وهذا معنى الصغار في الآية عند بعضهم، وهذه الكيفية مستحبة وقيل واجبة. انتهى ملخصًا. وهذا الذي جزم به الرافعي من أخذها على هذه الكيفية عجيب مخالف لنص الشافعي وتفسير الصغار في الآية بها أعجب. أما النص: فقد قال الشافعي في كتاب السير من "إملائه" على كتاب الواقدي ما نصه: ولم أسمع مخالفًا في أن الصغار أن يعلو حكم الإسلام على حكم الكفر. انتهى. كذا رأيته في "كتاب الجزية" لابن الحداد نقلًا عنه. ونقل الشيخ أبو حامد في "تعليقته" عن أهل التفسير أنهم فسروا الصغار بما ذكره الرافعي، ثم قال ما نصه: قلنا: ليس هذا مذهب الشافعي - رضي الله عنه -، بل الصغار عنده هو رضاهم بجريان حكم لا يعتقدون صحته عليهم. ثم أطال الشيخ أبو حامد الاستدلال على ذلك، وذكر أصحاب الشيخ أبي حامد كالبندنيجي والمحاملي نحوه أيضًا، وقال الماوردي في الحاوي في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (¬1) أن الشافعي فسر الإعطاء في الآية بالالتزام، وأبو حنيفة فسره بالدفع، ونقل في "البيان" مثله عن نصه في "الأم" و"المختصر". ¬

_ (¬1) سورة التوبة (29).

وأما بطلان تفسير الصغار في الآية بذلك فلأن الله تعالى أوجب مقاتلتهم إلى إعطاء الجزية فقال: {قَاتِلُوا الَذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (¬1) فجعل غاية المقاتلة إعطاء الجزية، والمقاتلة تنقطع بالالتزام إجماعًا؛ فيبطل بذلك تفسير الإعطاء بالدفع؛ فصار هذا كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلَاةَ وَآتَوُا الزَكَاةَ فَخَلُوا سَبِيلَهُمْ} (¬2)، ثم إن الرافعي -رحمه الله- في أول الباب قد فسر الصغار أيضًا بذلك فقال: الأصح عند الأصحاب تفسير الصغار بالتزام ذلك وقالوا أشد الصغار على المرء أن تحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله. واعلم أن النووي -رحمه الله- قد أنكر أيضًا أيضًا هذه الكيفية إلا أنه لم يطلع على ما ذكرناه من النصوص ولا أبدى ما ذكرناه من ما يبطل التفسير بها بل استند إلى كلام بعض الأصحاب فقال: قلت: لا نعلم لهذه الكيفية أصلًا معتمدًا وإنما ذكرها طائفه من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب: تؤخد الجزية برفق كأخذ الدين. هذا خلاصة ما ذكره. قوله: ويجوز أخذ الجزية باسم الزكاة ولكن بضعف الواجب؛ فنأخذ مثلًا من خمس من الأبل شاتين ومن ست وأربعين حقتين، فإن لم نجدها فبنتي لبون مع الجيران. وفي تضعيف الجبران وجهان: أحدهما: يضعف فيأخذ مع كل بنت مخاض [شاتان أو عشرين درهمًا .. إلى أخره. وهذا الكلام قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو خطأ ظاهر وسببه إسقاط شيئًا من مسودة الرافعي "الشرح الصغير" فإنه قال: فيه وجهان: ¬

_ (¬1) سورة التوبة (29). (¬2) سورة التوبة (5).

أحدهما: يضعف فيأخذ عن بنت مخاض] (¬1). أربع شياه أو عشرين درهما؛ لأنه نقص الصدقة. والأصح: المنع وهو المذكور في الكتاب، لأن في تضعيف الجبران تضعيف التضعيف فلا نأخذ مع كل بنت مخاض إلا شاتين أو عشرين درهما. هذا كلامه. فسقط الكلام المشتمل على بيان المذهب الصحيح وهو من لفظه: يأخذ إلى مثلها، وقد بين الفوراني في "الإبانة" لزوم تضعيف التضعيف فقال: وذلك أنا ضعفنا حتى أخذنا منه مكان الحقة حقتين ثم انتقلنا إلى ابنتي لبون فإذا أخذنا مع بنتي اللبون أربع شياه وهذا جبران وتضعيف ولولا التضعيف لأخذنا منه شاتين. هذا كلامه. قوله: وأما الذمي فله أن يتجر فيما سوى الحجاز من بلاد الإسلام ولا يؤخذ من تجارته شئ. قال في "البيان": إلا أن يشترط عليه مع الجزية شئ من تجارته. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، والذي قاله المذكور أعني: العمراني قد سبقه إليه الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر"، وهو واضح منقاس. قوله: وإن بدأ الذمي بالسلام فلا نجيبه. قاله في "التهذيب". انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن البغوي وارتضاه مخالف لما نقله عن صاحبه المتولي في كتاب السير وارتضاه أيضًا من كونه يحييه بقوله وعليك. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقد تقدم ذكره في موضعه وأن ذلك هو الصواب. وقال النووى هنا: ما ذكره البغوي هو وجه حكاه الماوردي، والصحيح بل الصواب أن يجاب بما ثبت في الأحاديث الصحيحة: وعليكم. هذا لفظه. والتعبير بضمير الجمع في عليكم مخالف لما ذكره الرافعي هناك ووافق عليه في "الروضة" وفي باقي كتبه من التعبير بضمير المفرد. قوله: ولا يجوز لمسلم أن يوادهم؛ قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا} (¬1) الآية. انتهى. وما ذكره هنا من تحريم الموادة قد خالفه في أول باب الوليمة فجزم بالكراهة، وتابعة في "الروضة" على الموضعين. قوله: ولو كان لمسلم على ذمي دين فقضاه وجب القبول إذا لم يعلم أن المؤدي من محرم، فإن علم بأن باع الخمر بين يديه وأخذ ثمنها فهل يجبر على قبوله؟ وجهان: أصحهما: لا يجبر، وهو المنصوص، بل لا يجوز القبول. انتهى. واعلم أنه قد سبق في نكاح المشركين أنه إذا ترابى الذميان فباعه درهمًا بدرهمين وأسلما أو ترافعا إلينا قبل الإسلام، فإن جرى تقابض لم يلزم الرد، ولا فوق في ذلك بين أن يكون التقابض برضاهم أو بإجبار قاضيهم. وإذا علمت ما تقدم هناك علمت منه أن الكافر يملك ثمن الخمر الذي باعه ولهذا لم يوجب عليه الرد في الكفر ولا بعد الإسلام، وإذا ملكه لزم منه وجوب قبوله في مسألتنا فترجع خلافه ذهول عن ذلك، وقد جزم ¬

_ (¬1) سورة المجادلة (22).

القفال في "فتاويه" بما ذكرته حكمًا وتعليلا فقال: لو باع ذمي لذمي خمرًا بألف فجاء مسلم وضمن الألف عن الذمي فقال لا يصح لأنهما لو أسلما قبل القبض سقط، أما إذا قبض الثمن وهناك مسلم يشاهده فاشترى بعين تلك الدراهم من هذا المسلم فإنه يصح ويحل للمسلم تملك تلك الدراهم لأنهما لو أسلما لكانت الدراهم تحل لهذا القابض. هذا كلامه. والمسألة التي ذكرها أولًا مسألة مهمة. قوله: وتؤخذ النساء بالغيار في أظهر الوجهين ثم قال: وإذا قلنا به فقال الشيخ أبو حامد: يجعل الزنار فوق الإزار وفي "التهذيب" وغيره: تحته لئلا يصف بدنها، وأشار بعضهم إلى اشتراط ظهور شيء منه. انتهى. قال في "الروضة": هذا لابد منه وإلا فلا يحصل كثير فائدة. قوله: والتمييز في الحمام ينبني على أنه يجوز لهن دخول الحمام مع نساء المسلمين. قال في "التهذيب": وأظهر الوجهين منعه لأنهن أجنبيات في الدين، وقد يفهم من هذا السياق أن لنساء المسلمين أن يدخلنه بلا حجر. وعن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز إلا عن ضرورة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أيما امرأة خلعت ثوبها في غير بيت زوجها فهي ملعونة" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4010) والترمذي (2803) وابن ماجه (3750) وأحمد (24186) و (25446) و (25668) والدارمي (2651) والحاكم (7780) والطيالسي (1518) والطبراني في "الأوسط" (3286) و (4743) وأبو يعلي (4680) وعبد الرزاق (1131) و (1132) والبيهقى في "الشعب" (7771) و"الكبرى" (14580) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 325) والخطيب في "التاريخ" (3/ 58) وابن عدي في "الكامل" (6/ 448) وابن حبان في "المجروحين" (3/ 5) من طرق عن عائشة -رضي الله عنها-. قال الترمذي: حسن. وقال الألباني: صحيح.

انتهى. والأصح في دخولهن مع نساء المسلمين ما قاله البغوى. كذا صححه النووي من "زوائده" في أوائل النكاح، واقتصر هنا على كلام البغوى، والأصح الأشهر كما قاله في "الروضة" هنا أنه لا يحرم دخولهن الحمام بلا عذر لكن يكره، وجزم الغزالي في "الإحياء" بالتحريم فقال: يحرم عليها دخوله إلا لنفاس أو لمرض. قوله في أصل "الروضة": ولو زنا ذمي بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو تطلع على عورة المسلمين ونقلها إلى دار الحرب أو فتن مسلما عن دينه ودعاه إلى دينهم ففي انتقاض عهده طرق: أصحها أنه إن لم يجر لم ينتقض وإلا فوجهان، ويقال: قولان: أصحهما: لا ينتقض. وهل المعتبر في الشرط الامتناع من هذه الأفعال أم انتقاض العهد إذا ارتكبها؟ صرح الإمام والغزالي بالثاني وكثيرون بالأول، ولا يبعد أن يتوسط فيقال إن شرط الانتقاض فالأصح [الانتقاض] (¬1) وإلا فالأصح خلافه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الترجيح الأخير مناف لتصحيحه الانتقاض مع الشرط؛ ولهذا لم يذكر الرافعي ذلك التصحيح بل حكى عن طائفة الانتقاض وعن آخرين المنع ثم ذكر هذا الترجيح، وحاصله أنه توسط بين المقالتين فأخذ في كل ماله بقول طائفة. الأمر الثاني: أن تعبيره في أول المسألة أو فتن مسلمًا عن دينه ودعاه إلى دينهم: تعبير عجيب؛ فإن صدره يقتضي أنه لابد من انتقال المسلم عن الإسلام وآخره يقتضي الاكتفاء بدعائه إليه، فهل المعتبر الأول أو الثاني؟ قهم: وأما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص فالمذهب أنهما كالزنا ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بمسلمة. انتهى. وتعبيره في القتل يشمل قتل المسلم، الذمي، وقيد في "التنبيه" المسألة بقوله للمسلم، وكذا القول في قاطع الطريق، فإنه قال: أو فتن مسلمًا عن دينه أو قتله أو قطع عليه الطريق، وأقره النووي في تصحيحه .. قوله: الثالثة: حيث حكمنا بانتقاض العهد فهل نبلغهم المأمن؟ فيه قولان: أحدهما: نعم لأنهم دخلوا دارنا بأمان فيبلغون المأمن كمن دخل بأمان صبي. وأصحهما على ما في "التهذيب" وغيره: المنع، بل يتخير الإمام بين القتل والاسترقاق والمن والفداء لأنه كافر لا أمان له كالحربي. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن التخيير بين هذه الأمور ليس على إطلاقه بل شرطه أن لا يطلب الذمي الذي انتقض عهده تجديد العهد، فإن طلب وجبت إجابته إلى عقد الذمة ولا يجوز قتله. كذا نبه إن فعل ما يوجب حدًا أقمناه عليه قبل ذلك. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلامه من تصحيح عدم البلوغ إلى المأمن يشكل عليه ما ذكره في أوائل باب الهدنة فإنه قال بعد هذا الموضع بنحو أربعة أوراق ما نصه: فأما من دخل دارنا بأمان أو مهادنة فلا يغتال وإن انتقض عهدهم بل نبلغهم المأمن. كذلك نقله القاضيان ابن كج والروياني وغيرهما. هذا لفظه، مع أن حق الذمي آكد من حق المأمون والفرق بينها مشكل.

قوله: ومن قذف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفر بالاتفاق، فإن عاد إلى الإسلام فقيل: لا شيء عليه. وقيل: يقتل حدًا لأنه حد قذف فلا يسقط بالتوبة. وقيل: يجلد ثمانين ولو لم يقذف صريحًا لكن عرض. وقال الإمام: الذي أراه أنه كالسب الصريح في اقتضاء الكفر لما فيه من الاستهانة. انتهى. قال في "الروضة": الذي قاله الإمام متعين وبه قال آخرون، ولا نعلم فيه خلافًا. هذا لفظه، وما ذكره من عدم الخلاف صرح به الغزالي في "البسيط" فقال: قيل: إنه يوجب التعزيز، والأظهر أنه رده. هذا لفظه. قوله: يؤخذ على أهل الذمة أن يخفوا دفن موتاهم ولا يخرجوا جنائزهم ظاهره ولا يظهروا على موتاهم لطمًا ولا نوحًا .. إلى آخر ما ذكر. ثم قال: حكى أكثر هذا عن الحاوي، وما نقله الرافعي في المسائل الثلاث التي ذكرناها هو من جملة ما ذكره الماوردي إلا أنه قال إنها لا تجب بالعقد وفي وجوبها بالشرط وجهان، وجزم في "الأحكام السلطانية" بوجوبها إذا شرطت، واقتضى ذلك، وقد أوضحت المسألة في باب حمل الجنازة والدفن من كتاب "الهداية إلى أوهام الكفاية".

الباب الرابع: في عقد المهادنة

الباب الرابع: في عقد المهادنة قوله في أصل "الروضة": الشرط الثاني: أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة. انتهى. وذكر في "المنهاج" أنه يجوز عقدها عند عدم المصلحة إلى أربعة أشهر فقال: وإنما يعقد لمصلحة كضعفنا بقلة عدد وأهبة أو رجاء إسلامهم أو بذل جزية كأن لم تكن جازت أربعة أشهر. هذا لفظه. والمذكور في "الروضة" هو الصواب، وقد وقع كذلك في "المحرر" أيضًا ولكن حصل له في اختصاره غلط. قوله: يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بلغه ثالث تألب العرب واجتماع الأحزاب قال للأنصار: إن العرب قد كالبتكم ورمتكم عن قوس واحدة فهل ترون أن ندفع شيئًا من ثمار المدينة إليهم؟ فقالوا: يا رسول الله إن قلت عن وحي فسمعًا وطاعة وإن قلت عن رأى فرأيك متبع، ولكنا لا ندفع إليهم ثمرة إلا بشرى أو قرى ونحن كفار فكيف وقد أعزنا الله تعالى بالإسلام؟ فسر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقولهم. اعلم أن التألب: بالتاء المثناة والهمز والباء الموحدة هو: الاجتماع؛ يقال: ألب الإبل بالتخفيف على وزن ضرب إذا جمعها فهو تألبها بضم الباء وكسرها وتألبوا إذا اجتمعوا، وهمز ألب بفتح الهمزة وكسرها إذا كانوا مجتمعين قاله الجوهري. قال: وأما [كالبتكم]: فمعناه شاذركتكم، والكالبة: المشارة، وكذلك التكالب تقول: هم يتكالبون على كذا أى يتواثبون عليه. ثم ذكر الرافعي أيضًا ابنى سعيه، وقد تقدم ذكرهما قريبا في الطرف

الثاني من الغنيمة. ثم قال: ورد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بصير، وكذلك أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو وهو يرسف في قيوده. أما بصير: فهو بباء [موحدة] مفتوحة على وزن كريم. وأما جندل فإنه بميم مفتوحة [بعدها] نون ساكنة ومعناه في اللغة: الحجر، وجمعه: جنادل. وأما يرسف: فبالراء والسين المهملتين ومعناه يمشي في القيود؛ نقول: رسف يرسف ويرسف أى: بالضم والكسر رسفًا بالسكون ورسفانًا. قوله: فإن دعت ضرورة إلى بذل مال بأن كان يعذبون الأسرى في أيديهم فديناهم، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطلاح فيجوز بذل المال ودفع أعظم الضررين بأخفهما. وفي وجوب بذل المال عند الضرورة وجهان بناء على وجوب دفع الصائل. انتهى. اعترض في "الروضة" على هذا الكلام فقال: قلت: ليس هذا البناء بصحيح لأن الصائل الكافر يجب دفعه قطعًا، ثم الخلاف في وجوب الدفع بالقتال وهنا بالمال، والأصح وجوب البذل هنا للضرورة هذا آخر كلامه. فأما دعواه أن البناء ليس بصحيح فمردود؛ فإن البناء مشهور؛ فممن ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب "البيان" وغيرهم. وأما دعواه أن الكافر يجب دفعه قطعًا فمحله إذا قصد النفس ولم يندفع إلا بالقتل فإن الاستسلام لا يجوز لما فيه من الذل، وأما هنا فإنه لم يمكن دفعه إلا بالمال؛ فالصورة غير الصورة، والخلاف هنا له وجه؛ لأنه الذل كما يحصل بالاستسلام يحصل أيضًا ببذل المال.

وأما قوله: ثم الخلاف في وجوب الدفع بالقتال وهنا بالمال، فمراده به أن الخلاف مع انتفائه في حق الكافر وثبوته في حق المسلم خاصة فإنما صورته في المسلم في القتال وهنا في بذل المال فكيف يأتي؟ وجوابه ما ذكرناه أن مجيء الخلاف فيه أيضًا ظاهر. وأما قوله أن الصحيح وجوب البذل هنا للضرورة فمخالف لما قاله في آخر كتاب السير: فإنه قد نص هناك على استحباب فك الأسرى، وجزم بجوازه أيضًا لا وجوبه القاضي الحسين وإمام الحرمين والغزالي في كتبه. بل نقل صاحب "البيان" عن المسعودي أنه لا يجوز أن يشترط الإمام للكفار على المسلمين مالًا بحال، وكذلك إذا كان في أيدي الكفار للمسلمين مال لا يجوز للإمام أن يعاقدهم على ترك ذلك المال لهم، وكذلك إذا كان في أيدينا أسير منهم لا يجوز معاقدتهم على رده. والاصطلاح هو الاصطدام. قوله: فإن لم يكن بالمسلمين ضعف جاز أربعة أشهر ولا تجوز سنة، وكذا ما بينهما في أصح القولين، وقطع أبو إسحاق بالجواز، وقيل: في السنة قولان بناهما بانون على أن الذمي إذا مات في أثناء السنة هل يجب قسط ما مضى؟ وخصص هؤلاء الخلاف بما إذا مات وقد مضى أكثر من أربعة أشهر. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في السنة من تصحيح طريقة القطع بالمنع وتضعيف طريقة القولين قد جزم بخلافه قبل ذلك في الباب الثالث المعقود لترك القتل والأمان، وقد سبق ذكر لفظه. الأمر الثاني: أنه قد وقع للنووي في اختصاره لهذا الكلام أمورًا: أولها أنه أسقط طريقة أبي إسحاق.

وثانيها: أنه عبر عن الطريقين في السنة بقوله: ولا تجوز سنة على [المذهب] (¬1)، ولا يعرف منه أن الصحيح طريقة القطع أو الخلاف ولا أن الخلاف قولان أو وجهان. ثالثهما: أن هاتين الطريقين المختلفتين في موت الذمي يؤخذ منهما قول ثالث وهو الوجوب إذا مات بعد أربعة أشهر دون الأربعة فما دونها، وليس هذا القول مذكورًا في باب الجزية، وقد حذف النووي ذلك من "الروضة" وكأنه توهم سبق ذكره في بابه. قوله في "الروضة": وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة إلى عشر سنين بحسب الحاجة، وقيل تجوز الزيادة، وقيل: تمتنع الزيادة على سنة، وقيل: على أربعة أشهر مطلقا. انتهى. زاد الرافعي على هذا فقال: وقيل: إن عقدت لضرورة ففي جواز الزيادة على العشر قولان، وإن عقدت لحاجة فقيل: تجوز الزيادة على الأربعة إلى سنة، وقيل: لابد أن تنقص عن السنة. انتهى. وتحصل من ذلك وجوه لا تؤخذ من "الروضة". قوله: ولو جاءت منهم مسلمة لم يجز ردها إليهم، فإن طلب زوجها ما دفع إليها من الصداق لم يجب رده في أصح القولين، فإن أوجبنا فأسلم الزوج قبل انقضاء العدة فالنكاح مستمر وليس له طلب المهر، وإن أسلم بعد انقضائها فإن أخذ المهر قبل إسلامه لم يسترجع منه وصار بالقبض كالمستهلك وإن لم يأخذه فإن طالب به قبل إسلامه استقر له الممر بحصول الحيلولة بإسلامها. وعن أبي إسحاق أنه لا مهر له وإن لم يطالب به قبل إسلامه فلا شيء له لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين ولا نطالبه بالمهر بعد البينونة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

انتهى كلامه. وما ذكره من أن الطلب إما إن يكون قبل الإسلام أو بعده قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غير مستقيم، بل الصواب أن نقول: إما أن يكون قبل انقضاء العدة أو بعدها أي يعبر بالعدة عوضًا عن الإسلام كما عبر به البغوي في "التهذيب" والشيخ في "المهذب" وذلك لأن الرافعي علل عدم الاستحقاق في الطلب الواقع بعد الإسلام لحصول البينونة والطلب الواقع بعد انقضاء العدة فيكون كما بعد الإسلام لوجود البينونة فيهما. واعلم أن الشيخ أبا حامد وابن الصباغ قد صرحا بأنه إذا لم يطالب قبل إسلامه لا يستحق شيئًا لكنهما عللاه بأنه لما أسلم التزم أحكام الإسلام وليس من أحكام الإسلام المطالبة بالمهر فتعليل الشيخ أبي حامد وابن الصباغ موافق لتصويرهما، وتعليل البغوي والشيخ في "التهذيب" موافق أيضًا لتصويرهما، وأما الرافعي فأخذ تصوير ابن الصباغ وتعليل البغوي فلم ينتظم كلامه. قال في "البيان": فإن أسلم الزوج قبل الدخول قال الشيخ أبو حامد: إن طالب بها قبل إسلامه وجب له المهر وإن أسلم ثم طالب لم يجب. قال ابن الصباغ: قد بانت بإسلامها، فإذا لم يكن له المطالبة [بالمهر نص عليه في الأم لأنه إذا أسلم قبل استقرار المهر له بالمطالبة] (¬1) فقد التزم أحكام الإسلام. هذا كلامه. قوله في "الروضة" في هذه المسألة الأخيرة: فلو كانت الصورة بحالها ولم يكن أعطاها المهر فلما أسلم بعد انقضاء العدة أخذت المهر بسبب المسيس فهل يغرم له ذلك؟ فيه احتمالان للإمام: أرجحهما المنع. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما أطلقه النووي من الترجيح لم يطلقه الرافعي وإنما نقله عن الإمام خاصة فقال: وكلام الإمام إلى عدم التغريم أميل. قوله: وفي معنى النساء الصبيان والمجانين فلا يردون لضعفهم ولا يجوز الصلح بشرط ردهم، وإذا بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن وصفا الإسلام فذاك انتهى. وما ذكره من عدم جواز رد المهر لأهله إذا أسلم قد ذكر ما يقتضيه أيضًا في أوائل الحضانة وخالفهما في كتاب اللقيط فصحح الجواز، وقد سبق ذكر لفظ كل موضع في بابه. قوله: وهل يعتق العبد الذي جاء مسلمًا؟ حكى الروياني عن الحاوي أنه إن غلبهم على نفسه ثم أسلم وهاجر عتق لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، وإن أسلم ثم غلبهم على نفسه وجاءنا نظر إن فعل ذلك قبل أن هادناهم فكذلك لأنه غلب في حال الإباحة وإن فعله بعد الهدنة لأن أموالهم محرمة حينئذ لا نملكها بالقهر لكن لا يقر على ملكه. انتهى كلامه. وما نقله عن "الحاوي" وأقره من أنه إذا أسلم ثم هاجر لا يحكم بعتقه قد نقله قبل هذا بنحو ورقة عن "التهذيب" وأشار إلى ترجيح خلافه فقال في الكلام على الأمة: ولو أسلمت ثم فارقتهم وهاجرت مسلمة فقد ذكر في "التهذيب" أنها لا تصير حرة لأنهم في أمان منا وأموالهم محظورة علينا فلا [يزول] الملك عليها بالهجرة بخلاف ما إذا هاجرت ثم أسلمت فإن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فجاز أن تملك نفسها بالقهر. ولم يتعرض جماعة لهذا التفصيل وأطلقوا الحكم بالعتق، ويجوز أن يؤخذ به وإن أسلمت ثم فارقتهم، ويوجه بأن الهدنة حرب معنا ولم يجز معها. هذا لفظه. وتبعه النووي في "الروضة" على الموضعين. قوله: ثم لو جاءتهم امرأة منا مرتدة وهاجرت إلينا امرأة منهم مسلمة

وطلقها زوجها فلا يغرم لها المهر ولكن واحدة بواحدة ويجعل المهرين قصاصًا، ويدفع الإمام مهر إلى زوج المرتدة ويكتب إلى زعيمهم ليدفع مهرها إلى زوج المهاجرة. هذا إن تساوى القدران، فإن كان مهر المهاجرة أكثر صرفنا مقدار مهر المرتدة منه إلى زوجها والباقي إلي زوج المهاجرة، وإن كان مهر المرتدة أكثر صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلى زوجها والباقي إلى زوج المرتدة. انتهى كلامه. وهذا الحكم الذي قاله غير مستقيم بل الصواب أن يصرف مقدار مهر المهاجرة إلى زوج المرتدة من زعيم أهل الهدنة، وهذا واضح، وقد صرح به هكذا صاحب "الحاوي" وهو مقتضى كلام المحاملى، وصرح الغزالي في "البسيط" بدفع مهر المهاجرة إلى زوج المرتدة وأن يكمل له الباقي ثم إن شرطه النقد على الصحيح في بابه فراجعه. تم الجزء الثامن والحمد لله رب العالمين، يتلوه إن شاء الله تعالى في أول التاسع كتاب الصيد والذبائح، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ تَصْنيف الشَّيْخ الإِمَام العَلامَة جمال الدّين عبد الرَّحِيم الأسنوي رَحِمَه الله الْمُتَوفَّى 772 هـ اعتَنى بِهِ أَبُو الْفضل الدّمياطِي أَحَمَدْ بنْ عَلي عَفَا الله عَنْهُ الْجُزْء التَّاسِع مَرْكَز التراث الثقافي المغربي - دَار ابْن حزم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المُهِمَّات فِي شَرْحِ الرَّوْضَةِ والرَّافِعِيِّ (9)

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م ISBN: 978 - 9953 - 81 - 740 - 8 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها الدَّار تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا مَرْكَز التراث الثقافي المغربي الدَّار الْبَيْضَاء - 52 شَارِع الْقُسْطَلَانِيّ - الأحباس هَاتِف: 442931 - 022 _ فاكس: 442935 - 022 المملكة المغربية دَار ابْن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - ص. ب: 6366/ 14 هَاتِف وفاكس: 701974 - 300227 (009611) بريد إلكتروني: [email protected]

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح والنظر في طرفين: النظر الأول فيما يفيد الحل وهي أركان الذبح وما يقوم مقامه وهو العقر قوله: وجواز المناكحة وحل الذبيحة يجريان مجرى واحدا لا يفترقان إلا أن الأمة [الكتابية] (¬1) تحل ذبيحتها ولا تحل مناكحتها. انتهى. واعلم أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي الله عنهن لا تحل مناكحتهن وتحل ذبيحتهن فلابد من إخراجهن أيضًا فينبغي أن يقول في الضابط: من لا يحل مناكحته لنقصه. قوله: وفي المتولد بين الكتابي والمجوسية قولان. كالقولين في مناكحته ثم قال: وحكى الإمام تفريعًا على إلحاق هذا المتولد بالوثني وجهين فيما إذا بلغ ودان بدين أهل الكتاب. والأصح المنع. انتهى. وهذه المسألة قد تقدم الكلام عليها في كتاب النكاح. قوله: ففي ذبيحة المجنون والصبي الذي لا يميز قولان. أجاب الشيخ أبو حامد والشيخ أبو إسحاق بالحل؛ لأن لهم قصدًا وإرادة في الجملة. وأظهرهما: عند الإمام وصاحب "الكتاب" وجماعة: التحريم لأن قصودهم فاسدة. انتهى ملخصًا. والصحيح هو الحل كذا صححه الرافعي في "المحرر" وعبّر بالأظهر، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وكذلك النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة". نعم كلام الرافعي هنا يؤخذ منه رجحان التحريم لأن القائلين فيه بالتحريم أكثر عددًا من القائلين بالحل وكلام "الشرح الصغير" في ذلك أظهر فإنه اقتصر على ذكر المصححين للتحريم ولم ينقل تصحيح الجواز عن أحد. قوله: وفي اصطياد الأعمى بالرمي أو الكلب وجهان والأشبه أن الخلاف مخصوص بما إذا دَلَّه بصير على صيد وفيه صور صاحب "التهذيب" وقال: إن المذهب المنع وكذلك صور الموفق ابن طاهر لكنه أجاب بالحِل. وفي "البحر" طريقة قاطعة بالمنع. انتهى مخلصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره الرافعي بحثًا في تخصيص الخلاف قد صرح بنحوه الإمام وقال: عندي أن الوجهين مخصوصان بما إذا أدرك حس الصيد وبنى إرساله عليه، وتعبيره وتعبير الرافعي قاصران عن المعنى والصواب التعبير بعبارة تعمهما. الأمر الثاني: أن الصحيح ما قاله البغوي كذا جزم به في "الشامل" وصححه الرافعي في "الشرح الصغير"، فقال: وأظهرهما المنع، وقطع به بعضهم، وكذلك في "المحرر" فقال: إنه أشبه الوجهين. وصححه أيضًا النووي في "شرح المهذب" و"الروضة" وعلى كلام الروضه هنا انتقادان: أحدهما: أنه لم يُنَبّه على أن التصحيح من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي. الثاني: أنه حكى طريقة قاطعة بالحِل أيضًا، وهذه الطريقة لم يذكرها

الرافعي وكأنه توهم من قول الرافعي أن ابن طاهر أجاب به أنها طريقة قاطعة، وهو غلط فاحش إذ كل قائل بوجه مجيب به وكثيرًا ما يقول الرافعي في المسألة وجهان: أحدهما: وبه أجاب فلان. . . . إلى آخر ما يقول، ولا يحكيها النووي إلا وجهين فإن كان ذلك يدل على طريقين فيكون قد أسقط طُرقًا لا حصر لها. قوله: ويكره ذبح السمك ولكن لو كان كبيرًا يطول بقاؤه فالمستحب ذبحه إراحة له أو تركه حتى يموت حتف أنفه؟ فيه وجهان منقولان عن "الحاوي" والأول هو جواب الشيخ أبي حامد. انتهى. والراجح الاستحباب كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة" ولم يُنَبّه في "الروضة" على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: في أصل "الروضة" ولو ابتلع سمكة حية أو قطع فلقة لم يحرم على الأصح لكن يكره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يحك الخلاف في الفلقة في إباحة فعله بل في إباحة أكله، والمتجه تحريمه ولفظ الرافعي يشعر به فإنه قال: ولا ينبغي أن يقطع فلقة من السمكة وهي حية لما فيه من التعذيب ولو فعل ففي حَدِّها وجهان: أحدهما: المنع ويحكى عن ابن أبي هريرة كما لو قطع عضوًا من غيرها.

واحتج له بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما أبين من حي فهو ميت" (¬1)، وأصحهما: الحل لأن المبان كالميت وميتة هذا الحيوان حلال. هذا كلامه. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يصرح هذا بالكراهة أصلًا لا في المسألة [الأولى] (¬2) ولا في الثانية فاعلمه. قال النووي من "زوائده": إن هذا الخلاف طردوه في الجراد، قال: ولو قلي السمك قبل موته في الزيت المغلي، قال الشيخ أبو حامد: لا يحل له فعله لأنه تعذيب وهذا تفريع على اختياره في ابتلاع السمكة حية أنه حرام وعلى إباحة ذلك يباح هذا. انتهى كلام النووي، وهو مشكل ولا يلزم من جواز الابتلاع جواز القلي. قوله: في أصل "الروضة": ولو ركب عظم على سهم وجُعل نصلًا فَقُتِل به صيدٌ فلا يحل على المشهور. انتهى. واعلم أن هذا الخلاف ليس خاصًا بما إذا قتل به صيدًا كما يوهمه كلام "الروضة" والرافعي، فإن الرافعي نقل الحل عن حكاية الماوردي عن نص الشافعي. والماوردي قد نقل هذا النص في جواز الذبح بالعظم ثم اختاره على خلاف ما ذهب إليه الجمهور وعلله بأنه ليس من السن ولا من الظفر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2858) والترمذي (1480) وأحمد (21953) والحاكم (7150) والدارقطني (4/ 292) والطبراني في "الكبير" (1277) وفي "الأوسط" (3099) وأبو يعلي (1450) والبيهقي في "الكبرى" (78) وابن الجعد (2952) وابن الجارود في "المنتقى" (376) من حديث أبي واقد - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح. وقال الألباني: صحيح. (¬2) سقط من أ.

قلت: وبما نقله الماوردي يعلم أن ما قاله في "تصحيح التنبيه" من حكاية [الخلاف في] (¬1) الذبح بالعظم صحيح فإنه عَبّر: بالأصح، لا: بالصواب، وأما ما ذكره في "شرح المهذب" من كونه لا يحل بلا خلاف فذهول عن المنقول. قوله: ولو تردى بعير في بئر ولم يمكن قطع حلقومه فهو كالبعير النَادّ في جواز رميه وفي إرسال الكلب عليه وجهان: أحدهما: الجواز كما في الصيد، والبعير النَادّ، وهذا ما اختاره البصريون. والثاني: المنع لأن الحديد يستباح به الذبح مع القدرة وعقر الكلب بخلافه، هكذا أورد الوجهين القاضي الروياني حكمًا وتوجيهًا ورجح الثاني منهما، ولك أن تتوقف فيه. انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": الأصح تحريمه وصححه أيضًا الشاشي انتهى. وما اقتضاه كلامه من أن التصحيح للشاشي سهو، فإن الشاشي نقله عن الماوردي خاصة كذا ذكره في "الحلية" وهو الكتاب الذي ينقل منه النووي. ثم راجعت كتابه المطول وهو المسمى بـ"المعتمد" فلم أر المسألة فيه بالكلية على أنه لم يظفر بهذا الكتاب، وظفر به الرافعي ثم راجعت أيضًا مختصره المسمى بـ"العمدة" فلم أرها أيضًا، وهذا لم يظفر به الرافعي ولا النووي واقتصر في "الشرح الصغير" على نقل ترجيح الروياني. قوله: ولو رمي إلى صيد فقده قطعتين فكل منهما حلال ولو أبان منه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

عضوًا كيدٍ ورجلٍ بجراحة مدفقة ومات في الحال حل العضو وباقي البدن، فإن لم تكن الجراحة مدفقة فأدركه [صاحبه] (¬1) وذبحه أو جرحه جرحًا آخر مدفقا، فالعضو حرام لأنه أُبين من حي وباقي البدن حلال، وإن مات من تلك الجراحة ولم يتمكن من الذبح حَلّ باقي البدن، وفي العضو وجهان: أحدهما: الحِل لأن الجرح السابق كالذبح للجملة. وأصحهما: التحريم لأنه أُبين من حيّ. انتهى ملخصًا. وما ذكره هنا من تصحيح التحريم ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وخالف في "المحرر" فصحح الجواز، وعَبّر بلفظ: الأصح أيضًا، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" و"المنهاج". قوله: كما يكتفي بالمشي بلا عدو في السعي إلى الجمعة وإن عرف التحرم بالصلاة بأماراته. انتهى. ومقتضى ما ذكره أنه لا فرق بين أن تفوت معه الجمعة أم لا، وقد صَرّح به الماوردي في باب الجمعة من كتابه المسمى بـ"الإقناع" وحذف النووي هذه المسألة من "الروضة". قوله: لو أرسل كلبًا في عنقه قلادة محددة فجرح بها الصيد حَلّ كما لو أرسل سهمًا قاله في "التهذيب". وقد يُفْرق بأنه قصد بالسهم الصيد ولم يقصده بالقلادة. انتهى. وهذا الفرق قد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا لكن القاضي الحسين قد ذكر المسألة في "تعليقه" وصورها بما إذا علم الكلب أن يضرب بتلك الحديدة، قال: لأنه يصير كناب الصيد وإرسال الكلب. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

و"التهذيب" مختصر تعليقة شيخه المذكور فهو مراده، إلا أنه لم يوضحه لكونه مختصرًا. قوله: الثانية: إذا ظهر كون الكلب معلمًا ثم أكل من لحم الصيد حرم في أصح القولين. ثم قال: قال الإمام: وكنت أود لو فصل مفصل بين أن يَنْكَفّ زمانًا ثم يأكل، وبين أن يأكل كما أخذ، فإن الزمان إذا تمادى بعد الإنكفاف ولم يتعرضوا له. انتهى. وهذا الذي ذكره الإمام بحثًا وادعى أنهم لم يتعرضوا له قد ذكره الجرجاني في كتابيه "الشافي" و"التحرير"، فقال واللفظ "للتحرير" ما نصه: وإن أكل الكلب من الصيد غير متصل بالعقر حَلّ وإن أكله متصلًا بالعقر فعلى قولين: أصحهما: يحل. هذا لفظه. قوله: وذكر الغزالي أن ما يقتله الفهد والنمر حرام لأنهما لا يتعلمان، ثم قال: وهذا خلاف ما نَصّ عليه الشافعي والأصحاب فإنهم جعلوهما مما يصطاد من السباع كالكلب. انتهى كلامه. وما ذكره في النمر من كونه يصلح للصيد حتى يؤكل ما قتله قد خالفه في أول كتاب البيع في الكلام على اشتراط النفع فجزم بأنه لا يصح بيعه لأنه لا يصلح للصيد، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه فإنه غريب وتبعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: قال الإمام: ولو رمى إلى شاته الربيطة -أي المربوطة- آلة جارحة فأصاب الحلقوم والمرئ وفاقًا وقطعهما ففي حِلّ الشاة مع القدرة على إمرار السكين نظر، ويجوز أن يفرق بين أن يقصد المذبح بما يرميه وبين أن يقصد

الشاة فيصيب المذبح. انتهى كلامه. والصحيح في هذه المسألة هو الحل، فقد قال الرافعي بعد ذلك في أوائل الفصل الثاني المعقود للاشتراك في الجرح: إنه الظاهر. وقال في "الروضة" هنا من "زوائده": إنه الأرجح. ولم يعزه للرافعي ولم يصرح به هناك فأشعر كلامه أن لا ترجيح في المسألة للرافعي. قوله: ولو قصد بالرمي ظبية فأصاب غيرها فوجهان: أصحهما وبه قال أبو حنيفة: إنها تحل لوجود قصد الصيد. والثاني: المنع، وبه قال مالك. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح الحِل، وهذا الذي صححاه خلاف ما نص عليه الشافعي فإنه قال في "البويطي" في باب السُّنة في الصيد ما نصه: وإن نوى صيدًا بعينه في جماعة صيد فقتل [آخر] (¬1) فلا يأكل، وقد قيل: يأكل. هذا لفظه بحروفه ومن "البويطي" نقلته. قوله: وإن جرحه جرحًا لم يقتله ثم غاب عنه فوجده ميتًا وليس عليه أثر جراحة أخرى ففي الحِل قولان: أصحهما عند البغوي: الحل؛ لكن أصحابنا العراقيون وغيرهم إلى ترجيح التحريم أميل. انتهى. صحح "النووي" أيضًا في "المنهاج" التحريم، وقال في "الروضة" من "زوائده": الحل أصح دليلًا وصححه [أيضًا] (¬2) الغزالي في "الإحياء" وثبتت فيه أحاديث صحيحة ولم يثبت في التحريم شيء وعلق الشافعي الحِل على صحة الحديث، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في ب: غيره. (¬2) سقط من أ.

وللمسألة نظائر منها: إذا مَشّط المُحْرِم رأسه فانتتف منها شعر وشك هل انتتف بالشط أم كان منتتفًا، والأصح في "الروضة" أنه لا فدية، ولم يحيلوه على هذا السبب. ومنها: إذا قطع ملفوفًا فادعى الولي أنه قتله، وادعى الضارب أنه كان ميتًا، والأصح فيهما تصديق الولي إحالة على السبب الظاهر. ومنها: إذا بالت ظبية في ماء، ثم وجده متغيرًا، فإنّ المذهب المنصوص عليه نجاسته إحالة له على السبب الظاهر، وهو يشكل على "الرافعي" في تصحيحه عدم جواز الأكل في مسألتنا، إذ لو أحال على السبب لأباح.

النظر الثاني في بيان ما يملك به الصيد

قال: النظر الثاني في بيان ما يملك به الصيد قوله: ولو توحل الصيد بمزرعته أو عشش الطائر في ملكه وباض وَفرّخ وصار مقدورًا عليه، لم يملكه في أظهر الوجهين، ثم قال: وعلى هذا فحكى الإمام عن الأصحاب أن صاحب الدار أولى بتملكه وليس لغيره أن يتخطى ملكه ويأخذه، فإن فعل فهل يملكه؟ فيه وجهان قريبان من الوجهين في ما إذا تحجر مواتًا فأحياه غيره، وهذه الصورة أولى بثبوت الملك؛ لأن التحجر للإحياء والتملك وبناء الدار لا يقصد به ذلك. انتهى كلامه. والصحيح في مسألة التحجر أنه تملك على ما قرره في إحياء الموات، فيكون الأصح هنا أيضًا أن الأخذ له بملكه، بل أولى على ما ذكره هنا، وجزم أيضًا في آخر "الإحياء" في الكلام على المياه المختصة: بأن الأخذ تَمَلّك، لكن فرضه في الماء خاصة وهو نظير ما نحن فيه. إذا علمت ذلك فقد ذكر هذه المسائل في آخر الوليمة في الكلام على ما إذا وقع في حجره شيء من النثار ولم يكن بسط ثوبه لذلك، ورجح فيها أنه لا يملك، وسَلم في "الإحياء" أنه يملك وفَرّق بينهما، وقد ذكرت هناك لفظه فراجعه فإنه موضع غريب وقع أيضًا في "الشرح الصغير" وتابعه عليه النووي في "الروضة" وزاد على ذلك فصرح بتصحيح الملك في أوائل "الإحياء"، فقال: قلت: الأصح أنه يملكه -يعني الفرخ- قال: وكذا لو توحل طير في ملكه أو وقع الثلج فيه ونحو ذلك. هذا كلامه. وقد تلخص أن في "الروضة" بخصوصها ثلاثة أجوبة متعارضة، فإنه

حكم هناك بأن الملك في الطائر وشبهه أولى من التحجر، وفي باب الوليمة بأن المتحجر أولى بالملك منها، وفي باب "الإحياء" جعل الكل سواء، وقد وقعت هذه المواضع في "الشرح الصغير" على ما هي عليه من هذا الاختلاف، إلا أنه لم يتعرض [له] (¬1) في أوائل "الإحياء" فرأيت في "الزيادات" للعبادي أنه إذا أخذ الماء ملكه قال بخلاف ما إذا صار ملحًا لأنه صار ملحًا بالأرض. ورأيت في الكتاب المسمى "بالرسائل [في فروق الوسائل] (¬2) " لأبي الخير سلامة بن إسماعيل ابن جماعة القدسي قبيل كتاب "الرهن": أنه إذا استأجر سفينة فدخل فيها سمك ففيه وجهان: أحدهما: أنه للمستأجر، لأنه ملك منافعها ويده عليها فكان أحق به. والثاني: للمالك، لأن هذه ليست من المنافع التي تقع الإجارة عليها. قوله: قال الإمام: وهذا الخلاف في ما إذا لم يكن سقى الأرض مما يقصد به توحل الصيود وتعقلها، فإن كان يقصد فهو كنصب الشبكة. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الإمام وأقره قد نقل عنه في آخر إحياء الموات عكسه، وأقره عليه أيضًا وقد ذكرت هناك لفظه فراجعه فإنه غريب، وتبعه في "الروضة" على هذا الاختلاف. قوله: في أصل "الروضة": ولو أرسله مالكه لم يزل ملكه عنه على الأصح المنصوص كما لو سيب دابته، ولا يجوز ذلك لأنه يشبه سوائب الجاهلية ولأنه قد يختلط بالمباح فيصاد، [وقيل: يزول] (¬3)، وقيل: إن ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب. (¬3) سقط من ب.

قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى زال وإلا فلا، وإذا قلنا بالوجه الثالث فأرسله تقربًا إلى الله تعالى فهل يَحِل اصطياده لرجوعه إلى الإباحة أم لا كالعبد المعتق؟ وجهان. انتهى. وهذا الذي حكاه من كون المنصوص عدم الزوال، سهو فإن "الرافعي" إنما نقله في الزوال [فقال: ] (¬1) وذكر الروياني في "البحر" أن الشافعي نَصَّ في "المبسوط" على زوال الملك وغَلّطَ من قال غيره إلا أنه شرط في التصوير أن يخليه على قصد إخراجه عن ملكه وإلحاقه بالوحشي. هذا كلام "الرافعي" والأصح من الوجهين: حِل اصطياده لئلا يصير في معنى سوائب الجاهلية. كذا ذكره في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة". قوله: وإذا ألقى كسرة خبز معرضًا فهل يملكها من أخذها؟ وجهان مرتبان على إرسال الصيد، وأولى بأن لا يملك بل تبقى على ملك الملقي، لأن سبب الملك في الصيد هو اليد وقد أزالها، قال الإمام: هذا الخلاف في زوال الملك، وما فعله إباحة للطاعم في ظاهر المذهب، لأن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة. هذا لفظ الإمام ويوضحه ما نقل عن "الصالحين" في التقاط السنابل انتهى كلامه. رجح النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" أنه يملك في الجميع، فقال: الأرجح أنه يملك الكسرة والسنابل ونحوها، ويصح تصرفه فيها بالبيع وغيره، وهذا ظاهر أحوال السلف. واعلم أن "الرافعي" قد سبق منه ذكر التقاط السنابل في أثناء الباب ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الثاني في اللقطة وبَيَّنَ ما يحل أخذه منها، وقد سبق ذكره هناك لأمر يتعلق به يتعين الوقوف عليه. قوله: ولو أعرض عن جلد ميتة فأخذه غيره ودبغه، ففي حصول الملك له وجهان بالترتيب، وهذه الصورة أولى بثبوت الملك لأنه لم يكن ملكًا للأول وإنما كان له نوع اختصاص والاختصاص المجرد يَضعف بالإعراض. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والراجح هو الملك كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة"، ولم يُنَبّه فيها على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام "الرافعي" فتفطن له فإنه غريب. قوله: ولو اختلط حمام برج بحمام برج آخر، فنقل الإمام وغيره أنه ليس لواحد منهما التصرف في شيء منها ببيع أو هبة لثالث، لأنه لا يتحقق الملك ولو باع أحدهما أو وهب للآخر صح في أقرب الوجهين، ويحتمل الجهالة للضرورة. ولو باع الحمام المختلط أو باعا بعضه لثالث ولا يعلم واحد منهما عين ماله فإن كانت الأعداد معلومة كمائتين ومائة، والقيمة متساوية، ووزعا الثمن على أعدادها صح البيع باتفاق الأصحاب، فإن جهل العدد لم يصح، لأنه لا يعلم كل واحد حصته من الثمن. فالطريق أن يقول كل واحد: بعتك الحمام الذي لي في هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلومًا، ويحتمل الجهل في المبيع للضرورة. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور: أحدها: أن الحكم على البعض بأنه كالكل في ذلك، ذكره الرافعي في آخر المسألة استدراكًا على "الوجيز"، والتفسير الذي ذكره لا يأتي في البعض سواء كان معينًا بالجزئية كالنصف مثلًا أو الثلث لزيادة

الجهل فإن كان مجهولًا بين اثنين فيصير بين ثلاثة أو بإفراد شيء منه كعشرة مثلًا؟ لأن كل واحد لا يدري ماله من تلك العشرة فيكون الجهل باقيًا أيضًا. الأمر الثاني: أن اشتراط تساوي القيمة لا معنى له مع اشتراط توزيع الثمن على أعدادها فتأمله. الأمر الثالث: أن ما ذكره في آخر كلامه من كون الطريق أن يقول كل منهما إلى آخره، حاصله أن الصحة متوقفة على قول كل منهما، وليس المراد أن هذا طريقهما إذا أرادا جميعًا البيع، حتى إذا أراد أحدهما ذلك صح، فإنه قد تقدم حكاية وجهين في ما لو فعل ذلك مع الشريك فكيف يستقيم الجزم بالصحة في صدور ذلك مع الأجنبي؟ وإذا تقرر أن المراد صدوره من كل واحد منهما، فإذا ابتدأ به أحدهما كانت صحته موقوفة على الآخر، وهو خلاف القواعد، وفيه كلام سبق فيما إذا كان لرجلين عبدان لكل منهما عبد فباعاهما بثمن واحد. ومثله إذا كاتب الشريكان عبدهما. قوله: وإن اختلطت حمامته بحمامات مباحة محصورة لم يجز الاصطياد، قال في "الروضة" من "زوائده": من أهم ما تجب معرفته ضبط العدد المحصور، فإنه يتكرر في أبواب الفقه وقَلّ من بَيّنه. قال الغزالي في "الإحياء" في كتاب "الحلال والحرام": تحديد هذا غير ممكن وإنما يضبط بالتقريب، قال: فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد لعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر كالألف ونحوه، فهو عدد غير محصور وما سهل كالعشرة والعشرين فهو محصور. وبن الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن، وما وقع فيه

الشك استفت فيه القلب. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- يقتضى أن هذا الضابط لم يره إلا في كلام "الإحياء" وهو غريب فقد سبق ذكره في كلامه، وكلام "الرافعي" في كتاب "النكاح"، في الكلام على الموانع، ونقله عن الغزالي أيضًا، ونقل أيضًا عن الإمام نحوه. قوله: وللمقصود مقدمة نذكرها وهي إذا جنى رجل على عبد أو بهيمة أو صيد مملوك قيمته عشرة دنانير وجراحة أرشها دينار، ثم جرحه آخر جراحة أرشها دينار أيضًا، فمات بالجرحين ففي ما يلزم الجارح وجوه: أحدها: يجب على الأول خمسة دنانير وعلى الثاني أربعة ونصف، لأن الجرحين سريا وصارا قتلًا، فلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته. والثاني: يلزم كل واحد خمسة. والثالث: يلزم الأول خمسة ونصف والثاني خمسة، فإن جناية كل واحد نقصت دينارًا ثم سريا، والأرش يسقط إذا صارت الجناية نفسًا فيسقط عن كل واحد نصف الأرش لأن الموجود منه نصف القتل. والرابع: وذهب إليه ابن خيران، واختاره صاحب "الإفصاح"، وأطبق العراقيون على ترجيحه أنه يجمع بين القيمتين فتكون تسعة عشر فيقسم عليه ما قوما وهو العشرة، فيكون على الأول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءًا من العشرة وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءًا من العشرة. وتقال بعبارة أخرى: نصف القيمة يوم الجناية الأولى خمسة، ويوم الجناية الثانية أربعة ونصف، نجمع بينهما ونقسم العشرة على تسعة ونصف، خمسة منها على الأول وأربعة ونصف على الثاني ولو كانت الجناية ثلاثة، وأرش كل جناية دينار والقيمة عشرة كما مَرّ، فعلى الأول. . . . إلى آخره.

ثم قال ما نصه: وعلى الوجه الثالث يجب على الأول أربعة منها ثلاثة وثلث هي ثلث القيمة يوم جنايته وثلثا دينار ثلث الأرش، وعلى [الثاني ثلاثة وثلثان. ثلاثة منها ثلث القيمة يوم جنايته وثلثا دينار ثلث الأرش، وعلى] (¬1) الثالث ثلاثة منها ديناران وثلث هي ثلث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلثا الأرش، فالمبلغ عشرة وثلثان. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في التفريع على هذا الوجه غلط، تبعه عليه في "الروضة" أيضًا، والصواب: أن المبلغ اللازم أحد عشر لا عشرة وثلثان، والغلط جاء مما يلزم الثالث، فإنه قال: إنه يلزمه ثلاثة، ثم فَصّل فقال: دينار وثلث هي ثلث القيمة، وثلثان هما ثلث الأرش، وليس كذلك بل الذي يلزمه ثلاثة وثلث لا ثلاثة فقط، فإن القيمة يوم جنايته كانت ثمانية فيجب ثلثها وهو درهمان وثلثان مضافان إلى الثلثين اللذين هما ثلث الأرش وهذا واضح. قوله: ذكر القاضي ابن كج أنه إذا أرسل كلبه فحبس صيدًا، فلما انتهى إليه أفلت، فهل يملكه من أخذه أم هو ملك للأول بالحبس؟ وجهان. انتهى. والأصح كما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": أنه يملكه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الضحايا والعقيقة

كتاب الضحايا والعقيقة والنظر في أمرين: الأركان والأحكام النظر الأول في الأركان قوله: الضحايا: جمع ضحية، كهدية وهدايا وهي التي يُضَحَى بها من النعم، ويقال لها: أضحية أو ضحية، والجمع أضاحي وأضاح وأضحاه أيضًا، والجمع أضحا، بالتنوين كأرطاة وأرطًا، ومنها سمي يوم الأضحى، وذكر أن جميع ذلك مأخوذ من وقت التضحية وهو ضحوة النهار. انتهى كلامه. وحاصل ما حكاه من اللغات أربع والثانية والثالثة منها بهمزة مضمومة إحداهما بياء مشددة، والأخرى مخففة، وجمع المشددة بالتشديد أيضًا والمخففة بالتخفيف، فالأول على وزن أناسى ونجابى، والثاني على وزن جوار وغواشي، ويستعمل استعمال المنقوص. قوله: واحتج الأصحاب على عدم وجوبها بأشياء: منها: ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا" (¬1) علق التضحية بالإرادة. انتهى. وهذا لا دلالة فيه؛ لأن الأضحية بتقدير وجوبها قد يريد الشخص فعلها وقد لا يريد وذلك على حسب اجتماع الشرائط وعدم اجتماعها، وهذا كقول الشيخ في "التنبيه": إذا أراد الصلاة قام إليها بعد فراغ المؤذن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1977) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.

من الإقامة. وقوله: إذا أراد المحرم دخول مكة اغتسل مع أن أداء الخمس ودخول المحرم مكة واجبان لابد منهما. قوله: وفي "البحر" للروياني أنه لو قال: إن اشتريت شاة فلله علي أن أجعلها أضحية، فهذا نذر مضمون في الذمة، فإذا اشترى شاة فعليه أن يجعلها أضحية. . . . إلى آخره. واعلم أن صورة المسألة أن يقصد الشكر على حصول الملك، فإن قصد الامتناع فيأتي فيه ما في نذر اللجاج والغضب. وقد ذكر "الرافعي" في أوائل النذر هذا التفصيل في اعتاق العبد إذا ملكه وهو نظير المسألة. قوله: ولا يجزئ من الإبل إلا الثني أو الثنية وهو ما استكمل خمس سنين، والمعنى فيه أن الثنايا تتهيأ للحمل والنزوان. فانتهاؤها إلى هذا الحد كالبلوغ في حق الآدمي، وحالها قبل ذلك حال الصغير من الإنسان. انتهى كلامه. وهو صريح في أن التهيؤ للحمل والنزوان لا يحصل إلا باستكمال الخامسة والطعن في السادسة وقد خالف ذلك في الزكاة في أوائل باب صدقة النعم مخالفة عجيبة، فإنه جزم بأن الاستحقاق الذي هو أبلغ من التهيؤ يحصل قبل ذلك بعامين وهو استكمال الثالثة والطعن في الرابعة، وقد ذكرت لفظه في موضعه فراجعه. قوله: ثم قضية ما أورده الأصحاب تصريحًا ودلالة ونسبوه إلى نصه في الجديد أن الجَرَب يمنع الإجزاء، يسيرًا كان أو كثيرًا؛ لأنه يفسد اللحم

والودك. وفي وجه أن الكثير هو الذي يمنع كما في سائر الأمراض، وهذا ما اختاره الإمام وأورده صاحب الكتاب. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير"، فقال: والظاهر الذي أورده الأصحاب المنع مطلقًا، ثم خالفهما في "المحرر" فقال: والجَرْبَاء الكثيرة الجَرَب كالمريضة. هذا لفظه، فشرط في المنع كونه كثيرًا، وقد استدرك عليه في "المنهاج" فصحح أن القليل مانع أيضًا. قوله: وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء (¬1). وفي الحديث أيضًا النهي عن المصفرة. اعلم أن "الرافعي" قد فَسّر معاني هذه الأشياء. وأما اللفظ فالمقابلة والمدابرة بباء موحدة مفتوحة، والشرقاء بشين معجمة مفتوحة وراء ساكنة بعدها قاف ممدودة، والخرقاء بالخاء المعجمة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2804) والترمذي (1498) والنسائي (4372) وابن ماجه (3143) وأحمد (851) والدارمي (1952) وابن خزيمة (2915) وابن حبان (5920) والحاكم (7532) والطيالسي (160) والطبراني في "الأوسط" (7973) وأبو يعلى (333) والبزار (753) والبيهقي في "الكبرى" (18882) من حديث عليّ - رضي الله عنه -. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح. وقال الألباني: حسن صحيح. والمقابلة: أن يقطع طرف الأذن. والمدابرة: أن يقطع من مؤخر الأذن. والشرقاء: أن يشق الأذن. والخرقاء: أن تخرق أذنها للسمة.

قوله: ولو جعل جميع البدنة أو البقرة مكان الشاة فهل يكون الجميع واجبًا حتى لا يجوز كل شيء منه أم الواجب السبع فقط حتى يجوز الأكل من الباقي؟ فيه وجهان كالوجهين في ماسح جميع رأسه في الوضوء [هل يقع جميعه فرضًا؟ أم الفرض ما يقع عليه الاسم؟ انتهى. قال في الروضة: ] (¬1) قيل الوجهان في المسح في ما إذا مسح دفعة واحدة، فلو مسح شيئًا فشيئًا فالثاني سنة قطعًا، وقيل: الوجهان في الحالين. ومثلهما إذا طَوّل الركوع والسجود والقيام زيادة على الواجب [وفائدته في زيادة الثواب في الواجب] (¬2) والأرجح في الجميع أن الزيادة تقع تطوعًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن "النووي" قد ذكر هذا الخلاف في مواضع من "الروضة" واختلف فيها كلامه اختلافًا عجيبًا وهو من الاختلاف الواقع على ثلاثة أوجه، وتقدم ذكره واضحًا وذكر نظائره، وفائدة الخلاف فيه في باب صفة الصلاة في الكلام على ركن القيام. الأمر الثاني: أن [الأصح من] (¬3) هذين الوجهين المذكورين في مسح الرأس هو الوجه الثاني، وهو أن الخلاف في الحالين، كذا صححه "النووي" في باب صفة الوضوء من "شرح المهذب". قوله: ويدخل وقت التضحية بدخول وقت صلاة العيد يوم النحر ومضي ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وقت ركعتين وخطبتين بعده. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه لا يشترط ارتفاع الشمس مع هذا المقدار لأن الصحيح عنده عدم اشتراطه في العيد كما جزم به في "المحرر" ولم يخالفه في غيره. إذا علمت هذا فقد جزم في "المحرر" أيضًا باشتراط هذا الوقت فقال: ويدخل وقت التضحية إذا ارتفعت الشمس يوم النحر قيد رمح، ومضى قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين، هذا لفظه. وخالفه "النووي" فصحح في كتبه أن وقتها يدخل بالطلوع لكنه أقر صاحب "التنبيه" على اشتراط الارتفاع، وقد تقدم طرف من المسألة في صلاة العيد. قوله: وعن "الحاوي" وجه أنه كان يعتبر في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته ويعد المعتبر قدر الصلاة. انتهى. هذا الوجه أسقطه من "الروضة". قوله: إحداهما: ذكر الإمام أن من فاته التضحية المتطوع بها فلينتظر وقتها من قابل وحينئذ تقع عن حق الوقت. ولا يصفو هذا عن إشكال. انتهى. واعلم أن مراد الإمام أنه يقع عن الماضي لا عن الحاضر على خلاف ما يوهمه كلام "الرافعي" فإنه قال: فإن قيل: التضحية عندكم سنة مؤقتة والسنة المؤقتة لكم في قضائها قولان، فهلا خرجتم قضاء التضحية على هذا الخلاف. قلنا: إن أراد تدارك الأضحية فلينتظر وقتها في قابل والسنين التي تفوت مواقيتها لو لم يجز القضاء فيها لتحقق الفوات فيها وانقطع المستدرك، ثم إذا فرض قصد التدارك عند دخول وقت التضحية في السنة القابلة، فهذا

القصد عندي لا معنى له فإن ما يوقعه من التضحية يكون أداء، ويتصور أن يتقرب الرجل بأضاحي في نوبة واحدة فلا يكاد ينقدح معنى القضاء في ما هذا سبيله، وإذا كان الرجل يعتاد صوم أيام تطوعًا فترك الصوم فلا يتحقق عندي قضاؤه، وكذلك لو أفسده بعد التحرم به فإن الذي يأتي به يكون ابتداء تطوع. والأيام التي رغب الشارع في التطوع بصومها إذا لم يصمها فلا معنى لتقدير قضائها ولو تحرم بالصوم ثم أفسده، فقد يتخيل إمكان القضاء، ولست أراه أيضًا والعلم عند الله تعالى. هذا لفظ الإمام وكأن النووي -رحمه الله- لما أشكل عليه هذا الكلام حالة اختصاره راجع "النهاية"، فإنه عَبّر في "الروضة" بقوله: فإن ضحى في السنة الثانية في الوقت وقع عن الوقت لا عن الماضي. هذا لفظه. قوله: فروع: يجوز إنابة الحائض لحل ذبيحتها، وعن "الحاوي" أن في كراهة ذبحها الأضحية وجهين، وأن ذبح الصبي لها مكروه. انتهى. والأصح عدم الكراهة في الحائض كذا نقله الروياني في "البحر" عن الأصحاب، قال: إلا أنه خلاف الأولى، وصححه النووي، في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" وجزم في "الروضة" بالكراهة في الصبي، ولم ينقله عن "الحاوي" كما نقله الرافعي، وخالف في "شرح المهذب" فذكر ما حاصله الجزم بعدم الكراهة ذكر ذلك في باب الصيد والذبائح لا في باب الأضحية. قوله: وهل يجب أن تكون النية مقرونة بالذبح، أم يجوز تقديمها عليه؟ قضية ما ذكر الإمام تخريجه على وجهين ذكرناهما في جواز تقديم النية على تفرقة الزكاة والأظهر الجواز. انتهى.

واعلم أن شرط ذلك في الزكاة أن تكون النية صدرت بعد تعيين القدر الذي يخرجه، فإن كانت قبله لم يجز كما أوضحناه هناك نقلًا وتعليلًا فتكون الأضحية كذلك فاستحضره. قوله في "الروضة": ولو قال جعلت هذه الشاة أضحية فهل يكفيه التعيين والقصد عن نية الذبح؟ فيه وجهان: أصحهما عند الأكثرين لا يكفيه؛ لأن التضحية قربة في نفسها فوجبت النية فيها، واختار الإمام والغزالي: الاكتفاء. انتهى. وهذا الذي صححه من عدم الاكتفاء قد جزم بخلافه في الفصل المعقود لأحكام الأضحية، فقال: العاشرة: لو ذبح أجنبي أضحية معينة ابتدأ في وقت التضحية أو هديًا معينًا بعد بلوغ المنسك فالمشهور أنه يقع الموقع، لأن ذبحها لا يفتقر إلى النية، فإذا فعله غيره أجزأ كإزالة النجاسة. هذا كلامه. وعبارة الرافعي في "الشرحين" تشعر بالمخالفة أيضًا. وصحح في "المنهاج" أنه لا يكفي، واختلف كلامه في "شرح المهذب" فصحح في هذا الباب وفي باب العقيقة عدم الاكتفاء، وجزم قبل ذلك في أوائل باب الهدي بأنه يكفي في الهدي والأضحية معًا. قوله: فرع: لو ضحى عن الغير بغير إذنه لم يقع عنه. قاله في "التهذيب" واستدرك عليه في "الروضة" فقال: إن كانت الشاة معينة بالنذر وقعت عن المضحي وإلا فلا. كذا قاله صاحب "العدة" وغيره وأطلق الشيخ إبراهيم المروروزي أنها تقع عن المضحي، قال هو وصاحب "العدة": ولو أشرك غيره في ثواب أضحيته وذبح عن نفسه جاز.

قالا: وعليه يحمل الحديث: "اللهم تقبل من محمد وآل محمد" (¬1). قوله في الكلام على ما إذا قطع من القفا: قال الإمام: ولو كان فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع المريء ولكنه إذا قطع المريء وبعض الحلقوم. انتهى إلى حركة المذبوح لما ناله من قبل سبب قطع القفا فهو حلال، وأقصى ما وقع التعبد به أن يكون فيه حياة مستقرة عند الابتداء بقطع المذبح، ثم قال بعده: الثانية يجب أن يسرع إلى القطع ولا يتأنى بحيث يظهر انتهاء الشاة قبل استتمام قطع المذبح إلى حركة المذبوح، وهذا قد يخالف ما سبق أن المرعي والمعتبر أن يكون في الحيوان حياة مستقرة عند الابتداء بقطع المذبح، ويشبه أن يكون المقصود هاهنا إذا تبين مصيره إلى حركة المذبوح وهناك إذا لم يتحقق الحال. انتهى. استدرك في "الروضة" فقال: هذا الذي قاله الإمام الرافعي خلاف ما سبق تصريح الإمام به، بل الجواب: أن هذا مقصر في التأني فلم تحل ذبيحته بخلاف الأول فإنه لا تقصير ولو لم نحلله أدى إلى الحرج. انتهى كلامه. واعلم أن النووي في "الروضة" لم ينقل الكلام الثاني عن الإمام بل جزم به ثم ذكر هنا أصلًا وزيادة أن هذا الكلام مخالف لما سبق عن الإمام وهو اختصار عجيب وفيه التباس فاحش. قوله في "الروضة" لو أخذ الذابح في قطع الحلقوم والمرئ وأخذ آخر في نزع حشوته أو نخس خاصرته أو قطع رقبة الشاة من قفاها لم تحل سواء كان قطع الحلقوم والمرئ مذففًا لو انفرد أو تعين على التذفيف، لأن التذفيف لم يتمحص منهما. انتهى ملخصًا. ومقتضاه أنه لا فرق بين أن يكون المقارن لقطع الحلقوم والمريء مذففًا أم لا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1967) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

فأما الأول وهو المذفف فواضح، وأما الثاني فتوقف فيه الرافعي ومال إلى أنه يحل، فقال: ولك أن تقول: إن كان المقارن لقطع الحلقوم والمرئ مذففًا فيظهر التحريم لأن إضافة الزهوق إلى أحدهما ليست بأولى من الإضافة إلى الثاني. فأما إذا لم يكن مذففًا فيجوز أن يقال كما لا أثر له إذا تقدم على قطع الحلقوم والمرئ لا أثر له عند المقارنة. وبتقدير أن يؤثر ويمنع الإضافة إلى قطع الحلقوم والمريء مع كونه مذففًا، فينبغي أن يقال: إذا جرح جارح جراحة غير مذففة مع حز الرقبة من آخر، لا يختص الثاني بالقصاص. هذا كلامه وهو واضح حق لا إشكال فيه. قوله: وإن لم يكن فيه حياة مستقرة لم يحل، وذكر القاضي ابن كج أن أبا حفص ابن الوكيل، حكى فيه قولًا آخرًا أنها تحل والمذهب الأول. وهذا الخلاف في الشاة إذا مرضت فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت تحل؛ لأنه لم يوجد سبب يحال عليه الهلاك، ويحصل قتلًا. قال: ولو أكلت الشاة نباتًا مضرًا فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت، فقد ذكر -شيخي يعني: القاضي الحسين- فيه وجهين ثم قطع في كرة بنفي الحل؛ لأنا وجدنا سببًا يحال الهلاك عليه فصار كجرح السبع. انتهى كلامه. وحاصل ما ذكره حكمًا وتعليلًا وتشبيهًا أن الحيوان يحل بالذبح، إذا انتهى إلى عدم الحياة المستقرة بسبب المرض، وتابعه عليه في "الروضة". والمسألة مذكورة في مواضع حصل فيها اضطراب أوضحته في أوائل الجنايات في الطرف الرابع المعقود لاجتماع مباشرين. قوله: ومن الأمارات على بقاء الحياة المستقرة الحركة الشديدة بعد قطع

الحلقوم والمريء، وكذلك انفجار الدم وتدفقه، وذكر الإمام أن منهم من اعتمد على كل واحد منهما وأن الأظهر أن كلًا منهما لا يكفي لأنهما قد يحصلان بعد الانتهاء إلى حركة المذبوح، لكن قد ينضم إلى أحدهما أو كليهما قرائن أو أمارات أخر تفيد الظن [أو التعيين] (¬1) فيجب النظر والاجتهاد. انتهى. والأصح على ما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" الاكتفاء بالحركة الشديدة. قوله: ومهما كانت في ملكه بدنة أو شاة فقال: جعلت هذه ضحية، أو هذه ضحية أو عليَّ أن أضحي بها، صارت أضحية. وكذا لو جعلها هديًا، ثم قال: وشرط بعضهم أن يقول مع ذلك: لله تعالى. قال في "التهذيب": والمذهب الأول. وشبه ذلك بتوجيه العتق تنجيزًا على العبد، قال الإمام: تشبيهه بتعيين الشيء للوقف والحبس أقرب، فإن الأضحية لا تخرج عن المالية وإن تعينت كالعين المحبسة والعبد الذي وجه عليه العتق يخرج عن المالية بالكلية وهذا لا يسلمه الأولون بل صرحوا بزوال الملك عن الهدي. انتهى كلامه. والذي نقله -رحمه الله- عن الإمام سهو فإن الأضحية وإن خرجت عن ملكه فماليتها باقية لم تزل لأنها خرجت عن ملكه إلى ملك الفقراء، وكذلك في الوقف بخلاف العتيق فإنه خرج عن كونه مالًا، وهذا البحث لم يذكره في "الروضة" وكأن "الرافعي" تحرف عليه المالية بالمالك. قوله في "أصل الروضة": فلو قال ابتداءً: عليَّ التضحية بهذه البدنة أو الشاة، لزمه التضحية قطعًا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

وما ذكره من دعوى القطع ليس كما قاله؛ ولذلك لم يذكره الرافعي لأن هذا التزام لم يعلق على شيء، وفي صحته قولان مشهوران ثابتان في كتاب النذر. وأيضًا فلأن بعض الأصحاب يذهب إلى أن النذر لا يصح إلا إذا أضافه لله تعالى وقد حكاه هو في هذا الباب قبل هذا الموضع بقليل. قوله: من أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة كره أن يحلق شعره وأن يقلم ظفره حتى يضحي. وقيل: إنما يكرهان بعد العشر، وتعيين ما يضحى به، وفي قول: لا يكره القَلْم، وفي وجه: يحرمان انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": قال الشيخ إبراهيم المروزي في "تعليقه": حكم سائر أجزاء البدن [كالشعر] (¬1). والله أعلم. وهذه الزيادة التي ذكرها لم يوضح ما يستفاد منها فإنه قد سبق ذكر القَلْم، والشعر يتناول جميع ما على الجسد ولا شك أن ما يزال من أجزاء البدن قد تكون إزالته واجبة كختان البالغ، وقطع يد السارق والجاني بعد المطالبة ونحوها، وقد تكون مستحبة كختان الصبي، وقد تباح كقطع السن الموجعة وكذلك الفصد والحجامة ونحوها بشروط، فإن الدم من الأجزاء كما صرحوا به في كتاب الطلاق. فأما الأول فتأخير الواجب لا يجوز، فضلًا عن كونه مستحبًا. وأما الثاني فالتضحية من مال الصبي ممتنعة. وأما الثالث فالأمر بمقاساة الآلام وكراهة التأخير فيه بُعد، وقد تقدم أن الأضحية سُنَّة على الكفاية في حق أهل البيت. ¬

_ (¬1) في أ، ب: كالعشر.

وتقدم أيضًا من "زوائد" النووي عن المروروزي وصاحب "العدة" أنه لو ضحى عن نفسه وأشرك غيره معه في الثواب جاز. وحينئذ فقد يقال: صورته ما إذا كان في البيت صبي أو أشرك الصبي معه. ولقائل أن يمنعه وهو الأوجه ويقول: الأحاديث الواردة بالأمر، وعبارات الأئمة إنما دلت عليه في حق من أراد التضحية وهذا لم يردها. نعم أقرب ما تصور به الفصد والحجامة وقطع السلغة ونحو ذلك مما يؤتي به بغير ألم عاجل. قوله: ولو نذر أن يتصدق بمال بعينه زال ملكه عنه، بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد بعينه فإنه لا يزول ملكه عنه ما لم يعتقه؛ لأن الملك في الصدقات ينتقل إلى المساكين وفي العبد لا ينتقل إليه بل ينتقل عن الملك بالكلية. انتهى كلامه. وما ذكره في نذر الصدقة من زوال الملك قد خالفه في أوائل النذر، وسأذكر لفظه فيه هناك إن شاء الله تعالى.

النظر الثاني في أحكام الأضحية

قال -رحمه الله-: النظر الثاني في أحكام الأضحية قوله: كما لا يصح بيع الأضحية لا يصح إجارتها ويجوز إعارتها لأنها إرفاق، ولو أجرها فركبها المستأجر فتلفت ضمن المؤجر قيمتها والمستأجر الأجرة. ثم هل يكون مصرفها مصرف الضحايا أم الفقراء، فقط؟ وجهان في "البحر" انتهى. فيه أمور: أحدها: أن تقييد ضمان الأجرة بركوب المستأجر لا يستقيم؛ لأن الأجرة في الإجارة الفاسدة تستقر بما يستقر به المسمى في الإجارة الصحيحة لو كانت ملكًا له فما ليس ملكه بطريق الأولى. ولا يشترط لاستقرار المسمى في الإجارة الصحيحة نفس الانتفاع بل مضي الزمان عند المستأجر فكذلك هاهنا. الثاني: أن القياس في هذه المسألة أن يضمن كلًا من المؤجر والمستأجر القيمة والمنفعة وقرارهما على المستأجر إن علم، فإن لم يعلم فالقرار في الأجرة عليه وفي العين على المؤجر في الأصح لتغريره، وسيأتي في آخر الباب الثالث من أبواب الرهن في نظير المسألة ما ذكرناه. نعم ذكر في الغصب أن المغصوب الموهوب قراره على الموهوب له في الأصح، وعلله بأنه أخذه للتملك فاعلمه. الأمر الثالث: أن الأصح من الوجهين في الأجرة أنها تصرف مصرف الضحايا كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة".

الأمر الرابع: أن كلامهما يشعر بأنها لو تلفت في يد المستعير لم يجب ضمانها، وهو كذلك وسببه أن المعير وإن لم يكن مالكًا إلا أن يده ليست يد ضمان وكذلك من أثبتت يده عليه وهذا بعينه قد ذكره الرافعي وغيره في المستعير من المستأجر ومن الموصي له بالمنفعة. قوله: فإن فرض إتلاف فينظر إن وجد من أجنبي فعليه القيمة يشتري بها مثل الأولى فإن تعذر فدونه، فإن لم يجد بالقيمة ما يصلح للأضحية، ففي "الحاوي": أنه يلزم الناذر أن يكمل من عنده، والصحيح عند الجمهور أنه لا شيء عليه لعدم تقصيره. فعلى هذا فوجهان أصحهما على ما ذكره الروياني أنه يلزمه شراؤه والذبح مع الشريك. والثاني: يجوز إخراج القيمة لأن في شراء الشقص مشقة، ويحكى هذا عن أبي إسحاق، وقيل: يشتري به لحمًا ويتصدق به، ورتب الماوردي هذه الصور ترتيبًا حسنًا، فقال: إن كان المتلف ثنية ضأن مثلًا ولم يمكن أن يشتري بالقيمة مثلها وأمكن شري جذعة ضأن وثنية معز تعين الأول رعاية للنوع، وإن أمكن ثنية معز ودون جذعة ضأن فيتعين أيضًا الأول، لأن الثاني لا يصلح للتضحية. وإن أمكن دون الجذعة، وشري سهم في ضحية تعين أيضًا لأن التضحية لا تحصل بواحد منهما، والأول إراقة دم كامل. وإن أمكن شري سهم وشرى لحم فالأول أيضًا متعين لأن فيه شركة في إراقة دم. وإن لم يمكن إلا شرى اللحم وتفرقة الدراهم تعين الأول لأنه مقصود الأضحية. انتهى.

والذي صححه الروياني قد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبّر: بالأصح وكذلك النووي في "شرح المهذب" و"الروضة". ولم ينبه فيها على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي، فتفطن له فإنه غريب. وقد جزم الرافعي في كتاب "الوقف" في الكلام على ما إذا أتلف الموقوف بخلافه، فقال: وهذا الخلاف فيما إذا أتلف الأضحية، ولم يوجد بقيمتها إلا شقص شاة لأنه لا يضحي بشقص الشاة. انتهى. والصواب الإجزاء كما هو المذكور هنا تعميمًا وتصريحًا وصَرّح به أيضًا الإمام وغيره. قوله: فإن قلنا بالوجه الثاني فقد أطلق مطلقون أنه يتصدق بها وعبارة الإمام: أنه يصرفها مصرف الضحايا، حتى لو أراد أن يتخذ منه خاتمًا يقتنيه ولا يبيعه كان له ذلك، وهذا أوجه، ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق، بل المراد أن لا يجب شقص ويجوز إخراج الدراهم. وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا. انتهى. قال في "الروضة": هذا الذي حكاه عن الإمام من جواز اتخاذ الخاتم تفريع على جواز الأكل من الأضحية الواجبة. قوله: وإن وجد إتلاف من المضحي فوجهان ذكرهما الإمام: أحدهما: أن الواجب عليه قيمة يوم الإتلاف كالأجنبي. وأصحهما: أنه يلزمه أكبر الأمرين من قيمته، وتحصيل مثله. انتهى. وحاصل ما ذكره هنا وفي كلام آخر بعده متصل به أنه يجب أن يشتري بالقيمة من جنس التالف، ثم إن الرافعي ذكر المسألة أيضًا في أواخر النذر في أثناء كلام أوله: قال: وإذا قال لله عليَّ أن أضحي ببدنة، وذكر فيها

خلافًا لم يذكره هنا بالكلية، فقال: وفي طريقة الصيدلاني حمل النص على ما إذا عين بعيرًا، وقال: لله على أن أهدي هذا، ثم أتلفه، فعليه أن يأتي بمثله، وذكر الأصحاب وجهين في أنه يتخير بين بدنة مثلها وبين البقر والغنم أو هي على الترتيب. انتهى. وهذا الخلاف أسقطه من "الروضة" هناك فكأنه توهم أن ذكره سبق منه هاهنا. قوله في "الروضة": وإذا ذبح أجنبي الأضحية المعينة وجب عليه الأرش على الأصح المنصوص. ثم قال: وهل هو للمضحي أو للمساكين؟ أو يسلك به مسلك الضحايا؟ فيه أوجه أصحها: الثالث. فعلى هذا يشتري به شاة فإن لم يتيسر عاد الخلاف السابق أنه يشتري به جزء ضحية أو لحم أو يفرق بنفسه. انتهى. وقد أهمل من الوجوه الأخيرة وجهًا آخرًا ذكره الرافعي، فقال عقب حكايته كما في "الروضة": وقيل: هو مُخيّر بين أن يصرفه إلى آخره وبين أن ينتفع به ولا يبيعه. قوله: ولو ذبح أجنبي الأضحية المعينة وأتلف لحمها فقولان: الجمهور: أنه يضمن قيمتها عند الذبح. والثاني: يضمن بالأكثر من قيمتها وقيمة اللحم، وروى بعضهم بدل الثاني: أنه يغرم أرش الذبح وقيمة اللحم، ثم قال: ولا اختصاص لهذه الحالات بصورة الضحية، بل يطرد في كل من ذبح شاة إنسان ثم أتلف اللحم. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة"، واعلم أن الشاة متقومة واللحم مثلي على

الصحيح، وقد ذكر في باب الغصب أن من غصب متقومًا ثم صار مثليًا ثم تلف يلزمه قيمة المتقوم وإن كانت أكثر قيمة من قيمة المثلى، وإن كانت أقل أو استويا لزمه المثل، وقد ذكرت مسألة الغصب في بابها فراجعها. قوله: ولو أشار كذاب عبث فقال: جعلت هذه أضحية، أو نذر أن يضحي بها وجب ذبحها لالتزامه ويثاب عليها ولكن لا تجزئ عن الضحايا المشروعة. وهل يختص ذبحها بيوم النحر وتجري مجرى الضحايا في المصرف؟ فيه وجهان: أحدهما: لا. لأنها ليست أضحية. وأصحهما: نعم لأنه أوجبها باسم الأضحية ولا محمل لكلامه إلا هذا. فعلى هذا لو ذبحها قبل يوم النحر تصدق بلحمها ولا يأكل منه شيئًا، وعليه قيمتها يتصدق بها. انتهى. وحاصله أنه لما عَبّر بالأضحية وتعذر وقوعها أضحية، حملنا التعبير بها على إرادة حكمها وهو تعيين الوقت والمصرف للضرورة، ويكون كالمصرح بها. إذا علمت هذا فما ذكره من تعيين المصرف مُسَلّم، وأما الوقت حتى يمتنع التقديم فعجيب؛ لأنه لو صرح به فقال: لله تعالى عليَّ أن أتصدق بهذا في يوم كذا، جاز التقديم عليه، كما سبق إيضاحه في باب الاعتكاف فغير الملفوظ به وهو المقدر للضرورة بطريق الأولى. قوله: فأما إذا تعيبت المعينة ابتداءً أو عما في الذمة بفعله فعليه ذبح صحيحة وفي انفكاك المعينة عن حكم الالتزام الخلاف الذي سبق. انتهى كلامه.

والأصح من ذلك الخلاف السابق هو الانفكاك وعودها إلى الملك. كذا صرح به قبل هذا بنحو ورقة فقال: إنه الأصح المنسوب إلى النص، وحينئذ فيكون الأصح هنا العود أيضًا على مقتضى ما قاله الرافعي. إذا علمت هذا فاعلم أن ما قاله في المعينة عمّا في الذمة صحيح، وأما المعينة ابتداءً فقد خرج فيها قبل ذلك بعدم العود، فقال في أول الحكم الثاني في الكلام على التي عينت ابتداءً ما نصه: ولو تعيبت يوم النحر قبل التمكين من الذبح فيذبحها ويتصدق بلحمها وإن تعيبت بعد التمكن يذبحها ويتصدق بلحمها أيضًا، وعليه ذبح بدلها وتقصيره بالتأخير كالتعيب. هذا كلامه. ثم ذكر بعده أن المعينة عما في الذمة تعود إلى ملكه بالتعيين على الصحيح كما تقدم نقله عنه، والذي يظهر أن الموضع الأول وقع سهوًا وقد تابعه في "الروضة" على هذا الاختلاف. قوله: ولو ذبح الأضحية المنذورة يوم النحر أو الهدي المنذور بعد بلوغ المنسك ولم يفرق اللحم حتى تغير وفسد فعليه قيمة اللحم ويتصدق بها ولا يلزمه شراء شيء آخر لأنه حصلت إراقة. وكذا لو غصب اللحم غاصب وتلف عنده أو أتلفه متلف يأخذ القيمة ويتصدق بها. انتهى كلامه. تابعه عليه في "الروضة" وهو يحتمل أن يكون مفروضًا في المعين ابتداء؛ ويحتمل أن يكون في الذبح عما في الذمة، وعلى كل حال لا يستقيم إخراج القيمة. أما الأول وهو المعين ابتداء، فلأن اللحم المذكور ملك للفقراء، إذ يملكونه بمجرد النذر، واللحم مثلي على الصحيح كما صححناه في باب الغصب، فجزمهما هنا بإخراج القيمة مخالف لما صححناه هناك. وأما الثاني فلأن الحق واجب في الذمة ولا يزال كذلك حتى يملكه

الفقراء وهم لا يملكونه إلا بالقبض، فكيف يحسن الاكتفاء بالقيمة عن اللحم، وهي عندنا لا تجزيء وإنما يحسن الاكتفاء بها، أن لو أتلفه بعد قبضهم إياه، وقد ذكر المسألة على الصواب في آخر كتاب الحج، وصحح وجوب الذبح أو إخراج اللحم، وضعف وجوب القيمة فقال في آخر باب الدماء الواجبة على المحرم: وإذا ذبح المحرم في الحرم فسرق منه لم يجزئه عما في ذمته وعليه إعادة الذبح، أو شراء اللحم والتصدق به، وفيه وجه أنه يكفي التصدق بالقيمة. هذا لفظه بحروفه. زاد في "الروضة" على هذا بتصريح تضعيف الوجه، فقال: وفيه وجه ضعيف، فتلخص أن ما ذكراه في هذا الفرع مردود، وسيجيء بعد هذا كلام آخر متعلق بما نحن فيه فينبغي استحضاره مع المذكور هنا. قوله: وإن مضى بعض أيام التشريق ثم ضَلّت فهل هو تقصير حتى يضمن؟ فيه وجهان. انتهى. والراجح في هذه والمسألة على ما ذكره الرافعي فيها وفي نظائرها أنه يضمن فقد قال في أوائل الحكم الثاني: فلو قال: جعلت هذه البدنة أو الشاة أضحية أو نذر أن يضحي ببدنة أو شاة عينها، فماتت قبل يوم النحر أو سرقت قبل أن يتمكن من الذبح يوم النحر فلا شيء عليه، وكذا الهدي المعين إذا تلف قبل بلوغ المنسك أو بعده وقبل التمكن من الذبح. انتهى. فاشتراطه في عدم الضمان أن تكون السرقة أو التلف قبل التمكن دليلًا على أنه يضمن إذا حصل بعده، وذكر أيضًا في آخر هذا الحكم ما هو أصرح منه فقال: وإذا تمكن من ذبح الهدي بعد بلوغ المنسك، أو من ذبح الأضحية يوم النحر فلم يذبح حتى تلفت فهو كالإتلاف لتقصيره بتأخير الذبح. انتهى. وذكر أيضًا في أول النوع الثاني مثله وأبلغ منه فقال: ولو تعيبت يوم

النحر قبل التمكن من الذبح فيذبحها ويتصدق بلحمها، وإن تعيبت بعد التمكن يذبحها ويتصدق بلحمها أيضًا، وعليه ذبح بدلها وتقصيره بالتأخير كالتعيب. هذا كلامه. ووافق النووي في "الروضة" على هذه المواضع فجزم بها كما جزم بها الرافعي، ثم ذهل عن ذلك كله فرجح من زوائده عقب الوجهين المذكورين في صدر المسألة عدم الوجوب فقال: قلت: الأرجح أنه ليس بتقصير كمن مات في أثناء وقت الصلاة، والله أعلم. وصَرّح بتصحيحه أيضًا في "شرح المهذب". ومن نظائر المسألة ما إذا حلف ليأكلن الرغيف غدًا فتلف من الغد بعد التمكن من أكله والصحيح فيه الحنث. ومنها: إذا مات في أثناء يوم العيد قبل إخراج الفطرة وقد ذكرت فيها كلامًا ينبغي الوقوف عليه في كتابنا المسمى "بالهداية إلى أوهام الكفاية" ومنها: تلف الصيد بعد الإحرام وقبل التمكن من الإرسال، وقد سبق إيضاحه في الحج. قوله: فإن عين هديًا أو أضحية عما ثبت في ذمته فَضَلّ ما عينه بقي الأصل في ذمته عند الجمهور، فإن ذبح واحدة عما عليه ثم وجد الضالة فهل يلزمه ذبحها؟ فيه وجهان، وقيل: قولان: أصحهما: على ما ذكر في "التهذيب" أنه لا يلزم. والثاني: يلزم وهو ما أورده ابن الصباغ. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، والذي صححه البغوي هو الصحيح، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبَّر: بالأصح. قوله في "أصل الروضة": فلو عين عن الضالة واحدة ثم وجدها قبل

ذبح البدل فأربعة أوجه: أحدها: يلزمه ذبحهما معًا. والثاني: يلزمه ذبح البدل فقط. والثالث: ذبح الأصل فقط. والرابع: يتخير بينهما. انتهى. والأصح من هذا الخلاف هو الثالث، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأظهر، والنووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": إنه الأصح، وفي "الرافعي" إشعار بترجيحه لمن تأمله، ولكن حذفه من "الروضة". قوله: ولو عَيّن من عليه كفارة عبدًا عما عليه ففي تعيينه خلاف، والذي أجاب به الشيخ أبو حامد: أنه يتعين. انتهى. والمشهور الذي نص عليه الشافعي هو التعيين ومقابله قول مُخَرّج كذا ذكره الرافعي في باب الإيلاء فقال: المنصوص وقول عامة الأصحاب: أنه يتعين. هذا لفظه. ثم قال: واختار المزني أنه لا يتعين، وخَرّجه على أصل الشافعي، واستشهد بأن نظيره من الصوم لا يتعين على المنصوص، وبه قال الأكثرون. ولو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاص معينين فالأكثرون ما نقله القاضي: أنه لا يتعين، فقد صحح في "الروضة" هنا من "زوائده" التعيين في العبد ولم يستحضر ما سبق في الإيلاء. قوله: فكل هدي وجب ابتداءً من غير التزام كدم التمتع والقران ودماء الجبرانات في الحج لا يجوز الأكل منه.

فلو أكل منها شيئًا غرمه ولا يجب إراقة الدم ثانيًا، وفيما يغرم ثلاثة أوجه: أظهرها: ويحكي عن نصه في القديم: أنه يغرم قيمة اللحم، كما لو أكله أو أتلفه غيره. والثاني: أنه يلزمه مثل ذلك اللحم، لأنه لو أتلف الشاة التي عينها لما عليه أو أتلف الهدي لزمه مثله، فكذلك إذا أتلف بعضه لزمه مثله. والثالث: عليه أن يشتري شقصًا من حيوان مثله ويشاركه في الذبح لأن ما أكله بطل إراقة الدم فيه، فصار كما إذا ذبح وأكل الجميع يلزمه دم آخر ثم قال بعد ذلك: وحيث لا يجوز الأكل من الأضحية المنذورة، فلو أكل ففي ما يغرم الوجوه الثلاثة. انتهى كلامه. وقد اشتمل على أنه إذا أكل البعض أجنبي لزمه القيمة وإن أكله هو فكذلك على الصحيح، وإن أكل الجميع لزمه دم آخر وتابعه على ذلك في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به هنا من غرامة القيمة للفقراء، قد جزم بعكسه في [الباب] (¬1) الذي يليه المعقود للأكل من الأضحية المتطوع بها، فإنه قال إذا أكل الجميع ضمن ما يطلق عليه الاسم. وقيل المقدار المستحب. وقيل: الكل. ثم قال ما نصه: ثم ما ضمنه على الخلاف السابق لا يتصدق به ورقًا وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية أم يكفي صرفه إلى اللحم وتفرقته؟ وجهان. هذا لفظ النووي في "الروضة"، ونقله الرافعي عن الروياني ¬

_ (¬1) في ب: الفصل.

وأقره. وهو اختلاف عجيب، فإن المتطوع بها لم يحب فيها إراقة الدم فإجزاء القيمة فيها أقرب من إجزائها في الواجبة على عكس ما قال. الأمر الثاني: أن ما ذكره من إيجاب الدم عند أكل الجميع مخالف لكلام ذكره في آخر الحج، ونقلناه عنه قبيل هذا بقليل فإنه خير هناك بين الدم وبين إخراج اللحم. إلا أنه فرض المسألة هناك في سرقة اللحم، وفرضه هنا في أكله، ولا أثر لاختلاف هذا التصوير، إلا أن يقال: لَمّا أكله تبينا أن إراقة الدم كان لأجل ذلك فيلزمه إعادته بخلاف السرقة. قوله: فإن علق التزام الأضحية أو الهدي بشفاء المريض وقدوم الغائب حرم عليه الأكل، فإن أطلق الالتزام فوجوه، ثم قال: وبالمنع قال أبو إسحاق، وذكر المحاملي أنه المذهب والجواز هو اختيار الإمام والقفال. وفي "العدة": إنه المذهب. ويشبه أن يتوسط فيرجع في المعين الجواز، وفي المرسل المنع سواء عَيّن عينه ثم ذبح المعين أو ذبح بلا تعيين لأنه عن دين في الذمة كجبرانات الحج. وإلى هذا ذهب صاحب "الحاوي" وعليه ينطبق سياق الشيخ أبي عليّ. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره عن الماوردي في الهدي والأضحية ليس كذلك إنما نقله الماوردي في الأضحية خاصة، وأما الهدي فإنه ذكر فيه الخلاف، وصحح المنع ولم يتعرض للتفصيل. الثاني: أن ما رجحه في المعينة من جواز الأكل قد ذكر قبل ذلك في أول الحكم الثاني ما يخالفه، فقال: وإن تعيبت -أي المعينة- يوم النحر

قبل التمكن فيذبحها ويتصدق بلحمها. وذكر أيضًا بعد هذا بدون ورقة نقلًا عن "التهذيب" من غير إنكار عليه ما يوافقه، وصرح فيه بأنه لا يأكل منها شيئًا، وذكر أيضًا في آخر الباب في الكلام على ولد الأضحية، ما حاصله: أنه يجوز الأكل في المعينة عما في الذمة، فتأمله. ولهذا قال: ويجوز أن يعلم قول "الوجيز" وولد الأضحية له حكم الأم بالواو لأنه يتناول المعينة ابتداء، والمعينة عما في الذمة، وفي الثانية خلاف كما عرفت. هذا لفظه. قوله: قال العلماء: كان ادخار الأضحية فوق الثلاث منهيا عنه لأجل الدافة وهم جماعة كانوا دخلوا المدينة قد أقحمتهم السنة في البادية، والمشهور أن النهي أولًا كان نهي تحريم، وعن صاحب "الإفصاح" أنه يحتمل الإرشاد والاستحباب وذكروا تفريعًا على الأول وجهين في أن ذلك التحريم كان عامًا ثم نسخ، أو كان مخصوصًا بتلك الحالة الحادثة فلما أنهيت انتهى التحريم. ووجهين تفريعًا على الثاني في أنه لو حدث مثل ذلك في زماننا وبلادنا هل يحكم بالتحريم، والظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذلك كله والصحيح أن النهي كان مخصوصًا بحالة الضيق والصحيح أيضًا: أنه إذا حدث ذلك في زماننا أنه يعود المنع على خلاف ما رجحه الرافعي، فقد نص الشافعي على ذلك كله فقال في "الرسالة" في آخر باب العلل في الحديث ما نصه: فإذا دفت الدافة [ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث. وإن لم تدف دافة] (¬1) ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة. قال الشافعي: ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخ في كل حال. هذا لفظه بحروفه ومن "الرسالة" نقلته. واعلم أن الدافة: بالدال المهملة والفاء المشددة، هي الطائفة القادمة من البادية لما أصابهم من المجاعة مشتقة من الدفيف وهو السير اللين. وأما أقحمتهم فمعناه: أهلكتهم، مشتق من القُحمة بضم القاف وإسكان الحاء المهملة وهو الهلاك. وأما السنة فهو العام المجدب قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} (¬1) أي أهلكناهم بالأعوام المجدبة. قوله: وقال الغزالي في "الوجيز": ويتأدى كمال الشعار بأن يتصدق بالثلث ويأكل الثلث ويدخر الثلث، ثم قال: ثم التثليث بالكيفية التي أوردها بعيد نقلًا ومعنى. أما النقل: فإنه لا يكاد يوجد في كتاب متقدم ولا متأخر ولا في "النهاية" ولا في "الوسيط" تصريح بذلك. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله الغزالي منقول في المذهب ثابت، وإنكار الرافعي عليه هو المنكر المردود فقد صرح القاضي الحسين في "تعليقه" بحكاية ما قاله الغزالي، قولًا للشافعي وزاد على حكايته فنقله عن الجديد وجعل مقابله قولًا قديمًا، وشتان بين الكلامين حيث تكون المقالة هي الجديد ويدعي فيها أنها لم توجد لأحد، وهذا الكتاب أعني "تعليقة" القاضي هي من جملة الأصول الكبار التي فاتت الرافعي فلم يقف عليها، وقد أنكر النووي في "الروضة" أيضًا هذه المقالة تبعًا للرافعي، وكذلك في "شرح المهذب". ¬

_ (¬1) سورة الأعراف (130).

قوله: وإن عينت عما في الذمة فحكم الولد كما ذكرنا في المعينة بالنذر ابتداءً وفي "الشامل" لابن الصباغ وجه آخر: أنه لا يتبعها الولد فتكون ملكًا للمضحي والمهدي لأن ملك الفقراء غير مستقر في هذه، ألا ترى أنها لو غابت عادت إلى ملكه. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وهو يقتضي أن الحمل في الأضحية ليس بعيب لأنه لا يجوز تعيين المعيب عما في الذمة، فلو كان الحمل عيبًا لكان مانعًا للإجزاء سواء كان مقارنًا للتعيين أم طارئًا بل تعليله بقوله: أنها لو غابت عادت إلى ملكه صريح في ذلك أيضًا وما دل عليه كلام الرافعي قد نقل ابن الرفعة التصريح به عن "شرح الوسيط" للعجلى وعن "الإفصاح" للصيمري ونقل عن حكايته وجهًا أنه عيب ثم قال -أعني ابن الرفعة: إن المشهور خلافه. وقد رأيت ما قاله ابن الرفعة في كلام العجلي فكأنه لم يظفر بكونه عيبًا إلا في هذا الكتاب، ولهذا لم ينقله عن غيره وادعى عدم شهرته. وذلك في غاية العجب فقد صرح بكونه عيبًا في الأضحية خلائق كثيرة منهم صاحب "التتمة" في كتاب الزكاة في الكلام على الخلاف بين الشافعي وداود في أن الحامل هل تجزئ في الزكاة أم لا؟ ، ونقله هو عنه في ذلك الموضع وأقره ولم يحك خلافه ولم يتعقبه بإنكار ولا تضعيف، وجزم به أيضًا هناك شيخ الأصحاب الشيخ أبو حامد، في "تعليقه" والعمراني في كتاب "البيان" والنووي في "شرح المهذب" نقلًا عن الأصحاب فقال ما نصه: قال القاضي أبو الطيب: قال الأصحاب: إنما قلنا: لا تجزئ الحامل في الأضحية لأن المقصود من الأضحية اللحم، والحمل يهزلها، ويقل بسببه لحمها فلا تجزئ والمقصود من الزكاة كثرة القيمة.

هذا لفظه من غير اعتراض عليه. ورأيته أيضًا في "الذخيرة" للبندنيجي في باب صدقة الغنم في آخر المسألة الثانية منه مجزومًا به وفي "شرح المهذب" المسمى "بالاستقصاء" في كتاب الأضحية نقلًا عن الأصحاب. وبالجملة فيها وأئمة المذهب قد جزموا به، وهذه كتبهم شاهدة فمن أحب الوقوف على ذلك فليقف فقد أعلمناه مواضعها، ولعل السبب في قول ابن الرفعة ذلك أن المسألة مذكورة في غير مظنتها، وذكر الرافعي أيضًا ما يؤيده في كتاب البيوع في آخر خيار النقص فقال: وأطلق بعضهم أن الحمل الحادث عيب؛ لأنه في الجارية يؤثر في النشاط والجمال وفي البهيمة ينقص اللحم ويضر بالحمل عليها. هذا لفظه، وهو كالصريح فيه لأن تنقيص اللحم هو ضابط عيوبها، وذكر أيضًا قريبًا منه في كتاب الصداق. قوله: بعد ذكر ولد الأضحية الواجبة والمتطوع بها: ثم إذا ذبح الولد والأم ففي تفرقة لحمها وجوه: أحدها: أنه يسلك بلحم كل واحد منهما [مسلك الضحايا يتصدق من كل واحد منهما] (¬1) بشيء لأنهما أضحيتان، قال الروياني: وهو المذهب. والثاني: يكفي التصدق من أحدهما لأن الولد بعض منها. والثالث: أنه لابد من التصدق من لحم الأم لأنها الأصل. والوجهان الأخيران يشتركان في تجويز [أكل] (¬2) جميع الولد وهو الذي صححه صاحب "الكتاب". انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وفيه أمور: أحدها: أن هذا الذي صححه الغزالي من أكل الجميع هو الصحيح فقد جزم به في "المحرر" فقال: فصل: يجوز الأكل من أضحية التطوع، ثم قال: وولد الأضحية الواجبة سواء كانت معينة في الأصل أو عينت عما في الذمة، له حكم الأم، يذبح معها لكن يجوز أكل جميعه هذا لفظه. وتبعه عليه في "المنهاج". الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" اختصر كلام الرافعي على غير وجهه، فإنه نقل عن الغزالي أنه صحح وجوب التصدق بشيء من لحم الأم فالرافعي إنما نقل عنه جواز أكل الولد كما تقدم وهو يصدق مع كل من الوجهين الأخيرين. الأمر الثالث: أن القول بوجوب ذبح الولد مع جواز أكل جميعه مدركه أن الولد كالجزء فجاز أكله كما يأكل يد الأم ورجلها وحينئذ فيلزم بالضرورة من جواز أكل جميع الولد [جواز الأكل من الواجب بل الأكل من الواجب أولى] (¬1)، فإن بعض من جوز الأكل من الواجب منع أكل جميع الولد، وقال: لابد أن يتصدق بشيء منه، لكونه كأضحية مستقلة. وإذا علمت ذلك علمت أن ما قاله في "المحرر" من منع الأكل من الواجب مع جواز أكل الولد كلام غير منتظم وإن كان قد وقع أيضًا في "المنهاج" وفي "الروضة" فإنه صحح من "زوائده" جواز أكل جميعه. قوله: فإذا ضَحّى بشاة فوجد في بطنها جنينًا فيمكن أن يطرد فيه هذا الخلاف ويمكن أن يقطع بأنه بعضها. انتهى. قال في "الروضة": ينبغي أن يبني هذا على الخلاف المعروف في أن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الحمل له حكم وقسط من الثمن أم لا؟ فإن قلنا: لا، فهو بعض كبدها وإلا فالظاهر طرد الخلاف ويحتمل القطع بأنه بعض والأصح على الجملة أنه يجوز أكل جميعه هذا كلامه. وذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا. قوله: ويجوز ركوب الهدي والأضحية المنذورين وإركابهما بالعارية والحمل عليهما من غير إجحاف فإن نقصا بذلك ضمن. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن جواز الركوب والإركاب مشروط بالحاجة إليه، كذا نص عليه الشافعي فقال: ويركب الهدي إن اضطر إليه ركوبًا غير قادح ويحمل المضطر عليها، هذا لفظه. حكاه الماوردي فعلى هذا لا يجوز ذلك للقادر على المشي إذا ركب مترفهًا ككثير من الناس. ولا للقادر على غيرهما بملك أو إجارة وفي الإعارة نظر. وذكر النووي في باب الهدي من "شرح المهذب" نحو ما ذكره الشافعي، فقال: يشترط أن يحتاج إلى ذلك. وقال الماوردي: يجوز بلا ضرورة، هذا كلامه. الأمر الثاني: أن تقييد الشافعي بغير القادح، والرافعي بغير إجحاف، قد فسره ابن الرفعة في "الكفاية": بأن لا يلحق الحيوان بذلك مشقة، وقد سبق في أوائل الكلام على أحكام الأضحية أمور متعلقة بالمسألة فراجعها. قوله في "الروضة": السابعة: لو اشترى شاة فجعلها ضحية ثم وجد بها عيبًا قديمًا، لم يجز ردها لزوال الملك عنها كمن اشترى عبدًا فأعتقه، ثم علم به عيبًا لكي يرجع على البائع بالأرش.

وفي ما يفعل به وجهان: أحدهما: يصرف مصرف الأضحية، فينظر أيمكنه أن يشتري به أضحية أو جزءًا أم لا؟ ويجوز فيه ما سبق في نظائره، وفرقوا بينه وبين أرش العيب بعد إعتاق العبد، بأنه الذي أعتقه. فإن المقصود من العتق تكميل الأحكام، والعيب لا يؤثر فيه، والمقصود من الأضحية اللحم ولحم المعيب ناقص. والوجه الثاني: أنه للمضحي لا يلزمه صرفه للأضحية؛ لأن الأرش لسبب سابق للتعيين، وبالوجه الأول قال الأكثرون. لكن الثاني أقوى، ونسبه الإمام إلى المراوزة وقال: لا يصح غيره، وإليه ذهب ابن الصباغ والغزالي والروياني. قلت: قد نقل في "الشامل" هذا الثاني عن أصحابنا مطلقًا ولم يحك فيه خلافًا فهو الصحيح، والله أعلم. وهذا الذي نقله النووي في "زياداته" من أن صاحب "الشامل" نقل عن الأصحاب أنه للمالك ثم استند إلى ذلك فصححه، غلط فاحش فإن الذي ذكره صاحب "الشامل" إنما هو الأول فمن أحب الوقوف عليه فليراجع كلامه. قوله: في "مجموع أبي الحسن ابن المرزبان": أن من أكل بعض الأضحية وتصدق ببعضها هل يثاب على الكل أو على ما تصدق؟ . وجهان كالوجهين في من نوى صوم التطوع ضحوة، هل يثاب من أول النهار، أو من وقته؟ وينبغي أن يقال له: ثواب التضحية بالكل والتصدق بالبعض. انتهى. قال النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": إن ما قاله

الرافعي هو الصواب الذي تشهد به الأحاديث والقواعد. قال: وممن جزم به تصريحًا الشيخ الصالح إبراهيم المروذي، والوجهان المذكوران حكاهما الدارمي في "الاستذكار" عن حكاية ابن القطان وهو شيخ المرزبان المتقدم. قوله نقلًا عنه أيضًا: إن في جواز الصرف من الأضحية إلى المكاتب وجهين، في وجه يجوز كالزكاة. انتهى. والأصح على ما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": هو الجواز. قوله نقلًا عن "البحر": ومن ضحى بعدد فليفرق على أيام الذبح، فإن كان شاتين ذبح شاة في اليوم الأول، والأخرى في آخر الأيام. انتهى. قال في "الروضة": هذا الذي قاله وإن كان أرفق بالمساكين إلا أنه خلاف السنة فقد نحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم واحد مائة بدنة أهداها (¬1). فالسنة التعجيل والمسارعة إلى الخيرات إلا ما ثبت خلافه. قوله: وخرج في نقل الأضحية المنذورة وجهان من القولين في نقل الزكاة. انتهى كلامه. وما ذكره من تخريجها على خلاف الزكاة تابعه عليه في "الروضة"، وهو يشعر بتصحيح المنع، ولكن الصحيح هو الجواز فاعلمه فإنهما قد صححا في كتاب قسم الصدقات جواز نقل المنذور، وهذه الأضحية فرد من أفرادها. ¬

_ (¬1) تقدم.

الكلام على العقيقة

قال -رحمه الله-: الكلام على العقيقة قوله: العقيقة جزعة ضأن أو ثنية معز كالأضحية. وفي "الحاوي": أنه يجزئ ما دونهما. انتهى. وتعبيره بالجذعة والثنية أعني بالتأنيث، ذكره الرافعي أيضًا، وهو تعبير عجيب كالصريح في عدم إجزاء الذكر مع أنه يجزئ بلا نزاع بل أولى على قياس الأضحية. قوله: والأحب ذبحها في اليوم السابع من الولادة، ويدخل يوم الولادة في السابع، وفي وجه: لا يدخل. انتهى. وما صححه هنا من دخول يوم الولادة في السبعة تابعه عليه في "الروضة" هنا وذكر قبل ذلك في كتاب موجبات الضمان في الكلام على الختان، وفي غيره من كتبه أيضًا ما يخالفه وقد سبق هناك بيانه. فإن الفتوى على عدم الدخول. قوله: فإن أُخِّرت إلى البلوغ سقط حكمها في حق غير المولود، وهو مُخير في العقيقة عن نفسه، واستحسن القفال الشاشي أن يقوم بها، ويروى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن نفسه بعد النبوة (¬1). وعن نصه في "البويطي": أنه لا يفعل ذلك واستغربوه. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (944) والبيهقي في "الكبرى" (19056) وابن عدي في "الكامل" (4/ 133) من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال البيهقي: منكر. وفيه عبد الله بن محرر، وهو ضعيف جدًا. وقال النووي: هذا حديث باطل. إلا أن الشيخ الألباني صححه بمجموع طرقه فراجعها في "الصحيحة" (2726).

والنص المذكور في البويطي ليس في عين المسألة فإنه قال: ولا يعق عن كبير. هذا لفظه بحروفه ومنه نقلت، وسياقه يدل على أن المراد أنه لا يعق عنه غيره ولم ينف عقه عن نفسه. قوله: وإنما يعق عن المولود من تلزمه نفقته، ولكن روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن والحسين -رضي الله عنهما- (¬1) وكأنه مأول. انتهى. وتأويله كما قال النووي وغيره: على أشياء منها: أن أبويهما كانا عند ذلك معسرين فيكونان في نفقة جدهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والحديث أخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما من رواية عائشة (¬2). قوله: ويستحب أن يعق عن من مات بعد الأيام السبعة وإمكان الذبح، وقيل: إنها تسقط. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وهو كالصريح في سقوط العقيقة عن من مات قبل السابع أو بعده. وقيل: إمكان الذبح لأنه لم يدرك الوقت المطلوب إيقاعها فيه أو لم يتمكن وهذا الذي جزم به ابن الرفعة في "الكفاية" في ذيل كلام نقله عن "البحر" عن الأصحاب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2841) والنسائي (4219) والطبراني في "الكبير" (2567) والبيهقي في "الكبرى" (19050) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 116) وابن الجارود في "المنتقى" (911) والخطيب في "التاريخ" (10/ 151) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وصححه عبد الحق الأشبيلي في "الأحكام الكبرى" والألباني وغيرهما. (¬2) أخرجه ابن حبان (5311) والحاكم (7588) وأبو يعلي (4521) وعبد الرزاق (7963) والبيهقي في "الكبرى" (19055) وابن عدي في "الكامل" (6/ 226) من حديث عائشة -رضي الله عنهما-. وفي الباب عن جابر، وعلي، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأنس -رضي الله عنهم- أجمعين.

وجزم النووي في آخر باب العقيقة من "شرح المهذب" بالاستحباب. فقال: فرع: لو مات المولود قبل السابع استحبت العقيقة عندنا. هذه عبارته مع ذكره في أول الباب ما ذكره الرافعي. قوله: ويكره لطخ رأس المولود بدم العقيقة. انتهى. تابعه في "الروضة" على الكراهة، لكن المشهور تحريم التلطيخ بالنجاسة. ويحرم على الولي أن يفعل به شيئًا من المحرمات على المكلفين، كسقيه الخمر وإدخال فرجه في فرج محرم، ونحو ذلك مما لم يستبين لغرض صحيح. فينبغي أن يكون المذكور هنا جوابًا على طريقة الجواز. وقد بالغ الماوردي في "الإقناع" فجزم بأنه لا يكره لطخ جبهته، وحينئذ فلا يكره لطخ رأسه بطريق الأولى. قوله: في الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا فرع ولا عتيرة" (¬1) فالفرع: أول نتاج البهيمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الأم، والعتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجيبة أيضًا. وذكر ابن كج وغيره في كراهتها وجهين وحكى أن الشافعي - رضي الله عنه - قال: إن تيسر في كل شهر كان حسنًا. انتهى. والراجح من الوجهين على ما قال في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" عدم الكراهة، والنص المذكور في "سنن حرملة". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5156) ومسلم (1976) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والفرع: بفتح الفاء والراء وبالعين المهملة. والعتيرة: بالعين المهملة المفتوحة والتاء المثناة من فوق، والحديث في "صحيح البخاري". قوله من "زوائده": يستحب إزالة شعر العانة بحلق أو نتف أو قص أو نورة أو غيرها، والحلق أفضل، ويستحب إزالة شعر الإبط بأحد هذه الأمور والنتف أفضل. انتهى. وما أطلقه من استحباب الحلق في العانة ليس كذلك بل هو خاص بالرجل، أما المرأة فالمستحب لها نتف عانتها. كذا ذكره في "تهذيب الأسماء واللغات" في الكلام على لفظ العانة، ولم أره في غيره من كتبه فتفطن له. قوله أيضًا في "الزوائد": التاسعة: ذكر الرافعي في اللحية عشر خصال مكروهة: خضابها بالسواد إلا للجهاد، وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالًا للشيخوخة، ونتفها أول طلوعها إيثارًا للمردة وحسن الصورة ونتف الشنب، وتصفيفها طاقة فوق طاقة تحسينًا والزيادة فيها والنقص منها كالزيادة في شعر العذارين من الصدغين وأخذ العذار في حلق الرأس، ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك، وتركها شعثة إظهارًا لقلة المبالاة بنفسه، والنظر في بياضها أو سوادها إعجابًا بها وافتخارًا، ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب. انتهى كلامه. فأما كراهة الخضاب بالسواد فهو وجه، والصحيح كما ذكره قبل هذا تحريمه. وأما كراهة نتفها ونتف الشيب فذكر أيضًا مثله في باب السواك من "شرح المهذب" و"التحقيق" وغيرهما، ثم قال: ولو قيل: يحرم نتف الشيب، لم يبعد لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة (¬1). قال الترمذي: حديث حسن. وما ذكره من الكراهة مردود بنص الشافعي فإنه قد ذكر في "الأم" أنه حرام، فقد نقله عنه أيضًا ابن الرفعة، وإزالة الرجل لشعر لحيته قريب من إزالة المرأة لشعر حواجبها وأطراف وجهها. وقد اختلف كلام النووي في تحريمه بعد جزمه بالاستحباب في لحيتها وعنفقها وشاربها، فجزم في باب السواك في "التحقيق" بأنه لا يحرم بل يكره، وجزم في "شرح مسلم" بالتحريم واستدل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات" (¬2) رواه مسلم. قال: والنامصة: هي التي تزيل الشعر عن الوجه لأنه يقال للمنقاش: مِنماص بكسر الميم، والمتنمصة هي التي تطلب ذلك، وهي بالتاء بنقطتين من فوق ثم بالنون وبالصاد المهملة، ورواه بعضهم بتقديم النون. وذكر في باب طهارة البدن من "شرح المهذب" نحوه أيضًا، فإنه قال: وأما إزالة الشعر عن وجهها ففي الصحيحين: لعن الله فاعله (¬3). انتهى. وهذا اللفظ عنده وعند غيره من العلماء مرادف للتحريم، بل دليل على أن الفعل كبيرة. واعلم أن الاستدلال بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4202) والترمذي (2821) والنسائي (5068) وابن ماجه (3721) وأحمد (6924) وسعيد بن منصور (2418) وابن أبي شيبة (5/ 266) والبيهقي في "الشعب" (6386) وفي "الكبرى" (14604) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني: صحيح. (¬2) أخرجه البخاري (5587) ومسلم (2125) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم.

خلاف بين المحدثين مشهور. ونقل ابن معن في باب صفة الوضوء عن الشافعي: أنه لا يحتج به، فقال: ولا أحتج برواية عمرو بن شعيب حتى يتبين عن أي جديه روي فإن كان محمدا بن عبد الله بن عمرو بن العاص لم يقبل لأن محمد ليس من الصحابة، وإن كان مراده عبد الله والد محمد، قبلت لأنه صحابي. وصحح النووي تبعًا لجماهير المحدثين أن محمدًا ولد عبد الله له صحبة فيحتج بحديثه، وقد علمت أنه خلاف ما تقدم عن الشافعي.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة وفيه فصلان: الفصل الأول في حالة الاختيار اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه ألفاظ منها: الببر: هو بباءين موحدتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وهو حيوان معروف يعادي الأسد يقال له: الفُرانْق بضم الفاء وسكون النون، وقد ضبطه أيضًا في "الروضة" بذلك. ومنها ابن آوى: هو بالمد ووزنه: أفعل، ولذلك لا ينصرف كما قاله الجوهري. ومنها: ابن مُقْرِض: بضم الميم وكسر الراء وبالضاد المعجمة ويجوز كسر الميم مع فتح الراء. ومنها: الوبر: بإسكان الباء الموحدة. والدلدل: بدالين مهملتين مضمومتين. ومنها: الفنك: بفاء ونون مفتوحتين بعدهما كاف. ومنها: الغداق: بغين معجمة مضمومة ودال مهملة. ومنها: الزاغ: بزاي وغين معجمتين. ومنها: اللقلق: بقافين. ومنها: الورشان: وسيأتي ضبطه. [ومنها: الصعوة: بصاد مفتوحة وعين ساكنة مهملتين] (¬1). ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ومنها: النغر: بنون مضمومة وغين معجمة مفتوحة. ومنها: الحمرة: بحاء مهملة مضمومة وميم مشددة مفتوحة. ومنها: العندليب: بالنون الساكنة وبالباء الموحدة في آخره. ومنها: البببغاء: بثلاث باءات موحدات أولاهن وثالثهن مفتوحات والثانية ساكنة وبالغين المعجمة، وهي المسماة بالدُرة بدال مهملة مضمومة. ومنها الشقرّاق: بكسر القاف وتشديد الراء وبفتح الشين المعجمة وكسرها وفي آخره قاف أخرى. ومنها: الضوع: بضاد معجمة مضمومة وواو مفتوحة وعين مهملة. ومنها: النهاس: بالنون والسين المهملة والمعجمة أيضًا والنهس أخذ اللحم بمقدم الأسنان. قوله: ويحل الأرنب واليربوع خلافًا لأبي حنيفة. لنا أن الأرنب أهدي للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكل منه. وأما [اليربوع] (¬1) فإن العرب تستطيبه ونابه ضعيف، والوجهان يجريان في ابن مقرض وهو الدَّلَق. وفي ابن آوى أيضًا. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أن الأشبه بالمذهب حِلّه. لكن الذي رجحه أبو علي الطبري والبغوي والروياني: المنع، لأن رائحته كريهة، والعرب تستخبثه، وهذا ما حكى الإمام عن المراوزة القطع به. انتهى كلامه. فقول الرافعي -رحمه الله-: والوجهان يجريان في ابن مقرض. . . . إلى آخره، كلام مظلم لا يهتدي به إلى شيء؛ لأنه لم يتقدم هنا ذكر وجهين ¬

_ (¬1) في أ: ابن مقرض.

