المهذب في فقة الإمام الشافعي للشيرازي

الشيرازي، أبو إسحاق

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين رب يسر قال الشيخ الإمام الزاهد الموفق أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أباذي أسعده الله في الدارين: الحمد لله وفقنا لشكره وهدانا لذكره وصلواته على محمد.

خير خلقه وعلى آله وصحبه هذا كتاب مهذب أذكر فيه - إن شاء الله - أصول مذهب الشافعي رحمه الله بأدلتها وما تفرع على أصوله من المسائل المشكلة بعللها وإلى الله عز وجل أرغب وإياه أسأل أن يوفقني فيه لمرضاته وأن ينفعني به في الدنيا والآخرة

إنه قريب مجيب وعلى ما يشاء قدير وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو حسبي ونعم الوكيل.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب ما تجوز به الطهارة من المياه وما لا تجوز يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بالماء المطلق وهو ما نزل من السماء أو نبع من

الأرض فما نزل من السماء ماء المطر وذوب الثلج والبرد والأصل فيه قوله عز وجل {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [لأنفال:11] وما نبع من الأرض ماء البحار وماء الأنهار وماء الأبار والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته1" وروي أن النبي توضأ من بئر بضاعة". فصل: ولا يكره من ذلك إلا ما قصد إلى تشميسه فإنه يكره الوضوء به ومن أصحابنا من قال: لا يكره ما تشمس بنفسه في البرك والأنهار والمذهب الأول والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها وقد سخنت ماء

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 12. الدارمي في كتاب الوضوء باب 53. أحمد في مسنده "2/237، 361، 378".

الشمس "يا حميراء لا تفعلي هذا فإنه يورث البرص" ويخالف ماء البرك والأنهار لأن ذلك لا يمكن حفظه من الشمس فلم يتعلق به المنع فإن خالف وتوضأ به صح الوضوء لأن المنع منه لخوف الضرر فلم يمنع صحة الوضوء كما لو توضأ بما يخاف من حره أو برده. فصل: وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من الثمر أو الشجر لا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس به لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] فأوجب التيمم على من لم يجد الماء فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها في دم الحيض يصيب الثوب "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" فأوجب الغسل بالماء فدل على أنه لا يجوز بغيره. فصل: فإن كمل الماء المطلق بمائع بأن احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ومعه أربعة أرطال فكمله بمائع لم يتغير به كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان قال أبو علي الطبري: لا يجوز الوضوء به لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء وبعضها بالمائع ومن أصحابنا من قال: إنه يجوز لأن المانع استهلك في الماء فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه.

باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده

باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده إذا اختلط بالماء شيء طاهر ولم يتغير به لم يمنع الطهارة به لأن الماء باقي على إطلاقه وإن لم يتغير به لمرافقته الماء في الطعم واللون والرائحة كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان: أحدهما: عن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به لبقاء اسم الماء المطلق وإن كانت الغلبة للمخالط لم يجز لزوال إطلاق اسم الماء والثاني: إن كان

ذلك قدراً لو كان مخالفاً للماء في صفاته لم يغيره لم يمنع وإن كان قدراً لو كان مخالفاً له غيره منع لأن الماء لما لم يغير بنفسه اعتبر بما يغيره كما نقول في الجناية التي ليس لها أرش مقدر لما لم يمكن اعتبارها بنفسها اعتبرت بالجناية على العبيد وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت فإن كان مما يمكن حفظ الماء منه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به لأنه لا يمكن صون الماء عنه فعفي عنه كما عفي عن النجاسة اليسيرة والعمل القليل في الصلاة وإن كان مما يمكن حفظ الماء منه نظرت فإن مان ملحاً انعقد من الماء لم يمنع الطهارة به لأنه كان ماء في الأصل فهو كالثلج إذا ذاب فيه وإن كان تراباً طرح فيه لم يؤثر لأنه يوافق الماء في التطهير فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به وإن كان شيئاً سوى ذلك كالزعفران والتمر والدقيق والملح الجبلي والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه وغير ذلك مما يستغني الماء عنه لم يجز الوضوء به لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر والماء مستغن عنه فلم يجز الوضوء به كماء اللحم وماء الباقلاء وإن وقع فيه ما لا يختلط به فتغيرت به رائحته كالدهن الطيب والعود ففيه قولان: قال في البويطي: لا يجوز الوضوء كما لا يجوز بما تغير بالزعفران وروى المزني أنه يجوز الوضوء به لأن تغيره عن مجاوره فهو كما لو تغير بجيفة بقربه وإن وقع فيه قليل كافور فتغير به ريحه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز الوضوء به كما لو تغير بالزعفران والثاني يجوز لأنه لا يختلط به وإنما تغير من جهة المجاورة.

باب ما يفسد الماء من النجاسة وما لا يفسده

باب ما يفسد الماء من النجاسة وما لا يفسده إذا وقعت في الماء نجاسة لا يخلو إما أن يكون راكداً أو جارياً أو بعضه راكداً وبعضه جارياً فإن كان راكداً نظرت في النجاسة فإن كانت نجاسة يدركها الطرف من

خمر أو بول أو ميتة لها نفس سائلة نظرت فإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه1" فنص على الطعم والريح وقسنا اللون عليهما لأنه في معناهما وإن تغير بعضه دون بعض نجس الجميع لأنه ماء واحد فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض وإن لم يتغير نظرت فإن كان الماء دون القلتين فهو نجس وإن كان قلتين فصاعداً فهو طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كان الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث2" ولأن القليل يمكن حفظه من النجاسة في الظروف والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فجعل القلتين حداً فاصلاً بينهما والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي لأنه روي في الخبر "بقلال هجر" قال ابن

_ 1رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 34. الترمذي في كتاب الطهارة باب 49. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 76. أحمد في مسنده "1/235". 2 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده "3/ 12، 38".

جريج: رأيت قلال هجر فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً فجعل الشافعي رحمه الله الشيء نصفاً احتياطاً وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصار الجميع خمسمائة رطل وهل ذلك تحديد أو تقريب فيه وجهان: أحدهما أنه تقريب فإن نقص منه رطل أو رطلان لم يؤثر لأن الشيء يستعمل فيما دون النصف في المادة والثاني أنه تحديد فلو نقص منه ما نقص نجس لأنه لما وجب أن يجعل الشيء نصفاً احتياطاً وجب استيفاؤه كما أنه لما وجب غسل شيء من الرأس احتياطاً لغسل الوجه صار ذلك فرضاً فإن كانت النجاسة مما لا يدركها الطرف ففيه ثلاث طرق: من أصحابنا من قال لا حكم لها لأنها لا يمكن الاحتراز منها فهي كغبار السرجين ومنهم من قال حكمها حكم سائر النجاسات لأنها نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا حكم لها والثاني لها حكم وجهها ما ذكرناه وإن كانت النجاسة ميتة لا نفس لها سائلة كالذباب والزنبور وما أشبههما ففيه قولان: أحدهما أنها كغيره من الميتات لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته فهو كالحيوان الذي له نفس سائلة والثاني أنه لا يفسد الماء لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء والآخر دواء1" وقد يكون الطعام حاراً فيموت بالمقل فيه فلو كان يفسده لما أمر بمقلة ليكون شفاء لنا إذا أكلناه فإن كثر من ذلك ما غير

_ 1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 17. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 48. النسائي في كتاب الفرع باب 11. ابن ماجه في كتاب الطب باب 31. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 12. أحمد في مسنده "2/329".

الماء فيه وجهان: أحدهما أنه ينجس لأنه ماء تغير بالنجاسة والثاني لا ينجس لأن ما لا ينجس الماء إذا وقع فيه وهو دون القلتين لم ينجسه وإن تغير به كالسمك والجراد. فصل: إذا أراد تطهير الماء النجس نظرت فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه أو بأن يضاف إليه ماء آخر أو بأن يؤخذ بعضه لأن النجاسة بالتغير وقد زال وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان: قال في الأم: لا يطهر كما لو يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة وقال في حرملة يطهر وهو الأصح لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر ويفارق الكافور والمسك لأن هناك يجوز أن تكون الرائحة باقية وإنما لم تطهر لغلبة رائحة الكافور والمسك وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر لأنه ينقص عن قلتين وفيه نجاسة وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء آخر حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة ومن أصحابنا من قال لا يطهر لأنه دون القلتين وفيه نجاسة والأول أصح لأن الماء إنما ينجس إذا وردت عليه النجاسة وههنا ورد الماء على النجاسة فلم ينجس إذا لو نجس لم يطهر الثوب النجس إذا صب عليه الماء. فصل: وإذا أراد الطهارة بالماء الذي وقعت فيه نجاسة وحكم بطهارته نظرت فإن كان دون القلتين وطهر بالمكاثرة بالماء لم تجز الطهارة به لأنه وإن كان طاهراً فهو غير مطهر لأن الغلبة للماء الذي غمره وهو ماء أزيل به النجاسة فلم يصلح للطهارة وإن كان أكثر من قلتين نظرت فإن كانت النجاسة جامدة فالمذهب أنه تجوز الطهارة منه لأنه لا حكم للنجاسة القائمة فكان وجودهما كعدمها وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص: لا تجوز حتى يكون بينه وبين النجاسة قلتان فإن كان بينه وبين النجاسة أقل من قلتين لم يجز لأنه لا حاجة به إلى استعمال ماء فيه نجاسة قائمة وإن كان الماء قلتين وفيه نجاسة قائمة ففيه وجهان قال أبو إسحاق: لا تجوز الطهارة به لأنه ماء واحد فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف منه نجساً وجب أن يكون الذي غرفه نجساً والمذهب أنه يجوز لأن ما يغرف منه ينفصل منه قبل أن يحكم بنجاسته فبقي على الطهارة وإن كانت

النجاسة ذائبة جازت الطهارة به ومن أصحابنا من قال لا يتطهر بالجميع بل يبقى منه قدر النجاسة كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير أنه ياكل الجميع إلا تمرة وهذا لا يصح لأن النجاسة لا تتميز بل تختلط بالجميع فلو وجب ترك بعضه لوجب ترك جميعه بخلاف التمرة. فصل: فإن كان الماء جارياً وفيه نجاسة جارية كالميتة والجرية المتغيرة فالماء الذي قبلها طاهر لأنه لم يصل إلى النجاسة فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق والذي بعدها طاهر أيضاً لأنه لم تصل إليه النجاسة وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها فإن كان قلتين ولم يتغير فهو طاهر وإن كان دونهما فهو نجس كالراكد وقال أبو العباس بن القاص فيه قول آخر قاله في القديم أنه لا ينجس الماء الجاري إلا لتغير لأنه ماء ورد على النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء المزال به النجاسة وإن كانت النجاسة واقفة والماء يجري عليها فإن ما قبلها وما بعدها طاهر وما يجري عليها إن كان قلتين فهو طاهر وإن كان دونهما فهو نجس وكذلك كل ما يجري عليها بعدها فهو نجس ولا يطهر شيء من ذلك حتى يركد في موضع ويبلغ قلتين وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص والقاضي أبو حامد: ما لم تصل إلى الجيفة فهو طاهر والماء الذي بعد الجيفة يجوز أن يتوضأ منه إذا كان بينه وبين الجيفة قلتان والأول أصح لأن لكل جرية حكم نفسها فلا يعتبر فيه القلتان. فصل: وإن كان بعضه جارياً وبعضه راكداً بأن يكون في النهر موضع منخفض يركد فيه الماء والماء يجري بجنبه والراكد زائد عن سمت الجري فوقع في الراكد نجاسة وهو دون القلتين فإن كان مع الجرية التي يحاذيها يبلغ قلتين فهو طاهر وإن لم يبلغ قلتين فهو نجس وتنجس كل جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلتان فيطهر.

باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده

باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده الماء المستعمل ضربان: مستعمل في طهارة الحدث ومستعمل في طهارة النجس فأما المستعمل في طهارة الحدث فينظر فيه فإن استعمل في رفع حدث فهو طاهر لأنه

ماء طاهر لاقى محلاً طاهراً فكان طاهراً كما لو غسل به ثوب طاهر وهل تجوز به الطهارة أم لا؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان المنصوص أنه لا يجوز لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران وروي عنه أنه قال: يجوز الوضوء به لأنه استعمال لم يغير صفة الماء فلم يمنع الوضوء به كما لو غسل به ثوب طاهر ومن أصحابنا من لم يثبت هذه الرواية فإن قلنا لا يجوز الوضوء به فهل تجوز إزالة النجاسة به أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو القاسم الأنماطي وأبو علي بن خيران رحمة الله عليهما: يجوز لأن للماء حكمين رفع الحدث وإزالة النجس فإذا رفع الحدث بقي عليه إزالة النجس والمذهب أنه لا يجوز لأنه ماء لا يرفع الحدث فلم يزل النجس كالماء النجس فإن جمع الماء المستعمل حتى صار قلتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يزول حكم النجاسة ولأنه لو توضأ فيه أو اغتسل وهو قلتان لم يثبت له حكم الاستعمال فإذا بلغ قلتين وجب أن يزول عنه حكم الاستعمال ومن أصحابنا من قال: لا يزول لأن المنع منه لكونه مستعملاً وهذا لا يزول بالكثرة وإن استعمل في نقل الطهارة كتجديد الوضوء والدفعة الثانية والثالثة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تجوز الطهارة لأنه مستعمل في طهارة فهو كالمستعمل في رفع الحدث والثاني: أنه يجوز لأنه ماء لم يرفع به حدث ولا نجس فهو كما لو غسل به ثوب طاهر. فصل: وأما المستعمل في النجس فينظر فيه فإن انفصل من المحل متغيراً فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه1" وإن كان غير متغير ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه طاهر وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة والثاني: أنه ينجس وهو قول بي القاسم الأنماطي لأنه ماء قليل لا في نجاسة فأشبه ما إذا وقعت فيه نجاسة والثالث: أنه إن انفصل والمحل طاهر فهو طاهر وإن انفصل والمحل نجس فهو نجس وهو قول أبي العباس ابن القاص لأن المنفصل من جملة الباقي في المحل فكان حكمه في النجاسة والطهارة حكمه فإذا قلنا إنه طاهر فهل يجوز الوضوء به؟ فيه وجهان قال أبو علي بن خيران يجوز وقال سائر أصحابنا لا يجوز وقد مضى توجيههما.

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 76.

باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه

باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه إذا تيقن طهارة الماء وشك في نجاسته توضأ به لأن الأصل بقاؤه على الطهارة

وإن تيقن نجاسته وشك في طهارته لم يتوضأ به لأن الأصل بقاؤه على النجاسة وإن لم يتيقن طهارته ولا نجاسته توضأ به لأن الأصل طهارته فإن وجده متغيراً ولم يعلم بأي شيء تغير توضأ به لأنه يجوز ان يكون تغيره بطول المكث وإن رأى حيواناً يبول في ماء ثم وجده متغيراً وجوز أن يكون تغيره بالبول لم يتوضأ به لأن الظاهر أن تغيره من البول وإن رأى هرة أكلت نجاسة ثم وردت على ماء قليل فشربت منه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تنجسه لأنا تيقنا نجاسة فمها والثاني: أنها إن غابت ثم رجعت لم تنجسه لأنه يجوز أن تكون قد وردت على ماء فطهر فمها فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك والثالث: لا ينجس بكل حال لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفى عنها فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات1". فصل: وإن ورد على ماء فأخبره رجل بنجاسته لم يقبل حتى يبين بأي شيء نجس لجواز أن يكون قد رأى سبعاً ولغ فيع فاعتقد انه نجس بذلك فإن بين النجاسة قبل منه كما يقبل ممن يخبره بالقبة ويقبل في ذلك قول الرجل والمرأة والحر والعبد لأن أخبارهم مقبولة ويقبل خبر العمى فيه لأن له طريقاً إلى العلم به بالحس والخبر ولا يقبل فيه قول صبي ولا فاسق ولا كافر لأن أخبارهم لا تقبل وإن كان معه إنا آن فأخبره رجل ان الكلب ولغ في أحدهما قبل قوله ولم يجتهد لأن الخبر مقدم على الاجتهاد كما

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 38. الترمذي في كتاب الطهارة باب 69. النسائي في كتاب الطهارة باب 53. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 32. الدارمي في كتاب الوضوء باب 58. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 13. أحمد في مسنده "5/296".

تقول في القبلة وإن أخبره رجل أنه ولغ في هذا دون ذاك وقال آخر: بل ولغ في ذاك دون هذا حكم بنجاستهما لأنه يمكن صدقهما بأن يكون قد ولغ فيهما في وقلتين وإن قال أحدهما: ولغ في هذا دون ذاك في وقت معين وقال الآخر بل ولغ في ذلك دون هذا في ذلك الوقت بعينه فهما كالبيتين إذا تعارضتا فإن قلنا إنهما يسقطان سقط خبرهما وجازت الطهارة بهما لأنه لم تثبت نجاسة واحد منهما وإن قلنا إنهما لا يسقطان أراقهما أو صب أحدهما في الآخر ثم تيمم. فصل: وإن اشتبه عليه ماآن طاهر ونجس تحرى فيهما فإن غلب على ظنه طهارته منهما توضأ به لأنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاستدلال فجاز له الاجتهاد عند الاشتباه فيه كالقبلة فإن انقلب أحدهما قبل الاجتهاد ففيه وجهان: أحدهما: أنه يتحرى في الثاني لأنه قد ثبت جواز الاجتهاد فيه فلم يسقط بالانقلاب والثاني: وهو الأصح أنه لا يجتهد لأن الاجتهاد يكون بين أمرين فإذا قلنا لا يجتهد فما الذي يصنع؟ فيه وجهان: قال أبو علي الطبري: يتوضأ به لأن الأصل فيه الطهارة فلا يزال اليقين بالشك وقال القاضي أبو حامد: يتيمم ولا يتحرى لأن حكم الأصل قد زال بالاشتباه بدليل أنه منع من استعماله من غير تحر فوجب أن يتيمم وإن اجتهد فيهما فلم يغلب على ظنه شيء أراقهما أو صب أحدهما في الآخر وتيمم فإن تيمم وصلى قبل الإراقة أو الصب أعاد الصلاة لأنه تيمم ومعه ماء طاهر بيقين وإن غلب على ظنه طهارة أحدهما توضأ به والمستحب أن يريق الآخر حتى لا يتغير اجتهاده بعد ذلك فإن تيقن أن الذي توضأ به كان نجساً غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة لأنه تعين له يقين الخطأ فهو كالحاكم إذا أخطأ النص وإن لم يتيقن ولكن تغير اجتهاده فظن أن الذي توضأ به كان نجساً قال أبو العباس: يتوضأ بالثاني كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده والمنصوص في حرملة أنه لا يتوضأ بالثاني لأنا لو قلنا إنه يتوضأ به ولم يغسل ما أصابه المال الأول من ثيابه وبدنه أمرناه أن يصلي وعلى بدنه نجاسة بيقين وهذا لا يجوز وإن قلنا إنه يغسل ما أصابه من الماء الأول نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد وهذا لا يجوز ويخالف القبلة فإن هناك لا يؤدي إلى الأمر بالصلاة إلى غير القبلة ولا إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وإذا قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه وإن قلنا بالمنصوص فإنه يتمم ويصلي وهل يعيد الصلاة؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يعيد لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع فصار وجوده كعدمه كما لو تيمم ومعه ما يحتاج إليه للعطش والثاني: يعيد لأنه تيمم ومعه ماء محكوم بطهارته والثالث وهو قول أبي

الطيب بن سلمة: إن كان بقي من الأول بقية أعاد لأن معه ماء طاهراً بيقين وإن لم يكن بقي معه شيء لم يعد لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين وإن اشتبه عليه ماآن ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته ففيه وجهان: أحدهما: لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين فلا يؤدي يالاجتهاد كالمكي في القبلة والثاني: أنه يتحرى لأنه يجوز إسقاط الفرض بالطاهر في الظاهر مع القدرة على الطاهر بيقين ألا ترى أنه يجوز أن يترك ما نزل من السماء ويتيقن طهارته ويتوضأ بما يجوز نجاسته وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء مستعمل ففيه وجهان: أحدهما لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين بأن يتوضأ بكل واحد منهما والثاني: أنه يتحرى لأنه يجوز أن يسقط الفرض بالطاهر مع القدرة على اليقين وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء ورد لم يتحر بل يتوضأ بكل واحد منهما وإن اشتبه عليه ماء ورد وبول انقطعت رائخته لم يتحر بل يريقهما ويتيمم لأن ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير فيرد إلا الاجتهاد وإن اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس تحرى فيهما لأن أصلهما على الإباحة فهما كالماءين وإن اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى ففيه قولان قال في حرملة: لا يتحرى لأن عليه أمارات تتعلق بالبصر فهو كالقبلة وقال في الأم: يتحرى لأن له طريقاً إلى إدراكه بالسمع والشم فيتحرى فيه كما يتحرى في وقت الصلاة فإذا قلنا يتحرى فلم يكن له دلالة على الأغلب عنده ففيه وجهان: من أصحابنا من قال: لا يقلد لأن من جاز له الاجتهاد في شيء لم يقلد فيه غيره كالبصير ومنهم من قال: يجوز أن يقلد وهو ظاهر قوله في الأم لأن أماراته تتعلق بالبصر وغيره فإذا لم تغلب على ظنه دل على أن أماراته تعلقت بالبصر فصار كالأعمى في القبلة وإن اشتبه ذلك على رجلين فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة أحدهما واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده ولم يأتم أحدهما بالآخر لأنه يعتقد أن صلاة إمامه باطلة وإن كثرت الأواني وكثر المجتهدون فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى طهارة إناء وتوضأ به وتقدم أحدهم وصلى بالباقين الصبح وتقدم آخر وصلى بهم الظهر وتقدم آخر وصلى بهم العصر فكل من صلى خلف إمام يجوز أن يكون طاهراً فصلاته خلفه صحيحة وكل من صلى خلف إمام يعتقد أنه نجس فصلاته خلفه باطلة وبالله التوفيق.

باب الآنية

باب الآنية كل حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدباغ وهو ما عدا الكلب والخنزير لقوله

عليه الصلاة والسلام "أيما إهاب دبغ فقد طهر1" ولأن الدباغ يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع به كالحياة ثم الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ وأما الكلب والخنزير فكذلك وما توالد منهما أو من أحدهما فلا يطهر جلدهما بالدباغ لأن الدباغ كالحياة ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير فكذلك الدباغ. فصل: ويجوز الدباغ بكل ما ينشف فضول الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشب والقرظ وغير ذلك ما يعمل عمله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أليس في الماء والقرظ ما يطهرانه" فنص على القرظ لأنه يصلح الجلد ويطيبه فوجب أن يجوز بكل ما عمل عمله وهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر لأن طهارته تتعلق بالاستحالة وقد حصل ذلك فطهر كالخمر إذا استحالت خلا وقال أبو إسحاق: لا يطهر حتى يغسل بالماء لأن ما يدبغ به تنجس بملاقاة الجلد فإذا زالت نجاسة الجلد بقيت نجاسة ما يدبغ به فوجب أن يغسل حتى يطهر. فصل: وإذا طهر الجلد بالدباغ جاز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" وهل يجوز بيعه؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لأنه حرم

_ 1 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 105. أبو داود في كتاب اللباس باب 38. الترمذي في كتاب اللباس باب 7. النسائي في كتاب الفرع باب 4. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 20. الموطأ في كتاب الصيد حديث 17. أحمد في مسنده "1/219".

التصرف فيه بالموت ثم رخص بالانتفاع فيه فبقي ما سوى الانتفاع على التحريم وقال في الجديد: يجوز لأنه منع بيعه لنجاسته وقد زالت النجاسة فوجب أن يجوز البيع كالخمر إذا تخللت وهل يجوز أكله؟ ينظر فإن كان من حيوان يؤكل ففيه قولان: قال في القديم: لا يؤكل لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما حرم من الميتة أكلها1" وقال في الجديد: يؤكل لأنه جلد طاهر من حيوان مأكول فأشبه جلد المذكى وإن كان من حيوان لم يؤكل لم يحل أكله لأن الدباغ ليس بأقوى من الذكاة والذكاة لا تبيح ما لا يؤكل لحمه فلأن لا يبيحه الدباغ أولى وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني عن القاضي أبي القاسم بن كنج أنه حكى وجهاً آخر أنه يحل لأن الدباغ عمل في تطهيره كما عمل في تطهير ما يؤكل فعمل في إباحته بخلاف الذكاة. فصل: كل حيوان نجس بالموت نجس شعره وصوفه على المنصوص وروي عن الشافعي رحمه الله أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق: فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال ينجس الشعر بالموت قولاً واحداً لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فينجس بالموت كالأعضاء ومنهم من جعل الرجوع عن تنجيس شعر الآدمي رجوعاً عن تنجيس جميع الشعور فجعل في الشعور قولين أحدهما: ينجس لما ذكرناه والثاني: لا ينجس لأنه لا يحس ولا يتألم فلا تلحقه نجاسة الموت ومنهم من جعل هذه الرواية رجوعاً عن تنجيس شعر الآدمي خاصة فجعل في الشعور قولين أحدهما: ينجس الجميع لما ذكرناه والثاني: ينجس الجميع إلا شعر الآدمي فإنه لا ينجس لأنه منصوص بالكرام ولهذا يحل لبنه مع تحريم أكله. وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا إن شعر غيره طاهر فشعره صلى الله عليه وسلم أولى بالطهارة وإذا قلنا إن شعر غيره نجس ففي شعره عليه الصلاة والسلام وجهان: أحدهما: أنه نجس لأن ما كان نجساً من غيره كان نجساً منه كالدم وقال أبو جعفر الترمذي: هو طاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس وكل موضع قلنا إنه نجس عفى عن الشعرة والشعرتين في الماء والثوب لأنه لا يمكن الاحتراز منه فعفى عنه كما عفي عن دم البراغيث فإن دبغ جلد الميتة وعيه شعر فقد قال في الأم: لا يطهر لأن الدباغ لا يؤثر في تطهيره وروى الربيع بن سليمان الجيزي عنه أنه يطهر لأنه شعر نابت على جلد

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 61. مسلم في كتاب الحيض حديث 100 أبو داود في كتاب اللباس باب 38. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 20. الموطأ في كتاب الضير حديث 16.

طاهر فكان كالجلد في الطهارة كشعر الحيوان في حال الحياة وإن جز الشعر من الحيوان نظرت فإن كان من حيوان يؤكل لم ينجس لأن الجز في الشعر كالذبح في الحيوان ولو ذبح الحيوان لم ينجس فكذلك إذا جز شعره وإن كان من حيوان لا يؤكل فحكمه حكم الحيوان ولو ذبح الحيوان كان ميتة كذلك إذا جز شعره وجب أن يكون ميتة. فصل: فأما العظم والسن والقرن والظلف والظفر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كالشعر والصوف لأنه لا يحس ولا يألم ومنهم من قال ينجس قولاً واحداً. فصل: وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس لأنه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس وأما البيض في جوف الدجاجة الميتة فإن لم يتصلب قشره فهو كاللبن وإن تصلب قشرة لم ينجس كما لو وقعت بيضة في شيء نجس. فصل: إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شيء من أجزائه ويجوز الانتفاع بجلده وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة لأنه جزء طاهر من حيوان طاهر مأكول فجاز الانتفاع به بعد الذكاة كاللحم وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه كما ينجس بموته لأنه ذبح لا يبيح أكل اللحم فنجس به كما ينجس بالموت كذبح المجوسي. فصل: ويكره استعمال أواني الذهب والفضة لما روى حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنهما لهم في الدنيا ولكم في الآخرة1" وهل يكره كراهية تنزه أو تحريم قولان: قال في القديم: كراهية تنزيه لأنه إنما نهي عنه للسرف والخيلاء والتشبه بالأعاجم وهذا لا يوجب التحريم وقال في الجديد: يكره كراهية تحريم وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم2" فتوعد عليه بالنار فدل على أنه محرم وإن توضأ منه صح

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 39. 2 رواه البخاري في كتاب الأشربة باب 28. مسلم في كتاب اللباس حديث1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 17. الدارمي في كتاب الأشربة باب 25. الموطأ في كتاب صفة النبي حديث 11. أحمد

الوضوء لأن المنع لا يختص بالطهارة فأشبه الصلاة في الدار المغصوبة ولأن الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء وليس في ذلك معصية وإنما المعصية في استعمال الظرف دون ما فيه فإن أكل أو شرب منه لم يكن المأكول والمشروب حراماً لأن المنع لأجل الظرف دون ما فيه وأما اتخاذها ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأن الشرع ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ والثاني لا وهو الأصح لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه كالطنبور والبربط وأما أواني البلور والفيروزج وما أشبههما من الأجناس المثمنة ففيه قولان: روى حرملة أنه لا يجوز لأنه أعظم في السرف من الذهب والفضة فهو بالتحريم أولى وروى المزني أنه يجوز وهو الأصح لأن السرف فيه غير ظاهر لأنه لا يعرفه إلا الخواص من الناس. فصل: وأما المضبب بالذهب فإنه يحرم قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير "إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها1" فإن اضطر إليه جاز لما روي أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 74. ابن ماجه في كتاب اللباس باب 19. الدارمي في كتاب الأشربة باب 13 أحمد في مسنده "3/138، 292".

من ذهب وأما المضبب بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن كان قليلاً للحاجة لم يكره لما روى أنس أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فتخذ مكان الشفة سلسلة من فضة وإن كان للزينة كره لأنه غير محتاج إليه ولا يحرم لما روى أنس قال: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة وقبيعة سيفه فضة وما بين ذلك حلق الفضة وإن كان كثيراً للحاجة كره لكثرته ولم يحرم للحاجة وإن كان كثيراً للزينة حرم لقول ابن عمر لا يتوضأ ولا يشرب من قدح فيه حلقة من فضة أو ضبة من فضة وعن عائشة رضي الله عنها أنها نهت أن تضبب الأقداح بالفضة ومن أصحابنا من قال: يحرم في موضع الشرب لأنه يقع الاستعمال به ولا يحرم فيما سواه لأنه لا يقع به الاستعمال ومنهم من قال: يكره ولا يحرم لحديث أنس في سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: ويكره استعمال أواني المشركين وثيابهم لما روى أبو ثعلبة الخشني قال قلت: يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم فقال: "لا تأكلوا في آنيتهم إلا إن لم تجدوا عنها بداً فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها1" ولأنهم لا يتجنبون النجاسة فكره

_ 1 رواه البخاري في كتب الذبائح باب 4، 10. مسلم في كتاب الصيد حديث 8. الترمذي في كتاب الصيد باب 1. ابن ماجه في كتاب الصيد باب 3. الدارمي في كتاب السير باب 56. أحمد في مسنده "4/193".

لذلك فإن توضأ من أوانيهم نظرت فإن كانوا ممن لا يتدينون باستعمال النجاسة صح الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر من جرة نصراني ولأن الأصل في أوانيهم الطهارة وإن كانوا ممن يتدينون باستعمال النجاسة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يصح الوضوء لأن الأصل في أوانيهم الطهارة والثاني: لا يصح لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة كما يتدين المسلمون بالماء الطاهر فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة ويستحب تغطية الإناء لما روى أبو هريرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الإناء وإيكاء السقاية.

باب السواك

باب السواك السواك سنة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب1" ويستحب في ثلاثة أحوال: أحدها: عند القيام للصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك2" والثاني: عند اصفرار الأسنان لما روى العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استاكوا لا تدخلوا علي قلحاً3" والثالث: عند تغير الفم وذلك قد يكون من النوم وقد يكون بالأزم وهو ترك

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 27. النسائي في كتاب الطهارة باب 4. ابم ماجه في كتاب الطهارة باب 7. الدارمي في كتاب الوضوء باب 19. أحمد في مسنده "1/ 3، 10". 2 رواه أحمد في مسنده "6/272". 3 رواه أحمد في مسنده "3/442".

الأكل وقد يكون يأكل شيء يتغير به الفم لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك وإنما استاك لأن النائم ينطبق فمه ويتغير وهذا المعنى موجود في كل ما يتغير به الفم فوجب أن يستحب لنا السواك ولا يكره إلا في حالة واحدة وهو للصائم بعد الزوال لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك1" والسواك يقطع ذلك فوجب أن يكره ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهداء والمستحب أن يستاك عرضاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "استاكوا عرضاً وادهنوا غباً واكتحلوا وتراً" والمستحب أن لا يستاك بعود

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 3،9. مسلم في كتاب الصيام حديث 162 – 164. الترمذي في كتاب الصوم باب 54 النسائي في كتاب الصيام باب 41. ابن ماجه في كتاب الصيام 1. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده "1/446".

رطب لا يقلع ولا بيابس يجرح اللثة بل يستاك بعود بين عودين وبأي شيء استاك مما يقلع القلح ويزيل التغير كالخرقة الخشنة وغيرها أجزأه لأنه يحصل به المقصود وإن أمر إصبعه على أسنانه لم يجزئه لأنه لا يسمى سواكاً. فصل: ويستحب أن يقلم الأظفار ويغسل البراجم ويقص الشارب وينتف الإبط ويحلق العانة لما روى عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة عشرة المضمضة والاستئناف والسواك وقص الشارب وتقليم الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط والانتضاح بالماء والختان والاستحداد1" فصل: ويجب الختان لقوله عز وجل {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وروي أن إبراهيم عليه السلام إختتن بالقدوم ولأنه لو لم يكن واجباً لما كشفت له العورة لأن كشف العورة محرم فلما كشفت له العورة دل على وجوبه.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 56. أبو داود في كتاب الطهارة باب 29. الترمذي في كتاب الأدب باب 14. النسائي في كتاب الزينة باب 1. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 8.

باب نية الوضوء

باب نية الوضوء الطهارة ضربان: طهارة عن حدث وطهارة عن نجس فأما الطهارة عن النجس فلا

تفتقر إلى النية لأنها من باب التروك فلم تفتقر إلى النية كترك الزنى والخمر واللواط والغضب والسرقة وأما الطهارة عن الحدث فهو الوضوء والغسل والتيمم فإنه لا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى1" ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال فلم تصح من غير نية كالصلاة. فصل: ويجب أن ينوي بقلبه أن النية هي القصد تقول العرب: نواك الله بحفظه أي قصدك الله بحفظه فإن تلفظ بلسانه وقصد بقلبه فهو آكد. فصل: والأفضل أن ينوي من أول الوضوء إلى أن يفرغ منه وأن يكون مستديماً للنية فإن نوى عند غسل الوجه ثم عزبت نيته أجزأه لأنه أول فرض فإذا نوى عنده اشتملت النية على جميع الفروض وإن عزبت نيته عند المضمضة قبل أن يغسل شيئاً من وجهه ففيه وجهان: أحدهما: تجزئه لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض فإذا عزبت النية عنده أجزأه كغسل الوجه والثاني: لا تجزئه وهو الأصح لأن نيته عزبت قبل الفرض فأشبه إذا عزبت عند غسل الكف وما قاله الأول يبطل بغسل الكف فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض ثم إذا عزبت النية عنده لم تجزئه. فصل: وصفة النية أن ينوي رفع الحدث أو الطهارة من الحديث وأيهما نوى أجزأه لأنه نوى المقصود وهو رفع الحدث فإن نوى الطهارة المطلقة لم تجزه لأن الطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن نجس فلم تصح بنية مطلقة وإن نوى الطهارة للصلاة أو لأمر لا يستباح إلا بالطهارة كمس المصحف ونحوه أجزأه لأنه لا يستباح مع الحدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث فإن نوى الطهارة لقراءة القرآن والجلوس

_ 1 رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1 مسلم في كتاب الإمارة حديث 155 أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. النسائي في كتاب الطهارة باب 59.

في المسجد وغير ذلك مما تستحب له الطهارة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تجزئة لأنه يستباح من غير طهارة فأشبه إذا توضأ للبس الثوب والثاني: تجزئة لأنه يستحب له أن لا يفعل ذلك وهو محدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث وإن نوى بطهارته رفع الحدث والتبرد والتنظيف صح وضوؤه على المنصوص في البويطي لأنه نوى رفع الحدث وضم إليه ما لا ينافيه ومن أصحابنا من قال لا يصح وضوؤه لأنه شرك في النية بين القربة وبين غيرها وإن أحدث أحداثاً ونوى رفع حدث منها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يصح وضوؤه لأن الأحداث تتداخل فإذا ارتفع واحد ارتفع الجميع والثاني: أنه لا يصح لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث والثالث: أنه إن نوى به رفع الحدث الأول صح وإن نوى رفع ما بعده لم يصح لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول دون ما بعده والأول أصح وإن نوى أن يصلي به صلاة وأن لا يصلي غيرها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يصح وضوؤه لأنه لم ينو كما أمر والثاني: يصح لأن نيته للصلاة تضمنت رفع الحدث ونيته أن لا يصلي غيرها لغو والثالث: أنه يصح لما نوى اعتباراً بنيته وإن نوى نية صحيحة ثم غير النية في بعض الأعضاء بأن ينوي بغسل الرجل التبرد أو التنظف ولم يحضر نية الوضوء لم يصح ما غسله للتبرد والتنظيف وإن حضرته نية الوضوء وأضاف إليها نية التبرد فعلى ما ذكرت من الخلاف.

باب صفة الوضوء

باب صفة الوضوء المستحب أن لا يستعين في وضوئه بغيره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نستعين على الوضوء بأحد" فإن استعان بغيره جاز لما روي أن أسامة والمغيرة والربيع بنت معوذ بن عفراء صبوا على النبي صلى الله عليه وسلم الماء فتوضأ وإن أمر غيره حتى وضأه ونوى هو أجزأه لأن فعله غير مستحق في الطهارة ألا ترى أنه لو وقف تحت ميزاب فجرى الماء عليه ونوى الطهارة أجزأه. فصل: ويستحب أن يسمي الله تعالى على الوضوء لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه كان طهوراً لجميع بدنه" فإن نسي التسمية في أولها وذكرها في أثنائها أتى بها حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله عز وجل وإن تركها

عمداً أجزأه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لما مر عليه الماء ". فصل: ثم يغسل كفيه ثلاثاً لأن عثمان وعلياً كرم الله وجههما وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلا اليد ثلاثاً ثم ينظر فأن لم يقم من النوم فهو بالخيار إن شاء غمس يده ثم غسل وإن شاء أفرغ الماء على يده ثم غمس فإن قام من النوم فالمستحب أن لا يغمس يده حتى يغسلها لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده1" فإن خالف وغمس لم يفسد الماء لأن الأصل الطهارة فلا يزال اليقين بالشك. فصل: ثم يتمضمض ويستنشق والمضمضة أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه ثم يمجه والاستنشاق أن يجعل الماء في أنفه ويمده بنفسه إلى خياشيمه ثم يستنثر لما روى عمر بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ثم يستنشق ويستنثر إلا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء2" والمستحب أن يبالغ فيهما لقوله عليه الصلاة والسلام للقيط بن صبرة "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً3" ولا يستقصي في البالغة فيكون سعوطاً فإن كان صائماً لم يبالغ للخبر وهل يجمع بينهما أو يفصل قال في الأم يجمع لأن علي بن أبي طالب عليه السلام وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد وقال في البويطي: يفصل بينهما لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ولأن الفصل أبلغ في النظافة فكان أولى اختلف أصحابنا في كيفية الجمع والفصل فقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة واحدة فيتمضمض منها ثلاثاً ويستنشق منها ثلاثاً ويبدأ بالمضمضة وعلى رواية البويطي يغرف غرفة فيتمضمض منها ثلاثاً ثم يغرف غرفة أخرى فيستنشق منها ثلاثاً وقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة فيتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة

_ 1رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 87. أبو داود في كتاب الطهارة باب 49. الترمذي في كتاب الطهارة باب 19. النسائي في كتاب الطهارة باب 1 أحمد في مسنده "2/214،289" 2 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 294. أحمد في مسنده "4/112". 3 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 68. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 70 ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 44. أحمد في مسنده"4/33".

أخرى فيتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة ثالثة فيتمضمض منها ويستنشق فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق وعلى رواية البويطي يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق والأول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله لأنه قال يغرف غرفة لفيه وأنفه والثاني أصح لأنه أمكن فإن ترك المضمضة والاستنشاق جاز لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: توضأ كما أمرك الله وليس فيما أمر الله تعالى المضمضة ولا الاستنشاق ولأنه عضو باطن دون حائل معتاد فلا يجب غسله كالعين. فصل: ولا يغسل العين ومن أصحابنا من قال: يستحب غسلها لأن ابن عمر كان يغسل عينه حتى عمي والأول أصح لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً ولا فعلاً فدل على أنه ليس بمسنون ولأن غسلها يؤدي إلى الضرر. فصل: ثم يغسل وجهه وذلك فرض لقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} "المائدة:6] والوجه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن ومنتهى اللحيتين طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً والاعتبار بالمنابت المعتادة لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته ولا بمن نزل الشعر إلى جبهته وفي موضع التحذيف وجهان: قال أبو العباس: هو من الوجه لأنهم أنزلوه من الوجه وقال أبو إسحاق: هو من الرأس لأن الله عز وجل خلقه من الرأس فلا يصير وجهاً بفعل الناس فإن كان ملتحياً نظرت فإن كانت لحيته خفيفة لا تستر البشرة وجب غسل الشعر والبشرة للآية وإن كانت كثيفة تستر البشرة وجب إفاضة الماء على الشعر لأن المواجهة تقع به ولا يجب غسل ما تحته لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة وغسل بها وجهه وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر مع كثافة اللحية ولأنه باطن دونه حائل معتاد فهو كداخل الفم والأنف.

والمستحب أن يخلل لحيته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته فإن كان بعضها خفيفاً وبعضها كثيفاً غسل ما تحت الخفيف وأفاض الماء على الكثيف ولا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف في الوضوء إلا في خمسة مواضع: الحاجب والشارب والعنفقة والعذار واللحية الكثة للمرأة لأن الشعر في هذه المواضع يخف في العادة وإن كثف لم يكن إلا نادراً فلم يكن له حكم فإن استرسلت اللحية ونزلت عن حد الوجه ففيها قولان: أحدهما لا تجب إفاضة الماء عليها لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض فلم يكن محلاً للفرض كالذؤابة والثاني يجب لأنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه فأشبه شعر الخد. فصل: ثم يغسل يديه وهو فرض لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ويستحب أن يبدأ باليمنى ثم اليسرى لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم1" فإن بدأ باليسرى أجزأه لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ولو وجب الترتيب فيهما لما جمع بينهما ويجب إدخال المرفقين في الغسل لما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه وإن طالت أظافره وخرجت عن رؤوس الأصابع ففيه طريقان: قال أبو علي بن خيران يجب غسلها قولاً واحداً لأن ذلك نادر ومن أصحابنا من قال: فيه قولان كاللحية المسترسلة وإن كان له إصبع زائدة أو كف زائد لزمه غسلها لأنه في محل الفرض فإن كانت له يدان متساويتان على منكب أو مرفق لزمه غسلهما لوقوع اسم اليد عليهما وإن كانت إحاهما تامة والأخرى ناقصة فالتامة هي الأصلية وينظر في الناقصة فإن كانت خلقت على محل لزمه غسلها كالإصبع الزائدة وإن خلقت على العضد ولم تحاذ محل الفرض لم يلزمه غسلها وإن حاذت بعض محل الفرض وإن تقلع من الذراع وبلغ التقلع إلى العضد ثم تدلى منه لم يلزمه غسله لأنه صار من العضد وإن تقلع من العضد وتدلى منه لم يلزمه غسله لأن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 31. مسلم في كتاب الجنائز حديث 42 أبو داود في كتاب الجنائز باب 29. الترمذي في كتاب الجنائز باب 15. النسائي في كتاب الجنائز باب 31.

محل الفرض لأنه بمنزلة الجلد الذي على الذراع إلى العضد فإن كان ذلك متجافياً عن ذراعه لزمه غسل ما تحته وإن لم كان أقطع اليد لم يبق من محل الفرض شيء فلا فرض عليه والمستحب أن يمس ما بقي من اليد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة وإن لم يقدر الأقطع على الوضوء ووجد من يوضئه بأجهزة المثل لزمه كما يلزمه شراء الماء بثمن المثل وإن لم يجد صلى وأعاد كما لو لم يجد ماء ولا تراباً وإن توضأ ثم قطعت يده لم يلزمه غسل ما ظهر بالقطع من الحدث وكذلك لو مسح شعور رأسه ثم حلقه لم يلزمه مسح ما ظهر لأن ذلك ليس ببدل عما تحته فلم يلزمه بظهوره طهارة كما لو غسل يده ثم كشط جلده فإن أحدث بعد ذلك لزمه غسل ما ظهر بالقطع لأنه صار ظاهراً وإن حصل في يده ثقب لزمه غسل باطنه لأنه صار ظاهراً. فصل: ثم يمسح برأسه وهو فرض لقوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] والرأس ما اشتمل عليه منابت الشعر المعتاد والنزعتان منه لأنه في سمت الناصية والصدغ من الرأس لأنه من منابت شعره والواجب منه أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح وإن قل وقال أبو العباس بن القاص: أقله ثلاث شعرات كما نقول في الحلق في الإحرام والمذهب أنه لا يتقدر لأن الله تعالى أمر بالمسح وذلك يقع على القليل والكثير والمستحب أن يمسح جميع الرأس فيأخذ الماء بكفيه ثم يرسله ثم يلصق طرف سبابته بطرف سبابته الأخرى ثم يضعهما على مقدم رأسه ويضع إبهاميه على صدغيه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه لما روي أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما

إلى قفاه ولأن منابت شعر الرأس مختلفة ففي ذهابه يستقبل الشعر الذي على مقدم رأسه فيقع المسح على باطن الشعر دون ظاهره ولا يستقبل الشعر من مؤخر رأسه فيقع المسح على ظاهر الشعر فإذا رد يديه حصل المسح على ما لم يمسحه في ذهابه فإن كان عليه شعر فمسح ما نزل منها عن الرأس لم يجزه لأنه لا يقع عليها اسم الرأس وإن كان له شعر مسترسل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح أطرافه أجزأه لأن اسم الرأس يتناوله ومن أصحابنا من قال: لا يجزيه لأنه مسح على شعر في غير منبته فهو كطرف الذؤابة وليس بشيء وإن كان على رأسه عمامة ولم يرد نزعها مسح بناصيته والمستحب أن يتمم المسح بالعمامة لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته وعلى عمامته فإن اقتصر على مسح العمامة لم يجزه لأنها ليست برأس ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه فلا يجوز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليد. فصل: ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لما روى المقداد بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعين في جحري أذنيه ويكون ذلك بماء جديد غير الماء الذي مسح به الرأس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك مسبحتيه لأذنيه ولأنه عضو تميز عن الرأس في الاسم والخلقة فلا يتبعه في الطهارة كسائر الأعضاء قال في الأم والبويطي ويأخذ لصماخيه ماء جديداً غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه لأن الصماخ في الأذن كالفم والأنف في الوجه فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء فكذلك الصماخ فإن ترك مسح الأذن جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" وليس فيما أمر الله تعالى مسح الأذنين. فصل: ثم يغسل رجليه وهو فرض لما روى جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا ويجب إدخال الكعبين في الغسل لقوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] قال أهل التفسير: مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان عند

مفصل الساق والقدم والدليل عليه ما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه وقال: "أقيموا صفوفكم" فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه فدل على أن الكعب ما قلناه ويستحب أن يبدأ باليمنى قبل اليسرى لما ذكرناه في اليد فإن كانت أصابعه منفرجة فالمستحب أن يخلل بين أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة "خلل بين الأصابع1" وإن كانت ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل وجب التخليل لقوله صلى الله عليه وسلم: "خللوا بين أصابعكم لا يخلل الله بينها بالنار" والمستحب أن يغسل فوق المرفقين وفوق الكعبين لقوله صلى الله عليه وسلم "تأتي أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل2 ". فصل: والمستحب أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم عليه السلام" فإن اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه لقوله صلى الله عليه وسلم "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" فإن خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثاً جاز لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثم قال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " فصل: ويجب أن يرتب الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وحكى أبو العباس بن القاص قولاً آخر أنه إن نسي الترتيب جاز والمشهور هو الأول والدليل عليه قوله عز وجل {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] الآية

_ 1رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 69. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 91. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 54 الدارمي في كتاب الوضوء باب 34: أحمد في مسنده "4/211". 2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 47.

فأدخل المسح بين الغسلين وقطع النظر عن النظير فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة يرتبط بعضها ببعض فوجب فيها الترتيب كالصلاة والحج فإن غسل أربعة أنفس أعضاءه الأربعة دفعة واحدة لم يجزه إلا غسل الوجه لأنه لم يرتب وإن اغتسل وهو محدث من غير ترتيب ونوى الوضوء ففيه وجهان: أحدهما أنه يجزئه لأنه إذا جاز ذلك عن الحدث الأعلى فلأن يجوز عن الحدث الأدنى أولى والثاني لا يجزئه وهو الأصح لأنه أسقط ترتيباً واجباً بفعل ما ليس بواجب. فصل: ويوالي بين أعضائه وإن فرق تفريقاً يسيراً لم يضر لأنه لا يمكن الاحتراز منه وإن فرق تفريقاً كثيراً وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان: قال في القديم: لا يجزيه لأنه عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة وقال في الجديد: يجزيه لأنه عبادة لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة فإذا قلنا إنه يجوز فهل يلزمه استئناف النية؟ وفيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه لأنها انقطعت بطول الزمان والثاني لا يستأنف لأنه لم يقطع حكم النية فلم يلزمه الاستئناف. فصل: والمستحب لمن فرغ من الوضوء أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله خالصاً من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب الحنة يدخلها من أي باب شاء1" ويستحب أن يقول أيضاً سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ وقال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم

_ 1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 46. النسائي في كتاب الطهارة 108. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 57. الدارمي في كتاب المقدمة 19. أحمد في مسنده "4/94".

طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة" ويستحب لمن توضأ أن لا ينفض يده لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم". فصل: ويستحب أن لا ينشف أعضاءه من بلل الوضوء لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت: أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلاً من الجنابة فأتيته بالمنديل فرده ولأنه أثر عبادة فكان تركه أولى فإن تنشف جاز لما روى قيس بن سعد قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلاً فاغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية فالتحف بها فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه. فصل: والفرض مما ذكرناه ستة أشياء: النية وغسل الوجه وغسل اليدين ومسح بعض الرأس وغسل الرجلين والترتيب وأضاف إليه في القديم الموالاة فجعلها سبعاً وسننه إثنتا عشرة: التسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق وتخليل اللحية الكثة ومسح جميع الرأس ومسح الأذنين وإدخال الماء في صماخي أذنيه وتخليل أصابع الرجلين وتطويل الغرة والابتداء بالميامن والتكرار وزاد أبو العباس بن القاص مسح العنق بعد مسح الأذنين فجعلها ثلاث عشرة وزاد غيره أن يدعو على وضوئه فيقول عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه وعلى غسل اليد اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني بشمالي وعلى مسح الرأس اللهم حرم شعري وبشري على النار وعلى مسح الأذنين اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وعلى غسل الرجلين اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم فجعلها أربعة عشر وبالله التوفيق.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين يجوز المسح على الخفين في الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيت؟ فقال: "بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي" ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه فجاز المسح عليه كالجبائر ولا يجوز ذلك في غسل الجنابة لما روى صفوان بن عسال المرادي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا

إذا كنا مسافرين أو سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم ثم تحدث بعد ذلك وضوءاً ولأن غسل الجنابة يندر فلا تدعو الحاجة فيه إلى المسح على الخف فلم يجز. فصل: وهل هو مؤقت أم لا؟ فيه قولان: قال في القديم: غير مؤقت لما روى أبي بن عمارة قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخف؟ قال: نعم قلت: يوماً؟ قال ويومين قلت: وثلاثة؟ قال: "نعم وما شئت" وروي وما بدا لك وروي حتى بلغ سبعاً قال: نعم وما بدا لك ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الجبائر ورجع عنه قبل أن يخرج إلى مصر وقال يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من يوم وليلة للمقيم وإلى أكثر من ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر فلم تجز الزيادة عليه وإن كان السفر معصية لم يجز أن يمسح أكثر من يوم وليلة لأن ما زاد يستفيده بالسفر والسفر معصية فلا يجوز أن يستفاد به رخصة ويعتبر ابتداء المدة من حين يحدث بعد لبس الخف لأنها عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة. فصل: فإن لبس الخف في الحضر وأحدث ومسح ثم سافر أتم مسح مقيم لأنه بدأ بالعبادة في الحضر فلزمه حكم الحضر كما لو أحرم بالصلاة في الحضر ثم سافر وإن أحدث في الحضر ثم سافر ومسح في السفر قبل خروج وقت الصلاة أتم مسح مسافر من حين أحدث في الحضر لأنه بدأ بالعبادة في السفر فثبت له رخصة السفر وإن سافر بعد خروج وقت الصلاة ثم مسح ففيه وجهان قال أبو إسحاق: يتم مسح مقيم لأن خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في وجوب الإتمام فكذلك في المسح وقال أبو علي ابن أبي هريرة: يتم مسح مسافر لأنه تلبس بالمسح وهو مسافر فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت ويخالف الصلاة لأن الصلاة تفوت وتقضى فإذا فاتت في الحضر ثبتت في الذمة صلاة الحضر فلزمه قضاؤها والمسح لا يفوت ولا

يثبت في الذمة فصار كالصلاة قبل فوات الوقت وإن أحدث في السفر ومسح ثم أقام أتم مسح مقيم وقال المزني إن مسح يوماً وليلة مسح ثلث يومين وليلتين وهو ثلثا يوم وليلة لأنه لو مسح ثم أقام في الحال مسح ثلث ما بقي له وهو يوم وليلة فإذا بقي له يومان وليلتان وجب أن يمسح ثالثهما ووجه المذهب أنها عبادة تتغير بالسفر والحضر فإذا اجتمع فيها السفر والحضر غلب حكم الحضر ولم يقسط عليهما كالصلاة وإن شك هل مسح في الحضر أو في السفر بنى الأمر على أنه مسح في الحضر لأن الأصل غسل الرجلين والمسح رخصة بشرط فإذا لم يتقن شرط الرخصة رجع إلى أصل الفرض وهو الغسل وإن شك هل أحدث في وقت الظهر أو في وقت العصر بنى الأمر على أنه أحدث في وقت الظهر لأن الأصل غسل الرجلين فلا يجوز المسح إلا فيما تيقن وإن لبس خفيه فأحدث ومسح وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم شك هل كان مسحه قبل الظهر أو بعده بنى الأمر في الصلاة أنه صلاها قبل المسح فتلزمه الإعادة لأن الأصل بقاؤها في ذمته وبنى الأمر في المدة أنها من الزوال ليرجع إلى الأصل وهو غسل الرجلين. فصل: ويجوز المسح على كل خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه سواء كان من الجلود أو اللبد أو الخرق أو غيرها فأما الخف المخرق ففيه قولان: قال في القديم: إن كان الخرق لا يمنع متابعة المشي عليه جاز المسح عليه لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه فأشبه الصحيح وقال في الجديد: إن ظهر من الرجل شيء لم يجز المسح عليه لأن ما انكشف حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح والجمع بينهما لا يجوز فغلب حكم الغسل كما لو انكشف إحدى الرجلين واستترت الأخرى وإن تخرقت الظهارة فإن كانت البطانة صفيقة جاز المسح عليه وإن كانت تشف لم يجز لأنه كالمكشوف وإن لبس خفاً له شرج في موضع القدم فإن كان مشدوداً بحيث لا يظهر شيء من الرجل واللفافة إذا مشي فيه جاز المسح عليه وإن لبس جورباً جاز عليه المسح عليه بشرطين: أحدهما أن يكون صفيفاً لا يشف والثاني أن يكون منعلاً فإن اختل أحد هذين الشرطين لم يجز المسح عليه وإن لبس خفاً لا يمكن متابعة المشي عليه إما لرقته أو لثقله لم يجز

المسح عليه لأن الذي تدعو الحاجة إليه ما يمكن متابعة المشي عليه وما سواه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة وفي الجرموقين وهو الخف الذي يلبس فوق الخف وهما صحيحان قولان: قال في القديم: والأصلي يجوز المسح عليه لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه فأشبه المنفرد وقال في الجديد: لا يجوز لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب وإنما تدعو الحاجة إليه في النادر فلا تتعلق به رخصة عامة كالجبيرة فإن قلنا بقوله الجديد وأدخل يده في ساق الجرموق ومسح على الخف ففيه وجهان: قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني رحمه الله: لا يجوز وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري: يجوز لأنه مسح على ما يجوز المسح عليه فأشبه إذا نزع الجرموق ثم مسح عليه فإذا قلنا يجوز المسح على الجرموق فلم يمسح عليه وأدخل يده إلى الخف ومسح عليه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يجوز المسح على الظاهر فإذا أدخل يده ومسح على الباطن لم يجز كما لو كان في رجله خف منفرد فأدخل يده إلى باطنه ومسح الجلد الذي يلي الرجل والثاني يجوز لأن كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح على ما شاء منهما وإن لبس خفاً مغصوباً ففيه وجهان: قال ابن القاص: لا يجوز المسح عليه لأن لبسه معصية فلم تتعلق به رخصة وقال سائر أصحابنا: يجوز لأن المعصية لا تختص باللبس فلم تمنع صحة العبادة كالصلاة في الدار المغصوبة. فصل: ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة فإن غسل إحدى الرجلين وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها الخف لم يجز المسح عليه حتى يخلع ما لبسه قبل كمال الطهارة ثم يعيده إلى رجله والدليل عليه ما روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما فإن لبس الخفين على طهارة ثم أحدث ثم لبس الجرموقين لم يجز المسح عليه قولاً واحداً لأنه لبس الجرموقين على غير طهارة وإن مسح على الخفين ثم لبس الجرموقين ثم أحدث وقلنا يجوز المسح على الجرموقين ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز المسح عليه لأن المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فكأنه لبس على حدث والثاني يجوز لأن مسح الخف قائم مقام غسل الرجلين وإن تطهر فلبس خفيه فأحدث قبل أن تبلغ الرجل إلى قدم الخف لم يجز له المسح نص عليه في الأم لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ باللبس وهو محدث. فصل: وإذا توضأت المستحاضة ولبست الخفين ثم أحدثت حدثاً غير حدث الاستحاضة ومسحت على الخفين جاز لها أن تصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاءت من

النوافل وإن تيمم المحدث ولبس الخف ثم وجد الماء لم يجز له المسح على الخف لأن التيمم طهارة ضرورة فإذا زالت الضرورة بطلت من أصلها فتصير كما لو لبس الخف على حدث وقال أبو العباس بن سريج: يصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاء من النوافل كالمستحاضة. فصل: والمستحب أن يمسح أعلى الخف وأسفله فيغمس يديه في الماء ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف وكفه اليمين على أطراف أصابعه ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه لما روى المغيرة بن شعبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله وهل يمسح على عقب الخف؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: يمسح عليه قولاً واحداً لأنه خارج من الخف يلاقي محل الفرض فهو كغيره ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يمسح عليه وهو الأصح لما ذكرناه والثاني لا يمسح لأنه صقيل وبه قوام الخف فإذا تكرر المسح عليه بلي وخلق وأضر به وإن اقتصر على مسح القليل من أعلى الخف أجزأه لأن الخبر ورد بالمسح وهذا يقع عليه اسم المسح فإن اقتصر على مسح ذلك من أسفله ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجزيه لأنه خارج من الخف محاذ محل الفرض فهو كأعلاه وقال أبو العباس بن سريج لا يجزيه وهو المنصوص في البويطي وهو ظاهر ما نقله المزني. فصل: إذا مسح على الخف ثم خلعه أو انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح قال في الجديد: يغسل قدميه وقال في القديم: يستأنف الوضوء واختلف أصحابنا في القولين: فقال أبو إسحاق هي مبينية على القولين في تفريق الوضوء فإن قلنا يجوز التفريق كفاه غسل القدمين وإن قلنا لا يجوز التفريق لزمه استئناف الوضوء وقال سائر أصحابنا: القولان أصل في أنفسهما أحدهما يكفيه غسل القدمين لأن المسح قائم مقام غسل القدمين فإذا بطل المسح عاد إلى ما قام المسح مقامه كالتيمم إذا رأى الماء والثاني يلزمه استئناف الوضوء لأن ما أبطل بعض الوضوء أبطل جميعه كالحدث فإن مسح على خفيه ثم أخرج الرجلين من قدم الخف إلى الساق لم يبطل المسح على المنصوص لأنه لم تظهر الرجل من الخف وقال القاضي أبو حامد في جامعه: يبطل

وهو اختبار شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأن استباحة المسح تتعلق باستقرار القدم في الخف ولهذا لو بدأ باللبس فأحدث قبل أن تبلغ الرجل إلى قدم الخف ثم أقرها لم يجز المسح عليه وإن مسح على الجرموق فوق الخف وقلنا يجوز المسح عليه ثم نزع الجرموق في أثناء المدة ففيه ثلاث طرق: أحدها أن الجرموق كالخف المنفرد فإذا نزعه كان على قولين: أحدهما يستأنف الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويمسح على الخفين والثاني لا يستأنف الوضوء فعلى هذا يكفيه الوضوء والمسح على الخفين والطريق الثاني إن نزع الجرموق لا يؤثر لأن الجرموق مع الخف تحته بمنزلة الظهارة مع البطانة ولو تعلقت الظهارة بعد المسح لم يؤثر في طهارته والطريق الثالث أن الجرموق فوق الخف كالخف فوق اللفافة فعلى هذا إذا نزع الجرموق نزع الخف كما ينزع اللفافة وهل يستأنف الوضوء أم يقتصر على غسل الرجلين فيه قولان.

باب الأحداث التي تنقض الوضوء

باب الأحداث التي تنقض الوضوء والأحداث التي تنقض الوضوء خمسة: الخارج من السبيلين والنوم والغلبة على العقل بغير النوم ولمس النساء ومس الفرج فأما الخارج من السبيلين فإنه ينقض الوضوء لقوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} "المائدة:6] ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا وضوء إلا من صوت أو ريح1" فإذا انسد المخرج المعتاد وانفتح دون المعدة مخرج انتقض الوضوء بالخارج منه لأنه لا بد للإنسان من مخرج يخرج منه البول والغائط فإذا انسد المعتاد صار

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 56. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 74.

هذا هو المخرج فانتقض الوضوء بالخارج منه وإن انفتح فوق المعدة ففيه قولان: أحدهما ينتقض الوضوء بالخارج منه لما ذكرناه وقال في حرملة: لا ينتقض لأنه في معنى القيء وإن لم ينسد المعتاد وانفتح فوق المعدة لم ينتقض الوضوء بالخارج منه وإن كان دون المعدة ففيه وجهان: أحدهما لا ينتقض الوضوء بالخارج منه لأن ذلك كالجائفة فلا ينتقض الوضوء بما يخرج منه والثاني ينتقض لأنه مخرج يخرج منه الغائط فهو كالمعتاد وإن أدخل في إحليله مسباراً وأخرجه أو زرق فيه شيئاً وخرج منه انتقض وضوءه. فصل: وأما النوم فينظر فيه فإن وجد منه وهو مضطجع أو مكب أو متكئ انتقض وضوؤه لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ1" وإن وجد منه وهو قاعد ومحل الحدث متمكن من الأرض فإنه قال في البويطي ينتقض وضوؤه وهو اختيار المزني لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ما نقض الوضوء في حال الاضطجاع نقضه في حال القعود كالأحداث والمنصوص في الكتب أنه لا ينتقض وضوؤه لما روى أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون قعوداً ثم يصلون ولا يتوضئون وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نام جالساً فلا وضوء عليه ومن وضع جنبيه فعليه الوضوء" ويخالف الأحداث فإنها تنقض الوضوء لعينها والنوم ينقض لأنه يصحبه خروج الخارج وذلك لا يحسب به إذا نام زائلاً عن مستوى الجلوس ويحس به إذا نام جالساً وإن نام راكعاً أو ساجداً أو قائماً في الصلاة ففيه قولان: قال في الجديد لا ينتقض وضوؤه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته يقول عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي" فلو انتقض وضوءه لما جعله ساجداً. فصل: وأما زوال العقل بغير النوم فهو أن يجن أو يغمى عليه أو يسكر أو يمرض فيزول عقله فينتقض وضوؤه لأنه إذا انتقض الوضوء بالنوم فلأن ينتقض بهذه الأسباب

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 79. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 62 الدارمي في كتاب الوضوء باب 48. أحمد في مسنده "4/97".

أولى ولا فرق في ذلك بين القاعد وغيره ويخالف النوم فإن النائم إذا كلم تكلم وإذا نبه تنبه فإذا خرج منه الخارج وهو جالس أحس به بخلاف المجنون والسكران قال الشافعي رحمه الله: قد قيل إنه قل من يجن إلا وينزل فالمستحب أن يغتسل احتياطاً. فصل: وأما لمس النساء فإنه ينقض الوضوء وهو أن يلمس الرجل بشرة المرأة أو المرأة بشرة الرجل بلا حائل بينهما فينتقض وضوء اللامس منهما لقوله عز وجل {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} "النساء:43] وفي الملموس قولان: أحدهما ينتقض وضوؤه لأنه لمس بين الرجل والمرأة ينقض طهر اللامس فينقض طهر الملموس كالجماع وقال في حرملة: لا ينتقض لأن عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه فلما فرغ من صلاته قال: أتاك شيطانك ولو انتقض طهره لقطع الصلاة ولأنه لمس ينقض الوضوء فنقض طهر اللامس دون الملموس كما لو لمس ذكر غيره وإن لمس شعرها أو ظفرها لم ينتقض الوضوء لأنه لا يلتذ بمسه وإنما يلتذ بالنظر إليه وإن لمس ذات رحم محرم ففيه قولان: أحدهما ينتقض وضوؤه للآية والثاني لا ينتقض لأنها ليست بمحل لشهوته فأشبه لمس الرجل والمرأة المرأة وإن لمس صغيرة لا تشتهى أو عجوزاً لا تشتهى ففيه وجهان: أحدهما ينتقض لعموم الآية والثاني لا ينتقض لأنه لا يقصد بلمسها الشهوة فأشبه الشعر. فصل: وأما مس الفرج فإنه إن كان ببطن الكف نقض الوضوء لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ1" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون" قالت عائشة رضي الله عنها الله عنها: بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء قال: "إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ" وإن كان بظهر الكف لم ينتقض الوضوء لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة2". والإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه فهو كما لو أولج الذكر في غير الفرج فإن مس بما بين الأصابع ففيه وجهان: المذهب أنه لا ينتقض لأنه

_ 1رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 9. أبو داود في كتاب الطهارة باب 69. الترمذي في كتاب الطهارة باب 61. النسائي في كتاب الطهارة باب17. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 63. الدارمي في كتاب الوضوء باب 50. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 60، 61. أحمد في مسنده "2/273". 2 رواه أحمد في مسنده "2/ 223".

ليس بباطن الكف والثاني ينتقض لأن خلقته خلقة الباطن وإن مس حلقه الدبر انتقض وضوؤه وحكى ابن القاص قولاً أنه لا ينتقض وهو غير مشهور ووجهه أنه لا يلتذ بمسه والدليل على أنه ينتقض أنه أحد السبيلين فأشبه القبل وإن انسد المخرج المعتاد انفتح دون المعدة مخرج فمسه ففيه وجهان: أحدهما لا ينتقض لأنه ليس بفرج والثاني ينتقض لأنه سبيل للحدث فأشبه الفرج وإن مس فرج غيره من صغير أو كبير أو حي أو ميت انتقض وضوؤه لأنه إذا انتقض بمس ذلك من نفسه ولم يهتك به حرمته فلأن ينتقض بمس ذلك من غيره وقد هتك حرمته أولى وإن مس ذكراً مقطوعاً ففيه وجهان: أحدهما لا ينتقض وضوؤه كما لو مس يداً مقطوعة من امرأة والثاني ينتقض لأنه قد وجد مس الذكر ويخالف اليد المقطوعة فإنه لم يوجد لمس المرأة وإن مس فرج بهيمة لم يجب الوضوء وحكى ابن عبد الحكيم قولاً آخر أنه يجب الوضوء وليس بشيء لأن البهيمة لا حرمة لها ولا تعبد عليها وإن مس الخنثى المشكل فرجه أو ذكره أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض الوضوء حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض الوضوء وكذا لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما لأن الطهارة متيقنة فلا يزال ذلك بالشك. فصل: وما سوى هذه الأشياء الخمسة لا ينقض الوضوء كدم الفصد والحجامة

والقيء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه وكذلك أكل شيء من اللحوم لا ينقض الوضوء وحكى ابن القاضي قولاً آخر أن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء وليس بمشهور والدليل على أنه لا ينقض الوضوء ما روى جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار ولأنه إذا لم ينتقض الوضوء بأكل لحم الخنزير وهو حرام فلأن لم ينتقض بغيره أولى وكذلك لا ينتقض الطهر بقهقهة المصلي لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء" والمستحب أن يتوضأ من الضحك في الصلاة ومن الكلام القبيح لما روى عن عبد الله بن مسعد رضي الله عنه أنه قال: لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب وقالت عائشة رضي الله عنها الله عنها: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة العوراء وقال ابن عباس: الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وأشدهما حدث اللسان. فصل: ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة لأن الطهارة يقين فلا يزال ذلك بالشك وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على يقين الحدث لأن الحدث يقين فلا يزال بالشك وإن تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما نظر فإن كان قبلهما طهارة فهو الآن محدث لأنه قد تيقن أن الطهارة قبلهما ورد عليها حدث فأزالها وهو يشك هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده أم لا فلا يزال يقين الحدث بالشك وإن كان قبلهما حدث فهو الآن متطهر لأنه قد تيقن أن الحدث قبلهما قد ورد عليه طهارة فأزالته وهو يشك هل ارتفعت هذه الطهارة بحدث بعدها أم لا فلا يزال يقين الطهارة بالشك وهذا كما تقول في رجل أقام بينة بدين وأقام المدعي عليه بينة بالبراءة فإنا نقدم بينة البراءة لأنا تيقنا أن البراءة وردت على دين واجب فأزالته ونحن نشك هل اشتغلت ذمته بعد البراءة بدين بعدها فلا نزيل يقين البراءة بالشك. فصل: إذا أحدث حرمت عليه الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" 1 ويحرم عليه الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة2" إلا أن الله تعالى أباح فيه

_ 1 رواه النسائي في كتاب الطهارة باب 117. أحمد في مسنده "2/223" "6/407". 2 رواه النسائي في كتابالمناسك باب 136. الدارمي في كتاب المناسك باب 32. أحمد في مسنده "3/414" 4/64".

الكلام ويحرم عليه مس المصحف لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ولما روى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر1" ويحرم عليه حمله في كمه لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله وهو في الهتك أبلغ أولى ويجوز أن يتركه بين يديه ويتصفح أوراقه بخشبة لأنه غير مباشر له ولا حامل له وهل يجوز للصبيان حمل الألواح وهم محدثون؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز لغيرهم والثاني يجوز لأن طهارتهم لا تنحفظ وحاجتهم إلى ذلك ماسة وإن حمل رجل متاعاً وفي جملته مصحف وهو محدث جاز لأن القصد نقل المتاع فعفى عما فيه من القرآن كما لو كتب كتاباً إلى دار الشرك وفيه آيات من القرآن وإن حمل كتاباً من كتب الفقه وفيه آيات من القرآن أو حمل الدراهم الأحدية أو الثياب التي طرزت بآيات من القرآن ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يحمل القرآن والثاني يجوز لأن القصد منه غير القرآن وإن كان على موضع من بدنه نجاسة فمس المصحف بغيره جاز وقال القاضي أبو القاسم الصيمري رحمه الله: لا يجوز كما لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف بظهره وإن كانت الطهارة تجب في غيره وهذا لا يصح لأن حكم الحدث يتعدى وحكم النجاسة لا يتعدى محلها.

باب الاستطابة

باب الاستطابة إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله عز وجل فالمستحب له أن ينحيه لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه وإنما وضعه لأنه كان عليه محمد رسول الله ويستحب أن يقول إذا دخل الخلاء باسم الله لقوله صلى الله عليه وسلم "ستر ما بين عورات أمتي وأعين الجن باسم الله" ويستحب أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال ذلك ويقول إذا خرج

_ 1 رواه الدارمي في كتاب الطلاق باب 3. الموطأ في كتاب مس القرآن حديث 1.

غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني لما روى أبو داود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" وروت عائشة رضي الله عنها الله عنها قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط إلا قال: "غفرانك" ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى وفي الخروج رجله اليمنى لأن اليسار للأذى واليمنى لما سواه وإن كان في الصحراء أبعد لما روى المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد ويستتر عن العيون بشيء لما روى أبو هريرة رضي اللهى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستتر به ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول1" ويجوز ذلك في البنيان لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنه أن ناساً كانوا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وقد فعلوها حولوا بمقعدتي إلى القبلة" ولأن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن يصلون فيستقبلهم بفرجه وليس في البنيان ذلك ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ويرتاد موضعاً للبول فإن كانت الأرض صلبة دقها بعود أو حجر حتى

_ 1 رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 59، 60. البخاري في كتاب الصلاة 29. أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. الترمذي في كتاب الطهارة باب 6. 18، 19. الموطأ في كتاب القبلة حديث 1.

لا يترشش عليه البول لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله" ويكره أن يبول قائماً من غير عذر لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه ولا يكره ذلك للعذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً لعلة بمأبضيه ويكره أن يبول في ثقب أو سرب لما روي عن عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في جحر ولأنه خرج منه ما يلسعه أو يرد عليه البول ويكره أن يبول في الطريق والظل والموارد لما روى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل1" ويكره أن يبول في مساقط الثمار لأنه يقع عليه فينجس ويكره أن يتكلم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله تبارك وتعالى يمقت على ذلك2" ويكره أن يرد السلام أو يحمد الله إذا عطس أو يقول مثل ما يقول المؤذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال: كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر والمستحب أن يتكئ على رجله اليسرى لما روى سراقة بن مالك رحمه الله تعالى قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسار ولأنه أسهل في قضاء الحاجة ولا يطيل القعود لما روي عن لقمان عليه السلام أنه قال: طول القعود على الحاجة ييجع

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 14. ابن ماجه في كتاب الطهارة 31. أحمد في مسنده "1/299". 2 رواه أحمد في مسنده "3/36".

منه الكبد ويأخذ منه الباسور فاقعد هويناً واخرج وإذا بال تنحنح حتى يخرج إن كان هناك شيء ويمسح ذكره من مجامع العروق ثم ينتره والمستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لما روى عبدا لله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فإن عامة الوسواس منه1" فصل: والاستنجاء واجب من البول والغائط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليستنج بثلاثة أحجار2" ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالباً فلم تصح الصلاة معها كسائر النجاسات وإن خرجت منه حصاة أو دودة لا رطوبة معها ففيه قولان: أحدهما يجب الاستنجاء لأنه لا تخلو من رطوبة والثاني لا يجب وهو الأصح لأنه خارج من غير رطوبة فأشبه الريح ويستنجي قبل أن يتوضأ فإن توضأ ثم استنجى صح الوضوء وإن تيمم ثم استنجى لم يصح التيمم قال الربيع فيه قول آخر أنه يصح قال أبو إسحاق: هو من كيسه والأول هو المنصوص عليه في الأم ووجهه أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة من نجاسة النجو فلا تستباح مع بقاء المانع ويخالف الوضوء فإنه يرفع الحدث فجاز أن يرفع الحدث والمانع قائم وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء ففيه وجهان: أحدهما أنه كنجاسة النجو

_ 1رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الطهارة حديث 94-96. أبو داود في كتاب الطهارة باب 36. الترمذي في كتاب الطهارة باب 51. 2 رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 58. النسائي في كتاب الطهارة باب 41. أحمد في مسنده "5/437، 438".

والثاني أنه يصح التيمم لأن التيمم لا تستباح به الصلاة من هذه النجاسة فصح فعله مع وجودها بخلاف نجاسة النجو وإن أراد الاستنجاء نظرت فإن كانت النجاسة بولاً أو غائطاً ولم تجاوز الموضع المعاتد جاز بالماء والحجر والأفضل أن يجمع بينهما لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء فقال فيهم {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون فقالوا: نتبع الحجارة الماء فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه أبلغ في الإنقاء وإن اقتصر على الحجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر رضي الله عنه خلفه بكوز من ماء فقال: "ما هذا يا عمر"؟ فقال: ماء تتوضأ به قال: "ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ ولو فعلت لكان سنة" ولأنه قد يبتلى بالخارج في موضع لا يلحق الماء فيه فسقط وجوبه وإن أراد الاقتصار على الحجر لزمه أمران: أحدهما أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء والثاني أن يستوفي ثلاث مسحات لما روي أن رجلاً قال لسلمان رضي اله عنه: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال: أجل نهانا أن نجترئ بأقل من ثلاثة أحجار فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه لأن القصد عدد المسحات وقد وجد ذلك وفي كيفية الاستنجاء بالحجر وجهان: قال أبو علي ابن أبي هريرة رضي الله عنه: يضع حجراً على مقدم صفحته اليمنى ويمرها إلى آخرها ثم يدير الحجر إلى الصفحة اليسرى ويمره عليها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه ويأخذ الثاني فيمره على الصفحة اليسرى ويمره إلى آخرها ثم يديره إلى الصفحة اليمنى فيمره عليها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه ويأخذ الثالث فيمره على الصفحتين والمسربة لقوله صلى الله عليه وسلم: يقبل بواحد ويدبر بآخر ويحلق بالثالث وقال أبو إسحاق: يمر حجراً على الصفحة اليمنى وحجراً على الصفحة اليسرى وحجراً على المسربة لقوله صلى الله عليه وسلم: أو لا يجد ثلاثة أحجار حجرين للصفحتين وحجراً للمسربة والأول أصح لأنه يمر كل حجر على المواضع الثلاثة ولا يجوز أن يستنجي بيمينه ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى فإن يستنجي بغير الماء أخذ ذكره بيسراه ومسحه

على ما يستنجي به من أرض أو حجر فإن كان الحجر صغيراً غمز عقبه عليه أو مسكه بين إبهامي رجليه ومسح ذكره عليه بيساره وإن كان يستنجي بالماء صب الماء بيمينه ومسحه بيساره فإن خالف واستنجى بيمينه أجزأه لأن الاستنجاء يقع بما في اليد لا باليد فلم يمنع صحته. فصل: ويجوز الإستنجاء بالحجر وما يقوم مقامه قال أصحابنا: يقوم مقامه كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان فأما غير الماء من المائعات فلا يجوز الإستنجاء به لأنه ينجس بملاقاة النجاسة فيزيد في النجاسة وما ليس بطاهر كالروث والحجر النجس لا يجوز الإستنجاء به لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالروث ولأنه نجس فلا يستنجي به كالماء النجس فإن استنجى بذلك لزمه بعد ذلك أن يستنجي بالماء لأن الموضع قد صار نجساً بنجاسة نادرة فوجب غسله بالماء ومن أصحابنا من قال يجزي فيه الحجر لأنها نجاسة فلم يؤثر وما لا يزيل العين لا يجوز به الاستنجاء كالزجاج والحممة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإستنجاء بالحممة ولأن ذلك لا يزيل النجو وما له حرمة من المطعومات كالخبز والعظم لا يجوز به الاستنجاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإستنجاء بالعظم وقال: "هو زاد إخوانكم من الجن" فإن خالف واستنجى به لم يجزئه لأن الاستنجاء بغير الماء رخصة والرخصة لا تتعلق بالمعاصي وما هو جزء من الحيوان كذنب حمار يجوز الإستنجاء به ومن أصحابنا من قال يجوز والأول أصح لأنه جزء من حيوان فلم يجز الإستنجاء به كما لو استنجى بيده ولأن له حرمة فهو كالطعام وإن استنجى بجلد مدبوغ ففيه قولان: قال في حرملة: لا يجوز لأنه كالرمة وقال في الأم: يجوز لأنه إن كان ليناً فهو كالخرق وإن استنجى بجلد حيوان مأكول اللحم مذكى غير مدبوغ ففيه قولان: قال في الأم: وحرملة لا يجوز لأنه لا

يقلع النجو لزوجته وقال في البويطي: يجوز والأول هو المشهور فصل: وإن جاوز الخارج الموضع المعتاد فإن كان غائطاً فخرج إلى ظاهر الألية لم يجز فيه إلا الماء لأن ذلك نادر فهو كسائر النجاسات: وإن خرج إلى باطن الألية ولم يخرج إلى ظاهرها ففيه قولان: أحدهما أنه لا يجزئ فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كما لو خرج إلى ظاهر الألية والثاني يجزئ فيه الحجر لأن المهاجرين رضي الله عنهم هاجروا إلى المدينة فأكلوا التمر ولم يكن ذلك عادتهم ولا شك أنه رقت بذلك أجوافهم ولم يؤمروا بالاستنجاء بالماء ولأن ما يزيد على المعتاد لا يمكن ضبطه فجعل الباطن كله حداً ووجب الماء فيما زاد وإن كان بولاً ففيه طريقان: قال أبو إسحاق: إذا جاوز مخرجه حتى رجع على الذكر أعلاه أو أسفله لم يجز فيه إلا الماء لأن ما يخرج من البول لا ينتشر إلا نادراً بخلاف ما يخرج من الدبر فإنه لا بد من أن ينتشر ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز فيه إلا الماء نص عليه في البويطي ووجهه ما قال أبو إسحاق والثاني أنه يجوز فيه الحجر ما لم يجاوز موضع الحشفة نص عليه في الأم لأنه لما جاز الحجر في الغائط ما لم يجاوز باطن الألية لتعذر الضبط وجب أن يجوز في البول ما لم يجاوز الحشفة لتعذر الضبط وإن كان الخارج نادرا كالدم والمذي والودي أو دوداً أو حصاة وقلنا إنه يجب منه الإستنجاء فهل يجزئ فيه الحجر أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كالبول والغائط وقد بيناهما والثاني: لا يجزئ فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كسائر النجاسات.

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل

والذي يوجب الغسل: إيلاج الحشفة في الفرج وخروج المني والحيض والنفاس فأما إيلاج الحشفة فإنه يوجب الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى الختانان وجب الغسل1" والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة في الفرج وذلك أن ختان الرجل هو الجلد الذي يبقى بعد الختان وختان المرأة جلدة كعرف الديك فوق الفرج فتقطع منها في الختان فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها فإذا تحاذيا فقد التقيا ولهذا يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضاما فإن أولج في فرج امرأة ميتة وجب عليه الغسل لأنه فرج آدمية فأشبه فرج الحية وإن أولج في دبر امرأة أو رجل أو بهيمة وجب عليه الغسل لأنه فرج حيوان فأشبه فرج المرأة وإن أولج في دبر خنثى مشكل وجب عليه الغسل وإن أولج في فرجه لم يجب لجواز أن يكون ذلك عضواً زائداً فلا يجب الغسل بالشك. فصل: وأما خروج المني فإنه يوجب الغسل على الرجل والمرأة في النوم واليقظة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الماء من الماء2" وروت

_ 1 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 88. البخاري في كتاب الغسل باب 28. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. الترمذي في كتاب الطهارة باب 80. النسائي في كتاب الطهارة باب 128 أحمد في مسنده "2/178" "6/47، 97". 2 رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 81 أبو داود في كتاب الطهارة باب 131. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 110. أحمد في مسنده "3/29".

أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ "قال نعم إذا رأت الماء" فإن احتلم ولم ير المني أو شك هل خرج المني لم يلزمه الغسل وإن رأى المني ولم يذكر احتلاماً لزمه الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام قال: يغتسل وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل قال: "لا غسل عليه" وإن رأى المني في فراش نام فيه هو وغيره لم يلزمه الغسل لأن الغسل لا يجب بالشك والأولى أن يغتسل وإن كان لا ينام فيه غيره لزمه الغسل وإعادة الصلاة من آخر يوم نام فيه ولا يجب الغسل من المذي وهو الماء الذي يخرج بأدنى شهوة لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: كنت رجلاً مذاء فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا نضحت الماء فاغتسل1" ولا من الودي وهو ما يقطر منه عند البول لأن الإيجاب بالشرع ولم يرد بالشرع إلا في المني فإذا خرج منه ما يشبه المني والمذي ولم يتميز له فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يجب عليه الوضوء منه لأن وجوب غسل الأعضاء متيقن وما زاد على أعضاء الوضوء مشكوك في وجوبه فلا يجب بالشك ومنهم من قال: هو مخير بين أن يجعله منياً فيجب الغسل منه وبين أن يجعله مذياً فيجب الوضوء وغسل الثوب منه لأنه يحتمل الأمرين احتمالاً واحداً وقال الشيخ الإمام أحسن الله توفيقه: وعندي أنه يجب أن يتوضأ مرتباً ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه لأنا إذا جعلناه منياً أوجبنا عليه غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك والأصل عدمه وإن جعلناه مذياً أوجبنا عليه غسل الثوب والترتيب

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 82. النسائي في كتاب الطهارة باب 129. أحمد في مسنده "1/125".

في الوضوء بالشك والأصل عدمه وليس أحد الأصليين أولى من الآخر ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة والتخيير لا يجوز لأنه إذا جعله مذياً لم يأمن من أن يكون منياً فلم يغتسل له وإن جعله منياً لم يأمن أن يكون مذياً ولم يغسل الثوب منه ولم يرتب الوضوء منه واجب أن يجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين. فصل: وأما الحيض فإنه يوجب الغسل لقوله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222] الآية قيل في التفسير هو الاغتسال ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي1" وأما دم النفاس فإنه يوجب الغسل لأنه حيض مجتمع ولأنه يحرم الصوم والوطء ويسقط فرض الصلاة فأوجب الغسل كالحيض وأما إذا ولدت المرأة ولداً ولم تر دماً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليها الغسل لأن الولد مني منعقد والثاني: لا يجب لأنه لا يسمى منياً وإن استدخلت المرأة المني ثم خرج منها لم يلزمها الغسل. فصل: وإن أسلم الكافر ولم يجب عليه غسل في حال الكفر فالمستحب أن يغتسل لما روي أنه أسلم قيس بن عاصم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ولا يجب ذلك لأنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وإن وجب عليه غسل في حال الكفر ولم يغتسل لزمه أن يغتسل وإن كان قد اغتسل في حال الكفر فهل يجب عليه إعادته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجب الإعادة لأنه غسل صحيح بدليل أنه تتعلق به إباحة الوطء في حق الحائض إذا طهرت فلم تجب إعادته كغسل المسلم والثاني تجب الإعادة وهو الأصح لأنه عبادة محضة فلم تصح من الكافر في حق الله تعالى كالصوم والصلاة. فصل: ومن أجنب حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله لأنا دللنا على أن ذلك يحرم على المحدث فلأن يحرم على الجنب أولى ويحرم عليه قراءة القرآن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن2" ويحرم عليه اللبث في المسجد ولا يحرم عليه العبور لقوله عز وجل:

_ 1رواه البخاري في كتاب الحيض باب 19. مسلم في كتاب الحيض حديث 62. أبو داود في كتاب الطهارة باب 108. الترمذي في كتاب الطهارة باب 93. النسائي في كتاب الطهارة باب 133. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 104. 2 رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 98. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 10.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: من الآية43] وأراد موضع الصلاة وقال في البويطي: ويكره له أن ينام حتى يتوضأ لما روي أن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد" قال أبو علي الطبري: وإذا أراد أن يطأ أو يأكل أو يشرب توضأ ولا يستحب ذلك للحائض لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ويؤثر في حدث الجنابة لأنه يخففه ويزيله عن أعضاء الوضوء.

باب صفة الغسل

باب صفة الغسل إذا أراد الرجل أن يغتسل من الجنابة فإنه يسمي الله عز وجل وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة أمر لا يستباح إلا بالغسل كقراءة القرآن والجلوس في المسجد ويغسل كفيه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء ثم يغسل ما على فرجه من الأذى ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه العشر في الماء فيغرف بها غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ثم يفيض الماء على سائر جسده ويمر يديه على ما قدر عليه من بدنه ثم يتحول من مكانه ثم يغسل قدميه لأن عائشة وميمونة رضي الله عنهما وصفتا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك والواجب من ذلك ثلاثة أشياء: النية وإزالة النجاسة - إن كانت - وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته وما زاد على ذلك سنة لما روى جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثاً ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي" وإن كانت امرأة تغتسل من الجنابة كان غسلها كغسل الرجل فإن كان لها ضفائر فإن كان الماء يصل إليها من غير نقض لم يلزمها نقضها لأن أم سلمة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للغسل من الجنابة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا إنما يكفيك أن

تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" وإن لم يصل إليها الماء إلا بنقضها لزمها نقضها لأن إيصال الماء إلى الشعر والبشرة واجب وإن كانت تغتسل من الحيض فالمستحب لها أن تأخذ فرصة من المسك فتتبع بها أثر الدم لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنها أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض فقال: "خذي فرصة من مسك فتطهري بها" فقالت كيف أتطهر بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله تطهري بها" قالت عائشة رضي الله عنها قلت تتبعي بها أثر الدم فإن لم تجد مسكاً فطيباً غيره لأن القصد تطييب الموضع فإن لم تجد فالماء كاف ويستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع ولا في الوضوء عن مد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد فإن أسبغ بما دونه أجزأه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بما لا يبل الثرى قال الشافعي رحمه الله: وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي. فصل: ويجوز أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ويجوز أن يتوضأ أحدهما بفضل وضوء الآخر لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت: أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه فقلت إني قد اغتسلت منه فقال "الماء ليس عليه جنابة" واغتسل منه. فصل: فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجب الغسل ويدخل فيه

الوضوء وهو المنصوص في الأم لأنهما طهارتان فتدخلتا كغسل الجنابة وغسل الحيض والثاني أنه يجب عليه الوضوء والغسل لأنهما حقان مختلفان يجبان بسببين مختلفين فلم يتداخل أحدهما في الأخر كحد الزنا والفرقة والثالث أنه يجب عليه أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر البدن لأنهما متفقان في الغسل ومختلفان في الترتيب فما اتفقا فيه تداخلا وما اختلفا فيه لم يتدخلا قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه: وسمعت شيخنا أبا حاتم القزويني رحمه الله يحكي فيه وجهاً رابعاً أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما ووجهه أنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة فإن توضأ من الحديث ثم ذكر أنه كان جنباً أو اغتسل من الحدث ثم ذكر أنه كان جنباً أجزأه ما غسل من الحدث عن الجنابة لأن فرض الغسل في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحد وبالله التوفيق.

باب التيمم

باب التيمم يجوز التيمم عن الحدث الأصغر لقوله عز وجل {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] ويجوز عن الحديث الأكبر وهو الجنابة والحيض لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: أجنبت فتمعكت في التراب فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إنما كان يكفيك هكذا" وضرب يديه على الأرض ومسح وجهه وكفيه ولأنها طهارة عن حدث فناب عنها التيمم كالوضوء ولا يجوز ذلك عن إزالة النجس لأنها طهارة فلا يؤمر بها للنجاسة في غير محل النجاسة كالغسل. فصل: والتيمم مسح الوجه واليدين مع المرفقين بالتراب بضربتين أو بأكثر والدليل عليه ما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربتان ضربة

للوجه وضربة اليدين إلى المرفقين" وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال في القديم: التيمم ضربتان ضربة للكفين ووجهه في حديث عمار وأنكر الشيخ أبو حامد الأسفراييني رحمه الله ذلك وقال: المنصوص في القديم والجديد هو الأول ووجهه أنه عضو في التيمم فوجب استعيابه كالوجه وحديث عمار رضي الله عنه يتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين بدليل حديث أبي أمامة وابن عمر فصل: ولا يجوز إلا بالتراب لما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض مسجداً وجعل ترابها لنا طهوراً وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة1" فعلق الصلاة على الأرض ثم نزل في التيمم إلى التراب فلو جاز التيمم بجميع الأرض لما نزل عن الأرض إلى التراب ولأنه طهارة عن الحدث فاختص بجنس واحد كالضوء فأما الرمل فقد قال في القديم والإملاء: يجوز التيمم به وقال في الأم: لا يجوز فمن أصحابنا من قال لا يجوز قولاً واحداً وما قال في القديم والإملاء محمول على رمل يخالطه التراب ومنهم من قال على قولين أحدهما يجوز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا بأرض الرمل وفينا الجنب والحائض ونبقى أربعة أشهر لا نجد الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالأرض" والثاني لا يجوز لأنه ليس بتراب فأشبه الجص وإن أحرق الطين وتيمم بمدقوقه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز بالخزف المدقوق والثاني يجوز لأن إحراقه لم يزل اسم الطين والتراب عن مدقوقه بخلاف الخزف ولا يجوز إلا بتراب له غبار يعلق بالعضو فإن تيمم بطين رطب أو بتراب ندي لا يعلق غباره ولم يجزه لقوله عز وجل: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [النساء43] وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد ولأنه طهارة فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة كمسح الرأس ولا يجوز بتراب نجس لأنه طهارة فلا تجوز بالنجس كالوضوء ولا يجوز بما خالطه دقيق أو جص لأنه ربما حصل بالعضو فمنع من وصول التراب إليه ولا يجوز بما استعمل في العضو فأما ما تناثر من أعضاء من أعضاء المتيمم ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز التيمم به كما لا يجوز الوضوء بما تساقط من أعضاء المتوضئ والثاني يجوز لأن المستعمل منه ما بقي على العضو وما تناثر غير مستعمل فجاز التيمم به ويخالف الماء لأنه لا يدفع بعضه بعضاً والتراب يدفع بعضه بعضاً فدفع ما أدى به الفرض في العضو ما تناثر منه

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 4 أحمد في مسنده "5/383.

فصل: ولا يصح التيمم إلا بالنية لما ذكرناه في الوضوء وينوي بالتيمم إستباحة الصلاة فإن نوى به رفع الحدث ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لا يرفع الحدث والثاني يصح لأن نية رفع الحدث تتضمن إستباحة الصلاة ولا يصح التيمم للفرض إلا بنية الفرض فإن نوى بتيممه صلاة مطلقة أو صلاة نافلة لم يستبح الفريضة وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني رحمه الله أن أبا يعقوب البارودي حكى عن الإملاء قولاً آخر أنه يستبيح به الفرض ووجهه أنه طهارة فلم يفتقر إلى نية الفرض كالوضوء والذي يعرفه البغداديون من أصحابنا كالشيخ أبي حامد الإسفراييني وشيخنا القاضي أبي الطيب رحمهما الله أنه لا يستبيح به الفرض لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه بخلاف الوضوء فإنه يرفع الحدث فاستباح به الجميع وهل يحتاج إلى تعيين الفرضة فيه وجهان: أحدهما أنه يحتاج إلى تعيينها لأن كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها كأداء الصلاة والثاني لا يحتاج إلى تعيينها ويدل عليه قوله في البويطي فإن تيمم للنفل كان له أن يصلي على الجنازة نص عليه في البويطي لأن صلاة الجنازة كالنافلة وإن تيمم لصلاة الفرض استباح به النفل لأن النفل تابع للفرض فإذا استباح المتبوع استباح التابع كما إذا أعتق الأم عتق الحمل. فصل: وإذا أراد التيمم فالمستحب له أن يسمي الله عز وجل لأنه طهارة عن حدث فاستحب فيها اسم الله عز وجل عليه كالوضوء ثم ينوي ويضرب يديه على التراب ويفرق أصابعه فإن كان التراب ناعماً فترك الضرب ووضع اليدين جاز ويمسح بهما وجهه ويوصل التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه وإلى ما ظهر من الشعر ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والشارب والعذارين والعنفقة ومن أصحابنا من قال يجب ذلك كما يجب إيصال الماء إليه في الوضوء والمذهب الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف التيمم واقتصر على ضربتين ومسح وجهه بإحداهما ومسح إحدى اليدين بالأخرى وبذلك لا يصل التراب إلى باطن هذه الشعور ويخالف الوضوء لأنه لا مشقة في إيصال الماء إلى ما تحت هذه الشعور وعليه مشقة في إيصال التراب فسقط وجوبه ثم يضرب ضربة أخرى فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف فإذا بلغ الكوع جعل أطراف أصابعه على حرف الذراع ثم يمر ذلك إلى المرافق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمره عليه ويرفع إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم يمسح بكفه اليمنى يده اليسرى مثل

ذلك ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل أصابعهما لما روى أسلم قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا جنب فنزلت آية التيمم فقال: "يكفيك هكذا فضرب بكفيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه ثم أمرهما على لحيته ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض ثم دلك إحداهما بالأخرى ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما". فصل: والفرض مما ذكرناه النية ومسح الوجه ومسح اليدين بضربتين أو أكثر وتقديم الوجه على اليدين وسنته التسمية وتقديم اليمنى على اليسرى. فصل: قال في الأم: فإن أمر غيره حتى يممه ونوى هو جاز كما يجوز في الوضوء وقال ابن القاص رحمه الله: لا يجوز قلته تخريجاً قال في الأم: وإن سفت الريح عليه تراباً ناعماً فأمر يديه على وجهه لم يجزه لأنه لم يقصد الصعيد وقال القاضي أبو حامد رحمه الله: هذا محمول عليه إذا لم يقصد فأما إذا صمد للريح فسفت عليه التراب أجزأه وهذا خلاف المنصوص. فصل: ولا يجوز التيمم للمكتوبة إلا بعد دخول الوقت لأنه قبل دخول الوقت مستغن عن التيمم فلم يصح تيممه كما لو تيمم مع وجود الماء وإن تيمم قبل دخول الوقت لفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت الحاضرة ففيه وجهان: قال أبو بكر ابن الحداد رحمه الله: يجوز أن يصلي به الحاضرة بعد دخول الوقت لأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول الوقت ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها فأشبه إذا تيمم لها قبل دخول الوقت. فصل: ولا يجوز التيمم بعد دخول الوقت إلا للعادم للماء أو للخائف من استعماله فأما الواجد فلا يجوز له التيمم لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء1" فإن وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فهو كالعادم لأنه ممنوع من استعماله فأشبه إذا وجد ماء وحال بينهما سبع. فصل: ولا يجوز للعادم للماء أن يتيمم إلا بعد الطلب لقوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب ولأنه بدل أجيز عند عدم المبدل فلا يجوز فعله إلا بعد ثبوت العدم كالصوم في الكفارة لا يفعله حتى يطلب الرقبة ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت لأنه إنما يطلب ليثبت شرط التيمم وهو

_ 1 رواه البخاري في كتاب التيمم باب 6،5. أبو داود في كتاب الطهارة باب 123. الترمذي في كتاب الطهارة باب 92. النسائي في كتاب الطهارة باب 203. أحمد في مسنده "5/146، 147، 155"

عدم الماء فلم يجز في وقت لا يجوز فيه فعل التيمم والطلب أن ينظر عن يمينه وشماله وأمامه ووراءه فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غير صعده ونظر حواليه وإن كان معه رفيق سأله عن الماء فإن بذله لزمه قبوله لأنه لا منة عليه في قبوله فإن باعه منه بثمن المثل وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة والطعام للمجاعة فإن لم يبذله له وهو غير محتاج إليه لنفسه لم يجز له أن يكابره على أخذه كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة وصاحبه لا يحتاج إليه لأن الطعام ليس له بدل وللماء بدل فإن دل على ماء ولم يخف فوات الوقت ولا انقطاعاً عن الرفقة لا ضرراً على نفسه وماله لزمه طلبه وإن طلب ولم يجد فتيمم ثم طلع عليه ركب قبل أن يدخل في الصلاة لزمه أن يسألهم عن الماء فإن لم يجده معهم أعاد التيمم لأنه لما توجه عليه الطلب بطلب التيمم وإن طلب ولم يجد جاز له التيمم لقوله عز وجل: "فلم تجدوا ماء فتيمموا" "المائدة: 6" وهل الأفضل أن يقدم التيمم والصلاة أم لا؟ ينظر فيه فإن كان على ثقة من وجود الماء أخر الوقت فالأفضل أن يؤخر التيمم لأن الصلاة في أول وقتها فضيلة والطهارة بالماء فريضة فكان انتظار الفريضة الأولى وإن كان على إياس من وجوده فالأفضل أن يتيمم ويصلي لأن الظاهر أنه لا يجد الماء فلا يضيع فضيلة أول الوقت لأمر لا يرجوه وإن كان يشك في وجوده ففيه قولان: أحدهما أن تأخيرها أفضل لأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة فكان تقديم الفريضة أولى والثاني أن تقديم الصلاة بالتيمم أفضل وهو الأصح لأن فعلها في أول الوقت فضيلة متيقنة والطهارة بالماء مشكوك فيها فكان تقديم الفضيلة المتيقنة أولى فإن تيمم وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء نسيه لم تصح صلاته وعليه الإعادة على المنصوص لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان كما لو نسي عضواً من أعضائه فلم يغسله وروى أبو ثور عن الشافعي رحمه الله أنه قال: تصح صلاته ولا إعادة عليه لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فسقط الفرض بالتيمم كما لو حال بينهما سبع وإن كان في رحله ماء فأخطأ رحله فطلبه فلم يجده فتيمم وصلى ففيه وجهان: قال أبو علي الطبري رحمه الله: لم تلزمه الإعادة لأنه غير مفرط في الطلب ومن أصحابنا من قال تلزمه لأنه فرط في حفظ الرحل فلزمته الإعادة. فصل: وإن وجد بعض ما يكفيه للطهارة ففيه قولان: قال في الأم: يلزمه استعمال ما معه ثم يتيمم لقوله عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] وهذا واجد للماء فيجب أن لا يتيمم وهو واجد له ولأنه مسح أبيح للضرورة فلا ينوب إلا في موضع

الضرورة كالمسح على الجبيرة وقال في القديم والإملاء: يقتصر على التيمم لأن عدم بعض الأصل بمنزلة عدم الجميع في جواز الاقتصار على البدل كما تقول فيمن وجد بعض الرقبة في الكفارة. فصل: وإن اجتمع ميت وجنب أو ميت وحائض انقطع دمها وهناك ما يكفي أحدهما فإن كان لأحدهما كان صاحبه أحق به لأنه محتاج إليه لنفسه فلا يجوز له بذله لغيره فإن بذله للآخر وتيمم لم يصح تيممه وإن كان الماء لهما كانا فيه سواء وإن كان الماء مباحاً أو لغيرهما وأراد أن يجود على أحدهما فالميت أولى لأنه خاتمة طهارته والجنب والحائض يرجعان إلى الماء ويغتسلان وإن اجتمع ميت وحي على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان: أحدهما أن صاحب النجاسة أولى لأنه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل وهو التيمم فكان صاحب النجاسة أحق بالماء والثاني أن الميت أولى وهو ظاهر المذهب لأنه خاتمة طهارته وإن اجتمع حائض وجنب والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان: قال أبو إسحاق رحمه الله: الجنب أولى لأن غسله منصوص عليه في القرآن ومن أصحابنا من قال إن الحائض أولى لأنها تستبيح بالغسل ما يستبيح الجنب وزيادة وهو الوطء فكانت أولى وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث أولى لأن حدثه يرتفع به ولا يرتفع به حدث الجنب وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل عنه شيء ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض بدنه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الجنب أولى لأنه يستعمل جميع الماء بالإجماع فإذا دفعناه إلى المحدث بقي ماء مختلف في وجوب استعماله في الجنابة والثاني أن المحدث أولى لأن فيه تشريكاً بينهما في الماء والثالث أنهما سواء فيدفع الماء إلى من شاء منهما لأنه يرفع حدث كل واحد منهما ويستعمله كل واحد منهما بالإجماع. فصل: وإن لم يجد ماء ولا تراباً صلى على حسب حاله وأعاد الصلاة لأن الطهارة شرط من شروط الصلاة فالعجز عنها لا يبيح ترك الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة واستقبال القبلة والقيام والقراءة فصل: وأما الخائف من استعمال الماء فهو أن يكون به مرض أو قروح يخاف معها من استعمال الماء أو في برد شديد يخاف من استعمال الماء فينظر فيه فإن خاف التلف من استعمال الماء جاز له التيمم لقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا

كانت بالرجل جراحة في سبيل الله أو قروح أو جدري فيجنب فيخاف أن يغتسل فيموت فإنه يتيمم بالصعيد وروي عن عمرو بن العاص رحمه الله أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح فذكرت ذلك للنبي فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فقلت سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإن خاف الزيادة في المرض وإبطاء البرء قال في الأم: لا يتيمم وقال في القديم والبويطي والإملاء: يتيمم إذا خاف الزيادة فمن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما يتيمم لأنه يخاف الضرر من استعمال الماء فأشبه إذا خاف التلف والثاني لا يجوز لأنه واجد للماء لا يخاف التلف من استعماله فأشبه إذا خاف أنه يجد البرد ومنهم من قال لا يجوز قولاً واحداً وما قال في القديم والبويطي والإملاء محمول على ما إذا خاف زيادة مخوفة وحكى أبو علي في الإفصاح طريقاً آخر أنه تيمم قولاً واحداً وإن خاف من استعمال الماء شيئاً فاحشاً في جسمه فهو كما لو خاف الزيادة في المرض لأنه يألم قلبه بالشين الفاحش كما يألم قلبه بزيادة المرض وإن كان في بعض بدنه قرح يخاف من استعمال الماء فيه التلف غسل الصحيح وتيمم عن الجريح وقال أبو إسحاق يحتمل قولاً آخر أنه يقتصر على التيمم كما لو عجز عن الماء في بعض بدنه للإعواز والأول أصح لأنه العجز هناك ببعض الأصل وههنا العجز ببعض البدن وحكم الأمرين مختلف ألا ترى أن الحر إذا عجز عن بعض الأصل في الكفارة جعل كالعاجز عن جميعه في الاقتصار على البدل ولو كان نصفه حراً ونصفه عبداً لم يكن العجز بالرق في البعض كالعجز في الجميع بل إذا ملك بنصفه الحر مالاً لزمه أن يكفر بالمال. فصل: ولا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة وقال المزني: يجوز وهذا خطأ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من السنة أن لا يصلي

بتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه طهارة ضرورة فلا يصلي بها فريضتين من فرائض الأعيان كطهارة المستحاضة فإن نسي صلاة من صلاة اليوم والليلة لا يعرف عينها قضى خمس صلوات وفي التيمم وجهان: أحدهما أنه يكفيه تيمم واحد لأن المنسية واحدة وما سواها ليس بفرض والثاني أنه يجب لكل واحدة تيمم لأنه صار كل واحد منها فرضاً وإن نسي صلاتين من صلاة اليوم والليلة ولا يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات قال ابن القاص: يجب أن يتيمم لكل واحدة منها لأنه أي صلاة بدأ بها يجوز أن تكون هي المنسية فزال بفعلها حكم التيمم ويجوز أن تكون الثانية هي التي تليها فلا يجوز أداؤها بتيمم مشكوك فيه ومن أصحابنا قال يمكن أن يصلي ثماني صلوات بتيممين فيزيد ثلاث صلوات وينقص ثلاث تيممات فيتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيكون قد صلى إحداهما بالتيمم الأول والثانية بالتيمم الثاني وإن نسي صلاتين من يومين فإن كانتا مختلفتين فهما بمنزلة الصلاتين من يوم وليلة وإن كانتا متفقتين لزمه أن يصلي عشر صلوات فيصلي خمس صلوات بتيمم ثم يتيمم ويصلي خمس صلوات وإن شك هل هما متفقتان أو مختلفتان لزمه أن يأخذ بالأشد وهو أنهما متفقتان. فصل: ويجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل لأنها غير محصورة فخف أمرها ولهذا أجيز ترك القيام فيها فإن نوى بالتيمم بالفريضة والنافلة جاز أن يصلي النافلة قبل الفريضة وبعدها لأنه نواها بالتيمم وإن نوى بالتيمم الفريضة ولم ينو النافلة جاز أن يصلي النفل بعدها وهل يجوز أن يصليها قبلها؟ فيه قولان: قال في الأم: له ذلك لأن كل طهارة جاز أن ينتفل بها بعد الفريضة جاز قبلها كالوضوء وقال في البويطي: ليس له ذلك لأنه يصليها على وجه التبع للفريضة فلا يجوز أن يتقدم على متبرعها ويجوز أن يصلي على جنائز بتيمم واحد إذا لم يتعين عليه لأنه يجوز تركها فهي كالنوافل وإن تعينت عليه ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجوز أن يصلي بتيم واحد أكثر من صلاة لأنها فريضة تعينت عليه فهي كالمكتوبة والثاني يجوز وهو ظاهر المذهب لأنها ليست من جنس فرائض الأعيان. فصل: إذا تيمم عن الحدث استباح ما يستبيح بالوضوء فإن أحدث بطل تيممه كما يبطل وضوؤه ويمنع مما كان يمنع من قبل التيمم وإن تيمم عن الجنابة استباح ما يستبيح

بالغسل من الصلاة وقراءة القرآن فإن أحدث منع من الصلاة ولم يمنع من قراءة القرآن لأن تيمم قام مقام الغسل ولو اغتسل ثم أحدث لم يمنع من القراءة فكذلك إذا تيمم ثم أحدث وإن تيمم ثم ارتد بطل تيممه لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة والمرتد ليس من أهل الاستباحة. فصل: وإن تيمم لعدم الماء ثم رأى الماء فإذا كان قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه لأنه لم يحصل في المقصود فصار كما لو رأى الماء في أثناء التيمم وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نظرت فإن كان في الحضر أعاد الصلاة لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل فلم يسقط معه فرض الإعادة كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن كان في السفر نظرت فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة لأن عدم الماء في السفر عذر عام فسقط معه فرض الإعادة كالصلاة مع سلس البول وإن كان في سفر قصير ففيه قولان: أشهرهما أنه لا تلزمه الإعادة لأنه موضع يعدم فيه الماء غالباً فأشبه السفر الطويل وقال في البويطي: لا يسقط الفرض عنه لأنه لا يجوز له القصر فلا يسقط الفرض عنه بالتيمم كما لو كان في الحضر وإن كان في سفر معصية ففيه وجهان: أحدهما تجب عليه الإعادة لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر والسفر معصية فلا تجوز أن تتعلق به رخصة والثاني لا يجب لأنا لما أوجبنا عليه ذلك صار عزيمة فلا تلزمه الإعادة وإن كان معه في السفر ماء ودخل عليه وقت الصلاة فأراقه أو شربه من غير حاجة وتيمم وصلى ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الإعادة لأنه مفرط في إتلافه والثاني لا تلزمه الإعادة لأنه تيمم وهو عادم للماء فصار كما لو أتلفه قبل دخول الوقت وإن رأى الماء في أثناء الصلاة نظرت فإن كان ذلك في الحضر بطل تيممه وصلاته لأنه تلزمه الإعادة لوجود الماء وقد وجد الماء فوجب أن يشتغل بالإعادة وإن كان في السفر لم يبطل تيممه وقال المزني: يبطل والمذهب الأول لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود فلا يلزمه الانتقال إليه كما لو حكم بشهادة شهود الفرع ثم وجد شهود الأصل وهل يجوز الخروج منها؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز وإليه أشار في البويطي لأن ما لا يبطل الطهارة والصلاة لم يبح الخروج منها كسائر الأشياء وقال أكثر أصحابنا: يستحب الخروج منها كما قال الشافعي رحمه الله فيمن دخل في صوم الكفارة ثم وجد الرقبة أن الأفضل أن يعتق فإن رأى الماء في الصلاة في السفر ثم نوى الإقامة بطل تيممه وصلاته لأنه اجتمع حكم السفر والحضر في الصلاة فوجب أن يغلب حكم الحضر ويصير كأنه تيمم وصلى وهو حاضر ثم رأى الماء وإن رأى الماء في أثناء الصلاة في

السفر فأتمها وقد فنى الماء لم يجز له أن يتننفل حتى يجدد للتيمم لأن برؤيته الماء حرم عليه افتتاح الصلاة وإن رأى الماء في صلاة نافلة فإن كان قد نوى عدداً أتمها كالفريضة وإن لم ينو عدداً سلم من ركعتين ولم يزد عليهما وإن تيمم للمرض ثم برئ لم تلزمه الإعادة لأن المرض من الأعذار العامة فهو كعدم الماء في السفر وإن تيمم لشدة البرد وصلى ثم زال البرد فإن كان في الحضر لزمه الإعادة لأن ذلك من الأعذار النادرة وإن كان في السفر ففيه قولان: أحدهما لا يجب لأن عمرو بن العاص تيمم وصلى لشدة البرد وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة والثاني يجب لأن البرد الذي يخاف منه الهلاك ولا يجد ما يدفع ضرره عذر نادر غير متصل فهو كعدم الماء في الحضر ومن صلى بغير طهارة لعدم الماء والتراب لزمه الإعادة لأن ذلك عذر نادر غير متصل فصار كما لو نسي الطهارة فصلى مع القدرة على الطهارة. فصل: إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وضع الجبائر وضع الجبيرة على طهر فإن وضعها على طهر ثم أحدث وخاف من نزعها أو وضعها على غير طهر وخاف من نزعها مسح على الجبائر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً كرم الله وجهه أن يمسح الجبائر ولأنه تلحق المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخف وهل يلزمه مسح الجميع أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه مسح الجميع لأنه مسح أجيز للضرورة فوجب فيه الاستيعاب كالمسح في التيمم والثاني أنه يجزيه ما يقع عليه الاسم لأنه مسح على حائل منفصل فهو كمسح الخف وهل يجز التيمم مع المسح؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يتيمم كما لا يتيمم مع المسح على الخف وقال في الأم: يتيمم لحديث جابر رضي الله عنه أن رجلاً أصابه حجز فشجه في رأسه ثم احتلم فاغتسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" ولأنه يشبه الجريح لأنه يترك غسل العضو لخوف الضرر ويشبه لابس الخف لأنه لا يخاف الضرر من غسل العضو وإنما يخاف المشقة في نزع الحائل كلابس الخف فلما أشبهها وجب عليه بين المسح والتيمم فإن نوى وقدر على الغسل فإن كان قد وضع الجبائر على غير طهر لزمه إعادة الصلاة وإن كان قد وضع على طهر ففيه قولان: أحدهما لا يلزمه كما لا يلزم ماسح الخف والثاني يلزمه لأنه ترك غسل العضو لعذر نادر غير متصل فكان كما لو ترك غسل العضو ناسيا

باب الحيض

باب الحيض إذا حاضت المرأة حرم عليها الطهارة لأن الحيض يوجب الطهارة وما أوجب الطهارة منع صحتها كخروج البول ويحرم عليها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" ويسقط فرض الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي الصلاة ولا نؤمر بالقضاء ولأن الحيض يكثر فلو أوجبنا قضاء ما يفوتها لشق وضاق ويحرم عليها الصوم لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة فدل على أنهن كن يفطرن ولا يسقط فرضه لحديث عائشة رضي الله عنها ولأن الصوم في السنة مرة فلا يشق قضاؤه فلم يسقط ويحرم عليها الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت1" ولأنه يفتقر إلى الطهارة ولا يصح منها الطهارة ويحرم عليها قراءة القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن2" ويحرم عليها حمل المصحف ومسه لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ويحرم عليها اللبث في المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب ولا

_ 1 نفسه في ص 31 هامش رقم "1" 2 رواه البخاري في كتاب الحيض باب 1، 7. مسلم في كتاب الحج حديث 119 أبو داود في كتاب المناسك باب 23. النسائي في كتاب الطهارة باب 182. الموطأ في كتاب الحج حديث 224. أحمد في مسنده "1/364، 370".

لحائض1" فأما العبور فيه فإنها إن استوثقت من نفسها بالشد والتلجم جاز لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد فلا يمنع العبور كالجنابة ويحرم الوطء في الفرج لقوله عز وجل: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] فإن وطئها مع العلم بالتحريم ففيه قولان: قال في القديم: إن كان في أول الدم لزمه أن يتصدق بدينار وإن كان في آخره لزمه أن يتصدق بنصف دينار لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار وقال في الجديد: لا تجب عليه الكفارة لأنه وطء محرم للأذى فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر ويحرم الاستمتاع فيما بين السرة والركبة وقال أبو إسحاق: لا يحرم غير الوطء في الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح2" ولأنه وطء محرم للأذى فاختص به الفرج كالوطء في الدبر والمذهب الأول لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: "ما فوق الإزار" وإذا طهرت من الحيض حل لها الصوم لأن تحريمه بالحيض وقد زال الحيض ولا تحل الصلاة والطواف وحمل المصحف وقراءة القرآن لأن المنع منها لأجل الحدث والحدث باق ولا يحل الاستمتاع بها حتى تغتسل لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] الآية قال مجاهد حتى يغتسلن فإن لم تجد الماء فتيممت حل لها ما يحل بالغسل لأن التيمم قائم مقام الغسل فاستبيح به ما يستباح بالغسل وإن تيممت وصلت فريضة لم يحرم وطؤها ومن أصحابنا من قال يحرم وطؤها بفعل الفريضة كما يحرم فعل الفريضة بعدها والأول أصح لأن الوطء ليس بفرض فلم يحرم بفعل الفريضة كصلاة النفل. فصل: أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين قال الشافعي رحمه الله: أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة فإنهن يحضن لتسع سنين فإذا رأت الدم لدون ذلك فهو دم فساد لا يتعلق به أحكام الحيض وأقل الحيض يوم وليلة وقال في موضع

_ 1رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 98. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 105. 2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 126. أبو داود في كتاب الطهارة باب 92.

آخر يوم فمن أصحابنا من قال هما قولان ومنهم من قال هو يوم وليلة قولاً واحداً وقوله يوم أراد بليلته ومنهم من قال يوم قولاً واحداً وإنما قال يوم وليلة قبل أن يثبت عنده اليوم فلما ثبت عنده اليوم رجع إليه والدليل على ذلك أن المرجع في ذلك إلى الوجود وقد ثبت الوجود في هذا القدر قال الشافعي رحمه الله: رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوماً لا تزيد عليه وقال الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقال عطاء رأيت من النساء من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر يوماً وقال أبو عبد الله الزبيري رحمه الله: كان في نسائنا من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر يوماً وأكثره خمسة عشر يوماً لما روينا عن عطاء وأبي عبد الله الزبيري وغالبه ست أو سبع لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش "تحيضي في علم الله تعالى ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرن" وأقل طهر فاصل بين الدمين خمسة عشر يوماً لا أعرف فيه خلافاً فإن صح ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في النساء "نقصان دينهن أن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي" دل ذلك على أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً لكني لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه وفي الدم الذي تراه الحامل قولان: أحدهما أنه حيض لأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل كالنفاس والثاني أنه دم فساد لأنه لو كان ذلك حيضاً لحرم الطلاق وتعلق به انقضاء العدة فإن رأت يوماً طهراً أو يوماً دماً ولم يعبر خمسة عشر يوماً ففيه قولان: أحدهما أنه لا يلفق الدم بل يجعل الجميع حيضاً لأنه لو كان ما رأته من النقاء طهراً لانقضت العدة بثلاثة منها والثاني أنه يلفق الدم إلى الدم والطهر إلى الطهر فتكون أيام النقاء طهراً وأيام الدم حيضاً لأنه لو جاز أن يجعل أيام النقاء حيضاً لجاز أن يجعل أيام الدم طهراً ولما لم يجز أن تجعل أيام الدم طهراً لم يجز أن تجعل أيام النقاء حيضاً فوجب أن يجزي كل واحد منهما على حكمه. فصل: إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيه أمسكت عما تمسك عنه الحائض فإن انقطع لدون اليوم والليلة كان ذلك دم فساد فتتوضأ وتصلي وإن انقطع ليوم وليلة أو لخمسة عشر يوماً أو لما بينهما فهو حيض فتغتسل عند انقطاعه سواء كان

الدم على صفة دم الحيض أو على غير صفته وسواء كان لها عادة فخالفت عادتها أو لم تكن وقال أبو سعيد الاصطخري رحمه الله: إن رأت الصفرة أو الكدرة في غير وقت العادة لم يكن حيضاً لما روي عن أم عطية قالت: كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئاً ولأنه ليس فيه أمارة الحيض فلم يكن حيضاً والمذهب أنه حيض لأنه دم صادف زمان الإمكان ولم يجاوزه فأشبه إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام عادتها وحديث أم عطية يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نعد الصفرة والكدرة حيضاً وقوله إنه ليس فيه أمارة غير مسلم بل وجوده في أيام الحيض أمارة لأن الظاهر من حالها الصحة والسلامة وأن ذلك دم الجبلة دون العلة وإن عبر الدم الخمسة عشر فقد اختلط حيضها بالاستحاضة فلا تخلو إما أن تكون مبتدأة غير مميزة أو مبتدأة مميزة أو معتادة غير مميزة أو ناسية مميزة فإن كانت مبتدأة غير مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر والدم على صفة واحدة ففيها قولان: أحدهما أنها تحيض أقل الحيض لأنه يقين وما زاد مشكوك فيه فلا يحكم بكونه حيضاً والثاني أنها ترد إلى غالب عادة النساء وهي ست أو سبع وهو الأصح لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش "تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرن" ولأنه لو كانت لها عادة ردت إليها لأن الظاهر أن حيضها في هذا الشهر كحيضها فيما تقدم فإذا لم يكن لها عادة فالظاهر أن حيضها كحيض نسائها ولداتها فردت إليها وإلى أي عادة ترد فيه وجهان: أحدهما إلى غالب عادة النساء لحديث حمنة والثاني إلى غالب عادة نساء بلدها وقومها لأنها أقرب إليهن فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني اغتسلت عند انقضاء اليوم والليلة في أحد القولين وعند انقضاء الست أو السبع في الآخر لأنا قد علمنا في الشهر الأول أنها مستحاضة وأن حكمها ما ذكرناه فتصلي وتصوم ولا تقضي الصلاة وأما الصوم فلا تقضي ما تأتي به بعد الخمسة عشر وفيما تأتي به قبل الخمسة عشر وجهان: أحدهما تقضيه لجواز أن يكون قد صادف زمان الحيض فلزمها قضاؤه كالناسية والثاني لا تقضي وهو الأصح لأنها صامت في زمان حكمنا بالطهر فيه بخلاف الناسية فإنا لم نحكم لها بحيض ولا طهر. فصل: فإن كانت مبتدأة مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر ودمها

في بعض الأيام دم الحيض وهو المحتدم القاني الذي يضرب إلى السواد وفي بعضها أحمر مشرق أو أصفر فإن حيضها أيام السواد بشرطين: أحدهما أن يكون الأسود لا ينقص عن أقل الحيض والثاني أن لا يزيد على أكثره والدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض فأدع الصلاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق1" ولأنه خارج يوجب الغسل فجاز أن يرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني فإذا رأت في الشهر الأول يوماً وليلة دماً أسود ثم أحمر أو أصفر أمسكت عن الصلاة والصوم لجواز أن لا يجاوز الخمسة عشر يوماً فيكون الجميع حيضاً وفي الشهر الثاني يلزمها أن تغتسل عند تغير الدم وتصلي وتصوم لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة فإن رأت في الشهر الثالث السواد في ثلاثة أيام ثم أحمر أو أصفر وفي الشهر الرابع رأت السواد في أربعة أيام ثم أحمر أو أصفر كان حيضها في كل شهر الأسود وإن رأت خمسة أيام دماً أحمر أو أصفر ثم رأت خمسة أيام دماً أسود ثم احمر الدم إلى آخر الشهر فالحيض هو الأسود وما قبل الأسود وما بعده استحاضة وخرج أبو العباس رضي الله عنه وجهين ضعيفين: أحدهما أنه لا تمييز لها لأن الخمسة الأول حيض لأنه دم بدأ بها في وقت يصلح أن يكون حيضاً والخمسة الثانية أولى أن تكون حيضاً لأنه في وقت يصلح للحيض وقد انضم إليه علامة الحيض وما بعدهما بمنزلتهما فيصير كأن الدم كله مبهم فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة والوجه الثاني أن حيضها العشر الأول لأن الخمسة الأول حيض بحكم البداية في وقت يصلح أن يكون حيضاً والخمسة الثانية حيض باللون وإن رأت خمسة أيام دماً أحمر ثم رأت دماً أسود إلى آخر الشهر فهي غير مميزة لأن السواد زاد على الخمسة عشر يوماً فبطلت دلالته فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة وخرج أبو العباس فيه وجهاً آخر إن ابتداء حيضها من أول الأسود إما يوم وليلة وإما ست أو سبع لأنه بصفة دم الحيض

_ 1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 63. أحمد في مسنده "6/304، 323".