بالكلية ولزم من عدم تقدمهما عدم العلم بالحكم في ابن مقرض لأنه أحاله عليه، وقد انكشف الغطاء عن ذلك وانجلت الظلمة بحمد الله تعالى وتبين أن نسخ هذا الكتاب كلها قد حصل فيها سقط علم من "الشرح الصغير"، فإنه قال: ويحل الأرنب واليربوع لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بأكل الأرنب وحكمت الصحابة في اليربوع بحضرة النبى وذلك يدل على حله. وقال أبو حنيفة: هما حرامان، ولنا في اليربوع وجه مثله. وابن عرس فيه وجهان: وجه التحريم وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ أنه ذو ناب. والأظهر: الحل لأن العرب تستطيبه ونابه ضعيف، ويجري الوجهان في ابن مقرض وهو الدَّلق، وفي ابن آوى. لكن الأظهر في ابن آوى التحريم، هذا كلام "الشرح الصغير" فسقط هذا المتوسط كله من الرافعي الكبير وتلخص منه: أنه حصل في نسخ الرافعي غلط من ثلاثة أوجه: أحدها: حذف الخلاف في اليربوع. والثاني: إسقاط مسألة وهي حكم ابن عرس، والصحيح فيه الحل كما هو مشهور في المختصرات "كالتنبيه" و"الحاوي" وغيرهما، وذكره أيضًا الغزالي في "الوجيز" وذكره لها مع عدم وجودها في نسخ الرافعي يوضح السقوط. والثالث: الجهل بحكم ابن مقرض، والصحيح على ما يقتضيه كلام الرافعي حِلّه، فإن الرافعي قال: إنه على الوجهين، وقد ثبت أن ذينك الوجهين هما الوجهان في ابن عرس، والصحيح فيهما الحِلّ. وقد اختصر النووي كلام الرافعي باجتهاده فأخطأ، فقال: فرع، يحل الضب والضبع والثعلب والأرنب واليربوع، ويحرم ابن آوى وابن مقرض

على الأصح عند الأكثرين وبه قطع المراوزة. هذا لفظه [وقد حصل فيه غلط من وجوه ثلاثة: أولها وثانيها هما الأول والثاني في الرافعي] (¬1)، والثالث: عكس الحكم في ابن مقرض فإن الصحيح فيه على ما تقدم بيانه هو الحِلّ، وقد وقعت المسألتان في "الحاوي الصغير" على الصواب فأباح ابن مقرض وحرم ابن آوى. قوله: ومنها غراب الزرع، وهو أسود صغير يقال له: الزاغ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، وفيه وجهان أصحهما: الحِلّ، لأنه يستطاب. ثم قال: ومنها غراب آخر صغير أسود أو رمادي اللون وقد يقال له: الغداف الصغير، وفيه وجهان كالوجهين في النوع الذي قبله. انتهى كلامه. وعَبّر في "الشرح الصغير" بقوله: فيه الوجهان، وحاصل ما يقتضيه كلام الرافعي ترجيح الحل في الغداف أيضًا وإن كان يحتمل أن يقال: لا يؤخذ منه ترجيح لشيء. وصحح النووي في "أصل الروضة" تحريمه، وهو غلط لما ذكرناه، ثم إنه لما وقع له ذلك في "الروضة" عداه منها إلى "تصحيح التنبيه" على عادته في النقل فيه عنها. قوله: ومنه النمل والنحل وهما حرامان لورود النهي عن قتلهما. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق تحريم قتل النمل وهذا في النمل الكبير؛ أما النمل الصغير ففي "شرح المهذب" المسمى "بالاستقصاء" نقلًا عن "الإفصاح" للصيمري: أنه لا يحرم قتله لأنه مُؤْذ، وأقره عليه، قال: وقد سئل ابن عباس عن قتل المحرم لها، فقال: تلك ضالة لا شيء فيها (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه الشافعي (650) بسند صحيح.

وذكر البغوي أيضًا في "شرح السنة" جواز قتلها. قوله: ويحرم الخفاش قطعًا وقد يجري فيه الخلاف. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: وقد، هو بقاف مفتوحة بعدها دال وكذا عبر به في "الروضة". إذا علمت ذلك فما ذكره الرافعي والنووي من احتمال مجئ خلاف يقتضي أنهما لم يظفرا بالتصريح به، وهو غريب فقد جزما في كتاب محرمات الإحرام بوجوب الجزاء فيه، وأن ذلك الواجب هو القيمة بعد تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يجب ضمانه وقد تقدم التنبيه عليه هناك. قوله: وفي الفلق وجهان: أحدهما وإليه ميل الشيخ أبي محمد: أنه حلال كالكركي، وجعله صاحب "الكتاب" الأظهر، وفي "التهذيب": إن الأصح التحريم، وهو الذي أورده أبو عاصم العبادي واحتج له بأنه يأكل الخبائث، وبأنه يصف وقد روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل ما رَفّ، ودع ما صَفّ" (¬1). يقال: رف الطائر في طيرانه، إذا حرك جناحيه كأنه يضرب بهما. وصف: إذا لم يتحرك كما تفعل الجوارح. انتهى. والأصح هو التحريم كذا صححه النووي في "شرح المهذب" و"الروضة" ولم ينبه فيه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: وأدرج في هذا القسم الورشان والقطاء واليعاقيب. انتهى. أما الورشان: فبواو مفتوحة وشين معجمة وبالنون هو القمري الذكر ويسمى أيضًا: ¬

_ (¬1) لم أهتد إليه.

ساق حر: بالسين المهملة والقاف والحاء المهملة المضمومة والراء المشددة ويجمع الورشان علي الوارشين ويجمع أيضًا على وِرشان، بكسر الواو على غير قياس. وهو مثل كِروان بكسر الكاف جمع كروان الطائر المعروف. وأما اليعاقيب: فجمع يعقوب بالياء المثناة من تحت والعين المهملة وبالباء الموحدة في آخره، وهو اسم لذكر الحجل كما قاله الجوهري، قال: وهو مصروف، فإن كان في أوله زيادة لأنه ليس فيه علة أخرى بخلاف يعقوب إذا كان علمًا، وعبر في "الروضة" عن الورشان بالحجل، وهو تعبير غير مطابق كما تقدم عن الجوهري. قوله في "الروضة": ويحل الكركي. اعلم أن النووي لم يحك فيه خلافًا، والرافعي نقل عن العبادي أنه جعل الكركي من طيور الماء، ونقل أيضًا عن الصيمري: أن الأبيض من طيور الماء لا يحل أكله لخبث لحمه. والكركي من الطيور [البيض] (¬1) فلزم تحريمه على وجه لم يذكره في "الروضة". قوله: والشقراق: قال في "التهذيب": حلال، وقال الصيمري: حرام. انتهى. قد قال بالتحريم أيضًا العجلي شارح "الوسيط". قوله: وما ليس على صورة السموك المشهورة يحل في الأصح، ثم قال: وقد ينبني الخلاف على أن اسم السمك والحوت هل يقع على جميعها لاشتراكها في الطعم أو لا يقع؟ قال في "التهذيب": والأصح الوقوع. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وقد جزم في "المحرر" بأنه لا يقع على خلاف ما صححه البغوي، فإنه قَسّم حيوان البحر إلى السمك وغيره، وتابعه عليه النووي في "المنهاج" ثم إنه صحح في "أصل الروضة" ما صححه البغوي فوقع في صريح الاختلاف. قوله: وقد ذكرنا في غسل الدهن وجهًا في الطهارة فعلى هذا إذا غسل حل أكله. انتهى. وتعبيره بقوله: في الطهارة، أي طهارته ولم يرد كتاب الطهارة فإن الوجه لم يتقدم فيها بل في كتاب البيع وتوهم النووي أن المراد هو الكتاب المعقود للطهارة فصرح به في "أصل الروضة" وليس كذلك. نعم ذكره هو من زوائده، في باب إزالة النجاسة وهو من أبواب الطهارة، إلا أنه لا ينفع في دفع الاعتراض لأنه من جملة كلام الرافعي لا من "زوائده". قوله: وهل النهي عن أكل الجلالة نهي تحريم أو نهي كراهة؟ فيه وجهان: أحدهما: نهي تحريم، ويحكي ذلك عن أبي إسحاق المروزي، وبه قال القفال، ورجحه الإمام وصاحب "التهذيب" والمصنف. والثاني: نهي تنزيه، وهذا ما أورده أكثرهم. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وخالف في "المحرر" فصحح التحريم وعبر بالأظهر واستدرك عليه النووي فصحح الجواز. قوله في "أصل الروضة": والجلالة هي التي تأكل القذرة، ثم قيل: إن كان أكثر علفها النجاسة فهي جلالة، وإن كان الطاهر أكثر فلا، والصحيح: أنه لا اعتبار بالكثرة بل بالرائحة والنتن فإن وجد في عرفها وغيره ريح النجاسة فجلالة وإلا فلا. انتهى.

ذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا وخالف في "تحرير التنبيه" فجزم بالأول. قوله من "زوائده": وإذا عجن دقيقًا بماء نجس وخَبَزَه فهو نجس يحرم أكله ويجوز أن يطعمه لشاة وبعير ونحوهما نص عليه الشافعي. انتهى. وهذا الكلام يوهم تعذر تطهير الخبز وامتناع أكله، وليس كذلك بل يطهر بنقعه في الماء حتى يصل إلى أجزائه كما صرح به في "شرح المهذب" وصرح في "الروضة" بمثله في الآجُرّ والعجين. ولا شك أن الخبز أولى بذلك منهما لأن وصول الماء إليه أسهل وأسرع. قوله: واحتج الشيخ أبو محمد بأنه لو لم يَحلّ الجنين بذكاة الأم لما جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل، كما لا تقتل الحَامل قصاصًا فألزم عليه ذبح رمكة في بطنها بغلة فمنع ذبحها. انتهى. وما نقله عن الشيخ أبي محمد في المنع من الرمكة مسألة حسنة وقد أسقطها النووي من "الروضة". والرمكة: هي الأنثى من البراذين والجمع رماك، ورمكان، وأرماك. كذا قاله الجوهري، ثم ذكر في باب النون: أن البرذون بالذال المعجمة هي الدابة والأنثى برذونة. قوله: وإن خرج رأسه وفيه حياة مستقرة قال في "التهذيب": لا يحل بذبح الأم؛ لأنه مقدور على ذبحه، ونقل مثله عن القاضي الحسين. وعن القفال: أنه يحل، لأن خروج بعض الولد كعدم الخروج بدليل العدة. انتهى. والأصح على ما ذكره النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": أنه يحل، وهذه المسألة ونظائرها قد اضطرب فيها كلام الرافعي والنووي

وقد تقدم إيضاحه مبسوطًا في كتاب الفرائض فراجعه. قوله: وفي كراهة كسب الحمامي والحائك وجهان. قال في "الروضة": الأصح لا يكره في الحائك والله أعلم، ولم يتعرض للحمامي وذكر مثله في "شرح المهذب" وتعبيره فيهما مشعر بالكراهة فيه أي في الحمامي. قوله: وفي كسب الفصاد وجهان قال في "العدة": الأظهر: أنه لا يكره. انتهى. والصحيح على ما قاله النووي في "شرح المهذب" وفي "الروضة" من الأصل ما رجحه في "العدة"، وفيه نظر فإن العلة في الحجام هي مخامرة النجاسة على الصحيح والاحتراز فيها ممكن والتلويث قد يحصل إلا أن مخرج الدم في الحجامة متعدد والفصد قد يتعدد بالنسبة إلى أشخاص. قوله: وَكَرِه جماعة كسب الصواغ. انتهى. لم يذكر الرافعي في الصواغ غير هذا الكلام بالكلية وكذا ذكر في "الروضة" و"شرح المهذب" ولا يعرف منه الحكم فإنه لا يدري هل هو المنقول فقط، أو هو حكاية لوجه مرجوح؟ والأمر على الثاني فإن الرافعي في كتاب "الشهادات" لمّا عدد أصحاب الحرف الدنية صحح أن الحائك منهم، وأن الصائغ ليس منهم، وكذلك الصباغ حتى تقبل شهادتهما بالاتفاق وتبعه عليه في "الروضة". فتلخص أن الصواغ أطيب كسبًا من الحائك، والصحيح في الحائك عدم الكراهة على ما سبق، فلزم أن يكون هو الصحيح في الصواغ أيضًا بطريق الأولى فتفطن له. قوله: قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، وأيها

أطيب؟ فيه ثلاثة مذاهب للناس، وأشبهها بمذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أن التجارة أطيب، قال: والأشبه عندي أن الزراعة أطيب لأنها أقرب إلى التوكل. انتهى. واعلم أن الشاشي والعمراني قد اقتضى كلامهما حكاية ثلاثة أوجه في المسألة كهذه المذاهب، واقتصرا في الترجيح على ما نقله الماوردي عن الشافعي، وفي "صحيح البخاري" عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" (¬1). قال النووي: وهذا الحديث صريح في ترجيح الزراعة والصنعة لكونهما عمل يد لكن الزراعة أفضلها لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1966) من حديث المقدام - رضي الله عنه -.

الفصل الثاني في حال الاضطرار

الفصل الثاني في حال الاضطرار قوله: وكل طاهر لا ضرر فيه يحل أكله إلا المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط ونحوهما فإنها محرمة على الصحيح. انتهى. وما أطلقه من تحريم المستقذر قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وقد استثنى المحاملي في "اللباب" الماء المستقذر كالحاصل من غسل الأيدي عقب الأكل ونحو ذلك، فقال في كتاب الأشربة: وما يستقذر في الغالب فإنه حرام إلا الماء الآجن. هذه عبارته. والآجن: بجيم مكسورة ونون هو المتغير. والظاهر: أن العلة في الماء كون الاستقذار عارضًا بخلاف المخاط ونحوه وحينئذ فيتعدى إلى المأكول أيضًا كاللحم المنتن وقد صرحوا به. قوله: ولو عيل صبره وجهده الجوع فهل يحل له المُحَرّم، أم لا يحل حتى يصل إلى أدنى الرمق؟ قولان: انتهى. والأظهر على ما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": هو الحل. واعلم أن الجوهري قال: تقول: عالني الشيء يعولني أي غلبني وثقل عليّ، وعال الأمر: اشتد، وعيل صبري: أي غلب. قوله: وهل له أن يزيد على ما يسد الرمق إلى الشبع؟ ، فيه أقوال: ثالثها: إن كان قريبًا من العمران لم يحل وإلا فيحل، وذهب القفال وكثير من الأصحاب إلى المنع. وعن صاحب "الإفصاح" ترجيح الجواز، وبه قال الروياني وغيره،

هكذا أطلق الخلاف أكثرهم. وفصَّل الإمام والغزالي تفصيلًا حاصله: إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع أن لا يقطعها ويهلك وجب القطع بأنه يشبع، فإن كان في بلد وتوقع الأكل الحلال قبل عود الضرورة، وجب القطع بالاقتصار على سدّ الرمق، وإن كان لا يظهر حصول طعام حلال وأمكنه الرجوع إلى الحرام مرة بعد أخرى إن لم يجد الحلال فهذا موضع الخلاف. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وفيه أمور: أحدها: أن الراجح هو الاقتصار على سدّ الرمق، فإنه الذي نقله المزني في "المختصر" واختاره. وقال البندنيجي والقاضي الحسين: إنه مختار الشافعي، وصححه الرافعي في "المحرر" فقال: إنه أولى القولين، وصححه أيضًا النووي في كتبه. الأمر الثاني: أن التفصيل الذي ذكره الإمام والغزالي قد جزم به في "المحرر"، وقال في "الروضة": إنه الراجح. قال الإمام: ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ذلك، ولم ينص الشافعي على قولين ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون ترددًا صادفوه في كلامه فحسبوه ترديد قول وإنما هو ترديد حال، هذا كلام الإمام. الأمر الثالث: ليس المراد من الشبع أن يمتلئ حتى لا يبقى للطعام مساغ فإن هذا حرام قطعًا، صرح به البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما، وجزم به ابن الرفعة. بل المراد كما قاله الإمام: أن يأكل حتى يكسر سؤرة الجوع بحيث لا

يطلق عليه اسم جائع. وقد ذكر الغزالي في "الوجيز" في كتاب النفقات: أن الواجب في نفقة الأقارب ليس هو الشبع، ولا يكفي ما يسد الرمق، بل الواجب أن يعطيه ما يستقل به ويتمكن معه من التصرف والتردد. وكلام الرافعي يُشعر بما ذكره ولهذا لم ينبه على مخالفته عند شرحه له فأثبت هناك واسطة بين الشبع وسدّ الرمق وجعلها هي الواجبة. الأمر الرابع؛ أن الرمق: هو بقية الروح كما قاله جماعة، وقال بعضهم: هو القوة. وإذا علمت ذلك ظهر لك أن الشد المذكور في مثالنا بالشين المعجمة لا بالمهملة. قوله: ويجوز أن يتزود من الميتة إن لم يَرجْ الوصول إلى الحلال، فإن رجاه قال في "التهذيب" وغيره: يحرم. وعن القفال: أن من حمل الميتة من غير ضرورة لم يمنع ما لم يتلوث بالنجاسة. وهذا يقتضي جواز التزود عند الضرورة، وأولى. انتهى. والأصح كما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": جواز ذلك. قوله: فرع: إذا قلنا له أن يأكل قدر ما يشبع فأكل ما يَسُد رَمَقَه، ثم وجد لقمة من حلال لم يكن له أكل الحرام حتى يأكل تلك اللقمة، فإذا أكلها فهل له الإتمام إلى الشبع؟ فيه وجهان للقاضي الحسين. انتهى. والأصح كما قاله في "زوائد الروضة" و"شرح المهذب": هو الجواز.

قوله: ويجوز للمضطر إتلاف ما ليس بمعصوم كالحربي والمرتد، ثم قال: وفي الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة وجهان. أظهرهما: أن الجواب كذلك. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" ومقتضاه أنه لا فرق بين أن يكون قد ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار. وقد اختلف فيه كلام النووي اختلافًا عجيبًا أوضحته في أوائل الجنايات في الركن الثاني. قوله: وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب، ففي "التهذيب": أنه لا يجوز قتلهم؛ وجوز الإمام وصاحب "الكتاب" قتلهم وأكلهم لأنهم ليسوا بمعصومين وليس المنع من قتلهم في غير حالة الضرورة لحرمة دمهم. ألا ترى أنه لا يتعلق به الكفارة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وجزم في "المحرر" بالمنع، وصحح النووي في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" و"المنهاج" جوازه كما يشعر به لفظ "الروضة". قوله: ولو كان المضطر ذميًا والميت مسلم فهل له أكله؟ حكى صاحب "التهذيب" فيه وجهين. انتهى. قال في "شرح المهذب" وفي "الروضة" من "زوائده": القياس تحريمه. قوله في "الروضة": وما سوى المسكر من النجاسات يجوز التداوي به كله على الصحيح المعروف. انتهى. واعلم أن الرافعي عبر بقوله: وما سوى المسكر من المحرمات. فعدل في "الروضة" إلى التعبير: بالنجاسات.

وعبارة الرافعي أعم، فإن المحرم قد يكون لأجل الاستقذار كالمني، وقد يكون للإيذاء كالرصاص وغيره من المعادن. قوله: وفي كتاب ابن كج ذكر وجهين في جواز التبخير بالند الذي فيه خمر لما يصعد منه من الدخان. وهذا قد سبق نظيره في الطهارات. قال في "الروضة" من "زوائده": الأصح جوازه لأنه ليس دخان نفس النجاسة، وذكر مثله في "شرح المهذب" أيضًا. وهذا الذي ذكره هنا قد سبق ما يخالفه في حد الخمر، فذكر ما حاصله: تصحيح المنع، وقد سبق ذكره هناك فراجعه. قوله: وإذا أراد المضطر أن يقطع فلقة من فخذه أو من عضو آخر ليأكلها، فإن كان الخوف فيه كالخوف في ترك الأكل أو أشد لم يكن له قطعها وإن كان دونه فوجهان: أحدهما: لا يجوز، وإليه ذهب صاحب "الإفصاح" وجماعة ورجحه الروياني. وذهب ابن سريج وأبو إسحاق المروزي والشيخ أبو حامد وغيرهم: إلى الجواز، ويشبه أن يكون هو الأظهر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد اختلف كلامه في هذه المسألة، فقال في "المحرر": الأصح أنه لا يجوز، وقال في "الشرح الصغير": الأظهر الجواز، وهو الذي صححه النووي في كتبه. واعلم أن القاضي حسين قد ذكر في "تعليقه": أن هذين الوجهين من تخريج ابن سريج، وكلام الرافعي وغيره من المتأخرين يشعر بجزمه بالجواز.

الأمر الثاني: أن هذه المسألة شبيهة بقطع السلعة وقد ذكرها الرافعي بعد باب التعزير، فقال: إذا كان الخطر في قطعها وفي بقائها أيضًا نظر، إن كان الخوف في القطع أكبر، لم يجز القطع، وإن كان في البقاء أكبر جاز القطع وقيل: لا لأنه فتح باب الروح. وإن تساوى الخطر جاز القطع على الأصح؛ إذ لا معنى للمنع في ما لا خطر فيه. هذا كلامه. فجزم في المضطر عند تساوي الخطرين بالمنع، وقال في "شرح المهذب": إنه لا خلاف فيه، على خلاف ما صححه في قطع السلعة وإذا كان خطر القطع أقل فقد صحح الجواز في السلعة وهو موافق لتصحيح النووي، ولما في "الشرح الصغير". قوله: وإن لم يكن المالك مضطرًا فعليه إطعام المضطر وللمضطر أن يأخذ. . . . إلى آخره. واعلم أن الغزالي في "الوسيط" قد حكى وجهين في أن المضطر هل يجب عليه استئذان المالك أم لا؟ وصرح بهما الإمام أيضًا فقال: ولا شك أن الذي يقتضيه أدب الشرع أن يستأذنه. وهل يشترط ذلك في الاستباحة؟ فعلى وجهين: أحدهما: لا يشترط لأنه يظهر اشتراط الإذن، حيث يقدر التحريم لو عدم الإذن. وإذا كان هذا الطعام مأخوذًا على كل حال فلا معنى لاشتراط الاستئذان. [والثاني: أنه يجب الاستئذان] (¬1)، ويحرم الطعام بدونه، كما لو ¬

_ (¬1) سقط من ب.

ظفر الرجل بمال من يستحق عليه الدَّين فليس له أخذه، ما لم يظهر الامتناع ممن عليه أدائه. هذا لفظه، وقد جزم الغزالي، في "الوجيز" بالاستئذان، فقال: الثاني: إذا ظفر بطعام من ليس بمضطر فيطلبه منه، فإن منعه غصبه منه، فإن دفعه جاز له قتل المالك. هذا لفظه، ولم يتعرض الرافعي للمسألة. قوله: وهل يجب على المضطر الأخذ قهرًا إذا منعه المالك؟ فيه خلاف يترتب على الخلاف في أنه: هل يجب عليه الأكل من الميتة؟ وأولى بأن لا يجيب، لأن عقل المالك ودينه يبعثانه على الإطعام، وهو واجب عليه، فجاز أن يجعل الأمر موكولًا إليه ويكتفي به. انتهى. والمذهب كما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": أنه لا يجب القتال كما لا يجب دفع الصائل. قوله: وإذا أوجبنا على مالك الطعام بذله فالمشهور: أنه لا يلزمه ذلك إلا بالعرض. وفرقوا بينه وبين ما إذا خلص مشرفًا على الهلاك بالوقوع في ماء أو نار [حيث] (¬1) لا يثبت عليه أجرة المثل بأن هناك يلزمه التخليص وإن لم يكن للمشرف على الهلاك مال ولا يجوز التأخير إلى تقدير الأجرة وتقريرها، وهاهنا بخلافه. وسوى القاضي أبو الطيب وغيره بينهما فقالوا: إن احتمل الحال هناك موافقته على أجرة يبذلها أو بمثلها، لم يلزمه تخليصه حتى يقبل الأجرة. كما في المضطر، وإن لم يحتمل الحال التأخير في صورة المضطر فأطعمه، لا يلزمه العوض فلا فرق إذن. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بقوله: وإن لم يكن للمشرف على الهلاك مال. صوابه العكس وهو أن يقول: وإن كان للمشرف على الهلاك مال، فإن التعبير الواقع في الرافعي، يقتضي أنه لا يجب الإطعام إذا لم يكن للمضطر مال وليس كذلك، فإن التخليص والإطعام واجبان عند عدم المال بلا شك، وإنما يختلفان عندها، ولا القائلين بالاختلاف في حال وجوده، ففي الإطعام: لا يجب حتى يأخذ، وفي التخليص: يجب خوفًا من الفوات. الأمر الثاني: أن النووي قد ذكر من "زوائده" في آخر الجعالة عرضًا فيه مخالفة للمذكور هنا، وقد ذكرته هناك فراجعه. قوله: ثم إن بذل المالك طعامه بأكثر من ثمن المثل، والتزمه ففي ما يلزمه وجوه: أقيسها: يلزمه المسمى. والثاني: ثمن المثل، لأنه كالمكره. والثالث: إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر ليساره لزمته، وإلا فلا، ثم قال بعد ذلك: وهذا الخلاف إنما هو في من عجز عن الأخذ قهرًا، فإن لم يعجز لزمه المسمى بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف سبقه إليه الإمام الغزالي فقلده هو فيه وتابعه عليه النووي أيضًا في "الروضة" و"شرح المهذب" وليس كذلك، فقد صرح ابن الصباغ في "الشامل" بحكاية الوجهين في هذه الصورة أيضًا، وجعل إراقة الدم مقام العجز وهو كلام واضح، ونقله عنه أيضًا في "الكفاية".

قوله: وإن لم يكن مع المضطر مال سواء كان له مال في موضع آخر أم لم يكن فعلى المالك والحالة هذه البيع بنسيئة. انتهى. وما ذكره من وجوب البيع نسيئة تابعه عليه في "الروضة" ولا وجه له، بل الصواب الجاري على القواعد: أنه يجوز للمالك بيعه بثمن حال غير أنه لا يطالب به في هذه الحالة لإعساره وفائدة الحلول جواز المطالبة عند القدرة ثم فَرّع الرافعي بعد هذا بنحو صفحة على [ما ذكره] (¬1) هنا إذا كان المال المحجور عليه فإن الولي يفعل في ذلك المال ما قلنا أنه يفعله في ماله. ثم قال: وهذه إحدى الصور التي يجوز فيها بيع مال الصبي نسيئة. قوله: ولو اشترى بأكثر من ثمن المثل ففيه أوجه: أقيسها: لزوم المسمى، وقيل: يلزمه قيمته وقيل: إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر ليساره لزمته وإلا فلا. ثم قال: فإن اشتراه بالزيادة مع إمكان الأخذ قهرًا، فهو مختار في الالتزام، فيلزمه بلا خلاف والخلاف السابق محله إذا عجز عن الأخذ قهرًا. انتهى كلامه. وما ذكره من نفي الخلاف والحالة هذه، قد ذكره الإمام والغزالي فقلدهما فيه الرافعي ثم النووي في "الروضة" و"شرح المهذب"، وليس كذلك فإن الخلاف ثابت في هذه الصورة أيضًا. كذا صرح به ابن الصباغ في "الشامل" وجعل التنزه عن إراقة الدم قائمًا مقام العجز وهو حسن منقاس. قوله: ولو أطعمه المالك ولم يصرح بالإباحة لم يجب شيء، وقيل: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يجب. ثم قال: إذا أوجر المالك طعامه للمضطر قهرًا أو أوجره وهو مغمى عليه فهل يستحق القيمة عليه؟ فيه وجهان: أحسنهما: نعم، لأنه خلصه من الهلاك فصار كما لو عفي عن القصاص. انتهى كلامه. ذكر في "الروضة" مثله وفيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي استحسنه الرافعي قد جزم به في كتاب الضمان في الكلام على الرجوع. الثاني: أن الصحيح في ما إذا عفي مستحق القصاص ولم يصرح بالمال أنه لا شيء له على خلاف المذكور هنا. فإن المذكور هنا محله إذا صرح بالعفو على الدية فقياسه أن يكون الإطعام مثله حتى لا يستحق إلا إذا صرح به. والظاهر الأول، وأنه مخالف لما في الجنايات. قوله: ولا يجب البذل للحربي والمرتد والكلب العقور. ثم قال: ولو كان له كلب غير عقور جائع وله شاة فعليه ذبح الشاة لإطعام الكلب. انتهى. وما ذكره هنا في الكلب تابعه عليه في "الروضة"، وهو صريح في أن غير العقور محترم لا يجوز قتله، والمسألة قد ذكراها في مواضع كثيرة، واختلف فيها كلامهما، وقد أوضحت ذلك في باب التيمم فراجعه. قوله: وحكم الثمار الساقطة من الأشجار حكم سائر الثمار إذا كانت داخل الجدار فإن كانت خارجه فكذلك إن لم تجر عادتهم بإباحتها، فإن جرت فهل تجري العادة المطردة مجرى الإباحة؟ وجهان. انتهى. والأصح: جريانها مجراها، كذا صححه في "شرح المهذب" و"زوائد

الروضة"، ثم قال في "الروضة" عقبه من "زوائده": إنه يجوز أن يأكل من طعام قريبه وصديقه بغير إذنه إذا غلب على ظنه أنه لا يكره ذلك فإن شك فحرام بلا خلاف. وذكر في الوليمة وجهين في ما إذا أخذ الضيف مقدارًا يشك في رضى المالك به. قوله: وإن وجد المضطر ميتة ولحم صيد ذبحه هو وهو محرم أو ذبحه محرم آخر، فإن لم نجعل ما ذبحه المحرم ميتة فلحم الصيد أولى منه؛ لأنه ظاهر ولا يتقدم الأكل بمحصور آخر، ولأن تحريم الصيد يختص بالمحرم، وتحريم الميتة عام. وقيل: الميتة أولى، وقد يؤخذ مما سبق أن استثناء الميتة عند الاضطرار منصوص عليه بخلاف الصيد فإنه بالاجتهاد. انتهى كلامه. وما ذكره صحيح في ما إذا كان هو الذابح في حال الإحرام، وأما في ما إذا ذبحه محرم آخر، وقلنا: لا يكون ميتة، فقد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" بأبسط مما قاله هنا، وليس بصحيح لا في الحكم ولا في التعليل، لأن مذبوح المحرم إذا لم نجعله ميتة يكون حلالًا على الحلال والمحرم فتوهم الرافعي تحريمه عليه فذكر فيه ما ذكر. قوله: ولو وجد ميتتين إحداهما من جنس ما يؤكل كالشاة والأخرى مما لا يؤكل كالذئب فيتخير أو يأكل مما يؤكل جنسه؟ فيه وجهان. ويجري مثلهما في ما إذا كانت إحداهما طاهرة في الحياة والأخرى نجسة. انتهى. قال في "شرح المهذب": أصحهما ترك الكلب والتخيير في الباقي. وهذا التفصيل الذي صححه ليس وجهًا ثانيًا، فضلًا عن تصحيحه.

وقد عبر في "الروضة" بعبارة هي أخف في الاعتراض، فقال: ينبغي أن يكون الراجح كذا وكذا. قوله: ولو تنجس الخف لأجل خرزه بشعر الخنزير فغسل سبعًا إحداهن بتراب طهر ظاهره دون باطنه، وهو موضع الخرز. وقيل: كان الشيخ أبو زيد يصلي في الخف النوافل دون الفرائض فَرَاجَعَه القفال فيه فقال: الأمر إذا ضاق اتسع وأشار إلى كثرة النوافل. انتهى. قال في "الروضة": الظاهر أنه أشار إلى أن هذا القدر مما تعم به البلوى ويتعذر أو يشق الاحتراز منه فعفي عنه مطلقًا وإنما كان لا يصلي فيه الفريضة احتياطًا لها، وإلا فمقتضى كلامه العفو فيهما ولا فرق بين الفرض والنفل في اجتناب النجاسة. ومما يدل على صحة هذا التأويل أن القفال قال في "شرح التلخيص": سألت أبا زيد عن الخف يخرز بشعر الخنزير هل يجوز الصلاة فيه؟ فقال: الأمر إذا ضاق اتسع. قال القفال: مراده أن بالناس حاجة إلى الخرز به فللضرورة جوزنا ذلك. قوله: وفي "تعليقة" إبراهيم المروزي: أنه وردت أخبار في النهي عن الطين الذي يؤكل ولا يثبت شيء منها، وينبغي أن يحكم بالتحريم إذا ظهرت المضرة فيه، وإن لم تثبت الأخبار. انتهى. قال في "الروضة": قطع صاحب "المهذب" وغيره بتحريم أكل التراب. قوله: ويكره أن يأكل من الطعام الحلال زيادة على الشبع ويقذر الطعام انتهى كلامه.

تقول قذرت الشيء بكسر الذال المعجمة تقذرته واستقذرته، أي كرهته، كما قال الجوهري. والكراهة لا تتعلق باختيار الشخص حتى نحكم عليها بالكراهة الشرعية، وكأن مراد الرافعي بها هو إظهار ذلك؛ ولهذا عبر في "الروضة" بقوله: يعيبه، عوضًا عن قول الرافعي: يقذره. قوله: ويستحب أن يقول بعد الفراغ: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا. انتهى. وهذا التحميد قد تابعه عليه في "الروضة" وهو ناقص شيئًا، وتتمته مذكورة في باب الوليمة من "زوائده" فراجعه.

كتاب السبق والرمي

كتاب السبق والرمي وفيه بابان: الباب الأول في المسابقة قوله: ولا يجوز عقد المسابقة على ما لا ينفع في الحرب، كاللعب بالشطرنج والخاتم والصولجان ورمي البندق والجلاهق والوقوف على رِجْل واحدة. انتهى. تبعه في "الروضة" عليه ومقتضاه: أن الرمي بالجلاهق غير الرمي بالبندق وليس كذلك. فإن الجلاهق: هو بضم الجيم اسم للبندق اللين الذي يرمى به، وقوسه يقال له: قوس الجلاهق، كذا ذكره الجوهري وغيره، وكذلك أصحابنا في كتاب الوصية. قوله: وفي الحديث: أنه سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع (¬1). انتهى. الحيفاء: بحاء مهملة مفتوحة ثم فاء ساكنة ثم ياء مثناة من تحت، ثم ألف ممدودة، وقال صاحب "المطالع": بمد وتقصير. وضبطه بعضهم بضم الحاء وهو خطأ، وقال الحازمي: يقال فيها أيضًا: الحيفاء بتقديم الياء على الفاء. ونقله النووي في "تهذيبه"، ثم ذكر أيضًا ألفاظًا منها: فراهة الفرس، والفراهة بفاء مفتوحة وراء مهملة [هو الحذق بالشيء. تقول فره يفره بالضم فيهما فهو فاره أي: حاذق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (410) ومسلم (1870) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

ومنها: ] (¬1) ما ذكره في أسماء المتسابقين، قال: فيقال للذي يجيء أولًا: السابق والمجلّي. ويقال للثاني: المصلي. وللثالث: المسلي وكذا التالي. وللرابع: التالي، وقيل: المرتاح. وللخامس: العاطف، وقيل: المرتاح. وللسادس: المرتاح المرماح، وقيل: العاطف. وللسابع: المرمل، وقيل الحظي. [وللثامن: الحظي، ] (¬2) وقيل: المرمل. وللتاسع: اللطيم. وللعاشر السكيت، كالمكيت، ويقال له: الفسكل. وكانوا لا يعتدون بما يجيء بعد ذلك. انتهى. لم يذكر هذه الأسماء في "الروضة"، ولابد من التعرض إلى ضبط ألفاظها فنقول: المجلّي: بالجيم المفتوحة وتشديد اللام. والمصلي: المذكور أولًا بالصاد والمذكور ثانيًا بالسين المهملة. والتالي: بالمثناة من فوق واللام. والمرتاح: بميم مضمومة وراء ساكنة وبالمثناة من فوق والحاء المهملة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والعاطف: بالعين والطاء المهملتين والفاء. والمرمل: بميم مضمومة ثم راء مفتوحة ثم ميم مشددة مكسورة. والحظي: بحاء مهملة مفتوحة وظاء معجمة مشالة. واللطيم: بلام مفتوحة وطاء مهملة. والسكيت: بسين مهملة مضمومة، على أنه مصغر وفي آخره تاء مثناة من فوق. والفسكل: بفاء مكسورة وسين مهملة ساكنة وكاف مكسورة وباللام. وفي أسمائهم خلاف آخر لم يذكره الرافعي. وقد نظم بعضهم أسماءها على القول المشهور في بيتين تقريبًا للاستحضار وهما: مصلي وتالي ثم يتلوه بارع ... ومرباصهم أما المجلي فأول وبعد حظي عاطف ثم بعده ... مرملهم ثم السكيت ففسكل قوله: ويشترط أن يكون المال معلوم الجنس والقدر. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا مع أنه لابد من العلم بالصفة. قوله: وإن سابق ثلاثة وشرط للثاني مثل ما شرط للأول فوجهان: أصحهما: الجواز؛ لأن كل واحد منهما والحالة هذه مجتهد ويسعى أن يكون سابقًا أو مصليًا. انتهى. وما ذكره هنا من تصحيح الجواز قد ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وخالف في "المحرر" فجزم بالبطلان، وتبعه في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. قوله: وعن أبي إسحاق: أنه إذا تباعد النوعان كالعتيق والهجين من

الخيل، والنجيب والنجبا من الإبل لم يجز، وهذا ما ينبغي أن يرجح وإن كان الأول أشهر لأنه إذا تحقق التخلف فأي فرق بين أن يكون لضعف عارض أو لرداءة النوع. انتهى كلامه. واعلم أن تجويز الأكثرين المسابقة بين العتيق والهجين والنجيب والنجبا محمول كما قاله في "الروضة" على ما إذا لم يقطع بسبق العتيق والنجيب. قوله: الأشياء التي جرى ذكرها في كلام الأصحاب لاعتبار السبق بها ثلاثة [أوجه: ] (¬1). أحدها: الكتد: بفتح التاء وكسرها والفتح أشهر وهو مجمع بين الكتفين بين أصل العنق والظهر. الثاني: الأقدام: وهي القوائم. والثالث: الهادي: وهو العنق. ونقل الإمام اختلاف وجه أو قول في أن الاعتبار بالهادي أم بموقع الأقدام والكتد. ورأي الثاني أقيس. والذي يوجد لعامة الأصحاب في كتبهم: أن الاعتبار في الإبل بالكتد -وفي الخيل بالهادي، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو فلا يمكن اعتباره والخيل تمدها. قالوا: فإذا استوى الفرسان في خلقة العنق طولًا وقصرًا فالذي تقدم بالعنق أو ببعضه هو السابق، فإن اختلفا وتقدم الأطول نظر: إن تقدم بقدر زيادة الخلقة فما دونها فليس بسابق، فإن تقدم بأكثر فسابق. وحُكيت أوجه أخرى ضعيفة، إلى أن قال: والوجه السابع المعتبر ما شرطاه من الكتد أو الهادي. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

واعلم أن ما رجحه الرافعي من اعتبار الكتد في الإبل مقتضاه: أنه لا فرق فيه بين الإطلاق وغيره حتى لو شرطا غيره لبطل العقد. وتعليله بأنه لا يمكن اعتبار الأذن صريح في ذلك. وقد ذكر النووي أيضًا في "الروضة" هذا التعليل، ثم استدرك على الرافعي في حكاية الوجه السابع، فقال: قلت: هذا السابع ضعيف. لأن المسألة في ما إذا أطلقا. والله أعلم. وما ذكره من "زوائده" من تخصيص ذلك بحالة الإطلاق هو ما ذكره الشيخ في "المهذب"، لكن طريقة الرافعي صريحة في منافاته وإلا فليصرح ببطلان التوجيه المذكور أولًا. قوله: ولو سابقا على أن من سبق منهما بأقدام معلومة على موضع كذا، فله السبق. حكى الأئمة عن صاحب "الإفصاح": أنه يجوز؛ لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه ويجعل السبق لمن تقدم بالقدر المشروط فهو كشرط المحافظة في المناضلة، وأنه قال: رأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطل العقد به، ولا أعرف له وجهًا. قال الرافعي: والغاية في الحقيقة نهاية الأقدام من ذلك الموضع، لكنه شرط في الاستحقاق تخلف الآخر عنها بالقدر المذكور. انتهى ملخصًا. والصحيح ما قاله صاحب "الإفصاح"، [فقد صححه النووي في "أصل الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام] (¬1) الرافعي فتفطن له، والقائل: إنه لا يعرف للمانع وجهًا هو صاحب "الإفصاح" لا الرافعي، كذا بينه البغوي في "التهذيب"، ومنه أخذ ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الرافعي المسألة. وقد ذكر الرافعي في الشرط السادس من الباب الثاني: أنه يشترط تساوي المتناضلين والمتسابقين في الوقف حتى لو شرطا أن يكون موقف أحدهم أقرب لم يجز. وما ذكره هناك غير ما ذكره هنا فاعلمه. قوله: فلو تسابقا على عوض كان في الذمة، قال في "البحر": فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز الاعتياض عنه. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاقه، لكن قد تقدم في الكلام على المبيع قبل القبض [أن الدين إن لم يكن ثمنًا ولا مثمنًا كدين الغرض والإتلاف جاز الاعتياض عنه بلا] (¬1) خلاف، وإن كان مثمنًا كدين السلم لم يجز بلا خلاف، وإن كان ثمنًا فهذا موضع الخلاف. والخلاف فيه قولان: الجديد: جوازه. والقديم: منعه. فتلخص [أيضًا] (¬2) أن الخلاف ليس كما أطلقه. وأنه أيضًا قولان لا وجهان كما قاله هاهنا. قوله: ولو شرط -أي المخرج- على السابق أن يطعم السبق أصحابه فسد العقد كما لو باعه شيئًا بشرط أن لا يبيعه. وعن أبي إسحاق وجه أنه يصح العقد وقبوله الإطعام عدة إن شاء وَفَّى بها وإلا فلا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

قال النووي من "زوائده": وفي "التنبيه" وجهان آخران: أحدهما: يفسد المسمى ويجب عوض المثل. والثاني: يصح العقد ولا عِوض. هذا لفظه. فأما الوجه الأول: فمذكور في "التنبيه" كما ذكره، وعلته أن المسابقة لما جاز عقدها بالمال تارة وبعدمه أخرى لم يكن العوض ركنًا فيها، وحينئذٍ فلا يقتضي فساده بطلان العقد بل الرجوع إلى عوض المثل قياسًا على النكاح. أما الوجه الثاني: فعبارة "التنبيه" فيه: وقيل: يصح، ولا يستحق شيئًا. وقد شرحه ابن الرفعة وغيره: على أن المعنى أنه لا يستحق المشروط له الطعمة شيئًا، وهذا هو وجه أبي إسحاق. وأما تصريحه بأنه لا عوض له فليس في "التنبيه"، وكيف يعقل القول بهذه المعاملة؟ وما فائدة صحة العقد على هذا التقدير؟ قوله: والمسابقة على المال عقد لازم في أصح القولين كالإجارة. والثاني: أنها جائزة كالجعالة، ثم قال: فإن فرعنا على الجواز فيجوز الزيادة والنقصان في العمل وفي المال بالتراضي. انتهى. تابعه في "الروضة" هنا على تقييد الجواز بالتراضي ومقتضاه: أنه ليس لأحدهما الانفراد به، وليس كذلك بل الأصح جوازه لأحدهما، فإن لم يرض صاحبه بالزيادة فليفسخ، وقيل: يمتنع مطلقًا، وقيل: إن كان متساويًا أو فاضلًا فله الزيادة، وإن كان مفضولًا فلا. كذا ذكره الرافعي في آخر الباب الثاني وحكى معه وجهًا آخر أنه لا

يجوز بالتراضي وبَيّن ضابط الفاضل والمفضول. قوله: فإن قلنا باللزوم فلا يجوز لهما الزيادة في العمل والمال ولا النقص منه. إلا أن يفسخا العقد الأول ويستئنفا عقدًا. فإذا سبق أحدهما فلابد من قبول الآخر بالقول ولا يكلف المسبق البداءة بتسلم المال بخلاف الأجرة. انتهى. ومراده بقوله: فإذا سبق أحدهما -أي أخرج المال- وهو بتشديد الباء وكذا مراده بالسبق أيضًا فتفطن له، وهو أيضًا بالتشديد. والسبق: بفتح الباء المخففة هو المال، وهاتان اللفظتان مأخوذتان من ذلك. ويوضح أن المراد ما ذكرناه: أنه لما ذكر قول الجواز وفَرّع عليه وذكر بعده قول اللزوم أعاد تلك الفروع بعينها على الترتيب المذكور على قول الجواز حاكمًا عليها بنقيض ما حكم به أولًا. ذكر هذا في مقابلة إخراج المال من أحدهما فتأمله يتضح لك. وقد عبر في "الروضة" بقوله: ولا يكلف المسبق البداءة بتسليم المال على المذهب. هذا لفظه وتعبيره: بالمذهب يقتضي أن الرافعي حكى طريقين، وليس كذلك، بل حكى فيه وجهًا باللزوم، وقال: إنه ضعيف. ذكر ذلك في الكلام على ألفاظ "الوجيز". واعلم أن ما ذكرناه في امتناع الزيادة في العمل والمال محله إذا قلنا: إن المسابقة لا يثبت فيها خيار المجلس، ولكنا إذا قلنا: بأنها لازمة إلحاقًا لها بالإجارة، فيجيء فيها الخلاف المذكور في الإجارة. كذا ذكره الرافعي في كتاب البيع ولم يتعرض له هاهنا، وقد ذكره أيضًا الشيخ في "التنبيه" هنا.

قوله: ويجوز ضمان السبق والرهن به على هذا القول على هذا المذهب وقال القفال قولان، كضمان ما لم يجب، وجرى سبب وجوبه، فأما بعد الفراغ من العمل، فيجوز ضمان السبق والرهن به على القولين، وإن كان السبق عينًا لزم المسبوق تسليمها. . . . إلى آخره. وما ذكره من جواز أخذ الرهن والتضمين على قول اللزوم مقتضاه أنه لا فرق في العوض بين الدَّين والعين، وهو في الدَّين مسلم، وأما العين فالأصح على قاعدة الرافعي: أن الرهن لا يصح، وأما الضمان: فإن التزم الضامن تسليم العوض وهو في يد باذله صح على الصحيح. والخلاف فيه كالخلاف في كفالة البدن، وإن ضمن قيمتها لو تلفت لم يصح في أصح الوجهين، هذا حاصل ما ذكره الرافعي في كتاب الضمان ومسألة الرهن مذكورة في كتاب الرهن.

الباب الثاني في الرهن

الباب الثاني في الرهن قوله: ولو أخرج الحزبان المال وشرطوا لواحد من الحزبين أنه إن كان الفوز لحزبه شاركهم في أخذ المال، وإن كان الفوز للحزب الآخر فلا شيء على ذلك الواحد إنما يغرم أصحابه، فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز ويكفي ذلك الشخص محللًا. وأصحهما: على ما ذكر الإمام المنع لأن المحلل هو الذي إذا فاز استبد بالمال. وهاهنا لا يستبد بل يوزع المال عليه وعلى أصحابه لو فازوا، ولو اشتمل كل حزب على محلل على الصورة المذكورة، قال الإمام: فيه وجهان مرتبان. وهذه الصورة أقرب إلى الصحة؛ لاشتمال كل حزب على محلل، والوجه المنع، فإن المحلل من يفوز بالإسباق. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر المسألة من أن الوجه المنع هو من تتمة كلام الإمام، فإنه هكذا ذكر، وصرح بنقله عنه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: قال الإمام: والوجه المنع. هذا لفظه. والمعنى: أن هذه الصورة وإن كانت أولى بالصحة من الأولى، فإن المتجه فيها أيضًا هو البطلان. إذا علمت ذلك فقد صحح النووي في "أصل الروضة" البطلان في المسألتين كما رجحه الإمام. قوله: إذا اختلف جنس ما يرمي به كالسهام مع المزاريق ففيه وجهان

كالوجهين في المسابقة على الإبل والخيل، وهذه الصورة أولى بالجواز، ومع هذا فالجواب في "المهذب": المنع. انتهى. وليس في كلامه ترجيح لشيء في مسألتنا وهي السهام مع المزاريق، وإن كان الصحيح الامتناع بين الخيل والإبل، فإن حاصل كلامه: أَنّا إن منعناه هناك فهاهنا وجهان، فإن هذا هو معنى الأولوية، والراجح: عدم الصحة، كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير"، فقال: ومع هذا الترتيب فالأشبه المنع. هذا لفظه. وصححه أيضًا النووي في "الروضة" ولم يُنَبّه فيها على أنه من "زوائده" فتفطن له. قوله: ولو شرطا ما هو واجب في العادة كإصابة الحاذق واحدًا من مائة ففي صحة العقد وجهان: أحدهما: المنع، فإن هذه المعاملة ينبغي أن يكون فيها خطر ليسعى العاقد ويتأنق في الرمي بمشاهدة رميته. انتهى كلامه. ولم يذكر الرافعي في هذه المسألة غير ذلك وهو كلام ناقص وغير منتظم. أما نقصانه: فواضح وهو عدم التعرض للوجه الثاني وتعليله وهو أولى بالذكر من الأول؛ إذ هو أخفى توجيهًا منه خصوصًا مع تعبيره بقوله: أحدهما، فإنه يستدعي ذكر الثاني، وأما إذا أرادوا الاقتصار على تعليل واحد فيقتصرون على الأغمض، ويعبرون بقولهم مثلًا: وجه المنع أو نحوه. وأما عدم انتظامه: فلأن ما ذكره في آخر كلامه من مشاهدة الرمي فلا ارتباط له بهذا الكلام فتأمله، وقد ظهر الساقط بحمد الله تعالى من كلام

"الشرح الصغير" فإنه قال: وجه المنع أن هذه المعاملة ينبغي أن يكون فيها خطر ليسعى العاقد ويتأنق في الرمي، والأصح عند جماعة منهم صاحب "الكتاب" أنه يصح ليتعلم الرمي بمشاهدة رميه. هذا لفظه. فسقط من الرمي إلى الرمي من الناقل من المسودة فلزم إخلال النُّسخ. وقد اختصر النووي في "الروضة" هذا الموضع باجتهاده فإنه قال: ففي صحة العقد وجهان: وجه المنع: أن هذا العقد ينبغي أن يكون فيه خطر ليتأنق الرامي في الإصابة. هذا لفظه. فأسقط من التعليل الكلام المشكل وهو الأخير وأتى بالباقي بصيغة لا تستدعي ذكر الوجه الآخر وتعليله. ولقد أحسن في هذا الاختصار حيث لم يتفطن للساقط ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وسكت الرافعي والنووي عما لو شرط إصابة تسعة من عشرة، وقد ذكرها الشيخ في "التنبيه" وحكى فيها قولين وصحح المنع كما في عشرة من عشرة. قوله: ثم كتب كثير من الأصحاب، منهم العراقيون مصرحة بأنه لابد من ذكر ما يريدان من القرع والخزق والخسق بخلاف الخرم والمرق فإنهم لم يشترطوا التعرض لهما. والأصح ما ذكره البغوي: أنه لا يشترط، قال: وإذا أطلقا العقد حملا على القرع، لأنه المتعارف. انتهى. تابعه في "الروضة" على نقله عن العراقيين. واعلم أن الماوردي والشيخ في "المهذب" بعد ذكرهما اشتراط بيان

الثلاثة، قالا: إنهما إذا أطلقا حمل على القرع، وهو يدل على أن التنصيص عليه إنما هو على جهة الأولوية عندهم. قوله: وهل يشترط في العقد التعرض للمحاطة والمبادرة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم ويفسد إذا تركاه لتفاوت الأغراض فإن من الرماة من يكثر الإصابة في الابتداء ويقل في الانتهاء، ومنهم من هو على عكس ذلك. وأصحهما على ما ذكر صاحب "التهذيب": أنه لا يشترط، وإذا أطلقاه حمل العقد على المبادرة، فإنها الغالب من المناضلة. انتهى كلامه. وقد اختلف تصحيحه في هذه المسألة، وصحح في "الشرح الصغير": أنه لا يشترط، وعَبّر: بالأصح ولم ينقله عن صاحب "التهذيب". وجزم في "المحرر" بأنه يشترط، فقال: فصل: يشترط في المناضلة بيان أنهما يرميان مبادرة أو محاطة (¬1). هذا لفظه. واختلف كلام النووي أيضًا في هذه المسألة، فإنه جزم في "المنهاج" بمثل ما في "المحرر" وأطلق في "الروضة" تصحيح عدم الاشتراط. قوله: ويشترط العلم بالمسافة التي يرميان إليها فإن لم يكن للرماة عادة فلابد من البيان في العقد وإن كان بأن كانت لهم هناك مرمى معروفة فقولان الراجح: أنه لا يشترط وينزل العقد على العادة. ثم إن المسألة على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يتوقع فيه الإصابة ويقرب. والثاني: ما تمتنع الإصابة فيها في العادة. والثالث: ما تعذر فيها الإصابة. انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) بأن تزيد إصابته على إصابة الآخر بكذا.

فيه أمران: أحدهما: أنه أهمل قسمًا رابعًا وهو: أن تتحقق الإصابة، وقد ذكر هذه الأقسام الأربعة في عدد الإصابة، وقد سبق الكلام على هذا القسم بعينه في المسألة السابقة، وذكرت فيه ما حاصله: رجحان الجواز فراجعه، ولا شك أن الرافعي تركه نسيانًا. الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر قبل ذلك أوجهًا في اشتراط بيان النوع الذي يرمي به كالقوس العربي والفارسي. أصحها وهو قول الأكثرين: أنه لا يشترط سواء غلب نوع أم لا؛ لأن الاعتماد على الرامي، وحينئذ فإن اتفقا على نوع وإلا فيفسخ العقد. والثاني: يشترط مطلقًا لاختلاف الغرض. والثالث: إن غلب في موضعهما نوع صح ونزل العقد عليه وإلا فيبطل. انتهى. وهذا مخالف لما ذكره في اعتبار المسافة بالنسبة إلى العادة، وذكر أيضًا أنه هل يجب التعرض لعدد الرمي أم لا؟ قال: فيه ثلاثة أوجه: الأكثرون: على أنه يشترط لأن الإرشاق في المناضلة كالميدان في المسابقة. والثاني: لا لأنه قد لا يستوفي الإرشاق لحصول المقصود في خلالها. والثالث: يشترط ذلك في المحاطة لينفصل الأمر وتتبين نهاية العقد دون المبادرة. انتهى. فقد صحح هاهنا اشتراطه مطلقًا من غير تعرض لعادة غالبة وغيرها. وذكر أيضًا نحوه في اشتراط البادئ منهما، ولم يصحح الرجوع إلى

العادة في تقديم مخرج المال، وهما أيضًا مخالفان لكل واحد من الموضعين السابقين. والمتجه استواء الجميع في اعتبار العادة أو عدم اعتبارها. واعلم أن صاحب "التنبيه" ذكر أن الرمي ينقسم إلى محاطة ومبادرة ومناضلة، ولم يتعرض الرافعي وغيره إلا للقسمين الأولين. قوله في "الروضة" في الكلام على المسألة: وهل يشترط ذكر الإرشاق وبيان عددها في العقد؟ فيه طريقان: المذهب وبه قطع عامة الأصحاب، يشترط ذلك في المحاطة والمبادرة ليكون للعمل ضبط. والإرشاق في المناضلة كالميدان في المسابقة. والثاني: فيه ثلاثة أوجه ذكرها الإمام، وجعلها الغزالي أقوالًا: أحدها: هذا. . . . إلى آخر ما سبق. واعلم أن الغزالي -رحمه الله- في "البسيط" قد جعل الخلاف أوجهًا كما جعله إمامه. وإنما ذكر أنها أقوال في "الوسيط" خاصة، وهكذا قيد الرافعي أيضًا، وأطلق النووي النقل عنه فتوجه عليه الاعتراض. على أن الغزالى وغيره من المراوزة لم يلتزموا التفرقة بين الأوجه والأقوال، وإنما اللفظان عندهم لمطلق الخلاف، فليس في التعرض لهذا النقل عنه كثير فائدة. قوله: الثاني: ذهب الإمام والغزالي إلى أنه لا يشترط استواء الحزبين في العدد حتى يجوز أن يكون أحد الحزبين ثلاثة والثاني أربعة والإرشاق مائة، وأن يرامي رجل رجلين أو ثلاثة فيرمي هو ثلاثة وكل واحد منهم واحد.

وذهب صاحب "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما إلى المنع. انتهى ملخصًا. ذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، والأكثرون على ما صرح به الرافعي في "الشرح الصغير" على الثاني. قوله: ولا يجوز أن يعقدا قبل تعيين الأعوان ولا وجه لالتزام الرماة في الذمة، نَصّ عليه القفال والأئمة. فيختار زعيم واحدًا والزعيم الآخر في مقابلته واحدًا، ثم الأول واحدًا ثم الآخر واحدًا إلى أن يستوعبوا. ولا يجوز أن يختار واحدًا جميع الحزب أولًا، لأنه لا يؤمن أن يستوعب الحذاق ولا يجوز أن يعينا الأصحاب بالقرعة لأنها قد تجمع الحذاق، في أحد الجانبين وفي الثاني الخرق، وأيضًا فالقرعة لا مدخل لها في عقود المعاوضات، وكذلك لا تجوز المسابقة على أن من خرجت منهم، فقد قال الإمام: لا بأس به، فإن القرعة بعد أن تعدل الحصص والأقساط معهودة، والذي أورده صاحب "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما المنع لأن تعيين المعقود عليه بالقرعة في المعاوضات لا يجوز. هذا ما ذكروه، ولك أن تقول: قد تقرر أن العقد لا يجوز قبل التعيين وحينئذ فقولهما لا يجوز التعيين بالقرعة وإنما التعيين بالاختيار، إما أن يريد به: أن مناضلة الحزبين على أن يكون مع كل زعيم الذين تخرجهم القرعة له لا يجوز، أو يريد به: أن المناضلة على عين من أخرجته القرعة لا يجوز، إن أراد الأول: فالمناضلة على من يختاران من بعد وجب أن لا يجوز أيضًا كما في سائر العقود، وإن أراد الثاني: وجب أن يحكم بالجواز، فإنهما إذا اختارا بلا قرعة وعقدا يجوز، فإذا خرجت القرعة ورضيا بمن أخرجته وعقدا عليهم وجب القول بالجواز.

فإذا لا فرق بين التعيين بالاختيار والتعيين بالقرعة. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من كونه لا يجوز أن يختار واحدًا ولا جميع الحزب ولا التعيين بالقرعة مخالف لما ذكره في أثناء السؤال الذي أورده على "المهذب" و"التهذيب" فإن فيه الجزم بالجواز، وسيأتيك واضحًا إن شاء الله تعالى في الكلام عليه، أعني على السؤال. نعم صرح الماوردي وغيره في الاختيار بما قاله الرافعي وعلله بأنه يختار الحذاق خاصة فيفوت المقصود من المسابقة وهو التحريض، وقياس القرعة كذلك. وقد يفرق بأن القرعة قد لا تؤدى إليه. والحذق المذكور أولًا في كلام "الرافعي": هو بالحاء المهملة المضمومة والذال المشددة المفتوحة جمع حاذق وهو الماهر الفطن. والخرق المذكور ثانيًا بالخاء المعجمة المضمومة والراء الساكنة جمع أخرق كأحمر وحمر، والأخرق: قليل المعرفة بالأمور. الأمر الثاني: في الكلام على قول الرافعي: وكذلك لا تجوز المسابقة على أن من خرجت منهم، فقد قال الإمام: لا بأس به. . . . إلى آخره، فإنه كلام ملبس، والمراد ما ذكره في "الروضة" فإنه عبر بقوله: ولهذا لا تجوز المناضلة على تعيين من خرجت القرعة عليهم، وقال الإمام: لا بأس به، هذه عبارته. وهو مراد الرافعي، إلا أن في تعبيره عجمة مع ما حصل في النسخ أيضًا من تغيير بعض الحروف كتعويض اللام الداخلة على ذلك بالكاف. والواو الداخلة على قد بالفاء، وغير ذلك. ولو عبر النووي بقوله: من تخرج القرعة "عليهم" عوضًا عن:

"خرجت"، لكان أظهر في المراد. الأمر الثالث: أن ما نقله الرافعي عن الإمام من جواز عقد المسابقة على من تخرجه القرعة قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو غلط عجيب فإن الذي ذكره الإمام أن التعيين قبل عقد المسابقة لابد منه، وأن التعيين إن كان بالقرعة فينبغي العدل في الحزبين أولًا قبل الإقراع بينهما، ثم حكى ما قاله الرافعي احتمالًا، وصرح بأنه بعيد. فقال: ومما ذكره الأئمة في اعتبار التعديل أنهم إذا كانوا يقتسمون الأعوان فلا ينبغي أن تحكم القرعة، فإن القرعة تعدل وتجور، فقد تجمع الحذق في جانب والخرق في جانب، بل الوجه أن يقتسموا على اعتدال فيضم حاذق إلى أخرق، وكذا في الجانب الثاني حتى إذا أرادوا بعد ذلك القرعة فلا بأس، فإن القرعة تستعمل في القسم بعد تعديل الحصص والأقساط، ثم قال: فنقول: إن اقترعوا ثم أنشأوا رضًا بما أمضته القرعة فلا بأس فإنهم لو تحكموا بذلك جاز، وإن قالوا: رضينا بما تقتضيه القرعة ثم فرض رجوع عن هذا الرضا جاز، وإن استمروا على الرضا ولم ينشئوا رضا بعد انفصال الأمر بالقرعة فالظاهر أن ذلك الرضا غير صحيح، فإنه في حكم المتعلق بما سيكون وتعليق الرضا باطل، ولا يمتنع أن يحتمل في معاملة مبناها على الخطر. والأَوْجَه: المنع، والاحتمال بعيد. وحينئذ، فإن فرض الاقتراع بعد العقد فالعقد باطل، لما قدمناه من اشتراط نزوله على [معينين]، وإن فرض قبل العقد فالعقد يرد على [معينين] فلتكف القرعة إذا كان التراضي يقع بعدها لأن من ضرورة [إنشاء] (¬1) العقد الرضا باللذين تقع الإشارة إليهم. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

هذا كلام الإمام، وقد علم به أن ما نقله عنه الرافعي وهم عجيب سببه أنه نظر إلى أول الكلام فقط ذاهلًا أيضًا عن المراد به. الأمر الرابع: أن السؤال الذي أورده الرافعي سؤال فاسد فلنتكلم أولًا على مدلوله ثم على الاعتراض عليه. فنقول: أما مدلوله فصحيح، وهو أن صاحب "التهذيب" و"المهذب" إن أرادا: أن عقد المناضلة لا يجوز على من تخرجه القرعة في المستقبل بعد العقد فهو مسلم، لكن التعبير بالاختيار كذلك أيضًا، فإن المتسابقين لو عقدا المناضلة على من يختارانه بعد ذلك لم يجز، لأنه قد تقرر أن العقد لا يجوز قبل التعيين، فإن أرادا: أنه لا يجوز عقدها على من خرجت عليه القرعة في الماضي وصار متعينًا بالقرعة فهو ممنوع، بل يجب القول بالجواز، فإنهما إذا اختارا من غير قرعة ثم عقدا يجوز فكذلك إذا رضينا بمن أخرجته القرعة وعقدا عليه، فلزم أن لا فرق بين التعيين بالقرعة والتعيين بالاختيار. هذا معنى كلامه وهو صحيح، وحاصله أنهما مسألتان: إحداهما: أن التعيين الطارئ هل يكفي لصحة العقد المتقدم؟ [والثانية: أن التعيين المتقدم] (¬1) هل يصح إيراد العقد عليه؟ وأما الكلام على الذي يرد على السؤال: فهو إيراد على ما قاله صاحب "المهذب" و"التهذيب" هنا، وما قالاه في [أول] (¬2) الكلام تبعًا للأصحاب لا بالتنصيص عليها بخصوصها: أن التعيين بالاختيار لا بالقرعة، وحينئذ فنقول: ما قاله الرافعي على تقدير إرادة الأول صحيح. وأما التقدير الثاني: وهو أن يريد أن الذي أخرجته القرعة لا يجوز إيراد عقد المسابقة عليه، فالذي رده به وهو جواز عقدهما على ما يختاراه من ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ.

غير قرعة فاسد، فقد سبق أن الاختيار الجائز أن يختار هذا واحدًا وذاك واحدًا إلى استيعاب الجماعة، وأن أحد الزعيمين ليس له اختيار أصحابه أولًا، وحينئذ فالقرعة ليست نظير ذلك؛ لأنها قد تخرج على الحذاق جميعهم. قوله: فإذا أنضل أحد الحزبين فيقسم المال بينهم على عدد رؤوسهم أو على عدد الإصابات؟ فيه وجهان: أشبههما وهو المذكور في "الكتاب" وحكى الإمام القطع به: أنه يقسم على عدد رؤوسهم. انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح القسمة على عدد الرؤوس ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وعبر بمثل ما عبر به هنا، ثم خالف في "المحرر" فرجح الوجه الآخر، فقال: وهل يقسم المال بينهم على عدد رؤوسهم أو بحسب الإصابة؟ فيه وجهان: أشبهما: الثاني. هذا لفظه. وهو اختلاف عجيب حيث عبر بالأشبه في الموضعين، والذي يظهر أن الرافعي أراد الأول فسبق القلم إلى الثاني لقرينة ما ذكرناه مع عدم نقله لترجيح مقابله عن أحد. ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج"، وصرح بلفظ: "الصحيح" فيهما عوضًا عن "الأشبه". قوله: هذا إذا أطلقوا العقد، فإن شرطوا أن يقسموا على الإصابة فالشرط متبع وللإمام فيه احتمال. انتهى. واعلم أن الإطلاق يقتضي التساوي في المال المخرج، ومع ذلك ففي شرط التفاوت فيه وجهان ومسألتنا نظيره. قوله: ولو انصدم السهم بالأرض ثم ازدلف -أي انتقل- وأصاب الغرض حسب له على الأصح، وقيل: لا يحسب. انتهى. وإذا قلنا: بأنه لا يحتسب له فلا يحتسب عليه أيضًا، ذكره الشيخ في

"التنبيه". قوله في "أصل الروضة": ولو ازدلف ولم يصب الغرض حسب عليه على الأصح. انتهى كلامه. وما صححه من الحسبان عليه قد خالفه في "تصحيح التنبيه" فصحح أنه لا يحسب عليه، وليست المسألة في "المنهاج". قوله: أما إذا قالا: يرمي عشرين رشقًا على أن يسقط الأقرب الأبعد فمن فضل له خمسة فهو ناضل، فهو صحيح والشرط متبع على المذهب، ثم قال: فإذا وقع سهم أحدهما بقرب الغرض وأصاب سهم الآخر الغرض، فالمنقول: أن الثاني يسقط الأول كما يسقط الأقرب الأبعد. ولك أن تقول: ينبغي أن ينظر إلى لفظ الشرط في العقد إن كان الشرط إسقاط الأسَدّ أو الأصوب غيره فهذا ظاهر، وكذا إن كان الشرط إسقاط الأقرب الأبعد على معنى الأقرب إلى الصواب، وأما إذا كان الشرط إسقاط الأقرب إلى الغرض الأبعد عنه، فينبغي أن يتساويا لأن الموصوف بأنه أقرب إلى الغرض وأبعد عنه ينبغي أن يكون خارجًا عنه، وهما جميعًا في الغرض. انتهى كلامه. والذي قاله يجاب عنه: بأن هذا أَسَدّ فاعتبر، كما إذا شرط الخسق فمرق. وقد صرح البغوى وابن الصباغ بالصورة الثانية، وأجابا بما تقدم، وأشارا إلى هذا الجواب. قوله في "أصل الروضة": ولو هبت الريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر، فأصاب الموضع المنتقل عنه حُسب له إن كان الشرط الإصابة، ثم قال: ولو أصاب الغرض في المكان المنتقل إليه حُسب عليه لا له. انتهى. وما ذكره من أنه يحتسب عليه عند إصابة الغرض يؤخذ منه الحسبان

عليه بطريق الأولى إذا لم يصبه. إذا علمت ذلك فقد خالف في "المنهاج" فقال: ولو نقلت ريح الغرض، فأصاب موضعه حسب له وإلا فلا يحتسب عليه. هذا كلامه. والمسألة مذكورة في أكثر نسخ "المحرر" على الصواب، وفي بعضها كما في "المنهاج" فلعلها الواقعة له. قوله: ولو عقد المناضلة في الصحة ودفع المال في مرض الموت، فهو من رأس المال إن جعلناها إجارة، وإن قلنا: جعالة فوجهان، ولو ابتدأ العقد في المرض فيحتمل أن يحسب من الثلث، ويحتمل أن ينبني على القولين. ذكره في "البحر". انتهى. قال في "الروضة": الأصح أو الصواب القطع بأنه من رأس المال في الصورتين، سواء قلنا إجارة أو جعالة؛ لأنه ليس بتبرع ولا محاباة فيه وإذا كان ما يصرفه في ملاذ شهواته من طعام وشراب ونكاح وغيره مما لا ضرورة إليه ولا ندبه الشرع إليه محسوبًا من رأس المال فالمسابقة التي ندب الشرع إليها ويحتاج إلى تعلمها أولى.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في نفس اليمين قوله: ينعقد اليمين على المستقبل والماضي، فإن حلف على ماض كاذبًا وهو عالم فهي اليمين الغموس، سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار. انتهى. وما اقتضاه كلامه من انعقاد يمين الغموس قد تابعه عليه في "الروضة"، وذكر ابن الصلاح في "مشكل الوسيط": أنها غير منعقدة عندنا، وأنا نوافق أبا حنيفة في عدم انعقادها، قال: ونحن نعتبر في وجوب الكفارة مجرد العقد والحنث، وقد وجد أولًا تعبير الانعقاد أي تعبير عقدها لا انعقادها، وذكر الماوردي نحوه فقال: فإذا ثبت وجوب الكفارة في اليمين الغموس ففي يمين محلولة غير منعقدة أولى، هذه عبارته. قوله في "الروضة": ويستحب للمخاطب إبرار الحالف فإن لم يفعل وحنث الحالف لزمه الكفارة. انتهى. والذي يلزمه الكفارة هو الحالف لا المحلوف عليه خلافًا لأحمد. ولفظ "الروضة" موهم، وقد استدرك على الرافعي فقال: هذا إذا لم يكن في الإبرار مفسدة بأن يضمن ارتكاب محرم أو مكروه، وكلامه يقتضي: أن المستحب الذي لا يكره تركه يستحب إبرار الحالف على تركه، وليس كذلك فسيأتي في الباب الثاني أن الحلف على تركه والإقامة عليها مكروهان. فإذا كان الأمر كذلك في حق نفسه فبطريق الأولى في حق غيره.

قوله من "زوائده": ويكره السؤال بوجه الله تعالى ورد من سأل به للحديث المعروف فيهما. انتهى كلامه. والحديثان المشار إليهما ما رواه أبو داود عن جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" (¬1). وروى أبو داود أيضًا بأسانيد الصحيحين: "من سأل بالله تعالى فأعطوه" (¬2)، وقد علمت من الحديث الأول استثناء الجنة، وقد صرح به المصنف في "الأذكار". قوله: وإذا عقد اليمين بمشيئة الله تعالى لم يحنث، وهل نقول: اليمين منعقدة؟ منهم من قال: نعم، لكن المشيئة غير معلومة فلا يحكم بالحنث، هكذا نقل القاضي الروياني. ومنهم: من يطلق القول بأنها غير منعقدة، وهكذا نقل صاحب "التهذيب". انتهى. لم يصحح منهما شيئًا في "الروضة" أيضًا، والصحيح عدم الانعقاد كما قاله البغوي كذا جزم به الرافعي في الباب الرابع من أبواب الطلاق فقال: وكذا يمنع الاستثناء انعقاد التعليق كقوله: أنت طالق إذا دَخَلْت الدار إن شاء الله تعالى. ويمنع انعقاد النذر واليمين وصحة العفو عن القصاص والبيع وسائر التصرفات، وذكر في "المحرر" و"المنهاج" نحوه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1671) والبيهقي في "الكبرى" (7678) وابن عدي في "الكامل" (3/ 257) من حديث جابر - رضي الله عنه -، بسند ضعيف، ضعفه الألباني وجماعة. (¬2) أخرجه أبو داود (1672) والنسائي (2567) وأحمد (5365) وابن حبان (3409) والبخاري في "الأدب المفرد" (216) والطبراني في "الكبير" (13539) وابن أبي شيبة (4/ 447) والبيهقي في "الكبرى" (7679) والحاكم (1502) والطيالسي (1895) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 56) وعبد بن حميد (806) والقضاعي في "مسند الشهاب" (421) من حديث ابن عمر. وصححه الحاكم والألباني.

قوله: فإن قصد الاستثناء في خلال اليمين ففيه وجهان ذكرناهما في كتاب الطلاق، وممن صحح هذا الاستثناء: الداركي والقاضيان أبو الطيب والروياني، وممن لم يصححه: أبو الحسن ابن المرزبان وابن كج. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الخلاف الذي أشار إليه الرافعي في الطلاق محله في أول الباب الرابع المعقود للاستثناء، والخلاف الذي هناك غير الخلاف المذكور هنا، فإن الخلاف هناك محله إذا وجدت منه الاستثناء بعد فراغ اليمين، ومحله هنا إذا وجدت النية في أثنائها، فهما مسألتان فراجعه من هناك. الأمر الثاني: أن نُسخ الرافعي عارية من الواو بين أبي الحسين وابن المرزبان على جعل الثاني بدلًا من الأول، فإن ابن المرزبان كنيته أبو الحسين، وأتى في "الروضة" بابن القطان عوضًا عن أبي الحسين، وجعلهم ثلاثة وليس الأمر كذلك، وإن كان ابن القطان كنيته: أبو الحسين. قوله من "زوائده": والصحيح تعميم الاستثناء للحمل. انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها -رحمه الله- في ثلاثة مواضع: أولها: في الوقف. وثانيها: في الباب الرابع من أبواب الطلاق. وثالثها: في هذا الموضع. واختلف فيها كلامه وكلام الرافعي فراجعه مما سبق. قوله: وقول القائل: إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو بريء من الله تعالى، أو من رسول الله، أو من الإسلام، أو من الكعبة، أو مستحل الخمر يتضمن تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن اليهود، ثم قال: هذا إذا قصد القائل تبعيد النفس عن ذلك، فأما من قال ذلك على قصد الرضى باليهود

وما في معناه، إذا فعل ذلك الفعل فهو كافر في الحال. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في القسم الأول من اشتماله على تعظيم الإسلام وإبعاد النفس عن اليهود، قد ذكر قريبًا منه في "الروضة"، وهو يقتضي أن لا يكون حرامًا، ثم خالف -أعني: النووي- في كتاب "الأذكار" فجزم بالتحريم، فقال في آخر الكتاب: فصل: يحرم أن يقول إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو نحو ذلك، فإن قاله وأراد حقيقة فعله وخروجه عن الإسلام بذلك، صار كافرًا في الحال، وجرت عليه أحكام المرتدين، وإن لم يرد ذلك لم يكفر لكنه ارتكب محرمًا فتجب عليه التوبة، هذه عبارته. وذكر أيضًا الماوردي في "الحاوي" ما حاصله: التحريم على وفق ما في "الأذكار" -فليؤخذ به. الأمر الثاني: أن كلام "الشرح" و"الروضة" ساكت عن حالة الإطلاق كمن مات عقب ذلك أو غاب وتعذر مراجعته، هل نحكم بالكفر فيها أم لا؟ والقياس يقتضي التكفير إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره؛ لأن اللفظ بوضعه يقتضيه، وكلام النووي السابق نقله عن "الأذكار" يقتضي أنه لا يكفر بذلك، والقياس خلافه. قوله: وأما: تالله بنقطتين من فوق فمنهم من قال: ليس بيمين، والأظهر: القطع بأنه يمين، واختلفوا في تأويل الأول، فمنهم من حمله على ما إذا قال له القاضي: قل: بالله، الموحدة فأتى بالمثناة لا تحسب للمخالفة، قال القفال بخلاف العكس، فإنه يحسب لكثرة استعماله، ولو أمره بالموحدة فأتى بالواو، قال الإمام: فيه تردد لأنهما لا يكادان يتفاوتان في مجرى الكلام ولا يمتنع أن لا يحسب للمخالفة، وهذا المعنى يأتي أيضًا في

صور القفال. انتهى. واعلم أن التردد الذي ذكره الإمام ذكره القاضي الحسين، وطرده في ما إذا أمره بالموحدة فأتى بالمثناة، وجميع ما نقلته عن الرافعي ليس فيه لفظة "يحنث" بالمثلثة في آخره، بل "يحسب" بالسين، فاعلم كل ما ذكرته. قوله: لو قال: بالله، فشدد اللام كما كانت وحذف الألف بعدها فهو غير ذاكر لاسم الله تعالى، ولا حالف لأن البلة هي الرطوبة، فلو نوى بذلك فقال "الشيخ أبو محمد" و"الإمام" و"الغزالي": هو يمين ويحمل حذف الألف على اللحن؛ لأن الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام والخواص. انتهى. وقد وافق في "الروضة" على خطأ إطلاق هذه اللفظة لهذا المعنى ولكن نازع في تسميته لحنًا فقال: ينبغي أن لا يكون يمينًا لأن اليمين لا يكون إلا باسم الله تعالى أو صفته، ولا يُسلم أن هذا لحن لأن اللحن مخالفة صواب الإعراب، بل هذه كلمة أخرى، وما ذكراه معًا ليس كذلك بل هي لغة أخرى حكاها الزجاجي وكذا حكاه عنه "ابن الصلاح". قوله: النوع الثالث: ما يطلق في حق الله تعالى وفي حق غيره ولا يغلب استعماله في الطرفين كالنبي والموجود والحي والمؤمن والكريم وما أشبهها، فلا يكون يمينًا إن نوى به غير الله تعالى أو أطلق، فإن نوى به الله تعالى فالذي أورده صاحب "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: أنه يكون يمينًا، ثم قال: والأظهر وبه أجاب الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والعراقيون وتابعهم الإمام والغزالي: أنه لا يكون يمينًا، ووجهوه بأن اليمين إنما ينعقد إذا حلف باسم مُعَظّم. انتهى كلامه. وما صححوه هنا من عدم الانعقاد ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وعبر: بالأظهر أيضًا، ثم خالف في "المحرر" فجزم بالانعقاد وهو الذي

صححه النووي في كتبه. قال المتولي: إذا حلف بالمصحف فإن قال: وحُرمة ما هو مكتوب فيه: فهو يمين، وكذا لو قال: وحرْمة هذا المصحف، لأن احترامه بحرمة ما هو مكتوب فيه، وإذا أراد الرق والجلد لم يكن يمينًا. انتهى. قال في "الروضة": لم يتعرض لما إذا قال: والمصحف وأطلق فهو يمين، صرح به بعض الأصحاب وبه أفتى الدولعي، قال: لأن الحالف إنما يقصد القرآن المكتوب فيه لا الورق والمداد. انتهى. ومراد النووي بالإطلاق: أن لا ينوي القرآن مع كون التصوير كما ذكره يعني من حذف لفظ الحرمة. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الدولعي ليس مطابقًا للتصوير، ويدل عليه التعليل الذي ذكره. الثاني: أن ما قاله في "الروضة" من كونه يمينًا عند الإطلاق مع حذف لفظة "الحرمة" خلاف المشهور. فقد جزم القاضي الحسين في "تعليقه" و"فتاويه" بأنه لا يكون يمينًا، ورأيته في أوائل "شرح التلخيص" للشيخ أبي علي مجزومًا به ومنقولًا عن الأصحاب، [ورأيته في "أدب القضاء" لابن أبي الدم مجزومًا به أيضًا ومنقولًا عنهم] (¬1) وزاد فقال: وقال: الشيخ أبو زيد: لو حلف بما في هذا المصحف لم يكن يمينًا، لأن الذي فيه سواد وبياض، قال: لو حلف بالذي أنزل القرآن على محمد، ففيه وجهان: مقتضى كلام ابن الصلاح في "فتاويه" والماوردي في "الحاوي": انعقاد الحلف بالمصحف، وحكى ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الشيخ أبو حامد في "تعليقه": وجهين في ما إذا حلف به ناويًا المتلو وهو القرآن. وحكى الماوردي في "الحاوي": وجهين في أنه هل يجزئ الحلف به عن الحلف بالله تعالى أم لا؟ أحدهما: نعم لاشتراكهما في الحنث بهما، والوجهان غريبان. قوله: ولو قال: أقسمت بالله، ثم قال: أردت به [يمينًا] (¬1) ماضية قُبل في الباطن، وأما في الظاهر: فإن علم قُبِل، وإن لم يعلم: فالنص أنه يُقبل وكذلك في إرادة الوعد كقوله: أُقسم، وقال في الإيلاء: إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، ثم ادعى ذلك أنه لا يُقْبل، وفي المسألتين ثلاث طرق: أشهرها قولان: أصحهما: القبول لظهور الاحتمال. والثاني: القطع بالمنع. والثالث: تقرير النصين، والفرق أن الإيلاء متعلق بحق المرأة بخلاف سائر الأيمان. انتهى ملخصًا. وما ذكره في الإيلاء من ترجيح القبول، قد ذكر فرعين يشكلان عليه: أحدهما: في أول هذا الباب فقال: وإذا حلف وقال: لم أقصد اليمين، صُدِّق، وفي الطلاق والعتاق والإيلاء لا يُصَدَّق في الظاهر لتعلق حق الغير به، هذا لفظه. والفرع الثاني: ذكره في آخر باب ما يقع به الحنث في أول الفروع الزائدة على فروع "الوجيز" فقال: حلف لا يدخل الدار، ثم قال: أردت شهرًا أو يومًا، فإن كانت اليمين بالطلاق أو العتاق: لم يقبل في ¬

_ (¬1) سقط من ب.

الحكم، ويلحق بهما الإيلاء لتعلقه بحق الآدمي، [وإن كانت اليمين بالله تعالى ولم تتعلق بحق الآدمي] (¬1) قُبِل ظاهرًا وباطنًا. انتهى. وتبعه في "الروضة" على هذه المواضع. قوله: وإذا أراد اليمين بهذه الألفاظ انعقدت يمينًا واحدة، والجمع بين الألفاظ تأكيد كقوله: والله الرحمن الرحيم، فلا يتعلق بالحنث فيها إلا كفارة واحدة، ولك أن تقول: إن قصد بكل لفظ يمينًا، فليكن كما لو حلف على الفعل الواحد مرارًا. انتهى. وما ذكره بحثًا رأيته في "الاستذكار" للدارمي نقلًا عن ابن القطان، فقال: إذا نوى التكرار ففي تكرر الكفارة القولان في من حلف على الفصل الواحد مرارًا وطرده أيضًا في قوله: والله الرحمن الرحيم، ونقله أيضًا في "الروضة" عنه. قوله: وفي نذر اللجاج والغضب ثلاثة أقوال: أحدها: تلزمه كفارة يمين. والثاني: الوفاء. والثالث: يتخير. وإيراد العراقيين يقتضي أن يكون المذهب هو التخيير، لكن الأصح على ما ذكره صاحب "التهذيب" وإبراهيم المروروذي والروياني والموفق ابن طاهر وغيرهم: وجوب الكفارة. انتهى ملخصًا. لم يصرح في "الشرح الصغير" أيضًا بتصحيح، وصحح في "المحرر" وجوب الكفارة، وعبر بالأصح، ذكره في كتاب النذر، وقد نقل في "الروضة" أيضًا هذه المسألة إلى النذر، وصحح من "زوائده" قول التخيير. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: وأما إذا قال: إن كلمت فلانًا، أو فعلت كذا فمالي صدقة، فالمذهب الذي قاله الجمهور ونص عليه الشافعي: أنه بمنزلة قوله: فعليَّ أن أتصدق بمالي، وطريق الوفاء أن يتصدق بجميع أمواله. انتهى كلامه. وما ذكره من أن طريقه هو الصدقة بالجميع. فيه كلام تعرفه قريبًا في أوائل كتاب النذر فراجعه.

فصل في لغات الباب

فصل في لغات الباب منها: ايم الله، بضم الميم وكسرها، والضم أشهر. ومنها لاها الله: بالمد والقصر. ومنها: نذر الغلق، ويمين الغلق: اسم لنذر اللجاج. هو بفتح الغين المعجمة وفتح اللام. لأنه يغلق به باب الفعل أي يسده. ومنها: رتاج الكعبة، براء مكسورة ثم بالمثناة من فوق والجيم، هو بابها، وقيل: غلق بابها، وكذلك الرتج أيضًا بفتح الراء والتاء، وهما في اللغة اسمان للباب العظيم كما قاله الجوهري، قال: ويقال: إنه الباب المغلق وفيه باب صغير.

الباب الثاني: في كفارة اليمين

الباب الثاني: في كفارة اليمين قوله: وفي السبب الموجب للكفارة وجهان: أحدهما: أنه اليمين إلا أنها توجب عند الحنث، كما يوجب ملك النصاب الزكاة عند انقضاء الحول، وكأن من قال به جعل الحنث شرطًا. وأظهرهما عند عامة الأصحاب: أن السبب هو اليمين والحنث جميعًا. انتهى. وللخلاف فوائد منها: جواز التكفير بالصوم قبل الحنث وفيه وجهان: إن قلنا: أنها تجب باليمين جاز، وإن قلنا: تجب بهما وهو الصحيح فلا؛ لأن العبادات البدنية لا يجوز تقديمها على وقتها. ومنها: إذا أراد العبد أن يكفر بالصوم بغير إذن سيده، وكان قد حلف بإذنه، فإن قلنا: إنها تجب باليمين جاز، وليس للسيد منعه. وإن قلنا: بهما، وهو الصحيح فلا يصح، وللسيد منعه أيضًا. وذكر بعضهم من فوائده أيضًا: ما إذا حلف ليفعلن كذا غدًا، فمات قبل الغد. فإن قلنا: إن الكفارة تجب باليمين وجبت عليه، وإن قلنا: بهما وهو الصحيح فلا. واعلم أن الإمام حكى وجهًا ثالثًا أن الكفارة تجب باليمين، ووقت وجوب إخراجها الحنث، قال: وهو كلام سخيف. وحكى الماوردي رابعًا: أنها تجب بالحنث وحده لتعلقها بحل ما عقده،

واليمين شرط، قال: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، ثم قال: والصحيح عندي اعتبار حال اليمين، فإن كان عقدها طاعة وحلها معصية وجبت الكفارة بالحنث وحده، وإن كان عقدها طاعة وحلها طاعة وجبت باليمين والحنث، ذكر ذلك في فصل أوله: فإذا ثبت وجوب الكفارة. وهو وجه خامس، وقد سكت عما إذا كان عقدها وحلها مباحين إلا أنه قال في هذه الصورة قبل ذلك: إن الكفارة تتعلق باليمين وإنها بالحنث أحق، ويظهر مجيء ذلك هنا. قوله: وإن كان الحنث بارتكاب محظور بأن حلف لا يشرب الخمر، فهل يحل التكفير قبل الشرب؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن القاص: المنع؛ لأنه يتطرق به إلى ارتكاب محظور، وهذا أرجح عند صاحب "التهذيب". والثاني: يجوز لوجود أحد السببين والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم، وهذا أقيس وأظهر عند الشيخ أبي حامد والإمام والروياني وغيرهم. انتهى كلامه. ومقتضاه ترجيح الجواز، وقد صرح به في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين، وصحح في "المحرر" المنع، فقال: ولا يجوز إن كان الحنث محرمًا على الأصح، هذا لفظه، واستدرك عليه في "المنهاج" فصحح الجواز. قوله: ولا يجوز تقديم كفارة القتل، وجزاء الصيد على الجرح بحال، وعن أبي الطيب ابن شملة إثبات احتمال فيه تنزيلًا للعصمة وتحريم القتل بمنزلة أحد السببين، وحكى ابن كج في جزاء الصيد أيضًا، وجهًا أنه يجوز تقديمه على جرح الصيد، ووجهًا آخرًا أنه إن كان يقتله مختارًا بلا ضرورة. لم يجز التقديم، وإن اضطره الصيد إليه فيجوز. انتهى كلامه.

تابعه عليه في "الروضة"، وحاصله: أنه لا يجوز للمحرم أن يفدي الصيد [قبل جرحه، سواء اضطره الصيد] (¬1) إلى القتل أم لا. إذا علمت ذلك فاعلم أن الصيد إذا ألجأ المحرم إلى القتل، فإن كان لصيال منه فلا كفارة، وإن كان لافتراسه في الطريق، ولم يتأت المشي إلا بقتله فكذلك في أصح القولين، وحينئذ فنقول: ما ذكره الرافعي من المنع من التقديم عند الاضطرار غير مستقيم، أما في الأولى وعلي المذهب في الثانية: فلأنه لا كفارة حتى يمنع تقديمها، وأما على القول الضعيف القائل بالوجوب: فلأنه قد صحح بعد ذلك بدون الصفحة في الحلق وغيره ما يخالفه، فقال: وإن وجد سبب يجوزها، بأن كان في رأسه أذى واحتاج إلى الطيب لمرض أو إلى لبس المخيط لشدة البرد ففي جواز التقديم وجهان، والظاهر الجواز. هذا لفظه. وحينئذ فقياس الصيد على هذا تصحيح الجواز واعلم أنه إذا اضطر إلى أكل الصيد، أو ركبه صائل تجب عليه على الصحيح. فإن أراد الرافعي هذه الصور ونحوها وفيه تعد لم يستقم تصحيح امتناع التقديم لما ذكرناه من كونه كالحلق ونظائره في وجود السبب، بل أولى؛ لأن السبب في المضطر واجب الفعل، وكذلك في المصول عليه إذا كان الصائل كافرًا مطلقًا ومسلمًا قصد التحريم، والطفل ونفسه على قول مشهور. قوله: الرابعة: يجوز تعجيل المنذور إذا كان ماليًا، كما إذا قال: إن شفا الله مريضى أو رد غائبى فلله علي أن أعتق عبدًا أو أتصدق بكذا يجوز تقديم الإعتاق والصدقة على الشفاء ورجوع الغائب، وفي "فتاوى القفال" ما ينازع فيه. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما ذكره هنا من الجواز حتى أشعر كلامه باستغراب خلافه غريب. فقد سبق منه في باب تعجيل الزكاة أن الأصح المنع، وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: المسألة الثانية: الأيمان مكروهة إلا إذا كانت [في طاعة] (¬1) كالبيعة على الجهاد وكما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "والله لأغزون قريشًا" (¬2)، ويستثنى أيضًا الأيمان الواقعة في الدعاوى إذا كانت صادقة فإنها لا تكره. انتهى. وما اقتضاه كلامه من عدم وجوب اليمين في الدعاوى فيه تفصيل أذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. قال في "الروضة": ولا يكره أيضًا اليمين إذا دعت إليه حاجة كتوكيد كلام، وتعظيم أمر كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "فوالله لا يمل الله حتى تملوا" (¬3) وفي الحديث الآخر: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" (¬4). قوله: وإذا كفّر بالصوم لم يجب التتابع على الجديد، فإن أوجبناه ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود (3285) من حديث عكرمة يرفعه، وأخرجه ابن حبان (4343) والطبراني في "الكبير" (11742) وفي "الأوسط" (1004) وأبو يعلى (2674) والبيهقي في "الكبرى" (19712) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 241) والخطيب في "التاريخ" (7/ 404) وابن عدي في "الكامل" (5/ 298) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الشيخ الألباني: صحيح. وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (2/ 307) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وفيه محمد بن إسحاق البلخي، قال ابن حبان: يروي عن ابن عيينة وأهل العراق المقلوبات، ويأتي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات كأنه كان المتعمد لها. (¬3) أخرجه البخاري (43) ومسلم (785) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬4) أخرجه البخاري (4345) ومسلم (2359) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

فأفطرت المرأة بعذر الحيض فقد قيل: لا ينقطع التتابع، كما في صوم الشهرين. وقيل: ينقطع بالانقطاع؛ لأن تبعيد الأيام الثلاثة عن الحيض ممكن بخلاف الشهرين. وقيل: الحيض هاهنا كالمرض هناك ففي قطعه التتابع قولان، والظاهر: أنه يقطع التتابع. انتهى. والصحيح من هذه الطرق: طريقة القطع بالانقطاع كذا صححه النووي في "أصل الروضة" وكلام الرافعي لا يؤخذ منه ذلك، فإن الذي ذكره إنما هو ترجيح للحكم من حيث الجملة، ولم ينص على الترجيح في خصوصية الطرق. قوله من "زوائده": ويجزئ المنديل، صرح به أصحابنا، والمراد به هذا المعروف الذي يحمل في اليد، وقد صرح الدارمي بأن كل واحد من المنديل والعمامة يجزئ. انتهى كلامه. واعلم أن كثيرًا من الناس يستغرب كلام "الروضة" هاهنا فإن العمامة قد ذكرها الرافعي قبل هذا، وأما المنديل فمصرح به في أشهر الكتب وهو "التنبيه". والجواب: أن كثيرًا من المشارقة الماضين وإلى الآن يطلقون المنديل على العمامة، فنص -رحمه الله- على إجزاء المنديل بالاصطلاح المعروف، وأكد دفع الاحتمال بجمع الدارمي بينهما فتفطن لذلك. وما ذكره من الجمع بينهما ذكره أيضًا الروياني في "البحر" فقال: روى أبو يوسف ومحمد بن الحسن أن السراويل لا تجزئ لأنه تبع لغيره فرد عليهما بقوله: وهذا مبطل بالعمامة والمنديل. هذه عبارته.

لكنه حكى في "القلنسوة"، ثلاثة أوجه. ثالثها: إن كانت صغيرة تغطي قحف الرأس خاصة أي كالقبع والطاقية فلا تجزئ وإن كانت كبيرة تعم الرأس وتغطي الأذن والقفا فتجزئ. ثم قال: والمذهب عدم الإجزاء مطلقًا لأنها تابعة تلبس تحت العمامة. هذا كلامه. قوله: ولا يجزئ الدرع والخف والمكعب والجورب في أظهر الوجهين. وفي النعل طريقان: أشبههما على ما ذكر صاحب "الكتاب": إجراء الخلاف. والثاني: القطع بالمنع. انتهى. والراجح: طريقة الخلاف كما ذهب إليه الغزالي، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" وعبر بالأظهر، والنووي في "أصل الروضة". والمكعب: هو المداس. والجورب: سبق ذكر تفسيره في مسح الخف. والدرع: قميص لا كُمّ له. ومن المعلوم إطلاقه أيضًا على الدرع من الحديد، وفيه أيضًا وجهان حكاهما ابن الرفعة في "المطلب"، وصحح المنع. قوله من "زوائده": قال الدارمي: فإذا دفع ما لا يعتاد لبسه كجلود ونحوها لم تجزئه. والله أعلم. ومفهوم هذا الكلام أنه إذا اعتيد ذلك أجزأ. وقد جزم به الماوردي في "الحاوي الصغير" وحكى وجهين من غير ترجيح في ما إذا لم يعتد ذكر ذلك في الجلود واللبود والفراء.

وذكر مثله صاحب "البحر" أيضًا، وقد تعرض الرافعي للبد، ونقل عن الصيدلاني: إجزاءه حيث اعتيد ذلك. قوله: ولو أعتق المكاتب عن كفارته بإذن السيد ونفذنا تصرفاته إذا صدرت عن إذنه، قال الصيدلاني: الذي ذكره الأصحاب أن ذمته تبرأ عن الكفارة، والذي عندي فيه أن الأمر موقوف؛ لأنه قد يعجز فيرق فيكون الولاء موقوفًا، فوجب التوقف عن الكفارة. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا النقل عن الأصحاب، ومقتضاه تصحيح عدم التوقف، لكنه قد صحح التوقف في كتاب الكتابة، وسوف أذكر لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: والكفارة على التراخي. اعلم أن هذه المسألة مذكورة في الرافعي و"الروضة" في مواضع كثيرة واختلف فيها -إذا كان سببها معصية- كلامهما معًا. وقد تقدم إيضاح ذلك في كفارة الظهار فراجعه. قوله: أما إذا مات العبد وعليه كفارة يمين فللسيد أن يكفر عنه بالإطعام أو بالكسوة. فإن قلنا: إن العبد لا يملك بالتمليك لأن التكفير عنه في الحياة يتضمن دخوله في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك وليس للسيد ملك محقق، فإن الرق لا يبقى بعد الموت فهو والحر سواء. هذا ظاهر المذهب. قال الإمام: ويتطرق إليه احتمال أنه لا يجوز. انتهى. واعلم أن النووي -رحمه الله- قد علل هذا الحكم بقوله: لأن التكفير عنه في الحياة يتضمن دخوله في ملكه والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك؛ لأنه ليس للميت ملك محقق؛ ولأن الرق لا يبقى بعد الموت

فهو والحر سواء، وهذا ما قطع به الأصحاب، وفيه احتمال للإمام. هذا لفظه. وقد ظهر لك أن التعليل الثاني قد تحرف عليه لفظه واشتبه، ولزم من تحريفه ذكر ثلاث علل، وإنما ذكر الرافعي علتين. والتعليل الأول في كلام الرافعي مشكل بما اقتضاه كلامه في الوصية من أن الوارث إذا أعتق من مال نفسه عن ميته صح وكان الولاء للميت. ووجه الإشكال أن إثبات الولاء متوقف على الملك، فإن كان الأمر كما قاله هنا من أن التكفير بعد الموت لا يستدعي الدخول في الملك فلا ولاء له. وأما التعليل الثاني: فقد نازع فيه الشيخ أبو علي السنجي فجزم بأن الرق لا يزول بالموت، كذا رأيته في "شرح التلخيص" له. قوله: وإذا وَفّت التركة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدميين قضيت جميعها، وإن لم توف نظر إن تعلق بعضها بالعين وبعضها بالذمة، فيقدم ما تعلق بالعين سواء اجتمع النوعان أو تجرد أحدهما. فإن اجتمع النوعان والكل متعلق بالعين أو بالذمة فيقدم أولًا حق الله تعالى أو حق الآدمي أو يتساويان؟ فيه أقوال ذكرناها في مواضع. انتهى كلامه. وحاصله تخصيص الأقوال بما إذا تعلقا معًا بالعين أو بالذمة حتى إذا مات وعليه زكاة والنصاب باق فتقدم الزكاة قطعًا، وهذا الذي جزم به هنا من التخصيص قد اختلف فيه كلامه وكلام "الروضة" أيضًا. وقد تقدم مبسوطًا في الزكاة قُبَيْل باب أداء الزكاة فليراجع منه. قوله: وإذا لم يكن للميت تركة فتبرع الأجنبي بالإطعام أو الكسوة عنه

من مال نفسه ففيه وجهان: أظهرهما: الجواز، ثم قال: وفي الإعتاق في الكفارة المخيرة طريقان: أحدهما: أنه على الوجهين. والثاني: القطع بالمنع. انتهى. والصحيح من حيث الجملة: أنه لا يصح، كذا صححه هنا الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة"، وقد تقدم في كتاب الوصية من كلام الرافعي ما يدل عليه أيضًا. قوله في المسألة: ووجه منع الإعتاق بمعنيين: أحدهما: أن التكفير بغير الإعتاق متيسر فلا يعدل إلى الإعتاق لما فيه من عسر إثبات الولاء. والثاني: أن فيه إضرارا بأقارب الميت من حيث إنهم يؤاخذون بجناية معتقه فيمنع منه الأجنبي، فإن كان المعتق وارثا فوجهان بناء على المعنيين، إن قلنا بالأول: فيجوز وهو الأظهر، وإن قلنا بالثاني: فلا. انتهى كلامه بحروفه. والتفريع المذكور في آخر كلامه ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وهو على العكس، والصواب أن يقول: إن قلنا بالأول: فيمتنع، وإن قلنا بالثاني: فلا، وقد ذكره في "الروضة" كذلك إلا أنه أهمل التصحيح فلم يذكره بالكلية وهو عجيب.

الباب الثالث: فيما يقع به الحنث

الباب الثالث: فيما يقع به الحنث وفيه أنواع: النوع الأول: الدخول والمساكنة قوله: ويجوز أن لا يعد الشخص داخلًا ولا خارجًا كما أن من دخل ببعض بدنه أو خرج ببعضه لا يحنث في يمين الدخول والخروج. انتهى. وفي هذا الكلام تفصيل، ذكر بعضه في أثناء الحلف على الدخول. فنقول: كلامه هذا مشتمل على مسألتين: الأولى: أن يكون خارج الدار فيحلف على الدخول، فينظر: إن حلف على الإتيان به فأدخل رأسه أو يده أو رجليه وهو قاعد ونحو ذلك لم يبر. وإن أدخل رِجْلًا واحدة، فإن اعتمد على الخارجة -أي كان قواه عليها بحيث لو رفع الداخلة لم يسقط فإنه لا يبر أيضًا، كما قاله البغوي في "فتاويه". وإن اعتمد على الداخلة بر، وإن اعتمد عليهما ففيه نظر. وإن حلف على النفي فيكون الحكم بالعكس من الإثبات، فإذا أدخل يده مثلًا أو رجله من غير اعتماد لم يحنث، وإن كان مع الاعتماد حنث، فإن اعتمد عليهما ففيه نظر. ولو اضطجع وأخرج بعض بدنه فيحتمل اعتبار الأكثر بالمساحة، ويتجه اعتباره بالنقل لأن استقراره في الحقيقة عليه فأشبه الاعتماد على الرِّجْل. قوله: والحالف على أن لا يدخل لا يحنث بدخول الطاق المعقود خارج الباب؛ لأنه لا يقال دخل؛ وقيل: يحنث؛ لأنه من الدار، ألا ترى أنه يدخل في بيعها. انتهى.

والطاق في عرف أهل بغداد رحبة خارجة عن الباب عليها عقد معقود، والباب في صدر تلك الرحبة. قال الإمام: والذي أراه أن محل الخلاف في الطاقات التي هي أمام أبواب العظماء نهيًا للأتباع الذين لا يحجبون، فأما الأبراج التي تخرج فيه وابتدأ إلى الشارع وليست من تربيع الدار فلا يحنث بها وجهًا واحدًا. قوله: ولو حلف لا يتزوج وهو متزوج، أو لا يتطهر وهو متطهر، أو لا يتوضأ وهو متوضيء فاستدام النكاح والطهارة والوضوء لا يحنث. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وجزم في "المحرر" بالحنث، قال في "المنهاج" من "زوائده": وهذا غلط للذهول. والأمر كما قاله، فقد نص الشافعي في "الأم" على عدم الحنث في هذه المسائل، ونقله عنه القاضي أبو الطيب في "تعليقه". قوله في "الروضة": وهل استدامة الطِّيب تَطَيّب؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، وذكر الوجهين في ما لو حلف لا يطأ وهو في خلال الوطء فلم ينزع، أو لا يصوم وهو شارع في الصوم، أو لا يصلي وهو في خلال الصلاة. ويتصور ذلك في ما لو حلف ناسيًا. انتهى. ومقتضى هذا الكلام تصحيح عدم الحنث في الجميع، وليس مطابقًا لكلام الرافعي فإنه إنما عبر بقوله: وذكر وجهين أيضًا، أعني بدون "أل" واعلم أن مسألة الصلاة لها صورة أخرى، وهو ما إذا كان أخرس فحلف بالإشارة فإن الصلاة لا تبطل كما يعرف من كلامهم في الطلاق. قوله: قال في "التهذيب": لو حلف لا يغصب لم يحنث باستدامة

المغصوب في يده. انتهى كلامه. وهذا الحكم الذي نقله عن "التهذيب" وأقره عليه مشكل، فإنه يصدق أن يقال: غصبته شهرًا وسنة ونحو ذلك، وقد صرح الأصحاب في باب الغصب وفي مواضع كثيرة أن الغاصب في دوام الغصب غاصب، فوجب القطع بالحنث، وقد جزم به الماوردي في "الحاوي" فلتكن الفتوى عليه. وقد اغتر النووي بهذا النقل فظنه صحيحًا من جهة المعنى، ومجزومًا به عند الأصحاب فأطلقه في "الروضة" من غير إعزائه إلى "التهذيب" فزاد الأمر خللًا وإيهامًا فليجتنب. قوله: ولو حلف لا يسافر وهو في السفر فتوقف أو أخذ في العود في الحال لم يحنث، وإن سافر على وجهه حنث، وكأن الصورة في من حلف على الامتناع من ذلك السفر، وإلا فهو في العود مسافر. انتهى كلامه. وما ذكره من حمل العود على هذه الصورة قد تابعه عليه في "الروضة" وهو ذهول عن المنقول، فقد جزم الماوردي في "الحاوي" بأنه لا يحنث، وعلله بقوله: لأنه قد أخذ في ترك السفر. وحكى وجهين في ما لو أقام بمكانه: أحدهما: يحنث، لبقائه على السفر. والثاني: لا، لِكَفِّه عن السير. واعلم أنه لابد في الوقوف من النظر في أنه وقف ناويًا للإقامة أو قاصدًا لشيء لا يقطع السفر. قوله: وأصح الوجهين أن الخيام في حق القروي بيت. ثم قال: واعترض عليه بأن من حلف ببغداد وغيرها أن لا يركبن دابة، لا يحنث بركوب الحمار، وإن كان أهل مصر يسمونه دابة.

ولو كان بيوت العرب عند قوم تقتضي التعميم لكان يحنث. انتهى. وهذه المسألة -أعني: ركوب الحمار- قد أسقطها من "الروضة"، والحكم فيها لا يعرف إلا بتنصيص كما قاله الرافعي في الخيام، وكما قالوه في الوصية أنه يعطى إليه الحمار، وإن كان الموصي في غير مصر على الصحيح. قوله: ولو حلف لا يسكن، فمكث مشتغلًا بأسباب الخروج، بأن انتهض لجمع المتاع، وبأمر أهله بالخروج وبلبس ثوب الخروج فهل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما وينسب إلى العراقيين: نعم، لأنه أقام فيها مع التمكن من الخروج. وأرجحهما عند كثير من المعتبرين وربما لم يذكروا سواه: المنع وبه قال القفال، ويؤيده ما ذكروا أنه لو خرج في الحال ثم عاد لنقل متاع أو زيارة أو عيادة مريض لا يحنث. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الأصح عدم الحنث كذا جزم به في "المحرر"، وقال في "الشرح الصغير": إنه الأظهر. وفي "الروضة": إنه الأصح، ولم يُنَبِّه فيها على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. واعلم أن كلام الرافعي يقتضي التوقف في نسبة الحنث إلى العراقيين، وليس فيه وقفة فإن كتبهم مصرحة بذلك، فقد جزم به شيخهم الشيخ أبو حامد والماوردي وابن الصباغ وصاحب "البيان" حتى أنهم جعلوا المسألة خلافية بيننا وبين الحنفية.

الأمر الثاني: أنه قد جعل من هذه الصور الاشتغال بلبس الثياب، وفيه نظر، فقد جزم الماوردي فيه: بأنه لا يحنث مع جزمه بالحنث في الاشتغال بجمع المتاع ونحوه، وهو ظاهر فإن الاستنابة فيه ممكنة بخلاف اللبس. قوله: فإذا قال: والله لا أساكن فلانًا، فمكث الحالف وبنى بينهما حائلًا ولكل واحد من الجانبين مدخل أو أحدثًا مدخلًا، فوجهان: أحدهما: لا يحنث لانشغاله برفع المساكنة، وهذا ما رجحه في "التهذيب". وأصحهما عند الجمهور: الحنث، لحصول المساكنة إلى أن يتم البناء من غير ضرورة. انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح الحنث ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا، وأطلق الأصح من غير نقله عن الجمهور، وخالف في "المحرر" فقال: أظهر الوجهين أنه لا يحنث، وتبعه النووي في "الروضة" و"المنهاج" على هذا الاختلاف. قوله في "الروضة": الحالة الثانية: أن لا تعد المساكنة لفظًا فينظر إن نوى موضعًا معينًا من بيت أو دار أو درب أو محلة أو بلد فالمذهب والذي قطع به الجمهور: أن اليمين محمولة على ما نوى. وقيل: إن كانا يسكنان بيتًا من دار متحدة المرافق ونوى أن لا يساكنه، حملت اليمين عليه، وإن لم يكن كذلك ولا جرى ذكر تلك المساكنة كقول صاحبه: ساكني في هذا البيت، لم يقبل قوله ويحمل اليمين على الدار. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ولو نوى أن لا يساكنه حملت اليمين عليه، قد شاهدته بخط النووي كذلك كما هو في النُّسخ أيضًا وهو غير مستقيم، وقد سقط

منه شيء ذكره الرافعي. فإنه قال: ونوى أن لا يساكنه في ذلك البيت، وهذا واضح. وقوله كقول صاحبي إلى آخره مثال لجريان تلك المساكنة فاعلمه. قوله: ولو حلف أنه لا يصعد السماء ففي انعقاد يمينه وجهان: أصحهما على ما نقل في "التهذيب": المنع، لأن الحنث غير متصور. انتهى. صحح في "أصل الروضة" ما صححه في "التهذيب".

النوع الثاني: لفظ الأكل والشرب

النوع الثاني: لفظ الأكل والشرب قوله في "أصل الروضة" ولو قال: لا أشرب ماء الفرات، أو لا أشرب من الفرات، فسواء أخذ الماء بيديه أو في إناء أو كرع فيه حنث. انتهى. وتعبيره بقوله: لا أشرب ماء الفرات، رأيته كذلك بخط النووي -رحمه الله- كما هو موجود في نُسخ "الروضة" وهو غلط، لأن المعروف في المذهب في ما إذا حلف لا يشرب ماء النهر أو الغدير أو غيرهما: أنه لا يحنث بشرب بعضه، وقد ذكره قبل ذلك بنحو صفحة، والرافعي -رحمه الله- عَبّر بقوله: لا أشرب من ماء الفرات، بالإتيان "بمن" الدَّالة على التبعيض ومع الإتيان بها لا إشكال. قوله: ولو قال: لا أكلم زيدًا وعمرًا بغير لا. فلا يحنث إلا إذا كلمهما؛ لأن الواو العاطفة تجعل الجميع كالشيء الواحد، وكأنه قال: لا أكلمهما، بخلاف ما إذا كرر لا فإنهما يمينان. انتهى. وإنما قيد العطف بالواو لأنه إن كان بالغًا كان حالفًا على كلام عمرو بعد زيد بلا مهلة حتى لا يحنث إذا كلمهما معًا أو عمرو قبل زيد أو بعده بمهلة، ولو أتى بـ"ثم" فكذلك إلا أنه بمهلة، هذا هو مقتضى اللفظ. قوله: قال: لا آكل هذا الرغيف لم يحنث جمل بعضه، فلو بقي ما يمكن التقاطه وأكله لم يحنث. انتهى. وهذه المسألة قد سبقت في آخر تعليق الطلاق فقال: لو علق بأكل رغيف فأكله إلا فتاتًا، قال القاضي الحسين: لا يحنث كحبة الرمان. وقال الإمام: إن بقي قطعة تحس ويجعل لها موقع لم يحنث. وربما ضبط ذلك بأن يسمى قطعة خبز، وإن دق مدركه لم يظهر له أثر

في بر ولا حنث، والوجه تنزيل إطلاق القاضي على هذا التفصيل. هذا لفظه فافهم منه ما يفهم. قوله: ولو حلف لا يأكل الرؤوس أو لا يشتريها حمل على التي تميز عن الأبدان وتباع منفردة، وهي رؤوس الإبل والبقر والغنم. فلا يحنث برؤوس الصيد أو الحيتان، فإن كانت تباع منفردة في بلده حنث بأكلها هناك، وهل يحنث جملها في غير ذلك البلد؟ فيه وجهان: رجح الشيخ أبو حامد والروياني: المنع. والأقوى: الحنث وهو أقرب إلى ظاهر النص، ويؤيده أن رأس الإبل لا يعتاد أكله وبيعه إلا في بعض المواضع والحنث يحصل به. انتهى ملخصًا. وما ذكره هنا من رجحان الحنث ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا. إذا علمت ذلك فقد وافق النووي في "الروضة" على ما قاله الرافعي، وخالف في "تصحيح التنبيه" فصحح عدم الحنث، وكلام "المنهاج" أيضًا يوهمه. قوله: ولو أخرجت البيضة من جوف الدجاجة وهي منعقدة فأكلها حنث، ولو أخرجت بعد موتها فأكلها ففي "تعليقة المروروذي" ذكر وجهين فيه. انتهى. والأصح كما قاله في "زوائد الروضة": هو الحنث. قوله من "زوائده": ولو حلف على الخبز فأكل الرقاق والبقسماط أو البسيس. انتهى. هكذا ذكر -رحمه الله- التصوير بدون الحكم وترك بياضًا. فأما البسيس: فهو أن يلت السويق أو الدقيق أو الأقط المطحون بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل من غير طبخ، كذا ذكره الجوهري.

وأنشد عليه قول الراجز: لا تخبزا خبرًا وبسابسًا ... ولا تطيلا بمناخ حبسًا وإذا علمت ما ذكره تفسيرًا واستدلالًا قطعت أنه لا يحنث بالبسيس، وأما البقسماط: فقد سماه الجوهري خبزًا، فقال: الكعك خبز، وهو فارسي معرب، هذا لفظه. والبقسماط: كعك، والرقاق في معناه. نعم أهل العرف لا يسمون ذلك خبزًا. قوله: وهل يدخل في اليمين على اللحم ما لا يؤكل كالميتة والخنزير والذئب والحمار وغيرها؟ فوجهان: رجح الشيخ أبو حامد والروياني: المنع. والقفال وغيره: الحنث. انتهى. والأقوى كما قاله في "زوائد الروضة": عدم الحنث، وجزم به الماوردي في "الإقناع"، ورجحه المتولي. قوله في "الروضة": والمذهب أنه لا يدخل في اللحم الأمعاء والطحال والكبد والكرش والرئة. انتهى. هذا الكلام لا يعلم منه هل الأصح طريقة الخلاف أو القطع؟ ولا أن الخلاف في تلك الطريقة وجهان أو قولان؟ وقد بينه الرافعي بجعل الخلاف وجهين، وصحح الطريقة الذاهبة إليه. قوله: ولو حلف لا يأكل ميتة لم يحنث بأكل المذكاة وإن حلها الموت للعرف.

وإن أكل السمك فوجهان: قال في "التهذيب": المذهب أنه لا يحنث للعرف. انتهى. أطلق في "الروضة" تصحيحه. قوله أيضًا في "الروضة": ولو حلف لا يركب الحمار فركب حمار وحش، فوجهان بناء على أن الحمارين جنس في الربا أم جنسان؟ انتهى. وهو غلط فاحش فإن الحمار الأهلي لحمه نجس لا يصح بيعه لا بمثله ولا بغيره حتى يجيء الخلاف في أنَّا نجعله جنسًا واحدًا أو جنسين؟ وعبارة الرافعي صحيحة لا يرد عليها شيء فإنه قال: ولو حلف لا يأكل لحم البقر حنث بالجاموس، وكذا بالبقر الوحش على الأظهر، ونقل في "التهذيب" فيه وجهين بناء على الخلاف في أنه هل يجعل جنسًا واحدًا في الربا؟ ولو حلف لا يركب الحمار فركب حمار الوحش، ففيه وجهان متعلقان بالأصل المذكور. هذا لفظه. وحاصله أنّا إن جعلنا بقر الوحش والأهل في باب الربا جنسًا واحدًا لأجل اتحادهما في الاسم، فالاسم متحد في الحمارين أيضًا، فيحنث بهما فإن لم ننظر هناك إلى اتحاد الاسم وجعلناهما جنسين وهو الصحيح لم ننظر إليه أيضًا هنا، فلا يحنث بهما بل بالأهلي فقط. وهذا التخريج صحيح فغلط فيه -رحمه الله- فذكر ما ذكر. وقد تلخص أن الراجح في الوحشي هو: الحنث بأكل بَقَرِه لا بركوب حماره. والحكم في الثاني: يُشْكل بالحنث في خبز الأرز لمن لا يعتاده وفي بيت الشعر بالنسبة إلى الحَضَرِي. قوله: ولو حلف لا يأكل الجوز ففي "الكتاب": أنه يحنث بالجوز

الهندي، وفي "التهذيب": أنه لا يحنث به. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا ولا في "الروضة" والصحيح: عدم الحنث، فقد جزم به الرافعي في "المحرر" والنووي في "المنهاج" وكذلك صاحب "الحاوي الصغير". قوله: ولو حلف لا يأكل سويقًا فاستفه أو تناوله بملعقة أو بأصبع مبلولة حنث، ولو ماثه في الماء وشربه حنث. انتهى كلامه. وماث: بالميم والثاء المثلثة معناه: مرس وأذاب، تقول: مثت الشيء في الماء أموثه موثًا وموثانًا. إذا علمت ذلك فما ذكره الرافعي من الحنث في ما إذا أماثه وشربه، غلط مخالف للعقل والنقل. أما العقل: فلأنه شارب وليس بآكل. وأما النقل: فقد صرح ابن الصباغ [بالمسألة] (¬1) وعبر بالموث أيضًا، وجزم بأنه من قسم الشرب لا من قسم الأكل، وذكر إمام الحرمين مثله أيضًا. لا جرم أن النووي قد جزم في "الروضة" بأنه لا يحنث، ولم يُنَبّه عليه من "زوائده". قوله: ولو حلف لا يشرب السويق فالحكم بالعكس، ولو كان السويق خاثرًا بحيث أنه يؤخذ منه بالملاعق فتحساه فقد ذكر فيه اختلاف وجه، والأشبه: أنه ليس بشرب. انتهى كلامه. وهذا [التردد] (¬2) الذي أشار إليه الرافعي ليس هو خلافًا بين ¬

_ (¬1) في أ: في المسألة. (¬2) سقط من أ.