وهذا لا يصح لأن هذا اللون لا حكم له إذا اعتبر الخمسة عشر وإن رات خمسة يوماً دماً أحمر وخمسة عشر يوماً دماً أسود وانقطع فحيضها الأسود وإن استمر الأسود ولم ينقطع لم تكن مميزة فيكون حيضها من ابتداء الدم يوماً وليلة في أحد القولين أو ستاً أو سبعاً في القول الآخر وعلى الوجه الذي خرجه أبو العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الدم الأسود يوماً وليلة أو ستاً أو سبعاً في الآخر وإن رأت سبعة عشر يوماً دماً أحمر ثم رأت دماً أسود واتصل لم يكن لها تمييز فيكون حيضها يوماً وليلة من أول الدم الأمر في أحد القولين أو ستاً أو سبعاً في الآخر وقال أبو العباس رضي الله عنه: يكون حيضها يوماً وليلة من أول الأحمر وخمسة عشر طهراً وتبتدئ من أول الدم الأسود حيضاً آخر في أحد القولين يوماً وليلة وفي القول الآخر يجعل حيضها ستاً أو سبعاً والباقي استحاضة إلا أن يكون الأسود في الثالث والعشرين فإنه إذا كان ابتداء الأسود من الثالث والعشرين فعلى قول أبي العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الأحمر سبعة وخمسة عشر طهراً وتبتدئ من أول الأسود حيضاً آخر يوماً وليلة في أحد القولين وستاً أو سبعاً في القول الآخر. فصل: فإن كانت معتادة غير مميزة وهي التي كانت تحيض من كل شهر أياماً ثم عبر الدم عادتها وعبر الخمسة عشر فلا تمييز لها فإنها لا تغتسل لمجاوزة الدم عادتها لجواز أن ينقطع الدم لخمسة عشر يوماً فإذا عبر الخمسة عشر ردت إلى عادتها فتغتسل بعد الخمسة عشر وتقضي صلاة ما زاد على عادتها لما روي أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت أم سلمة رضي الله عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتدع الصلاة قدر ذلك" فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني وجاوز العادة اغتسلت عند مجاوزة العادة لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة فتغتسل في كل شهر عند مجاوزة العادة فتصلي وتصوم وتثبت العادة بمرة واحدة فإذا حاضت في شهر مرة خمسة أيام ثم استحيضت في شهر بعده ردت إلى الخمسة ومن أصحابنا من قال: لا تثبت إلا بمرتين فإن لم تحض الخمسة مرتين لم تكن معتادة بل هي مبتدأة لأن العادة لا تستعمل في مرة والمذهب الأول لحديث المرأة التي استفتت لها أم سلمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة ولأن ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه وتثبت العادة بالتمييز كما تثبت بانقطاع الدم فإن رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود ثم أصفر واتصل ثم رأت في الشهر الثاني دماً منهما كانت عادتها أيام السواد ويثبت الطهر بالعادة كما يثبت

الحيض فإذا حاضت خمسة أيام وطهرت خمساً وخمسين يوماً ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر جعل حيضها في كل شهرين خمسة أيام والباقي طهر ويجوز أن تنتقل العادة فتتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص فترد إلى آخر ما رأت من ذلك لأن ذلك أقرب إلى شهر الاستحاضة وإن كانت عادتها الخمسة الثانية من الشهر فرأت الدم من أول الشهر واتصل فالحيض هي الخمسة المعتادة وقال أبو العباس رضي الله عنه: فيه وجه آخر أن حيضها هي الخمسة الأول لأنه بدأ بها في زمان يصلح أن يكون حيضاً والأول أصح لأن العادة قد ثبتت في الخمسة الثانية فوجب الرد إليها كما لو لم يتقدمها دم وإن كانت عادتها خمسة أيام من أول كل شهر ثم رأت في بعض الشهور الخمسة المعتادة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر يوماً فإنها ترد إلى عادتها وهي الخمسة الأول من الشهر وخرج أبو العباس رضي الله عنه وجهاً آخر أن الخمسة الأول من الدم الثاني حيض لأنها رأته في وقت يصلح أن يكون حيضاً والأول هو المذهب لأن العادة قد تثبت في الحيض من أول كل شهر فلا تتغير إلا بحيض صحيح. فصل: فإن كانت معتادة مميزة وهي أن تكون لها عادة في كل شهر أن تحيض خمسة أيام ثم رأت في شهر عشرة أيام دماً أسود ثم رأت دماً أحمر أو أصفر واتصل ردت إلى التمييز وجعل حيضها أيام السواد وهي العشرة وقال أبو علي بن خيران رحمه الله: ترد إلى العادة وهي الخمس والأول أصح لأن التمييز علامة قائمة في شهر الاستحاضة فكان اعتباره أولى من اعتبار عادة قد انقضت. فصل: وإن كانت ناسية مميزة وهي التي كانت لها عادة ونسيت عادتها ولكنها تميز الحيض من الاستحاضة باللون فإنها ترد إلى التمييز لأنها لو ذكرت عادتها لردت إلى التمييز فإذا نسيت أولى وعلى قول من قال تقدم العادة على التمييز حكمها وحكم من لا تمييز لها واحد ونحن نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فصل: وإن كانت ناسية للعادة غير مميزة لم يخل إما أن تكون ناسية للوقت والعدد أو ناسية للوقت ذاكرة للعدد أو ناسية ذاكرة للوقت فإن كانت ناسية للوقت والعدد وهي المتحيرة ففيها قولان: أحدهما أنها كالمبتدأة التي لا تمييز لها نص عليه في العدد فيكون حيضها من أول كل هلال يوماً وليلة في أحد القولين أو ستاً أو سبعاً في الآخر فإن عرفت متى رأت الدم جعلنا ابتداء شهرها من ذلك الوقت وعددنا لها ثلاثين يوماً وحيضناها لأنه ليس بعض الأيام بأن يجعل حيضاً بأولى من البعض فسقط حكم الجميع وصارت كمن لا عادة لها ولا تمييز والثاني وهو المشهور المنصوص في الحيض أنه لا

حيض لها ولا طهر بيقين فتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع الحيض ولا يطؤها الزوج وتصوم مع الناس شهر رمضان فيصح لها أربعة عشر يوماً لجواز أن يكون يوم الخامس عشر من حيضها بعضه من أول يوم من الشهر وبعضه من السادس عشر فيفسد عليها بذلك يومان ثم تصوم شهراً آخر فيصح لها منه أربعة عشر يوماً فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصاً صح لها منه ثلاثة عشر يوماً من الصوم لجواز أن يكون ابتداء الحيض من بعض اليوم الأول وانتهاؤه في بعض السادس عشر فيبطل عليها صوم ستة عشر يوماً ويصح لها ثلاثة عشلا يوماً فإن كان شهر قضائها كاملاً بقي عليها قضاء يومين وإن كان ناقصاً بقي قضاء ثلاثة أيام وإن كانا كاملين بقي قضاء يومين وإن كان شهر الأداء كاملاً وشهر القضاء ناقصاً بقي قضاء ثلاثة أيام وإن قضت في شوال صح لها صوم ثلاثة عشر يوماً إن كمل واثني عشر إن نقص وإن قضت في ذي الحجة فعشرة إن كمل وتسعة إن نقص فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصاً وجب عليها قضاء يوم فتصوم أربعة أيام من سبعة عشر يوماً يومين في أولها ويومين في آخرها وإن كان الشهر تاماً وجب عليها قضاء يومين فتصوم ستة أيام من ثمانية عشر يوماً ثلاثة في أولها وثلاثة في آخرها فيصح لها صوم الشهر وإن لزمها صوم ثلاثة أيام قضتها من تسعة عشر يوماً أربعة من أولها وأربعة من آخرها وإن لزمها صوم أربعة أيام قضتها من عشرين يوماً في أولها وخمسة في آخرها وكلما زاد في المدة يوم زاد في الصوم يومان في أولها ويوم في آخرها وعلى هذا القياس يعمل في طوافها. فصل: وإن كانت ناسية لوقت الحيض ذاكرة للعدد فكل زمان تيقنا فيه الحيض ألزمناها اجتناب ما تجتنبه الحائض وكل زمان تيقنا طهرها أبحنا فيه ما يباح للطاهر وأوجبنا ما يجب على الطاهر وكل زمان شككنا في طهرها حرمنا وطأها وأوجبنا ما يجب على الطاهر احتياطاً وكل زمان جوزنا فيه انقطاع الحيض أوجبنا عليها أن تغتسل فيه للصلاة ويعرف ذلك بتنزيل أحوالها ونذكر من ذلك مسائل تدل على جميع أحوالها إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق: فإن قالت كان حيضي عشرة أيام من الشهر لا أعرف وقتها لم يكن لها حيض ولا طهر بيقين لأنه يمكن في كل وقت أن تكون حائضاً ويمكن أن تكون طاهراً فيجعل زمانها في الصوم والصلاة زمان الطهر فتتوضأ في العشر الأول لكل فريضة ولا تغتسل لأنه لا يمكن انقطاع الدم فيه فإذا مضت العشر أمرناها بالغسل لإمكان انقطاع الدم ثم نلزمها بعد ذلك أن تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر لأن كل وقت من ذلك يمكن انقطاع الدم فيه فإن عرفت وقتاً من اليوم كان ينقطع فيه دمها

ألزمناها أن تغتسل كل يوم في ذلك الوقت ولا نلزمها أن تغتسل في غيره لأنا علمنا وقت انقطاع دمها من اليوم وإن قالت كنت أحيض إحدى العشرات الثلاث من الشهر فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين فنجعل زمانها زمان الطهر فتصلي من أول الشهر وتتوضأ لكل صلاة وتغتسل في آخر كل عشر لإمكان انقطاع الدم فيه وإن قالت كان حيضي ثلاثة أيام من الشهر الأول فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين في هذه العشر فتصلي من أول العشر ثلاثة أيام بالوضوء ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر إلا أن تعرف انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل لذلك الوقت في كل يوم وتتوضأ في غيره وإن قالت كان حيضي أربعة أيام من العشرة الأولى صلت بالوضوء أربعة أيام ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر وعلى هذا التنزيل في الخمس والست والسبع والثمان والتسع فإن عرفت يقين طهرها في وقت من الشهر بأن قالت كان حيضي عشرة أيام في كل شهر وأعلم أني كنت في العشر الأخيرة طاهراً فإنها في العشر الأول تتوضأ لكل صلاة لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه فإذا مضت العشر اغتسلت لكل صلاة إلا أن تعلم انقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل فيه دون غيره وفي العشر الثالثة طاهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة وإن قالت كان حيضي خمسة أيام في العشر الأول وكنت في اليوم الأول من العشر الأول طاهراً ففي اليوم الأول طهر بيقين فتتوضأ فيه لكل صلاة فريضة وفي اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس طهر مشكوك فيه فتتوضأ فيه لكل فريضة والسادس حيض بيقين فإنه على أي تنزيل نزلنا لم يخرج اليوم السادس منه فتترك فيه ما تترك الحائض ثم تغتسل في آخره لإمكان انقطاع الدم فيه ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر العاشر ثم تدخل في طهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة وإن قالت كان حيضي ستة أيام في العشر الأول كان لها يومان حيض بيقين وهما الخامس والسادس لأنه إن ابتدأ الحيض من أول العشر فآخره السادس وإن ابتدأ من الخامس فآخره العاشر والخامس والسادس داخلان فيه بكل حال وإن قالت كان حيضي سبعة أيام من العشر الأول حصل لها أربعة أيام حيض بيقين وهي من الرابع إلى السابع وإن قالت ثمانية كان حيضها بيقين ستة من الثالث إلى آخر الثامن فإن قالت تسعة كان ثمانية من الثاني إلى آخر التاسع لما بينا وإن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام لا أعرفها وكنت في اليوم السادس طاهراً فإنها من أول الشهر إلى آخر السادس في طهر بيقين ومن السابع إلى آخر الشهر في طهر مشكوك فيه فتتوضأ لكل فريضة إلى أن تمضي عشرة أيام بعد السادس ثم تغتسل لإمكان انقطاع الدم فيه ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلا أن تعرف الوقت الذي

كان ينقطع فيه الدم فتغتسل كل يوم فيه دون غيره وإن قالت كان حيضي في كل شهر خمسة أيام لا أعرف موضعها وأعلم أني كنت في الخمسة الأخيرة طاهراً وأعلم أن لي طهراً صحيحاً غيرها في كل شهر فإنه يحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الأولى والباقي طهر ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الثانية والباقي طهر ولا يجوز أن يكون في الخمسة الثالثة لأن ما قبلها وما بعدها دون أقل الطهر ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الرابعة ويكون ما قبلها طهراً ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الخامسة ويكون ما قبلها طهراً فلزمها أن تتوضأ لكل صلاة في الخمسة الأولى وتصلي لأنه طهر مشكوك فيه ثم تغتسل لكل فريضة من أول السادس إلى آخر العاشر لأنه طهر مشكوك فيه ويحتمل انقطاع الدم في كل وقت منه ومن أول الحادي عشر إلى آخر الخامس عشر تتوضأ لكل فريضة لأنه طهر بيقين ومن أول السادس عشر تتوضأ لكل صلاة إلى آخر العشرين لأنه طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الحيض فيه ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الخامس والعشرين لأنه طهر مشكوك فيه وتغتسل لكل صلاة لأنه يحتمل انقطاع الحيض في كل وقت منها ومن أول السادس والعشرين إلى آخر الشهر تتوضأ لكل فريضة لأنه طهر بيقين وإن علمت يقين الحيض في بعض الأيام بأن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام وكنت أكون في اليوم العاشر حائضاً فإنه يحتمل أن يكون العاشر آخر حيضها ويكون ابتداؤها من أول الشهر ويحتمل أن يكون العاشر أول حيضها فيكون آخره التاسع عشر ويحتمل أن يكون ابتداؤها ما بين اليوم الأول من الشهر واليوم العاشر فهي من أول الشهر إلى اليوم التاسع في طهر مشكوك فيه ولا يحتمل انقطاع الدم فيه فتتوضأ لكل صلاة وتصلي واليوم العاشر يكون حيضاً بيقين تترك فيه ما يجب على الحائض تركه وتغتسل في آخره ثم تغتسل لكل صلاة إلى تمام التاسع عشر إلا أن تعلم انقطاع الدم في وقت بعينه فتغسل فيه من الوقت إلى الوقت ثم بعد ذلك في طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل صلاة فريضة فإن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام ولي في كل شهر طهر صحيح وكنت في اليوم الثاني عشر حائضاً فإنها في خمسة عشر يوماً من آخر الشهر في طهر بيقين وفي اليوم الأول والثاني من أول الشهر في طهر بيقين وفي الثالث والرابع والخامس في طهر مشكوك فيه تتوضأ فيه لكل فريضة وفي السادس إلى تمام الثاني عشر في حيض بيقين ومن الثالث عشر إلى تمام الخامس عشر في طهر مشكوك فيه ويحتمل انقطاع الحيض في كل وقت منها فتغتسل لكل صلاة وإن قالت كان حيضي خمسة أيام من العشر الأول وكنت في اليوم الثاني من

الشهر طاهراً وفي الخامس حائضاً فإنه يحتمل أن يكون ابتداء حيضها من الثالث وآخره إلى تمام السابع ويحتمل أن يكون من الرابع وآخره إلى تمام الثامن ويحتمل ان يكون ابتداؤه من الخامس وآخره من التاسع فاليوم الأول والثاني طهر بيقين والثالث والرابع طهر مشكوك فيه والخامس والسادس والسابع حيض بيقين ثم تغتسل في آخر السابع فيكون ما بعده إلى تمام التاسع طهراً مشكوكاً فيه تغتسل فيه لكل صلاة وإن قالت كان لي في كل شهر حيضتان ولا أعلم موضعهما ولا عددهما فإن الشيخ أبا حامد الإسفراييني رحمه الله ذكر أن أقل ما يحتمل أن يكون حيضها يوماً من أول الشهر ويوماً من آخره ويكون ما بينهما طهراً وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها أربعة عشر يوماً من أول الشهر أو من آخره ويوماً وليلة من أول الشهر أو من آخره ويكون ما بينهما خمسة عشر يوماً طهراً ويحتمل ما بين الأقل والأكثر فيلزمها أن تتوضأ وتصلي في اليوم الأول من الشهر لأنه طهر مشكوك فيه ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر لاحتمال انقطاع الدم فيه ويكون الخامس عشر والسادس عشر طهراً بيقين لأنه إن كان ابتداء الطهر في اليوم الثاني فاليوم السادس عشر آخره وإن كان من الخامس عشر فالخامس عشر والسادس عشر داخل في الطهر ومن السابع عشر إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: هذا خطأ لأنا إذا نزلنا هذا التنزيل لم يجب أن يكون هذا حالها في الشهر وتصوم رمضان وتقضيه على ما بيناه. فصل: فإن كانت ذاكرة للوقت ناسية للعدد نظرت فإن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه بأن قالت كان ابتداء حيضي من أول يوم من الشهر حيضناها يوماً وليلة وليلة من أول الشهر لأنه يقين ثم تغتسل بعده فتحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس عشر وتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز انقطاع الدم فيه وما بعده طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل صلاة وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاعه بأن قالت كان حيضي ينقطع في آخر الشهر قبل غروب الشمس حيضناها قبل ذلك يوماً وليلة وكانت طاهراً من أول الشهر إلى آخر الخامس عشر تتوضأ لكل صلا ة فريضة ثم تحصل في طهر مشكوك إلى آخر التاسع والعشرين تتوضأ لكل صلاة لأنه لا يحتمل انقطاع الدم ولا يجب الغسل إلا في آخر الشهر في الوقت الذي تيقنا انقطاع الحيض فيه وإن قالت كان حيضي في كل شهر خمسة عشر يوما وكنت أخلط أحد النصفين فيه بالآخر أربعة عشر في أحد النصفين ويوماً في النصف الآخر ولا أدري أن اليوم في النصف الأول أو الأربعة عشر فهذه يحتمل أن يكون اليوم في النصف الثاني والأربعة عشر في النصف الأول فيكون ابتداء الحيض من

اليوم الثاني من الشهر وآخره تمام السادس عشر ويحتمل أن يكون اليوم في النصف الأول والأربعة عشر في النصف الثاني فيكون ابتداء الحيض من أول الخامس عشر وآخره التاسع والعشرون فاليوم الأول والآخر من الشهر طهر بيقين والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين ومن الثاني إلى الخامس عشر طهر مشكوك فيه ومن أول السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين طهر مشكوك فيه فتغسل في آخر السادس عشر وفي آخر التاسع والعشرين لأنه يحتمل انقطاع الدم فيهما وعلى هذا التنزيل والقياس فإن قالت كان حيضي خمسة عشر يوماً وكنت أخلط اليوم وأشك هل كنت أخلط بأكثر من يوم فالحكم فيه كالحكم في المسألة قبلها إلا في شيء واحد وهو أن ههنا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة بعد السادس عشر لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم فيكون ذلك الوقت وقت انقطاع الحيض إلا أن تعلم انقطاع الحيض في وقت بعينه من اليوم فتغتسل فيه في مثله. فصل: هذا الذي ذكرناه في المستحاضة إذا عبر دمها الخمسة عشر ولم يتخللها طهر فأما إذا تخللها طهر بأن رأت يوماً وليلة دماً ورأت يوماً وليلة نقاء إلى أن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة وقال ابن بنت الشافعي رضي الله عنه: الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وبين ما بعده فيكون الدم في الخمسة عشر حيضاً وفي النقاء الذي بينهما قولان في التلفيق لأنا حكمنا في اليوم السادس عشر لما رأت النقاء بطهارتها وأمرناها بالصوم والصلاة وما بعده ليس بحيض بل هو طهر فكان بمنزلة ما لو انقطع الدم بعد الخمسة عشر لم يعد والمنصوص أنها مستحاضة اختلط حيضها بالاستحاضة لأنه لو كان النقاء في اليوم السادس عشر يميز لوجب أن يميز في الخمسة عشر كالتميز باللون فعلى هذا ينظر فيها فإن كانت مميزة بأن ترى يوماً وليلة دماً أسود ثم ترى النقاء عشرة أيام ثم ترى يوماً وليلة دماً أسود ثم أحمر فترد إلى التمييز فيكون الحيض أيام الأسود وما بينها على القولين وإن كان لها عادة في كل شهر خمسة أيام ردت إلى عادتها فإن قلنا لا يلفق كانت الخمسة كلها حيضاً وإن قلنا يلفق كانت أيام الدم حيضاً وذلك ثلاثة أيام ونقص يومان من العادة ومن أصحابنا من قال: يلفق لها قدر العادة من الخمسة عشر يوماً فيحصل لها خمسة أيام من تسعة أيام وإن كانت عادتها ستة أيام فإن قلنا لا يلفق كان حيضها خمسة أيام لأن اليوم السادس من أيام العادة لا دم فيه لأن الدم في الإفراد فلم يجز أن يجعل حيضاً لأن النقاء إنما يجعل حيضاً على هذا القول إذا كان الدم واقعاً بين الدمين فعلى هذا ينقص من عادتها يوم وإذا قلنا يلفق من أيام العادة كان حيضها ثلاثة أيام وينقص يومان وإذا قلنا يلفق من خمسة عشر حصل لها ستة أيام

من أحد عشر يوماً وإن كانت عادتها سبعة أيام فإن قلنا إن الجميع حيض كان حيضها سبعة أيام لا ينقص منها شيء لأن اليوم السابع دم فيمكن استيفاء جميع أيام عادتها وإن قلنا يلفق لها من أيام العادة كان حيضها أربعة أيام وإن قلنا يلفق من خمسة عشر كان لها سبعة أيام من ثلاثة عشر يوماً وعلى هذا القياس وإن كانت مبتدأ لا تمييز لها ولا عادة ففيها قولان: أحدهما ترد إلى يوم وليلة فيكون حيضها من أول ما رأت يوماً وليلة والباقي طهر وإن قلنا ترد إلى ست أو سبع فهي كمن عادتها ستة أيام أو سبعة أيام وقد بيناه فأما إذا رأت نصف يوم دماً ونصف يوم نقاء ولم تجاوز الخمسة عشر فهي على القولين في التلفيق وقال بعض أصحابنا: هذه مستحاضة هذه لا يثبت لها حكم الحيض حتى يتقدم لها أقل الحيض ومنهم من قال: لا يثبت لها حكم الحيض إلا أن يتقدمه أقل الحيض متصلاً ويتعقبه أقل الحيض متصلاً والصحيح هو الأول وأنها على القولين في التلفيق فإذا قلنا لا يلفق حصل لها أربعة عشر يوماً ونصف يوم حيضاً وإذا قلنا يلفق حصل لها سبعة أيام ونصف حيضاً وما بينهما من النقاء طهر وإن جاوز الخمسة عشر كانت مستحاضة فترد إلى التمييز إن كانت مميزة أو إلى العادة إن كانت معتادة وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها ولا عادة فإن قلنا إنها ترد إلى ست أو سبع كان ذلك كالعادة وإن قلنا ترد إلى يوم وليلة فإن قلنا لا يلفق فلا حيض لها لأنه لا يحصل لها يوم وليلة من غير تلفيق وإن قلنا يلفق من أيام العادة لم يكن لها حيض لأن اليوم والليلة كأيام العادة ولا يحصل لها من اليوم والليلة أقل الحيض وإن قلنا يلفق من الخمسة عشر لفق لها مقدار يوم وليلة من يومين وليلتين وإن رأت ساعة دماً وساعة نقاء ولم يجاوز الخمسة عشر فإن كان الدم بمجموعه يبلغ أقل الحيض فقد قال أبو العباس وأبو إسحاق: فيه قولان في التلفيق وإن كان لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض مثل أن ترى ساعة دماً ثم ينقطع ثم ترى في آخر الخامس عشر ساعة دماً قال أبو العباس: إذا قلنا يلفق فهو دم فساد لأنه لا يتلفق منه ما يكون حيضاً وإذا قلنا لا يلفق احتمل وجهين: أحدهما يكون حيضاً لأن زمان النقاء على هذا القول حيض فلا ينقض الحيض عن أقله بل الخمسة عشر حيض والثاني لا يكون حيضاً لأن النقاء إنما يكون حيضاً على سبيل التبع للدم والدم لم يبلغ بمجموعه أقل الحيض فلم يجعل النقاء تابعاً له وإن رأت ثلاثة أيام دماً ثم انقطع اثني عشر يوماً ثم رأت ثلاثة أيام دماً وانقطع فالأول حيض لأنها رأته في زمان إمكانه والثاني دم فساد ولا يجوز أن يجعل ابتداء الحيض لأنه لم يتقدمه أقل الطهر ولا يمكن ضمه إلى ما رأته قبل الخمسة عشر لأنه خارج عن الخمسة عشر وإن رأت دون اليوم دماً ثم انقطع إلى تمام الخمسة عشر يوماً ثم رأت ثلاثة أيام دماً فإن الحيض هو الثاني والأول ليس بحيض

لأنه لا يمكن إضافته إلى ما بعد الخمسة عشر ولا يمكن أن يجعل بانفراده حيضاً لأنه دون أقل الحيض فصل: دم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض ويسقط الحيض لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل فكان حكمه حكم الحيض فإن خرج قبل الولادة شيء لم يكن نفاساً وإن خرج بعد الولادة كان نفاساً وإن خرج مع الولد ففيه وجهان: أحدهما أنه ليس بنفاس لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل ولهذا يجوز للزوج رجعتها فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن أبي أحمد بن القاص: هو نفاس لأنه دم انفصل بخروج الولد فصار كالخارج بعد الولادة وإن رأت الدم قبل الولادة خمسة أيام ثم ولدت ورأت الدم فإن الخارج بعد الولادة نفاس وأما الخارج قبله ففيه وجهان: من أصحابنا من قال هو استحاضة لأنه لا يجوز أن يتوالى حيض ونفاس من غير طهر كما لا يجوز أن يتوالى حيضتان من غير طهر ومنهم من قال: إذا قلنا إن الحامل تحيض فهو حيض لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل وأكثر النفاس ستون يوماً وقال المزني: أربعون يوماً والدليل على ما قلناه ما روي عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين وعن عطاء والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطأة أن النفاس ستون يوماً وليس لأقله حد وقد تلد المرأة ولا ترى الدم وروي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر نفاساً فسميت ذات الجفوف فإن ولدت توأمين بينهما زمان ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يعتبر النفاس من الولد الأول لأنه دم يعقب الولادة فاعتبرت المدة منه كما لو كان وحده والثاني يعتبر من الثاني لأنه ما دام معها حمل فالدم ليس بنفاس كالدم الذي تراه قبل الولادة والثالث أن يعتبر ابتداء المدة من الأول ثم يستأنف المدة من الثاني لأن كل واحد منهما سبب للمدة فإذا وجدا اعتبر الابتداء من كل واحد منهما كما لو وطئ امرأة بشبهة فدخلت في العدة ثم وطئها فإنها تستأنف العدة فإن رأت دم النفاس ساعة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم يوماً وليلة ففيه وجهان: أحدهما أن الأول نفاس والثاني حيض وما بينهما طهر والوجه الثاني أن الجميع نفاس لأن الجميع وجد في مدة النفاس وفيما بينهما القولان في التلفيق وإن نفست المرأة وعبر الدم الستين فحكمها حكم الحيض إذا عبر الخمسة عشر يوماً في الرد إلى التمييز والعادة والأقل والغالب لأنه بمنزلة الحيض في أحكامه وكذلك في الرد عند الأشكال فإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً فإن شهرها عشرون يوماً فإن ولدت في وقت حيضها ورأت عشرين يوماً الدم ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم بعد ذلك واتصل وعبر الخمسة عشر كان حيضها وطهرها

على عادتها فتكون نفساء في مدة العشرين وطاهراً في مدة الخمسة عشر وحائضاً في الخمسة أيام بعدها وإن كانت عادتها أن تحيض عشرة أيام وتطهر عشرين يوماً فإن شهرها ثلاثون يوماً فإن ولدت في وقت حيضها فرأت عشرين يوماً دماً وانقطع وطهرت شهرين ثم رأت الدم بعد ذلك وعبر الخمسة عشر فإن حيضها لم يتغير بل هي في الحيض على عادتها ولكن زاد طهرها فصار شهرين بعد ما كان عشرين يوماً فتكون نفساء في العشرين الأول وطاهراً في الشهرين بعدها وحائضاً في العشر التي بعدها فصل: ويجب على المستحاضة أن تغسل الدم وتعصب الفرج وتستوثق بالشد والتلجم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش رضي الله عنها "أنعت لك الكرسف" فقالت: إنه أكثر من ذلك فقال: "تلجمي" فإن استوثقت ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد لم تبطل صلاتها لما روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة" وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت وإن قطر الدم على الحصير ولا تصلي بطهارة أكثر من فريضة لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ويجوز أن تصلي ما شاءت من النوافل لأن النوافل تكثر فلو ألزمناها أن تتوضأ لكل نافلة شق عليها ولا يجوز أن تتوضأ لفرض الوقت قبل الدخول لأنه طهارة ضرورية فلا يجوز قبل وقت الضرورة فإن توضأت في أول الوقت وأخرت الصلاة فإن كان لسبب يعود إلى مصلحة الصلاة كانتظار الجماعة وستر العورة والإقامة صحت صلاتها وإن كان لغير ذلك ففيه وجهان: أحدهما أن صلاتها باطلة لأنها تصلي مع نجاسة يمكن حفظ الصلاة منها والثاني تصح لأنه وسع في الوقت فلا يضيق عليها فإن أخرتها حتى خرج الوقت لم يجز أن تصلي به لأنه لا عذر لها في ذلك ومن أصحابنا من قال: يجوز أن تصلي بعد خروج الوقت لأنا لو منعناها من ذلك صارت طهارتها مقدرة بالوقت وذلك لا يجوز عندنا وإن دخلت في الصلاة ثم انقطع دمها ففيه وجهان: أحدهما لا تبطل صلاتها كالمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة والثاني تبطل لأن عليها طهارة حدث وطهارة نجس ولم تأت عن طهارة النجس بشيء وقد قدرت عليها فلزمها الإتيان بها وإن انقطع دمها قبل الدخول في الصلاة لزمها غسل

الدم وإعادة الوضوء فإن لم تفعل حتى عاد الدم فإن كان عوده بعد الفراغ من الصلاة لا تصح صلاتها لأنه اتسع الوقت للوضوء والصلاة من غير حدث ولا نجس وإن كان عود الدم قبل الفراغ من الصلاة ففيه وجهان: أحدهما أنها تصح لأنا تيقنا بعود الدم أن الإنقطاع لم يكن له حكم لأنه لا يصلح للطهارة والصلاة والثاني وهو الأصح أن صلاتها باطلة لأنها استفتحت الصلاة وهي ممنوعة منها فلم تصح بالتبين كما لو استفتح لابس الخف الصلاة وهو شاك في انقضاء مدة المسح ثم تبين أن المدة لم تنقض. فصل: وسلس البول وسلس المذي حكمهما حكم المستحاضة فيما ذكرناه ومن به ناصور أو جرح يجري منه الدم حكمهما حكم المستحاضة في غسل النجاسة عند كل فريضة لأنها نجاسة متصلة لعلة فهو كالاستحاضة.

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة النجاسة هي البول والغائط والقيء والمذي والودي ومني غير الأدمي والدم والقيح وماء القروح والعلقة والميتة والخمر والنبيذ والكلب والخنزير وما توالد منهما وما توالد من أحدهما ولبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي ورطوبة فرج المرأة وما تنجس بذلك فأما البول فهو نجس لقوله صلى اله عليه وسلم "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " وأما الغائط فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والمذي والدم والقيء" وأما سرجين البهائم وذرق الطيور كالغائط في النجاسة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "إنها ركس1" فعلل نجاستها بأنه ركس والركس الرجيع وهذا رجيع فكان نجسا ولأنه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 21. الترمذي في كتاب الطهارة باب 13. النسائي في كتاب الطهارة باب 37. أحمد في مسنده "1/388، 418".

خارج من الدبر أحالته الطبيعة فكان نجساً كالغائط وأما القيء فهو نجس لحديث عمار ولأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد فكان نجساً كالغائط أما المذي فهو نجس لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كنت رجلاً مذاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة1" ولأنه خارج من سبيل الحدث لا يخلق منه طاهر فهو كالبول وأما الودي فهو نجس لما ذكرت من العلة ولأنه يخرج مع البول فكان حكمه حكم البول وأما مني الآدمي فهو طاهر لما روي عن عائشة رضي الله عنها الله عنها أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولو كان نجساً لما انعقدت معه الصلاة ولأنه مبدأ خلق بشر فكان طاهراً كالطين وأما مني غير الآدمي ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الجميع طاهر إلا مني الكلب والخنزير لأنه خارج من حيوان طاهر يخلق منه مثل أصله فكان طاهراً كالبيض ومني الآدمي والثاني أن الجميع نجس لأنه من فضول الطعام المستحيل وإنما حكم بطهارته من الآدمي لحرمته وكرامته كما أحل لبنه معه كونه لا يؤكل لحرمته وكرامته وهذا لا يوجد في غيره والثالث ما أكل لحمه فمنيه طاهر كلبنه وما لا يؤكل لحمه فمنيه نجس كلبنه وأما الدم فهو نجس لحديث عمار وفي دم السمك وجهان: أحدهما أنه نجس كغيره والثاني أنه طاهر لأنه ليس بأكثر من الميتة وميتة السمك طاهرة فكذلك دمه وأما القيح فهو نجس لأنه دم استحال إلى النتن فإذا كان الدم نجساً فالقيح أولى وأما ماء القروح فإن كان له رائحة فهو نجس كالقيح وإن لم يكن له رائحة فهو طاهر كرطوبة البدن ومن أصحابنا من قال فيه قولان:

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 82. النسائي في كتاب الطهارة باب 129. أحمد في مسنده "1/125".

أحدهما أنه طاهر كالعرق والثاني أنه نجس لأنه تحلل بعلة فهو كالقيح وأما العلقة ففيها وجهان: قال أبو إسحاق: هي نجسة لأنه دم خارج من الرحم فهو كالحيض وقال أبو بكر الصيرفي: هي طاهرة لأنه دم غير مسفوح فهو كالكبد والطحال فأما الميتة سوى السمك والجراد والآدمي فهي نجسة للآية لأنها محرمة الكل من غير ضرر فكانت نجسة كالدم وأما السمك والجراد فهما طاهران لأنه يحل أكلهما ولو كانا نجسين لم يحل أكلهما وأما الآدمي ففيه قولان: أحدهما أنه نجس لأنه ميت لا يحل أكله فكان نجساً لما غسل كسائر الميتات وأما الخمر فهو نجس لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرورة فكان نجساً كالدم وأما النبيذ فهو نجس لأنه شراب فيه شدة مطربة فكان نجساً كالخمر وأما الكلب فهو نجس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار فأجاب ودعى إلى دار فلم يجب فقيل له في ذلك فقال: "إن في دار فلان كلباً" فقيل وفي دار فلان هرة فقال: "الهرة ليست بنجسة" فدل على أن الكلب نجس وأما الخنزير فهو نجس لأنه أسوأ حالاً من الكلب لأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه ومنصوص على تحريمه فإذا كان الكلب نجساً فالخنزير أولى وأما ما توالد منهما أو من أحدهما فهو نجس لأنه مخلوق من نجس فكان مثله وأما لبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي ففيه وجهان: قال أبو سعيد الإصطخري: هو طاهر لأنه حيوان طاهر فكان لبنه طاهراً كالشاة والبقرة والمنصوص أنه نجس لأن اللبن كاللحم المذكي بدليل أنه يتناول من الحيوان ويؤكل كما يتناول اللحم المذكي ولحم ما لا يؤكل نجس فكذلك لبنه وأما رطوبة فرج المرأة فالمنصوص أنها نجس لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة فكانت نجسة ومن

أصحابنا من قال: هي طاهرة كسائر رطوبات البدن وأما ينجس بذلك فهي الأعيان الطاهرة إذا لاقاها شيء من هذه النجاسات وأحدهما رطب والآخر يابس فينجس بملاقاتها. فصل: ولا يطهر شيء من النجاسة بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما جلد الميتة إذا دبغ وقد دللنا عليه في موضعه والثاني الخمر إذا استحالت بنفسها خلاً فتطهر بذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: لا يحل خل من خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها فعند ذلك يطيب الخل ولا بأس أن يشتروا من أهل الذمة خلاً ما لم يتعمدوا إلى إفساده ولأنه إنما حكم بتحريمها للشدة المطربة الداعية إلى الفساد وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها فوجب أن يحكم بطهارتها وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر لما روي أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال "أهرقها" قال: أفلا أخللها؟ قال لا فنهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز ولأنه لو جاز لندبه إليه لما فيه من إصلاح مال اليتيم ولأنه إذا طرح فيها الخل نجس الخل فإذا زالت الشدة المطربة بقيت نجاسة الخل النجس فلم تطهر فإن نقلها من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس حتى تخللت ففيه وجهان: أحدهما تطهر لأن الشدة قد زالت من غير نجاسة خلفتها والثاني لا تطهر لأنه لو فعل محظور توصل به إلى استعجال ما يخل في الثاني فلم يحل كما لو قتل مورثه أو نفر صيداً حتى خرج من الحرم إلى الحل وإن أحرق العذرة أو السرجين حتى صار رماداً لم يطهر لأن نجاستهما لعينهما وتخالف الخمر فإن نجاستهما لمعنى معقول وقد زال ذلك وأما دخان النجاسة إذا أحرقت ففيه وجهان: أحدهما أنه نجس لأنه أجزاء متحللة من النجاسة فهو كالرماد والثاني أنه ليس بنجس لأنه بخار نجاسة فهو كالبخار الذي يخرج من الجوف. فصل: وإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضواً منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب1" فعلق طهارته

_ 1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 33. مسلم في كتاب الطهارة حديث 89. أبو داود في كتاب الطهارة باب 37. الترمذي في كتاب الطهارة 68. النسائي في كتاب الطهارة باب 50- 52. أحمد في مسنده "2/245، 253".

بسبع مرات فدل على أنه لا يطهر بما دونه والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيها جعل جاز لعموم الخبر وإن جعل بدل التراب الجص أو الأشنان وما أشبههما ففيه قولان: أحدهما لا يجزئه لأنه تطهير نص فيه على التراب فاختص به كالتيمم والثاني أن يجزئه لأنه تطهير نجاسة نص فيه على جامد فلم يختص به كالإستنجاء والدباغ وفي موضع القولين وجهان: أحدهما أن القولين في حال عدم التراب فأما مع وجود التراب فلا يجوز بغيره قولاً واحداً والثاني أن القولين في الأحوال كلها لأنه جعله في أحد القولين كالتيمم وفي الآخر جعله كالإستنجاء والدباغ وفي الأصلين جميعاً لا فرق بين وجود المنصوص عليه وبين عدمه وإن غسل بالماء وحده ففيه وجهان: أحدهما أنه يجزئه لأن الماء أبلغ من التراب فهو بالجواز أولى والثاني لا يجزئه لأنه أمر بالتراب ليكون معونة للماء لتغلظ النجاسة وهذا لا يحصل بالماء وحده وإن ولغ كلبان ففيه وجهان: أحدهما أنه يجب لكل كلب سبع مرات كما أمر في بول الرجل بذنوب ثم يجب في بول رجلين ذنوبان والثاني أنه يجزئه للجميع سبع مرات وهو المنصوص في حرملة لأن النجاسة لا تتضاعف بعد الكلب بخلاف البول وإن ولغ الكلب في إناء ووقعت فيه نجاسة أخرى أجزأه سبع مرات للجميع لأن الطهارة تتداخل ولهذا لو وقع فيه بول ودم أجزأه لهما غسل مرة واحدة وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات ففيه وجهان: احدهما يغسل من كل غسلة مرة لأن كل غسلة تزيل سبع النجاسة فيغسل منه بقدر السبع والثاني حكمه حكم الإناء الذي انفصل عنه لأن المنفصل كالبلل الباقي في الإناء وذلك لا يطهر إلا بما بقي من العدد فكذلك المنفصل فإن جمع ماء الغسلات ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع طاهر لأنه ماء انفصل من الإناء وهو طاهر والثاني أنه نجس وهو الصحيح لأن السابع طاهر والباقي نجس فإذا اختلط بعضه ببعض ولم يبلغ قلتين وجب أن يكون نجساً. فصل: وإن ولغ الخنزير فقد قال ابن القاص: قال في القديم: يغسل مرة واحدة وقال سائر أصحابنا يحتاج إلى سبع مرات وقوله في القديم مطلق لأنه قال يغسل وأراد به سبع مرات والدليل عليه أن الخنزير أسوأ من الكلب على ما بيناه فهو باعتبار العدد أولى.

فصل: ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح وهو أن يبله بالماء وإن لم ينزل عنه ولا يجزئ في بول الصبية إلا الغسل لما روي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الرضيع "يغسل من بول الجارية وينضج من بول الغلام1" فصل: وما سوى ذلك من النجاسات ينظر فيها فإن كانت جامدة كالعذرة أزيلت ثم غسل موضعها على ما بينته وإذا كانت ذائبة كالبول والدم والخمر فإنه يستحب أن يغسل منه ثلاثاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده2" فندب إلى الثلاث للشك في النجاسة فدل على أن ذلك يستحب إذا تيقن ويجوز الاقتصار على غسل مرة واحدة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً والغسل من الجنابة مرة والغسل من الثوب من البول مرة والغسل الواجب في ذلك أن يكاثر النجاسة بالماء حتى تستهلك فيه فإن كانت النجاسة على الأرض أجزأته المكاثرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في بول الأعرابي بذنوب من ماء وإنما أمر بالذنوب لأن ذلك يغمر البول ويستهلك فيه وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو القاسم الأنماطي: الذنوب تقدير فيجب في بول واحد ذنوب وفي بول اثنين ذنوبان والمذهب أن ذلك ليس بتقدير لأن ذلك يؤدي إلى أن يطهر البول الكثير من الرجل بذنوب وما دون ذلك من رجلين لا يطهر إلا بذنوبين وإن كانت النجاسة على الثوب ففيه وجهان: أحدهما يجزئه المكاثرة كالأرض والثاني لا يجزئه حتى يعصر لأنه يمكن عصره بخلاف الأرض والأول أصح وإن كانت النجاسة في إناء فيه شيء ففيه وجهان: أحدهما تجزئ فيه المكاثرة كالأرض والثاني لا تجزئ حتى يراق ما فيه ثم يغسل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء: فليهرقه

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 135. الترمذي في كتاب الجمعة باب 77. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 77. أحمد في مسنده "1/76، 97". 2 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 26. مسلم في كتاب الطهارة حديث 87. أبو داود في كتاب الطهارة باب 49. الترمذي في كتاب الطهارة باب 19. النسائي في كتاب الطهارة باب 115. أحمد في مسنده "2/241، 253".

ثم ليغسله سبع مرات وإن كانت النجاسة خمراً فغسلها وبقيت الرائحة ففيه قولان: أحدهما لا يطهر كما لو بقي اللون والثاني يطهر لأن الخمر لها رائحة شديدة فيجوز أن يكون لقوة رائحتها تبقى الرائحة غير جزء من النجاسة وإن كانت النجاسة دماً فغسله فلم يذهب الأثر أجزاءه لما روي أن خولة بنت يسار قالت: يارسول الله أرأيت لو بقي أثر فقال صلى اله عليه وسلم: "الماء يكفيك ولا يضرك أثره" وإن كان الثوب نجساً فغمسه في إناء فيه دون القلتين من الماء نجس الماء ولا يطهر الثوب ومن أصحابنا من قال: إن قصد إزالة النجاسة لم ينجسه وليس بشيء لأن القصد لا يعتبر في إزالة النجاسة ولذلك يطهر بماء المطر وبغسل المجنون قال أبو العباس بن القاص: إذا كان ثوب كله نجس فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة لأنه إذا صب على بعضه ماءً ورد جزء من البعض الآخر على الماء فنجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب. فصل: إذا أصاب الأرض نجاسة ذائبة في موضع ضاح فطلعت عليه الشمس وهبت عليه الريح فذهب أثرها ففيه قولان: قال في القديم والإملاء: يطهر لأنه لم يبق شيء من النجاسة فهو كما لو غسل بالماء وقال في الأم: لا يطهر وهو الأصح لأنه محل نجس فلا يطهر بالشمس كالثوب النجس وإن طبخ البن الذي خلط بطينه السرجين لم يطهر لأن النار لا تطهر النجاسة وقال أبو الحسن بن المرزبان: إذا غسل طهر ظاهره فتجوز الصلاة عليه ولا تجوز الصلة فيه لأن ما فيه من السرجين كالزئبر في الثوب

فيحترق بالنار لذلك يتثقب موضعه وإذا غسل طهر فجازت الصلاة عليه والمذهب الأول وإن أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه على الأرض نظرت فإن كانت النجاسة رطبة لم يجز وإن كانت يابسة ففيه قولان: قال في الجديد: لا يجوز حتى يغسله لأنه ملبوس نجس فلا يجزيء فيه المسح كالثوب وقال في الإملاء والقديم: يجوز لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه فإن كان بهما خبث فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما1" ولأنه تتكرر فيه النجاسة فأجزأ فيه المسح كموضع الاستنجاء.

_ 1 رواه أحمد في مسنده "3/92".

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة مدخل ... كتاب الصلاة الصلوات المكتوبات خمس لما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: أتى رسول صلى الله عليه وسلم رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس صلوات كتبهن الله عليك في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرها؟ فقال: "لا إلا أن تطوع1" فصل: ولا يجب ذلك إلا على مسلم بالغ عاقل طاهر فأما الكافر فإن كان أصلياً لم تجب عليه وإذا أسلم لم يخاطب بقضائها لقوله عز وجل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ولأن في إيجاب ذلك عليه تنفيراً عن الإسلام فعفى عنه وإن كان مرتداً وجبت عليه وإذا أسلم لزمه قضاؤه لأنه اعتقد وجوبها وقدر على التسبب إلى أدائها فهو كالمحدث وأما الصبي فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق2" ولا يجب عليه القضاء إذا بلغ لأن زمان الصغر يطول فلو أوجبنا القضاء لشق فعفي عنه وأما من زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة" فنص على المجنون وقسنا عليه كل من زال عقله بسبب مباح ومن زال عقله بمحرم كمن شرب المسكر أو تناول دواء من غير حاجة فزال عقله وجب عليه القضاء إذا أفاق لأنه زال

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 34. في كتاب الإيمان حديث 8. أبو داود في كتاب الصلاة باب 1، الترمذي في كتاب الزكاة باب 2. الموطأ في كتاب السفر حديث 94. 2 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 17. أحمد في مسنده "1/116".

عقله بمحرم فلم يسقط عنه الفرض وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما فعل الصلاة لما ذكرناه في باب الحيض فإن جن في حال الردة ففاته صلوات لزمه قضاؤها وإن حاضت المرأة في حال الردة ففاتها صلوات لم يلزمها قضاؤها لأن سقوط الصلاة عن المجنون للتخفيف والمرتد لا يستحق التخفيف وسقوط الصلاة عن الحائض عزيمة ليس لأجل التخفيف والمرتد من أهل العزائم. فصل: ولا يؤمر أحد ممن لا يجب عليه فعل الصلاة بفعلها إلا الصبي فإنه يؤمر بفعلها لسبع ويضرب على تركها لعشر لما روى سمرة الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر1" فإن دخل في الصلاة ثم بلغ في أثنائها قال الشافعي رحمه الله تعالى: أحببت أن يتم ويعيد ولا يبين لي أن عليه الإعادة قال أبو إسحاق: يلزمه الإتمام ويستحب له أن يعيد وقوله أحببت يرجع إلى الجمع بين الإتمام والإعادة وهو الظاهر من المنصوص والدليل عليه أن صلاته صحيحة وقد أدركه الوجوب وهو فيها فلزمه الإتمام ولا يلزمه أن يعيد لأنه صلى الواجب بشروطه فلا يلزمه الإعادة وعلى هذا لو صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره أجزأه ذلك عن الفرض لأنه صلى صلاة الوقت بشروطها فلا يلزمه الإعادة وحكي عن أبي العباس مثل قول أبي إسحاق وحكي عنه أنه قال: يستحب الإتمام وتجب الإعادة فعلى هذا إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره لزمه أن يعيد لأن ما صلى قبل البلوغ نفل فاستحب إتمامه ويلزمه أن يعيد لأنه أدرك وقت الفرض ولم يأت به فلزمه أن يأتي به ومن أصحابنا من قال: إن خرج منها ثم بلغ ولم يبق من وقتها ما يمكن قضاؤها فيه لم يلزمه الإعادة وإن بقي من وقتها ما يمكن قضاؤها فيه لزمه الإعادة وهذا غير صحيح لأنه لو وجبت الإعادة إذا بقي من الوقت قدر الصلاة لوجبت الإعادة إذا أدرك من الوقت مقدار ركعة. فصل: ومن وجبت عليه الصلاة وامتنع من فعلها فإن كان جاحداً لوجوبها فهو كافر ويجب قتله بالردة لأنه كذب الله تعالى في خبره وإن تركها وهو معتقد لوجوبها

_ 1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 182. أبو داود في كتاب الصلاة باب 26.

وجب عليه القتل وقال المزني يضرب ولا يقتل والدليل على أنه يقتل قوله صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل المصلين ولأنها إحدى دعائم الإسلام لا تدخلها النيابة بنفس ولا مال فقتل بتركها كالشهادتين ومتى يقتل؟ فيه وجهان قال أبو سعيد الأصطخري: يقتل بترك الصلاة الرابعة إذا ضاق وقتها فيقال له إن صليت وإلا قتلناك لأنه يجوز أن يكون ما دون ذلك تركه لعذر وقال أبو إسحاق يقتل بترك الصلاة الثانية إذا ضاق وقتها فيقال له إن صليت وإلا قتلناك ويستتاب كما يستتاب المرتد لأنه ليس بأعظم من المرتد وفي استتابة المرتد قولان: أحدهما ثلاثة أيام والثاني يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل وكيف يقتل؟ المنصوص أنه يقتل ضرباً بالسيف وقال أبو العباس: لا يقصد قتله لكن يضرب بالخشب وينخس بالسيف حتى يصلي أو يموت كما يفعل بمن قصد النفس أو المال ولا يكفر بترك الصلاة لأن الكفر بالاعتقاد واعتقاده صحيح فلم يحكم بكفره ومن أصحابنا من قال يكفر بتركها لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر1" والمذهب الأول والخبر متأول.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب 9. النسائي في كتاب الصلاة باب 8. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 77. أحمد في مسنده "5/346".

باب مواقيت الصلاة

باب مواقيت الصلاة أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وآخره إذا صار ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون للشخص عند الزوال والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت مرتين فصلى بين الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك ثم صلى بي المرة الأخيرة حين كان ظل كل شيء مثله". فصل: وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد أدنى زيادة وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وصلى بي جبريل العصر حين كان ظل كل شيء مثله ثم صلى بي المرة الأخيرة حين كان ظل كل

شيء مثليه1" ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز والأداء إلى غروب الشمس وقال أبو سعيد الاصطخري: إذا صار ظل كل شيء مثليه فاتت الصلاة ويكون ما بعده وقت القضاء والمذهب الأول لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى2". فصل: وأول وقت المغرب إذا غابت الشمس لما روي أن جبريل عليه السلام صلى المغرب حين غابت الشمس وأفطر الصائم وليس لها إلا وقت واحد وهو بمقدار ما يتطهر ويستر العورة ويؤذن ويقيم الصلاة ويدخل فيها فإن أخر الدخول عن هذا الوقت أثم لما روى ابن عباس أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة كما صلاها في المرة الأولى ولم يغير ولو كان لها وقت آخر لبين كما بين في سائر الصلوات فإن دخل فيها في وقتها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب والثاني لا يجوز أن يستديمها أكثر من قدر ثلاث ركعات لأن جبريل عليه السلام صلى ثلاث ركعات والثالث أن له أن يصلي مقدار أول الوقت في سائر الصلوات لأنه لا يكون مؤخراً في هذا القدر ويكون مؤخراً فيما زاد عليه ويكره أن يسمى صلاة المغرب العشاء لما روى عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاة المغرب3" ويقول الأعراب العشاء. فصل: وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وهو الحمرة وقال المزني: الشفق البياض والدليل عليه أن جبريل عليه السلام صلى العشاء الأخيرة حين غاب الشفق والشفق هو الحمرة والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت

_ 1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 1. أبو داود في كتاب الصلاة باب 2. النسائي في كتاب المواقيت باب 15. أحمد في مسنده "1/ 332، 354". 2 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 11. الترمذي في كتاب المواقيت باب 16. مسلم في كتاب المساجد حديث 311. 3 رواه تالبخاري في كتاب المواقيت باب 19. مسلم في كتاب المساجد حديث 228 أبو داود في كتاب الأدب باب 78. أحمد في مسنده "2/10، 433".

المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق" ولأنها صلاة تتعلق بإحدى النيرين المتفقين في الاسم الخاص فتعلقت بأظهرهما وأنورهما كالصبح وفي آخره قولان: قال في الجديد إلى ثلث الليل لما روي أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل وقال في القديم والإملاء: إلى نصف الليل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل" ثم يذب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني وقال سعيد الاصطخري: إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه فاتت الصلاة وتكون قضاء والمذهب الأول لما رويناه من حديث أبي قتادة ويكره أن يسمى العشاء العتمة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم" قال ابن عيينة إنها العشاء وإنهم يعتمون بالإبل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها لما روى أبو هريرة قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها. فصل: ووقت الصبح إذا طلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق الذي يحرم به الطعام والشراب على الصائم وآخره إذا أسفر الصبح لما روي أن جبريل عليه السلام صلى الصبح حين طلع الفجر وصلى من الغد حين أسفر ثم التفت وقال: هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك وفيما بين هذين وقت ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى حين طلوع الشمس وقال أبو سعيد الاصطخري: يذهب الوقت وما بعده وقت القضاء والمذهب الأول لحديث أبي قتادة ويكره أن تسمى صلاة الغداة لأن الله تعالى سماها بالفجر فقال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فقال: "من أدرك ركعة من الصبح فقد أدركها1" فصل: وتجب الصلاة في أول الوقت لأن الأمر تناول أول الوقت فاقتضى الوجوب فيه والأفضل فيما سوى الظهر والعشاء التقديم في أول الوقت لما روى عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة في أول وقتها2" ولأن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها قال الشافعي رحمه الله تعالى: ومن المحافظة عليها تقديمها في أول الوقت لأنه إذا أخرها عرضها للنسيان وحوادث الزمان وأما الظهر فإنه إن كان في غير حر شديد فتقديمها أفضل لما ذكرناه وإن كان في حر شديد ويصلي في جماعة

_ 1رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 28. مسلم في كتاب المساجد حديث 161 -165. النسائي في كتاب المواقيت باب 11 ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 91. 2 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 137، 140، أحمد في مسنده "1/418،442".

في موضع يقصده الناس من البعد فالمستحب الإبراد بها بمقدار ما يحصل فيء يمشي فيه القاصد إلى الصلاة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم1" وفي صلاة الجمعة وجهان: أحدهما أنها كالظهر لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد البرد بكر بها وإذا اشتد الحر أبرد بها والثاني أن تقديمها أفضل بكل حال لأن الناس لا يتأخرون عنها لأنهم قد ندبوا إلى التبكير إليها فلم يكن للتأخير وجه وأما العشاء ففيها قولان: قال في القديم والإملاء: تقديمها أفضل وهو الأصح لما ذكرناه في سائر الصلوات وقال في الجديد: تأخيرها أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة2". فصل: وآكد الصلاة في المحافظة عليها الصلاة الوسطى لأن الله عز وجل خصها بالذكر فقال: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] والصلاة الوسطى هي الصبح والدليل عليه أن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فقرنها بالقنوت ولا قنوت إلا في الصبح ولأن الصبح يدخل وقتها والناس في أطيب نوم فخصت بالمحافظة عليها حتى لا يتغافل عنها بالنوم ولهذا خصت بالتثويب فدل على ما قلناه فصل: ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله3" ولأنا لو لم نجوز التأخير لضاق على الناس فسمح لهم بالتأخير فإن صلى ركعة في الوقت ثم خرج الوقت ففيه وجهان: أحدهما وهو ظاهر المذهب وهو قول أبي علي بن خيران أنه يكون مؤدياً للجميع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ومن أصحابنا من قال: يكون مؤدياً لما صلى في الوقت قاضياً لما صلى بعد خروج الوقت اعتباراً بما أدركه من الوقت وبما صلى بعد خروج الوقت

_ 1 رواه البخاري في كتاب الموقيت باب 9، 10. أبو داود في كتاب الصلاة باب 4. الترمذي في كتاب الصلاة باب 5. النسائي في كتاب المواقيت باب 5. أحمد في مسنده "2/229، 238". 2 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 103،106 البخاري في كتاب الإيمان باب 26. أبو داود في كتاب الطهارة باب 25. الترمذي في كتاب الطهارة باب 25. الترمذي في كتاب الطهارة باب 18 الموطأ في كتاب الطهارة حديث 114. أحمد في مسنده "1/80" 2/28". 3 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 13.

فصل: ولا يعذر أحد من أهل الفرض في تأخير الصلاة عن وقتها إلا نائم أو ناس أو مكروه أو من يؤخرها للجمع لعذر السفر والمطر لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى1" فنص على النائم وقسنا عليه الناسي والمكروه لأنهما في معناه وأما من يؤخرها لسفر أو مطر فإنما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. فصل: إذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء أو أفاق المجنون أو المغمى عليه وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة لزمه فرض الوقت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر2" فإن بقي من الوقت دون الركعة ففيه قولان: روى المزني عنه أنه لا يلزمه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ولأنه بدون الركعة لا يدرك الجمعة فكذلك ههنا وقال في كتاب استقبال القبلة: يلزمه بقدر تكبيرة لأنه إدراك حرمة فاستوى فيه الركعة والتكبيرة كإدراك الجماعة وتخالف الجمعة فإنه إدراك فعل فاعتبر فيه الركعة وهذا إدراك حرمة فهو كالجماعة وأما الصلاة التي قبلها فينظر فيها فإن كان ذلك في وقت الصبح أو الظهر أو المغرب لم يلزمه ما قبلها لأن ذلك ليس بوقت لا قبلها وإن كان ذلك في وقت العصر أو في وقت العشاء قال في الجديد: يلزمه الظهر بما يلزم به العصر ويلزم المغرب بما يلزم به العشاء وفيما يلزم به العصر والعشاء قولان: أحدهما ركعة والثاني تكبيرة والدليل عليه أن وقت العصر وقت الظهر ووقت العشاء وقت المغرب في حق أهل العذر وهو المسافر وهؤلاء من أهل العذر فجعل ذلك وقتاً لها في حقهم وقال في القديم: فيه قولان: أحدهما يجب بركعة وطهارة والثاني يجب الظهر والعصر بمقدار خمس ركعات أربع للظهر وركعة للعصر وتجب المغرب مع العشاء بأربع ركعات ثلاث للمغرب وركعة للعشاء لأن الوقت اعتبر لإدراك الصلاتين فاعتبر وقت يمكن الفراغ من إحداهما والشروع في الأخرى وغلط أبو إسحاق في هذا فقال أربع من العصر وركعة من الظهر وأربع من العشاء وركعة من المغرب وهذا خلاف النص في القديم وخلاف النظر لأن العصر تجب بركعة فدل على أن الأربع للظهر وخرج أبو إسحاق في المسألة قولاً خامساً أنه يدرك الظهر والعصر بمقدار إحدى الصلاتين وتكبيرة.

_ 1 تقدم. 2 تقدم.

فصل: وأما إذا أدرك جزءاً من أول الوقت ثم طرأ العذر بأن كان عاقلاً في أوال الوقت ثم جن أو طاهرة فحاضت نظرت فإن لم يدرك ما يتسع لفرض الوقت سقط الوجوب ولم يلزمه القضاء وقال أبو يحيى البلخي: حكمه حكم آخر الوقت فيلزمه في أحد القولين بركعة وفي الثاني بتكبيرة والمذهب الأول لأنه لم يتمكن من فعل الفرض فسقط وجوبه كما لو هلك النصاب بعد الحول وقبل التمكن من الأداء ويخالف آخر الوقت فإنه يمكنه أن يبني ما بقي على ما أدرك بعد خروج الوقت فيلزمه وإن أدرك من الوقت ما يسع الفرض ثم طرأ الجنون أو الحيض استقر الوجوب ولزمه القضاء إذا زال العذر وحكى عن أبي العباس أنه قال: لا يستقر حتى يدرك آخر الوقت والمذهب الأول لأنه وجب عليه وتمكن من أدائه فأشبه إذا وجبت الزكاة وتمكن من أدائها فلم يخرج حتى هلك المال وأما الصلاة التي بعدها فإنها لا تلزمه وقال أبو يحيى البلخي: تلزمه العصر بإدراك وقت الظهر وتلزمه العشاء بإدراك وقت المغرب لأن وقت الأولى وقت الثانية في حال الجمع كما أن وقت الثانية وقت الأولى في حال الجمع فإذا لزمته الأولى بإدراك وقت الثانية لزمته الثانية بإدراك وقت الأولى والمذهب الأول لأن وقت الأولى وقت الثانية على سبيل التبع ولهذا لا يجوز فعل الثانية حتى تقدم الولى بخلاف وقت الثانية فإنه وقت الأولى لا على وجه التبع ولهذا يجوز فعلها قبل الثانية. فصل: ومن وجبت عليه الصلاة فلم يصل حتى فات الوقت لزمه قضاؤها لقوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها1" والمستحب أن يقضيها على الفور للحديث الذي ذكرناه وإن أخرها جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة الصبح فلم يصلها حتى خرج من الوادي ولو كانت على الفور لما أخرها وقال أبو إسحاق: إن تركها لغير عذر لزمه قضاؤها على الفور لأنه مفرط في التأخير وإن فاتته صلوات فالمستحب أن يقضيها على الترتيب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات يوم الخندق فقضاها على الترتيب فإن قضاها من غبر ترتيب جاز لأنه ترتيب إستحق للفوت فسقط بفوات الوقت كقضاء الصوم وإن ذكر الفائتة وقد ضاق وقت الصلاة الحاضرة لزمه لأن يبدأ بالحاضرة لأن الوقت تعين لها فوجب البداية بها كما لو حضره رمضان وعليه صوم رمضان آخر ولأنه إذا أخر الحاضرة فاتت فوجب البداية بها وإن نسي صلاة ولم يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات وقال المزني: يلزمه أن يصلي أربع ركعات وينوي الفائتة ويجلس في

_ 1 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309 الترمذي في كتاب الصلاة باب 16. النسائي في كتاب المواقيت باب 52 – 54 الموطأ في كتاب المواقيت حديث 25.

ركعتين ثم يجلس في الثالثة ثم يجلس في الرابعة ويسلم وهذا غير صحيح لأن تعيين النية شرط في صحة الصلاة ولا يحصل ذلك إلا بأن يصلي خمس صلوات بخمس نيات.

باب الآذان والإقامة

باب الآذان والإقامة الأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار المسلمين فيما يجمعهم على الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود ثم ذكر الناقوس فكرهه من أجل النصارى فأري تلك الليلة عبد الله بن زيد النداء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن به وهو أفضل من الإمامة ومن أصحابنا من قال: الإمامة أفضل لأن الأذان إنما يراد للصلاة فكان القيام بأمر الصلاة أولى من القيام بما يراد لها والأول أصح لقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] قالت عائشة رضي الله عنها الله عنها: نزلت في المؤذنين ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين1" والأمناء أحسن حالاً من الضمناء وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو كنت مؤذناً لما باليت أن لا أجاهد ولا أحج ولا أعتمر بعد حجة الإسلام فإن تنازع جماعة في الأذان وتشاحوا أقرع بينهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا2". فصل: وهما سنتان ومن أصحابنا من قال هما فرض من فروض الكفاية فإن اتفق أهل بلد أو أهل صقع على تركهما قوتلوا عليه لأنه من شعار الإسلام فلا يجوز تعطيله وقال أبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري: هو سنة إلا في الجمعة فإنه من فرائض الكفاية فيها لأنه لما اختصت الجمعة بوجوب الجماعة اختصت بوجوب الدعاء إليها والمذهب الأول لأنه دعاء إلى الصلاة فلا يجب كقوله الصلاة جامعة. فصل: وهل يسن للفوائت؟ فيه ثلاثة أقوال: قال في الأم: يقيم لها ولا يؤذن والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 39. أبو داود في كتاب الصلاة باب 32. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 47. أحمد في مسنده "2/232/ 382". 2 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 9. مسلم في كتاب الصلاة حديث 129 الترمذي في كتاب المواقيت باب 52. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 6. أحمد في مسنده "2/303، 533".

الليل حتى كفينا وذلك قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام فصلاها وأحسن كما تصلى في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ولأن للإعلام بالوقت وقد فات الوقت والإقامة تراد لإفتتاح الصلاة وذلك موجود وقال في القديم: يؤذن ويقيم للأولى وحدها ويقيم للتي بعدها والدليل عليه ما روى عبد الله بن مسعود أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن ثم أقام وصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ولأنهما صلاتان جمعهما في وقت واحد فكانتا بأذان وإقامتين كالمغرب والعشاء بالمزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بأذان وإقامتين وقال في الإملاء: إن أمل اجتماع الناس أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام والدليل عليه أن الأذان يراد لجمع الناس فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه وإذا أمل كان له وجه قال أبو إسحاق: وعلى هذا القول الصلاة الحاضرة أيضاً إذا أمل الاجتماع لها أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام ولم يؤذن فإن جمع بين صلاتين فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما أذن وأقام للأولى وأقام الثانية كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وإن جمع بينهما في وقت الثانية فهما كالفائتتين لأن الأولى قد فات وقتها والثانية تابعة لها وقد بينا حكم الفوائت. فصل: ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول الوقت لأنه يراد بها الإعلام بالوقت فلا يجوز قبله وأما الصبح فيجوز لها بعد نصف الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً لا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" ولأن الصبح يدخل وقتها والناس نيام وفيهم الجنب والمحدث فاحتيج إلى تقديم الأذان ليتأهب الناس للصلاة ويخالف سائر الصلوات فإنه يدخل وقتها والناس مستيقظون فلا يحتاج إلى تقديم الأذان وأما الإقامة فلا يجوز تقديمها على الوقت لأنها تراد لاستفتاح الصلاة فلا تجوز قبل الوقت

فصل: والأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ثم يرجع فيمد صوته فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله لما روى أبو محذورة قال: ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين بنفسه فقال: قل الله أكبر الله أكبر فذكر نحو ما قلناه فإن كان في

أذان الصبح زاد فيه التثويب وهو أن يقول بعد الحيعلة الصلاة خير من النوم مرتين وكره ذلك في الجديد وصلت وقال أصحابنا: يسن ذلك قولاً واحداً فإنه إنما كره ذلك في الجديد لأن أبا محذورة لم يحكمه وقد صح في حديث أبي محذورة أنه قال له حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا

الله وأما الإقامة فإنها إحدى عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وقال في القديم الإقامة مرة مرة لأنه لفظ في الإقامة فكان فرادى كالحيعلة والأول أصح لما روى أنس رضي الله عنه قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولأن سائر ألفاظ الإقامة إلا الإقامة قد قضى حقه في أول الأذان فأعيدت على النقصان كآخر الأذان ولفظ الإقامة لم يقض حقه في الأذان فلم يلحق النقصان. فصل: ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل فأما الكافر والمجنون فلا يصح أذانهما لأنهما ليسا من أهل العبادات ويصح من الصبي العاقل لأنه من أهل العبادات ويكره للمرأة أن تؤذن ويستحب لها أن تقيم لأن في الأذان ترفع الصوت وفي الإقامة لا ترفع الصوت فإن أذنت للرجال لم يعتد بأذانها لأنه لا تصح إمامتها للرجال فلا يصح تأذينها لهم. فصل: ويستحب أن يكون المؤذن حراً بالغاً لما روى ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً يؤذن لكم خياركم وقال عمر رضي الله عنه لرجل: من مؤذنوكم؟ فقالوا موالينا أو عبيدنا فقال: إن ذلك لنقص كبير والمستحب أن يكون عدلاً لأنه أمين على المواقيت ولأنه يؤذن على موضع عال فإذا لم يكن أميناً لم يؤمن أن ينظر إلى العورات وينبغي أن يكون عارفاً بالمواقيت لأنه إذا لم يعرف ذلك غر الناس بأذانه والمستحب أن يكون من ولد من جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأذان فيهم أو من الأقرب فالأقرب إليهم لما روى أبو محذورة قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان لنا وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الملك في قريش والقضاء في الأنصار والأذان في الحبشة1" والمستحب أن يكون صيتاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة لصوته ويستحب أن يكون حسن الصوت لأنه أرق لسامعيه ويكره أن يكون المؤذن أعمى لأنه ربما غلط في المواقيت فإن كان معه

_ 1 رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 71. أحمد في مسنده "2/364".

بصير لم يكره لأن ابن أم مكتوم كان يؤذن مع بلال والمستحب أن يكون على طهارة لما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق وسنة أن لا يؤذن لكم أحدكم إلا وهو طاهر" ولأنه لم يكن على طهارة انصرف لأجل الطهارة فيجيء من يريد الصلاة فلا يرى أحداً فينصرف والمستحب أن يكون على موضع عال لأن الذي رآه عبد الله بن زيد كان على جذم حائط ولأنه أبلغ في الإعلام والمستحب أن يؤذن قائماً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال قم فنادي" ولأنه أبلغ في الإعلام فإن كان مسافراً وهو راكب أذن وهو قاعد كما يصلي وهو قاعد والمستحب أن يكون مستقبل القبلة فإن بلغ إلى الحيلعة لوى عنه يميناً وشمالاً ولا يستدبر لما روى أبو جحيفة قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذن واستقبل القبلة فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدبر ولأنه إذا لم يكن له بد من جهة فجهة القبلة أولى والمستحب أن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه لما روى أبو جحيفة قال: رأيت بلالاً وأصبعاه في صماخي أذنيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء ولأن ذلك أجمع للصوت المستحب أن يرسل في الأذان ويدخل الأقامة لما روي عن أبي الزبير مؤذن بيت المقدس أن عمر رضي الله عنه قال: إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم ولأن الأذان للغائبين فكان الترسل فيه أبلغ والإقامة للحاضرين فكان الإدراج فيها أشبه ويكره التمطيط وهو

التمديد والتغني وهو الترطيب لما روي أن رجلاً قال لابن عمر: إني لأحبك في الله قال: وأنا أبغضك في الله إنك تغني في أذانك قال حماد: التغني الترطيب والمستحب أن يرفع صوته في الأذان إذا كان يؤذن للجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم "يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس1" ولأنه أبلغ في جمع الجماعة ولا يبالغ بحيث يشق حلقه لما روي أن عمر رضي الله عنه سمع أبا محذورة وقد رفع صوته فقال له: أما خشيت أن تنشق مريطاؤك قال: أحببت أن يرفع صوتي فإن أسر بالأذان لم يعتد به لأنه لا يحصل به المقصود وإن كان يؤذن لصلاته وحده لم يرفع الصوت لأنه لا يدعو غيره فلا وجه لرفع الصوت والمستحب أن يكون رفع الصوت في الإقامة دون رفع الصوت في الأذان لأن الإقامة للحاضرين ويجب أن يرتب الأذان لأنه إذا نكسه لم يعلم السامع أن ذلك أذان والمستحب أن لا يتكلم في أذانه فإن تكلم لم يبطل أذانه لأنه إذا لم تبطل الخطبة بالكلام فلأن لا يبطل الأذان أولى فإن أغمي عليه وهو في الأذان لم يجز لغيره أن يبني عليه لأن الأذان من الاثنين لا يحصل به المقصود لأن السامع يظن أن ذلك على وجه اللهو واللعب فإن أفاق في الحال وبنى عليه جاز لأن المقصود يحصل به وإن ارتد في الأذان ثم رجع إلى الإسلام في الحال ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز يبني عليه لأن ما فعله بطل بالردة والمذهب أنه يجوز لأن الردة إنما تبطل إذا اتصل بها الموت وههنا رجع قبل الموت فلم يبطل. فصل: والمستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيلعة فإنه

_ 1 رواه النسائي في كتاب الأذان باب 14. ابن ماجه في كتاب الأذان باب 5. أبو داود في كتاب الصلاة باب 31.

يقول لا حول ولا قوة إلا بالله لما روى عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر فقال: أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله فقال أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال حي على الصلاة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر فقال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة" فإن سمع ذلك وهو في الصلاة لم يأت به في الصلاة فإذا فرغ أتى به وإن كان في قراءة أتى به ثم رجع إلى القراءة لأنه يفوت والقراءة لا تفوت ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولما روى عبد الله ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً1" ثم سأل الله تعالى لي الوسيلة فيقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال

_ 1 رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 13. الترمذي في كتاب الصلاة باب 42. ابن ماجه في كتاب الأذان باب 4.

حين يسمع النداء ذلك حلت له الشفاعة يوم القيامة1" وإن كان الأذان للمغرب قال: اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول ذلك ويدعو الله تعالى بين الأذان والإقامة لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة فادعوا2" والمستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة لأن الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن وقعد قعدة ولأنه إذا وصل الأذان بالإقامة فات الناس الجماعة فلم يحصل المقصود بالأذان ويستحب أن يتحول من موضع الأذان إلى موضع غيره للإقامة لما روي في حديث عبد الله بن زيد ثم استأخر غير كثير ثم قال مثل ما قال وجعلها وتراً والمستحب أن يكون المقيم هوالمؤذن لأن زياد بن الحارث الصدائي أذن فجاء بلال ليقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم فإن أذن واحد وأقام غيره جاز لأن بلالاً أذن وأقام عبد الله بن زيد ويستحب لمن سمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي لفظ الإقامة يقول أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض لما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة اثنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان بلال وابن أم مكتوم وإن احتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة لأنه كان لعثمان رضي الله عنه أربعة والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد كما فعل بلال وابن أم مكتوم ولأن ذلك أبلغ في الإعلام ويجوز استدعاء الأمر إلى الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن بلالاً جاء فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قال ابن قسيط: وكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنها كما كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: وإذا وجد من يتطوع بالأذان لم يرزق المؤذن من بيت المال لأن مال بيت

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 7. مسلم في كتاب الصلاة حديث 10. الترمذي في كتاب الصلاة باب 40. الموطأ في كتاب النداء حديث 2. 2 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 35. الترمذي في كتاب الصلاة باب 44.

المال جعل للمصلحة ولا مصلحة في ذلك وإن لم يوجد من يتطوع رزق من يؤذن من خمس الخمس لأن ذلك من المصالح وهل يجوز أن يستأجر؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو اختيار الشيخ أبي حامد الاسفراني رحمه الله لأنه قربة في حقه فلم يستأجر عليه كالإمامة في الصلاة والثاني يجوز لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال.

باب طهارة البدن من النجاسة

باب طهارة البدن من النجاسة وما يصلى عليه وفيه الطهارة ضربان: طهارة عن حدث وطهارة عن نجس فأما الطهارة عن حدث فهي شرط في صحة الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول1" وقد مضى حكمها في كتاب الطهارة وأما طهارة البدن عن النجس فهي شرط في صحة الصلاة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه2" والنجاسة ضربان: دماء وغير دماء فأما غير الدماء فينظر فيه فإن كان قدرا يدركه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 2. مسلم في كتاب الطهارة حديث 1. أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 1. الدارمي في كتاب الوضوء باب 21. أحمد في مسنده "2/20، 39، 73". 2 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 26. أحمد في مسنده "2/326،388".

الطرف لم يعف عنه لأنه لا يشق الاحتراز منه وإن كان قدراً لا يدركه الطرف ففيه ثلاث طرق: أحدها أنه يعفى عنه لأنه لا يدركه الطرف فعفى عنه كغبار السرجين والثاني لا يعفى عنه لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالذي يدركه الطرف والثالث أنه على قولين: أحدهما يعفى عنه والثاني لا يعفى عنه ووجه القولين ما ذكرناه وأما الدماء فينظر فيها فإن كان دم القمل والبراغيث وما أشبههما فإنه يعفى عن قليله لأنه يشق الاحتراز منه فلو لم يعف عنه شق وضاق وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وفي كثيره وجهان: قال أبو سعيد الإصطخري: لا يعفى عنه لأنه نادر لا يشق غسله وقال غيره: يعفى عنه وهو الأصح لأن هذا الجنس يشق الاحتراز في الغالب فألحق نادره بغالبه وإن كان دم غيرهما من الحيوان ففيه ثلاثة أقوال: قال في الأم: يعفى عن قليله وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة لأن الإنسان لا يخلو من بثرة وحكة يخرج منها هذا القدر فعفى عنه وقال في الإملاء لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالبول وقال في القديم: يعفى عما دون الكف ولا يعفى عن الكف والأول أصح. فصل: إذا كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها ولم يجد ما يغسل به صلى وأعاد كما قلنا فيمن لم يجد ماء ولا ترابا وإن كان على فرجه دم يخاف من غسله صلى وأعاد وقال في القديم: لا يعيد لأنها نجاسة يعذر في تركها فسقط معها الفرض كأثر الاستنجاء والأول أصح لأنه صلى بنجس نادر غير معتاد متصل فلم يسقط عنه الفرض كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن جبر عظمه بعظم نجس فإن لم يخف التلف من قلعة لزمه قلعه لأنها نجاسة غير معفو عنها أوصلها إلى موضع يلحقه حكم التطهير لا يخاف

التلف من إزالتها فأشبه إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس فإن امتنع من قلعه أجبره السلطان على قلعه لأنه مستحق عليه يدخله النيابة فإذا امتنع لزم السلطان أن يقلعه كرد المغصوب وإن خاف التلف من قلعه لم يجب قلعه ومن أصحابنا من قال يجب قلعه لأنه حصل بفعله وعدوانه فانتزع منه وإن خيف عليه التلف كما لو غصب مالاً ولم يمكن انتزاعه منه إلا بضرب يخاف منه التلف والمذهب الأول لأن النجاسة يسقط حكمها عند خوف التلف ولهذا يجوز أكل الميتة عند خوف التلف فكذلك ههنا وإن مات فقد قال أبو العباس: يقلع حتى لا يلقى الله تعالى حاملاً للنجاسة والمنصوص أنه لا يقلع لأن قلعه للعبادة وقد سقطت العبادة عنه بالموت وإن فتح موضعاً من بدنه وطرح فيه دماً والتحم وجب فتحه وإخراجه كالعظم ومن شرب خمراً فالمنصوص في صلاة الخوف أن يلزمه أن يتقايأ لما ذكرناه في العظم ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأن النجاسة حصلت في معدنها فصار كالطعام الذي أكله وحصل في المعدة. فصل: وأما طهارة الثوب الذي يصلي فيه فهي شرط في صحة الصلاة والدليل عليه قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وإن كان على ثوبه نجاسة غير معفو عنها ولم يجد ما يغسل به صلى عرياناً ولا يصلي في الثوب النجس وقال في البويطي: وقد قيل يصلي فيه ويعيد والمذهب الأول لأن الصلاة مع العري يسقط بها الفرض ومع النجاسة لا يسقط لأنه تجب إعادتها فلا يجوز أن يترك صلاة يسقط بها الفرض إلى صلاة لا يسقط بها الفرض وإن اضطر إلى لبس الثوب النجس لحر أو برد صلى فيه وأعاد إذا قدر لأنه صلى بنجس نادر غير مفصل فلا يسقط معه الفرض كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن قدر على غسله وخفي عليه موضع النجاسة لزمه أن يغسل الثوب كله ولا يتحرى فيه لأن التحري إنما يكون في عينين فإذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما رده إلى أصله وإنه طاهر بيقين وهذا لا يوجد في الثوب الواحد وإن شقه نصفين لم يتحر فيه لأنه يجوز أن يكون الشق في موضع النجاسة فتكون القطعتان نجستين وإن كان معه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس واشتبها عليه تحرى وصلى في الطاهر على الأغلب عنده لأنه شرط

من شروط الصلاة يمكنه التوصل إليه بالاجتهاد فيه فجاز التحري فيه كالقبلة وإن اجتهد ولم يؤده الاجتهاد إلى طهارة أحدهما صلى عرياناً وأعاد لأنه صلى عرياناً ومعه ثوب طاهر بيقين وإن أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما ونجاسة الآخر فغسل النجس عنده جاز أن يصلي في كل واحد منهما فإن لبسهما معاً وصلى فيهما ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: تلزمه الإعادة لأنهما صارا كالثوب الواحد وقد تيقن حصول النجاسة وشك في زوالها لأنه يحتمل أن يكون الذي غسله هو الطاهر فلم تصح صلاته كالثوب الواحد إذا أصابته نجاسة وخفي عليه موضعها فتحرى وغسل موضع النجاسة بالتحري وصلى فيه وقال أبو العباس: لا إعادة عليه لأنه صلى في ثوب طاهر بيقين وثوب طاهر في الظاهر فهو كما لو صلى في ثوب اشتراه لا يعلم حاله وثوب غسله وإن كانت النجاسة في أحد الكمين واشتبها عليه ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يتحرى لأنه ثوب واحد وقال أبو العباس: يتحرى لأنهما عينان متميزتان فهما كالثوبين وإن فصل في أحد الكمين من القميص جاز التحري فيه بلا خلاف وإن كان عليه ثوب طاهر وطرفه موضوع على نجاسة كالعمامة على رأسه وطرفها على أرض نجسة لم تجز صلاته لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة فلم تجز صلاته وإن كان في وسطه حبل مشدود إلى كلب صغير لم تصح صلاته لأنه حامل للكلب لأنه إذا مشى انجر معه وإن كان مشدوداً إلى كلب كبير ففيه وجهان: أحدهما لا تصح صلاته لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة فهو كالعمامة على رأسه وطرفها على نجاسة والثاني تصح لأن الكلب اختياراً وإن كان الحبل مشدوداً إلى سفينة فيها نجاسة والشد في موضع طاهر من السفينة فإن كانت السفينة صغيرة لم تجز لأنه حامل للنجاسة وإن كانت كبيرة ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنها منسوبة إليه والثاني يجوز لأنه غير حامل للنجاسة ولا لما هو متصل بالنجاسة فهو كما لو صلى والحبل مشدود إلى باب دار فيها نجس وإن حمل حيواناً طاهراً في صلاته صحت صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدن النجاسة فهو كالنجاسة التي في جوف المصلي وإن حمل قارورة فيها نجاسة وقد شد رأسها ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن النجاسة لا تخرج منها فهو كما لو حمل حيواناً طاهراً والمذهب أنه لا يجوز لأنه حمل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه إذا حمل النجاسة في كمه. فصل: طهارة الموضع الذي يصلي فيه شرط في صحة الصلاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة المجزرة والمزبلة

والمقبرة ومعاطن الإبل والحمام وقارعة الطريق وفوق بيت الله العتيق1" فذكر المجزرة والمزبلة وإنما منع من الصلاة فيهما للنجاسة فدل على أن طهارة الموضع الذي يصلي فيه شرط فإن صلى على بساط وعليه نجاسة غير معفو عنها فإن صلى على الموضع النجس منه لم تصح لأنه ملاق للنجاسة وإن صلى على موضع طاهر منه صحت صلاته لأنه غير ملاق للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بالنجاسة فهو كما لو صلى على أرض طاهرة وفي موضع منها نجاسة فإن صلى على أرض فيها نجاسة فإن عرف موضعها تجنبها وصلى في غيرها وإن فرش عليها شيئاً وصلى عليه جاز لأنه غير مباشر للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بها وإن خفي عليه موضع النجاسة فإن كانت في أرض واسعة فصلى في موضع منها جاز لأنه غير متحقق لها ولأن الأصل فيها الطهارة وإن كانت النجاسة في بيت وخفي عليه موضعها لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله ومن أصحابنا من قال: يصلي فيه حيث شاء كالصحراء وليس بشيء لأن الصحراء لا يمكن حفظها من النجاسة ولا يمكن غسل جميعها والبيت يمكن حفظه من النجاسة فإذا نجس أمكن غسله وإذا خفي موضع النجاسة منه غسله كالثوب وإن كانت النجاسة في أحد البيتين واشتبها عليه تحرى كما يتحرى في الثوبين وإن حبس في حبس ولم يقدر أن

_ 1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 141. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 4.

يتجنب النجاسة في قعوده وسجوده تجافى عن النجاسة وتجنبها في قعوده وأما في السجود إلى الحد الذي لو زاد لاقى النجاسة ولا يسجد على الأرض لأن الصلاة قد تجزئ مع الإيماء ولا تجزئ مع النجاسة وإذا قدر ففيه قولان: قال في القديم: لا يعيد لأنه صلى على حسب حاله فهو كالمريض وقال في الإملاء: بعيد لأنه ترك الفرض لعذر نادر غير متصل فلم يسقط الفرض عنه كما لو ترك السجود ناسياً وإذا عاد ففي الفرض أقوال: قال في الأم: الفرض هو الثاني لأن الفرض به يسقط وقال في القديم: الفرض هو الأول لأن الإعادة مستحبة غير واجبة في القديم وقال في الإملاء: الجميع فرض لأن الجميع يجب فعله فكان الجميع فرضاً وخرج أبو إسحاق قولاً رابعاً إن الله تعالى يحسب له بأيتهما شاء قياساً على ما قال في القديم فيمن صلى الظهر ثم سعى إلى الجمعة فصلاها إن الله تعالى يحسب له بأيتهما شاء. فصل: إذا فرغ من الصلاة ثم رأى على بدنه أو ثوبه أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها نظرت فإن كان جوز أن يكون حدث بعد الفراغ من الصلاة لم يلزمه الإعادة لأن الأصل أنها لم تكن في حال الصلاة فلم تجب الإعادة بالشك كما لو توضأ من بئر وصلى ثم وجد في البئر فأرة فإن علم أنها كانت الصلاة فإن كان قد علم أنها قبل الدخول في الصلاة لزمته الإعادة لأنه فرط في تركها وإن لم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة ففيه قولان: قال في القديم: لا يعيد لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة وخلع الناس نعالهم فقال: مالكم خلعتم نعالكم؟ فقالوا رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال: أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن فيهما قذرا أو قال دم حلمة فلو لم تصح الصلاة لاستأنف الإحرام وقال في الجديد: يلزمه الإعادة لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالجهل كالوضوء. فصل: ولا يصلي في مقبرة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام1" فإن صلى في مقبرة نظرت فإن كانت

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 24. الترمذي في كتاب المواقيت باب 119. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 4. أحمد في مسنده "3/83،86".

مقبرة تكرر فيها النبش لم تصح صلاته لأنه قد اختلط بالأرض صديد الموتى وإن كانت جديدة ولم يتكرر فيها نبش كرهت الصلاة فيها لأنها مدفن النجاسة والصلاة صحيحة لأن الذي باشر بالصلاة طاهر وإن شك هل نبشت أو لا ففيه قولان: أحدهما لا تصح صلاته لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته وهو يشك في إسقاطه والفرض لا يسقط بالشك والثاني تصح لأن الأصل طهارة الأرض فلا يحكم بنجاستها بالشك. فصل: ولا يصلي في الحمام لحديث أبي سعيد الخدري واختلف أصحابنا لأي معنى منع من الصلاة فمنهم من قال إنما منع لأنه يغسل فيه النجاسات فعلى هذا إذا صلى في موضع تحقق طهارته صحت صلاته وإن صلى في موضع تحقق نجاسته لم تصح وإن شك فعلى قولين كالمقبرة ومنهم من قال إنما منع لأنه مأوى الشياطين لما يكشف فيه من العورات فعلى هذا تكره الصلاة فيه وإن تحقق طهارته فالصلاة صحيحة لأن المنع لا يعود إلى الصلاة. فصل: وتكره الصلاة في أعطان الإبل ولا تكره في مراح الغنم لما روى عبد الله بن مغفل المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين1" ولأن في أعطان الإبل لا يمكن الخشوع في الصلاة لما يخاف من

_ 1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 142. النسائي في كتاب المساجد باب 41. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 12. الدارمي في كتاب الصلاة باب 112. أحمد في مسنده "3/404" "4/85، 303".

نفورها ولا يخاف من نفور الغنم. فصل: ويكره أن يصلي في مأوى الشياطين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إخرجوا من هذا الوادي فإن فيه شيطاناً" ولم يصل فيه. فصل: ولا يصلي في قارعة الطريق لحديث عمر رضي الله عنه سبعة مواطن لا يجوز فيها الصلاة وذكر قارعة الطريق ولأنه يمنع الناس من الممر وينقطع خشوعه بممر الناس فإن صلى فيه صحت صلاته لأن المنع لترك الخشوع أو لمنع الناس من الطريق وذلك لا يوجب بطلان الصلاة. فصل: ولايجوز أن يصلي في أرض مغصوبة لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيها صحت صلاته لأن المنع لا يختص بالصلاة فلم يمنع صحتها.

باب ستر العورة

باب ستر العورة ستر العورة عن العيون واجب لقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] قال ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة فهي فاحشة وروي

عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت1" فإن اضطر إلى الكشف للمداواة أو للختان جاز ذلك لأنه موضع ضرورة وهل يجب سترها في حال الخلوة؟ فيه وجهان: أصحهما أنه يجب لحديث علي كرم الله وجهه والثاني لا يجب لأن المنع من الكشف للنظر وليس في الخلوة من ينظر فلم يجب الستر. فصل: وعورة الرجل ما بين السرة والركبة والسرة والركبة ليستا من العورة ومن أصحابنا من قال: هما منها والأول هو الصحيح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته2" فأما الحرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجهها وكفيها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة في الحرام عن لبس القفازين والنقاب ولو كان الوجه والكف عورة لما حرم سترهما في الإحرام ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه في البيع والشراء وإلى إبراز الكف للأخذ والإعطاء فلم يجعل ذلك عورة وأما الأمة ففيها وجهان: أحدهما أن جميع بدنها عورة إلا موضع التقليب وهي الرأس والذراع لأن ذلك تدعو الحاجة إلى كشفه وما سواه لا تدعو الحاجة إلى كشفه والثاني وهو المذهب أن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال على المنبر: ألا لا أعرفن أحداً أراد أن يشتري جارية

_ 1رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 28. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 8. 2 رواه أحمد في مسنده "2/187".

فلينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة لا يفعل ذلك إلا عاقبته ولأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل. فصل: ويجب ستر العورة بما لا يصف البشرة من ثوب صفيق أو جلد أو ورق فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز لأن الستر لا يحصل بذلك. فصل: والمستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: خمار تغطي به الرأس والعنق ودرع تغطي به البدن والرجلين وملحفة صفيقة تستر بها الثياب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تصلي في الدرع والخمار والملحفة والمستحب أن تكثف جلبابها حتى لا يصف أعضاءها وتجافي الملحفة عنها في الركوع والسجود حتى لا يصف ثيابها. فصل: ويستحب للرجل أن يصلي في ثوبين قميص ورداء أو قميص وإزار أو قميص وسراويل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله تعالى أحق من يزين له" من لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل اشتمال اليهود فإن أراد أن يصلي في ثوب فالقميص أولى لأنه أعم في الستر لأنه يستر العورة ويحصل على الكتف فإن كان القميص واسع الفتح بحيث إذا نظر رأى العورة زره لما روى سليمة بن الأكوع قال: قلت يا رسول الله إنا نصيد فنصلي في

القميص الواحد؟ قال: "نعم ولتزره ولو بشوكة" فإن لم يزره وطرح على عاتقه ثوباً جاز لأن الستر يحصل به وإن لم يفعل ذلك لم تصح صلاته وإن كان القميص ضيق الفتح جاز أن يصلي فيه محلول الإزار لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي محلول الإزار فإن لم يكن القميص فالرداء أولى لأنه يمكنه أن يستر العورة به ويبقى منه ما يطرحه على الكتف فإن لم يكن فالإزار اولى من السراويل لأن الإزار يتجافى عنه فلا يصف الأعضاء والسراويل تصف الأعضاء وإن كان الإزار ضيقاً ائتزر به كان واسعاً التحف به وخالف بين طرفيه على عاتقه كما يفعل القصار في الماء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا صليت وعليك ثوب واحد فإن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به" وروي عن عمر بن أبي سلمة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد ملتحفاً به مخالفاً بين طرفيه على منكبيه وإن كان ضيقاً فليأتزر به أو صلي في سراويل فالمستحب أن يطرح على عاتقه شيئاً لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء1" فإن لم يجد ثوباً يطرحه على عاتقه طرح حبلاً حتى لا يخلو من شيء. فصل: ويكره اشتمال الصماء وهو أن يلتحف بثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء ويكره أن يسدل في الصلاة وفي غيرها وهو أن يلقي طرفي الرداء من الجانبين لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه رأى قوماً سدلوا في الصلاة فقال: كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم وعن ابن مسعود

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 5. مسلم في كتاب الصلاة حديث 277. النسائي في كتاب القبلة باب 18. الدارمي في كتاب الصلاة باب 99. أحمد في مسنده "2/243".

أنه رأى أعرابياً عليه شملة قد ذيلها وهو يصلي قال: إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام ويكره أن يصلي الرجل وهو ملثم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة لأن الوجه من المرأة ليس بعورة فهي كالرجل. فصل: ولا يجوز للرجل أن يصلي في ثوب حرير ولا على ثوب حرير لأنه يحرم عليه استعماله في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيه أو صلى عليه صحت صلاته لأن التحريم لا يختص بالصلاة ولا النهي يعود إليها فلم يمنع صحتها وتجوز للمرأة أن تصلي فيه وعليه لأنه لا يحرم عليها استعماله وتكره الصلاة في الثوب الذي عليه في الصور لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان لي ثوب في صورة وكنت أبسطه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال لي: أخريه عني فجعلت منه وسادتين. فصل: إذا لم يجد ما يستر به العورة ووجد طيناً ففيه وجهان: يلزمه أن يستر به العورة لأنه سترة طاهرة فأشبهت الثوب وقال أبو إسحاق: لا يلزمه لأنه يتلوث به البدن وإن وجد ما يستر به بعض العورة يستر به القبل والدبر لأنهما أغلظ من غيرهما وإن وجد ما يكفي أحدهما ففيه وجهان أصحهما أن يستر به القبل لأنه يستقبل به القبلة ولأنه لا يستتر بغيره والدبر يستتر بالأليتين والثاني أنه يستر به الدبر لأنه أفحش في حال الركوع والسجود وإن اجتمع رجل وامرأة وهناك سترة تكفي أحدهما قدمت للمرأة لأن عورتها أعظم فإن لم يجد شيئاً يستر به العورة صلى عرياناً ولا يترك القيام وقال المزني: يلزمه أن يصلي قاعداً لأنه يحصل له بالقعود ستر بعض العورة وستر بعض العورة آكد من القيام لأن القيام يجوز تركه مع القدرة بحال والستر لا يجوز تركه بحال فوجب تقديم الستر وهذا لا يصح لأنه يترك القيام والركوع والسجود على التمام

ويحصل له ستر القليل من العورة والمحافظة على الأركان أولى من المحافظة على بعض الفرض فإن صلى عرياناً ثم وجد السترة لم تلزمه الإعادة لأن العري عذر عام وربما اتصل ودام فلو أوجبنا الإعادة لشق وضاق فإن دخل في الصلاة وهو عريان ثم وجد السترة في أثنائها فإن كانت بقربه ستر العورة وبنى على صلاته لأنه عمل قليل فلا يمنع البناء وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يحتاج إلى عمل كثير وإن دخلت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فأعتقت في أثنائها فإن كانت السترة قريبة منها سترت وأتمت صلاتها وإن كانت بعيدة بطلت صلاتها وإن أعتقت ولم تعلم حتى فرغت من الصلاة ففيها قولان كما قلنا فيمن صلى بنجاسة ولم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة. فصل: وإن اجتمع جماعة عراة قال في القديم: الأولى أن يصلوا فرادى لأنهم إذا صلوا جماعة لم يمكنهم أن يأتوا بسنة الجماعة وهي تقديم الإمام وقال في الأم: يصلون جماعة وفرادى فسوى بين الجماعة والفرادى لأن في الجماعة إدراك فضيلة الجماعة وفوات فضيلة سنة الموقف وفي الفرادى إدراك فضيلة الموقف وفوات فضيلة الجماعة فاستويا فإن كان معهم مكتس يصلح للإمامة فالأفضل أن يصلوا جماعة لأنهم يمكنهم الجمع بين فضيلة الجماعة وفضيلة الموقف بأن يقدموه فإن لم يكن فيهم مكتس وأرادوا الجماعة استحب أن يقف الإمام وسطهم ويكون المأمومون صفاً واحداً حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض فإن لم يكن إلا صفين صلوا وغضوا الأبصار فإن اجتمع نساء عراة استحب لهن الجماعة لأن سنة الموقف في حقهن لا تتغير بالعري وإن اجتمع جماعة عراة ومع إنسان كسوة استحب أن يعيرهم فإن لم يفعل لم يغصب عليه لأن صلاتهم تصح من غير سترة فإن أعار واحداً بعينه لزمه قبوله فإن لم يقبل وصلى عرياناً بطلت صلاته لأنه ترك الستر مع القدرة عليه وإن وهبه له لم يلزمه قبوله لأن عليه في قبوله منة وفي احتمل المنة مشقة فلم يلزم وإن أعار جماعتهم صلى فيه واحد بعد واحد فإن خافوا إن صلى واحد أن يفوتهم الوقت قال الشافعي رحمه الله: ينظرون حتى يصلوا في الثوب وقال في قوم في سفينة وليس فيها موضع يقوم فيه إلا واحد أنهم يصلون من قعود ولا يؤخرون الصلاة فمن أصحابنا من نقل الجواب في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وقال فيهما قولان ومنهم من حملها على ظاهرهما

فقال في السترة ينتظرون وإن خافوا الفوات ولا ينتظرون في القيام لأن القيام يسقط مع القدرة في حال النافلة والستر لا يسقط مع القدرة بحال ولأن القيام يتركه إلى بدل وهو القعود والستر يتركه إلى غير بدل.

باب استقبال القبلة

باب استقبال القبلة استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في حالين في شدة الخوف وفي النافلة في السفر والأصل فيه قوله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] فإن كان بحضرة البيت لزمه التوجه إلى عينه لما روى أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ولم يصل وخرج وركع ركعتين قبل الكعبة وقال: هذه القبلة فإن دخل البيت وصلى فيه جاز لأنه متوجه إلى جزء من البيت والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام1" والأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت لأنه يكثر فيه الجمع فكان أعظم للأجر وإن صلى على سطحه نظرت فإن كان بين يديه سترة متصلة به جازت صلاته لأنه متوجه إلى جزء منه وإن لم يكن بين يديه سترة متصلة لم تجز لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة" وذكر منها فوق بيت الله العتيق ولأنه صلى عليه ولم يصل إليه من غير عذر فلم يجز كما لو وقف على طرف السطح واستدبره وإن كان بين يديه عصاً مغروزة

_ 1 رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 505. النسائي في كتاب القبلة باب 18. الدارمي في كتاب المواقيت باب 126. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 195، 198. الموطأ في كتاب القبلة حديث 9.

غير مثبتة ولا مسمرة ففيه وجهان: أحدهما أنها تصح لأن المغروز من البيت ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة في بيع الدار والثاني لا يصح لأنها غير متصلة بالبيت ولا منسوبة إليه وإن صلى في عرصة البيت وليس بين يديه سترة متصلة ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يجوز وهو المنصوص لأنه صلى عليه ولم يصل إليه من غير عذر فأشبه إذا صلى على السطح وقال أبو العباس: يجوز لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت فأشبه إذا خرج من البيت وصلى إلى أرضه. فصل: وإن لم يكن بحضرة البيت نظرت فإن عرف القبلة صلى إليها وإن أخبره من يقبل خبره عن علم قبل قوله ولا يجتهد كما يقبل الحاكم النص من الثقة ولا يجتهد وإن رأى محاريب المسلمين في موضع صلى إليها ولا يجتهد لأن ذلك بمنزلة الخبر وإن لم يكن شيء من ذلك نظرت فإن كان ممن يعرف الدلائل فإن كان غائباً عن مكة اجتهد في طلب القبلة لأن له طريقاً إلى معرفتها بالشمس والقمر والجبال والرياح ولهذا قال الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] فكان له أن يجتهد كالعالم في الحادثة وفي فرضه قولان: قال في الأم: فرضه إصابة العين لأن من لزمه فرض القبلة لزمه إصابة العين كالمكي وظاهر ما نقله المزني أن الفرض هو الجهة لأنه لو كان الفرض هو العين لما صحت صلاة الصف الطويل لأن فيهم من يخرج عن العين وإن كان في أرض مكة فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي كالجبل فهو كالغائب عن مكة وإن كان بينهما حائل طارئ وهو البناء ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجتهد لأنه في موضع كان فرضه الرجوع إلى العين فلا يتغير فرضه بالحائل الطارئ والثاني أنه يجتهد وهو ظاهر المذهب لأن بينه وبين البيت حائلاً يمنع المشاهدة فأشبه إذا كان بينهما جبل وإن اجتهد رجلان فاختلفا في جهة القبلة لم يقلد أحدهما صاحبه ولا يصلي أحدهما خلف الآخر لأن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه وبطلان صلاته وإن صلى

بالاجتهاد إلى جهة ثم حضرت صلاة أخرى ففيه وجهان: أحدهما أن يصلي بالاجتهاد الأول لأنه قد عرف بالاجتهاد الأول والثاني يلزمه أن يعيد الاجتهاد وهو المنصوص في الأم كما نقول في الحاكم إذا اجتهد في حادثة ثم حدثت تلك الحادثة مرة أخرى فإن اجتهد للصلاة الثانية فأداه اجتهاده إلى جهة أخرى صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية ولا تلزمه إعادة ما صلى إلى الجهة الأولى كالحاكم إذا حكم باجتهاده ثم تغير اجتهاده لم ينقض ما حكم فيه بالاجتهاد الأول وإن تغير اجتهاده وهو في الصلاة ففيه وجهان: أحدهما يستأنف الصلاة لأنه لا يجوز أن يصلي صلاة واحدة باجتهادين كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة باجتهادين والثاني يجوز لأنا لو ألزمناه أن يستأنف الصلاة نقضنا ما أداه من الصلاة بالاجتهاد باجتهاد بعده وذلك لا يجوز كالحاكم في قضية ثم تغير اجتهاده لم ينقض ما حكم به بالاجتهاد الثاني وإن دخل في الصلاة باجتهاد ثم شك في اجتهاده أتم صلاته لأن الاجتهاد ظاهر والظاهر لا يزال بالشك وإن صلى ثم تيقن الخطأ ففيه قولان: قال في الأم: يلزمه أن يعيد لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء فلم يعتد بما مضى كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه وقال في القديم: وفي باب الصيام من الجديد لا يلزمه لأنه جهة تجوز الصلاة إليها بالاجتهاد فأشبه إذا لم يتيقن الخطأ وإن صلى إلى جهة ثم بان له أن القبلة في يمينها أو شمالها لم يعد لأن الخطأ في اليمين والشمال لا يعلم قطعاً ولا ينقض به الاجتهاد وإن كان ممن لا يعرف الدلائل نظرت فإن كان ممن إذا عرف يعرف والوقت واسع لزمه أن يتعرف الدلائل ويجتهد في طلبها لأنه يمكنه أداء الفرض بالاجتهاد فلا يؤديه بالتقليد وإن كان ممن إذا عرف لا يعرف فهو كالأعمى لأنه لا فرق بين أن لا يعرف لعدم البصر وبين أن لا يعرف لعدم البصيرة وفرضهما التقليد لأنه لا يمكنهما الاجتهاد فكان فرضهما التقليد كالعامي في الأحكام الشرعية فإن صلى من غير تقليد وأصاب لم تصح صلاته لأنه صلى وهو شاك في صلاته وإن اختلف عليه اجتهاد رجلين قلد أوثفهما وأبصرهما فإن قلد الآخر جاز وإن عرف الأعمى القبلة بالمس صلى وأجزاه لأن ذلك بمنزلة التقليد فإن قلد غيره ودخل في الصلاة ثم أبصر فإن كان هناك ما يعرف به القبلة من محراب في مسجد أو نجم يعرف به أتم الصلاة وإن لم يكن شيء من ذلك بطلت صلاته لأنه صار من أهل الاجتهاد لا يجوز أن يصلي بالتقليد فإن لم يجد من فرضه التقليد من يقلده صلى على حسب حاله حتى لا يخلو الوقت من الصلاة فإذا وجد من يقلده أعادها. فصل: وإن كان ممن يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه لظلمة أو غيم فقد قال في

موضع: ومن خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى أراد به كالأعمى في أنه يصلي ويعيد كالأعمى لا أنه يقلد وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت قلد وإن اتسع الوقت لم يقلد وعليه تأول قول الشافعي رحمه الله وقال المزني وغيره: المسألة على قولين وهو الأصح: أحدهما يقلد وهو اختيار المزني لأنه خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى والثاني لا يقلد لأنه يمكنه التوصل بالاجتهاد. فصل: فأما في شدة الخوف والتحام القتال فيجوز أن يترك القبلة إذا اضطر إلى تركها ويصلي حيث أمكنه لقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] قال ابن عمر رضي الله عنه: مستقبلي القبلة وغير مستقبلها أو لأنه فرض اضطر إلى تركه فصلى مع تركه كالمريض إذا عجز عن القيام وأما النافلة فينظر فيها فإن كانت في السفر وهو على دابة نظرت فإن كان يمكنه أن يدور على ظهرها كالعمارية والمحمل الواسع لزمه أن يتوجه إلى القبلة لأنها كالسفينة وإن لم يمكنه ذلك جاز أن يترك القبلة ويصلي عليها حيث توجه لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به ويجوز ذلك في السفر الطويل والقصير لأنه أجيز حتى لا ينقطع عن السير وهذا موجود في السفر القصير والطويل ثم ينظر فيه فإن كان واقفاً نظرت فإن كان في قطار لا يمكنه أن يدير الدابة إلى القبلة صلى حيث توجه وإن كان منفرداً لزمه أن يدير رأسها إلى القبلة لأنه لا مشقة عليه في ذلك وإن كان سائراً فإن كان في قطار أو منفرداً والدابة حرون يصعب عليه إدارتها صلى حيث توجه وإن كان سهلاً ففيه وجهان: أحدهما يلزمه أن يدير رأسها إلى القبلة في حال الإحرام لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في السفر وأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به والمذهب أنه لا يلزمه أن يشق إدارة البهيمة في حال السير وإن صلى على الراحلة متوجهاً إلى مقصده فعدلت البهيمة إلى جهة أخرى نظرت فإن كانت جهة القبلة جاز لأن الأصل في فرضه جهة القبلة وإذا عدلت إليه فقد أتى بالأصل وإن لم تكن جهة القبلة فإن كان ذلك باختياره مع العلم بطلت صلاته لأنه ترك القبلة لغير عذر وإن نسي أنه في الصلاة أو ظن أن ذلك طريق

بلده أو غلبته الدابة لم تبطل صلاته فإذا علم رجع إلى جهة القصد قال الشافعي رحمه الله: وسجد للسهو وإن كان المسافر ماشياً جاز أن يصلي النافلة حيث توجه كالراكب لأن الراكب أجيز له ترك القبلة حتى لا ينقطع عن الصلاة في السفر وهذا المعنى موجود في الماشي غير أنه يلزم أن يحرم ويركع ويسجد على الأرض مستقبل القبلة لأنه يمكنه أن يأتي بذلك من غير أن ينقطع عن السير وإن دخل الراكب أو الماشي إلى البلد الذي يقصد وهو في الصلاة أتم صلاته إلى القبلة وإن دخل إلى بلد في طريقه جاز أن يصلي حيث توجه ما لم يقطع السير لأنه باق على السير وأما إذا كانت النافلة في الحضر لم يجز أن يصليها إلى غير القبلة وقال أبو سعيد الاصطخري رحمه الله: يجوز لأنه إنما رخص في السفر حتى لا ينقطع عن التطوع وهذا موجود في الحضر والمذهب الأول لأن الغالب من حال الحاضر اللبث والمقام فلا مشقة عليه في استقبال القبلة. فصل: والمستحب لمن يصلي إلى سترة أن يدنو منها لما روى سهل بن خيثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها حتى لا يقطع الشيطان عليه صلاته1" والمستحب أن يكون بينه وبينها قدر ثلاثة أذرع لما روى سهل بن سعد الساعدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بينه وبين القبلة قدر ممر العنز وممر العنز قدر ثلاثة أذرع فإن كان يصلي في موضع ليس فيه بين يديه بناء فالمستحب أن ينصب بين يديه عصاً لما روى أبو جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة له حمراء فركز عنزة فجعل يصلي إليها بالبطحاء يمر الناس من ورائها والكلب والحمار والمرأة والمستحب أن يكون ما يستره قدر مؤخرة الرحل لما روى طلحة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك2" قال عطاء: مؤخرة الرحل ذراع فإن لم يجد عصاً فليخط بين يديه خطاً إلى القبلة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد شيئاً فلينصب عصاً فإن لم يجد عصاً فليخط خطاً ولا يضره ما مر بين يديه3" ويكره أن يصلي وبين يديه رجل يستقبله بوجه لما روي أن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 90 أبو داود في كتاب الصلاة باب 106 الترمذي في كتاب المواقيت باب 123. الموطأ في كتاب السفر حديث 42. أحمد في مسنده "4/2". 2 رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 241 -244. أبو داود في كتاب الصلاة باب 101. الترمذي في كتاب الصلاة باب 133. النسائي في كتاب القبلة باب 04 أحمد في مسنده "1/376، 396". 3 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 36. أحمد في مسنده "2/249، 255".

عمر رضي الله عنه رأى رجلاً يصلي ورجل جالس مستقبله بوجهه فضربهما بالدرة وإن صلى ومر بين يديه مار فدفعه لم تبطل صلاته بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع صلاة المره شيء وادرءوا ما استطعتم1".

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصلاةباب 114 الترمذيفي كتاب الصلاة باب 135. الموطأ في كتاب السفر حديث 40. أحمد في مسنده "6/85".

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة إذا أراد أن يصلي في جماعة لم يقم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة لأنه ليس بوقت للدخول في الصلاة والدليل عليه ما روى أمامة رضي الله عنه أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها وقال في سائر الإقامة مثل ما يقوله فإذا فرغ المؤذن قام والقيام فرض في الصلاة المفروضة لما روى عمر أن ابن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صل قائماً فإن لم تستطع فعلى جنب2" فأما في النافلة فليس بفرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل على الراحلة وهو قاعد ولأن النوافل تكثر فلو وجب فيها القيام شق وانقطعت النوافل. فصل: ثم ينوي والنية فرض من فروض الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنها قربة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم ومحل النية القلب فإن نوى بقلبه دون لسانه أجزأه ومن أصحابنا من قال: ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان وليس بشيء لأن النية هي القصد بالقلب ويجب أن تكون النية مقارنة للتكبير لأنه أول فرض من فروض الصلاة فيجب أن تكون النية مقارنة له فإن كانت الصلاة فريضة لزمه تعيين النية فينوي الظهر أو العصر لتتميز عن غيرها وهل يلزمه نية الفرض؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يلزمه لتتميز عن ظهر الصبي وظهر من صلى وحده ثم أدرك جماعة فصلاها معهم وقال أبو علي بن أبي هريرة: تكفيه نية الظهر أو العصر لأن الظهر والعصر لا يكونان في حق هذا إلا فرضاً ولا يلزمه أن ينوي الأداء والقضاء ومن

_ 2 رواه البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب 19. الترمذي في كتاب الصلاة باب 157. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 139. أحمد في مسنده "4/426".

أصحابنا من قال يلزمه نية القضاء والأول هو المنصوص فإنه قال فمن صلى في يوم غيم بالاجتهاد فوافق ما بعد الوقت أنه يجزيه وإن كان عنده أنه يصليها في الوقت وقال في الأسير إذا اشتبهت عليه الشهور فصام شهراً بالاجتهاد فوافق رمضان أو ما بعده إنه يجزيه وإن كان عنده أنه يصوم في شهر رمضان وإن كانت الصلاة سنة راتبة كالوتر وسنة الفجر لم تصح حتى يعين النية لتتميز عن غيرها وإن كانت نافلة غير راتبة أجزأته نية الصلاة وإن أحرم ثم شك هل نوى ثم ذكر أنه نوى فإن كان قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه وإن ذكر ذلك بعد ما فعل شيئاً من ذلك بطلت صلاته لأنه فعل ذلك وهو شاك في صلاته وإن نوى الخروج من الصلاة أو نوى أنه سيخرج أو شك هل يخرج أم لا بطلت صلاته لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطع ذلك بما أحدث فبطلت صلاته كالطهارة إذا قطعها بالحدث وإن دخل في الظهر ثم صرف النية إلى العصر بطل الظهر لأنه قطع نيتها ولم يصح العصر لأنه لم ينو عند الإحرام وإن صرف نية الظهر إلى التطوع بطل الظهر لما ذكرناه وفي التطوع قولان: أحدهما لا يصح لما ذكرناه في العصر والثاني تصح لأن نية الفرض تتضمن نية النفل بدليل أن من دخل في الظهر قبل الزوال وهو يظن أنه بعد الزوال كانت صلاته نافلة. فصل: ثم يكبر والتكبير للإحرام فرض من فروض الصلاة لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم1" والتكبير هو أن يقول الله أكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل به في الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي2" فإن قال الله أكبر أجزأه لأنه أتى بقوله الله أكبر وزاد زيادة لا تحيل المعنى فهو كقوله الله أكبر كبيراً وإن قال أكبر الله ففيه وجهان: أحدهما يجزيه كما لو قال عليكم السلام في آخر الصلاة والثاني لا يجزيه وهو ظاهر قوله في الأم لأنه ترك الترتيب في الذكر فهو كما لو قدم آية على آية وهذا يبطل بالتشهد والسلام وإن كبر بالفارسية وهو يحسن بالعربية لم يجز لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن لم يحسن بالعربية وضاق الوقت أن يتعلم كبر بلسانه لأنه عجز عن اللفظ

_ 1رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 3. ابن ما جه في كتاب الطهارة 32. الدارمي في كتاب الوضوء باب 22. 2 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 18. الدارمي في كتاب الصلاة باب 42 أحمد في مسنده "5/53".

فأتى بمعناه وإن اتسع الوقت لزمه أن يتعلم فإن لم يتعلم وكبر بلسانه بطلت صلاته لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه وإن كان بلسانه خبل أوخرس حركه بما يقدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم1" ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير ليسمع من خلفه ويستحب لغيره أن يسر به وأدناه أن يسمع نفسه. فصل: ويستحب أن يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه لما روى ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع ويفرق بين أصابعه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشر أصابعه في الصلاة نشراً أو يكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه فإن سبقت اليد أثبتها مرفوعة حتى يفرغ من التكبير لأن الرفع للتكبير فكان معه وإن لم يمكنه رفعهما أو أمكنه رفع إحداهما أو رفعهما إلى ما دون المنكب رفع ما أمكنه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتو به ما استطعتم2 " وإذا كان به علة إذا رفع اليد جاوز المنكب رفع لأنه يأتي بالمأمور به وزيادة هو مغلوب عليه وإن نسي الرفع وذكر بعد أن يفرغ من التكبير أتى به لأن محله باق. فصل: ويستحب إذا فرغ من التكبير وضع اليمنى على اليسرى فيضع اليمنى على بعض الكف وبعض الرسغ لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: قلت لأنظرن إلى صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يصلي فظرت إليه وقد وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد والمستحب أن يجعلهما تحت الصدر لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فوضع يديه على صدره إحداهما على الأخرى والمستحب أن ينظر إلى موضع سجوده لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده".

_ 1رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 2. مسلم في كتاب الحج حديث 412. النسائي في كتاب المناسك باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 1. أحمد في مسنده "2/247". 2 المصدر السابق.

فصل: ثم يقرأ دعاء الاستفتاح وهو سنة والأفضل أن يقول ما رواه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى المكتوبة كبر وقال "وجهت وجهي للذين فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين أللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لايغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك" كما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك غير أن في حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "وأنا أول المسلمين" فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول المسلمين وغيره لا يقول إلا ما ذكرناه. فصل: ثم يتعوذ ويقول أعوذ بالله الشيطان الرجيم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك قال في الأم: كان ابن عمر رضي الله عنه يتعوذ في نفسه وأبو هريرة رضي الله عنه كان يجهر به وأيهما فعل جاز قال أبو علي

الطبري: المستحب أن يسر به لأنه ليس بقراءة ولا علم على الإتباع ويستحب ذلك في الركعة الأولى قال في الأم: يقول في أول ركعة وقد قيل إن قاله في كل ركعة فحسن ولا آمر به أمري به في أول ركعة فمن أصحابنا من قال فيما سوى الركعة الأولى قولان: أحدهما يستحب لأنه يستفتح القراءة فيها فهي كالأولى والثاني لا يستحب لأن استفتاح القراءة في الأولى ومن أصحابنا من قال يستحب في الجميع قولأً واحدً وإنما قال في الركعة الأولى أشد استحباباً وعليه يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى. فصل: ثم يقرأ فاتحة الكتاب وهي فرض من فروض الصلاة لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب1" فإن تركها ناسياً ففيه قولان: قال في القديم: يجزيه لأن عمر رضي الله عنه ترك القراءة فقيل له في ذلك فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا حسناً قال: فلا بأس وقال في الجديد: لا يجزيه لأنه ما كان ركناً من الصلاة لم يسقط فرضه بالنسيان كالركوع والسجود ويجب أن يبتدئها بسم الله الرحمن الرحيم فإن آية منها والدليل عليه ما روت أم سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية منها ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيما جمعوا من القرآن فيدل على أنها آية منها فإن كان في صلاة يجهر فيما جهر بها كما يجهر في سائر الفاتحة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة ويجب أن يقرأها مرتباً فإن قرأ من خلالها غيرها ناسياً ثم أتى بما بقي منها أجزاءه فإن قرأ عامداً لزمه أن يستأنف القراءة كما لو تعمد في خلال الصلاة ما ليس منها لزمه استئنافها وإن نوى قطعها ولم يقطع لم يلزمه استئنافها لأن القراءة باللسان ولم يقطع ذلك بخلاف ما لو نوى قطع الصلاة لأن النية بالقلب وقد قطع ذلك فإن قرأ الإمام الفاتحة وأمن والمأموم في أثناء الفاتحة فأمن بتأمينه ففيه وجهان: قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني رضي الله عنه: تنقطع القراءة كما لو قطعها بقراءة غيرها وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: لا تنقطع لأن ذلك مأمور به فلا يقطع القراءة كالسؤال في آية الرحمة والإستعاذة من النار في آية العذاب فيما يقرأ في صلاته منفرداً وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة لما روى رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ورجل يصلي

_ 1 رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 69، 115. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 11.

فلما انصرف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال له: "أعد صلاتك فإنك لم تصل فقال: علمني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر إلى أن قال ثم اصنع في كل ركعة ذلك" ولأنها ركعة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة مع القدرة كالركعة الأولى وهل تجب على المأموم؟ ينظر فيه فإن كان في صلاة يسر فيها بالقراءة وجبت عليه وإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة ففيه قولان: قال في الأم والبويطي: يجب عليه لما "روى عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا: والله أجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل هذا قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" ولأن من لزمه قيام القراءة لزمه القراءة مع القدرة كالإمام والمنفرد وقال في القديم: لا يقرأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: "هل قرأ معي أحد منكم؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله قال: إني أقول مالي أنازع القرآن" فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: وإذا فرغ من الفاتحة أمن وهو سنة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن كان إماماً أمن وأمن المأموم معه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن بتأمينه فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه1" فإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة جهر الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا" ولو لم يجهر به لما علق تأمين

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 111، 113. مسلم في كتاب الصلاة حديث 72، أبو داود في كتاب الصلاة باب 168. الترمذي في كتاب الصلاة باب 70 – 71 الموطأ في كتاب النداء حديث 44.

المأموم عليه ولأنه تابع للفاتحة فكان حكمه حكمها في الجهر كالسورة وأما المأموم فقد قال في الجديد: لا يجهر وقال في القديم: يجهر فمن أصحابنا من قال على قولين: أحدهما يجهر لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون وراءه حتى أن للمسجد للجة والثاني لا يجهر لأنه ذكر مسنون في الصلاة فلم يجهر به المأموم كالتكبيرات ومنهم من قال: إن كان المسجد صغيراً يبلغهم تأمين الإمام لم يجهر به لأنه لا يحتاج إلى الجهر به وإن كان كبيراً جهر لأنه يحتاج إلى الجهر للإبلاغ وحمل القولين على هذين الحالين فإن نسي الإمام التامين أمن المأموم وجهر به ليسمع الإمام فيأتي به. فصل: فإن لم يحسن الفاتحة وأحسن غيرها قرأ سبع آيات وهل يعتبر أن يكون فيها بقدر حروف الفاتحة؟ فيه قولان: أحدهما لا يعتبر كما إذا فاته صوم يوم طويل لم يعتبر أن يكون القضاء في يوم بقدر ساعات الداء والثاني يعتبر وهو الأصح لأنه لما اعتبر عدد آي الفاتحة اعتبر قدر حروفها ويخالف الصوم فإنه لا يمكن اعتبار المقدار في الساعات إلا بمشقة فإن لم يحسن شيئاً من القرآن لزمه أن يأتي بذكر لما روى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزيني في الصلاة؟ فقال: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" ولأنه ركن من أركان الصلاة فجاز أن ينتقل فيه عند العجز إلى بدل كالقيام وفي الذكر وجهان: قال أبو إسحاق رضي الله عنه: يأتي من الذكر بقدر حروف الفاتحة لأنه أقيم مقامها فاعتبر قدرها وقال أبو علي الطبري رضي الله عنه: يجب ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة كالتيمم لا تجب الزيادة فيه على ما ورد به النص والمذهب الأول وإن أحسن آية من الفاتحة وأحسن غيرها ففيه وجهان: أصحهما أنه يقرأ الآية ثم يقرأ ست آيات من غيرها لأنه إذا لم يحسن شيئاً منها انتقل إلى غيرها فإذا كان يحسن بعضها وجب أن ينتقل فيما لم يحسن إلى غيرها كما لو عدم بعض الماء والثاني يلزمه تكرار الآية لأنها أقرب إليها فإن لم يحسن شيئاً من القرآن ولا من الذكر قام بقدر سبع آيات وعليه أن يتعلم فإن اتسع الوقت ولم يفعل وصلى لزمه أن يعيد لأنه ترك القراءة مع القدرة فأشبه إذا تركها وهو يحسن فإن قرأ القرآن بالفارسية لم يجزه لأن القصد من القرآن اللفظ والنظم وذلك لا يوجد في غيره.