الأصحاب وإنما هو احتمالان للإمام، فنقله الرافعي نقل يوهم أنه خلاف محقق، ثم إنه غلط أيضًا في حكايته غلطًا يقتضي عكس الحكم، فإن الإمام جزم بأنه يطلق عليه اسم الشرب، ولكن تردد في أن اسم الأكل هل يطلق عليه أيضًا أم لا؟ فإنه قال في الباب الثاني من "جامع الأيمان" بعد ورقة من أوله ما نصه: والذي يتردد الرأي فيه أن يكون خاثرًا يتأتى تعاطيه بالملاعق ويتأتى تحسيه على خثورته فكيف الوجه؟ هذا محتمل عندي، يجوز أن يقال: تحسيه شُرب في حكم البر والحنث، ويجوز أن يقال: يتناوله اسم الأكل والشرب جميعًا، والعلم عند الله تعالى، هذا لفظه. وهو جازم بأنه شُرب حتى يحنث به جزمًا في مسألتنا على عكس ما قاله الرافعي وتبعه عليه في "الروضة"، والذي أوقع الرافعي في هذين الأمرين هو الغزالي في "الوسيط" فإنه قال: ولو حلف لا يشرب سويقًا فصار خاثرًا بحيث يؤكل بالملاعق فتحساه ففيه تردد. هذه عبارته من غير زيادة عليها. وكأنه أراد فرض المسألة في الأكل فسبق القلم أو الذهن إلى الشرب غلطًا وعبر بالتردد كما عبر به الإمام إلا أنه أطلقه ولم يضفه إليه، وإطلاقه صحيح إلا أنه محتمل لأمرين ففهم الرافعي منهما غير المراد، وقد وقع في "البسيط" على الصواب فإنه حكى الأمرين كما حكاهما في "النهاية"، ولو عبر في "الوسيط" بقوله "ولو حلف لا يأكل" لاستقام وقد نَبّه ابن الرفعة في "الكفاية" على أن التردد الذي حكاه الرافعي إنما هو احتمالين للإمام. ولا شك أن الأمر كما قاله من أن الرافعي إنما أراد التردد الذي حكاه الإمام، إلا أنه -أعني: ابن الرفعة- لم يتفطن لما وراء ذلك فوقع في

غلطين نبهت عليهما في "الهداية". قوله: ومنها إذا حلف لا يأكل السكر انعقدت اليمين على عين السكر دون ما يتخذ منه إلا إذا نوى، وكذا الحكم في العسل والتمر. ثم إن ابتلع السكر من غير مضغ فقد أكله كما لو ابتلع الخبز على هيئته. انتهى كلامه بحروفه. وما ذكره من الحنث بالابتلاع قد ذكر قبل هذا بنحو ورقة مثله أيضًا، لكنه ذكر ما يخالفهما معًا في باب تعليق الطلاق بعد قوله: قال: القسم الثاني في فروع التعليقات، بنحو كراس فحكى وجهين وصحح عدم الحنث، وقد سبق ذكر لفظه هناك، وذكر سبب الاختلاف فراجعه. قوله: والعطف في قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} (¬1) لتخصيص النخل والرمان كما في قوله تعالى: {وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬2) انتهى. لقائل أن يقول: كيف يكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام مع أن الفاكهة هنا نكرة في سياق الإثبات فلا تعم؟ ويجاب عنه: بأنها نكرة في سياق الامتنان، وهي تعم، كما قاله القاضي أبو الطيب. قوله: والثمار مختصة بالرطب، وأما الفاكهة فتطلق علي الرطب كالتفاح والليمون، دون القثاء والخيار، وعلى اليابس كالتمر والزبيب، وكذا لب الفستق والبندق ونحوهما في أقرب الوجهين. ثم قال بعد ذلك: وقال في "التتمة": الفاكهة لا تتناول اليابس ¬

_ (¬1) سورة الرحمن (68). (¬2) سورة البقرة (98).

كالتمرة، فإن كان هذا عن تحقيق أحوج إلى إعلام "الوجيز" انتهى كلامه. وقد ظهر منه أنه مستغرب لما في "التتمة" متوقف في إثباته مؤذن بأن غيره لم يقل به مع أنه ثابت، فقد جزم الماوردي في "الحاوي": بأن ما يزول عنه الاسم الذي كان له في حال الرطوبة كالتمر والزبيب لا يحنث به، وحكى وجهين في ما لا يزول كالتين والخوخ والمشمش. فتحصلنا على ثلاثة أوجه قديمة. أحدها: ما قاله المتولي، والذي قاله أوجه مما رجحه الرافعي، بل غالب ما نقله في هذا الفصل مشكل.

النوع الثالث: في العقود

النوع الثالث: في العقود قوله: ولو حلف لا يأكل طعامًا اشتراه زيد لم يحنث بما رجع إليه بالإقالة أو خلص له بالقسمة، وإن جعلناه مما يتعين ويحنث بما يملكه بالتولية والاشتراك والسَّلم؛ لأنها بيوع في الحقيقة والإطلاق، ولا يحنث بما يملكه بالصلح على الصحيح [الذي أورده الصيدلاني والبغوي والمتولي والروياني. انتهى كلامه] (¬1). وما ذكره في السَّلم مناقض لما صححه في بابه من عدم انعقاده بلفظ البيع، والرافعي -رحمه الله- قَلّد المتولي فإنه ذكر هذه المسائل بعينها في هذا الموضع، إلا أن المتولي قد ذكر مسألة السَّلم في بابها، وفي كتاب البيع وخرجها على أن الاعتبار بصيغ العقود أو بمعانيها؟ ولم يصحح فيها شيئًا. قوله في المسألة: ولو اشترى زيد طعامًا وعمرو طعامًا وخلطاه فأكل الحالف من المختلط فثلاثة أوجه: أحدها: إن أكل أكثر من النصف حنث وإلا فلا، وهذا عند استواء القدرين. والثاني: لا يحنث وإن أكل الجميع؛ لأنه لا يمكن الإشارة إلى شيء بأنه اشتراه زيد. والثالث وهو الأصح: إن أكل من المخلوط قليلًا يمكن أن يكون مما اشتراه الآخر كعشر حبات من الحنطة وعشرين لم يحنث، وإن أكل قدرًا صالحًا كالكف والكفين حنث. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثم قال: وقوله: في "الكتاب": حنث إذا أكل المخلوط. يقع ظاهره على الجميع، وإذا أكل جميع المخلوط يحنث باتفاق الوجه الأول والثالث. وينبغي أن يعلم بالواو للوجه الثاني، ولفظ "الوسيط": إذا أكل من المختلط. وهذا يخالف الوجوه الثلاثة، وهو بعيد في نفسه فحسن أن يأول فيحمل على الأصح. انتهى كلامه. وحاصله أن لفظ "الوسيط" مخالف للأوجه الثلاثة، ولفظ "الوجيز" يوافق بعضها، وهو عجيب فإن لفظ "الوجيز" يخالف الثلاثة أيضًا فإن مدلوله أنه يحنث بأكل الجميع، ولا يحنث بأكل البعض، وهذا ليس واحدًا من الثلاثة فتأملها. وأما كلام "الوسيط" فإنه لم يتعرض لتصويره بحث ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد أراد المائعات أو الأدقة ونحوها فإنّ لنا وجهًا أنه يحنث بأكل القليل منه لامتزاجه، حكاه الماوردي وقال: إنه مذهب البصريين، وهو وجه متجه ينبغي الجزم به. قوله: حلف لا يشتري أو لا يبيع، فوكل من باع أو اشترى له، أو لا يضرب عبده، فأمر من يضربه، أو حلف الأمير أو القاضي لا يضرب، فأمر الجلاد فضرب لم يحنث. انتهى. واعلم أن الرافعي في باب الخلع قد ذكر عن المتولي فرعًا مُقَيِّدًا لما أطلقه هنا وأقره عليه فينبغي استحضاره فقال: إذا قال: متى أعطيتني ألفًا فأنت طالق، فبعثته على يد وكيلها فقبضه الزوج لم تطلق لأنها لم تعط هي، ولو حضرت وقالت لوكيلها الحافظ لمالها: سَلِّم إليه، فَسلَّم طُلِّقت، وكأن تمكينها الزوج من المال المقصود إعطاء. قوله: ولو حلف لا ينكح أو لا يتزوج، فوكل به فقبل له الوكيل، ففي حنثه وجهان، الذي أورده الصيدلاني وصاحب "الكتاب": أنه لا يحنث

كالبيع، والذي أورده صاحب "التهذيب": هو الحنث، لأنه هنا سفير محض. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" ولا في "الروضة" هنا، والصحيح: هو الحنث، كذا جزم به الرافعي في كتاب النكاح في باب بيان الأولياء في الكلام على التوكيل فيه، وجزم به أيضًا في "المحرر" هنا وتبعه عليه في "المنهاج". نعم جزم صاحب "التنبيه" بأنه لم يحنث ولم يستدرك عليه في تصحيحه. قوله: ولو قبل لغيره نكاح امرأة فقضية الوجه الأول: أن يحنث، وقضية الثاني: أنه لا يحنث. انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي ذكره من عنده قد تابعه عليه في "الروضة" وقد صرح الإمام في "النهاية" بالمسألة، وجزم بأنه لا يحنث وعلله بأنه لا يطلق عليه اسم التزويج المطلق، بل يقال: تزوج لغيره، ولهذا لابد من التصريح في العقد بالسفارة. ثم قال: وقد قطع الأصحاب بهذا في الطريق هذه عبارته. ثم نقل عن الصيدلاني ما يخالفه وخطأه فيه، وجزم به أيضًا الغزالي وهو واضح فوجب اعتماده للنقل والدليل. قوله: وبمثله -أي عدم الحنث- أجاب في "الكتاب" في ما إذا قال: لا أكلم امرأة تزوجها زيد، وكلم امرأة قبل نكاحها لزيد وكيله، لكن هذا مبني على جوابه في المسألة السابقة، فإن قلنا: يحنث هناك حنث أيضًا هنا. انتهى. وما ذكره الغزالي في هذه المسألة قد نقله الإمام عن الأصحاب، قال: وهو القياس.

ونقل عن الصيدلاني: أنه يحنث، والصيدلاني قد تقدم عنه في المسألة السابقة موافقة الغزالي فكيف يستقيم تخريج هذه عليها؟ ! قوله: فروع: إذا حلف لا يحلق رأسه، فأمر غيره فحلقه ففيه طريقان: أحدهما: أنه كما إذا قال: لا أبيع، وأمر غيره بالبيع، وفيه الخلاف، أي والصحيح فيه أنه لا يحنث. والثاني: القطع بالحنث لاطراد العُرف في الحلق بذلك. انتهى كلامه. والصحيح هو الحنث كذا جزم به الرافعي في كتاب الحج من شرحيه "الكبير" و"الصغير" في باب محرمات الإحرام في الكلام على تحريم الحلق. قوله: ولو حلف لا يبيع لى زيد مالًا فوكل الحالف رجلًا بالبيع وأذن له في التوكيل فوكل الوكيل زيدًا حتى باعه حنث الحالف سواء علم زيد أم لم يعلم؛ لأن اليمين منعقدة على فض فعل زيد وقد فعل زيد باختياره. انتهى. وما أطلقه من الحنث عند جهل زيد تبعه عليه في "الروضة" وهو غير مستقيم، بل الصواب الجاري على القواعد أنه إن كان ذلك الغير لا يأثم بأمره [حنث، وإن كان يأثم بأمره] (¬1) فعلى القولين في الناسي. قوله: هذا في ألفاظ المعاملات، وسيأتي خلاف في أنه هل يحمل لفظ العبادات على الصحيح كما إذا حلف لا يصوم ولا يصلي؟ ولا خلاف في أنه إذا حلف لا يحج يحنث بالحج الفاسد لأنه منعقد يجب المضي فيه كالصحيح. انتهى كلامه. وفيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من وقوع خلاف يأتي بعد هذا في حمل العبادات ¬

_ (¬1) سقط من أ.

على الصحيحة، قد تابعه عليه في "الروضة" وهو سهو لا ذكر له، بل جزم بحملها على الصحيح، فإذا حلف مثلًا لا يصلي فأحرم بصلاة فاسدة لا يحنث، وإن أحرم بصحيحة ثم فسدت فيبني على أن اسم الصلاة هل يصدق بالإحرام أو بالركوع أو بالفراغ؟ فيحنث على الأول، ولا يحنث على الأخير. وأما الثاني: فإن فسدت بعد الركوع حنث وإلا فلا [وهذا البناء أيضًا موافق لما جزموا به من اشتراط الصحة] (¬1)، وقد ذكر قبل ذلك في ألفاظ العقود مثله أيضًا حتى إذا حلف لا يبيع [لا يحنث ببيع] (¬2) الخمر، فلو قال: لا أبيع الخمر، فكذلك على الصحيح، وقيل: يحنث ببيعه. نعم حكى الرافعي في الطلاق في الكلام على المسألة السريجية في موضعين منها خلافًا في أن اللفظ عند الإطلاق يتناول الصحيح والفاسد أم يختص بالصحيح؟ إلا أنه في أحد الموضعين قيده [بألفاظ العقود وأطلق في الآخر، وذكر نحوه أعني الخلاف] (¬3) في لفظ العقود قُبَيل الصداق بأوراق في الكلام على نكاح العبد، واقتضى كلامه هناك أنه وإن تناوله فلا يحنث به بلا خلاف. الأمر الثاني: إذا حلف لا يحج، فأحرم ثم جامع فإنه يحنث بالإحرام وذلك قبل حصول الإفساد، وحينئذ فكيف صورة الحنث بالحج الفاسد؟ ، وصورته ما إذا أحرم بالعمرة ثم أفسدها ثم أدخل عليها بالحج فإنه ينعقد فاسدًا على الصحيح، كذا ذكره الرافعي في الكلام على سنن الإحرام، ويتصور أيضًا في ما إذا حلف لا يحج حجة، ولا يصور بما إذا أحرم ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وهو مجامع، فإن القول بانعقاده فاسدًا، وجه مرجوح كما نبينه في موضعه. الأمر الثالث: أنّا قد فرقنا بين الفاسد والباطل في أبواب من العقود، منها: الخلع، ولا شك أنه كالصحيح في الحنث له لأن البينونة قد حصلت وملكت نفسها وحلت للأزواج. ومثله: الوكالة الفاسدة كما إذا سمى لها عوضًا فاسدًا ونحوه، وأما الكتابة الفاسدة فلا يتجه الحنث بها لأن أثرها لم يحصل قبل الإعطاء، وأما العتق الحاصل بعده فإنه لأجل التعليق. قوله: منها: إذا حلف لا يهب فيحنث بكل تمليك في الحياة خال عن العوض، ثم قال: ولا يحنث بالضيافة، لأنه لا تمليك فيها على الصحيح. قال في "التتمة": وفيها وجه يصير بناء على أنه يملك الضيف الطعام الذي يأكله. انتهى. وما ذكره هنا من كون الضيف لا يملك واستبعد خلافه غريب، فقد سبق في باب الوليمة أن الجمهور على كونه تَمَلّك، وقد تقدم هناك الكلام عليه مبسوطًا. قوله: ولو تم الإيجاب والقبول ولم يقبض فوجهان: أظهرهما عند المتولي: أنه يحنث، لأن الهبة قد تحققت والمتخلف الملك. وعند صاحب "التهذيب": أنه لا يحنث؛ لأن مقصود الهبة لم يحصل. انتهى. صحح الرافعي في "المحرر": أنه لا يحنث، وعبر بالأظهر، وصححه النووي في "زوائد الروضة"، والمسألة نظير البيع المستعقب لخيار المجلس والشرط.

وقد قالوا: إن اليمين المتعلقة به يدور الحنث والبر فيها على وقوعه سواء انفسخ أم لم ينفسخ، لا على المقصود منه وهو حصول الملك، فإذا قال السيد: إن بعت هذا فهو حر فباعه عتق في الحال، سواء قلنا: الملك للبائع أو للمشتري أو موقوف، كذا ذكره الرافعي في الباب السابع في تعليق الطلاق في أوائل الطرف السابع المعقود لأنواع من التعليق، وتبعه عليه في "الروضة" وعلل العتق على قول ملك المشتري بأن البائع يجوز له الفسخ وإعتاقه فسخ ويعود الملك بالإعتاق إلى البائع، والذي قالوه هناك أصوب من المذكور هنا ويؤيده أيضًا ما ذكره الرافعي في الإقرار: أن الإقرار بالهبة ليس إقرارًا بالقبض على المشهور، وقيل: إن كانت العين في يد الموهوب له فالقول قوله. وذكر أيضًا في أواخر الرهن في الاختلاف في قبض المرهون مثله. قوله: ولو حلف لا يعتق عبدًا فكاتبه فعتق بالأداء لم يحنث، ذكره ابن القطان. انتهى. وما نقله من عدم العتق قد تابعه عليه في "الروضة" إلا أن القاعدة: أن تعليق العتق مع وجود الصفة إعتاق، سواء كانت الصفة من فعل السيد أم لا. كذا صرح به في تعليق الطلاق في الكلام على نظيره، وهو أن تعليق الطلاق مع وجود الصفة تطليق، وهو في أثناء الطرف التالي المعقود للتعليق بالتطليق، وقد صرح الرافعي هناك بأن الخلع تطليق وإن كان متوقفًا على قبولها، قال: وإنما لم يقع الطلاق المعلق على التطليق لبينونتها، فتلخص أن الصواب: أن هذا إعتاق ويحنث به هاهنا. قوله: ولو حلف لا مال له، وله مكاتب، لم يحنث في أصح الوجهين لأنه كالخارج عن ملكه، ويحنث بأم الولد في أصح الوجهين، لأن رقبتها مملوكة له، ولسيدها منافعها، وأرش الجناية عليها، ثم قال ما نصه: وفي

"البيان" طريقة قاطعة بأنه لا يحنث بالمكاتب. انتهى كلامه. وهذا النقل عن "البيان" ليس مطابقًا للذي فيه، فإنه لما ذكر الحلف على أنه لا مال له لم يذكر فيه المكاتب بالكلية، إنما ذكر ذلك في الباب في الحلف على أنه لا عبد له. فقال بعد فراغه من الكلام على أنه لا مال له: فرع: وإن حلف لا يملك عبدًا وله مكاتب فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، ثم قال: ومنهم من قال: لا يحنث قولًا واحدًا، هذا كلامه وهي مسألة أخرى غير مسألة الرافعي، وهل حكمهما واحد أم لا؟ فيه نظر يحتاج إلى نقل، وذكر في "المهذب" مثل ما في "البيان". واعلم أن الخلاف المذكور في المكاتب مُفَرّع على قولنا: أنه باق على ملك السيد، وفيه ثلاثة أوجه حكاها في الكفاية هنا: أحدها: هذا، وهو المشهور. وثانيها: أنه مملوك لا مالك له كسترة الكعبة. وثالثها: أنه مملوك لنفسه ولم يعتق لأن ملكه لم يكمل. قوله: ولو كان يملك منفعة بوصية أو إجارة لم يحنث على الصحيح. انتهى. وما صححه من عدم دخول المنفعة في المال، قد جزم بخلافه في كتاب الوصية فقال: الأموال تنقسم إلى أعيان ومنافع، هذا لفظه، وتبعه في "الروضة" على الموضعين. قوله: ولو جنى عليه عمدًا فلم يقبض ولم يعف قال في "البيان": يحتمل أن يبني على أن موجب العمد ما إذا قلنا: القود، لم يحنث، وإن قلنا: القود أو المال، حنث، وقد يتوقف في هذا. انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": الصواب الجزم بأنه لا حنث. قوله: ولو حلف لا ملك له حنث بالآبق، والمغصوب وبأم الولد

وبالوقف إن قلنا: يملكه، وبالمنفعة المستحقة وبالدين، وقياس ما سبق مجيء الخلاف في الآبق والمغصوب، وإن كان في نكاح الحالف امرأة ففي "التتمة": إن الحنث يبنى على أن النكاح هل فيه ملك أم هو عقد حل؟ فإن قلنا: فيه ملك، حنث. انتهى كلامه. وما نقله -رحمه الله- في أم الولد وما بعده إلى الكلام على المرأة قد سقط من "الروضة" فقال ما نصه: فرع: حلف لا ملك له حنث بالآبق والمغصوب، وإن كان له زوجة قال المتولي: يبنى على أن النكاح هل هو عقد تمليك أو عقد حلّ؟ فإن قلنا: تمليك حنث. قلت: المختار أنه لا حنث إذا لم تكن نية؛ لأنه لا يفهم منه الزوجة. هذا لفظه. وكأنه انتقل نظره حالة الاختصار من المغصوب إلى المغصوب، أو سقط من النسخة التي اختصر منها. قوله في المسألة من "زوائده": وينبغي أن لا يحنث بالكلب والسرجين وغيرهما من النجاسات، ولا بالزيت النجس إذا لم نجوز بيعه. انتهى. وما اقتضاه كلامه من انتفاء الملك عن الزيت النجس مردود؛ لأنه قد كان قبل التنجيس مملوكًا له، ووقوع النجاسة لم تخرجه عن طهارة العين وإنما منعت بيعه، ومنع البيع لا يلزم منه عدم الملك بدليل أم الولد، والحبة من الحنطة والموقوف إذا ملكناه للآدمي وغير ذلك. واعلم أن الماوردي قد حكى ثلاثة أوجه في دخول الاختصاصات في مسمى الملك. ثالثها: إن صدق عليه هذا الاسم قبل ذلك، ويصدق عليه أيضًا بعده كجلد الميتة، فإنه يسمى مالًا وإلا فلا.

النوع الرابع: في الإضافات

النوع الرابع: في الإضافات قوله: ولو حلف لا يدخل مسكن فلان، حنث بدخول مسكنه المملوك، والمستعار والمستأجر، وفي المغصوب وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يسكن، وحكى الإمام فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحنث؛ لأنه المستحق لسكناه. وأصحها: وبه أجاب الصيدلاني: المنع؛ لأنه ليس مسكنه حقيقة. وثالثها: أنه إن سكنها يومًا أو ساعة حنث؛ لأنه أعده مسكنًا وهو على استحقاقه وإلا فلا. انتهى. هذا موجود في نسخ الرافعي، وهو غير منتظم من وجوه يرجع بعضها إلى التصوير، وبعضها إلى التعليل، وبعضها في حكاية الأوجه، فقد انكشف الغطاء عن ذلك بحمد الله تعالى، وظهر أن سبب هذا الخلط وعدم الانتظام سقوط شيء من كلام الرافعي عُلِمَ من "الشرح الصغير"، فإنه قال: وفي المغصوب وجهان: وجه المنع: أنه لا حق له فيه حتى يضاف إليه، والأصح: الحنث فإنه لا يسكنه، وفي ملكه الذي لا يسكنه ثلاثة أوجه: أحدها: يحنث، لأنه يستحق سكناه. . . . إلى آخر المسألة. هذا لفظ الرافعي بحروفه. وقد ظهر منه أن الساقط عجز المسألة الأولى وصدر الثانية. وقد اختصره في "الروضة" باجتهاده فقال: وفي المغصوب وجهان: لأنه لا يملك سكناه، قلت: أصحهما الحنث، والله أعلم. وفي دخول داره التي لا يسكنها أوجه إلى آخره. هذه عبارته، وهو اجتهاد حسن وقد وقع لنا مثل ذلك أيضًا في السقط وبيانه من "الشرح

الصغير" واختصار النووي له باجتهاده. قوله: حلف لا يدخل دار زيد، فباع زيد داره ثم اشترى غيرها، قال الصيدلاني: إن قال: أردت الأولى بعينها، لم يحنث بدخول الثانية. وإن قال: أردت أي دار تكون في ملكه، حنث بالثانية دون الأولى. وإن قال: أردت أي دار جرى عليها ملكه، حنث بأيهما دخل. انتهى كلامه. وسكت عن حالة الإطلاق، وقد نقل في "الكفاية" عن "زيادات العبادي": أنه لا يحنث بدخول الثانية في أظهر الوجهين. ونقل عن "تهذيب البغوي": عكسه، فقد راجعت "الزيادات" و"التهذيب" فرأيت فيهما ما يدل على ما ذكره إلا أنهما ليسا صريحين في ذلك. قوله: وإذا حلف لا يلبس ثوبًا حنث بلبس الرداء، ثم قال: ولا يحنث بوضع الثوب على الرأس، ولا بأن يفرشه ويرقد عليه، فإن ذلك ليس بلبس، ولو تَدَثّر به، قال في "الكتاب": فيه نظر، وأراد به تردد وجه، أحد الوجهين: أنه يحنث؛ لأن المتلفف في الدِّثار قريب من الارتداء. وأظهرهما: المنع لأنه لا يسمى لبسًا. انتهى كلامه. وما ذكره في التَّدَثُر محله فيما إذا تَدَثَّر بقميص ونحوه، فأما إذا تَدَثَّر بقباء أو فرجية ففيه تفصيل نقله عن الإمام في تحريمه على المحرم وأقره عليه فقال: إن أخذ من بدنه ما إذا قام عُدّ لابسه لزمه الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد، لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا انتهى.

تابعه في "الروضة" على نقل هذا التفصيل وسكوته عليه، وحينئذ فيجري مثله هاهنا ويحمل إطلاق الرافعي على ما تقدم، ولأجل هذا صرح الغزالي في "الوجيز" بتصويره في القميص. قوله: فرع: حلف لا يلبس الخاتم فجعله في غير الخنصر من أصابعه، فعن المزني في "الجامع الكبير": أنه لا يحنث، لأن الخاتم في العادة لا يلبس في غير الخنصر، وعلى هذا الجواب جرى صاحب "التهذيب" وقاسه على ما إذا حلف أن لا يلبس القلنسوة فجعلها في رجله. والذي حكاه الروياني عن الأصحاب: أنه يحنث. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة"، وفيه أمران يعلمان من كلام في الوديعة: أحدهما: أن الراجح ما قاله البغوي. الأمر الثاني: أن محل هذا الخلاف في الرجل أما المرأة فتحنث جزمًا. وقد سبق لفظ الرافعي هناك لغرض يتعلق به فراجعه، وسكت الرافعي عن حكم الخنثى، وقد سبق هناك بيان حكمه. قوله: إذا حلف لا يخرج فلان أو زوجته بغير إذنه أو إلا بإذنه فخرج بغير إذنه حنث، وإن خرج بإذنه لم يحنث. وهكذا لو قال: حتى آذن أو إلى أن آذن، أو إلا أن آذن وعلى التقديرين يَنْحَلّ اليمين حتى لو خرج بعد ذلك بإذن أو بغير إذن لم يحنث، وفي ما إذا قال: بغير إذني، أو إلا بإذني، قول أنها لا تَنحَل إلا بخروجها بالإذن، واختاره المزني والقفال، لأن المحلوف عليه هو الخروج بغير الإذن ولم يوجد، فأشبه ما إذا قال: إن خَرَجْت لابسة الحرير فأنت طالق، فخرجت غير لابسة فإن اليمين لا تَنْحَلّ، ووجه ظاهر المذهب

بوجهين: أحدهما: أن اليمين تعلقت بَخَرْجة واحدة وهي الأولى، وتلك الخَرْجَة إذا كانت بغير إذن توجب الحنث، فإن كانت بإذن حصل البر وارتفعت اليمين، ويؤيده أنه لو قال: إن كان خروجك الأول بغير إذني فأنت طالق، فخرجت أولًا بإذنه، ثم خرجت بغير إذنه لا يحنث. والثاني: ذكر أبو الحسن العبادي أن القاضي الحسين -رحمه الله- قال: راجعت غير واحد من عِلْيَة أصحابنا -رحمهم الله- في تعليل هذه المسألة فلم أظفر بمقنع. وعلله من جاء بعده بأن هذه اليمين لها جهة بر وهي الخروج بالإذن، وجهة حنث وهي الخروج بغير الإذن؛ لأن الاستثناء يقتضي النفي والإثبات جميعًا. وإذا كانت لليمين جهتان ووجدت إحداهما تَنْحَلّ اليمين، ألا ترى أنه لو حلف على أنه لا يدخل الدار اليوم أو ليأكلن هذا الرغيف غدًا فإنه إن لم يدخل الدار في ذلك اليوم فإنه يبر، وإن ابتغى أكل الرغيف، وكذا إذا أكل الرغيف انحلت اليمين حتى لا يحنث، وإن دخل الدار ذلك اليوم. انتهى ملخصًا. وما ذكره -رحمه الله- من أن اليمين تعلقت بالخَرْجَة الأولى عجيب، فإنه مجرد دعوى لا دليل عليها بل قام الدليل على خلافها، وإنما تعلقت اليمين بأول خَرْجَة توجد بغير الإذن سواء كانت هي الأولى مطلقًا أم لم تكن، واستدل الرافعي عليه بقوله: ويؤيده أنه لو قال: إن كان خروجك الأولى. . . . إلى آخره، عجيب أيضًا فإن هذا قد صرح فيه بالأولية، ومما يدل على أن اليمين ليست متعلقة بالأولى بخصوصها أنه لو

كان كذلك لكان يلزم أن تَنْحَلّ اليمين إذا وجد الخروج الأول مع النسيان، مع أن أشبه الوجهين كما قاله الرافعي بعد هذا بأوراق: أنها لا تَنْحَلّ، وعلله بأنّا إذا لم نحنثه لم نجعل يمينه متناولة لما وجد، وهذا التعليل الذي ذكره بعينه موجود في مسألتنا فيلزمه التسوية بينهما بلا شك، والأقرب إلحاق مسألتنا بتلك حتى يحنث فيهما جميعًا. وأما التعليل الثاني: فإن كان المراد بقوله "جهة بر" أي: جهة يخرج بها من يمينه وتَنْحَلّ بها اليمين فلا يسلم أن الخروج بالإذن بهذه المثابة، فإن ذلك تعيين محل النزاع والذي يقول بهذه المثابة أنها إذا خرجت بعده بغير الإذن مطلق لا يسلم انحلال اليمين بخروجها بالإذن، وإن كان المراد بقوله: "جهة بر" [أي: جهة لا يحنث بها فمسلم، لكن لا يلزم من وجود ما لا يحنث به أن لا يحنث] (¬1) بعد ذلك لوجود ما دخل في يمينه. وقول الرافعي: "عِلْيَة أصحابنا" هو بعين مهملة مكسورة ولام ساكنة وياء مفتوحة بنقطتين من تحت، وهو جمع لعلي مشدد الياء وهو الشريف الرفيع، يقال: رجل علي ورجال علية كصبي وصبية. قاله "الجوهري". قوله: ولو قال: إن خرجت بغير إذني لغير عبادة فأنت طالق، فخرجت لعبادة ثم عرضت حاجة فاشتغلت بها لم تطلق، وإن خرجت لعبادة وغيرها، فالمذكور في "الشامل" والمنسوب إلى نصه أيضًا في "الأم": أنه لا يحنث، وذكر صاحب "التهذيب": أنه الأصح، ويشبه أن يقال: إن كان المقصود من قوله: "لغير عبادة" ما هو بمعزل عن العبادة فلا يحنث، وهذا هو السابق إلى الأفهام، وإن كان المقصود ما يغايره في الحقيقة فمجموع العبادة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والحاجة الأخرى يغاير مجرد العبادة. ولو قال: إن خرجت إلا لعبادة، فينبغي أن يحنث، لأنه يصدق أن يقال: لم تخرج للعبادة، وإنما خرجت لها ولغيرها. انتهى كلامه. وقد اختلف كلام "الروضة" في هذه المسألة اختلافًا عجيبًا فقال هنا من "زوائده": قلت: الصواب الجزم بأنه لا يحنث، والله أعلم. وقال من "زوائده" أيضًا في أواخر تعليق الطلاق: قلت: الأصح الوقوع، وممن صححه الشاشي، والله أعلم. وقد سبق ذكر الأصل والزيادة في موضعها، وجزم البندنيجي والشيخ أبو حامد بعدم الوقوع، وجزم بالوقوع المحاملي وصححه الماوردي.

النوع الخامس: في الكلام

النوع الخامس: في الكلام قوله في "الروضة": حلف لا يكلمه فكتب إليه كتابًا أو أرسل إليه رسولًا فقولان: الجديد: لا يحنث، ومنهم من قطع به. وقيل القديم: إنما هو إذا نوى بيمينه المكاتبة، وقيل: القولان في الغائب، فإن كان معه في المجلس لم يحنث قطعًا. انتهى كلامه. وحاصله حكاية أربع طرق، ولم يذكر الرافعي ذلك ولا يصح مجيئه أيضًا، بل المذكور فيه وهو الصواب: إنما هو ثلاث فقط، وجعل الثالث الذي في "الروضة" حملًا من صاحب الطريقة الثانية، وعبر بقوله: "وقال" عوضًا عن قول "الروضة". قوله: وهجران المسلم حرام فوق ثلاثة أيام، قال في "الروضة": هذا إذا كان الهجر لحظوظ النفوس وتعنتات أهل الدنيا، فأما إذا كان المهجور مبتدعًا أو مجاهرًا بالظلم والفسق فلا يحرم مهاجرته أبدًا، وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية. انتهى. وكلامه يقتضي أن المبتدع لا فرق فيه بين أن يكون مجاهرًا ببدعته أم لا، بخلاف الظالم والفاسق، والصواب التسوية، وقد سَوّى بين المبتدع والفاسق في أول باب الشقاق بين الزوجين في جواز الهجران من غير شرط، فقال: فإن كان عذر بأن كان [المهجور] (¬1) مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين المهاجر أو المهجور فلا يحرم، وعلى هذا ما ثبت من هجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كعب بن مالك وصاحبيه، ونهيه ¬

_ (¬1) في ب: الزوج.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحابة عن مكالمتهم. انتهى. وقد ذكر هناك عن الإمام أنه ذهب إلى أنه لا يحرم ترك الكلام أصلًا، لكن إذا تكلم فعليه أن يحنث. قوله: وإن كانت مواصلتهما قبل ذلك بالكتابة والمراسلة فيرتفع الإثم بها، وإلا فإن تعذر الكلام لغيبة أحدهما عن الآخر فكذلك، وإلا ففيه وجهان بناء على القولين الجديد والقديم، حتى لو حلف أن يهاجر فلانًا فهل يحنث بالمكاتبة والمراسلة؟ فيه هذا الخلاف. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ظاهر البناء يقتضي رجحان بقاء التحريم مع المراسلة والمكاتبة وعدم الحنث بهما؛ لأن الجديد: أن المكاتبة والمراسلة ليستا من قبيل الكلام، وقد صرح بالأول في "الروضة" من "زوائده"، فقال: والأصح: أنه لا يزول التحريم بالمكاتبة والمراسلة. نعم صحح الرافعي في "الشرح الصغير" خلافه فقال: فيه وجهان بناء على القولين، والظاهر: الحنث وأن إثم المهاجرة المحرمة يرفع بهما. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد عبر بقوله: حتى لو حلف لا يهاجره، أعني بصيغة "لا" كذا رأيته بخطه والصواب ما في الرافعي. قوله: ولو حلف لا يكلمه، فسَلّم عليه، حنث، فإن سلم على قوم وهو فيهم، واستثناه باللفظ لم يحنث، وإن استثناه بالنية فكذلك، وذكر فيه قولا آخر. وإن أطلق: حنث في أظهر القولين عند الشيخ أبي حامد. انتهى ملخصًا. والصحيح ما صححه أبو حامد المذكور، فقد قال بعد هذا بأوراق في

الحلف على السلام: إنه الظاهر، وقال هنا في "الشرح الصغير" وأصل "الروضة": إنه الأظهر. قوله: ولو صلى الحالف خلف المحلوف عليه فسبح لسهوه أو فتح عليه القراءة لم يحنث، ولو قرأ آية فُهِمَ منها مقصوده لا يحنث إن قصد القراءة وإلا فيحنث. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في التسبيح والفتح من عدم التفصيل مع التفصيل في المسألة التي بعدها كالصريح في أنه لا فرق في التسبيح والفتح بين أن يقصد أم لا، مع أنه قد ذكره في إبطال الصلاة، فإذا ألحقه بالكلام وهو يقصد إفهامه به لزم الحنث. الأمر الثاني: أن المسألة الثانية وهي فهم المقصود من الآية فيها كلام سبق في شرائط الصلاة فراجعه.

النوع السادس: في تأخير الحنث وتقديمه

النوع السادس: في تأخير الحنث وتقديمه قوله: إحداهما: حلف ليأكلن هذا الطعام غدًا فتلف قبل الغد، فيخرج على قولي المكره. فإن قلنا: يحنث، فهل يحنث في الحال بحصول اليأس أو بعد مجيء الغد لأنه وقت البر والحنث؟ فيه قولان أو وجهان، والذي أورده ابن كج هو الثاني، والخلاف كالخلاف في ما لو حلف ليصعدن السماء غدًا. قال في "التتمة": وفائدة الخلاف أنه لو كان معسرًا يكفر بالصوم، جاز أن ينوي صوم الغد عن كفاراته إن قلنا: يحنث قبل الغد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد تابعه على التردد بين القولين والوجهين من غير ترجيح، والمعروف أنهما وجهان، فقد جزم به الرافعي قبل ذلك في النوع الثاني المعقود للأكل والشرب، وجزم به أيضًا في كتاب الصيام من "الروضة". الأمر الثاني: أن الراجح هو الوجه الثاني وهو الحنث في الغد، كذا رجحه الرافعي في النوع المذكور، فقال: ويشبه أنّ ترجيح الثاني هنا أي في هذه المسألة ونحوها، وهو ما إذا تعلق المستحيل بوقت معين بخلاف ما إذا كان مطلقًا كما إذا قال: والله لأصعدن السماء، أو لأشربن ماء النهر، فإن الأصح أنه يحنث من الآن. ومن فوائد الخلاف أيضًا كما قاله في "النهاية" و"البسيط" وقد تبعه عليه في "الروضة" أيضًا: ما لو مات الحالف قبل مجيء الغد أو أعسر، وقلنا: يعتبر في الكفارة حال الوجوب. قوله في المسألة: فإن قلنا: لا يحنث قبل مجيء الغد، فهل يحنث إذا

مضى من الغد زمن إمكان الأكل أو قُبيل غروب الشمس؟ وجهان أصحهما عند البغوي: الأول. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الراجح هو ما صححه البغوي، وقد صححه الإمام أيضًا وبالغ في تضعيف مقابله، وصححه أيضًا غيره. الأمر الثاني: أن ما نقله من الحنث قُبيل الغروب على الوجه الآخر فإنه خلاف المعروف، ففي "الحاوي" و"النهاية" و"البسيط" وغيرها: أنه بعد الغروب. وحكى الماوردي وجهًا رابعًا: أنه يحنث بمجرد طلوع الفجر، وعلله بأنه أول وقت البر فأشبه الصلاة التي يكون خروج وقتها دليلًا على وجوبها [بأوله] (¬1). قوله: ولو قال: لأقضين حقك إلى أيام، ففي "المجرد" للقاضي أبي الطيب: أنه يحمل على ثلاثة أيام، وعلى هذا جرى الصيدلاني، وصاحب "التهذيب" وغيرهما، وقال آخرون منهم المحاملي: هو كالحين لأنه يقع على القليل والكثير، فيقال: أيام الفتنة. انتهى. وقد ذكر الرافعي في آخر تعليق الطلاق نقلًا عن البشنجي أنه لو حلف ليصومن أزمنة بر بيوم لاشتماله على أزمنة، ولو حلف ليصومن الأيام فيحمل على أيام العمر أو على ثلاثة أيام وهو الأولى، هذا كلامه. والذاهب هناك إلى أيام العمر لا يأبى ما ذهب إليه هنا، لكن الذاهب هنا إلى إلحاقه بالحين يلزم اطراده هناك، وقد صحح في "الروضة" هنا الأول، قال: لأنه المفهوم عند الإطلاق، وأما أيام الفتنة ونحو ذلك فدلت عليه القرينة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

النوع السابع: في الخصومات

النوع السابع: في الخصومات قوله: وإذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فلم يفارقه بل فارقه الغريم، فالظاهر وهو المشهور: أنه لا يحنث الحالف سواء تمكن من منعه أو من متابعته أو لم يتمكن؛ لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل الغريم. انتهى. وما ذكره هنا من أنه لا عبرة بالتمكن، قد خالفه في "المحرر" فإنه شرط لعدم الحنث أن لا يتمكن فقال: وإن هرب صاحبه ولم يمكنه أن يتبعه لم يحنث. هذا لفظه واستدرك عليه في "المنهاج" وصحح كما في "الروضة". قوله: ولو قال لغريمه: والله لا يفارقني، فاليمين منعقدة على فعل الغير، ثم قال ما نصه: فإن فارقه ناسيًا أو مكرهًا خرج الحنث على القولين، ونقل صاحب "التهذيب" طريقة أخرى قاطعة بأنه يحنث، والاختيار يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره. انتهى كلامه. وما ذكره من التخريج على القولين قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غير مستقيم، فإنه قد سبق في الطلاق أنه إذا حلف على فعل غيره ففعل ذلك الغير الشيء المحلوف عليه ناسيًا أو مكرهًا فإن كان ممن لا يبالي بالحالف حنث، وإن كان ممن يبالي كزوجته فعلى القولين. فينبغي أيضًا مراعاته هنا، والكلام الذي ذكره هنا لا إشعار له بهذا التفصيل بل يشعر بخلافه، إلا أن يقال كونه غريمًا له فجعله ممن يبالي به وهو ضعيف، فإنه قد يكون ممتنعًا عليه أولًا ببينة له. قوله: وإذا قال: لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك، فأفلس الغريم

فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ففيه قولان: حنث المكره، وإن فارقه باختياره، حنث، وإن كان تركه واجبًا كما لو قال: لا أصلي الفرض، فصلى حنث. انتهى كلامه. وقد ذكر الرافعي في آخر تعليق الطلاق نظير هذه المسألة -أعني المفارقة بالاختيار- ونقل فيها خلافًا، ومن جملة ما نقله فيها عن الشافعي: أنه لا يحنث، وقد ذكرت المسألة هناك فراجعها. قوله: ولا يشترط فيه -أي في الضرب المحلوف عليه- الإيلام، ألا ترى أنه يقال: ضربه ولم يؤلمه، ويخالف الحد والتعزير يعتبر فيهما الإيلام؛ لأن الغرض هناك الزجر، وإنما يحصل ذلك بالإيلام، واليمين يتعلق بالاسم، وقال مالك: يشترط الإيلام، وللأصحاب وجه مثله وذكرناه في الطلاق. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره غريب جدًا، فإنه قد سبق في الطلاق تصحيح العكس، وعبر بالأشهر، ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" على وجه هو أشد مما وقع في الرافعي، فقال في الطلاق: ويشترط فيه الإيلام على الأصح وقيل: لا يشترط، وعبر هنا بقوله: ولا يشترط الإيلام، وحكى وجه ضعيف. أنه يشترط، وقد سبق في الطلاق. هذا لفظه. فانظر كيف جعله هناك الأصح وجعله هنا وجهًا ضعيفًا، وجزم الرافعى في "المحرر" والنووي في "المنهاج": بعدم اشتراطه، وبه أجاب الرافعي في البابين من "الشرح الصغير" فإنه صححه في هذا الباب كما صححه في "الكبير"، ونقله في الطلاق عن الأكثرين فقال: شرط بعضهم أن يكون فيه إيلام ولم يشترطه الأكثرون واكتفوا بالصدمة. هذا لفظه. وهو يقتضي أن ما وقع في "الكبير" هناك من كون الأشهر هو

الاشتراط غلط حصل من سبق قلم أو تحريف من الناقلين من المسودة وهو الظاهر. واعلم أن محل الخلاف إذا لم يصف الضرب بالشدة، فإن وصفه به فقال: ضربًا شديدًا، فلابد من الإيلام الناجع، كما قاله الإمام في كتاب الأيمان. قال: ولا حد نقف عنده في تحصيل البر ولكن الرجوع إلى ما يسمى شديدًا، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال الضروب. انتهى. وهذه المسألة قد صرح بها الشافعي في "المختصر" فقال: وإن لم يقل ضربًا شديدًا فأي ضرب ضربه إياه لم يحنث لأنه ضاربه. هذه عبارته وذكرها أيضًا القاضي الحسين، والبغوي والرافعي في "المحرر" والنووي في "المنهاج"، وليس لها ذكر في "الشرحين" ولا في "الروضة". قوله من "زوائده": قلت: ولو ضرب ميتًا لم يحنث، ولو ضرب مغمى عليه أو مجنونًا أو سكرانًا حنث لأنه محل الضرب بخلاف الميت، ذكره المتولي. انتهى. ومسألة الميت قد تقدم ذكرها من كلام الرافعي في كتاب الطلاق، ونقل فيها خلافًا عن حكاية المتولي. قوله: ولو حلف ليضربن عبده مائة خشبة أو ليجلدنه مائة فضربه بعثكال عليه مائة شمراخ ضربة واحدة حصل البر إذا تيقن أن الكل أصابه، وما معنى إصابة الكل؟ الظاهر: أنه لا يشترط أنْ تُلاقي القضبان بدنه أو ملبوسه بل يكفي أن ينكبس بعضها على بعض بحيث يناله ثقل الكل، وفيه وجه: أنه لا يكفي الانكباس بل لابد من ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه. انتهى كلامه.

وما رجحه من عدم اشتراط المماسة قد رجحه أيضًا في "الشرح الصغير" وعبر بالظاهر أيضًا، وتبعه على ترجيحه النووي في "الروضة"، والذي نص عليه الشافعي: اعتبار المماسة لا الانكباس، وقد نقله عنه أيضًا الشيخ أبو حامد في "تعليقه" والماوردي في "الحاوي" وغيرهما. قالوا: وصورة البر أن يأخذ ضِغثا مشدود الأسفل محلول الأعلى. قوله: ولو شك في إصابة الكل [فالنص] (¬1) أنه لا يحنث، ونقل المزني عن نصه في ما إذا حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد فلم يدخل ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا؟ أنه يحنث، فقيل: فيها قولان، وقيل: بتقرير النصين. والفرق أن الضرب سبب ظاهر في الانكباس والتثقيل فيكتفي به، وهناك لا أمارة تدل على أنه شاء، والأصل عدم المشيئة، والظاهر في الضرب: أنه لا يحنث، وإن ثبت الخلاف، وفي المشيئة أنه يحنث. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن هذا الفرق الذي ذكره الرافعي مشهور في كتب الأصحاب على اختلاف طبقاتهم وهو يقتضي وجوه غلبة الظن في الضرب بإصابة الجميع، ولهذا قال في "المهذب": والظاهر إصابة الجميع، وصرح به الإمام أيضًا فقال: والوجه عندنا أن يقع الضرب على حالة يغلب على الظن حصول المطلوب منها، فلو لم يغلب على الظن فيبعد اعتقاد البر من غير ظن. ثم قال: فإن قيل: إذا كان كذلك فلم اشتراط غلبة الظن؟ قلنا: لا أقل منها، هذه عبارته. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وذكر الغزالي نحوه وكذلك الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، فإنه نقل عن المزني: أن الشافعي حَنّثه في المشيئة ولم يُحَنِّثه هنا بالشك، فأجاب عنه الشيخ بقوله: قلنا: لا فرق بين الموضعين وإنما حكم بالظاهر فيهما، هذه عبارته، وصرح به أيضًا البندنيجي وغيره. إذا علمت ذلك فتعبير الرافعي وغيره فاسد مع ذكرهم هذا الفرق، وتصريحهم بغلبة الظن صحيح لأن الشك يطلق ويراد به التردد كيف كان لاسيما عند الفقهاء. وقد ظن النووي أن الأصحاب مختلفون في اشتراط الظن وأن المراد بالشك عند الرافعي وغيره هو المستوى الطرفين، فقال: قلت: هكذا صور الجمهور مسألة الخلاف في ما إذا شك. وذكر الدارمي وابن الصباغ والمتولي: أنه إذا شك حنث، وإنما لا يحنث على المنصوص إذا غلب على ظنه إصابة الجميع. وهذا حسن لكن الأول أصح؛ لأنه بعد هذا الضرب يشك في الحنث والأصل عدمه. هذا كلامه وهو عجيب يَظْهر فساده مما تقدم فإن كلام الأصحاب متفق على اشتراط الظن هنا تصريحًا أو تلويحًا، ولم نجد أحدًا صرح بأن المراد بالشك هو المستوى الطرفين، ثم إن التعليل الذي ذكره من "زوائده" عليه لا له؛ لأن المسألة إذا كانت مفروضة في ما إذا احتملت الإصابة وعدمها على السواء، وقد تعلق به حكم اليمين، والأصل عدم إصابة الجميع وإذا كان الأصل عدم إصابة الجميع ولا ظاهر يدل على خلافه لزم أن يكون الأصل على هذا التقدير هو الحنث، لا عدم الحنث. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الجمهور وارتضاه من تصوير مسألة الخلاف بالشك، إن أراد به تساوي الاحتمالين فقط فيخرج من كلامه ما إذا رجح

احتمال عدم إصابة الجميع، أو يرجح إصابة الجميع فيقال له: لم تبين حكمهما على القول الذي نسبته إلى الجمهور وصححته، وإن أراد مطلق التردد فيكون قد اختار عدم الحنث مع غلبة الظن بعدم الإصابة، ولا يمكن القول به. الأمر الثالث: أن ترجيحه في الضرب بعدم الحنث يخالف ما ذكره في الطرف الثاني من كتاب حد الزنا فإنه قد جزم هناك بأنه إذا حصل الشك في الحد لا يجزئ، والمسألتان متشابهتان، ووقعت المسألتان كذلك في "الشرح الصغير" و"الروضة". قوله: ولو حلف ليضربنه بالسوط لم يبر بالعصا والشماريخ لأنه لا يقع عليه اسم السوط، وإذا قال: مائة سوط، فالظاهر: أنه لا يحصل البر بضربه بعثكال عليه مائة شمراخ، ولكن يبر بأن يجمع مائة سوط ويشدها ويضربه دفعة واحدة، على ما سبق، وفيه وجه: أنه وإن ذكر السوط يبر بالعثكال كما في لفظ الخشبة، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما صححه من كونه لا يبر بالعثكال عند تعبيره بالسوط ذكر مثله في "الشرح الصغير" وخالف في "المحرر"، فجزم بأنه يبر فقال: ولو حلف ليضربنه مائة سوط أو خشبة فشد مائة وضربه بها ضربة واحدة أو ضربه بعثكال عليه مائة شمراخ بَرّ، هذا لفظه. ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج". والصواب الذي عليه الفتوى أنه يكفي كما في "المحرر" و"المنهاج" فإنه المعروف في المذهب ولهذا قطع به الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وغيرهم، ويدل عليه أن الرافعي قد جزم بالاكتفاء -أي: بالعثكال- عند التعبير بالخشبة كما سبق

نقله عنه في المسألة المتقدمة، مع أن الشمراخ لا يطلق عليه اسم الخشب، فإما أن ننظر إلى اللفظ أو إلى المعنى. والمذكور هنا من كون العثكال لا يكفي عند التعبير بالسوط نقله الإمام في "النهاية" فتابعه عليه الرافعي. الأمر الثاني: أن مقتضى كلامه أنه لو حلف ليضربنه بالسوط لم يبر بالعصا والشماريخ جزمًا، وأنه إذا قال: مائة سوط، فيبر بها على وجه فتأمله، وهكذا كلام "الروضة" أيضًا، وهو باطل بلا شك فإن الخلاف كما يجري في الثانية يجري في الأولى. قوله: وإذا حكمنا بعدم الحنث في الناسي والجاهل فهل تَنْحَلّ اليمين؟ فيه وجهان: أشبههما وبه أجاب الصيدلاني: لا تَنْحَلّ اليمين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي ذكره هنا من أنه الأشبه ونقله عن الصيدلاني خاصة قد نقله في كتاب الإيلاء عن الأصحاب فقال: إنه الأوفق لكلام الأئمة. ذكر ذلك في الحكم الرابع من الباب الثاني فاعلمه. الأمر الثاني: أنه إذا قال: أنت طالق قبل أن أضربك بشهر، فضربها، فينظر كما قاله الرافعي في أوائل باب تعليق الطلاق: إن ضربها بعد شهر من وقت التعليق تَبَيّنا وقوع الطلاق ولا كلام. وإن كان الضرب قبل ذلك لم تطلق على الصحيح وتَنْحَل اليمين حتى لو ضربها بعد ذلك لم يقع شيء. قال: وللإمام احتمال أنها لا تَنْحَلّ لكون الضرب الأول ليس هو المحلوف عليه. هذا كلامه.

وهذه المسألة مع مسألتنا على حد سواء، فإنه إذا علق على الضرب مثلا كان المعلق عليه هو الضرب من حيث هو لا يفيد التعميم ولا يفيد الاختيار؛ إذ لو كان المعلق عليه هو الضرب عمدًا لم يحنث بالناسي قطعًا، ولو كان هو الضرب مطلقًا عمدًا كان أو ناسيًا لكان يحنث بالنسيان قطعًا كما ذكره الرافعي في موضعه، فثبت أن المحلوف عليه قد وجد في كل من المثالين إلا أنه لم يحنث لمانع وهو عدم الاختيار في مسألتنا، واستحالة الحنث قبل اليمين في مسألة الطلاق. فالمتوجه ما قاله هناك وهو انحلال اليمين لوجود المعلق عليه حقيقة. قوله: وإذا حلف لا يدخل الدار فحمل بغير إذنه ولكنه كان قادرًا على الامتناع فلم يمتنع، فالظاهر: أنه لا يحنث أيضًا لأنه لم يوجد منه الدخول، ومنهم من جعل سكوته بمثابة الإذن في الدخول، ولو حمل بأمره حنث، وكان كما لو ركب دابة. انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح عدم الحنث عند القدرة على الامتناع قد ذكر في أواخر الشرط في الطلاق خلافه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: ولو حلف لا يدخل على زيد وكان الحالف في بيت فدخل عليه زيد، فإن خرج الحالف في الحال [لم يحنث، وإلا فقيل: لا يحنث] (¬1). وقيل: فيه خلاف، بناء على استدامة الدخول هل هي دخول؟ ، وأجاب ابن الصباغ عن هذا بأن الاستدامة إن جعلت دخولًا كانا كالداخلين معًا فلا يكون أحدهما داخلًا على الآخر. انتهى. نقل القاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم": أنه لا يحنث، واستحسن النووي مقالة ابن الصباغ. ¬

_ (¬1) في الأصل والروضة: "لم يحنث، وإلا فقيل: لا يحنث"، ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

قال -رحمه الله-: وليختم الباب بأصول مأثورة وفروع منثورة في فصلين. قوله: وذكر القاضي ابن كج: أنه إذا قال: والله لا دخلت، وكرر ذلك ونوى التأكيد فهو يمين واحدة، وإن نوى بالثاني يمينًا أخرى أو أطلق فيلزمه بالحنث كفارة أو كفارتان؟ فيه وجهان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الأصح في ما إذا نوى الاستئناف أنه يلزمه كفارة واحدة، كذا صححه الرافعي في آخر كتاب الإيلاء فقال: إنه الأظهر عند الجمهور، وجزم به أيضًا في آخر الظهار في الكلام على تكرير لفظ الظهار، وقال في "الروضة" هنا من "زوائده": إنه الأصح. الأمر الثاني: أن الرافعي جعل هذا الخلاف في آخر كتاب الإيلاء قولين على خلاف ما قاله هنا من أنه وجهان. الأمر الثالث: أن هذه المسألة تشبه تكرار الظهار، وتكرار التحريم في الزوجة والأمة. فأما الظهار فقال الرافعي: قد يكون الثاني متصلًا بالأول وقد يكون منفصلًا، فإن كان متصلًا: فإن أراد بالثاني التأكيد فهو ظهار واحد، وإن أراد ظهارًا آخر. فالقديم: أنه ظهار واحد لا يتعلق به إلا كفارة واحدة قياسًا على اليمين. الجديد: التعدد، لأنه كلام يتعلق به التحريم، فإذا كرره بقصد الاستئناف تكرر حكمه كالطلاق، فإن أطلق وجبت كفارة واحدة في أظهر القولين. وأما إذا تفاصلت المرات وقصد الاستئناف أو أطلق فكل مرة ظهار برأسه، وفيه قول: إنه لا يكون الثاني ظهارًا آخر ما لم يكفر عن الأول.

هذا كلامه. وأما ما إذا كرر التحريم في الزوجة أو الأمة فينظر، إن قال ذلك في مجلس واحد لزمه كفارة واحدة، فإن اختلف المجلس ونوى التأكيد فكذلك، وإن نوى الاستئناف تعددت الكفارة على الصحيح، وإن أطلق فعلى قولين، كذا نقله الرافعي في أركان الطلاق عن الصيدلاني ولم يخالفه، وجزم به في "الروضة" من غير نقله عن الصيدلاني، وهذان الفرعان قد اشتركا في أن كلًا منهما يقتضي كفارة ناجزة لا تتوقف على الوطء، وقد أوجبوا فيهما عند الاستئناف كفارتين بخلاف اليمين، وقد تقدم الفرق في كلام الرافعي بين الظهار واليمين، وذلك الفرق لا يأتي في ما إذا قال: أنت عليَّ حرام. فإنها لا تحرم بذلك، وقد يفرق بين اليمين وبينهما بفرق واحد شامل وهو أن التحريم والظهار يوجبان الكفارة إيجابًا منجزًا، فلما أتى اللفظ الثاني وجد الكفارة قد استقرت باللفظ الأول فتعين إيجاب أخرى له، وإلا لزم إلغاؤه بخلاف اليمين، فإن وجوب الكفارة متأخر عنهما لتوقفه على فعل المحلوف عليه فأمكن الاقتصار على كفارة واحدة. نعم أطلقوا في اليمين ولم يفصلوا بين أن يحلف على مستقبل أو لا، فإن كان الحكم كذلك فلا يزول الإشكال بما ذكرناه. ويشكل على الفرق أيضًا ما ذكره الرافعي في آخر الظهار فقال: فرع: قال في "التهذيب": لو قال إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي، وكرر هذا اللفظ ثلاثًا فإذا دخلت الدار صار مظاهرًا، فإن قصد التأكيد لم تجب إلا كفارة واحدة وإن قالها في مجالس، وإن قصد الاستئناف تعددت الكفارة ويجب الجميع بعود واحد بعد الدخول، فإن طلقها عقب الدخول لم يجب شيء وإن أطلق فهل يحمل على التأكيد أم الاستئناف؟ قولان. هذا كلامه.

وجزم به في "الروضة" ولم ينقله عن "التهذيب" كما نقله الرافعي. ووجه الإشكال أن وجوب الكفارة متوقف على الدخول، ومع ذلك فقد حكموا بالتعدد ولم يسووا بينه وبين اليمين، فإن قيل: لعل الفرق أن الظهار لما كان محرمًا قلنا فيه بالتعدد تغليظًا. قلنا: فيلزم التفصيل في اليمين بين أن يحلف على فعل معصية أم لا. وهاهنا تنبيه آخر: وهو أن الرافعي غاير بين التحريم وبين الظهار فيما إذا نوى الاستئناف في المجلس الواحد، فإنه أوجب به كفارة واحدة في التحريم وحكم بالتعدد في الظهار، وذكر الرافعي أيضًا في آخر الإيلاء أنه إذا أطلق فهل يحمل على التأكيد أم الاستئناف؟ فيه قولان، ثم قال المتولي: الأظهر: الحمل على التأكيد عند اتحاد المجلس، وعلى الاستئناف عند تعدده. قوله: في كتب أصحاب أبي حنيفة أن المعرفة لا تدخل تحت النكرة لمغايرتهما، فإذا قال: لا يدخل داري أحد ولا يلبس ثوبي أحد، دخل في اليمين غير الحالف لأنه صار معرفًا بإضافة الدار والقميص إليه. قالوا: ولو عرف نفسه بإضافة الفعل بأن قال: لا أُلبس هذا القميص أحدًا، أو عَرّف غيره بالإضافة إليه، لأنه صار معرفًا، وكذا لو قال: لا يقطع هذه اليد أحد، وأشار إلى يده، لم يدخل هو، وقد يتوقف في هذه الصورة الأخيرة والسابق إلى الفهم في غيرها ما ذكروه ويجوز أن تخرج الصورة الأولى على الخلاف في المخاطب هل يندرج تحت الخطاب؟ انتهى. قال في "الروضة": الوجه الجزم بكل ما ذكروه، والله أعلم. قوله: وفي كتبهم أن كلمة "أو" إذا دخلت بين نفيين اقتضت انتفاء كل منهما، ويشبه أن يكون حالفًا على الامتناع من أحدهما، فإذا فعل واحدًا أو امتنع من الآخر لم يحنث. انتهى ملخصًا.

وذكر بعد تعليل عن الماوردي كلامًا مخالفًا لهذا فقال: وفي "الإقناع" للماوردي أنه لو قال: لا أكلت خبزًا أو لحمًا، يرجع إلى مراده منهما فيتعلق به اليمين. هذا كلامه، وظاهره أنه أراد بالمراد تعيين [ما شاء. وقد راجعت عبارته فوجدتها ظاهرة فيه. فإنه عبر بالتعيين] (¬1) لا بالتبيين فقال: فتعين يمينه فيه. وقد ذكرنا في أوائل تعليق الطلاق مسائل مما نحن فيه فراجعها. قوله: ولو قال: لا أدخل هذه الدار، فهدمت ثم أعيدت بغير الآلة فدخلها لم يحنث، وإن أعيدت بتلك الآلة، فوجهان. انتهى. والأصح: الحنث، كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"تصحيح التنبيه"، وسوف أذكر لك في نهاية الباب ما يقتضي أن الرافعي يرجح عدم الحنث. قوله: حلف لا يشم الريحان لم يحنث بالورد والياسمين والبنفسج والنرجس والمرزنجوش والزعفران، ويمكن أن يقال: هذا في ما إذا عرف الريحان، أما إذا قال: لا أشم ريحانًا فيحنث بها جميعًا، فلا يبعد إطلاق اسم الرياحين عليها. انتهى. قال في "الروضة": الظاهر من حيث الدليل ومن مقتضى كلام الأصحاب: أنه لا فرق ولا يحنث مطلقًا بما سوى الضيمران. قوله: حلف لا يتسرى، ففيه ثلاثة أوجه عن ابن سريج: أظهرها ويحكي عن نصه في "الأم": أن التسري يحصل بثلاثة أمور: ستر الجارية عن أعين الناس، والوطء، والإنزال. والثاني: يكفي الستر والوطء. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثالث: يكفي الوطء. انتهي كلامه. وهذه الأوجه التي ذكرها ونقلها عن ابن سريج قد ذكرها في آخر كتاب الوصية في الكلام على الرجوع ناقلًا لها عن ابن سريج أيضًا ولم يذكر فيها الوجه الذي صححه هنا بالكلية، بل ذكر عوضه وجهًا آخر لم يذكره هنا وهو الوطء مع الإنزال خاصة ولم يذكر معه الستر، فقال: واستشهد على هذا بأن الشافعي - رضي الله عنه - قال في الإيلاء: لو حلف أن لا يتسرى فوطيء جارية من جواريه وعزل لم يحنث، وإن لم يعزل حنث، لأنه قد طلب الولد وطلب الولد هو التسري، ثم قال بعد ذلك: وأما مسألة اليمين فعن ابن سريج في التسري ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الوطء من غير عزل. والثاني: أن التسري هو مجرد الوطء. والثالث: أنه الوطء مع المنع من الخروج. وعلى هذين الوجهين لا فرق بين أن يعزل وبين أن لا يعزل. هذا لفظه بحروفه. والاختلاف الذي ذكرناه واضح، ولم يذكر المسألة في "الروضة" هناك. واعلم أن بين التعبيرين تفاوتًا آخر من وجهين: أحدهما: أنه عبر هناك بقوله: "من غير عزل"، وعبر هنا بقوله: "مع الإنزال"، فمن وطيء ولم ينزل يصدق عليه أنه لم يعزل، لأن العزل هو الإنزال خارجًا عنها ولم يوجد منه ذلك، ولا يقال أنزل فيها. الثاني: أنه عبر هنا "بالستر عن الناس" وعبر في "الروضة" "بالمنع من الخروج"، فمن برزت في بيته للضيفان خارجة عن العبارة الأولى

وداخلة في الثانية. قوله: نقلًا عن "فتاوى القفال": وأنه لو حلف لا يفعل كذا فجن وفعله في حال جنونه ففي الحنث قولان. انتهى. لم يصحح في "الروضة" شيئًا منها هاهنا، والصحيح في الرافعي و"الروضة" في آخر كتاب الإيلاء: عدم الحنث، وزادا على ذلك فنقلا طريقة القولين عن البغوي والمتولي، ونقلا عن العراقيين قاطبة القطع بعدم الحنث، فيكون جزمه هنا بطريقة القولين مخالفًا لما عليه الأكثرون. قوله: أيضًا نقلا عنه: وأنه لو حلف لا يلبس ثوبًا من غزلها فرقع ثوبه برقعة كرباس من غزلها حنث، وقال أبو عاصم العبادي: لا يحنث، وتلك الرقعة تبع. وإن التحف بلحاف من غزلها لم يحنث، وفي "الرقم": أنه لو طبخ أرزًا وعدسًا بودك فهو طبيخ، وإن طبخ بزيت أو سمن فليس بطبيخ. انتهى. وهذه المسائل قد تكلم عليها في "الروضة" فقال في الأولى: الصحيح قول أبي عاصم لأنه لا يسمى لابسًا ثوبًا من غزلها، وأما الالتحاف: فيجئ فيه الخلاف السابق في التدثر، وأما الثالثة: فالصواب فيها أن الكل طبيخ. قوله: وفي "المبتدأ" للروياني: أنه لو قيل له: كلم زيدًا اليوم، فقال: والله لا كلمته. انعقدت اليمين على الأبد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان ذلك في طلاق وقال: أردت اليوم، لم يُقْبل في الحكم. انتهى. استدرك في "الروضة" فقال: الصواب قبوله في الحكم كما سبق في نظائره، والله أعلم. وهذه المسألة -أعني عدم القبول في الحكم- قد حصل فيها اضطراب

شديد في كلام الرافعي و"الروضة" وقد أوضحته في الباب الأول من أبواب الأيمان. واعلم أن حمل اليمين في أمثال هذه المسائل على التأبيد عند الإطلاق قد سبق ما يخالفه في آخر تعليق الطلاق، وخالف البغوي فقال: تتقيد بالحالة الراهنة للعرف. قوله: وفي كتب الحنفية: أنه لو حلف ليضربن زوجته حتى يغشى عليها أو تموت حمل على الحقيقة، ولو قال: حتى أقتلها أو ترفع ميتة، حُمِلَ على أشد الضرب، ويظهر على أصلنا الحمل على الحقيقة أيضًا. انتهى. وما ذكره بحثًا من اعتبار الحقيقة في نحو هذا، وتابعه عليه في "الروضة" قد جزم به قبيل كتاب الرجعة بأسطر، فقال نقلًا عن تعليق الشيخ إبراهيم المروذي: إنه لو قال لزوجته أفرغي البيت من قماشك، فإن دخلت ووجدت فيه شيئًا من قماشك ولم أكسره على رأسك فأنت طالق، فدخل فوجد في البيت هاونًا لها فوجهان: أحدهما: لا تطلق للاستحالة. والثاني: تطلق عند اليأس قُبَيْل موتها أو موته. هذا كلامه. وحاصله: الجزم بمراعاة الحقيقة من أن إرادتها في المثال المذكور هناك أبعد من إرادتها في المثال المذكور في هذا الباب، ولكن لما كانت الحقيقة هناك مستحيلة حكى وجهين في وقوع الطلاق في الحال كغيره من التعليقات المستحيلة فتفطن لذلك. وقماش البيت هو متاعه كما قاله الجوهري؟ فلذلك جعلوا الهاون منه. قوله: وفي كتبهم أيضًا: أنه لو حلف لا يجلس على هذه الأسطوانة أو الحائط فأعيد بناؤها بعد النقض وجلس على المعاد، لم يحنث، وإن حلف

لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخل موضع الزيادة لم يحنث، فإن حلف لا يدخل مسجد بني فلان فزيد فيه فدخل موضع الزيادة حنث وإن حلف لا يكتب بهذا القلم فكسره ثم براه وكتب به لم يحنث، وبأجوبتهم يحنث فيما عدا القلم وأن الكسب هو ما يمتلكه من المباحات وبالعقود دون ما يرثه، وقد يتردد في ما يدخل في ملكه باحتطاب عبده وقبوله الهبة والوصية فيجوز أن يلحق بما يدخل في ملكه إرشادًا، ويجوز أن يقال: تملك العبد أو إمساكه اكتساب، لما يستفيده، ويجوز أن يفرق بين أن يكون العبد مكتسبًا أو موروثًا، وأن الحلواء: كل حلو ليس في جنسه حامض نحو الخبيص والعسل والسكر دون العنب والأجاص. والأشبه: أنه يشترط في إطلاق الحلو [أن يكون معمولًا. وأن يخرج عنه العسل والسكر. فالحلواء غير الحلوى] (¬1). وقال العبادي في "الرقم": هل يدخل في الحلوى اللوزينج والجوزينج؟ فيه وجهان. انتهى ملخصًا فيه جملة مسائل: فأما المسألة الأولى: فقد وافق النووي فيها على أن جوابنا فيها كجواب الحنفية فلابد فيها من تفصيل ذكره القاضي أبو الطيب في كتاب الصلح من "تعليقته" في نظير المسألة، فقال: لو حلف لا يكتب بهذا القلم وهو مبري، فكسره ثم براه وكتب به لم يحنث، وإن كانت الأنبوبة واحدة لأن القلم اسم للمبري دون القصبة، وإنما تسمى القصبة قبل البري قلمًا مجازًا، لأنها ستصير قلمًا. وكذا إذا قال: لا أقطع بهذا السكين فأبطل حدها وجعله في ظهرها وقطع بها لم يحنث. ولو حلف لا يستند إلى هذا الحائط فهدم ثم بنى واستند، إن بني بتلك الآلة حنث، وإن أعيد بغيرها أو ببعضها لم يحنث. هذا كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ويؤيد ما ذكره أيضًا القاضي ما سبق قريبًا أنه إذا حلف لا يدخل دارًا فهدمت ثم أعيدت بنقضها فإنه يحنث على الصحيح، إلا أن الرافعي -رحمه الله- لم يرجح في تلك المسألة شيئًا، والتصحيح المذكور من كلام النووي ولا يستقيم معه الدعوى بأنّا نوافق الحنفية فيه. ويؤخذ من كلام الرافعي هنا ترجيح عدم الحنث هناك على خلاف ما رجحه في "الروضة". وأما المسألة الثانية: فقد غلط فيها النووي في "الروضة" فإنه قال: نقلا عنهم ما نصه: ولو حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخل الزيادة حنث. هذا لفظه، فأسقط جواب مسألته الإشارة وتصوير الثانية أيضًا، ونقل جواب الثانية فجعله الأولى فلزم الخطأ في الحكم، وكأنه سقط من نسخته من قوله: "فزيد فيه" إلى "فزيد فيه" أو انتقل نظره، ثم إنه بعد اختصاره رأي أن ذلك غير مستقيم، فاعترض على الرافعي ظنًا منه أن ما نقله عنه في "الروضة" مطابق لما قاله فقال: قلت: في موافقتهم في مسألة زيادة المسجد نظر وينبغي أنه لا يحنث بدخولها لأن اليمين لم تتناوله حالة الحلف. هذا لفظه. ويدل على عدم الحنث عند الإشارة أن الأفضلية الثانية لمسجده -عليه الصلاة والسلام- المستفادة من قوله "صلاة في مسجدي هذا" (¬1) خاصة بما كان في زمنه دون ما زيد فيه بعد ذلك، وممن جزم بذلك النووي في مناسك الحج وغيره. وأما المسألة الثالثة: وهي مسألة القلم فالنقل فيها عندنا على عكس ما نقله الرافعي عن الحنفية؛ وقد تقدم ذكره في ما نقلناه عن القاضي. وأما المسألة الرابعة: وهي مسألة الكسب فقد حذف في "الروضة" ما ¬

_ (¬1) تقدم.

ذكره "الرافعي" في كسب الصيد. وأما المسألة الخامسة: وهي مسألة الحلوى فالصواب فيها كما قاله في "الروضة": هو ما قاله الرافعي، وفي الحديث الصحيح: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب الحلوى والعسل" (¬1). واعلم أن اللوزينج: قطائف حشوه لوز وسكر، والجوزينج: حشوه جوز بعسل أو دبس. قوله: ولو قال: لا أكلمه اليوم ستة أشهر. فعليه أن يدع الكلام في ذلك اليوم كلما دار في الستة أشهر. انتهى. وهذه المسألة وقعت محرفة في كثير من نسخ الرافعي وفي فهمها قلق فحذفها النووي من "الروضة"، وحذف معها مسائل أخرى قريبة من ذلك في القلق والتحريف، وإن كان ساترها رقيقًا غير كثيف، بعضها من كلام الحنفية كما سنبينه، فإن الرافعي قد نقل عنهم هنا مسائل فما وافق عليه وارتضاه أقره وأبقاه، وإلا تتبعه بعدم التعويل عليه والركون لديه فلنقرر هذه المسائل ثم نتبعها بالسواقط. فاعلم أن اليوم الواحد يدور في الشهر أربع مرات أو خمس مرات، فالحالف المذكور حينئذ قد حلف على ترك الكلام في ذلك اليوم في مدة دورانه في الستة أشهر، فإذا حلف في يوم السبت مثلًا فطريق البر أن يمتنع عن كلامه في كل سبت يأتي إلى انقضاء ستة أشهر. قوله: ولو قال: في يوم السبت لا أكلمه اليوم عشرة أيام، [فاليمين] (¬2) على سبتين، وكذا لو قال: لا أكلمه يوم السبت يومين، ولو حلف لا يكلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1474) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) في ب: فالكلام.

فلانًا الشتاء فأول ذلك إذا لبس الناس الحشو والفراء وأخرها إذا ألقوها في البلد الذي حلف فيه، والصيف على خلاف ذلك، والربيع آخر الشتاء ومستقبل الصيف إلى أن يتبين العشب، والخريف فصل بين الشتاء والصيف. والظاهر عندنا: حملها على المُدَد المعلومة وأنه لو حلف لا يكلم فلانًا وفلانًا أو فلانًا يحنث بكلام الثالث، أو كلام الأولين، ولكن يجوز أن يريد أن لا يكلم الأول ولا أحد الأخيرين، وحينئذ فيحنث بكلام الأول أو أحد الأخيرين، لكن يجوز أن يريد أنه لا يكلم الثالث ولا يكلم أحد الأولين وحينئذ فيحنث بكلام الثالث أو بكلام أحد الأولين. انتهى. وهذه المسائل أيضًا من اللواتي قد أسقطن. فأما المسألة الأولى: فمعناها معنى التي قبلها. وأما الثانية: وهي مسألة الفصول فواضحة. وأما الثالثة: فمشتملة على صورتين: الأولى: منها عطف فيها الثاني بالواو والثالث بأو. والصورة الثانية: بالعكس. فإذا استحضرت ما ذكرناه سهل فهمها، وما ذكره الرافعي من الرجوع إلى مراده ليس على إطلاقه بل محله إذا وصل الكلام وأداه على حالة واحدة، فإن فصل بوقفة أو مد صوت ونحو ذلك كما يتضح ويظهر لك بالتجربة عمل بمقتضاه، ويكون كما لو بين وهذا التفصيل ذكره الرافعي في باب الشك في الطلاق في الكلام على الألفاظ التي يحصل بها البيان، وقد سبق ذكره هناك للتنبيه على أغلاط وقعت للرافعي فيه وتبعه عليها في "الروضة" فراجعه. قوله: وأنه لو حلف لا يساكنه، ذكر أصحابنا وجهين في أنه إذا نوى أن

لا يسكن هو والمحلوف عليه في البلد هل يحمل اليمين على ما نوى؟ وجه المنع: أن ذلك ليس بمساكنة، وإذا نوى ما لا يطابق اللفظ لم تعمل النية بمجردها وقاسوه على ما إذا قال: لا أساكنه وزعم أنه أراد المساكنة في إقليم. انتهى. وهذه المسألة أيضًا من السواقط، والخلاف الذي فيها سبق ذكره في موضعه، وأما عدم الحمل على الإقليم إذا نواه، وإن كان أغلظ في حقه فلم يتقدم له ذكر، وهي مسألة حسنة فتفطن لها. قوله: وفي "فتاوي" الفقيه أبي الليث -يعني: السمرقندي الحنفي- كما قاله الرافعي في الطلاق: أن بعضهم سئل عن قَصّار ذهب من حانوته ثوب فاتهم أجيرًا له فقال: أنت خُنتني، فقال: والله ما خنتك، وكان قد أخذ الثوب وهو لغير القصار. فقال: أخشى أن يحنث، ومال إليه الرافعي، وأنه لو قال: حقًا أفعل كذا، ليس بيمين عند بعضهم كقوله: صدقًا. وقال آخرون: هو يمين، فإن الحق هو الله تعالى فكأنه قال: الله لأفعلن كذا، وينبغي أن يجعل كناية، وأن بعضهم قال: إذا حلف لا يأكل من [مال] (¬1) فلان، ثم تناهدا فأكل الحالف من ذلك لا يحنث لأنه أكل في عرف الناس من مال نفسه، ولينظر أكان مال فلان مخلوطًا بماله فأكل منه أو أكل من مال فلان خاصة. فالمتناهدان تارة يخلطان وتارة يتناوبان على إحضار الطعام، وينجر النظر إلى أن الضيف يأكل ملك المضيف، أو يملك ما يتناوله؟ وأنه لو حلف لا يصطاد مادام الأمير في البلد فخرج الأمير منها فاصطاد ¬

_ (¬1) سقط من ب.

ثم رجع الأمير فاصطاد لا يحنث، لأنه لما خرج من البلدة سقطت اليمين. وأنه لو حلف لا يركب فركب ظهر إنسان فعبر به النهر لم يحنث. وأن بعضهم قال: لو قال: بسم الله لأفعلن كذا، فهو يمين، ولو قال بصيغة -الله تعالى- فلا، لأن الأول من أيمان الناس، ألا ترى أن القائل يقول: باسم الذي أنزلت من عنده السور، ولك أن تقول: إذا قلنا: الاسم حس المسمى، فالحلف بالله تعالى، وكلذا إن جعل الاسم صلة -أي زائد. وإن أراد بالاسم التسمية لم يكن يمينًا. وأما صيغة -الله تعالى- فتشبه أن تكون يمينًا إلا أن يريد به الوصف. انتهى كلامه. وهذه المسائل قد أسقطها أيضًا، وقد علمت ما للرافعي فيها من الكلام والأولى مذكورة في الرافعي بالعجمية فترجمها بعضهم. والمناهدة: بالنون والدال المهملة هي: أكل المسافرين مجتمعين من أزوادهم. وقد ذكر الرافعي المسألة في آخر تعليق الطلاق عن أبي العباس الروياني ونقل عنه أنه يحنث وأقره، وبحث النووي فيها وقد أسلفتها هناك فراجعها. وأما مسألة الاصطياد فهي مسألة مهمة محتاج إليها لكثرة وقوع صورها في "الفتاوى" وقد ذكر الرافعي ما يوافق جواب أبي الليث في آخر تعليق الطلاق نقلًا عن البوشنجي فقال: وأنه لو قال لزوجته: إن دخلت دار فلان مادام فيها فأنت طالق، فتحول فلان منها ثم عاد إليها فدخلتها لا تطلق. والمعنى الذي لمحوه هنا وأشار إليه أبو الليث بقوله: سقطت اليمين، هو انقطاع دوام كونه في البلد أو غيره مما حلف عليه بوجود الخروج مثلًا.

كتاب [النذر]

كتاب [النذر] (¬1) وفيه طرفان: طرف في أركانه، وطرف في أحكامه: الأول: في الأركان قوله: ولا يصح نذر الكافر على المذهب لأن النذر تقرب والكافر ليس من أهل التقرب. انتهى. وما ذكره تعليلًا للمذهب دليل على استحباب النذر، وقد حذفه النووي من "الروضة"، ثم قال في أواخر الباب من "زوائده": صح أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن النذر. هذا لفظه من غير زيادة عليه وأشار بذلك إلى ما رواه الشيخان عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النذر وقال: "إنه لا يرد شيئًا وإنما يستخرج به من يد البخيل" (¬2). وهذا الكلام من النووي يدل على رجحان كراهة النذر عنده، وكأنه جبن عن التصريح به لعدم وقوفه على نقل في هذه المسألة فأشار إليه بذكر ما يدل عليه، وسأذكر لك ما حضرني الآن في هذه المسألة. فنقول: اختلف الناس فيها على [أربعة] (¬3) آراء: أحدها: أنه مكروه كما أشار إليه النووي، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي، نقله عنه الشيخ أبو علي السنجي في "الشرح الكبير" كذا نقله عنه ابن أبي الدم في "شرح الوسيط"، وجزم به النووي في "شرح المهذب" ونقله عن الترمذي وجماعة من أهل العلم، ولم ينقله عن ¬

_ (¬1) في ب: النذور. (¬2) أخرجه البخاري (6234) ومسلم (1639). (¬3) زيادة من ب.

الشافعي ولا عن أحد من أئمة مذهبه، وهو يُقَوِّي ما قلناه أولًا من عدم اطلاعه فيها على نقل عندنا. والثاني: أنه خلاف الأولى، وهو ما اختاره ابن أبي الدم في الشرح المذكور، وفيه نظر لأن المكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود، وخلاف الأولى ما لم يرد فيه ذلك، هكذا فرق الإمام وغيره بينهما، ونقله عنه الرافعي في باب أداء الزكاة. والنذر قد ورد فيه نهي مقصود فإن أوّل ذلك وتمسك بالقياس وغيره مما سيأتي لزم استحبابه، وإن لم يؤول وتمسك بظاهره لزم كراهته، فالقول أنه خلاف الأولى ضعيف. والثالث: أنه قربة وهو ما جزم به المتولي في كتاب الوكالة فقال: لا يجوز التوكيل في النذر لأنه قربة. وكذلك الغزالي في كفارة الظهار من "الوسيط" قُبَيْل الخصلة الثانية، وهو مقتضى كلام الرافعي المتقدم، ونقل ابن أبي الدم أن جماعة قالوا بذلك قال: وهو القياس، وذكر النووي في باب ما يفسد الصلاة من "شرح المهذب" ما يقتضيه فقال: وإذا نذر شيئًا في صلاته وتلفظ بالنذر عامدًا ففي بطلانها وجهان: أصحهما: أنها لا تبطل، لأنه مناجاة لله تعالى فأشبه الدعاء، ولأنه يشبه "سجد وجهي للذي خلقه" (¬1) إلى آخره. والرابع: التفصيل: فيستحب نذر التبرر وهو الذي ليس معلقًا على شيء، ولا يستحب النذر المعلق، وهذا التفصيل ذكره ابن الرفعة فقال في باب الوكالة من المطلب: أما كونه قربة فلا شك فيه إذا لم يكن معلقًا، فإن كان معلقًا فلا نقول: إنه قربة، بل قد يقال بالكراهة. هذا كلامه، وهو غريب مؤذن بعدم اطلاعه على الخلاف. وأشار أيضًا إلى اختيار ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (771) من حديث عليّ - رضي الله عنه -.

التفصيل في باب النذر من "الكفاية" فقال: ويمكن أن يتوسط فيقال: كذا وكذا. واعلم أن القول باستحبابه يعضده النص والقياس. أما النص: فقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَهَ يَعْلَمُهُ} حثهم الله سبحانه وتعالى على النذر وأكده بالمصدر فاقتضى أن يكون قربة. وأما القياس: فلأنه وسيلة إلى القربى وللوسائل حكم المقاصد، ولهذا قال ابن أبي هريرة: إن الحلف على الطاعة من النوافل المستحبة لأنه يتوصل به إلى الإحسان ويتبعه على القرب وأفعال الخير فاستحب له ذلك. كذا رأيته له في "شرح المختصر" الذي علقه عنه أبو علي الطبري وهي مسألة حسنة لم يذكرها المتأخرون. نعم ذكر الرافعي وغيره الحلف على الواجبات وجعله طاعة، وأيضًا فللناذر غرض صحيح في أن يثاب ثواب الواجب فإنه إذا صيره واجبًا بنذره حصل له ذلك كما قاله القاضي الحسين، والقدر الذي يمتاز به الواجب سبعون درجة كما حكاه النووي من "زوائده" في أوائل النكاح عن حكاية الإمام قال: واستأنسوا فيه بحديث. نعم نازع الماوردي في هذا وقال: الحديث يدل على أن ما يأتي به الإنسان من البر أفضل مما يلتزمه بالنذر. وأما الحديث المتقدم عن الصحيحين فالاستدلال به يتوقف على قاعدتين: إحداهما: أن المفرد المعرف بـ"أل" للعموم. الثانية: أن قول الصحابي نهى عن كذا عام وفيهما خلاف معروف، أوضحته مع فوائد كثيرة تتعلق به في "شرح منهاج الأصول" فراجعه،

وبتقدير تسليم هاتين القاعدتين، وأن الحديث مقتضاه العموم فيمكن حمله على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه جمعًا بينه وبين غيره من الأدلة المتقدمة. قوله: ولا يصح من السفيه نذر القرب المالية، وأما المفلس فإن التزم في الذمة ولم يعين مالًا صح ويؤديه بعد البراءة عن حقوق الغرماء، وإن عَيَّن فيبنى على أنه لو أعتق أو وهب هل يصح تصرفه؟ إن قلنا: لا، فكذلك النذر، وإن توقفنا فيتوقف في النذر أيضًا، قاله في "التتمة" انتهى كلامه. وحاصله أن ذلك لا يصح من السفيه مطلقًا سواء أضافه إلى الذمة أو إلى العين، وأما المفلس فلا يصح في العين ويصح في الذمة. إذا علمت هذا فقد جزم في آخر باب الحجر بأن نذر السفيه على هذا التفصيل أيضًا، فقال: ولو نذر التصدق بعين مال ينعقد، وفي الذمة ينعقد. هذا لفظه. ووقع الموضعان كذلك في "الروضة". واعلم أَنّا إذا قلنا بكراهة النذر فيصير شبيهًا بالضمان [وحينئذ] (¬1) فيتجه بطلانه. قوله: لو قال ابتداء: مالي صدقة أو في سبيل الله تعالى، فيه أوجه: أصحها عند الغزالي وقطع به القاضي الحسين: بأنه لغو لأنه لم يأت بصيغة التزام. والثاني: أنه كما لو قال: لله عليَّ أن أتصدق بمالي، فيلزم التصدق. والثالث: يصير ماله بهذا اللفظ صدقة كما لو قال: جعلت هذه الشاة أضحية، وقال في "التتمة": إن كان المفهوم من اللفظ في عرفهم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

معنى النذر أو نواه فهو كما لو قال: عليَّ أن أتصدق بمالي وأنفقه في سبيل الله، وإلا فلغو. وأما إذا قال: إن كلمت فلانًا أو فعلت كذا فمالي صدقة، فالمذهب والذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي: أنه يلزمه ذلك، وقال الإمام والغزالي: يتخرج على الوجوه السابقة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه صريح في أنه إذا قال: لله عليَّ أن أتصدق بمالي، لا يخرج عن ملكه بل يلزمه التصدق به، وقد ذكر في باب الأضحية أنه يخرج وجزم به، ونقله عن الأصحاب وفرق بينه وبين نذر إعتاق العبد، وستعرف لفظه في موضعه إن شاء الله تعالى. الأمر الثاني: أن المسألة المذكورة [في آخر كلامه] (¬1) ناقلًا لها عن النص فرد من أفراد نذر اللجاج والغضب حتى يتخير بين المنذور وبين كفارة يمين على الصحيح، هذا إن كان المعلق عليه غير محبوب إليه، فإن كان له في حصوله غرض لزمه الوفاء كما قاله. قوله: النوع الثاني: العبادات المقصودة، وهي التي شرعت للتقرب بها وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق إيقاعها عبادة كالصوم والصلاة والصدقة والحج والاعتكاف والعتق، فهذه تلزم بالنذر بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ذكره من عدّ الاعتكاف في هذا القسم كيف يستقيم معها مع أن الشارع لم يكلف الخلق بإيقاعه؟ وقد صرح به في أوائل أحكام النذر فقال: وليس جنس الاعتكاف واجبًا بالشرع. هذا لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله في "أصل الروضة": فرع: كما يلزم أصل العبادة بالنذر يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا شرطت كمن شرط المشي في الحج الملتزم وقلنا: المشي أفضل. انتهى. ومقتضاه أنه لا يلزم المشي إذا قلنا: الركوب أفضل. وقد خالفه بعد ذلك بأوراق فقال: قلت: الصواب أن الركوب أفضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر لأنه مقصود. قوله: فلو أفردت الصفة بالنذر، والأصل واجب شرعًا كأن يقرأ في الصبح مثلًا سورة كذا. فالأصح: اللزوم لأنها طاعة. الثاني: لا؛ لئلا تغير عما وضعها الشرع. انتهى ملخصًا. واعلم أن الرافعي احترز بقوله: والأصل واجب شرعًا، عما إذا كان منذورًا، فإنه إذا نذر قراءة السورة في الصلاة المنذورة لزمه الإتيان بهما جزمًا، وهل يلزمه الجمع؟ فيه خلاف: الأصح: الوجوب كذا نقله الرافعي في كتاب الاعتكاف عن القفال وأقره، وتقدم الكلام عليه مبسوطًا فراجعه. قوله نقلًا عن "التتمة": ولو نذر الوضوء انعقد نذره، ولا يخرج عنه بالوضوء عن حدث بل بالتجديد. انتهى. وما جزم به في "التتمة" من الانعقاد قد جزم به أيضًا القاضي الحسين، وحكى في "التهذيب" وجهًا ضعيفًا: أنه لا يلزم، والمراد بالتجديد الذي يخرج به عنه هو التجديد المشروع وهو أن يكون قد صلى بالأول صلاة ما على الأصح قاله في "الروضة". والخلاف الذي أشار إليه في التجديد قد استوفاه في صفة الوضوء من

"شرح المهذب" و"التحقيق" فقال: ويندب تجديده لمن صلى به صلاة، وقيل: فرضًا، وقيل: إذا فعل ما يقصد له، وقيل: مطلقًا إذا فرق بينهما كثيرًا. قوله: ولو نذر أن يهرب بالحج من شوال أو من بلد كذا، ففيه وجهان: والأظهر: وجوبه. انتهى كلامه. وما ذكره من تصحيح الوجوب في ما إذا نذر الإحرام من شوال ونحوه قد سبق منه في كتاب الحج في الكلام على تحريم الجماع ما يخالفه مخالفة عجيبة، وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: وهل يكون نذر المباح يمينًا حتى تجب الكفارة إذا خالف؟ فيه ما ذكرناه في نذر المعاصي والمفروضات. انتهى كلامه. والذي ذكره في ما إذا نذر المعاصي وخالفها أن المذهب المشهور: أنه لا تجب به الكفارة، ثم ذكر أنه إذا التزم المفروضات وخالف ففيه الخلاف في نذر المعاصي سواء التزمه ابتداء أو علقه بحصول نعمة، فتخلص من هذا كله أن نذر المباح لا كفارة فيه على المذهب، وهو الذي جزم به أيضًا في أوائل كتاب الإيلاء. إذا علمت ذلك فقد خالف في "المحرر" فقال: المرجح في المذهب لزومها. وتابعه على هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" و"المنهاج" وذكر المسألة في "الشرح الصغير" من هذا الباب كما ذكرها في "الكبير" وذكرها في "الروضة" أيضًا في أثناء الكلام على نذر اللجاج وصحح أنها تلزم على العكس مما صححه بعد ذلك، لكن الرافعي لم يصحح هذا المذكور في نذر اللجاج بل نقله في أوائل كتاب الأيمان عن "التهذيب"، ثم ذكر بعده أنه من نذر المباح الذي سيأتي، فصححه النووي ونقله إلى هذا الباب مع مسائل اللجاج والغضب كلها. قوله: وفي "التهذيب" في باب الاستسقاء: أنه لو نذر الإمام أن يستسقي

لزمه أن يخرج بالناس ويصلي بهم وفي الصلاة احتمال، ولو نذر واحد من عرض الناس لزمه أن يصلي منفردًا، وإن نذر أن يستسقي بالناس لم ينعقد لأنهم لا يطيعونه، ولو نذر أن يخطب وهو من أهله لزمه، وهل له أن يخطب قاعدًا؟ فيه الخلاف في الصلاة المنذورة. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي نقله أولًا عن البغوي من لزوم إخراجهم وأقره هو والنووي عليه خلاف مذهب الشافعي، فقد قال المحاملي في "المجموع" ما نصه: قال في "الأم" وإذا نذر الإمام أن يستسقي لزمه ذلك ولا يلزم الناس الخروج معه ولا أن أميرهم يلزمهم الخروج لأن طاعته تجب فيما يعود إلى صلاح المسلمين لا في ما يختص به. هذا كلامه. وهو يشعر بأنه إذا نذر الاستسقاء بالناس لزمهم طاعته، وقال في "الأم" في باب المطر قبل الاستسقاء: لو نذر الإمام أن يستسقي ثم سُقي الناس وجب عليه أن يخرج فيوفي بنذره، فإن لم يفعل فعليه قضاؤه، قال: وليس عليه أن يخرج بالناس لأنه لا يملكهم ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم. هذه عبارته. ثم ذكر تعليلًا آخر خاصًا بالتصوير المذكور وهو ما إذا حصلت السقيا قبل الوفاء بالنذر فقال عقب التعليل السابق ما نصه: وليس له أن يلزمهم بالاستسقاء من غير جدب. هذه عبارته. وأشار بذلك إلى أنه لا فائدة فيه في التصوير المذكور والتعليل الأول يشمل حالة السقيا وعدمها، وذكر البندنيجي في كتابه "الجامع" هذا النص ولم يذكر خلافه، وكذلك الروياني في "البحر"، وجزم سليم الرازي به في باب الاستسقاء من "المجرد" ولم يذكر تعليلًا بالكلية فقال: ولو نذر الإمام أن يصلي صلاة الاستسقاء لزمه أن يصليها فيخرج ويصليها وليس عليه أن يخرجهم، ولا عليهم أن يخرجوا معه. هذا كلامه.

والحاصل أن إطلاق ما نقله عن البغوي ليس مذهبًا للشافعي بل إن حصلت السقيا ولم يصرح في نذره بالناس فلا يلزمهم بإلزامه بلا شك، وإن لم تحصل السقيا أو حصلت ولكن صرح بالناس فكلامه مشعر بأن له إلزامهم، وحيث أوجبنا فيظهر أن يكون الخروج فرض كفاية. نعم، هل يجب خروج ثلاثة أم يكفي اثنان؟ فيه نظر. الأمر الثاني: أن هذا الاحتمال ليس هو للبغوي ولا للرافعي، بل نقله في "التهذيب" عن القاضي الحسين ولم يخصه بالإمام، فإنه قال: وكان القاضي يقول: إذا نذر أن يستسقي لزمه الاستسقاء وهل تلزمه الصلاة؟ قال: تحتمل وجهين. هذا لفظه. وعدم لزوم الصلاة واضح، ثم إن اقتصار الرافعي والنووي في عدم لزوم الصلاة، والحالة هذه على نقله احتمالًا فقط مؤذن بأنهما لم يطلعا على خلاف في المسألة وهو غريب، فقد صرح المتولي في "التتمة" بحكاية وجهين في المسألة حتى أنه لم يصحح منهما شيئًا، وقد سبق من كلام الرافعي التعبير بقوله: "واحد من عُرض الناس"، وهو بضم العين المهملة وسكون الراء، وبالضاد المعجمة، قال الجوهري: يقول رأيته في عُرض الناس: أي في ما بينهم. وذكر قبل ذلك بأوراق أن ناسًا من العرب يقولونه بالفتح، قال: وفلان من عُرض الناس -أي بالضم- ومعناه من العامة. قوله: وسئل صاحب "الكتاب" عما لو قال البائع للمشتري: إن خرج المبيع مستحقًا فلله عليّ أن أهبك ألف دينار، فهل يصح هذا النذر أم لا؟ وإن حكم حاكم بصحته هل يلزمه؟

فأجاب: بأن المباحات لا تلزم بالنذر، وهذا مباح ولا يؤثر فيه قضاء القاضي إلا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك بالنذر. انتهى. واعلم أن هذا المنذور وإن كان لا يلزم فعله لكن يلزمه كفارة يمين إن لم يفعله على ما فيه من الاضطراب السابق فاستحضره. قوله: قال بعضهم: لو نذر أن يكسو يتيمًا لم يخرج عن نذره باليتيم الذمي، لأن مطلقه في الشرع للمسلم. انتهى. قال في "الروضة": ينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أما جائزه كما لو نذر إعتاق رقبة.

الثاني: في أحكام النذر والملتزمات

قال -رحمه الله-: النظر الثاني: في أحكام النذر والملتزمات أنواع النوع الأول: الصوم قوله: وهل يجب تبييت النية في الصوم المنذور أم تكفي نيته قبل الزوال؟ إن قلنا: إن المنذور ينزل على أقل الواجب وهو الأصح، أوجبنا التبييت، وإن قلنا: على أقل الجائز، فلا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد صحح هنا في "الروضة" ما صححه الرافعي من سلوك المنذور مسلك الواجب، ثم خالف ذلك في باب الرجعة فقال من "زوائده": المختار أنه لا يطلق ترجيح واحد من الوجهين بل يختلف الراجح منهما بحسب المسائل لظهور دليل أحد الطرفين في بعضها وعكسه في بعض. انتهى. وقال في "شرح المهذب": إنه الصواب. وقد أعلمتك مرات أن لفظ "المختار" و"الصواب" في "الروضة" ليس بالمعنى المذكور في "تصحيح التنبيه"، بل بمعنى: الراجح والأصح، ونحوهما. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" أيضًا قد تابع الرافعي على تخريج التبييت على هذا الخلاف، وخالف ذلك في "شرح المهذب" هنا وفي كتاب الصيام فإنه حكى في ذلك طريقين: إحداهما: هذه. والثانية: الجزم بالوجوب سواء سلكنا به مسلك الواجب أم الجائز،

وصحح هذه الطريقة فقال: وفي صوم النذر طريقان: المذهب وبه قطع الجمهور وهو المنصوص في "المختصر": لا يصح بنية من النهار. والثاني فيه وجهان بناء على أنه يسلك به في الصفات مسلك واجب الشرع أم جائزه؟ ثم قال: والمذهب أنه يفرق بين هذه المسائل وباقي مسائل الخلاف في أن النذر هل يسلك به مسلك الواجب أو المنذور؟ فإن الحديث هنا عام. هذا كلامه في الصيام، وذكر هنا قريبًا منه. قوله: وهل يجوز أن يصلي الصلوات المنذورة قاعدًا مع القدرة على القيام؟ فيه وجهان بناء على الأصل المذكور وهو سلوكه مسلك الواجب أم الجائز؟ ثم قال: وإن نذر أن يصلي قاعدًا جاز أن يقعد، كما لو صرح في نذره بركعة له الاقتصار عليها، فإن صلى قائما فقد أتى بالأفضل. انتهى كلامه. وما ذكره من جواز القعود عند تصريحه به قد ذكر بعده بنحو ثلاثة أوراق ما يخالفه مخالفة عجيبة، فقال في أول الكلام على ما إذا نذر صوم يوم قدوم فلان ما نصه: ثم حكى الإمام عن الأصحاب أنه لو قال: عليّ أن أصلي ركعة لم يلزمه إلا ركعة. ولو قال: عليّ أن أصلي كذا قاعدًا، يلزمه القيام عند القدرة إذا حملنا المنذور على واجب الشرع، وأنهم تكلفوا فرقًا بينهما، قال: ولا فرق. انتهى كلامه. فانظر إلى هذا الاختلاف العجيب كيف جزم أولًا بأنه لا يلزمه القيام وإن سلكنا به مسلك الواجب، ونقل ثانيًا عن الأصحاب أنه يلزمه ولم ينقل خلافه.

ووقع الموضعان كذلك في "الشرح الصغير" على وجه أشد مما وقع هنا فإنه نفي الخلاف في الموضع الأول: فقال: ولو نذر أن يصلي قاعدًا جاز له القعود بلا خلاف. هذا لفظه، وذكر نحوه في "الروضة" أيضًا، فقال: جاز القعود قطعًا. قوله: أما لو نذر أن يعتكف فليس جنس الاعتكاف واجبًا بالشرع، وقد سبق في باب الاعتكاف وجهان في أنه هل يشترط اللبث أم يكفي المرور في المسجد مع النية؟ والأول أصح. ثم قال: وإن اكتفينا بالمرور، فللإمام احتمالان: أحدهما: يشترط اللبث؛ لأن لفظ الاعتكاف يشعر به. والثاني: لا، حملًا له على حقيقته شرعًا. انتهى. وما حكاه هنا عن الإمام في كيفية الخلاف قد حكى عنه في باب الاعتكاف ترتيبًا غيره، فقال: وفي اعتبار اللبث وجهان حكاهما في "النهاية": أصحهما: لابد منه. والثاني: يكفي الحضور. ثم فرع فقال: إن اكتفينا بالحضور حصل الاعتكاف بالعبور من باب والخروج من باب. هذا كلامه من غير زيادة عليه. قوله في "الروضة": ولو عَيّن في نذره زمنًا للصوم تعين على المذهب وبه قطع الجمهور، وقال الصيدلاني وغيره: فيه وجهان. انتهى. وما رجحه هنا من طريقة القطع قد سبق منه في كتاب الاعتكاف ما يخالفه وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: ولو عَيّن يومًا من أسبوع والتبس عليه فينبغي أن يصوم يوم الجمعة لأنه آخر الأسبوع، فإن لم يكن هو المعين أجزأه وكان قضاء. انتهى كلامه.

وهو صريح في أن أول الأسبوع السبت وآخره الجمعة، وقد تابعه في "الروضة" عليه، وخالف ذلك في باب صوم التطوع من "شرح المهذب" في الكلام على صوم يوم الإثنين فقال: يسمى يوم الإثنين لأنه ثاني الأيام، ثم قال: وأما يوم الخميس فسمي بذلك لأنه خامس الأسبوع. هذا لفظه. وهو صريح في أن أوله الأحد، وذكر مثله في "لغات التنبيه"، والصواب الأول، فقد روى مسلم في "صحيحه" في الربع الأخير من الكتاب عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات الجمعة في ما بين العصر إلى الليل" (¬1). هذا لفظه في مسلم. وفي الصحيح أيضًا في حديث الأعرابي الذي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب: "فادع الله أن يسقينا" (¬2) الحديث إلى أن قال في آخره: "فوالله ما رأينا الشمس سبتًا" أي: جمعة، فعبر بأول أيامها، على أنه قد روي أيضًا ستًا أي بكسر السين على أنه اسم للعدد الذي بين الخمس والسبع، وكذلك قول الشاعر (¬3): ألم تر أن الدهر يوم وليلة ... يَكُرَّان من سبت عليك إلى سبت واعلم أنك إذا أردت ضبط ترتيب المخلوقات [الواقعة في الحديث فأت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2789) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (890، 969، 975) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) نسب هذا البيت لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -. لكن بلفظ: يَكُرَّان من سبت جديد إلى سبت. ثم أتبعه ببيت آخر هو: فقل لجديد الثوب لابد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لابد من شت

بلفظ حروفه مرتبة على ترتيب أوائلها] (¬1) وحينئذ سهل استحضاره فقل: يجشم ندا. قوله: والخلاف في أن اليوم المعين هل يتعين؟ يجري مثله في الصلاة إذا عيّن لها في النذر وقتًا، وفي الحج إذا عيّن له سنة، والتعيين في الصلاة هو الذي أورده في "التهذيب". انتهى. وقد تحصل منه: أن المشهور تعيين وقت الصوم وأن الصلاة مثله، بل أولى. إذا علمت ذلك فقد جزم في كتاب الاعتكاف في أوائل الركن الرابع بأن وقت الصلاة لا يتعين، وقد سبق ذكر لفظه هناك، ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الشرح الصغير" و"الروضة" و"شرح المهذب"، والتعيين هو الصواب المفتى به، فقد نص عليه الشافعي في "البويطي" في باب السنة في النذور فقال: ومن نذر صلاة في يوم بعينه أو صيامًا فعليه أن يأتي بذلك في ذلك اليوم، فإن أخره قضاه. هذا لفظه بحروفه ومنه نقلت. قوله: ولو عَيّن للصدقة وقتًا، قال الصيدلاني: يجوز تقديمها عليه بلا خلاف. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وقد سبق في باب الاعتكاف ما يقتضي امتناع التقديم على خلاف ما نقله هنا عن الصيدلاني وأقره عليه. قوله: فإذا نذرت المرأة صوم سنة متتابعة فأفطرت بعذر الحيض والنفاس ففي قول: لا يجب القضاء كيوم العيد. وفي قول: يجب كما إذا وقع الحيض في الصوم الواجب شرعًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

ثم قال: وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، والأول أصح عند أبي علي الطبري وأبي الحسين ابن القطان، ونسبه ابن كج إلى المشهور وتابعهم الروياني. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الأكثرين على عدم الوجوب، وبه صرح في "الشرح الصغير" فقال: أظهرهما عند الأكثرين: لا يجب كيوم العيد. هذا لفظه. إذا علمت ذلك فقد خالف في "المحرر" وصحح الوجوب وعبر بالأظهر، واستدرك عليه في "المنهاج"، وغالب نسخ الرافعي في "الكبير" في هذه المسألة سقيمة حصل فيها إسقاط من النساخ، وقد أصلحت ما وقع لي منها. قوله: ولو نذر أن يصوم يوم قدوم فلان صح نذره في أظهر الوجهين، فإن قدم وهو مفطر لزمه صيام يوم آخر، وهل نقول: يلزمه بالنذر أن يصوم من أول اليوم، أو نقول: يلزم من وقت القدوم إلا أنه لا يمكن صوم بعض اليوم فأوجبنا يومًا تامًا؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الأول. ثم قال: وللخلاف فوائد: منها: لو نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم نصف النهار، فإن قلنا: بالأول اعتكف باقي اليوم وقضى ما مضى، وإن قلنا بالثاني: اعتكف باقي اليوم ولم يلزمه شيء آخر. انتهى كلامه. وحاصله أنه يلزمه في الاعتكاف قضاء ما فات على الأصح. إذا علمت ذلك فهاهنا أمور: أحدها: أنه قد سبق منه في كتاب الاعتكاف ما يخالفه فإنه حكى في ذلك قولين، وقال أظهرهما: أنه لا يجب ذكر ذلك في أثناء الكلام على

استتباع الليالي للأيام وبالعكس، وقد سبق ذكر لفظه هناك. ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" وكذلك في "شرح المهذب" لأنه صحح في آخر كتاب الاعتكاف أنه لا يلزم وبالغ في تصحيحه فقال: نص الشافعي عليه، واتفقوا على أنه الصحيح، ثم صحح في هذا الباب في الكلام على نذر صومه أنه يلزمه، لكنه صحح بعده في فصل معقود له عدم اللزوم أيضًا ولم يذكرها في "الشرح الصغير" إلا في النذر موافقًا للكبير. الثاني: أن ما قاله الرافعي في الاعتكاف من أن الخلاف في قضاء ما مضى قولان كيف يستقيم مع بناء ذلك على الوجهين في الصوم؟ فإن الخلاف إن كان وجهين لم يصح ما قاله في الاعتكاف، وإن كان قولين لم يصح بناؤهما على وجهين، كما نبّه عليه الرافعي في غير موضع. الثالث: أن الرافعي قد نقل هنا أثناء تعليل الوجه الثاني من أصل المسألة عن البغوي أن المحرم إذا اختار الصيام في جزاء الصيد فإنه يصوم عن كل مد يومًا فإن فضل بعض مد صام يومًا تامًا يكون بعضه واجبًا وبعضه غير واجب، وأسقط النووي هذه المسألة وفي ما قاله البغوي نظر، بل المتجه الحكم على الكل بالوجوب لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به، ولكن وجوب البعض بطريق [الأصالة] (¬1) والباقي بطريق التوقف عليه. قوله: ولو نذر صوم الأثانين ولزمه صوم شهرين متتابعين فيقدم صوم الكفارة، ثم إن لزمت الكفارة بعد ما نذر صوم الأثانين قضى الأثانين الواقعة في الشهرين، وإن لزمت الكفارة قبله فوجهان: أظهرهما عند صاحب "التهذيب" وطائفة من العراقيين: أنه يجب. ¬

_ (¬1) في ب: الإضافة.

والأظهر عند الإمام والغزالي والقاضيين أبي الطيب وابن كج: أنه لا يجب. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح وجوب القضاء كذا صححه الرافعي في "المحرر"، وصحح النووي في "شرح المهذب و"زوائد الروضة" و"المنهاج": أنه لا يجب، والصواب الأول فإن الربيع قد نقله عن نص الشافعي، كذا نقله عنه العمراني في "البيان" والنووي في "شرح المهذب"، لكن يشكل على الرافعي ما لو نذر صوم الدهر وكان عليه كفارة حين النذر فإن زمانها مستثنى كما قاله الرافعي وكان قياسها مما قاله في الأثانين أن يفدي عن النذر كما لو لزمت الكفارة بعد أن نذر. قوله: في الكلام على نذر صوم الدهر ولو أفطر هذا الناذر في رمضان بعذر أو غير عذر فعليه القضاء ويقدمه على النذر، ثم إن أفطر بعذر فلا فدية عليه، وإن كان متعديًا لزمه. انتهى. وما ذكره هنا في وجوب الفدية من الفرق بين أن يكون لعذر أو لا لعذر قد جزم بخلافه في آخر صوم التطوع، فإنه سوّى بينهما فحكى فيهما معًا وجهين، ولم يصرح بتصحيح، وقد سبق إيضاحه هناك. قوله: ولو أفطر يومًا فلا سبيل إلى قضائه لاستغراق أيام العمر بالأداء وعليه الفدية إن أفطر بلا عذر، ثم أفاد الإمام هاهنا شيئين: أحدهما: أنه لو نوى في بعض الأيام قضاء يوم أفطر فيه متعديًا، فالوجه أن يصح، وإن كان الواجب غير ما فعل لم يلزمه المد لما نزل عن الأداء في ذلك اليوم، ولك أن تقول يجيء في الصحة الخلاف المذكور فيما إذا عَيّن وقتًا للصوم بنذره فعقد فيه صومًا آخر. والثاني: قال: وهل يصوم عن المفطر المتعدي وليه في حياته تفريعًا على

أنه يصوم عن الميت وليه؟ والظاهر عندنا: جوازه لتعدد القضاء منه، وفيه احتمال من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له، ويتصور تكليف القضاء منه وقد يستفاد مما ذكره أنه إذا سافر يقضي ما يفطر فيه متعديًا، وينساق النظر إلى أنه هل يلزمه أن يسافر ليقضي؟ انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره بحثًا من مجيء الوجهين قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو يقتضي أنهما لم يظفرا فيه بنقل، وقد صرح بنقلهما الروياني في "البحر"، ورأيتهما أيضًا في "فتاوى القفال" مع أمور أخرى لم يتعرض لها الرافعي فقال: فإذا أفطر هذا الرجل بالمرض أو غيره فهل تلزمه الفدية؟ على وجهين: أحدهما: لا تلزم إلا أنه يعصي إذا أفطر بغير عذر. والثاني: تلزمه، وعلى هذا فهل يجوز له إخراجها في حياته؟ على وجهين: أحدهما: نعم لأن القضاء لا يمكن لاستغراق جميع الزمان باستحقاق الأداء. والثاني: لا بل إنما يخرجها بعد الموت كما في الصوم الذي عليه من غيره إنما يخرج فديته بعد الموت، وذلك لأن الفدية إنما تجوز عند اليأس من القضاء، وهاهنا يمكنه أن يقضي في هذه الأيام ما فاته، ثم إذا قضى صار تاركًا بعض الأداء ثم يقضيه بعد ذلك، ولا يزال الأمر هكذا. ثم قال: فرجع حاصل الكلام إلى أن الأداء أولى بهذا الزمان لأنه عين له أو أن القضاء أولى به إذ جميعه متعلق بذمته فهو كالمانع للأداء. انتهى كلامه.

وقد استفدنا منه أيضًا حكاية وجهين في وجوب الفدية مطلقًا على خلاف ما جزم به الرافعي من التفصيل وحكاية وجهين في إخراجها في الحال. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الإمام وأقره من أن الظاهر جواز صوم وليه في حياته قد تابعه عليه في "الروضة"، وقد سبق له في كتاب الصيام من "زوائده" ما يناقضه مناقضة عجيبة فراجعه. الأمر الثالث: أن من تعاطى سبب الترخص لقصد الترخص [لا يترخص] (¬1) كما إذا سلك الطريق الأبعد لغرض القصر، وقياسه من هاهنا أنه إذا سافر لقصد الترخص بترك المنذور أنه لا يستبيح تركه وفيه بحث، وقريب من هذه الصورة ما إذا حلف ليطأن زوجته في نهار رمضان، قال ابن الصلاح والنووي وغيرهما: طريقه كما قاله أبو حنيفة - رضي الله عنه - لسائل سأله عن ذلك أن يسافر. ومثار الوقفة في ما ذكرناه من الأمثلة أنه يسافر لقصد الترخص ويترتب على الترخص غرض آخر. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

النوع الثاني: الحج والعمرة

النوع الثاني: الحج والعمرة قوله: ولو نذر الحج ماشيًا من دويرة أهله إلى الفراغ، لزمه ذلك في الأصح، فإن أطلق المشي فالأصح: أنه يلزمه من وقت الإحرام سواء أحرم من الميقات أو قبله. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو يوهم أن ذلك لا يأتي إذا أحرم بعد الميقات وهو ممنوع فإنه لو جاوزه غير مريد للنسك ثم عنّ له الإحرام بذلك فالقياس أنه يمشي من ذلك الوضع ولا شيء عليه، ولو جاوزه مريدًا له وهو راكب فيحتمل وجوب دمين. قوله: ولو قال: أمشي حاجًا، فالظاهر: أنه كقوله: أحج ماشيًا، وقضية كل واحد من اللفظين اقتران الحج والمشي، وفيه وجه أن قوله: أمشي حاجًا، يقتضي أن يمشي من مخرجه وانتهاضه إلى الحج. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي ذكره من التسوية بينهما حتى يلزمه المشي من حين الإحرام إلى التحلل مشكل ولا يسلم أن ذلك مقتضى اللفظ في الصورة الثانية، لأن مدلوله التزام مشي في حالة الحج، وإذا مشى لحظة بعد الإحرام صدق أن يقال: مشى حاجًا، وحينئذ فيخرج عن نذره بخلاف الصورة الأولى وهي الحج ماشيًا، فإن مدلولها إيقاع الحج في حال المشي فيلزم منه الاستغراق. الأمر الثاني: أن الرافعي قد شرع في حكاية خلاف في لحاق الثانية بالأولى في ابتداء المشي فات الكلام فيه وأما نهايته فسيأتي الكلام عليها، والوجه الذي حكاه في عدم التحاقها بالأولى وهو الوجه المذكور في آخر كلامه قد تقدم بعينه في الصورة الأولى فتأمله.

وكأن مراده أن هذا القائل يوجب المشي من حين الخروج في هذه الصورة، بخلاف ما إذا قال: أحج ماشيًا، فإن المشي لا يجب عنده إلا من حين الإحرام. قوله: ونهاية المشي إلى التحلل الأول على وجه، والمنصوص وقول الجمهور: إلى أن يتحلل التحللين فله الركوب، وإن بقى الرمي في أيام منى لأنه خارج عن الحج خروج السلام الثاني من الصلاة، والقياس أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها فله أن يركب ولم يذكروه. انتهى. وما ذكره من أن التسليمة الثانية ليست من الصلاة قد اختلف فيه كلامه وكلام "الروضة"، وقد تقدم إيضاحه في آخر صلاة الجماعة فراجعه. قوله في "الروضة": وإن ترك المشي مع القدرة فحج راكبًا فقد أساء، وفيه قولان: القديم: لا تبرأ ذمته من حجه بل عليه القضاء، لأنه لم يأت به على صفته الملتزمة. والأظهر: تبرأ، فعلى هذا هل يلزمه الدم؟ قولان أو وجهان: أظهرهما: نعم. انتهى كلامه. وقد ذكر الرافعي تفريعًا حسنًا على القول بوجوب القضاء وحذفه من "الروضة"، فقال بعد حكاية الأول وتعليله: وذكر على هذا مأخذان: أحدهما: أن ما أتى به عن الحج لم يقع عن نذره، لأن المنذور الحج ماشيًا. والثاني: أن أصل الحج وقع عنه، إلا أنه بقي المشي واجبًا، والمشي لا يمكن تداركه مفردًا فألزم حجة أخرى ليتدارك فيها المشي، وعلى هذا ينطبق

ما حكى عن نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه لو كان قد ركب في بعض الطريق ومشى في بعض فإذا عاد للقضاء مشى حيث ركب وركب حيث مشى، وعلى المأخذ الأول يلزمه المشي في القضاء كله. هذا كلام الرافعي. قوله: ولو قال: أحج في عامي هذا، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام لزمه الوفاء. إلى آخره. أهمل هنا ما إذا لم يمكن ذلك لضيق الوقت، وقد ذكره قبل هذا بنحو ثلاثة أوراق فقال: المذهب: أنه لا ينعقد نذره ولا شيء عليه، وقيل: يلزمه الكفارة، وقيل: ينعقد نذره ويقضي في سنة أخرى. قوله: وإن نذر أن يحج حافيًا فله أن يلبس النعلين ولا شيء عليه. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وقال فيه: إنه لا خلاف فيه، وعلله بكونه ليس بقربة، لكن قد جزم هو في كتاب الحج من الشرح المذكور بأن الأولى دخول مكة حافيًا، ونقله في "المناسك" و"الروضة" تبعًا للرافعي عن بعضهم وأقره، وحينئذ فيتعين على مقتضى ذلك أن يجب عليه خلع النعلين في هذه المسافة وغيرها مما يستحب فيها أن يكون حافيًا كما لو نذر المشي أو الركوب على ما مر، وكإطالة القيام في الصلاة. قوله: وإن نذر القِران فأفرد أو تمتع فقد أتى بالأفضل فيخرج عن نذره. انتهى. وهذا الكلام يشعر بأنه لا يجب على الناذر مع ذلك شيء آخر، لكن هذه المسألة هي نظير ما إذا جامع القارن أو المتمتع ثم أفرد، وقد تقدم في الحج من "زوائد النووي": أن الدم لا يسقط بعدوله إلى الإفراد فهاهنا كذلك، وفي هذه المسألة كلام يتعين الوقوف عليه سبق ذكره هناك.

النوع الثالث: إتيان المسجد

النوع الثالث: إتيان المسجد قوله: ولو قال: أمشي إلى بيت الله، أو آتيه ولم يذكر الحرام ولا نواه فوجهان أو قولان: أحدهما: أن مطلقه يحمل على البيت الحرام لأنه السابق إلى الفهم. وأصحهما: لا ينعقد لأن جميع المساجد بيت لله تعالى. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وخالف في "المحرر" فصحح اللزوم، فقال: ولو نذر أن يمشي إلى بيت الله تعالى أو يأتيه فالأصح: أنه يلزمه إتيانه ويحج أو يعتمر. هذا لفظه. ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج"، ونص الشافعي في "البويطي" على أنه لا يلزم، كذا ذكره في باب السنة في النذور، ونقله أيضًا النووي في "شرح المهذب" عن جماهير الأصحاب في الطريقين فتكون الفتوى عليه، وقد عبر في "المنهاج": بالأصح، واستفدنا من تعبيره أن الخلاف وجهان. قوله: ولو نذر المشي إلى بيت الله الحرام فليس له الركوب على الأظهر، بل يلزمه المشي من دويرة أهله على الأظهر، وقيل: لا يلزمه إلا من الميقات، ثم قال: ولو قال: أمشي إلى المسجد الأقصى، أو مسجد المدينة، وأوجبنا الإتيان ففي وجوب المشي وجهان بناهما الشيخ أبو علي على إلزام المشي قبل الميقات، والأظهر: الوجوب. انتهى. والصحيح في هذه المسألة: عدم الوجوب على خلاف ما يقتضيه نقله عن الشيخ أبي علي فقد نص عليه الشافعي في "البويطي" فقال في باب السنة في النذور ما نصه: ومن نذر المشي إلى بيت المقدس أو المدينة ركب إليهم. هذا لفظه.