فصل: ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة وذلك سنة والمستحب أن يقرأ في الصبح بطول المفصل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالواقعة فإن كان في يوم الجمعة استحب له أن يقرأ فيها ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ذلك ويقرأ في الأوليين من الظهر بنحو ما يقرأ في الصبح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر بقدر ثلاثين آية قدر ألم تنزيل السجدة وحزرنا قيامه في الركعتين الأخيرتين على النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخيرتين من الظهر وحزرنا قيامه في الأخيرتين من العصر على النصف من ذلك" ويقرأ في الأوليين من العصر بأوساط المفصل لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري ويقرأ في الأوليين من العشاء الأخيرة بنحو ما يقرأ في العصر لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في العشاء الأخيرة بسورة الجمعة والمنافقين ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل فإن خالف وقرأ غير ما ذكرناه جاز لما روى رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة:1] فإن كان مأموماً نظرت فإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة لم يزد على الفاتحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم خلفي فلا تقرأوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وإن كان في صلاة يسر فيها بالقراءة أو في صلاة يجهر فيها إلا أنه في موضع لا

يسمع القراءة قرأ لأنه غير مأمور بالإنصات إلى غيره فهو كالإمام والمنفرد فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين فهل يقرأ السورة فيما زاد على الركعتين؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يستحب لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحياناً وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب في كل ركعة وقال في الأم: يستحب لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله ولأنها ركعة شرع فيها الفاتحة فشرع فيها السورة كالأوليين ولا يفضل الركعة الأولى على الثانية في القراءة وقال أبو الحسن الماسرجسي: يستحب أن تكون قراءته في الأولى من كل صلاة أطول لما رويناه من حديث أبي قتادة وظاهر قوله في الأم أنه لا يفضل لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وحديث أبي قتادة يحتمل أن يكون أطال لأنه أحس بداخل. فصل: ويستحب للإمام أن يجهر بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والأوليين من العشاء والدليل عليه نقل الخلف عن السلف ويستحب للمأموم أن يسر لأنه إذا جهر نازع الإمام في القراءة ولأنه مأمور بالإنصات إلى الإمام وإذا جهر لم يمكنه الإنصات ويستحب للمنفرد أن يجهر فيما يجهر فيه الإمام لأنه لا ينازع غيره ولا هو مأمور بالإنصات إلى غيره فهو كالإمام وإن كانت امرأة لم تجهر في موضع فيه رجال أجانب لأنه لا يؤمن أن يفتتن بها ويستحب الإسرار في الظهر والعصر والثالثة في المغرب والأخريين من العشاء الأخيرة لأنه نقل الخلف عن السلف وإن فاتته صلاة بالنهار فقضاها في الليل أسر لأنها صلاة نهار وإن فاتته بالليل فقضاها في النهار أسر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارموه بالبعر" ويقال عن صلاة النهار عجماء ويحتمل عندي أن يجهر كما يسر فيما فاته من صلاة النهار فقضاها بالليل. فصل: ثم يركع وهو فرض من فروض الصلاة لقوله عز وجل {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] والمستحب أن يكبر للركوع لما "روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم وحين يركع" ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ولأن الهوي إلى الركوع فعل فلا يخلو من ذكر كسائر الأفعال ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في التكبير لما ذكرناه من حديث ابن عمر في تكبيرة الإحرام ويجب أن ينحني إلى حد يبلغ راحتاه ركبتيه لأنه لا يسمى دونه راكعاً ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه ويفرق أصابعه لما "روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما وفرج بين أصابعه" ولا يطبق لما روي عن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال: صليت إلى جنب سعد بن مالك فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما فضرب بيدي وقال اضرب بكفيك على ركبتيك وقال: يا بني إنا قد كنا نفعل هذا فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب والمستحب أن يمد ظهره وعنقه ولا يقنع رأسه ولا يصوبه لما روي أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فركع واعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنعه والمستحب أن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فإن كانت امرأة لم تجاف بل تضم المرفقين إلى الجنبين لأن ذلك أستر لها ويجب أن يطمئن في الركوع لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" والمستحب أن يقول سبحان ربي العظيم ثلاثاً وذلك أدنى الكمال لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "إذا ركع أحدكم فقال سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه" وذلك أدناه والأفضل أن يضيف إليه "اللهم لك ركعت ولك خشعت وبك آمنت

ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعصبي" لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال ذلك فإن ترك التسبيح لم تبطل صلاته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ولم يذكر التسبيح. فصل: ثم يرفع رأسه ويستحب أن يقول سمع الله لمن حمده لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في الرفع لما ذكرناه من حديث ابن عمر رضي الله عنه في تكبيرة الإحرام فإن قال من حمد الله سمع الله له أجزأه لأنه أتى باللفظ والمعنى فإذا استوى قائماً استحب أن يقول "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد حق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ذلك ويجب أن يطمئن قائماً لما روى رفاعة بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله عز وجل إلى أن قال ثم يركع حتى يطمئن راكعاً ثم ليقم حتى يطمئن قائماً ثم ليسجد حتى يطمئن ساجدا1". فصل: ثم يسجد وهو فرض لقوله عز وجل: {اركعوا واسجدوا} "الحج: 77" ويستحب أن يبتدئ عند الهوي إلى السجود بالتكبير لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع والمستحب أن يضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 95. في كتاب الصلاة حديث 45. أبو داود في كتاب الصلاة باب 144. النسائي في كتاب الافتتاح باب 7. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 72. أحمد في مسنده "2/437".

نهض رفع يديه قبل ركبتيه فإن وضع قبل ركبتيه أجزاه لأنه ترك هيئة ويسجد على الجبهة والأنف واليدين والقدمين فأما السجود على الجبهة فهو واجب لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقرا" قال في الأم: فإن وضع بعض الجبهة كرهت له وأجزأه لأنه سجد على الجبهة فإن سجد على حائل متصل به دون الجبهة لم يجزه لما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا وأما السجود على الأنف فهو سنة لما روى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد ومكن جبهته وأنفه من الأرض وإن تركه أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف وأما السجود على اليدين والركبتين والقدمين ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يجب ولو وجب ذلك لوجب الإيماء بها إذا عجز كالجبهة والثاني يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء: يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته فإذا قلنا بهذا لم يجب كشف القدمين والركبتين لأن كشف الركبة يفضي إلى كشف العورة فتبطل صلاته والقدم قد يكون في الخف فكشفهما يبطل المسح والصلاة وأما اليد ففيها قولان المنصوص في الكتب أنه لا يجب كشفها لأنها لا تكشف إلا لحاجة فهي كالقدم وقال في السبق والرمي: قد قيل فيه قول آخر إنه يجب لحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه ويستحب أن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه ويستحب أن يقل بطنه عن فخذيه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

إذا سجد جخ ويروى جخاً والجخ الخاوي وإن كانت امرأة ضمت بعضها إلى بعض لأن ذلك أستر لها ويفرج بين رجليه لما روي أن أبا حميد رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان إذا سجد فرج بين رجليه ويوجه أصابعه تجاه القبلة وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتخ أصابع رجليه والفتخ تعويج الأصابع ويضم أصابع يديه ويضعها حذو منكبيه لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه ويرفع مرفقيه ويعتمد على راحتيه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سجدت فضم كفيك وارفع مرفقيك ويجب أن يطمئن في السجود لحديث رفاعة بن مالك "ثم يسجد حتى يطمئن ساجداً" والمستحب أن يقول سبحان ربي الأعلى ثلاثاً وذلك أدنى الكمال لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد أحدكم فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فقد تم سجوده" وذلك أدناه والأفضل أن يضيف إليه "اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وأحسن صورته وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين" لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال ذلك فإن قال في سجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح

فهو حسن لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في سجوده قال الشافعي رحمة الله عليه ويجتهد في الدعاء رجاء الإجابة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء" ويكره أن يقرأ في الركوع والسجود لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما إني نهيت ان أقرأ راكعاً أو ساجداً أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فأكثروا فيه الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" فإن أراد أن يسجد فوقع على الأرض ثم انقلب فأصاب جبهته الأرض فإن نوى السجود حال الإنقلاب أجزأه كما لو غسل للتبرد والتنظيف ونوى رفع الحدث وإن لم ينو لم يجزه كما لو توضأ للتبرد ولم ينو رفع الحدث. فصل: ثم يرفع رأسه ويكبر لما رويناه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ثم يجلس مفترشاً فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى لما روي أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها واعتدل حتى رجع كل عضو إلى موضعه ويكره الإقعاء في الجلوس وهو أن يضع أليته على عقبيه كأنه قاعد عليهما وقيل هو أن يجعل يديه في الأرض ويقعد على أطراف أصابعه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعى إقعاء القرد" ويجب أن يطمئن في جلوسه لقوله صل الله عليه وسلم للمسيء صلاته ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ويستحب أن يقول في جلوسه اللهم اغفر لي واجبرني وعافني وارزقني واهدني لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بين السجدتين. فصل: ثم يسجد سجدة أخرى ثم يرفع رأسه مكبراً لما رويناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع قال الشافعي رحمه الله: فإذا استوى قاعداً نهض وقال في الأم: يقوم من السجود فمن أصحابنا من قال المسألة على قولين: أحدهما لا يجلس لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجدة استوى قائماً بتكبيرة والثاني يجلس لما روى مالك بن الحويرث رضي الله

عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعة الأولى والثالثة لم ينهض حتى يستوي قاعداً وقال أبو إسحاق: إن كان ضعيفاً جلس لأنه يحتاج إلى الاستراحة وإن كان قوياً لم يجلس لأنه لا يحتاج إلى الاستراحة وحمل القولين على هذين الحالين فإذا قلنا يجلس جلس مفترشاً لما روى أبو حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم ثنى رجله فقعد عليها حتى رجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض ويستحب أن يعتمد على يديه في القيام لما روى مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استوى قاعداً ثم قام واعتمد على الأرض بيديه قال الشافعي رحمه الله ولأن هذا أشبه بالتواضع وأعون للمصلي ويمد التكبير إلى أن يقوم حتى لا يخلو فعل من ذكر ولا يرفع اليد إلا في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع منه لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع اليدين بين السجدتين وقال أبو علي الطبري وأبو بكر ابن المنذر رحمهما الله تعالى: يستحب كلما قام إلى الصلاة من السجود ومن التشهد لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين في القيام من السجود وروى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الركعتين يرفع يديه والمذهب الأول. فصل: ثم يصلي الركعة الثانية مثل الأولى إلا في النية ودعاء الاستفتاح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته "ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها" وأما النية ودعاء الاستفتاح فإن ذلك يراد للدخول في الصلاة والاستفتاح وذلك لا يوجد في غير الركعة الأولى. فصل: وإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين جلس في الركعتين ليتشهد لنقل الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سنة لما روى عبد الله بن بحينة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقام من اثنتين ولم يجلس فلما قضى صلاته سجد سجدتين بعد ذلك ثم سلم ولو كان واجباً لفعله ولم يقتصر على السجود والسنة أن يجلس في هذا التشهد مفترشاً لما روى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الأوليين جلس على قدمه اليسرى ونصب قدمه اليمنى والمستحب أن يبسط أصابع يده اليسرى على فخذه اليسرى وفي اليد اليمنى ثلاثة أقوال: أحدها يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة وهو المشهور لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة وروى ابن الزبير رضي الله عنه قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس افترش اليسرى ونصب اليمنى ووضع إبهامه عند الوسطى وأشار بالسبابة ووضع اليسرى على فخذه اليسرى وكيف يضع الإبهام؟ فيه وجهان: أحدهما يضعها تحت المسبحة على حرف راحته أسفل من المسبحة كأنه عاقد ثلاثاً وخمسين لحديث ابن عمر رضي الله عنه والثاني يضعها على حرف إصبعه الوسطى لحديث ابن الزبير رضي الله عنه والقول الثاني قاله في الإملاء يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويبسط المسبحة والإبهام لما روى أبو حميد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم والقول الثالث أنه يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم عقد من أصابعه الخنصر والتي تليها ثم حلق حلقة بأصبعه الوسطى على الإبهام ورفع السبابة ورأيته يشير إليها. فصل: ويتشهد وأفضل التشهد أن يقول: التحيات المباركات الصوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة فيقول: "قولوا التحيات المباركات الصلوات الطيبات" وذكر نحو ما قلنا وحكى أبو علي الطبري رحمه الله تعالى عن بعض أصحابنا أن الأفضل أن يقول بسم الله وبالله التحيات لله لما روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف المذهب وذكر التسمية غير صحيح عند أصحاب الحديث وأقل ما يجزئ من ذلك خمس كلمات وهي التحيات لله سلام عليك أيها النبي صلى الله عليه وسلم ورحمة الله سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لأن هذا يأتي على معنى الجميع قال في الأم: فإن ترك الترتيب لم يضر لأن المقصود يحصل مع ترك الترتيب ويستحب إذا بلغ الشهادة أن يشير بالمسبحة لما رويناه من حديث ابن عمر وابن الزبير ووائل بن حجر رضي الله عنهم وهل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد؟ فيه قولان: قال في القديم: لا يصلي لأنه لو شرع الصلاة عليه لشرع الصلاة على آله كالتشهد الخير وقال في الأم: يصلي عليه لأنه قعود شرع فيه التشهد فشرع فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كالقعود في آخر الصلاة. فصل: ثم يقوم إلى الركعة الثالثة معتمداً على الأرض بيديه لما رويناه من حديث

مالك بن الحويرث رضي الله عنه في الركعة الأولى ثم يصلي ما بقي من صلاته مثل الركعة الثانية إلا فيما قلناه من الجهر وقراءة السورة فإذا بلغ إلى آخر صلاته جلس للتشهد ويتشهد وهو فرض لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله1" والسنة في هذا القعود أن يكون متوركاً فيخرج رجله من جانب وركه الأيمن ويضع أليتيه على الأرض لما روى أبو حميد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على أليتيه وجعل بطن قدمه اليسرى تحت مأبض اليمنى ونصب قدمه اليمنى ولأن الجلوس في هذا التشهد يطول فكان التورك فيه أمكن والجلوس في التشهد الأول يقصر فكان الافتراش فيه أشبه ويتشهد على ما ذكرناه. فصل: فإذا فرغ من التشهد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرض في هذا الجلوس لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة علي والأفضل أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" روى كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والواجب من ذلك أن يقول: اللهم صل على محمد وفي الصلاة على آله وجهان: أحدهما تجب لما روى أبو حميد رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 148. مسلم في كتاب الصلاة حديث 56 أبو داود في كتاب الصلاة باب 178. النسائي في كتاب التطبيق باب 100 أحمد ففي مسنده "1/413".

على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" والمذهب أنها لا تجب للإجماع. فصل: ثم يدعو بما أحب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ثم يدعو لنفسه بما أحب1" فإن كان إماماً لم يطل الدعاء والأفضل أن يدعو بما روى علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بين التشهد والتسليم اللهم "اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت به مني أعلم أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". فصل: فإن كانت الصلاة ركعة أو ركعتين جلس في آخرها متوركاً ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويدعو على ما وصفناه ويكره أن يقرأ في التشهد لأنه حالة من أحوال الصلاة لم تشرع فيها القراءة فكرهت فيها كالركوع والسجود. فصل: ثم يسلم وهو فرض في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم2" ولأنه أحد طرفي الصلاة فوجب فيه النطق كالطرف الأول والسنة أن يسلم تسليمتين إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره والسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله لما روى عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 130. أبو داود في كتاب الصلاة باب 179. النسائي في كتاب السهو باب 64. الدارمي في كتاب الصلاة باب 86. أحمد في مسنده "2/237". 2 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 31. الترمذي في كتاب الطهارة باب 3. الدارمي في كتاب الوضوء باب 22. أحمد في مسنده "1/123، 129".

يمينه السلام عليكم ورخمة الله وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده من ههنا ومن ههنا وقال في القديم: إن اتسع المسجد وكثر الناس سلم تسليمتين وإن صغر المسجد وقل الناس تسليمة واحدة لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولأن السلام للإعلام بالخروج من الصلاة وإذا كثر الناس كثر اللغط فيسلم اثنتين ليبلغ وإذا قل الناس كفاهم الإعلام بتسليمة واحدة والأول أصح لأن الحديث في تسليمه غير ثابت عند أهل النقل والواجب من ذلك تسليمة لأن الخروج يحصل بتسليمة فإن قال عليكم السلام أجزأه على المنصوص كما يجزئه في التشهد وإن قدم بعضه على بعض ومن أصحابنا من قال لا يجزئه حتى يأتي به مرتباً كما يقول في القراءة والمذهب الأول وينوي الإمام بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على من عن يمينه وعلى الحفظة وينوي بالثانية السلام على من على يساره وعلى الحفظة وينوي المأموم بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والتسليم على الإمام وعلى الحفظة وعلى المأمومين من ناحيته في صفه وورائه وقدامه وينوي بالثانية السلام على الحفظة وعلى المأمومين من ناحيته فإن كان الإمام قدامه نواه في أي التسليمتين شاء وينوي المنفرد بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة وبالثانية السلام على الحفظة والأصل فيه ما روى سمرة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أنفسنا وأن يسلم بعضنا على بعض وروى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين ويصلي قبل العصر أربعاً يفصل كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معه من المؤمنين وإن نوى الخروج من الصلاة ولم ينو ما سواه جاز لأن التسليم على الحاضرين سنة وإن لم ينو الخروج من الصلاة ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص: لا يجزئه وهو ظاهر النص في البويطي لأنه نطق في أحد طرفي الصلاة فلم يصح من غير نية كتكبيرة الإحرام وقال أبو حفص ابن الختن الوكيل وأبو عبد الله الجرجاني رحمهم الله: يجزيه لأن نية الصلاة قد أتت على جميع الأفعال والسلام من جملتها أو لأنه لو وجبت النية في السلام لوجب تعيينها كما قلنا في كبيرة الإحرام. فصل: ويستحب لمن فرغ من الصلاة أن يذكر الله تعالى لما روي عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان يهلل في أثر كل صلاة يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه

وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهذا في دبر كل صلاة وكتب المغيرة إلى معاوية رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد1". فصل: وإذا أراد أن ينصرف فإن كان خلفه نساء استحب أن يلبث حتى ينصرف النساء ولا يختلطن بالرجال لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قام النساء حين يقضي سلامه فيمكث يسيراً قبل أن يقوم قال الزهري رحمه الله: فيرى - والله أعلم - أن مكثه لينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال وإذا أراد أن ينصرف توجه في جهة حاجته لما روى الحسن رحمه الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في المسجد الجامع فمن كان بيته من قبل بني تميم انصرف عن يساره ومن كان بيته مما يلي بني سليم انصرف عن يمينه - يعني بالبصرة - وإن لم يكن له حاجة فالأولى أن ينصرف عن يمينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء. فصل: والسنة في صلاة الصبح أن يقنت في الركعة الثانية لما روى أنس بن مالك

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 155. مسلم في كتاب الصلاة حديث 194. أبو داود في كتاب الصلاة باب 140. الدارمي في كتاب الصلاة باب 71. الموطأ في كتاب القدر حديث 8.

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو عليهم ثم تركه وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ومحل القنوت بعد الرفع من الركوع لما روي أنه سئل أنس هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ قال: نعم قيل: قبل الركوع أو بعد الركوع؟ قال: بعد الركوع والسنة أن يقول "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت" لما روى الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر فقال: "قل اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره" وإن قنت بما روى عن عمر رضي الله عنه كان حسناً وهو ما روى أبو رافع قال: قنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد الركوع في الصبح فسمعته يقول: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكفار ملحق اللهم عذب كفار أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات

بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الدعاء لما روي من حديث الحسن رضي الله عنه في الوتر أنه قال تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي وسلم ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤمن من خلفه ويستحب له أن يشاركه في الثناء لأنه لا يصلح التأمين على ذلك فكانت المشاركة أولى وأما رفع اليدين في القنوت فليس فيه نص والذي يقتضيه المذهب أنه لا يرفع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن: في الاستسقاء والاستنصار وعشية عرفة ولأنه دعاء في الصلاة فلم يستحب له رفع اليد كالدعاء في التشهد وذكر القاضي أبو الطيب الطبري في بعض كتبه أنه لا يرفع اليد وحكى في التعليق أنه يرفع اليد والأول عندي أصح وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه غير حاجة فإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جمع الفرائض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد كان إذا قال سمع الله لمن حمد قال ربنا لك الحمد وذكر الدعاء. فصل: والفرض مما ذكرناه أربعة عشر: النية وتكبيرة الإحرام والقيام وقراءة الفاتحة الركوع حتى تتطمئن فيه والرفع من الركوع حتى تعتدل والسجود حتى تتطمئن فيه والجلوس بين السجدتين حتى تتطمئن والجلوس في آخر الصلاة والتشهد فيه والصلاة على رسول صلى الله عليه وسلم والتسليمة الأولى ونية الخروج وترتيب أفعالها على ما ذكرناه والسنن خمس وثلاثون: رفع اليدين في تكبير الإحرام والركوع والرفع من الركوع ووضع اليمين على الشمال والنظر إلى موضع السجود ودعاء الاستفتاح والتعوذ والتأمين وقراءة السورة بعد الفاتحة والجهر والإسرار والتكبيرات سوى تكبيرة

الإحرام والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع والتسبيح في الركوع والتسبيح في السجود ووضع اليد على الركبة في الركوع ومد الظهر والعنق فيه والبداية بالركبة ثم باليد في السجود ووضع الأنف في السجود ومجافاة المرفق عن الجنب في الركوع والسجود وإقلال البطن عن الفخذ في السجدتين والدعاء في الجلوس بين السجدتين وجلسة الاستراحة ووضع اليد على الأرض عند القيام والتورك في آخر الصلاة والإفتراش في آخر الجلسات ووضع اليد اليمنى على الفخذ مقبوضة والإشارة بالمسبحة ووضع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة والتشهد الأول والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه والصلاة على آله في التشهد الأخير والدعاء في آخر الصلاة والقنوت في الصبح والتسليمة الثانية ونية السلام على الحاضرين.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع أفضل عبادات البدن الصلاة لما روى عبد الله بن عمرو بن عبد العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استقيوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة1" ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ولأنه تجمع من القرب ما لا تجمع غيرها من الطهارة واستقبال القبلة والقراءة وذكر الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنع فيها من كل ما يمنع منه في سائر العبادات وتزيد عليها بالامتناع من الكلام والمشي وسائر الأفعال وتطوعها

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 4. الدارمي في كتاب الوضوء باب 2. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 36. أحمد في مسنده "5/277".

أفضل التطوع وتطوعها ضربان: ضرب تسن له الجماعة وضرب لا تسن له الجماعة فما سن له الجماعة فصلاة العيد والكسوف والاستسقاء وهذا الضرب أفضل مما لا تسن له الجماعة لأنها تشبه الفرائض في سنة الجماعة وأوكد ذلك صلاة العيد لأنها راتبة بوقت كالفرائض ثم صلاة الكسوف لأن القرآن دل عليها قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت 37] وليس ههنا صلاة تتعلق بالشمس والقمر إلا صلاة الكسوف ثم صلاة الإستسقاء ولهذه الصلواة أبواب نذكر فيها أحكامها إن شاء الله تعالى وبه الثقة وما لا تسن له الجماعة فضربان: راتبة بوقت وغير راتبة فأما الراتبة فمنها السنن الراتبة مع الفرائض وأدنى الكمال منها عشر ركعات غير الوتر وهي: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان بعد الصبح والأصل فيه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين وبعد العشاء سجدتين وحدثتني حفصة بنت عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين إذا طلع الفجر والأكمل أن يصلي ثمانية عشر ركعة غير الوتر ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء لما ذكرناه من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها لما روت أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار1" وأربعاً قبل العصر لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعاً يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معهم من المؤمنين والسنة فيها وفي الأربع قبل الظهر وبعده أن يسلم من كل ركعتين لما رويناه من حديث علي كرم الله وجهه أنه كان يفصل بين كل ركعتين بالتسليم وما يفعل قبل هذه الفرائض من هذه السنن يدخل وقتها بدخول وقت الفرض ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض وما يفعل بعد الفرض يدخل وقتها بالفراغ من الفرض ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض لأنها تابعة للفرض فذهب وقتها بذهاب وقت الفرض ومن أصحابنا من قال يبقى وقت سنة الفجر إلى الزوال وهو ظاهر النص والأول أظهر. فصل: وأما الوتر فهي سنة لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 رواه أبو داود في كتاب التطوع باب 7. الترمذي في كتاب القيامة باب 45. النسائي في كتاب الجهاد باب 10. أحمد في مسنده "1/63" "3/114".

قال "الوتر حق وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل1" وأكثره إحدى عشر ركعة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشر ركعة يوتر منها بواحدة وأقله ركعة لما ذكرناه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه وأدنى الكمال ثلاث ركعات يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] والمعوذتين لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذلك والسنة لمن أوتر بما زاد على ركعة أن يسلم من كل ركعتين لما روى ابن عمر رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الشفع والوتر ولأنه يجهر في الثالثة ولو كانت موصولة بالركعتين لما جهر بها كالثالثة من المغرب ويجوز أن يجمعها بتسليمه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر والسنة أن يقنت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: السنة إذا انتصف الشهر من رمضان أن تعلن الكفرة في الوتر بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول: أللهم قاتل الكفرة وقال أبو عبد الله الزبيري: يقنت في جميع السنة لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات ويقنت قبل الركوع والمذهب الأول وحديث أبي بن كعب غير ثابت عند أهل النقل ومحل القنوت في الوتر بعد الرفع من الركوع ومن أصحابنا من قال محله في الوتر قبل الركوع لحديث أبي بن كعب والصحيح هو الأول لما ذكرت من حديث عمر رضي الله عنه ولأنه في الصبح يقنت بعد الركوع فكذلك في الوتر ووقت الوتر ما بين أن يصلي العشاء إلى طلوع الفجر الثاني لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" فإن كان ممن لم تهجد فالأولى أن يؤخره حتى يصليه بعد التهجد وإن لم يكن له تهجد فالأولى أن يصليه بعد سنة العشاء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من خاف أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل ثم ليرقد ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل2"

_ 1رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 123. 2 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 162، 163. الترمذي في كتاب الوتر باب 3. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 121. أحمد في مسنده "3/300، 315".

وأوكد هذه السنن الراتبة مع الفرائض سنة الفجر والوتر لأنه ورد فيهما ما لم يرد في غيرهما وأيهما أفضل؟ فيه قولان: في الجديد الوتر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم هي الوتر1" وقال عليه السلام "من لم يوتر فليس منا2" ولأنه مختلف في وجوبه وسنة الفجر مجمع على كونها سنة فكان الوتر أوكده وقال في القديم: سنة الفجر آكده لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوها ولو طردتكم الخيل" ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة والنقصان فهي بالفرائض أشبه من الوتر. فصل: ومن السنن الراتبة قيام رمضان وهو عشرون ركعة بعشر تسليمات والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه3" والأفضل أن يصليها في جماعة نص عليه في البويطي لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه فصلى بهم التراويح ومن أصحابنا من قال فعلها منفرداً أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليالي فصلوها معه ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر والمذهب الأول وإنما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لئلا تفرض عليهم وقد روي أنه قال "خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها". فصل: ومن السنن الراتبة صلاة الضحى وأفضلها ثماني ركعات لما روت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثماني ركعات وأقلها ركعتان لما

_ 1رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 2. أحمد في مسنده "2/443" "5/243". 2 رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 2. أحمد في مسنده "2/433" "5/753". 3 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 25، 27. كتاب الصوم باب 6. مسلم في كتاب المسافرين حديث 173 – 176 – أبو داود في كتاب رمضان باب 1. الموطأ في كتاب رمضان حديث 2. أحمد في مسنده "1/ 191، 195" "2/ 232".

روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل سلامي من أحدكم صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يصليها من الضحى1" ووقتها إذا أشرقت الشمس إلى الزوال ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء في وقتها ففيه قولان: أحدهما لا يقضي لأنها صلاة نفل فلم تقض كصلاة الكسوف والاستسقاء والثاني يقضي لقوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو سها فليصلها إذا ذكرها2" ولأنها صلاة راتبة في وقت فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل كالفرائض بخلاف الكسوف والاستسقاء لأنها غير راتبة وإنما تفعل لعارض وقد زال العارض. فصل: وأما غير الراتبة وهي الصلوات التي يتطوع بها الإنسان في الليل والنهار وأفضلها التهجد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلوات بعد المفروضة صلاة الليل" ولأنها تفعل في وقت غفلة وتركهم للطاعات فكان أفضل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء بين أشجار يابسة" وآخر الليل أفضل من أوله لقوله عز وجل {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات:18-17] ولأن الصلاة بعد النوم أشق ولأن المصلين فيه أقل فكان أفضل وإن جزأ الليل ثلاثة أجزاء فالثلث الأوسط أفضل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه3" ولأن الطاعات في هذا الوقت أقل فكانت الصلاة فيه أفضل ويكره أن يقوم الليل كله لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتصوم النهار؟ فقلت نعم قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم قال: لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأفضل تطوع النهار ما كان في البيت لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة4" والسنة أن يسلم من كل

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصلح باب 11. مسلم في كتاب المسافرين حديث 84 أبو داود في كتاب التطوع باب 12. أحمد في مسنده "2/316، 328". 2 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 37. مسلم في كتاب المساجد حديث 309 الترمذي في كتاب الصلاة باب 16، 17 ابن ماجه في كتاب الصلاة 10- 11. الموطأ في كتاب الوقوت حديث 35 أحمد في مسنده "3/31، 44". 3 رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب 31. 4 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 81. مسلم في كتاب المسافرين حديث 213. أبو داود في كتاب الصلاة باب 199. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 4. أحمد في مسنده "5/182".

ركعتين لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الليل مثنى مثنى1" فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة فإن جمع ركعات بتسليمة واحدة جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس يجلس في الركعة الأخيرة ويسلم وأنه أوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام وإن تطوع بركعة واحدة جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة فقال: إنما هي تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص. فصل: ويستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية المسجد لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم المسجد فليصل سجدتين من قبل أن يجلس2" فإن دخل وقد حضرت الجماعة لم يصل التحية لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة3" ولأنه يحصل به التحية كما يحصل حق الدخول إلى الحرم بحجة الفرض.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب التطوع باب 13، 24. الترمذي في كتاب الصلاة باب 166. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 166. الموطأ في كتاب الصلاة الليل حديث 7. 2 رواه البخاري في كتاب النجد باب 29. أبو داود في كتاب التطوع باب 10. الترمذي في كتاب الصلاة باب 192. أحمد في مسنده "2/17" "3/128". 3 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 38. مسلم في كتاب المسافرين حديث 63. أبو داود في كتاب التطوع باب 5. النسائي في كتاب الإمامة باب 60. الدارمي في كتاب الصلاة باب 149.

باب سجود التلاوة

باب سجود التلاوة سجود التلاوة مشروع للقارئ لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بسجدة كبر وسجد وسجدنا معه فإن ترك القارئ سجد المستمع لأنه توجه عليهما فلا يتركه أحدهما بترك الآخر وأما من سمع القارئ وهو غير مستمع إليه قال الشافعي رحمه الله: لا أؤكد كما أؤكد على المستمع لما روى عن عمر وعمار بن الحصين رضي الله عنهما أنهما قالا: السجدة على من استمع وعن ابن عباس رضي الله عنهما: السجدة لمن جلس لها وهو سنة غير واجبة لما روي عن زيد بن ثابت قال: عرضت سورة النجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسجد منا أحد. فصل: وسجدات التلاوة أربع عشرة سجدة في قوله الجديد: سجدة في آخر الأعراف عند قوله {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] وسجدة في الرعد عند قوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15] وسجدة في النحل عند قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] وسجدة في بني إسرائيل عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الاسراء:109] وسجدة في مريم عند قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] وسجدتان في الحج إحداهما عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] والثانية عند قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] وسجدة في الفرقان عند قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60] وسجدة في النمل عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وسجدة في آلم تنزيل عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل:49] وسجدة في حم السجدة عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وثلاث سجدات في المفصل إحداها في آخر النجم {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [لنجم:62] والثانية في إذا السماء انشقت عند قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] والثالثة في آخر إقرأ {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] والدليل عليه ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أقراني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتين وقال في القديم: سجود التلاوة إحدى عشرة سجدة فأسقط ثلاث سجدات المفصل لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة. فصل: وأما سجدة ص فهي عند قوله عز وجل: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [صّ: 24] وليست من سجدات التلاوة وإنما هي سجدة شكر لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقرأ ص فلما مر بالسجود نشزنا للسجود فلما رآنا قال إنما هي توبة نبي ولكن قد استعددتم للسجود فنزل وسجد وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سجدها نبي الله داود توبة وسجدناها شكراً" فإن قرأها في الصلاة فسجد ففيه وجهان: أحدهما تبطل صلاته لأنها سجدة شكر فتبطل بها الصلاة كالسجود عند تجدد نعمة والثاني لا تبطل لأنها تتعلق بالتلاوة فهي كسائر سجدات التلاوة. فصل: وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل يفتقر إلى الطهارة والستارة واستقبال القبلة لأنها صلاة في الحقيقة فإن كان في الصلاة سجد بتكبير ورفع بتكبير ولا يرفع يديه وإن كان السجود في آخر السورة فالمستحب أن يقوم ويقرأ من السورة بعدها شيئاً ثم يركع فإن قال ولم يقرأ شيئاً وركع جاز وإن قام من السجود إلى الركوع ولم يقم لم يجز لأنه لم يبتدئ الركوع من قيام وإن كان في غير الصلاة كبر لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالسجدة كبر وسجد ويستحب أن يرفع يديه لأنها تكبيرة افتتاح فهي كتكبيرة الإحرام ثم يكبر تكبيرة أخرى للسجدة ولا يرفع اليد والمستحب أن يقول في سجوده ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته" وإن "قال اللهم اكتب لي عندك بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً وضع عني بها وزراً واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام" فهو حسن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت هذه الليلة فيما يرى النائم كاني أصلي خلف شجرة وكأني قرأت سجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت لسجودي فسمعتها وهي ساجدة تقول اللهم اكتب لي عندك بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً وضع عني بها وزراً واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن الشجرة فإن قال فيه مثل ما يقول في سجود الصلاة

جاز وهل يفتقر إلى السلام؟ فيه قولان: قال في البويطي: لا يسلم كما لا يسلم منه في الصلاة وروى المزني عنه أنه قال: يسلم لأنها صلاة تفتقر إلى الإحرام فافتقرت إلى السلام كسائر الصلوات وهل يفتقر إلى التشهد؟ المذهب أنه لا يتشهد لأنه لا قيام فيه فلم يكن فيه تشهد ومن أصحابنا من قال يتشهد لأنه سجود يفتقر إلى الإحرام والسلام فافتقر إلى التشهد كسجود الصلاة. فصل: ويستحب لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى ولمن مر بآية عذاب أن يستعيذ منه لما روى حذيفة رضي الله عنه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ البقرة فما مر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا استعاذ ويستحب للمأموم أن يتابع الإمام في سؤال الرحمة والاستعاذة من العذاب لأنه دعاء فساوى المأموم الإمام فيه كالتأمين ويستحب لمن تجددت عنده نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة أن يسجد شكراًً لله عز وجل لما روى أبو بكرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الشيء يسر به خر ساجداً شكراً لله تعالى وحكم سجود الشكر في الشروط والصفات حكم سجود التلاوة خارج الصلاة.

باب مايفسد الصلاة ومايكره فيها

باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها إذا قطع شرطاً من شروطها كالطهارة والستارة وغيرهما بطلت صلاته فإن سبقه الحدث ففيه قولان: قال في الجديد: تبطل صلاته لأنه حدث يبطل الطهارة فأبطل الصلاة كحدث العمد وقال في القديم: لا تبطل صلاته بل ينصرف ويتوضأ ويبني على صلاته لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى ما لم يتكلم" ولأنه حدث حصل بغير اختياره فأشبه سلس البول فإن أخرج على هذا القول بقية الحدث لم تبطل صلاته لأن حكم البقية حكم الأول فإذا لم تبطل بالأول لم تبطل بالبقية ولأن به حاجة إلى إخراج البقية

ليكمل طهارته فإن وقعت عليه نجاسة يابسة فنحاها لم تبطل صلاته لأنها ملاقاة نجاسة هو معذور فيها فلم تقطع الصلاة كسلس البول وإن كشفت الريح الثوب عن العورة ثم رده لم تبطل صلاته لأنه معذور فيه فلم يقطع الصلاة كما لو غصب منه الثوب في الصلاة فإن ترك فرضاً من فروضها كالركوع والسجود وغيرهما بطلت صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته أعد صلاتك فإنك لم تصل وإن ترك القراءة ناسياً ففيه قولان وقد مضى في القراءة. فصل: وإن تكلم في صلاته أو قهقه فيها أو شهق بالبكاء وهو ذاكر للصلاة عالم بالتحريم بطلت صلاته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء" وروي الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء فإن فعل ذلك وهو ناس أنه في الصلاة ولم يطل لم تبطل صلاته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أصدق ذو اليدين"؟ فقالوا: نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم وإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم ولم يطل لم تبطل صلاته لما روى عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فحدقني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أماه ما لكم تنظرون إلي فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي وما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه والله ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثم قال "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وإن سبق لسانه من غير قصد إلى الكلام أو غلبه الضحك ولم يطل لم تبطل صلاته لأنه غير مفرط فهو كالناسي والجاهل وإن طال الكلام وهو ناس أو جاهل بالتحريم أو مغلوب ففيه وجهان: المنصوص في البويطي أن صلاته تبطل لأن كلام الناسي والجاهل والمسبوق كالعمل القليل ثم العمل القليل إذا كثر أبطل الصلاة وكذلك الكلام ومن

أصحابنا من قال: لا تبطل كأكل الناسي لا يبطل الصوم قل أو كثر فإن تنحنح أو تنفس أو نفخ أو بكى أو تبسم عامداً ولم يبن منه حرفان لم تبطل صلاته لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سجد جعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية فلما قضى صلاته قال: فوالذي نفسي بيده لقد عرض على النار حتى إني لأطفئها خشية أن تغشاكم ولأن ما لم يتبين منه حرفان ليس بكلام فلا يبطل الصلاة فإن كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه لم تبطل صلاته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يصلي فلم يجبه فخفف الصلاة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما منعك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله: كنت أصلي قال: أفلم تجد فيما أوحي إلي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم قال: بلى يا رسول الله لا أعود فإن رأى المصلي ضريراً يقع في بئر فأنذره بالقول ففيه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي رحمه الله: لا تبطل صلاته لأنه واجب عليه فهو كإجابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابنا من قال: تبطل صلاته لأنه لا يجب عليه لأنه قد لا يقع في البئر وليس بشيء فإن كلمه إنسان وهو في الصلاة وأراد أن يعلمه أنه في الصلاة أو سها الإمام فأراد أن يعلمه بالسهو استحب له إن كان رجلاً أن يسبح وتصفق إن كانت امرأة فتضرب ظهر كفها الأيمن على بطن كفها الأيسر لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء" فإذا فعل ذلك للإعلام لم تبطل صلاته لأنه مأمور به فإن صفق الرجل وسبحت المرأة لم تبطل الصلاة لأنه ترك سنة فإن أراد الإذن لرجل في الدخول فقال {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] فإن قصد التلاوة والإعلام لم تبطل صلاته لأن قراءة القرآن لا تبطل الصلاة وإن لم يقصد القرآن بطلت صلاته لأنه من كلام الآدميين وإن شمت عاطساً بطلت صلاته لحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه ولأنه كلام وضع لمخاطبة الآدمي فهو كرد السلام وروى يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: لا تبطل الصلاة لأنه دعاء بالرحمة فهو كالدعاء لأبويه بالرحمة.

فصل: وإن كان أكل عامداً بطلت صلاته لأنه أبطل الصوم الذي لا يبطل بالأفعال فلأن يبطل الصلاة أولى وإن كان أكل ناسياً لم تبطل كما لا يبطل الصوم. فصل: وإن عمل في الصلاة عملاً ليس منها نظرت فإن كان من جنس أفعالها بأن ركع أو سجد في غير موضعها فإن كان عامداً بطلت صلاته لأنه متلاعب بالصلاة وإن كان ناسياً لم تبطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فسبحوا له وبنى على صلاته وإن قرأ فاتحة الكتاب مرتين عامداً فالمنصوص أنه لا تبطل صلاته لأنه تكرار ذكر فهو كما لو قرأ السورة بعد الفاتحة مرتين ومن أصحابنا من قال تبطل لأنه ركن زاده في الصلاة فهو كالركوع والسجود وإن عمل عملاً ليس من جنسها فإن كان قليلاً مثل أن دفع ماراً بين يديه أو ضرب حية أو عقرباً أو خلع نعليه أو أصلح رداءه أو حمل شيئاً أو سلم عليه رجل فرد عليه بالإشارة وما أشبه ذلك لم تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفع المار بين يديه وأمر بقتل الأسودين الحية والعقرب في الصلاة وخلع نعليه وحمل أمامه بنت أبي العاص في الصلاة فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وسلم عليه الأنصار فرد عليهم بالإشارة في الصلاة ولأن المصلي لا يخلوا من عمل قليل فلم تبطل صلاته بذلك وإن عمل عملاً كثيراً بأن مشى خطوات متتابعات أو ضرب ضربات متواليات بطلت صلاته لأن ذلك لا تدعو الحاجة إليه في الغالب وإن مشى خطوتين أو ضرب ضربتين ففيه وجهان: أحدهما لا تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه ووضعهما إلى جانبه وهذان فعلان متواليان والثاني تبطل لأنه عمل متكرر فهو كالثلاث وإن عمل عملاً كثيراً متفرقاً لم تبطل صلاته لحديث أمامة ابنة أبي العاص رضي الله عنها فإنه تكرر منه الحمل والوضع ولكنه لما تفرق لم يقطع الصلاة ولا فرق في العمل بين السهو والعمد لأنه فعل بخلاف الكلام فإنه قول والفعل أقوى من القول ولهذا ينفذ إحبال المجنون لكونه فعلاً ولا ينفذ إعتاقه لأنه قول. فصل: ويكره أن يترك شيئاً من سنن الصلاة ويكره أن يلتفت في صلاته من غير حاجة لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الله تعالى مقبلاً على عبده في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت صرف الله عنه وجهه1" وإن كان لحاجة لم

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 161. النسائي في كتاب السهو باب 10. الدارمي في كتاب الصلاة باب 134. أحمد في مسنده "5/172".

يكره لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلف ظهره ويكره أن يرفع بصره إلى السماء لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة حتى اشتد قوله في ذلك لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم1" ويكره أن ينظر إلى ما يلهيه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه خميصة ذات أعلام فلما فرغ قال "ألهتني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي الجهم وأتوني بأنبجانيته" ويكره أن يصلي ويده على خاصرته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصراً ويكره أن يكف شعره وثوبه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء ونهى أن يكف شعره وثوبه ويكره أن يمسح الحصا في الصلاة لما روى معيقيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تمسح الحصا وأنت تصلي فإن كنت لابد فاعلاً فواحدة تسوية الحصا" ويكره أن يعد الآي في الصلاة

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 92.مسلم في كتاب الصلاة حديث 118. أبو داود في كتاب الصلاة باب 163. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 68. أحمد في مسنده "2/ 333، 367" "3/109، 112"

لأنه يشتغل عن الخشوع فكان تركه أولى ويكره التثاؤب فيها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرد ما استطاع فإن أحدكم إذا قال هاها ضحك الشيطان منه" فإن بدره البصاق فإن كان في المسجد لم يبصق فيه بل يبصق في ثوبه ويحك بعضه ببعض وإن كان في غير المسجد لم يبصق تلقاء وجهه ولا عن يمينه بل يبصق تحت قدمه اليسرى فإن بدره بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجداً يوماً فرأى في قبلة المسجد نخامة فحتها بعرجون معه ثم قال: يحب أحدكم أن يبصق رجل في وجهه إذا صلى أحدكم فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه فإن الله تعالى تلقاء وجهه والملك عن يمينه وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره فإن أصابته بادرة بصاق فليبصق في ثوبه ثم يقول به هكذا فعلمهم أن يفركوا بعضه ببعض فإن خالف وبصق في المسجد دفنه لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البصاق في المسجد خطيئة وكفارته دفنه1" وبالله التوفيق.

_ 1رواه النسائي في كتاب المساجد باب 30. أحمد في مسنده "3/173".

باب سجود السهو

باب سجود السهو إذا ترك ركعة من الصلاة ساهياً فذكرها وهو فيها لزمه أن يأتي بها فإن شك في تركها بأن شك هل صلى ركعة أو ركعتين أو صلى ثلاثاً أو أربعاً لزمه أن يأخذ بالأقل ويأتي بما بقي لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين2" فإن استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة له والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماماً لصلاته والسجدتان ترغمان أنف الشيطان وإن ترك ركعة ناسياً وذكرها بعد التسليم

_ 2 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 31 مسلم في كتاب المساجد حديث 88. أبو داود في كتاب الصلاة باب 190. النسائي في كتاب السهو باب 24. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 132. الموطأ في كتاب النداء حديث 61، 62. أحمد في مسنده "1/190".

نظرت فإن لم يتطاول الفصل أتى بها وإن تطاول استأنف واختلف أصحابنا في التطاول فقال أبو إسحاق: هو أن يمضي قدر ركعة وعليه نص في البويطي وقال غيره: يرجع فيه إلى العادة فإن كان قد مضى ما يعد تطاولاً استأنف الصلاة وإن مضى ما لا يعد تطاولاً بنى لأنه ليس له حد في الشرع فرجع فيه إلى العادة وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن مضى مقدار الصلاة التي نسي فيها استأنف وإن كان دون ذلك بنى لأن آخر الصلاة يبنى على أولها وما زاد على ذلك لا يبنى عليه فجعل ذلك حداً وإن شك بعد السلام في تركها لم يلزمه شيء لأن الظاهر أنه أداها على التمام فلا يضره الشك الطارئ بعده ولأنا لو اعتبرنا حكم الشك الطارئ بعدها شق ذلك وضاق فلم يعتب فصل: وإن ترك فرضاً ساهياً أو شك في تركه وهو في الصلاة لم يعتد بما فعله بعد المتروك حتى يأتي بما تركه ثم يأتي بما بعده لأن الترتيب مستحق في أفعال الصلاة فلا يعتد بما فعل حتى يأتي بما تركه فإن ترك سجدة من الركعة الأولى وذكرها وهو قائم في الثانية نظرت فإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى خر ساجداً وقال أبو إسحاق: يلزمه أن يجلس ثم يسجد ليكون السجود عقيب الجلوس والمذهب الأول لأن المتروك هو السجدة وحدها فلا يعيد ما قبلها كما لو قام من الرابعة إلى الخامسة ساهياً ثم ذكر فإنه يجلس ثم يتشهد ولا يعيد السجود قبله وإن لم يكن قد جلس عقيب السجدة الأولى حتى قام ثم ذكر جلس ثم سجد ومن أصحابنا من قال يخر ساجداً لأن الجلوس يراد للفصل بين السجدتين وقد حصل الفصل بالقيام إلى الثانية والمذهب الأول لأن الجلوس فرض مأمور به فلم يجز تركه وإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى وهو يظن أنها جلسة الاستراحة ففيه وجهان: قال أبو العباس: لا يجزئه بل يلزمه أن يجلس ثم يسجد لأن جلسة الاستراحة نفل فلا يجزئه عن الفرض كسجود التلاوة لا يجزئه عن سجدة الفرض ومن أصحابنا من قال يجزئه كما لو جلس في الرابعة وهو يظن أنه جلس للتشهد الأول وتعليل أبي العباس يبطل بهذه المسألة وأما سجود التلاوة فلا يسلم فإن من أصحابنا من قال يجزئه عن الفرض ومنهم من قال لا يجزئه لأنه ليس من الصلاة وإنما هو عارض فيها وجلسة الاستراحة من الصلاة وإن ذكر ذلك بعد السجود في الثانية تمت له ركعة لأن عمله بعد المتروك كلا عمل حتى يأتي بما ترك فإذا سجد في الثانية ضممنا سجدة

من الثانية إلى الأولى فتمت له الركعة وإن ترك سجدة من أربع ركعات ونسي موضعها لزمه ركعة لأنه يجوز أن يكون قد ترك من الأخيرة فيكفيه سجدة ويحتمل أن يكون قد ترك من غير الأخيرة فتبطل عليه الركعة التي بعدها وفي الصلاة يجب أم يحمل الأمر على الأشد ليسقط الفرض بيقين ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من شك في عدد الركعات أن يأخذ بالأقل ليسقط الفرض بيقين وإن ترك سجدتين جعل إحداهما من الأولى والأخرى من الثالثة فيتم الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة فيحصل له ركعتان وتلزمه ركعتان وإن ترك ثلاث سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدة ومن الرابعة سجدة وتلزمه ركعتان وإن ترك أربع سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين ومن الرابعة سجدة فيلزمه سجدة وركعتان وإن ترك خمس سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين ومن الرابعة سجدتين فيلزمه سجدتان وركعتان وإن نسي ست سجدات فقد أتى بسجدتين فجعل إحداهما من الأولى والأخرى من الرابعة وتلزمه ثلاث ركعات وإن نسي سبع سجدات حصل له ركعة إلا سجدة وإن نسي ثماني سجدات حصل له ركعة القيام والركوع ويلزمه أن يأتي بما بقي فإن ذكر ذلك بعد السلام أو شك في تركه بعد السلام فالحكم فيه على ما ذكره في الركعة. فصل: وإن نسي سنة نظرت فإن ذكر ذلك وقد تلبس بغيرها مثل أن يترك دعاء الاستفتاح فذكر وهو في التعوذ أو ترك التشهد الأول فذكر وقد انتصب قائماً لم يعد إليه والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قام أحدكم من الركعتين ولم يستتم قائماً فليجلس وإذا استتم قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتين" ففرق بين أن ينتصب وبين أن لا ينتصب لأنه إذا انتصب حصل في غيره وإذا لم ينتصب لم يحصل في غيره فدل على ما ذكرناه وإن نسي تكبيرات العيد حتى افتتح القراءة ففيه قولان: قال في القديم: يأتي بها لأن محلها القيام والقيام باق في الجديد لا يأتي بها لأنه ذكر مسنون قبل القراءة فسقط بالدخول في القراءة كدعاء الاستفتاح. فصل: الذي يقتضي سجود السهو أمران: زيادة ونقصان فأما الزيادة فضربان: قول وفعل فالقول أن يسلم في غير موضع السلام ناسياً أو يتكلم ناسياً فيسجد للسهو والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين وأتم صلاته وسجد سجدتين وإن قرأ في غير موضع القراءة سجد لأنه قول في غير موضعه فصار كالسلام وأما الفعل فضربان: ضرب لا يبطل عمده الصلاة وضرب يبطل فما لا يبطل عمده الصلاة كالالتفات والخطوة والخطوتين فلا يسجد له لأن عمده لا يؤثر فسهوه لا يقتضي

السجود وأما ما يبطل عمده فضربان: متحقق ومتوهم فالمتحقق أن يسهو فيزيد في صلاته ركعة أو ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً أو يطيل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود على وجه السهو فيسجد للسهو والدليل عليه ما روى عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له صليت خمساً فسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم وأما المتوهم فهو أن يشك هل صلى ركعة أو ركعتين فيلزمه أن يصلي ركعة أخرى ثم يسجد للسهو لحديث أبي سعيد الخدري الذي ذكرناه في أول الباب فإن قام من الركعتين فرجع إلى القعود قبل أن ينتصب قائماً ففيه قولان: أحدهما يسجد للسهو لأنه زاد في صلاته فعلاً تبطل الصلاة بعمده فيسجد كما لو زاد قياماً أو ركوعاً والثاني لا يسجد وهو الأصح لأنه عمل قليل فهو كالالتفات والخطوة. فصل: وأما النقصان فهو أن يترك سنة مقصودة وذلك شيئان: أحدهما أن يترك التشهد الأول ناسياً فيسجد للسهو لما روى ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين فلما جلس من أربع انتظر الناس تسليمه فسجد قبل أن يسلم والثاني أن يترك القنوت ساهياً فيسجد للسهو لأنه سنة مقصودة في محلها فتعلق السجود بتركها كالتشهد الأول وإن ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول فإن قلنا ليست بسنة فلا يسجد وإن قلنا إنها سنة سجد لأنه ذكر مقصود في موضعه فهو كالتشهد الأول فإن ترك التشهد الأول أو القنوت عامداً سجد للسهو ومن أصحابنا من قال لا يسجد لأنه مضاف إلى السهو فلا يفعل مع العمد والمذهب الأول لأنه إذا سجد لتركه ساهياً فلأن يسجد لتركه عامداً أولى وإن ترك سنة غير مقصودة كالتكبيرات والتسبيحات والجهر والإسرار والتورك والافتراش وما أشبهها لم يسجد لأنه ليس بمقصود في موضعه فلم يتعلق بتركه الجبران وإن شك هل سها نظرت فإن كان في زيادة هل زاد أم لا لم يسجد لأن الأصل أنه لم يزد وإن كان في نقصان هل ترك التشهد أو القنوت أم لا سجد لأن الأصل أنه لم يفعل فسجد لتركه. فصل: وإن اجتمع سهوان أو أكثر كفاه الجميع سجدتان لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين واقتصر على سجدتين ولأنه لو لم يتداخل لسجد عقيب السهو فلما أخر إلى آخر الصلاة دل على أنه إنما أخر ليجمع كل سهو في الصلاة وإن سجد للسهو ثم سها فيه ففيه وجهان: قال أبو العباس بن القاص: بعيد لأن السجود لا يجبر ما بعده وقال أبو عبد الله الختن: لا يعيد لأنه لو لم يجبر كل سهو لم يؤخر.

فصل: إذا سها خلف الإمام لم يسجد لأن معاوية بن الحكم شمت العاطس في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس1" ولم يأمره بالسجود وإن سها الإمام لزم المأموم حكم السهو لأنه لما تحمل عنه الإمام سهوة لزم المأموم أيضاً سهوه فإن لم يسجد الإمام لسهوه سجد المأموم وقال المزني وأبو حفص البابشامي: لا يسجد لأنه إنما يسجد تبعاً للإمام وقد ترك الإمام فلم يسجد المأموم والمذهب الأول لأنه لما سها الإمام دخل النقص على صلاة المأموم لسهوه فإذا لم يجبر الإمام صلاته جبر المأموم صلاته وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة وسها فيما أدركه معه وسجد معه ففيه قولان: قال في الأم: يعيد لأن الأول فعله متابعة لإمامه ولم يكن موضع سجوده وقال في الإملاء والقديم: لا يعيد لأن الجبران حصل بسجوده فلم يعد وإن سها الإمام فيما أدركه وسجد سجد معه ثم سها المأموم فيما انفرد فإن قلنا لا يعيد السجود سجد لسهوه وإن لم يسجد الإمام أو سجد وقلنا يعيد فالمنصوص أنه تكفيه سجدتان لأن السجدتين يجبران كل سهو ومن أصحابنا من قال يسجد أربع سجدات لأن إحداهما من جهة الإمام والأخرى من جهته وإن سها الإمام ثم أدركه المأموم فالمنصوص في صلاة الخوف أنه يلزم المأموم وحكم سهوه لأنه دخل في صلاة ناقصة فنقصت بها صلاته ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأنه لو سها المأموم فيما انفرد به بعد مفارقة الإمام لم يتحمل عنه الإمام فإذا سها الإمام فيما انفرد به لم يلزم المأموم وإن صلى ركعة منفرداً في صلاة رباعية فسها فيها ثم نوى متابعة إمام مسافر فسها الإمام ثم قال ثم قام إلى رابعته فسها فيها ففيه ثلاثة أوجه أصحها أنه يكفيه سجدتان والثاني يسجد أربع سجدات لأنه سها سهواً في جماعة وسهواً في جماعة وسهواً في الانفراد والثالث يسجد ست سجدات لأنه سها في ثلاثة أحوال. فصل: وسجود السهو سنة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري كانت الركعة نافلة له والسجدتان ولأنه يفعل لما لا يجب فلا يجب. فصل: ومحله قبل التسليم لحديث أبي سعيد ولحديث ابن بحينة ولأنه يفعل لإصلاح الصلاة فكان قبل التسليم كما لو نسي سجدة من الصلاة ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر إنه إن كان السهو زيادة كان محله بعد السلام والمشهور هو الأول لأن بالزيادة يدخل النقص في الصلاة كما يدخل بالنقصان فإن لم يسجد حتى سلم ولم يتطاول الفصل سجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً وسلم ثم سجد وإن تطاول الفصل ففيه

_ 1 رواه النسائي في كتاب السهو باب 20. أحمد في مسنده "5/447".

قولان: أحدهما يسجد لأنه جبران فلم يسقط بالتطاول كجبران الحج وقال في الجديد: لا يسجد وهو الأصح لأنه يفعل لتكميل الصلاة فلم يفعل بعد تطاول الفصل كما لو نسي سجدة من الصلاة فذكرها بعد التسليم وبعد تطاول الفصل وكيف يسجد بعد التسليم فيه وجهان: قال أبو العباس بن القاص: يسجد ثم يتشهد لأن السجود في الصلاة بعده تشهد وكذلك هذا وقال أبو إسحاق: لا يتشهد وهو الأصح لأن الذي ترك هو السجود فلا يعيد معه غيره والنفل والفرض في سجود السهو واحد ومن أصحابنا من حكى قولاً في القديم أنه لا يسجد للسهو في النفل وهذا لا وجه له لأن النفل كالفرض في النقصان فكان كالفرض في الجبران.

باب الساعات التي نهى الله عن الصلاة فيها

باب الساعات التي نهى الله عن الصلاة فيها وهي خمس: اثنتان نهى عنهما لأجل الفعل وهي بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: حدثني أناس أعجبهم إلي عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس وثلاثة نهى عنها لأجل الوقت وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند الاستواء حتى تزول وعند الاصفرار حتى تغرب والدليل ما روى عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن نصلي فيها أو أن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة وحتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة وحين تضيف الشمس للغروب وهل يكره التنفل لمن

صلى ركعتي الفجر؟ فيه وجهان: أحدهما يكره لما روى ابن عمر رضي اله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليبلغ الشاهد منكم الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين" والثاني لا يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا بعد الصبح حتى تطلع الشمس. فصل: ولا يكره في هذه الأوقات ما لها سبب كقضاء الفائتة والصلاة المنذورة وسجود التلاوة وصلاة الجنازة وما أشبهها لما روي عن قيس بن فهر قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال: ما هاتان الركعتان قلت: لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان ولم ينكر عليه فدل على جوازه فإن دخل إلى المسجد في هذه الأوقات ليصلي التحية لا لحاجة له غيرها ففيه وجهان: أحدهما يصلي لأنه وجد سبب الصلاة وهو الدخول والثاني لا يصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتحرى أحدكم بصلاته طلوع الشمس وغروبها1" وهذا يتحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها. فصل: ولا تكره يوم الجمعة يوم الاستواء حتى لو حضر الصلاة لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ولأنه يشق عليه مع كثرة الخلق أن يخرج لمراعاة الشمس ويغلبه النوم إن قعد فعفى عن الصلاة وإن لم يحضر الصلاة ففيه وجهان: أحدهما يجوز للخبر والثاني لا يجوز لأنه لا مشقة عليه في مراعاة الشمس. فصل: ولا تكره الصلاة في هذه الأوقات بمكة لما روى أبو ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة إلا بمكة2" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة3" ولا خلاف أن الطواف يجوز فكذلك الصلاة

_ 1رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 30. مسلم في كتاب المسافرين حديث 289 النسائي في كتاب المواقيت باب 33. الموطأ في كتاب القرآن حديث 47. أحمد في مسنده "6/255". 2 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 30، 31. مسلم في كتاب المسافرين حديث 285 الترمذي في كتاب المواقيت باب 18. الموطأ في كتاب القرآن الحديث 48. أحمد في مسنده "1/18، 21". 3 رواه النسائي في كتاب المناسك باب 136. الدارمي في كتاب المناسك باب 32. أحمد في مسنده "3/414".

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة إختلف أصحابنا في الجماعة فقال أبو عباس وأبو إسحاق: هي فرض على الكفاية يجب إظهارها في الناس فإن امتنعوا من إظهارها قوتلوا عليها وهو المنصوص في الإمامة والدليل عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحذوا عليهم الشيطان عليك بالجماعة فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم1" ومن أصحابنا من قال هي سنة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة2". فصل: وأقل الجماعة اثنان إمام ومأموم لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة3" وفعلها للرجال في المسجد أفضل لأنهم أكثر جمعاً وفي المساجد التي يكثر الناس فيها أفضل لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى4"

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 46. النسائي في كتاب الإمامة باب 48. أحمد في مسنده "5/96". 2 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 87. الترمذي في كتاب الصلاة باب 47. أحمد في مسنده "2/14، 15". 3 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 35. النسائي في كتاب الإمامة باب 45. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 44. 4 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 47. النسائي في كتاب الإمامة باب 45 أحمد في مسنده "5/145".