وصحح النووي في أصل "الروضة" الوجوب ذهولًا عن النص واعتمادًا على مقالة الشيخ أبي على، أو اعتمادًا على ما يحتمل أنه من لفظ الرافعي. قوله: وإذا نذر الصلاة في مسجد المدينة أو الأقصى، ففي تعيينه طريقان: قال الأكثرون: فيه القولان في لزوم الإتيان، وقد تقدم أن أصحهما: أنه لا يجب. والثاني: يتعين قطعًا، ثم قال: ولا يبعد أن يرجع التعيين هاهنا وإن ثبت الخلاف. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وما دل عليه كلامه في الشرحين من رجحان التعيين، قد صحح في "المحرر" خلافه، واستدرك عليه في "المنهاج" فصحح أنه يتعين وأطلق ترجيحه أيضًا في أصل "الروضة" فقال: والتعيين أرجح. قوله: وإن عين مسجد المدينة أو الأقصى للصلاة، وقلنا بالتعيين فصلى في المسجد الحرام خرج عن نذره على الأصح بخلاف العكس، وفيه احتمال للإمام. انتهى كلامه. وهذا [الاحتمال] (¬1) عائد إلى المسألة الأولى وهي الصلاة في المسجد الحرام عوضًا عن أحد المسجدين، كذا ذكره في "النهاية"، فقال: ولو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في المسجد الحرام، فالأصح: أنه يخرج عن النذر، وفيه شيء أخذًا من الالتزام. هذا كلامه. والاحتمال المذكور هو مقابل الأصح فإنه لم يذكر غيره، وأيضًا فلو كان مقابله قولًا أو وجهًا لم يكن لذكر الاحتمال معه فائدة، وتعبيره بالأصح لا يدل على خلاف، فإنه لم يصطلح على شيء من ذلك بل هو ¬

_ (¬1) في ب: الكلام.

كتعبيره بالقياس والظاهر والراجح ونحوها، وقد فهم النووي أيضًا ذلك فإنه لم يذكر في "الروضة" هذا الاحتمال بالكلية، فدل على أنه ليس عائدًا إلى الصورة الثانية بل إلى الأولى، واستغنى عن التصريح به اعتمادًا على فهم ذلك من تعبيره بالأصح، غير أن تركه لفظ الأصح يشعر على اصطلاحه بأن في المسألة وجهين والمعروف الجزم بأنه يقوم مقام المسجدين المذكورين وهو المجزوم به في "تعليق القاضي الحسين" وغيره والمنصوص عليه في "البويطي" كما ستعرفه. نعم من يجعل احتمالات الإمام وجوهًا كالغزالي فيحسن منه إثبات الخلاف. قوله: وهل تقوم الصلاة في أحدهما -أي مسجد المدينة وبيت المقدس- مقام الآخر؟ فيه وجهان. انتهى. والصواب وجه ثالث وهو أن مسجد المدينة يقوم مقام الأقصى بخلاف العكس، فإن الشافعي قد نص عليه في "البويطي" وهو المذكور في "تعليقة القاضي الحسين" و"التتمة" وغيرهما، وصححه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب"، وقد صحح الرافعي والنووي أيضًا ذلك في نظير المسألة وهو نذر الاعتكاف في أحدهما كما أوضحته في موضعه، ويتجه في المسألة وجه آخر وهو أنه إن كانت المسافة بين المسجدين من مكانه متساوية فتجزئه الصلاة في أحدهما عن الآخر، وإن كانت متفاوتة فلا يجزئه الأخف عن الأثقل كما ذكروه في ميقات الحج، وكذلك في نذر الجهاد على الأصح، إلا أن المنصوص أصوب وأقيس. قوله: فروع: قد عرفت أن الظاهر في نذر المشي إلى بيت الله الحرام وجوب الحج أو العمرة، فلو قال في نذره: أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة، [ففيه وجهان:

أحدهما: ينعقد نذره ويلغو تقييده بقوله: لا حج ولا عمرة] (¬1). والثاني: لا ينعقد، فإذا أتاه فعليه حج أو عمرة إن أوجبنا إحرامًا لدخول مكة، فإن لم نوجبه لدخولها فعلى ما ذكرناه في مسجد المدينة ومسجد الأقصى. انتهى. والأصح في المسجدين: عدم الانعقاد، وفي داخل مكة: أنه لا يجب عليه الإحرام، وحينئذ فلا تبقى للنذر فائدة، ويلزم من ذلك أن يكون الأصح عدم صحته. إذا علمت ذلك فقد تابعه في "الروضة" على هذا كله ثم صحح من "زوائده" انعقاد النذر، وذكر مثله في "شرح المهذب"، وهو كلام متدافع على أن كلام الرافعي أيضًا فيه إيهام. قوله: وقال القاضي ابن كج: إذا نذر أن يزور قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعندي أنه يلزمه الوفاء وجهًا واحدًا، ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان عندي. انتهى. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: عندي، يدل على أنه أراد بالوجهين احتمالين، ولم يتعرض لهذه اللفظة في "الروضة". ¬

_ (¬1) سقط من أ.

النوع الرابع: الهدايا والضحايا

النوع الرابع: الهدايا والضحايا قوله: وإذا قال: لله عليّ أن أتصدق على زيد وهو فقير، فهل يتعين الصرف لزيد؟ فيه خلاف، والظاهر: التعيين، وقد ذكر صاحب "التهذيب" وغيره: أنه لو نذر أن يتصدق بكذا على أهل بلد عيّنه يجب أن يتصدق به عليهم، ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان فإن ما يجتمع به على ما يحكى يقسم على جماعة معلومين. انتهى. والمسألة الأولى والأخيرة قد أسقطهما النووي من هذا الموضع مع الاحتياج إلى الثانية وغرابتها. قوله: ولو نذر شاة فأخرج عنها بدنة جاز، وهل يكون الكل فرضًا؟ فيه وجهان. انتهى. وقد حصل اضطراب شديد في الراجح من هذين الوجهين أوضحته في باب صفة الصلاة فراجعه فإنه مشتمل على فوائد كثيرة. قوله: فإذا قال: لله عليَّ أن أهدي بعيرًا، أو بقرة، أو شاة. ففي اشتراط إجزائه في الأضحية قولان مبنيان على أنه يسلك به مسلك الواجب أما الجائز؟ ثم قال عقبه: قال الإمام: وبالاتفاق لا يجزئ الفصيل في نذر البعير لأنه لا يسمى بعيرًا، ولا العجل إذا ذكر البقرة، ولا السّخلة إذا ذكر الشاة. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من الاتفاق وسكوته عليه تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو مخالف لكلامهم في الوصية فإن الرافعي حكى هناك وجهين في تناول الشاة السَّخلة، ولا شك في جريانهما في هذا الباب إذا سلكنا

بالمنذور مسلك الجائز، فإن المتبع في البابين إنما هو الاسم. قوله: ولو قال: لله علىَّ أن أهدي، ولم يسم شيئًا فالجديد: أنه يحمل على ما يجري في الأضحية لأنه المعهود شرعًا. والقديم: أنه يخرج عنه بكل متمول، ثم قال: ولو قال: عليَّ أن أهدي الهدي، بالألف واللام انصرف إلى المعهود الشرعي ولم يُجروا فيه الخلاف. انتهى كلامه. وما ذكره من نفي الخلاف قد تبعه عليه في "الروضة" و"شرح المهذب" وعبر فيهما بقوله: حمل على المعهود الشرعي بلا خلاف، والذي قالاه غريب، فقد حكى الماوردي فيه خلافًا، وبالغ فنسب ما قاله الرافعي إلى الشيخ أبي حامد ومن أخذ بمذهبه. ثم قال: وسائر أصحابنا محلى خلافه، ونقل عنه الروياني في "البحر" أيضًا ما حكيناه عنه. قوله: ولو نذر أن يهدي مالًا معينًا فيجب صرفه إلى مساكين الحرم، وحكى ابن كج وجهًا ضعيفًا أنهم لا يتعينون، ثم فَرَّعَ على الأول فقال: وهل يجب الذبح في الحرم؟ فيه وجهان. أصحهما: [نعم] (¬1). والثاني: يجوز أن يذبح خارج الحرم بشرط أن ينقل اللحم قبل [أن يتغير وقد سبق نظيره. انتهى كلامه. واعلم أنه قد قال قبل] (¬2) ذلك بنحو ثلاثة أوراق: ولو نذر أن يهدي بدنة أو شاة إلى مكة ولم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم فيلزمه الذبح بها، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

بدنة أو شاة إلى مكة ولم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم فيلزمه الذبح بها، وفي تفرقة اللحم بها وجهان: أحدهما: له أن يفرق في موضع آخر إلا إذا نوى. وأصحهما: الوجوب حملًا على الهدايا. انتهى. فجزم هنا بما أجرى فيه الخلاف هناك، وجزم هناك في ما أجرى فيه الخلاف هنا، فجزم هنا بالتفرقة، وحكى الخلاف في الذبح وعكس هناك.

مسائل منثورة

قال: -رحمه الله-: مسائل منثورة قوله: ولو نذر ستر الكعبة وتطييبها لزمه، ولو نذر تطييب مسجد المدينة والمسجد الأقصى أو غيرهما من المساجد ففيه تردد للإمام، ومال إلى تخصيصه بالكعبة والمسجد الحرام. انتهى. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا والمختار كما قاله النووي في "شرح المهذب": صحة هذا النذر. قال الشيخ عز الدين: وحكم مشاهد العلماء والصلحاء كضريح الشافعي وذي النون المصري حكم البيوت لا المساجد (¬1). قوله: والثاني: أغرب القاضي ابن كج فحكى وجهًا أنه لا يجوز الوقف على البنيان كما لو وقف على المسجد والكعبة ونحوهما، وإنما الوقف على من يملك، وذكر على هذا أنه لا يجوز أن يقصد كون الستر والطيب للكعبة، بل ينبغي أن يجعله لعامة المسلمين ليتجملوا به، ولا أدري هل جرى ذكر هذا الوجه في الوقف أم لا؟ انتهى. وهذا الكلام قد حذفه النووي من "الروضة" ولم يتقدم للوجه ذكر في الوقف، بل جزم الرافعي هناك بصحة الوقف على المسجد والكعبة. نعم حكى وجهين في اشتراط بيان المصرف من عمارة أو وقود ونحوهما وصحح عدم الاشتراط. ونقل عن القفال: أنه لابد من بيان المصرف في الرباط. وعن الحناطي في الدار نحوه أيضًا، ولا يلزم من الاشتراط في هذين ¬

_ (¬1) بل حكمها حكم المقابر، فتعامل معاملة المقابر، فلا تشد لها الرحال، ولا يطاف حولها، ولا ينذر لها، كما نراه اليوم، فإن هذا كله من الأمور الشركية.

اشتراطه في المسجد والكعبة، لأن المسجد عند الأصحاب بمثابة الأحرار في الملك. قوله: فروع: نقل القاضي ابن كج وجهين في من قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أعجل زكاة مالي، هل يصح نذره؟ ووجهين في من قال: إن شفا الله مريضي فلله عليَّ أن أذبح عن ولدي، هل يلزم الذبح عن ولده؟ لأن الذبح عن الأولاد مما يتقرب به. ووجهين أيضًا في ما إذا قال: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أذبح ابني، فإن لم يجز فشاة مكانه، هل يلزم ذبح شاة؟ ووجهين في ما إذا نذر النصراني أن يصلي أو يصوم ثم أسلم، هل يلزمه أن يصلي صلاة شرعنا وصومه؟ . انتهى. قال في "الروضة": الأصح في الصورة الثانية: الصحة، وفى الباقي البطلان، وذكر نحوه في "شرح المهذب" أيضًا، فأما التعجيل: فينبغي صحة نذره حيث قلنا باستحبابه، وهو ما إذا اشتدت حاجتهم أو قدم الساعي في المحرم ولم يتم حوله. وأما الذبح عن الولد: إذا أوجبناه فهل يجب تفريق الجميع أم لا؟ وإذا لم نوجب فهل نسلك بالحيوان مسلك الأضحية أو العقيقة؟ . وأما الثالثة: ففيها ما ذكرناه في الثانية إن قلنا بالصحة. وأما الأخيرة: فالخلاف فيها مشهور حتى في "التنبيه" وقد ذكره الرافعي في أول الباب وصحح عدم الصحة، وإيراده لهما عن ابن كج من غير ترجيح يشعر باستغرابهما. قوله: وفي "فتاوى القفال": أنه لو نذر أن يضحي بشاة ثم عين شاة لنذره فلما قدمها للذبح صارت معيبة: لا تجزئ، ولو نذر أن يهدي شاة ثم

عُيّن شاة وذهب بها إلى مكة فلما قدمها للذبح تعيبت: أجزأته لأن الهدي ما يهدي إلى الحرم وبالوصول إليه حصل الإهداء، والتضحية لا تحصل إلا بالذبح. انتهى. وما نقله عن القفال من إجزاء الهدي وأقره عليه [قد تابعه] (¬1) في "الروضة" أيضًا عليه، وليس كذلك بل الصحيح فيه أيضًا: عدم الإجزاء كالأضحية، كذا ذكره الرافعي في النظر الثاني من كتاب الأضحية في الحكم الثاني منه فقال: ولو تعيب الهدى بعد بلوغ المنسك فوجهان: أحدهما ويحكي عن ابن الحداد: أنه يجزئ ذبحه، لأنه لما بلغ موضع الذبح صار كالحاصل في يد المساكين، ويكون كمن دفع الزكاة إلى الإمام فتلفت في يده تحسب من زكاته. ونسب الإمام هذا الوجه إلى القفال. وأصحهما: المنع، فإنه من ضمانه ما لم يذبح. هذا كلامه، ثم حكى عن "التهذيب" وجهًا آخر مفصلًا بين أن يتمكن فلا يجزئ وإلا فيجزئ. قوله: وفي "تفسير أبي نصر القشيري": أن القفال قال: من التزم بالنذر أن لا يكلم الآدميين يحتمل أن يقال: يلزمه، لأنه مما يتقرب به، ويحتمل أن يقال: لا، لما فيه من التضييق والتشديد، وليس ذلك من شرعنا كما لو نذر الوقوف في الشمس. انتهى. والأصح كما قاله في "زوائد الروضة" و"شرح المهذب": هو الاحتمال الثاني، وحديث أبي إسرائيل (¬2) الذي ذكره الرافعي في أول الباب يدل عليه، وفي البخاري (¬3) أن امرأة حجت صامتة عن الكلام، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري (1844) ومسلم (1115) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬3) حديث (3622).

فقال لها أبو بكر - رضي الله عنه -: تكلمي فإن هذا لا يحل. قوله من "زوائده" نقلًا عن "فتاوى القاضي": أنه لو نذر صوم سنة معينة ثم قال: إن شفى الله مريضي فلله عليّ صوم الأثانين من هذه السنة، قال: لا ينعقد الثاني؛ لأن الزمان مستحق لغيره، وقال العبادي: ينعقد ويلزمه القضاء. قيل له: لو كان له عبد، فقال: إن شفى الله مريضي فلله عليّ عتقه، ثم قال: إن قدم زيد فعليّ عتقه. قال: ينعقد إن كانا وقعا معًا أقرع بينهما. انتهى. والمسألتان قد تقدمتا في كلام الرافعي في آخر الكلام على نذر الصوم، فأما الأولى: فكلام الرافعي فيها مشتمل على ما هو منقول هنا وزيادة، وأما الثانية وهي مسألة العبد: فتكلم هناك على ما يدخل فيه العبد وغيره ولم يذكر ما قاله العبادي من الإقراع بل ذكر غيره فراجعه.

كتاب القضاء

كتاب القضاء وفيه أربعة أبواب. الباب الأول: في التولية والعزل وفيه فصلان: الفصل الأول: في التولية قوله: والقضاء والإمامة من فروض الكفاية بالإجماع، لأن الظلم من شيم النفوس، ويجوز أن يوضع على لفظ المسألة من الكتاب وأولان بعض الأصحاب في ما حكى القاضي ابن كج ذهب إلى أن القضاء مكروه للأحاديث المحذرة في الباب، وظاهر المذهب الأول، ثم قال: وإذا قلنا بظاهر المذهب فإذا قام بعض الصالحين للقضاء به سقط الفرض عن الباقين. . . . إلى آخره. واعلم أن الرافعي أشار بقوله: لأن الظلم من شيم النفوس. . . . إلى قول المتنبي: الظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم وكلامه صريح في أن الخلاف المذكور محله في الفرضية وعدمها، وقد أثبته كذلك في "الشرح الصغير"، وأسقطه النووي من "الروضة" وسببه أنه قد ذكر أولًا الإجماع على كونه فرضًا فكيف يكون مختلفًا فيه؟ فلما أشكل عليه حالة حذفه، وغاية ما يقال فيه: أن الوجوه لابد أن تكون مخرجة من قواعد المجتهد ولازمة لأصوله التي قررها، وللناس خلاف مشهور في أن لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ فالذاهب إلى أنه ليس بمذهب قد يذهب إلى أنه لا يقدح في الإجماع، وحينئذ تستقيم دعوى الإجماع مع إثبات الوجه، وقد صرح في "المطلب" بعد هذا بقليل بحكاية

خلاف في أنها هل تقدح في الإجماع أم لا؟ وصحح أنها تقدح، وقد يجاب بجواب فيه منع لما فهمه الرافعي فيقال: ليس الخلاف عائدًا إلى الفرضية وعدمها بل في الكراهة فقط وإن كان مجمعًا على كونه فرضًا، ولا منافاة لأن المنافاة إنما هي حاصلة بين الكراهة وفرض العين لا بينهما وبين فرض الكفاية، ألا ترى أنّا نرد شهادة أصحاب الحرف على ما سيأتي وإن كان القيام بتلك الحرف فرضًا؟ قوله: وربما تردد الناظر في إخبار الممتنع من القضاء من جهة أن الامتناع من هذا الفرض الذي هو مناط المصالح العامة بعد ما تعين يشبه أن يكون من الكبائر، وحينئذ فيفسق به ويخرج عن أهلية القضاء لفوات شرط العدالة فكيف يولى ويجبر على القبول؟ ويمكن أن يكون المراد: أن يؤمر بالتوبة أولًا فإذا تاب تولى. انتهى كلامه. وهذا الجواب الذي ذكره الرافعي بتقدير الفسق قد سلمه له في "الروضة" وهو غير مستقيم، وذلك لأنه إن صح ما قاله من كونه فسقًا فالفاسق إذا تاب لا تجوز ولايته ولا نقبل شهادته إلا إذا مضت عليه مدة الاستبراء، ولم يشترط ذلك هو ولا غيره، والصواب: الجواب بما أشار به في "الروضة" أن هذا لا ينبغي أن يكون فسقًا لأن من يمتنع عن مثل هذا إنما يمتنع غالبًا متأولًا والمتأول ليس عاصيًا قطعًا وإن كان مخطئًا في تأويله. قوله: فإن كان أصلح منه بنى على أن الإمامة العظمى هل تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل؟ وفيه خلاف للمتكلمين والفقهاء، والأصح: الانعقاد لأن تلك الزيادة خارجة عن شرط الإمامة، وفي القضاء خلاف مرتب وأولى بالانعقاد. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق الخلاف ومحله ما إذا لم يكن عذر، فإن كان أطوع في الناس وأقرب إلى القلوب انعقدت قطعًا، قاله الماوردي.

قوله: في الجماعة المتماثلين: وإن كان مع الشهرة مكفيًا فيكره له الطلب، ومنهم من لا يطلق لفظ "الكراهة"، ويقتصر على أن الأولى أن لا يطلب. انتهى. وما ذكره من تضعيف الاقتصار على الأولوية ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وخالف في "المحرر" فجزم بما ضعفه هنا فقال: وإن كان مشهورًاً مكفيًا فالأولى أن لا يطلب. انتهى. ووقع الموضعان في "الروضة" و"المنهاج" كذلك أيضًا. قوله: في أصل "الروضة": والصحيح تفصيل ذكره "الروياني" وهو أنه إن تَعَيّن عليه القضاء أو كان ممن يستحب له فله بذل المال، ولكن الآخذ ظالم بالأخذ وهذا كما إذا تعذر الأمر بالمعروف إلا ببذل مال، وإن لم يتعين ولم يكن مستحبًا جاز له بذل المال ليتولى، ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل. انتهى كلامه. وما ذكره في أواخره من جواز البذل عند انتفاء التعيين والاستحباب غلط على العكس مما نقله الرافعي عن الروياني، فإن المذكور فيه، أنه لا يجوز وهو الذي ذكره أيضًا الروياني في "البحر" و"الحلية" وهو الصواب. قوله: الثالث: طرق الأصحاب متفقة في تعيين الشخص للقضاء، وعدم تعينه على النظر إلى البلد والناحية لا غير. وقضيته أن لا يجب على من يصلح للقضاء طلبه ببلدة أخرى لا صالح بها، ولا قبوله إذا ولى. انتهى. وما ذكره من حكاية الاتفاق، وتابعه عليه في "الروضة" قد سبقهما إليه جماعة وليس كذلك، بل فيه خلاف حكاه ابن الرفعة في "الكفاية" عن ابن الصباغ وغيره.

قوله: وزاد المصنف تحقيقات أوردها في أصول الفقه منها: أنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود، ويكفي أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب. ومنها: أن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة إلى البحث عن عدالة رواته، وما عدا ذلك ينبغي أن يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرف صحة مذهبه في الجرح والتعديل. انتهى. أما الأول: فقد اعترض عليه في "الروضة" فقال: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود، فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام [ولا معظمه، وهذا الذي ذكره لا يرد فإنه لم يدع استيعاب الأحكام] (¬1) بل ادعى الاعتناء فيه بالجمع. ولا شك أن السنن المذكورة كذلك، ونظيره أن تقول: إن الرافعي قد اعتنى في شرحه بجميع الأحكام وإن فاته مسائل كثيرة مذكورة في المطولات والمختصرات حتى من "التنبيه" للشيخ أبي إسحاق. وأما الثاني: فقال: إن هذه المسألة مما أطبق جمهور الأصحاب عليه وشذ من شرط في التعديل اثنين، ثم إن تواتر العدالة لا يكفي بل لابد مع ذلك من الضبط، والمراد بقبول السلف له: هو علمهم به ولا يكفي عملهم على وفقه فقد يكون ذلك لأجل غيره لا له. قوله: ويشترط في القاضي وراء ما ذكره في "الكتاب" صفات أخر، منها الإسلام والكفاية، فلا يجوز تقليد المغفل والذي اختل رأيه ونظره بكبر ومرض ونحوهما. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

واعلم أن هذين الشرطين ليسا زائدين على ما في "الوجيز" فإنهما شرطان لأهلية الاجتهاد والفتوى، والأهلية كذلك قد صرح باشتراطها في القاضي، فكأن اشتراطه للأهلية المذكورة في القاضي اشتراطًا للإسلام والكفاءة أيضًا، والشرط الأول بخصوصه داخل أيضًا في العدالة، وقد صرح بها في "الوجيز". قوله: قال في "الوسيط": لكن اجتماع هذه الشروط متعذر في عصرنا لخلو العصر عن المجتهد المستقل، فالوجه: يتقيد قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلًا أو فاسقًا، لئلا تتعطل مصالح الناس، ويؤيده أنّا ننفذ قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة، وهذا أحسن لكن في بعض الشروح أن قاضي البغاة إذا كان منهم وبغيهم لا يوجب فسقًا كبغي أصحاب معاوية - رضي الله عنه - جاز قضاؤه. وإن أوجب الفسق كبغي أهل النهر وإن لم يجز. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن ما قاله الغزالي قد جزم به الرافعي في "المحرر"، وكذلك صاحب "الحاوي الصغير"، ولم يحك في "الشرح الصغير" غيره، ونقل الرافعي في كتاب البغاة ذلك فقال: قال المعتبرون: ينظر إن كان قاضيهم لا يستحل دماء أهل العدل وأموالهم نفذ حكمه، وإن كان يستحل دمهم لا ينفذ حكمه، لأن من شرط القضاء العدالة، ومنهم من يطلق القول بنفوذ حكمه. هذا كلامه. وقال في "البحر": يحتمل وجهين: أحدهما: لا ينفذ ويتحاكمون إلى من هو من أهل القضاء، فإن لم يجدوا أهلًا نفذت أحكامه للضرورة. هذا كلامه.

ونقل ابن الرفعة في "الكفاية" عن "الكافي" له مثله أيضًا. وقال ابن الصلاح وابن أبي الدم: لا نعلم أحدًا ذكر ما ذكره الغزالي، والذي قطع به العراقيون والمراوزة أن الفاسق لا تنفذ أحكامه. وقد ظهر لك بما قلناه بطلان ما قالاه، وتقييد الغزالي بالفاسق والجاهل يشعر بأنه لا ينفذ من المرأة والكافر، وهو ظاهر. الثاني: أن كلامه يقتضي: تصحيح تنفيذ الحكم من قاضي البغاة وإن كان بغيه يوجب الفسق، وهو مخالف لما سبق في قتال البغاة. الثالث: أن ما جزم به من انقسام البغي إلى فسق وغيره، قد ضعفه في قتال البغاة في الكلام على الحكم، وصحح أنه ليس [بفسق] مطلقًا فراجعه أيضًا. الرابع: أن هذا التفصيل الذي نقله عن بعض الشروح المجهولة، واقتضى كلامه استغرابه غريب لأجل ما نقلناه عنه أيضًا الآن من كلامه في قتال البغاة. قوله: وهل على المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى أو سئل عنها مرة أخرى أم يجتهد اجتهاده الأول؟ وجهان، كما سبق في القِبْلَة انتهى. والأصح كما قاله في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة": لزوم التجديد، قال: وهذا إذا لم يكن ذاكرًا للدليل الأول: ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرًا: لم يلزمه قطعًا، وإن تجدد ما قد يوجب الرجوع: لزمه قطعًا. قوله: وإنما يسأل ممن عرف علمه وعدالته، وإذا لم يعرف العلم بحث على الحال من الناس، وإذا لم يعرف العدالة فلصاحب "الكتاب" فيه

احتمالان ذكرهما في الأصول: أحدهما: أن الجواب كذلك. وأشبههما: الاكتفاء بأن الغالب من حال العلماء العدالة، بخلاف البحث عن العلم فليس الغالب من الناس العلم، ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث فيفتقر إلى عدد التواتر أم يكفي إخبار عدل أو عدلين؟ أقربهما الثاني. انتهى كلامه. استدرك عليه في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" فقال: الاحتمالان في ما إذا لم يعلم العدالة، هما في ما إذا كان مستورًا: وهو الذي ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه، وهما وجهان ذكرهما غيره. أصحهما: الاكتفاء لأن العدالة الباطنة تعز معرفتها على غير القضاة فيعسر على العوام تكليفهم بها. وأما الاحتمالان المذكوران ثانيًا فهما محتملان، ولكن المنقول خلافهما والذي قاله الأصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته، وقيل لا يكفي الاستفاضة ولا التواتر، بل إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، ويجوز استفتاء من أخبر ثابت الأهلية بأهليته. قوله: وإذا وجد مفتيين فأكثر فهل يلزمه أن يجتهد ويسأل أعلمهم؟ فيه وجهان: أصحهما عند عامة الأصحاب: لا، بل يتخير ويسأل من شاء منهم لأن الأولين كانوا يستفتون من شاءوا من الصحابة. ثم قال: وذكر صاحب "الكتاب" في الأصول: أنه إذا كان يعتقد أن أحدهم أعلم لم يجز أن يقلد غيره، وإن كان لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم. انتهى كلامه.

وهذا الذي ذكره الغزالي قد ذكره أيضًا غيره، قال في "الروضة": وهو إن كان ظاهرًا ففيه نظر لما ذكرناه من سؤال أحاد الصحابة -رضي الله عنهم- مع وجود أفاضلهم فقد يمنع هذا، ثم قال -أعني: النووي- وعلى الجملة [المختار] (¬1) ما ذكره الغزالي، فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين، فإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح. قوله: في "أصل الروضة": فرع: إذا استفتى وأجيب فحدثت له تلك الحادثة ثانيًا، فإن عرف استناد الجواب إلى نص أو إجماع فلا حاجة إلى السؤال ثانيًا وكذا لو كان المقلد ميتًا وجوزناه. وإن عرف استناده إلى الرأي والقياس أو شك والمقلد حي فوجهان: أحدهما: لا يحتاج إلى السؤال ثانيًا، لأن الظاهر استمراره على جوابه. وأصحهما: يلزمه السؤال ثانيًا. انتهى. ومحل هذا الخلاف إذا لم يكثر وقوع المسألة، فإن كثر لم يجب على العامي تجديد السؤال جزمًا، كذا ذكره النووي في أوائل "شرح المهذب". قوله: وإذا [سأل] (¬2) بالرقعة فليكن كاتبها حاذقًا ليبين موضع السؤال ويسقط مواضع الاشتباه لئلا يذهب الوهم إلى غير ما وقع عنه السؤال. كما يحكي أنه كتب عقلًا في زمان أبي الحسين الكرخي: ما يقول الفقهاء في رجل قال لامرأته: [أنت طالق إن، ثم] (¬3) وقف عند "إن"، [فقرأوا: إن تم وقف عبدان] (¬4) وأجابوا بأنه إن تم وقفه طلقت وإلا فلا، فعرضت الرقعة على الكرخي فلما تأملها عرف أنهم صحفوا وأن الكاتب أراد ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب. (¬4) سقط من أ.

أنه قال: أنت طالق إن، ثم أمسك بعد "إن"، فلم يذكر شرطًا. انتهى كلامه. وهذه المسألة وهي الوقوف على أداة شرط لم يصرح هنا بحكمها، وقد يتشرف الواقف على هذا الوضع إلى معرفة ذلك، وقد ذكرها الرافعي في موضعين بجوابين مختلفين، تبعه عليهما في "الروضة": أحدهما: في باب عدد الطلاق. والثاني: في أوائل الشرط في الطلاق فراجع ذلك، وعبدان: بباء موحدة تثنية عبد. قوله: وإذا رأى في الفتيا جواب من لا يصلح للفتوى لم يفت معه. قال الصيمري: وله أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه، ولا يحبسها إلا بإذنه. انتهى. وما نقله عن الصيمري من الضرب على خط الأول بغير إذن مالكها، قد ذكر العبادي في "الزيادات" بالنسبة إلى إصلاح كتب العلم ما يخالفه، فإنه قال: لا يجوز إصلاح ما يقع فيها من الغلط بغير إذن إلا أن يكون قرآنًا، فإنه يجب. قوله: ويجوز أن يكتفي برسول ثقة وبالرقعة. انتهى. ومحل الاعتماد على الرقعة إذا أخبره من يقبل خبره أنه خطه أو كان يعرف خطه، ولم يشك فيه، كذا نبّه عليه في "شرح المهذب" و"زوائد الروضة" وهو واضح. قوله: ولو نكح مجتهد امرأة خالعها ثلاثًا، لأنه رأى الخلع فسخًا ثم تغير اجتهاده، قال صاحب "الكتاب" في "الأصول": يلزمه تسريحها، وأبدى ترددًا في ما إذا فعل المقلد مثل ذلك، ثم تغير اجتهاد مقلده، قال: والصحيح

أن الجواب كذلك، كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة فإنه يتحول. انتهى. وهذا الذي قاله الغزالي نقله النووي عن الصيمري والخطيب البغدادي وغيرهما. قال: ولا نعلم فيه خلافًا لأصحابنا. قوله: ولو قال المجتهد للمقلد في صورة النكاح المذكورة: أخاطبك من قلدته؟ فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني، أو استويا فلا أثر لقوله. وإن كان الثاني أعلم فالقياس: أنّا إن أوجبنا تقليد الأعلم فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده، وإلا فلا أثر له. اعترض في "الروضة" فقال: هذا الذي زعم الإمام الرافعي أنه القياس ليس بشيء، بل الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شيء، ولا أثر لقوله الثاني، وهذا كله إذا كانت المسألة اجتهادية. هذا كلامه. والذي ذكره -رحمه الله-أعني النووي- ضعيف أو باطل. والصواب ما ذكره الرافعي، فقد ذكر هو والرافعي وغيرهما في الصلاة ما هو أبلغ منه فقالوا: إنه إذا صلى بالتقليد، ثم قال له: من هو أعلم من الذي قلده أخاطبك الذي قلدته. فهو كتغير اجتهاده حتى يجب عليه الأخذ بالثاني وهو مع ما قاله هنا في غاية التنافي. ثم إنه هل يخص ما قاله هنا بهذه المسألة أو يطرده في سائر المسائل؟ قوله: من "زوائده" قال الصيمري: وتقبل فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه، وذكر الخطيب هذا، ثم قال: وأما الشراة بضم الشين المعجمة، والرافضة الذين يسبون السلف -رضي الله تعالى

عنهم- ففتاويهم مردودة وأقاويلهم ساقطة. انتهى. وهذا الذي نقله عن الخطيب في الشراة والرافضة قد جزم به في أوائل "شرح المهذب"، لكن نقل الرافعي، في كتاب الشهادات أن الأكثرين على قبول شهادة الذين يسبون الصحابة، وزاد في "الروضة" على هذا فقال: إنه الصواب. والجمع بين المقالتين مشكل، فما الفرق بين قبول شهادته وقبول فتواه إذا كان مجتهدًا مع اشتراط العدالة في الموضعين؟ واعلم أن هذه المسألة مع المسائل الستة الآتية بعدها جميعها من الزوائد. والشراة: جمع شاري وهو البائع قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬1) أي باعوه ولقبوا أنفسهم بذلك، لأنهم يقولون إنهم باعوا أنفسهم لله تعالى في القيام بنصرة دينه. قوله: وهل يشترط في المفتي أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية؟ وجهان: حكاهما الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي. انتهى. والأصح: هو الاشتراط كذا صححه النووي في أوائل "شرح المهذب" وابن الصلاح في "أدب المفتي"، وقال الروياني: المذهب أنه لا يشترط. قوله: وإن كان له أي للمفتي رزق لا يجوز أخذ الأجرة، وإن لم يكن له رزق لم يجز أخذ أجرة من أعيان المستفتين كالحاكم، واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني في "حيله" فقال: يقول للمستفتي: يلزمني أن أفتيك قولًا ولا يلزمني أن أكتب لك. فإن استأجره عن الكتابة جاز. وهذا الذي ذكره، وإن كان مكروهًا فينبغي: أن لا يأخذ من الأجرة إلا قدر أجرة كتابة ذلك القدر لو لم تكن فتوى، لئلا يكون آخذًا زيادة بسبب ¬

_ (¬1) سورة يوسف (20).

الإفتاء. انتهى كلامه. وما ذكره من جواز استئجار المفتي للكتابة قد ذكره الرافعي بعد هذا في الباب الثاني قُبيل الأدب السادس العقود للمشاورة وأشعر كلامه بحكاية خلاف فيه، فإنه حكى وجهين في القاضي وصحح الجواز، ثم قال: وكذا استئجار المفتي ليكتب الفتوى. وقوله: واحتال الشيخ، هو بالحاء المهملة وباللام في آخره. قوله: قال الصيمري والخطيب وغيرهما: لو اجتمع أهل البلد على أن جعلوا للمفتي رزقًا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز. انتهى. وما ذكره من "زوائده" قد ذكره الرافعي في الباب الذي يلي هذا الباب في الأدب الثالث المعقود لترتيب الكتاب المزكيين والمترجمين في الكلام على رزق القاضي، ونقله عن الصيمري كما نقله النووي، وحذفه النووي من هناك لكونه وقع بطريقة التبعية فلزم خلو كلام الرافعي عنه. قوله: فإذا كان أحد القولين منصوصًا للشافعي والآخر مُخَرّجًا، فالمنصوص هو الراجح المعمول به غالبًا، كما إذا رجح الشافعي أحد القولين بل هو أولى. انتهى. واعلم أن كلام النووي هذا ظاهر في ترجيح أحد القولين على الآخر بكونه منصوصًا والآخر مخرّجًا، وهذا إنما حكاه في "شرح المهذب" احتمالًا لنفسه بعد أن نقل أنه لا مدخل لذلك في الترجيح. واعلم أن الشافعي إذا نص في مسألة على قولين ثم أجاب في موضع آخر بأحد القولين فهل يكون ذلك اختيارًا منه لذلك القول؟ قال: أبو علي الطبري وغيره: نعم، وقال قائلون: لا، إذ ليس من شرط القولين أن يذكرا في جميع المواضع، كذا ذكره الرافعي قبل كتاب الديات بنحو خمسة أوراق وحذفه من "الروضة".

قوله: واعلم أن نقل العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه المتقدمين أيقن وأثبت من نقل الخراسانيين. انتهى. وقد سبق الكلام على طوائف أصحابنا، ومما ينبغي استحضاره في ذلك أن "الرافعي" قبل كتاب المسابقة بنحو ورقة وهو آخر الأطعمة قد عبر في مسألة بقوله: وهو الذي أورده "العراقيون" و"الطبريون" من أصحابنا هذه عبارته وتبعه عليه في "الروضة". قوله: واعلم أنه متى كان في المسألة قولان قديم وجديد فالعمل على الجديد، إلا في نحو عشرين أو ثلاثين مسألة أوضحتها في "شرح المهذب". انتهى. واعلم أن كلامه هذا موقوف على مقدمة في بيان القديم والجديد وما يتعلق به، وها أنا ذاكرها ملخصة ثم أعود إلى ما أشار إليه من عد الصور وإلى ذكر ما يتعلق بها. فنقول: القديم: هو ما صنفه الشافعي بالعراق ويسمى كتاب "الحجة"، ورواته كما قال الروياني أربعة: أحمد بن حنبل، والزعفراني، وأبو ثور والكرابيسي. وأما الجديد: فهو ما صنفه في مصر أو أفتى به، ورواته سبعة: المزني، والبويطي، والربيع المرادي، والربيع الجيزي، وحرملة، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وعبد الله بن الزبير المكي. وبعض هؤلاء أشد صحبة له من بعض، وذكر الإمام في كتاب الخلع أن "الأم" من الكتب القديمة. قال ابن الرفعة: ولم أظفر بذلك في غيره. قلت: وقد ظفرت بما قاله الإمام للخوارزمي في مقدمة كتابه "الكافي"

فإنه قال: وأما "الأم" و"الإملاء" فصنفهما الشافعي بمكة بعد أن فارق بغداد في المرة الأولى وقبل رجوعه إليها في المرة الثانية، ثم رجع بعد تصنيفهما إلى بغداد فأقام شهرًا ثم خرج إلى مصر فصنف بها كتبه الجديدة. هذا لفظه وهو صريح في ما قلناه إلا أن المعروف خلافه، قال في "الاستقصاء": روى المزني أنها بمصر. ومنها: "الأمالي"، صنفها -رحمه الله- بمصر، كذا رأيته في أول تعليق الشيخ أبي حامد. ومنها: "الإملاء" صرح جماعات منهم الرافعي في مواضع كثيرة من شرحه بأنه من الجديد وفيه ما قدمناه من كلام الخوارزمي، وهو غير "الأمالي" كما قاله في "تهذيب الأسماء واللغات"، وقد ذكرت في مقدمة الكتاب بقية كتبه وأمعنت الكلام عليها فراجعه. ومما ذكرته هناك أن "الأم" رواية "البويطي" وترتيب الربيع المرادي إلا أنه زاد فيها أشياء مميزة فتفطن له. إذا تقرر هذا فما قاله في كتابه القديم أو أفتى به هناك ونحوه تارة ينص في الجديد على خلافه، وتارة لا يتعرض له. فإن لم يتعرض له في الجديد بنفي ولا إثبات بل ذكر المسألة في القديم ونص على حكمها وسكت عنها في الجديد كما نقل في مسائل: منها: استحباب الغسل للحجامة، وللخروج من الحمام فإن الفتوى تكون عليه ويكون مذهب الشافعي، كذا ذكره في أول "شرح المهذب"، وفيه نظر: فإن ظاهر كلام الشافعي الرجوع عن كل ما قاله في القديم إلا أن ينص على وفقه في "الجديد"، فإنه غسل تلك الكتب ثم قال: ليس في حِلٍ من روى عني القديم، كذا ذكره الشيخ تاج الدين الكندي المعروف

بالفركاح في كراسة صنفها في الرد على من زعم أنه يفتي على القديم في مسائل. وإن تعرض له في الجديد فإما أن يكون على وفق القديم أو على خلافه. فإن كان على وفقه فالحكم المعمول به لا يختلف، لكنه منسوب إلى الجديد فقط أم إليهما؟ ظاهر كلام الأصحاب قاطبة أن ذلك منسوب إليهما حتى يقال: لم يزل رأي الشافعي على ذلك قديمًا وجديدًا، وفيه بحث مستنده ما تقدم. وإن نص على خلافه فتارة يشير إلى الرجوع عن السابق وتارة لا يشير. فإن أشار للرجوع عنه فلا يعمل بالقديم، وليس من مذهب الشافعي في شيء بل نسبته له كنسبة أقوال الغير، كما قال في مسألة صوم المتمتع أيام التشريق. وقد قال قوم: بصوم المتمتع أيام التشريق، وقد كنت أراه، وكذا ما ذكره في القديم من أن مسح الخف لا يتأقت، فإن الشيخ أبا حامد حكى في "التعليق" عن الزعفراني: أن الشافعي رجع عنه قبل خروجه إلى مصر فلم تصر المسألة على قولين. وإن نص على خلافه في الجديد ولم يصرح بالرجوع عن القديم ففيه خلاف للأصحاب حكاه الإمام في باب العاقلة، والفوراني في كتابه المسمى "بالعمد" في باب اختلاف نية الإمام والمأموم، وكذا الرافعي في "الشرح الكبير"، والراجح عند الإمام: أنه رجوع. قال في باب العاقلة: وقد ذكرت مرارًا أنه لا يحل عد القول القديم من مذهب الشافعي مع رجوعه عنه، وقد حكى القاضي والصيدلاني في ذلك

خلافًا للأصحاب. وبالجملة فمن قال شيئًا ثم قال بخلافه فلا وجه لمقلده إلا [العمل] (¬1) بالمتأخر. انتهى. وذكر أيضًا عند الكلام على سبق الحدث: أن الشافعي إذا نص في القديم على شيء وجزم بخلافه في الجديد فمذهبه الجديد وليس القديم معدودًا من المذهب. لكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة، واختار النووي في "شرح المهذب" ما رآه الإمام ونسب خلافه إلى الغلط، والذي اختاره هو الظاهر، وإن كان الأول ظاهر كلام الشيخ أبي حامد والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم حيث ذكروا القول المتقدم قريبًا من عدم تأقيت المسح، وادعوا أن المسألة ليست على قولين لأن الشافعي رجع عنه قبل خروجه إلى مصر فدل على أن القولين إذا لم يصرح بالرجوع عنه يكون له الآن في تلك المسألة قولان. وإنما رجحنا الأول لأمور: منها: أن المقلد مع المجتهد كالمجتهد مع الرسول، فكما أن الحادث من أدلة الشرع ناسخ للمتقدم منها إجماعًا يجب على المجتهد أن يأخذ به كذلك المقلد مع المجتهد. فإن المجتهد مأمور في حق نفسه بما أدى إليه اجتهاده آخرًا وهو المنسوب إليه، فمن قلده كذلك، وأيضًا فإن نصه في الجديد على خلاف نصه في القديم لا جائز أن يكون إلا كدليل، وذلك الدليل لا جائز أن يكون مساويًا لدليل القديم وإلا لم يثبت القول، بل كان يتوقف كما توقف في كثير من المسائل فقال: ولا يتبين إلى أن أوجب كذا أو أقول كذا، ولا مرجوحًا أيضًا فتعين رجحانه في نظيره على دليل القديم. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

ومذهب المجتهد إنما هو الراجح في نظره دون المرجوح. وأما المسائل التي عدوها وجعلوها مما يفتى فيه على القديم سببه أن جماعة من المنتسبين لمذهب الشافعي بلغوا رتبة الاجتهاد في مذهبه وربما جاوزها بعضهم إلى التحري في أقوال العلماء فلاح لهم في بعض المسائل أن القديم أظهر دليلًا من الجديد فأفتوا به بناء على ظهور الدليل غير ناسبين ذلك إلى الشافعي. وكذلك القول المُخَرّج حكمه حكم القول القديم، فمن بلغ رتبة التخريج ولاح له الدليل أفتى بالقديم والمخرج، ومن لم يبلغ هذه الأهلية فلا وجه لعمله ولا لفتواه بشيء منهما، كذا ذكره جماعة منهم النووي في أوائل "شرح المهذب" على أن المسائل التي عددها لا يسلم أن الإفتاء فيها على القديم لأمرين: أحدهما: أن الأكثرين خالفوا في معظمها فأفتوا فيها بالقول المشهور بالجديد. والثاني: أن أكثرها فيها قول جديد موافق للقديم فتكون الفتوى على الجديد لا على القديم. إذا علمت ذلك فقد آن لنا أن نسرد تلك المسائل التي أشار إليها وذكرنا هذا الفصل بسببها. فنقول: الذي ذكره -رحمه الله- في "شرح المهذب" ثمانيه عشرة مسألة أخذها من ابن الصلاح إلا مسألة واحدة، منها ثلاثة اقتصر عليها الإمام. إحداها: عدم [وجوب] (¬1) التباعد في الماء الكثير بقدر قلتين. الثانية: استحباب التثويب في الأذان للصبح. ¬

_ (¬1) في ب: وجود.

الثالثة: لم يصرح بها الإمام في "النهاية" لكن لما وصل إلى قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين ذكر أن العمل فيها على القديم وهو عدم القراءة، وقال الإمام في مختصره لكتاب "النهاية": إن الثالثة تأتي في باب زكاة التجارة، وقال بعضهم: هي أربع عشرة مسألة، هذه الثلاثة. والرابعة: عدم تنجس الماء الجاري إذا لم يتغير. الخامسة: عدم النقض بلمس المحارم. السادسة: استحباب تعجيل العشاء، فإنه القديم. والسابعة: امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق. الثامنة: جواز اقتداء المنفرد في أثناء الصلاة. التاسعة: كراهة تقليم أظفار الميت. العاشرة: عدم اعتبار النصاب في الركاز. الحادية عشرة: جواز اشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض. الثانية عشرة: تحريم أكل جلد المدبوغ. الثالثة عشرة: وجوب الحد بوطء المحرم بملك اليمين. وقال بعضهم: إنها ثماني عشرة منها الثلاث عشرة السابقة. والرابعة عشرة: الجهر بالتأمين للمأموم في الصلاة الجهرية. الخامسة عشرة: استحباب الخط بين يدي المصلي عند عدم الشاخص. السادسة عشرة: صيام الولي عن الميت الذي عليه صوم. والسابعة عشرة: إجبار الشريك على العمارة. الثامنة عشرة: جعل الصداق في يد الزوج مضمونًا، ضمان يد، انتهى ما قاله في "شرح المهذب".

وكان قد ادعى قبل ذلك أن بعضهم عدها أربع عشرة من غير ذكر هذه الخمس التي عدها، فلما شرع في العد لم يذكر إلا ثلاث عشرة وأهمل الرابعة عشرة وهي: جواز الاستنجاء بالحجر في ما جاوز المخرج، ولم يبلغ ظاهر الإلية، نبّه عليها ابن الصلاح في "أدب المفتي" له. والصورة التي ذكرنا أولًا أن النووي زادها هي: الجهر بالتأمين للمأموم في الصلاة الجهرية، وقد نجز ما أردناه من الكلام على هذه المسألة ملخصًا مختصرًا، فإن كان فيه طول بالنسبة إلى قاعدتنا في هذا الكتاب فهو قليل بالنسبة إلى ما تحمله المسألة، غير أنه مشتمل على فوائد لا توجد في غيره صالحة لأن تكون تصنيفًا مستقلًا. قوله: ويستحب أن يكتب في أول فتواه: "الحمد لله" أو "الله الموفق" أو "حسبنا الله" أو "حسبي الله" ونحو ذلك. انتهى. قال النحاس كما نقله عنه في أوائل "شرح المهذب": حسبي الله أولى من حسبنا الله لما في الثانية من التعظيم. قال: ويؤيد ما قاله أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه بالتفويض وعلمه ما يقول أمره بها فقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} (¬1). وإن كان قد ورد المدح أيضًا على قول الثانية حيث قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} إلى أن قال: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} (¬2) لكن الأولى أولى لأنها شرعت لتعليم ما يقال والثانية وردت على حسب ما وقع، وأيضًا ففي "البخاري" (¬3) عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) سورة التوبة (129). (¬2) سورة آل عمران (173). (¬3) حديث (4288).

لكن ورد عن ابن عباس أيضًا بالنون فروى عنه "البخاري" (¬1) أيضًا أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قيل له: إن الناس قد جمعوا لكم. وهذه المسألة أحد المسائل السبع التي هي من "زوائد النووي" كما ذكرنا في المسألة الأولى فتفطن لذلك. قوله: الثانية: إذا نهاه عن الاستخلاف لم يجز الاستخلاف فإن كان ما فوضه إليه لا يمكنه القيام به، فقال القاضي أبو الطيب: هذا النهي كالعدم والأقرب أحد أمرين، إما بطلان التولية، وبه قال ابن القطان، وإما اقتصاره على الممكن وترك الاستخلاف. انتهى. والثاني: هو الصحيح، فقد جزم به الماوردي وغيره، وقال ابن الرفعة في "الكفاية": إنه المشهور، وقال في "الروضة" من "زوائده": إنه الأرجح. وإطلاقهم يقتضي أنه لا فرق في تعاطي الممكن بين أن يكون إمكانه مقارنًا للتولية أو طارئًا عليها. قوله: وجميع ما ذكرناه في الاستخلاف العام، أما الخاص كتحليف وسماع بينة فقضية إطلاق الأكثرين جعله على الخلاف، وعن القفال: القطع بجوازه، لأن القاضي لا يستغني عنه فيجري مجرى التوكيل. انتهى. وما ذكره هنا من إلحاق التفويض الخاص بالعام قد ذكر ما يخالفه في الكلام على العزل، لأنه حكى الخلاف في انعزال الخلفاء بموت القاضي وانعزاله، وجزم بانعزال الخليفة في شيء خاص، ولو ولاه شيئًا خاصًا كتزويج اليتامى والنظر في أمرهم فليس له أن يستنيب، ذكره شريح الروياني في "أدب القضاء" له. ¬

_ (¬1) حديث (4287).

قوله: فإن اتفق نصب قاضيين ولم يشترط اجتماعهما ولا استقلالهما فقال صاحب "التقريب": يحمل على إثبات الاستقلال تنزيلًا للمطلق على ما يجوز، وقال غيره: التولية باطلة حتى يصرح بالاستقلال. انتهى. قال في "الروضة": قول صاحب "التقريب" [أصح] (¬1) وبه قطع الرافعي في "المحرر" والله أعلم. وما ذكره من قطع "المحرر" غلط، بل حكى وجهين وعبر بقوله: أصح الوجهين، ويحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة في الوصية يأتي الكلام عليها في أول الفصل المعقود للعزل. قوله: وإذا تنازع الخصمان في اختيار القاضيين، فقد أطلق الغزالي أنه يقرع، وقال الماوردي: يجاب الطالب دون المطلوب. انتهى. جزم الروياني في "البحر" بما قاله الماوردي. قوله: وبم يلزم حكم المحكم؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: بتراضيهما بعد الحكم، لأن رضاهما معتبر في الحكم فكذلك في لزومه، وهذا أشبه بما قيل في قسمة من تراضى الشريكان بقسمته على ما سيأتي. وأصحهما: على ما ذكر القاضي الروياني: أنه يلزم بنفسه. انتهى. والصحيح ما قاله الروياني، فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه الأظهر، وكذلك النووي في أصل "الروضة". قوله: وإذا ولى من لم يعرف حاله لم تنعقد التولية وإن عرف من بعد أنه بصفات القضاء. انتهى. وما ذكره من عدم الصحة قد اشتهر على الألسنة قديمًا إشكاله، وذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لأنه قد تبين اجتماع الشروط حالة الولاية وليس هو مما تعتبر فيه النية حتى يقال: إنه أقدم عليه مترددًا، فلا يصح كما لو اقتدى بخنثى ثم تبين أنه رجل، بل هذا نظير البيع والإجارة والنكاح وغيرها من العقود المستجمعة للشروط في نفس الأمر لا في ظن العاقد، وقد أجابوا في جميعها بالصحة كما صرحوا به في الكلام على ما إذا باع مال أبيه على ظن حياته فبان ميتًا، بل مسألتنا أولى بالصحة لظنه هناك عدم وجود الشروط، لأن الغرض أنه ظنه لغيره، وفي مسألتنا لم يظن شيئًا وقد صحح النووي في "الروضة": أنه إذا عقد بشهادة خنثيين ثم بان أنهما رجلان أن العقد يصح. قال: وليس كالاقتداء بخنثى وتبين أنه رجل لتردده في النية، ولم يصحح الرافعي في تلك شيئًا. فأقل مراتب هذه المسألة أن تكون على ذلك الخلاف، والصحيح فيه الصحة. والجواب: أن تولية الحاكم حكم بأهلية المولى، وليس للحاكم أن يحكم إلا بعد قيام المستند حتى لو حكم ثم قامت بينة بعد ذلك على وفق الحكم لم يكن ذلك الحكم نافذًا، وما ذكرناه من كون تصرف الحاكم حكمًا فيه نزاع قدمناه مبسوطًا في أوائل النكاح في الكلام على الموانع فراجعه. قوله: وفيه -أي: في "الأحكام السلطانية"- أن صريح التولية: وليتك، واستخلفتك، وأَن: فوضت إليك؛ كناية، ولا يكاد يتضح فرق بين وليتك وفوضت إليك. انتهى ملخصًا. وبينهما فرق ظاهر تعرض له أيضًا في "الروضة"، وهو: أن "وليتك" متعين لجعله قاضيًا، وأما فوضت: فيحتمل ذلك، وتوكيله في نصب قاض.

الفصل الثاني: في العزل والانعزال

الفصل الثاني: في العزل والانعزال قوله: وإن كتب: إذا قرأت كتابي هذا فأنت معزول، لم ينعزل قبل القراءة، ثم إن قرأه بنفسه انعزل، وكذا إن قرئ عليه في أصح الوجهين، لأن الغرض إعلامه بصورة الحال، ولو كان القاضي أميًا وجوزناه فقريء عليه فالانعزال أولى. انتهى. وما ذكره من تصحيح العزل عند القراءة عليه قد سبق في نظيره من الطلاق [ما يخالفه، وسبق ذكر لفظه هناك، ذكر ذلك في الباب الثاني في أركان الطلاق] (¬1) في الكلام على كتب الطلاق، وفيه أمور أخرى فراجعها، والصواب: التسوية بين البابين وعدم الاكتفاء بها. قوله: وفي انعزال المستخلف في القضاء بانعزال الأصل ثلاثة أوجه: ثالثها وهو الأظهر: أنه ينعزل إن لم يكن القاضي مأذونًا له في الاستخلاف، فإن كان فينظر. إن قال: استخلف عني فاستخلف عنه لم ينعزل خليفته، لأنه من جهة الإمام وكان الأول سفيرًا في التولية. وإن قال: استخلف عن نفسك، أو أطلق، فينعزل لظهور غرض المعاونة، وبطلان المعاونة ببطلان ولايته. انتهى. وهذا الذي ذكره في ما إذا أطلق من كونه نائبًا عن الثاني حتى ينعزل بعزله قد خالفه في نظيره من الوكالة، فإنه ذكر القسمين الأولين ثم ذكر الإطلاق، وقال فيه: الصحيح أنه يكون نائبًا عن الأول حتى لا ينعزل بعزل الثاني، ووافقه في "الروضة" على الموضعين، ولعل العكس أقرب. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

نعم قد يتقوى ما قاله هنا بما ذكره في الإيصاء وفي سؤال العتق. فأما الإيصاء فقال فيه: ولو أطلق وقال: أوص إلى من شئت، أو إلى فلان، ولم يقل: أوص عني، فهل يحمل على ذلك حتى يصح على الصحيح؟ ، أو يحمل على الوصي حتى لا يصح قطعًا؟ فيه وجهان حكاهما البغوي وقال: أصحهما الثاني، وما صححه البغوي من حمله على الإبطال، ولم ينزل المطلق على ما يجوز يشكل على ما إذا نصب قاضيين وأطلق، وقد تقدم الوعد به فراجعه. وأما العتق فإذا قال: اعتق عبدك على ألف، فإن قال: اعتقه عني، صح قطعًا، وإن قال: عن نفسك، صح على الصحيح قياسًا على الخلع، وإن أطلق فهل هو كقوله: عن نفسي، لقرينة العوض أم كقوله: عنك؟ فيه وجهان: أشبههما في الرافعي: الثاني، كذا ذكره في الكلام على كفارة الظهار، وعَبَّر في "الروضة": بالأصح، وفيه الإشكال السابق أيضًا. واعلم أن الغزالي وغيره حكوا الوجه الثالث في أصل المسألة على غير ما حكاه الرافعي، فقالوا: إن استخلف بالإذن لم ينعزل وإلا انعزل. وحكى الماوردي وتبعه عليه في "الكفاية" وجهًا آخرًا: أنه إن كان الميت قاضي القضاة لم ينعزل نوابه بموته ولا بانعزاله، وإن كان قاضي ناحية انعزلوا لقلة الضرر. قوله: ولو كان الإمام قد نصب بنفسه نائبًا عن القاضي في الحكم، فعن أبي الفرج السرخسي: أنه لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله؛ لأنه مأذون من جهة الإمام، ويجوز أن يقال: إذا كان الإذن مقيدًا بالنيابة ولم يبق الأصل لم يبق النائب. انتهى. وما ذكره الرافعي بحثًا، واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا، قد حكاه الماوردي فإنه قد حكى وجهين في أنه هل

للقاضي عزل هذا الشخص الذي استنابه الإمام؟ وصرح في استنابته بأنه نائب عن القاضي في تلك الجهة، وإذا كان له عزله فينعزل بموته بلا شك. قوله: ولا تقبل شهادة الحاكم بعد العزل على حكمه، فلو شهد مع غيره أن حاكمًا جائر الحكم حكم بكذا، ولم يضفه إلى نفسه فوجهان: أقربهما: القبول، ووجه المنع: أنه قد يريد نفسه، ثم يجوز أن يقال: الوجهان في ما إذا لم يعلم القاضي أنه يشهد على فعل نفسه، فإن علم فهو كما لو أضاف، ويجوز أن يقال: هما إذا علم، فإن لم يعلم قبل قطعًا لجواز إرادة غيره. وعلى هذا الاحتمال لو شهد المعزول أن حاكمًا حكم بكذا وشهد معه آخر أن المعزول حكم به وجب أن لا يقبل، لأنه على هذا التقدير لا يعني إلا بتصحيح الصيغة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الاحتمال الثاني لا يتصور [هنا] (¬1)، لأنه علل وجه المنع بأنه قد يريد نفسه، ولو كان محلهما ما إذا علم لم يصح هذا التعليل، لأنه تعليل [محل] (¬2) النزاع. الأمر الثاني: أن كلام الأصحاب يدل على الاحتمال الثاني فإن الإمام علل وجه المنع بقوله: فإن الظاهر أنه يعني نفسه، وذكر الماوردي نحوه فقال: ففي قبول شهادته وجهان: أحدهما: لا تقبل حتى يعزيه إلى غيره لجواز أن يكون هو الحاكم به. وكذلك البغوي فإنه علل القبول بأن الظاهر أنه يريد حكم غيره. وقد وافقه النووي على نقل الاحتمالين فقط، ولم ينقل عن الأصحاب ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

في ذلك شيئًا لكنه صحح الأول. واعلم أن البغوي قد ذكر في "فتاويه" ما يوافق الاحتمال الثاني وهو أن المرعي في شهادة المعزول صحة الصيغة لا غير، فإنه يحكم في ما إذا باع رجل دارًا وغصبها غاصب من المشتري فادعى هذا المشتري على الغاصب وقال: إن البائع إذا شهد مطلقًا أنها ملك هذا المشتري يقبل، وإن علم القاضي أنه باعها لا يرد شهادته، كمن رأى شيئًا في يد إنسان مدة يتصرف فيه تصرف الملاك له أن يشهد له بالملك مطلقًا، ولو علم القاضي أنه شهد بظاهر اليد لا ترد شهادته، وإن كان لو صرح لا تقبل. قوله: ليس على القاضي تتبع أحكام من قبله من القضاة اكتفاء بأن الظاهر فيها السداد، وفي جواز تتبعها وجهان في "المهذب"، اختيار الشيخ أبي حامد فيهما الجواز. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وقد أعاد المسألة في الباب الذي بعد هذا في أثناء الأدب العاشر، فذكر ما حاصله: الجزم بأنه ليس له ذلك فإنه قال: إلا أنه لا يتبع قضاء غيره، وإنما ينقضه إذا رفع إليه، وله أن يتبع قضاء نفسه لينقضه. فتعبيره بقوله: لا يتتبع ظاهره: أنه نفى الجواز ولهذا لما أخرج منه حكم نفسه عبر بالجواز فقط، فقال: وله كذا وكذا، وكلام الماوردي في "الحاوي" [يقتضي أن المعروف هو المنع، فإنه حكى الجواز عن الشيخ أبي حامد فقط، ثم قال: ] (¬1) وجمهور البصريين على المنع. قوله: ولو ادعى أن المعزول حكم عليه بشهادة عبدين ومن في معناهما، فإن قال: أخذ مني المال احضره لأنه غاصب، وإن لم يدع الأخذ فالأصحاب متفقون على أن الدعوى مسموعة في الجملة، وعلى أن بينة ¬

_ (¬1) سقط من أ.

المدعي محكوم بها، وأما صاحب "الكتاب" فإنه نصب الخلاف في سماع أصل الدعوى، وقال: إنه مبني على الخلاف في أن الحكم بشهادة العبدين ومن في معناهما هل تقتضي غرمًا؟ وهذا الخلاف غير معروف. انتهى كلامه. وهذا الذى قاله الرافعي هنا من إنكار الخلاف ذكره أيضًا في "الشرح الصغير"، وتبعه النووي في "الروضة"، وإنكاره غريب، فقد صرح به القاضي والإمام في "النهاية" نقلًا عن العراقيين فقال: إذا ادعى على الأول أنه ترك الصواب في حكمه وقضى بشهادة عبدين أو معلنين بالفسق فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون فيه وجهين: أحدهما: لا يقبلها ولا يستحضر المعزول لذلك، وهذا ليس بشيء. والوجه: القطع باستحضاره، هذه عبارته. وحكى الخلاف أيضًا الهروي في "الإشراف"، وحكاه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية" و"المطلب". وأما الخلاف الذي ذكره الغزالي في الغُرم فأشار به إلى أن الذي يجب بخطأ الإمام هل يجب في بيت المال أم عليه ثم تحمله العاقلة؟ قوله في المسألة: فإذا حضر وأنكر صدق، وكيف يصدق؟ فيه وجهان: أحدهما: بيمين، وهو اختيار العراقيين والروياني كسائر الأمناء. والثاني: بغير يمين، وبه قال الإصطخري وصاحب "التلخيص"، لأنه كان أمين الشرع فيصان منصبه عن الحلف، وهذا أحسن وأصح عند الشيخ أبي عاصم وصاحب "التهذيب"، وبه قال صاحب "التقريب" والماوردي. انتهى. وتعبيره بقوله: أحسن، يقتضي رجحان الثاني، ولهذا اقتصر على نقل رجحانه في "الشرح الصغير" و"المحرر" فقال: فيه وجهان:

أحسنهما: بلا يمين [هذا] لفظه. ولم يذكر فيها ترجيح غيره عن أحد وقد حذف النووي من "الروضة" اللفظ الدال على الترجيح وهو لفظ: الأحسن. إذا علمت ذلك كله فقد اختلف فيه تصحيح النووي فصحح في "المنهاج" من "زوائده": أنه لابد من اليمين، وخالف في "الروضة" في كتاب الدعوى والبينات، فقال في الباب الثالث المعقود لليمين في المسألة الثانية من الطرف الثالث ما نصه: ولو ادعى على المعزول أنه حكم عليه أيام قضائه ظلمًا وأنكر، فقد سبق وجهان في أنه يحلف أم يصدق بلا يمين وهو الأصح. انتهى. ولم يصرح الرافعي هناك بتصحيح.

الباب الثاني في جامع آداب القضاء

الباب الثاني: في جامع آداب القضاء وفيه فصول: الفصل الأول: في آداب متفرقة وهي عشرة قوله: ويستحب أن يدخل يوم الإثنين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه إذا فاته الإثنين دخل الخميس وإلا فالسبت، وقد ذكر صاحب "التتمة" ما ذكرناه، ونبه عليه في "الروضة" من "زوائده". نعم لم يرتب في "التنبيه" بين الخميس والسبت، فإنه عبر بقوله: فإن فاته دخل السبت أو الخميس. الأمر الثاني: وقد ذكره أيضًا في "التنبيه" أنه يستحب أن يكون دخوله صبيحة النهار، ولم يذكره في "الروضة". نعم ذكره في تعليق له مع نظائر المسألة وبسط القول فيها فقال: يستحب لمن كان له وظيفة من قراءة قرآن أو حديث أو تسبيح أو اعتكاف أو نحوها من العبادات أو صنعة من الصنائع أو عمل من الأعمال مطلقًا يتمكن من فعله في أول النهار أن يفعله في أوله، وكذلك من أراد سفرًا أو أنشأ أمرًا كعقد النكاح وغيره أو غير ذلك من الأمور، ودليل هذه القاعدة ما ثبت في الحديث الصحيح عن صخر بن وداعة -بفتح الواو- الغامدي -بالغين المعجمة. وبالدال- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها". قال: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار

[وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان إذا بعث تجارته بعثها أول النهار] (¬1) فأثرى وكثر ماله (¬2)، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد مختلفة. وقال الترمذي فيه: إنه حديث حسن. قوله: ومنها: أن يقول: حبست ظلمًا: فإن كان الخصم معه فعلى الخصم الحجة والقول قول المحبوس مع يمينه، وإن ذكر خصمًا غائبًا فطريقان: أحدهما: القطع بأنه يطلق لأن الحبس عذاب، وانتظار الغائب يطول. وأظهرهما: أنه على الوجهين. انتهى. واعلم أن الرافعي لم يتقدم له في هذا الكلام ذكر وجهين حتى يحكي في هذه المسألة طريقتين الثانية منها إجراء الوجهين، ولما أشكل ذلك على الناظرين في هذه المسألة، ولم يجدوا ما يعود عليه الوجهان حذف بعضهم أداة التعريف من الوجهين، والموجود في "الروضة" إثباتها كما في البعض الآخر، وقد انكشف الغطاء عن هذا بحمد الله تعالى، وظهر أنه قد سقط من هذا الكلام مسألة علمت من "الشرح الصغير" فإنه قال فيه -أعني: في "الشرح الصغير": وإن قال: حبست ظلمًا، فعلى الخصم الحجة والمحبوس مصدق بيمينه، وإن لم يكن الخصم هناك وذكر خصمًا آخرًا ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) أخرجه أبو داود (2606) والترمذي (1212) وابن ماجه (2236) وأحمد (15481) والدارمي (2435) وابن حبان (4754) والطيالسي (1246) والطبراني في "الكبير" (7275) وفي "الأوسط" (6883) وسعيد بن منصور (2382) وابن أبي شيبه (6/ 534) والبيهقي في "الكبرى" (18237) وابن الجعد (1696) والقضاعي في "مسند الشهاب" (1493) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2402) من حديث صخر - رضي الله عنه -.

حاضرًا في البلد فأحد الوجهين: أنه يطلق، لأن الأصل أن لا شيء عليه. وأظهرهما: أنه يحضر أولًا، فإن الظاهر أنه حبس بالحق، فإن ذكر خصمًا غائبًا، ففي طريق يطلق لأن الحبس عذاب وانتظار الغائب يطول وأظهرهما: أن فيه وجهين. هذا لفظه بحروفه. فأسقط الناقلون من مسودة "الكبير" من لفظ الغائب إلى الغائب، ولم يتفطن في "الروضة" لذلك فتابعه عليه كما ذكرناه، وهذا الساقط ذكره أيضًا في "الوجيز"، وقد وقع للرافعي أمثال ذلك في ما سبق. قوله: وقول "الوجيز" فيطلق كل من حبس بظلم. كان المراد منه إذا اعترف الخصم بأنه ظلمه أو كان القاضي عالمًا، وقلنا: إنه يقضي بعلمه، فأما إذا قال المحبوس: أنا مظلوم، فهو مذكور من بعد. انتهى كلامه. وتخريجه الإطلاق من الحبس عند علم القاضي بالظلم على القضاء بالعلم باطل، فإنه قد ذكر بعد هذا أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، فلو رده إلى الحبس حتى يؤدي الحق المدعى به لكان قاضيًا بخلاف ما يعلمه، وسيأتي في الكلام على القضاء بالعلم أمثلة كثيرة مما نحن فيه نفى عنها الخلاف، ولم يتعرض في "الروضة" لهذا الكلام الذي ذكره الرافعي وكأنه اعتقد صحته فتركه لاندراجه في الخلاف الآتي في القضاء بالعلم. قوله: وذكر فيه وفي "الوسيط" أيضًا إطلاق من حبس في تعزير وسكتت معظم الكتب عنه، ولعل وجه ما ذكره أن التعزير يتعلق بنظر الحاكم الذي بانت عنده الجناية، ولا يدري أن الحاكم المصروف هل كان يديم حبسه لو لم يصرف؟ ، لكن لو ثبتت جنايته عند الثاني ورأى إدامة حبسه فالقياس: الجواز. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وذكر نحوه في "الشرح الصغير"

وهو يقتضي عدم وقوفه على نقل في المسألة، وأن الغزالى منفرد بالتصريح بها وليس كذلك، فقد صرح بها الماوردي في "الحاوي" وكذلك الروياني في "البحر" وجزما بعكس البحث الذي ذكره الرافعي فقال بإطلاقه، وعللاه بأن التعزير قد استوفى بعزل الأول وإن لم يستكمل مدة حبسه مع بقاء نظر الأول، لأن القاضي الثاني لا يعزر لذنب كان مع غيره، ورأيته أيضًا مجزومًا به في "المحيط شرح الوسيط" للإمام محمد بن يحيى، ثم نص الماوردي والروياني على أن القاضي لا يطلقه بل يوكل به حتى يتأدى عليه ثلاثًا ويحلفه أيضًا أنه ما حبس بحق خصم، كما قاله ابن أبي الدم، وقال ابن عصرون: عندي أنه لا يحتاج إلى النداء الثاني. قوله: وإذا أطلق من ادعى الظلم لغيبة خصمه فحضر فعليه إثبات الحق الذي يدعيه ببينة تقوم على نفس الحق، أو على أن القاضي المصروفي حكم عليه بذلك. وفي "أمالي أبي الفرج": أنه يكفي لاستدامة الحبس قيام البينة على أن القاضي المصروف حبسه بحق هذا المدعي وإن لم يبين جنس الدَّين وقَدْرِه. انتهى كلامه. وهذه المسألة بما فيها من الخلاف قد أسقطها النووي من "الروضة"، وسبب إسقاطه لها وقوعها في الكلام على ألفاظ "الوجيز". قوله: حتى لا يخدع من غرة أو بمال. الغرة: بكسر الغين وتشديد الراء تطلق على الغفلة، والغار: الغافل ويطلق أيضًا على عدم تجريب الأمور، تقول: رجل غرة غرير وجارية غرة وغريرة وغر أيضًا. قوله في "الروضة": لا يجوز عقد الإجارة على القضاء، وفي "فتاوى" القاضي الحسين وجه: أنه يجوز. انتهى.

هذا الكلام مقتضاه أن القاضي نقل في "فتاويه" عن غيره وجهًا أنه يجوز وليس كذلك، فقد قال الرافعي: وفي "فتاوى" القاضي الحسين إلحاقه بالأذان حتى تجوز الإجارة عليه على رأي. هذا لفظه، وهو كذلك في "الفتاوي" المذكورة. قوله: ولو رَزَقَ الإمامُ القاضي من مال نفسه أو رَزَقهُ أهل ولايته أو واحد منهم، فالذي خرجه صاحب "التلخيص": أنه لا يجوز له قبوله، لكن ذكرنا في باب الأذان: أنه كما يجوز أن يكون رزق المؤذن من بيت المال يجوز أن يكون من مال الإمام أو واحد من الرعية، وذكر الصيمري في المفتى: أنه يجوز أن يرزقه أهل البلد، ويمكن أن يفرق بأن ذلك مما لا يورث تهمة وميلًا في حق المؤذن لأن عمله لا يختلف، فالقاضي أجدر بالاحتياط من المفتي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن مقتضى هذا الكلام إقرار صاحب "التلخيص" على ما قاله من المنع، لأنه شرع يقيسه على ما يقتضي الجواز، ثم إنه فرق بينهما فبطل القياس بالتفرقة وبقي النقل سالمًا عن المعارض، ولكن قد أعاد الرافعي المسألة في الكلام على الرشوة وهو بعد هذا بقليل، ورجح الجواز، فإنه ذكر: أنه يجوز للقاضي إذا لم يكن له رزق من بيت المال أن يقول للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقًا. ثم ذكر مسألتنا هذه، وهي ما إذا رزقه أهل ولايته ونحوهم، وقال فيها ما نصه: ويشبه أن يجوز ذلك إذا جاز الأخذ من الخصمين. هذا لفظه. وأسقطه من "الروضة" هناك، وأبقى الكلام المذكور هنا على حاله. الأمر الثاني: أن ما قاله الصيمري قد تقدم الكلام عليه في أثناء "الزيادات"

التي ذكرها النووي. قوله: ويرزق المترجم من بيت المال في أقرب الوجهين، فإن قلنا: لا، فمؤنة من يترجم للمدعي عليه على المدعي عليه، والمسمع كالمترجم ففي مؤنته هذان الوجهان، وهذه هي مسألة "الكتاب". انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ولنقدم على الكلام في هذه المسألة ما هو مذكور في أصول كلام الرافعي ممن تعرض للمسألة، فنقول: قال الإمام: فرع: حق على القاضي أن يرتب المزكي والمترجم والمسمع إن كان بأذنه وقر، وفي مؤنة هؤلاء وجهان: أحدهما: أنها على طالب الحق، فإن قيامهم يتعلق بحقه، فعلى هذا يجب على كل واحد مقدار أجرة المثل في ما يتعلق بحقه وخصومته، هذا كلامه. وذكر الغزالي في "البسيط" مثله أيضًا [وكذا في "الوسيط"] (¬1)، إلا أنه مَثّل بالمسمع خاصة فقال: إذا طلب المسمع أجرة هل هي على صاحب الحق أو بيت المال؟ على وجهين. انتهى. قال الإمام: ويجب اعتقاد التسوية بين المترجم والمسمع، فإن المسمع ينقل اللفظ، والمترجم ينقل معناه، وقال في "الوجيز": فإن طلب المسمع أجرة فهل تجب في مال صاحب الحق؟ فيه وجهان. إذا علمت ذلك ففي كلام الرافعي أمور: أحدها: أن هذا التعبير الذي نقلناه عنه في من تجب عليه الأجرة إذا لم نوجبها في بيت المال، وفي معناه إذا تعذر الأخذ منه -أعني بزيادة الجار والمجرور مع لفظ المدعي المذكور أولًا- هو الموجود في الأصول المعتمدة من ¬

_ (¬1) سقط من أ.

نسخ الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة" أيضًا فاعلمه فإنه كثيرًا ما يتحرف، ومدلوله أن الذي يشرح كلام المدعي للمدعى عليه تكون مؤنته على المدعى عليه، وقد تقرر مما قدمناه من النقول أن الحكم في المسألة ليس كذلك. الأمر الثاني: أن هذا الذي يحاوله مع كونه مخالفًا للمنقول ناقص، فإنه ليس فيه استيفاء للمسألة، فإنه لم يتعرض للعكس وهو الذي يشرح كلام المدعي عليه للمدعي، وبسبب ذلك حصل في نسخ الرافعي اضطراب وقد اتضح الحال [وظهر أنه حصل فيها سقط علم من "الشرح الصغير" فإنه عبر بقوله: ] (¬1) وعلى هذا الرأي -أي عدم الوجوب على بيت المال- فمؤنة ما يترجم للمدعي على المدعى ومؤنة ما يترجم للمدعى عليه على المدعى عليه. هذه عبارته. والحاصل منها إيجابها على المنقول له الكلام لا على المنقول عنه، ولهذا عبر بعلى ولم يعبر بعن. الأمر الثالث: أنه قد ظهر لك بما قلناه عن كتب الغزالي أن المسمع والمترجم [ونحوهما] (¬2) تجب أجرتهم على طالب الحق في وجه، وفي بيت المال على وجه آخر، والوجه الأول لم يذكره الرافعي بل ذكر عوضه ما وقع فيه التحريف والتصحيف كما سبق إيضاحه. وحينئذ فيكون هذا الوجه قد أسقطه الرافعي مع كونه هو الصحيح في الحقيقة ومع ثبوته أيضًا في الكتاب الذي هو يشرح فيه وهو "الوجيز"، فلله الحمد على تيسير أمثال هذه الأمور وإلهام الصواب إليها. وقد وقع [أيضًا هنا] (¬3) في "كفاية" ابن الرفعة، من الغلط ما وقع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) زيادة من ب.

في "الرافعي" و"الروضة"، بل هو أشد مما وقع فيهما وقد أوضحته في "الهداية" والله هو الهادي والمعين. قوله: فرع: قال القاضي ابن كج: ذكر جماعة من فقهاء أصحاب الشافعي وأبي حنيفة -رضي الله عنهما- أنه إذا لم يكن للقاضي شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال [اليتامى] (¬1) والوقوف للضرورة، ثم بالغ في الإنكار عليه، وقال: إنه لا ضرورة في هذا إن لم يتبرع بالقضاء من غير رزق فليمتنع منه، ومن ذهب إليه فكأنه ذكر العشر تمثيلًا وتقريبًا ولابد من النظر إلى كفايته وإلى قدر المال والعمل. انتهى كلامه. وهذا الفرع أسقطه من "الروضة". قوله: وعن الصيدلاني حكاية وجهين في كراهة اتخاذ الحاجب والبواب، والمفهوم من كلام أكثرهم أنه إن جلس للقضاء ولا زحمة فيكره اتخاذ الحاجب في أظهر الوجهين، ولا كراهة فيه في أوقات خلوته في أظهرهما. انتهى. أهمل هو والنووي الجواب عن حكم داخل في التقسيم وهو إذا ما جلس للقضاء وكانت هناك زحمة وقد ذكره الإمام فقال: إن رأى المصلحة في اتخاذه [اتخذه] (¬2)، وإن رآها في الترك ترك. واعلم أن الإمام نقل عن الصيدلاني وعن غيره في أول المسألة خلافًا [ثم اختار] (¬3) شيئًا، ويتلخص من مجموع ما حكاه وما اختاره أربعة أوجه: أحدها: أنه لا يتخذ الحاجب مطلقًا. والثاني: يتخذه مطلقًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

والثالث: إن جلس للقضاء لم يتخذه، وإن لم يجلس له فله أن يتخذه. والرابع: اختاره الإمام فقال: إن جلس للقضاء وكثرت الزحمة اتبع المصلحة، وإن خلا بنفسه فلا بأس باتخاذه [وذكر في الحاوي وجهًا خامسًا: وهو أنه يكره اتخاذه] (¬1) في زمن استقامة الخلق، فأما زمن الهرج واستطالة السفهاء فيستحب اتخاذه، وذكر -أعني: الماوردي- أيضًا أنه إنما يكره الحاجب إذا كان وصول الخصم إليه موقوفًا على إذنه، فأما من وظيفته ترتيب الخصوم والأعلم بمنازل الناس فلا بأس باتخاذه. ولم يتكلم الرافعي -رحمه الله- لأوصاف الحاجب، وقد ذكره الشيخ في "التنبيه" فقال: فإن احتاج اتخذ حاجبًا عاقلًا أمينًا بعيدًا من الطمع، ويأمره أن لا يقدم خصمًا [على خصم] (¬2) ولا يخص في الإذن قومًا دون قوم، ولا يقدم أخيرًا على أول. وذكر ابن خيران في "اللطيف": أنه يستحب أن يكون كهلًا ستيرًا -أي كثير الستر-[على الناس] (¬3)، وقال الماوردي: يشترط فيه العدالة والفقه والأمانة، ويستحب أن يكون حسن المنظر جميل المخبر عارفًا بمقادير الناس بعيدًا عن الهوى والعصبية معتدل الأخلاق. قوله: المسألة الثانية: إذا ادعى حقًا على إنسان عند القاضي فأقر به المدعى عليه أو نكل وحلف المدعي اليمين المردودة، ثم سأل المدعي، القاضي أن يشهد على أنه أقر عنده أو على أنه نكل وحلف المدعي فعلى القاضي إجابته، لأنه قد ينكر من بعد فلا يتمكن القاضي من الحكم عليه إن قلنا: لا يقضي بعلمه، وإن قلنا: يقضي بعلمه، فربما ينسى أو يعزل فلا يقبل ما يقوله. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

وما ذكره من حكاية القولين [في القضاء] (¬1) بالعلم على من أقر في مجلس القاضي قد ناقضه بعد هذا في الكلام على القضاء بالعلم فجزم بأنهما لا يجريان، وأن محل جريانهما في الإقرار أن يكون وقع عند القاضي سرًا، والمذكور هنا هو الصواب لما ستعرفه في موضعه إن شاء الله تعالى، وذكر في "الشرح الصغير" و"الروضة" كما ذكره هاهنا. قوله: وإن طلب صاحب الحق أن يحكم له بما ثبت لزمه أن يحكم فيقول: حكمت له به، أو أنفذت الحكم به، أو ألزمت صاحبه الحق. انتهى. وهذا الكلام يوهم أن الحكم عبارة عن هذا القول، والذي ذكره الشيخ عز الدين ابن عبد السلام أنه عبارة عن الإلزام النفساني، وهذا دليل عليه حتى إذا حكم في نفسه في واقعة مختلف فيها فنقضها حاكم آخر قبل إخبار الأول لم يتأثر بالنقض. قوله: فإن كثرت المحاضر والسجلات جعلها في إضبارة. انتهى. الإضبارة: بهمزة مكسورة وضاد معجمة ساكنة بعدها باء موحدة وبالراء المهملة هي: الربطة من الورق ويعبر عنها بالرزمة وبالحزمة أيضًا. تقول: ضبرت الكتب أضبرها -بالكسر- ضبرًا -بالسكون- إذا ضممت بعضها إلى بعض، وجعلتها ربطة واحدة. ويسمى أيضًا كل شيء مجتمع ضِبارة بكسر الضاد، وجمعه: ضبائر ومنه حديث "مسلم": "فيخرجون من النار ضبائر، ضبائر" (¬2). أي: جماعة جماعة. قوله في "الروضة": نقل الهروي أن القاضي إذا لم يكن له رزق من ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه مسلم (185) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

بيت المال وهو محتاج ولم يتعين عليه القضاء فله أن يأخذ من الخصم أجرة مثل عمله، وإن تعين قال أصحابنا: لا يجوز الأخذ، وجوزه صاحب "التقريب". انتهى كلامه. وما نقله هنا عن الأصحاب من أنه يمتنع على المحتاج الذي لا رزق له أن يأخذ من الخصم، نقله الرافعي قبل هذا بنحو ورقتين ولم يصرح به هاهنا، فنقله النووي إلى هذا الموضع وامتناعه مشكل لجواز أخذه من بيت المال، والحالة هذه فإنه يجوز كما ذكره الرافعي قبل ذلك، فأي فرق بينهما مع اشتراكهما في الحاجة والتعيين؟ ولما ذكره الرافعي قبل هذا قال: إنه فرع غريب ومشكل. فنقله إلى هنا بدون هذا الكلام، وما أشرنا إليه هو وجه إشكاله. قوله في "الروضة": وأما الهدية فالأولى أن يسد بابها ثم إن كان للمهدي خصومة في الحال حرم قبول هديته في محل ولايته وهديته في غير ولايته كهدية من عادته أن يهدي له قبل الولاية لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها على الصحيح، فإن زاد المهدي على القدر المعهود صارت هديته كهدية من لم يعهد منه الهدية. انتهى كلامه. وما ذكره -رحمه الله- في هذا الفصل غلط مخالف لكلام الرافعي من وجوه، فإن الرافعي قد قال: ثم ينظر، فإن كان للمهدي خصومة في الحال حرم قبول هديته، وإن لم يكن له خصومة فإن لم تعهد منه الهدية قبل تولي القضاء حرم قبول هديته في محل ولايته على المشهور خلافًا للغزالي وهديته في غير محل ولايته كهدية من عهد منه الهدية قبل تولي القضاء لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها؛ وقيل يحرم فإن زاد المهدي على القدر المعهود صارت هديته كهدية من لم تعهد منه الهدية. انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ولنعد إلى بيان المخالفات فنقول: أحدها: أن كلامه قد اشتمل على تصحيح جواز القبول ممن له خصومة إذا حصل الإهداء في غير محل الولاية، وكلام الرافعي يقتضي الجزم بالتحريم، والوجهان المذكوران إنما حكاهما في من لا مخاصمة له. ثانيها: أن كلامه ساكت عن من لا مخاصمة له إذا أهدي في غير محل ولايته، فلا يعلم منه هل يجوز جزمًا أم يتخرج على الوجهين اللذين ذكرهما في من له مخاصمة؟ والرافعي قد ذكر المسألة وحكي فيها وجهين كما سبق ذكره. ثالثها: أن تصحيح الجواز لمن عهد منه الهدية، قد فرضه في من لم تكن له خصومة فإن كانت فيحرم القبول جزمًا، وانعكس عليه في "الروضة" فجعله في من له خصومة. رابعها: أنه أسقط من كلام الرافعي التفريع على من ليست له عادة بالهدية، وقد علم حكمه مما نقلناه عنه -أي: عن الرافعي- وخاصة المنع في محل ولايته دون غيرها. قوله أيضًا في "الروضة": وحيث قلنا بتحريم قبول الهدية فَقَبِلَهَا لم يملكها على الأصح، فعلى هذا لو أخذها قيل: يضعها في بيت المال، والصحيح: أنه يردها على مالكها، وإن لم يعرفه جعلها في بيت المال. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الخلاف المذكور في أنه هل يضعها في بيت المال أو يردها على المالك؟ لم يجزم الرافعي بأنه وجهان كما جزم به المصنف، بل قال: وذكر العراقيون تفريعًا على أنه لا يجوز القبول وجهين أو قولين في ما يصنع بها لو قَبِل.

أحدهما: أنه يضعها في بيت المال. والثاني: يردها على مالكها، وهذا فيه اضطراب. والقياس ما حكاه أبو الفرج الزاز وهو أنه إذا لم يملك فيردها على مالكها، فإن لم يعرفه فيضعها في بيت المال. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن النووي قد فرع هذا الخلاف على عدم الملك، والرافعي لم يخصه بذلك بل فرعه على عدم جواز القبول فيدخل فيه القائل بالملك وبعدمه وقد أوقفتك على عبارته. الأمر الثالث: أن من جملة الصور التي تذكر الرافعي فيها أنه لا يملك وأنه يردها على مالكها ما إذا كانت له عادة فزاد في مقدارها، والقياس اختصاص ذلك بما زاد، وتخريج الباقي على تفريق الصفقة، وحينئذ فتصير الهدية مشتركة على الصحيح، فإن زاد في المعنى كما إذا كانت عادته إهداء ثياب القطن أو الكتان فأهدي ثياب الحرير ونحو ذلك، فقد قالوا يمتنع أيضًا. لكن هل تبطل في الجميع أم تصح منها بمقدار قيمة العادة؟ فيه نظر والأَوْجَه الأول. قوله: ومن يثبت أنه شهد بالزور عزره القاضي بما يراه. ثم قال: وإنما تثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد أو بيقين القاضي بأن شهد أن فلانًا زنى يوم كذا بالكوفة والقاضي قد رآه في ذلك اليوم ببغداد، هكذا أطلقه الشافعي - رضي الله عنه - والأصحاب ولم يخرجوه على أن القاضي هل يحكم بعلمه؟ انتهى كلامه. ولنقدم على المقصود أمرين: أحدهما: أن القاضي قد ذكر بعد هذا أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، وأنه لا يقضي بعلمه في حدود الله تعالى على الصحيح.

الثاني: أن الشاهد بالزنا يُحَد إذا اعترف بالتعمد، وكذا إن قال: أخطأت، على الأصح كما هو مقرر في باب الرجوع عن الشهادة. إذا علمت ذلك فهذا الذي اتفق عليه الشافعي والأصحاب في مسألة الشاهد بالزنا من اعتماد القاضي على ما يراه لا جائز أن يريدوا به أن القاضي يقيم الحد على الشاهد، فإن القاضي لا يحكم بعلمه في حدود الله تعالى على الصحيح فضلًا عن الاتفاق عليه، فتعين أنهم أرادوا بذلك أن القاضي لا يقيم الحد على المشهود عليه، وحينئذ فلا يصح البحث الذي حاوله الرافعي، وهو يخرجه على القضاء بالعلم لما سبق عن الرافعي من أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، وسنوضحه أيضًا فصح ما قاله الشافعي والأصحاب وبطل البحث المذكور. قوله: وإذا وقعت له خصومة أو لأصله أو فرعه جاز لنائبه أن يحكم فيها في أظهر الوجهين. ثم قال: وبنوا هذا على أن نائب الحاكم هل ينعزل بموته وانعزاله؟ إن قلنا: لا، فقد ألحقناه بالحكام المستقلين. انتهى كلامه. والصحيح انعزال نائبه بموته كما تقدم، فلو صح البناء لكان الصحيح أنه لا يحكم كما ينعزل، أو أنه لا ينعزل كما يحكم. قوله في الأدب العاشر: إحداهما: قول الصحابي إذا لم ينتشر، فالقديم: أنه حجة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬1). والجديد: أنه ليس بحجة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42) وأحمد (17184) والدارمي (95) وابن حبان (5) والحاكم (329) والطبراني في "الكبير" (18/ 245) حديث (617) والبيهقي في "الشعب" (7516) و"الكبرى" (20125) =

ثم قال: وعلى الجديد لا فرق بين أن يخالف القياس أم لا، وحكمه حكم سائر المجتهدين. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله الشافعي في الجديد من كونه ليس بحجة محله إذا كان للقياس فيه مدخل سواء خالف كلامه القياس أم لا كما تقدم. فأما إذا لم يكن للقياس فيه مجال بالكلية، فإنه يكون قوله فيه حجة، كذا نص عليه الشافعي في "اختلاف الحديث" فقال: روي عن عليّ - رضي الله عنه -: أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات. وقال: لو ثبت ذلك عن عليّ لقلت به، فإنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه فعله توقيفًا. هذا كلامه. وذكر في "المحصول" أيضًا: أنه حجة، قاله في الكلام على كيفية ألفاظ الصحابي. الأمر الثاني: أن ما ذكره في التفريع على كونه ليس بحجة أن حكمه حكم سائر المجتهدين مردود فإن الكلام في أمرين. أحدهما: في أنه هل هو حجة أم لا؟ وقد مضى الكلام فيه. والثاني: أَنّا إذا قلنا بالجديد وهو أنه ليس بحجة، فهل يجوز ¬

_ = والطحاوي في "شرح المعاني" (468) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 220) وتمام في "الفوائد" (225) من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي. وقال البزار: هو أصح سندًا من حديث حذيفة. قال ابن عبد البر: هو كما قال. وقال الألباني: صحيح.

للمجتهدين تقليده، وترك الاجتهاد لأنهم أطلعوا من أحوال الرسول وأسباب نزول الوحي على ما لم يطلع عليه غيرهم؟ فيه ثلاثة أقوال للشافعي أيضًا، ثالثها: إن انتشر جاز، وإلا فلا. كذا ذكره جماعة منهم الغزالي في "المستصفى" والآمدي في "الأحكام"، وأفردوا كل حكم بمسألة، وذكر في "المحصول" نحوه أيضًا إلا أن هؤلاء المذكورين جعلوا عدم جواز التقليد هو القول الجديد، وليس كذلك فقد نص "الشافعي" في مواضع من "الأم" على الجواز، ولولا خشية الإطالة لذكرت تلك المواضع، وقد أوضحت المسألة في "شرح المنهاج" الأصولي أحسن إيضاح فراجعه. قوله: نعم لو تعارض [قياسان] (¬1) أحدهما يوافق قول الصحابي، قال صاحب "الكتاب" في "الأصول": قد تميل نفس المجتهد إلى الموافق ويرجح عنده. انتهى. وهذا الذي نقله عن الغزالي احتمالًا فقط، قد جزم به جماعة منهم الشيخ أبو إسحاق في "اللمع". قوله: وإن قال البعض وسكت الباقون، فاختيار صاحب "الكتاب" في "الأصول": أنه ليس بحجة، والمشهور عند الأصحاب: خلافه، ولكن هل يكون إجماعًا؟ فيه وجهان: قال الروياني: فإن ظهرت أمارات الرضى ثم سكت فإجماع بلا خلاف، قالوا: والأصح هنا اشتراط انقراض العصر في كونه حجة أو إجماعًا. انتهى. واقتصاره في عدم الحجة على نسبته إلى الغزالي في الأصول فقط غريب ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فإن هذا الذي ذهب إليه الشافعي، فقد قال الإمام فخر الدين والسيف الآمدي في "المحصول" و"الإحكام" وغيرهما من كتبهما: إنه مذهب الشافعي. وقال الغزالي في "المنخول": نص عليه الشافعي في الجديد. نعم استدل الشافعي على إثبات القياس وخبر الواحد بأن بعض الصحابة عمل به ولم يظهر من الباقيين إنكار فكان ذلك إجماعًا، وظاهره المعارضة للنقل السابق وأجاب ابن التلمساني، في "شرح المعالم" بأن السكوت الذي تمسك به الشافعي في القياس وخبر الواحد هو السكوت المتكرر في وقائع كثيرة وهي تبقي جميع الاحتمالات. قوله: فإن وجد ذلك -أي القول المنتشر- ولم ينقل عن الباقيين موافقة ولا سكوت، فيجوز أن يستدل به على السكوت ويجوز خلافه. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر هذه الصورة في أوائل الفرائض وقال: إنه يترك للقول المنتشر، والحالة هذه القياس الجلي ويعتضد به الخفي. فهذا الذي ذكره إنما يستقيم على تقدير الاحتجاج به إلحاقًا له بما إذا اطلعوا عليه وسكتوا، وقد رجحه أيضًا في "الروضة" من "زوائده" فقال: المختار أن عدم النقل كنقل السكوت لأنه الأحمل والظاهر. قوله: ومن الجلي ما ورد النص فيه على العلة كحديث "إنما نهيتكم من أجل الدافة" (¬1). انتهى. الدافة: بالدال المهملة والفاء وهي: الطائفة القادمة، وقد تقدم إيضاحه في الأضحية. قوله: ومنه قياس الشبه، وهو أن تشبه الحادثة أصلين، إما في الأوصاف بأن تشارك كل واحد من الأصلين في بعض المعاني والأوصاف ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1971) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

الموجودة، وإما في الأحكام كالعبد يشارك الحر في بعض الأحكام والمال في بعضها فيلحق بما المشاركة فيه أكثر، وربما يسمى قياس الشبه خفيًا، والذي قبله غير الجلي واضحًا، وربما خص الجلي ببعض الأول، وهو ما إذا كان الفرع فيه أولى بحكم الأصل. انتهى. زاد في "الروضة" على هذا فقال: واختلف أصحابنا في صحة قياس الشبه وأنه هل هو حجة؟ هذا لفظه. وما ذكره في "الروضة" من الخلاف في القياس المذكور لا يتصور القول به عند أحد فضلاء أصحابنا، بل يجزم بالاحتجاج به كما ذكره الرافعي والمأخوذ به هو الأقوى والأقرب من الوصفين عند اجتماع الشروط فيهما لأنه لو انفرد أحدهما لكان يعمل به بلا خلاف، فإذا اجتمعا قدمنا الراجح منها كسائر الأدلة، فإن أشبه أحد الأصلين في الوصف والآخر في الحكم، ففي المقدم منهما ثلاثة مذاهب للأصوليين: أحدها: يقدم المشابه في الحكم على المشابهة في الصورة، وهو مذهب الشافعي. والثاني: عكسه. قاله ابن عُلية. والثالث: لا يلتزم تقديم واحد منهما بعينه، بل ما يغلب على الظن أنه العلة، ويختلف ذلك باختلاف المسائل فقد تقوى المشابهة الصورية على الحكمية في صورة وفي أخرى بالعكس، هذا هو اختيار الإمام فخر الدين، ومثله بالعبد فإنه يشبه الحر في الصورة والبهيمة في الحكم من حيث أنه مملوك، فإذا قتله قاتل هل تجب قيمته بالغة ما [بلغت] وإن زادت على الدية أو لا يزداد على الدية لمشابهة الحر في الصورة؟ والحاصل أن ما ذكره الرافعى لا خلاف فيه ولا يتأتى فيه الخلاف إلا ممن أنكر القياس.

وقد صرح به مع وضوحه من أصحابنا جماعات كثيرة منهم القاضي الحسين والبندنيجي والماوردي وابن الصباغ والروياني حتى اختلفوا هل ينقض قضاء من خالفه أم لا؟ فقال الجمهور: لا ينقض. وقال الماوردي وغيره: ينقض في المتردد بين الحكمين دون الموضعين. نعم للأصوليين نوع آخر يسمى "قياس الشَّبه" اختلفوا في [الاحتجاج] به واختلفوا في تفسيره أيضًا، فقال القاضي أبو بكر: هو الوصف المناسب بطريق التتبع لا بداية كالطهارة فإنها مناسبة لاشتراط النية لا لكونها طهارة، فإن التنظيف يحصل بدون النية بل لكونها شرعت عبادة، والعبادة مناسبة للنية. وقال غيره: هو الوصف الذي ليس بمناسب ولكن اعتبر الشرع جنسه القريب. وهذا النوع الذي ذكرناه هو أشهر بإطلاق اسم الشبه من المذكور في الرافعي، فإن المشهور تسمية ذلك بقياس علية الأشباه، فلما وقف النووي على خلاف في قياس الشبه ظن -رحمه الله- أن المختلف فيه هو الأول لاشتراكهما في الاسم، وقد بسطت المسألة في "شرح منهاج الأصول" وحققتها فلتراجع منها. قوله: ومتى حكم القاضي بالاجتهاد، ثم بان له أنه خالف كتابًا أو سنة أو قياسًا جليًا فيلزمه نقض حكمه، وهل يلزمه تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه لينقض الحكم؟ فيه وجهان: قال ابن سريج: لا يلزمه إن علم أنه بَانَ له الخطأ، فإن ترافعا إليه نقض. وقال سائر أصحابنا: يلزمه وإن علما، لأنهما قد يتوهمان أنه لا ينقض، هذا في حق الآدميين، أما حقوق الله تعالى فيلزمه البدَار إلى تداركه.

واعلم أن الغزالي قد ذكر في "الوسيط" ما حاصله أنه ينقضه، وإن لم يرفع إليه، فإنه قال: فرع: لو ظهر له الخطأ في واقعة فليتبع وإن لم ترفع إليه هذه عبارته. وذكر أيضًا الماوردي وغيره نحوه والذي ذكروه أوجه مما تُوهمه عبارة الرافعي وتأويلها به متعين. قوله: ومنها قضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه في ذلك الجنس، قيل: إنه منقوض لظهور الأخبار وبعدها عن التأويلات التي يدعونها، وكذلك في القتل بالمنقل لأنها على خلاف القياس الجلي في عصمة النفوس، وهذا ما أورده الإمام وصاحب الكتاب وبمثله أجاب محققون في الحكم بصحة النكاح بلا ولي، وفي بيع أم الولد، وثبوت حرمة الرضاع بعد الحولين، وصحة النكاح بشهادة الفاسقين من غير إعلان، ونكاح الشغار، ونكاح المتعة، وفي الحكم بقتل المسلم بالذِّمي، وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف، وبجريان التوارث بين المسلم والكافر، ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب على ما ذهب إليه ابن أبي ليلى، ومن الأصحاب من منع النقض، وقال: هي مسائل اجتهادية، والأولوية فيها متقاربة، قال القاضي الروياني: وهو الصحيح، وكذلك ذكره القاضي ابن كج في الحكم ببطلان خيار المجلس. انتهى كلامه. ومقتضاه رجحان النقض في المسائل كلها. أما الثلاث المذكورة أولًا وهي خيار المجلس والعرايا والقتل بالمنقل فلأنه نقل من الإمام الغزالي موافقتهما للقائل به، ولم تنقل الموافقة للقائل بعدم النقض إلا عن تصحيح الروياني فقط، وأما بقية المسائل فلأنه نقل النقض فيها عن محققين ولم ينقل مقابله إلا عن الروياني أيضًا، إذا علمت ذلك ففيه أمران:

أحدهما: أن الرافعي قد صحح في كتاب النكاح أنه لا ينقض حكمه في النكاح بلا ولي على عكس ما يقتضيه كلامه هنا، ذكر ذلك في الكلام على الركن الرابع، وقد تقدم هناك ذكر عبارته. الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد اختصر هنا كلام الرافعي بعبارة مخالفة لما ذكره هنا وموافقة للمذكور هناك، فإنه جمع هذه المسائل كلها من أولها إلى آخرها وحكى فيها وجهين، ثم قال بعد حكاية الوجهين: قال الروياني: الأصح: لا ينقض لأنها اجتهادية والأدلة فيها متقاربة، هذا لفظه من غير زيادة عليه. والعجب في اقتصاره على ما قال مع حذفه للقائل بالعكس، وهم الإمام والغزالي والمحققون، وهو اختصار عجيب حصل بسببه الإخلال في مسائل فتفطن لها واضبط جميعها. قوله: وإذا كان المحكوم به حكمًا باطلًا نكاحًا، لم يحل للمحكوم له الوطيء، وعليها الامتناع والهرب ما أمكنها، فإن أكرهت فلا إثم عليها. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الإثم عند الإكراه تابعه عليه في "الروضة"، وهو مخالف لما ذكره في أوائل الجنايات من أن الزنا لا يباح بالإكراه، فإن المرأة إذا علمت كذب الذي يدعي نكاحها يكون تمكينها منه زنا قطعًا، ومقتضى كلامه في الجنايات: أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وقد نص هو على المرأة بخصوصها في كتاب الجهاد، وصرح بأنه لا يباح لها ذلك، والذي ينبغي حمل كلامه هنا عليه ما إذا ربطت ووطئت. قوله: وما كان مختلفًا فيه كحكم الحنفي بشفعة الجوار وبالتوريث بالرحم فينفذ ظاهرًا، وهل ينفذ في الباطن حتى يحل ذلك للشافعى؟ فيه وجهان:

أحدهما: المنع، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق وأورده الغزالي لتعارض الأدلة. والأصح عند جماعة منهم صاحب "التهذيب" والعبادي: أنه ينفذ باطنًا في حق من يعتقد ومن لا يعتقد. انتهى ملخصًا. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وهذا الثاني هو الصحيح، كذا صححه الرافعي في موضعين من هذا الكتاب ومن "الشرح الصغير"، أحدهما: في كتاب الدعاوي في الكلام على اليمين قُبَيْل قوله: قال: وأما الحالف، فقال: وميل الأكثرين إلى الحِلّ. هذا لفظه. وذكر عقبه أنهم اتفقوا على أنه ليس للشافعي أن يحلف على عدم استحقاقها إذا حَلّفه الحنفي. ثم قال: وهذا هو ذاك أو مثله. والموضع الثاني: في كتاب دعوى الدم، قبيل الكلام في القسامة بأسطر فقال: فأما الحل الباطن إذا حكم الحاكم في موضع الخلاف لشخص على خلاف ما يعتقده كحكم الحنفي للشافعي بشفعة الجوار، ففي ثبوته خلاف وكلام الأئمة هاهنا يميل إلى ثبوته. هذه عبارته. وإطلاقهم يقتضي أنه لا فرق في النفوذ باطنًا بين ما ينقض وما لا ينقض وفيه، نظر لكنه مستقيم فإنه لا منافاة. قوله: فرع: قال في "التهذيب": هل تقبل شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يقضي القاضي بخلاف ما لا يعتقده. والثاني: نعم، لأنه مجتهد فيه والاجتهاد إلى الشاهد. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن تعليله للوجه الثاني غلط، لأن الاجتهاد يشترط في القاضي لا في الشاهد، وقد ذكره البغوي على الصواب فقال: لأنه مجتهد فيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى الشاهد، ذكر ذلك قُبَيْل باب التحفظ في الشهادة، فسقط من (إلى) إلى (إلى)، وحذف النووي هذا التعليل من "الروضة" فَسَلِمَ. الأمر الثاني: أن الرافعي لم يبين صورة المسألة وتابعه النووي على ذلك وزاد فصحح القبول، فلنوضح ذلك فنقول: لا شك أن الشاهد والحالة هذه له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشهد بنفس الجوار وما في معناه كالبيع عند إنكاره. والثاني: باستحقاق الأخذ بالشفعة. والثالث: بشفعة الجوار. فأما الأول: فكلام الرافعي بعيد منه، وفي جواز الشهادة به وبكل ما يترتب عليه خلاف ما يعتقده الشاهد وجهان حكاهما الرافعي من غير ترجيح في الباب الثالث من أبواب الشهادات قُبيل القيد الخامس من القيود المعتبرة في وجوب الأداء، وذكر بعده بنحو ورقة ما يشعر بالجواز. وأما الثاني والثالث: فكلام الرافعي محتمل لكل منهما ولم يتكلم فيهما إلا على القبول، وأما الجواز للشاهد: فينبغي منعه لاعتقاده خلافه، وقد ذكر الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب الرهن: أنه إذا [رهن] عينًا بعشرة ثم استعرض عشرة لتكون رهنًا بهما وأشهد شاهدين أنه مرهون بعشرين وعرف الشاهدان حقيقة الحال وهو رهن المرهون بدين آخر عند المرتهن، نظر إن شهدا على إقرار الراهن فالوجه تجويزه مطلقًا، وإن شهدا أنه مرهون فإن كانا لا يعتقدان جواز الإلحاق لم يجز بل عليهما بيان الحال، وفيه وجه بعيد.

وإن كانا يعتقدان جوازه ففيه وجهان، قال في الروضة: الأصح أنه لا يجوز لأن الاجتهاد إلى الحاكم لا إليهما. هذا كلامه، ولم يصور الرافعي المسألة بما إذا كان القاضي حنفيًا وهو كذلك بلا شك. قوله: ولو دعي المحبوس زوجته أو أمته لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال، فإن امتنعت أجبرت الأمة ولم تُجبر الزوجة الحرة، لأنه لا يصلح للسكنى، والزوجة الأمة تُجبر إن رضى سيدها، فكان يجوز أن يقال: الحبس زجر وتأديب، فإن اقتضى الحال أن تمنع منه زوجته أو أمته فعل. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد جزم به الغزالي في "فتاويه" فقال: إن الأمر فيه إلى رأي القاضي. وجزم صاحب "الشامل" في "فتاويه" أيضًا بأنه يمنع من ذلك، ولم يكله إلى نظر القاضي. وقد ذكر النووي في أوائل التفليس من "زوائده" ما قاله، الغزالي وابن الصباغ ولم يرجح منها شيئًا. ثم إنه هاهنا حذف الاحتمال الذي ذكره الرافعي وجزم بأنه لا يمنع، فصار مخالفًا لكل من النقلين المذكورين هناك، وقد ظهر من هذه النقول رجحان تفويضه إلى رأي القاضي، لرجحان الرافعى له من غير اطلاعه على نقل يساعده فمع النقل أولى.

الفصل الثاني: في مستند قضائه

الفصل الثاني: في مستند قضائه قوله: وأصح القولين عند عامة الأصحاب: أن القاضي يقضي بعلمه، ثم قال: ولو أقر بالمدعي في مجلس قضائه قضى عليه، وذلك قضاء بإقراره لا بعلم القاضي، وإن أقر عنده بشراء، فعلى القولين في القضاء بالعلم، ومنهم من خصص القولين بما إذا علم المحكوم بنفسه وقال: هاهنا الحكم بالإقرار المعلوم لا بمجرد العلم بالمحكوم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من جواز الحكم بالإقرار الواقع في المجلس جزمًا وأنه لا يخرج على القولين مخالف لما ذكره قبل ذلك في الأدب الخامس، فإنه جزم فيه هناك بحكاية القولين، ولم يتعرض لهذه الطريقة التي جزم بها هاهنا وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه، وذكر نحوه أيضًا في كتاب الدعاوي في الكلام عن اليمين وستعرفه. ومخالف أيضًا لنص الشافعي في "الأم": فإنه سَوّى بين المجلس وغيره، ذكر ذلك في كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" الواقع بعد باب قطع العبد في باب الدعوى والصلح، فقال: قال الشافعي: وإذا اختصم الرجلان إلى القاضي، فأقر أحدهما عند القاضي في مجلس الحكم أو غير مجلسه. هذا لفظه. ثم حكى بعد هذا التصوير القولين واختلاف الناس وأقام الدليل عليه. الثاني: أن مراده بقوله: ومنهم من خصص القولين. . . . إلى آخره. أن بعضهم قال: إن الإقرار في الشركاء كالإقرار في المجلس حتى يقضي جزمًا، وقد ذكره في "الشرح الصغير" بعبارة هي أوضح من هذه، لا جرم أن النووي في "الروضة" عبر بقوله، وقيل: يقضي قطعًا.

قوله في "الروضة": وإذا قلنا: يقضي بعلمه، فذاك في المال قطعًا وكذا في القصاص وحد القذف علي الأظهر، ولا يجوز في حدود الله تعالى على المذهب، وقيل: قولان. انتهى كلامه. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع في حدود الله تعالى سهو حصل في اختصاره لكلام الرافعي، فإن المذكور في الشرحين: تصحيح طريقة القولين فتأمله، وكلام "المحرر" لا يؤخذ منه شيء في ذلك، فإنه قال: أصح القولين أن القاضي يقضي بعلمه إلا في حدود الله تعالى. هذه عبارته. قوله: ولا خلاف أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه إذا علم أن المدعي أبرأ عما ادعاه وأقام عليه البينة وأن المدعي قبله أو رأه قبله بيد المدعي، أو سمع مدعي الرق قد أعتق ومدعي النكاح قد طلق ثلاثًا، وتحقق كذب الشهود، فإنه يمتنع عن القضاء. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ادعاه من نفي الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة"، وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا وليس كذلك، فقد حكى الماوردي في "الحاوي" وجهًا أنه يقضي بخلاف علمه والحالة هذه، قال: لأن المعتبر في الحكم على هذا القول إنما هو الشهادة دون العلم. ونقله أيضًا الروياني والشاشي في "الحلية"، وابن يونس وابن الرفعة في شرحيهما "للتنبيه". الأمر الثاني: كما لا يقضي بخلاف علمه فليس له أن يقضي بعلمه، صرح به الشاشي في "الحلية"، وفي كلام الرافعي إشارة إليه فإنه أطلق منعه عن القضاء وكأن معناه قوة التهمة. الأمر الثالث: أنه لابد في القضاء بالعلم من التصريح بالمستند، فيقول القاضي: قد علمت أنه له عليك ما ادعاه وحكمت عليك بعلمي، فإن

اقتصر على أحدهما لم ينفذ الحكم، كذا ذكره الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر". الأمر الرابع: أن عد العتق والطلاق من قسم العلم ممنوع، فإنه لا يلزم من إعتاقه وتطليقه وقوع العتق والطلاق. أما العتق: فلأن العبد قد يكون مرهونًا والراهن معسر والشاهدان يعلمان الواقعة، ومثله العبد الجاني على ما هو مذكور في موضعه. وأما النكاح: فقد يكون الزوج أتى بالتعليق المنسوب إلى ابن سريج فقال لها: متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا، ومقتضى كلام "الكتاب" و"الروضة": أن الأكثرين على عدم الوقوع، ونقله عن النص. الخامس: أن التعبير بقوله: لا يقضي بخلاف علمه، فيه تجوز بل الصواب بما يعلم خلافه، وبه عبّر الماوردي وغيره، فإن من يقضي بشهادة شاهدين لا يعلم كذبهما ولا صدقهما قاض بخلاف علمه مع أن قضاءه نافذ بالاتفاق. واعلم أن اشتهار الخبر بين الناس بالتواتر هل ينزل منزلة البينة أم حكمه حكم المعلوم بالمشاهدة حتى يجري فيه القولان؟ على وجهين حكاهما في "النهاية" قُبيل باب كيفية تفريق الصدقات. قوله: واعلم أن الأئمة مَثّلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما إذا ادعى عليه مالًا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك أو سمع المدعي عليه أقر بذلك، ومعلوم أن رؤية الإقراض وسماع الإقراض لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء، فيدل أنهم أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وهو يشعر بأنهما لم يقعا هاهنا في المسألة

على نقل، وهو غريب فقد ذكر هو فرعين منقولين هما أصرح في الدلالة على المقصود مما ذكره، وأحدهما قد حكى فيه وجهين، فالموضع الأول: ذكره قبل كتاب العتق في الكلام على القافة فقال: ولو كان القاضي قائفًا فهل يقضي بعلمه؟ فيه الخلاف في القضاء بالعلم. هذا لفظه. والثاني: في أوائل القسمة فقال: وهل للقاضي أن يحكم بمعرفته في التقويم؟ ، قيل: لا يجوز قطعًا لأنه تخمين مجرد، وقيل: على القولين في القضاء بالعلم وهو الأشبه، ولا يبعد أن يقام ظنه مقام الشهادة المبنية على الظن. هذا كلامه. وقد صرح الإمام أيضًا بالمسألة هنا فقال: إذا جوزنا له أن يقضي بعلمه فذاك في ما يستيقنه لا ما يظنه، وإن غلب على الظن. وقال أيضًا في كتاب التفليس: ومن لطيف الكلام في ذلك أن كل ما تستند الشهادة فيه إلى اليقين فلو علمه القاضي بنفسه ففي قضائه خلاف، ولو انتهى القاضي في ما لا علم له إلى منتهى يشهد فيه كالأصول التي ذكرناها فلا يحل له القضاء، وإن كان يحل له أن يشهد بما ظهر عنده فليتأمل الناظر هذا، فإنه من أسرار القضاء. هذا كلامه. والذي ذكره من الأصول هي الشهادة على أنه لا مال له أو لا وارث له، والشهادة بالتعديل والشهادة بالأملاك، وقد لخص الغزالي أيضًا هذا المعنى، فقال: ولا خلاف أنه لا يقضي بظنه الذي لا يستند إلى بينة. وذكر الماوردي في كتاب اللقيط عكس ذلك، وبالغ فيه فقال: إذا رأى الحاكم رجلًا يتصرف في دار مدة طويلة من غير معارضة جاز له أن يحكم له بالملك، وفي جواز الشهادة في هذه الحالة قولان، والفرق: أن الحاكم له أن يجتهد وليس للشهود أن يجتهدوا؛ وهذا الذي ذكره الماوردي يؤيد ما

قاله الرافعي بلا شك. وأما الأمثلة التي ذكرها -أعني: الرافعي- فإنه تبع فيها البغوي، وقد يجاب عنها بأن السبب الذي استند إليه القضاء فيها وهو الإقرار والإقراض معلوم بخلاف التصرف والتسامح ونحوهما فإنها لم تستند إلى معلوم. قوله: أما اليمين فقد قال الأصحاب: يجوز له أن يحلف على استحقاق الحق، وإذا ألحق اعتمادًا على خط أبيه إذا وثق بخطه وأمانته. وضبط القفال وثوقه بأن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة أن لفلان عليّ كذا لا يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم بل يؤديه من التركة، وفرق بينه وبين القضاء والشهادة: بأنه يمكن فيها التذكر والرجوع إلى اليقين حتى لو وجد بخط نفسه أن له على فلان كذا أو أنه أدى دين فلان لم يجز له الحلف حتى يتذكر، قاله في "الشامل". انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من جواز الحلف من اشتراط الثقة والأمانة تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وهو لا يظهر في مسائل ذكرها الرافعي فينبغي استحضارها لئلا يحصل الغلط بسببها. الأولى: ما ذكره في الشفعة أنه لو بيع [الشقص] (¬1) بصبرة من فضة وادعي الشفيع أنها كذا ونكل المشتري، جاز للشفيع الحلف اعتمادًا على نكوله. الثانية: ما ذكره في الجنايات في باب دعوى الدم: أن المشتري إذا نازعه شخص في المبيع وادعى أنه له وأن البائع غصبه جاز له -أي للمشتري- أن يحلف على أنه لا يلزمه التسليم اعتمادًا على قول البائع. ¬

_ (¬1) في أ: السقط.

الثالثة: ما ذكره في آخر الباب الأول من أبواب الدعاوي: أنه إذا أنكر المودع التلف وتأكد ظنه بنكول المودع جاز أن يحلف اليمين المردود في أصح الوجهين. الأمر الثاني: أن ما نقله عن "الشامل" وأقره من امتناع الحلف على خط نفسه، ذكر مثله في "الشرح الصغير" وزاد على ذلك فقال: ذكره صاحب "الشامل" وغيره. وهذا الذي نقله عن "الشامل" وأقره هو والنووي عليه ليس هو الصحيح فاعلمه، فقد جزم بعد ذلك في كتاب الدعاوي في الركن الثالث منه المعقود للحلف بما يخالفه، فقال قبيل الطرف الثالث ما نصه: فيه مسألتان: إحداهما: ما يحلف فيه على البت لا يشترط فيه اليقين، بل يجوز البت بناء على ظن مؤكد ينشأ من خطه أو خط أبيه أو نكول خصمه. هذا لفظه وتبعه عليه النووي وجزم به أيضًا في "المحرر" و"المنهاج". قوله في "الروضة": فرع: قال الصيمري: ينبغي للشاهد أن يثبت حلية المقر إذا لم يعرفه بعد الشهادة ليستعين بها على التذكر، ويقرب من هذا ذِكْر التاريخ ومَوْضِع التحمل ومن كان معه حينئذ ونحو ذلك. انتهى كلامه. والتعبير بقوله: ينبغي هو قريب من تعبير الرافعي أيضًا، وهذا الكلام يشعر بأن تعاطي أسباب التذكر مستحب، وهو كذلك كما صرح به في آخر الباب الثالث من أبواب الشهادات فاعلمه. قوله: ولو شهد شاهدان على حكمه عند قاض آخر قبل شهادتهما وأمضى حكم الأول، إلا إذا قامت بينة بأن الأول أنكر حكمه وكذبهما، فإن قامت بينة بأنه توقف، فوجهان: أوفقهما لكلام الأكثرين: أنه يقبل

شهادتهما وقال الأودي وصاحب "المهذب": لا يقبل لأن توقفه يورث تهمة، وعلى هذا لو شهد عدلان أن شاهدي الأصل توقفا في الشهادة لم يجز الحكم بشهادة الفرع. انتهى. وما اقتضاه آخر كلامه من تخريج شهود الفرع على هذين الوجهين قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، ولم يصرحا بنقله مع أن المحاملي وصاحب "المهذب" والغزالي في "البسيط" قاسوا المنع في شهود الحكم على شهود الفرع، فَدَلّ ذلك على الاتفاق على المنع ولم يتعرض للمسألة في بابها.

الفصل الثالث: في التسوية

الفصل الثالث: في التسوية وفيه مسألتان: إحداهما: يسوي القاضي بين الخصمين في الدخول عليهما والقيام لهما والنظر إليهما والاستماع وطلاقة الوجه وسائر أنواع الإكرام. انتهى كلامه. وتعبير الرافعي في أول كلامه بقوله: في الدخول عليهما، وقع كذلك في النسخ، وهو سبق قلم وصوابه في دخولهما عليه. قوله: ويسوى بينهما أيضًا في جواب سلامهما، فإن سلما أجابهما معًا، وإن سلم أحدهما قال الأصحاب: يصبر حتى يسلم الآخر فيجيبهما معًا، وقد يتوقف في هذا إذا طال الفصل، فإنه يمتنع من انتهاضة جوابًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الأصحاب من كونه لا يسلم على الأول إلا بتقدير سلام الثاني، واقتضى كلامه عدم الوقوف على غيره حتى أبداه بحثًا عند الطول خاصة، ذكره البغوي تبعًا للقاضي الحسين فقلده فيه الرافعي متوهمًا عدم الخلاف فيه. ثم إن النووي قلّد الرافعي في ذلك، وهو عجيب فإن الإمام قد حكى هذا عن القاضي وحده ثم ضعفه، وينبغي ذكر لفظه لغرض آخر يأتي ذكره فنقول: قال الإمام بعد باب القسمة: وإن سلم أحدهما فقد أفرط بعض الأصحاب، وقال: لا يرد جوابه بل يسكت لأن القاضي في شغل شاغل، وإن أراد قال لخصمه: سَلّم، ثم يرد جواب سلامهما، وهذا عندي سرف وإن ذكره القاضي فإن رد السلام محمول على ابتداء أحدهما به، وهذا مما لا يخفي، ولا يظهر ميلًا. هذا كلامه وهو ظاهر.

وذكر نحوه الغزالي في "البسيط" فقال: أفرط بعض الأصحاب فقال: لا يجبه إلى أن يُسَلِّم الآخر، ثم قال: وهذا بعيد وعذره في الجواب بين، وصححه أيضًا في "الوسيط"، وحكى الماوردي ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يرد السلام عليه وحده في الحال. والثاني: بعد الحكم. والثالث: يرده في الحال عليهما. ولم يحك ما عزاه الرافعي إلى الأصحاب وجهًا بالكلية، وذكر مثله الروياني في "البحر" والشاشي في "الحلية" وصاحب "الذخائر" والعراقي شارح "المهذب" وابن يونس في "شرح التنبيه" وحكى كثير من هؤلاء وجهًا آخرًا: أنه لا يجب الرد أصلًا لأن شغل القاضي مانع من مشروعية السلام. وحكى الروياني أيضًا عن القفال: أنه صحح الرد على أحدهما عقب سلامه، وجزم به أيضًا أبو الطيب في أوائل كتاب أدب القضاء من تعليقته في أثناء مسألة أولها: قال الشافعي وأحب أن يقضي في موضع بارز. وعبر الطبري في "العدة" بما يدل عليه لمن تأمله فقال: ينبغي أن يسوي بينهما في رد السلام. هذه عبارته. وذكر مثلها الغزالي في "الوجيز" ومدلولها: أنهما إذا سلما فليس له أن يرد على أحدهما ويمتنع من الرد على الآخر، وحكى ابن أبي الدم في "أدب القضاء" وجهين من غير ترجيح في المسألة، وأجراهما أيضًا في ما إذا سبق وسلم قبل دخول الآخر بالكلية، وسكت عن التصريح بالمسألة جماعة كثيرون منهم الدارمي في "الاستذكار" والشيخ في "المهذب" وأبو نصر البندنيجي صاحب "المعتمد" والجرجاني في "الشافي" والخوارزمي في "الكافي" والعمراني في "البيان" وابن عصرون في "المرشد" وغيرهم.

فتلخص أن ما قاله الرافعي من إسناد ذلك إلى الأصحاب غلط محض أوقعه فيه جزم صاحب "التهذيب". الأمر الثاني: أن ما ذكراه في هذه المسألة لا يوافق ما جزم به في كتاب السير، فقد قالا هناك: إن ابتداء السلام سُنّة على الكفاية، فإذا حضر جماعة وسلّم أحدهم كفى ذلك عن سلام الباقين. قوله في المسألة: وذكروا أي الأصحاب أنه لا بأس أن يقول للأخر: سَلِّم، فإذا سَلَّم أجابهما، وفي هذا اشتغال منه بغير الجواب، ومثله بقطع الجواب عن الخطاب. انتهى كلامه. واعلم أنه قد ذكر في كتاب "السير": أنه يجب أن يكون رد السلام متصلًا به الاتصال المشروط بين الإيجاب والقبول في العقود، وقد اختلفوا في اللفظ اليسير الفاصل بينهما هل يضر أم لا؟ على وجهين، واختلف كلامهم في الراجح منهما كما أوضحته في الكلام على أركان النكاح فراجعه، وهذه الصورة فرد من أفراد ذلك فيأتي فيها ما سبق هناك فاعلمه. قوله أيضًا في المسألة: وحكى الإمام أنهم -أي: الأصحاب- جوزوا للقاضي ترك الجواب مطلقًا واستبعده. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الإمام نقله عن الأصحاب وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا غلط، فإن الإمام إنما نقله عن بعضهم وقد تقدم ذكر لفظه. قوله: فإن كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا فوجهان: أصحهما وهو ما أورده العراقيون: أنه يرفع المسلم في المجلس. والثاني: يسوي. ويمكن أن يجري الوجهان في سائر وجوه الإكرام. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أن النووي في "الروضة" عبر بقوله: أصحهما وبه قطع العراقيون، وما قاله من قطع العراقيين باطل، فقد حكى الماوردي في "الحاوي" وجهين، وكذلك الشيخ في "المهذب" والشاشي في "الحلية" وابن عصرون في "الانتصار" والعمراني في "البيان" وكل هؤلاء عراقيون. الأمر الثاني: أن النووي قد تابعه في "الروضة" على احتمال جريانهما، وقد أجاب الفوراني في "الإبانة" بما ذكراه بحثًا، فقال بعد ذكر أنواع التسوية: فرع: إذا كان أحدهما كافرًا هل يسوى بينهما؟ وجهان: أحدهما: يسوي [لأنهما] استويا في الدعوى. والثاني: لا. هذه عبارته. وذكر الشيخ في "التنبيه" أنه يقدم المسلم في الدخول ويرفعه في المجلس، وذكر الماوردي في "الحاوي" ما يخالف الفوراني، فقال: وفي التسوية بين المسلم والكافر في المجلس وجهان: أحدهما: يسوي بينهما فيه كما يسوي بينهما في المدخل والكلام. والثاني: يقدم المسلم. انتهى. وهو يدل على أن المدخل والكلام محل اتفاق، وكذلك ذكر صاحب "الاستقصاء" وغيره. ولو كان أحدهما مرتدًا والآخر ذميًا فيتجه تخريجه على التكافؤ في القصاص، والصحيح، أن المرتد يُقتل بالذمي دون عكسه. قوله: وإذا كان يدعي دعوى غير محررة، قال الإصطخري: يبين له كيفية الدعوى الصحيحة، وقال غيره: لا يجوز لانكسار قلب الآخر، وتعريف الشاهد كيفية أداء الشهادة على هذين الوجهين، قال في "العدة": والأصح الجواز. انتهى كلامه.

لم يرجح منهما شيئًا في "الروضة" أيضًا، وقد صحح في "التنبيه" منع تلقين الدعوى وأقره عليه النووي فلم يستدركه في كتابه "التصحيح". قوله: وإذا ادعى المدعي طالب خصمه بالجواب وقال: ماذا تقول؟ وفيه وجه أنه لا يطالبه بالجواب حتى يسأل المدعي. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه ليس في كلامه ما يدل على أن الخلاف في الجواز أو في الأولوية، وقد بينه الماوردي والشيخ في "المهذب" وغيرهما. وقالوا: إن الخلاف في الجواز، وعللوا المنع بأن ذلك حق للمدعي فلا يجوز استيفاؤه من غير إذنه، والجواز بقرينة الدعوى. وفائدة الخلاف كما قاله الماوردي: في الاعتداد بالإنكار، وفي الحكم بالبينة قبل سؤال المحكوم له. واقتصر ابن يونس في "شرح التنبيه" على الفائدة الثانية. الأمر الثاني: أن ما ذكره هاهنا من ترجيح الجواز ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا هنا، ثم خالف فيه -أعني: في "الصغير"- في أوائل كتاب الدعاوى فقال ما نصه: فيه وجهان: أشبههما ويحكي عن أبي حنيفة: لا، لأنه حقه فلا يستوفي إلا بسؤاله هذا لفظه ولم يذكر ترجيحًا غيره. والرافعي في "الكبير" حكى هناك وجهين من غير ترجيح، ونقضه النووي فقال في "زوائده": الأقوى أن له ذلك، ولم يستحضر تصحيح الرافعي له في هذا الباب ولا تصحيحه هو حتى أنه بالغ هنا فقال: وفيه وجه ضعيف أنه لا يطالبه بالجواب حتى يسأله المدعي. قوله: وهل يثبت المدعي بمجرد الإقرار، أم يفتقر ثبوته إلى قضاء

القاضي؟ فيه وجهان: أحدهما: يفتقر إليه كالثبوت بعد إقامة البينة. وأصحهما: المنع، فإن دلالة الإقرار على الحق بينة، والإنسان على بصيرة من نفسه، وأما البينة فيحتاج في قبولها إلى النظر والاجتهاد، هكذا ذكروه والطبع لا يكاد يقبل هذا الخلاف، لأنه إن كان الكلام في ثبوت الحق [المدعى] (¬1) به في نفسه فمعلوم أنه لا يتوقف على الإقرار، فكيف على الحكم بعد الإقرار؟ ، وإن كان المراد مطالبة المُدَّعِي وإلزام القاضي فلا خلاف في ثبوتهما بعد [الإقرار] (¬2). انتهى. وما ذكره من أن المُدّعِي له الطلب بعد الإقرار بلا خلاف قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، ولكن قد جزم الماوردي بما ظاهره المخالفة فقال: له أن يلازمه بعد الحكم وليس له ملازمته قبله. قوله: وإن أنكر المُدَّعَى عليه فللقاضي أن يسكت وله أن يقول للمدعي: ألك بينة؟ وقيل: لا يقول ذلك إلا بعد طلب المدعي لأنه كالتلقين. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق التخيير، وكذلك أطلقه أيضًا بعضهم وقيده جماعة بما إذا كان المدعي يعلم أنه وقت التنبيه، فإن كان لا يعلم ذلك لم يسكت بل يسأله عن البينة، كذا ذكره الشيخ في "المهذب" والعمراني في "البيان" وابن يونس شارح "التنبيه". ومقتضى كلام "النهاية": أن الأصح أن القاضي يقول للمدعي: ألك بينة؟ مطلقًا سواء أكان المدعي عالمًا أو جاهلًا. وكلام الماوردي يقتضي أنه مُخَيّر بين أن يقول للمدعي: قد أنكرك فهل ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

لك بينة؟ وبين أن يقول له: قد أنكرك فما عندك؟ سواء كان المدعي عالمًا أو جاهلًا، لكن الأول أولى عند الجهل. والثاني أولى عند العلم. ويتلخص من مجموع ذلك وجوه أربعة، وإن أخذنا كلام الرافعي على إطلاقه جاء منه وجه خامس، إلا أن حمله على الإطلاق بعيد. قوله: فإن قال المدعي: ليس لي بينة حاضرة، فحلف المدعي عليه، ثم أحضر البينة سُمِعت، وكذا لو قال: لا حاضرة ولا غائبة في أظهر الوجهين. ولو قال: لا بينة لي، واقتصر عليه، ففي "التهذيب": أنه كالقسم الأول، وفي "الكتاب": أنه كالثاني حتى يكون على وجهين. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا من الطريقين في "الروضة" أيضًا، والصحيح: هو الطريق الثاني، وهو ما ذهب إليه الغزالي، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير"، وحكى الماوردي والشاشي في الصورة الثانية وجهًا: أنه إن كان هو الذي استشهدهم لم تقبل، وإن استشهدهم وكيله أو موروثه قُبِلت. وقريب من هذه المسألة ما إذا قال: اشتريته بعشرة، ثم قال: بل بعشرين، وقد تقدمت في باب المرابحة، وكذا إذا قال: لست بشاهد في هذا الشيء، ثم جاء فشهد فيه، فقد ذكره الرافعي قبل الركن الرابع المعقود للنكول فقال: إن قالاه حين تصديا لإقامة الشهادة لم تقبل شهادتهما، وإن قالاه قبل ذلك بشهر أو يوم لم يندفع، وأطلق القاضي الحسين في "فتاويه" عدم القبول. قوله: ولو قال: شهودي عبيد، أو فسقة، ثم أتى بعدول قبلنا شهادتهم إن مضى زمان يمكن فيه العتق والاستبراء. انتهى كلامه.

هذا الحكم ذكره البغوي تبعًا للقاضي الحسين، فقلده فيه الرافعي ثم النووي، ويتعين تصوير المسألة بما إذا عين شهوده الذين وصفهم بالرق أو الفسق، فإن أطلق أو عيّن ولكن أقام غير المعينين فقياس ما ذكرناه في المسألة السابقة أنها تقبل، وقد صرح في "الإشراف" بنقله عن نص الشافعي فقال: لو قال بعد اليمين أو قبلها: كل بينة لي زور أو كاذبة، ثم أقامها قُبِلت على النص لأنه لا يجوز أن لا يعرفها. قوله: والظاهر أن تقديم المسافر والمرأة ليس هو بمستحق، وإنما هو نوع رخصة يجوز الأخذ به. انتهى. قال في "الروضة": المختار أنه مستحب لا يقتصر فيه على الإباحة. قوله: فرع: المقدم بالسفر يجوز أن لا يقدم إلا بدعوى واحدة، ويجوز أن يقدم جميع دعاويه، لأن سبب تقديمه أن لا يتخلف عن رفقته، ويجوز أن يقال: إذا عرف أن له دعاوى فهو كالمقيمين، لأن تقديمه بالجميع يضر بغيره، وتقديمه بدعوى لا يحصل الغرض. انتهى. قال في "الروضة": الأرجح أن دعاويه إن كانت قليلة أو خفيفة بحيث لا تضر بالباقين إضرارًا بينًا قدم بجميعها، وإلا فيقدم بواحدة لأنها مأذون فيها، وقد يقتنع بواحدة ويؤخر الباقين إلى أن يحضر. انتهى. وما ذكره النووي من التقديم بالواحدة فقط مردود، بل القياس على ما قاله أن يسمع في عدد لا يضر كما لو لم يكن معه غيره. قوله: ولو جهل القاضي إسلام الشاهدين لم يقنع بظاهر الدار، ولكن يبحث عنه، ويكفي فيه الرجوع إلى قول الشاهد ويخالف الحرية، فإنه لا يرجع إليه فيها في أظهر القولين على ما قال في "المهذب"، لأن الإسلام مستقل به فيرجع إليه فيه بخلاف الحرية. انتهى ملخصًا.

وقد اختلف كلام الرافعي وكذا كلام "الروضة" في الحكم على الكافر بالإسلام إذا قال: أنا مسلم، وقد تقدم إيضاحه في باب الردة، والأصح في الإقرار بالحرية: ما رجحه في "المهذب"، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة". قوله: من نُصِّب حاكمًا في الجرح والتعديل اعتبر فيه صفات القضاة. انتهى. واعلم أنه قد سبق أن من شروط القاضي بلوغ رتبة الاجتهاد، ولكن ذكر الرافعي قبل ذلك في الكلام على الاستخلاف كلامًا ينبغي استحضاره هنا فقال: يشترط في الذي يستخلفه ما يشترط في القاضي، قال الشيخ أبو محمد وغيره: فإن فوض إليه أمرًا خاصًا كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب حتى أن نائب القاضي في القُرى إذا كان المفوض إليه سماع البينة دون الحكم كفاه العلم بشروط سماع البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد. قوله: ولابد في شاهد الإعسار والتزكية من الخبرة الباطنة، قال في "الوسيط": ويجب على القاضي أن يعرف أن المزكي هل هو خبير بباطن الشاهد في كل تزكيته؟ إلا إذا علم من عادته أنه لا يُزكِّي إلا بعد الخبرة. انتهى. وما ذكره هنا في شروط شاهد التزكية، قد ذكر خلافه في شاهد الإعسار، وقد سبق إيضاح وجه المخالفة في التفليس فراجعه. قوله: وهل يشترط ذكر سبب رؤية الجرح أو سماعه؟ فيه وجهان: أشهرهما: نعم، فيقول مثلًا: رأيته يزكي، وسمعته يقذف، وعلى هذا القياس يقول في الاستفاضة: استفاض عندي. وأقيسهما: أنه لا يشترط. انتهى.

وهذا الكلام صريح في أن الشاهد إذا كان مستنده الاستفاضة وصرح بذلك في شهادته لم يكن قادحًا في شهادته فتفطن لذلك فإنه الصواب، وسيكون لنا عودة لذلك في الشهادات إن شاء الله تعالى. قوله: ولا يجعل الجارح بذكر الزنا قادحًا للحاجة، كما لا يجعل الشاهد قاذفًا، فإن لم يوافقه غيره فليكن كما لو شهد ثلاثة بالزنا هل يجعلون قذفه؟ فيه القولان. انتهى. قال في "الروضة": المختار أو الصواب: أنه لا يجعل قاذفًا وإن لم يوافقه غيره، لأنه معذور في شهادته بالجرح فإنه مسئول عنها وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة بخلاف شهود الزنا فإنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون، والله أعلم. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما اختاره النووي من كونه لا يصير قاذفًا هو المعروف في "المهذب"، فقد جزم به الشيخ أبو حامد والقاضي الحسين والروياني وغيرهم تفريعًا على الوجوه فيما إذا شهد ثلاثة بالزنا، ولم يقل أحد منهم بتخريج المسألة هنا على ذلك الخلاف كما فعله الرافعي. نعم حكى الإمام وجهين: أحدهما: أنه لا يكون قذفًا في هذا المقام، لكونه مسئولًا كما سبق. والثاني: نعم كغيره، فعلى هذا لا يكلفون التصريح به بل يكفي التعريض، هذا كلام الإمام، وقد تلخص أن ما اقتضاه كلام الرافعي هنا من وجوب ذكر الزنا ووجوب الحد عليه باطل غير معروف، قال: فإن القائل قائلان: قائل بعدم وجوب الذكر، وقائل بوجوبه وأنه لا حد عليه هنا، ولا شك أنهما لم يقفا في هذه المسألة على نقل بل تفقها فيها، فصادف أن ما ذكره النووي فيها هو الصواب نقلًا ودليلًا.

الثاني: أن تعليل النووي بقوله فإنه مسئول عنها يوهم أن الشهادة على الجرح تتوقف على السؤال، وليس كذلك بل يقبل فيها شهادة الحسبة كما ذكره في آخر الباب. الأمر الثالث: أن ما ذكره في آخر كلامه وهو أن شهود الزنا هل يستحب لهم الشهادة أو الستر؟ ذكره في مواضع من "الروضة": أحدها: في حد الزنا. وثانيها: في هذا الموضع. وثالثها: في الباب الأول من أبواب الشهادات في أثناء السبب السادس. واختلف فيها كلامه وكذلك كلام الرافعي أيضًا، وقد سبق إيضاحه في حد الزنا فراجعه. قوله: وهل يشترط لفظ الشهادة من المزكي؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، فيقول: أشهد أنه عدل. وقال في "الوسيط": إن اعتبرنا مشافهة القاضي فلابد من لفظ الشهادة وإن لم نعتبر ففي اشتراطه في الكتابة والرسالة وجهان. انتهى. وحاصله حكاية وجهين عنه في "الوسيط" فيما إذا كتب، أو أرسل ولم يكتب. وهذا النقل عنه ليس مطابقًا لما فيه فإنه إنما حكى الوجهين في الكتابة خاصة فقال: وإن اكتفينا بالرقعة مع الرسول ففي اشتراط كتابة لفظ الشهادة خلاف كما في المترجم، هذه عبارته. ولا شك أن الغزالى أخذ ذلك من "النهاية"، فإنه قال: ذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن الجرح والتعديل لا يثبتان إلا بتصريح الشاهدين ولا تعويل على الرقاع ولا على أجوبة الرسل. وقال الإصطخري: يكفي الرسل حتى لا يشتهر المزكون، ولا تكفي

الكتابة، فإن اكتفينا بقول الرسل، فقد ذكر صاحب "التقريب" وجهين في اشتراط لفظ الشهادة: وجه التردد: أنّا شرطنا العدد وقبلناهم مع إمكان الوصول إلى الأصول. انتهى ملخصًا. فالغزالي حكى الخلاف تفريعًا على "الكتاب"، والإمام إنما حكاه تفريعًا على الاكتفاء بالمرسل، فتلخص هذه الكتب الثلاث لا توافق بعضها وإن كُنّا نقطع أن كلام "النهاية" هو الأصل، وإنما حصل ذلك من تصرفهم في النقل، وقد سَلِمَ في "الروضة" من ذلك فإنه لم يصرح بالبناء ولا بالمنقول عنه. قوله: ولا يقبل الجرح المطلق، بل لابد من بيان سببه. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وهو يقتضي: أنه لا يبقى للبينة في هذه الحالة اعتبار بالكلية حتى يقدم عليها بينة التعديل، وليس كذلك بل معنى عدم قبولها، وهو أنه يجب التوقف عن العمل بها إلى أن يبحث عن السبب، كذا ذكره النووي في "شرح مسلم" بالنسبة إلى جرح الراوي، ولا فرق في ذلك بين الرواية والشهادة. قوله: والأصح أنه يكفي أن يقول: هو عدل، وقيل: لابد أن يقول: عدل على ولي، واختلف القائلون به، فقيل: لأن الشخص قد يقبل في القليل دون الكثير، وقيل: لبيان أنه ليس بوالد ولا ولد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن فائدة الخلاف كما قاله الماوردي في ما إذا علم الحاكم انتفاء البنوة بينهما، وحذف هذا الخلاف من "الروضة". واعلم أنه لا يلزم من كونه مقولًا للمزكي، وعليه أن يكون كذلك بالنسبة إلى المدعى عليه في الواقعة التي احتيج إلى التعديل بسببها، فإنه قد يكون ابنًا له أو أبًا فلابد من التعرض لذلك، وقد أهمله الأصحاب حتى قال الإمام: ومن أبلغ عبارات المزكين وأوقعها: عدل على ولي، وهذه

العبارة شائعة على مر الدهور، والأصحاب مجمعون على حملها على موجب ما يتفاهمون منها، هذه عبارته. الأمر الثاني: أن الرافعي قد حكى عن [نص الشافعي في "الأم"، و"المختصر" أنه لابد أن يقول: عدل على ولي، وحكى عن] (¬1) نصه في "حرملة": أنه لا يشترط ذلك، بل يشترط أن يقول: عدل رضى أو مرضي أو مقبول الشهادة، قال: ومدلول هذه الزيادة غير مدلول تلك، فتلخص أن الشافعي جازم بأنه لا يكفي العدل وحده، وفي ما يشترطه معه قولان ولا يؤخذ ذلك من "الروضة". قوله: وذكر في "الوجيز" أنه يقول: عدل مقبول الشهادة، وفيه أمران: أحدهما: أن الوصف بقبول الشهادة تغني عن العدالة. الثاني: يشبه أن يقال: إن الحال يختلف بحسب سؤال القاضي، فإن سأل عن عدالته كفاه التعرض لها، وإن سأل عن قبول شهادته فلابد من التعرض لها لتدخل فيه المروءة وعدم السقط من ولادة أو عداوة. انتهى كلامه. وأهمل النووي ذكر الأمرين المذكورين وهما أمران مهمان، واستفدنا من هذا أنه إذا قال المزكي: هو عدل على ولي، لا يحكم الحاكم بقوله إلا إذا عرف مروءته وخلُوّه من الموانع؛ ولهذا قال إمام الحرمين ما نصه: نعم تثبت العدالة بقوله: عدل رضى، ثم يستخير بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة، هذه عبارته. قوله: ثم حكى القاضي تفريعًا على اعتبار كلمتي "على" و"إلى" وجهين: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أن اعتبارهما مخصوص بما إذا أخبر المزكون أصحاب المسائل. والثاني: أنهما شاملان لذلك ولإخبار أصحاب المسائل للقاضي، ولا فقه في الفرق. انتهى. أسقط هذا الخلاف من "الروضة". قوله: وذكر في "الوجيز": أنه لا يجوز التعديل بالتسامع، وهو يوافق ما سبق أنه يعتبر في المعدل الخبرة الباطنة، ولكن المخبرون الذين يحصل الاستفاضة بهم لو كانوا خبيرين بباطن حاله فلا يبعد أن يجوز للشاهد التعديل وتقام خبرتهم كما أقيم في الجرح ورؤيتهم مكان رؤيته. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة" قد جزم به القاضي الحسين في "تعليقه"، فقال: يجوز الاعتماد في التعديل على ما يسمع من أفواه الناس مرة بعد أخرى بحيث يخرج عن حد التواطؤ. انتهى. ونقله أيضًا الهروي في "الإشراف" عن القفال الشاشي، ونقل في "الروضة" المسألة إلى قبل هذا الموضع بقليل. قوله: ونابه. . . . إلى آخره. هذه اللفظة عبر أيضًا بها في -آخر كتاب الفلس وسبق الكلام عليه هناك فراجعه.

الباب الثالث: في القضاء علي الغائب

الباب الثالث: في القضاء علي الغائب قوله: واحتج الأصحاب على أبي حنيفة في منعه القضاء على الغائب بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬1)، وكان ذلك قضاء منه على زوجها أبي سفيان وهو غائب. انتهى. وما ذكره هاهنا من كونه قضاء، قد خالفه في باب نفقة الأقارب فرجح أنه إفتاء لا قضاء، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: ويشترط في الدعوى على الغائب ما يشترط في الدعوى على الحاضر من بيان جنس المدعي وقدره وصفته. انتهى. اعترض عليه ابن الرفعة بأن ذكر الوصف لا يغني عن ذكر النوع ولابد منه. وقد صرح في الدعوى على الحاضر بأنه لابد من بيان النوع، وصرح أيضًا بذكره في هذا الباب في ركن المحكوم به. قوله: وينبغي أن يدعي جحود الغائب فإن قال: هو مُقِرّ، لم تسمع بينته ولغى دعواه، وإن لم يعترض لجحوده ولا لإقراره فوجهان: ميل الإمام منهما إلى أن بينته تُسمع لأنه قد لا يعلم جحوده، انتهى. والذي مال إليه الإمام هو الراجح، فقال الرافعي في "المحرر": إنه أشبه الوجهين، وفي "الشرح الصغير": إنه أولى الوجهين، وصرح النووي بتصحيحه في أصل "الروضة". قوله: فَيُحَلِّف القاضي من ادعى على الغائب بعد قيام البينة وتعديلها أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه ولا من شيء منه ولا اعتاض ولا استوفى ولا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5049) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

أحال عليه ولا أخذ من جهته بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه توفيته، ويجوز أن يقتصر فيحلفه على ثبوت المال في ذمته ووجوب التسليم، لأن المدعى عليه لو كان حاضرًا لكان له أن يدعي عليه شيئًا من الجهات المذكورة فيحلفه. فينبغي للقاضي أن يحتاط له؛ ولذلك يحلف مع البينة إذا كانت الدعوى على صبي أو مجنون أو ميت ليس له وارث حاضر، فإن كان حلف بسؤال الوارث، وهذا التحليف: واجب، وقيل: مستحب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه إذا كان للغائب ومن في معناه كالمتعزر وكيل، فهل يتوقف التحليف على طلب الوكيل أم للقاضي تحليفه من غير طلبه؟ فيه جوابان لأبي العباس الروياني حكاهما عنه الرافعي في الطرف الخامس ولم يرجح منها شيئًا، وتبعه عليه في "الروضة". الأمر الثاني: أن ما قاله الرافعي من التحليف على وجوب التسليم مُشكل من وجهين: أحدهما: أن المدعي عليه لو كان حيًا عاقلًا حاضرًا فقال بعد إقامة البينة: حلفه على استحقاقه ما ادعاه، لم يجب إليه؛ لأن فيه قدحًا في البينة، فكيف يحلفه عليه في غيبته؟ لاسيما وقد حلف على أنه ثابت في ذمة المدعى عليه. وثانيهما: أن المدعى عليه لو كان بالصفات المذكورة وادعى مسقطًا وأراد تحليفه فطلب المدعى أن يحلف أنه يستحق عليه ما ادعاه، لم يمكن منه، بل يحلف على ذلك المسقط، فكيف اكتفى به في حق الغائب؟ وبالجملة: فقد أسقط الماوردي اعتبار ذلك فقال: وأقل ما يجزئه أن يحلف: إن حقه لثابت، هذا كلامه، وهو واضح فتعين العمل به.

قوله في المسألة: ويبنى على الخلاف في وجوب التحليف ما لو أقام قيِّم طفل بينة على قيِّم طفل، فإن أوجبنا التحليف انتظرنا حتى يبلغ المدعى له فيحلف، وإن قلنا بالاستحباب قضى بها. انتهى كلامه. وحاصل هذا: أن الصحيح هو الانتظار إلى البلوغ، لأن الصحيح هو وجوب التحليف. إذا علمت ذلك فقد ذكر عقب هذا بأسطر ما قد يشكل على هذا فقال: ولو ادعى ولي الصبي دينًا للصبي، فقال المدعي عليه: إنه أتلف عليَّ من جنس ما يدعيه قدر دينه، لم ينفعه بل عليه أداء ما أثبته الولي، فإذا بلغ الصبي حلفه. هذا كلامه. إلا أنه فرض تلك في ما إذا كان المدعى له وعليه صبيين، وهذه في ما إذا كان الصبي هو الذي ادعى له خاصة. وقد يجاب بأن اليمين هناك من تتمة الدعوى الأولى، فتوقفنا [على] (¬1) ما توجبه. وأما اليمين في المسألة الثانية فإنها توجهت في دعوى أخرى غير تلك. قوله: ولو لم يقرأ الكتاب على الشاهدين وقال: أشهدكما على أن ما فيه حكمي، أو على أني قضيت بمضمونه فوجهان: أظهرهما: أنه لا يكفي ما لم يفصل لهما، ويجري الخلاف في ما لو قال المقر: أشهدك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة كما نقله الصيمري: أنه لا يكفي، ويشبه أن يكون هذا الخلاف في أن الشاهد هل يشهد على أنه أقر بمضمون القبالة؟ على التفصيل: فأما الشهادة على أنه أقر بما في هذا الكتاب مبهمًا، فما ينبغي أن يكون ¬

_ (¬1) في أ: في.

فيه خلاف كسائر الأقارير المبهمة. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف عن الشهادات بالأقارير المبهمة تبعه عليه أيضًا في "الروضة"، وليس كذلك فإن الرافعي قد حكى في كتاب الدعاوى وجهين في ما إذا أقام بينة على أنه أقر له بشيء، أو على أن له عليه مالًا وقالت: لا نعلم قدره، هل يسمع أم لا؟ أحدهما: يسمع، ويرجع في التفسير إليه كما لو أقر به عند القاضي. وثانيهما: لا، لأن البينة أن تبين. قوله في "الروضة": وإذا أنكر المدعي عليه أن ما في هذا الكتاب اسمه ونسبه، فالقول قوله بيمينه وعلى المدعي البينة أنه اسمه ونسبه، ولو قال: لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شيء إليه، فحكى الإمام والغزالي عن الصيدلاني: أنه يقبل منه اليمين، هكذا كما لو ادعى عليه فرض فأنكر وأراد أن يحلف على أنه لا يلزمه شيء فإنه يقبل، واختارا أنه لا يقبل وفَرّقا بأن مجرد الدعوى ليس بحجة، وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم، وذلك بوجوب الحق عليه أن يثبت كونه المسمى. انتهى ما ذكره في هذه المسألة. وقد بحث الرافعي مع الغزالي والإمام في تفرقتهم بين الفرض وهذه المسألة بحثًا استفدنا منه أمورًا: منها: أن الراجح من الوجهين ما قاله الإمام والغزالي، وقد صرح بتصحيحه في "الشرح الصغير" فقال: إنه أظهر الوجهين. ومنها: أنه إذا قال المدعى عليه: لا يلزمني تسليم شيء إليه وأراد الحلف عليه فيمكن منه، وقد جزم به أيضًا في الشرح المذكور. ومنها: أنه لا فرق بين مسألتنا وبين الفرض، والعبرة بالجواب فيهما

فإن أجاب فيهما بأنه لا يلزم تسليم شيء إليه كفاه الحلف فيهما عليه، بخلاف ما إذا أجاب بأنه لم يقترض أو ليس ذلك اسمه، لأن الحلف يكون على حسب الجواب، وقد اختار القفال أيضًا في هذه المسألة ما اختاره الصيدلاني. قوله: ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي في أصح الوجهين ذكره في "العدّة". انتهى كلامه. أطلق في "الروضة" تصحيحه. قوله: وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي الكاتب؟ قال في "العدة": لا يجوز، وإن جوزنا القضاء بالعلم، لأنه إذا لم يحكم كالشاهد، والشهادة لا تتأدى بالكتابة وفي "أمالي السرخسي" أنه يجوز [كالشاهد] (¬1)، ولأن إخباره عن علمه إخبار عن قيام الحجة فليكن كإخباره عن قيام البينة. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، وقد جزم في "البحر" بما قاله في "العدة". قوله: وإذا كتب بسماع البينة فليسم الشاهدين، والأولى: أن يبحث عن حالهما وتعديلهما، فإن أهل بلدهما أعرف بحالهما، وإذا عدل فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين؟ فلفظ "الكتاب" يُشعر بالمنع، وقد صرح به في "الوسيط"، وكذلك ذكره الإمام، والقياس التجويز كما أنه إذا حكم استغنى عن تسمية الشهود، وهذا هو المفهوم من إيراد صاحب "التهذيب" وغيره، ويجوز أن يقدر فيه خلاف بناء على ما سيأتي أن كتاب القاضي بسماع البينة نقل للشهادة أم حكم بقيام البينة؟ إن قلنا: نقل، فلابد من التسمية كشاهد الفرع مع الأصل. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يقف في المسألة على التصريح بالخلاف المذكور وقد ¬

_ (¬1) سقط من ب.

صرح به الروياني في "البحر"، وقال: التجويز ضعيف. قوله: فإن استمهل ليفهم بينة الجرح أمهل ثلاثة أيام، فإنها مدة يسيرة لا يعظم ضرر المدعي بتأخير الحكم فيها، وبالمدعى عليه خاصة إلى مثلها لاستحضار البينة، هكذا ذكره الأصحاب على طبقاتهم، وكذا لو قال: أبرأتني، أو قضيت بالحق، واستمهل ليقيم البينة عليه. انتهى كلامه. وما نقله عن اتفاق الأصحاب من الإمهال ثلاثًا ليس كذلك، فقد جزم الماوردي أن الحاكم يجتهد برأيه فيما دون الثلاثة بحسب الحال وعِظَمِ البلد وصغره وأشار إليه في "البحر" أيضًا فقال: أمهل مدة قريبة. قوله: ولو قال: أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم فأخرجهم فإني لا أتمكن من خروجه إلا هناك، أو قال: لي بينة أخرى دافعة هناك، لم يُجب إليه بل يؤخذ الحق منه. انتهى. تابعه في "الروضة" على إطلاق عدم الإمهال، ويظهر أن يكون محله في ما إذا كان ذلك يتوقف على أكثر من ثلاثة أيام، وكلام الروياني يدل عليه ويحتمل المنع مطلقًا سدًا للباب. قوله: وفي "العدة": أنه لو سأل المحكوم عليه إحلاف الخصم على أنه لا عداوة بينه وبين الشهود جاز. انتهى. ذكر مثله في "الروضة"، وقد جزم الماوردي والروياني بعكسه. قوله نقلًا عنها أيضًا: وأنه لو ادعى قضاء الدَّين وسأل إحلافه أنه لم يستوفه، لم يحلف لأن الكاتب أحلفه، وذكر البغوي في مثله في دعوى الإبراء، أنه يحلفه أنه لم يبره فحصل وجهان. انتهى كلامه. واعلم أن ما نقله الرافعي من عدم التحليف عند دعوى الإقباض محله إذا ادعى ذلك قبل الحكم، أما إذا ادعى أنه أقبضه بعد حكم الحاكم، فإنه

يحلفه بلا شك؛ لأن الحاكم لم يحلفه عليه، إذ التحليف إنما كان على عدم القضاء إلى حالة الحكم، وهذا مع وضوحه يؤخذ من التعليل الذي ذكره الرافعي. وإذا تقرر ذلك، فإذا ادعى الإقباض وأطلق حلف أيضًا لاحتمال الإقباض في الحالة المذكورة، وهذا كله مع الإمكان. أما إذا لم يمكن كما إذا ادعى إقباضه إياه وكان أحدهما ملازمًا للقاضي إلى تلك الحالة، فإنه لا يحلف. فتلخص أنه يحلف لدعوى الإقباض عند الإمكان جزمًا، وأنه لا يحلف عند عدم إمكانه، وعليه يحمل ما نقله الرافعي عن "العدة"، ولا شك أن الإبراء ممكن في كل وقت لاستقلال الشخص به، وحينئذ فيحلف في الحالة التى يستحيل فيها الإقباض، فكذلك جزم به البغوي، فتلخص أن المذكورين لم يتواردا على محل واحد فليست المسألتان على وجهين. قوله: فإذا نادى قاض من طرف ولايته قاضيًا آخر في طرف ولايته: أني سمعت البينة بكذا، أو جوزنا قاضيين في بلد فقال ذلك قاض لقاض هل للمقول له الحكم بذلك؟ بنى الإمام والغزالي ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاضٍ آخر هل هو نقل لشهادة الشهود كنقل الفروع شهادة الأصول أو حكم بقيام البينة؟ وفيه جوابان: وجه الأول: أنه لو كان حكمًا، لم يفتقر إلى تسمية الشهود. ووجه الثاني: أنه لو كان نقلًا، لم يكف ناقل واحد وقد اكتفينا بالقاضي المنهي. فعلى الأول: لا يجوز للمقول له الحكم كما لا يجوز الحكم بشهادة الفروع مع خصوم الأصول، وعلى الثاني، يجوز كما في الحكم، وهذا أظهر عند الإمام والمصنف، لكن عامة الأصحاب منعوه. انتهى كلامه.

فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الغزالي من ترجيح الجواز قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك، بل ذهب الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" إلى منع الحكم، وعبّر في "الوسيط" بقوله: إنه أظهر الوجهين، والذي أوقع الرافعي في ذلك إيهام وقع في "الوجيز"، فإنه لما حكى الوجهين في الجواز وبناهما على أنه هل [هو] (¬1) حكم أم لا؟ قال: الأظهر أنه حكم. ولم يصحح في المبنى شيئًا، وكأنه لم يرض البناء أو صحح في المبنى خلاف المبنى عليه، وكثيرًا ما يفعلون ذلك. وحينئذ فلا يكون "الوجيز" مخالفًا للكتابين المذكورين، ولا شك أن الرافعي لم يَطَّلع هنا على الكتابين المذكورين، إذ لو اطلع لم يترك التصحيح المصرح به إلى ما هو محتمل، بل كان يحمل المحتمل على ما لا يحتمل. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلام الرافعي من الجزم بأنه لابد من تسمية الشهود غريب، فإنه ذكر المسألة قبل هذا بدون الصفحة، ونقل وجوب التسمية عن الإمام والغزالي، ثم قال: والقياس وهو المفهوم من كلام البغوي: عدم الاشتراط. قوله: [الثالث] (¬2): إذا حضر قاضي بلد الغائب إلى بلد القاضي الذي حكم فأخبره، فهل يُمضيه إذا عاد إلى محل ولايته؟ إن قلنا: إن القاضي يقضي بعلم نفسه: أمضاه، وإن قلنا: لا، فعن بعضهم تجويزه أيضًا، والأصح: أنه لا يجوز. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية خلاف في الجواز إذا منعنا القضاء بالعلم لا وجه له ولا يعلم أيضًا من حكاه، بل الذي وقفنا عليه في كتبهم إنما هو الجزم بالمنع ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والذي أوقعه في ذلك إنما هو إيهام وقع في كلام "الوسيط"، فإنه عبّر بقوله: وإن لم نجوز القضاء بالعلم، فقد أطلق بعض الأصحاب جوازه، وقال الإمام: لا نجوز، ومراده بذلك أن بعض الأصحاب أطلق جوازه من غير تقييد بجواز القضاء بالعلم، والإمام نزل هذا المطلق على ما إذا جوزنا القضاء بالعلم. هذا معنى كلامه. ويؤيده أن أصول "الوسيط" كلها وهي "تعليقة القاضي الحسين" و"النهاية" و"الوسيط" ذكروه كذلك، ولم يحك أحد منهم خلافًا، وقد تقدم في الخطبة أن أصول "الوسيط" أربعة: هذه الثلاثة و"الإبانة" للفوراني، ولم يتعرض لها الفوراني بالكلية. قوله: فرع: في "الوسيط" أن القاضي إذا حكم بالحق وشافه به واليًا غير قاضي ليستوفي فله أن يستوفي في محل ولاية القاضي، وكذا خارجه على الصحيح؛ لأن سماع الوالي مشافهة كشهادة الشهود عند القاضي. انتهى كلامه. وهذا الفرع قد ذكره الإمام في "النهاية"، فأخذه منه الغزالي ناقلًا له على غير وجهه فقلده فيه الرافعي، ثم إن النووي تبع الرافعي عليه وزاد فلم يسنده إلى الغزالي بالكلية فزاد الأمر فسادًا، فإن الإمام في "النهاية" قد قال في أثناء باب مكاتبة القاضي إلى القاضي ما نصه: فلو كتب إلى ذي ولايته وليس إليه القضاء، فلا يملك أيضًا استيفاء الحق من حيث إنه لا يتواصل إلا بسماع الشهادة، وسماعها من منصب القضاء كما تقدم، فلو وقف القاضي شرقي بغداد على طرف ولايته ونادى والي الغربي وليس قاضيًا: بأني قضيت على فلان ببينة أو إقرار فاستوف ذلك الحق منه، فالوجه عندنا: أنه لا يستوفي أيضًا، فإنه ليس إليه سماع قول القاضي كما ليس إليه سماع شهادة الشهود، ويتجه أن يستوفيه من جهة أن القضاة قد يستعينون بالولاة وينقدح في ذلك فرق: فإن القاضي إذا استعان بالولاة الذين في محل ولايته يتحتم على الولاة طاعتهم، لأن حكمه نافذ عليهم،

وإذا كانت الولاة في غير ولايته فلا حكم له عليهم وإنما هو سماع وإبلاغ، وذلك الوالي ليس من أهل السماع. هذا كلامه. وقد تلخص منه: أن المتجه عنده أنه لا يستوفيه الوالي الخارج عن ولايته، ثم بعد ذلك بين أن مقابله له وجه في الجملة، فقال: ويتجه أن يستوفيه، ثم إنه ضعف التوجيه المذكور بما أبداه من الفرق. إذا علمت ذلك فلنذكر أيضًا عبارة "الوسيط" فإنها شارحة لما نقله عند الرافعي ودافعة لتوهم صحة ما قاله بعض الشارحين من أن الغزالي فرض المسألة في صورة غير [الصورة] (¬1) التي فرضها الإمام وموضحة لما ذكرنا من نقل كلام الإمام على غير وجهه، فنقول: قال الغزالي ما نصه: فإن شافهه الوالي جاز له الاستيفاء في بلدة هي من ولاية القاضي، فإن كانت خارجة عن ولايته ففي وجوب استيفائه نظر؛ لأنه لا ولاية له على تلك البقعة، ولكن الصحيح وجوبه، ثم قال: أما المشافهة فهو أقوى لكن بشرط أن يكون كل واحد منهما في محل ولايته، بأن يكونا قاضيي بلدة واحدة على العموم، أو شقي بلدة فيتناديان من الطرفين. هذه عبارته. وهو ما نقله عنه الرافعي، ولا شك أن الرافعي لم يطلع هنا على كلام "النهاية"، إذ لو اطلع لم يقتصر على كلام "الوسيط" لاسيما مع مخالفته، وقد تلخص أن كلام "الوسيط" فيه هذه الوقفة، وكلام "النهاية" سالم عن الريبة ومتجه من جهة المعنى فليؤخذ به، وقد أطلق في "الروضة" تصحيح ما قاله الغزالي ولم يسنده إليه، وبالغ فعبر بالصحيح لا بالأصح، فوقع في خللين: أحدهما: إيهامه أن المسألة فيها وجهان للأصحاب، مع أنه ليس فيها إلا احتمالان للإمام، والغزالي حكى في "البسيط" احتمالين من غير تصريح ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بترجيح، ثم إنه لخص ذلك في "الوسيط"، ورجح أيضًا فقال: ففي وجوب استيفائه نظر، لأنه لا ولاية له على تلك البقعة، ولكن الصحيح وجوبه لأن سماع الوالي بالمشافهة كسماع قاض آخر شهادة الشهود، هذه عبارة "الوسيط". فعبر الرافعي بالصحيح كما عبر الغزالي وليس لهما فيه اصطلاح، فقد يكون ذلك من وجهين وقد يكون من احتمالين في المسألة، فأطلق النووي التصحيح ولم يعزه إلى الغزالي مع كونه قد اصطلح على ما اصطلح فلزم ما ذكرناه من الخلل. الثاني: إيهامه أن هذا الترجيح -المنقول عن الغزالي المشتمل على ما ذكرناه من احتمال الغلط- من الأحكام المشهورة في المذهب المقررة بين أهل المسألة عندهم، وأن الخلاف فيها ضعيف. قوله: قال -يعني في "الوسيط"-: ولا يكاتب القاضي وليًا غير قاضي؛ لأن الكتاب إنما يثبت بشهادة الشهود، ومنصب سماع البينة يختص بالقضاة. نعم إن كان الوالي صالحًا للقضاء وجعل له النظر فيه بنفسه وفي تقليده من يراه فيجوز مكاتبته، نص عليه في "المختصر". انتهى كلامه. وما ذكره من الجزم بأن سماع البينة يختص بالقضاة قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، ثم صحح بعد ذلك من "زوائده" خلافه ذكر ذلك قُبيل الباب الرابع في الشاهد واليمين وسأذكر لفظه هناك، وقد صرح بالمسألة بخصوصها جماعة منهم الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" والفوراني في "الإبانة" ولنذكر لفظ الماوردي فإنه أبسط، فقال: يجوز أن يكتب إلى أمير البلد بما حكم به، ويجوز أن يكتب أيضًا إلى قاضيها، فإن كتب برفع يد عن عين: فالأمير أولى، وإن كتب باستيفاء دين فالقاضي: أولى لأن القاضي بإلزام الحقوق أخص، قال: ولا فرق في هذين القسمين

بين أن تكون بلد الأمير داخلة في ولاية القاضي أم لا، ثم قال بعد ذلك بنحو كراس: مسألة: قال الشافعي - رضي الله عنه -: وكتاب القاضي إلى الخليفة والخليفة للقاضي والقاضي للأمير والأمير للقاضي إذا تعلقت بأحكام وحقوق لا تثبت إلا بالشهادة بالتحري والأداء، فأما كتبهم في الأوامر والنواهي، والكتب إليهم في الأعمال والأقوال فمقبولة على ما جرت به العادة في أمثالهم من ختمها وإرسال الثقات بها، لأن الهيبة [لا تمنع] (¬1) من التزوير فيها، وما زور منها يظهر والاستدراك فيها ممكن، انتهى موضع الحاجة من كلامه. قوله: وإذا ادعى بعين غائبة يؤمن الاشتباه فيها كالعقار والعبد والفرس المعروفين، فالقاضي يسمع البينة ويحكم ويكتب إلى قاضي بلد المال ليسلمه إلى المدعي، وإن لم يؤمن فيها الاشتباه فهل يسمع البينة على عينها وهي غائبة؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وبه قال المزني ورجحه طائفة من الأصحاب منهم أبو الفرج الزاز. والثاني: نعم، وهو اختيار الكرابيسي والإصطخري، ورجحه ابن القاص وأبو علي الطبري، وأجاب به القفال في "فتاويه". انتهى. والمرجح هو السماع، فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه أقرب الوجهين، وفي "الشرح الصغير": إنه أرجحهما، وصححه النووي في "الروضة" بعد هذا بقليل ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: ثم إن كان الكتاب بسماع البينة فقط انتزع المكتوب إليه المال وبعثه إلى الكاتب ليشهد الشهود على عينه، وفي طريقه قولان: أشهرهما: يسلمه إلى المدعي ويأخذ منه كفيلًا ببدنه، وتختم العين عند ¬

_ (¬1) في ب: تمنع.

تسليمها بختم لازم، ثم قال: وأخذ الكفيل ختم والختم ليس بحتم، كذلك حكى المتلقي عن أبي بكر الأرغياني الإمام. انتهى. وهذه المسألة قد ذكرها الغزالي وجزم أن الختم احتياطًا، وحكى في وجوب أخذ الكفيل وجهين، وجزم في "الروضة" بما قاله الأرغياني ولم يعزها إليه، وما ذكرته من التعبير بالأرغياني وقع كذلك في بعض نسخ الرافعي، وفي بعضها التعبير بالريحاني، وقد سبق إيضاح ذلك في الكلام على الأسماء فراجعه. قوله: فلو كانت جارية فثلاثة أوجه: أحدها: أنها كالعبد. والثاني: لا تبعث أصلًا. والثالث: تُسلّم إلى الأمين في الرفقة لا إلى المدعي، وهذا حسن. انتهى. قال في "الروضة": هذا الثالث هو الصحيح أو الصواب. قوله: الحالة الثانية إذا كانت العين غائبة عن مجلس الحكم والخصم حاضر فيؤمر بإحضارها ليقيم البينة على عينها ولا تسمع الشهادة على الصفة، هذا هو الجواب في "فتاوى القفال" تشبيهًا بما إذا كان المدعى عليه حاضرًا في البلد لا تسمع الشهادة وهو غائب عن مجلس الحكم. واعلم أن في هذه الصورة المشبهة بها خلافًا سيأتي من بعد، ويشبه أن يجيء ذلك الخلاف هنا أيضًا، فإن جاء انتظم أن يرتب فيقال: إن لم يسمع البينة على الغائبة فعلى الحاضرة أولى وإلا فوجهان: انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا البحث وهو يقتضي أنهما لم يقفا في ذلك على نقل، وقد صرح الإمام بأن ذلك الخلاف لا يجري هنا وفرق. قوله: في أصل "الروضة": ثم قال العراقيون والبغوي وغيرهم: إذا

نقل المال المدعى إلى بلد القاضي [الكاتب] (¬1) ولم يثبت كونه له لزم المدعي مع مؤنة الرد أجرة المثل لمدة الحيلولة، ولم يتعرضوا لذلك في مدة تعطل المنفعة إذا أحضره المدعى عليه وهو في البلد، فاقتضى سكوتهم المسامحة، وقد صرح بهذا الاقتضاء الغزالي، والفرق بين الحالين: زيادة الضرر هناك. انتهى كلامه. وهو يوهم أن الغزالي فصل بين إحضاره من البلد أو من بلد آخر، وليس كذلك فاعلمه، بل أطلق الغزالي أن الأجرة لا تجب، حتى استدرك عليه الرافعي، فقال: ينبغى أن تحمل على الغائب عن المجلس دون البلد حتى يوافق كلام الأصحاب. قوله: ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور لم يكلفه، بل يبعث إليه من يحكم بينه وبين خصمه، أو يأمره بنصب وكيل ليخاصم عنه، فإن دعت الحاجة إلى تحليفه بعث إليه من يحلفه، والعذر كالمرض وحبس الظالم والمنع منه. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على إطلاقه، ويظهر أن يكون محله في ما إذا لم يكن معروف النسب أو لم يكن عليه بينة، فإن كان معروفًا، وعليه بينة تسمع الدعوى عليه والبينة وحكم، لأن المرض كالغيبة في سماع شهادة الفرع فكذا في الحكم عليه، وقد صرح بذلك البغوي. قوله: فإن لم يكن في البلد، نظر إن غاب إلى مسافة بعيدة جاز ويحكم عليه وفي البعيدة وجهان: أحدهما: مسافة القصر. وأرجحهما على ما ذكره صاحب "الكتاب": ما فوق مسافة العدوى ومسافة العدوى هي التي يمكن المبكر إليها من الرجوع إلى مسكنه ليلًا. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

والراجح: هو الثاني، فقد أطلق في "المحرر" و"الشرح الصغير": أنه أرجح الوجهين، ولم ينقله عن الغزالي كما فعل في "الكبير"، وصححه أيضًا النووي في "المنهاج" و"أصل الروضة". قوله: وإن لم يكن في مكان المطلوب نائب فثلاثة أوجه: أحدها وبه أجاب أصحابنا العراقيون: أنه يحضره قربت المسافة أو بعدت. والثاني: إن كان على دون مسافة القصر فيحضره وإلا فلا. والثالث: إن كان على مسافة العدوى أحضره، وإن زادت فلا، وهذا أظهر عند الإمام، وهو الذي أورده في "الكتاب". انتهى. وهذا الكلام مقتضاه رجحان الأول، لكن كلام "المحرر" مقتضاه رجحان الثالث فإنه قال ما نصه: والذي رجح أنه إن كان على مسافة العدوى فيحضره فإن زادت فلا، وكلام "الشرح الصغير" يقتضي رجحانه أيضًا، وعبَّر في "المنهاج": بالأصح، وأبقى [كلام الرافعي] (¬1) في "الروضة" على ما هو عليه. قوله: والمرأة المخدرة هل تكلف حضور مجلس الحكم؟ فيه وجهان: أحدهما -ويحكى عن القفال: نعم، كسائر الناس. ثم قال: وأظهرهما وبه قال أبو حنيفة: لا تكلف كالمريض، وسبيل القاضي في حقها كما سبق في المريض، واستشهدوا لهذا الوجه بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة العسيف: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬2) بعث إليها ولم يحضرها. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه البخاري (2575) ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما-.

وقد سبق في المريض ونحوه أن القاضي يبعث إليه بسماع الدعوى والتحليف. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن عدم إخراج المخدرة للتحليف محله إذا لم يكن في اليمين تغليظ بالمكان، فإن كان فالأصح في "الروضة": إخراجها، كذا ذكره في كتاب الدعاوي في الباب الثالث المعقود لليمين، وكلام الرافعي هناك يُشعر برجحانه غير أنه لم يصرح به. الأمر الثاني: أن إرسال أنيس - رضي الله عنه - قد اختلف فيه كلام الرافعي -رحمه الله- اختلافًا عجيبًا على ثلاثة أوجه: فجعله في كتاب الوكالة: وكيلًا، فقال: ويجوز التوكيل في استيفاء حدود الله تعالى لقوله: "واغد يا أنيس" وذكر الحديث. وجعله في كتاب اللعان: معرفًا لها ومخبرًا بأنها زنت، فقال في أثناء قوله: فروع مفرقة ما نصه: قال العلماء: وإنما بعث أنيسًا ليخبرها بأن الرجل قذفها ثانية لا ليفحص عن زناها. وجعله في هذا الباب: قاضيًا، وقد علمت لفظه، ولم يذكر في "الروضة" شيئًا من هذه المواضع، وقد نص الشافعي -رحمه الله- في "الأم" على المسألة، فقال بعد نحو أربعة أوراق من باب اللعان ما نصه: وإنما سأل المقذوف، والله أعلم للحد الذي يقع لها إن لم تقر بالزنا، ولم يلتعن الزوج هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته. وهذا الباب هو بعد باب الخلاف في خيار الأمة. الثالث: أن هذا الكلام يقتضي سماع الدعوى في حدود الله تعالى، والمسألة قد اضطرب فيها كلامه وكلام "الروضة" أيضًا، وستعرفه واضحًا

في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. قوله: وأما ما لا يتعين له مالك، وحصل اليأس من معرفته، فذكر بعضهم أن للقاضي أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى المصالح، وأن له حفظه، قال في "الروضة": وقد قاله جماعة ولا يعرف خلافه. انتهى. وقريب من هذه المسألة ما إذا كان عنده مال لشخص وغاب المالك وانقطع خبره، فإنه يدفعه إلى قاض يثق به، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده، كذا نقله الرافعي في كتاب الشهادات عن العبادي والغزالي في غير الكتب الفقهية.

الباب الرابع: في القسمة

الباب الرابع: في القسمة قوله: ويشترط في القاسم أن يكون عالمًا بالمساحة والحساب، وحكى أبو الفرج الزاز وجهين في أنه هل يشترط أن يحسن التقويم لأن في أنواع القسمة ما يحتاج إليه؟ . انتهى كلامه. والراجح منهما: عدم الاشتراط، فقد جزم باستحبابه القاضي البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم، وحينئذ فإن لم يكن عارفًا سأل من عدلين عن قيمة ما يقسمه إذا احتاج إليه، وسكت في "الشرح الصغير" و"المحرر" عن عدِّه من جملة الشروط، فدل على عدم اشتراطه. قوله: ولا يشترط في منصوب الشركاء العدالة والحرية، فإنه وكيل من جهتهم كذلك أطلقوه، وينبغي أن يكون العبد في القسمة على الخلاف في توكيله في البيع والشراء. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا البحث وفيه أمران: أحدهما: أن الخلاف المذكور محله في ما إذا كان التوكيل بغير إذن السيد، كذا ذكره الرافعي في باب معاملات العبيد، وحينئذ فلا يحسن في تقرير هذا البحث نصب الخلاف في اشتراطه الحرية، فإنها لا تشترط جزمًا، بل الصواب نصبه في الافتقار إلى إذن السيد. الأمر الثاني: أن الرافعي علل هناك عدم الجواز بتعلق العهدة بالعبد، والظاهر: أن ذلك المعنى لا يأتي هنا. قوله: ولو حكم الشركاء رجلًا ليقسم بينهم، قال أصحابنا العراقيون: هو على القولين في التحكيم، إن جوزناه فالذي حكموه كمنصوب القاضي. انتهى كلامه.

سكت هو و"النووي" عما إذا لم نجوز التحكيم، والحكم فيه: أنه لا يبطل بل يصح ويكون وكيلًا، حتى لا تشترط فيه العدالة، كذا ذكره في "الشرح الصغير"، ويظهر أنه كان هكذا في "الكبير"، ولكن سقط ذلك من النُّسخ. قوله: ويجب على الإمام أن يرزق قاسمًا من سهم المصالح، فإن لم يكن فيها فضل فلا يتعين قاسمًا لئلا يغالي في الأجرة، ولئلا يواطئه بعضهم فيحيف، بل يدع الناس ليستأجروا من شاؤوا. انتهى كلامه. لم يبين هل المنع من التعيين على جهة التحريم أم لا؟ وقد اختلفوا فيه: فقال القاضي الحسين: إنه حرام، وقال الفوراني: إنه مكروه. قوله: ولو استأجروا قاسمًا وسمى كل واحد أجرة التزمها، فله على كل واحد ما التزم، هذا إذا استأجروا جميعًا، بأن قالوا: استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان وبدينارين على فلان مثلًا، أو وكلوا وكيلًا عقد لهم كذلك. فلو استأجروا في عقود مرتبة فعقد واحد لإقرار نصيبه، ثم الثاني كذلك، ثم الثالث، فقد جوزه القاضي حسين، وأنكره الإمام وقال: هذا بناء على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القاسم لإقرار نصيبه، ولا سبيل إليه لأن إقرار نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في نصيب الآخرين ترددًا وتقديرًا، ولا سبيل إليه إلا برضاهم، لكن يجوز انفراد أحدهم برضى الباقين، فيكون أصيلًا ووكيلًا ولا حاجة إلى عقد الباقين. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا وفيه أمور: أحدها: أن التصور الأول قد ذكره القاضي أبو الطيب، وغيره ومعناه: أن كل واحد يعقد بنفسه خاصة، ويسمى ما عليه، إلا أن لفظ الجميع وقع دفعة واحدة، وليس المراد أن كل واحد يعقد لنفسه ولغيره، وإلا جاء المحذور الآتي بعد هذا من كونه ليس وكيلًا.

الأمر الثاني: أن ما ذكره الإمام من المنع محله في غير صورة الإخبار، كذا صَرّح هو به في "النهاية". الأمر الثالث: أن المعروف هو ما قاله القاضي حسين، وقد لخص في "الكفاية" بعضه، فقال: ولو استأجر كل واحد منهم القاسم في حقه خاصة دون شركائه، قال الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم: جاز بلا خلاف عندنا وعليه نص الشافعي. هذا كلامه، ثم ذكر عقيبه ما قاله الإمام وأن الغزالي تبعه عليه. قوله: فلا يُكسر جوهر نفيس، ولا يُقطع ثوب رفيع، ولا يُقسم زوجا خف، أو مصراعا باب إن طلبه أحدهما، فإن تراضيا بقسمته وطلبوها من القاضي، فإن بطلت المنفعة بالكلية لم يجبهم ويمنعهم أن يقتسموها بأنفسهم لأنه سفه، وإن نقصت كَسَيْف يكسر لم يجبهم في الأصح، لكن لا يمنعهم أن يباشروا القسمة. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من امتناع ذلك على القاضي وأنه لا يمنعهم، وتابعه عليه في "الروضة" أيضًا قد ذكر مثله في كتاب الصلح في قسمة الجدار طولًا، قال: لا يجيبهما إليه؛ لأنه إتلاف ولكنهما يباشرانه بأنفسهما إن أرادا، كما لو هدما الجدار واقتسما نقضه، والذي ذكروه مشكل، لأنه إن لم يكن حرامًا: يمتنع على القاضي ذلك، وإن كان حرامًا: فليس له التمكين منه ويتفرع على ما ذكره فرعان فيهما نظر: أحدهما: لو كان القاضي أحد الشريكين. والثاني: لو فوضا القسمة إلى ثالث فهل يكون كالقاضي أم لا؟ وهذه المسألة قد تكلموا أيضًا فيها في البيع فينبغي هناك استحضار ما ذكروه هاهنا فيها.

قوله في "الروضة": وإذا لم يكن في القسمة تقويم كفى قاسم واحد على المذهب، وقيل: قولان: ثانيهما: يشترط اثنان. انتهى كلامه. وما ذكره من تصحيح طريقة القطع، قد خالفه في "المنهاج" فجزم بطريقة القولين. اعلم أن ما في "الروضة" مخالف لكلام الرافعي فإن حاصل المذكور فيه: إنما هو ترجيح طريقة القولين، فإنه قد قال: وإذا لم يكن في القسمة تقويم فيكفي قاسم واحد أم لابد من اثنين؟ فيه قولان، ووجّها بأن منصب القاسم منصب الحاكم أو منصب الشاهد؟ والأصح: الأول، ولم يجب المعظم إلا به وقطع به قاطعون. هذا لفظه. فتوهم النووي أنه أراد بقوله: أن المعظم أجابوا به حكاية الطريقة القاطعة وهو كثيرًا ما يتوهم ذلك، ويدفعه هنا حكايته بعد ذلك لطريقة القطع وجزمه أولًا بحكاية قولين؛ ولهذا جزم في "المحرر" بذلك وصححه في "الشرح الصغير" فقال بعد حكاية القولين: والأصح الأول، وقطع به بعضهم. قوله: وقول "الوجيز": وإن كانت بالإخبار فهل يشترط العدد في القاسم؟ فيه قولان، يجوز أن يعلم لفظ القولين بالواو لقطع من قطع بالاكتفاء بواحد، وتخصيص القولين بقسمة الإخبار لم يتعرض له في "الوسيط" بل أطلقها، وكذلك فعل الروياني، فيمكن أن يقال: أشار بهذا التقييد إلى أن الشركاء لو فوضوا القسمة إلى واحد بالتراضي جاز لا محالة، لأنه وكيل من قبلهم. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن مقتضاه أنه لم يقف في ما أفهمه كلام الغزالي على نقل، وقد صرح بذلك الماوردي في "الحاوي" والروياني وغيرهما، وقالوا: إنه

يكفي فيه الواحد بلا خلاف، وسأذكر لك لفظ الروياني عقب هذا. وقد جزم في "الروضة" بما فهمه الرافعي [فجزم به نقلًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره من كون الروياني أيضًا قد أطلق ذلك ولم يقيده، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة"] (¬1) وهو عجيب، فقد صرح الروياني في "البحر" بالتقييد المذكور فقال: فأما العدد، فإن تراضوا فالعدد على ما اتفقوا عليه من واحد أو اثنين. ثم قال: وإن أمر الحاكم بالقسمة ولم يكن فيها تعديل ولا تقويم فقولان. هذا كلامه. وزاد على ذلك فحكى قبله بقليل أن ذلك جائز، وإن كان القاسم عبدًا أو فاسقًا، وكلامه في "الحلية" يشعر أيضًا بما صرح به في "البحر"، وكأن الرافعي اقتصر هنا على "الحلية" غير متأمل له أيضًا. قوله في "الروضة": ثم إن استأجر الشركاء قاسمًا وسموا له أجرة وأطلقوا، فتلك الأجرة توزع على قدر الحصص على المذهب، وقيل: قولان: ثانيهما: على عدد الرؤوس. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يصحح شيئًا من الطريقين بالكلية لا في "الكبير" ولا في "الصغير"، وجزم في "المحرر" بطريقة القولين، وتبعه عليه في "المنهاج". الثاني: أن تصحيحه لطريقه القطع مناقض لما جزم به في "المنهاج" كما ذكرناه. قوله: وإذا كان لواحد النصف وللثاني الثلث وللثالث السدس، فيجري القاسم المقسوم على أقل السهام وهو السدس، فيجعله ستة أجزاء في ست ¬

_ (¬1) سقط من ب.

رقاع ويخرجها على الأسماء، فإذا بدأ باسم صاحب النصف فإن خرج الأول باسمه فله الأول والثاني والثالث، فإن خرج الثاني فكذلك، فيعطي معه ما قبله وما بعده. انتهى. وما ذكره من أنه يعطي مع الثاني ما قبله وما بعده، تابعه عليه في "الروضة" وهو تحكم، فلم لا أعطي السهمان مما بعده ويتعين الأول لصاحب السدس والثاني لصاحب الثلث، وقد ذكر الرافعي نظير هذا في أمثلة، أو يقال: لا يتعين هذا بل يتبع نظر القاسم، كما قاله الرافعي أيضًا في نظائر لهذا، إلا أن يقال: إذا علمنا الطريق الأول أخذ الجميع بالقسمة. قوله: فإن خرج الثالث له -أي لصاحب النصف- ففي "شرح مختصر الجويني": أنه يتوقف فيه ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج الأول أو الثاني فله الأول والثاني ولصاحب النصف الثالث والرابع والخامس ويتعين السادس لصاحب السدس، وإن خرج الخامس -أي لصاحب- الثلث فله الخامس والسادس، ثم أهمل باقي الصور، وكان يجوز أن يقال: إذا خرج لصاحب النصف الثالث فهو له مع الذين قبله. وإن خرج الرابع: فهو له مع الذين قبله، ويتعين الأول لصاحب السدس، وإن خرج الخامس: فهو له مع الذين قبله، ويتعين السادس لصاحب السدس، وإن خرج السادس: فهو له مع الذين قبله، وإذا أخذ صاحب النصف حقه ولم يتعين حق الأخيرين أخرج رقعة أخرى باسم أحدهما فلا يقع تفريق. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي تفقهًا على ما قاله الشارح المذكور عند خروج الثالث لصاحب النصف وفي ما سكت عنه وهو باقي الاحتمالات، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو عجيب، وتحكم بغير دليل، فإنه ذكر في ما إذا خرج الثالث لصاحب النصف: أنه له مع السهمين قبله فيقال له:

لم لا قلت: أنه يعطي سهمًا قبله وسهمًا بعده ويتعين الأول لصاحب السدس والأخيران لصاحب الثلث، أو يعطي مع الثالث سهمين بعده ويتعين الأخير لصاحب السدس والأولان لصاحب الثلث؟ فإن قيل: يراعى ما يمكن معه القرعة في الجميع وقدمه على ما يتعين بحسب الواقع. قلنا: قد سلك عكس ذلك عند خروج الخامس كما سيأتي، وذكر أيضًا أنه إذا خرج الرابع له -أي: لصاحب النصف- أنه يعطي معه السهمان قبله، وأن الأول يتعين لصاحب السدس والأخيران لصاحب الثلث، وإن كان الرافعي لم يصرح بهما -أي بالأخيرين-، لكن علم ذلك من انحصاره بالواقع. إذا علمت ذلك فيقال أيضًا للرافعي في هذا القسم: لم لا عكست فجعلت له مع الرابع سهمين قبله، وينحصر الأول لصاحب السدس والأخيران لصاحب الثلث؟ أو جعلت له مع الرابع سهمًا قبله وسهمًا بعده، ويتعين السادس أيضًا لصاحب السدس والأولان لصاحب الثلث؟ . وذكر أيضًا أنه إذا أخرج الخامس له أي لصاحب النصف أنه يعطي معه سهمان قبله ويتعين السادس لصاحب السدس -أي ويتعين الأولان لصاحب الثلث- وسكت عنه لما ذكرناه. فيقال له: لم لا أعطيت مع الخامس سهمًا قبله وسهمًا بعده ثم يقرع بين صاحب السدس والثلث؟ لاسيما وهذا الطريق يؤدي إلى الإقراع بين الكل بخلاف ما ذكره هو، وهو إعطاء السهمين قبل الخامس فإنا لا نعمل معه بالقرعة كما سبق. والذي ذكره هنا عكس ما ذكره عند خروج الثالث، فإنه سلك هناك ما يفضي إلى القرعة وترك الطريق المفضية للتعيين من غير قرعة. قوله: ويمكن أن يبدأ بصاحب الثلث، فإن خرج له الأول أو خرج له

الثاني دفع إليه الأول والثاني معًا، وإن خرج له الخامس أو السادس فيدفعان إليه معًا ثم يخرج باسم أحد الأخيرين، فإن خرج له الثلث أعطى الثالث والثاني ويتعين الأول لصاحب السدس، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف، وإن خرج الرابع فله الرابع والخامس وتعين السادس لصاحب السدس والثلاثة الأول لصاحب النصف. انتهى كلامه. ذكر نحوه في "الروضة" وفيه إشكال يتوقف ذكره على شرح لفظه، فإن تركه ربما أدى بكثيرين إلى فهمه على غير ما هو عليه، فقوله: ثم يخرج باسم أحد الآخرين، هو بفتح الخاء المعجمة تثنية آخر، كما في قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (¬1). وأشار الرافعي بهما إلى الاثنين الباقيين وهما صاحب السدس والنصف، وهو عائد إلى الأقسام الأربعة، وهي ما إذا خرج الأول أو الثاني أو الخامس أو السادس. وتعبيره عقبه بقوله: فإن خرج. . . . إلى آخره هو بالواو وهو بقية أقسام صاحب الثلث. إذا علمت ذلك فنعود إلى ذكر الإشكال فنقول: تعبيره بقوله في جواب الأربعة: ثم يخرج باسم أحد الأخيرين، حاصله أنه مخير بين أن يخرج باسم صاحب النصف أو لصاحب السدس وهو مشكل؛ لأنه إذا بدأ باسم صاحب السدس فقد يخرج له الربع؛ وذلك يؤدي إلى تفريق حق صاحب النصف، فإنه لا يبقى له إلا الثلث، والخامس والسادس بخلاف ما إذا بدأ بصاحب النصف، فإنه لا يؤدي إلى محذور. قوله: أما إذا جرت القسمة بالتراضي بأن نصَّبا قاسمًا أو اقتسما بأنفسهما، ثم ادعى أحدهما غلطًا، فإن لم يعتبر الرضى بعد خروج القرعة ¬

_ (¬1) سورة المائدة (106).

فالحكم كما لو ادعى الغلط في قسمة الإجبار، وإن اعتبرناه وتراضيا. . . . إلى آخر ما ذكره. وهذا الخلاف الذي أحال عليه وهو الخلاف في اعتبار التراضي إذا اقتسما بأنفسهما، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وليس له ذكر في كلامه في هذا الباب بالكلية، بل في تعليق البندنيجي التصريح بأنه لابد من رضاهما بعد خروج القرعة بلا خلاف، وذكر -أعني: الرافعي- بعد هذا بأوراق وهو في الكلام على القاعدة الثانية حكاية القولين في ما إذا تراضيا بقاسم، ثم نقل عن الشيخ أبي حامد الجزم بالاشتراط في ما إذا اقتسما بأنفسهما، وأسقطه من "الروضة"، وذكر في "المهذب" نحو هذا، وكذلك في "النهاية" أيضًا فقال: لابد في هذه الصورة من الرِّضى؛ إذ لا متوسط بينهما حتى تكون قسمته مستندة لرضاهما، ثم قال: هذا هو الظاهر، وفيه احتمال. وذكر القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما ما هو أبلغ منه فقالوا: إذا نصبوا من يقسم بينهم وكيلًا عنهم لا بالتحكيم، فلابد من التراضي بعد خروج القرعة بلا خلاف. وبالجملة: فقد تظافرت النقول على بطلان ما قاله الرافعي هنا، وقد وقع في "التنبيه" هنا شيء غريب، فإنه جزم بعدم الاشتراط وحكى الخلاف في ما إذا نَصَّبا قاسمًا، واعترض عليه في "الكفاية" وقال: إنه لم يره في غير "التنبيه"، وحيث اشترط التراضي فهل هو كخيار العيب حتى يكون على الفور أو كخيار المجلس؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي. قوله: وإذا قُسِّمَت التركة بين الورثة ثم ظهر دين، فإن جعلنا القسمة إقرار حق: فهي صحيحة ثم تباع الأنصباء في الدين إن لم يوفوه، وإن جعلناها بيعًا: ففيه خلاف سبق في آخر الرهن، والأظهر صحته. انتهى.

تابعه عليه في "الروضة" ومقتضاه أن القسمة صحيحة على القول الأول سواء حصل الوفاء أم لا، والذي قاله العراقيون "والبغوي" أن القسمة تنقض لوفاء الدين. قوله: ولو جرت قسمة ثم استحق من المقسوم جزء شائع كالثلث [بطلت] (¬1) القسمة في المستحق، وفي الباقي طريقان. قال أبو علي بن أبي هريرة: إنه على الخلاف في تفريق الصفقة، وهذا ما أورده في "الكتاب" وبه أخذ أكثرهم. وقال أبو إسحاق: تبطل القسمة قولًا واحدًا، وبه أجاب الروياني في "الحلية"؛ لأن المقصود من القسمة وهو التمييز لم يحصل. انتهى. ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" لما اختصر هذا الكلام لم يذكر في الطريق الأول أنه على الخلاف في تفريق الصفقة، بل عبر بقوله: وفي الباقي طريقان، أصحهما قولان: أحدهما: تبطل به. والثاني: تصح ويثبت الخيار، وبهذا الطريق قال الأكثرون. وقال أبو إسحاق: تبطل فيه قولًا واحدًا. هذا لفظه من غير زيادة عليه، فلزم منه عدم معرفة الصحيح في المسألة. الأمر الثاني: أن ما نقله هاهنا عن الأكثرين من تخريجه على تفريق الصفقة حتى يكون الأصح فيه الصحة عجيب جدًا وغلط فاحش، فقد أمعنت النظر في كلام الأصحاب فوجدتهم على ثلاثة أقسام: قسم لم يصرح بالمسألة بالكلية، وهم جماعة منهم ابن سراقة في "التلقين" والفوراني في "العمد" و"الإبانة". ¬

_ (¬1) سقط من ب.

وقسم ذكرها ولم يصرح فيها بتصحيح، منهم القاضي أبو الطيب والدارمي في "الاستذكار" والشيخ في "المهذب" وابن الصباغ في "الشامل" والبغوي في "التهذيب" والشاشي في "الحلية" وشريح الروياني في كتابه المسمى "بالروضة" وصاحب "البيان" وصاحب "الذخائر" والعراقي شارح ["المهذب"] (¬1) وغيرهم. وقسم ذهبوا إلى البطلان وهم الأكثرون، منهم الشيخ أبو حامد في "التعليق" وأبو علي البندنيجي في تعليقته المعروفة المسماة "بالجامع" وعبر فيها: بالمذهب، وسليم الرازي، وعبّر في "المجرد": بالصحيح، والمحاملي وعبّر في "المقنع": بالأصح، والماوردي في "الحاوي" وعبّر: بالجمهور، والشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" وأبو نصر البندنيجي في كتابه "المعتمد" جازمًا به، وقال الخوارزمي في "الكافي" والروياني في "البحر": إنه الأصح، وجزم به في "الحلية". وقال أبو عبد الله الحسين الطبري في "العدة": إنه الصحيح، وقال ابن عصرون في "الانتصار": إنه الأصح، وجزم به في "المرشد" وفي كتابه المسمى "بالتنبيه"، وذكر نحو ذلك جماعة أيضًا، منهم القاضي الحسين في "تعليقه" وأبو منصور التميمي في كتابه المسمى "بالمسافر" فإنهم جزموا ببطلان القسمة بخروج شيء مستحق، ولم يفصلوا بين المعين والشائع، فهذه كتب الأصحاب شاهدة على بطلان ما وقع في الرافعي هنا وتابعه عليه في "الروضة". والسبب في وقوع الرافعي في ما وقع فيه أن الإمام قال: ذكر العراقيون في ذلك قولين وخرجوهما على تفريق الصفقة. هذه عبارته من غير زيادة عليها، وهي عبارة توهم الواقف عليها أن العراقيين اقتصروا على هذه ¬

_ (¬1) في ب: التنبيه.

الطريقة، وكأنه أراد أنه وقع ذكرها في كتبهم، وإلا فنقول: العراقيون كلهم -كما قدمته لك قاطبة- تغلط ما نسب إليهم، ثم إن الغزالي تابع إمامه على عادته فشرحه الرافعي مغترًا به وبإيهام كلام الإمام ولم يمعن [النظر في المسألة فوقع فيما وقع، ومما يدل على عدم إمعانه أنه اقتصر من] (¬1) النقول التي نقلها عن أعلام المذهب في كتبهم المبسوطة والمتوسطة والمختصرة على نقل ذلك عن "حلية الروياني" خاصة، والحاصل: أنه هاهنا لم ينظر غير "النهاية" و"الوجيز" و"الحلية"، وقد أوضحت لك بطلان مستنده وهو كلام الإمام الموهم. ولا شك أن المصنف قد لا يبسط في بعض الأوقات فيقلد فيقع في الغلط بسبب ذلك، فأحمد الله تعالى على التوفيق إلى الصواب. واعتمد ما ذكرته فقد راجعت في هذه المسألة من المصنفات ما لعله لم يسمع به الرافعي فضلًا عن وقوفه عليه، وقد ذكرت لك عبارات أكثرها. نعم صحح الجرجاني في "الشافي" و"التحرير" طريقة ابن أبي هريرة، وهي التخريج على تفريق الصفقة كما وقع في الرافعي، ورأيت مثل ذلك في "تتمة التتمة"، ولا اعلم أحدًا غير هذين إلا كلام الغزالي ومن تبعه لأجل الوهم أو الإيهام الواقع في كلام الإمام. قوله: وإن استحق معين نظر: إن اختص المستحق بنصيب أحدهما أو كان المستحق من نصيب أحدهما أكثر بطلت القسمة. انتهى كلامه. وما قاله من البطلان يستثنى منه ما إذا وقع في الغنيمة عين لمسلم أخذها منه الكفار ولم يعلم بها إلا بعد القسمة، فإنها ترد على صاحبها ويعوض عنها من وقعت في نصيبه من خُمْس الخُمْس ولا تُفْسخ القسمة، كما أوضحوه في بابه. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قوله: القسم الأول: قسمة التعديل فيما يعد شيئًا واحدًا كالأرض تختلف أجزاؤها لاختلافها في قوة الإنبات أو في القرب من الماء والبعد منه، فيكون ثلثها مثلًا بحوزته مثل ثلثها بالقيمة فيجعل هذا بينهما وهذا بينهما إن كانت بينهما بالتسوية، وفي الإجبار على هذه القسمة قولان جاريان عند اختلاف الجنس أيضًا كالبستان الواحد بعضه نخيل وبعضه كرم، والدار المبني بعضها بالآجر وبعضها بالخشب والطين، والراجح منهما عند صاحب "التهذيب": هو عدم الإجبار، لكن العراقيون وغيرهم رجحوا خلافه. ثم قال: واعلم أنه يشبه أن يكون الخلاف في الإجبار مخصوصًا به، فإن أمكن أن يقسم كل واحد منهما وحده فلا يجبر على قسمة التعديل كما لو كانا شريكين في أرضين يمكن قسمة كل واحد منهما بالآخر ألا يجري الإجبار على التعديل. انتهى كلامه. وفي البحث المذكور آخرًا أمران: أحدهما: في تقريره، فإن معناه بعيد عن الفهم مع كونه سهل التقرير مستورًا بشيء لطيف، وصدر البحث واضح، وأما عجزه فمعناه أنه بتقدير أن لا يكون الخلاف مخصوصًا بهذه الحالة فيجاب أيضًا بتخصيصه ويفتى به، فالحاصل: أن الفتوى عليه، أما مع عدم الخلاف أو مع إثباته، فقد صرح بذلك في "الشرح الصغير" فقال: ويشبه أن يكون [الخلاف في] (¬1) الإجبار مخصوصًا بما إذا لم يمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده، أو يكون قول الإجبار مخصوصًا به، فإن أمكن قسمة كل واحد منهما وحده فينبغي أن لا يجبر على قسمة التعديل، [هذا] لفظه. ولما أشكل هذا الموضع على الواقفين عليه تصرفوا في لفظه، ففي بعضها إسقاط هذا اللفظ، وهو فإن لم يكن الخلاف مخصوصًا، وكذلك ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أسقطه النووي من "الروضة" أيضًا. الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة" غريب جدًا فقد جزم به جماعة كثيرة منهم الماوردي في "الحاوي" والشيخ في "المهذب" والروياني في "البحر" والعمراني في "البيان". قوله: وأما الأقرحة. . . . . إلى آخره. هي بالقاف والراء والحاء المهملتين: مفردها قَراح -بفتح القاف- وهي المزرعة التي لا غراس فيها ولا بناء. كذا قاله الجوهري في فصل القاف، وذكر أيضًا في فصل الباء الموحدة أن البراح -بفتح الباء- هي الأرض الواسعة لا زرع فيها ولا شجر، فيجوز أن يقرأ كلام الرافعي بالوجهين. قوله: إحداهما: قسمة المتشابهات إقرار حق أو بيع؟ فيه قولان، قال صاحب "التهذيب" وآخرون: الأصح كونها بيعًا، وقال الغزالي في الرهن: الأصح كونها إقرارًا، قال صاحب "العدة": وعليه الفتوى. وهذا يوافقه جواب الأصحاب في مسائل مخرجة على القولين. انتهى. وحاصله ترجيح الإقرار، وقد ذكر نحوه في "الشرح الصغير" أيضًا وكذلك في "المحرر"، فإنه قال: فيه قولان، ذكر أن الفتوى على الإقرار. إذا علمت ذلك فقد صح في موضعين من هذا الكتاب أنه بيع على خلاف ما ذكره هنا: أحدهما: في زكاة المعشرات قبيل الكلام على الخرص بأسطر، فقال ما نصه: ولأن المقاسمة بيع على الصحيح، وبيع الرطب بالرطب لا يجوز، هذا لفظه وذكر أيضًا قبله ما يقتضيه.

والموضع الثاني: في باب الربا في الكلام على طريق المماثلة، فقال: فمن فروعه: أن يريد شريكان في شيء من مال الربا قسمته بينهما، وهو مبني على أن القسمة بيع أو إقرار حق؟ فإن قلنا بالأول، وهو [الصحيح] (¬1)، فلا تجوز قسمة المكيل بالوزن، ولا قسمة الموزون بالكيل، وما لا يباع بعضه ببعض كالعنب والرطب فلا يقسم أصلًا. وإن قلنا بالثاني: جاز، هذا لفظه. وقد اختلف كلام النووي أيضًا في المسألة، فقال في "المنهاج" هنا: الأظهر أنها إقرار، وقال في "زوائد الروضة" هنا: إنه المختار، وقال في "شرح المهذب" في الكلام على قسمة لحم الأضحية: الأصح جوازه، قال: لأن الأصح أن القسمة إقرار لا بيع، ثم خالف ذلك كله في باب الربا في الموضع المتقدم ذكره فقال: الأظهر أنها بيع. قوله: وفي محل القولين طريقان: أحدهما: أن القولين في ما إذا جرت هذه القسمة بالإجبار، أما إذا جرت بالتراضي فهي بيع لا محالة. والثاني: أنهما يطردان إن جرت بالتراضي أو بالإجبار، وحكى الطريقين صاحب "التهذيب" وقال: الأصح الأول. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب "التهذيب" من تصحيح الطريقة الأولى تابعه على نقله عنه في "الروضة" أيضًا وهو غلط، فإن الصحيح في "التهذيب": تصحيح الطريقة الثانية وهي طريقة القولين مطلقًا، فإنه قال بعد حكاية القولين وتصحيح كونها بيعًا ما نصه: والصحيح أنه لا فرق بين أن تكون قسمتها بالتراضي أو بالجبر، أنه على قولين، وقيل: القولان في ما إذا ¬

_ (¬1) في ب: الأصح.

اقتسما جبرًا، فإن كان بالتراضي فهو بيع له، قولًا واحدًا. هذا لفظ البغوي بحروفه فانعكس على الرافعي. قوله: لا يجوز قسمة الوقف عن الوقف، وأما قسمة الملك عن الوقف، فإن قلنا بيع: لا تجوز، وإن قلنا إقرار، جازت. قال الروياني [: وهو الاختيار. انتهى. قال في "الروضة": هذا الذي اختاره الروياني] (¬1) هو المختار، قال: وهذا إذا لم يكن فيها رد، وكان رد من أصحاب الوقف، فإن كان من صاحب الملك لم يجز، لأنه يأخذ مقابله جزءًا من الوقف، ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. واعلم أن كثيرًا من الأصحاب ذكر المسألة في كتاب الوقف. قوله: القاعدة الثانية: قسمة الإجبار لا يعتبر فيها التراضي لا عند إخراج القرعة ولا بعد خروجها، فلو تراضى الشريكان بقاسم يقسم بينهما فهل يعتبر التراضي بعد خروج القرعة أم يكفي الرضا الأول؟ فيه قولان كالقولين في ما إذا حكما رجلًا فحكم بينهما، والذي يميل إليه كلام المعتبرين: أنه يعتبر وذكر أنه المنصوص. انتهى. وما ذكره هنا من حكاية الخلاف قولين ذكر مثله في "الشرح الصغير"، ثم خالف في "المحرر" فجعله وجهين، فقال: والقسمة التي يجبر عليها إذا جرت بالتراضي هل يعتبر فيها تكرير التراضي بعد خروج القرعة؟ فيه وجهان رجح منها التكرير. انتهى. وعبارة "الروضة": وذكروا عوضًا عن قول الرافعي وذكروا بينهما تفاوت ظاهر. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واعلم أن النووي في "المنهاج" قد انعكست عليه المسألة فجعل الخلاف في ما لا إجبار فيه، [فقال في اختصاره لكلام "المحرر": ولو تراضيا بقسمة ما لا إجبار فيه] (¬1) اشترط الرضى بعد القرعة على الأصح. وهذا الكلام فيه اعتراض من وجوه: منها: ما ذكرناه. ومنها: أنه ذكر هذه المسألة بعينها قبل ذلك من غير فصل، فقال: ويشترط في الرد أيضًا الرضى بعد خروج القرعة، ثم قال: ولو تراضيا بقسمة ما لا إجبار فيه. . . . إلى آخره، والذي ليس فيه إجبار هو قسمة الرد فقط؛ لأن قسمة المتشابهات يجبر عليها قطعًا، وكذا التعديل على الصحيح. ومنها: أنه مع تكراره غاير في الجواب، فجزم به أولًا، وحكى فيه الخلاف ثانيًا وجعله قويًا فإنه عبر بالأصح. ومنها: أنه جعل الخلاف المذكور قويًا كما بيّناه، وهو عكس ما في "الروضة" فإنه جعل الخلاف ضعيفًا فعبر بالصحيح، والمذكور في "الروضة" هو الصواب، فإنهما في "الشرح" و"الروضة" لم ينقلا مقابله [إلا] (¬2) عن الإصطخري. قوله: ولا تجوز المهاياة في الحيوان اللبون ليحلب هذا يومًا وهذا يومًا، ولا في الشجرة المثمرة ليكون ثمرها لهذا عامًا ولهذا عامًا، لما فيه من التفاوت الظاهر. انتهى. وطريقهما والحالة هذه ما قاله في "الروضة": أن يتيح كل واحد نصيبه لصاحبه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

قوله: ولو تقدم جماعة في أيديهم دار أو أرض إلى القاضي فطلبوا القسمة قسمها ولم يقيموا عليه بينة، ففيه قولان: أصحهما عند الإمام وصاحب "الكتاب" وإليه ميل ابن الصباغ: أنه يجيبهم، والأصح عند الشيخ أبي حامد وطبقته: أنه لا يجيبهم ويدل عليه أن الشافعي لما ذكر القول الآخر قال: ولا يعجبني هذا القول. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن محل هذا الخلاف ما إذا لم يكن لهم منازع، فإن كان لم يجبهم قطعًا كما صرح به الماوردي والروياني وابن الرفعة وغيرهم، وعللوه بأن قسمة الحاكم إثبات لملكهم واليد توجب إثبات التصرف ولا توجب إثبات الملك. الثاني: أن الأصح من هذا الخلاف: أنه لا يجيبهم، كذا صححه النووي في "زوائد الروضة" و"تصحيح التنبيه"، وهذه المسألة مخرجة على أن تصرفات الحاكم هل هى حكم أم لا؟ وقد سبق الكلام على هذه القاعدة مطولًا في كتاب النكاح عقب الكلام على الموانع فراجعه.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات وفيه ستة أبواب: الباب الأول: في الصفات المعتبرة في الشاهد اعلم أن الرافعي قد ذكر في الباب ألفاظًا. منها: يوم بعاث: هو يوم مشهور كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وبعاث: اسم خص للأوس، وهو بباء موحدة مضمومة وعين مهملة وثاء مثلثة. ومنها: المعازف بعين مهملة وزاي معجمة وبالفاء في آخره، هي: الملاهي، والعازف هو الضارب بها، تقول منه: عزف يعزف عزفًا. ومنها: الحُداء، وهو الشِّعر الذي تساق به الإبل، هو بضم الحاء المهملة وبالمد وكسر الحاء لغة. ومنها: الصنج، بصاد مهملة مفتوحة ونون ساكنة وبالجيم، وهو معروف. ومنها: الزفن، اسم للرقص، وهو بزاي معجمة مفتوحة وفاء ساكنة وبالنون. ومنها: الشبب بالشيء -أي التعرض- به هو بشين معجمة وباءين موحدتين. ومنها: الرِّبقة، بكسر الراء وبالباء الموحدة وبالقاف، تقدم إيضاحه في أول قتال البغاة. ومنها: في الحديث: "لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنين في

قرابة" (¬1) أي: منهم، وروي: "ولا ذي غِمر على أخيه". أما الظنين: فإنه بالظاء المعجمة المشالة، قال الله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ (24)} (¬2) وقرئ بالضاد غير المشالة، وهو [البخيل]. والغِمر: بكسر الغين المعجمة، هو: الحقد والغل، يقال: غِمر صدره عليَّ -بالكسر يَغمر- بالفتح -غمرًا- بفتح الغين وكسرها. قوله: وعدّ صاحب "العدة" من الكبائر تقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها، ثم قال في آخر الكلام: إن في "التهذيب" حكاية وجه أن ترك الصلاة الواحدة ليس كبيرة، وإنما يفسق به إذا اعتاده. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن عدّه تقديم الصلاة على وقتها من ذلك لا تحقيق له؛ لأنه إن كان يعتقد الجواز فلا كلام فيه، وإن كان عالمًا بالمنع فالصلاة فاسدة، وحينئذ فإن صلاها في وقتها فالتحريم وقع لكونه أتى بصلاة فاسدة، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3601) وابن ماجه (2366) وأحمد (6698) والدارقطني (4/ 244) وعبد الرزاق (15364) والبيهقي في "الكبرى" (20355) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الحافظ: إسناده قوي. وقال الألباني: حسن. وأخرجه الترمذي (2298) والدارقطني (4/ 244) والبيهقي في "الكبرى" (20357) وابن عدي في "الكامل" (7/ 259) وابن حبان في "المجروحين" (3/ 100) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث. وقال الألباني: ضعيف. (¬2) سورة التكوير (24) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ومعنى (بظنين) أي: بمتهم. الحجة (6/ 380).

فينبغي التعبير به ولا يقتصر على هذه الصورة الشاذة النادرة، وإن لم يصلها في وقتها فالعصيان بالتأخير وبالصلاة الفاسدة أيضًا. الأمر الثاني: أن الصحيح في ترك الصلاة الواحدة أنه كبيرة، كذا جزم به الرافعي وغيره في الكلام على قتل تارك الصلاة، وكلامه وكلام "الروضة" هنا لا يؤخذ منهما تصحيح، ولم ينص عليها في "المحرر" ولا في "الشرح الصغير". قوله في "الروضة": ومنها -أي: من الكبائر- الدياثة والقيادة. انتهى. الدياثة بالثاء المثلثة بعد الألف هي أن يكون له جارية تغني فيجمع الناس عليها لسماع غنائها إما بإحضار الناس إليها أو بإحضارها إلى الناس، كذا فسره به الشافعي، واسم الفاعل منه دَيّوث. وفي الرافعي ذكر القيادة وتفسيرها بالتفسير المعروف، وهو الجمع بين الرجال والنساء، وقد فسر هذه الألفاظ في أواخر تعليق الطلاق بما لا يطابق المذكور هنا، فقال: قال في "التتمة": القواد من يحمل الرجال إلى أهله ويخلي بينهم، ويشبه أن لا يختص بالأهل، قال: وفيها أن القرطبان هو الذي يعرف من يزني بزوجته ويسكت عليه. وفيها أيضًا: أن الدَّيوث من لا يمنع الناس الدخول على زوجته، وقال في "الرقم": هو الذي يشتري جارية تغني للناس. هذا كلامه. قوله: ومن الصغائر -كما قاله صاحب "العدة"- السكوت على الغيبة، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه، وإمامة قوم يكرهونه لعيب فيه، والعبث في الصلاة، والضحك فيها والتغوط مستقبل القبلة أو في طريق المسلمين. انتهى موضع الحاجة من كلامه. فأما ما ذكره في السكوت على الغيبة فمناقض لما ذكره في تعداد الكبائر

فإنه جعل منها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مناقض لما نقله هاهنا من كونه من الصغائر، وإن كان هو الصواب؛ ولهذا توقف فيه الرافعي، وأما باقي المسائل فإن الرافعي قد نقل معها عن صاحب "العدة" مسائل أخرى، فاعترض عليه في بعضها وارتضى الباقى، وهذه المسائل من جملة ما ارتضاه وليس كذلك. فأما البيع والشراء في المسجد، فقد قال في كتاب الاعتكاف: إنه إن كثر فيكره ولا يحرم، وإن لم يكثر فلا يكره، وهذا مع ما قاله هناك في غاية التباين، إلا أن النووي قد خالفه هناك في ما إذا لم يكثر، وقال بالكراهة، ونقله عن نصه في "البويطي"، وأما إدخال الصبيان والمجانين فيه فعجيب، فقد جزم هو وغيره بإدخالهم في أشرف المساجد وهو المسجد الحرام، وقالوا: إنه يجوز أن يحرم عنه وليه ويطوف به، وأغرب منه تجويزه إدخال البهيمة فيه للطواف عليها من غير كراهة، وإن لم يكن لعذر، وأما الإمامة بمن يكره والعبث في الصلاة والتغوط في الطرق فمكروه على ما سبق في أبوابها، وكذا التغوط مستقبل القبلة، إن كان في البنيان، ولم يستدرك النووي عليه في إمامة من يكرهه، واستدرك عليه باقيها وقيد جواز إدخال الصبيان المساجد بما إذا لم يغلب تنجيسهم له. قوله من "زوائده": المختار أن تخطي الرقاب حرام للأحاديث فيه. انتهى. وما ذكره هنا من ترجيح التحريم مخالف لما سبق في باب صلاة الجمعة من "الروضة، و"شرح المهذب" وغيرهما، فإنه جزم فيها بالكراهة، وقد تقدم بسطه هناك فراجعه. قوله أيضًا من "زوائده": ومن الصغائر استعمال النجاسة في البدن لغير حاجة. انتهى. وتقييده بالبدن يشعر بالجواز في الثوب، وقد اختلف فيه كلامه كما

تقدم إيضاحه قُبيل صلاة العيد في باب ما يجوز للمحارب لبسه. قوله: وما هو الإضرار السالب للعدالة؟ أهو المداومة على نوع من الصغائر أم الإكثار منها سواء كانت من نوع واحد أو من أنواع مختلفة؟ يوافق الثاني قول الجمهور من تغلب طاعاته معاصيه كان عدلًا، وعكسه مردود الشهادة ولفظ الشافعي قريب منه، وإذا قلنا به لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الاحتمال الأول تضر. انتهى. هذا الكلام ظاهر الخلل، فإن مقتضى الاحتمالين: أن المداومة على نوع واحد مؤثر. وأما على الاحتمال الأول: فلأن السالب للعدالة شيء واحد وهو المداومة على النوع الواحد وقد وجد. وأما على الثاني: فلأن السالب أحد شيئين: أحدهما: الإكثار من النوع فإذا داوم عليه فقد وجد المقتضى لسلب العدالة أيضًا وهو أحد السببين، بل وجد ما هو أعم منه، فإن المداومة على الشيء أبلغ من الإكثار منه قطعًا، والذي يظهر أن ثمرة العبارتين إنما هى في المداومة على الصغيرة من أنواع إذا غلبت على الطاعات، فعلى الثاني يضر دون الأول، ووجه كونه لا يسلب أن الشخص يسبق عليه غالبًا إمساك نفسه عن المرة الواحدة من النوع، فلو سلبنا بها لانضمامها إلى مثلها من نوع ومثلها من نوع آخر لأدى إلى المشقة والحرج وندور من يتصف بالعدالة، بخلاف المداومة على النوع الواحد، فإن كف النفس عنه سهل، والإقدام عليه لا يعد فرطة وغفلة، ويدل على ما ذكرناه أنه قد خالف ما ذكره هنا، وجزم في مواضع بأن المداومة على النوع الواحد تصير كبيرة، منها في كتاب النكاح في الكلام على الأولياء، وفي كتاب الرضاع، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه، وفي "أدب القضاء" للدبيلي وجه: أن

الصغيرة لا تصير كبيرة بالإصرار عليها. قوله: ولو شغله اللعب بالشطرنج حتى خرج الوقت وهو غافل، فإن لم يتكرر منه ذلك لم ترد شهادته، فإن كثر وتكرر فسق وردت شهادته، ثم قال: هكذا ذكروه وفيه إشكال لما فيه من تعصية الغافل الساهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بسائر المباحات. انتهى كلامه. وهذا الإشكال الذي ذكره الرافعي ولم يجب عنه وتابعه عليه في "الروضة" قد ذكره الشافعي في "الأم" وأجاب عنه، وقال في شهادة أهل اللعب ما نصه: فإن قيل فهو لا يترك وقتها للعب إلا وهو ناس. قيل فلا يعود للعب الذي يورث النسيان فإن عاد له وقد جربه يورثه ذلك، فذلك استخفاف هذا لفظه بحروفه. قوله: وفي "المهذب" اشتراط التكرار في إخراج الصلاة عن الوقت وإن كان مع العلم وهذا خلاف ما قدمنا أن إخراج الفريضة عمدًا عن الوقت من الكبائر. انتهى كلامه. تبعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي أنه لم يتقدم له هناك ذكر هذا الوجه وليس كذلك بل قد صرح به فقال: وفي "التهذيب" حكاية وجه أن ترك الصلاة الواحدة إلى أن يخرج وقتها ليس بكبيرة وإنما ترد الشهادة به إذا اعتاده، هذا لفظه. وعذر الرافعي في عدم استحضاره هنا أنه لم يذكره هناك عند ذكره للصلاة، وإنما ذكره في آخر الكلام على الكبائر. واعلم أن في "مهذب الشيخ أبي إسحاق" الجزم بأنه صغيرة وفي "تهذيب البغوي" حكايته وجهًا فاعلمه واحذر من التحريف. قوله: وأما النرد فهو حرام في أصح الوجهين لقوله -عليه الصلاة والسلام-:

"من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير" (¬1)، قال: وعلى هذا فقد حكى الإمام عن الشيخ أبي محمد أنه من الصغائر، قال: والصحيح: أنه من الكبائر. انتهى كلامه. والصحيح ما قاله الشيخ أبو محمد، كذا رجحه الرافعي في آخر الفصل قبيل الكلام على شرب الحنفى النبيذ فقال: ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل كالنرد وسماع الأوتار واستعمال الحرير هل هو كبيرة أو صغيرة؟ فيه وجهان: ثم قال: يميل كلام الإمام إلى ترجيح أولهما، والأشبه الثاني، وهو المذكور في "التهذيب" وغيره. هذا لفظه. ورجحه أيضًا في "الشرح الصغير". والحديث المذكور رواه مسلم في صحيحه، والدال من النردشير مفتوحة كما اقتضاه كلام القاضي عياض في "مشارق الأنوار" على الكلام على النون مع الرواشين بالشين المعجمة المكسورة، هو أول ملوك الفرس، وكان قد وضع له النرد فنسب إليه. قوله: فروع: قال في "الأم": وأكره اللعب بالحزة والقرق، فالحزة قطعة من الخشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر ويجعل في الحفر حصى صغار يلعب بها، وقد تسمى الأربعة عشرة، [والقرق] أن يخط على الأرض مربع ويجعل في وسطه خطان كالصليب ويجعل على رؤوس الخط حصى صغار يلعب بها. واللفظ فيما رأيت بخط القاضي الروياني بفتح القاف والراء، وبعضهم قيد بكسر القاف وإسكان الراء، ولم أجدها في كتب اللغة بهذا المعنى. نعم في "الصحاح" أن القرق بكسر الراء، هو المكان المستوى ومعلوم أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2260) من حديث بريدة - رضي الله عنه -.

الخط للعب يقع غالبًا في المكان المستوي، فيمكن أن يكون ما نحن فيه من هذا وأن يكون اللفظ كما ذكره. وأما الحكم: ففي "الشامل": أن اللعب بهما كاللعب بالنرد، وفي "تعليق أبي حامد": أنه كالشطرنج، ويشبه أن يقال ما يعتمد فيه على إخراج الكعبين أي الحصا ونحوه فهو كالنرد، وما يعتمد فيه على الفكر فهو كالشطرنج. انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي ذكره -رحمه الله- في آخر كلامه يؤخذ منه ترجيح الجواز فيهما معًا، لأن الحزة بالحاء المهملة هي المسماة في إقليم مصر بالمنقلة، والقرق يسمى بشطرنج المغاربة، وكلاهما يعتمد فيه على الفكر لا على شيء يرمى، وقد أسقط النووي من "الروضة" هذا الترجيح، وكأنه سقط من قوله: كالشطرنج. . . . إلى قوله: كالشطرنج. قوله: وأما القسم الأول -أي: الغناء بمجرد الصوت- فهو مكروه وسماعه مكروه والسماع من الأجنبية أشد كراهة، وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه، وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل هو عورة؟ هذا هو المذهب المشهور في الغناء وسماعه، وحكى الزاز ووراؤه وجهين: أحدهما: أنه يحرم كثيره دون قليله. وثانيهما: أنه حرام على الإطلاق. انتهى. واعلم أن هذين الوجهين اللذين أشار إليهما بقوله ووراؤه وجهين، ليسا خاصين بالمرأة، وإلا لزم أن يكون الوجه الثاني منهما مكررًا. [وليسا أيضًا خاصين بالغناء، فإن مقتضى عبارة الرافعي المتقدمة جريانهما] (¬1) في السماع أيضًا. إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن ما ذكره من البناء على أن صورة المرأة هل هي عورة أم لا؟ ¬

_ (¬1) سقط من ب.

يقتضي اختصاص الخلاف في الغناء بالحرة، فإن صوت الأمة ليس بعورة بلا خلاف، والخلاف لا يختص بها، بل يجري في الأمة أيضًا وممن جزم بالتحريم في الأمة الغزالي. الثاني: أن ما صححه هنا في غناء المرأة من عدم التحريم، قد ذكر ما يخالفه في ثلاثة مواضع من هذا الكتاب: أحدها: في البيع. وثانيها: في الغصب. وثالثها: في الصداق، وقد سبق إيضاح ذلك في أوائل البيع فراجعه. الثالث: أن القاضي أبا الطيب قد نص في باب المصراة من تعليقته على الإباحة، وهو لا ينافي ما نقله عنه الرافعي، فإن مدلوله الحكاية عن غيره وهو كذلك فإن القاضي المذكور نقل عن الأصحاب تحريمه من المرأة مطلقًا، قال: سواء كانت حرة أو أمة، كذا رأيته في مصنف له في الغناء. وأما في هذا الباب من تعليقته فإنه صرح بسماعه من أمته، وقال: إنه لا يكره وسكت عن الأجنبية. ولا شك أن الزوجة في معنى الأمة، وكذا المحرم على ما ذكره في "الحاوي"، كذا ذكره في الكتاب الثاني من الكتابين المعقودين للشهادات. قوله: القسم الثاني: أن يتغنى ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب، كالطنبور والعود والصبح وسائر المعازف والأرقام يحرم استعماله واستماعه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه لم يصرح بالحكم في الغناء في هذه الحالة مع أن الكلام إنما سيق له وهو مراده بلا شك؛ ولهذا عبر في "المنهاج" بقوله: ويكره الغناء بلا آلة وسماعه.

الأمر الثاني: أن القياس في الغناء المضموم إلى الآلة المحرمة، تحريم الآلة فقط وبقاء الغناء على كراهته، ولكن وقع فيه تعارض عجيب تقدم إيضاحه في أواخر باب تعليق الطلاق فراجعه. وقد ذكر الإمام في الكلام على الشطرنج إذا انضم إليه بهتان أو ترك صلاة ونحو ذلك هذا الاعتراض بعينه وهو واضح. قوله: وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم والغزالي الجواز وهو الأقرب. انتهى. قال في "الروضة": الأصح أو الصحيح تحريم اليراع وهي التي يقال لها: الشبابة، ممن صححه البغوي وغيره، وقد صنف الدولعى كتابًا في تحريمه مشتملًا على نفائس والله أعلم. وفيما قاله في "الروضة" أمران: أحدهما: أن اليراع بفتح الياء المثناة من تحت وتخفيف الراء وبالعين المهملة جمع يراعة أو اسم جنس واحده يراعة، قاله النووي في "تهذيبه"، وقال الجوهري: اليراع القصب واليراعة القصبة. وإذا علمت ذلك علمت أن اليراع متعدد وحينئذ فلا يصح تفسيره بالمفرد وهي الشبابة بالباء. الثاني: أن نقل المنع من زوائده عن البغوي عجيب فقد ذكره الرافعي وليس ببعيد بل قبل ذلك بنحو سطر ثم إن المقام يقتضي أن النووي لو استحضر قائلًا بالتحريم غير من ذكره لصرح به. واعلم أن المنع قد رجحه الشيخ أبو حامد فقال: إنه القياس، وصححه الخوارزمي في "الكافي" وجزم به ابن عصرون، وأما الجواز فقال به الماوردي والخطابي والروياني ومحمد بن يحيى في "المحيط".

قوله: وأما القراءة بالألحان فقد قال في "المختصر": لا بأس بها وعن رواية الربيع بن سليمان الجيزي: أنها مكروهة، وليس في هذا اختلاف قول عند عامة الأصحاب، ولكن موضع الكراهة أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات حتى يتولد من الفتحة ألف ومن الضمة واو ومن الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الإدغام، فإن لم ينته إلى هذا الحد فلا كراهة، وفي "أمالي أبي الفرج" وجه: أنه لا كراهة وإن أفرط. انتهى كلامه. وقد تلخص منه أن المعروف في المذهب إنما هو الكراهة؛ ولهذا لم ينقل التحريم عن أحد بالكلية، ويؤيده أيضًا ما نقله الربيع المرادي في "الأم" عن الشافعي، فقال في باب شهادة القاذف الذي هو قبل كتاب القاضي ما نصه: قال الشافعي: ولا بأس بالقراءة بالألحان. هذا لفظه بحروفه، وقد ذكر الشافعي بعد هذا بكراريس بابًا آخر في شهادة القاذف، فلأجل هذا احترزت بالتقييد السابق. إذا علمت ذلك فقد قال في "الروضة" من "زوائده": والصحيح التحريم إذا أفرط على الوجه المذكور، صرح به صاحب "الحاوي" فقال: هو حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع لأنه عدل به عن نهجه القويم، وهذا مراد الشافعي بالكراهة والله أعلم. وإذا تأملت ما تقدم علمت أن تصحيح النووي في هذه المسألة ضعيف مخالف لكلام الشافعي والأصحاب فلا معول عليه، ثم إن القول بالتفسيق بتقدير التحريم مشكل لا دليل عليه بل الصواب على هذا التقدير أن يكون صغيرة. واعلم أن الربيع الجيزي لم يقع له ذكر في الرافعي إلا في هذا الموضع، والمتكرر إنما هو الربيع المرادي راوي "الأم"، والجيزي بجيم مكسورة منسوب إلى البلد المقابلة لمدينة مصر كما أوضحته في مقدمة الكتاب والطبقات.

قوله: بل المزمار العراقي وما يضرب به الأوتار حرام بلا خلاف. انتهى. وإطلاق عدم الخلاف في الأوتار تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، فقد حكى الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" وجهًا: أن العود بخصوصه حلال لما يقال: إنه ينفع من بعض الأمراض، بل رأيت في كتاب "السماع" لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ممن كان يبيع ذلك [ويحضره] (¬1)، إن كان لم يذكر ذلك في تصانيفه الفقهية لكونها مصنفة على المذهب المعروف. قوله: وأما الدف فضربه مباح في الأملاك والختان سواء كان فيه جلاجل أم لا، ففي الحديث "اعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال" (¬2) يعني: الدف، وأما غيرهما ففي "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما، تحريمه، ومنهم من أطلق حله وعلى ذلك جرى الإمام وصاحب الكتاب. انتهى. لم يرجح شيئًا في "الروضة" أيضًا والراجح الحل، فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه أقرب الوجهين، وفي "الشرح الصغير": إنه أشبههما، وقال النووي في "المنهاج": إنه الأصح، والغربال بكسرة الغين المعجمة. قوله: ولا يحرم من الطبول إلا الطبل الذي يسمى "الكوبة"، فإنه حرام ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) أخرجه أحمد (16175) وابن حبان (4066) والحاكم (2748) والطبراني في "الأوسط" (5145) والبيهقي في "الكبرى" (14463) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 328) من حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه - بسند حسن، بلفظ: "أعلنوا النكاح" أما زيادة "واضربوا عليه. . . . " أخرجها ابن ماجه (1895) وسعيد بن منصور (635) والبيهقي في "الكبرى" (14475) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 265) وإسحاق بن راهوية في "مسنده" (945) والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 137) وابن عدي في "الكامل" (3/ 6) من حديث عائشة بسند ضعيف، فيه خالد بن إلياس، اتفقوا على ضعفه.

لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله حرّم على أمتي الخمر والميسر والكوبة" (¬1) في أشياء عددها، والكوبة: الطبل الطويل المتسع الطرفين الضيق الوسط. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن إباحة غير الكوبة من الطبول ذكره الغزالي فتابعه عليه الرافعي، والموجود لأئمة المذهب وهو التحريم في ما عدا الدف، فقد ذهب إليه القاضي الحسين والبندنيجي في تعليقهما، والحليمي في "المنهاج" والماوردي في "الحاوي" والشيخ أبو إسحاق في "المهذب" وأبو عبد الله الحسين الطبري في "العدة" والروياني في "البحر" والبغوي في "التهذيب" والخوارزمي في "الكافي" والعمراني في "البيان" والشهروذوري في "الذخيرة" وابن أبي عصرون في "التنبيه" وفي "الانتصار" و"المرشد" ومجلي في "الذخائر" ونقله في "الاستقصاء" عن الشيخ أبي حامد. الأمر الثاني: أن تفسير الكوبة بالطبل خلاف المشهور في كتب اللغة، قال الخطابي: غلط من قال الكوبة الطبل، بل هي النرد، وذكر مثله ابن الأعرابي والزمخشري، وصححه ابن الأثير في "النهاية". قوله في "الروضة": أو الطبول التي تهيأ لملاعب الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار فهي كالدف وليست كالكوبة بحال. انتهى. وهذا الكلام على هذه الكيفية نقله الرافعي عن الإمام، ولا يؤخذ منه الحكم فيها. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3685) وأحمد (6478) والبزار (2454) والبيهقي في "الكبرى" (20781) والطحاوي في "شرح المعاني" من حديث ابن عمرو -رضي الله عنهما-. قال الشيخ الألباني: صحيح. قلت: وفي الباب عن ابن عباس، وأبي هريرة، وقيس بن سعيد بن عبادة.

قوله: والرقص ليس بحرام، وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة ليسترها حتى تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ويزفنون. والزفن: هو الرقص، قال الحليمي: الرقص الذي فيه تكسر وتثن يشبه أفعال المخنثين، حرام على الرجال والنساء. انتهى. ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا. وفيه أمور: أحدها: أن الذي نقله الرافعي عن الحليمي هو الصحيح عنده وعند النووي، فقد جزم به في "الشرح الصغير" و"المحرر" وتابعه عليه النووي في "المنهاج". الثاني: أن الذي قاله الحليمي في "المنهاج" أنه إن لم يكن فيه تثن وتكسر فلا بأس به، ولم يزد عليه ولا يلزم منه تحريمه، فقد يكون مكروها عند التثني والتكسر، مباحًا عند فقدهما. وبتقدير ثبوت التحريم عنه فمعارض بالشيخ أبي علي، فإنه قال كما نقله عنه ابن أبي الدم في "شرح الوسيط": إن كان فيه تثن وتكسر فمكروه وإلا فلا بأس به. الثالث: لم يبين الرافعي -رحمه الله- حكم الرقص الذي ليس فيه تثن ولا تكسر هل هو مكروه أو مباح؟ فإنه عبر بقوله لا يحرم كما تقدم. والمسألة مختلف فيها، فذهب القفال كما حكاه عنه في "البحر" إلى الكراهة، وقال الأستاذ أبو منصور: إن تكلف الرقص على الإيقاع مكروه، قال الفوراني في "العمد": الرقص مباح، وكذلك الغزالي في "الوسيط" وهو مقتضى كلام الشيخ أبي علي والحليمي كما تقدم نقله عنهما، وأشار القاضي حسين في "تعليقته" والغزالي في "الإحياء" إلى

أنه إن كان من أهل الأحوال الذين يقومون بوجد فيباح لهم ويكره لغيرهم، وصرح به الأستاذ أبو منصور، وجزم أبو الفضل الحاجري بالتحريم إذا كان كثيرًا. ذكره في كتابه المسمى "بالكفاية". واعلم أن الزفن الذي فسره الرافعي بالرقص هو بالزاي المعجمة والفاء وبالنون كما تقدم إيضاحه قريبًا. والحديث أخرجه البخاري ومسلم. قوله: وقال الشافعي - رضي الله عنه -: الشِّعر كلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه. انتهى. وهذا المنقول عن الشافعي قد رواه البيهقي حديثًا مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1)، ونقله عنه النووي في كتاب الحج من "شرح المهذب". قوله: وإذا هجا الشاعر في شعره بما هو صادق فيه أو كاذب ردت شهادته كذلك قال القاضي الروياني. انتهى. ويستثني من ذلك هجو الكفار فإنه يجوز كما قاله الروياني وغيره، لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمر حسان بهجاء الكفار، ومقتضى إطلاقه أن لا فرق فيهم بين الجماعة والواحد معينًا كان أو غير معين، والقياس في الفاسق المتظاهر كذلك. قوله: فإن كانت التي يسب بها جاريته أو زوجته، فمن الأصحاب من قال: إنه يجوز ولا ترد شهادته، [وهذا القائل يقول لو لم تكن المرأة معينة لا ترد شهادته] (¬2) لجواز أن يريد من تحل له، ومنهم من قال: ترد شهادته إذا ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (1687) والبيهقي في "الكبرى" (8963) من حديث هشام بن عروة عن أبيه مرفوعًا. وضعفه البيهقي والحافظ ابن حجر. (¬2) سقط من أ.