فإن كان في جواره مسجد تختل فيه الجماعة ففعلها في مسجد الجوار أفضل من فعلها في المسجد الذي يكثر فيه الناس لأنه صلى في مسجد الجوار حصلت الجماعة في موضعين وأما النساء فجماعتهن في البيوت أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن1" فإن أرادت المرأة حضور المسجد مع الرجال فإن كانت شابة أو كبيرة يشتهى مثلها كره لها الحضور وإن كانت عجوزاً لا تشتهى لم يكره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن الخروج إلا عجوزاً في منقلها. فصل: ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الجماعة لأنه يريد أن يتبع غيره فلا بد من نية الإتباع فإن رأى رجلين يصليان على الانفراد فنوى الائتمام بهما لم تصح صلاته لأنه لا يمكنه أن يقتدي بهما في وقت واحد وإن نوى الاقتداء بأحدهما بغير عينه لم تصح صلاته لأنه إذا لم يعين لم يمكنه الاقتداء به وإن كان أحدهما يصلي بالآخر فنوى الاقتداء بالمأموم منهما لم تصح صلاته لأنه تابع لغيره فلا يجوز أن يتبعه غيره فإن صلى رجلان فنوى كل واحد منهما أنه هو الإمام لم تبطل صلاته لأنه كل واحد منهما يصلي لنفسه وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر لم تصح صلاتهما لأن كل واحد منهما ائتم بمن ليس بإمام. فصل: وتسقط الجماعة بالعذر وهو أشياء فمنها المطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة نادى مناديه أن صلوا في رحالكم ومنها أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه أو يدافع الخبثين لما روت عائشة رضي الله عنها

_ 1 رواه أحمد في مسنده "2/76، 77".

قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين1" ومنها أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو مرضاً يشق معه القصد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر" قالوا يا رسول الله وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض" ومنها أن يكون قيماً بمريض يخاف ضياعه لأنه حفظ الآدمي أفضل من حفظ الجماعة ومنها أن يكون له قريب مريض يخاف موته لأنه يتألم عليه بذلك أكثر مما يتألم بذهاب المال. فصل: ويستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها وعليه السكينة والوقار وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى أسرع لما روي أن عبد الله بن مسعود اشتد إلى الصلاة وقال: بادروا حد الصلاة يعني التكبيرة الأولى والأول أصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا2" وإن حضر والإمام لم يحضر فإن كان للمسجد إمام راتب قريب فالمستحب أن ينفذ إليه ليحضر لأن في تفويت الجماعة افتياتاً عليه وإفساداً للقلوب وإن خشي فوات أول الوقت لم ينتظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فقدم الناس أبا بكر رضي الله عنه وحضر النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة فلم ينكر عليهم وإن دخل في صلاة نافلة ثم أقيمت الجماعة فإن لم يخش فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة وإن خشي فوات الجماعة قطع النافلة لأن الجماعة أفضل وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة فالأفضل أن يقطع ويدخل في الجماعة فإن نوى الدخول في الجماعة

_ 1رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 67. أبو داود في كتاب الطهارة باب 43. الدارمي في كتاب الصلاة باب 137. أحمد في مسنده " "6/43/ 45". 2 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 18. مسلم في كتاب المساجد باب 14 الموطأ في كتاب النداء حديث 04. أحمد في مسنده "2/237".

من غير أن يقطع ففيه قولان: قال في الإملاء: لا يجوز وتبطل صلاته لأن تحريمته سبقت تحريمة الأمام فلم يجز كما لو حضر معه في أول الصلاة فكبر قبله وقال في القديم والجديد: يجوز وهو الأصح لأنه لما جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً ثم يصير إماماً بأن يجئ من يلأتم به جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً ثم يصير مأموماً ومن أصحابنا من قال: إن كان قد ركع في حال الانفراد لم يجز قولاً واحداً لأنه يغير ترتيب صلاته بالمتابعة والصحيح أنه لا فرق لأن الشافعي رحمه الله لم يفرق ويجوز أن يغير ترتيب صلاته بالمتابعة كالمسبوق بركعة وإن حضر وقد أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بنافلة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة1" فإن أدركه في القيام وخشي أن تفوته القراءة ترك دعاء الاستفتاح واشتغل بالقراءة لأنها فرض فلا يشتغل عنها بالنفل فإن قرأ بعض الفاتحة فركع الإمام ففيه وجهان: أحدهما يركع ويترك القراءة لأن متابعة الإمام آكد ولهذا لو أدركه راكعاً سقط عنه فرض القراءة والثاني يلزمه أن يتم القراءة لأنه لزمه بعض القراءة فلزمه إتمامها وإن أدركه وهو راكع كبر للإحرام وهو قائم ثم كبر للركوع ويركع فإن كبر تكبيرة واحدة نوى بها الإحرام وتكبيرة الركوع لم تجزئه عن الفرض لأنه أشرك في النية بين الفرض والنفل وهل تنعقد له صلاة نفل؟ فيه وجهان: أحدهما تنعقد كما لو أخرج خمسة دراهم ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع والثاني لا تنعقد لأنه أشرك في النية بين تكبيرة هي شرط وتكبيرة ليست بشرط وإن أدرك معه مقدار الركوع الجائز فقد أدرك الركعة إن لم يدرك ذلك لم يدرك الركعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع فليصل الظهر أربعاً" وإن كان الإمام قد ركع ونسي تسبيح الركوع فرجع إلى الركوع ليسبح فأدركه في هذا الركوع فقد قال أبو علي الطبري: يحتمل أن يكون مدركاً كما لو قام إلى الخامسة فأدركه المأموم فيها والمنصوص في الأم أنه لا يكون مدركاً لأن ذلك غير محتسب للإمام ويخالف الخامسة لأن هناك قد أتى بها المأموم وههنا لم يأت بما فاته مع الإمام وإن أدركه ساجدا كبر للإحرام ثم سجد من غير تكبير ومن أصحابنا من قال: يكبر كما يكبر للركوع والمذهب الأول لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود ويخالف إذا أدركه راكعا فإن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 38. مسلم في كتاب المسافرين حديث 63.الترمذي في كتاب الصلاة باب 195. الدارمي في كتاب الصلاة باب 149. أحمد في مسنده "2/331، 455".

هذا موضع ركوعه ألا ترى يجزئه عن فرضه فصار كالمنفرد وإن أدركه في آخر الصلاة كبر للإحرام وقعد وحصل له فضيلة الجماعة فإن أدرك معه الركعة الأخيرة كان ذلك أول صلاته لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما أدركت فهو أول صلاتك وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: يكبر فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلاته فإن كان ذلك في صلاة فيها قنوت فقنت مع الإمام أعاد القنوت في آخر صلاته لأن ما فعله مع الإمام فعله للمتابعة فإذا بلغ إلى موضعه أعاد كما لو تشهد مع الإمام ثم قام إلى ما بقي فإنه يعيد التشهد وإن حضر وقد فرغ الإمام من الصلاة فإن كان المسجد له إمام راتب كره أن يستأنف فيه جماعة لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد وإن كان المسجد في سوق أو ممر الناس لم يكره أن يستأنف الجماعة لأنه لا يحمل الأمر فيه على الكياد وإن حضر ولم يجد إلا من صلى استحب لبعض من حضر أن يصلي معه ليحصل له الجماعة والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يتصدق على هذا؟ فقام رجل فصلى معه. فصل: ومن صلى منفرداً ثم أدرك جماعة يصلون استحب له أن يصلي معهم وحكى أبو إسحاق عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان صبحاً أو عصراً لم يستحب لأنه منهي عن الصلاة في ذلك الوقت والمذهب الأول لما روى يزيد بن الأسود العامري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغداة في مسجد الخيف فرأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا فقال "لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة" فإن صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أخرى ففيه وجهان: احدهما يعيد للخبر والثاني لا يعيد لأنه قد حاز فضيلة الجماعة وإذا صلى وأعاد مع الجماعة فالفرض هو الأول في قوله الجديد للخبر ولأنه أسقط الفرض بالأولى فوجب أن تكون الثانية نفلاً وقال في القديم: يحتسب الله له بأيتهما شاء وليس بشيء. فصل: ويستحب للإمام أن يأمر من خلفه بتسوية الصفوف لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعتدلوا في صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء

ظهري1" قال أنس: فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه والمستحب أن يخفف في القراءة والأذكار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير وإذاصلى لنفسه فليطول ما شاء2" فإن صلى بقوم يعلم أنهم يؤثرون التطويل لم يكره التطويل لأن المنع لأجلهم وقد رضوا وإن أحس بداخل وهو راكع ففيه قولان: أحدهما يكره أن ينتظر لأن فيه تشريكاً بين الله عز وجل وبين الخلق في العبادة وقد قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] والثاني يستحب أن ينتظر وهو الأصح لأنه انتظار ليدرك به الغير ركعة فلم يكره كالانتظار في صلاة الخوف وتعليل الأول يبطل بإعادة الصلاة لمن فاتته الجماعة برفع الصوت بالتكبير ليسمع من وراءه فإن فيه تشريكاً ثم يستحب وإن أحس به وهو قائم لم ينتظره لأن الإدراك يحصل له بالركوع وهو يتشهد ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يستحب لما فيه من التشريك والثاني يستحب الإدراك يحصل له بالركوع فإن أدركه وهو يتشهد ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يستحب لما فيه من التشريك والثاني يستحب لأنه يدرك به الجماعة. فصل: وينبغي للمأموم أن يتبع الإيمام ولا يتقدمه في شيء من الأفعال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإن كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ولا تختلفوا عليه فإذا قال سمع الله لمن حمد فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ولا ترفعوا قبله3" فإن كبر قبله أوكبر معه للإحرام لم تنعقد صلاته لأنه علق صلاته بصلاته قبل أن تنعقد فلم تصح وإن سبقه بركن بأن ركع قبله أو سجد قبله لم يجز ذلك لقوله: "أما يخشى أحدكم أن يرفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار4" ويلزمه أن يعود إلى متابعته لأن ذلك

_ 1رواه البخاري في كتاب الأذان باب 76 النسائي في كتاب الإمامة باب 28. أحمد في مسنده "2/98". 2 رواه البخاري في كتاب العلم باب 38. مسلم في كتاب الصلاة حديث 183 – 186. الترمذي في كتاب الصلاة باتب 61. النسائي في كتاب الإمامة باب 35. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 13. أحمد في مسنده "2/ 256". "3/ 75، 255". 3 رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 18. مسلم في كتاب الصلاة حديث 77. الترمذي في الصلاة باب 150. الموطأ في كتاب النداء حديث 57. أحمد في مسنده "2/230" "3/110، 145". 4 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 75. الترمذي في كتاب الجمعة باب 56. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 41. أحمد في مسنده "2/260".

فرض فإن لم يفعل لحقه فيه لم تبطل لأن ذلك مفارقة قليلة وإن ركع قبل الإمام فلما أراد الإمام أن يركع رفع فلما أراد الإمام أن يرفع سجد فإن كان عالماً بتحريمه بطلت صلاته لأن ذلك مفارقة كثيرة وإن كان جاهلاً بذلك لم تبطل صلاته ولا يعتد له بهذه الركعة لأنه لم يتابع الإمام في معظمها وإن ركع قبله فلما ركع الإمام رفع ووقف حتى رفع الإمام واجتمع معه في القيام لم تبطل صلاته لأنه تقدم بركن واحد وذلك قدر يسير وإن سجد الإمام سجدتين وهو قائم ففيه وجهان: أحدهما تبطل صلاته لأنه تأخر عنه بسجدتين وجلسة بينهما وقال أبو إسحاق: لا تبطل لأنه تأخر بركن واحد وهو السجود وإن سها الإمام في صلاته فإن كان في قراءة فتح عليه المأموم لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضاً في الصلاة وإن كان في ذكر غيره جهر به المأموم ليسمعه الإمام فتقوله وإن سها في فعل سبح له ليعلمه لم يقع للإمام أنه سها لم يعمل بقول المأموم لأن من شك في فعل نفسه لم يرجع فيه إلى قوله غيره كالحاكم إذا نسي حكماً حكم به فشهد شاهدان عليه أنه حكم به وهو لا يذكر وأما المأموم فإنه ينظر فيه فإن كان سهو الإمام في ترك فرض مثل أن يقعد وفرضه أن يقوم أو يقوم وفرضه أن يقعد لم يتابعه لأنه إنما تلزمه متابعته في أفعال الصلاة وما يأتي به ليس من أفعال الصلاة وإن كان سهوه في ترك سنة لزمه متابعته لأن المتابعة فرض فلا يجوز أن يشتغل عنها بسنة فإن نسي الإمام التسليمة الثانية أو سجود السهو لم يتركه المأموم لأنه يأتي به وقد سقط عنه المتابعة فإن نسيا جميعاً التشهد الأول ونهضا للقيام وذكر الإمام قبل أن يستتم القيام والمأموم قد استتم القيام ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه قد حصل في فرض والثاني يرجع وهو الأصح لأن متابعة الإمام آكد ألا ترى أنه إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام لزمه العود إلى متابعته وإن كان قد حصل في فرض. فصل: وإن أحدث الإمام واستحلف ففيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لأن المستحلف كان لا يجهر ولا يقرأ السورة ولا يسجد للسهو فصار يجهر ويقرأ السورة ويسجد للسهو وذلك لا يجوز في صلاة واحدة وقال في الأم: يجوز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت: يا رسول الله إنه رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فمر عمر فليصل بالناس فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فمر علياً فليصل بالناس قال إنكن

لأنتن صويحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس" فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج فلما رآه أبو بر فذهب ليستأخر فأومأ إليه بيده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنبه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير فإن استخلف من لم يكن معه في الصلاة فإن كان في الركعة الأولى أو الثالثة جاز على قوله في الأم وإن كان في الركعة الثانية أو الرابعة لم يجز لأنه لا يوافق ترتيب الأول فيشوش وإن سلم الإمام وبقي على بعض المأمومين بعض الصلاة فقدموا من يتم بهم ففيه وجهان أحدهما يجوز كما يجوز في الصلاة والثاني لا يجوز لأن الجماعة الأولى قد تمت فلا حاجة إلى الاستخلاف. فصل: وإن نوى المأموم مفارقة الإمام وأتم لنفسه فإن كان لعذر لم تبطل صلاته لأن معاذاً رضي الله عنه أطال القراءة فانفرد عنه أعرابي فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه وإن كان لغير عذر ففيه قولان: أحدهما تبطل لأنهما صلاتان مختلفتان في الحكم فلا يجوز أن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى من غير عذر كالظهر والعصر والثاني يجوز وهو الأصح لأن الجماعة فضيلة فكان له تركها كما لو صلى بعض صلاة النفل قائماً ثم قعد.

باب صفة الأئمة

باب صفة الأئمة إذا بلغ الصبي حداً يعقل وهو من أهل الصلاة صحت إمامته لما روي عن عمر بن سلمة قال: أممت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام بن سبع سنين وفي الجمعة قولان: قال في الأم: لا يجوز إمامته لأن صلاته نافلة وقال في الإملاء: يجوز لأنه يجوز أن يكون إماماً في غير الجمعة كالبالغ ولا تصح إمامة الكافر لأنه ليس من أهل الصلاة فلا يجوز أن يعلق صلاته على صلاته فإن تقدم وصلى بقوم لم يكن ذلك

إسلاماً منه لأنها من فروع الإيمان فلا يصير بفعلها مسلماً كما لوصام رمضان أو زكى المال وأما من صلى خلفه فإنه إن علم بحالة لم تصح صلاته لأنه علق صلاته بصلاة باطلة وإن لم يعلم ثم علم نظرت فإن كان كافراً متظاهراً بكفره لزمته الإعادة لأنه مفرط في صلاته خلفه لأن على كفره أمارة من الغيار وإن كان مستتراً ففيه وجهان: أحدهما لا تصح صلاته لأنه ليس من أهل الصلاة فلا تصح الصلاة خلفه كما لو كان متظاهراً بكفره والثاني تصح لأنه غير مفرط في الائتمام به وتجوز الصلاة خلف الفاسق لقوله صلى الله عليه وسلم "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله" ولأن ابن عمر رضي الله عنه صلى خلف الحجاج مع فسقه ولا يجوز للرجل أن يصلي خلف المرأة لما روى جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تؤم امرأة رجلاً1" فإن صلى خلفها ولم يعلم ثم علم لزمه الإعادة لأن عليها أمارة تدل على أنها امرأة فلم يعذر في صلاته خلفها ولا تجوز صلاة الرجل خلف الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة ولا صلاة خلف الخنثى لجواز أن يكون المأموم رجلاً والإمام امرأة. فصل: ولا تجوز خلف المحدث لأنه ليس من أهل الصلاة فإن صلى خلفه غير الجمعة ولم يعلم ثم علم فإن كان ذلك في أثناء الصلاة نوى مفارقته وأتم وإن كان بعد الفراغ لم تلزمه الإعادة لأنه ليس على حدثه أمارة فعذر في صلاته خلفه فإن كان في الجمعة فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم: إن تم العدد به لم تصح الجمعة لأنه فقد شرط الجمعة وإن تم العدد دونه صحت لأن العدد وجد وحدثه لا يمنع صحة الجمعة كما لا يمنع في سائر الصلوات ويجوز للمتوضئ أن يصلي خلف المتيمم لأنه أتى عن طهارته ببدل فهو كغاسل الرجل إذا صلى خلف الماسح على الخف وفي صلاة الطاهرة خلف المستحاضة وجهان: أحدهما يجوز للمتوضئ خلف المتيمم والثاني لا يجوز لأنها لم تأت بطهارة على النجس ولأنها تقوم مقامها فهو كالمتوضئ خلف المحدث ويجوز للقائم أن يصلي خلف القاعد لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا والناس خلفه قيام

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 78.

ويجوز للراكع والساجد أن يصلي خلف المومي إلى الركوع والسجود لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام وفي صلاة القارئ خلف الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة وخلف الأرت والألثغ قولان: أحدهما يجوز لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام والثاني لا يجوز لأنه يحتاج أن يتحمل قراءته وهو يعجز عن ذلك فلا يجوز أن ينتصب للتحمل كالإمام الأعظم إذا عجز عن تحمل أعباء الأمة وتجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل والمفترض بالمفترض في صلاة أخرى لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذاً كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة ثم يأتي قومه في بني سلمة يصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء ولأن الاقتداء يقع بالأفعال الظاهرة وذلك يمكن مع اختلاف النية فأما إذا صلى صلاة الكسوف خلف من يصلي الصبح أو الصبح خلف من يصلي الكسوف لم يجز لأنه لا يمكن الإئتمام مع اختلاف الأفعال ولا يجوز أن يصلي الجمعة خلف من يصلي الظهر لأن الإمام شرط في الجمعة والإمام ليس معهم في الجمعة فيصير كالجمعة بغير إمام ومن أصحابنا من قال: تجوز كما يجوز أن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر وفي فعلها خلف المتنفل قولان: أحدهما يجوز لأنهما متفقان في الأفعال الظاهرة والثاني لا يجوز لأن من شرط الجمعة الإمام والإمام ليس معهم في الجمعة ويكره أن يصلي الرجل بقوم وأكثرهم له كارهون لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ثلاثة لا يرفع الله صلاتهم فوق رؤوسهم فذكر فيهم رجلا أمَّ قوماً وهم له كارهون1" فإن كان الذي يكرهه الأقل لم يكره أن يؤمهم لأن أحداً لا يخلو ممن يكرهه ويكره أن يصلي الرجل بامرأة أجنبية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان2" ويكره أن يصلي خلف التمتام والفأفاء لما يزيدان في الحروف فإن صلى خلفهما صحت صلاته لأنها زيادة هو مغلوب عليها. فصل: والسنة أن يؤم القوم أقرؤهم وأفقههم لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى وأكثرهم قراءة فإن كانت قراءتهم سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً3" وكان أكثر الصحابة قراءة أكثرهم فقهاً لأنهم كانوا يقرأون ويتعلمون أحكامها ولأن الصلاة تفتقر صحتها إلى القراءة والفقه فقدم أهلهما على غيرهما فإن زاد أحدهما في القراءة والفقه قدم على الآخر وإن زاد أحدهما في الفقه وزاد الآخر في القراءة فالأفقه أولى لأنه ربما حدثت في الصلاة حادثة تحتاج إلى الاجتهاد فإن استويا في الفقه ففيه قولان: قال في القديم يقدم الأشرف ثم الأقدم هجرة ثم الأسن وهو الأصح لأنه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود البدري ولا خلاف أن الشرف مقدم على الهجرة فإذا قدمت الهجرة على السن فلأن يقدم عليه الشرف أولى وقال في الجديد: يقدم الأسن ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلوا كما رأيتموني أصلي وليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم4" ولأن الأكبر أخشع في الصلاة فكان أولى والسن الذي يستحق به التقديم السن في الإسلام فأما إذا شاخ في الكفر ثم

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 149. أبو داود في كتاب الصلاة باب62.ابن ماجه في كتاب الإقامة 43. 2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 111، 112. مسلم في كتاب الحج حديث 424. الترمذي في كتاب الفتن باب 7. أحمد في مسنده "1/222". 3 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 54. الترمذي في كتاب الصلاة باب 60. النسائي في كتاب الإقامة باب 3، 5. أحمد في مسنده "3/48، 51". 4 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 17، 18. مسلم في كتاب المساجد حديث 192. الدارمي في كتاب الصلاة باب 42. أحمد في مسنده "3/436".

أسلم لم يقدم على شاب في الإسلام والشرف الذي يستحق به التقديم أن يكون من قريش والهجرة أن يكون ممن هاجر من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أولادهم فإن استويا في ذلك فقد قال بعض المتقدمين: يقدم أحسنهم فمن أصحابنا من قال أحسنهم صورة ومنهم من قال أراد أحسنهم ذكراً. فصل: فإن اجتمع هؤلاء مع صاحب البيت فصاحب البيت أولى منهم لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤم الرجل في أهله ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذن1" فإن حضر مالك الدار والمستأجر فالمستأجر أولى لأنه أحق بالتصرف في المنافع وإن حضر مالك العبد والعبد في دار جعلها السيد لسكنى العبد فالسيد أولى لأنه هو المالك في الحقيقة دون العبد وإن اجتمع غير السيد مع العبد في الدار فالعبد أولى لأنه أحق بالتصرف فإن اجتمع هؤلاء مع إمام المسجد فإمام المسجد أولى لما روي أن ابن عمر كان له مولى يصلي في مسجد فحضر فقدمه مولاه فقال له ابن عمر رضي الله عنه: أنت أحق بافمامة في مسجدك وإن اجتمع إمام المسلمين مع صاحب البيت أو مع إمام المسجد فالإمام أولى لأن ولايته عامة ولأنه راع وهم رعيته فكان تقديم الراعي أولى وإن اجتمع مسافر ومقيم فالمقيم أولى لأنه إذا تقدم المقيم أتموا كلهم فلا يختلفون وإذا تقدم المسافر اختلفوا في الصلاة وإن اجتمع حر وعبد فالحر أولى لأنه موضع كمال والحر أكمل وإن اجتمع عدل وفاسق فالعدل أولى لأنه أفضل وإن اجتمع ولد الزنا مع غيره فغيره أولى لأنه كرهه عمر بن عبد العزيز ومجاهد فكان غيره أولى منه وإن اجتمع بصير وأعمى فالمنصوص في الإمامة أنهما سواء لأن في الأعمى فضيلة وهو أن لا يرى ما يلهيه وفي البصير فضيلة وهو أن يتجنب النجاسة قال أبو إسحاق المروزي الأعمى أولى وعندي أن البصير أولى لأنه يتجنب النجاسة التي تفسد الصلاة والأعمى يترك النظر إلى ما يلهيه وذلك لا يفسد الصلاة.

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 290، 291. الترمذي في كتاب الصلاة باب 60. النسائي في كتاب الإمامة باب 3، 6.

باب موقف الإمام والمأموم

باب موقف الإمام والمأموم السنة أن يقف الرجل الواحد عن يمين الإمام لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه فإن وقف على يساره رجع إلى يمينه فإن لم يحسن علمه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس رضي الله عنه فإن جاء آخر أحرم عن يساره ثم يتقدم الإمام أو يتأخر الملموم لما روى جابر رضي الله عنه قال: قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وأدارني حتى أقامني عن يمينه وجاء جابر بن صخر حتى قام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا بيديه جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه لأنه قبل أن يحرم الثاني لم يتغير موقف الأول فلا يزال عن موضعه فإن حضر رجلان اصطفا خلفه لحديث جابر وإن حضر رجل وصبي اصطفا خلفه لما روى أنس رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين فإن حضر رجال وصبيان تقدم الرجال لقوله صلى الله عليه وسلم "ليليني منكم أولو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم1" وإن كانت معهم امرأة وقفت خلفهم لحديث أنس رضي الله عنه فإن كان معهم خنثى وقف خلف الرجل والمرأة خلف الخنثى لأنه يجوز أن يكون امرأة فلا تقف مع الرجال والسنة أن لا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم لما روي أن حذيفة رضي الله عنه صلى على دكن والناس أسفل منه فجذبه سلمان رضي الله عنه حتى أنزله فلما انصرف قال له "أما علمت أن أصحابك يكرهون أن يصلي الإمام على شيء وهم أسفل منه؟ قال حذيفة: بلى قد ذكرت حين جذبتني وكذلك لا يكون موضع المأموم أعلى من موضع الإمام لأنه إذا كره أن يعلو الإمام فلأن يكره أن يعلو المأموم أولى فإن أراد الإمام تعليم

_ 1 رواه مسلم في كتاب الصلاة حدث 122، 123. أبو داود في كتاب الصلاة باب 95. النسائي في كتاب الصلاة باب 54. الدارمي في كتاب الصلاة باب 51. أحمد في مسنده "1/457".

المأمومين أفعال الصلاة فالسنة أن يقف الإمام على موضع عال لما روى سهل بن سعد الساعدي قال صلى الله عليه وسلم على المنبر والناس وراءه فجعل يصلي عليه ويركع ثم يرفع ثم يرجع القهقرى ويسجد على الأرض ثم يرفع فيرقى عليه فقال "أيها الناس إنما صنعت هكذا كيما تروني فأتموا بي" ولأن الارتفاع في هذه الحالة أبلغ في الإعلام فكان أولى. فصل: والسنة أن تقف إمامة النساء وسطهن لما روي أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أمتا نساء فقامتا وسطهن وكذلك إذا اجتمع الرجال وهم عراة فالسنة أن يقف الإمام وسطهم لأنه أستر. فصل: فإن خافوا فيما ذكرناه فوقف الرجل عن يسار الإمام أو خلفه وحده أو وقفت المرأة مع الرجل أو أمامه لم تبطل الصلاة لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه وقف على يسار النبي صلى الله عليه وسلم فلم تبطل صلاته وأحرم أبو بكرة خلف الصف وركع ثم مشى إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "زادك الله حرصاً ولا تعد" ولأن هذه المواضع كلها مواقف لبعض المأمومين فلا تبطل الصلاة بالانتقال إليها وإن تقدم المأموم على الإمام ففيه قولان: قال في القديم: لا تبطل الصلاة كما لو وقف خلف الإمام وحده وقال في الجديد: تبطل لأنه وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال فأشبه إذا وقف في موضع نجس. فصل: والمستحب أن يتقدم الناس في الصف الأول لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو تعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة1" وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول2" والمستحب أن يعتمد يمين الإمام لما روى البراء قال: كان يعجبنا عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يبدأ بمن عن يمينه ويسلم عليه فإن وجد في الصف الأول فرجة فالمستحب أن يسدها لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتموا الصف الأول فإن كان نقص

_ 1رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 51. 2 رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب 49. أبو داود في كتاب الصلاة باب 93 ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 50، 51. أحمد في مسنده "4/269، 284".

ففي المؤخرة1" فإن تباعدت الصفوف أو تباعد الصف الأول عن الإمام نظرت فإن كان لا حائل بينهما وكانت الصلاة في المسجد وهو عالم بصلاة الإمام صحت الصلاة لأن كل موضع من المسجد موضع الجماعة وإن كان في غير المسجد فإن كان بينه وبين الإمام أو بينه وبين آخر صف مع الإمام مسافة بعيدة لم تصح صلاته فإن كانت مسافة قريبة صحت صلاته وقدر الشافعي رحمه الله القريب بثلثمائة ذراع والبعيد ما زاد على ذلك لأن ذلك قريب في العادة وما زاد بعيد وهل هو تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان: أحدهما أنه تحديد فلو زاد على ذلك ذراع لم يجزه والثاني أنه تقريب فإن زاد ثلاثة أذرع جاز وإن كان بينهما حائل نظرت فإن كانت الصلاة في المسجد بأن كان أحدهما في المسجد والآخر على سطحه أو في بيت لم يضر وإن كان في غير المسجد نظرت فإن كان الحائل يمنع الاستطراق والمشاهدة لم تصح صلاته لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن نسوة كن يصلين في حجرتها بصلاة الإمام فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة كالشباك ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن بينهما حائلاً يمنع الاستطراق فأشبه الحائط والثاني يجوز لأنه يشاهدهم فهو كما لو كان معهم وإن كان بين الإمام والمأموم نهر ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري: لا يجوز لأن الماء يمنع الاستطراق فهو كالحائط والمذهب أنه يجوز لأن الماء لم يخلق للحائل وإنما خلق للمنفعة فلا يمنع الإئتمام كالنار.

_ 1رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 93. النسائي في كتاب الإمامة باب 30. أحمد في مسنده "3/ 132، 215".

باب صلاة المريض

باب صلاة المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعداً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب2" وكيف يقعد؟ فيه قولان: أحدهما يقعد متربعاً لأنه بدل عن القيام والقيام يخالف قعود الصلاة فيجب أن يكون بدله

_ 2 رواه البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب 19. الترمذي في كتاب الصلاة باب 157. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 139. أحمد في مسنده "4/426".

مخالفاً له والثاني يقعد مفترشاً لأن التربع قعود العادة والافتراش جلوس قعود العبادة فكان الافتراش أولى فإن لم يمكنه ان يركع أو يسجد أومأ إليهما وقرب وجهه إلى الأرض على قدر طاقته فإن سجد على مخدة أجزأه لأن أم سلمة رضي الله عنها سجدت على مخدة لرمد بها قال في الأم: عن قدر أن يصلي منفرداً قائماً ويخفف القراءة وإذا صلى مع الجماعة صلى بعضها من قعود فالأفضل أن يصلي منفرداً لأن القيام فرض والجماعة نفل فكان الانفراد أولى وإن صلى مع الإمام وقعد في بعضها صحت صلاته فإن كان في ظهره علة لا تمنع من القيام وتمنعه من الركوع والسجود لزمه القيام ويركع ويسجد على قدر طاقته فإن لم يمكنه أن يحني ظهره حتى رقبته فإن أراد أن يتكئ على عصا كان له ذلك وإن تقوس ظهره حتى صار كأنه راكع رفع رأسه في موضع القيام على قدر طاقته ويحني ظهره في الركوع على قدر طاقته وإن كان بعينه وجع وهو قادر على القيام فقيل له إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز له ترك القيام لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه لما وقع في عينيه الماء حمل إليه عبد الملك أطباء على البرد فقيل له إنك تمكث سبعة أيام لا تصلي إلا مستلقياً فسأل عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فنهتاه والثاني يجزيه لأنه يخاف الضرر من القيام فأشبه المريض. فصل: وإن عجز عن القيام والقعود صلى على جنبه ويستقبل القبلة بوجهه ومن أصحابنا من قال يستلقي على ظهره ويستقبل القبلة برجليه والمنصوص في البويطي هو الأول والدليل عليه ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يصلي المريض قائماً فإن لم يستطع صلى جالساً فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة فإن لم يستطع صلى مستلقياً على قفاه ورجلاه إلى القبلة وأومأ بطرفه1" ولأنه إذا اضطجع على جنبه استقبل القبلة بجميع بدنه وإذا استلقى لم يستقبل القبلة إلا برجليه ويومئ إلى الركوع والسجود فإن عجز عن ذلك أومأ بطرفه لحديث علي رضي الله عنه.

_ 1 المصدر السابق.

فصل: وإن افتتح الصلاة قائماً ثم عجز قعد وأتم صلاته وإن افتتحها قاعداً ثم قدر على القيام وأتم صلاته لأنه يجوز أن يؤدي جميع صلاته قاعداً عند العجز وجميعها قائماً عند القدرة فجاز أن يؤدي بعضها قاعداً عند العجز وبعضها قائماً عند القدرة وإن افتتح الصلاة قاعداً ثم عجز اضطجع وإن افتتحها مضطجعاً ثم قدر على القيام أو القعود قام أو قعد والتعليل ما ذكرناه.

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر يجوز القصر في السفر لقوله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] قال ثعلبة بن أمية: قلت لعمر رضي الله عنه قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101] وقد أمن النساء قال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" ولا يجوز القصر إلا في الظهر والعصر والعشاء لإجماع الأمة ويجوز ذلك في سفر الماء كما يجوز للراكب في البر. فصل: ولا يجوز ذلك إلا في مسيرة يومين وهو أربعة برد كل بريد أربعة فرسخ فذلك ستة عشر فرسخاً لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك وسأل عطاء بن عباس أأقصر إلى عرفات؟ فقال: لا فقال: إلى منى؟ فقال: لا لكن إلى جدة وعسفان والطائف قال مالك رحمه الله:

بين الطائف ومكة وجدة وعسفان أربعة برد ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال وفيما دونه لا تتكرر قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يبيح القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام فإن كان للبلد الذي يقصده طريقان يقصر في أحدهما وفي الآخر لا يقصر فسلك الأبعد لغرض يقصد في العادة قصر وإن سلكه ليقصر ففيه قولان: قال في الإملاء: له أن يقصر لأنها مسافة يقصر في مثلها الصلاة فجاز له القصر فيها كما لو لم يكن له طريق سواه وقال في الأم: ليس له أن يقصر لأنه طول الطريق للقصر فلا يقصر كما لو مشى في مسافة قريبة طولاً وعرضاً حتى طال وإن سافر إلى بلد يقصر إليه الصلاة ونوى أنه إن لقي عبده أو صديقه في بعض الطريق رجع لم يقصر لأنه لم يقطع على سفر تقصر فيه الصلاة وإن نوى السفر إلى بلد ثم منه إلى بلد آخر فهما سفران فلا يقصر حتى يكون كل واحد منهما مما تقصر فيه الصلاة. فصل: إذا كان السفر مسيرة ثلاثة أيام فالقصر أفضل من الإتمام لما روى عمران بن الحصين قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين وسافرت مع أبي بكر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عمر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عثمان رضي الله عنه فصلى ركعتين ست سنين ثم أتم بمنى فكان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل فإن ترك القصر وأتم جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطرت وصمت وقصرت وأتممت؟ فقال "أحسنت يا عائشة" ولأنه تخفيف أبيح السفر فجاز تركه كالمسح على الخفين ثلاثاً. فصل: ولا يجوز القصر إلا في سفر ليس بمعصية فأما إذا سافر لمعصية كالسفر لقطع الطريق وقتال المسلمين فلا يجوز القصر ولا الترخيص بشيء من رخص المسافر لأن الرخص لا يجوز أن تتعلق بالمعاصي ولأن في جواز الرخص في سفر المعصية إعانة على المعصية وهذا لا يجوز. فصل: ولا يجوز القصر إلا أن يفارق الإقامة لقوله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ

فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] فعلق القصر على الضرب في الأرض وإن كان من أهل بلد لم يقصر حتى يفارق بنيان البلد فإن اتصل بحيطان البساتين حيطان البلد وفارق بنيان البلد جاز له القصر لأن البساتين ليست من البلد وإن كان في قرية وبقربها قرية ففارق قريته جاز له القصر وقال أبو العباس إن كانت القريتان متقاربتين فهما كالقرية الواحدة فلا يقصر حتى يفارقهما والمذهب الأول لأن إحدى القريتين منفردة عن الأخرى فإن كان من أهل الخيام فإن كانت خياماً مجتمعة لم يقصر حتى يفارق جميعها وإن كانت خياماً متفرقة قصر إذا فارق ما يقرب من خيمته قال في البويطي: فإن خرجوا من البلد فأقاموا في موضع حتى يجتمعوا ويخرجوا لم يجز لهم القصر لأنهم لم يقطعوا الطريق بالسفر وإن قالوا ننتظر يومين أو ثلاثة فإن لم يجتمعوا سرنا جاز لهم القصر لأنهم قطعوا بالسفر. فصل: ولا يجوز القصر حتى تكون جميع الصلاة في السفر فأما إذا أحرم بالصلاة في سفينة في البلد ثم سارت السفينة وحصلت في السفر لم يجز له القصر وكذلك إن أحرم بها في سفينة في السفر ثم اتصلت السفينة بموضع الإقامة أو نوى الإقامة لزمه الاتمام لأنه اجتمع في صلاته ما يقتضي القصر والإتمام فغلب الإتمام. فصل: ولا يجوز القصر حتى ينوي القصر عند الإحرام لأن الأصل التمام فإذا لم ينو القصر انعقد احرامه على التمام فلم يجز له القصر كالمقيم. فصل: ولا يجوز القصر لمن ائتم بمقيم فإن ائتم به في جزء من صلاته لزمه التمام لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والتمام فغلب التمام كما لو أحرم بها في السفر ثم أقام وإن أراد أن يقصر الظهر خلف من يصلي الجمعة لم يجز لأنه مؤتم بمقيم ولأن الجمعة صلاة تامة فهو كما لو ائتم بمن يصلي الظهر تامة فإن لم ينو القصر أو نوى الإتمام او ائتم بمقيم ثم أفسد صلاته لزمه الإتمام لأنه فرض لزمه فلا يسقط عنه بالإفساد كحج التطوع وإن شك هل أحرم بالصلاة في السفر أو في الحضر أو نوى القصر أم لا وهل إمامه مسافر أو مقيم لزمه الإتمام كحج التطوع وإن شك هل أحرم بالصلاة في السفر أو في الحضر أو نوى القصر أم لا أو هل إمامه مسافر أو مقيم لزمه الإتمام لأن الأصل هو التمام والقصر أجيز بشروط فإذا لم تتحقق الشروط رجع إلى الأصل فإن ائتم بمسافر أو بمقيم الظاهر منه أنه مسافر جاز أن ينوي القصر خلفه لأن الظاهر أن الإمام مسافر فإن

أتم الإمام تبعه في الإتمام لأنه بان أنه ائتم بمقيم أو بمن نوى الإتمام وإن أفسد الإمام صلاته وانصرف ولم يعلم المأموم أنه نوى القصر أو الاتمام لزمه أن يتم المنصوص وهو قول أبي إسحاق لأنه شك في عدد الصلاة ومن شك في عدد الصلاة لزمه البناء على اليقين لا على غلبة الظن والدليل عليه أنه إذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً بنى على اليقين وهو الثلاث وإن غلب على ظنه أنه صلى أربعاً وحكي عن ابن عباس أنه قال: له أن يقصر لأنه ائتم بمن الظاهر منه أن يقصر. فصل: قال الشافعي رحمه الله: وإن صلى مسافر بمقيمين فرعف واستخلف مقيماً أتم الراعف فمن أصحابنا من قال هذا على القول القديم أن صلاة الراعف لا تبطل فيكون في حكم المؤتم بمقيم ومن أصحابنا من قال تلزمه على القول الجديد أيضاً لأن المستخلف فرع للراعف فلا يجوز ولا يلزم الأصل وليس بشيء. فصل: وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج صار مقيماً وانقطعت عنه رخص السفر لأن بالثلاثة لا يصير مقيماً لأن المهاجرين حرم عليهم الإقامة بمكة ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام فقال: يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود من الحجاز ثم أذن لمن قدم منهم تاجراً أن يقيم ثلاثاً وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب به لأنه مسافر فيه فإقامته في بعضه لا تمنعه من كونه مسافراً لأنه ما من مسافر إلا ويقيم بعض اليوم ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم فإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان: أحدهما يقصر لما روى أنس رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة والثاني لا يقصر لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلا يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا تنجزت رحل ولم ينو مدة ففيه قولان: أحدهما يقتصر سبعة عشر يوماً لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة وقد روى ابن عباس رضي الله عنه قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة وبقي فيما زاد على حكم الأصل والثاني يقصر أبداً لأنها إقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر يوماً وخرج أبو إسحاق قولاً ثالثاً إنه يقصر إلى أربعة أيام لأن الإقامة أبلغ من نية الإقامة لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ والنية يلحقها الفسخ ثم ثبت أنه لو نوى إقامة أربعة أيام لم يقصر فلأن لا يقصر إذا أقام أولى.

فصل: إذا فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر ففيه قولان: قال في القديم: له أن يقصر لأنها صلاة سفر فكان قضاؤها كأدائها في العدد كما لو فاتته في الحضر فقضاها في السفر وقال في الجديد: لا يجوز له القصر وهو الأصح لأنه تخفيف تعلق في عذر فزال بزوال العذر كالقعود في صلاة المريض وإن فاتته في السفر فقضاها في السفر ففيه قولان: أحدهما لا يقصر لأنه صلاة ردت من أربع إلى ركعتين فكان من شرطها الوقت كصلاة الجمعة والثاني له أن يقصر وهو الأصح لأنه تخفيف يعلق بعذر والعذر باق فكان التخفيف باقياً كالقعود في صلاة المريض وإن فاتته في الحضر صلاة فأراد قضاءها في السفر لم يجز له القصر لأنه ثبت في ذمته صلاة تامة فلم يجز له القصر كما لو نذر أن يصلي أربع ركعات وقال المزني: له أن يقصر كما لو فاته قصر يوم في الحضر فذكره في السفر فإن له أن يفطر وهذا لا يصح لأن الصوم تركه في حال الأداء وقد كان له تركه وههنا في حال الأداء لم يكن له أن يقصر فوازنه من الصوم أن يتركه من غير عذر فلا يجوز له تركه في السفر فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة وتمكن من فعلها ثم سافر فإن له أن يقصر وقال المزني: لا يجوز له أن يقصر ووافقه عليه أبو العباس لأن السفر يؤثر في الصلاة كما يؤثر في الحيض ثم لو طرأ الحيض بعد الوجوب والقدرة على فعلها لم يؤثر ذلك كذلك السفر والمذهب الأول لأن الاعتبار في صفة الصلاة بحال الأداء لا يحال الوجوب والدليل عليه أنه لو دخل عليه وقت الظهر وهو عبد فلم يصل حتى عتق صار فرضه الجمعة وهذا في حال الأداء مسافر فوجب أن يقصر ويفارق الحيض لأنه يؤثر في إسقاط الفرض فلو أثر ما طرأ منه بعد القدرة على الأداء أفضى إسقاط الفرض بعد الوجوب والقدرة والسفر يؤثر في العدد فلا يفضي إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب ولأن الحائض تفعل القضاء والقضاء يتعلق بالوجوب والقدرة عليه والمسافر يفعل الأداء وكيفية الأداء تعتبر بحال الأداء والأداء في حال السفر وإن سافر بعد ما ضاق الوقت كان له أن يقصر وقال أبو الطيب بن سلمة: لا يقصر لأنه تعينت عليه صلاة حضر فلا يجوز له القصر والمذهب الأول لما زكرناه مع المزني ووأبي عباس وقوله تعينت عليه صلاة حضر يبطل بالعبد إذا عتق في وقت الظهر وإن سافر وقد بقي من الوقت أقل من قدر الصلاة فإن قلنا إنه مؤد لجميع الصلاة جاز القصر وإن قلنا إنه مؤد لما فعل في الوقت قاض لما فعل بعد الوقت لم يجز له القصر.

فصل: يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في السفر الذي تقصر فيه الصلاة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر في السفر وفي السفر الذي لا تقصر فيه صلاة قولان: أحدهما يجوز لأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة فجاز فيه الجمع كالسفر الطويل والثاني لا يجوز وهو الأصح لأنه إخراج عبادة عن وقتها فلم يجز في السفر القصير كالفطر في الصوم. فصل: ويجوز الجمع بينهما في وقت الأولى منهما وفي وقت الثانية غير أنه إن كان نازلاً في وقت الأولى فالأفضل أن يقدم الثانية وإن كان سائراً فالأفضل أن يؤخر الأولى إلى وقت الثانية لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس في المنزل قدم العصر إلى وقت الظهر وجمع بينهما في الزوال وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر إلى وقت العصر ثم جمع بينهما في وقت العصر ولأن هذا أرفق بالمسافر فكان أفضل وإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط: أحدهما أن ينوي الجمع وقال المزني يجوز الجمع من غير نية الجمع وهذا خطأ لأنه جمع فلا يجوز من غير نية كالجمع في وقت الثانية ولأن العصر قد يفعل في وقت الظهر على وجه الخطأ فلا بد من نية الجمع ليتميز التقديم المشروع من غيره وفي وقت النية قولان: أحدهما يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى لأنها نية واجبة للصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر والثاني يجوز أن ينوي قبل الفراغ من الأولى وهو الأصح لأن النية تقدمت على حال الجمع فأشبه إذا نوى عند الإحرام والشرط الثاني الترتيب وهو أن يقدم الأولى ثم يصلي الثانية لأن الوقت للأولى وإنما يفعل الثانية تبعاً للأولى فلا بد من تقديم المتبوع والشرط الثالث التتابع وهو أن لا يفرق بينهما والدليل عليه أنهما كالصلاة الواحدة فلا يجوز أن يفرط بينهما كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة فإن فصل بينهما بفصل طويل بطل الجمع وإن فصل بينهما بفصل يسير لم يضر وإن أخر الأولى إلى الثانية لم يصح إلا بالنية لأنه قد يؤخر للجمع وقد يؤخر لغيره فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره ويجب أن ينوي في وقت الأولى وأما الترتيب فليس بواجب لأن وقت الثانية وقت الأولى فجاز البداية بما شاء منهما وأما التتابع فلا يجب لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة فجاز التفريق بينهما.

فصل: ويجوز الجمع بين الصلاتين في المطر في وقت الأولى منهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعاً من غير خوف ولا سفر قال مالك رحمه الله: أرى ذلك في وقت المطر وهل يجوز أن يجمع بينهما في وقت الثانية؟ فيه قولان: قال في الإملاء: يجوز لأنه عذر يجوز الجمع به في وقت الأولى فجاز الجمع في وقت الثانية كالسفر وقال في الأم: لا يجوز لأنه إذا أخر ربما انقطع المطر فجمع من غير عذر. فصل: فإذا دخل في الظهر من غير مطر ثم جاء المطر لم يجز له الجمع لأن سبب الرخصة حدث بعد الدخول فلم يتعلق به كما لو دخل في صلاة ثم سافر فإن أحرم بالأولى مع المطر ثم انقطع في أثنائها ثم عاد قبل أن يسلم وأدام حتى أحرم بالثانية جاز الجمع لأن العذر موجود في حال الجمع وإن عدم فيما سواها من الأحوال لم يضر لأنه ليس بحال الدخول ولا بحال الجمع. فصل: ولا يجوز الجمع إلا في مطر يبل الثياب وأما المطر الذي لا يبل الثياب فلا يجوز الجمع لأجله لأنه لا يتأذى به وأما الثلج فإن كان يبل الثياب فهو كالمطر وإن لم يبل الثياب لم يجز الجمع لأجله فأما الوحل والريح والمرض فلا يجوز الجمع لأجلها فإنها قد كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه جمع لأجلها وإن كان يصلي في بيته أو في مسجد ليس في طريقه إليه مطر ففيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لأنه مشقة عليه في فعل الصلاة في وقتها وقال في الإملاء: يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في المسجد وبيوت أزواجه إلى المسجد وبجنب المسجد.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف تجوز صلاة الخوف في قتال الكفار لقوله عز وجل {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] وكذلك يجوز في كل قتال مباح كقتال أهل البغي وقتال قطاع الطريق لأنه قتال جائز فهو كقتال الكفار وأما في القتال المحظور كقتال أهل العدل وقتال

أصحاب الأموال لأخذ أموالهم فلا يجوز فيه صلاة الخوف لأن ذلك رحمة وتخفيف فلا يجوز أن يتعلق بالمعاصي وفيه إعانة على المعصية وهذا لا يجوز. فصل: وإذا أراد الصلاة لم يخل إما أن يكون العدو في جهة القبلة أو في غيرها فإن كان في غير جهة القبلة ولم يأمنوا وفي المسلمين كثرة جعل الإمام الناس طائفتين طائفة في وجه العدو وطائفة تصلي معه ويجوز أن يصلي بالطائفة التي معه جميع الصلاة ثم تخرج إلى وجه العدو ثم تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم فيكون متنفلاً بالثانية وهم مفترضون والدليل عليه ما روى أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بالذين خلفه ركعتين وبالذين جاؤوا ركعتين فكانت للنبي أربعاً ولهؤلاء ركعتين ويجوز أن يصلي بإحدى الطائفتين بعض الصلاة وبالأخرى البعض وهو أفضل من أن يصلي بكل واحدة منهم جميع الصلاة لأنه أخف فإن كانت الصلاة ركعتين صلى بالطائفة التي معه ركعة ويثبت قائماً وأتمت الطائفة لأنفسهم وتنصرف إلى وجه العدو وتجيء الطائفة الأخرى ويصلي معهم الركعة التي بقيت من صلاته وثبت جالساً وأتمت الطائفة الأخرى ثم يسلم بهم والدليل عليه ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف فذكر مثل ما قلنا. فصل: وتفارق الطائفة الأولى الإمام حكماً وفعلاً فإن لحقها سهو بعد المفارقة لم يتحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لم يلزمهم سهوه وهل يقرأ الإمام في انتظاره؟ قال في موضع: إذا جاءت الطائفة الثانية قرأ وقال في موضع: يطيل القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما لا يقرأ حتى تجيء الطائفة الثانية فيقرأ معها لأنه قرأ مع الطائفة الأولى قراءة تامة فيجب أن يقرأ مع الثانية أيضاً قراءة تامة والقول الثاني أنه يقرأ وهو الأصح لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر والقيام لا يصلح لذكر غير القراءة فوجب أن يقرأ ومن أصحابنا من قال: إذا أراد أن يقرأ سورة قصيرة لم يقرأ حتى لا يفوت القراءة على الطائفة الثانية وإن أراد أن يقرأ سورة طويلة قرأ لأنه لا يفوت عليهم القراءة وحمل القولين على هذين الحالين وأما الطائفة الثانية فإنهم يفارقون الإمام فعلاً ولا يفارقونه حكماً فإن سهوا تحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لزمهم سهوه ومتى يفارقونه؟ قال الشافعي رحمه الله: في سجود السهو يفارقونه بعد

التشهد لأن المسبوق لا يفارق الإمام إلا بعد التشهد وقال في الأم: يفارقونه عقيب السجود في الثانية وهو الأصح لأن ذلك أخف ويفارقون المسبوق لأن المسبوق لا يفارق حتى يسلم الإمام وهذا يفارق قبل التسليم فإذا قلنا بهذا فهل يتشهد الإمام في حال الانتظار؟ فيه طريقان: من جهة أصحابنا من قال فيه قولان كالقراءة ومنم من قال يتشهد قولاً واحداً ويخالف القراءة فإن في القراءة قد قرأ مع الطائفة الأولى فلم يقرأ حتى تدركه الطائفة الثانية فيقرأ معها والتشهد لم يفعله مع الطائفة الأولى فلا ينتظر. فصل: وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بإحدى الطائفتين ركعة وبالأخرى ركعتين وفي الأفضل قولان: قال في الإملاء: الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين لما روي أن علياً رضي الله عنه صلى ليلة الهرير هكذا وقال في الأم: الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة وهو الأصح لأن ذلك أخف لأنه تتشهد كل طائفة تشهدين وعلى القول الآخر تتشهد الطائفة الثانية ثلاث تشهدات فإن قلنا بقوله في الإملاء فارقته الطائفة الأولى في القيام في الركعة الثانية لأن ذلك موضع قيامها وإذا قلنا بقوله في الأم فارقته بعد التشهد لأنه موضع تشهدها وكيف ينتظر الإمام الطائفة الثانية؟ فيه قولان: قال في المختصر: ينتظرهم جالساً حتى يدركوا معه القيام من أول الركعة لأنه إذا انتظرهم قائماً فاتهم معه بعض القيام وقال في الأم: إن انتظرهم قائماً فحسن وإن انتظرهم جالساً فجائز فجعل الانتظار قائماً أفضل وهو الأصح لأن القيام أفضل من القعود ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم1". فصل: وإن كانت الصلاة ظهراً أو عصراً أو عشاء وكان في الحضر صلى بكل طائفة ركعتين وإن جعلهم أربع فرق وصلى بكل طائفة ركعة ففي صلاة الإمام قولان: أحدهما أنها تبطل لأن الرخصة وردت بانتظارين فلا تجوز الزيادة عليهما والثاني أنها لا تبطل

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 157. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 141. النسائي في كتاب الليل باب 20. الموطأ في كتاب الجماعة حديث 20. أحمد في مسنده "2/162، 193".

وهو الأصح لأنه قد يحتاج إلى أربع انتظارات بأن يكون المسلمون أربعمائة والعدو ستمائة فيحتاج أن يقف بإزاء العدو ثلثمائة ويصلي بمائة ولأن الانتظار الثالث والرابع بالقيام والقراءة والجلوس والذكر وذلك لا يبطل الصلاة فإن قلنا إن صلاة الإمام لا تبطل صحت صلاة الطائفة الأخيرة لأنهم لم يفارقوا الإمام والطائفة الأولى والثانية والثالثة فارقوه بغير عذر ومن فارق الإمام بغير عذر ففي بطلان صلاته قولان فإن قلنا إن صلاة الإمام تبطل ففي وقت بطلانها وجهان: قال أبو العباس: تبطل بالانتظار الثالث فتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة وأما الرابعة فإن علموا ببطلان صلاته بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل وقال أبو إسحاق: المنصوص أنه تبطل صلاة الإمام بالانتظار الثاني لأن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر الطائفة الأولى حتى فرغت ورجعت إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الخرى وانتظر بقدر ما أتمت صلاتها وهذا قد زاد على ذلك لأنه انتظر الطائفة الأولى حتى أتمت صلاتها ومضت إلى وجه العدو وانتظر الثانية حتى أتمت صلاتها ومضت إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الثالثة وهذا زائد على انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا إن علمت الطائفة الثالثة بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل. فصل: وإن كان العدو من ناحية القبلة لا يسترهم عنهم شيء - وفي المسلمين كثرة - صلى بهم صلاة رسول الله بعسفان فيحرم بالطائفتين ويسجد معه الصف الذي يليه فإذا رفعوا سجد الصف الآخر فإذا سجد في الثانية حرس الصف الذي سجد في الأولى وسجد الصف الآخر فإذا رفعوا سجد الصف الآخر لما روى جابر وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا. فصل: ولا يحمل في الصلاة سلاحاً نجساً ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس وهل يجب حمل ما سواه؟ قال في الأم: يستحب وقال بعده يجب قال أبو إسحاق المروزي فيه قولان: أحدهما يجب لقوله عز وجل {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء:102] فدل على أن عليهم جناحاً إذا وضعوا من غير أذى ولا مرض والثاني لا يجب لأن السلاح إنما يجب حمله للقتال

وهو غير مقاتل في حال الصلاة فلم يجب حمله ومن أصحابنا من قال: إن كان السلاح يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين وجب حمله وإن كان يدفع به عن نفسه وعن غيره كالرمح والسنان لم يجب وحمل القولين على هذين الحالين والصحيح ما قال أبو إسحاق. فصل: وإن اشتد الخوف ولم يتمكن من تفريق الجيش صلوا رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لقوله عز وجل {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] قال ابن عمر: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكباً وقائماً يومئ إيماء قال الشافعي رحمه الله: ولا بأس أن يضرب الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع أو عمل ما يطول بطلت صلاته وحكى الشيخ أبو حامد الإسفرايني عن أبي العباس رحمهما الله أنه قال: إن لم يكن مضطراً إليه بطلت صلاته وإن كان مضطراً إليه لم تبطل كالمشي وحكى عن بعض أصحابنا أنه قال: إن اضطر إليه فعل ولكن تلزمه الإعادة كما نقول فيمن لم يجد ماء ولا تراباً أنه يصلى ويعيد فإن استفتح الصلاة راكباً ثم أمن فنزل فإن استدبر القبلة في النزول بطلت صلاته لأنه ترك القبلة من غير خوف وإن لم يستدبر قال الشافعي رحمه الله: بنى على صلاته لأنه عمل قليل فلم يمنع البناء وإن استفتحها راجلاً فخاف فركب قال الشافعي: ابتدأ الصلاة وقال أبو العباس: إن لم يكن مضطراً إليه ابتدأ لأنه عمل كثير لا ضرورة به إليه وإن كان مضطراً لم تبطل لأنه مضطر إليه فلم تبطل كالمشي وقول أبي العباس أقيس والأولى أشبه بظاهر النص. فصل: إذا رأوا سواداً فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه لم يكن عدواً ففيه قولان: أحدهما تجب الإعادة لأنه فرض فلم يسقط بالخطأ كما لو ظن أنه أتى بفرض ثم علم أنه لم يأت به والثاني لا إعادة عليه وهو الأصح لأن العلة في جواز الصلاة شدة الخوف والعلة موجودة في حال الصلاة فوجب أن يجزئه كما لو رأى عدواً فظن أنهم على قصده فصلى بالإيماء ثم علم أنهم لم يكونوا على قصده فأما إذا رأى العدو فخافهم فصلى صلاة شدة الخوف ثم بان أنه كان بينهم حاجز من خندق أو ماء

ففيه طريقان ومن أصحابنا من قال على قولين كالتي قبلها ومنهم من قال تجب الإعادة ههنا قولاً واحداً لأنه فرط في ترك تأمل المانع فلزمه الإعادة فأما إذا غشيه سيل أو طلبه سبع جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف فإذا أمن لم تلزمه الإعادة قال المزني: قياس قول الشافعي رحمه الله أن الإعادة عليه لأنه عذر نادر والمذهب الأول لأن جنس الخوف معتاد فسقط الفرض بجميعه.

باب مايكره لبسه ومالايكره

باب ما يكره لبسه وما لا يكره يحرم على الرجل استعمال الديباج والحرير في اللبس والجلوس وغيرهما لما روى حذيفة قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة فإن كان بعض الثوب إبريسم وبعضه قطناً فإن كان الإبريسم أكثر لم يحل وإن كان أقل كالخز لحمته صوف وسداه إبريسم حل لما روي عن ابن عباس قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير فأما العلم وسدا الثوب فليس به بأس ولأن السرف يظهر بالأكثر دون الأقل وإن كان نصفين ففيه وجهان: أحدهما أنه يحرم لأنه ليس الغالب الحلال والثاني أنه يحل وهو الأصح لأن التحريم يثبت بغلبة المحرم والمحرم ليس بغالب وإن كان في الثوب قليل من الحرير والديباج كالجبة المكفوفة بالحرير والمجيب بالديباج وما أشبههما لم يحرم ذلك لما روى علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا في موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع وروي أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج فإن كان له جبة محشوة بالإبريسم لم يحرم لبسها لأن السرف فيها غير ظاهر.

فصل: قال في الأم: وإن توقى المحارب لبس الديباج كان أحب إلي فإن لبسه فلا بأس والدليل عليه أنه يحصنه ويمنع من وصول السلاح إليه وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة جاز لنا روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما في لبس الحرير من الحكة. فصل: فأما الذهب فلا يحل للرجال استعماله لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب "الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثها1" ولا فرق في الذهب بين القليل والكثير لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التختم بالذهب هذين الخاتم مع قتله ولأن السرف في الجميع ظاهر وإن كان في الثوب ذهب قد صدىء بحيث لا يبين لم يحرم لم يحرم لبسه لأنه ليس فيه سرف ظاهر وإن كان له درع منسوج بالذهب أو بيضة مطلية بالذهب وأراد لبسها في الحرب فإن وجد ما يقوم مقامه لم يجز وإن لم يجد وفاجأته الحرب جاز لأنه موضع ضرورة فإن اضطر إلى استعمال الذهب لما روى أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب ويحل للنساء لبس الحرير ولبس الحلي من الذهب لحديث علي كرم الله وجهه. فصل: ويجوز أن يلبس دابته وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير لأنه إن كان مدبوغاً فهو طاهر وإن كان غير مدبوغ فالمنع من استعماله للنجاسة ولا تعبد على الدابة والأداة وأما جلد الكلب والخنزير فلا يجوز استعماله في شيء من ذلك لأن الخنزير لا يحل الانتفاغ به والكلب لا يحل إلا لحاجة وهي الصيد وحفظ الماشية والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان2" ولا حاجة إلى الانتفاع بجلده بعد الدباغ فلم يحل وبالله التوفيق.

_ 1رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 10. الترمذي في كتاب اللباس 1. النسائي في كتاب الزينة باب 40. ابن ماجه في كتاب اللباس باب 19. 2 رواه البخاري في كتاب الحدث باب 3. مسلم في كتاب المساقاة حديث 50. الترمذي في كتاب الصيد باب 17. النسائي في كتاب الصيد باب 12. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 12، 13. أحمد في مسنده "2/4، 8، 37".