كان يذكر جاريته أو زوجته بما حقه الإخفاء، لأنه مسقط للمروءة، وهذا هو الحق. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره بحثًا من ترجيح هذا الوجه وتابعه عليه في "الروضة" قد نص الشافعي على خلافه نصًا صريحًا فقال في "الأم" في باب شهادة الشعراء ما نصه: ومن سب فلم يسم أحدًا لم ترد شهادته، لأنه يمكن أن يسب بامرأته وجاريته، هذا لفظه بحروفه ومن "الأم" نقلته، ونقل في "البحر" عدم الرد عن جمهور [الأصحاب] (¬1). قوله في أصل "الروضة": ومنه -أي مما يخل [بالمروءة- أن يقبل امرأته أو جاريته بحضرة الناس، أو يحكي ما جرى بينهما] (¬2) في الخلوة أو يكثر من الحكايات المضحكة. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره من كراهة حكاية ما يجري له معهما، ذكر مثله أيضًا في آخر الباب التاسع من أبواب النكاح، فقال: ويكره أن يحدث بما جرى بينه وبين زوجته أو أمته، لكن جزم في "شرح مسلم" بما يخالف ذلك، فقال في كتاب النكاح في باب تحريم إفشاء سر المرأة: ويحرم على الرجل أن يظهر ما جرى بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة من قول أو فعل لما رواه مسلم "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها" (¬3) قال: وأما مجرد ذكر الجماع فمكروه إلا لفائدة. قوله: وفي أهل الحرف الدنيئة وجهان: أصحهما: قبول شهادتهم، ثم قال بعده قال الغزالي: والوجهان هما في من تليق به وكانت بصنعة آبائه، فأما غيره فتسقط مروءته بها، وهذا ¬

_ (¬1) في أ: الصحابة. (¬2) سقط من أ. (¬3) أخرجه مسلم (1437) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

حسن. انتهى. جزم الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" بما قاله الغزالي وتبعه النووي في "المنهاج"، وقال في "الروضة" من "زوائده": لم يتعرض الجمهور لهذا القيد، وينبغي أن لا تقيد بصنعة آبائه، بل ينظر هل تليق به هو أم لا؟ قوله: وإن اعتاد ترك السنن الرواتب أو تسبيحات الركوع والسجود ردت شهادته، كذا ذكره في "التهذيب"، وحكى أبو الفرج الزاز في غير الوتر وركعتي [الفجر] (¬1) من الرواتب وجهًا: أن الشهادة لا ترد. انتهى: وحاصله حكاية الخلاف من غير ترجيح في ما عدا الوتر وركعتي الفجر، وصحح في "الروضة" فيهما الرد أيضًا، ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له، وسببه أنه حذف النقل عن صاحب "التهذيب" فلزم منه ما ذكرناه. قوله: ولو شهد أن زيدًا جرح مورثه لم تقبل للتهمة، ولو شهد بمال آخر لوريثه المجروح أو المريض، إن شهدوا بعد الاندمال: قبلت، وكذا قبله على الأصح. انتهى كلامه. وهو يوهم أن الشهادة بجرح مورثه لا يأتي فيها التفصيل بين الاندمال وعدمه وليس كذلك، بل التفصيل يجري فيه أيضًا، كذا ذكره في آخر الجنايات في باب الشهادة على الدم، وذكر هناك خلافًا في أن الاعتبار بالإرث هل هو بحالة الشهادة أم لا؟ قال ابن عصرون في كتابيه "المرشد" و"الانتصار": لو كان على المجروح دين يستغرق أرش الجراحة: قبلت شهادة وارثه بها لانتفاء التهمة، وفيما قاله نظر لأن الدين لا يمنع الإرث. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: ولا تقبل شهادة الوكيل للموكل في ما هو وكيل فيه. انتهى. تابعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي اختصاص المنع [بحالة] (¬1) بقاء الوكالة، حتى لو عزل نفسه ثم شهد قبلت شهادته، وليس الأمر في ما دل عليه كلامه بعد العزل على إطلاقه، بل فيه تفصيل ذكره المصنف في الباب الثاني من أبواب الوكالة، وهو أنه إن كان قد خاصم: لم تقبل للتهمة: وإن لم يخاصم، قبلت، وقيل: لا تقبل مطلقًا، وقيل بقبولها مطلقًا، وهذا الثالث قال الإمام: إنه قياس قول المراوزة، ثم قال -أعني: الإمام: إن هذا كله إذا جرى الأمر على تواصل، فإن طال الفصل فالوجه القطع بقبول الشهادة مع احتمال فيه، هذا معنى كلام الرافعي هناك، وقد ذكر صاحب "البيان" في كتاب الوكالة مسائل لها تعلق بما يجيء فيه أحببت ذكرها فقال: فرع: وإذا ادعى الوكالة وشهد له بها شاهدان أحدهما ابن الآخر: قبلت شهادتهما، لأن القرابة تمنع إذا كانت بين الشاهد والمشهود له، فأما إذا كانت بين الشاهدين فلا تؤثر وإن شهد بالوكالة ابنا الوكيل أو أبواه [أو أبوه] (¬2) وابنه لم نحكم بشهادتهما، لأنهما يثبتان له التصرف فلم يقبلا كما لو شهدا له بمال، وإن شهد له بالوكالة أبو الموكل أو ابناه، فذكر الشيخ أبو حامد -رحمه الله- أنهما لا يقبلان؛ لأنهما يثبتان بذلك التصرف عن الموكل ويستحق الوكيل بذلك المطالبة بالحق، وما يثبت بقوله يثبت بشهادة قرابته عليه كالإقرار، فأما إذا ادعى الوكالة فأنكر الموكل فشهد عليه أبواه أو ابناه فتثبت الوكالة ويمضي تصرفه؛ لأن ذلك شهادة عليه وهكذا إذا أنكر من عليه الحق وكالة الوكيل فشهد ابنا من عليه الحق أو أبواه قبلت شهادتهما، [لأنهما يشهدان عليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قوله: جل الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يمتنعون] (¬1) من تكفير أهل القبلة. نعم اشتهر عن الشافعي -رحمه الله- تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم ويقولون ما يعلم الأشياء حتى يخلقها. ونقل العراقيون عنه: تكفير النافين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الإمام فقال: وظني أنه ناظر بعضهم فألزمه الكفر في الحجاج، فقيل: إنه كفرهم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أنه قد تقدم منه في أوائل الردة عن المتولي كلام ظاهره مخالف لهذا فينبغي أن يعلم، وظاهر كلام الرافعي، يوهم عد تكفير الفريق الأول وليس كذلك، لا جرم أن النووي استدركه في "الروضة" فقال: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالحرثان فلا شك فيه، وأما من نفى الرؤية وقال بخلق القرآن فالمختار: تأويله، ونص في "الأم" على ما يؤيده، ولهذا لم يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه عموم كلامه من عدم تكفير المجسمة قد تابعه أيضًا في "الروضة"، لكن جزم في باب صفة الأئمة من "شرح المهذب" بكفرهم، ذكر ذلك قبيل الكلام على امتناع اقتداء الرجل بالمرأة فاعلمه. قوله: والأكثرون على قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وهم قوم يرون جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول لي على فلان كذا فيصدقه بيمين أو غيرها ويشهد له اعتمادًا على أنه لا يكذب، وقالت طائفة: لا تقبل مطلقًا، ثم قال: ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الصحابة ويقذفون عائشة -رضي الله عنها- (¬1) وعلى هذا جرى الإمام وصاحب "التهذيب" وصاحب "الكتاب"، وخير الأمور أوسطها. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن الذين يسبون الصحابة فيهم كلام تقدم في أوائل القضاء، في الكلام على الاستفتاء فراجعه. الأمر الثاني: أن كلامه يشعر بأن قذفة عائشة -رضي الله عنها- تقبل شهادتهم عند الأكثرين وأنا لا نحكم بكفرهم، وليس كذلك بل هم كفار مردودة شهادتهم؛ إذ هي مبرأة بنص القرآن، وقد نبه في "الروضة" عليه. الأمر الثالث: أنا إنما [لم] (¬2) نحكم برد شهادة الخطابية ورد قضائهم إذا كانت الشهادة أو الحكم لخطابي مثله، كذا صرح به الرافعي في باب قتال البغاة، ولا يؤخذ ذلك من كلامه هنا فإنه إنما تعرض لذلك في تفسير مذهبهم فتأمله. [قوله] (¬3): إن كلامهم يقتضي أنه لا فرق في قبول الشهادة بين من يستحل الدم والمال أم لا؟ وقد صرح به هنا في "الروضة" من "زوائده" نقلًا عن الشافعي فقال: الصواب في غير قاذف عائشة قبول الشهادة، وقد قال في "الأم": ولم نعلم أحدًا من سلف الأمة يقتدى به ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا نرد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم هذا نص الشافعي. انتهى كلام النووي. وقد ذكر الرافعي في باب قتال البغاة أن المعتبرين قالوا: إن الحاكم أو ¬

_ (¬1) كغلاة الشيعة لعنهم الله. (¬2) سقط من ب. (¬3) في ب: الرابع.

الشاهد من أهل البغي يستحل دماء أهل العدل أو أموالهم لم ينفذ حكمه ولم تقبل شهادته، لأنه فاسق وهذا يخالف المذكور هنا، وقد سبق ذكر ذلك في موضعه فراجعه. وفي كتاب القضاء أيضًا كلام آخر يتعلق بذلك فراجعه أيضًا. قوله: وهل يصغى القاضي إلى شهادته مع ظهور فسقه؟ فيه وجهان. الذي ذكره الشيخ أبو محمد واستحسنه الإمام: أنه لا يصغى إليهما كشهادة العبد والصبي. انتهى. قال الرافعي في "الشرح الصغير" أظهر الوجهين. أنه لا يصغى لذلك، وصححه أيضًا النووي في أصل "الروضة". قوله: فالمبادر في حقوق [الأميين] (¬1) منهم لا تقبل شهادته والمبادرة أن يشهد من غير تقدم دعوى، فإن شهد بعد دعوى قبل أن يستشهد ردت شهادته أيضًا على الأصح، وإذا رددناها ففي مصيره مجروحًا وجهان: أشبههما: لا، ويحكى القطع به عن أبي عاصم العبادي إن كانت المبادرة عن جهل منه، وظاهر هذا: أن الخلاف في سقوط عدالته مطلقًا. . . . إلى آخر كلامه. وما ذكره الرافعي من تقييد قطع العبادي بحالة الجهل قد حذفه النووي من "الروضة" فوقع في غلط فاحش، وهو قطعه بذلك في حالة العلم، والذي توقف فيه في آخر كلامه قد ذكره في كتاب الدعاوى قبيل الطرف الثاني. وفي "كتاب الإقرار"، فنقل ما حاصله: أن البغوي قائل بالجرح مطلقًا، والإمام قائل به في الزيادة فقط، ذكر ذلك في ما إذا ادعى ألفًا فشهد له شاهدان بألفين. ¬

_ (¬1) في ب: الآدميين.

قوله في المسألة: وظاهر هذا أن الخلاف في سقوط عدالته مطلقًا، ويؤيده أن الهروي قال: إن الوجهين مبنيان على أن المبادرة من الصغائر أو الكبائر؟ لكن منهم من يفهم من كلامه اختصاص الخلاف برد تلك الشهادة وحدها إذا أعادها ومنهم البغوي. انتهى. وما اقتضاه كلامه من عدم الوقوف في هذه المسألة إلا على ما أشعر به كلام الهروي ونحوه من المتأخرين المعدودين في المصنفين لا في أصحاب الوجوه، قد تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غريب، فقد صرح الإمام بأن الخلاف يجري في سقوط عدالته في تلك الشهادة وغيرها، ذكر ذلك في أوائل كتاب الدعوى، وذكر القاضي الحسين في باب الإقرار من "تعليقته" عكسه، فقال: لا خلاف أنه لا يصير مجروحًا في غير تلك القضية، هذه عبارته وذكر الإمام هناك نحوه أيضًا. قوله أيضًا في المسألة: قال في "الوسيط" في باب دعوى الدم: في وجه لا تقبل تلك الشهادة منه إذا أعادها كالشهادة المردودة بعلة الفسق، وعلى وجه: تقبل، وعلى وجه: إن تاب عن المبادرة فتقبل. انتهى. وهذا الوجه المفصل بين التوبة وغيرها أسقطه من "الروضة". قوله: وهل تقبل شهادة الحسبة في الخلع؟ أطلق في "التهذيب" المنع، وقال الإمام: تقبل في الفراق ولا تثبت في المال، قال: ولا أبعد ثبوته بيعًا. ولا أن يثبت الفراق دون البينونة. انتهى. تابعه في "الشرح الصغير" و"الروضة" على حكاية الخلاف من غير ترجيح، وجزم الخوارزمي أيضًا بمقالة البغوي إلا أن الراجح ما قاله الإمام، فقد سبقه إليه القاضي الحسين كما نقله عنه الإمام وغيره واختاره أيضًا الغزالي في "الوسيط" وغيره، وتبعهم صاحب "الحاوي الصغير"، وإن

كان في كلامه إيهام إثبات المال. قوله في أصل "الروضة": ومنه -أي مما تقبل فيه شهادة الحسبة- تحريم الرضاع والنسب، وفي النسب وجه. انتهى. النسب هنا مرفوع عطفًا على التحريم -أي ومنه النسب على الصحيح- وهكذا ذكره الرافعي. قوله: وما تقبل فيه شهادة الحسبة -بقاء العدة وانقضاؤها، ثم قال ما نصه: [والحدود] (¬1) التي هي حقوق الله تعالى كحد الزنا وقطع الطريق والسرقة، لكن الأولى فيها الستر. انتهى كلامه. وهذا الذي جزم به هاهنا من استحباب الستر للشهود قد اختلف فيه كلامه، وكلام "الروضة" أيضًا، وقد سبق إيضاح ذلك في باب حد الزنا فراجعه. قوله: وأما ما هو حق آدمي كالقصاص وحد القذف والبيوع والأقادير فلا تقبل فيه شهادة الحسبة، فإن لم يعلم صاحب الحق أعلمه الشاهد حتى يدعي، ويستشهده فيشهد. انتهى. وهل هذا الإعلام على جهة الوجوب أو الاستحباب؟ فيه كلام سبق في أواخر الباب الثاني من أبواب الوكالة فراجعه. قوله: فرع: ما تقبل فيه شهادة الحسبة هل تسمع فيه دعوى الحسبة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأن الثبوت بالبينة وهي غنية عن الدعوى، وهذا هو الجواب في فتاوى "القفال". ¬

_ (¬1) في ب: الحقوق.

والثاني: عن القاضي الحسين أنها تسمع، لأن البينة قد لا تساعد ويراد استخراج الحق بإقرار المدعى عليه. انتهى كلامه. والراجح: عدم سماع الدعوى، كذا جزم به في كتاب الدعوى والبينات في الكلام على الطرف الثالث المعقود للحالف، فقال: الثانية حدود الله تعالى لا تسمع فيها الدعوى، ولا يطلب الجواب لأنها ليست حقًا للمدعى ومن له الحق لم يأذن في الطلب، هذا كلامه. نعم قد ذكر الرافعي ما يقتضي خلافه في موضعين: أحدهما: في الباب الثاني من كتاب السرقة فقال: ومن رفع إلى مجلس القاضي واتهم بما يوجب عقوبة فللقاضي أن يعرض له بالإنكار ويحمله عليه ولو أقر بذلك ابتداء أو بعد دعوى فكذلك على الصحيح. انتهى. فقوله أو بعد دعوى صريح في سماعها. وثانيهما: في الكلام على المخدرة، وهو في آخر باب القضاء على الغائب فإنه صحح أنها لا تخرج للدعوى عليها، ثم استدل على ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬1) وهذا يدل على سماع الدعوى، إلا أنهما ليسا في الصراحة كالأول ووقع الاختلاف المذكور في "الروضة" كما وقع في الرافعي، إلا أنه لم يذكر الاستدلال بقصة أنيس وفي أدب القضاء لابن أبي الدم: أن المشهور عدم سماعها، ثم قال: ولست أرى لسماعها فائدة، فإن فائدة الدعوى طلب اليمين منه إن أنكر، وقد قال ابن القاص: اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه لا يمين في حد الزنا وشرب الخمر إلا إذا أقر بما يوجب الحد كأن أقر بوطء امرأة أجنبية، ثم ادعى الشبهة، قال الشافعي في اختلاف العراقيين: يحلف بالله ما وطئها إلا وهو يراها حلالًا ويسقط الحد إذا كان ¬

_ (¬1) تقدم.

يمكن أن يجهله، وقال أبو حنيفة: يسقط الحد بلا يمين. انتهت خلاصة كلامه. وما ادعاه من أنه لا فائدة للدعوى ليس كذلك، بل له فائدة وهو أنه قد يتورع عن اليمين فيقر، وقد تعرض له في الكلام على شهادة الحسبة. قوله: وفي "الفتاوى": أنه لو جاء رجلان وشهدا بأن فلانًا أخو فلانة من الرضاع لم يكف حتى يقولا وهو يريد أن ينكحها، فإنه لو شهد اثنان بالطلاق وقضى القاضي بشهادتهما، ثم جاء آخران يشهدان بأخوة الرضاع بين المتناكحين لم تقبل هذه الشهادة؛ إذ لا فائدة في الحال لقبولها ولا عبرة بأنهما قد يتناكحان من بعد، وأن الشهادة على أنه أعتق إنما تسمع إذا كان المشهود عليه يسترق من أعتقه، وهذه الصور تفهم أن شهادة الحسبة إنما تسمع عند الحاجة. انتهى كلامه. وظاهر كلام الغزالي وآخرين كما قاله ابن الرفعة في "المطلب". يشعر بخلاف ما في الفتاوى المذكورة. قوله: وذكر أبو القاسم الصيمري في مختصر جمعه في أحكام الشهادات: أنه لا تجوز شهادة المحجور عليه بالسفه، فإن كان كذلك زادت صفة أخرى. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على ذلك وهو يقتضي توقفه في المنع، وأنه لم يقف على خلاف ما قاله الصيمري ولا على ما يوافقه، وقد صرح الرافعي بالمسألة في باب الوصاية، وذكر ما حاصله، عدم قبول شهادته، فإنه عد شروط الوصي سبعة، من جملتها الكفاءة إلى التصرف، قال: فلا يجوز الوصاية إلى من يعجز عن التصرف ولا يهتدي إليه لسفه أو هرم أو غيرهما، هذا هو الظاهر، ثم قال ما نصه: وحصروا الشروط جميعها بلفظ مختصر فقالوا: ينبغي أن يكون الوصي بحيث تقبل شهادته على الطفل هذا لفظه.

قوله: أما التوبة من المعاصي التي بينه وبين الله تعالى فهي أن يندم على ما مضى ويترك فعله في الحال ويعزم على أنه لا يعود. انتهى كلامه. وقد أهمل شرطًا رابعًا: وهو أن يكون ذلك كله لله تعالى حتى لو عوقب على جريمة فندم أو عزم على عدم العود لأجل ما حل به وخوفًا من وقوع مثله لم يكف، كذا ذكره أصحابنا الأصوليون ولابد منه كما أوضحته في "شرح منهاج الأصول" ومثلوه بما إذا قتل ولده وندم لكونه ولده، وبما إذا بذل الشحيح مالًا في معصية وندم لأجل غرامة المال. قوله: وإن تعلق بها حق مالي كالغصب فيجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه بأن يؤدي إليه، فإن مات فإلى وارثه، فإن لم يكن له وارث أو غاب وانقطع خبره دفع إلى قاض يعرف سيرته وديانته، فإن تعذر تصدق على الفقراء بنية الغرامة له. ذكره العبادي في "الرقم" وصاحب الكتاب في غير الكتب الفقهية، وإن كان معسرًا نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل أن يقدر فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة. انتهى كلامه. وما ذكره في ما إذا لم يكن له وارث من الصدقة بماله ليس الأمر فيه على ما يوهمه ظاهر كلامه من التخصيص بالصدقة، بل هو مخير بين وجوه المصالح كلها، كذا ذكره في كتاب الفرائض، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. وأما من انقطع خبره فقد تقدم في آخر القضاء على الغائب ما يشبهه وما أفهمه كلامه في المعسر من العفو قد خالفه فيه في "الروضة" فقال: ظواهر السنة الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة، وإن مات معسرًا عاجزًا إذا كان عاصيًا بالتزامه. فأما إذا استدان في موضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئًا خطأ وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر:

أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة؛ إذ لا معصية منه والمرجو من الله تعالى أن يعوض صاحب الحق، وقد أشار إلى هذا إمام الحرمين في أول كتاب النكاح، وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سرف إذا كان يرجو [الوفاء من جهة] (¬1) أو سبب ظاهر. انتهى كلامه -رحمه الله-. وهو يقتضي أن الاستدانة للسرف حرام فتفطن له. قوله في "الروضة": وإن كان حقًا للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه فيقول: أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعفو، وفي حد القذف سبق في كتاب اللعان خلاف في وجوب إعلامه، وقطع العبادي وغيره هنا بأنه يجب إعلامه كالقصاص. انتهى كلامه. واعلم أنه قد حكى في كتاب اللعان عن الأصحاب: أن الإعلام واجب ولم ينقل مقابله إلا احتمالًا فقط، وقد سبق ذكر لفظه في أول باب اللعان فراجعه وعبارة الرافعي هنا أن الغزالي حكى هناك ترددًا وهو تعبير صحيح، وأما الخلاف فلم يصرح به. نعم حكى الخلاف [في باب حد الزنا وما اقتضاه كلامه من الجزم بالوجوب في القصاص وعدم إجراء الخلاف] (¬2) ليس كذلك، فإن فيه خلافًا حكاه في باب حد الزنا أيضًا. قوله أيضًا في "الروضة": فرع: لو قصر في ما عليه من دين ومظلمة ومات المستحق واستحقه وارث بعد وارث، ثم مات ولم يوفهم، لمن تستحق المطالبة به في الآخرة؟ فيه أوجه: ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

أرجحها وبه أفتى الحناطي: أنه صاحب الحق أولًا. والثاني: أنه أخر من مات من ورثته أو ورثة وريثه وإن نزلوا. والثالث ذكره العبادي في "الرقم": أنه يكتب الأجر لكل وارث مدة حياته ثم من بعده لمن بعده. انتهى كلامه. وهذا الترجيح الذي ذكره لم يذكره الرافعي بالكلية وإنما حكاه عن الحناطي فقط فقال: قال القاضي: يرثه الله تعالى بعد موت الكل ويرد إليه في القيامة. هذا لفظه من غير زيادة عليه، ولفظ "الروضة" لا يعطي هذه الكيفية المذكورة في الانتقال. قوله: وأما التوبة في الظاهر فالمعاصي تنقسم إلى: فعلية، وقولية. أما الفعلية كالزنا والسرقة: فإظهار التوبة عنها لا يكفي في قبول الشهادة وعود الولاية، لأنه لا يؤمن أن يكون له في الإظهار غاية وغرض فاسد فيختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح وصدق في توبته، وهل تتقدر هذه المدة؟ قال قائلون: لا إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقة، ويختلف الأمر فيه بالأشخاص وأمارات الصدق، وذهب آخرون إلى تقديرها، وفيه وجهان: قال أكثرهم: يستبرأ بسنة فإن لمضي الفصول الأربعة أثرًا بينًا في تهييج النفوس وانبعاثها لمشتهياتها، وقال جماعة: يكتفي بستة أشهر ونسبوه إلى النص. انتهى كلامه. وذكر في "الشرح الصغير" نحوه أيضًا. فيه أمران: أحدهما: أنه ليس فيه تصحيح بالنسبة إلى التقدير وعدمه، وأما كلام الأكثرين فنقله تفريعًا على القول بالتقدير، وقد اختصر في "الروضة" هذا الكلام على غير وجهه فقال: وفي تقدير هذه المدة أوجه: الأكثرون أنها

سنة. والثاني: ستة أشهر ونسبوه إلى النص. والثالث: لا تتقدر بمدة. هذا لفظه. نعم ذكر في "المحرر" كما في "الروضة". الأمر الثاني: أن وجوب الاستبراء محله إذا كان الشخص ظاهر الفسق فلو كان يخفيه فأقر به ليقام عليه الحد قبلت شهادته بعد ثبوته من غير استبراء، كذا ذكره الروياني وغيره وهو ظاهر. قوله في "الروضة": ثم إذا تاب بالقول هل تشترط المدة المذكورة؟ إذا كان عدلًا قبل القذف ينظر: إن كان القذف على صورة الشهادة لم يشترط على المذهب، وإن كان قذف سب وإيذاء اشترط على المذهب. انتهى كلامه. ولا يعلم منه أن الأصح طريقة القطع أو الخلاف، ولا أن ذلك الخلاف بتقدير إثباته قولان أو وجهان، وقد بين الرافعي ذلك فصحح في المسألة الأولى طريقة القطع وحكى أخرى على قولين وعكس في الثانية. قوله: ثم قضية ما قالوه في القذف أن تشترط التوبة بالقول في سائر المعاصي القولية كشهادة الزور والغيبة والنميمة، وقد صرح صاحب "المهذب" بذلك في شهادة الزور، فقال: التوبة عنها أن يقول: كذبت في ما قلت ولا أعود إلى مثله. انتهى. ومقتضى هذا الكلام أنه لم يقف على ذلك إلا في شهادة الزور، وقد نقله الغزالي في المبادرة بالشهادة أيضًا عن بعض الأصحاب، ونقله عنه الرافعي هناك، ولكن أسقطه من "الروضة".

الباب الثاني: في العدد والذكورة

الباب الثاني: في العدد والذكورة قوله: واعلم أن قول الشاهد الواحد لا يكفي الحكم به ولا يستثنى إلا هلال رمضان على الأصح. انتهى. تستثنى أيضًا مسألة أخرى ذكرها المتولي في "التتمة" في كتاب الصيام ونقلها عنه النووي في "شرح المهذب" في الصيام وفي آخر الصلاة على الميت، فقال: فرع: ذكره المتولي في كتاب الصيام أنه إذا مات كافر فشهد واحد بأنه أسلم فلا يحكم بأنه مسلم في الإرث فيرثه الكافر لا المسلم، وهل يحكم به في جواز الصلاة عليه؟ قولان في ثبوت هلال رمضان، وقد وقع في هذا الباب من "نكت المنهاج" للشيخ برهان الدين ابن الفركاح استثناء مسألة أخرى نقلها عن الماوردي واستثناؤها غلط، فإن الماوردي عبر بقوله: شاهدا عدل -بألف التثنية- فخفيت الألف عليه أو سقطت من النسخة التي وقف عليها فاعلمه. قوله: وفي الإقرار بالزنا قولان: أحدهما: أنه لا يثبت إلا بأربعة، لأنه يتعلق به إقامة الحد فأشبه نفس الزنا. والثاني: يثبت بشاهدين كسائر الأقارير، قال الرويانى: وهذا أصح. انتهى. والراجح: ما ذهب إليه الروياني، كذا صححه الرافعي في "المحرر" والنووي في أصل "الروضة" و"تصحيح التنبيه". قوله في "الروضة": ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة على المذهب. اعلم أن الأصح في اللواط: طريقة القطع، وقيل: على وجهين،

والأصح في إتيان البهيمة: طريقة الوجهين، وقيل: يجب الأربعة قطعًا، هذا حاصل ما في الرافعي، والمذكور في "الروضة" لا يعلم منه أن الأصح طريقة القطع أو الخلاف، ولا أن ذلك الخلاف وجهان أو قولان، ويوهم أيضًا التسوية بين المسألتين في ذلك. قوله: سبق في السرقة أنه يشترط في الشهادة على الزنا أن يذكروا التي زنا بها، وأن يذكروا الزنا مفسرًا فيقولون رأيناه أدخل فرجه في فرجها، وأما قولهم كالمزود في المكحلة فإنه زيادة بيان وليس بشرط، كذا ذكره الهروي. انتهى. أهمل من الشروط ذكر موضع الزنا، وقد صرح باشتراطه صاحب "التنبيه". قوله: والشركة والقراض معدودان في "التهذيب" مما لا يثبت إلا برجلين، وأدرج في "الوسيط" الشركة في ما يثبت برجل وامرأتين، والأول أظهر. انتهى. تبعه عليه في "الروضة"، واعلم أن القاضي الحسين قد سبق البغوي إلى ما قاله في الشركة والقراض، [وقال في "الشامل": إن القراض] (¬1) مما يثبت بالشاهد واليمين، وكذلك القاضي أبو الطيب في "تعليقته" في باب الشهادة على الجناية، . وكلام الرافعي يوهم نفي الخلاف عن القراض، قال ابن الرفعة في "المطلب": وينبغي أن ينزل كلام الفريقين على تفصيل فيقال: إن كان مدعيهما يروم إثبات [التصرف كالوكيل فلابد فيه من شاهدين، وإن كان يروم إثبات] (¬2) حصته من الربح فيثبت بالرجل والمرأتين إذ المقصود المال، ويقرب منه: إذا ادعت المرأة النكاح لإثبات المهر وأقامت ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

به شاهدًا وامرأتين فإنه يثبت المهر على الصحيح، وإن لم يثبت النكاح، وكذا لو ادعى خالد أن زيدًا أوصى إلى عمرو بأن يعطيه من ماله كذا وأقام شاهدًا وامرأتين تثبت الوصية بالمال وإن لم تثبت الوصاية. قوله: النوع الثاني ما لا يطلع عليه الرجال وتختص النساء بمعرفته غالبًا فتقبل فيه شهادتهن منفردات، وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره في الحيض من إمكان إقامة البينة عليه قد خالفه في أربعة مواضع: أحدها: في كتاب الطلاق في الكلام على تعليقه بالحيض، وقد سبق ذكر لفظه في موضعه. والثلاثة الباقية في كتاب الديات وبه أجاب العماد ابن يونس في "فتاويه" أيضًا، والمذكور في "المنهاج" وفي "فتاوى" النووي في باب الحيض: أنه يمكن، وما ذكره أيضًا الرافعي في الرضاع قد خصه المتولي بما إذا كان من الثدي، فإن كان من إناء حلب فيه لم تقبل شهادتهن على أن هذا اللبن من هذه المرأة. قوله: قال البغوي: والعيب في وجه الحرة وكفها لا يثبت إلا برجلين بناء على أنهما ليسا من العورة، وفي وجه الأمة وما يبدو منها عند المهنة يثبت برجل وامرأتين لأن المقصود منه المال، والجراحة التي تصيب فرج المرأة لا تلتحق بالعيب لأن جنس الجراحة مما يطلع عليه الرجال غالبًا، إنما الذين لا يطلعون عليه العيب الخاص. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في الأمة يقتضي أنه لا يكفي قول الواحد في العيوب، وهو مخالف لما نقله عنه الرافعي في البيع في أواخر الرد بالعيب

قبيل الكلام على الإقالة فقال: قال في "التهذيب": إن قال واحد من أهل المعرفة: إنه عيب ثبت الرد، واعتبر في "التتمة" شهادة اثنين. واعلم أيضًا أن مقتضى تعليل البغوي بكون المقصود هو المال اختصاص ذلك بما إذا كان الإثبات لردها في البيع، فإن كان لفسخ النكاح به لم يقبل. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الجراحة قد سبقه إليه القاضي الحسين في "تعليقه"، وكلام "الروضة" يشعر بانفراد البغوي به فإنه قال: الصواب إلحاق الجراحة على فرجها بالعيوب تحت الثياب، وعجب من البغوي كونه ذكر خلاف هذا وتعلق بمجرد الاسم. قوله: ومما يثبت برجل وامرأتين الشفعة والمسابقة وحصول السبق. انتهى. واعلم أن الحصول بالحاء والصاد المهملتين، ومعناه تقدم أحدهما على رفيقه، فأراد بالأول العقد، وبالثاني التقدم، وذكر في "الشرح الصغير" كما في "الكبير" أيضًا فقال: والمسابقة وحصول السبق منها، وقد تحرفت هذه اللفظة على الشيخ محيى الدين في "الروضة" بالخيول جمع خيل بالخاء المعجمة وبالياء بنقطتين من تحت، ولما تحرفت لزم منها تغيير السبق بالمسابقة أيضًا لتنظيم الكلام، فقال: والمسابقة وخيول المسابقة. هذا لفظه فأتى بمسألة أخرى. قوله: نعم في النجم الأخير وجهان: أحدهما: أنه لا يثبت إلا برجل لتعلق العتق. وأصحهما على ما ذكره صاحب "التهذيب": أنه كسائر النجوم. انتهى. والأصح ما قاله البغوي، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة". قوله: ولو علق طلاق امرأته أو عتق عبده على الغصب أو الإتلاف فشهد

بهما رجل وامرأتان يثبت الغصب والإتلاف ولم يحكم بوقوع الطلاق ولا بحصول العتق، نص عليه، وهو كما مر في الصوم أنا إذا أثبتنا هلال رمضان بشاهد واحد لم يحكم بوقوع الطلاق والعتق المعلقين برمضان ولا بحلول الدين المؤجل به، هذا إذا سبق التعليق، وذكر ابن سريج ووافقه عامة الأصحاب: أنه لو ثبت الغصب أولا برجل وامرأتين وحكم الحاكم به، ثم جرى التعليق فقال لزوجته: إن كنت غصبت فأنت طالق وقد ثبت عليها الغصب كما وصفنا وقع الطلاق بخلاف ما لو تقدم التعليق، وقياسه أن يكون الحكم كذلك في التعليق برمضان، وحكى الإمام أن شيخه حكى وجهًا آخر: أنه لا يقع كما لو تقدم التعليق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن جزمه بعدم الوقوع في ما [إذا] (¬1) تقدم التعليق، وحكاية الخلاف فيما إذا أخر قد عكسه في أوائل كتاب الجنايات في الكلام على الجناية على الخنثى وقد ذكرت لفظه هناك. الأمر الثاني: أن هذا البحث الذي ذكره في تعديه إلى رمضان واقتضى كلامه وكلام "الروضة" عدم الوقوف عليه، قد صرح به القاضي الحسين في "تعليقته"، ونقله عن ابن سريج بخصوصه وهو أول القائلين به في الغصب والإتلاف، ثم تبعه عليه من بعده كما سبق في كلام الرافعي وموافقة النقل للتفقه دليل علو المقدار لا على خلافه، وذكر الرافعي هنا ضابطًا حسنًا في ما يثبت بطريق التبع عند شهادة الرجل والمرأتين وما لا يثبت وحذفه من "الروضة"، فقال: وفي هذه الصور انتشار وربما أمكن لمّ بعض الشعث بأن يقال: ما شهد به رجل وامرأتان فله حالان: أحدهما: أن يكون مما لا يثبت، بشهادتهم كالسرقة والقتل، فينظر: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إن كان له موجب يثبت بشهادتهم كالمال الذي هو أحد موجبي السرقة ثبت، وإن لم يكن له موجب يثبت لم يجب شيء كالقصاص. الثاني: أن يكون المشهود به يثبت بشهادتهم فالمرتب عليه: إن كان شرعيًا ثبت كالنسب والميراث المرتبين على الولادة والإفطار بعد الثلاثين، وذلك لأن الترتيب الشرعي يشعر بعموم الحاجة وتعذر الانفكاك. وإن كان وضعيًا كترتيب الطلاق والعتق والحلول على التعليق برمضان فلا ضرورة في ثبوته. قوله: وقول صاحب "الكتاب" إذا شهد على السرقة أو العمد رجل وامرأتان ثبت المال، وإن لم نثبت العقوبة فيه تسوية بين أن يشهدوا على السرقة [وبين أن يشهدوا على القتل العمد في أن يثبت المال ولا يثبت العتق، وهذا الحكم صحيح في السرقة وقد ذكره مرة في بابها. وأما القتل العمد: فهو خلاف ما نص عليه الأصحاب هاهنا وليس له في "الوسيط" ذكر بل فرق في باب السرقة بين شهادتهم على السرقة وشهادتهم] (¬1) على القتل كما فرق غيره، ولا محمل لما جرى هاهنا إلا السهو. انتهى كلامه. وهذا الإنكار الفاحش قد ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وتوهم النووي أن الإنكار حق فأسقط مقالة الغزالي [بالكلية من "الروضة" وذلك كله غريب فإن الذي قاله الغزالي] (¬2) قد حكاه الإمام في "النهاية" قولًا وصرح به في الشاهد والمرأتين، وفي الشاهد مع اليمين، لكنه جعله تفريعًا على أن الواجب أحد الأمرين لا القصاص بعينه، ذكر ذلك في باب الشهادة على الجناية، وحكاه أيضًا الفوراني في الباب المذكور، لكن صرح به في الشاهد واليمين فقط، ويلزم منه القول به في الشاهد والمرأتين بالضرورة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قوله: وفي دعوى النكاح إذا أقام شاهدين ولم يعدلا نجعل المرأة عند امرأة ثقة وتمنع من الخروج، وفيه وجه ضعيف، قال القاضي أبو سعد: فإن كانت المرأة متزوجة لم يمنع منها الزوج قبل التعديل، لأنه ليس بمدعى عليه وليس البضع في يده فلا معنى لإيقاع الحجر عليه. انتهى كلامه. والذي قاله أبو سعد الهروي من تمكين الزوج منها مشكل، وقد ذكر الرافعي بعد هذا بأسطر ما يؤخذ منه المنع هنا، فقال: وفي الأمة تتحتم الحيلولة احتياطيًا للبضع، وكذا لو ادعت المرأة الطلاق وأقامت شاهدين يفرق الحاكم بينهما قبل التزكية هذا لفظه. واعلم أن مقتضى التعليل المذكور: أن الأمة لو كانت محرمًا له أنها تكون كالعبد حتى يحيل بينه وبين سيده إن رأى الحاكم ذلك، وإلا فلا إلا أن يطلب. قوله: ولو أقام شاهدًا واحدًا وطلب الانتزاع قبل أن يأتي بآخر، ففيه قولان: أحدهما: يجب كما لو تم العدد وبقيت التزكية. وأصحهما: عند عامة الأصحاب [لا] (¬1)، لأن الشاهد الواحد ليس بحجة، ثم قال: وعن أبي إسحاق أنه قطع بالأول، لأن المال يثبت بشاهد ويمين وله أن يحلف معه متى شاء، فكانت الحجة تامة وحكى أبو الفرج طريقة بقطع الثاني، لأنه متمكن من إتمام حجته بالحلف فإذا لم يفعل كان مقصرًا. انتهى كلامه. وهاتان الطريقتان أسقطهما النووي من "الروضة". قوله: ثم ذكر العراقيون والروياني أن الحيلولة والحبس قبل التعديل يثبتان ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إلى ظهور الأمر للقاضي بالتزكية أو الجرح، ولا تقدر له مدة، والحيلولة والحبس لشاهد واحد إذا قلنا به لا يزادان على ثلاثة أيام، بل عن أبي إسحاق: أن قول تأثير الشاهد الواحد موضعه ما إذا أقام شاهدًا فقال: إن الشاهد الآخر قريب، وإن قال: إنه غائب لا يحضر إلى ثلاثة أيام فلا حيلولة ولا حبس بحال، وعلى هذا ينزل قول الكتاب، وإذا قلنا فلا يزيد على ثلاثة أيام. انتهى كلامه. وليس فيه ما يدل على رد مقالة أبي إسحاق، بل هي مقررة لما سبق عن العراقيين والروياني بزيادة عليه، وجعلها في "الروضة" وجهًا ضعيفًا، فقال بعد حكايتها: والمذهب ما سبق هذا لفظه.

الباب الثالث في مستند علم الشاهد

الباب الثالث: في مستند علم الشاهد قوله: . وقسم الشافعي - رضي الله عنه - والأصحاب المشهود به على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكفي فيه السماع ولا يحتاج إلى الإبصار. والثاني: ما يكفي فيه الإبصار، وهو الأفعال كالزنا والشرب والغصب والإتلاف والولادة والرضاع والاصطياد والإحياء وكون المال في يد شخص فيشترط فيها الرؤية المتعلقة بها وبقاء علتها، ولا يجوز بناء الشهادة فيها على السماع من الغير. والثالث: ما يحتاج فيه إلى السمع والبصر معًا كالأقوال، فلابد من سماعها ومشاهدة قائلها كالعقود والفسوخ والإقرار بها. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا التقسيم ليس بحاصر، فإن الشهادة تجوز بما علم بباقي الحواس [الخمس] (¬1) وهي الذوق والشم واللمس، كما لو اختلفا في مرارة المبيع أو حموضته أو في تغير رائحته أو في حرارته وبرودته ونحو ذلك. الأمر الثاني: أن ما ذكره من امتناع الشهادة على اليد بمجرد الاستفاضة قد نقل في أثناء الباب خلافه، وأبدى ما جزم به هاهنا بحثًا وسأذكر لفظه في موضعه فراجعه. قوله: فإن كان يعرف المشهود عليه باسمه واسم أبيه دون جده، قال في "الوسيط": يقتصر عليه فإن عرفه القاضي بذلك جاز، وكان يحتمل أن ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يقال: هذه شهادة على مجهول فلا يعتد بها كما ذكرنا في باب القضاء على الغائب أن القاضي لو لم يكتب إلا أني حكمت على محمد بن أحمد فالحكم باطل. انتهى كلامه. واعلم أنه لا منافاة بين مقالة الغزالي وبين ما سبق في القضاء على الغائب، فإن كان كلام الغزالي مفروض في ما إذا حصلت المعرفة بذلك ولم يقع التصوير في الغائب بهذا، بل تصويرهم بمجرد محمد بن أحمد يدل على خلافه، وقد ذكر الرافعي هناك قبل هذا التصوير بنحو ورقة ما يدل لمقالة الغزالي فإنه نص على ذكر اسمه واسم أبيه وجده وحليته وصنعته، ثم قال: وإذا حصل الإعلام ببعض ما ذكرناه اكتفى بهذه، وهذا يدخل فيه المعرفة بذكر الأب والجد. قوله: وإن كان يعرف المشهور عليه بعينه دون اسمه ونسبه فمات ودفن فعن القاضي الحسين: أنه لا ينبش، واستثنى منه في "الوسيط" ما إذا اشتدت الحاجة ولم يطل العهد بحيث يتغير المنظر، وهذا ما أورده الإمام على سبيل الاحتمال، وقال: الأظهر ما ذكره القاضي. انتهى. وحاصله أن القاضى لم يتعرض لمسألة "الوسيط" بخصوصها، وأن الإمام والغزالي قد اختلفا فيها وتبعه عليه في "الروضة". والراجح: عدم النبش فقد رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال: فإن دفن فعن القاضي الحسين: أنه لا ينبش وهو الأظهر الذي أورده في "الكتاب" وقيل: إن لم يطل العهد بحيث يتغير المنظور فيجوز أن ينبش، هذا كلامه. وقد تقدم في أواخر تعليق الطلاق مسألة هي نظير هذه، حكى الرافعي فيها احتمالين عن أبي العباس الروياني وصحح فيها النووي من "زوائده" عدم النبش فراجعها. قوله: ولك أن تقول: ينبغي أن لا يتوقف جواز التحمل على كشف

القناع ولا على المعرف، لأن حضور امرأة أو شخص تحت النقاب وإقرار ذلك الحاضر متيقن، فإذا رفعت المرأة إلى القاضي والمحتمل تلازمها تتمكن من الشهادة على عينها بأن أقرت بكذا، وهذا نظير صورة الضبط في شهادة الأعمى، وقد يحضر قوم يكتفي بإخبارهم في التسامع قبل أن تغيب المرأة إذا لم يعتبر في التسامع طول المدة كما سيأتي فيخبرون عن اسمها ونسبها فيتمكن من الشهادة على اسمها ونسبها، بل ينبغي أن يقال: لو شهد اثنان تحملا الشهادة على امرأة لا يعرفانها أن امرأة حضرت يوم كذا مجلس كذا فأقرت لفلان بكذا، وشهد عدلان أن المرأة المحضرة يومئذ في ذلك المكان كانت هذه ثبت الحق بالبينتين اللتين لو قامت بينة على أن فلان ابن فلان الفلاني أقر بكذا، وقامت أخرى على أن الحاضر هو فلان ابن فلان ثبت الحق، فما الفرق بين تعريف الشهود عليه المطلق باسم ونسب، وبين تعريفه بزمان ومكان؟ وإذا اشتمل التحمل على هذه الفوائد وجب أن يجوز مطلقًا، وإن لم يعرض ما يفيد جواز الشهادة على العين أو على الاسم والنسب فذاك شيء آخر. انتهى كلامه. وهذا التصوير الذي ذكره الرافعي كل الخلاف واستشكله، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" مع أنه ليس محل الخلاف، بل يجوز التحمل فيه قطعًا، وقد صرح بجوازه الروياني وغيره مع حكايتهم الخلاف في أصل المسألة، وقد استدرك ابن الرفعة هذا الموضع عليه ونبه على ما ذكرناه. قوله: وإذا خاف الفتنة فيشبه، أن يقال: لا ينظر المتحمل، لأن في غيره غنية عنه، فإن تعين فينظر ويحترز. انتهى. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه وتابعه عليه في "الروضة"، قد جزم به الماوردي والروياني في "البحر"، وعبرا بقولهما إذا خاف من النظر إثارة الشهوة.

قوله: وتجوز هذه الحيلة كما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل خيبر بمنع الجمع بالدراهم وشرى الخبيث (¬1). انتهى. هذا الحديث تقدم الكلام عليه في باب الربا. قوله: وفي النسب من الأم وجهان: أحدهما: أنه لا تجوز الشهادة عليه بالسماع لإمكان رؤية الولادة. والثاني: يجوز كما في جانب الرجل، وهذا أصح عند صاحب الكتاب، وحكى في "الوسيط" القطع به عن بعضهم. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والصحيح، ما صححه الغزالي: فقد قال الرافعي في "المحرر": إنه أصح الوجهين، وصححه النووي أيضًا في "المنهاج" وفي أصل "الروضة". قوله.: وهل يثبت الولاء والوقف والعتق والزوجية بالاستفاضة؟ فيه وجهان إلى آخره. لم يصرح بترجيح، وقال في "الشرح الصغير": رجح كثيرون المنع، وقال في "المحرر": فيه وجهان رجح منهما المنع هذا لفظه. وقال في "الروضة" من "زوائده": الجواز أقوى وأصح وهو المختار. وقال في "المنهاج": إنه الأصح عند المحققين والأكثرين. واعلم أن الصواب الذي عليه الفتوى إنما هو المنع، فقد نص عليه الشافعي، ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية"، وإذا قلنا بالثبوت فقال النووي في "فتاويه": ولا تثبت بها شروط الوقف وتفاصيله بل إن كان وقفًا على جماعة معينين أو جهات متعددة قسمت الغلة [بين الجميع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2089) ومسلم (1593) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.

بالسوية، وإن كان على مدرسة مثلًا وتعذرت معرفة الشروط صرف الناظر الغلة] (¬1) في ما يراه من مصالحها، هذا كلامه. وما أطلقه من عدم ثبوت الشروط ليس بجيد، بل الأرجح فيه ما ذكره ابن الصلاح في "فتاويه"، فإنه قال: يثبت بالاستفاضة أن هذا وقف ولا يثبت بها أن فلانًا وقفه، قال: وأما الشروط فإن شهدا بها منفردة فلا تثبت بالاستفاضة، وإن شهد بها ذاكرًا لها في شهادته فأصل الوقف في معرض بيان شرط الواقف سمعت؛ لأنه يرجح حاصله إلى بيان كيفية الوقف هذا كلامه. ولا شك أن النووي لم يطلع عليه. واعلم أن هاهنا مسألة كثيرة الوقوع وهي أن جماعة شهدوا بأن النظر في الوقف الفلاني لزيد، ولم يزيدوا على ذلك ولم يكونوا شهدوا على الواقف ولا قالوا: إن مستندنا الاستفاضة، وسئلوا عن مستندهم فلم يبدوه بل صمموا على الشهادة. وأجاب ابن الصلاح بأن هذا محمول على استنادهم إلى الاستفاضة والشروط لا تثبت بمثل ذلك كما تقدم، قال: وأيضًا فإن إهمال السبب مقتضى لرد الشهادة [كما لو شهدا] (¬2) بالإرث، كذا نقلت هذه المسألة من خط ابن الصلاح كما قاله الشيخ برهان الدين في "تعليقه". قوله: أحدهما: فيما تحصل به الاستفاضة أوجه: أشبههما لكلام الشافعي واختاره الماوردي: لابد من جمع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم ويؤمن تواطؤهم على الكذب. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

والثاني: يكفي عدلان. والثالث: يكفي واحد إذا سكن القلب إليه، وإذا قلنا بالأول فينبغي أن لا تعتبر العدالة ولا الحرية ولا الذكورة انتهى ملخصًا. فيه أمران تابعه عليهما في "الروضة": أحدهما: أن الماوردي لم يكتف بالظن، بل اشترط العلم على خلاف المذكور هنا، فقال في أوائل باب التحفظ في الشهادة: وأقل هذا العدد أن يبلغوا عدد التواتر، وقال أبو حامد الإسفرايني: أقله عدلان، وهذا وهم؛ لأن قول الاثنين من أخبار الآحاد، فوجب أن يعتبر فيه العدد المقطوع بصدق مخبره وهو عدد التواتر المنتفى عنه المواطأة والغلط، هذا كلامه. وقد نقله عنه الشيخ في "المهذب" على الصواب، وهو أحد الموضعين اللذين نقل فيهما عن الماوردي كما تقدم في "الطبقات". الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله، قد جزم به الماوردي بالنسبة إلى العدالة، فإنه فرق بين الاستفاضة والتواتر من وجوه: منها: أن عدالة المخبرين شرط في التواتر دون الاستفاضة، وجزم به الروياني بالنسبة إلى الحرية والذكورة، وحكى وجهين في انفراد الصبيان به مع شواهد الحال بانتفاء المواطأة. قوله: الثانية إذا سمع رجلًا يقول لآخر هذا ابني وصدقه الآخر، أو أنا ابن فلان وصدقه فلان، قال كثير من الأصحاب. يجوز أن يشهد به على النسب، وكذا لو استحلف صبيان أو بالغًا وسكت، لأن السكوت في النسب كالإقرار، ألا ترى أنه لو بشر بولد فسكت عليه لحقه بخلاف ما إذا أنكر المستلحق، [فإن النسب] (¬1) لا يثبت حينئذ، وفي "المهذب" وجه: أنه ¬

_ (¬1) سقط من ب.

لا يشهد عند السكوت إلا إذا تكرر عنده الإقرار والسكوت، والذي أجاب به الإمام وصاحب الكتاب: أنه لا تجوز الشهادة على النسب بذلك، وهذا قياس ظاهر المذهب انتهى كلامه. وما ذكره هنا من الاكتفاء بسكوت البالغ المستلحق مخالف للمذكور في الإقرار من "الشرح الكبير" وهنا من "الشرح الصغير"، فإنه قد صحح فيهما: أنه لابد من التصديق، وقد تقدم لفظه في الإقرار في موضعه لكنه موافق للمذكور في باب دعوى النسب وهو قبل كتاب العتق، وسوف أذكره أيضًا هناك فراجعه. واعلم أن الغزالي قد ذكر أنه يثبت بالسكوت ومع ذلك قال: لا يشهد بالنسب، والرافعي مع ذهابه إلى أنه لا يثبت بذلك جوز الشهادة به. قوله: فإن اجتمع اليد والتصرف، نظر: إن قصرت المدة فالحكم كما في اليد المجردة، وإن طالت فوجهان: أحدهما: لا تجوز الشهادة له بالملك حتى ينضم إليها نسبة الناس الملك إليه. والثاني: تجوز، وصححه البغوي وحكاه الإمام عن الجمهور انتهى. وقد ذكر النووي في الباب الثاني من اللقيط في الحكم الرابع منه ما حاصله: استثناء الرقيق، وأنه لا تجوز الشهادة فيه بالملك إذا سمع من المشهود له أو من غيره أنه له، وقد تقدم ذكر لفظه هناك وكان الفرق وقوع الاستخدام في الأحرار كثيرًا مع الاحتياط في الحرية. قوله: ونقل القاضي ابن كج وجهين في أنه هل يشترط أن يقع في قلب السامع صدق المخبر؟ ويشبه أن يكون هذا غير الخلاف المذكور في أنه هل يعتبر خبر عدد يؤمن منهم التواطؤ؟ انتهى كلامه.

ومراده أن هذا الخلاف ليس هو ذلك الخلاف بل مغايرًا له، وحينئذ فيكون مفرعًا على قولنا: أنه لا يشترط العدد الذي يؤمن فيهم التواطؤ فاعلمه فإنه وقع في كثير من نسخ الرافعى التعبير بلفظة عين بالعين المهملة والنون، وجزم الإمام وابن الصباغ بالاشتراط تفريعًا على هذا القول، وهو يقوي ما ذكرناه، ولم يتعرض في "الروضة" لهذا البحث، وقد سلك ابن الرفعة في "الكفاية" ما أشار إليه الرافعي من كون الصدق في القلب مفرعًا على أنه لا يشترط العدد الذي يؤمن معه التواطؤ، إلا أنه نقل عن العراقيين الجزم باشتراطه -أعني وقوع الصدق في القلب-، وبذلك يعلم أن الصحيح فيه الاشتراط. قوله: وذكروا أنه تجوز الشهادة على اليد بمجرد الاستفاضة، وقد ينازع فيه لإمكان مشاهدة اليد. انتهى. وما ذكره بحثًا يقتضي أنه لم يقف على قائل بالمنع، وقد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غريب، فقد جزم هو في أول الباب بمنع الشهادة على اليد بمجرد الاستفاضة، وقد تقدم ذكر لفظه لغرض آخر فراجعه. وقد نقل في "الروضة" هذا الفرع عن ابن كج خاصة، وسببه أنه قد يقع في بعض النسخ، وذكر على جعل الفاعل ضميرًا مستترًا عائدًا على ابن كج فإنه قد سبق ذكره قبله بقليل وهو أول المسألة السابقة على هذه كما ذكرناه. قوله: ولا يكفي أن يقول الشاهد سمعت الناس يقولون: إنه لفلان وكذلك في النسب وإن كانت الشهادة مبنية عليه، بل يشترط أن يقول: أشهد بأنه له وبأنه ابنه، لأنه قد يعلم خلاف ما يسمعه من الناس، لكن عن الشيخ أبي عاصم: أنه لو شهد بالملك والآخر بأنه في يده مدة طويلة يتصرف فيه بلا منازع تثبت الشهادة، وهذا ما ذكره الشارح لكلامه مصيرًا إلى

الاكتفاء بذكر السبب، والظاهر الأول. انتهى كلامه. واعلم أن الامتناع في هذه المسألة ليس هو لأجل التصريح في شهادته بالاستفاضة، بل لأجل أنه لم يشهد بالمقصود وإنما شهد على جريان النسب، ثم نقل عن أبي عاصم ما نقل إشارة إلى أنه اكتفى فيه بالشهادة على النسب، وحينئذ فتكون الشهادة على الاستفاضة أيضًا كافية تفريعًا على تلك المقالة، وهذا كله غير خاف من كلامه، وأما التصريح بالاستفاضة عند الإتيان بالصيغة المعتبرة وهي لفظ الشهادة فليس في كلام الرافعي هنا تعرض له، وقد صرح بجوازه في الكلام على البحث عن حال الشهود وهو قبيل الباب الثالث من أبواب القضاء وهو الباب المعقود للغائب فقال: وهل يشترط التعرض لذكر السبب كرؤية الجرح أو سماعه؟ قال قائلون: نعم، فلابد أن يقول: رأيته يزني، وسمعته يقذف، وعلى هذا القياس يقول في الاستفاضة: استفاض عندي. وفي "الشامل": أنه لا حاجة إليه، وليس للحاكم ذلك كما في سائر الشهادات، وهذا أقيس انتهى. وحاصله جواز الإتيان بذلك وحكاية الخلاف في اشتراطه، فلو كان ذكره قادحًا لقدح في كل شهادة، ونقل ابن الرفعة عن ابن أبي الدم: أن الشاهد إذا صرح في شهادته بالاستفاضة لا تقبل شهادته في أصح الوجهين، فكأن سببه أنه بمنزلة شهود الفرع مع شهود الأصل، وقد ذكر الرافعي في الركن الخامس من كتاب الدعاوى في أثناء المدرك الثالث من مدارك ترجيح البينة فرعًا قريبًا منه، فقال: ولو شهد بملك ماض ولم يتعرض للحال لم يسمع في أصح القولين، ثم قال: ويجوز أن يشهد بالملك في الحال اعتمادًا على الاستصحاب، فلو صرح في شهادته بأنه يعتمد الاستصحاب فوجهان، قال الغزالي والأصحاب: لا تقبل كما لا تقبل

شهادة الرضاع على امتصاص الثدي وحركة الحلقوم، وقال القاضى: تسمع لأنا نعلم أنه لا مستند له سواه هذا كلامه. وهو يقوي ما قاله ابن أبي الدم في الاستفاضة ولعله ذكر قياسًا عليه. قوله: وذكر ابن كج: أنه لو دعي لأداء الشهادة عند أمير أو وزير، فعند ابن القطان لا يجب أداء الشهادة عندهما، قال: وعندي يجب إذا علم أنه يصل به إلى الحق، وحكى أبو الفرج وجهين في أنه هل يجب الحضور عند القاضي الجائر والمتعنت في أداء الشهادة؟ فعلى عدم الوجوب تكون عدالة القاضي وجمعه للشروط المعتبرة شرطًا. انتهى. أما الأولى: فقد جزم بالوجوب فيها أيضًا الماوردي والروياني، وقال في "الروضة" من "زوائده": إنه الأصح، لكن ذكر ابن سراقة في تصنيفه في "أدب الشهود": أن الأصح عدم الوجوب. ذكر ذلك في باب بيان العلل المانعة من أداء الشهادة، وجزم بنحوه أيضًا في "الروضة" في القضاء على الغائب في ضمن فرع من الطرف الثالث، فقال: إن منصب سماع البينة يختص بالقضاة. ونقله الرافعي عن "الوسيط". وأما الثانية: ففي "الروضة" من "زوائده" أن الأرجح هو الوجوب. قلت: ونقله في "البحر" عن أصحابنا مطلقًا ذكره قبيل الكتاب الأول من الكتابين المعقودين للشهادات. قوله: ويوافق هذا ما قيل أن المدعي لو قال للقاضي: لي عند فلان شهادة وهو ممتنع من أدائها فأحضره ليشهد، لم يجبه القاضي لأنه فاسق بالامتناع بزعمه، فلا ينتفع بشهادته. انتهى. ينبغي أن تكون صورة المسألة ما إذا قال هو ممتنع بغير عذر، وقد نبه

على ذلك في "الروضة". قوله: وحكى -أي البغوي- وجهين في ما إذا دفع شيئًا ليصرفه إلى نفقة الطريق والمركوب، فهل له أن يصرفه إلى عرض آخر ويمشي راجلًا؟ وهما كالوجهين في ما إذا دفع إلى فقير شيئًا فقال: اشتر به لنفسك ثوبًا، هل له صرفه إلى غير الثوب؟ والأشهر: الجواز انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" أيضًا على ذلك فصرح بأن الأصح في المسألتين جميعًا جوازه كما هو مقتضى كلام الرافعي، لكن في مسألة الفقير تفصيل قد مر في كتاب الهبة فراجعه. وقياسه أن يأتي في مسألة الشاهد أيضًا، ثم إن مشى الشاهد من بلد إلى بلد مع قدرته على الركوب قد يكون خارمًا للمروءة قادحًا في قبول الشهادة، فيظهر حينئذ امتناعه في حق من هذا شأنه. قوله: ولو طلب الشاهد أجرة ليتحمل، فإن لم يتعين: فله الأخذ، وإن تعين: فوجهان: أظهرهما: الجواز انتهى كلامه. وأخذ الأجرة له شرط، ذكره الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى" فقال: ولا يجوز أخذ الأجرة على تحمل شهادة يبعد تذكرها ومعرفة الخصمين فيها، لأن باذل الأجرة إنما يبذلها على تقدير الانتفاع بها عند الحاجة إليها فيصير هاهنا آخذ الأجرة على شهادة لا يحل له أداؤها، ذكر ذلك في الفصل المعقود لما يثاب عليه الشهود وهو نحو ثلث الكتاب. قوله: ومقتضى قولنا أنه يطلب الأجرة إذا دعى للتحمل أن يطلب الأجرة إذا دعى للأداء سواء كان القاضي معه في البلد أم لا، كما لا فرق في التحمل، وأن يكون النظر إلى الأجرة مطلقًا لا إلى أجرة المركوب ونفقة الطريق خاصة، ثم هو يصرف المأخوذ إلى ما يشاء، ولا يمنع من ذلك كون الأداء فرضًا عليه كما ذكرنا في التحمل مع تعينه على الأصح انتهى كلامه.

والبحث الذي ذكره الرافعي في تجويز أخذ الأجرة على الأداء قياسًا على التحمل ضعيف، فقد فرق الماوردي وغيره بينهما بأن أخذ الأجرة في الأداء يوجب ريبة، على أن الماوردي حكى وجهين فيما إذا كان ممتنعًا عن كسبه بالتحمل، وجعل في أخذ الأجرة عليها ثلاثة أوجه: ثالثها: يجوز على التحمل دون الأداء، وقد ضعف في "الروضة" أيضًا مقالة الرافعي فقال: إنه ضعيف مخالف لكلام الأصحاب، قال: فإن فرض من يحتاج إلى الركوب في البلد فهو محتمل، والوجوب ظاهر.

فصل في آداب التحمل والأداء منقولة من مختصر الصيمري

قال -رحمه الله-: فصل في آداب التحمل والأداء منقولة من مختصر الصيمري قوله: وإن أتى بكتاب أنشئ على مختلف فيه عند العلماء وهو لا يعتقده، فهل يعرض عنه أو يشهد ليؤدي ويحكم الحاكم باجتهاده؟ وجهان سبقا انتهى. وأشار إلى وجهين مذكورين قبل هذا بنحو ورقة وهو قبيل القيد الخامس وليسا مطابقين لما هاهنا فتأمله. قوله: وإذا قرأ الكتاب على المتبايعين مثلًا فقال: عرفتما ما فيه أشهد عليكما بما فيه؟ فقالا: نعم. كفى للتحمل انتهى. وما نقله عن الصيمري من جواز الشهادة عليه بقوله أشهد وأقره عليه، قد تابعه عليه أيضًا النووي، وفي صحة التحمل بذلك اضطراب سبق إيضاحه في الباب الثاني من أبواب الإقرار وفي باب أركان الطلاق فراجعه. قوله: ويستحب الاستعانة بما يفيد التذكير كما ذكرنا في الباب الثاني من أدب القضاء. انتهى. والتعبير بقوله: ويستحب أعني بالسين والحاء هو الصواب، وقد رأيته بخط النووي في "الروضة" كذلك فاعلمه، فإن كثيرًا من النسخ يقع فيها التعبير بقولنا يجب من الوجوب وهو تحريف.

الباب الرابع في الشاهد واليمين

الباب الرابع: في الشاهد واليمين قوله في أصل "الروضة": يجوز القضاء بشاهد ويمين، ولا يقضى بشهادة امرأتين ويمين في الأموال قطعًا. انتهى. وليس كما قال من دعوى القطع، بل فيه خلاف ذكره في كتاب الشفعة في أوائل الباب الثالث المعقود لما يسقط به حق الشفيع، فقال: فصل: إذا أخر الطلب، ثم قال: أخرت لأني لم أصدق، فإن أخبره عدلان أو عدل وامرأتان بطل حقه وفي النسوة وجهان بناء على أن المدعي هل يقضى له بيمينه مع امرأتين؟ إن قلنا: لا، فهو كالمرأة وإلا كالعدل الواحد، ولم يدع الرافعي هنا أن الجواز مقطوع به. قوله أيضًا في "الروضة": ولو كان في يد رجل شخص يدعي أنه رقيقه فادعى آخر أنه كان له وأنه أعتقه وأقام شاهدًا وحلف، أو رجلًا وامرأتين، نص الشافعي -رحمه الله- أنه ينزع منه ويحكم بأنه عتق على المدعي بإقراره، فمن الأصحاب من قال: في قبول هذه البينة والانتزاع قولان لأنهما شهادة تملك [متقدم] (¬1)، والمذهب: القطع بالقبول والانتزاع كما نص عليه. انتهى كلامه. والرافعي -رحمه الله- في "الشرحين" معًا لم يصرح بتصحيح شيء من الطريقين، وإن كان قد صحح ما ذكره النووي من حيث الجملة. قوله: ولو ادعى ورثة ميت دينًا أو عينًا لمورثهم وأقاموا شاهدًا واحدًا، وامتنعوا من الحلف، وعلى الميت دين فهل للغريم أن يحلف؟ فيه قولان: ¬

_ (¬1) في ب: مقدم.

الجديد: المنع. انتهى. ومحل هذا الخلاف كما قال الفوراني: ما إذا لم يكن في التركة وفاء غير هذا الدين، فإن كان لم يحلف قطعًا. قوله: والقولان في هذه المسألة جاريان في ما إذا قد أوصي لإنسان ولم يحلف الورثة، هل يحلف الموصى له؟ فإن كانت الوصية بعين وادعاها في يد الغير، فلا ينبغي أن يكون هذا موضع الخلاف، بل يجوز لا محالة. انتهى. وأشار بقوله في ما إذا قد أوصى لإنسان إلى الوصية بما ليس بعين كقوله: أوصيت له بمائة درهم، فإنه حينئذ يكون نظير الدين المختلف فيه، وما ذكره بعد وهي مسألة الوصية بالعين إذا أقام عليها شاهدًا واحدًا ولم يطلع فيها على نقل وقال: ينبغي أن يجوز للوارث فيها الحلف بلا خلاف، قد اختلف فيها الأصحاب كما حكاه الماوردي والروياني فبعضهم قال: يحلف قطعًا، وبعضهم خرجها على القولين، وقد ذكر الرافعي في كتاب القسامة فرعًا آخر له تعلق بهذا، وهو ما إذا أوصى بعين في يد نفسه فادعاها شخص بعد موت الموصي، ولم يقم على دعواه بينة، فهل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية؟ قال: فيها احتمالان للإمام، وقد تقدم الكلام عليه هناك. قوله: فلو حلف بعضهم لم يشاركه في نصيبه من لم يحلف على المنصوص، وما حكمه؟ -يعني من لم يحلف- ينظر: إن كان حاضرًا كامل الحال ونكل ذكر الإمام: أن حقه يبطل بالنكول، ولو مات لم يكن لوارثه أن يحلف، وفي كتاب ابن كج ما ينازع فيه وقد يوجه بأنه حقه فله تأخيره. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والصحيح: أن حقه لا يبطل حتى يحلف هو ووارثه، فقد قاله أيضًا القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وحكى

الإمام في موضع آخر فيه وجهين، وكذلك الغزالي وجوزوا له على ذلك الوجه أن يدعي به ثانيًا ويحلف إذا ردت اليمين عليه، وقد حكى ذلك جميعه ابن الرفعة في "المطلب". قوله: قال الإمام: ولو أقام الورثة شاهدًا وحلف معه بعضهم ومات بعضهم قبل أن يحلف ونكل كان لوارثه أن يحلف، لكن هل يحتاج إلى إعادة الدعوى، والشاهد؟ فيه احتمالان، والأشبه: أنه لا يحتاج. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا ومقتضاه: أنهما لم يقفا في المسألة على نقل، وقد صرح الماوردي بالمسألة وجزم بما رجحه الرافعي، وقال الغزالي في "البسيط": إنه الظاهر. قوله: ولو أقام بعضهم شاهدين على دين أو عين للمورث فإنه يثبت الجميع ثم ينتزع القاضي نصيب الصبي والمجنون، وأما نصيب الغائب: فإن كان عينًا انتزعها، وكلام الأصحاب يقتضي: أن هذا الانتزاع واجب وهو الظاهر، لكن سبق في باب الوديعة أن الغاصب لو حمل المغصوب إلى القاضي والمالك غائب ففي وجوب قبوله وجهان، فيجوز أن يعود ذلك الخلاف هنا مع قيام البينة. انتهى. وهذه الصورة التي تكلم عليها هاهنا وهي ما إذا مات صاحب العين ووارثه غائب، فقد ذكرها في أوائل باب استيفاء القصاص، وجزم بأن القاضي ينتزعها، وعلله بأنه حفظ لحق الميت، ثم جعل محل الخلاف المحكي في انتزاع الحاكم في ما عدا هذه الصورة. وإذا علمت ما قاله هناك من التفرقة بين المسألتين في الحكم والمعنى علمت أن البحث الذي ذكره هنا ذهول عما قرره هناك. قوله في "الروضة": وهل يثبت الوقف بشاهد ويمين؟ إذا قلنا الملك فيه لله تعالى: فيه وجهان أو قولان:

أحدهما: لا، وبه قال المزني وأبو إسحاق [كالعتق] (¬1) ومال العراقيون إليه ونسبوه إلى عامة الأصحاب. والثاني: نعم، وهو المنصوص وصححه الإمام والبغوي، وجزم به الغزالي وهو أقوى في المعنى. انتهى. وما ذكره من جزم الغزالي به ليس كذلك، فقد حكى في "البسيط" فيه وجهين؛ ولهذا لم يذكره الرافعي، وقد صرح الرافعي في "الشرح الصغير" بتصحيح الثبوت بالشاهد واليمين، وعبر بالأظهر. قوله: ولو مات عن بنين، فادعى ثلاثة منهم: أن أباهم وقف عليهم هذه الدار ومن بعدهم على كذا، وأنكر سائر الورثة، وأقاموا شاهدًا وحلفوا معه. إذا قلنا به ثم ماتوا أخذه البطن الثاني وقفا بلا يمين عند الجمهور، فإن قلنا لابد من اليمين فكان الحق بعد البنين الثلاثة للفقراء [وكانوا] (¬2) غير محصورين، فهل يبطل الوقف وتعود الدار إرثًا أم تصرف إليهم بلا يمين، أم تصرف إلى أقرب الناس [للواقف بناء] (¬3) على أنه تعذر مصرفه كالوقف المنقطع؟ فيه ثلاثة أوجه. انتهى. قال في "الروضة": الأصح: يأخذون بلا يمين وتسقط هنا لتعذرها، ولا يبطل الوقف بعد صحته ووجود المصرف بخلاف المنقطع. ¬

_ (¬1) في ب: كالعين. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الباب الخامس في الشهادة على الشهادة

الباب الخامس: في الشهادة على الشهادة قوله: وإنما يجوز التحمل إذا علم أن عند الأصل شهادة جازمة بحق ثابت ولمعرفته أسباب ثلاثة. . . . إلى آخره. اعلم أن الأصل إذا استدعى شاهدًا جاز لمن سمعه أن يشهد على شهادته، كذا قال ابن القاص، وصححه في "الشامل"، فهو إذن سبب رابع لم يذكره الرافعي ولا النووي. قوله: وإن عرض بالأصل فسق أو عداوة أو ردة ثم زالت فهل للفرع أن يشهد بالتحمل الأول أم يحتاج إلى تحمل جديد؟ عن ابن سريج أنه يحتاج وصححه الإمام، وروى وجهًا آخر: أنه لا حاجة إليه، وهذا قضية إيراد "التهذيب" انتهى. والصحيح: هو الأول، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له، ولم يصرح بالمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر". قوله: ولو طرأ على الأصل جنون فقيل تبطل شهادة الفروع كالفسق، والجمهور على أنه لا أثر له كالموت، لأنه لا يوقع دينه في ما مضى، ويجري الوجهان فيما لو عمي وأولى بأن لا يؤثر فيه، لأنه لا يبطل أهلية الشهادة بالكلية، ولو أغمى عليه قال الإمام: إن كان غائبًا: لم يؤثر، وإن كان حاضرًا: لم يشهد الفرع بل ينتظروا لزواله؛ لأنه قريب الزوال ومقتضى هذا أن يكون الجواب كذلك في كل مرض يتوقع زواله لتوقع زوال الإغماء انتهى كلامه.

اعترض النووي -رحمه الله- على هذا البحث الذي ذكره الرافعي، فقال: قلت: ليس كما قال الرافعي -رحمه الله- بل الصواب: أن المرض لا يلحق بالإغماء وإن توقع زواله قريبًا، لأن المريض أهل للشهادة بخلاف المغمى عليه والله أعلم. وهذا الاعتراض الذي ذكره -رحمه الله- غلط ظاهر ليس فيه ملائمة لبطلان ما يقوله الرافعي، بل يعضد ما يقوله ويقويه، لأن وجود الأصل وهو بصفة الشهادة لا شك أنه أقرب إلى عدم قبول الفرع من الحالة التي يخرج فيها الأصل عن الأهلية بسبب لا تقصير فيه، والمجنون الحاضر تقبل شهادة فرعه ولا شك أن إلحاق الإغماء [بالجنون أقرب من إلحاق المرض الذي لا يزيل العقل، فإذا كنا ننتظر زوال الإغماء] (¬1) لقربه فانتظار المريض القريب أولى ولا شك أنه يوهم أن مراد الرافعي بإلحاق المرض بالإغماء إنما هو في بطلان شهادة فرعهما لتقدم الكلام فيه. قوله: فإن شهد اثنان على شهادة أصل وآخران على شهادة الثاني: جاز، ولو شهد فرع على أصل وفرع آخر على شهادة الأصل الثاني: لم يصح، ولم يذكروا فيه خلافًا، ولو شهد فرعان على شهادة الأصلين معًا ففي قبوله وجهان: أصحهما: الجواز. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف قد تبعه عليه في "الروضة" وعبر بقوله لم يصح قطعًا وليس الأمر كذلك، فقد رأيت في "السلسلة" للشيخ أبي محمد الجويني في هذه المسألة قولين، ونقلهما ابن أبي الدم في "أدب القضاء" عن الكتاب المذكور، ونقلهما أيضًا ابن الرفعة عن ابن أبي الدم. قوله: وإذا قلنا بأنه لا تجوز شهادة الفرعين على شهادة [الأصلين معًا فشهد أربعة على شهادة] (¬2) الأصلين، فوجهان: أحدهما: المنع أيضًا لأنهم ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من ب.

جميعًا إذا قاموا مقام شاهد واحد لا يقومون مقام الثاني. والثاني: يجوز، لأنه قد شهد اثنان منهم على شهادة زيد واثنان على شهادة عمرو، فلا يضر تعرض شهادة زيد لشهادة عمرو، وبالعكس قال الإمام: وهذا هو الذي لا يجوز غيره. انتهى. والصحيح: هو الجواز، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير": وعبر بالأصح، والنووي في أصل "الروضة": وعبر بالصحيح. قوله: ومنها -أي ومن الأعذار المقتضية لسماع الفرع- الغيبة إلى مسافة القصر، فإن كانت دون مسافة القصر فمنهم من أطلق وجهين منهم ابن القطان، والأشبه: أنه إن كانت المسافة بحيث لو خرج الأصل بكرة لأداء الشهادة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلًا لم تسمع شهادة الفرع، وتسمى هذه مسافة العدوى، وإن كانت بحيث لا يمكنه الرجوع فهو موضع الوجهين. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من كون مسافة العدوى هي التي يرجع فيها المبكر إلى أهله بالليل سواء كان في أوله أو وسطه أو آخره، قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، بل الضابط أن يرجع قبل الليل، كذا ذكره الأصحاب، وذكره هو أيضًا في كتاب النكاح في الكلام على سوالب الولاية، ولم يحك فيه خلافًا وتبعه عليه في "الروضة". الأمر الثاني: أن ما ذكره النووي هنا تبعًا للرافعي من تصحيح القبول في ما فوق مسافة العدوى مسلم، وأما المنع في مسافة العدوى فقد خالفه في "المنهاج": فقال: وشرط قبولها تعذر أو تعسر الأصل بموت أو إغماء يسبق حضوره أو غيبة لمسافة عدوى، وقيل: قصر. هذا لفظه، وهو اختلاف عجيب.

وكلام الرافعي سالم منه، فإنه صحح في "المحرر" أيضًا: أنها لا تسمع كما صحح في الشرحين فقال: والأظهر أن الغيبة إلى ما فوق مسافة العدوى كالغيبة إلى مسافة القصر، هذه عبارة "المحرر"، فسها -رحمه الله- في "اختصاره". وما ذكره النووي في "المنهاج" مشكل على مسائل: منها: إذا دعي لأداء الشهادة في بلد أخرى ففي "الروضة" و"المنهاج" وأصلهما: أنه إن دعي إلى مسافة العدوى فهي قريبة يجب عليه الأداء، وإن دعي إلى مسافة القصر فلا، وكذا إن كان بين المسافتين على الأصح. ومنها: أن الغائب إذا قلنا تسمع الدعوى عليه فشرطه أن يكون في مسافة بعيدة، وضابط البعد على ما ذكره في الذهاب لأداء الشهادة قاله في "المنهاج" وغيره. ومنها: إذا طلب من الحاكم إحضار غائب، ففي "المنهاج": أنه على هذا التفصيل، فيقال للشيخ محيي الدين لم جعلت مسافة العدوى بعيدة في المسألة الأولى فقط وهي قبول شهادة الفرع وجعلتها قريبة في باقي المسائل؟ ولو غاب الولي فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر، فالأصح: أنها كمسافة العدوى حتى لا يجوز للحاكم التزويج إلا بإذن، وفرق "الرافعي" بوجهين: أحدهما: أن الولي إذا زوج لم يحتج إلى الحضور بل يوكل بخلاف الشاهد. الثاني: أن الخصم قد يهرب فيفوت الحق، والنكاح لا يفوت غالبًا بهذا القدر من التأخير. قوله في المسألة: وعبارة جماعة من الأصحاب: إن كان يلحقه مشقة

غليظة في المجيء إلى مجلس الحكم لم يكلف وسمعت شهادة الفرع، وهذا يجوز أن يحمل على المشقة اللاحقة بالمجيء فيما فوق مسافة العدوى، ويجوز أن يجعل أعم من ذلك، وإلى الحمل الأول ميل ابن الصباغ. انتهى كلامه. اعترض في "الكفاية" فقال: لم يمل ابن الصباغ إلى الأول، بل نقل عن الشيخ أبي حامد كلامًا يقتضي أنه -أي أبا حامد- يميل إليه، ثم إن الأول قد صرح به البندنيجي والشيخ في "المهذب" وغيرهما، وكلام الماوردي يميل للمحمل الثاني. قوله: ويلحق خوف الغريم وسائر ما تترك به الجمعة بالمرض، هكذا أطلق الإمام الغزالي وليكن ذلك في الأعذار الخاصة دون ما يعم الأصل والفرع كالمطر والوحل الشديد. انتهى كلامه. وما استدركه من إخراج العذر العام للأصل والفرع من تجويز سماع شهادة الفرع بسببه، قد تابعه عليه في "الروضة"، ونقله أيضًا ابن الرفعة عنه خاصة وسكت عليه، وهو تقييد باطل ووهم عجيب، فإن مشاركة غيره له لا تخرجه عن كونه عذرًا في حق الفرع إلا إذا اشتركا في سبب يستحيل الحضور معه لا في ما يمكن مع المشقة، فإن وجد المدعي من يتكلف ويؤدي الشهادة على الأصل في تلك الحالة سمعت، ووجوده كبير خصوصًا عند إعطاء ما يرضى الشخص به، وإن لم يجد ذلك كان المانع عدم وجود الفرع.

الباب السادس في الرجوع عن الشهادة

الباب السادس: في الرجوع عن الشهادة قوله: وكذا الحكم لو شهدوا بالردة فقتل، أو بزنا المحصن فرجم، أو على بكر فجلد ومات منه ثم رجعوا، وذكر أبو الحسين العبادي احتمالين في أنهم يرجمون أو يقتلون بالسيف؟ ، والأظهر: الأول. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن في هذين الاحتمالين وجهين للأصحاب ونقلهما من هو أقدم من العبادي المذكور وهو القاضي الحسين ونقلهما عنه ابن الرفعة في "الكفاية" و"المطلب"، وقد سبق ذكرهما أيضًا من كلام الرافعي في باب استيفاء القصاص لكن في مثال آخر. الأمر الثاني: أن الاحتمال الذي صححه الرافعي وهو كونه يرجم، قد جزم به البغوي في "فتاويه"، وهو لا يوافق القواعد المقررة في كتاب القصاص لأن شرط الاقتصاص بالحجر معرفة موضع الجناية وقدر الحجر وعدده كما أوضحوه في موضعه، والمرجوم في الزنا لا تنضبط [هذه الأمور في حقه قطعًا، ولو فرضنا أنها انضبطت فهي لا تنضبط] (¬1) أيضًا في حق الشاهد حتى يرجم فيتعذر القصاص بما فعل، وتعين أن يكون الصواب هو الانتقال إلى السيف، وقد سبق في باب استيفاء القصاص تعرض للمسألة، وهذه المسألة ذكرها الرافعي في آخر الباب فنقلها النووي إلى هنا فتابعته عليه. قوله: ولو رجع الولي مع الشهود فوجهان: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أحدهما: أن القصاص أو الدية بكمالها على الولي، لأنه المباشر وهم معه كالممسك، وهذا أظهر: عند الإمام. والثاني: وهو الأصح عند صاحب "التهذيب": أنهم معه كالشريك انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا ولا في "المحرر"، فإنه قال -فيه أعني في "المحرر"-: رجح كلام كلًا منهما مرجحون. والأصح: هو الأول، كذا جزم به الرافعي في أوائل الجنايات في الكلام على القتل بشهادة الزور، وقال في "الروضة" من "زوائده" هنا: إنه الأصح نقلًا ودليلًا. قوله: ولو رجع الشهود بعد القتل وقالوا: أخطأنا، وكان الجانى أو الزاني غيره، فلا قصاص وتجب الدية. قال الإمام: وقد يرى القاضي والحالة هذه تعزير الشهود لتركهم التحفظ. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلام الإمام من جواز التعزير، وتابعه عليه الرافعي والنووي قد ذكره أيضًا الغزالي في "البسيط" و"الوسيط" وعبر بالعبارة المنقولة عن الإمام، والمعروف: عدم التعزير على خلاف ما قالاه، فقد جزم به القفال والقاضي أبو الطيب في آخر الباب من "تعليقته" والبندنيجي في "تعليقته" أيضًا، وابن الصباغ في "الشامل" والبغوي في "التهذيب" والروياني في "البحر" وأبو نصر البندنيجي في "المعتمد" والقاضي مجلي في "الذخائر". نعم ذكر الرافعي في أول الباب: أن شهود الزنا إذا رجعوا وقالوا: أخطأنا يحدون على الصحيح لما فيه من التعبير وكان حقهم أن يثبتوا، قال: وعلى هذا فترد شهادتهم، والفرق ما أشار إليه الرافعي من التعبير بالرمي من

الزنا ولهذا وجب فيه الحد بخلاف نسبته إلى القتل ونحوه من الكبائر. قوله: وقول "الوجيز": ولو قال: تعمدت ولكن ما علمت أنه يقتل بقولي هذا يدخل فيه ما إذا قال: لم أعلم أنه يقتل بما شهدت عليه بل ظننت أنه يحبس أو يؤخذ منه المال، وهي الصورة التي ذكرناها وفرقنا بين أن يكون قريب العهد بالإسلام أو بعيدًا، أو يدخل في ما إذا قال: لم أعلم أنه يقتل بقولي؛ لأنني ظننت أنني أجرح بأسباب تقتضي الجرح، ويمكن أن يجعل هذا خطأ. انتهى كلامه. واعلم أن الصورة الأولى: وهي ما إذا ظن الحبس ونحوه، قد صرح بها قبل ذلك، وصحح أن القصاص لا يجب فيها، بل الواجب فيها دية شبه العمد. وأما الصورة الثانية: وهي ما إذا ظن الجرح فقد اقتضى كلامه أنها أولى بعدم وجوب القصاص مما قبلها فإنه أدرجها في كلام الغزالي، ومال إلى أنها من صور الخطأ لا من شبه العمد، وهذه الصورة قد حذفها من "الروضة" فلم يذكرها بالكلية، والحكم الذي ذكره فيها الرافعي مشكل، وذكر في "الشرح الصغير" قريبًا مما ذكره في "الكبير". قوله: فرع: قال أبو الحسين ابن القطان: لو رجع الشهود وقالوا: أخطأنا [وادعوا أن العاقلة تعرف أنهم أخطأوا و] (¬1) عليهم الدية، فقالت العاقلة: لا نعلم، ليس للشهود تحليفهم وإنما تطالب العاقلة إذا قامت البينة. قال ابن كج: [ويحتمل] (¬2) أن يقال: لهم تحليفهم لأنهم لو أقروا غرموا. انتهى كلامه. واعلم أن الجاني إذا اعترف بالخطأ أو شبه العمد وكذبته العاقلة فله ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

تحليفهم على نفي العلم كذا جزم به الرافعي في باب العاقلة فيكون الصحيح خلاف ما قاله ابن القطان، فإن الشاهد فرد من أفراد ما دخل هناك في كلامه فاعلمه. قوله: أما إذا شهدوا بطلاق رجعي، ثم رجعا، نظر: إن راجعها: فلا غرم إذا لم يعنت عليه بشهادتهما شيء، وإن لم يراجعها حتى انقضت العدة: التحق بالطلاق البائن ووجب الغرم، هكذا ذكره صاحب "التهذيب"، وحكى أبو الفرج السرخسي عن القاضي الحسين وجهًا: أنه لا غرم إذا لم يراجع لتقصيره بترك التدارك، وأطلق "ابن كج" وجهين في أن الشهادة على الطلاق الرجعي والمرجوع عنها هل تقتضي غرمًا؟ ، ومال إلى المنع؟ وحكاه عن ابن أبي هريرة، فإن أوجبنا فغرموا ثم راجعها الزوج، فهل عليه رد ما أخذ؟ فيه احتمالان ذكرهما أبو الحسن العبادي، زاد النووي فقال: الصواب: الجزم بالرد والله أعلم. فيه أمور: أحدها: أن الغرم له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون بعد الرجعة. والثاني: قبلها وبعد انقضاء العدة. والثالث: أن يكون قبل الرجعة وقبل انقضاء العدة أيضًا. والذي دل عليه كلام الرافعي فإن البغوي ساكت عن هذا القسم الثالث وهو كذلك، فإنه قال: ولو شهدا على طلاق رجعي ثم رجعا بعد الحكم، فإن لم يراجعها الزوج حتى انقضت العدة: يجب المهر على الشهود، فإن راجعها: فلا غرم، هذه عبارته. وإذا علمت ذلك فقد ذكر القاضي الحسين في "تعليقته" هذا القسم،

وأجاب فيه بالغرم، فقال ما نصه: فإن شهدوا بالطلقة الرجعية ثم رجعوا يحتمل أن يقال: لا يغرمون شيئًا راجعها أم لم يراجعها، لأنهم ما أزالوا الملك بل الزوج أزاله بترك المراجعة، والظاهر: وجوب الغرامة لقول الشافعي في "المختصر" لأنهم حرموه عليه ثم ينظر: إن راجعها: فيستردون الغرم من الزوج، وإن لم يراجعها: استقر الغرم على الشهود. هذا كلامه. ذكره في أثناء فرع أوله: قد ذكرنا أن الشهود، وقد أعلمتك في أول الكتاب أن "التهذيب" ملخص من هذه التعليقة التي هي لشيخه وخلاصتها فلما لخص البغوي هذه المسألة عبر بعبارة قاصرة. ثم على ما قاله القاضي إذا غرمهم في العدة، ثم قبل انقضائها مات الزوج أو ماتت المرأة أو طلقها طلاقًا بائنًا فلا استرداد، وكلامه يشير إليه أيضًا. الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي بقوله: وحكى السرخسي عن القاضي الحسين وجهًا أنه لا غرم، لا يعلم منه هل هو ناقل له أو قائل به؟ وقد ظهر لك انتفاء كل منهما، وإنما نسبت إليه كنسبة قولين للشافعي ذكرهما في وقت واحد، ورجح أحدهما على الآخر. الأمر الثالث: أن النووي -رحمه الله- قد اختصر كلام الرافعي بقوله: ولو شهدا بطلاق رجعي، ثم رجعا فلا غرم إذا لم يفوتا شيئًا، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة التحق بالبائن ووجب الغرم هذه عبارته، فأوجب الرجوع في القسم الثالث مع أن الرافعي لم يذكره وزاد على ذلك فصححه، ووقع في "الكفاية" لابن الرفعة هذا الغلط أيضًا وقد نبهت عليه في "الهداية إلى أوهام الكفاية" ولم يصحح الرافعي أيضًا شيئًا في هذه المسألة من "الشرح الصغير"، ولم يذكرها في "المحرر"، وحكى الروياني في "البحر" في المسألة طريقين: حاكية لوجهين، وقاطعة بعدم الرجوع،

وصحح الطريقة القاطعة، وجزم أيضًا أبو نصر البندنيجي في "المعتمد": بأنه لا يرجع، وأما غير من ذكرناه فقل من تعرض في المسألة لتصحيح. فائدة: يتلخص مما حكاه الرافعي في الرجعية أربعة أوجه، وإن كان بعضها احتمالات فإن احتمالات أصحاب الوجوه وجوه، ويؤخذ تعليل جميعها من كلامه: أحدها: يغرمهم الزوج من حين الرجوع، وتستقر الغرامة لأنه إن لم يراجع فقد حصل التفويت، وترك السعي فيه غير مانع كترك المداواة في الجراحة، وإن راجع فقد حصل نقصان العدد فأشبه الطلاق البائن إذا حصل بعد التجديد، وهذا الوجه قد ضعفه النووي. والثاني: لا يغرمون أصلًا، لأنه إن راجع: فلم يفت عليه شيء بخلاف تجديد النكاح فإنه لابد فيه من الرضى وبذل المال، ومجرد تبعيض العدد لا يقابل بالعوض، وإن لم يراجع: فهو المفوت على نفسه، وليس كترك المداواة فإن حصول أثرها مظنون بخلاف رجعة الزوج. والثالث: لا يغرمهم إلا إذا انقضت العدة، ولم يراجع وهو ما صححه النووي. والرابع: يغرمهم من حين الرجوع، ولكن إن راجع فيستردون ويعرف تعليل هذين مما سبق. وإذا اختصرت فقل: أحدهما: يغرمهم وتستقر الغرامة. والثاني: يغرمهم ولكن إذا راجع فيستردون منه. والثالث: يغرمهم ولكن عند انقضاء العدة بدون رجعة. والرابع: لا يغرمهم مطلقًا. قوله: وإن زادوا عن الحد المعتبر بأن شهدا بالحد أو القتل ثلاثة أو بالزنا

خمسة، فإن راجع الكل فالغرم يوزع عليهم بالتسوية وإن رجع البعض فإن ثبت العدد المعتبر فوجهان، ويقال قولان، أصحهما وبه قال الإصطخري وابن الحداد: أنه لا غرم على الراجع، لأنه نفى من تقوم به الحجة، قال في "التهذيب": ولا خلاف أن القصاص لا يجب والحالة هذه، لكن في "الفروق" عن القفال وجوبه [انتهى ملخصًا. وما نسبه هنا إلى ابن الحداد من عدم التغريم خلاف مذهبه] (¬1) فإن الذي قاله إنما هو الوجه الثاني، كذا رأيته في فروعه [في مسألة ما إذا شهد بالقتل ثلاثة فرجع واحد، وصرح أيضًا في فروعه] (¬2) بوجوب القصاص كما نقل عن القفال. قوله: وهل يتعلق الغرم بشهود الإحصان مع شهود الزنا، وبشهود الصفة مع شهود تعليق الطلاق والعتق؟ فيه وجهان في رواية جماعة منهم: المحاملي، وصاحب "التهذيب"، وقولان في رواية آخرين منهم: الإمام وصاحب "الكتاب" والروياني، والصحيح على ما ذكره صاحب "التهذيب": أنه لا غرم عليهم انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة" قد رجحا أن الخلاف وجهان. الثاني: أن الرافعي لما لم يقف على ترجيح إلا للبغوي، تابعه عليه في "المحرر": وعبر بالأظهر، وصرح أيضًا بموافقة أتباعه لصاحب "الحاوي" والنووي في أصل "الروضة" وغيرها، والمعروف، هو الغرم، فقد صححه الماوردي في "الحاوي" والجرجاني في "الشافي" وأبو نصر ¬

_ (¬1) سقط من ب. (¬2) سقط من ب.

البندنيجي في "المعتمد". قوله في المسألة: وإذا قلنا يتعلق الغرم برجوعهم فيعتبر نصاب الشهادتين حتى يكون ثلثا الغرم على شهود الزنا وثلثه على شهود الإحصان، وقيل: يجب عليهما نصفين، ثم قال ما نصه: ولا يجيء في شهود الصفة إذا علقنا الغرم برجوعهم إلا التنصيف. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من أنه لا يتصور فيه إلا التنصيف تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وليس [كذلك فقد تكون الصفة لا تثبت إلا بأربعة كالزنا فينعكس الحكم فيكون الثلثان] (¬1) على شهود الصفة والثلث على شهود التعليق. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كتاب الدعاوى والبينات

كتاب الدعاوى والبينات وفيه خمسة أركان: الركن الأول: في الدعوى قوله: وحيث جوزنا لصاحب الدين أن يأخذ من مال المديون المنكر أو المماطل، نظر: إن كان المأخوذ من جنس حقه فله تملكه. انتهى. تابعه في "الروضة" على التعبير بأنه له التملك ومقتضاه أنه لا يملكه بمجرد الأخذ وكلامه في أول المسألة الثالثة من هذه المسائل يدل عليه أيضًا تقليدًا في التعبير لصاحب "البحر"، وليس كذلك. ووجهه: أن هذا الفعل إنما يجوز لمن يقصد أخذ حقه بلا شك؛ ولهذا قال صاحب "البحر" وغيره: لو أخذه ليكون رهنًا عنده بحقه لم يجز وكان ضامنًا بلا خلاف، وإذا وجد القصد مقارنًا للأخذ كفى ولا حاجة إلى اشتراطه بعد ذلك؛ ولهذا عبر الإمام بقوله: فإن قصد أخذه عن حقه ملكه. وعبر في "التهذيب" بقوله: فإذا أخذ جنس حقه تملكه. نعم هل يشترط التلفظ أم لا؟ يحتمل تخريجه على الملتقط إذا عرف ومضى الحول، واختار التملك، والصحيح فيه: عدم الاشتراط. قوله: وإن أخذ من غير جنس حقه فوجهان: أحدهما: أنه يرفع الأمر إلى القاضي ليبيعه. وأصحهما عند العراقيين والروياني والعبادي: أنه يستقل ببيعه، ثم قال ما نصه: وبه أجاب صاحب "التهذيب"، ولكن فيما إذا كان القاضي جاهلًا بالحال ولا بينة للآخذ، فإن كان عالمًا: فظاهر المذهب أنه لا يبيعه إلا بإذنه. انتهى كلامه.

فيه أمور: أحدها: أن تعبيره في آخره بقوله فظاهر المذهب كذا وكذا هو من تتمة كلام البغوي، كذا رأيته في "التهذيب" بهذه العبارة بعينها. وإذا علمت ذلك فيحتمل أن تكون مقالة البغوي استدراكًا لما تقدم، وأن يكون إطلاق من أطلق محمولًا، ويحتمل أن تكون حكاية لمقالة مرجوحة والأول باق على عمومه كما هو الغالب في استعمالهم، والأول هو المراد على ما أفاده كلام الرافعي في "المحرر" و"الشرح الصغير"، فإنه لم يثبت فيهما هذه المقالة بالكلية، وحذفها وحذف الوجوه المرجوحة، وقد حمل في "الروضة" ذلك على الاحتمال الأول حملًا بلا دليل، فإنه لم يحك وجهًا بل جزم به، ويدفعه ما تقدم، ثم إنه عبر عن قول البغوي وظاهر المذهب بقوله والمذهب ذهولًا عن اصطلاحه في التعبير به عن الطريقين وهو غريب. الأمر الثاني: أن قول الرافعي: ولا بينة له، لم يتكلم هو ولا النووي على مفهوم هذا القيد، وهكذا وقع في "التهذيب" أيضًا، وكان حق التقسيم أن يقول: فإن كان عالمًا أو له بينة. لكن قد ذكر الرافعي أن المنكر إذا كانت عليه بينة يجوز الأخذ من ماله بلا مرافعة إلى الحاكم على الصحيح لما في المرافعة من المشقة والمؤنة وتضييع الزمان، وهذا المعنى قد يوجد في البيع أيضًا. الأمر الثالث: أن إطلاق القول بجواز الأخذ من غير الجنس محله إذا لم يجد أحد النقدين، فإن وجده تعين ولم يعدل إلى غيره، كذا نقله في "المطلب" عن المتولي وارتضاه ولم ينقل غيره وهو واضح. الأمر الرابع: كما يجوز للظافر أن يبيع بنفسه، يجوز له أن يوكل فيه، كذا أطلقه النووي من "زوائده" في آخر تعليق الطلاق.

قوله: وبنى الشيخ أبو محمد الخلاف على الخلاف في أن ملتقط اللقيط هل يستقل بالإنفاق على اللقيط من ماله أم يرفع الأمر إلى القاضي؟ ويحكى مثل هذه عن القفال، لكن المذكور في باب اللقيط، أنه لا يستقل بالإنفاق من غير تعرض لخلاف، وإنما الخلاف في أنه هل يستقل بالحفظ؟ . انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف في باب اللقيط عن استقلال الملتقط بالإنفاق غريب، فقد ذكر الرافعي هناك وجهًا موافقًا لكلام الشيخ أبي محمد والقفال هنا، فإنه حكى وجهًا: أنه إن فعله فلا ضمان عليه كما سبق ذكري له في موضعه، وهذه العبارة مرادفة لجواز الإنفاق ولهذا عبر هنا بقوله: وإنما الخلاف في أنه هل يستقل بالحفظ؟ ولو استحضر ذلك الخلاف وكان مغايرًا للجواز لكان ذكره أقرب، ولكان يرد عليه أيضًا في دعواه حصر الخلاف في الحفظ. قوله: ثم إذا باع، فإن كان الحق من جنس نقد البلد بيع المأخوذ به، وإن لم يكن بأن ظفر بثوب والدين حنطة بيع الثوب بنقد البلد ثم يشتري به حنطة، وحكى الإمام عن محققي الأصحاب: أنه لا يجب هذا التوسط، بل يجوز أن يشتري الحنطة بالثوب. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن إطلاقه النقل عن المحققين تبعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس بصحيح، بل عبر الإمام بقوله: وقد ذهبت طائفة من محققينا إلى الجواز وهذا متجه حسن هذه عبارته. والطائفة قيل: أقلها واحد، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثة. الأمر الثاني: أن ما رجحه هاهنا من امتناع البيع بغير نقد البلد قد سبق في الفلس ما يوافقه، فقال: يجب على القاضي أن يبيع مال المفلس بنقد

البلد حالًا، ثم إن كانت الديون من غير جنس ذلك النقد ولم يرض المستحقون إلا بجنس حقهم فيحصل به ذلك الجنس، فإن رضوا صرفه إليهم إلا أن يكون سلمًا. إذا علمت ذلك فقد خالف في كتاب الرهن في الكلام على بيع العدل، فقال: ولو رأى الحاكم أن يبيعه بجنس حق المرتهن جاز، وذكر مثله في أول الباب الثاني من أبواب الوكالة. قوله: وهل يكون المأخوذ مضمونًا على الآخذ حتى إذا تلف قبل البيع أو التملك يتلف من ضمانه أم لا؟ فيه وجهان: أقواهما: نعم، وهو الذي أورده الصيدلاني والإمام. انتهى. ومحل الخلاف إذا تلف قبل التمكن من البيع، فإن تمكن منه فلم يفعل كان ضامنًا بلا خلاف. كذا ذكره الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر". قوله: وإن لم يظفر إلا بمتاع قيمته على قدر حقه، فإن قلنا: لو كان المأخوذ قدر حقه لا يكون مضمونًا عليه فكذلك الزيادة، وإن قلنا: يكون مضمونًا عليه، ففي الزيادة وجهان: أرجحهما على ما يقتضيه نظم الكتاب: المنع. انتهى. والراجح: هو عدم الضمان، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أرجح الوجهين، والنووي في "الروضة": إنه الأصح، ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: وإن استحق المكسر وظفر بالصحاح حكى الإمام فيه طريقين. أحدهما: جواز الأخذ لاتحاد الجنس. الثاني: أنه على الخلاف المذكور في ما إذا ظفر بغير الجنس، لأن اختلاف العرض باختلاف الصفات كاختلافه باختلاف الأجزاء. انتهى.

لم يرجح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا. وفيه أمران: أحدهما: أن الصحيح: هو الطريقة الثانية، كذا صححها الإمام وعبر بالأصح، والعجب من حذف الرافعي لهذه الزيادة من كلام الإمام. الثاني: أن النووي قد صحح في "الروضة": الطريقة الأولى ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فقال: المذهب جواز الأخذ لاتحاد الجنس، وقيل: فيه الخلاف في اختلاف الجنس هذا لفظه فتفطن له. قوله: فرع: كما يجوز الأخذ من مال الغريم الجاحد أو المماطل يجوز الأخذ من مال غريمه، بأن يكون لزيد على عمرو دين ولعمرو على بكر مثله: يجوز لزيد أن يأخذ من مال بكر ماله على عمرو، ولا يمنع من ذلك رد عمرو وإقرار بكر له ولا جحود بكر استحقاق زيد على عمرو. انتهى. واعلم أن الأخذ وإن كان جائزًا لكن الدعوى به لا تسمع كما ذكره الرافعي في كتاب الفلس، ونقله أيضًا هنا عن تصحيح القاضي الحسين. ذكر ذلك في الكلام على تعارض البينتين في المدرك الثالث من مدارك الترجيح فقال: فرع: المشتري من المشتري إذا استحق المال في يده وانتزع منه ولم يظفر ببائعه هل له أن يطالب الأول بالثمن؟ في فتاوى "القاضي الحسين": الأصح: أنه لا مطالبة. قوله: فرع: آخر جحد دينه وله عليه دين بصك آخر قد قبضه وشهود الصك لا يعلمون القبض، قال القاضي أبو سعد: يدعي ذلك ويقيم البينة ويقتضيه بدينه الآخر، وفي فتاوى القفال: أنه ليس له إقامة أولئك الشهود، لأنهم لو شهدوا فاستحلفه على بقائه لم يكن له أن يحلف، وذلك يدل على أن ما يشهدون به غير ما يدعيه. انتهى.

والصحيح قول أبي سعد كذا قاله في "الروضة" من "زوائده". قوله: وفي حد المدعي قولان: أحدهما: أن المدعي من المتخاصمين هو الذي إن سكت خلي ولم يطالب بشيء، والمدعي عليه من يوافق قوله الظاهر، فإن ادعى زيد دينًا في ذمة عمرو أو عينًا في يده وأنكر فزيد هو الذي لو سكت ترك وهو الذي يذكر خلاف الظاهر، لأن الظاهر براءة ذمة عمرو وفراغ يده عن حق الغير، وعمرو هو الذي لا يترك وسكوته يوافق قوله الظاهر فزيد مدع بموجب العبارتين وعمرو مدعى عليه، ولا يختلف موجبهما في الأغلب، وقد يختلف كما إذا أسلم الزوجان قبل المسيس واختلفا فقال الزوج: أسلمنا معًا فالنكاح باق بيننا، وقالت المرأة: بل على التعاقب ولا نكاح بيننا، فإن قلنا: المدعى من لو سكت لترك فالمرأة المدعية والزوج مدعى عليه، لأنه لا يترك لو سكت، فإنها تزعم انفساخ النكاح فتحلف ويحكم باستمرار النكاح إذا حلف، وإذا قلنا: المدعى من يخالف قوله الظاهر والزوج هو المدعي؛ لأن التساوي الذي يزعمه خلاف الظاهر والمرأة مدعى عليها لموافقتها الظاهر فتحلف وإذا حلفت حكم بارتفاع النكاح. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه من فائدة الخلاف فيه نظر، فإنه إذا ادعى عليها استحقاق دوام التمكين بحكم دعواه، فإنها لا تخلى وسكوتها، وكأن الكلام مفروض في ما إذا ادعت عليه رفع يده عنها بحكم التعاقب في الإسلام ويتعين ذلك ليكون في كل جانب أحد المعنيين، وإلا فلو كان الزوج مدعيًا لكان يجتمع في حقه الوصفان كونه مدعيا أمرًا خفيًا ويخلى وسكوته، وهذا كما إذا ادعى زيد دينًا على عمرو فقد اجتمع فيه الأمران كونه يخلى وسكوته، وكون دعواه تخالف الظاهر، وعمرو هو الذي لا يترك لو سكت ويوافق قوله الظاهر، لكن مجيء القولين ممكن في الطرفين بمعارضة الأصل والظاهر كيف ما فرض سواء ابتدأ الزوج أم لا، وحينئذ لا

دلالة في ذكر القولين على الاستنباط المذكور، لأن مأخذ الخلاف حاصل في الطرفين، بل ظاهر كلامهم: أن التصوير في ما إذا ابتدأ الزوج بالدعوى، فكان ينبغي أن لا يجيء خلاف والحالة هذه لوجود المعنيين فيه. قوله في المسألة: ولو قال الزوج: أسلمت قبلي ولا نكاح ولا مهر، وقالت: بل أسلمنا معًا وهما بحالهما. فقوله في الفراق لم يلزمه، وأما في المهر فالقول قول الزوج، إن قلنا: المدعي عليه [من يوافق قوله الظاهر لأن التعاقب الذي مدعيه هو الظاهر، وقول المرأة إن قلنا: المدعى عليه] (¬1) من يترك لو سكت، لأنها لا تترك بالسكوت، إذ الزوج يزعم سقوط المهر فإذا سكتت ولا بينة جعلت ناكلة وحلف الزوج ويحكم بالسقوط. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره الرافعي -رحمه الله- مشكل، لأنها إن لم تكن قبضت المهر: فهي مدعية على كلا القولين، وإن كانت قد قبضته: فالزوج مدعي به وهو يخلي وسكوته وهي مدعية، إن قلنا: المدعي من يدعي خلاف الظاهر. قوله: وإذا ادعى ولم تقل للقاضي: مره بالخروج عن حقي أو سله جواب دعواي، فهل يطالبه القاضي؟ فيه وجهان: أظهرهما عند ابن الصباغ: نعم، للعلم بأنه الغرض من الحضور، وأصحهما عند القاضي أبو سعد: لا. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد اختلف فيها كلام الرافعي، وقد تقدم ذلك مبسوطًا في الباب الثاني من أبواب القضاء في أوائل الفصل الثالث المعقود للتسوية فراجعه. قوله: وإذا قامت البينة على المدعى عليه فادعى إبراء أو أداء في الدين أو ¬

_ (¬1) سقط من أ.

بيعًا أو هبة أو إقباضًا في العين، وأسنده إلى ما قبل الشهادة، فإن لم يحكم القاضي حلف المدعي على نفيه، وإن حكم فوجهان، ذكر في "التهذيب" أن الأصح: عدم التحليف. انتهى. والصحيح: ما صححه البغوي فقد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "أصل الروضة". قوله: ولو قال: إن الشهود فسقة والمدعي يعلم ذلك فهل له تحليفه أنه لا يعلم؟ وجهان طردوهما في كل صورة ادعى فيها ما لو أقرّ به الخصم لنفعه بأن قال للمدعي عليه: إنك قد أقررت لي بكذا، أو قال وقد توجهت عليه الدعوى: إن المدعي حلفني مرة، وأراد تحليفه، ويشبه أن يكون الأصح: أن له التحليف، لكن ذكر البغوي: أن الأصح: عدم التحليف إذا ادعى فسق الشهود أو كذبهم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة قد تعارض فيها بحث الرافعي مع تصحيح البغوي ولم يطلع الرافعي على تصحيح صريح إلا للبغوي مع أنها قد نص عليها الشافعي في "البويطى"، فقال: وإن أراد المشهود عليه أن أحلفه أنها في ملكه أحلفته، ولا يحلفه على أن المشهود شهدوا الحق، ثم قال عقبه من غير فاصل: وكلما ادعى عليه سوى هذا أحلفته له مثل أن يقول: غصبنيه أو باعنيه، أو قد علم أن الشهود شهدوا بغير الحق أحلفته على علمه في الشهود أنهم لم يشهدوا بباطل وعلى البت في ما سوى ذلك هذا لفظه بحروفه، ومن "البويطي" نقله، وحينئذ تعين أن يكون الجواز في باقي الأمثلة كذلك. الأمر الثاني: أنه قد أطلق محل الخلاف في التحليف، ومحله إذا ادعى التحليف عند قاض آخر فإن قال للقاضي: إن حلفني عندك مرة، فكلام

الرافعي بعد هذا قبيل الكلام على النكول بقليل مشعر بأنه لا يحلفه. قوله: ولو قال المدعي عليه بعد قيام البينة: إنه قد أبرأني عن هذه الدعوى، فهل يسمع لدعواه ليحلف المدعي؟ فيه وجهان: المذهب منهما على ما ادعاه الروياني: أنه يجاب لأنه لو أقر أنه لا دعوى عليه برئ. واختيار القفال: أنه لا يحلف وهو الذي أورده صاحب "الكتاب" لأن الإبراء عن نفس الدعوى لا معنى له إلا بتصوير وصلح على الإنكار وإنه باطل. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والصحيح: الثاني فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر الوجهين. قوله: وإن شرطنا التفصيل في دعوى النكاح والشهادة به وهو الصحيح ففي الإقرار وجهان في "الوسيط": أظهرهما: الاكتفاء بالإطلاق. والفرق: أن المقر لا يقر إلا عن تحقيق وتثبيت. انتهى كلامه. وهذا الذي صححه هنا قد ذكر ما يخالفه في كتاب النكاح في الركن الرابع، ووقع هذا الاختلاف في "الروضة" أيضًا على وجه أشد مما وقع في الرافعي، وقد تقدم إيضاحه في النكاح فراجعه. قوله: ولو ادعت أنها زوجته فأنكر فليس لها أن تنكح غيره، إذا لم نجعل الإنكار طلاقًا إلى أن يطلقها أو يموت. قال في "التهذيب": أو ينسخ بإعساره أو لامتناعه إذا جعلنا الامتناع مع القدرة ممكنًا من الفسخ وليكن هذا مبنيًا على أن للمرأة أن تنفسخ بنفسها، أما إذا أحوجناها إلى القاضي فما لم يظهر له النكاح كيف يفسخ أو يأذن في الفسخ؟ انتهى كلامه. والمتجه ما أطلقه البغوي وتكون الضرورة مجوزة لاستقلالها بالفسخ كما

يستقل من ظفر بغير جنس حقه بالبيع والاعتياض لأجل ذلك. قوله: ولو قامت بينة أحدهما على النكاح وبينة الآخر على إقرارها بالنكاح فبينة النكاح أولى كما لو شهدت بينة واحد بأنه غصب منه كذا، وبينة الآخر بأنه أقر به. انتهى. واعلم أن الرافعي قد ذكر بعد هذا قبل الباب المعقود لدعوى النسب وإلحاق القائف بنحو ورقة عن البغوي ما يقيد هذا الإطلاق فقال: وفي "فتاوى الشيخ الحسين الفراء": أنه إذا ادعى رجل نكاح امرأة فأقرت بأنها زوجته منذ سنة، ثم جاء آخر وأقام بينة أنها زوجته ونكحها منذ شهر، يحكم للمقر له لأنه قد ثبت بإقرارها أن النكاح للأول فما لم يثبت الطلاق لا حكم لنكاح الثاني. قوله: وفي سماع الدعوى بالدين المؤجل ثلاثة أوجه: أصحها عند الهروي: لا تسمع. وثالثها: إن كانت له بينة فتسمع دعواه لتسجل فيأمن غيبتها وموتها، وإلا فلا. انتهى ملخصًا. والراجح: عدم السماع، كذا صححه النووي في "المنهاج" وفي "أصل الروضة" فقال: إنه الأصح. وكلام الرافعي يُشعر به أيضًا فإنه قال: فيه وجهان: رجح منهما: المنع، وكذلك في "الشرح الصغير". قوله: وفي دعوى الجارية الاستيلاد، ودعوى الرقيق التدبير وتعليق العتق بصفة طريقان: أحدهما: أنها تسمع، لأنها حقوق ناجزة. والثاني: أنها على الخلاف في دعوى الدين المؤجل والاستيلاد

[أولاها] (¬1) بالسماع لفائدة امتناع البيع والرهن وغيرهما. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير"، والصحيح: سماع الدعوى في الكل كذا صححه في "الروضة" هنا وفي باب التدبير فقال في الموضعين: إنه المذهب، لكنه هنا من "زوائده"، وهناك من الأصل، ومقتضى كلام الرافعي هناك ترجيحه أيضًا. قوله: وهذا المذكور في التدبير هو إذا لم نجوز الرجوع فيه باللفظ، فإن جوزناه فإنكار السيد رجوع يبطل مقصود الدعوى، وقال الإمام: لا يبعد أن تسمع الدعوى وإن جعلنا إنكاره جميعًا لأن المدعى عليه قد يقر وقد يسكت انتهى. وقد اشتمل كلامه على مسألتين: إحداهما: أنَّا إذا جوزنا الرجوع عن التدبير كان إنكاره رجوعًا ولم يحك فيه خلافًا. والثانية: أنا إذا قلنا: يكون رجوعًا لا تسمع الدعوى على الصحيح. فأما الأول: فقد صحح خلافه في باب التدبير في أثناء الكلام على الرجوع فقال: أظهر الوجهين، وهو المنصوص للشافعي: أنه لا يكون رجوعًا، ووقع الموضعان كذلك في "الروضة" أيضًا. وأما الثاني: فقد نقله في التدبير عن الإمام كما نقله عنه هاهنا ولم ينقل خلافه ولم يضعفه فأشعر ذلك باختياره له. ¬

_ (¬1) في أ: أولًا.

الركن الثاني: جواب المدعى عليه

قال -رحمه الله-: الركن الثاني: جواب المدعى عليه قوله: جواب [المدعي] عليه إقرار وإنكار. . . . إلى آخره. اعلم أن حاصل كلامه في هذا الموضع وفي غيره أيضًا أن المدعى عليه يجوز له أن يحلف وأن يرد وكذلك المدعي بعد الرد عليه يسوغ له أن يحلف وأن لا يحلف، وبه صرح الإمام [في "النهاية" فقال: لا يجب اليمين قط، ونقله عنه الرافعي] (¬1)، وقد استدرك عليه الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى" استدراكًا صحيحًا، فقال: وهذا ليس على إطلاقه بل يتعين الحلف حيث يؤدي تركه إلى تعاطي ما لا يباح بالإباحة كالدماء والقروح والضرب في الحدود والتعازير ونحوها بخلاف الأموال والمنافع. قوله: الثالثة: إذا ادعى عليه عينًا فقال: ليس هو لي، أو أضافه إلى مجهول، فلا ينزع المال من يده ولا تنصرف الخصومة عنه على الأصح، فعلى هذا إن أقر به لمعين، قيل: وهل يمكن من أن يعود فيدعيه لنفسه؟ فيه وجهان. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، وصحح الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه": أنه لا تقبل دعواه لنفسه، وأقره النووي فلم يستدركه في التصحيح. قوله: ولو قال المدعى عليه: هو وقف على الفقراء أو على مسجد كذا أو على ابني الطفل أو هو ملك له، فالجواب في "الكتاب": أن الخصومة تنصرف عنه، وكذلك ذكره الشيخ أبو الفرج، وقال في "التهذيب": ¬

_ (¬1) سقط من أ.

لا تسقط الدعوى بهذا. انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح" أيضًا، والراجح: هو قول البغوي كذا أجاب به الرافعي في "المحرر" فاعلمه فإن كلامه هنا ربما يؤخذ منه رجحان مقابله وذكر في "المنهاج" كما في "المحرر". قوله: الرابعة: اشترى ثوبًا أو عبدًا من رجل فادعاه آخر، نظر: إن ساعده المشتري وأقر له بما ادعاه لم يكن له أن يرجع بالثمن على تابعه، فإن استحلف فنكل فحلف المدعي وأخذ المال، قال الشيخ أبو علي: ليس له الرجوع بالثمن أيضًا بلا خلاف لتقصيره بالنكول وحلف المدعي بعد نكوله كإقراره، ويجوز أن يفرض في هذا خلاف بناء على أنه كالبينة. انتهى كلامه. اعترض عليه في "الروضة" فقال: هذا ضعيف أو باطل، لأن المذهب: أنه إنما يكون كالبينة في حق المتنازعين دون غيرهما، والله أعلم. وهذا الاعتراض الذي ذكره النووي -رحمه الله- عجيب فإن مراد الرافعي إثبات خلاف في المسألة، فإن لنا خلافًا في التعدية إلى ثالث بناء على أنها كالبينة قد صرح به النووي في أثناء اعتراضه حيث عبر بالمذهب فلزم من ذلك أن ذكره هذه الزيادة مصححة لكلام الرافعي لا مضعفة ولا مبطلة على خلاف ما شرع فيه. قوله: فرع من كلام القاضي أبي سعد الهروي: أقر المشتري للمدعي بالملك ثم أراد إقامة البينة على أنه للمدعي ليرجع بالثمن على البائع لم يمكن لأنه يثبت المال لغيره بلا وكالة ولا نيابة. انتهى. وما قاله القاضي أبو سعد قد جزم به أيضًا العبادي في "زيادات الزيادات". نعم ذكر البغوي في "فتاويه" عكس ذلك، فقال: يجوز له إقامة البينة عليه.

الركن الثالث: في اليمين

قال -رحمه الله-: الركن الثالث: في اليمين قوله: والتغليظ بالمكان مستحب وفي قول واجب، ثم قال: وفي التغليظ بالزمان طريقان، منهم من جعله على القولين، ومنهم من قطع فيه بالاستحباب. انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا من الطريقين في "الشرح الصغير" أيضًا، وصحح النووي في "الروضة" طريقة القطع بالاستحباب ولم ينبه على أن ذلك من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له. قوله: ثم التغليظ يكون بطلب الخصم أو يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم. حكى ابن كج فيه وجهين، وذكر أن الأصح منهما: الثاني. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، والصحيح: ما صححه ابن كج كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير". قوله: وروي أن عبد الرحمن بن عوف قال في الحالفين بين المقام والبيت: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت [ويروى] (¬1): "أن يبهأ الناس بهذا البيت". يقال: بهأت بالشيء، إذا آنست به حتى سقطت هيبته من قلبك. انتهى كلامه. اعلم أن بهأ: بفتح الباء الموحدة وبالهمزة في آخره تقول: بهأت وبهئت، كضربت وعلمت، بهأ وبهوءًا أي بفتح الهاء وضمها، وأما البهاء بمعنى الحسن فهو من بهي الرجل بالكسر بغيرهم. قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قوله: الرابعة: من به مرض أو زمانة لا يغلظ عليه في المكان لعذره، وكذا الحائض إذ لا يمكنها اللبث في المسجد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد ذكر في كتاب اللعان أن الحائض لا يسقط عنها التغليظ بالمكان بل تلاعن على باب المسجد، فقياسه أن يأتي هنا أيضًا مثله، وإن لمحنا فرقًا بين البابين. وصاحب "التنبيه" ذكر هذا الحكم وهو اللعان على باب المسجد في الجنب، ويؤخذ منه ذلك في الحائض بطريق الأولى وكلام الرافعي يقتضي أنه لا يتعدى إلى الجنب، والفرق: إمكان الاغتسال. الأمر الثاني: أنه يجوز لنا تمكين الكافر الجنب من اللبث في المسجد على الصحيح، وقياس هذا أن التغليظ بالمكان لا يسقط عن الحائض، وإليه يرشد تعليل الرافعي إلا أن يقال: لا يلزم من تمكينها من ذلك أن يأمرها به لأجل حصول أمر أصله مستحب، إذ التغليظ بالمكان وغيره لا يجب. قوله: والمرأة المخدرة إذا قلنا: لا تحضر، هل يغلظ عليها بالمكان؟ فيه وجهان: المذكور في "الكتاب" وبه أجاب الشيخ أبو حامد ومن تابعه: أنها تخرج، ولكن قيل: يبنى هذا الخلاف على الخلاف في أن التغليظ مستحق أو مستحب؟ ، وقضية هذا البناء ترجيح المنع: انتهى ملخصًا. لم يصحح شيئًا في "الشرح الصغير" أيضًا، وصحح النووي في "أصل الروضة": الإخراج. قوله: ولو غلظ القاضي عليه باللفظ فامتنع واقتصر على لفظ "الله" ففي نكوله وجهان، ثم قال: وقد حكى الخلاف في التغليظ اللفظي القاضي الروياني عن القفال، وذكر أن الأصح: أنه يكون ناكلًا، لأنه ليس له رد اجتهاد القاضي. انتهى كلامه بحروفه.

وهو ظاهر في نسبة التصحيح إلى الروياني لا إلى القفال، واختصره في "الروضة" على العكس وهو الصواب فقد نقل الروياني في "البحر" عن القفال: أنه صحح ذلك فاستقام ما في "الروضة" وإن كان خلاف المفهوم من لفظ الرافعي. قوله: ولو نصب البائع وكيلًا ليقبض الثمن ويسلم المبيع، فقال له المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع وترك حق الحبس وأنت تعلم فهل يحلف على البت أم على نفي العلم؟ اختيار أبي زيد: البت؛ لأنه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع. انتهى. قال في "الروضة" من "زوائده": نفي العلم أقوى. قوله: بل يجوز البت بناء على ظن مؤكد ينشأ من خطه أو خط أبيه أو نكول خصمه. انتهى. وما ذكره من جواز البت على خط نفسه قد نقل ما يخالفه في كتاب القضاء في الطرف الثاني منه، وقد سبق إيضاحه هناك فراجعه، وسبق أيضًا هناك: أنه لابد أن يكون الأب المحلوف على خطه ثقة، وعبارة الإمام: أن يكون عدلًا. قوله: الثانية: النظر في اليمين إلى نية القاضي المستحلف وعقد بينة، أما النية فالتورية على خلاف قصد القاضي لا تغني ولا تدفع إثم اليمين الفاجرة، ولو استثنى أو وصل باللفظ شرطًا بقلبه وبنيته أو فعل ذلك بلسانه ولكن لم يسمعه الحاكم فكذلك، وإن سمعه الحاكم عَزَّره وأعاد اليمين عليه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من كون التورية على خلاف قصد القاضي لا ينفع، محله إذا كان التحليف بالله تعالى، فإن كان القاضي يرى التحليف بالطلاق كالحنفي فحلف به نفعت التورية والحالة هذه، كذا ذكره النووي

في كتاب "الأذكار" في باب التورية. الأمر الثاني: أن الحكم ببطلان اليمين عند اتصال الاستثناء دليل على أن الاستثناء ينفع في الماضي حتى لو قال والله ما قمت إن شاء الله وكان قد قام، فإنه لا يحنث، والأمر كذلك. وقد صرح به هكذا المتولي في كتاب الأيمان فتفطن له فإنها مسألة نفيسة مهمة، ومعناها، صحيح فإنه لم يفعل شيئًا قد شاء الله أن لا يفعله؛ إذ لايقع شيء إلا بمشيئة الله تعالى. قوله: الحالف كل من يتوجه عليه دعوى صحيحة، وقيل: كل من توجهت عليه دعوى لو أقر بمطلوبها ألزم به، فإذا أنكر حلف عليه وقبل منه، ويستثنى من هذا الضبط صور فنذكرها مع ما يدخل فيه ويخرج منه: إحداها: يجري التحليف في النكاح والطلاق والرجعة والفيئة والإيلاء وفي العتق والاستيلاد. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن هذين الوجهين حكاهما الإمام عن حكاية القاضي الحسين فقال: أحدهما: أن يدعي حقًا. والثاني: أن يدعي ما لو أقر به لنفع، فهو معنى قول الرافعي في موضع آخر: ما ليس بحق ولكن ينفع في الحق هل تشرع [فيه] (¬1) الدعوى والتحليف؟ فيه وجهان. إذا تقرر هذا فقد جزم الرافعي في "الشرح الصغير" و"المحرر" بالوجه الثاني المرجوح هاهنا، وتبعه عليه النووي في "المنهاج" وإن كان ¬

_ (¬1) في أ: في.

في تعبيره مناقشة من وجه آخر. الأمر الثاني: إذا كان للأمة ولد فادعت على السيد أنه وطئها وأنها أم ولد، فإن اعترف السيد بالوطء حلف، وإن أنكر أصل الوطء فالمشهور: أنه لا يحلف وإنما حلف في الصورة السابقة، لأنه سبق منه الاعتراف بما يقتضي ثبوت النسب، [وقيل: يحلف لأنه لو اعترف به لثبت النسب] (¬1)، وإذا لم يكن ولد لم يخلف بلا خلاف، هكذا ذكره الرافعي في أواخر باب الاستبراء، وهي واردة على المذكور هنا فتفطن لذلك، فإنه لم يستثنها بل تعبيره بقوله: الاستيلاد يقتضي التحليف، وهو الصواب إذا كانت الدعوى لأجل الاستيلاد. وقد جزم الرافعي وغيره بتحليف السيد إذا أنكر الكتابة أو أنكر التدبير، وقلنا: إنكاره ليس رجوعًا عنه. قوله: ولو ادعى عليه سرقة مال فأنكر ونكل حلف المدعي واستحق المال ولم يقطع المدعى عليه، لأن حدود الله تعالى لا تثبت باليمين المردودة. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا من عدم ثبوت القطع باليمين المردودة قد اختلف فيه كلامه، وكذلك كلام النووي أيضًا، قد سبق إيضاح ذلك في باب حد السرقة فراجعه. قوله في "الروضة": الثانية: ادعى على القاضي أنه ظلمه في الحكم أو على الشاهد أنه تعمد الكذب أو الغلط لم يحلفا لارتفاع منصبهما عن التحليف وقد سبق هذا في الباب الأول وفي أول أدب القضاء. انتهى كلامه. أما قوله: في الباب الأول؛ فصحيح ومراده به من كتاب الدعاوى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما قوله: وفي أول أدب القضاء. فسهو بل في آخر الباب الذي قبله بأسطر فتفطن له، وعبارة الرافعي هنا صحيحة فاعلمه. قوله فيها أيضًا: ولو ادعى على المعزول أنه حكم عليه أيام قضائه ظلمًا، وأنكر فقد سبق وجهان: في أنه يحلف، أم يصدق بلا يمين؟ وهو الأصح. انتهى كلامه. وما صححه هنا من تصديقه بلا يمين قد خالفه في "المنهاج"، وقد تقدم إيضاح ذلك في آخر الباب الأول من أبواب القضاء. قوله: ولو وكل بالخصومة في مجلس الحكم استغنى عن حجة يقيمها إن كان الخصم حاضرًا، وإن لم يكن فيبني على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ انتهى كلامه. وتخريجه ما يقع في المجلس على الخلاف في القضاء بالعلم، قد تناقض فيه كلامه وكلام "الروضة" أيضًا، وقد تقدم إيضاح ذلك في الباب الثاني من أبواب القضاء بالعلم فراجعه. قوله في الفروع المنقولة عن "فتاوى القفال" وغيره: ولو أقام المدعي شاهدين بأن هذه الدار ملكه فأقام المشهود عليه شاهدين بأن شاهدي المدعي قالا: لا شهادة لنا في ذلك، سألهما الحاكم: متى قال ذلك الشاهدان اللذان للمدعي؟ فإن قالا: ذكراه من أمس أو من شهر، لم تندفع شهادتهما بذلك لأنهما قد لا يكونان شاهدين ثم يصيران، وإن قالا: ذكراه حين قصدنا لإقامة الشهادة. اندفعت شهادتهما. انتهى. وما ذكره من التفصيل وتابعه عليه في "الروضة" قد ذكر القاضي الحسين في "فتاويه" خلافه، فجزم بأنها: لا تسمع ولم يفصل، فقال: رجل قال في ما بين جماعة: لست بشاهد في أمر كذا، ولا أشهدني أحد عليه.

ثم جاء ليشهد في تلك الخصومة ليس له ذلك ولا تقبل شهادته. هذا كلامه. قوله: ولو أقام المدعي بينة ثم قال للقاضي: لا تحكم بشيء حتى تحلفه، كانت بينته باطلة وذلك لأنه كالمعترف بأن بينته مما لا يجوز الحكم بها. انتهى كلامه. وهذا الحكم مشكل فقد يقصد بتحليفه لتقم بعده البينة، ويظهر إقدامه على يمين فاجرة أو غير ذلك من المقاصد التي لا تقتضي قدحًا في البينة فينبغي أن لا تبطل البينة، كذا ذكره في "الروضة"، والأمر كما ذكره من الإشكال. قوله: إذا طلب المدعي يمين المدعى عليه بين يدي الحاكم، فقال المدعى عليه: قد حلفني على هذا مرة بالتماسه وليس له تحليفي، فإن كان القاضي يحفظ ما يقوله لم يحلفه، ويمنع المدعي مما يطلبه وإن لم يحفظه حلف، ولا تنفع إقامة البينة فيه لما مر أن القاضي متى تَذكَّر حكمه أمضاه، وإلا فلا يعتمد على البينة، وعن ابن القاص: أنه يجوز سماع البينة وحكاه القاضي أبو سعد الهروي وحقه الطرد في كل باب. انتهى كلامه. واقتصاره في نقل السماع على ابن القاص غريب، فإن ابن القاص قد حكاه عن الشافعي فاعلمه. ويؤيد النص المذكور أن القاضي إذا نسي نكول خصمه أثبته المدعي بالبينة، كذا ذكره الرافعي، بعد هذا بنحو ورقتين. قوله: وإن قال: حلفني عند قاض آخر، وأطلق وأراد تحليفه على ذلك فوجهان، قال ابن القاص: بالمنع إذ لا يؤمن أن يدعي أنه حلفه على أنه ما حلفه. وأصحهما: يمكن. . . . إلى آخره.

وما نقله عن ابن القاص من عدم التحليف تابعه على نقله عنه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، فقد صرح ابن القاص في كتاب "أدب القضاء" له بأنه يحلفه، ولم يذكرها في "التلخيص" ولا في "المفتاح". والسبب في وقوع هذا للرافعي أن الهروي في "الإشراف" قد سها فنسبه إليه، والرافعي كثير النقل عنه فَقَلَّده فيه. قوله: وإن استمهل ليقيم البينة على أنه حلفه، فقياس البينات الدوافع أن يمهل ثلاثًا، وعن القاضي الحسين أنه قال: أرى أن لا يمهل أكثر من يوم، لأنه كالمراوغ المتعنت. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكر الرافعي أنه القياس ولم يصرح بنقله عن أحد، وتابعه عليه في "الروضة" قد صرح به الروياني في "البحر". الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر قبل هذا الموضع بكراس وأوراق في المسألة الرابعة وجهًا عن القاضي الحسين: أن دعوى الإبراء وغيره من الدوافع لا يمهل في إقامة البينة عليها أكثر من يوم واحد، وعبر [هناك] (¬1) بنحو ما عبر به هاهنا فقال: وعن القاضي الحسين وجه أنه لا يمهل أكثر من يوم. هذه عبارته. فلم يصر الخلاف خاصًا بهذه الصورة وهي دعوى التحليف، كما يوهمه كلامه هاهنا. الأمر الثالث: أن هذا النقل عن القاضي الحسين ليس محررًا، وتحريره ما ذكره في "تعليقته"، ونقله عنه ابن الرفعة في "المطلب" فإنه قال: ولو قال: أمهلوني حتى أقيم البينة، قيل له: على مَنْ تقيمها؟ فإن قال: ¬

_ (¬1) سقط من أ.

على الأداء أو الإبراء، قيل له: قد أقررت فاخرج عن حقه ثم ادّع ما ذكرت، وإن قال: حلفني مرة في هذه الخصومة. وقلنا: تُسمع هذه الدعوى، فالقياس أن يمهل ثلاثة أيام، قال: وعندي لا يمهل أكثر من يوم واحد لأنه يشبه التعنت. انتهى ملخصًا. الأمر الرابع: أن هذا الإنظار على الخلاف في قدره هل هو واجب أو مستحب؟ سكت عنه الرافعي هنا وذكره في الباب الثاني من كتاب الكتابة قبل الحكم الثالث، فقال: لو ادعى العبد الأداء، وأنكر السيد وأراد العبد إقامة البينة أمهل ثلاثًا، قال: وهل هو واجب أو مستحب؟ فيه وجهان، ثم حكى عن الروياني أنَّا إذا أمهلناه ثلاثًا، فأحضر شاهدًا بعدها وطالب الإنظار ليأتي بالشاهد الثاني أنظرناه ثلاثة أخرى. قوله: ولو ادعى مالًا على رجل فأنكر وحلف، ثم قال المدعي بعد أيام: حلفت يومئذ لأنك كنت معسرًا، لا يلزمك تسليم شيء إليَّ وقد أيسرت اليوم فهل تسمع لإمكانه أم لا لئلا يتسلسل؟ وجهان. انتهى. قال في "الروضة": الأصح سماعها إلا إذا تكررت. قوله: فرع: إنما يحلف المدعى عليه إذا طلب المدعي يمينه، وقيل: لا يتوقف عليه، لأن للمدعي غرضًا في سقوط المطالبة عنه، قاله القفال الشاشي وصححه السرخسي، ثم قال ما نصه: وإن امتنع عن تحليفه بالدعوى السابقة جاز لأنه لم يسقط حقه عن اليمين. انتهى كلامه بحروفه. ذكر مثله في "الروضة" وكأنه سقط منه شيء وهو: "ثم أراد تحليفه" وحينئذ فيكون أصله هكذا، وإن امتنع عن تحليفه ثم أراد تحليفه بالدعوى السابقة جاز.

الركن الرابع: النكول

قال -رحمه الله-: الركن الرابع: النكول قوله في "الروضة": وإذا أنكر المدعى عليه واستحلف فنكل عن اليمين لم يقض بالنكول عندنا، بل يرد اليمين على المدعي، فإن حلف قضي له، فإن لم يعرف المدعي تحول اليمين إليه بنكول المدعي عرفه القاضي. انتهى. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: بنكول المدعي. وقع هكذا في النسخة التي هي بخط المصنف وفي غيرها وصوابه: المدعى عليه، أي بزيادة لفظة "عليه". قوله: وإذا تَفَرَّسَ الحاكم سلامة جانب شرح له حكم النكول، فإن لم يشرحه له وحكم بأنه ناكل، فقال المدعى عليه: لم أعرف حكم النكول، ففي نفوذ الحكم احتمالان للإمام: أصحهما: النفوذ. انتهى. ذكر نحوه في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أنه ليس في كلامه ما يدل على أن شرح النكول هو واجب على القاضي أو مستحب، وأنه لم يقف فيه إلا على هذين الاحتمالين اللذين حكاهما الإمام في نفوذ الحكم ورجح منهما النفوذ. وقد صرح الماوردي بالمسألة وجزم بوجوب البيان، وجزم الروياني في "البحر" بالاستحباب وتبعه أبن الرفعة في "الكفاية". الأمر الثاني: أن كلام الإمام يقتضي أن هذين الاحتمالين محلهما إذا علم القاضي أنه لا يدري حكم النكول، وكلام الغزالي يقتضي أن محلهما عند جهل القاضي بحاله. قوله: فرع: نقل الروياني في "جمع الجوامع": أن قول القاضي

للمدعي أتحلف أنت؟ كقوله إحلف، حتى لا يتمكن المدعى عليه من الحلف بعد ذلك، قال: وعندي فيه نظر. انتهى. واعلم أن ما نقله الروياني من جعل الفعل المضارع كالإقرار وأقره الرافعي، قد سبق من كلام الرافعي في جانب المدعى عليه ما يخالفه، فقال قبل هذا الموضع بنحو ورقة: ولو قال -أي: المدعى عليه- أتحلف بالله؟ فقال: لا. فليس بنكول. هذا لفظه. واعلم أن المذكور في "البحر" للروياني إلحاق المضارع بالأمر إذا قاله القاضي للمدعى عليه أيضًا فالروياني ماش على قاعدة واحدة، وأما كلام الرافعي أولًا مع كلامه ثانيًا فلا يستقيم الجمع بينهما، وحاصله أنه وقف أولًا على طريقة، ووقف ثانيًا على أخرى مخالفة لها فأثبتهما ذاهلًا عما سبق، وتابعه النووي في "الروضة" عليه. قوله: ويمينه بعد نكول المدعى عليه بمنزلة بينة يقيمها، أو بمنزلة إقرار المدعى عليه؟ فيه قولان: أصحهما: الثاني، وللقولين فروع كثيرة منها: أن المدعى عليه لو أقام بينة بالأداء أو الإبراء بعد ذلك، فإن قلنا: إنها كالبينة، سُمعت، وإن قلنا: كالإقرار، فلا لكونه مكذبًا للبينة بإقراره. انتهى ملخصًا. وهذا الذي رجحه هنا من عدم سماع البينة قد خالفه بعد ذلك في أثناء الركن الخامس قبل المدرك الثالث من مدارك ترجيح البينة وبينه وبين موضعنا هذا نحو كراس وستعرف لفظه في موضعه. قوله: وحكى القاضي أبو سعد الهروي اختلافًا للأصحاب في أنه يجب الحق بفراغ المدعي من اليمين المردودة أم لابد من حكم الحاكم به؟ انتهى. قال النووي: الأرجح: الأول، ولم يذكره من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فافهمه، غير أن الرافعي لما ذكر الوجهين قال: ويمكن

بناؤهما على أنهما كالإقرار أو كالبينة؟ فإن جعلناهما كالإقرار: فلا حاجة إلى الحكم. قوله: ولو أقام المدعي شاهدًا ليحلف معه فلم يحلف فهو كما لو ارتدت اليمين إليه فلم يحلف، فإن علل امتناعه بعذر أمهل ثلاثًا، وقيل: دائمًا، وإن لم يعلل بشيء أو صرح بالنكول فقد ذكر الغزالي والبغوي: أنه يبطل حقه من الحلف وليس له العود إليه، واستمر العراقيون على ما ذكروه قبل ذلك من جواز الدعوى في مجلس آخر والحلف حتى قال المحاملي: لو امتنع من الحلف مع شاهده واستحلف الخصم انتقلت اليمين من جانبه إلى جانب صاحبه فليس له العود والحلف إلا إذا استأنف الدعوى في مجلس آخر وأقام الشاهد فله أن يحلف معه، وعلى الأول: لا ينفعه إلا بينة كاملة. انتهى كلامه. وحاصله: أن الراجح في ما إذا امتنع من الحلف مع شاهده خلاف ما يقوله المحاملي، لأن الراجح خلاف ما ذهب إليه العراقيون، فقد قال الرافعي قبل هذا: إنه أحسن وأقوى، وقال في "الروضة": إذا علمت هذا فاعلم أن محل ذلك فيما إذا لم يحلف المدعى عليه اليمين المردودة، فإن حلف انقطعت الخصومة ولا كلام. ومحله أيضًا إذا لم ينكل عنها، فإن نكل حلف على أصح القولين، هذا هو مقتضى كلام الرافعي في آخر باب القسامة، قُبيل الركن الرابع فاعلمه. قوله: ولو ادعى ولي الصبي أو المجنون دينًا له على إنسان فأنكر ونكل، ففي الرد على الولي وجوه: أحدها: أن اليمين ترد عليه لأنه المستوفى، والصبي والمجنون ليس لهما أهلية اليمين.

والثاني: المنع لأن إثبات الحق للإنسان بيمين غيره مستبعد. والثالث: أنه إن ادعى ثبوته بسبب باشره بنفسه رد عليه، وإلا فلا. ويجري هذا الخلاف فيما إذا أقام شاهدًا واحدًا، هل يحلف معه، ثم قال: ومال المذهبيون إلى ترجيح المنع من الوجوه الثلاثة، ولا بأس بوجه التفصيل، ولقد رجحه العبادي. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره هنا من كون المشهور في ما إذا باشره الولي هو المنع، قد خالفه في الباب الخامس من أبواب الصداق مخالفة عجيبة فإنه رجح الحلف، ونقله عن أهل المذهب كما نقل عنهم هنا المنع، وعبر بقوله: أظهرهما في المذهب، وعبر في "الروضة" بقوله: أصحهما عند الأصحاب. ووقع الاختلاف المذكور في "المحرر" وكذلك في "الروضة" و"المنهاج"، والفتوى على ما وقع فيه هذا الاختلاف، وهو الذي باشره الولي، إنما هو الحلف على وفق ما بحثه الرافعي، فقد نص عليه الشافعي -رحمه الله- في "الأم". فقال في كتاب الصداق المذكور عقب المسابقة في أول باب الاختلاف في المهر: إن الزوجين إذا اختلفا تحالفا، ثم قال ما نصه: وهكذا إذا اختلف الزوج وأبو الصبية البكر. هذا لفظه. وهذا الخلاف كما قاله الرافعي في الصداق يجري في وكيل النكاح، وفي وكيل المشتري مع البائع، وفي وكيل البائع مع المشتري، وفي وكيلهما، قال: ومنهم من رتب فقال: وإن لم يحلف الولي فالوكيل أولى، وإلا فوجهان لقوة الولاية.

الركن الخامس: البينة

قال -رحمه الله-: الركن الخامس: البينة قوله: فإذا تعارضت البينتان وفقدت أسباب الترجيح، فإما أن يكون المدعى به في يد ثالث أو في أيديهما. . . . إلى آخره. أهمل قسمًا آخر وهو: ما إذا لم يكن في يد أحد، وقد ذكره في "التنبيه" وألحقه بهذين القسمين، وكأن صورته فيما إذا كان عقارًا أو متاعًا ملقى في الطريق وليسا عنده. قوله: فإذا أقام كل واحد بينة تعارضتا وفيهما قولان، أظهرهما: يسقطان فكأنه لا بينة فيصار إلى التحليف. والثاني: يستعملان فتنتزع العين ممن هي في يده. ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: تقسم العين المدعاة بينهما. والثاني: توقف إلى أن يتبين الأمر أو يصطلحا. والثالث: يقرع فيأخذها من خرجت قرعته. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وفيه أمران: أحدهما: أن الصحيح من أقوال الاستعمال هو الوقف كذا جزم به الرافعي في أوائل باب التحالف وتبعه عليه في "الروضة". الثاني: أن هذه الأقوال التي في كيفية الاستعمال هل هي في الأولوية أو التعيين؟ لم يتعرض له المصنف، وقد حكى فيه الإمام وجهين من غير ترجيح، فإذا تعذر أحدهما فلا يحمل عند القائل به على الباقي إن جعلناها في الوجوب بل يسقط البينتان، وإن جعلناها في الأولوية حُمِلَ عليه.

قوله: وفي محل الأقوال طُرُق: إحداها: القطع بالتساقط إذا لم يمكن الجمع. الثانية: القطع بالاستعمال إذا أمكن. الثالثة: طرد القولين في الحالتين. انتهى. ذكر مثله في "الروضة" وتعبيره في حكاية الطريقة الثانية يوهم أنه على هذه الطريقة يجيء ثلاثة أقوال، فإنه قد تقدم أن الثلاثة تأتي إذا قلنا بقول الاستعمال، والقطع إنما أفاد نفي غيرها ومراده هنا بالاستعمال هو القسمة خاصة. وكلام الرافعي قبل هذا وبعده، يوضح ما ذكرناه، فكأنه أراد التعبير به فسبق قلمه إلى الاستعمال. قوله في "الروضة": ولو كانت العين في يدهما ولم يكن لواحد منهما بينة، فكل واحد مدع في نصف ومدعى عليه في نصف، فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر، ولا يتعرض واحد منهما في يمينه لإثبات ما في يده بل يقتصر على أنه لا حق لصاحبه فيما في يده، نص عليه وهو المذهب، وفيه خلاف سبق في باب التحالف في البيع. انتهى. وما ذكره -رحمه الله- من أن الخلاف قد سبق هناك غلط فإنه لم يتقدم له ذكر في "الروضة" هناك. نعم ذكره الرافعي في ذلك الموضع، ثم إنه هنا أحال عليه، فلما اختصره النووي لم يذكره في التحالف بناء على أنه يذكره هنا، ثم إنه تابع الرافعي على إحالته على ذلك الموضع ظنًا منه أنه سبق فوهم فيه. قوله الثاني: دار في يد إنسان وادعى زيد نصفها فصدقه، وادعى عمرو

نصفها فكذبه صاحب اليد وزيد معًا، ولم يدعه [واحد منهما] (¬1) لنفسه. فالنصف الذي يدعيه المكذب هل يسلم إليه أم يبقى في يد صاحب اليد، أم ينزعه الحاكم ويحفظه إلى ظهور مالكه؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الفوراني. انتهى. والصحيح من هذه الأوجه أنه يبقى في يده كما كان ولكن لا تنصرف الخصومة عنه. كذا ذكره قبل ذلك في أوائل الركن الثاني المعقود لجواب المدعى عليه، وعلله بأن الظاهر أن ما في يده ملكه، وما صدر منه ليس بمزيل ولا يظهر لغيره استحقاق، وتابعه على ذلك في "الروضة"، ثم رجح هنا من "زوائده": أن الحاكم ينتزعه ذهولًا عما صححه هو والرافعي هناك فقال: قلت: أقواهما الثالث. والله أعلم. قوله: ولو لم تكن بينة ونكل الداخل عن اليمين فردت على الخارج، وحكم له ثم جاء المدعى عليه ببينة تسمع، كما لو أتى بها بعد بينة المدعي، وفيه وجه: أنها لا تسمع بناء على أن النكول ورد اليمين كالإقرار. انتهى كلامه. وما صححه من سماعه البينة بعد الحكم بالنكول قد تابعه عليه في "الروضة"، والصحيح المذكور في الركن الرابع: عدم سماعها، لأن الصحيح أن اليمين المردودة كالإقرار لا كالبينة فاعلمه وقد تقدم هناك الوعد بذكر هذا الموضع. قوله: وفي الترجيح بسبق التاريخ طريقان: المشهور منهما: أنه على قولين: ¬

_ (¬1) في أ: عمر ونصفها.

أصحهما عند الأكثرين: نعم، وأصحهما عند ابن كج وشرذمة: أنه لا ترجيح. انتهى ملخصًا. ما ذكره هنا من الترجيح بسبق التاريخ قد صحح عكسه في الباب الثاني من كتاب اللقيط في الحكم الثالث المعقود لنسبه وعبر بالأصح، وسبق ذكر لفظه هناك، ووقع هذا التناقض في "الروضة" أيضًا. قوله: ويجوز أن يشهد بالملك في الحال استصحابًا لحكم ما عرفه، من قبل كشراء أو إرث وغيرهما، وإن احتمل زواله، فلو صرح في شهادته بأنه تعمد الاستصحاب، فقال في "الوسيط": فيه وجهان: قال الأصحاب: لا تقبل كما لا تقبل شهادة الرضاع على الثدي، وحركة الحلقوم. وقال القاضي الحسين: تقبل لأنَّا نعلم أنه لا مستند له سواه. انتهى. وما وقع في "الوسيط" في تصوير المسألة، وتبعه عليه في الرافعي و"الروضة" تحريف، فإن صورة الخلاف بين القاضي والأصحاب كما قاله في "النهاية": أن لا يكون الشاهد قد شهد بالملك في الحال بل شهد بملك سابق، وذكر مع ذلك من استمرار الأحوال ما يسوغ له الشهادة به في الحال، والغزالي صوره بما إذا شهدت بالملك في الحال، ولكن صرحت بأنها تعتمد فيه الاستصحاب، والذي يدل على بطلان التصوير بما ذكره الغزالي ومن تبعه: أن الغزالي قد استدل عليه بقوله كما لا تقبل شهادة الرضاع على صورة الامتصاص وحركة الحلقوم. ونظير هذا من مسألتنا إنما هو الشهادة على استمرار الأحوال التي تسوغ الشهادة بالملك في الحال، وأما إذا شهد بالملك في الحال، وذكر أن معتمده الاستصحاب فنظيره أن يشهد على الرضاع ويذكر أن معتمده امتصاص الثدي وحركة الحلقوم.

قوله: ولو قال المدعى عليه: كان ملكك أمس فوجهان: أظهرهما: الانتزاع. وقطع ابن الصباغ بأنه يؤاخذ بإقراره، وحكى الوجهين في ما إذا قال: كان في يدك أمس، وفَرّق بين اليد والملك بأن اليد قد تكون مستحقة، وقد لا تكون. انتهى كلامه. واعلم أن هذه المسألة قد اختلف فيها كلام "الروضة" [اختلافًا عجيبًا سبق إيضاحه في كتاب الإقرار في الركن الرابع منه] (¬1) فراجعه. قوله: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت من الدار شهرًا بعشرة، وقال المكتري: بل اكتريت جميع الدار بالعشرة، فهذا اختلاف قدر المكتري، فإذا أقاما بينتين وقلنا بالاستعمال فيجيء قول القرعة خلافًا لابن سلمة. وأما قولا القسمة والوقف فالمشهور أنهما لا يجبان. أما الوقف فلوجهين: أحدهما: وهو الذي أورده أكثرهم أن العقود لا توقف على أصلنا فالنزاع هاهنا في العقد، ثم رده بأن معنى الوقف هاهنا أنّا نتوقف ولا نمضي حكمًا إلى أن ينكشف الحال، وهذا معهود في أصولنا. والوقف الذي نقول بإبطاله هو ما يخالف فيه بعض الشروط كإذن الملك في بيع الفضولي. انتهى ملخصًا. وما ذكره هاهنا من مجيء قول القرعة دون قول التوقف قد جزم بعكسه في أول باب التحالف، وقد ذكرت هناك لفظه فراجعه. قوله: ولو وجدت الزيادة في كل واحد من الجانبين بأن قال المكري ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أكريتك هذا البيت بعشرين وقال المكتري: بل جميع الدار بعشرة، فلابن سريج رأيان: أحدهما: الرجوع إلى التعارض لتقابل الزيادتين. وأضعفهما: أنه يؤخذ بالزيادة من الجانبين فتجعل جميع الدار تكرى بعشرين، وهذا خلاف قول المتداعيين والشهود جيمعًا. انتهى كلامه. وهذا الذي ضعفه الرافعي قد صرح في "الروضة" أيضًا بأنه فاسد، والظاهر أنه حصل في نقله عن ابن سريج غلط، فإني رأيت للشيخ أبى محمد كما حكى الوجهين عنه في كتاب "السلسلة" لم ينقل الثاني المذكور هنا، بل نقل عوضًا عنه الاستعمال بالقرعة فدل على ما قلناه. قوله: قال الإمام: ولو شهد أنه باع فلانًا في ساعة كذا وشهد آخران أنه كان ساكنًا تلك الحالة. أو شهد اثنان أنه قتل فلانًا ساعة كذا، وشهد آخران أنه كان ساكنًا في تلك الحالة لا يتحرك ولا يعمل شيئًا. ففي قبول الشهادة الثانية وجهان، لأنهما شهادة على النفي، وإنما تقبل شهادة النفي في المضايق وأحوال الضرورات، فإن قبلناها جاء التعارض. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" هو القبول، قال: لأن النفي المحصور كالإثبات في إمكان الإحاطة. قوله عن الشيخ أبي عاصم: إنه فسر كلمة التنصير بما إذا شهدت البينتان على آخر ما تكلم به بأن يقول لا إله إلا الله عيسى رسول الله. قال القاضي أبو سعد: وفيه إشكال ظاهر فإن المسلمين يثبتون نبوة عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وإثبات نبوته ليس نفيًا لنبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيما عند منكري المفهوم، فيجب أن تفسر كلمة التنصير بما يختص به النصارى

كقولهم إن الله ثالث ثلاثة، وهل تجب في نيته للإسلام تفسير كلمته؟ وجهان، وجه الوجوب: أنهم قد يعتقدون ما ليس بإسلام إسلامًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن المذكور في "الإشراف" للهروي عن العبادي في تصوير المسألة بأن يقول بعد إثباته نبوة عيسى: وأنه بريء من كل دين، وحينئذ لا يصح الاعتراض، فإن الإسلام من جملة الأديان الداخلة في البراءة فيكون كفرًا. ولم يتعرض في "الروضة" لمقالة العبادي ولا لمقالة الهروي، بل جعل الضابط ما يختص به النصارى ومثل بثالث ثلاثة. الأمر الثاني: أن هذا الكلام مقتضاه أنه لابد في الشهادة على الردة من بيان السبب وقد سبق من كلامه في باب الردة ما يخالفه وتقدم إيضاحه هناك وإيضاح نظائره فراجعه. قوله: فرع: مات رجل عن زوجة وأخ مسلمين وعن أولاد كفرة، فقال المسلمان: مات مسلمًا. وقال الأولاد: مات كافرًا، فإن كان أصل دينه الكفر. صدق الأولاد، وإن أقاموا بينتين فإن أطلقنا: قدمت بينة المسلم، وإن قيدنا: فعلى الخلاف في التعارض، ويعود خلاف "أبي إسحاق" في جريان القسمة. وإذا رجحنا طائفة قسم المال بينهم كما يقسم لو انفردوا. وإن جعلنا المال بين الطائفتين تفريعًا على القسمة، فالنصف للزوجة والأخ، والنصف للأولاد، وفي ما تأخذ الزوجة من النصف وجهان: أحدهما: ربعه، وكأنه جميع التركة، هو الذي أورده السرخسي. والثاني: نصفه، ليكمل لها ربع التركة؛ لأن الأخ معترف به، والأولاد

يحجبونها. باتفاقهما، وهو الذي أورده الإمام. انتهى كلامه. والأصح كما قاله في "الروضة" هو الأول، قال: لأنها معترفة أيضًا باستحقاق الأخ ثلاثة أرباع التركة. قوله: الثالثة: قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قُتلَ وأقام الوارث بينة أنه مات حتف أنفه، ففيه قولان: الظاهر منهما على ما ذكره أبو الحسن العبادي: تقديم بينة العبد. والثاني: يتعارضان. انتهى. والصحيح: ما رجحه العبادي، فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه أظهر القولين، وكذلك النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو قال لسالم: إن مت [ق: أ] [في رمضان فأنت حر ولغانم إن مت] (¬1) في شوال فأنت حر، فأقام كل واحد بينة تقتضي حريته فقولان: أحدهما: يتعارضان. والثاني: تقدم بينة سالم، فإن قلنا بالتعارض: رق العبدان على القول بالسقوط وعتق من كل واحد نصفه على القسمة، ثم قال: وحكى "ابن كج" عن بعض الأصحاب أنه إذا وجد التعارض في مثل هذا غلبت الحرية. انتهى. ومعنى تغليب الحرية كما قاله في "الروضة" من "زوائده": أنه لا يحكم بسقوط البينتين. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الأول: في مسائل منثورة

قال -رحمه الله-: ولنختم ما ذكرناه ببابين الباب الأول: في مسائل منثورة قوله: ادعى شريكان فصاعدًا حقًا على إنسان وأنكره يحلف [كل واحد] (¬1) يمينًا فإن رضي الكل بيمين واحدة فوجهان: أحدهما: يجوز، لأن الحق لهم. والئاني: لا يجوز، كما لا يجوز الحكم بشاهد وأحد وإن رضى الخصم. انتهى. والأصح المنع، فقد صححه جماعات منهم الشيخ في "التنبيه" وجزم به الرافعي في كتاب اللعان، وقاس عليه مسألة من مسائل اللعان، وذكر الماوردي هناك أن الإصطخري قال: اتفق فقهاء زماننا على خطأ من جوزه وصححه في "الروضة" هنا من "زوائده" وحكى الماوردي عن أبي إسحاق وجهًا ثالثًا، وصححه وهو أنهما إن كانا قد ادعيا ذلك الحق من جهة واحدة مثل إن تداعيا دارًا ورثاها عن أبيهما أو قال: شركة بينهما، حَلَفَ لهم يمينًا واحدة. وإن كان الحق من وجهين حلف لكل واحد على الانفراد وبهذا أجاب الغزالي في كتاب النكاح. وقيل: يجوز أن يحلف يمينًا واحدة، وإن لم يرض الخصوم، قاله الفوراني ونقله عنه في "البحر" وحكاه أيضًا في "الكفاية". وقد ذكره الرافعي في كتاب اللعان في عكس ما نحن فيه، وهو ما إذا توجهت له اليمين على جماعة ما يؤيده، فقال: لو شهد له شاهد بحق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

على رجل وعلى آخر بحق آخر جاز أن يحلف معه يمينًا واحدة. قوله: وعن نصه أن المسناة الحائلة بين نهر شخص وأرض آخر في يدهما. انتهى. المسناة: بميم مضمومة وسين مهملة مفتوحة ونون مشددة بعدها ألف. قوله في "الروضة": ولو ادعى مائة درهم على إنسان، فقال: قضيت خمسين، لم يكن مُقِرّا بالمائة، وكذا لو قال: قضيت منها خمسين. انتهى. وهذا الكلام فيه نظر، وعلل الرافعي المسألة الثانية بقوله لجواز أن يريد من المائة التي يدعيها، وليس عليّ غير الخمسين. هذا لفظه، وجزم الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" بأنه إذا قال: قضيته، كان إقرارًا بالحق، ولم يعترضه النووي في "التصحيح". قوله: ولو تنازعا دارًا ولأحدهما فيها متاع فهي في يده، فإن لم يكن المتاع إلا في بيت لم يجعل في يده إلا ذلك، هكذا ذكروه. انتهى. وما ذكروه هاهنا من الترجيح بوجود المتاع قد ذكر ما يخالفه في أواخر الصلح، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه، وتبعه عليه في "الروضة" على الموضعين. قولاه في المسائل المنقولة عن "فتاوى القفال" وغيره: وإنه إذا غصب المرهون من المرتهن كان لكل واحد من الراهن والمرتهن أن يدعه على الغاصب، والراهن يقول في دعواه: إن لي ثوبًا كنت رهنته من فلان وأنه غصبه منه ويلزمه الرد إليّ. ولو اقتصر على قوله: إن لي عنده ثوبًا من صفته كذا، ويلزمه التسليم إليّ جاز. . . . إلى آخره. واعلم أن هذه المسألة -أعني مخاصمة المرتهن-[قد ذكرها أيضًا في الباب الثالث من أبواب الرهن، والباب الثالث من أبواب الإجارة.

وقد اختلف فيها كلامه اختلافًا عجيبًا من ثلاثة أوجه سبق إيضاحه في الرهن، ولم يتعرض في "الروضة" هنا لمخاصمة المرتهن، وسببه أنه وقع في عِدَّة من نسخ الرافعي إسقاط وهو حق "المرتهن" إلى "المرتهن"] (¬1) فوقعت للنووي فاختصرها باجتهاده. قوله: وأنه لو باع دارًا وادعى أنها وقف لم تسمع بينته، وقال العراقيون: تسمع إذا لم يكن قد صرح بأنها ملكه. وقال الروياني: لو باع ثم قال: بعت، وأنا لا أملك ثم ورثته، إن قال حين البيع: هو ملكي، لم تسمع دعواه ولا بينته، وإن اقتصر على البيع سُمِعت، نص عليه. انتهى. وحاصله أن المعروف المنصوص سماع الدعوى والبينة عند عدم الاعتراف بأنه ملكه، ولم يشترطوا فيه إبداء وجه محتمل. وهو يشكل على ما ذكروه في المرابحة، وقد تقدم التنبيه عليه هناك فراجعه. قوله: وفي "فتاوى القاضي الحسين": أنه لو ادعى عليه عشرة فقال: لا يلزمني تسليم هذا المال اليوم، لا يجعل مقرًا؛ لأن الأقارير لا تثبت بالمفهوم. انتهى كلامه. وهو يوهم أن هذا الجواب مقبول، والصحيح كما سبق في جواب الدعوى: أنه لا يصح الجواب إلا إذا نفي كل جزء منها، فيقول: لا يلزمني تسليم شيء منه. قوله: وسئل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي -رحمه الله- عن رجلين تنازعا دارًا، فأقام [أحدهما بينة أنها ملكه وادعى الآخر أنها وقف عليه ولم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يقم بينة فحكم القاضي لمدعي الملك، ثم ادعى آخر وقفيتها وأقام] (¬1) مدع الملك البينة على حكم القاضي له بالملك، وأقام مدعي الوقف بينة بالوقفية فرجع الحاكم بينة الملك ذهابًا إلى أن الملك الذي حكم به يقدم على الوقف الذي لم يحكم به، ثم تنازع مدعي الملك وآخر يدعي وقفيتها فأقام مدعي الملك بينة لحكم الحاكم له بالملك وتقديم جانبه. وأقام الآخر بينة على أن الوقف الذي يدعيه قضى بصحته قبل الحكم بالملك، وترجحه على الوقف هل يريد حكم الحاكم بذلك؟ فقال: نعم، يقدم الحكم بالوقف على الحكم بالملك، وينقض الحكم بالوقف الحكم بالملك. انتهى كلامه. واعلم أن الحكم عندنا ليس من المرجحات فإذا سبق أحد الخصمين وأقام بينة فحكم الحاكم له بمقتضى بينته، ثم أقام الآخر بينة تقتضي التساوي أو الرجحان على الأولى رتبنا عليها مقتضاها. إذا علمت ذلك فما نقله الرافعي هاهنا مقتضاه ترجيح الوقف من حيث هو على الملك عند التعارض، وهو خلاف المذكور قبل هذا بدون الصفحة، فإنه نقل عن "فتاوى القاضي الحسين" أن بينتي الوقف والملك تتعارضان. قوله: حكى الهروي عن العبادي أن من ادعى عليه وديعة، فقال: لا يلزمني دفع شيء إليه، لا يكون هذا جوابًا، لأن المودع لا دفع عليه، إنما يلزمه التخلية، والجواب الصحيح أن ينكر أصل الإيداع، أو يقول: هلك في يدي أو رددته، وهذا يخالف كلام الأصحاب. ألا تراهم يقولون: من جحد الوديعة فقامت بينة بالإيداع فادعى تلفًا أو ردًا قبل الجحود نظر: كانت صيغة جحوده إنكار أصل الوديعة أم قال: لا يلزمني تسليم شيء إليه؟ . فإما أن يقدر خلاف أو يأول ما أطلقوه. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

قال في "الروضة": الذي قاله العبادي صحيح وتأويل كلامهم متعين وهو أنهم أرادوا إذا جرى منه هذا اللفظ فحكمه كذا؛ لأن القاضي يقنع بهذا الجواب مع طلب الخصم الجواب. قوله نقلًا عن العبادي: وأنه لو شهد شاهدان بالقتل على رجل في وقت معين، وآخران أنه لم يقتل في ذلك الوقت لأنه كان معنا لم يغب عنا تعارضت البينتان. وقد سبق من نظائر هذا ما يخالفه. انتهى كلامه. وهذه الشهادة التي جوز العبادي سماعها حتى حكم بالتعارض شهادة على نفي لكنه محصور وحاصل كلام الرافعي: مخالفة العبادي في القبول، وقد جزم -أعني الرافعي- بردها أيضًا في باب القسامة، وخالف الموضعين المذكورين في آخر تعليق الطلاق فنقل أن ظاهر المذهب قبولها ولم يعترضه، وقد تقدم ذكر كل من الموضعين في بابه فراجعه. واعلم أن النووي قد استدرك على الرافعي في هذا الباب، فقال: قلت: مراده أن البينة الثانية شهدت بالنفي، وقد سبق أن شهادة النفي لا تقبل إلا في موضع الضرورة كالإخسار وقد تقدم في [الفصل السابق] (¬1) عن "فتاوى الغزالي" ما يوافقه لكنه ضعيف. والصواب: أن النفي إذا كان في محصور يحصل العلم به قبلت الشهادة انتهى. وهذا الذي ذكره النووي هنا من "زوائده" مخالف لما وافق عليه الرافعي في باب القسامة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الباب الثاني: في دعوى النسب

الباب الثاني: في دعوى النسب قوله: فإذا وطء اثنان في بعض هذه الصوره في طهر واحد، وأتت المرأة بولد عرض على القافة، ثم قال: فإن تخلل بين الوطأتين حيضة، فهي أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الأول فينقطع تعلقه، إلا أن يكون الأول زوجًا في نكاح صحيح، والثاني واطئًا بشبهة أو في نكاح فاسد، فلا ينقطع تعلق الأول، لأن إمكان الوطء مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطء. فالإمكان حاصل بعد الحيضة. وإن كان الأول زوجًا في نكاح فاسد ففي انقطاع تعلقه بتخلل الحيضة قولان: أحدهما: أنه كالنكاح الصحيح. وأظهرهما: خلافه، لأن المرأة في النكاح الفاسد لا تصير فراشًا ما لم توجد حقيقة الوطء، هكذا نقل الصورتين الإمام وصاحب "الكتاب". انتهى كلامه. والاستشهاد المذكور أخرًا عجيب غير مطابق لكلام الإمام فإن كلامه يقتضي أنه متفق عليه وليس كذلك، بل هو مفرع على القولين في أن النكاح الفاسد يلحق بالنكاح الصحيح أم لا؟ فإن قلنا: يلحق به، صارت فراشًا بإمكان الوطء ولا حاجة إلى تحقيقه حتى لو أنكر الوطء لم يفد، وقد صرح الإمام بهذا الخلاف أيضًا وأوضحه إيضاحًا حسنًا وصرح به أيضًا الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب العدة. قوله: ولو اتفق الزوجان والواطء فلابد من البينة على الوطء؛ لأن

للولد حقا في النسب واتفاقهما ليس بحجة عليه، فإذا قامت البينة عرض على القائف. انتهى كلامه. وما ذكره من اشتراط البينة قد خالفه في كتاب اللعان في أوائل الركن الثالث منه فذكر ما حاصله: الجزم بأنه لا تشترط البينة، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: فلو استلحق مجهولًا وله زوجة فأنكرت ولادته واستلحقته امرأة لها زوج فأنكره حكى في "الوسيط" فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن أمه التي تستلحقه دون المنكرة. والثاني: أن أمه زوجة صاحب اليد. والثالث: يعرض على القائف فيلحقه بإحداهما، ولو كانت الصورة بحالها فأقام كل واحد بينة فعن ابن سريج أربعة أوجه: أحدها: أن بينة الرجل أولى. والثاني: بينة المرأة أولى، لأن ولادتها محسوسة. والثالث: يتعارضان. والرابع: أنه يعرض على القائف فإن ألحق الولد بالرجل لحقه ولحق زوجته، فإن ألحقه بالمرأة لحقها دون زوجها. انتهى. تابعه في "الروضة" على حكاية الأوجه هكذا، وفيه أمران: أحدهما: أن الأصح في المسألة الأولى أن الولد لا يكون ابنًا لواحدة من المرأتين، فقد سبق قبيل هذا أن الرجل إذا استلحق ولدًا لا يلحق زوجته على الصحيح، وسبق في اللقيط أن المرأة لا يصح استلحاقها على الصحيح فلزم من ذلك ما ذكرناه فاستحضره.

الأمر الثاني: أن ما ذكره في الوجه الرابع وهو المذكور في آخر كلامه من أنه إذا ألحقه بالمرأة لحقها دون زوجها خلاف المذهب، فقد سبق في اللقيط أن المنصوص أنه يلحقه، وصححه أيضًا مع غير البينة إن قلنا بصحة استلحاقها. قوله: إحداها: إذا لم يجد قائفًا أو تحير ولم يحر جوابًا وألحق الولد بهما أو نفاه عنهما وقف إلى أن يبلغ. انتهى. عبر أيضًا في باب اللقيط بقوله إذا لم يجد قائفًا، ومقتضاه أن وجدانه في مكان بعيد أو قريب يمنع من الحكم بالمثل، وليس كذلك كما تقدم التنبيه عليه في كتاب اللقيط. واعلم أن العرب تقول كلمته فما أحار جوابًا بالحاء والراء المهملتين، أي فما رده، وحينئذ فقول الرافعي ولم يحر هو بضم [الياء] أي لم يرده. قوله: فإذا بلغ أمرناه بالانتساب إلى أحدهما بحسب الميل الذي يجده، فإذا امتنع حبس ليختاره، وإذا اختار كان اختياره كإلحاق القائف، وإن قال: لا أجد ميلًا إلى أحدهما بقي الأمر موقوفًا. انتهى كلامه. وما ذكره من الحبس وتابعه عليه في "الروضة" محله إذا اعترف بوجود الميل فإن لم يعترف به لم يحبس، صرح به الإمام في "النهاية" في هذا الباب وأوضحه أحسن إيضاح وكلام الرافعي لا ينافيه فتعين الحمل عليه. نعم إذا سئل فسكت فيتجه الحبس إلى أن يخبر بأنه لا ميل عنده أو بما عنده من الميل. قوله: ولا عبرة باختياره قبل البلوغ، وقيل يخير المميز، وقد سبق هذا في اللقيط. انتهى. وظاهره يقتضى أن الخلاف وجهان، والخلاف قولان قديم وجديد

[والجديد] (¬1) أنه لابد من البلوغ. كذا حكاه، الماوردي وصاحب "العدة" [في كتاب العتق. قوله: ولا يصح إعتاق غير مالك إلا بوكالة أو ولاية. انتهى] (¬2). اعلم أنه أشار بالولاية إلى إعتاق الولي عن الصبي والمجنون إذا لزمهما كفارة قتل، وقد اختلف نقل الرافعي في هذه المسألة، وتبعه عليه في "الروضة"، وقد سبق إيضاح ذلك في كفارة القتل، وكلامه يتناول الإعتاق عن السفيه في كفارة القتل ونحوها كاليمين والظهار والجماع في رمضان لكنه ذكر في باب الحجر أنه ينتقل في كفارة اليمين إلى الصوم. قوله: وصرائح الطلاق وكناياته كلها كنايات في العتق. انتهى. تابعه في "الروضة" على هذا الإطلاق ويستثنى منه ما إذا قال لعبده أنا منك طالق فإنه لا يعتق، ولو قال أنا منك حر، أو أعتقت نفسي منك، ونوى إعتاق العبد لم يعتق أيضًا على الأصح. كذا ذكره "الرافعي" في كتاب الطلاق، قال بخلاف مثله في العتق، وفرق بأن الزوجية تشمل الجانبين، والرق مختص بالعبد، وقد استثنى "الغزالي" أيضًا من هذا الإطلاق أن يقول لعبده: اعتد أو استبرأ رحمك فإنه لا يعتق بذلك، وإن نواه، ولو قاله لأمته فوجهان وينبغي اختصاص الوجهين بما إذا لم تكن الأمة موطوءة فإن كانت كان ذلك كناية قطعًا. قوله: ولو قال وهبتك نفسك ونوى العتق عتق، وإن نوى التمليك فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في ما إذا قال بعتك نفسك. انتهى كلامه. والمسألة المحال عليها، وهي مسألة البيع مذكورة في أول الكتابة، وحكمها أنه لابد من القبول على الفور. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أنه قد أهمل قسمًا ثالثًا وهو ما إذا لم ينو شيئًا فالحكم فيه كالحكم في ما إذا نوى التمليك حتى أنه يحتاج إلى القبول. ويصح بدون هذه النية، كما أن التمليك كذلك هذا حاصل ما ذكره هناك، وذكر أيضًا نحوه في الباب الثاني من أبواب الوصية قبل الكلام في المسائل الحسابية بدون ورقة فقال مستدلًا لمسألة ما نصه: كقوله لعبده: ملكتك نفسك أو وهبتك نفسك فإنه يشترط فيه القبول في المجلس، ولو قال: وهبتك نفسك، ونوى به العتق عتق بلا قبول هذا كلامه. الأمر الثاني: أنه جزم في التمليك بالصحة وحكى في لفظ البيع قولًا أنه لا يصح فغاير بينهما إلا أن يريد أنه ذكره في الكلام على البيع لا أن حكمه كحكمه. قوله: ولو كانت أمته تسمى قبل جريان الرق عليها حرة فقال لها: يا حرة إلى آخره. فيه كلام سبق في أول الباب الثاني في أركان الطلاق في أول الركن الثالث منه فراجعه. قوله: وفي "فتاوى الغزالى" أنه لو اختار بالمكاس نخاف أن يطالبه بالمكس عن عبده فقال: إنه حر، وليس بعيد، وقصد الإخبار لم يعتق في ما بينه وبين الله تعالى، وهو كاذب في خبره ومقتضى هذا أن لا يقبل ظاهرًا. انتهى كلامه. وما أشعر به كلام الغزالي من عدم القبول ظاهرًا وأقره عليه، قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" ومقتضى المذهب خلافه، ففي آخر الباب الأول من أبواب الطلاق أنه لو قال لها أنت طالق وهو يحلها من وثاق ثم ادعى أنه أراد الطلاق من ذلك الوثاق فإنه يقبل على الأصح لأجل القرينة ولا

شك أن مروره بالمكاس قرينة ظاهرة في إرادة صرف اللفظ عن ظاهره. قوله: في "الروضة" ولو قال يا مولاي فكناية، ولو قال له يا سيدي قال القاضي الحسين والغزالي: هو لغو، وقال الإمام: الذي أراه أنه كناية. انتهى. صرح في "الشرح الصغير" برجحان الكناية، فقال: والأشبه عند الإمام وغيره أنه كناية، وهو الجواب في "التهذيب"، وهذا الذي ذكره في "الصغير" كلامه في "الكبير" أيضًا يحتمله وكذلك أجاب به أيضًا في "الحاوي الصغير". قوله: ولو قال جعلت عتقك إليك أو جوزتك ونوى تفويض العتق إليه فأعتق نفسه في الحال عتق كما في الطلاق. وتعبيره بقوله حررتك قد شاهدته أيضًا بخط النووي في "الروضة" كما هو موجود في نسخ الرافعي وهو غير مستقيم، فقد ذكر الرافعي قبل هذا أن هذه اللفظة صريحة وصوابه: حريتك مصدرًا مضافًا كاللفظ المذكور قبله وهو العتق. والظاهر أن الرافعي إنما ذكره هكذا، ولكن تحرف على النساخ فتابعهم في "الروضة". قوله: فروع أكثرها عن ابن سريج: إذا قال أول من دخل الدار من عبيدي أو أي [عبد] من عبيدي دخل أولًا فهو حر، فدخل اثنان معًا ثم ثالث لم يعتق واحد منهم، أما الثالث فظاهر. وأما الاثنان فلا يوصف واحد منهما بأنه أول. انتهى كلامه. وما جزم به من عدم عتق واحد من الاثنين قد ذكر نحوه في باب تعليق الطلاق في الكلام على التعليق بالولادة، ثم قال: وقال الشيخ أبو على: يحتمل وقوع الطلاق عليهما لأن كلا منهما يوصف بأنه أول ولد إذا لم يلد

قبله غيره، لأنه لو قال أول من رد آبقي فله دينار فرده اثنان استحقا الدينار، قال: وعرضته على الشيخ يعني القفال فلم يستبعده. وإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه المسألة هي نظير ما إذا أوصى سيد المكاتب فقال: ضعوا عن مكاتبي أوسط نجومه في العدد، وكان عددها شفعًا فالأوسط اثنان كالثاني والثالث من أربعة، فهل الأوسط كلاهما أو أحدهما فقط ويعينه الوارث؟ فيه خلاف ذكره الرافعي في الباب الثاني من أحكام الكتابة في الحكم الثالث منه، وقد ذكرناه هناك، وبينا أن مذهب الشافعي هو الأول فراجعه. وإذا ظهر ذلك علمت أن ما قاله الرافعي ههنا وفي الطلاق خارج عن المقالتين جميعًا، وذكر "الرافعي" في باب المسابقة ما حاصله أن الأول يطلق على المتعدد وهذا هو الحق. قوله: إذا قال أول من يدخل الدار من عبيدي أو أي عبد من عبيدي دخل فهو حر فدخل واحد لا غير، فهل يعتق، لأنه إنما يكون أولًا إذا كان هناك ثان؟ فيه وجهان في تعليق الشيخ أبي حامد أصحهما: أنه يعتق. انتهى كلامه. والذي صححه أبو حامد قد صححه النووي في أصل "الروضة". قوله: ولو قال لعبدين له إذا جاء الغد عتق [أحدهما] وعليه التعيين، ولو باع أحدهما أو أعتقه أو مات قبل مجيء الغد، ثم جاء الغد والآخر في ملكه. لم يتعين للعتق، وعلل بأنه لا يملك حينئذ إعتاقهما، فلا يملك إيقاع العتق في أحدهما كما لو قال لعبده وعبد غيره أحدكما حر لا يكون له حكم، وهذا غير مسلم، أليس ذكرنا في الطلاق وجهين في ما إذا قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق أنه هل يقبل قوله أردت الأجنبية. فقد اتفق

الوجهان على أن له حكمًا وأثرًا، إنما الكلام في أنه هل يمكن من الصرف عن الزوجة. انتهى كلامه. وحاصله أن الرافعي مخالف لما قاله هذا القائل من عدم التعيين للعتق، وقد اقتصر في "الروضة" على ذكر المنقول أولًا وعلى بعض تعليله، وأوهم أن الرافعي موافق عليه وهو اختصار عجيب فتفطن له. قال -رحمه الله-: وخصائص العتق التي ينفرد [بها] عن الطلاق خمس: الأولى: [السراية] (¬1). قوله: ولو قال لأمته الحامل إن كان أول من تلديه ذكرًا فهو [حر] (¬2)، وإن كان أنثى فأنت حرة فولدت ذكرًا وأنثى، فإن ولدت الذكر أولًا أعتق ورقت وإن ولدت الأنثى أولًا عتقت الأم والذكر أيضًا لكونه في بطن عتيقة، وترق الأنثى لأن عتق الأم طرأ بعد مفارقتها. ولو ولدتهما معا فلا عتق إذ لا أول منهما. ولو لم يعلم هل ولدتهما معا أو مرتبًا؟ فلا عتق للشك ولو علم سبق أحدهما وأشكل، فالذكر حر بكل حال والأنثى رقيقة بكل حال والأم مشكوك فيها فيؤمر السيد بالبيان. فإن مات قبل البيان، فالأصح أنها رقيقة عملًا بالأصل، وقال ابن الحداد: يقرع بينهما بسهم رق وسهم عتق، وذكر في "تقريبه" أنه يقرع بينها وبين الغلام، فإن خرجت على الغلام لم يعتق غيره، وإن خرجت عليها عتقت ولم ترق الأم ويجوز أن يقرع بين شخصين وتعمل القرعة في أحدهما دون الثاني. انتهى كلامه. ثم استشهد ابن الحداد على ما ذكره آخرًا بمسألة الغراب المشهورة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وما ذكره الرافعي عن "التقريب" لابن الحداد أسقط من "الروضة". قوله: فمن أعتق بعض مملوك والباقي لغيره فيعتق نصيبه، فإن كان موسرًا بقيمة باقية لزمه قيمته للشريك، وعتق الباقي عليه. انتهى كلامه. وهذا التعبير قد ذكره الرافعي، في غالب هذه المسائل، وهو صريح في إيجاب قيمة النصف مثلًا، لا نصف القيمة وبينهما فرق ظاهر فإن نصف القيمة أكبر من قيمة النصف لأجل [التشقيص] (¬1) لكن قد ذكر الرافعي، في مواضع ما يخالفه: منها عقب هذا بأسطر، فإنه ضرب مثالًا في عبد قيمته عشرون، وذلك المثال لا يستقيم إلا على إيجاب نصف القيمة فراجعه. وقد تقدمت قاعدة هذه المسألة مبسوطة في الباب الرابع من أبواب الصداق. قوله: في "الروضة": ولو ملك قيمة الباقي لكن عليه دين بقدره قوم عليه على الأظهر واختاره الأكثرون لأنه مالك لما في يده نافذ فيه تصرفه. ثم قال ما نصه: فعلى الأولى يضارب. انتهى كلامه. والحكم الذي ذكره في آخره تفريعًا على أنه لا يحصل بنفس الإعتاق غلط، فإن الكلام على تقدير أن لا يصيبه بالمضاربة ما يرمي بجميع النصيب فإذا فرعنا عليه وفرعنا على أن السراية تتوقف على أداء القيمة، لم يتصور مع ذلك عتق الجميع، بل لا يمكن إلا عتق البعض، وقد ذكره الرافعي على الصواب ولكن حصل في كثير من النسخ إسقاط، وهو من صيغة الإعتاق إلى الإعتاق فوقع للنووي بعض تلك النسخ فاختصر منها. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واعلم أن القول بالتوزيع يتجه إن حجر الحاكم عليه، فإن لم يحجر لم يتعين التوزيع لأنه يجوز لمن عليه ديون أن يوفي ما شاء منها، وإذا ادعى عليه بعضهم ألزمه القاضي بوفاء دين المدعى، وإن أدى إلى إعساره عن ما عداه. قوله: ولو ملك شقصين من عبدين وأعتقهما مدًا عتق نصيبه منهما وسرى إلى نصف نصيب الشريك من كل منهما فيعتق من كل منهما ثلاثة أرباعه وهذا إذا حكمنا بالسراية في الحال وقلنا اليسار بقيمة بعض النصيب يقتضي السراية بالقسط، وإن أعتق مرتبًا سرى إلى جميع الأول، ثم إن قلنا الدين يمنع السراية فلا سراية في العبد الثاني. وإلا فيسري وما في يده يصرف إلى الشريك والباقى في ذمته. وإن كان الشقصان لشخصين صرف إلى [كل] (¬1) منهما نصفه ولو ملك الشقصين فأعتقهما معًا ولا مال له غيرهما فلا سراية لأنه معسر. قال الشيخ أبو على: والسراية في الصورة الأولى إنما هو تفريع على غير السراية، فإن قلنا لا تسري إلا بوصول القيمة امتنعت السراية لأنه لم يبق له مال بإعتاق النصف الثاني، ثم قال: وهذا أي ما قاله الشيخ أبو على ليس بواضح، وينبغي أن يكون في ذمته إلى أن يجد فإن مات معسرًا فسيأتي حكمه. انتهى كلامه. وما ذكره في الرد على الشيخ أبي على عجيب وذهول عن ما سيأتي في الكلام على شروط السراية، عن الشيخ أبي على والصيدلاني والروياني والغزالي أن طرءان الإعسار على هذا القول مانع من السراية، حتى أنه نقل عن الشيخ أبي على أن عود اليسار بعد ذلك لا أثر له ولم ينقل في المسألتين ¬

_ (¬1) سقط من ب.

إلا احتمال للإمام خاصة فراجعه. وقد أسقط في "الروضة": مقالة أبى على هذه. قوله: ولو كان بين ثلاثة عبد فأعتق اثنان نصيبهما وأحدهما موسر دون الآخر يقوم نصيب الثالث على الموسر بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف قد تبعه عليه في "الروضة" وليس كذلك فقد جزم القاضي الحسين في "تعليقته" عند الكلام في ما إذا كان المعتق موسرًا ببعض القيمة بأنه يعتق على الموسر بالسراية ما كان يخصه لو كانا موسرين، ثم قال: ويحتمل أن يقال يقوم جميع نصيب الذي لم يعتق على هذا الموسر هذا كلامه، لكنه جزم في موضع آخر بما يخالفه. [قوله] (¬1) ولو باع شقصًا ممن يعتق وارثه بأن باع ابن أخيه بثوب، ومات وورثه إخوته فوجد بالثوب عيبا فرده واسترد الشقص وعتق عليه ففي السراية وجهان فإنه تسبب في تملكه لكن مقصوده رد الثوب. انتهى واعلم أن هذه المسألة قد ذكرها الرافعي بعد ذلك بنحو ست أوراق قبيل الخاصية الثالثة من خواص العتق، واقتضي كلامه أن الأصح فيها عدم السراية، وتابعه عليه النووي في "الروضة". فإن الرافعي ذكر مسألة ورجح فيها عدم السراية، ثم قال: ويجري الخلاف في كذا وكذا وكذا وذكر هذه المسألة فيها وقد صحح النووي هنا من "زوائده" أنه يسري على خلاف المذكور هناك. قوله: لو أوصى لزيد بشقص ممن يعتق عليه ولا يعتق على وارثه، كما لو أوصى له بشقص من أبيه وارثه أخوه من الأب فمات وقبل الوصية أخوه عتق ذلك الشقص على الميت وسرى إن كان له تركة بقي ثلثها بقيمة الباقي لأن قبول وارثه كقبوله في الحياة، قال الإمام؛ هكذا ذكره الأصحاب، وفيه ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقفة لأن القبول حاصل من غير اختياره. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن هذه الوقفة لم يقل بمقتضاها أحد وأن الأصحاب متفقون على السراية، وليس كذلك فقد ذكر الرافعي في الوصية أن الشيخ أبا على ذهب إلى عدم السراية، وحكاه عن بعض الأصحاب. قوله: وإن أطلق وقال للعبد وهو يملك نصفه: أعتقت نصفك، فعلى ما يحمل؟ فيه وجهان: أحدهما: على النصف الذي يملكه، فإن الإنسان إنما يعتق ما يملكه. والثاني: أنه يجري اللفظ على إطلاقه، ويحمل على النصف شائعًا لأنه لم يخصصه بملك نفسه وعلى التقديرين يعتق جميع العبد إذا كان موسرًا أما على التقدير الأول فيعتق [نصفه] (¬1) الذي يملكه، ثم يسري، وأما على الثاني فلأنه يعتق نصف نصفه وهو ربع العبد، ثم يسري إلى باقي نصيبه، ثم إلى نصيب الشريك. قال الإمام ولا يكاد يظهر لهذا الخلاف فائدة إلا أن يفرض تعليق طلاق أو عتاق بأن يقول إن أعتقت نصفي من هذا العبد فامرأتي طالق فإن قلنا بالوجه الأول وقع الطلاق، وإن قلنا بالثاني فلا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره تفريعًا على الوجه الثاني من كونه يسري أولًا إلى باقي نصفه، ثم بعد ذلك إلى نصيب شريكه، لم يذكره في "الروضة" وإنما ذكر مطلق السراية وفيه نظر -أعني الترتيب المذكور- بل ينبغي أن يسرى إليهما معًا ولا يتأخر أحدهما عن الآخر، لأن الموجب لهما موجود ولا مانع ¬

_ (¬1) سقط من أ.

منه. الأمر الثاني: أن الخلاف تظهر فائدته في غير التعليق في مسألتين: إحداهما: إذا وكله شريكه في إعتاق نصفه، فإن قلنا: إن العتق يقع شائعًا عتق جميع العبد شائعًا على الموكل [والوكيل]، وإن قلنا يقع على نصيبه لم يعتق حصة الشريك. وقد حكى ابن الصباغ في هذه الصور وجهين: أحدهما: أنه يتناول نصيب شريكه لا غير. والثاني: أنه يختص بنصيب نفسه لأنه لا يحتاج إلى نية. وهذه الفائدة قد ذكرها ابن الرفعة هكذا مقتصرًا عليها. المسأله الثانية: سؤال العتق على عوض ولتقدم عليه مقدمة. وهي أن المرأة لو قالت: طلقني ثلاثًا ولك ألف فطلقها طلقة ونصفا، فهل يستحق ثلثي الألف بوقوع طلقتين، أو النصف خاصة لأنه إنما أوقع نصف الثلاث والتكمل حكم الشرع؟ فيه وجهان في كتاب الخلع من الرافعي من غير ترجيح، ورجح النووي من "زوائده". الوجه الثاني: فإذا تقرر ما قاله هناك جاء مثله هنا، فإذا قال أعتق النصف الذي لك على ألف فأطلق إعتاق النصف، فإن قلنا يترك على نصفه استحق، وإن قلنا يكون شائعا حتى لا يعتق أولًا إلا نصف نصيبه ثم يسري فالراجح أنه لا يستحق إلا نصف الألف كما تقدم لأن الإعتاق على مال كالخلع على مال كما قاله الرافعي في كفارة الظهار وهو موضع هذه المسائل ثم إن صورة المسألة ما إذا قال أعتقه عنك، وكذا لو أطلق على ما

صححه في الظهار. أما لو قال عني ففي سريانه خلاف، نقف عليه إن شاء الله تعالى قبل التدبير. قوله: الثالثة: أقوى القولين أن التدبير لا يمنع السراية. فإن قلنا لا يسري ورجع السيد عن التدبير فهل يسري حينئذ؟ قال أكثرهم لا. انتهى. واعلم أن الصحيح امتناع الرجوع من التدبير بالقول فتكون هذه المسألة مفرعة على الضعيف. قوله: ولو باع نصف عبد يملك نصفه، فإن قال: بعتك النصف الذي أملكه صح، وإن قال: بعتك نصفه فهل يحمل على ما يملكه أم على النصف شائعًا؟ وجهان. فعلى الثاني: يبطل في نصيب الشريك، وفي نصف نصيبه قولا تفريق الصفقة، إلى آخر المسألة. واعلم أن هذه المسألة قد اختلف فيها كلام الرافعي والنووي معًا. وقد تقدم ذلك مبسوطًا في الباب الثالث من أبواب الإقرار. قوله: فمنها إذا أولد أحد الشريكين الجارية المشتركة بينهما بالسوية، فإن كان موسرًا سرى الاستيلاء كالعتق، ويسرى بنفس العلوق أو غير أداء القيمة، أو يتبين بأدائها حصول السراية عند العلوق. فيه الأقوال المذكورة في العتق، وعلى الأقوال يجب على المستولد نصف المهر للشريك مع نصف قيمة الجارية. ثم قال ما نصه: ثم إن قلنا يحصل الملك بأداء القيمة فيجب مع ذلك قسط نصيب الشريك من الولد، وإن قلنا يحصل بالعلوق أو قلنا بالتبين فقد

حكى الإمام خلافًا للأصحاب في أنه يثبت بعد العتق أو قبله، إن قلنا بعده وجب نصف الولد أيضًا، وإن قلنا قبله لم يجب. وهذا ما أجاب به في ["المهذب"] (¬1). انتهى كلامه. وتعبيره في آخر المسألة بقوله بعد العتق تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وصوابه بعد العلوق فتأمله، وهو المذكور في "النهاية" أيضًا، ثم إن النووي في "الروضة" عبر بقوله: وجب نصف قيمة الولد وذكر المسألة في آخر كتاب الكتابة وعدل عن تعبيره الرافعي بهذه العبارة، وعبر بقوله قيمة نصف الولد. وسأذكره هناك مختصرًا. وأما الوجهان اللذان ذكرهما من غير ترجيح في نصيب الشريك من الولد، فالصحيح منهما: هو الوجوب. كذا جزم به الرافعي في آخر التدبير، وهو أيضًا مقتضى تصحيح الرافعي عدم وجوب قيمة الولد على الأب إذا وطئ جارية ولده. وقوله في أول المسألة: نصف القيمة ليس بجيد بل صوابه قيمة النصف كما هو مقرر في موضعه. قوله في "الروضة": ولو كان لواحد النصف وللثاني الثلث وللثالث السدس فأعتق اثنان نصيبهما معا سرى عليهما، وكيف يقوم؟ فيه طريقان. أحدهما: على قولين كنظيره من الشفعة. أحد القولين: تكون القيمة عليهما بالسوية. والثاني: على قدر الملكين. ¬

_ (¬1) في ب: التهذيب.

والطريق الثاني: القطع بأنها على عدد الرؤوس كما لو مات عن جراحاتها المختلفة، ثم قال ما نصه: وهذا الطريق هو المذهب باتفاق فرق الأصحاب إلا الإمام فرجح طريق القول. انتهى كلامه. وهذا الحصر ليس بجيد، فقد اختار الغزالي أيضًا طريقة القولين، والعجب أن الرافعي قد نقله أيضًا عنه. قوله: الثالثة: إن قلنا بالصحيح، وهو أن السراية تحصل بنفس الإعتاق أو قلنا بالتبين، فتعتبر قيمة يوم الإعتاق، وإن قلنا بتأخيرها إلى الأداء ففيه وجوه: أحدها: تعتبر قيمة [يوم] (¬1) الأداء. والثاني: يوم الإعتاق، والثالث: أقصى القيم. ورجحه الإمام والغزالي، ثم قال: لكن الذي أورده أكثرهم الثاني: ووجهوه بأن الإعتاق هو السبب الموجب للتقويم، وإن أخر التقويم فهو كالمفوضة يجب لها مهر المثل بالدخول باعتبار يوم العقد، لأن البضع دخل في ضمانه يومئذ وعلى أن في المفوضة وجهًا آخر أنه يعتبر يوم الإصابة. انتهى كلامه. والرد على الإمام والغزالي في اعتبارهما الأكثر بكلام الأكثرين، وبالقياس على المفوضة صريح في أن الأكثر لا يعتبر في مهر المفوضة أيضًا وفي المسألة اختلاف عجيب سبق إيضاحه في الباب الثالث من أبواب الصداق. قوله: في "الروضة": ولا يقبل قول العبد إني أحسن الصنعة ولا أحسنها، بل يجرب ولو اختلفا في عيب ينقص القيمة نظر إن ادعى المعتق ¬

_ (¬1) سقط من أ.

عيبًا في أصل الخلقة بأن قال كان أكمه أو أخرس، وقال الشريك بل بصيرًا ناطقًا وقد غاب العبد أو مات صدق المعتق بيمينه على المذهب، وقيل في المصدق قولان: قال البغوي: والطريقان في ما إذا إدعى النقص في الأعضاء الظاهرة، أما إذا إدعاه في الباطنة فقولان كالصورة الثانية، وهى دعوى حدوث العيب ليمكن الشريك من البينة على سلامة الظاهر. انتهى كلامه. وتعبيره قوله قال البغوي: والطريقان إلى آخره غلط فإن البغوي، لم يحك خلافًا بالكلية في هذه الحالة، وهي ما إذا ادعى النقص في الأعضاء الظاهرة، بل جزم بأن القول قول المعتق. وعبارة الرافعي صحيحة موافقة لما في "التهذيب" فإنه قد قال -أعني الرافعي ما نصه: فيصدق المعتق بيمينه، لأن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم ما يدعيه الشريك، ومنهم من جعله على قولين كما لو اختلفا في مقدار القيمة مطلقًا، والظاهر الأول، لكن خصصه في "التهذيب" بما إذا ادعى النقص في الأعضاء الظاهرة، أما إذا ادعاه في الأعضاء الباطنة فهو على قولين، فيما إذا ادعى حدوث العيب، هذه عبارة الرافعي. فالضمير في قوله: لكن خصه عائد إلى ما قاله الرافعي إنه الظاهر. وهو الجزم بتصديق المعتق فتوهم في "الروضة" عوده إلى الحكم مع ما فيه من الخلاف فصرح به فوقع في الغلط. واعلم أن عبارة "الروضة" في صدر المسألة توهم أن العبد يجرب عند إنكار الصنعة، وعند دعواها وهو معلوم البطلان، [وعبارة] (¬1) الرافعي صحيحة فإنه قال: ولا يقبل قول العبد على الشريك إني لست بخباز لأنه قد يكتم الصنعة ولا على المعتق إني أحسنها، بل يجرب هذا لفظه. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

فاختصره النووي على التقديم والتأخير، وأتى بالتجربة عقبهما كما سبق فتفطن له. قوله: الثانية: إذا أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة لم ينفذ إن أثبتنا السراية في الحال وإن أخرناها إلى أداء القيمة فكذلك في أظهر الوجهين، فإن نفذنا الإعتاق ففي البيع والهبة ونحوهما وجهان، الظاهر المنع، وعن الشيخ أبي محمد القطع به. وإذا قيل بنفوذ البيع: فهل للشريك أن ينقضه ويبذل القيمة كما ينقض الشفيع مع المشتري؟ فيه احتمال للإمام. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه الطريقة القاطعة وهي طريقة الشيخ أبي محمد قد أسقطها من "الروضة". الثاني: أن ما ذكره في النقض قد عبر بمثله في "الروضة" ولا يعلم منه هل فيه نقل أم لا؟ ولا أن المنقول هو النقض أو عدمه؟ ولتعلم أن المنقول هو نقض هذه التصرفات، كذا جزم به القاضي حسين في تعليقه. قوله: قال الإمام: ويلزم على قولنا بنفوذ البيع أن لا يملك مطالبته به، وأن يكون المعتق مختارًا أن يبذل القيمة كالشفيع في بذل الثمن، وهو ضعيف. انتهى. أسقط في "الروضة" المسألة الثانية، مما قاله الإمام، وهي الاختيار مع أنها لا تؤخذ من الأولى فتأمله. وهذا الاحتمال أبداه القاضي حسين في تعليقه فأخذه منه الإمام. قوله في "الروضة": السابعة: إذا تعذرت القيمة بإفلاس أو هرب، فقال الشيخ أبو على، والصيدلاني، والروياني يبقى نصيب الشريك رقيقًا ويرتفع الحجر عنه؛ إذ لا وجه لتعطيل ملكه عليه بلا بدل وفيه احتمال للإمام

أنه يثبت العتق. وجعله الغزالي وجهًا، فقال: الصحيح أن إعسار المعتق يرفع الحجر ولو عاد اليسار. قال الشيخ أبو علي: لا يعود التقويم لأن حق العتق ارتفع بتخلل الإعسار، وفيه احتمال للإمام. انتهى كلامه. وهو غير مستقيم لأنه إن كان التعذر من الفلس وغيره مقاربًا للإعتاق فلا عتق ولا حجر بالكلية، وإن كان طارئًا فالعتق قد وقع واستمر لأن أصح الأقوال تعجيل السراية. واعلم أن صورة المسألة أن يكون طارئًا وفرعنا على الضعيف، وهو أن السراية لا تحصل إلا بأداء القيمة، أو أنه إذا أداها تبين وقوعها قبل ذلك. وقد ذكره الرافعي على الصواب، فإنه أدرج هذه المسألة في أثناء التفريع على "الضعيف"، وعبر بتعبير مستقيم، فأفرد النووي المسألة وجزم بها، ولم يفرعها على شيء كما فرع ما قبلها، وما بعدها على الأقوال، ثم إنه عبر في أثنائها بتعبير فاسد فقال: وفيه احتمال للإمام أنه يثبت العتق فاقتضى تعبيره بالعتق أن الكلام مفروض بعد تقدم حصوله. قوله: فرع: إذا قلنا: لا تحصل السراية قبل أداء القيمة فلو وطئ الشريك الجارية قبل الأداء وجب نصف المهر لنصفها الحر، قال الإمام: وليقع الفرض في وطء محترم وفي ما إذا كانت مكرهة مضبوطة. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام وأقره من عدم وجوب نصف المهر للمرأة مع الطواعية لأجل نصفها الحر أو أنه لا يجب لها إلا مع سبب آخر من إكراه، أو ظن ونحوه، كما في الحرة الكاملة. قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وهو غير صحيح لأن المقتضي لسقوط

الحد إنما هو شبهة الملك والشبهة قائمة. وقد حكى الرافعي في باب الكتابة [أن السيد إذا وطئ المكاتبة] عالمة مطاوعة وجب لها المهر على الصحيح المنصوص لأن المقتضي لسقوط الحد هو شبهة الملك وهو موجود في هذه الحالة. قوله في المسألة: ولا يلزمه النصف لمصادفته ملكه، وقيل يلزمه فعلى هذا يصرف للمعتق لأنه يستحق الانقلاب إليه، وقال الإمام: يجوز أن يقال أنه يصرف إلى الجارية، ثم قال: وينبغي أن يتخير إكرامه، بل يثبته عند السراية حتى لو ماتت الجارية وقلنا: لا سراية بعد الموت، فلا توجبه لتتبين استمرار الملك. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه قد سقط منه لفظة "لا" قبل التعبير بالتخير، ويكون أصل الكلام، وينبغي أن لا يتخير، ولما أشكل الكلام على النووي حذف المسألة من "الروضة". قوله: أيضًا في المسألة: وإن قلنا تحصل السراية بنفس الإعتاق فيجب جميع المهر لها، ولا حد للاختلاف في ملكه. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم وجوب الحد، وإن قلنا أن السراية تحصل بنفس الإعتاق، قد ذكر بعد هذا بنحو ثلاث أوراق بما يخالفه فقال: فروع تتعلق بالسراية: الأول إن قلنا السراية تحصل بنفس الإعتاق فله حكم الأحرار في الميراث والشهادات والحدود والجنايات، وإن لم تؤد القيمة، وإن أخرناها إلى أداء القيمة فله حكم الأرقاء فيها حتى تؤدى، وإن توقفنا توقفنا في هذه الأحكام. انتهى. فحكمه بأنه على تعجيل السراية، كالأحرار في الحدود يدل على أن السيد إذا وطئها حدت ولا يتصور التفرقة فيقال: السيد لا يحد والأمة تحد،

وقد ذكر أيضًا ما يوافق الثاني في مواضع من آخر كتاب الكتابة قبيل الحكم الخامس، في الكلام على ما إذا كاتبا جارية ووطئاها جميعًا. قوله: قال لشريكه إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر، فأعتق المقول له نصيبه، فإن قلنا: السراية تحصل بالإعتاق أو بالتعيين سرى، لأنها قهرية تابعة لعتق نصيبه لا مدفع لها، وموجب التعليق قابل للدفع بالبيع ونحوه، وإن قلنا بالأداء: فنصيب المعلق عن من يعتق فيه وجهان. انتهى. وحاصل ما ذكره هنا تقديم السراية على التعليق على الصحيح، وقد تقدم في الباب الأول من أبواب الوصية قبل الركن الرابع ما يشكل عليه، ويقتضى التسوية بين التعليق والسراية، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. واعلم أن الراجح على ما ذكره الرافعي في باب تعليق الطلاق: أن المشروط مقارن لشرطه في الزمان ومقتضى السراية: التأخر فصار للمعلق حكم السبق فلم يأت زمن السراية إلا بعد عتق المعلق فلم يصادف محلًا فيترجح بهذا عتق الأم في مسألتنا هنا، ويكون هذا الترجيح معارضًا لما رجح به الرافعي السراية فيتعارضان وتلزم القرعة كما ذكرناه في باب الوصية. قوله: لأن المعلق لا يقارن المعلق عليه بل يتأخر عنه لا محالة، ثم قال بعده: لأن عتق غانم مشروط بعتقه فلا يؤخذ دونه. انتهى. أما الأول فتابعه عليه في "الروضة"، وعبر بقوله: بلا شك، وليس كذلك، فإن في مقارنة الشرط المشروط خلافًا مشهورًا، وقد حكاه الرافعي في أوائل باب تعليق الطلاق في الكلام على التعليق بالتطليق إلا أنه استغربه مع أنه ليس بغريب وأما الأخير فلم يتعرض له في "الروضة"، وصوابه لأن عتق سالم مشروط بعتقه أي بعتق غانم.

وفي هذا الكلام تنبيه على الصواب لمن طالع المسألة. قوله: فرع: قال أحد الشريكين: أعتقناه معا، وأنكر الآخر فإن كانا موسرين أو القائل وحده حلف المنكر. كذا أطلقه ابن الحداد، وتابعه جماعة. وإذا حلف أخذ القيمة من المقر وحكم بعتق جميع العبد، وولاء نصيب المنكر موقوف، فلو مات العتيق ولا وارث له سوى المقر أخذ نصف ماله بالولاء. وهل له أن يأخذ من النصف الآخر قدر نصف القيمة الذي غرمه للمنكر؟ وجهان: أحدهما: نعم، لأنه إن صدق فالمنكر ظالم له وهذا ماله بالولاء، وإن كذب فهو مقر بإعتاق جميعه، فجميع المال له بالولاء. والثاني: لا لاختلاف الجهة. انتهى. والأصح على ما قاله في "الروضة" هو الوجه الأول. قوله: الثاني عن نصه في "الأم" أن العبد المشترك إذا أعطى أحد مالكيه خمسين دينارًا ليعتق نصيبه منه فأعتقه، يرجع الشريك عليه بنصف الخمسين، وبنصف قيمة العبد ويرجع المعتق على العبد بخمسة وعشرين. قال ابن الصباغ: وينبغى أن يكون هذا كله في ما إذا لم تقع على العين، وإنما سمى خمسين ثم دفعها عنها، وإلا فإذا وقع العتق على العين يجب أن يكون الرجوع بقيمة ما أعتق بالعوض المستحق، قال [الإمام] (¬1): ويحتمل أن يريد ما إذا كانت قيمة العبد خمسين فيستوى العوض والقيمة. ولو كان المعتق قد قال: إن سلمت لى هذه الخمسين فأنت حر، لم يعتق لأنها لم تسلم له. انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

وقد أسقط النووي هذا الفرع جميعه فلم يذكره في "الروضة". قوله في "الروضة": الثالث: لو أعتق شركًا له في جارية حبلى وهو موسر ولم تقوم عليه حتى ولدت عتق معها ولدها تفريعًا على السراية في الحال، فأما إذا أخرناها إلى الأداء فنص أنه ينبغي أن لا يعتق الولد معها لأنه إنما يعتق بعتقها إذا كان حاملًا فأما بعد الولادة فلا. قال القاضي أبو حامد: معناه أن نصيب الذي يعتق من الولد مملوك، فأما نصيب المعتق فيجب أي يعتق. وقال ابن الصباغ: عندي أنه أراد أن نصيب الذي لم يعتق من الولد لم يعتق بدفع نصف قيمة الأم، وإلا فقد عتق من الولد نصيب المعتق وهو موسر، فيجب أن يسري، قلت: هذا الذي قاله ابن الصباغ متعين والله أعلم. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بقوله معناه أن نصيب الذي يعتق إلى آخره، وقع كذلك في "الروضة" التي هي بخط المصنف وصوابه لم يعتق أي بإثبات لم كما في مثله في الذي بعده بقليل وبه صرح الرافعي. الأمر الثاني: وهو تفريع على الصواب المذكور في الرافعي وهو إثبات لم أي تفسير أبي حامد لكلام، الشافعي حاصله أن الذي لم يصدر منه إعتاق يستمر نصيبه من الولد مملوكًا ولا يعتق بالكلية ويكون العتق خاصًا بنصيب المباشر، ورده، ابن الصباغ، فقال مالك النصف قد أعتق نصيبه من الحمل وهو موسر، فيجب أن يسرى. قال: ومراد الشافعي أن نصيب الشريك من الحمل لا يعتق بدفع نصف قيمة الأم وعتقها قال: لأنه لا يتبعها بعد الوضع، هكذا علله

صاحب "الشامل". قوله: الرابع: وكل أحد الشريكين الأخر في عتق نصيبه، فقال الوكيل للعبد: أعتقت نصفك فإن قال أردت نصيبي قوم عليه نصيب شريكه، وإن قال أردت نصيب شريكي قوم على الشريك وإن أطلق فيعتق عن الموكل لأنه أعتق بعد أمره أو عن الوكيل لأن إعتاقه عن نفسه مستغني عن النية؟ فيه وجهان في "الشامل". انتهى. فيه أمور: أحدها: أن النووي قد رجح في "الروضة" من "زوائده" الثاني، فقال: لعل الأصح حمله على نصيب الوكيل وما رجحه بحثًا قد جزم به الغزالي في الخلع ولو قيل بالتخيير كما في التخيير بين العبدين لكان متجهًا. الأمر الثاني: أن تعليل الوجه الثاني يقتضي الجزم باشتراط النية من الوكيل إذا أعتق عن موكله، وقد سبق في أواخر تعليق الطلاق في آخر الفصل المنقول عن أبي العباس الروياني ما قد يشكل على هذا، فقال: والوكيل بالطلاق إذا طلق لا يحتاج إلى نية إيقاع [الطلاق] (¬1) عن موكله في الأصح، هذا لفظه، وإنما احتاج في مسألتنا هذه وهي مسألة العتق إلى النية لتردد تصرفه بين أمرين أحدهما بطريق الأصالة فلم يتصرف عن الأصل إلى العارض إلا بالنية، كما لو كان وكيلًا في شراء شيء فاشتراه، فإنه لا ينصرف عنه إلى موكله إلا بالنية، فوكيل الطلاق نظير الوكيل بالبيع ولم يشترطوا فيه النية، إلا أنه لابد من جريان خلاف الطلاق فيه. وإذا علمت ذلك تعين تخصيص الكلام المذكور في الطلاق بما إذا لم ¬

_ (¬1) سقط من أ.

يعارض تصرف الوكالة تصرفًا آخر بطريق الأصالة، كما لو وكله شريكه في بيع نصيبه فأطلق بيع النصف. الأمر الثالث: أن هذا الذي نشأ عنه هذا الكلام كله، وهو ما اقتضاه تعليل الوجه الثاني من اشتراط نية الوكيل قد حذفه النووي فلم يذكره في "الروضة" بالكلية. قوله: ولو وهب للصبي بعض من يعتق عليه أو أوصى له به فإن كان الصبي معسرًا قبله [(¬1) الولي لأنه لا سراية حتى يتضرر بها. ولا نفقة، وإن كان موسرًا ففيه قولان: أظهرهما: لا يقبل ويعتق عليه البعض ولا يسري. انتهى. تابعه في "الروضة" على تصحيح امتناع القبول ثم خالف في "تصحيح التنبيه" فصحح لزوم القبول. قوله: وإذا ملك قريبه في مرض موته بإرث فهل يعتق من رأس المال أو من الثلث؟ فيه وجهان. أصحهما: الأول. إلى آخره. انتهى. هذه المسألة سبق الكلام عليها في الركن الرابع من أركان الوصية وسبق أن الأصح في "المحرر" و"المنهاج" هو الثاني. قوله: وكذا لو أوصى لإنسان بابنه فمات قبل قبول الهبة وقبلها أخوه عتق الشقص على الميت وسري إلى الباقي إن وفي به الثلث، ونزل قبول الوارث منزلة قبوله في حياته. انتهى. وتعبيره بقوله بابنه مع قوله عتق الشقص غير صحيح، وصوابه: فبعض ابنه، وكأنه كان هكذا في الأصل ولكن سقط. ¬

_ (¬1) بداية سقط كبير من أ.

وقد وقع في "الروضة" على الصواب. قوله: ولو وهب لعبد بعض من يعتق على سيده فقبل وقلنا: يصح قبوله بغير إذن سيده عتق الموهوب على السيد وسرى، لأن قبول العبد كقبوله شرعًا. انتهى. هذه المسألة قد وقع فيها اضطراب وسنقف عليه إن شاء الله تعالى في الكتابة. والصواب: هو السراية لما ذكره. ولهذا صححوا أن السيد يحلف على البت حيث حلف على نفي فعل عبده. وعللوه بأن فعله كفعله. قوله في "الروضة": فإذا أعتق المريض عبدًا لا مال له سواه لم يعتق إلا ثلثه. وإن مات هذا العبد بعد موت السيد مات حرًا ثلثه. وإن مات قبل موت السيد فهل يموت كله رقيقا أم كله حرًا؟ أم ثلثه حرًا وباقيه رقيقًا؟ فيه أوجه: أصحها عند الصيدلاني: الأول. وبه أجاب الشيخ أبو زيد في مجلس الشيخ أبي بكر المحمودي فرضيه وحمده عليه. لأن ما يعتق ينبغي أن يحصل للورثة مثلاه. ولم يحصل لهم هنا شيء. وتظهر فائدة الخلاف في شيئين: أحدهما: إذا وهب في مرض الموت عبدًا لا يملك غيره وأقبضه ومات العبد قبل موت السيد. فإن قلنا في مسألة العتق: يموت رقيقًا فما هنا يموت على ملك الواهب

وعليه مؤنة تجهيزه. وإن قلنا: يموت حرًا، فما هنا يموت على ملك الموهوب منه وعليه المؤنة. وإن قلنا بالوجه الثالث: وزعت المؤنة عليهما. انتهى. وما نقله هنا من ترجيح مؤنته على أن الرق قد تقدم ما يخالفه في كتاب الوصية قبيل باب الزوج. وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: لأن الهبة ليست مضمنة والإتلاف مضمن. إلى آخره. واعلم أن هذه المسألة وهى كون الهبة الفاسدة هل تقتضي الضمان أم لا؟ قد ذكرها الرافعي في مواضع من هذا الكتاب واختلف فيها كلامه وكذلك كلام "الروضة" اختلافًا عجيبًا، وقد تقدم بسطه في آخر الهبة فراجعه. قوله: ولو قال أعتقت ثلث كل واحد منكم أو أثلاث هؤلاء أحرار. فوجهان: أحدهما: أن لا يقرع بينهم بل يعتق من كل واحد ثلثه لتصريحه بالتبعيض. وأصحهما على ما ذكر في "التهذيب": أنه يوزع. انتهى. والصحيح ما ذكره البغوي فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "الروضة": إنه الأصح. قوله: ولو قال لأمته الحامل في مرض موته أنت حرة أو ما في بطنك ولم يتفق تعيين وولدت بعد موت المعتق لأقل من ستة أشهر فهل يحسب على الوارث؟ قال البغوي: إن قلنا: إن الحمل يعرف حسب وإلا فلا.

وأطلق الصيدلاني فيه وجهين. انتهى. والراجح: الأول. فقد جزم به أيضًا الماوردي والروياني. قوله: ولو أعتق عبيدًا لا مال له غيرهم وعليه دين. فقال الوارث: اقض الدين من موضع آخر وأنفذ العتق في الجميع. فهل ينفذ العتق؟ فيه وجهان. انتهى. والصحيح هو النفوذ. كذا جزم به الرافعي بعد هذا بنحو صفحة ولم يتفطن له في "الروضة". لكنه رجح بحثًا ما يوافق هذا فقال: ينبغي أن يكون الأصح هو النفوذ. قوله: إذا قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت ميتًا ثم حيًا لم يعتق الحي لأن اليمين قد انحلت بولادة الميت. زاد في "الروضة" على هذا فقال: قلن: إن كانت حاملًا حال التعليق صح قطعًا وكذا إن كانت حائلًا في الأظهر أو الأصح كما لو أوصى بما ستحمل. والثاني: لا لأنه تعليق قبل الملك. انتهى كلامه. وهذه الزيادة قد ذكرها الرافعي في باب تعليق الطلاق. قوله: ولو قال لعبده: أنت حر كيف شئت] (¬1). قال أبو حنيفة: يعتق في الحال، وقال صاحباه: لا يعتق حتى يشاء. قال ابن الصباغ: وهو الأشبه. انتهى. هذه المسألة فيها خلاف عندنا ذكره الرافعي مبسوطًا في تعليق الطلاق في الفصل المعقود للتعليق بالمشيئة مع زيادة أخرى متعلقة بالمسألة لابد من ¬

_ (¬1) نهاية السقط من أ.

معرفتها فراجعه. قوله: وذكرنا في الرهن وجهين في أن تعلق الدين بالتركة كتعلق الرهن، أو الجناية إلى آخره. اعلم أن الراجح هناك أن الخلاف قولان لا وجهان، وقد ذكرت لفظه هناك. قوله: الحال الثاني: إذا قال أحدكم حر ولم ينو معينًا فيؤمر بالتعيين ويوقف عنهم، ثم قال وإذا قال عينت هذا بل هذا عتق الأول وكفي قوله الثاني. لأن العتق حصل في الأول بخلاف قوله عينت هذا بل هذا لأنه اختيار. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في أول هذا الكلام ظاهره تحريم وطء الأمتين، لكنه ذكر في نظيره من الطلاق أنا إن جعلناه تعيينًا لم يحرم وإلا حرم، وحينئذ فيكون الأكثرون على الإباحة هنا لأن الأكثرين على ما نقله في هذا الباب أنه يكون تعيينًا، فاعلم ذلك. الأمر الثاني: أنك قد علمت أن الرافعي قد ذكر هنا لفظ عينت مرتين، فالأول بياء ثم نون والثانية بالعكس، ولما اختصره في "الروضة" عبر بلفظ نويت مرتين كذا رأيته بخطه كما هو في النسخ أيضًا وهو سهو. قوله: ثم العتق في المبهم هل يحصل عند التعيين أم يتبين حصوله من وقت اللفظ المبهم؟ وجهان سبق نظيرهما في الطلاق، وخرج على الخلاف أنه لو مات أحدهم فعينه فهل يصح؟ إن قلنا يحصل العتق عند التعيين فلا لأن الميت لا يقبل العتق. انتهى كلامه. وما ذكره من بطلان التعيين في الميت تفريعًا على الوقوع بالتعيين، قد

خالفه في نظيره من الطلاق، فإنه جزم بالوقوع في حياة الميت وحكى وجهين في أنه يقع قبيل الموت أو عند الإيقاع للضرورة ويرتفع الخلاف. وقد سبق ذكر عبارته في موضعها، وهو باب الشك في الطلاق فراجعها. والمسألتان على حد سواء. قوله: وقتل السيد أحدهم ليس بتعيين ثم إن عين في غير المقتول لم يلزم إلا الكفارة، وإن عين في المقتول لم يجب القصاص للشبهة، وأما المال فإن قلنا العتق يحصل عند التعيين لم يجب وإن قلنا عند الإبهام لزمه الدية لورثنه وإن قتل أجنبى أحدهم فلا قصاص إن كان القاتل حرًا، ثم إن عين في غير المقصوص لزمه القيمة، وإن عين فيه وقلنا العتق يحصل عند التعيين فكذلك، كما لو نذر إعتاق عبد بعينه فقتل، وإن قلنا عند الإبهام لزمه الدية لورثة المقتول. انتهى كلامه. وهذا البناء المذكور في المبهم قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غلط، فقد تقدم قبل هذا بأسطر وذكر أيضًا في المسألة السابقة أنه إذا مات أحدهم لم يصح تعيينه إن قلنا بحصول العتق عند التعيين، وعلله بأن الميت لا يقبل العتق وحينئذ فتعين المقتول في مسألتنا إنما يصح على القول بالوقوع من حين اللفظ خاصة، ثم إن قياس ما ذكرناه في المقتول أن يطرد في كل موضع يزيل الملك كالبيع والإعتاق ونحوه، على خلاف ما ذكره أيضًا. قوله: ولو قال أول عبد رأيته من عبيدي حر، فرأي أحدهم ميتًا انحل اليمين، فإذا رأى بعده حيًا لا يعتق. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره ههنا وتبعه عليه في "الروضة" من كون الرق يبقى بعد الموت حتى يصدق عليه أنه عبد له يترتب عليه ما يترتب على غيره من الأحياء في هذه المسألة يخالف ما ذكره الرافعي في آخر الباب الثاني من

كتاب الأيمان في الكلام على تكفير العبد من كون الرق يزول بالموت، وتبعه أيضًا عليه في "الروضة" أيضًا فقال: ولأن الرق لا يبقى بعد الموت فهو والحر سواء هذا لفظه، ولا أثر هنا للصدق الجاري بدليل ما لو رأى عتيقًا من عتقائه. قوله في "الروضة": الخامسة لو قال لعبديه أعتقت أحدكما على ألف، وأحدكما حر على ألف، لم يعتق واحد منهما ما لم يقبلا إلى آخر المسألة. ذكر الرافعي في آخرها كلامًا يعلم منه أنه لا فرق في القول بين أن يقصد واحدًا معينًا أم لا فإنه ذكره بحثًا قال ويمكن أن يقال إن لم يقصد إلى أخره. قوله: أيضًا في "الروضة": السادسة: جارية مشتركة زوجها الشريكان بابن أحدهما، فأتت منه بولد يعتق نصفه على الجد، ولا يسري إلى النصف الأخر إذا لم يعتق عليه باختياره. انتهى. حكى، الرافعي هذا وجهًا أن هذا النصف انعقد حرًا لا رقيقًا، ثم يعتق، وحكى عن الغزالي أنه توسط فقال هنا: وفي ما إذا اشترى قريبه أنه يندفع الملك عنه بموجب العتق، ولا يقول أنه حصل ثم انقطع لمصادقته له، والذي اختاره الغزالي هو رأي الأستاذ أبي إسحاق. قوله فيها أيضًا: فرع: مات عن ابن حائز للتركة وهي ثلاثة أعبد قيمتهم سواء فقال الابن أعتق أي في مرضه هذا وأشار إلى أحدهم ثم قال بل هذا، وهذا يعني الأول وآخر معًا، ثم قال بل أعتق الثلاثة معًا، قال، ابن الحداد إلى قوله قال الشيخ أبو على ولو كانت قيمتهم مختلفة بأن كانت قيمة الأول والثاني المضموم إليه مائتين والثالث ثلثمائة، فالأول حر بكل حال لإقراره الأول وهو دون الثلث، فإن أقرعنا بينه وبين الثاني وخرج سهم العتق للأول عتق من الثاني أيضًا نصفه، وإن خرج السهم للثاني عتق كله. انتهى كلامه.

وما ذكره في أخر هذا الفصل من كونه لا يعتق من الثاني إلا ما عتق بالقرعة الأولى. نقله الرافعي عن الشيخ أبي على السنجي خاصة كما هو مقتضى كلام المصنف، ثم استدرك عليه إستدراكًا صحيحًا متعينًا نقله عن الإمام فقال واعترض عليه الإمام، كأن الثاني استحق بالإقرار الثاني أن يقرع بينه وبين الأولين فإن لم تكمل له الحرية في القرعة الأولى فخرج سهم العتق للأول وجب أن تكمل في القرعة الثانية إذا خرج سهم العتق إلا له لأنه قضية الإقرار الثالث، وكذلك عند استواء القيم إذا لم يعتق بالقرعة الأولى يعتق بالثانية إذا خرج السهم له. هذا لفظه. قوله: فرع: لو كان له أربع إماء، ثم قال في آخره ما نصه: واستيعاب الاحتمالات يطول وضابطه أن ينظر في كل قرعة، فمن بان أنها عتقت بعد وطئها فلها المهر. ومن بان أنها عتقت بعد وطئها فلا مهر، ومن بان أنها عتقت بوطئها فيه الوجهان. انتهى. أهمل في "الروضة" القسم الثاني، مع أن الحكم متوقف عليه بلا شك، وكأنه سقط من لفظه بان إلى بان. قوله: ولو شهد شاهدان أنه أعتق الثلانة دفعة، وقال الوارث: أعتق هذين دون ذاك قال ابن الحداد: يقرع بين الثلاثة، فإن خرج سهم العتق الذي أنكره الوارث عتق، وتعاد الفرعة لإقرار الوارث بين الآخرين، فمن خرجت له عتق بإقرار الوارث، وإن خرجت أولًا لأحد الاثنين اللذين أقر بإعتاقهما عتق ورق الآخران. انتهى كلامه. وما نقله عن، ابن الحداد، في أخر هذا الكلام، من أنا إذا أقرعنا بين الثلاثة. فخرجت القرعة أولًا لواحد من الاثنين اللذين أقر الوارث

بإعتاقهما عتق وحده ورق الآخران. قد نقل الرافعي عن بعض الأصحاب ما يخالفه وحاصله أنا إذا أقرعنا بين الثلاث لأجل البينة فخرجت القرعة على واحد من اللذين اعترف الوارث بهما، فلابد من قرعة أخرى بينهما فقط لأجل اعترافه، وسببه أن خروج القرعة على واحد منهما عند الاقتصار عليهما أقرب من ذلك عند انضمام الثالث، وحينئذ فإذا أقرعنا بينهما ثانيًا، فإن خرجت القرعة على الذي خرج أولًا لم يعتق غيره وإن خرجت للآخر عتقا جميعًا، ولا يشترط في هاتين القرعتين ترتيب. هذا حاصل كلام الرافعي واقتصار النووي على الأول غريب. قوله: أوصى بعتق عبد يخرج من الثلث فعلى الوارث إعتاقه فإن امتنع ناب عنه السلطان. انتهى. تابعه في "الروضة" عليه، ونقله إلى ما قبل هذا بأوراق، لكن محل إعتاق الوارث إنما هو عند تفويض الموصى إليه، وإن لم يفوض إلى أحد أعتق السلطان.

قال -رحمه الله- الخاصة الخامسة قوله: ومن أعتق عن غيره بغير إذنه وقع العتق عنه، وكان الولاء له دون المعتق عنه خلافًا لمالك. انتهى. وهذا الذي ذكره ههنا قد وقع عكسه في "الروضة" فإنه عبر بقوله: وقع العتق عن المعتق عنه وله الولاء دون المعتق، هذه عبارته ثم قوى ذلك وأكده، كأن كتب بخطه لفظة صح مرتين مرة هذا هو الصواب، فإن توهم خلافه فاسد والذي قاله خطأ فاحش، وقد تقدم في الظهار نقلًا عن البغوي، من غير مخالفة له أنه لو قال اعتق عبدك عنى على ألف فقال أعتقته عنك مجانًا عتق عن المعتق دون المستدعى، هذا كلامه. ومسألتنا أولى منها بذلك، نعم ذهب بعضهم في مسألتنا إلى أنه لا يعتق عن نفسه أيضًا كما لا يقع عن الغير، حكاه البغوي قبيل باب كتابة الكفار. قوله: ولو أعتقه على أن يكون سائبة لغى الشرط وثبت له الولاء. انتهى. قال الجوهري: كان الرجل إذا قال لعبده أنت سائبة فقد عتق ولا يكون ولاؤه لمعتقه ويعطى ماله لمن يشاء. قوله: وإن كان الأب رقيقًا والأم معتقة فولاء الولد لمعتقها، فلو أعتق الأب انجر الولاء إلى معتقه، وكذا الجد عند عدم الأب فلو أعتق الجد والأب رقيقا فوجهان: أظهرهما: أنه ينجر إليه، فإن قلنا: لا ينجر فمات الأب. فهل ينجر إليه، أي إلى معتق الجد بالعتق السابق؟ فيه وجهان. انتهى.

لم يصحح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا، وقال في "الروضة" من "زوائده" أن الانجرار أقوى. قوله في المسألة: فلو اشترى هذا الولد أباه ثبت له الولاء عليه، وعلى إخوته وأخواته الذين هم أولاده، وهل يجر ولاء نفسه من موالى الأم؟ فيه وجهان: أصحهما وهو المنصوص: لا بل يبقى ولاؤه لموالى الأم لأنه لا يمكن أن يكون له على نفسه ولاء. انتهى. ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وصحح في "المحرر" أنه يجر. فقال: وهل يجر الولاء إلى نفسه حتى يزول عنه الولاء؟ [أو لا يجر ويبقى عليه الولاء لموالى الأم؟ فيه وجهان: أصحهما: الأول] (¬1) هذا لفظه وهو اختلاف عجيب لتعبيره بالأصح في الموضعين، والظاهر أنه سها عن الثاني إلى الأول، وقد صحح في "المنهاج" ما صححه في "الروضة". قوله في "الروضة": ولو خلق إنسان حرًا من حرين وكان في أجداده رقيق، ويتصور ذلك في لكاح الغرور، وفي الوطء بالشبهة إذا عتقت أم أمه ثبت الولاء عليه لمعتق أم الأم فإذا أعتق أبو أمه بعد ذلك انجر الولاء إلى مولاه، فإذا أعتقت أم الأب بعد ذلك انجر الولاء من مولى أبى الأم إلى مولى أم الأب، فإذا أعتق أبو أبيه بعد ذلك انجر الولاء إلى مولاه. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله، وكان في أجداده رقيق ويتصور ذلك في نكاح الغرور ووطء الشبهة إلى آخره كلام عجيب، فإن الحر الذي في أجداده رقيق لا يتوقف تصويره على ما ذكره من الغرور أو الشبهة، سواء كان ذلك الرقيق من جهة الأب أو الأم، فإن وجوده من النكاح الصحيح واضح جلى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

فتأمله. وكلام الرافعي -رحمه الله- صحيح، فإنه فرض المسألة فيما إذا كانت أجداده أرقاء فلذلك احتاج إلى تصويره فإنه عبر بقوله والذي خلق حرًا من أبوين حرين، إذا كانت أجداده أرقاء ويتصور ذلك إلى آخره. فحرفه، النووي إلى ما يراه وهو عجيب. قوله: ويتعلق بالولاء ثلاثة أحكام الميراث وولاية التزويج، وتحمل العقد. انتهى. ويرد عليه التقديم في غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، واقتصر في "الروضة" على إيراد الدفن، فقال: قلت: ورابع وهو التقديم في صلاة الجنازة، والله أعلم. والذي ذكره غريب. قوله: ولو اشترى أخ وأخت أباهما فعتق عليهما، ثم أعتق عبدًا، ومات العتيق ولم يخلف إلا البنت، فلها ثلاثة أرباع الميراث، النصف لأنها معتقة نصف المعتق، ونصف الباقي لولاء السراية على معتق الأخ بإعتاقها نصف أبيه فهي معتقة نصف إلى معتق معتقه. انتهى كلامه. وتعبيره في أخره بقوله فهي معتقة إلى آخره، تعبير غير مستقيم فتأمله وقد تابعه عليه في "الروضة". قال -رحمه الله- ونختم الكتاب بفصل يشمل على فروع [من الولاء] (¬1) وغيره. قوله: نقلًا عن "فتاوى القفال" وإذا اشترى المكاتب بعض أبيه، يعتق بعتقه كما يكاتب عليه مادام مكاتبًا، فإذا عتق فلا يقوم عليه الباقي لأنه يقصد بأداء النجوم عتق نفسه، وعتق الأب يحصل تبعًا. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وقال في الأخيرة: الصواب: أنه لا يقوم عليه لأنه لم يعتق عنه. إذا علمت ذلك فالذي ذكره النووي في الأول واضح لأن لفظي حر، وقيل في هذا في الكلام خبران عن أنت وليس أحدهما مرتبطًا بالآخر. وأما المسألة الثانية: فالصواب فيها مقالة ثالثة، وهي عتق الأول دون الثاني، ووجهه ما ذكرناه من كونها خبرين مستقلين. وسكت عما إذا قال أنت تعلم أن العبد الذي في يدي حر. وهذه المسألة قد ذكر نحوها في باب تعليق الطلاق في الفصل المنقول عن أبي العباس الروياني فراجعه وتأمل ما بينهما. قوله في "الروضة": عطفًا على الفروع المحكية عن والد الروياني وغيره؛ وأنه لو وكل وكيلًا في عتق عبد فأعتق الوكيل نصفه فهل يعتق نصفه فقط أم يعتق ويسري إلى باقيه أم لا يعتق منه شيء لمخالفته؟ فيه أوجه: أصحها: الأول. انتهى. واعلم أن الرافعي لم يصحح في نفوذ العتق في النصف شيئًا بالكلية، ولا نقله عن أحد، وإنما حكى وجهين من غير ترجيح، ثم فرع على الوجه القائل بالنفوذ في النصف الذي أعتقه الوكيل، فحكى وجهين في أنه هل يسري أم لا؟ ، وحكى أن الراجح عدم السراية كما ذكر في "الروضة". ثم إنه قد سبق في "الروضة" في آخر الخصيصة الأولى في المسألة الثالثة عشرة أنه إذا وكل شريكه في عتق نصيبه، وأعتق الشريك النصف الموكل فيه، سرى إلى نصيب الوكيل فإذا حكم بالسراية إلى ملك الغير بسبب العتق الصادر من وكيله، فلأن يسري بسبب ذلك إلى ملك نفسه بطريق الأولى فكيف يستقيم الجمع بينهما؟ .

كتاب التدبير

كتاب التدبير قوله: روي عن جابر "أن رجلًا دبر غلامًا له ليس له مال غيره، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يشتريه فاشتراه؟ " نعيم بن النُحام (¬1) -بضم النون مصغرًا- والنحام: بنون ثم حاء مهملة مشددة، يقال: نحم الرجل، بفتح الحاء ينحم بكسرها. نحيمًا، فهو نحام، والاسم النحمة بفتح النون، وهي السعلة بفتح السين، وقيل النحنحة الممدودة آخرها. إذا علمت ذلك فاعلم أن النحام وصف لنعيم لا لأبيه، وإنما وصف به للحديث المشهور أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "دخلت الجنة فسمعت نحمة نعيم فيها" (¬2)، وما وقع في الرافعي من جعله صفة لأبيه عبد الله، وقع أيضًا في بعض كتب الحديث والفقه، وهو غلط كما نبه عليه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" ونعيم هذا قرشي من بني عدي بن كلب أسلم قديمًا قبل إسلام عمر فقيل أسلم بعد عشرة أنفس، وقيل بعد ثمانية وثلاثين، وكان يكتم إسلامه وأراد أن يهاجر فمنعه قومه بنو عدي لأنه كان ينفق على أراملهم وأيتامهم، وقالوا: أقم عندنا على أي دين شئت، فوالله لا يتعرض إليك أحد إلا ذهبت أنفسنا دونك ثم هاجر عام الحديبية ومعه أربعون من أهل بيته، وشهد ما بعدها من المشاهد إلى أن استشهد يوم اليرموك في خلافة عمر سنة خمس عشرة، وقيل: يوم أجنادين سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر. قوله: ولو قال: إذا مت ودخلت الدار -بالواو- فأنت حر، قال في "التهذيب": يشترط الدخول بعد الموت إلا أن يريد الدخول قبله. انتهى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6338) ومسلم (997) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/ 138) عن أبي بكر العدوي مرسلًا.

وما نقله هنا عن البغوي من اشتراط الإتيان على مقتضى اللفظ قد خالفه في باب تعليق الطلاق في الطريق المعقود لأنواع من التعليقات فجزم بأنه لا فرق بين أن يتقدم الأول أم يتأخر، ثم قال: وأشار في "التتمة" إلى وجه في اشتراط تقديم الأول تفريعًا على أن الواو تقتضي الترتيب. وذكر عن البغوي قبيل الخلع فرعًا موافقًا لما نقله عنه هنا. قوله: قال في "الأم": لو قالا لعبدهما: أنت حبس على آخرنا موتًا، فإذا مات عتقت فهو كما لو قالا إذا متنا فأنت حر، إلا أن هناك المنفعة بين الموتين تكون لورثة الأول، وهاهنا هي للآخر، وكذا الكسب وكأن أولهما موتًا أوصى بهما لآخرهما موتًا. انتهى كلامه. وهو مشكل لأن الحبس من صرائح الوقف وهو هاهنا باطل لجهالة الموقوف عليه، ولأن الوقف فيه متردد بين نفسه وبين صاحبه ولا دلالة فيه على الوصية، فكيف يكون وصية. قوله: ولو قال إذا مت فأنت حر إن شئت [أو إذا شئت، أو قال: أنت حر إذا مت إن شئت] (¬1) فإن أراد المشيئة في حال الحياة أو بعد الموت عمل بمقتضى إرادته، وإن أطلق فثلاثة أوجه: أحدها: حمله على المشيئة في الحياة. والثاني: بعد الموت، وبه أجاب الأكثرون وشرطوا فيها الفور. ثم قال: وليجر هذا الخلاف في سائر التعليقات مثل أن يقول إذا دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت فلانًا. انتهى كلامه. وحاصله: [أن الصحيح] (¬2) في إدخال الشرط على الشرط اشتراط ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ترتيبهما في الوقوع على وفق ما يلفظ بهما المتكلم، وقد سبق في باب تعليق الطلاق ما يخالفه، فإنه صحح اشتراط تقدم المتأخر في اللفظ على المتقدم فيه حتى يشترط تقدم المشيئة. والكلام في المثالين السابقين، وقد سبق ذكر لفظه في موضعه فراجعه، فإنه اختلاف عجيب أوضحته مع ما يتعلق به من علم [العربية] فإن الرجوع فيها إليهم أولى. وحكى الماوردي والروياني وجهًا آخر عن البغداديين: أنه يعتق بما وقع منه سواء كان في الحياة أو بعد الموت لكنه إن شاء قبله كان تدبيرًا، وإن شاء بعده كان عتقًا بصفة، وكلام الرافعي هنا يشعر بنفيه. قوله في التعليق على رؤية العين: ثم الأشبه أن اللفظ المشترك لا يراد به جميع معانيه، ولا يحمل عند الإطلاق على جميعها ويمكن أن يؤمر المعلق بتعيين أحدهما. انتهى كلامه. والكلام عليه يتوقف على مقدمة وهي الفرق بين الموضع والاستعمال والحمل فالوضع هو جعل اللفظ دليلًا على المعنى [والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة المعنى] (¬1) والحمل اعتقاد السامع مراد المتكلم، فالأول من صفات واضع اللغة. والثاني: من صفات المتكلم. والثالث: من صفات السامع وقد ذكرت ذلك مبسوطًا في "شرح منهاج الأصول" فليراجع. إذا علمت ذلك ففيه أمران: أحدهما: أن كلام الرافعي قد اشتمل على منع الاستعمال ومنع الحمل، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وظن الشيخ محيي الدين عدم المغايرة فجعل الأولى في الحمل أيضًا فقال في "اختصاره" لكلام الرافعي: ثم الأشبه أن اللفظ المشترك لا يحمله على جميع معانيه ولا يحمله عند الإطلاق على كلها هذا وهو معذور، فقد التبس الفرق بينهما على غيره ممن له قدم راسخ في هذا العلم، غير أنه لا يعذر من وجه آخر، وهو لزوم التكرار الواضح المتصل. الأمر الثاني: أن الأصح في الوقف على الموالي أنه يقسم بين المولى من أعلى والمولى من أسفل، وهي من فروع استعمال المشترك وذلك مخالف للمذكور هنا. قوله: ولا يجوز الرجوع عن التدبير بالقول في أصح القولين، ثم قال: ولا في خلاف في أنه إذا ضم إلى الموت صفة أخرى، فقال إذا مت فدخلت الدار، ولبست فأنت حر لا يجوز الرجوع بالقول، وإنما القولان في التدبير. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف قد تابعه عليه في "الروضة"، [وليس كذلك فقد تقدم في أوائل هذا الباب] (¬1) عن الصيدلاني أن ذلك من التدبير، وأن الأكثرين خالفوه وحينئذ فيأتي الخلاف على ما قاله الصيدلاني. قوله في "الروضة": فرع: إذا وهب المدبر لم يكن رجوعًا على الصحيح ثم قال وإن اتصل بها القبض، فإن قلنا: يملك بالقبض انقطع التدبير وإذا قلنا يتبين الملك من حين الهبة قال الإمام: ففي انقطاع التدبير من حين الهبة تردد. انتهى. لم يبين -رحمه الله- أن انقطاع التدبير على القول بتمليكه بالقبض هل يكون أيضًا بالقبض أو بالهبة [بل كلامه يوهم أنه بالهبة] (¬2) وقد صرح ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

الرافعي بأنه على هذا القول يحصل بالقبض. قوله أيضًا في "الروضة": ولو كاتب المدبر كان رجوعًا إن جعلنا التدبير وصية، وإن جعلناه تعليقًا فلا، ثم قال: وخرج الإمام على هذا الخلاف ما لو علق عتقه بصفة، وقطع البغوي بأنه لا يكون رجوعًا، ثم إن وجدت الصفة قبل الموت عتق بها، وإن مات قبلها عتق بالتدبير. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي قد نقل عن جماعة تفصيلًا نسبوه إلى نصه في "الأم" أيضًا وهو أن الصفة إن كانت في الحياة لم يكن رجوعًا، وإن كانت بعد الموت كقوله إن دخلت الدار بعد موتي، أو أذنت إلى ورثتي بعد موتي كذا كان رجوعًا، ثم نقل أن الصحيح هو التخريج على الخلاف، وإن كانت الصفة بعد الموت حتى لا يكون رجوعًا. وإذا مات عتق بالتدبير. إذا علمت ذلك علمت أن النووي قد أخل بشيئين: أحدهما: هذا التفصيل. والثاني: بتصحيح طريقة الإمام في هذا القسم من التعليقات، وهو الواقع بعد الموت. قوله: ولو دبر مكاتبًا صح، ويكون مدبرًا مكاتبًا، وكذا لو عكس أي دبر ثم كاتب، فإن التدبير يبقى أيضًا في الأصح. فإن مات السيد قبل الأداء والتعجيز عتق بالتدبير إن احتمله الثلث، وإن لم يحتمله الثلث عتق قدر الثلث وتقبل الكتابة في الباقي، فإذا أدى قسطها عتق. انتهى. سيأتي بعد هذا بقليل أنه إذا دبر عبدًا وباقي ماله غائب لا يعتق العبد

بموته لاحتمال تلف المال وفي ثلثه وجهان أصحهما: أنه لا يعتق أيضًا لأن في تنجيز العتق تنفيذًا للتبرع قبل تسلط الورثة على التكفين انتهى. وقياس هذا أن لا ينجز العتق في شيء من المكاتب، لأن الورثة لم يصل إليهم مثلاه لأنهم لا يقدرون على التصرف في الباقي، والنجوم قد تكون مؤجلة إلى مدة طويلة فالمذكور إنما يجيء على الوجه الضعيف. قوله: وإذا صححنا تدبير المكاتب فمات السيد قبل الأداء وأعتقاه بالتدبير، فقال الشيخ أبو حامد: تبطل الكتابة. قال ابن الصباغ: وعندي أنه يتبعه ولده وكسبه كما لو أعتق السيد مكانته قبل الأداء. قال: ويحتمل أن يريد بالبطلان زوال العقد دون سقوط أحكامه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره الشيخ أبو حامد هو ما جزم به في "التنبيه" لكن الصحيح ما قاله ابن الصباغ، فقد جزم به صاحب "البحر" وأول التأويل الذي أبداه ابن الصباغ. وذكر الرافعي المسألة في آخر الحكم الرابع من أحكام المكاتب، فإنه صحح فيما إذا وطيء مكاتبته فحبلت منه، ثم مات قبل الأداء أنها تعتق عن الكتابة لا عن الاستيلاد حتى يتبعها أولادها وأكسابهم ثم قال وأجرى هذا الخلاف في تعليق عتق المكاتب بصفة. وقد علمت أن الراجح في التدبير أنه تعليق عتق بصفة، بل لو لم يذكر ذلك لكفانا تصحيحه في أم الولد، لأن الاستيلاد مع قوته إذا لم يبطل الكتابة، فالتدبير الذي هو أضعف بطريق الأولى.