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة صلاة الجمعة واجبة لما روى جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً أو جحوداً فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره1" فصل: ولا تجب الجمعة على صبي ولا مجنون لأنه لا تجب عليهما سائر الصلوات فالجمعة أولى ولا تجب على المرأة لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فعليه الجمعة إلا على امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض" ولأنها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز ولا تجب على المسافر للخبر ولأنه مشغول بالسفر وأسبابه فلو أوجبنا عليه انقطع عنه ولا تجب على العبد للخبر ولأنه ينقطع عن خدمة مولاه ولا تجب على المريض للخبر ولأنه يشق عليه القصد وأما الأعمى فإنه إن كان له قائد لزمه وإن لم يكن له قائد لم تلزمه لأنه يخاف الضرر مع عدم القائد ولا تجب على المقيم في موضع لا يسمح النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة أو القرية التي تقام فيها الجمعة لما روى عبد الله ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة على من سمع النداء2" والاعتبار في سماع النداء أن يقف المؤذن في طرف البلد والأصوات هادئة والريح ساكنة وهو مستمع فإذا سمع لزمه وإن لم يسمع لم يلزمه ولا تجب على خائف على نفسه أو ماله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: خوف أو مرض3" ولا تجب على من في طريقه إلى المسجد مطر يبل ثيابه لأنه يتأذى بالقصد ولا تجب على من له مريض يخاف ضياعه لأن حق المسلم آكد من فرض الجمعة ولا تجب على من له قريب أو صهر أو ذو ود يخاف موته لما روي أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 78. الترمذي في كتاب القيامة باب 30. 2 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 206. 3 رواه ابن ماجه في كتاب المساجد باب 17.

يسعى إلى الجمعة فترك الجمعة ومضى إليه وذلك لما بينهما من القرابة فإنه ابن عمه ولأنه يلحقه بفوات ذلك من الألم أكثر مما يلحقه من مرض أو أخذ مال. فصل: ومن لا جمعة عليه لا تجب عليه وإن حضر الجامع إلا المريض ومن في طريقه مطر لأنه إنما لم تجب عليهم للمشقة وقد زالت بالحضور وإن اتفق يوم عيد ويوم جمعة فحضر أهل السواد فصلوا العيد فجاز أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة لما روي أن عثمان رضي الله عنه قال في خطبته: أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف ولم ينكر عليه أحد ولأنهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيأوا بالعيد فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة والجمعة تسقط بالمشقة ومن أصحابنا من قال: تجب عليهم الجمعة لأن من لزمته الجمعة في غير يوم عيد وجبت عليه في يوم العيد كأهل البلد والمنصوص في الأم هو الأول. فصل: ومن لا جمعة عليه مخير بين الظهر والجمعة فإن صلى الجمعة أجزأه عن الظهر لأن الجمعة إنما سقطت عنه لعذر فإن حمل على نفسه وفعل أجزأه كالمريض إذا حمل على نفسه فصلى من قيام وإذا أراد أن يصلي الظهر جاز لأنه فرضه غير أن المستحب أن لا يصلي حتى يعلم ان الجمعة قد فاتت لأنه ربما زال العذر فيصلي الجمعة فإن صلى في أول الوقت ثم زال عذره والوقت باق لم تجب عليه الجمعة وقال أبو بكر بن الحداد المصري: إذا صلى الصبي الظهر ثم بلغ والوقت باق لزمه الجمعة وإن صلى غيره من المعذورين لم تلزمه الجمعة لأن ما صلى الصبي ليس بفرض وما صلى غيره فرض والمذهب الأول لأن الشافعي نص على أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الظهر ثم بلغ والوقت باق لم تجب عليه إعادة الظهر فكذلك الجمعة وإن صلى المعذور الظهر ثم صلى الجمعة سقط الفرض بالظهر وكانت الجمعة نافلة وحكى أبو إسحاق المروزي أنه قال في القديم: يحتسب الله له بأيتهما شاء والصحيح هو الأول وإن أخر المعذور الصلاة حتى فاتت الجمعة صلى الظهر في الجماعة قال الشافعي رحمه الله: وأحب إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين قال أصحابنا: فإن كان عذرهم ظاهراً

لم يكره إظهار الجماعة لأنهم لا يتهمون مع ظهور العذر وأما من تجب عليه الجمعة فلا يجوز أن يصلي الظهر قبل فوات الجمعة فإنه مخاطب بالسعي إلى الجمعة فإن صلى الظهر قبل صلاة الإمام ففيه قولان: قال في القديم: يجزئه لأن الفرض هو الظهر لأنه لو كان الفرض هو الجمعة لوجب قضاؤها كسائر الصلوات وقال في الجديد: لا يجزئه ويلزمه إعادتها وهو الصحيح لأن الفرض هو الجمعة لأنه لو كان الفرض هو الظهر والجمعة بدل عنه لما أثم بترك الجمعة إلى الظهر كما لا يأثم بترك الصوم إلى العتق في الكفارة وقال أبو إسحاق: إن اتفق أهل بلد على فعل الظهر أتموا بترك الجمعة إلا أنه يجزئهم لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة والصحيح أنه لا يجزئهم على قوله الجديد لأنهم صلوا فرض الظهر وفرض الجمعة متوجه عليهم. فصل: ومن لزمته الجمعة وهو يريد السفر فإن كان يخاف فوت السفر جاز له ترك الجمعة لأنه ينقطع عن الصحبة فينتظر وإن لم يخف الفوت لم يجز أن يسافر بعد الزوال لأن الفرض توجه عليه فلا يجوز تفويته بالسفر وهل يجوز قبل الزوال؟ فيه قولان: أحدهما يجوز لأنه لم تجب عليه فلم يحرم التفويت كبيع المال قبل الحول والثاني لا يجوز وهو الأصح لأنه وقت لوجوب التسبب بدليل أنه من كان داره على بعد لزمه القصد قبل الزوال ووجوب التسبب كوجوب الفعل فإذا لم يجز السفر بعد وجوب الفعل لم يجز بعد وجوب التسبب. فصل: وأما البيع فينظر فيه فإن كان قبل الزوال لم يكره له وإن كان بعد الزوال وقبل ظهور الإمام كره فإن ظهر الإمام وأذن المؤذن حرم لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] إن تبايع رجلان أحدهما من أهل فرض الجمعة والآخر ليس من أهل الفرض أثما جميعاً لأن أحدهما توجه عليه الفرض وقد اشتغل عنه والآخر شغله عن الفرض ولا يبطل البيع لأن النهي لا يختص بالعقد فلم يمنع الصحة كالصلاة في أرض مغصوبة. فصل: ولا تصح الجمعة إلا في أبنية مجتمعة يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة في بلد أو قرية لأنه لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية ولم ينقل أنها أقيمت في بدو فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز لأنه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها لأنهم في موضع الاستيطان. فصل: ولا تصح إلا بأربعين نفساً لما روى جابر رضي الله عنه قال: مضت السنة

أن في كل ثلاثة إماماً وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطراً ومن شرط العدد أن يكونوا رجالاً أحراراً عقلاء مقيمين في الموضع فأما النساء والعبيد والمسافرون فلا تنعقد بهم الجمعة لأنه لا تجب عليهم الجمعة فلا تنعقد بهم كالصبيان وهل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين؟ فيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة تنعقد بهم لأنه تلزمهم الجمعة فانعقدت بهم كالمستوطنين وقال أبو إسحاق: لا تنعقد لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى عرفات وكان معه أهل مكة وهم في ذلك الموضع مقيمون غير مستوطنين فلو انعقد بهم الجمعة لأقامها فإن أحرم بالعدد ثم انفضوا عنه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها إن نقص العدد عن أربعين لم تصح الجمعة لأنه شرط في الجمعة فشرط في جميعها كالوقت والثاني إن بقي معه اثنان أتم الجمعة لأنهم يصيرون ثلاثة وذلك جمع مطلق فأشبه الأربعين والثالث إن بقي معه واحد أتم الجمعة لأن الاثنين جماعة وخرج المزني رحمه الله قولين آخرين أحدهما: إن بقي وحده جاز أن يتم الجمعة كما قال الشافعي رحمه الله في إمام أحرم بالجمعة ثم أحدث أنهم يتمون صلاتهم وحداناً ركعتين والثاني إن كان قد صلى ركعة ثم انفضوا أتم الجمعة وإن انفضوا قبل الركعة لم يتم الجمعة كما قال في المسبوق: إذا أدرك مع الإمام ركعة أتم الجمعة وإن لم يدرك ركعة أتم الظهر فمن أصحابنا من أثبت القولين وجعل في المسألة خمسة أقوال ومنهم من لم يثبت فقال إذا أحدث الإمام يبنون على صلاتهم لأن الاستخلاف لا يجوز على هذا القول فيبنون على صلاتهم على حكم الجماعة مع الإمام وههنا الإمام لا تتعلق صلاة بصلاة من خلفه وأما المسبوق فإنه يبني على جمعة تمت شروطها وهذه لم تتم جمعة فيبني الإمام عليها. فصل: ولا تصح الجمعة إلا في وقت الظهر لأنهما فرضا وقت واحد فلم يختلف وقتهما كصلاة السفر وصلاة الحضر فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح لأن الجمعة ردت إلى ركعتين بالخطبة فإذا لم تجز الصلاة قبل الوقت لم تجز الخطبة فإن دخل فيها في وقتها ثم خرج الوقت لم يجز فعل الجمعة لأنه لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت فلا يجوز إتمامها كالحج ويتم الظهر لأنه فرض رد من أربع إلى ركعتين بشرط يختص به

فإذا زال الشرط أتم كالمسافر إذا دخل في الصلاة ثم قدم قبل أن يتم وإن أحرم بها في الوقت ثم شك هل خرج الوقت أتم الجمعة لأن الأصل بقاء الوقت وصحة الفرض فلا يبطل الشك وإن ضاق وقت الصلاة ورأى أنه إن خطب خطبتين خفيفتين وصلى ركعتين لم يذهب الوقت لزمهم الجمعة وإذا رأى أنه لا يمكن ذلك صلى الظهر. فصل: ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يصل الجمعة إلا بخطبتين وروى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما ولأن السلف قالوا: إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة فإذا لم يخطب رجع إلى الأصل ومن شرط الخطبة العدد الذي تنعقد به الجمعة لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] والذكر الذي يفعل بعد النداء هو الخطبة ولأنه ذكر شرط في صحة الجمعة فشرط فيه العدد كتكبيرة الإحرام فإن خطب بالعدد ثم انفضوا وعادوا قبل الإحرام فإن لم يطل الفصل صلى الجمعة لأنه ليس بأكثر من الصلاتين المجموعتين ثم الفصل اليسير لا يمنع الجمع فكذلك لا يمنع الجمع بين الخطبة والصلاة وإن طال الفصل قال الشافعي رحمه الله: أحببت أن يبتديء الخطبة ثم يصلي بعدها الجمعة فإن لم يفعل صلى الظهر واختلف فيه أصحابنا فقال فيه أبو العباس: تجب إعادة الخطبة ثم يصلي بعدها الجمعة لأن الخطبة مع الصلاة كالصلاتين المجموعتين فكما لا يجوز الفصل الطويل بين الصلاتين لم يجز بين الخطبة والصلاة وما نقله المزني لا يعرف وقال أبو إسحاق: يستحب أن يعيد الخطبة لأنه لا يأمن أن ينفضوا مرة أخرى فجعل ذلك عذراً في جواز البناء وأما الصلاة فإنها واجبة لأنه يقدر على فعلها فإن صلى بهم الظهر جاز بناء على أصله إذا اجتمع أهل بلد على ترك الجمعة ثم صلوا الظهر أجزأهم وقال بعض أصحابنا: يستحب إعادة الخطبة والصلاة على ظاهر النص لأنهم انفضوا عنه مرة فلا يأمن أن ينفضوا عنه ثانياً فصار ذلك عذراً في ترك الجمعة ومن شرطهما القيام مع القدرة والفصل بينهما بالجلسة لما روى جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم فيقرأ آيات ويذكر الله عز وجل ولأنه إحدى فرضي الجمعة فوجب فيه القيام والقعود كالصلاة وهل تشترط فيه الطهارة فيه قولان: قال في القديم: تصح من غير طهارة لأنه لو افتقر إلى الطهارة لافتقر إلى استقبال القبلة كالصلاة وقال في الجديد: لا تصح من غير طهارة لأنه ذكر شرط في الجمعة فشرط فيه الطهارة كتكبيرة الإحرام وفرضها أربعة أشياء: أحدها أن يحمد الله تعالى لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم

خطب يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش ثم يقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم يقول: "إن أفضل الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي" والثاني أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله عز وجل افتقرت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأذان والصلاة والثالث الوصية بتقوى الله عز وجل لحديث جابر ولأن القصد من الخطبة الموعظة فلا يجوز الإخلال بها والرابع أن يقرأ آية من القرآن لحديث جابر بن سمرة ولأنه أحد فرضي الجمعة فوجب فيه القراءة كالصلاة ويجب ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية في الخطبتين وفي قراءة القرآن وجهان أحدهما أنها تجب في الخطبتين لأن ما وجب في أحد الخطبتين وجب في الأخرى كذكر الله تعالى وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية والثانية لا تجب إلا في إحدى الخطبتين وهو المنصوص لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنه قرأ في الخطبة وهذا لا يقتضي أكثر من مرة ويستحب أن يقرأ سورة "ق" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في الخطبة فإن قرأ آية وفيها سجدة فنزل وسجد جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم فعل عمر رضي الله عنه بعده فإن فعل هذا وأطال الفصل ففيه قولان: قال في القديم: يبني وقال في الجديد يستأنف وهل يجب الدعاء؟ فيه وجهان: أحدهما يجب رواه المزني في أقل ما يقع عليه اسم الخطبة ومن أصحابنا من قال يستحب وأما الدعاء للسلطان فلا يستحب لما روي أنه سئل عطاء عن ذلك فقال: إنه محدث وإنما كانت الخطبة تذكيراً. فصل: وسننها أن تكون على منبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر ولأنه أبلغ في الإعلام ومن سننها أنه إذا صعد على المنبر ثم أقبل على الناس أن يسلم عليهم لما

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة واستقبل الناس قال السلام عليكم ولأنه استدبر الناس في صعوده فإذا أقبل عليهم يسلم ومن سننها أن يجلس إذا سلم حتى يؤذن المؤذن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم الجمعة جلس يعني على المنبر حتى يسكت المؤذن ثم قام فخطب ويقف على الدرجة التي تلي المستراح لأن ذلك أمكن ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصاً لما روى الحكم بن حرب قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه الجمعة فقام متوكئاً على قوس أو عصاً فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ولأن ذلك أمكن له فإن لم يكن معه شيء سكن يديه ومن سننها أن يقبل على الناس ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه ويستحب أن يرفع صوته لحديث جابر علا صوته واشتد غضبه ولأنه أبلغ في الإعلام قال الشافعي رحمه الله ويكون كلامه مترسلاً مبيناً معرباً من غير تغن ولا تمطيط لأن ذلك أحسن وأبلغ ويستحب أن يقصر الخطبة لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه خطب وأوجز فقيل له: لو كنت تنفست فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة1".

_ 1 رواه مسلم في كتاب الجمعة حديث 37. الدارمي في كتاب الصلاة باب 199. أحمد في مسنده "4/263".

فصل: والجمعة ركعتان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى ولأنه نقل الخلف عن السلف والسنة أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الجمعة وفي الثانية المنافقين لما روى عبد الله بن أبي رافع قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة فصلى بالناس الجمعة فقرأ بالجمعة والمنافقين فقلت: يا أبا هريرة قرأت سورتين سمعت علياً قرأهما قال: سمعت حبيبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قرأهما والسنة أن تجهر فيهما بالقراءة لأنه نقل الخلف عن السلف.

باب هيئة الجمعة والتكبير

باب هيئة الجمعة والتكبير السنة لمن أراد الجمعة أن يغتسل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" ووقته ما بعد طلوع الفجر إلى أن يدخل في الصلاة فإن اغتسل قبل طلوع الفجر لم يجزه لقوله صلى الله عليه وسلم: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم1" فعلقه على اليوم والأفضل أن يغتسل عند الرواح لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه إنما يراد لقطع الروائح فإذا فعله عند الرواح كان أبلغ في المقصود فإن ترك الغسل جاز لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل2" فإن كان جنباً فنوى بالغسل الجنابة والجمعة أجزأه عنهما كما لو

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 12. كتاب الغسل باب 28. مسلم في كتاب الحيض حديث 87، 88. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 111. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 71 – 73. أحمد في مسنده "2/178" "5/115". 2 رواه الترمذي في كتاب الجمعة باب 5. أبو داود في كتاب الطهارة باب 128. النسائي في كتاب الجمعة باب 9. الدارمي في كتاب الصلاة باب 190. أحمد في مسنده "5/8، 11".

اغتسلت المرأة فنوت الجنابة والحيض وإن نوى الجنابة ولم ينوي الجمعة أجزأه عن الجنابة وفي الجمعة قولان: أحدهما يجزئه لأنه يراد للتنظيف وقد حصل ذلك والثاني لا يجزئه لأنه لم ينوه فأشبه إذا اغتسل من غير نية وإن نوى الجمعة ولم ينو الجنابة لم يجزئه عن الجنابة وفي الجمعة وجهان: أحدهما وهو المذهب أنه يجزئه عنها لأنه نواها والثاني لا يجزئه لأن غسل الجمعة يراد للتنظيف والتنظيف لا يحصل مع بقاء الجنابة ويستحب أن يتنظف بسواك وأخذ الظفر والشعر وقطع الروائح ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه لما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه وخرج حتى يأتي المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينهما وبين الجمعة1" وأفضل الثياب البياض لما روى سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب2" ويستحب للإمام من الزينة أكثر مما يستحب لغيره لأنه يقتدي به والأفضل أن يعتم ويرتدي ببرد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. فصل: ويستحب أن يبكر إلى الجمعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة

_ 1رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 19. مسلم في كتاب الجمعة حديث 7،8. الترمذي في كتاب الجمعة باب 29. أبو داود في كتاب الجمعة باب 127. أحمد في مسنده "1/317". 2 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 13. الترمذي في كتاب الجنائز باب 18. النسائي في كتاب الجنائز 38. أحمد في مسنده "5/10،13".

ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر وطويت الصحف1" وتعتبر الساعات من حين طلوع الفجر لأنه أول اليوم وبه يتعلق جواز الغسل ومن أصحابنا من قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا2" ويستحب أن لا يركب من غير عذر لما روى أوس بن أوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها3" ولا يشبك

_ 1رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 4. مسلم في كتاب الجمعة حديث 10. أبو داود في كتاب الطهارة باب 127. الترمذي في كتاب الجمعة باب 6. الموطأ في كتاب الجمعة حديث 1. 2 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 18. مسلم في كتاب المساجد حديث 151 أبو داود في كتاب الصلاة باب 54. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 14. الموطأ في كتاب النداء حديث 4. أحمد في مسنده "2/ 237، 270". 3 رواه النسائي في كتاب الجمعة باب 10، 12. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 80. الدارمي في كتاب الصلاة باب 195. أحمد في مسنده "2/209".

بين أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إلى الصلاة1" ويستحب أن يدنو من الإمام لحديث أوس ولا يتخطى رقاب الناس لحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قال الشافعي رحمه الله: وإذا لم يكن للإمام طريق لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس فإن دخل رجل وليس له موضع وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى رجل أو رجلين لم يكره له لأنه يسير وإن كان بين يديه خلق كثير فإذا رجا إذا قاموا إلى الصلاة أن يتقدموا جلس حتى يقوموا وإن لم يرج أن يتقدموا جاز أن يتخطى ليصل إلى الفرجة ولا يجوز أن يقوم رجلاً من موضعه ليجلس فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول تفسحوا أو توسعوا2" فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس وأما صاحب الموضع فإنه إن كان الموضع الذي ينتقل إليه دون الموضع الذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك لأنه آثر غيره في القربة وإن فرش لرجل ثوب فجاء آخر لم يجلس عليه فإن أراد أن ينحيه ويجلس مكانه جاز وإن قام رجل من موضعه لحاجة فجلس رجل مكانه ثم عاد فالمستحب أن يرد الموضع إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع فهو أحق3" قال الشافعي رحمه الله: وأحب إذا نعس ووجد موضعاً لا يتخطى فيه غيره أن يتحول لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره "4.

_ 1رواه مسلم في كتاب المساجد حديث 152. الموطأ في كتاب النداء حديث 4. أحمد في مسنده "2/460، 529". 2 رواه الدارمي في كتاب الاستئذان باب 24. أحمد في مسنده "2/17، 22". 3 رواه مسلم في كتاب السلام حديث 31. أبو داود في كتاب الأدب باب 28. الترمذي في كتاب الأدب باب 10. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 22. أحمد في مسنده "2/ 263". 4 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 233. الترمذي في كتاب الجمعة باب 27. أحمد في مسنده "2/22".

فصل: وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بذكر الله والصلاة ويستحب أن يقرأ يوم الجمعة سورة الكهف لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة" ويكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لما روى أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي1" ويكثر من الدعاء لأن فيه ساعة يستجاب فيها الدعوة فلعله يصادف ذلك وإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل لما روي عن ثعلبة بن أبي مالك قال: قعود الإمام يقطع السبحة وكلامه يقطع الكلام وأنهم كانوا لا يزالون يتحدثون يوم الجمعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين فإذا أقيمت الصلاة ونزل عمر تكلموا ولأن النفل في هذه الحالة يمنع الاستماع إلى ابتداء الخطبة فكره فإن دخل رجل والإمام على المنبر صلى تحية المسجد لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين2" فإن دخل والإمام في آخر الخطبة لم يصل لأنه يفوته أول الصلاة مع الإمام وهو فرض فلا يجوز أن يشتغل عنها بالنفل. فصل: ويجوز الكلام قبل أن يبتدئ الخطبة لما رويناه من حديث ثعلبة بن أبي مالك ويجوز إذا جلس الإمام بين الخطبتين وإذا نزل من المنبر قبل أن يدخل في الصلاة لما روى أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيقوم معه الرجل فيكلمه في الحاجة ثم ينتهي إلى مصلاه فيصلي ولأنه ليس بحال صلاة ولا حال إسماع فلم يمنع من الكلام وإذا بدأ بالخطبة أنصت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أنصت لإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" وهل يجب الإنصات؟ فيه قولان: أحدهما يجب لما روى جابر قال: دخل ابن مسعود والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبي فسأله عن شيء فلم يرد عليه فسكت حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن ترد علي؟ فقال: إنك لم تشهد معنا الجمعة قال: ولم؟ قال: لأنك تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم

_ 1أبو داود في كتاب الصلاة 201. النسائي في كتاب الجمعة باب 5. الدارمي في كتاب الصلاة باب 206. أحمد في مسنده "4/8". 2 رواه البخاري في كتاب التهجد باب 25.

يخطب فقام ابن مسعود فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فقال: "صدق أبي وأطع أبياً" والثاني يستحب وهو الأصح لما روى أنس رضي الله عنه قال: دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الثالثة: "ما أعددت لها قال حب الله ورسوله قال: إنك مع من أحببت" فإن رأى رجلاً ضريراً يقع في بئر أو رأى عقرباً تدب إليه لم يحرم عليه كلامه قولاً واحداً لأن الإنذار يجب لحق الآدمي والإنصات لحق الله تعالى ومبناه على المسامحة وإن سلم عليه رجل أو عطس فإن قلنا يستحب الإنصات رد السلام وشمت العاطس وإن قلنا يجب الإنصات لم يرد السلام ولم يشمت العاطس لأن المسلم سلم في غير موضعه فلم يرد عليه وتشميت العاطس سنة فلا يترك له الإنصات الواجب ومن أصحابنا من قال لا يرد السلام لأن المسلم مفرط ويشمت العاطس لأن العاطس غير مفرط في العطس وليس بشيء. فصل: ومن دخل والإمام في الصلاة أحرم بها فإن أدرك معه الركوع من الثانية فقد أدرك الجمعة فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى وإن لم يدرك الركوع فقد فاتت الجمعة فإذا سلم الإمام أتم الظهر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى"1. فصل: فإن زوحم المأموم عن السجود في الجمعة نظرت فإن قدر أن يسجد على ظهر إنسان لزمه أن يسجد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه وقال بعض أصحابنا: فيه قول آخر قاله في القديم أنه بالخيار إن شاء سجد على ظهر إنسان وإن شاء ترك حتى يزول الزحام لأنه إذا سجد حصلت له فضيلة المتابعة وإذا انتظر زوال الزحمة حصلت له فضيلة السجود على الأرض فخير بين الفضيلتين والأول أصح لأن ذلك يبطل بالمريض إذا عجز عن السجود على الأرض فإنه يسجد على حسب حاله ولا يؤخر وإن كان في التأخير فضيلة السجود على الأرض وإن لم يقدر على السجود بحال انتظر حتى يزول الزحام فإن زال الزحام لم يخل إما أن يدرك الإمام قائماً أو راكعاً أو رافعاً من الركوع أو ساجداً فإن أدركه قائماً سجد ثم تبعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك بعسفان للعذر والعذر ههنا موجود

_ 1 رواه مسلم في كتاب الجمعة حديث 26. أبو داود في كتاب الطهارة باب 127. أحمد في مسنده "3/81".

فوجب أن يجوز فإن فرغ من السجود فأدرك الإمام راكعاً في الثانية ففيه وجهان: أحدهما يتبعه في الركوع ولا يقرأ كمن حضر والإمام راكع والثاني يشتغل بما عليه من القراءة لأنه أدرك مع الإمام محل القراءة بخلاف من حضر والإمام راكع. فصل: فإن زال الزحام فأدرك الإمام رافعاً من الركوع أو ساجداً معه لأن هذا موضع سجوده وحصلت له ركعة ملفقة وهل يدرك بها الجمعة؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يدرك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى1" وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يدرك لأن الجمعة صلاة كاملة فلا تدرك إلا بركعة كاملة وهذه ركعة ملفقة. فصل: وإن زال الزحام وأدرك الإمام راكعاً ففيه قولان: أحدهما يشتغل بقضاء ما فاته ثم يركع لأنه شارك الإمام في جزء من الركوع فوجب أن يسجد كما لو زالت الزحمة فأدركه قائماً والثاني يتبع الإمام في الركوع لأنه أدرك الإمام راكعاً فلزمه متابعته كمن دخل في صلاة والإمام فيها راكع فإن قلنا إنه يركع معه نظرت فإن فعل ما قلناه وركع حصل له ركوعان وبأيهما يحتسب؟ فيه قولان: أحدهما يحتسب بالثاني كالمسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً فركع معه والثاني يحتسب بالأول لأنه قد صح الأول فلم يبطل بترك ما بعده كما لو ركع ونسي السجود فقام وقرأ وركع ثم سجد فإن قلنا أنه يحتسب بالثاني حصل له مع الإمام ركعة فإذا سلم أضاف إليها أخرى وسلم وإذا قلنا يحتسب بالأول حصل له ركعة ملفقة لأن القيام والقراءة والركوع حصل له من الركعة الأولى وحصل له السجود من الثانية وهل يصير مدركاً للجمعة؟ فيه وجهان قال أبو إسحاق: يكون مدركاً: وقال ابن أبي هريرة: لا يكون مدركاً فإذا قلنا بقول أبي إسحاق أضاف إليها أخرى وسلم وإذا قلنا بقول ابن أبي هريرة قام وصلى ثلاث ركعات وجعلها ظهراً ومن أصحابنا من قال: يجب أن يكون فيه وجهان بناءً على القولين فيمن صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة وهذا قد صلى ركعة من الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة فلزمه أن يستأنف الظهر بعد فراغه وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري الصحيح هو الأول والبناء على القولين لا يصح لأن القولين فيمن صلى الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة من

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الجمعة باب 25. النسائي في كتاب الجمعة باب 25. الموطأ في كتاب الجمعة حديث 13.

غير عذر والمزحوم معذور فلم تجب عليه إعادة الركعة التي صلاها قبل فراغ الإمام ولأن القولين فيمن ترك الجمعة وصلى الظهر منفرداً وهذا قد دخل مع الإمام في الجمعة فلم تجب عليه إعادة ما فعل كما لو أدرك الإمام ساجداً في الركعة الأخيرة فإنه يتابعه ثم يبني الظهر على ذلك الإحرام ولا يلزمه الاستئناف وإن خالف ما قلناه واشتغل بقضاء ما فاته فإن اعتقد أن السجود فرضه لم يعد سجوده لأنه سجد في موضع الركوع ولا تبطل صلاته لأنه زاد فيها زيادة من جنسها جاهلاً فهو كمن زاد في صلاته من جنسها ساهياً وإن اعتقد أن فرضه المتابعة فإن لم ينو مفارقته بطلت صلاته لأنه سجد في موضع الركوع عامداً وإن نوى مفارقة الإمام ففيه قولان: أحدهما تبطل صلاته والثاني لا تبطل ويكون فرضه الظهر وهل يبني أو يستأنف الإحرام بعد فراغ الإمام على القولين في غير المعذور إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام وأما إذا قلنا إن فرضه الاشتغال بما فاته نظرت فإن فعل ما قلناه وأدرك الإمام راكعاً تبعه فيه ويكون مدركاً للركعتين وإن أدركه ساجداً فهو يشتغل بقضاء ما فاته أو يتبعه في السجود فيه وجهان: أحدهما يشتغل بقضاء ما فاته لأن على هذا القول الاشتغال بالقضاء أولى من المتابعة ومنهم من قال يتبعه في السجود وهو الأصح لأن هذه الركعة لم يدرك منها شيئاً يحتسب له به فهو كالمسبوق إن أدرك الإمام ساجداً بخلاف الركعة الأولى فإن هناك أدرك الركوع وما قبله فلزمه أن يفعل ما بعده من السجود فإذا قلنا يسجد كان مدركاً للركعة الأولى إلا أن بعضها أدركه فعلاً وبعضه أدركه حكماً لأنه تابعه إلى السجود ثم انفرد بفعل السجدتين وهل يدرك بهذه الركعة الجمعة؟ على وجهين لأنه إدراك ناقص فهو كالتلفيق في الركعة وإن سلم الإمام قبل أن يسجد المأموم السجدتين لم يكن مدركاً لجمعة قولاً واحداً وهل يستأنف الإحرام أو يبني على ما ذكرناه من الطريقين فإن خالف ما قلناه وتبعه في الركوع فإن كان معتقداً أن فرضه الاشتغال بالسجود بطلت صلاته لأنه ركع في موضع السجود عامداً وإن اعتقد أن فرضه المتابعة لم تبطل صلاته لأنه زاد في الصلاة من جنسها جاهلاً ويحتسب بهذا السجود ويحصل له ركعة ملفقة وهل يصير مدركاً للجمعة على الوجهين وإن زحم عن السجود وزالت الزحمة والإمام قائم في الثانية وقضى ما عليه وأدركه قائماً أو راكعاً فتابعه فلما سجد في الثانية زحم عن السجود فزال الزحام وسجد ورفع رأسه وأدرك الإمام في التشهد فقد أدرك الركعتين بعضهما فعلاً وبعضهما حكماً وهل يكون مدركاً للجمعة على الوجهين وإن ركع مع الإمام الركعة الأولى ثم سها حتى صلى الإمام هذه الركعة وحصل في الركوع في الثانية قال القاضي أبو حامد: يجب أن يكون على قولين

كالزحام ومن أصحابنا من قال يتبعه قولاً واحداً لأنه مفرط في السهو فلم يعذر في الانفراد عن الانفراد عن الإمام وفي الزحام غير مفرط فعذر في الانفراد عن الإمام فصل: إذا أحدث الإمام في الصلاة ففيه قولان: قال في القديم: لا يستخلف وقال في الجديد: يستخلف وقد بينا وجه القولين في باب صلاة الجماعة فإن قلنا لا يستخلف نظرت فإن أحدث بعد الخطبة وقبل الإحرام لم يجز أن يستخلف لأن الخطبتين مع الركعتين كالصلاة الواحدة فلما لم يجز أن يستخلف في الظهر بعد الركعتين لم يجز أن يستحلف في الجمعة بعد الخطبتين وإن أحدث بعد الإحرام ففيه قولان: أحدهما يتمون الجمعة فرادى لأنه لما لم يجز الاستخلاف بقوا على حكم الجماعة فجاز لهم أن يصلوا فرادى والثاني أنه إذا كان الحدث قبل أن يصلي بهم ركعة صلوا الظهر وإن كان بعد الركعة صلوا ركعة أخرى فرادى كالمسبوق إذا لم يدرك ركعة أتم الظهر وإن أدرك ركعة أتم الجمعة وإن قلنا بقوله الجديد فإن كان الحدث بعد الخطبتين وقبل الإحرام فاستخلف من حضر الخطبة جاز وإن استخلف من لم يحضر الخطبة لم يجز لأن من حضر كمل بالسماع فانعقدت به الجمعة ومن لم يحضر لم يكمل فلم تنعقد به الجمعة ولهذا لو خطب بأربعين فقاموا وصلوا الجمعة جاز ولو حضر أربعون لم يحضروا الخطبة فصلوا الجمعة لم يجز وإن كان الحدث بعد الإحرام فإن كان في الركعة الأولى فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز له لأنه من أهل الجمعة وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز لأنه ليس من أهل الجمعة ولهذا لو صلى بانفراده الجمعة لم تصح وإن كان الحدث في الركعة الثانية فإن كان قبل الركوع فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث ولم يكن معه قبل الركوع فإن فرضه الظهر وفي جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر وجهان: فإن قلنا يجوز جاز أن يستخلفه وإن قلنا لا يجوز لم يجز أن يستخلفه. فصل: والسنة أن لا تقام الجمعة بغير إذن السلطان فإن فيه افتياتاً عليه فإن أقيمت الجمعة من غير إذنه جاز لما روي أن علياً رضي الله عنه صلى العيد وعثمان رضي الله عنه محصور ولأنه فرض لله تعالى لا يختص بفعل الإمام فلم يفتقر إلى إذنه كسائر العبادات. فصل: قال الشافعي رحمه الله: ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد والدليل عليه أنه لم يقمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعده في أكثر

من موضع واختلف أصحابنا في بغداد فقال أبو العباس: يجوز في مواضع لأنه بلد عظيم ويشق الاجتماع في موضع واحد وقال أبو الطيب بن سلمة: يجوز في كل جانب جمعة لأنه كالبلدين ولا يجوز أكثر من ذلك وقال بعضهم: كانت قرى متفرقة في كل موضع منها جمعة ثم اتصلت العمارة فبقيت على حكم الأصل. فصل: وإن عقدت جمعتان في بلد إحداهما قبل الأخرى وعرفت الأولى منها نظرت فإن لم يكن مع واحدة منها إمام أو كان الإمام مع الأولى فالجمعة هي الأولى والثانية باطلة وبأي شيء يعتبر السبق؟ فيه قولان: أحدهما بالفراغ لأنه لا يحكم بصحتها إلا بعد الفراغ منها فوجب أن يعتبر السبق بالفراغ والثاني يعتبر بالإحرام لأنها بالإحرام تنعقد فلا يجوز أن تنعقد بعدها جمعة فإن كان الإمام مع الثانية ففيه قولان: أحدهما أن الجمعة هي الأولى لأنها جمعة أقيمت شروطها فكانت هي الجمعة والثاني أن الجمعة هي الثانية لأن في تصحيح الأولى افتياتاً على الإمام وتفويتاً للجمعة على عامة الناس وإن كانت الجمعتان في وقت واحد من غير إمام بطلتا لأنه ليس إحداهما أولى من الأخرى فوجب إبطالهما كما نقول فيمن جمع بين أختين في عقد واحد وإن لم يعلم هل كانتا في وقت واحد أو في وقتين بطلتا لأنه ليس كونهما في وقت واحد بأولى من تقدم إحداهما على الأخرى فحكم ببطلانهما وإن علم أن إحداهما قبل الأخرى ولم تتعين حكم ببطلانهما لأن كل واجدة من الطائفتين شك في إسقاط الفرض والفرض لا يسقط بالشك وفيما يجب عليهم قولان: أحدهما تلزمهم الجمعة إن كان الوقت باقياً لأن التي تقدمت لما لم تتعين لم يثبت حكمها فصارت كأن لم تكن والثاني يصلون الظهر لأنا تيقنا أن المتقدمة منهما جمعة صحيحة فوجب أن يصلوا الظهر احتياطاً وإن علمت السابقة منهما ثم أشكلت حكم ببطلانهما لأنه لا يمكن التوقف إلى أن تعرف لأنه يؤدي إلى فوات الوقت أو فواتهما بالموت فوجب الحكم ببطلانهما وبالله التوفيق.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين صلاة العيدين سنة وقال أبو سعيد الاصطخري: هي فرض على الكفاية والمذهب

الأول لما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده فقال: هل علي غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع1" ولأنها صلاة مؤقتة لا تشرع لها الإقامة فلم تجب بالشرع كصلاة الضحى وإن اتفق أهل بلد على تركها وجب قتالهم على قول الاصطخري وهل يقاتلن على المذهب؟ فيه وجهان: أحدهما لا يقاتلون لأنه تطوع فلا يقاتلون على تركها كسائر التطوع والثاني يقاتلون لأنه من شعائر الإسلام ولأن في تركها تهاوناً بالشرع بخلاف سائر التطوع لأنها تفعل فرادى فلا يظهر تركها كما يظهر في صلاة العيد. فصل: وقتها ما بين طلوع الشمس إلى أن تزول والأفضل أن يؤخرها حتى ترتفع الشمس قيد رمح والسنة أن يؤخر صلاة الفطر ويعجل الأضحى لما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب أن يقدم الأضحى ويؤخر الفطر ولأن الأفضل أن يخرج صدقة الفطر قبل الصلاة فإذا أخر الصلاة اتبع الوقت لإخراج صدقة الفطر والسنة أن يضحي بعد صلاة الإمام فإذا عجل بادر إلى الأضحية. فصل: والسنة أن تصلي صلاة العيد في المصلى إذا كان مسجد البلد ضيقاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ولأن الناس يكثرون في صلاة العيد فإذا كان المسجد ضيقاً تأذى الناس فإن كان في الناس ضعفاء استخلف في مسجد البلد من يصلي بهم لما روي أن علياً رضي الله عنه استخلف أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه ليصلي بضعفة الناس في المسجد وإن كان يوم مطر صلى في المسجد لما روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما صليا في المسجد في المطر وإن كان المسجد واسعا فالمسجد أفضل

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 34. مسلم في كتاب الإيمان حديث 8. أبو داود في كتاب الصلاة باب 1. الترمذي في كتاب الزكاة باب 2. الموطأ في كتاب السفر حديث 94. أحمد في مسنده "5/142".

من المصلى لأن الأئمة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بمكة في المسجد ولأن المسجد أشرف وأنظف قال الشافعي رحمه الله: فإن كان المسجد واسعاً فصلى في الصحراء فلا بأس وإن كان ضيقاً فصلى فيه ولم يخرج إلى المصلى كرهت لأنه إذا ترك المسجد وصلى في الصحراء لم يكن عليهم ضرر وإذا ترك الصحراء وصلى في المسجد الضيق تأذوا بالزحام وربما فات بعضهم الصلاة فكره. فصل: والسنة أن يأكل في يوم الفطر قبل الصلاة ويمسك في يوم النحر حتى يفرغ من الصلاة لما روى بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع فيأكل من لحم نسيكته والسنة أن يأكل التمر ويكون وتراً لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً. فصل: والسنة أن يغتسل للعيدين لما روي أن علياً وابن عمر رضي الله عنهما كانا يغتسلان ولأنه يوم عيد يجمع فيه الكافة للصلاة فسن فيه الغسل لحضورها كالجمعة وفي وقت الغسل قولان: أحدهما بعد الفجر كغسل الجمعة وروى البويطي أنه يجوز أن يغتسل قبل الفجر لأن الصلاة تقام في أول النهار وتقصدها الناس من البعد فيجوز تقديم الغسل حتى لا يفوتهم فجوز على هذا القول أن يغتسل بعد نصف الليل كما يقول في أذان الصبح ويستحب ذلك لمن يحضر الصلاة ولمن لا يحضر لأن القصد إظهار الزينة والجمال والسنة أن يتنظف بحلق الشعر ويقلم الأظافر وقطع الرائحة لأنه يوم عيد فسن فيه ما ذكرناه كيوم الجمعة والسنة أن يتطيب لما روى الحسن بن علي عليه السلام قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب بأجود ما نجد في العيد. فصل: والسنة أن يلبس أحسن ثيابه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس في العيدين برد حبرة. فصل: ويستحب أن يحضر النساء غير ذوات الهيآت لما روت أم عطية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد فأما الحيض فكن

يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين وإذا أردنا الحضور تنظفن بالماء ولا يتطيبن ولا يلبسن الشهرة من الثياب لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وليخرجن "تفلات" أي غير عطرات ولأنها إذا تطيبت ولبست الشهرة من الثياب دعا ذلك إلى الفساد قال الشافعي رحمه الله: ويزين الصبيان بالمصبغ والحلي ذكوراً أو إناثاً لأنه يوم زينة وليست على الصبيان تعبد فلا يمنعون من لبس الذهب. فصل: والسنة أن يبكر إلى الصلاة ليأخذ موضعه كما قلنا في الجمعة والمستحب أن يمشي ولا يركب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة ولا بأس أن يركب في العود لأنه غير قاصد إلى قربة. فصل: وإذا حضر جاز أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام لما روي عن أبي بردة وأنس والحسن وجابر بن زيد أنهم كانوا يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام لأنه ليس بوقت منهي عن الصلاة فيه ولا هناك ما هو أهم من الصلاة فلم يمتنع من الصلاة كما بعد العيد والسنة أن لا يخرج الإمام إلا في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة والسنة أن يمضي إليهما في طريق ويرجع في أخرى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر الأضحى فيخرج من طريق ويرجع في أخرى. فصل: ولا يؤذن لها ولا يقام لما روى ابن عباس رضي الله عنه شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم صلوا قبل الخطبة بلا أذان

ولا إقامة والسنة أن ينادي لها الصلاة جامعة لما روي عن الزهري أنه كان ينادي به. فصل: وصلاة العيد ركعتان لقول عمر رضي الله عنه صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى والسنة أن تصلى جماعة لنقل الخلف عن السلف والسنة أن يكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام والركوع لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الصلاة والتكبيرات قبل القراءة لما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً قبل القراءة فإن حضر وقد سبقه الإمام بالتكبيرات أو ببعضها لم يقض لأنه ذكر مسنون فات محله فلم يقضه كدعاء الاستفتاح وقال في القديم: يقضي لأن محله القيام وقد أدركه وليس بشيء والسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في العيد ويستحب أن يقف بين كل تكبيرتين بقدر أن يذكر الله تعالى لما روي أن الوليد بن عقبة خرج يوماً على عبد الله وحذيفة الأشعري وقال: إن هذا العيد غداً فكيف التكبير؟ فقال عبد الله بن مسعود: تكبر وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتكبر وتفعل مثل ذلك فقال الأشعري وحذيفة: صدق والسنة أن يقرأ بعد الفاتحة بقاف واقتربت لما روى أبو واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى ب "ق" "واقتربت الساعة" والسنة أن يجهر فيهما بالقراءة لنقل الخلف عن السلف. فصل: والسنة إذا فرغ من الصلاة أن يخطب لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا بكر ثم عمر رضي الله عنهما كانوا يصلون العيد قبل الخطبة والمستحب أن يخطب على المنبر لما روى جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم الأضحى فلما قضى خطبته نزل عن منبره وسلم على الناس إذا أقبل عليهم كما قلنا في الجمعة وهل يجلس قبل الخطبة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجلس لأن في الجمعة إنما يجلس لفراغ المؤذن من الأذان وليس في العيد أذان والثاني يجلس وهو المنصوص في الأم لأنه يستريح بها ويخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة ويجوز أن يخطب من قعود لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد على راحلته لأن صلاة العيد تجوز قاعداً فكذلك خطبتها بخلاف الجمعة والمستحب أن يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع لما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال:

هو من السنة ويأتي ببقية الخطبة على ما ذكرناه في الجمعة من ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية بتقوى الله وقراءة القرآن فإن كان في عيد الفطر علمهم صدقة الفطر وإن كان في الأضحى علمهم الأضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته "لا يذبحن أحدكم حتى يصلي1" ويستحب للناس استماع الخطبة لما روي عن ابن مسعود البدري أنه قال: يوم عيد من شهد الصلاة معنا فلا يبرح حتى يشهد الخطبة فإن دخل رجل والإمام يخطب فإن كان في المصلى استمع الخطبة ولا يشتغل بصلاة العيد لأن الخطبة من سنن العيد ويخشى فوتها فكان الاشتغال بالخطبة أولى وإن كان في المسجد ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة يصلي تحية المسجد ولا يصلي صلاة العيد لأن الإمام لم يفرغ من سنة العيد فلا يشتغل بالقضاء وقال أبو إسحاق المروزي: يصلي العيد لأنها أهم من تحية المسجد وآكد وإذا صلاها سقط بها التحية فكان الاشتغال بها أولى كما لو حضر وعليه مكتوبة. فصل: روى المزني أنه تجوز صلاة العيد للمنفرد والمسافر والعبد والمرأة وقال في الإملاء والقديم والصيد والذبائح: لا يصلي العبد حيث لا تصلى الجمعة فمن أصحابنا من قال فيها قولان: أحدهما أنهم لا يصلون لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمنى مسافراً يوم النحر فلم يصل ولأنها صلاة تشرع لها الخطبة واجتماع الكافة لم يفعلها المسافر كالجمعة والثاني أنهم يصلون وهو الصحيح لأنها صلاة نفل فجاز لهم فعلها كصلاة الكسوف ومن أصحابنا من قال: يجوز لهم فعلها قولاً واحداً وتأول ما قال في الإملاء والقديم على أنه أراد أن لا يصلي بالاجتماع والخطبة حيث لا تصلي الجمعة لأن في ذلك افتياتاً على السلطان. فصل:إذا شهد شاهدان يوم الثلاثين بعد الزوال برؤية الهلال ففيه قولان: أحدهما لا يقضي والثاني يقضي وهو الصحيح فإن أمكن جمع الناس صلى بهم في يومهم فإن لم يمكن صلى بهم من الغد لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومته قالوا: قامت بينة عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد الظهر أنهم رأوا الهلال هلال شوال فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا من الغد إلى المصلى وإن شهد ليلة الحادي والثلاثين صلوا قولاً واحداً ولا يكون ذلك قضاء لأن فطرهم غداً لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

_ 1 رواه البخاري في كتاب العيدين باب 5، 10. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 1-4. ابن ماجه في كتاب الأضاحي باب 12. أحمد في مسنده "3/113، 117".

"فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون وعرفتكم يوم تعرفون 1".

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 11. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 9.

باب التكبير

باب التكبير التكبير سنة في العيدين لما روى نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن العباس وعبد الله بن العباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن رضي الله عنهم رافعاً صوته بالتكبير فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى وأول وقت تكبير الفطر إذا غابت الشمس من ليلة الفطر لقوله عز وجل: {ولِتُكْمِلوا العِدّة ولِتُكبِّروا الله على مَا هَدَاكم} "البقرة: 185" إكمال العدة بغروب الشمس من ليلة الفطر وأما آخره ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال: أحدها ما روى المزني أنه يكبر إلى أن يخرج الإمام إلى الصلاة لأنه إذا حضر فالسنة أن يشتغل بالصلاة فلا معنى للتكبير والثاني ما رواه البويطي أنه يكبر حتى تفتتح الصلاة لأن الكلام مباح قبل أن تفتتح الصلاة فكن التكبير مستحباً والثالث قاله في القديم حتى ينصرف الإمام لأن الإمام والمأمومين مشغولون بالذكر إلى أن يفرغوا من الصلاة فسن لمن لم يكن في الصلاة أن يكبر ومن أصحابنا من قال هو على قول واحد أنه يكبر إلى أن تفتتح الصلاة وتأول رواية المزني على ذلك لأنه إذا خرج إلى المصلى افتتح الصلاة وقوله في القديم حتى ينصرف الإمام لأنه ما لم ينصرف مشغول بالتكبير في الصلاة ويسن التكبير المطلق في عيد الفطر وهل يسن التكبير المقيد في أدبار الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما لا يسن لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني أنه يسن لأنه عيد يسن له التكبير المطلق فيسن له التكبير المقيد كالأضحى والسنة في التكبير أن يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً لما روى ابن عباس أنه قال: الله أكبر ثلاثا وعن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: رأيت الأئمة رضي الله عنهم يكبرون أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً وعن الحسن مثله قال في الأم: وإن زاد زيادة فليقل بعد الثلاث الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على الصفا ويستحب رفع الصوت بالتكبير لما روي أن

النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين رافعاً صوته بالتهليل والتكبير لأنه إذا رفع صوته سمع من لم يكبر فيكبر فصل: وأما التكبير الأضحى ففي وقته ثلاثة أقوال: أحدهما يبتدأ بعد الظهر من يوم النحر إلى أن يصلي الصبح من آخر أيام التشريق والدليل على أنه يبتدأ بعد الظهر قوله عز وجل {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:200] المناسك تقضى يوم النحر ضحوة وأول صلاة تلقاهم الظهر والدليل على أنه يقطعه بعد الصبح أن الناس تبع للحاج وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح ثم يخرج والثاني يبتدأ بعد غروب الشمس من ليلة العيد قياساً على عيد الفطر وبقطعه إذا صلى الصبح من آخر أيام التشريق لما ذكرناه والثالث أنه يبتدأ بعد صلاة الصبح من يوم عرفة ويقطعه بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق لما روى عمر وعلي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في دبر كل صلاة بعد صلاة الصبح يوم عرفة إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق. فصل: السنة أن يكبر في هذه الأيام خلف الفرائض لنقل الخلف عن السلف وهل يكبر خلف النوافل؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال يكبر قولاً واحداً لأنها صلاة راتبة فأشبهت الفرائض ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يكبر لما قلناه والثاني لا يكبر لأن النفل تابع للفرض والتابع لا يكون له تبع ومن فاتته صلاة في هذه الأيام فأراد قضاءها في غيرها لم يكبر خلفها لأن التكبير يختص بهذه الأيام فلا يفعل في غيرها وإن قضاها في هذه الأيام ففيه وجهان: أحدهما يكبر لأن وقت التكبير باق والثاني لا يكبر لأن التكبير خلف هذه الصلوات يختص بوقتها وقد فات الوقت فلم يقض.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف وصلاة الكسوف سنة لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا

لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل فإذا رأيتموها فقوموا وصلوا1" والسنة أن يغتسل لها لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فيسن لها الغسل كصلاة الجمعة والسنة أن تصلي حيث تصلى الجمعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ولأنه يتفق في وقت لا يمكن قصد المصلي فيه وربما يجلى قبل أن يبلغ المصلي فيفوت فكان الجامع أولى والسنة أن يدعي لها الصلاة جامعة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رجلا أن ينادي الصلاة جامعة. فصل: وهي ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجودان والسنة أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو بقدرها ثم يركع ويسبح بقدر مائة آية ثم يرفع ويقرأ فاتحة الكتاب ويقرأ بقدر مائتي آية ثم يركع ويسبح بقدر تسعين آية ثم يسجد كما يسجد في غيرها وقال أبو العباس: يطيل السجود كما يطيل الركوع وليس بشيء لأن الشافعي رحمه الله لم يذكر ذلك ولا نقل في خبر ولو كان قد أطال لنقل كما نقل في القراءة والركوع ثم يصلي الركعة الثانية فيقرأ بعد الفاتحة قدر مائة آية وخمسين آية ثم يركع بقدر سبعين آية ثم يرفع ويقرأ بعد الفاتحة بقدر مائة آية ثم يركع بقدر خمسين آية ثم يسجد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال (كسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة ثم ركع ركوعاً طويلاً ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول ثم سجد وانصرف وقد انجلت الشمس) والسنة أن يسر بالقراءة في كسوف الشمس لما روى ابن عباس قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فصلى فقمت إلى جنبه فلم أسمع له قراءة ولأنها صلاة نهار لها نظير بالليل فلم يجهر فيها بالقراءة كالظهر ويجهر في كسوف القمر لأنها صلاة ليل لها نظير بالنهار فيسن لها الجهر كالعشاء. فصل: والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم فرغ من صلاته فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وتصدقوا2".

_ 1 رواه البخاري في كتاب الكسوف باب 1،6. مسلم في كتاب الكسوف حديث 6، 10. النسائي في كتاب الكسوف باب 1، 4 الدارمي في كتاب الصلاة باب 187. 2 المصدر السابق.

فصل: فإن لم يصل حتى تجلت لم يصل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوا حتى تنجلي" فإن تجلت وهو في الصلاة أتمها لأنها صلاة أصل فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصلوات وإن تجللتها غمامة وهي كاسفة صلى لأن الأصل بقاء الكسوف وإن غربت الشمس كاسفة لم يصل لأنه لا سلطان لها بالليل وإن غاب القمر وهو كاسف فإن كان قبل طلوع الفجر صلى لأنه سلطان باق وإن غاب بعد طلوع الفجر ففيه قولان: قال في القديم: لا يصلي لأنه سلطانه بالليل وقد ذهب الليل وقال في الجديد: يصلي لأن سلطانه باق ما لم تطلع الشمس لأنه ينتفع بضوئه وإن صلى ولم تنجل مرة أخرى لأنه لم ينقل ذلك عن أحد ولا تسن صلاة الجماعة لآية غير الكسوف كالزلازل وغيرها لأن هذه الآيات قد كانت ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لها جماعة غير الكسوف. فصل: وإن اجتمعت صلاة الكسوف مع غيرها قدم أخوفهما فوتاً فإن استويا في الفوت قدم آكدهما فإن اجتمعت مع صلاة الجنازة قدمت صلاة الجنازة لأنها يخشى عليها التغير والانفجار وإن اجتمعت مع المكتوبة في أول الوقت بدأ بصلاة الكسوف لأنه يخاف فوتها بالتجلي وإذا فرغ بدأ بالمكتوبة قبل الخطبة للكسوف لأن المكتوبة يخاف فوتها والخطبة لا يخاف فوتها وإن اجتمعت معها في آخر الوقت بدأ بالمكتوبة لأنهما استويا في خوف الفوت والمكتوبة آكد فكان تقديمها أولى وإن اجتمعت مع الوتر في آخر وقتها قدمت صلاة الكسوف لأنهما استويا في الوقت وصلاة الكسوف آكد فكانت بالتقديم أولى.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء وصلاة الاستسقاء سنة لما روى عباد بن تميم عن عمه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه واستسقى والسنة أن

يكون في المصلى لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ولأن الجمع يكثر فكان في المصلى أرفق بهم. فصل: إذا أراد الإمام الخروج إلى الاستسقاء وعظ الناس وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي قبل أن يخرج لأن المظالم والمعاصي تمنع المطر والدليل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله أنه قال: "إذا بخس المكيال حبس القطر" وقال مجاهد في قوله عز وجل {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] قال دواب الأرض تلعنهم تقول تمنع القطر خطاياهم ويأمرهم بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ويخرجون في اليوم الرابع وهم صيام لقوله صلى الله عليه وسلم "دعوة الصائم لا ترد" ويأمرهم بالصدقة لأنه أرجى للإجابة ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا فسقوا ويستسقى بأهل الصلاح لما روي أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود يا يزيد إرفع يديك إلى الله عز وجل فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فثارت سحابة من المغرب كأنها ترش وهبت لها ريح فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم ويستسقى بالشيوخ والصبيان لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا صبيان رضع وبهائم رتع وعباد لله ركع لصب عليهم العذاب صبا" قال في الأم: ولا آمر بإخراج البهائم وقال أبو إسحاق: استحب إخراج البهائم لعل الله يرحمهما لما روي أن سليمان عليه السلام خرج يستسقي فرأى نملة تستسقي فقال ارجعوا فإن الله تعالى سقاكم بغيركم ويكره إخرج الكفار للاستسقاء لأنهم أعداء الله فلا يجوز أن يتوسل بهم إليه فإن حضروا وتميزوا لم يمنعوا لأنهم جاؤوا في طلب الرزق والمستحب أن يتنظف للاستسقاء بغسل وسواك لأنها صلاة يسن لها الاجتماع

والخطبة فيشرع لها الغسل كصلاة الجمعة ولا يستحب أن يتطيب لها لأن الطيب للزينة وليس هذا وقت زينة ويخرج متواضعاً متبذلاً لما روى ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متضرعاً ولا يؤذن لها ولا يقام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا والمستحب أن ينادي لها الصلاة جامعة لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة ولا يسن لها الأذان والإقامة فيسن لها الصلاة جامعة كصلاة الكسوف. فصل: وصلاته ركعتان كصلاة العيد ومن أصحابنا من قال: يقرأ في الأولى بقاف وفي الثانية سورة نوح لأنها فيها ذكر الاستسقاء والمذهب أنه يقرأ فيها ما يقرأ في العيد لما روي أن مروان أرسل إلى ابن عباس سأله عن سنة الاستسقاء فقال: سنة الاستسقاء الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل يمينه يساره ويساره يمينه وصلى ركعتين فكبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ سبح اسم ربك وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية وكبر خمس تكبيرات والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة لحديث أبي هريرة والمستحب أن يدعو في الخطبة الأولى فيقول: أللهم اسقنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً مجللاً طبقاً سحاً عاماً دائماً أللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين أللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكو إلا إليك أللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا

من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض أللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك أللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل الماء علينا مدراراً والمستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويحول ما على الأيمن إلى الأيسر وما على الأيسر إلى الأيمن لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة ودعا وحول رداءه فجعل الأيمن على اليسر والأيسر على الأيمن فإن كان الرداء مربعاً نكسه فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وإن كان مدوراً اقتصر على التحويل لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه ويستحب للناس أن يفعلوا مثل ذلك لما روي في حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول رداءه وقلب ظهر البطن وحول الناس معه قال الشافعي رحمه الله: وإذا حولوا أرديتهم تركوها محولة لينزعوها مع الثياب لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم غيرها بعد التحويل ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سراً ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار ليكون أبلغ ولهذا قال الله تعالى {إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:9] ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ويستحب أن يكثر من الاستغفار ومن قوله تعالى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [هود:52] لما روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه خرج يستسقي فصعد المنبر فقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ

غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:12] {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ثم نزل فقيل له يا أمير المؤمنين لو استسقيت فقال: لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر. فصل: قال في الأم: فإن صلوا ولم يسقوا عادوا من الغد وصلوا واستسقوا فإن سقوا قبل أن يصلوا صلوا شكراً لله وطلباً للزيادة ويجوز الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة لحديث عمر رضي الله عنه ويستحب لأهل الخصب أن يدعوا لأهل الجدب ويستحب إذا جاء المطر أن يقول أللهم صيباً هنيئاً لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال ذلك ويستحب أن يتمطر لأول مطر لما روى أنس قال: أصابنا مطر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابه المطر فقلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم صنعت هذا؟ قال "إنه حديث عهد بربه" ويستحب إذا سال الوادي أن يغتسل فيه ويتوضأ لما روي أنه جرى الوادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اخرجوا بنا إلى هذا الذي سماه الله طهوراً حتى نتوضأ منه ونحمد الله عليه" ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح لما روى ابن عباس قال: كنا مع عمر رضي الله عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق وبرد فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثاً عوفي من ذلك الرعد فقلنا فعوفينا.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز باب ما يفعل بالميت المستحب لكل احد أن يكثر ذكر الموت لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "إستحيوا من الله حق الحياء" قالوا إنا نستحي يا نبي الله والحمد لله قال: "ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء1" وينبغي أن يستعد للموت بالخروج من المظالم والإقلاع من المعاصي والإقبال على الطاعات لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر جماعة يحفرون قبراً فبكى حتى بل الثرى بدموعه وقال: إخواني لمثل هذا فأعدوا. فصل: ومن مرض استحب له أن يصبر لما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يشفيني؟ فقال "إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك" فقالت: أصبر ولا حساب علي ويستحب أن يتداوى لما

_ 1 رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 24. أحمد في مسنده "1/387".

روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام1" ويكره أن يتمنى الموت لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يتمنين أحدكم الموت لضيق نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل أللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي2" وينبغي أن يكون حسن الظن بالله عز وجل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل3" ويستحب عيادة المريض لما روى البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المرضى فإن رجاه دعا له والمستحب أن يقول أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عاد مريضاً لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك عافاه الله تعالى من ذلك المرض4" وإن رآه منزولاً به فالمستحب أن يلقنه قول لا إله إلا الله لما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله5" وروى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان أخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة6" ويستحب أن يقرأ عنده سورة يس لما روى معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤوا على موتاكم يعني يس7" ويستحب أن يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة لما روت سلمى أم ولد رافع قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعي فراشي ههنا واستقبلي بي القبلة ثم قامت واغتسلت كأحسن ما يغتسل ولبست ثياباً جدداً ثم قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن ثم استقبلت القبلة وتوسدت يمينها.

_ 1رواه الترمذي في كتاب الطب باب 2. أبو داود في كتاب الطب باب 1، 11 ابن ماجه في كتاب الطب باب 1. أحمد في مسنده "3/156". 2 رواه البخاري في كتاب المرضى باب 19. مسلم في كتاب الذكر حديث 10 النسائي في كتاب الجنائز باب 1. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. الدارمي في كتاب الرقاق باب 45. 3 رواه مسلم في كتاب الجنة حديث 81، 82. أبو داود في كتاب الجنائز باب 13. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 14. أحمد في مسنده "3/293،315". 4 رواه أحمد في مسنده "1/196". 5 رواه مسلم في كتاب الجنائز حديث 1،2. أبو داود في كتاب الجنائز باب 16، الترمذي في كتاب الجنائز باب 7. أحمد في مسنده" 3/3". 6 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 1،. أبو داود في كتاب الجنائز باب 16. 7 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 20. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 4. أحمد في مسنده "5/26، 27".