قوله: وهل يكون إنكار التدبير رجوعًا إذا جوزنا الرجوع عنه، وكذلك إنكار الموكل الوكالة، والموصي الوصية؟ فيه ثلاثة أوجه: ثم قال: والثالث أن الوكالة ترتفع، فإن فائدتها العظمى تتعلق بالموكل، ولا يرتفع التدبير والوصية لأنهما عقدان يتعلق بهما غرض شخصين، فلا يجعل إنكار أحدهما دفعًا له، وهذا أظهر وهو المنصوص عليه في التدبير. انتهى. فيه أمور: أحدها: أنه قد جزم بارتفاع التدبير في كتاب الدعاوى على خلاف ما صححه هنا، وقد تقدم ذكر لفظه في موضعه. وهو آخر الباب الأول في المسألة الثامنة والمذكور هنا هو الصواب لنص الشافعي عليه. الأمر الثاني: أن الرافعي في كتاب الوكالة قد نقل عن الغزالي أن أصح الأوجه في إنكار الموكل: أنه إن كان الغرض، فلا عزل وإلا فينعزل. واقتضى كلامه موافقة الغزالي عليه وبه صرح في "الشرح الصغير" فإنه أطلق التصحيح ولم يعزه إليه، والمذكور هنا وهو تصحيح الانعزال مطلقًا هو المفتى عليه، فقد قال في "النهاية" هناك: إنه المشهور، ولم يذكر التفصيل إلا احتمالًا لنفسه فاعلمه. الأمر الثالث: إن قول الرافعي وهو المنصوص عليه في التدبير يعني أن الشافعي نص على أن إنكار التدبير ليس برجوع، وتوهم الشيخ محيي الدين أن الضمير في قول الرافعي وهو يعود على الوجه المفصل. فقال في "اختصاره": وأصحهما وهو المنصوص: ترتفع الوكالة لأن

فائدتها العظمى تتعلق بالموكل، ولا يرتفع التدبير والوصية لأنهما عقدان يتعلق بهما غرض شخصين، هذا لفظه. قوله: وذكر الإمام أنا إن جعلنا الإنكار رجوعًا فلا يبعد أن تسمع الدعوى، وأن في شهادة الحسبة على التدبير الخلاف المذكور في سماع الدعوى، ورد شهادة الحسبة أولى. انتهى. اعلم أن الأصح أن الدعوى بالتدبير خلاف ما قاله الإمام، كذا تقدم ذكره في الدعاوى وأما شهادة الحسبة عليه أي على التدبير فقد جزم الرافعي في الشهادات بأنها لا تسمع. قوله في "الروضة": ولا يثبت التدبير إلا بشهادة رجلين لأنه ليس بمال، ويثبت الرجوع برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، لأنه مال، وفيه وجه ضعيف أنه يبقى الحرية. انتهى. وتعبيره في آخر كلامه بقوله أنه يبقى. شاهدته بخطه كذلك، وصوابه لأنه بلام الجر كما في الرافعي. قوله: وفي "تعليقة إبراهيم المروروذي": أن الحيلة في عتق الجميع بعد الموت، وإن لم يكن له مال سواه أن يقول هذا العبد حر قبل مرض موتي بيوم، وإن مت فجأة فقبل موتي بيوم، فإذا مات بعد التعليق بأكثر من يوم عتق من رأس المال ولا سبيل عليه لأحد، وإن اقتصر على قوله: أنت حر قبل موتي بيوم أو بشهر، فإذا مات نظر، فإن كان في أول اليوم أو الشهر قبل الموت مريضًا اعتبر عتقه من الثلث، وإن كان صحيحًا فمن رأس المال. انتهى. واقتصاره في نقل هذه الحيلة عن المروروذي قد تابعه عليه أيضًا في "الروضة" وهو غريب، فقد صرح بها خلائق لا يحصون منهم القاضي

الحسين والماوردي والروياني والبغوي في "فتاويه"، وجزم به الرافعي أيضًا في كتاب الوصية. قوله: ولو دبر عبدًا وباقي أمواله غائبة لم يعتق ثلثاه لاحتمال تلف المال. وكذا ثلثه الآخر أظهر الوجهين عند الشيخ أبي محمد والبغوي وغيرهما لأن في تنجيز العتق بتقيد التبرع في الثلث قبل تسليط الورثة على الثلثين ولو كان له دين في ذمة إنسان ليس له غيره، فأبرأه عنه أو عن ثلثه في مرض الموت، هل تحصل البراءة عن التلف قبل وصول الثلثين؟ فيه الخلاف. والأصح: المنع، ويجري الخلاف في ما إذا مات عن اثنين، ولم يترك إلا دينًا على أحدهما هل يبرأ من عليه الدين عن نصيبه، وفي ما إذا أوصى بعين تخرج من الثلث، وباقي ماله غائب هل يسلم الثلث للموصي له؟ ثم قال بعد ذلك، وفي المنع في المدبر إشكال لأن الثلث عتيق بكل حال فلا معنى للتوقف والتأخر فيه، ولا فائدة للوارث في ذلك فإنه ممنوع من التصرف في جميع العبد، فضلًا عن التصرف في الثلث. وأيضًا فلو لم يعتق الثلث في الحال لبقى الملك فيه، والمملوك لابد له من مالك ولا يمكن أن يكون ملكًا للميت، ولو كان ملكًا للوارث لما عتق إلا بإعتاقه. انتهى كلامه. وما ذكره في الدين من عدم البراءة عن الثلث قد صحح في أوائل الركن الثالث من أركان الكتابة في نظير المسألة ما يخالفه، وسوف أذكر لفظه هناك فراجعه. قوله في المسألة: وفي طريقة الصيدلاني تفريعًا على أنه يعتق من المدبر ثلثه: أنه لو أعتق الوارث في الثلثين ولم يحضر المال الغائب قولا الثلثين له، فإن حضر فعن ابن سريج أن الجواب كذلك لأنه أعتق وله العتق، وأن فيه وجهًا آخر أن ولاء الجميع للمورث، بناء على أن إجازة الورثة تنفيذًا

وابتداء عطية واشتد تكبر الإمام على هذا، وقال: إعتاق الورثة رد للتدبير، ولا سبيل إلى رده بسبب غيبة المال، بل الوجه التوقف، فإن حضر المال بأن يعود العتق في الجميع، ولكن يستند إلى وقت الموت، أو عند حصول القدرة؟ فيه احتمالان: أوجههما الأول. قال ولو كانت التركة بحيث بقي ثلثها بالمدبر لكن كان عليه دين يستغرق، فأبرأ مستحق الدين بعد أيام من الموت فيستند العتق إلى وقت الموت، أو يتنجز من وقت سقوط الدين؟ فيه احتمالان: والأظهر في هذه الصورة: الثاني. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على نقل هذه عن الإمام تفريعًا على القول الضعيف، وهو أنه يعتق الثلث وهو عكس ما في [ق: أ] النهاية فإنه فرعها على القول الصحيح وهو عدم النفوذ. قوله: ولو باع الصحيح محاباة وشرط الخيار ثم مرض في مدة الخيار، ولم ينسخ حتى مات اعتبرت المحاباة من الثلث، لأنه ألزم العقد في المرض باختياره، فأشبه من وهب في الصحة فأقبض في المرض. انتهى. اعترض في "الروضة" فقال: إنما يظهر هذا إذا قلنا: الملك في مدة الخيار للبائع، وترك النسخ عامدًا لا ناسيًا. قوله: وإن جنى المدبر فمات السيد قبل البيع واختيار الفداء، ففي حصول العتق الخلاف في إعتاق العبد الجاني، وقد سبق في أول البيع، وبينا أن الأصح نفوذه من الموسر دون المعسر، ويشبه أن يقال الميت معسر على ما مر في شراء العتق. فإن قلنا: ينفذ فدى من تركة السيد بالأقل بلا خلاف لأنه تعذر تسليمه للبيع. انتهى ملخصًا. فيه أمران:

أحدهما: أنا استفدنا من قول الرافعي ويشبه ترجيح عدم النفوذ في مسألتنا، وحذفه النووي من "الروضة" فأوهم ترجيح خلافه اعتمادًا على التركة. الأمر الثاني: أن ما ذكره من نفى الخلاف والتعليل قد تابعه عليه في "الروضة" وهو مردود فإنهم اختلفوا في أم الولد إذا جنت، ولم تجوز بيعها هل يفديها سيدها بالأقل أم بالأرش بالغًا ما بلغ؟ فالعراقيون قطعوا بالأول مستدلين بامتناع البيع، والمراوزة أجروا فيها الخلاف. قوله: وأما إذا أتت المدبرة بولد من نكاح أو زنا فهل يسري التدبير إليه؟ فيه قولان: أرجحهما عند الإمام وصاحب "التهذيب": أنه لا يتبع لأنه عقد يقبل الرفع، فلا يسري إلى الولد كالرهن. وأظهرهما: على ما ذكره الشيخان أبو حامد والقفال وغيرهما، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد أنه يتبع لأنها تعتق بموت سيدها فيتبعها ولدها كالمستولدة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه قد اختلف في الأصح من القولين فصحح في "المحرر" أنه لا يتبع. فقال أصحهما: لا. هذا لفظه، وصرح في "الشرح الصغير" بترجيح الثاني. فقال: وأظهرهما عند أكثرهم: السراية، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد هذا لفظه أيضًا، وكلامه هنا -أعني في "الكبير"- فيه إشعار به أيضًا، ولهذا صرح بذلك النووي في "الروضة" فنقله عن الأكثرين، ثم استدرك عليه فقال بل الأكثرون على أنه لا يتبع ولا يخفي ما عليه فيه. الأمر الثاني: أن مراده هنا بالسراية إنما هو التبعية، فقد قال في كتاب العتق في الكلام على السراية إنه إذا أعتق أمته الحامل بمملوك عتق الحمل

أيضًا لا بطريق السراية، فإن السراية في الأشقاص، لا في الأشخاص بل بطريق التبع، كما يتبعها في البيع. قوله: والمعلق عتقها بصفة إذا أتت بولد لا يتبعها ولدها في أصح القولين. ولا فرق في المعلق عليه بين المحقق كطلوع الشمس، وبين غيره، كقدوم زيد، وقيل القولان في المحقق، فأما غيره فلا يتبعها الولد فيه بلا خلاف. انتهى. وهذا الخلاف الأخير قد أسقطه من "الروضة" فاقتصر على القولين في "أصل المسألة". قوله: فأما إذا كانت المدبرة حاملًا عند موت السيد فيعتق معها الحمل بلا خلاف كما لو أعتق أمة حاملًا. انتهى كلامه. وما ذكره من نفي الخلاف ليس كذلك، ففيه وجه أن الحمل لا يتبع، وقد نقله ابن يونس في "التعجيز" وابن الرفعة في "المطلب". قوله: ولو كانت المدبرة حاملًا عند التدبير فالمذهب القطع بأن الحمل يكون مدبرًا وليس هو بسراية التدبير، بل اللفظ يتناوله. انتهى. وما ذكره من تناول اللفظ له قد صرح بخلافه في كتاب الإقرار في الكلام على أن الإقرار بالطرق لا يكون إقرارًا بالمطروق، فقال: إن لفظ الأم لا يتناول الحمل. قوله في المسألة في أصل "الروضة": وإن كان لها زوج، قد فارقها، وولدت لدون أربع سنين من وقت الفراق. فالأظهر: أنه يجعل موجودًا يوم التدبير كما يجعل موجودًا في ثبوت النسب من الزوج. انتهى كلامه. لم يصحح الرافعي في المسألة شيئًا وإنما نقله عن البغوي.

كتاب الكتابة

كتاب الكتابة ولها أركان وأحكام، فالأركان أربعة. قوله: ذكر الأئمة أن الكتابة مأخوذة من الكتب وهو الضم والجمع، يقال: كتبت البغلة إذا ضممت بين شُفريها بحلقة أو سير. ومنه الكتابة لما فيها من ضم بعض الحروف إلى بعض، والكتيبة لانضمام بعضهم إلى بعض فسمي هذا العقد كتابة لما ينضم فيه من النجم إلى النجم، وقيل: سميت كتابة لأنها توثق بالكتابة. انتهى. واعلم أن الكتابة والكتاب والكتب مصادر، كما صرح به النحاة، وكل واحد من المصادر المترادفة ليس مأخوذًا من غيره بلا خلاف، بل لا شيء من المصادر مفرع عن غيره على رأي البصريين. قوله: وإذا قال كاتبتك وعين النجوم فإن قال مع ذلك فإذا أديت فأنت حر. أو لم يقله، ولكن نواه صحت وإن لم يوجد التعليق ولا النية، لم يصح وفيه قول مخرج. انتهى ملخصًا. وهذا الخلاف قد ذكره النووي في "تصحيح التنبيه" حالة وجود النية، فقال عطفًا على الأصح وأنه إذا قال: كاتبتك ولم يقل فإذا أديت فأنت حر، ولكن نواه صحت هذا لفظه، وهو غلط فاعلمه. قوله: ولو قال: إن أعطيتني ألفًا أو أديت إليّ ألفًا فأنت حر، فلا يمكن أن يعطي مال نفسه، فإنه لا يملك شيئًا فهو كما لو قال لزوجته: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، فأتت بألف مغصوب. وقد ذكرنا في الخلع وجهين في وقوع الطلاق، والأظهر: أنه لا يقع.

انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن دعواه أنه لا يمكن أن يعطي من مال نفسه وأنه لا يمكنه إلا إعطاء المغصوب حتى لا يعتق، ليس كذلك فإنه، قد ينتهي إلى حالة يكون فيها مالكًا مع كونه رقيقًا، وحينئذ فيحصل العتق بإعطائه، وذلك أن يكاتبه السيد وفي الرافعي في الكلام على تعجيل النجوم، نقلًا عن "الشامل" من غير اعتراض عليه أنه إذا قال لمكاتبه إن أعطيتني كذا فأنت حر فأعطاه عتق، ولكنه عوض فاسد لأن المكاتب لا يصح المعاوضة عليه، فيعتق بالصفة وعليه تمام قيمته، فيحتمل أيضًا التراجع في مسألتنا، والمتجه الفرق. وأيضًا فقد ذكروا أنه إذا علق الطلاق على إعطاء السفيهة أو إبرائها أو التزامها وقع الطلاق رجعيًا، وفرقوا بينه وبين إعطاء المغصوب بأن السفيهة لا تقدر على بذل فصار ذلك قرينة دالة على إرادة مجرد التعلق بخلاف بذل المغصوب من الرشيدة وإذا تقرر هذا، فنقول بتقدير صحة ما قاله الرافعي من كون العبد لا يقدر على إعطاء شيء مملوك له، فلا يكون إعطاؤه كإعطاء المغصوب من الرشيدة، بل كإعطاء السفيهة للمعنى الذي قلناه، وحينئذ فيحصل العتق بإعطائه. الأمر الثاني: أن الأصحاب اختلفوا في أن لفظ الأداء هل ينزل منزلة الإعطاء في أحكامه من التمليك والفورية أم هو تعليق محض؟ واختلف كلام الرافعي في هذه المسألة فكلامه هنا جازم بإلحاقه به، وخالف ذلك في مواضع. أحدها: في الركن الثاني المعقود للعوض في الشرط الرابع من شروطه فقال: بخلاف ما إذا قال إن أديت إليّ هذا فأنت حر، فإنه إذا أداه عتق

وإن كان مستحقًا لأن ذلك محض تعليق. هذه عبارته. والموضع الثاني في أوائل الكلام على الكتابة الفاسدة، فقال ما نصه: قال الأصحاب: تعليق العتق بالصفة على أقسام: أحدها التعليق الحالي عن المعاوضة كقوله إن دخلت الدار أو كلمت فلانًا فأنت حر، فإن المال ليس مذكورًا على سبيل الأعواض فهذا لازم من الجانبين، فليس للعبد ولا للسيد ولا لهما دفعه بالقول ويبطل بموت السيد. وإذا وجدت الصفة في حياته عتق وكسب العبد قبل وجود الصفة للسيد ولو أبرأه في صورة التعليق بأداء المال عن المال لم يعتق. ولا تراجع بين السيد وبينه هذا لفظه. والموضع الثالث في آخر الكلام على الكتابة الفاسدة, فقال نعم لو قال إن أديت إلي وارثي كذا فأنت حر عتق بالأداء إليهم، كما لو قال إن دخلت الدار بعد موتي. انتهت. وقد وقع هذا الاختلاف أيضًا في المسألة المذكورة بالنسبة إلى الخلع وسبق إيضاحه هناك. وتبعه في "الروضة" على الاختلاف الواقع في المسألتين. قوله في المسألة المذكورة: فإن فرعنا على أنه يعتق، فعن الشيخ أبي علي رواية وجهين في "شرح التلخيص" في أن سبيل هذه المعاملة سبيل الكتابة الفاسدة حتى يرد السيد ما أخذ، ويرجع على العبد بقيمة رقبته. حتى تتبعه الأكساب والأولاد الحاصلة بعد التعليق. والثاني: أنه ليس لها حكم الكتابة الفاسدة، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه يرجع على العبد بقيمة رقبته كما أنه إذا قال لزوجته: إن أعطيتني ألفًا، فأعطته ألفًا مغصوبًا، وقلنا بوقوع الطلاق فإنه يرجع عليها.

والثاني: أنه لا رجوع له، والذي جرى محض تعليق ويخالف الزوجة فإنها أهل الالتزام وقت المخاطبة، والعبد ليس أهلًا له. قال في "الوسيط": والظاهر أنه لا رجوع للسيد بالقيمة، وأنه لا يتبعه الكسب والولد. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الترجيح الذي نقله عن الغزالي يعود إلى الوجهين المذكورين أولًا، فإن تبعية الكسب والولد، إنما تأتي عليه لا على الثاني، وفهم النووي أنها عائد إلى الوجهين المذكورين ثانيًا فحكى الخلاف الأول بلا ترجيح، ونقل الترجيح في الثاني، ثم إنه لم يعزه إلى الغزالي، بل أطلق التصحيح. الأمر الثاني: أن ما رجحه الغزالي هو الصحيح فقد جزم به الرافعي بعد هذا الكلام على الكتابة الفاسدة، وقد سبق ذكر لفظه في آخر المسألة السابعة. قوله: وعن القاضي الحسين ذكر وجهين في ما إذا أسلم إلى المكاتب عقب عقد الكتابة. انتهى. صورة هذه المسألة في السلم الحال. أما المؤجل فيصح جزمًا، كذا صرح به إمام الحرمين هنا وهو واضح. قوله: ولا يجوز أن يكتفي بخدمة شهرين مثلًا على أن تقدر خدمة كل شهر نجمًا، فلو شرطا صريحًا أن تكون خدمة شهر نجمًا وخدمة الشهر بعده نجم آخر فوجهان: أصحهما: وهو المنصوص في "الأم": المنع، لأن منفعة الشهر الثاني متعينة والمنافع المتعلقة بالأعيان لا يجوز أن يشترط كآخرها. والثاني: يجوز واتصال ابتداء الشهر الثاني بانتهاء الأول تخرجه عن أن

يكون عقدًا على المستقبل، وهذا كالخلاف في إجارة الدار السنة القابلة، أو هو هو فإن انقطع مبتدأ المدة الثانية عن منقرض الأول كما لو كاتبه على خدمة شهر آخر بعد ذلك الشهر بعشرة أيام مثلًا، لم يجز بلا خلاف. انتهى كلامه. وهو متدافع؛ لأن الصحيح في الإجارة هو الجواز والترجيح المذكور أولًا مع التعليل الذي ذكره يقتضي تصحيح المنع فيها. نعم التجويز في الإجارة يقتضي جعله كالموجود في عقد واحد، ومقتضاه أن يكون هنا كنجم واحد فيمتنع، ومن منع فيها نظر إلى أن هذا عقد على زمن مستقبل فمقتضاه المنع هنا أيضًا. فاتجه المنع هنا بكل حال، وبه يبطل أيضًا البناء. قوله: في "الروضة" ولو كاتبه على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر، كقوله ودينار بعد العقد بيوم، صح على الأصح. انتهى كلامه. أهمل شيئين ذكرهما الرافعي: أحدهما: طريقة قاطعة بالمنع، نقلها عن ابن القطان. والثاني: أن المنصوص في "الأم" الجواز، وهذا الثاني ذكره الرافعي قبل هذا بأسطر. قوله: وذكر في "التهذيب" أنه لابد من بيان العمل في الخدمة إذا كانت عليها، وقال ابن الصباغ: يكفي إطلاق الخدمة. انتهى. لم يرجح [في الروضة] (¬1) أيضًا شيئًا من هذا الخلاف، والصحيح: الاكتفاء بالإطلاق، وحمل الأمر فيه على العرف كما سبق إيضاحه في آخر الإجارة. قوله: وإذا مرض العبد وفاتت الخدمة انفسخت الكتابة في قدر الخدمة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وأما الباقى فقيل هو كما لو باع عبدين فتلف أحدهما قبل القبض، وقيل: يبطل فيه بلا خلاف لأن الكتابة لا تقع على بعض العبد هذا ما حكاه القاضي أبو الطيب. انتهى كلامه. والصحيح ما ذكره الرافعي بعد هذا بقليل في نظير المسألة: أنه يصح فقال في أوائل الركن الثالث المعقود للسيد: أنه إذا كاتب عبده في مرض الموت اعتبرت كتابته من الثلث، فإن خرج بعضه فالباقي قنٌ ثم قال: ولا يخرج على الخلاف في ما إذا كاتب أحد الشريكين نصيبه من العبد المشترك فإن ذلك ابتداء كتابة، وهاهنا وردت الكتابة على الجميع ثم دعت الحاجة إلى الإبطال في البعض، وحكى ابن كج عن بعضهم التخريج على ذلك الخلاف. انتهى كلامه. [ولكن نص في "الأم" على ما يوافق الطريقة الثانية وهي البطلان] (¬1) فقال إذا انتقضت الكتابة في البعض انتقضت في الكل، هذه عبارته على ما حكاه البندنيجي عنه. واعلم أن القاضي أبا الطيب ممن قطع بالمنع وتعبير الرافعي يقتضي حكايته للطريقين ولو زاد واو العطف مع لفظ الإشارة لاستقام وحذف النووي النقل عن القاضي المذكور. قوله في "الروضة": ولو كاتبه على دينار إلى شهر ودينارين إلى شهر على أنه إذا أدى الأول عتق ويؤدي الدينارين بعد العتق. ففي صحة الكتابة القولان في ما إذا جمعت الصفقة عقدين مختلفين. انتهى كلامه. وحاصله تصحيح الصحة؛ لأنه الصحيح في الجمع بين العقدين، ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وهذا الذي ذكره النووي غريب فإن الرافعي لم يقتصر عليه، بل ذكر ما يعارضه فإن قال: فعن ابن سريج أن في صحة الكتابة قولين، وهما عند بعضهم القولان في أن الصفقة إذا جمعت [بين عقدين مختلفين هل تحكم بصحتها؟ وعند بعضهم يتأصلان ويوجه] (¬1) البطلان بأنه شرط ما يخالف قضية الكتابة، لأن قضيتها أن لا يعتق بأداء البعض. والصحة بأنه لو كاتبه مطلقًا، وأدى بعض المال، ثم أعتقه على أن يؤدي الباقي بعد العتق جاز، فكذلك إذا شرطه في الابتداء، هذا كلام الرافعي وليس فيه ترجيح الطريقة الأولى، فضلًا عن الجزم بها، بل التخريج ضعيف. لأن صورة تلك أن يكون المعقود عليه متعددًا أو متحدًا ولكن يخص بعضه المعين بحكم والبعض الآخر بحكم آخر. كما يعرف من كلامهم في البيع بل الظاهر أن هذا شرط يخالف مقتضاها وليس نظيره ما قاس عليه الذاهب إلى الصحة لأنه في تلك المسألة متبرع بتعجيل العتق وفي مسألتنا يصير مستحقًا واقعًا بغير اختياره، وذلك مناف لحقيقة الكتابة ثم إن النووي أيضًا قد أسقط هذه المسألة أعني المستشهد بها للصحة. قوله: ولو كاتبه وباعه شيئًا بعوض واحد كقوله كاتبتك وبعتك هذا الثوب بمائة إلى شهرين تؤدى نصفها في آخر كل شهر فإذا أديت فأنت حر، فقال قبلت الكتابة والبيع أو البيع والكتابة أو قبلهما فطريقان: أحدهما: على القولين في من جمع بين عقدين مختلفي الحكم ففي قول يصحان، وفي آخر يبطلان. والثاني: وهو المذهب: يبطل البيع، وفي الكتابة قولا تفريق الصفقة. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وما ذكره من أنه لا فرق في الجواز من تقدم البيع على الكتابة، وعكسه، وبين مقارنتهما قد ذكر في نظيره وهو مزج الرهن بالبيع ما يخالفه كما سبق في أوائل الرهن. وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: الركن الثالث: السيد ويعتبر فيه أمران، والتكليف وأهلية التبرع. انتهى كلامه. أهمل أمرًا ثالثًا وهو الاختيار حتى لا يصح من المكره، وقد ذكره في أثناء الباب. قوله: ولو كاتبه في الصحة بمثل قيمته ولم يكن له مال [سواه] (¬1)، ثم أبرأه عن النجوم في المرض، فإن اختار العجز عتق [ثلثه] (¬2) ورق ثلثاه وإذا اختار بقاء الكتابة، فأظهر الوجهين أنه يعتق ثلثه، وتبقى الكتابة في الثلثين وقيل لا يعتق ثلثه ما لم يسلم الثلثان للورثة. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من عتق الثلث، قبل تسلط الورثة على الثلثين قد سبق في باب التدبير في نظائر كثيرة لهذا ما يخالفه، ذكر ذلك بعد الكلام على الرجوع، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه. وقد ذكر الرافعي هنا عقب هذه المسألة [عملًا من الحساب حكى فيه خلافًا بين ابن الصباغ وغيره أسقطه] (¬3) من "الروضة"، وفي ظني أنه لم يتقدم له ذكر في الوصايا، فليعلم ذلك ولينظر. قوله: وكتابة المرتد تبنى على أقوال ملكه، وقيل لا يأتي الوقف، ثم محل هذا الخلاف ما إذا لم يحجر الحاكم عليه [وقلنا أيضًا لا يحصل بنفس ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من أ.

الردة فإن كان في حال حجر لم يصح قطعًا وقيل] (¬1) محلها إذا حجر عليه الحاكم، فإن لم يحجر عليه صحت بلا خلاف، سواء قلنا يصير محجورًا عليه أم لا، وقيل: إنه مطرد مطلقًا. ثم قال ما نصه: وتحصل من هذه الاختلافات في كتابة المرتد وجوه أو أقوال خمسة: أحدها: أنها موقوفة. والثاني: صحتها. والثالث: صحتها قبل الحجر خاصة. والرابع: بطلانها. والخامس: بطلانها بعد الحجر خاصة والأشبه هو الرابع، انتهى كلامه. والقول الثالث من هذه الأقوال متحد مع الخامس فهي في الحقيقة أربعة بل لا يجيء مما سبق غيرها، أعني غير الأربعة. وقد تفطن النووي لإشكاله لكنه توهم صحة العدد فغيره باجتهاده، فقال: أظهرها: البطلان. والثاني: يصح. والثالث: موقوفة على إسلامه. والرابع: يصح قبل الحجر عليه، وإن قلنا يصير محجورًا عليه بنفس الردة. والخامس: يصح قبل أن يصير عليه حجر إما بنفس الردة، وإما بحجر ¬

_ (¬1) سقط من أ.

القاضي هذا كلامه، وهو غير مستقيم أيضًا. فإن حجر الحاكم لما كان متوقفًا على أشياء منه حصل من اعتباره قول فارق. وأما كونه يصير محجورًا عليه أم لا فلا يجيء فيه قول، بل هو داخل في الأقوال الباقية، كغيره من الطرق ولوقوعه من غير فعل فتأمله. قوله: ولو سمى المكاتب جاز للسيد الفسخ، وهل يفسخ بنفسه كما كان المكاتب حاضرًا، أو بدفع الأمر إلى الحاكم ليتفحص هل له مال بقي بالكتابة؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول، ثم إذا فسخت الكتابة وأقام البينة بعد الخلاص على أنه كان له من المال ما بقى بالكتابة بطل الفسخ وأدى المال وعتق. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من أن وجود المال مانع من الفسخ، قد جزم بخلافه في أثناء الحكم الثاني في السبب الثاني من أسباب تعذر تحصيل النجوم، وسوف أذكر لفظه في موضعه فراجعه. قوله: الركن الرابع: المكاتب وشرط التكليف. انتهى. أهمله قيد الاختيار ليتحرز عن المكره. وقد ذكره في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده". نعم ذكره الرافعي في أثناء الباب، وقد تقدم الاعتراض عليه بهذا في حق السيد أيضًا. قوله في "الروضة": ولو كاتب عبده الصغير أو المجنون فوجدت الصفة عتق، ثم قيل: يعتق بحكم كتابة فاسدة، لأنه لم يرض بعتقه إلا بعوض فعلى هذا يثبت التراجع، والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يعتق بمجرد الصفة وليس كما جرى حكم الكتابة الفاسدة في التراجع ولا غيره. انتهي. حكى الرافعي عن الصيدلاني أنه فصل بين الصبي والمجنون وفرق بأن

الجنون عارض فهو كعارض شرط فاسد بخلاف الصبي. وأهمل أيضًا طريقة قاطعة فيهما بالجواز وأخرى بالمنع. قوله: ولو قبل الكتابة من السيد أجنبي على أن يؤدي عن العبد كذا في نجمين فإذا أداهما عتق العبد فهل يصح؟ وجهان: أحدهما: نعم: كخلع الأجنبي. والثاني: لا، لمخالفته موضوع الباب، فإن صححناها فهل يجوز حاله؟ وجهان: وإن لم نصححها وأدى عتق العبد بالصفة ويرجع المؤدى على السيد بما أدى والسيد عليه بقيمة العبد. انتهى. والأصح: عدم الصحة، كذا صححه في "الروضة" من "زوائده". قوله: وإن كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن شريكه لم يصح في أصح القولين. والثاني: قاله في "الإملاء" على مسائل محمد بن الحسن أنها تصح. وعن ابن سلمة القطع بالقول الأول، فإن صححنا فدفع العبد من كسبه إلى الذي كاتبه حصته، أو جرت بينه وبين الذي لم يكاتبه مهاياة، فدفع ما كسبه في ثوبه نفسه إلى الذي كاتبه حتى تمت النجوم عتق، وقوم عليه نصيب الشريك إن كان موسرًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن العبد المشترك [إذا أعطى أحد الشريكين حصته من المال الذي اكتسبه] (¬1) لا يعتق نصيب الآخذ حتى يأخذ أيضًا شريكه، كذا ذكره الرافعي في الكلام على الحكم الثاني من أحكام الكتابة على خلاف ما دل عليه كلامه هنا فراجعه، فإنه بسط المسألة هناك، وترجم لها في "الروضة" بالمسألة الخامسة. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثاني: أن النووي قد أهمل في "الروضة" الطريقة القاطعة التي قال بها ابن سلمة. قوله: حكاية عن ابن كج: ولو كاتب نصيبه بإذن شريكه فجوزناه فأراد الشريك الآخر كتابة نصيبه، هل يحتاج إلى الإذن الأول؟ فيه وجهان. انتهى. جزم ابن الرفعة في "الكفاية" بالجواز، وعلله بأنه لم يبق له حق يخشى فواته، وما ذكره متجه. قوله في "الروضة": فرع: إذا كاتب الشريكان العبد معًا أو وكلا من يكاتبه أو وكل أحدهما الآخر فكاتبه صحت الكتابة قطعًا إن اتفقت النجوم جنسًا وأجلًا وعددًا، وجعلا حصة كل واحد من النجوم بحسب اشتراكهم في العبد، أو أطلقا فإنها تقسم كذلك. انتهى كلامه. وما اقتضاه لفظه من عدم الخلاف ليس كذلك، ففي المسألة ثلاثة أوجه حكاها في "الكفاية". أحدها: هذا. والثاني: أنه إذا كان لأحد الشريكين زيادة على ما للآخر فلا يصح الكتابة أصلًا، وإنما تصح إن لو كان ملكهما على السواء. والثالث: أنها لا تصح مطلقًا سواء تساويا فيه أو اختلفا لأن العقد إذا جرى عليه حكم العقدين وصار كأن كل واحد قد انفرد به. ولم ينف الرافعي الخلاف في هذه المسألة. قوله: والكتابة الباطلة هي التي اختل بعض أركانها، بأن كان السيد أو العبد صبيًا أو ذكر ما لا يقصد كالدم والحشرات بخلاف الكتابة على الخمر والخنزير، فإنها فاسدة ثم قال ما نصه: وعند الصيدلاني أن الكتابة على الميتة

والدم من صور الكتابة الفاسدة كالكتابة على الخمر والخنزير. انتهى كلامه. لم يذكر -رحمه الله- في الميتة غير ما نقله هنا عن الصيدلاني، وهو موهم، بل ظاهر في إلحاقها بالباطل لأنه ساق هذه المقالة مساق الأوجه الضعيفة. ولقرينة عدها مع الدم ولكن الصحيح عدها مما يقصد، كذا صرح به الرافعي في كتاب الخلع فاعلمه. وتابعه في "الروضة" هنا على هذا التعبير. قوله: وإنما كان كذلك على خلاف البيع وسائر العقود، حيث لا يفرق فيها بين الباطل والفاسد لأن العتق هو المقصود، وتعليق العتق لا يفسد. انتهى. وما ذكره من أن باقي العقود لم يفرق فيها ليس كذلك، فقد فرقوا بينهما أيضًا في الخلع والعارية، وقد تقدم في موضعه. قوله في "الروضة": ولو اعتاض عن المسمى في الكتابة الفاسدة لم يعتق أيضًا. انتهى. وهذا الكلام يوهم جواز الاعتياض عن نجوم الكتابة والصحيح فيه المنع، كما ذكره بعد ذلك في الحكم. ولما ذكر الرافعي هذه المسألة نبه عليها على بيانه على الخلاف الآتي. قوله أيضًا في "الروضة": وهل يتبع المكاتبة كتابة فاسدة ولدها؟ طريقان: المذهب: نعم كالكسب. والثاني: قولان. انتهى. لم يصرح الرافعي بتصحيح شيء من الطريقين وإنما نقل الأولى عن تصحيح الإمام وغيره والثانية عن أبي زيد والغزالي.

نعم صحح الرافعي في "الشرح الصغير" ما صححه في "الروضة"، فقال: إنها أظهر الطريقين. قوله: والمكاتب كتابة صحيحة، هل يسافر بغير إذن سيده فيه نصان وفيهما طريقان، وقيل قولان: أصحهما: الجواز. والطريق الثاني: حمل الجواز على القصير والمنع على الطويل، وقيل: يحمل الجواز على ما قبل الحلول والمنع على ما بعده انتهى ملخصًا. ذكره في "الشرح الصغير" و"الروضة" نحوه أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أنه لا يؤخذ من هذا الكلام تصحيح في المسألة، فإن التصحيح المذكور في الأول إنما هو تفريع على طريقة القولين، ولم يصححاها والصحيح من حيث الجملة هو الجواز، كذا جزم به الرافعي في أول الكلام على كفاية بعض العبد، وصححه النووي في "تصحيح التنبيه". نعم يؤخذ من كلام الرافعي هنا، ومن "الروضة" تصحيح الجواز في السفر القصير قبل الحلول لأن الطرق كلها متفقة عليه. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلامهما [في هذا الباب من عدم المنع عند الحلول مناقض لما ذكراه] (¬1) في التفليس وفي السير من تصحيح المنع عند القدرة، والعجب من تمكنه من منع الحر بذلك، ومنعه من منع رقيقه بذلك السبب بعينه، وتعليل الرافعي يقتضي تخصيص الخلاف لسفر التجارة وتصوير المسألة، يقتضي تعميم كل سفر، وكلام "التنبيه" يقتضي جريان الخلاف مع الإذن أيضًا، ولم يصرح الرافعي بذلك وفيه نظر. قوله: وكأنه قال: إن أديت فأنت حر ما لم أرجع، فالعتق معلق بالأداء. وعدم الرجوع. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واعلم أنه قد جعل هنا وفي أول الفصل أيضًا التعليق بالأداء، كسائر التعاليق الحالية عن العوض، وقد علم أن التعليق لا يرجع عنه بالقول لكن استفدنا من هاهنا جواز الرجوع عنه إذا شرطه في تعليقته، وفيه نظر، فإن الرجوع الذي شرطه لا يحصل باللفظ، إلا أن يقال حملناه على التلفظ بالرجوع، وقد أسقط النووي المسألة المذكورة. قوله: ولو عجل النجوم في الكتابة الفاسدة فهل يعتق كالصحيحة أم لا لأن الصفة لم توجد على وجهها؟ وجهان. انتهى. والأصح هو الثاني، كذا صححه النووي من "زوائده" وابن الرفعة في "الكفاية" وهو المتجه. قال -رحمه الله-: النظر الثاني في أحكام الكتابة وهي خمسة: أحدها فيما يحصل به العتق. قوله: وأما الفاسدة فالأصح بطلانها بجنون السيد وإغمائه، وبالحجر عليه دون جنون العبد وإغمائه، لأن العبد لا يتمكن من فسخ الكتابة ورفعها صحيحة كانت أو فاسدة وإنما يعجز نفسه، ثم السيد يفسخ إن شاء، فإن قلنا أنها لا تبطل فلو أفاق فأدى المسمى عتق وثبت التراجع. وبمثله أجابوا فيما إذا أخذ السيد في جنونه وقالو ينصب الحاكم من يرجع له، وينبغي أن يقال لا يعتق هاهنا، انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما جزم به، واقتضى كلام الاتفاق عليه، من كون العبد لا يتمكن من فسخ الكتابة غريب. فقد ذكر بعد هذا في أثناء الحكم الثاني أن أظهر الوجهين، أنه يجوز له يفسخ كالمرتهن وعلل مقابله بأنه لا ضرر عليه في بقاء الكتابة، والصواب

المفتى عليه ما ذكره هناك وهو الجواز، فقد نص عليه الشافعي في "الأم"، فقال في باب الكتابة على البيع تعليلًا لمسألة ما نصه: لأن الكتابة لا تلزم العبد لزوم الدين الكتابة متى شاء العبد تركها. وذكر بعده بنحو أربعة أوراق ما هو أصرح منه، فقال في باب الخيار في الكتابة ما نصه: ولو كاتب الرجل عبده على أن للسيد أن يفسخ الكتابة متى شاء ما لم يؤد العبد كانت الكتابة فاسدة، ولو شرط السيد للعبد أن بيد هذا العبد فسخ الكتابة متى شاء كانت الكتابة جائزة، لأن ذلك بيد العبد، وإن لم يشترطه العبد. انتهى لفظ الشافعي بحروفه، ومن "الأم" نقلته. وصرح به أيضًا في باب ميراث المكاتب، فقال من جملة كلام ما نصه: فمتى شاء المكاتب أبطل الكتابة. الأمر الثاني: أن قول الرافعي وإنما يعجز نفسه ثم السيد يفسخ إن شاء صريح في أن الكتابة لا تبطل بتعجيز العبد نفسه، وهو خلاف نص الشافعي، فإنه قد قال في "الأم" في باب جماع أحكام المكاتب استدلالًا على بطلان الكتابة بالموت ما نصه: وإذا كان المكاتب، إذا قال في حياته قد عجزت فطلب الكتابة، لأنه اختار تركها كان إذا مات أولى أن تبطل، وذكر مثله في أواخر باب ميراث المكاتب، فقال ما نصه: وكذلك لو كان عبدان أو عبيد في كتابة واحدة فعجز أحدهم نفسه، أو رضي بترك الكتابة خرج منها. هذا لفظه. وقد حذف النووي من "الروضة" ما ذكره الرافعي هاهنا لكونه دليلًا على مسألة، فاتفق أن سلم من هذين الاستدراكين، ثم إن الرافعي قد ذكر بعد هذا في آخر المسألة الثالثة من الحكم الثاني ما يوافق المذكور هنا أيضًا وتابعه عليه في "الروضة" لكنه ذكر ما يخالفه في الحكم الثاني، في الكلام على تبرعات المكاتب مع السيد، فإنه صحح تخريجها على القولين

في الأجنبي مع الإذن وحكى طريقة قاطعة بالصحة، وعللها بقوله لأن للمكاتب أن يعجز نفسه، فيحمل جميع ما في يده لسيده. وإذا تمكن من جعل الجميع للسيد، لم يبعد أن يجعل بعضه له بالهبة. هذا لفظه. وتبعه عليه في "الروضة". الثالث: أن النووي في "الروضة" قد عبر عن قول الرافعي ينصب الحاكم بقوله ينصب السيد، كذا رأيته بخطه، وهو ذهول فاعلمه. قوله: الثالثة إذا كاتب الشريكان معا ثم أعتق أحدهما نصيبه سرى إلى نصيب شريكه على المشهور وفي وقتها قولان: أحدهما في الحال. وأظهرهما لا بل يوقف إلى الأداء والعجز ثم قال وعن أبي الطيب ابن سلمة القطع بالقول الثاني. انتهى. أسقط النووي هذه الطريقة. قوله: إذا كاتب عبدًا ومات عن اثنين فأعتق أحدهما نصيبه أو أبواه عن نصيبه من النجوم عتق نصيبه, هذا هو المشهور الذي أطلقه عامة الأصحاب. وقال صاحب "التهذيب": قضية سياق المختصر حصول قولين في عتق نصيبه: أحدهما: العتق، وأصحهما المنع. بل يوقف، فإذا أدى نصيب الآخر عتق كله. انتهى كلامه. وذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وحاصله تصحيح العتق في نصيبه وقد خالف ذلك في "المحرر" فقال في آخر الباب فإن أعتق نصيبه

فالأصح أنه لا يعتق بل يوقف، هذا لفظه وهو غريب وكأنه والله أعلم حالة تصنيف "المحرر" نظر آخر كلام "الشرح" دون أوله. وقد استدرك في "المنهاج" عليه، وصحح حصول العتق. قوله: في المسألة: فإذا قلنا يعتق فكان موسرًا فهل يسري العتق إلى نصيب الشريك فيه قولان: أحدهما: نعم كما لو كاتباه ثم أعتقه أحدهما وأصحهما لا لأن الكتابة الفاسدة تقتضي حصول العتق بها. والميت لا يقوم عليه، والابن كالنائب عنه وبُني القولان على أن المكاتب، هل يورث أم لا؟ قلنا نعم سرى، وإن قلنا لا فالعتق بحكم كتابة الابن. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي قد وافقه في "الروضة" على تصحيح عدم السراية، ثم خالفه في "تصحيح التنبيه"، فإن صاحب "التنبيه" قد حكى في ما إذا [أبرأ] (¬1) أحد الشريكين، أو أحد الوارثين قولين من غير ترجيح، فجمعهما النووي وصحح فيهما أنه يسري. فأما تصحيحه السراية في إبراء أحد الشريكين فمسلم، وأما في أحد الوارثين فمخالف، والصواب ما قاله في "الروضة" وهو الذي صححه الرافعي أيضًا. ولا ذكر للمسألة في "المحرر" ولا في مختصره. الأمر الثاني: أن النووي قد أسقط الخلاف في أن المكاتب هل يورث أم لا؟ وقد ذهب بعض الأصحاب كما حكاه ابن الصباغ في كتاب الأيمان إلى ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أن المكاتب ملك نفسه بالعقد، وإنما لم يعتق لضعف الملك وهذا الخلاف هو الخلاف في الإرث وعدمه فإن القائل بخروجه عن ملك السيد يقول: لا يورث، وهذه المقالة مباينة، لما قاله القاضي الحسين والبغوي؛ من أن المكاتب لم يملك أكسابه ولا منفعته وإنما سلط بالكتابة على جمعها وإعطائها للسيد. قوله: أيضًا في المسألة فإن قلنا بالسراية فهل ثبت في الحال أو عند العجز؟ فيه قولان كما ذكرنا في إعتاق أحد الشريكين. والأظهر الثاني، ثم قال وهاهنا طريقتان أخريان إحداهما القطع بثبوت السراية في الحال. والثانية القطع بتأخرها إلى العجز، لأن أحد الوارثين ليس بمعتق حقيقة، وأحد الشريكين معتق. انتهى كلامه. أسقط في "الروضة" هاتين الطريقتين، وسببه أنهما وقعتا في الكلام على ألفاظ الوجيز. قوله: ولو تلف عند السيد ما قبضه ثم عرف أنه كان معيبًا، فقد قدم الإمام عليه أنه [إن أنفق] (¬1) ذلك في عين [فإن رضي] (¬2) كفى، ولا حاجة إلى إنشاء إبراء وإن طلب الأرش [تقرر, وإن لم يسقط إلا بإسقاطه وأما النجوم فإن رضي بالعتق فاقد وإن طلب الأرش] (¬3) تبين إن لم يحصل، فإذا أداه حصل وإن عجز فللسيد إرفاقه. ويجيء الوجه الآخر وهو أنه يرتفع العقد بعد حصوله. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

فأما تعبيره أولًا بقوله في عين فمراده شراء الأعيان، وهو المعقود له كتاب البيع. وأما تعبيره في آخر كلامه بقوله يرتفع العقد فتبعه عليه في "الروضة" وهو سهو بل صوابه العتق كما ذكره في "الشرح الصغير". قوله: وأما الأرش ففيه وجهان: أحدهما: ما ينتقص من قيمة رقبة العبد بحسب نقصان العيب من قيمة النجوم على ما هو قياس المعاوضات، وهو ما أورده أبو الفرج السرخسي. والثاني: ما ينتقص من النجوم المقبوضة بسبب العيب، ووجهه أن المقبوض عن الملتزم في الذمة ليس ركنًا في العقد، وكذلك لا يزيد العقد برده، ولا يسترد في مقابلة نقصانه جزءًا من العوض. كما لا يسترد المعوض إذا كان نافيا فيرد بالعيب، وهذا ما نقل القاضي الروياني رجحانه، وأجرى الوجهين في كل عقد ورد على موصوف في الذمة. قال الإمام: وأمثل منهما أن يقال يغرم للسيد ما قبض، ويطالب بالمسمى بالصفات المشروطة. انتهى كلامه. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا، والصحيح هو الوجه الثاني، فقد رجحه الرافعي في "الشرح الصغير"، فقال: إنه حسن الوجهين، ونص عليه أيضًا الشافعي في "الأم" في باب استحقاق الكتابة يعني النجوم.

الحكم الثاني في الأداء والإتيان

الحكم الثاني: في الأداء والإتيان قوله: في "الروضة" وأما المستحب في الإتيان فقدر الربع، وقيل الثلث، وإلا فالسبع. انتهى. السبع بسين ثم باء صرح به الرافعي في أثناء الاستدلال. قوله: الثالثة إذا أتى المكاتب بالنجوم فقال السيد هذا حرام أو مغصوب نظر إن أقام على ما يقوله بينة لم يجبر على قبوله، ثم قال ما نصه: وإن لم يقم بينة على ما يقوله فالقول قول المكاتب بأنه لدفع يمينه لظاهر اليد، فإن نكل حلف السيد، وكان كما لو أقام البينة. وعن ابن أبي هريرة وجه حكاه القاضي ابن كج أن المكاتب لا يحتاج إلى البينة، والمشهور الأول. انتهى كلامه. واعلم أن المكاتب في حكاية الوجه لا يمكن أن يكون بفتح التاء لأنه لا قائل باشتراط البينة حتى يحكي وجهًا يعدمه بل إنها يصح بالكسر. وقد صرح به في "الروضة"، فقال: وفي وجه لا يحتاج السيد إلى بينة. هذا لفظه. إذا علمت ذلك فكيف يستقيم تصديق السيد في هذه الدعوى من غير بينة مع ما يكذب دعواه وهو اليد، وما يترتب عليه من إضرار المكاتب ضرر الإعانة له، لأنه لا يؤمن إذا بقى له درهم مثلًا أن يدعي ذلك في كل درهم يحضره له. وبالجملة فهذا الوجه وقع في نسخ الرافعي في حكايته تحريف حيث عبر بقوله بالبينة، وإنما هو باليمين وقد أتى به على الصواب في "الشرح الصغير"، فقال: وإن لم يكن له أي للسيد بينة فيصدق المكاتب بيمينه

لظاهر اليد، وقيل: لا يحتاج إلى اليمين، والظاهر الأول هذا لفظه، وهو حسن صحيح. وحينئذ فيكون المكاتب في عبارة الرافعي إنما هو بفتح التاء، كما هو المصطلح عليه في التعبير بهذا اللفظ عن العبد، وفي الآخر بالسيد، والحاصل أن الشيخ محيى الدين اجتهد في اختصار هذا المرضع فأخطأ إلا أنه معذور. قوله: وإن عجل قبل المحل على أن يبرئه عن الباقي فأخذه وأبرأه، لم يصح القبض ولا الإبراء ولو قال السيد أبرأتك عن كذا شرط أن تعجل لي الباقي، أو إذا عجلت لي كذا فقد أبرأتك عن الباقي فعجل لم يصح القبض والإبراء أيضًا. هذا ظاهر المذهب، وأشار المزني إلى تردد قول في صحتها، ولم يسلم له جمهور الأصحاب اختلاف القول في المسألة. انتهى ملخصًا. واعلم أن ما ذكره هاهنا فرد من أفراد قاعدة، وهي أنه إذا شرط عليه في شيء من العقود أمر لا يلزمه فأقدم على القيام به فهل يصح أم لا؟ وهذه القاعدة قد إختلف فيها كلامه وكذلك كلام "الروضة" اختلافًا عجيبًا، وقد تقدم ذكر ذلك واضحًا في كتاب البيع. قوله: وإن كان له مال غائب فقد أطلق الإمام وصاحب الكتاب للسيد الفسخ، وليحمل على تفصيل ذكره ابن الصباغ وصاحب "المهذب" وغيرهما، وهو أنه إن كان على مسافة القصر لم يلزمه التأخير إلى أن يحضر لطول المدة، وإن كان على ما دون مسافة القصر لزمه التأخير إلى أن يحضر. انتهى كلامه. وهذه المسألة قد نص عليها الشافعي في "الأم" في باب عجز المكاتب، فأجاب كما أجاب الإمام ومن تبعه، فقال ما نصه: فإن قال لي شيء

غائب أحضره، لم يكن للسلطان أن ينظره إلى قدوم الغائب، لأنه قد ينظره فيفوت العبد بنفسه، ولا يؤدي إليه ماله هذا لفظه، وتعليله بالفوات يدل على أنه لا فرق بين المسافتين. واقتصار الرافعي على النقل عن هذه الطبقة المتأخرة دليل على أنه لم يظفر فيها شيء للمتقدمين فضلًا عن إمام المذهب. قوله: وإذا حل النجم والمكاتب غائب أو غاب بعد طوله بغير إذن السيد فله الفسخ إن شاء بنفسه، وإن شاء بالحاكم، فإن رفع إلى الحاكم فلابد أن يثبت عنده حلول النجم وتعذر التحصيل، ويحلفه الحاكم مع ذلك لأنه قضاء على الغائب. قال الصيدلاني: يحلفه أنه ما قبض منه النجوم ولا من وكيله، ولا يعلم له مالًا حاضرًا ثم قال عقبه ما نصه: ولو كان مال المكاتب الغائب حاضرًا، لم يرد الحاكم النجوم منه ويمكن السيد من الفسخ، لأنه ربما عجز نفسه ولا يؤدي المال لو كان أي المكاتب حاضرًا. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه من عدم الأداء من المال الحاضر مع قوله قبل ذلك أنه يحلفه على أنه لا يعرف له مالًا حاضرًا قد تابعه عليه في "الروضة" ومما لا يجتمعان فتأمله. قوله: الرابع إذا جن العبد وحاول السيد الفسخ، فلابد وأن يأتي الحاكم فيثبت عنده الكتابة وحلول النجم، ويبدي المطالبة ويحلفه الحاكم على بقاء الاستحقاق، ثم يبحث فإن وجد للمكاتب مالًا أداه عن الواجب عليه، ويخالف ما إذا كان المكاتب غائبًا وله مال حاضر حيث قلنا: لا يؤديه عنه، وفرق بينهما بأن الغائب من أهل النظر فربما امتنع وعجز نفسه، وربما فسخ الكتابة في غيبته. انتهى. فيه أمران:

أحدهما: أنه لابد من الحلف من نفي القدرة على عدم التحصيل، والغريب أن الرافعي قد ذكره قبل ذلك في الغائب. الأمر الثاني: أن ما ذكره من عدم أداء القاضي عن الغائب، قد ذكر أيضًا مثله قبيل هذا بقليل، وخالف ذلك في الركن الثالث في الكلام على ما إذا سبي المكاتب، وقد تقدم ذكر لفظه هناك فراجعه. قوله: وإذا ظهر له أى للمجنون بعد التعجيز مال، وحكمنا ببطلان التعجيز فكان السيد جاهلًا بحال المال فعلى المكاتب رد ما أنفق السيد عليه لأنه لم يتبرع، وإنما أنفق على أنه عبده، ولو أقام المكاتب بعدما أفاق بينة على أنه كان قد أدى النجوم حكم بعتقه، ولا رجوع للسيد عليه لأنه لبّس وأنفق على علم بحريته فيجعل متبرعًا، فلو قال نسيت الأداء، فهل يقبل ليرجع فيه وجهان. انتهى كلامه. وقد أسقط النووي المسألة الثانية وهي مسألة إقامة البينة على الأداء مع مسألة الوجهين المتفرعة عليها أيضًا، وسببه وقوع غلط في كثير من نسخ الرافعي هنا وكأن بعض تلك النسخ السقيمة وقعت له والصحيح من هذين الوجهين هو عدم الرجوع أيضًا. قوله: وعن نصه - رضي الله عنه - في "الأم" أنه لو قال بعد التعجيز قد قررتك على الكتابة، لم يكن عليها حتى يجدد له كتابة، وقد مر في القراض ما يقتضي إثبات خلاف فيه. انتهى. اعترض عليه في "الروضة"، فقال: ليس هذا كالقراض، فإن معظم الاعتماد هنا في العتق على التعليق، وهذا اللفظ لا يصلح له. قوله: ولو تطوع رجل بأداء بمال الكتابة فهل يجبر السيد على القبول أو يمكن من الفسخ. حكى ابن كج فيه وجهين، والذي أورده الإمام منهما أنه لا يجبر. انتهى.

والصحيح في أداء دين الغير بغير إذنه أن القبول لا يجب، كذا جزم به الرافعي في باب الفلس في الكلام على الفسخ، وفي الباب الثالث من كتاب النفقات في الكلام على الإعسار بالنفقة، والذي تكلم فيه الرافعي هنا، وهو الأداء عن المكاتب بخصوصه تفريع على الإجبار في غيره من الديون، ووجه التفريق النظر في الكتابة إلى معنى التعليق. قوله: في المسألة ولو قبل ففي وقوعه عن المكاتب إذا كان بغير إذنه وجهان عن رواية صاحب "التقريب" القياس القبول. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد جعل محل الوجهين في ما إذا كان بإذن المكاتب على عكس ما في الرافعي. الثاني: أن تعبير الرافعي في آخر كلامه بالقبول سهو، وصوابه الوقوع وهو تعبير الإمام أيضًا وقد تفطن له في "الروضة" فأصلحه به، وتعليل الوقوع القياس على سائر المعاوضات، وتعليل الآخر النظر إلى التعليق. وفائدة الوجهين براءة ذمة المكاتب وعتقه. قوله: فرع إذا قهر السيد المكاتب واستعمله مدة فعليه أجرة مثله، ثم إذا جاء المحل فهل عليه إمهاله مثلا تلك المدة أو له الفسخ قولان: أصحهما الثاني، ثم قال ولو حبسه غير السيد، فقد حكى الإمام عن العراقيين إجراء الخلاف فيه. وفيه طريقان سبقا في أسر المكاتب. انتهى كلامه. ومقتضاه أن الإمام نقل عن العراقيين أن القولين يطردان أيضًا في غير السيد، وبه صرح في "الروضة" فقال: فالمذهب أنه لا إمهال وأجراه العراقيون على قولين، وهنا النقل ليس مطابقًا لكلام العراقيين، ولا لنقل

الإمام عنهم، فإن الذي نقله عنهم أنا إن قلنا في حبس السيد لا مهل فهنا أولى وإلا فوجهان، وصحح ابن الرفعة في الأجنبي طريقة القولين. قوله: ولو كان على المكاتب ديون أخرى للسيد فدفع المكاتب ما في يده للسيد، ولم يتعرضا للجهة ثم قال المكاتب قصدت النجوم وأنكر السيد أو قال صدقت، ولكن قصدت أنا الدين لا النجوم قال القفال: يصدق المكاتب، وقال الصيدلاني يصدق السيد لأن الاختيار هنا إليه بخلاف سائر الديون. انتهى. والأصح كما قاله في "الروضة" من "زوائده" هو قولة القفال، وهو مشكل بل القياس تصديق السيد، لأن التعيين في الابتداء إليه، فالقياس أنا نراعي من له التعيين ابتداء. قوله: في "الروضة" وللمكاتب تعجيل النجوم قبل المحل ولا يجوز تعجيل الديون المؤجلة بغير إذن سيده، وفي جوازه بإذنه الخلاف في تبرعاته وفي معناه ما إذا عجل للسيد سائر الديون، ومنهم من طرد الخلاف في تعجيل النجوم ذكره الروياني. انتهى. وعبارته في النقل عن الروياني تقتضي أنه ناقل لوجه، وعبارة الرافعي مدلولها أنه قائل به وجازم فإنه قال ومنهم من أجرى الخلاف في تعجيل النجوم وكذلك أورده الروياني، وقال: هو بمنزلة الهبة بإذنه وفيه قولان. قوله: في "الروضة" فإن عجز المكاتب نفسه سقطت النجوم وفي دين معاملة السيد وجهان أصحهما أنه يسقط من معاملة وأرش فإن لم يف بالنوعين، فهل تقدم المعاملة أم الأرش أم يسوي بينهما؟ أوجه: أصحها عند الشيخ أبي محمد والغزالي وغيرهما الثالث. انتهى كلامه. لم يصحح الرافعي هنا ولا في "الشرح الصغير" شيئًا من الوجهين

الأولين، بل قال الذي أورده الإمام منهما أنه يسقط هذا لفظه. وهذه المسألة قد ذكرها الرافعي في مواضع واضطرب فيها كلامه، وقد سبق إيضاح ذلك بحمد الله تعالى، في الباب الثالث من أبواب الرهن. وأما الخلاف الثاني فمقتضى كلام الرافعي أنه يرجح تقديم المعاملة، لأنه رجحه قبل ذلك بقليل في القسمة عند الحجر ثم قال هنا: إن مقتضى ترجيحه هناك ترجيحه هنا أيضًا. قال وقد رجحه الإمام. قوله: وإذا كاتبا عبدًا فدفع إلى أحدهما حصته من مال المكاتبة برضى الآخر ففي صحة القبض قولان أصحهما على ما قاله الروياني في "الحلية" [لا يصح لأن حقه ثابت في ذمة المكاتب وما في يده ملكه فلا أثر للإذن فيه انتهى] (¬1) وما رجحه الروياني في "الحلية" قد صححه الرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في أصل "الروضة"، لكن صحح الماوردي والروياني في "البحر" أنه يصح. قوله: في "الروضة" في المسألة المذكورة فإن قلنا يصح القبض، وكان القابض موسرًا قوم عليه نصيب الشريك، وهل يقوم في الحال أم عند العجز عن نصيب الآخر؟ فيه القولان السابقان، فيما إذا أعتق أحدهما نصيبه ثم قال عقب ما قلناه ما نصه: فإن قلنا يقوم في الحال فجميع ما في يد المكاتب [يكون] (¬2) للشريك الآذن وما كسبه بعد ذلك يكون بين المكاتب والشريك الآذن لأن كسبه بنصفيه الحر والمكاتب انتهى. وما ذكره تفريعًا على الضعيف وهو العتق في الحال، وأهمل التفريع على الصحيح وهو أنه لا يسري عليه إلا بعد العجز وانفساخ الكتابة. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

وإذا علمت ذلك، فالذي ذكره النووي هنا غلط وقع كذلك في أكثر نسخ الرافعي وأما قوله فإن قلنا بالتقويم في الحال فجميع ما في يد العبد يكون للشريك الآذن فهذا غير صحيح، بل له النصف خاصة بلا شك لأنه لا يملك إلا النصف، وقد انفسخت الكتابة فيه لما حكمناه بالسراية على شريكه كما تقدم إيضاحه في أوائل الباب الثاني، المعقود لأحكام الكتابة. وأما النصف الآخر فيعتق عن الكتابة فيفوز المكاتب بنصف [أكسابه لأجل ذلك. ولو قيل بانفساخ الكتابة في النصف الآخر أيضًا] (¬1) لكان النصف الآخر من الأكساب يرجع إلى السيد المأذون له لا إلى الآذن. وقد صرح صاحب "البحر" بما ذكرناه. [وأما قوله] (¬2): وما اكتسبه بعد [ذلك يكون بين المكاتب والشريك الآذن فغلط أيضًا لأنه ليس بعد] (¬3) العتق في الحال إلا الحرية الكاملة، وما اكتسبه العبد بعد حريته الكاملة يكون له بلا شك. وقد وقع في بعض نسخ الرافعي ذكر التفريع على القولين. قوله: السادسة إذا كاتب عبيدًا وشرط أن يتكفل بعضهم عن بعض بالنجوم، فسدت الكتابة لأنه شرط فاسد، فإن ضمان النجوم غير صحيح. انتهى كلامه. وهذا التعليل يقتضي أن مثل هذا الشرط لو وقع فيما يصح ضمانه، كالبيع ونحوه كان صحيحًا وليس كذلك، فإن اشتراط كفالة غيره له صحيح، وأما كفالته لغيره فلا لأنه شرط لا يقتضيه العبد. قوله: في "الروضة": ولو أدى بعض المكاتبين قبل العتق عن بعض، ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ. (¬3) سقط من ب.

فإن لم يعلم السيد أنه يؤدي عن غيره، فهو تبرع بغير إذن السيد، ثم قال: وإن علم الحال فهو كالتصريح بالإذن على الأصح. انتهى. واعلم أن في تبرع المكاتب على السيد ثلاث طرق أصحها: أنه على الخلاف في التبرع بإذنه. والثاني: لا يصح قطعًا، وإنما يكون كالتبرع بالإذن إذا وجد التصريح بالإذن، وهذه الطريقة نقلها الرافعي هنا عن اختيار البغوي. والثالث: القطع بالصحة، ذكرها الرافعي في الكلام على التبرعات، وصرح أيضًا في "الروضة" بها هناك. إذا علمت ذلك فكلام "الروضة" هنا لا يعلم منه هل مقابل الصحيح القطع بالصحة أو بالبطلان، لاسيما أنه لم يصرح بالمقاطعة بالبطلان، بل بالصحة كما أوضحته لك. قوله: في المسألة: فإن صححنا الأداء رجع على المكاتب إن أدى بإذنه فإنه كان قد عتق فذاك، وإلا فيأخذه مما في يده، ويقدم على النجوم لأنه لا بدل له. انتهى. وما ذكره من تقديم هذا الدين. قد تابعه عليه في "الروضة" وإطلاقه عجيب فقد تقدم قبل هذا بنحو ثلاث أوراق أن المكاتب له أن يقدم ما شاء من الديون، وأنه إنما يجب الترتيب المذكور، إذا حجر عليه الحاكم فاعلمه. قوله: أيضًا فيها فإن لم يصح الأداء فلا رجوع للمؤدي على المؤدي عنه، ولكنه يسترد من السيد ما دفعه إليه، والسيد يطالب المؤدى عنه بما عليه، فإن حل نجم على المؤدي وقع في التقاضى فإن لم يسترد من السيد حتى أدى النجوم وعتق فالنص أنه لا يسترد حينئذ، ونص فيما إذا جنى السيد على مكاتبه فعفي عن الأرش الثابت له على السيد، وأبطلنا العفو بناء على رد

تبرعاته ثم عتق، أن له أخذ الأرش فقال الأصحاب: فيها قولان: أحدها: أنه لا يأخذ شيئًا لزوال المانع. والثاني: يأخذ لأن أداءه وعفوه لم يصح وبنى الخلاف على القولين في تصرفات المفلس هل يبطلها أو يوقفها. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن أقوال التقاضى إنما تأتي على تقدير تلف المال عند السيد، لأن شرطها أن يكونا دينين، وكلام المصنف لا يقتضيه لاسيما تعبيره بالاسترداد. الأمر الثاني: أن النووي قد أسقط المسألة مع كلام آخر قبلها من "الروضة" [وذلك لغلط وقع هنا في كثير من النسخ. الثالث: أن هذا البناء يؤخذ من تصحيح القول الثاني. وقد أسقطه من "الروضة"] (¬1) وإسقاطه غريب. قوله: والإقراض بإذن السيد جائز بلا خلاف. انتهى. تبعه في "الروضة" على نفي الخلاف عنه، وليس كذلك فقد جزما بعد هذا في الحكم الثالث في الفصل المعقود للتبرعات بأن فيه القولين في سائر التبرعات. [قوله: وإذا تحالفا] (¬2) فتنفسخ الكتابة أو يفسخها الحاكم إن لم يتراضيا على شيء؟ فيه ما سبق في البيع والظاهر الثاني. واعلم أن الصحيح على ما سبق من كلامه في البيع وجه ثالث وهو أنه يفسخ أحد المتعاقدين أو الحاكم. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

قوله: ولو قال السيد كاتبتك على نجم واحد فقال بل على نجمين فقال البغوي: صدق السيد بيمينه، لأنه يدعي فساد العقد. انتهى. واعلم أن البغوي يرى أن القول في العقود قول مدعي فسادها، كما صرح به الرافعي في غير هذا الموضع. واقتضاه نقله هاهنا، ورأيته أيضًا في "فتاويه" في كتاب النكاح فلأجل ذلك أجاب به في هذه المسألة والصحيح تصديق مدعي الصحة، فيكون هنا كذلك أيضًا. وقد أشار في "الروضة" إلى هذا التخريج. قوله: الرابعة إذا كاتب عبدين في صفقتين أو في صفقة وجوزناها، ثم أقر أنه استوفى نجوم أحدهما أو أبرأه، ولم يتذكره قال الروياني حلف لهما إذا ادعياه، وحينئذ فقيل يبقيان على الكتابة، ولا يعتق واحد منهما إلا بأداء النجوم وقيل تتحول الدعوى إلى المكاتبين فإن حلفا على الأداء أو نكلا بقيا على الكتابة. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر حكم بعتق الحالف، وبقي الناكل على الكتابة. انتهى. والصحيح هو الوجه الأول، فقد نص عليه الشافعي في "الأم". قوله في "الروضة": فإن قال الوارث لا أعلم من أدى منكما، وحلف لكل منهما على نفي العلم ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستوفى من كل واحد منهما ما عليه كدين غير الكتابة. والثاني: يقرع بينهما، وهو الأصح. ولو ادعى أحد المكاتبين على الوارث الأداء أو الإبراء، فأنكر حصل بإنكاره الإقرار للأخر قاله الصيدلاني. انتهى. لم يصحح الرافعي في "الشرحين" شيئًا من الوجهين، وإنما نقله فيهما

عن تصحيح الروياني قال في "الروضة"، وما قاله الصيدلاني محله ما إذا قال في إنكاره لست المؤدي. أما إذا قال لا أعلم ونحوه، فليس مقرًا للآخر بلا شك. والذي قاله واضح. قوله: في "الروضة" ولو كاتبه على ألف درهم ووضع عنده من الدراهم ما يقابل عشرة دنانير، وهو مجهول عندهما ففي صحته وجهان، بناء على الخلاف في ما لو أوصى بالزيادة على الثلث، وأجاز الوارث وهو جاهل بالزيادة. ففي وجه لا يصح ويحمل على أقل ما يتيقن. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه غلط سببه نقص من بعض النسخ السقيمة، وصوابه ففي وجه لا يصح وفي وجه يصح ويحمل على [أقل] (¬1) ما يتيقن. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الحكم الثالث: في تصرفات السيد في المكاتب وفي تصرفات المكاتب

الحكم الثالث: في تصرفات السيد في المكاتب وفي تصرفات المكاتب قوله: والجديد أنه لا يجوز بيع رقبة المكاتب، وأجابوا عن قضية بريرة بأنها عجزت نفسها ثم اشترتها. انتهى. وامتناع البيع محله إذا لم يرض المكاتب بالبيع فإن رضي جاز وكان رضاه فسخًا. كذا نقله البيهقي في كتاب البيع من "السنن الكبير"، عن نص الشافعي وذكرها أيضًا القاضي الحسين في تعليقه، وهي مسألة حسنة. قوله: أما الوصية بالمكاتب فهي جائزة على القول القديم الذي يجوز فيه البيع إلى آخر المسألة. وهذه المسألة قد وقع فيها اضطراب عجيب سبق التنبيه عليه، وعلى ما عليه الفتوى واضحًا مفصلًا في كتاب الوصية فراجعه. قوله: ولا يجوز للسيد أن يبيع نجوم الكتابة على المذهب، لأنه بيع للدين من غير من عليه ولا أن يستبدل بها في أظهر الوجهين. انتهى. وما ذكره من امتناع بيع الدين، فقد اختلف فيه كلامه وقد تقدم مبسوطًا في كتاب البيع، وأما منعه للاستدلال فقد خالفه في الباب الثاني من كتاب الشفعة، وقد تقدم ذكر لفظه هناك. والصواب جوازه، فقد نص عليه الشافعي في "الأم" في باب [قطاعة] المكاتب. فقال ما نصه: ولو حلت نجومه كلها وهي دنانير"، فأراد أن يأخذ بها منه دراهم أو عرضًا يتراضيان ويقبضه السيد قبل أن يتفرقا، كان جائزًا،

كما لو كانت له على رجل حُر دنانير حالة فأخذ بها منه عرضًا هذا لفظ الشافعي بحروفه ومن "الأم" نقلته. ورأيت أيضًا في "البويطي" ما يدل عليه فإنه قال: ولو كاتب رجل عبده بعشرة دنانير وللعبد على السيد مائة درهم فأراد أن يسقط بعضه عن بعض لم يجز لأنه دين بدين. ولأن حديث ابن عمر إنما كان أحدهما دينًا والآخر نقدًا. انتهى. فتعليله المنع بكونه دينًا بدين يدل على الجواز فيما عداه، ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" على [كيفية هي أشد مما وقع هنا فإنه عبر في الكتابة بالصحيح فاقتضى] (¬1) أن الجواز وجه ضعيف. قوله: وإذا ثبت لكل [واحد] (¬2) منهما على صاحبه دين فإن كانا نقدين واتفقا في الحلول وسائر الصفات ففيه أقوال: أحدها: لا تقاض وإن رضيا به لأنه بيع دين بدين. والثانى: يجوز برضى أحدهما. والثالث: برضاهما. والرابع: وهو المشهور كما قاله أبو الفرج الزاز أنه يحصل بمجرد ثبوت الدين. فلو تراضيا على جعل الحال قصاصًا بالمؤجل لم يجز كما في الحوالة، وحكى أبو الفرج فيهما وجهًا آخر. انتهى كلامه. وهذا الذي حكاه وجهًا واقتضى كلامه غرابته، وتابعه عليه في "الروضة" هو مذهب الشافعي، فقد نص عليه في "الأم" في باب الجناية على المكاتب بعد ورقة من أوله في الكلام على جناية السيد عليه. ¬

_ (¬1) سقط من أ. (¬2) سقط من أ.

ولأجل ذلك قال البندنيجي: إن الأصحاب في ذلك مخالفون منصوص الشافعي لا عن قصد ولكن لقلة نظرهم في كتبه. قوله: ولو كانا مؤجلين بأجل واحد فقد قيل هو كما لو كانا حالين، وهذا أوجه عند الإمام لكنه تردد في مجيء القول الرابع وقال في "التهذيب": والصحيح أنهما كالمؤجلين بأجلين مختلفين. انتهى كلامه. ذكر مثله في "الروضة" وما ذكره الإمام من التوقف في مجيء الرابع وهو السقوط بمجرد الثبوت، وتابعه الرافعي والنووي عليه، واقتضى كلامهما عدم الوقوف عليه قد صرح به القاضي الحسين في تعليقه فقال: لا خلاف أنه لا يقع التقاضي بنفس التواجب ولكن لو تراضيا على ذلك يجوز هذا لفظه بحروفه، وحاصله أنهما يسقطان بالتراضي لا بالثبوت بلا خلاف ثم علله بعد ذلك بأسطر، فقال: لأنه ربما يموت أحدهما فيحل الحق عليه دون الآخر. قوله: وإن لم يكونا نقدين فعن صاحب "التقريب" أنا إن جوزناه في النقدين ففي ذوات الأمثال وجهان، فإن جوزناه فيها ففي غيرها وجهان، والذي أورده العراقيون وغيرهم أن التقاضي لا يجري في غير النقدين. انتهى. والمثليات قد نص عليها الشافعي - رضي الله عنه - وحكم فيها في التقاضي. واعلم أن كلام الرافعي والنووي يقتضي جريان الخلاف في العروض المسلم فيها، مع أنه ليس كذلك بلا خلاف لامتناع الاعتياض عنها، كذا صرح به القاضي الحسين والماوردي ونص عليه الشافعي. قوله: وهل للموصي له بالنجوم إبراؤه [عنها] (¬1) أبدى ابن كج فيه ¬

_ (¬1) سقط من ب.

احتمالين ويرويان عن القاضي الحسين. أحدهما: نعم لأنه يملك الاستيفاء فيملك الإبراء. والثاني: لا لأنه ملكه استيفاء النجوم ولم يملكه تفويت الرقبة على الورثة انتهى. لم يرجح في "الروضة" شيئًا منهما أيضًا والراجح الصحة، فقد جزم به ابن الصباغ وصححه القاضي الحسين في تعليقه وعبر بلفظ الأصح. قوله: ولو قال ضعوا عنه أكثر ما عليه أو أكثر ما بقى عليه وضع [عنه نصف ما عليه وزيادة وتقدير الزيادة إلى اختيار] (¬1) الوارث، ثم قال عقب هذا الكلام ما نصه: وذكر الصيدلاني أنه إذا كانت الزيادة فوق الأقل المجزيء فما زاد على ما يجزئ ابتداء عطية من قبل الوارث لأن اللفظ يتناول القليل والكثير. قال الإمام: وهذا عندي مأخوذ عليه بل هو تفضل منهما، ألا ترى أنهم لو اقتصروا على الأقل المجزئ لم يجز أن يقال أنهم نقصوا من الوصية. انتهى كلامه. وهو غلط وقع في النسخ فإن حاصله اتحاد مقالة الإمام والصيدلاني وقد ذكر الإمام المسألة على الصواب، فنقل عن الصيدلاني أن الزائد يكون وصية لا ابتداء عطية من الورثة، ثم إنه خالفه بعد ذلك، فإنه قال: فقال الصيدلاني: كل ما يضعونه محمول على الوصية، ولا يكون ذلك منهم ابتداء تبرع، فإن اسم الأكثر كما يمكن تنزيله على النصف، وأدنى زيادة فهو محتمل لما يزيد ولهم أن يحملوا اللفظ على محتملاته والذي ذكره مأخوذ عليه، بل ما يزيد على الأقل تفضل منهم إذ لو اقتصروا عليه لقيل ¬

_ (¬1) سقط من أ.

إنهم لم ينقصوا من الوصية شيئًا، وهذا الذي ذكرناه يجري في كل وصية لا يتقدر بمقدار، فظهر بذلك إسقاط وقع في النسخ وكأن الأصل فما زاد على ما يجري مجرى على الوصية، وليس ابتداء عطية إلى آخره. فسقط ذلك [ولما التبس ذلك على الشيخ محيي الدين أسقط المسألة بالكلية] (¬1) ولو راجع "النهاية" لظهر له الأمر، وكان أسهل، ولم يتقدم للمسألة ذكر في كلامه في الوصية أيضًا. قوله: ولو قال ضعوا عنه أكثر ما عليه أو أكثر ما بقي عليه ومثل نصفه يوضع عنه ثلاثة أرباع ما عليه وزيادة شيء ولو قال أكثر مما عليه أو ما عليه وأكثر وضع عنه الكل، ولغي ذكر الزيادة. انتهى كلامه. واعلم أن لفظة أكثر الواقعة في المسألة الأولى، لم يقع بعدها "من" التي هي حرف جر بخلاف الواقعة في المسألة الثانية. إذا علمت ذلك فقد سقطت المسألة الأولى من "الروضة" وسببه سقط وقع في كثير من نسخ الرافعي من لفظ أكثر إلى أكثر فوقعت للنووي نسخة من تلك النسخ السقيمة فاختصر منها، وهذه المسألة التى أسقطها نص عليها الشافعي فقال: يوضع عنه أكثر من النصف بما شاؤوا أو مثل نصفه، ومقتضاه أن يحط عنه النصف وشيء ويضعهما جميعًا، كذا قاله الماوردي والروياني فإذا كانت ألف درهم فاختار الوارث أن تكون الزيادة مثلًا درهمًا فوضع عنه خمسمائة درهم، ثم يوضع نصف ذلك وهو مائتان وخمسون ونصف، فالجملة سبعمائة وخمسون درهما ونصف، وقال جماعة: إن الضمير في قول الشافعي ونصفه راجع إلى النصف خاصة فلا يزاد نصف الدرهم المذكور بل لو اقتصر على سبعمائة وخمسين مع زيادة شيء يسير ¬

_ (¬1) سقط من أ.

كفى وهو الذي جزم به الرافعي. قوله: وإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم فتساوت النجوم في القدر والأجل حملت على العدد، فإن كان العدد [وترًا كالثلاثة والخمسة فالأوسط واحد وإن كان] (¬1) شفعًا، فالأوسط اثنان، كالثاني والثالث من أربعة فيعين الوارث أحدهما هكذا أطلق ابن الصباغ وغيره. ويجوز أن يقال الأوسط كلاهما، فيوضعان وهذا مقتضى ما في "التهذيب". انتهى. ذكر في "الروضة" مثله أيضًا وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره ابن الصباغ هو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - فقد نص عليه في "الأم" في باب الوصية للمكاتب في الكلام على الوصية له بأوسط النجوم. الأمر الثاني: أنه قد تقدم من كلامه في أول العتق ما يخالف المذكور هنا وتقدم التنبيه عليه هناك فراجعه. قوله: في "الروضة" ولو قال كاتبوا أحد عبيدى أو إحدى إمائى ففي مكاتبة الخنثى الذي ظهر حاله طريقان: المذهب: نعم. والثاني: قولان لبعده عن الفهم، ولو قال أحد رقيقي جاز العبد والأمة، وكذا الخنثى على المشهور. انتهى. وما جزم به في المسألة الأخيرة من كون المسألة ذات قولين خلاف ما صححه الرافعي فإنه حكى طريقين: إحداهما: قولان. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

والثانية: القطع بالإجزاء وصححها. إلا أن تعبير الرافعي فيه قلق وغموض فلذلك حصل في "الروضة" ما حصل، ثم إن إجزاء الخنثى في الوصية بالرقيق أظهر منه في الوصية بالعبد أو الأمة يتصور الجزم بإثبات الخلاف في الرقيق وتصحيح الطريقة الثانية له في مسألة العبد والأمة. واعلم أن الرافعي في أوائل الباب الثاني في أحكام الوصية قد جزم في المسألتين جميعًا بوجهين على خلاف ما صححه هنا من القطع، وخلاف ما جزم به من كون الخلاف عند مثبته قولين، وتبعه عليه في "الروضة". قوله: الثالثة لا يشتري أحد من أصوله وفروعه ليضمنه العتق، وفوات المال. انتهى كلامه. تابعه في "الروضة" على هذا التعليل أيضًا، وهو غير صحيح، فإن القريب إذا دخل في ملكه بلا عوض كما لو ورثه أو اتهبه فإنه لا يعتق عليه بل يوقف عتقه على عتقه، فلم يصر بملكه مقتضيًا لعتقه، والصواب في تعليله ما نقله عن الإمام بعد هذا بأوراق في آخر الحكم الرابع فقال في الكلام على امتناع فدائه: والفداء كالشراء وليس له صرف المال الذي يملك التصرف فيه إلى عرض ولده الذي لا يملك التصرف فيه، فإنه بمثابة التبرع. قوله: ولا يبيع بالنسيئة سواء باع بمثل قيمته أو أكثر، وسواء استوثق بالرهن أو الكفيل أو لا، لأن الكفيل قد يفلس والرهن قد يتلف، ويحكم الحاكم المرفوع إليه بسقوط الدين، ولو اشترى نسيئة بثمن النقد يجوز، ولا يرهن فإنه قد يتلف، ثم قال: وفرقوا بين المكاتب والولي حيث يبيع مال الطفل نسيئة ويرهن ويرتهن للحاجة أو المصلحة الظاهرة. بأن المرعي هناك مصلحة الطفل، والولي منصوب لينظر له. وهاهنا المطلوب العتق والمرعي مصلحة السيد والمكاتب غير منصوب

لينظر له، وقد ذكرنا في كتاب الرهن أن بعضهم سوى بينه وبين الولي في البيع نسيئة وفي الرهن والارتهان، لكن الذي أطبق عليه عامة الأصحاب، وأورده هنا المنع ويشبه أن يتوسط فيقال: إن دعت ضرورة إلى البيع والرهن كما في وقت النهب فله ذلك حفظًا للمال، وإن كان يرى فيه مصلحة، لم يكن منه، لأنه ليس ناظرًا للسيد. انتهى ملخصًا. وما ذكره هنا من منع الرهن والارتهان ومنع البيع بالنسيئة، قد خالفه في كتاب الرهن. وصحح الجواز في المسألتين، وأن حكمه كحكم الولي، وتبعه في "الروضة" على الموضعين وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: وإذا باع أو اشترى لم يسلم ما في يده حتى يتسلم العوض لأن رفع اليد عن المال بلا عوض نوع غرر. انتهى. وهذا الذي أطلقه، قيده ابن الرفعة بما إذا كان العوض في غير المجلس، وجزم فيما إذا كان في المجلس بالجواز ثمنًا كان أو مثمنًا، وعلله بقوله لأن ذلك يعسر ضبطه. قوله: في "الروضة": والجمهور على أن في خلع المكاتبة بالإذن قولين أظهرهما الصحة. انتهى. وما ذكره هنا من تصحيح الصحة، قد خالفه في كتاب الخلع وقد سبق ذكر لفظه هناك وأن الصواب ما ذكره في هذا الموضع. قوله: وإعتاق المكاتب بإذن السيد غير نافذ في أصح القولين، لأن المكاتب ليس أهلًا للولاء. ونص الشافعي والأصحاب على أن الكتابة كالإعتاق، وللإمام في ذلك احتمالان من غير ترجيح. انتهى.

ذكر في "الشرح الصغير" ما حاصله الجواز. فقال: وفي الإعتاق طريقان: أظهرهما: أنه على القولين. والثاني: القطع بالمنع، هذا لفظه ولم يذكر غيره. وقد صحح النووي أيضًا في "الروضة" و"المنهاج" أنه لا يجوز، وصحح في "تصحيح التنبيه" الجواز فإن الشيخ حكى قولين في مسائل كثيرة منها العتق والكتابة فصحح -أعني النووي- في كلها أنه يجوز، فقال ما نصه: وصحة تبرعات المكاتب بإذن. قوله: فإن قلنا بنفوذ العتق، ففي قول ولاؤه للسيد والأظهر: أنه موقوف، فإن عتق كان الولاء له، وإن مات رقيقًا كان للسيد، وإن عجز ورق فحكى الإمام أنه يبقى التوقف لأنه يرتقب عتقه من وجوه أخر. واعترض عليه بأن الكتابة قد انقطعت والعتق من وجه آخر لا يتعلق بما سبق والذي اعترض به هو الذي يوجد لعامة الأصحاب لا غير. انتهى. وما نقله عن الأصحاب لا غير قد تابعه عليه في "الروضة" وعبر بقوله قطع به الأصحاب، لكن الذي ذكره الإمام، قد أبداه القاضي الحسين في تعليقه احتمالًا. قوله: [فلو مات] (¬1) المعتق قبل موت المكاتب وعوده إلى الرق فالميراث موقوف أيضًا، وفي قول: إنه للسيد، لأن الولاء قد يثبت الشخص ثم ينتقل عنه، فلا يبعد فيه التوقف بخلاف الميراث، وفي قول ثالث: إنه لبيت المال: كما إذا كاتب الذمي عبدًا ولحق بدار الحرب فاسترق وعتق مكاتبه ومات، صرف ماله لبيت المال. انتهى. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

وتعبيره في أول الكلام بقوله قبل موت المكاتب وعوده إلى الرق، قد ذكره أيضًا في "الروضة" وهو تحريف، وصوابه قبل عتق المكاتب، فإن ذلك بيان لما أخبر عنه قبل ذلك، بقوله: فإن عتق المكاتب كان الولاء له، وإن مات رقيقًا كان للسيد، فذكر هنا الحكم فيما إذا مات قبل الأمرين. ولهذا عبر في "المهذب" بقوله قبل عجز المكاتب أو عتقه. قوله: وإذا أذن السيد للمكاتب في وطء الجارية وتسريها، فقد بني ذلك على أن العبد هل يملك بالتمليك؟ إن قلنا لا، لم يحل له الوطء ولا التسري وهو الأصح. وإن قلنا: نعم فقيل يحل، وقيل ينبني على الخلاف في تبرعاته بالإذن. وعن ابن أبي هريرة طريقة قاطعة بالمنع لضعف الملك. انتهى كلامه. وحاصله تصحيح المنع، ولهذا عبر عنه في "الروضة" بقوله المذهب منعه، وذكر قبيل كتاب الصداق بأوراق قلائل ما يخالفه فقال في الكلام على تزويج العبد: إن فيه قولين مبنيين على الخلاف في تبرعاته. انتهى. وعبر في "الروضة" عنه بقوله فيه القولان في تبرعاته، وهو أظهر في المخالفة وذكرها أيضًا في "زوائده"، في آخر باب معاملات العبد، وعبر بمثل ما عبر في النكاح. والصواب المنع، فقد نص عليه الشافعي فقال في البويطي في باب الكتابة ولا يتسري المملوك ولا المكاتب وإن أذن له سيده، وقال في "الأم" في أول باب تسري المكاتب ما نصه: قال الشافعي وليس للمكاتب أن يتسرى بإذن سيده ولا بغير إذن سيده. وذكر أيضًا مثله في باب ما اكتسب المكاتب فقال: وليس للمكاتب أن

يتسرى وإن أذن له سيده. انتهى ومن "البويطي" و"الأم" نقلت. وليس المنع في التسري لكون الشافعي يمنع المحاباة، بل منع ذلك مع التصريح بجواز غيره من التبرعات كما صرح به في "الأم" في مواضع من باب بيع المكاتب وشرائه فاعلمه. وما ذكره الرافعي هنا من البناء على أن العبد هل يملك أم لا؟ قد ذكره أيضًا في مواضع ومقتضاه الخلاف في أن المكاتب هل يملك؟ وقد صرح به غيره، وحذف النووي البناء المذكور. قوله: ولو أذن له في التكفير بالإطعام أو بالكسوة ففيه قولان. انتهى. لم يصحح شيئًا في "الروضة" أيضًا والصحيح هو الجواز. ممن صححه النووي في "تصحيح التنبيه" فإن الشيخ حكى فيه وفي غيره قولين من غير ترجيح، فعبر النووي بلفظ جامع للكل، وحكم عليه بالصحة، وصرح بتصحيحه أيضًا ابن الرفعة في "الكفاية"، وعبر بالأصح. قوله: ولو أذن في التكفير بالإعتاق [وصححنا إعتاقه بالإذن وتوقفنا في الولاء فنتوقف في الإجزاء أيضًا فإن عجز بان أنه لم يجزئه وعليه أن يكفر بالصوم والظاهر أنه لا يجوز تكفيره بالإعتاق] (¬1)، وعن القفال أنه إذا عتق بإذن السيد، وجعلنا الولاء للسيد فينبغي أن يجزئ عن كفارته إذا نوى. انتهى كلامه. واعلم أنه قد سبق في آخر الباب الثاني من كتاب الأيمان ما يخالف المذكور هنا فنقل ما حاصله، أنا إذا صححنا العتق بإذنه أجزأ التكفير مطلقًا، سواء قلنا الولاء له أو للسيد أو موقوف. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

واعلم أن حاصل ما ذكره الرافعي في تكفير المكاتب بالإعتاق ثلاثة أقوال: الأول: عدم الإجزاء مطلقًا وهو الصحيح. والثاني: الإجزاء. والثالث: الوقف، وقد اختصره في "الروضة" بعبارة لا يعلم منها الثالث، فقال: لم يجزئه على المذهب، هذا لفظه من غير زيادة. قوله: ولو اشترى المكاتب بعض من يعتق على سيده أو اتهبه وقبل الوصية، ثم رق عتق ذلك الشقص على السيد، وهل يسرى إلى الباقي؟ إن كان موسرًا ينظر إن عجز المكاتب نفسه بغير اختيار عجزه السيد فوجهان لأن المقصود فسخ الكتابة والملك يحصل قهرًا. انتهى. لم يصحح في "الشرح الصغير" ولا في "الروضة" أيضًا شيئًا من الوجهين، والصحيح أنه لا يسري كذا رجحه الرافعي في العتق في الكلام على الشرط الثاني من شروط السراية وهو الاختيار. فقال: أشبههما لا، ويحكى عن ابن الحداد هذا لفظه، وقال في "الروضة" هناك: إنه الأصح. قوله: ولو اتهب العبد القني بعض من يعتق على السيد بغير إذنه وقلنا بالصحيح أنه يصح اتهابه بغير إذن سيده. ولم يتعلق به لزوم النفقة، ففي صحة القبول قولان: أحدهما: لا يصح لأنه يعتق عليه ذلك البعض ويسري. وفي التقويم على السيد إضرار به. وأظهرهما: أنه يصح ولا يسرى لحصول الملك بغير اختياره كما لو ورث. ثم قال: وفي "الوسيط" وجه آخر أنه يصح ويعتق ويسري ويجعل

اختيار العبد كاختياره، كما يجعل قوله كقبوله ولم أجد هذا الوجه في "النهاية". انتهى كلامه. وما ذكره هنا من تضعيف عدم السراية حتى أنه أنكره ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" بعبارة هي أبلغ في الإنكار مما ذكره هنا فقال: والذي حكاه الغزالي لا ذكر له في "الوسيط" ولا في غيره هذا لفظه، والذي قاله غريب جدًا، فقد جزم هو في كتاب العتق بما أنكره هنا، فقال في آخر الخاصة الثانية من خواصه: ولو وهب من العبد بعض من يعتق على سيده فقيل: وقلنا: لا يفتقر قبوله إلى إذن السيد، عتق الموهوب على السيد وسري لأن قبول العبد كقبوله شرعًا هذا لفظه بحروفه، ووقع هذا الاختلاف العجيب في "الروضة" أيضًا، غير أنه لما ذكر ما في العتق استشكله فقط، فقال: قلت هذا مشكل، وينبغي أن لا يسري لأنه قهري كالإرث والله أعلم. واقتصر في "الشرح الصغير" على ذكر المسألة في هذا الباب. قوله: في "الروضة": فرع: وهب للمكاتب بعض أبيه فقبله وصححنا قبوله فعتق المكاتب عتق عليه ذلك الشقص. فهل يقوم عليه الباقي؟ إن كان موسرًا وجهان: أصحهما نعم قاله ابن الحداد، وصححه الشيخ أبو علي ومنع القفال. انتهى. لم يصحح الرافعي شيئًا وإنما نقله عن تصحيح الشيخ أبي علي. قوله: أيضًا فيها: فرع: اشترى المكاتب ابن سيد. ثم باعه بأبي السيد صح وملك الأب فإن رق المكاتب صار الأب ملكًا للسيد، وعتق عليه وإن وجد به عيبًا لم يكن له الرد، وله الأرش، وهو جزء من الثمن، فإن نقص العيب عشر قيمة الأب، رجع بعشر الابن الذي هو الثمن ويعتق ذلك العشر، ولا يقوم الباقي على السيد إن كان المكاتب عجز نفسه، وكذا إن عجزه

سيده على الأصح. انتهى. وهذا التصحيح إنما نقله الرافعي عن الشيخ أبي علي فقط كالمسألة قبلها ثم نقل بعده عن الإمام وجهين في أن الأرش هل ينقلب إليه قهرًا أم لا يملكه إلا بالاختيار؟ فإن قلنا بالأول ففيه وجهان، وإن قلنا بالثاني فالظاهر السراية هذا كلامه. قوله فيها: فلو وطء المكاتب جاريته فولدت قبل عتقه، فالولد نسيب يتوقف عتقه، على عتق أبيه، ولا تصير الأمة مستولدة في الحال على المذهب، فإن عتق ففي مصيرها أم ولد قولان، ثم قال: وإن ولدته بعد عتقه فإن كان لدون ستة أشهر كان كما لو ولدته قبل العتق، وإن كان لستة أشهر فأكثر من يومئذ، فقد أطلق الشافعي -رحمه الله- أنها تصير مستولدة. وللأصحاب طريقان أصحهما أن هذا إذا وطيء بعد الحرية، وولدت لستة أشهر فصاعدًا من حين الوطء لظهور العلوق بعد الحرية. والولد والحالة هذه لا ولاء عليه إلا بالولاء على أبيه، ولا ينظر إلى احتمال العلوق في الرق تغليبًا للحرية، فأما إذا لم يطأها بعد الحرية فالاستيلاد على الخلاف. والثاني: يثبت الاستيلاد وطء بعد الحرية أم لا لأنها كانت فراشًا قبل الحرية والفراش مستدام بعدها، وإمكان العلوق بعدها قائم فيكتفي به. انتهى كلامه. أما القولان المذكوران في الاستيلاد من غير ترجيح، فالصحيح منهما عدم الثبوت فإنه صحح ذلك في "المحرر" و"المنهاج" ولم يفصل بين ما قبل العتق وما بعده وهو مقتضى كلام الرافعي في "الشرحين" لمن تأمله، وأما التصحيح الذي ذكره في الطريقين المذكورين بعد ذلك فليس للرافعي، إنما نقله عن البغوي خاصة.

الحكم الرابع في ولد المكاتبة

الحكم الرابع: في ولد المكاتبة قوله: وولد المكاتبة من نكاح أو زنا يثبت له حكم الكتابة. وفي قول لا. فعلى الأول يكون الملك فيه للسيد في أظهر القولين لكن يوقف كسبه، وأرش الجناية عليه فإن عجزت الأم فأرادت أن تأخذ من كسب ولدها المرقوق، وتستعين به في أداء النجوم فهل تجاب؟ قولان أظهرهما المنع. انتهى. لم يصحح الرافعي شيئًا من القولين، وإنما نقله عن تصحيح الإمام. قوله: وأما ولد المكاتب من جاريته فملك للمكاتب يتكاتب عليه، وإذا عتق وكان له كسب كان للمكاتب لا للولد، ولو جنى هذا الولد، وتعلق الأرش برقبته فقد حكى الإمام عن العراقيين أنه إن كان له كسب فله أن يفديه، وإن لم يكن له كسب وأراد أن يتبعه فله أن يتبع جميعه، وإن زاد على قدر الأرش ثم يصرف قدر الأرش إلى المجني عليه، ويأخذ الباقي ثم غلط من صار إليه، وقال: الصحيح أنه لا يفدي ولده وأن يفديه من كسبه لأن كسب الولد كسائر أموال الكتابة والفداء كالشراء، وليس له صرف المال الذي يملك التصرف فيه إلى عرض ولده. الذي لا يملك فيه التصرف، فإنه بمثابة التبرع. قال: والصحيح أنه إذا باع لا يتبع منه إلا قدر الأرش كالمرهون. انتهى كلامه. فأما فداء الولد فالصحيح فيه المنع كما قاله الإمام. كذا جزم به الرافعي قبل هذا بأوراق في الفصل المعقود لتصرفات المكاتب في الكلام على شراء القريب.

وأما الذي قاله ثانيًا وهو أنه لا يتبع إلا قدر الأرش فإنه الصحيح أيضًا، نص عليه الشافعي في "الجامع الكبير" كذا نقله العمراني في "الزوائد" وحكى عن الشيخ أبي حامد وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: أن الأرش لا يتعلق برقبته ولا يباع لأن الشرع قد منع من بيع الآباء والأبناء وجزم في "الشامل" أيضًا بأنا إنما نبيع الجميع عند تعذر بيع البعض. وقد علمت بما ذكرناه أن إطلاق الإمام النقل عن العراقيين غير مستقيم، وقد تفطن له الرافعي بعد ذلك في أثناء الحكم الخامس فاستدرك على الإمام فقال: ولا يوجد هذا في كتبهم على هذا الإطلاق لكن قالوا يباع منه بقدر الأرش، فإن لم يتيسر بيع كله، وأدى من ثمنه الأرش والفاضل للسيد هذا كلامه. واعلم أن قول الرافعي أنه يتكاتب عليه مع ما ذكره في الكسب من كونه للمكاتب لا للولد لا يستقيم. قوله: في "الروضة" في المسألة: فإذا فداه لا ينفذ تصرفه بل يتكاتب عليه كما لا ينفذ إذا اشتراه. انتهى كلامه. وهو عجيب من وجوه، منها أنه قد سبق ذكره قبل هذا بأحرف. ومنها أنه عقبه بكلام الإمام والإمام مانع للفداء، فتأمل كلام "الروضة" يظهر لك خلله واضحًا، فإنه يظهر بتذكر جملة كلامه، ولولا خشية الإطالة لذكرته لكن فيما ذكرته تنبيه عليه، والسبب في ما وقع فيه النووي أن الغزالي في "الوجيز" ذكره تعليلًا لمنع الفداء، وتوجيهًا في إلحاقه بالشراء فتكلم الرافعي عليه عقب فراغ المسألة على عادته في ألفاظ "الوجيز" فظن المصنف أنها مسألة لم تتقدم فنص عليها فوقع في الخلل.

قوله: وولد المكاتبة من عبدها يشبه أن يكون كولد المكاتب من جاريته وأولاد [أولاد] (¬1) المكاتبة كأولادها، انتهى كلامه. والمسألة الأخيرة وهي الكلام على أولاد الأولاد، قد أسقطها النووي من "الروضة" وذلك لأن كثيرًا من نسخ الرافعي قد سقط منها لفظ أولاد من قوله أولاد أولاد فوقعت تلك النسخة للنووي فرأى الكلام غير منتظم فأسقطه. قوله: والأمة المشتركة إذا كاتبها المالكان ثم وطئها أحدهما، وهو معسر فحبلت منه ومات الواطء بعد فسخ الكتابة عتق النصف والباقي قن، وفي الولد وجهان. قال ابن أبي هريرة: ينعقد كله حرًا، وقال أبو إسحاق نصفه حر ونصفه رقيق، وفي "التهذيب" أن هذا أصح، انتهى. وهذه المسألة قد اختلف فيها كلام الرافعي وكلام "الروضة" من وجهين أحدهما في أن الخلاف وجهان أو قولان، والثاني في الأصح من الخلاف، وقد أوضحت الأمرين في كتاب السير. قوله: في المسألة في "الروضة" وإن كان موسرًا سرى الاستيلاد بعد عجز المكاتب نفسه وفي قول في الحال فعلى هذا يجب على الواطيء للشريك نصف مهرها، ونصف قيمتها، وأما قيمة نصف الولد ففي وجوبه قولان. انتهى. واعلم أن تعبيره في الأم بنصف القيمة وفي الولد بقيمة النصف غير مستقيم بل الصواب التسوية بينهما في التعبير، وقد عبر الرافعى فيهما بنصف القيمة فعدل المصنف عنه في أحدهما دون الآخر وهو غريب. وقد تقدم ذكر المسألة أيضًا في العتق في آخر الكلام على السراية، وتقدم أيضًا هناك الفرق بين العبارتين. ¬

_ (¬1) سقط من ب.

قوله: أيضًا في المسألة فلو وطئاها معًا وأتت بولدين واتفقا على أن هذا من ذا وذاك من ذلك، واتفقا على السابق منهما نظر، إن كانا موسرين أو الأول فقط صارت مستولدة للأول. ثم قال: وأما الثاني فإن وطئها بعدما صار جميعها مستولدًا للأول. وهو عالم بالحال لزمه الحد وولده رقيق وإن كان جاهلًا، فالولد حر وعليه تمام قيمة الولد يوم الوضع، ويكون جميعها للأول إن ارتفعت الكتابة في نصيبه، وإن بقيت فنصف المهر له ونصفه للمكاتبة. ونصف قيمة الولد ونصفها على الخلاف في ولد المكاتبة، انتهى كلامه. وما ذكره في آخره بالنسبة إلى قيمة الولد كلام ناقص، وكأنه سقط منه لفظة واحدة وهي له، ويكون أصله ونصف قيمة الولد له ونصفها على الخلاف. وقد اشتبه ذلك على النووي فحذف النصف الثاني فقال: ونصف قيمة الولد على الخلاف، هذا لفظه وهو غريب حيث تكلم على نصف دون نصف.

الحكم الخامس في جناية المكاتب والجناية عليه

الحكم الخامس: في جناية المكاتب والجناية عليه قوله: أحدها إذا جنى المكاتب على أجنبي فطولب بالأرش فدى نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية. والقديم أنه بأرش الجناية بالغًا ما بلغ فإن لم يكن في يده مال بيع في الجناية ولو أعتقه السيد، أو أبرأه من النجوم لزمه الفداء لأنه فوت متعلق حق المجني عليه، ثم قال: وبم يفديه السيد؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين. والثاني: القطع بأنه يفديه بالأقل بخلاف حال بقاء الكتابة، فإن الرق باق ولو بيع فربما رغب فيه راغب بأكثر من قيمته. انتهى. تابعه في "الروضة" على عدم الترجيح لشيء من الطريقين، والأصح هو طريقة القطع كذا صححه الرافعي في العبد القن إذا جنى فأعتقه سيده، مع أنه أقرب إلى البيع من المكاتب، ففي المكاتب بطريق الأولى. كذا ذكره الرافعي في أواخر الجنايات قبيل الكلام على الغرة. قوله: الثانية إذا جنى المكاتب على عبد سيده أو على طرفه فعفي المستحق على مال أو كانت الجناية موجبة للمال تعلق الواجب بما في يده لأن السيد مع المكاتب في المعاملات، كالأجنبي مع الأجنبي، فكذلك في الجناية، وما الذي يلزم المكاتب، أيلزم الأرش بالغًا ما بلغ أو الأقل؟ فيه القولان المذكوران في الجناية على الأجنبي. فإن قلنا يلزم الأرش بالغًا ما بلغ، وكان أكثر من قيمته. فعن الشيخ أبي حامد أن له أن يفدي نفسه به وعن القاضي أبي الطيب أن فيه الخلاف في هبته من سيده.

قال ابن الصباغ، وهذا يقتضي أن يقال للسيد أن يمتنع من القبول؛ لأنه لا يلزمه قبول الهبة، وعندي أنه يلزمه القبول إذا أمكنه أداؤه، وأداء مال الكتابة. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من اشتراط أداء مال الكتابة، مقتضاه أنه لا فرق فيه بين الحال والمؤجل، وليس كذلك بل العبرة بالحال خاصة. كذا صرح به في غير هذا الموضع، ثم إن المصنف لم يستوف كلام ابن الصباغ على وجهه، فإنه قال: وعندي أنه يلزمه أي السيد قبول ذلك، لأن المكاتب لا يمكنه أن يفدي نفسه إلا بذلك فإذا أمكنه أن يؤدي ذلك ويؤدي ما عليه من الكتابة لم يكن للسيد الامتناع، وإن كان ما بيده لا يفي بما عليه، كان للسيد مطالبته وتعجيزه، فإذا عجزه وفسخ الكتابة سقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية، لأنه عاد قنًا. هذا كلامه، وما ذكره أيضًا من سقوط الأرش، قد حصل فيه اضطراب أوضحته في الباب الثالث من أبواب الرهن. قوله: وإذا عجز بسبب الأرش أو النجوم ورق فهل يسقط الأرش أو يكون في ذمته إلى أن يعتق؟ فيه وجهان: أظهرهما الأول، وهما كالوجهين في ما لو كان له على غيره دين فملكه هل يسقط؟ انتهى كلامه. وقد ظهر لك مما ذكرناه في المسألة السابقة اختلاف كلام الرافعي في هذه المسألة. قوله: ولو وجب للسيد على المكاتب مال بسبب جناية، ثم أعتقه أو أبرأه عن النجوم فإن لم يكن في يده شيء سقط الأرش، لأنه أزال الملك عن الرقبة، التي كانت متعلق الأرش وإن كان في يده مال فوجهان: أحدهما: لا يتعلق الأرش به، لأن الأرش كان متعلقًا بالرقبة [وقد

تلفت وأظهرهما المنع والتوجيه المذكور ممنوع. بل الأرش متعلق بالرقبة] (¬1) وبما في يده. انتهى كلامه ملخصًا. وما ذكره هنا من أن هذا المال الذي للسيد متعلق برقبة المكاتب، قد ناقضه بعد هذا بنحو عشرة أسطر، فقال: ثم ظاهر ما رددوه في هذا الموضع ونص عليه الشافعي أنه يجب الأرش بالغًا ما بلغ، ثم قال ما نصه: وفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا جنى على أجنبي، ثم أدى النجوم حيث ذكرنا خلافًا في ما يجب عليه بأن الواجب في الجناية على السيد لا يتعلق برقبة المكاتب، وإنما هو في ذمته فيجب بكماله كما لو جنى حر على حر، وأرش الجناية على الأجنبي يتعلق بالرقبة، فجاز ألا يزاد عليها ومنهم من طرد القول الآخر، وهو وجوب أقل الأمرين، وقال: العتق لا يغير ما تقدم وجوبه، هذا كلامه وهو عجيب سلمت منه "الروضة"، فإنه لم يذكر الثاني. قوله: الثالثة عبد المكاتب إذا جنى على أجنبي، وتعلق المال برقبته، يباع فيها إلا أن يفديه السيد، انتهى. ويستثنى من إطلاق الفداء ما إذا كان العبد آبقًا، فإنه لا يجوز فداؤه، كذا نقله البندنيجي في التعليق عن نص الشافعي وهو ظاهر. قوله: وإذا أفداه السيد فداه الأقل من الأرش ومن قيمته، وفي قول بالأرش ثم قال ثم ظاهر لفظ المختصر أنه تعتبر قيمة العبد يوم الجناية، لأنه يوم تعلق الأرش وعن ابن خيران أنه يجيء قول آخر، أنه تعتبر قيمة يوم الاندمال بناء على أنه وقت المطالبة بالمال. وحكي عن القفال أنه تعتبر قيمة يوم الفداء لأن المكاتب إنما يمنع من بيعه، ويستديم الملك فيه يومئذ، وذكر القاضي ابن كج أن المذهب اعتبار ¬

_ (¬1) سقط من أ.

أقل القيمتين من قيمته يوم الجناية، وقيمته يوم الفداء احتياطيًا للمكاتب، وإبقاء للمال عليه، ونسب هذا إلى لفظه في "الأم". انتهى كلامه. [وظاهره رجحان أقل القيمتين. فإن توقف متوقف في أخذه من هذا الكلام] (¬1) لم يؤخذ منه ترجيح غيره قطعًا. إذا علمت ذلك فقد أغرب في "الروضة" فصلح الأول فقال ما نصه: الأصح، وظاهر نصه في المختصر يوم الجناية، ثم ذكر ما في كلام الرافعي فاعلمه. قوله: وإذا ثبت للمكاتب قصاص فعفي عنه مجانًا سقط القصاص، ثم إن قلنا موجب الحمد أحد الأمرين لم يسقط المال إن عفي بغير إذن السيد، وإن عفي بإذنه ففيه الخلاف في تبرعه بالإذن، وإن قلنا موجب العمد القصاص إلى آخره. واعلم أن النووي في "الروضة" قد أسقط التفريع على القول الأول وهو الموجب لأحد الأمرين وكأنه سقط من نسخه من موجب العمد إلى موجب العمد، أو انتقل نظره منه إليه. قوله: في "الروضة": وحيث يثبت المال للمكاتب بالجناية على طرفه، فهل يستحق أخذه في الحال أم يتوقف على الاندمال؟ قولان كالجناية على الحر، وقيل: يستحقه في الحال قطعًا، مبادرة إلى تحصيل العتق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن جزمه في الحر بطريقة القولين مخالف لما ذكره في كتاب الجنايات، في آخر باب القصاص في الأطراف، فإنه حكى هناك طريقين وصحح طريقة القطع بأنه يتوقف على الاندمال وقد ذكرت لفظه فراجعه. ¬

_ (¬1) سقط من أ.

الأمر الثاني: إذا فرعنا على أن المكاتب يستحق الأخذ في الحال، فهل يختص ذلك بما إذا ترتب العتق على المأخوذ بأن كان وافيًا بالذي عليه، أو لا يختص به. فيه وجهان من غير ترجيح، حكاهما الرافعي في الجنايات في الموضع المشار إليه عن النهاية وحذفهما النووي من هناك، ظنًا منه أنهما يذكران في هذا الموضع فلزم خلو "الروضة" عن هذه المسألة. قوله: ولو جنى على طرف المكاتب عبده فله القصاص، وإن كانت الجناية خطأ أو عفي على مال، فلا يثبت له على عبده مال. وهل له أن يبيع منه بقدر الأرش؟ فيه الوجهان المذكوران، في ما إذا جنى ابن المكاتب الذي يكاتب عليه على عبد آخر، انتهى كلامه. وقد أسقط النووي من الروضة المسألة الأخيرة، وهي مسألة البيع.

كتاب عتق أمهات الأولاد

كتاب عتق أمهات الأولاد قوله في أصل "الروضة": فإذا قلنا بالمذهب لأنه لا يجوز بيعها فقضى بجوازه قاض فحكى الروياني عن الأصحاب أنه ينقض قضاؤه وما كان فيه من خلاف بين الفرق الأول فقد انقطع، وصار مجمعًا على منعه، ونقل الإمام فيه وجهين. انتهى كلامه. ومقتضاه رجحان النص، وقد تقدم من كلامه في الباب الثاني المعقود لجامع آداب القضاء في الكلام على ما ينقض من الأحكام، ما يخالف ذلك وقد تقدم ذكره هناك مبسوطًا فراجعه. قوله: وللأصوليين خلاف في أنه هل يشترط لحصول الإجماع انقراض العصر؟ ثم قال: ولأصحابنا أيضًا وجهان. في ما إذا اختلف الصحابة في مسألة، ثم اجتمع التابعون على أحد القولين، هل يرتفع به الخلاف الأول؟ انتهى. والصحيح أنه يرتفع فقد قال الغزالي في "المنخول" وابن برهان في "الأوسط": إنه مذهب الشافعي، وقال إمام الحرمين في "البرهان": ميل الشافعي إليه، قال: ومن عبارته الرشيقة في ذلك أن المذاهب لا تموت بموت أصحابها. وقال النووي في كتاب الجنائز من "شرح مسلم" في الكلام على الصلاة بعد الدفن: إن الأصح أنه إجماع، وكأنه قلد فيه بعض الأصوليين. قوله: أيضًا في الروضة في تزويجها أقوال أظهرها: للسيد الاستقلال به لأنه يملك إجازتها ووطئها كالمدبرة.

والثاني: قاله في القديم لا يزوجها برضاها. والثالث: لا يجوز وإن رضيت، انتهى كلامه. وما ذكره هنا من كون الخلاف أقوالًا، قد ناقضه في كتاب النكاح في الباب الخامس منه فجعله وجوهًا، وذكر مثله في "المنهاج" أيضًا، ولم يقع في كلام الرافعي اختلاف كما تقدم بسطه هناك. قوله: وهل للكافر تزويج مستولدته؟ فيه وجهان حكاهما الصيدلاني وهو الذي أجاب به القفال. أحدهما: لا لانقطاع الموالاة. والثاني: نعم لكونه مالكًا، وذكر على الوجه الأول أن القاضي لا يزوجها، وعن أبي إسحاق أن الحاكم يزوجها إذا أرادته المستولدة، وكذلك إن أراد السيد. انتهى. والأصح أن الكافر لا يزوج المستولدة بقوله أصحهما لا وبه قطع القفال هذا لفظه والذي دلت عليه عبارة الرافعي أن القفال أجاب أيضًا بالوجهين. قوله: وعن أبي إسحاق أن أم ولد الذمي إذا أسلمت تكون أحق بحضانة الولد ما لم تتزوج، وإذا تزوجت صار الأب أحق بالولد، إلا أن يكون الولد مميزًا ويخاف أن يفتنه في دينه فلا يترك عنده. انتهى. والذي نقله هنا عن أبي إسحاق من ثبوت الحضانة للأب، وأقره عليه خلاف المعروف فإن الصحيح أنه لا حضانة لكافر على مسلم، وقد استدركه عليه في "الروضة". قوله: في فتاوى القفال أن العبد إذا أولد جارية ابنه الحر لا حد عليه، وثبت النسب، ولا يثبت الاستيلاد وأن المكاتب إذا أولد جارية ولده فيحتمل ينبني ثبوت الاستيلاد على الخلاف المتقدم في جارية نفسه. انتهى.

تابعه في "الروضة" على ذلك، فأما ما نقله عن القفال أولًا فقد أهمل منه ثبوت حرية الولد، فإن القفال أفتى أيضًا به. كذا حكاه الرافعي عنه في أواخر النكاح في الكلام على وطء الأب جارية ولده، وحكى معه وجهًا آخر، أنه لا يثبت ولم يصحح منهما شيئًا وأما ما نقله ثانيًا من احتمال التخريج المذكور، فقد جزم به الرافعي أيضًا في الموضع المشار إليه. قوله: وإذا أولد جاريته المحرمة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة ولزمه التعزير وفي قول الحد، ثم قال ما نصه: وعلى القولين لو أولدها يكون الولد حرًا نسبًا وتصير هي مستولدة. قال الأصحاب: ولا يتصور اجتماع هذه الأحكام مع وجوب الحد، إلا في هذه الصور على أحد القولين. انتهى كلامه. وبه تم أيضًا كتابه -رحمه الله-، فيه أمران: أحدهما: أن ما جزم به هاهنا من كونه حرًا نسبًا مع القول بوجوب الحد، قد صحح خلافه في موضعين أحدهما في أواخر النكاح في الفصل المعقود، لوطء الأب جارية الابن. والثاني في باب حد الزنا في الكلام على وطء الشبهة وقد سبق لفظ كل من الموضعين في بابه فراجعه. ووقعت المواضع الثلاثة في "الروضة" على هذا الاختلاف الواقع هنا. الأمر الثاني: أن ما ذكره من هذه الأحكام وهي الحرية والنسب، والاستيلاد لا يتصور اجتماعها مع الحد على قول إلا في هذه الصور غريب بل يتحصل مما نقله الرافعي في باب حد الزنا، وفي الكلام على وطء جارية الولد مسائل أخرى: إحداها: إذا وطيء الأب جارية ولده واستولدها ولم تكن مستولدة الابن.

ثانيها: إذا أولد الرجل جاريته المشتركة. ثالثها: إذا أولد جاريته المزوجة. رابعها: إذا أولد جاريته المعتدة من زوجها. خامسها: إذا أولد أمته المحبوسة (¬1) أو المبتوتة. سادسها: إذا أولد الذمي أمته التي أسلمت قبل أن تباع عليه. سابعها: أن يولد أمته المحرمة عليه تحريمًا مؤبدًا بنسب أو رضاع أو مصاهرة. فجميع ما ذكرناه يثبت فيه الحرية والنسب والاستيلاد مع وجوب الحد على قول كما تلخص في الموضعين المشار إليهما من كلامهما معًا -رضي الله عنهما- وأرضاهما ونفعنا ببركاتهما وحشرنا وإياهما في زمرة نبيه ومستقر رحمته. -[تم الكتاب]- والله الموفق للصواب، والمسئول من الله النفع لي ولوالدي ولأحبائي، وسائر المسلمين وأن لا يخيب سعينا، ولا يضيع عملنا، وأن يجعلنا من أهل العلم العاملين به، وأن يختم أعمالنا بخير بمنه وكرمه. ونختم الكتاب بما بدأنا به، وهو حمد الله والصلاة على رسوله، فنقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون، وكلما سها عنه الغافلون، ورضي الله عن أصحابه أجمعين. قال سيدنا ومولانا وشيخنا الإمام العلامة جمال الإسلام والمسلمين -رحمه الله-: وقد تنصب من تأليفي هذا من أوله إلى صلاة الخوف في مدة ¬

_ (¬1) في أ: كلمة تشبه المجوسية.

آخرها أواخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ثم إلى كتاب الإقرار في مدة آخرها شهر رمضان سنة خمس وأربعين، ثم إلى كتاب الوديعة في مدة آخرها أثناء تسع وأربعين وباقي الكتاب في مدة أواخرها قبيل الستين سنة سوى زيادات وقعت بعد ذلك اللهم انفع به واغفر لمؤلفه وأحبابه وارحمه رحمة واسعة وأحبابه، واجعله من خيار أهل العلم، واختم له بالخير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين. هذا آخر كلام المصنف عفا الله عنه، وتغمده برحمتك يا أرحم الراحمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1