فصل: فإذا مات تولى أرفقهم به إغماض عينيه لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة فأغمض بصره ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" ولأنه إذا لم يغمض بقيت مفتوحة فيقبح منظره ويشد حييه بعصابة لأنه إذا لم يفعل ذلك استرخى لحياه وانفتح فوه وقبح منظره وربما دخل إلى فيه شيء من الهوام وتلين مفاصله لأنه أسهل في الغسل ولأنها تبقى جافية فلا يمكن تكفينه وتخلع ثيابه لأن الثياب تحمى الجسم فيسرع إليه التغيير والفساد ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره ويجعل على بطنه حديدة لما روي أن مولى أنس مات فقال أنس: ضعوا على بطنه حديدة لئلا ينتفخ فإن لم تكن جديدة جعل عليه طين رطب ويسجى بثوب لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي بثوب حبرة ويسارع إلى قضاء دينه والتوصل إلى إبرائه منه لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى" ويبادر إلى تجهيزه لما روى علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا تؤخر وهن الصلاة والجنازة والأيم إذا وجدت كفؤاً1" فإن مات فجأة ترك حتى يتيقن موته.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 13. كتاب الجنائز باب 73. أحمد في مسنده "1/105".

باب غسل الميت

باب غسل الميت وغسل الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي سقط من بعيره إغسلوه بماء وسدر فإن كان الميت رجلاً لا زوجة له فأولى الناس بغسله الأب ثم الجد ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم لأنهم أحق بالصلاة عليه فكانوا أحق بالغسل وإن كان له زوجة جاز لها غسله لما روت عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أسماء بنت عميس لتغسله وهل تقدم على العصبات؟ فيه وجهان: أحدهما أنها يقدم لأنها تنظر منه إلى ما لا تنظر العصبات وهو ما بين السرة والركبة والثاني يقدم العصبات لأنهم أحق بالصلاة عليه وإن ماتت امرأة ولم يكن لها زوج غسلها النساء وأولاهن ذات رحم محرم ثم ذات رحم غير محرم ثم الأجنبية فإن لم يكن نساء غسلها الأقرب فالأقرب من الرجال على ما ذكر وإن كان لها زوج جاز له أن يغسلها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً وأقول وارأساه فقال: "بل أنا يا عائشة وارأساه ثم قال وما ضرك لم مت قبلي لغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك" وهل يقدم على النساء على وجهين: أحدهما يقدم لأنه ينظر إلى ما لا ينظر النساء منها والثاني تقدم النساء على الترتيب الذي ذكرناه فإن لم يكن نساء فأولى الأقرباء بالصلاة فإن لم يكن فالزوج وإن طلق زوجته طلقة رجعية ثم مات أحدهما قبل الرجعة لم يكن للآخر غسله لأنها محرمة عليه تحريم المبتوتة وإن مات رجل ولم يكن هناك إلا امرأة أجنبية أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي ففيه وجهان: أحدهما ييمم والثاني يستر بثوب ويجعل الغاسل على يده خرقة ثم يغسله فإن مات كافر فأقاربه الكفار أحق بغسله من أقاربه المسلمين لأن للكافر عليه ولاية وإن لم يكن أقارب من الكفار جاز لأقاربه من المسلمين غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يغسل أباه وإن ماتت ذمية ولها زوج مسلم كان له غسلها لأن النكاح كالنسب في الغسل وإن مات الزوج قال في الأم: كرهت لها أن تغسله فإن

غسلته أجزأه لأن القصد منه التنظيف وذلك يحصل بغسلها وإن مات هل لها غسله؟ فيه وجهان: قال أبو علي الطبري لا يجوز لأنها عتقت بموته فصارت أجنبية والثاني يجوز لأنه لما جاز له غسلها جاز لها غسله كالزوجة. فصل: وينبغي أن يكون الغاسل أميناً لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون ولأنه إذا لم يكن أميناً لم يأمن أن لا يستوفي الغسل وربما ستر ما يظهر من جميل أو يظهر ما يرى من قبيح ويستحب أن يستر الميت عن العيون لأنه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه وربما اجتمع في موضع من بدنه دم فيراه من لا يعرف فيظن أن ذلك عقوبة وسوء عاقبة ويستحب أن لا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية وإن احتاج إلى معين استعان بمن لا بد له منه ويستحب أن يكون بقربه مجمرة حتى إذا كانت له رائحة لم تظهر والأولى أن يغسل في قميص لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلوه وعليه قميص يصبون عليه الماء ويدلكونه من فوقه ولأن ذلك أستر فكان أولى والماء البارد أولى من الماء المسخن لأن البارد يقويه والمسخن يرخيه وإن كان به وسخ لا يزيله إلا المسخن أو البرد شديداً ويخاف الغاسل من استعمال البارد غسله بالمسخن وهل تجب نية الغسل؟ فيه وجهان: أحدهما لا تجب لأن القصد منه التنظيف فلم تجب فيه النية كإزالة النجاسة والثاني تجب لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فوجبت فيه النية كغسل الجنابة ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورته لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ويستحب أن لا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لا بد منه ولا يجوز أن يمس عورته لأنه إذا لم يجز النظر فالمس أولى ويستحب أن لا يمس سائر بدنه لما روي أن علياً كرم الله وجهه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يتبع بها ما تحت القميص. فصل: والمستحب أن يجلسه إجلاساً رفيقاً ويمسح بطنه مسحاً بليغاً لما روى القاسم بن محمد قال: توفي عبد الله بن عبد الرحمن فغسله ابن عمر فنفضه نفضاً شديداً عصره عصراً شديداً ثم غسله ولأنه ربما كان في جوفه شيء فإذا لم يعصره قبل الغسل خرج بعده وربما خرج بعد ما كفن فيفسد الكفن وكلما أمر اليد على البطن صب عليه ماء كثيراً حتى إن خرج شيء لم تظهر رائحته ثم يبدأ فيغسل أسافله كما يفعل الحي إذا أراد الغسل ثم يوضأ كما يتوضأ الحي لما روت أم عطية قالت: لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إبدؤوا بميامنها ومواضع الوضوء ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل ويدخل أصبعه في فيه ويسوك بها أسنانه ولا يفغر فاه ويتتبع ما تحت أظافره

إن لم يكن قد قلم أظافره ويكون ذلك بعود لين لا يجرحه ثم يغسله ويكون كالمنحدر قليلاً حتى لا يجتمع الماء تحته فيستنقع فيه ويفسد بدنه ويغسله ثلاثاً كما يفعل الحي في وضوئه وغسله فيبدأ برأسه ولحيته كما يفعل الحي فإن كانت اللحية متلبدة سرحها حتى يصل الماء إلى الجميع ويكون بمشط منفرج السنان ويمشطه برفق حتى لا ينتف شعره ثم يغسل شقه الأيمن حتى ينتهي إلى رجله ثم شقه الأيسر حتى ينتهي إلى رجله ثم يجرفه على جنبه الأيسر فيغسل جانب ظهره كذلك لحديث أم عطية والمستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء والسدر لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره: "إغسلوه بماء وسدر" ولأن السدر ينظف الجسم ثم يغسل بالماء القراح شيئاً من الكافور لما روت أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان في آخر غسلة من الثلاث أو غيرها فاجعلي فيه شيئاً من الكافور" ولأن الكافور يقويه وهل يستحب الغسل بالسدر من الثلاث أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يعتد به لأنه غسل بما لم يخالطه شيء ومن أصحابنا من قال: لا يعتد به لأنه ربما غلب عليه السدر فعلى هذا يغسل ثلاث مرات أخر بالماء القراح والواجب منها مرة واحدة كما قلنا في الوضوء ويستحب أن يتعاهد إمرار اليد على البطن في كل مرة فإن غسل الثلاث ولم يتنظف زاد حتى يتنظف والسنة أن يجعله وتراً خمساً أو سبعاً لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن" والفرض مما ذكرناه النية وغسل مرة واحدة وإذا فرغ من غسله أعيد تليين أعضائه وينشف بثوب لأنه إذا كفن وهو رطب ابتل الكفن وفسد وإن غسل ثم خرج منه شيء ففيه ثلاث أوجه: أحدهما يكفيه غسل الموضع كما لو غسل ثم أصابته نجاسة من غيره والثاني يجب منه الوضوء لأنه حدث فأوجب الوضوء كحدث الحي والثالث يجب الغسل منه لأنه خاتمة أمره فكان بطهارة كاملة وإن تعذر غسله لعدم الماء أو غيره يمم لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فانتقل فيه عند العجز إلى التيمم كالوضوء وغسل الجنابة.

فصل: وفي تقليم أظافره وحف شاربه وحلق عانته قولان: أحدهما يفعل ذلك لأنه تنظيف فشرع في حقه كإزالة الوسخ والثاني يكره وهو قول المزني لأنه قطع جزء منه فهو كالختان قال الشافعي رحمه الله: ولا يحلق شعر رأسه وقال أبو إسحاق: إن لم يكن له جمة حلق رأسه لأنه تنظيف فهو كتقليم الأظافر والمذهب الأول لأن حلق الرأس يراد للزينة لا للتنظيف. فصل: وإن كانت امرأة غسلت كما يغسل الرجل وإن كان لها شعر جعل ثلاث ذوائب وتلقى خلفها لما روت أم عطية في وصف غسل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ضفرنا ناصيتها وقرناها ثلاث قرون ثم ألقيناها خلفها. فصل: ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فليغتسل1" ولا يجب ذلك وقال في البويطي: إن صح الحديث قلت بوجوبه والأول أصح لأن الميت طاهر ومن غسل طاهراً لم يلزمه بغسله طهارة كالجنب وهل هو آكد أو غسل الجمعة؟ فيه قولان: قال في القديم: غسل الجمعة آكد لأن الأخبار فيه أصح وقال في الجديد: الغسل من غسل الميت آكد وهو الأصح لأن غسل الجمعة غير واجب والغسل من غسل الميت متردد بين الوجوب وغيره ويستحب للغاسل إذا رأى من الميت ما يعجبه أن يتحدث به وإن رأى ما يكره لم يجز أن يتحدث به لما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 35. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 8. أحمد في مسنده "2/280، 454".

باب الكفن

باب الكفن تكفين الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي خر من بعيره "كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما" ويجب ذلك في ماله للخير ويقدم على الدين كما تقدم كسوة المفلس على ديون غرمائه فإن قال بعض الورثة أنا أكفنه من مالي وقال بعضهم بل يكفن

من التركة كفن من التركة لأن في تكفين بعض الورثة من ماله منة على الباقين فلا يلزم قبولها وإن كانت امرأة لها زوج ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجب على الزوج لأنه من لزمه كسوتها في حال الحياة لزمه كفنها بعد الوفاة كالأمة مع السيد وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجب في مالها لأنها بالموت صارت أجنبية منه فلم يلزمه كفنها والأول أصح لأن هذا يبطل بالأمة فإنها صارت بالموت أجنبية من مولاها ثم يجب عليه تكفينها فإن لم يكن لها مال ولا زوج فالكفن على من يلزمه نفقتها اعتباراً بالكسوة في حال الحياة. فصل: وأقل ما يجزيء ما يستر العورة كالحي ومن أصحابنا من قال أقله ثوب يعم البدن لأن ما دونه لا يسمى كفناً والأول أصح والمستحب أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب إزار ولفافتين لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة فإن كفن في خمسة أثواب لم يكره لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة ولأن أكمل ثياب الحي خمسة: قميصان وسراويل وعمامة ورداء وتكره الزيادة على ذلك لأنه سرف وإن قال بعض الورثة يكفن بثوب وقال بعضهم يكفن بثلاثة ففيه وجهان: أحدهما يكفن بثوب لأنه يعم ويستر والثاني يكفن بثلاثة أثواب لأنه هو الكفن المعروف المسنون والأفضل أن لا يكون فيه قميص ولا عمامة لحديث عائشة رضي الله عنها فإن جعل فيها قميص وعمامة جعل ذلك تحت الثياب لأن إظهاره زينة وليس الحال حال زينة والمستحب أن يكون الكفن أبيض لحديث عائشة رضي الله عنها والمستحب أن يكون حسناً لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه1" ويكره المغالاة في الكفن لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا

_ 1 رواه أحمد في مسنده "3/381".

تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً1" والمستحب أن يبخر الكفن ثلاثاً لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً". فصل: والمستحب أن يبسط أحسنها وأوسعها ثم الثاني ثم الذي يلي الميت إعتباراً بالحي فإنه يجعل أحسن ثيابه وأوسعها فوق الثياب وكلما فرش ثوباً نثر فيه الحنوط ثم يحمل الميت إلى الأكفان مستوراً ويترك على الكفن مستلقياً على ظهره ويؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ويشد عليه كما يشد التبان ويستحب أن يؤخذ القطن ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى خراج نافذ إن كان عليه ليخفي ما يظهر من رائحته ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السجود لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يتتبع بالطيب مساجده ولأن هذه المواضع شرفت بالسجود فخصت بالطيب قال: وأحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور لأن ذلك يقوي البدن ويشده ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب قال في البويطي: فإن حنط بالمسك فلا بأس لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسك من أطيب الطيب2" وهل يجب الحنوط والكافور أم لا؟ فيه قولان وقيل فيه وجهان: أحدهما يجب لأنه جرت به العادة في الميت فكان واجباً كالكفن والثاني أنه لا يجب كما لا يجب الطيب في حق المفلس وإن وجبت الكسوة.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 31. 2 رواه مسلم في كتاب الألفاظ حديث 18، 19. أبو داود في كتاب الجنائز باب 33. الترمذي في كتاب الجنائز باب 6. أحمد في مسنده "3/31،47".

فصل: ثم يلف في الكفن ويجعل ما يلي الرأس أكثر كالحي ما على رأسه أكثر قال الشافعي رحمه الله: وتثنى صنفة الثوب التي تلي الميت فيبدأ بالأيسر على الأيمن وبالأيمن على الأيسر وقال في موضع: يبدأ بالأيمن على الأيسر ثم بالأيسر على الأيمن فمن أصحابنا من جعلها على قولين: أحدهما يبدأ بالأيسر على الأيمن والثاني يبدأ بالأيمن على الأيسر ومنهم من قال هي على قول واحد أنه تثنى صنفة الثوب الأيسر على جانبه الأيمن وصنفة الثوب الأيمن على جانبه الأيسر كما يفعل الحي بالساج وهو الطيلسان وهذا هو الأصح لأن في الطيلسان ما على الجانب الأيسر هو الظاهر ثم يفعل ذلك في بقية الأكفان وما يفضل من عند الرأس يثنى على وجهه وصدره فإن احتيج إلى شد الأكفان شدت ثم تحل عند الدفن لأنه يكره أن يكون معه في القبر شيء معقود فإن لم يكن له إلا ثوب قصير لا يعم البدن غطى رأسه وترك الرجل لما روي أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة فكان إذا غطى بها رأسه بدت رجلاه وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر". فصل: وأما المرأة فإنها يكفن بخمسة أثواب: إزار وخمار وثلاثة أثواب وهل يكون أحد الثلاثة درعاً؟ فيه قولان: أحدهما أن أحدها درع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أم عطية في كفن ابنته أم كلثوم إزار ودرعاً وخماراً وثوبين ملاء والثاني أنه لا يكون فيه درع لأن القميص إنما تحتاج إليه المرأة لتستتر به في تصرفها والميت لا يتصرف فإن قلنا لا درع فيها أزرت بإزار وتخمر بخمار وتدرج في ثلاثة أثواب فإذا قلنا يكون فيها درع أزرت بإزار وتلبس الدرع وتخمر بخمار وتدرج في ثوبين قال الشافعي رحمه الله: ويشد على صدرها ثوب ليضم ثيابها فلا تنتشر وهل يحل عنها الثوب عند الدفن أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو العباس: يدفن معها وعليه يدل كلام الشافعي فإنه ذكر أنه يشد ولم يذكر أنه يحل وقال أبو إسحاق: ينحى عنها في القبر وهو الأصح لأنه ليس من جملة الكفن.

فصل: إذا مات محرم لم يقرب الطيب ولم يلبس المخيط ولم يخمر رأسه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً وإن ماتت معتدة عن وفاة ففيه وجهان: أحدهما لا تقرب الطيب لأنها ماتت والطيب محرم عليها فلم يسقط تحريمه بالموت كالمحرمة والثاني تقرب الطيب لأن الطيب حرم عليها في العدة حتى لا يدعو ذلك إلى نكاحها وقد زال ذلك بالموت.

باب الصلاة على الميت

باب الصلاة على الميت الصلاة على الميت فرض كفاية لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله" وفي أدنى ما يكفي قولان: أحدهما ثلاثة لأن قوله صلوا خطاب جمع وأقل الجمع ثلاثة والثاني يكفي أن يصلي عليه واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة فلم يكن من شرطها العدد كسائر الصلوات ويجوز فعلها في جميع الأوقات لأنها صلاة لها سبب فجاز فعلها في كل وقت ويجوز فعلها في المسجد وغيره لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد والسنة أن يصلي في جماعة لما روى مالك بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت1" وتجوز فرادى لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات فصلى الناس فوجاً فوجاً وإن اجتمع نسوة لا رجل معهن صلين عليه فرادى لأن النساء لا يسن لهن الجماعة في الصلاة على الميت فإن صلين جماعة فلا بأس. فصل: ويكره نعي الميت للناس والنداء عليه للصلاة لما روي عن حذيفة أنه قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً فإني أخاف أن يكون نعياً وقال عبد الله: الإيذان بالميت نعي الجاهلية. فصل: وأولى الناس بالصلاة عليه الأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 39.

ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم على ترتيب العصبات لأن القصد من الصلاة على الميت الدعاء للميت ودعاء هؤلاء أرجى للإجابة فإنهم أفجع بالميت من غيرهم فكانوا بالتقديم أحق وإن اجتمع أخ من أب وأم وأخ من أب فالمنصوص أن الأخ من الأب والأم أولى ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما هذا والثاني أنهما سواء لأن الأم لا مدخل لها في التقديم في الصلاة على الميت فكان في الترجيح بها قولان كما نقول في ولاية النكاح ومنهم من قال الأخ من الأب والأم أولى قولاً واحداً لأن الأم وإن لم يكن لها مدخل في التقديم إلا أن لها مدخلاً في الصلاة على الميت فرجح بها قولاً واحداً كما نقول في الميراث يقدم بها الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب حين كان لها مدخل في الميراث وإن لم يكن لها مدخل في التعصيب قال الشافعي رحمه الله: وإن اجتمع وليان في درجة قدم الأسن لأن دعاءه أرجى إجابة فإن لم يوجد الأسن قدم الأقرأ الأفقه لأنه أفضل وصلاته أكمل فإن استويا أقرع بينهما لأنهما تساويا في التقديم فأقرع بينهما وإن اجتمع حر وعبد وهو أقرب إليه من الحر فالحر أولى لأن الحر من أهل الولاية والعبد ليس من أهل الولاية وإن اجتمع الوالي والولي المناسب ففيه قولان: قال في القديم: الوالي أولى لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤم الرجل في سلطانه" وقال في الجديد: الولي أولى لأنها ولاية ترتيب فيها العصبات فقدم على الوالي كولاية النكاح. فصل: ومن شرط صحة صلاة الجنازة الطهارة وستر العورة لأنها صلاة فشرط فيها الطهارة وستر العورة كسائر الصلوات ومن شرطها القيام واستقبال القبلة لأنها صلاة مفروضة فوجب فيها القيام واستقبال القبلة مع القدرة كسائر الفرائض والسنة أن يقف الإمام فيها عند رأس الرجل وعند عجيزة المرأة وقال أبو علي الطبري السنة أن يقف عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة والمذهب الأول لما روي أن أنساً صلى على رجل فقام عند رأسه وعلى امرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن زياد هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة عند عجيزتها وعلى الرجل عند رأسه؟ قال: نعم فإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم فإن كان رجل وصبي وامرأة وخنثى قدم الرجل إلى الأمام

ثم الصبي ثم الخنثى المشكل ثم المرأة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة وروى عمار بن أبي عمار أن زيد بن عمر بن الخطاب وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا فصلى عليهما سعيد بن العاص فجعل زيداً مما يليه وأمه مما يلي القبلة وفي القوم الحسن والحسين وأبو هريرة وابن عمر ونحو ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين والأفضل أن يفرد كل واحد بصلاة فإن صلى عليهم صلاة واحدة جاز لأن القصد من الصلاة عليهم الدعاء لهم وذلك يحصل بالجمع في صلاة واحدة فصل: إذا أراد الصلاة نوى الصلاة على الميت وذلك فرض لأنها صلاة فوجب لها النية كسائر الصلوات ثم يكبر أربعاً لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الميت أربعاً وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن والتكبيرات الأربع واجبة والدليل عليه أنها إذا فاتت وجب قضاؤها ولو لم تكن واجبة لم يجب قضاؤها كتكبيرات العيد والسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه على الجنازة في كل تكبيرة وعن عبد الله بن عمر والحسن بن علي رضي الله عنهم مثله وعن زيد ابن ثابت وقد رأى رجلاً فعل ذلك فقال أصاب السنة ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فيسن لها رفع اليدين كتكبيرة الإحرام في سائر الصلوات. فصل: ويقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب لما روى جابر وهي فرض من فروضها لأنها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة كسائر الصلوات وفي قراءة السورة وجهان: أحدهما يقرأ سورة قصيرة لأن كل صلاة قرأ فيها الفاتحة قرأ فيها السورة كسائر الصلوات والثاني أنه لا يقرأ لأنها مبنية على الحذف والاختصار والسنة في قراءتها الإسرار لما روي أن ابن عباس صلى بهم على جنازة فكبر ثم قرأ بأم القرآن فجهر بها ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال: إنما جهرت بها لتعلموا أنها هكذا ولا فرق بين أن يصلي بالليل أو النهار وقال أبو القاسم الداركي: إن كانت الصلاة بالليل جهر فيها بالقراءة لأن لها نظيراً بالنهار يسر فيها فجهر فيها كالعشاء وهذا لا يصح لأن صلاة العشاء صلاة راتبة في وقت من الليل ولها نظير راتب في وقت من النهار يسن في نظيرها الإسرار فيسن فيها الجهر وصلاة الجنازة صلاة واحدة ليس لها وقت تختص به من ليل أو نهار بل يفعل ذلك في الوقت الذي يوجد فيه سببها وسنتها الإسرار فلم يختلف فيها الليل والنهار وفي دعاء التوجه والتعوذ عند القراءة في هذه التكبيرة وجهان: قال عامة أصحابنا: لا يأتي به لأنها مبنية على الحذف والاختصار فلا تحتمل التطويل

والإكثار وقال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله: يأتي به لأن التوجه يراد لافتتاح الصلاة والتعوذ يراد للقراءة وفي هذه الصلاة وافتتاح وقراءة فوجب أن يأتي بذكرهما. فصل: ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التكبيرة الثانية لما ذكرناه من حديث ابن عباس وهو فرض من فروضها لأنها صلاة فوجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الصلوات. فصل: ويدعو للميت في التكبيرة الثانية لما روى أبو قتادة قال: صلى صلى الله عليه وسلم على جنازة فسمعته يقول: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا" وفي بعضها "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام والإيمان" وهو فرض من فروضها لأن القصد من هذه الصلاة الدعاء للميت فلا يجوز الإخلاف بالمقصود وأدنى الدعاء ما يقع عليه الاسم والسنة أن يقول ما رواه أبو قتادة وذكره الشافعي رحمه الله قال: يقول اللهم هذا عبدك وابن عبديك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به أللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له أللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين وبأي شيء دعا جاز لأنه قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية مختلفة فدل على أن الجميع جائز. فصل: قال في الأم: يكبر في الرابعة ويسلم وقال في البويطي يقول: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده والتسليم كالتسليم في سائر الصلوات لما روي عن عبد الله أنه قال: ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن وتركهن الناس: إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة والتسليم واجب لأنها صلاة يجب لها الإحرام فوجب الخروج منها بالسلام كسائر الصلوات وهل يسلم تسليمة أو تسليمتين على ما ذكرناه في سائر الصلوات.

فصل: إذا أدرك الإمام وقد سبقه ببعض الصلاة كبر ودخل في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا1" ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته لا ما يقرؤه الإمام لأنه يمكنه أن يأتي بما يقتضيه ترتيب الصلاة مع المتابعة فإذا سلم الإمام أتى بما بقي من التكبيرات نسقاً من غير دعاء في أحد القولين لأن الجنازة ترفع قبل أن يفرغ فلا معنى للدعاء بعد غيبة الميت ويدعو للميت ثم يكبر ويسلم في القول الثاني لأن غيبة الميت لا تمنع من فعل الصلاة. فصل: إذا صلى على الميت بودر إلى دفنه ولا ينتظر حضور من يصلي عليه إلا الولي فإنه ينتظر إذا لم يخش على الميت التغير فإن خيف عليه التغير لم ينتظر وإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه وإن حضر من صلى مرة فهل يعيد الصلاة مع من يصلي؟ فيه وجهان: أحدهما يستحب كما يستحب في سائر الصلوات أن يعيدها مع من يصلي جماعة والثاني وهو الصحيح أنه لا يعيد لأنه يصليها نافلة وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها وإن حضر من لم يصل بعد الدفن صلى على القبر لما روي أن مسكينة ماتت ليلاً فدفنوها ولم يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها من الغد وإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟ فيه أربعة أوجه: أحدها يصلي عليه إلى شهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر والثاني يصلي عليه ما لم يبل لأنه إذا بلي لم يبق ما يصلي عليه والثالث يصلي عليه من كان من أهل الفرض عند موته لأنه كان من أهل الخطاب بالصلاة عليه وأما من ولد بعده أو بلغ بعد موته فلا يصلي عليه لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه والرابع أنه يصلي عليه أبداً لأن القصد من الصلاة على الميت الدعاء والدعاء يجوز في كل وقت. فصل: وتجوز الصلاة على الميت الغائب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لأصحابه وهو بالمدينة فصلى عليه وصلوا خلفه وإن كان الميت معه في البلد لم يجز أن يصلي عليه حتى يحضر عنده لأنه يمكنه الحضور من غير مشقة. فصل: وإن وجد بعض الميت غسل وصلي عليه لأن عمر رضي الله عنه صلى على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس وصلت الصحابة رضي الله عنهم على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ألقاها طائر بمكة من وقعة الجمل.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 20،21. الترمذي في كتاب الصلاة باب 127. النسائي في كتاب الإمامة باب 57. الدارمي في كتاب الصلاة باب 59. الموطأ في كتاب النداء حديث4.

فصل: إذا استهل السقط أو تحرك ثم مات غسل وصلي عليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استهل السقط غسل وصلي عليه وورث1" ولأنه قد ثبت له حكم الدنيا في الإسلام والميراث والدية فغسل وصلى عليه كغيره وإن لم يستهل ولم يتحرك فإن لم يكن له أربعة أشهر كفن بخرقة ودفن وإن تم له أربعة أشهر ففيه قولان: قال في القديم: يصلى عليه لأنه نفخ فيه الروح فصار كمن استهل وقال في الأم: لا يصلى عليه وهو الأصح لأنه لم يثبت له حكم الدنيا في الإرث وغيره فلم يصل عليه فإن قلنا يصلى عليه غسل كغير السقط وإن قلنا لا يصلى عليه ففي غسله قولان: قال في البويطي: لا يغسل لأنه لا يصلى عليه فلا يغسل كالشهيد وقال في الأم: يغسل لأن الغسل قد ينفرد عن الصلاة كما نقول في الكافر. فصل: وإن مات كافر لم يصل عليه لقوله عز وجل {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] ولأن الصلاة لطلب المغفرة والكافر لا يغفر له فلا معنى للصلاة عليه ويجوز غسله وتكفينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً عليه السلام أن يغسل أباه وأعطى قميصه ليكفن به عبد الله بن أبي سلول وإن اختلط المسلمون بالكفار ولم يتميزوا صلوا على المسلمين بالنية ولأن الصلاة تنصرف إلى الميت بالنية والاختلاط لا يؤثر في النية. فصل: ومن مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب فهو شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وإن جرح في الحرب ومات بعد انقضاء الحرب غسل وصلي عليه لأنه مات بعد انقضاء الحرب ومن قتل في الحرب وهو جنب ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج وأبو علي بن أبي هريرة: يغسل لما روي أن حنظلة بن الراهب قتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله" فقالوا: جامع فسمع الهيعة فخرج إلى القتال فلو لم يجب غسله لما غسلته الملائكة.

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 26. الدارمي في كتاب الفرائض باب 47.

وقال أكثر أصحابنا: لا يغسل لأنه طهارة عن حدث فسقط حكمها بالشهادة كغسل الميت ومن قتل من أهل البغي في قتال أهل العدل غسل وصلي عليه لأنه مسلم قتل بحق فلم يسقط غسله والصلاة عليه كمن قتل في الزنا والقصاص ومن قتل من أهل العدل في حرب أهل البغي ففيه قولان: أحدهما يغسل ويصلي عليه لأنه مسلم قتل في غير حرب الكفار فهو كمن قتله اللصوص والثاني أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لأنه قتل في حرب هو فيه على الحق وقاتله على الباطل فأشبه المقتول في معركة الكفار ومن قتله قطاع الطريق من أهل القافلة ففيه وجهان: أحدهما أنه يغسل ويصلى عليه والثاني لا يغسل ولا يصلى عليه لما ذكرناه في أهل العدل.

باب حمل الجنازة والدفن

باب حمل الجنازة والدفن يجوز حمل الجنازة بين العمودين وهو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش ويجعلها على كاهله ويجوز الحمل من الجوانب الأربعة فيبدأ بياسرة المقدمة فيضع العمود على عاتقه الأيمن ثم يجيء إلى ياسرة المؤخرة فيضع العمود على عاتقه الأيسر ثم يجيء إلى يامنة المؤخرة فيضع العمود على عاتقه الأيسر والحمل بين العمودين أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين ولأنه روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي

وقاص وأبي هريرة وابن الزبير رضي الله عنهم ويستحب الإسراع بالجنازة لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخيراً تقدمونها إليه وإن تكن سوى ذلك فشراً تضعون عن رقابكم1" ولا يبلغ به الخبب لما روى عبد الله بن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة فقال: "دون الخبب فإن يكن خيراً يعجل إليه وإن يكن شراً فبعداً لأصحاب النار" وإجابة الداعي ونصر المظلوم والمستحب أن لا ينصرف من يتبع الجنازة حتى تدفن لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط وإن شهد دفنها فله قيراطان2" القيراط أعظم من أحد والسنة أن لا يركب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة فإن ركب في الانصراف لم يكن به بأس لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فلما انصرف أتى بفرس معرور فركبه والسنة أن يمشي أمام الجنازة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين يديها وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولأنه شفيع للميت والشفيع يتقدم على المشفوع له والمستحب أن يمشي أمامها قريباً منها لأنه إذا بعد لم يكن معها وإن سبق إلى المقبرة فهو بالخيار إن شاء قام حتى توضع الجنازة وإن شاء قعد لما روى علي كرم الله وجهه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجنازة حتى وضعت وقام الناس معه ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود ولا يكره للمسلم اتباع جنازة أقاربه من

_ 1رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 51. مسلم في كتاب الجنائز حديث 50، 51. أبو داود في كتاب الجنائز باب 46. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 58. أحمد في مسنده "2/ 240، 280". 2 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 59. مسلم في كتاب الجنائز حديث 52. النسائي في كتاب الجنائز باب 79. أحمد في مسنده "2/3، 401".

الكفار لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الضال قد مات فقال: "اذهب فواره" ولا تتبع الجنازة بنار ولا نائحة لما روى عمرو بن العاص أنه قال: إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار وعن أبي موسى أنه أوصى لا تتبعوني بصارخة ولا بمجمرة ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً. فصل: دفن الميت فرض على الكفاية لأن في تركه على وجه الأرض هتكاً لحرمته ويتأذى الناس برائحته والدفن في المقبرة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى بالبقيع ولأنه يكثر الدعاء له ممن يزوره ويجوز الدفن في البيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها فإن قال بعض الورثة يدفن في المقبرة وقال بعضهم يدفن في البيت دفن في المقبرة لأن له حقاً في البيت فلا يجوز إسقاطه ويستحب أن يدفن في أفضل مقبرة لأن عمر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن مع صاحبيه ويستحب أن تجمع الأقارب في موضع واحد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال أعلم بها على قبر أخي لأدفن إليه من مات وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "مني مناخ من سبق" فإن استويا في السبق أقرع بينهما ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت إلا أنه يعلم أنه قد بلي ولم يبقى منه شيء ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض ولا يدفن في قبر واحد اثنان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحداً فإن دعت إلى ذلك ضرورة جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الاثنين من قتلى أحد في قبر واحد ثم يقول أيهما كان أخذاً للقرآن فإذا أشير إلى أحدهما قدمه إلى اللحد وإن دعت الضرورة لأن يدفن مع الرجل امرأة جعل

بينهما حائل من التراب وجعل الرجل أمامها اعتباراً بحال الحياة ولا يدفن كافر بمقابر المسلمين ولا مسلم في مقبرة الكفار ومن مات في البحر ولم يكن بقرب ساحل فالأولى أن يجعل بين لوحين ويلقى في البحر لأنه ربما وقع إلى ساحل فيدفن وإن كان أهل الساحل كفاراً ألقي في البحر. فصل: والمستحب أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة لما روي أن عمر رضي الله عنه أوصى أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة ويستحب أن يوسع من قبل رجليه ورأسه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحافر "أوسع من قبل رجليه وأوسع من قبل رأسه" فإن كانت الأرض صلبة ألحد لقوله صلى الله عنه وسلم "اللحد لنا والشق لغيرنا1" وإن كانت رخوة شق الوسط. فصل: والأولى أن يتولى الدفن الرجال لأنه يحتاج إلى بطش وقوة فكان الرجال أحق وأولاهم بذلك أولاهم بالصلاة عليه لأنهم أرفق به وإن كانت امرأة فزوجها أحق بدفنها لأنه أحق بغسلها فإن لم يكن لها زوج فالأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم فإن لم يكن لها ذو رحم محرم ولها مملوك كان المملوك أولى من ابن العم لأنه كالمحرم والخصي أولى من الفحل فإن لم يكن مملوك فابن العم ثم أهل الدين من المسلمين والمستحب أن يكون عدد الذي يدفن وتراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفنه علي والعباس وأسامة رضي الله عنهم والمستحب أن يسجى القبر بثوب عند الدفن لأن النبي صلى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ بثوب لما دفنه. فصل: ويستحب أن يضع رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل فيه سلاً لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلاً ولأن ذلك أسهل

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 61. الترمذي في كتاب الجنائز باب 53. النسائي في كتاب الجنائز باب 85. في مسنده "4/357، 359، 363".

ويستحب أن يقول عند إدخاله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله إذا أدخل الميت القبر والمستحب أن يضجع في القبر على جنبه الأيمن لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه1" ولأنه يستقبل القبلة فكان أولى ويوسد رأسه بلبنة أو حجر كالحي إذا نام ويجعل خلفه شيء يسنده من لبن أو غيره حتى لا يستلقي على قفاه ويكره أن يجعل تحته مضربة أو مخدة أو في تابوت لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا أنزلتموني في اللحد فافضوا بخدي إلى الأرض وعن أبي موسى: لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً وينصب اللبن على اللحد نصباً لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلى الله عليه وسلم إنصبوا علي اللبن وأهيلوا علي التراب ويستحب لمن على شفير القبر أن يحثو في القبر ثلاث حثيات من التراب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثى في قبر ثلاث حثيات من التراب ويستحب أن يمكث على القبر بعد الدفن لما روى عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت يقف عليه وقال "استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل".

_ 1 رواه أحمد في مسنده "2/432".

فصل: ولا يزاد في التراب الذي أخرج من القبر فإن زادوا فلا بأس ويشخص القبر من الأرض قدر شبر لما روى القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا واطئة ويسطح القبر ويوضع عليه الحصى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه حصى من حصى العرصة وقال أبو علي الطبري: الأولى في زماننا أن يسنم لأن التسطيح من شعار الرافضة وهذا لا يصح لأن السنة قد صحت فيه فلا يعتبر بموافقة الرافضة ويرش عليه الماء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ولأنه إذا لم يرش عليه الماء زال أثره فلا يعرف ويستحب أن يجعل عند رأسه علامة من حجر أو غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفن عثمان بن مظعون ووضع عند رأسه حجراً ولأنه يعرف به فيزار ويكره أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يعقد أو يكتب عليه لما روى جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يعقد وأن يكتب عليه ولأن ذلك من الزينة. فصل: إذا دفن الميت قبل الصلاة صلي على القبر لأن الصلاة تصل إليه في القبر وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة ولم يخش عليه الفساد في نبشه نبش وغسل ووجه إلى القبلة لأنه واجب مقدور على فعله فوجب فعله وإن خشى عليه الفساد لم ينبش لأنه تعذر فعله فسقط كما يسقط وضوء الحي وإستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر فإن وقع في القبر مال لآدمي وطالب به صاحبه نبش القبر لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خاتمي ففتح موضعاً فيه فأخذه وكان يقول أنا أقربكم عهداً برسول الله ولأنه يمكن رد المال إلى صاحبه من غير ضرورة فوجب

رده عليه وإن بلع الميت جوهرة لغيره ومات وطالب صاحبها شق جوفه وردت الجوهرة وإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان: أحدهما يشق لأنها صارت للورثة فهي كجوهرة الأجنبي والثاني لا يجب لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الورثة وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت.

باب التعزية والبكاء على الميت

باب التعزية والبكاء على الميت تعزية أهل الميت سنة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عزى مصاباً فله مثل أجره1" ويستحب أن يعزي بتعزية الخضر عليه السلام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إن في الله سبحانه عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب ويستحب أن يدعو له وللميت فيقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وإن عزى كافراً بمسلم قال: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وإن عزى كافراً بكافر قال أخلف الله عليك ولا نقص عددك.

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 56. أحمد في مسنده "1/432".

فصل: ويكره الجلوس للتعزية لأن ذلك محدث والمحدث بدعة. فصل: ويجوز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا إبراهيم إنا لا نغني عنك من الله شيئاً ثم ذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله أتبكي أولم تنه عن البكاء قال: لا ولكن نهيت عن النوح" ولا يجوز لطم الخدود وشق الجيوب لما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية1" ويستحب زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: "إني استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت2" والمستحب أن يقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويدعو لهم لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لعن الله زوارات القبور3"

_ 1رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 56 الترمذي في كتاب الجنائز باب 71. 2 رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 60. أبو داود في كتاب الجنائز باب 7، ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 47. أحمد في مسنده "1/145". 3 رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 61. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 49. أحمد في مسنده "2/337، 356".

فصل: ولا يجوز الجلوس على القبر لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر1" ولا يدوسه من غير حاجة لأن الدوس كالجلوس فإذا لم يجز الجلوس لم يجز الدوس وإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا بالدوس جاز له لأنه موضع عذر ويكره المبيت في المقبرة لما فيه من الوحشة. فصل: ويكره أن يبني على القبر مسجداً لما روى أبو مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي إليه وقال: "لا تتخذوا قبري وثناً فإنما هلك بنو إسرائيل لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد2" قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخالفة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. فصل: ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه أن يصلحوا لأهل الميت طعاماً لما روي أنه لما قتل جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه قال النبي صلى الله عليه وسلم "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم عنه3".

_ 1رواه مسلم في كتاب الجنائز حديث 96. أبو داود في كتاب الجنائز باب 73. النسائي في كتاب الجنائز باب 97. 2 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 62. مسلم في كتاب المساجد 19. أبو داود في كتاب الجنائز باب 72. النسائي في كتاب المساجد باب 13. الدارمي في كتاب الصلاة باب 120. الموطأ في كتاب المدينة حديث 17. 3 رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 21. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 59.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة مدخل ... كتاب الزكاة الزكاة ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه والأصل فيه قوله عز وجل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وروى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً فأتاه رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإسلام؟ قال "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان" ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي الرجل" فلم يروا شيئاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم1". فصل: ولا تجب الزكاة إلا على حر مسلم فأما المكاتب والعبد إذا ملكه المولى مالاً فلا زكاة عليه لأنه لا يملك في قوله الجديد ويملك في قوله القديم إلا أنه ملك ضعيف لا يحتمل المواساة ولهذا لا تجب عليه نفقة الأقارب ولا يعتق عليه أبوه إذا اشتراه فلم تجب عليه الزكاة وفيمن نصفه حر ونصفه عبد وجهان: أحدهما أنه لا تجب عليه الزكاة لأنه ناقص بالرق فهو كالعبد القن. والثاني أنها تجب فيما ملكه بنصفه الحر لأنه يملك بنصفه الحر ملكاً تاماً فوجبت الزكاة عليه كالحر وأما الكافر فإنه إن كان أصلياً لم تجب عليه الزكاة لأنه حق لم يلتزمه فلم يلزمه كغرامات المتلفات وإن كان مرتداً لم يسقط عنه ما وجب في حال الإسلام لأنه ثبت وجوبه فلم يسقط بردته كغرامات

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 1. مسلم في كتاب الإيمان حديث 15 ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده "2/343" "6/383".

المتلفات وأما في حال الردة فزكاته مبنية على ملكه وفي ملكه ثلاثة أقوال: أحدهما أنه يزول بالردة فلا تجب عليه الزكاة والثاني لا يزول فتجب عليه الزكاة لأنه حق التزمته بالإسلام فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين والثالث أنه موقوف فإن رجع إلى الإسلام حكمنا بأنه لم يزل ملكه فتجب عليه الزكاة وإن لم يرجع حكمنا بأنه قد زال ملكه فلا تجب عليه الزكاة وتجب في مال الصبي والمجنون لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة1" ولأن الزكاة تراد لثواب المزكي ومواساة الفقير والصبي والمجنون من أهل الثواب ومن أهل المواساة ولهذا تجب عليهما نفقة الأقارب ويعتق عليهما الأب إذا ملكاه فوجبت الزكاة في مالهما. فصل: ومن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي توجهت المطالبة بالدفع إليه فلم يجز له التأخير كالوديعة إذا طالب بها صاحبها فإن أخرها وهو قادر على أدائها ضمنها لأنه أخر ما وجب عليه مع إمكان الإداء فضمنه كالوديعة ومن وجبت عليه الزكاة وامتنع من أدائها نظرت فإن كان جاحداً لوجوبها فقد كفر وقتل بكفره كما يقتل المرتد لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله عز وجل ضرورة فمن جحد وجوبها فقد كذب الله تعالى وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بكفره وإن منعها بخلاً بها أخذت منه وعزر وقال في القديم: تؤخذ الزكاة وشطر ماله عقوبة له لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله من عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد فيها شيء والصحيح هو الأول لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس في المال حق سوى الزكاة2" ولأنها عبادة فلا يجب بالامتناع منها أخذ

_ 1رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 15. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 12. 2 رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة 3.

شطر ماله كسائر العبادات وحديث بهز بن حكيم منسوخ فإن ذلك كان حين كانت العقوبات في المال ثم نسخت وإن امتنع بمنعة قاتله الإمام لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة.

باب صدقة المواشي

باب صدقة المواشي تجب زكاة السوم في الإبل والبقر والغنم لأن الأخبار وردت بإيجاب الزكاة فيها ونحن نذكرها في مسائلها إن شاء الله تعالى ولأن الإبل والبقر والغنم يكثر منافعها ويطلب نماؤها بالدر والنسل فاحتملت المواساة بالزكاة. فصل: ولا تجب فيما سوى ذلك من المواشي كالخيل والبغال والحمير لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة1" ولأن هذا

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 9. أبو داود في كتاب الزكاة باب 11 النسائي في كتاب الزكاة باب 16. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 37. أحمد في مسنده "2/249".

يقتنى للزينة والاستعمال لا للنماء فلم يحتمل الزكاة كالعقار والأثاث ولا تجب فيما تولد بين الغنم والظباء ولا فيما تولد بين بقر الأهل وبقر الوحش لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الغنم والبقر فلا تجب فيه زكاة الغنم والبقر. فصل: ولا تجب فيما لا يملكه ملكاً تاماً كالمال الذي في يد مكاتبه لأنه لا يملك التصرف فيه فهو كمال الأجنبي ومال الماشية الموقوفة عليه فإنه يبنى على أن الملك في الموقوف إلى من ينتقل بالوقف وفيه قولان: أحدهما ينتقل إلى الله عز وجل فلا تجب زكاته والثاني ينتقل إلى الموقوف عليه وفي زكاته وجهان: أحدهما تجب عليه لأنه يملكه ملكاً تاماً مستقراً فأشبه غير الوقف والثاني لا تجب لأنه ملك ضعيف بدليل أنه لا يملك التصرف في رقبته فلم تجب الزكاة فيه كالمكاتب وما في يده. فصل: وأما المال المغصوب والضال فلا تلزمه زكاته قبل أن يرجع إليه من غير نماء ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب لأنه خرج عن يده وتصرفه فلم تجب عليه زكاته كالمال الذي في يد مكاتبه وقال في الجديد: تجب عليه لأنه مال له يملك المطالبة به ويجبر على التسليم إليه فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في وكيله فإن رجع إليه مع النماء ففيه طريقان: قال أبو العباس تلزمه زكاته قولاً واحداً لأن الزكاة إنما سقطت في أحد القولين لعدم النماء وقد حصل له النماء فوجب أن تجب والصحيح أنه على القولين لأن الزكاة لم تسقط لعدم النماء فإن الذكور من الماشية لا نماء فيها وتجب فيها الزكاة وإنما سقطت لنقصان الملك بالخروج عن يده وتصرفه بالرجوع لم يعد ما فات من اليد والتصرف وإن أسر رب المال وحيل بينه وبين المال ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كالمغضوب لأن الحيلولة موجودة بينه وبين المال وفيه قولان ومنهم من قال تجب الزكاة قولاً واحداً لأنه يملك بيعه ممن شاء فكان كالمودع وإن وقع الضال بيد ملتقط وعرفه حولاً كاملاً ولم يختر التملك وقلنا إنه لا يملك حتى يختار التملك على الصحيح من المذهب ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كما لو لم يقع بيد الملتقط فيكون على قولين ومنهم من قال لا تجب الزكاة قولاً واحداً لأن ملكه غير مستقر بعد التعريف لأن الملتقط يملك أن يزيله باختيار التملك فصار كالمال الذي في

يد المكاتب وإن كان له ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال على النصاب ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب الزكاة فيه لأن ملكه غير مستقر لأنه ربما أخذه الحاكم بحق الغرماء فيه وقال في الجديد: تجب فيه الزكاة لأن الزكاة تتعلق بالعين والدين يتعلق بالذمة فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاثة طرق: أحدهما إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة لأنه قد حصل له النماء وإن كان غير الماشية فعلى قولين كالمغضوب والثاني أنه تجب فيه الزكاة قولاً واحداً لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفيه والمجنون والثالث وهو الصحيح أنه على قولين كالمغضوب لأنه حيل بينه وبينه فهو كالمغضوب وأما القول الأول أنه قد حصل له النماء في الماشية فلا يصح لأنه وإن حصله له النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ومحول دونه والقول الثاني لا يصح لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا. فصل: ولا تجب الزكاة إلا في السائمة من الإبل والبقر والغنم لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب كتاب الصدقة وفيه صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها الصدقة وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون ولأن العوامل والمعلوفة لا تقتني للنماء فلم تجب فيها الزكاة كثياب البدن وأثاث الدار وإن كان عنده سائمة فعلفها نظرت فإن كان قدراً يبقى الحيوان دونه لم يؤثر لأن وجوده كعدمه وإن كان قدراً لا يبقى الحيوان دونه سقطت الزكاة لأنه لم يوجد تكامل النماء بالسوم وإن كان عنده نصاب من السائمة فغصبه غاصب وعلفه ففيه طريقان: أحدهما أنه كالمغضوب الذي لم يعلفه الغاصب فيكون على قولين لأن فعل الغاصب لا حكم له بدليل أنه لو كان له ذهب فصاغه الغاصب حلياً لم تسقط الزكاة عنه والثاني أنه تسقط الزكاة قولاً واحداً وهو الصحيح لأنه لم يوجد شرط الزكاة وهو السوم في جميع الحول فصار كما لو ذبح الغاصب شيئاً من النصاب ويخالف الصياغة فإن صياغة الغاصب محرمة فلم يكن لها حكم وعلفه غير محرم فثبت حكمه

كعلف المالك وإن كان عنده نصاب من المعلوفة فأسامها الغاصب ففيه طريقان: أحدهما أنها كالسائمة وفيها قولان لأن السوم قد وجد في حول كامل ولم يفقد إلا قصد المالك وقصده غير معتبر بدليل أنه لو كان له طعام فزرعه الغاصب وجب فيه العشر وإن لم يقصد المالك إلى زراعته والثاني لا تجب فيه الزكاة قولاً واحداً لأنه لم يقصد إلى إسامته فلم تجب فيه الزكاة كما لو رتعت الماشية لنفسها ويخالف الطعام فإنه لا يعتبر في زراعته القصد ولهذا لو تبدد له طعام فنبت وجب فيه العشر والسوم يعتبر فيه القصد ولهذا لو رتعت الماشية لنفسها لم تجب فيها الزكاة. فصل: ولا تجب إلا في نصاب لأن الأخبار وردت بإيجاب الزكاة في النصب على ما نذكرها في مواضعها إن شاء الله فدل على أنها لا تجب فيما دونها ولأن ما دون النصاب لا يحتمل المواساة فلم تجب فيه الزكاة وإن كان عنده نصاب فهلك منه واحد أو باعه انقطع الحول فإن نتج له واحد أو رجع إليه ما باعه استأنف الحول وإن نتجت واحدة ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول لأن الحول لم يخل من نصاب وإن خرج بعض الحمل من الجوف ثم هلك واحد من النصاب قبل أن ينفصل الباقي انقطع الحول لأنه ما لم يخرج الجميع لا حكم له فيصير كما لو هلك واحد ثم نتج واحد. فصل: ولا تجب الزكاة فيه حتى يحول عليه الحول لأنه روي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهو مذهب فقهاء المدينة وعلماء الأمصار ولأنه لا يتكامل نماؤه قبل الحول فلا تجب فيه الزكاة فإن باع النصاب في أثناء الحول أو بادل به نصاباً آخر انقطع الحول فيما باعه وإن مات في أثناء الحول ففيه قولان: أحدهما أنه ينقطع الحول لأنه زال ملكه عنه فصار كما لو باعه والثاني لا ينقطع بل يبني الوارث على حوله لأن ملك الوارث مبني على ملك الموروث ولهذا لو ابتاع شيئاً معيباً فلم يرد حتى مات رب المال قام وارثه مقامه في الرد بالعيب وإن كان عنده نصاب من الماشية ثم استفاد شيئاً آخر من جنسه ببيع أو هبة أو إرث نظرت فإن لم يكن المستفاد نصاباً في نفسه ولا يكمل به النصاب الثاني لم يكن له حكم لأنه لا يمكن أن يجعل تابعاً للنصاب الثاني فيجعل له قسط من فرضه لأنه لم يوجد النصاب الثاني بعد ولا يمكن أن يجعل تابعاً للنصاب الذي عنده فإن ذلك انفرد بالحول ووجب فيه الفرض قبل أن يمضي

الحول على المستفاد فلا يمكن أن يجعل له قسط من فرضه فسقط حكمه وإن كان يكمل به النصاب الثاني بأن يكون عنده ثلاثون من البقر ثم اشترى في أثناء الحول عشراً وحال الحول على النصاب وجب فيه تبيع وإذا حال الحول على المستفاد وجب فيه ربع مسنة لأنه تم بها نصاب المسنة ولم يمكن إيجاب المسنة لأن الثلاثين لم يثبت لها حكم الخلطة مع العشرة في حول كامل فانفردت بحكمها ووجب فيها فرضها والعشرة قد ثبت لها حكم الخلطة في حول كامل فوجب فيها بقسطها ربع مسنة وإن كان المستفاد نصاباً ولا يبلغ النصاب الثاني وذلك يكون في صدقة الغنم بأن يكون عنده أربعون شاة ثم اشترى في أثناء الحول أربعين شاة فإن الأربعين الأولى يجب فيها شاة لحولها وفي الأربعين الثانية ثلاثة أوجه: أحدهما أنه يجب عليه فيها لحولها شاة لأنه نصاب منفرد بالحول فوجب فيه فرضه كالأربعين الأولى والثاني أنه يجب فيها نصف شاة لأنها لم تنفك من خلطة الربعين الأولى في حول كامل فوجب فيها بقسطها من الفرض وهو نصف شاة والثالث أنه لا يجب فيها شيء وهو الصحيح لأنه انفرد الأول عنه بالحول ولم يبلغ النصاب الثاني فجعل وقصاً بين نصابين فلم يتعلق به فرض وأما إذا كان عنده نصاب من الماشية فتوالدت في أثناء الحول حتى بلغ النصاب الثاني ضمت إلى الأمهات في الحول وعدت معها إذا تم حول الأمهات وأخرج عنها وعن الأمهات زكاة المال الواحد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: عد الصغار مع الكبار ولأنه من نماء النصاب وفوائده فلم ينفرد عنه بالحول فإن تماوتت الأمهات وبقيت الأولاد وهي نصاب لم ينقطع الحول فيها فإذا تم حول الأمهات وجبت الزكاة فيها وقال أبو القاسم بن بكار الأنماطي رحمه الله: إذا لم يبق نصاب من الأمهات انقطع الحول لأن السخال تجري في حول الأمهات بشرط أن تكون الأمهات نصاباً وقد زال هذا الشرط لوجب أن ينقطع الحول والمذهب

الأول لأنها جملة جارية في الحول هلك بعضها ولم ينقص الباقي عن النصاب فلم ينقطع الحول كما لو بقي نصاب من الأمهات وما قال أبو القاسم ينكسر بولد أم الولد فإنه ثبت له حق الحرية بثبوته للأم ثم يسقط حق الأم بالموت ولا يسقط حق الولد وإن ملك رجل في أول المحرم أربعين شاة وفي أول صفر أربعين وفي أول شهر ربيع الأول أربعين وحال الحول على الجميع ففيه قولان: قال في القديم: تجب في الجميع شاة في كل أربعين ثلثها لأن كل واحدة من الأربعينات مخالطة للثمانين في حال الوجوب فكان حصتها ثلث شاة وقال في الجديد: تجب في الأولى شاة لأنه ثبت لها حكم الانفراد في شهر وفي الثانية وجهان: أحدهما يجب فيها شاة لأن الأولى لم ترتفق بخلطتها فلم ترتفق هي والثاني أنه تجب فيها نصف شاة لأنها خليطة الأربعين من حين ملكها وفي الثالثة وجهان: أحدهما أنه تجب فيها شاة لأن الأولى والثانية لم ترتفقا بخلطتها فلم ترتفق هي والثاني تجب فيها ثلث شاة لأنها خليطة الثمانين من حين ملكها فكان حصتها ثلث شاة. فصل: إذا ملك النصاب وحال عليه الحول ولم يمكنه الأداء فيه قولان: قال في القديم: لا تجب الزكاة قبل إمكان الأداء فعلى هذا تجب الزكاة بثلاثة شروط: الحول والنصاب وإمكان الأداء والدليل عليه أنه لو هلك المال لم يضمن زكاته فلم تكن الزكاة واجبة فيه كما قبل الحول وقال في الإملاء: تجب وهو الصحيح فعلى هذا تجب الزكاة بشرطين الحول والنصاب وإمكان الأداء شرط في الضمان لا في الوجوب والدليل عليه أنه لو كانت الزكاة غير واجبة لما ضمنها بالإتلاف كما قبل الحول فلما ضمن الزكاة بالإتلاف بعد الحول دل على أنها واجبة فإن كان معه خمس من الإبل وهلك منها واحدة بعد الحول وقبل إمكان الأداء فإن قلنا إن إمكان الأداء شرط في الوجوب سقطت الزكاة لأنه نقص المال عن النصاب قبل الوجوب فصار كما لو هلك قبل الحول وإن قلنا إنه ليس بشرط في الوجوب وإنما هو شرط في الضمان سقط من الفرض خمسة ووجب أربعة أخماسه وإن كان عنده نصاب فتوالدت بعد الحول وقبل إمكان الأداء ففيه طريقان: أحدهما أنه يبنى على القولين فإن قلنا إن إمكان الأداء شرط في الوجوب ضم الأولاد إلى الأمهات فإذا أمكنه الأداء زكى الجميع وإن قلنا إنه شرط في الضمان لم يضم لأنه فصل الأولاد بعد الوجوب ومن أصحابنا من قال في المسألة قولان من غير بناء على القولين: أحدهما يضم المستفاد إلى ما عنده لقول عمر رضي الله عنه إعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه والسخلة التي يروح بها الراعي على يديه لا تكون إلا بعد الحول فيما ما توالد قبل الحول فإنه بعد الحول يمشي بنفسه والقول الثاني وهو

الصحيح أنه لا يضم إلى ما عنده لأن الزكاة قد وجبت في الأمهات والزكاة لا تسري إلى الولد لأنها لو سرت بعد الوجوب لسرت بعد الإمكان لأن الوجوب فيه مستقر وحال استقرار الوجوب آكد من حال الوجوب فإذا لم تسر الزكاة إليه في حال الاستقرار فلأن لا تسري قبل الاستقرار أولى. فصل: وهل تجب الزكاة في العين أو في الذمة؟ فيه قولان: قال في القديم: تجب في الذمة والعين مرتهنة بها ووجهه أنها لو كانت واجبة في العين لم يجز أن يعطى حق الفقراء من غيرها كحق المضارب والشريك وقال في الجديد: تجب في العين وهو الصحيح لأنه حق يتعلق بالمال فيسقط بهلاكه فيتعلق بعينه كحق المضارب فإن قلنا إنها تجب في العين وعنده نصاب وجبت فيه الزكاة فلم تؤد حتى حال عليه حول آخر لم تجب في الحول الثاني زكاة لأن الفقراء ملكوا من النصاب قدر الفرض فلا تجب في الحول الثاني زكاة لأن الباقي دون النصاب وإن قلنا تجب في الذمة وجب في الحول الثاني وفي كل حول لأن النصاب باق على ملكه.

باب صدقة الإبل

باب صدقة الإبل أول نصاب الإبل خمس وفرضه شاة وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية وفي ست وثلاثين بنت لبون وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة وفي إحدى وستين جذعة وهي التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة والأصل فيه ما روى أنس رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض الله عز وجل على المسلمين التي أمر الله بها

رسوله صلى الله عليه وسلم فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر وليس معه شيء فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. فصل: فإن زاد على عشرين ومائة أقل من واحد لم يتغير الفرض وقال أبو سعيد الاصطخري: يتغير فيجب ثلاث بنات لبون لقوله: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون ولم يفرق والمنصوص هو الأول لما روى الزهري قال: أقرأني سالم نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: فإذا كان إحدى وتسعين ففيها حقتان حتى تبلغ عشرين ومائة فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون ولأنه وقص محدود في الشرع فلم يتغير الفرض بعده بأقل من واحدة كسائر الأوقاص. فصل: وفي الأوقاص التي بين النصب قولان: قال في القديم والجديد: يتعلق الفرض بالنصب وما بينهما من الأوقاص عفو لأنه وقص قبل النصاب فلم يتعلق به حق كالأربعة الأولى وقال في البويطي يتعلق بالجميع لحديث أنس في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض فجعل الفرض في النصاب وما زاد ولأنه زيادة على نصاب فلم يكن عفواً كالزيادة على نصاب القطع في السرقة فإذا قلنا بالأول فملك تسعاً من الإبل ثم

هلك بعد الحول وقبل إمكان الأداء أربعة لم يسقط من الفرض شيء لأن الذي تعلق به الفرض باق وإذا قلنا بالثاني سقط من الفرض أربعة أتساعه لأن الفرض تعلق بالجميع فسقط من الفرض بقسط الهالك. فصل: من ملك من الإبل دون الخمس والعشرين فالواجب في صدقته الغنم وهو مخير بين أن يخرج الغنم وبين أن يخرج بعيراً فإن أخرج الغنم جاز له لأنه هو الفرض المنصوص عليه وإن أخرج البعير جاز لأن الأصل في صدقة الحيوان أن يخرج من جنس الفرض وإنما عدل إلى الغنم ههنا رفقاً برب المال فإذا اختار أصل الفرض قبل منه كمن ترك المسح على الخف وغسل الرجل وإن امتنع من إخراج الزكاة لم يطالب إلا بالغنم لأنه هو الفرض المنصوص عليه وإن اختار إخراج البعير قبل منه أي بعير كان ولو أخرج بعيراً قيمته أقل من قيمة الشاة أجزأه لأنه أفضل من الشاة لأنه يجزئ عن خمس وعشرين فلأن يجزئ عما دونها أولى وهل يكون الجميع فرضه أو بعضه؟ فيه وجهان: أحدهما الجميع فرضه لأنا خيرناه بين الفرضين فأيهما فعل كان هو الفرض كمن خير بين غسل الرجل والمسح على الخف والثاني أن الفرض بعضه لأن البعير يجزيء عن الخمس والعشرين فدل على أن خمساً من الإبل يقال خمس بعير وإن اختار إخراج الغنم لم يقبل دون الجذع والثني في السن لما روى سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نهينا عن الأخذ من راضع لبن وإنما حقنا في الجذعة والثنية وهل يجزئ فيه الذكر؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال لا يجزئه للخبر ولأنه أصل في صدقة الإبل فلم يجز فيها الذكر كالفرض من جنسه وقال أبو إسحاق يجزئه لأنه حق الله تعالى لا يعتبر فيه صفة ماله فجاز فيه الذكر والأنثى كالأضحية وتجب عليه من غنم البلد إن كان ضأناً فمن الضأن وإن كان معزاً فمن المعز وإن كان منهما فمن الغالب وإن كانا سواء جاز من أيهما شاء لأن كل مال وجب في الذمة بالشرع اعتبر فيه عرف البلد كالطعام في الكفارة وإن كانت الإبل مراضاً ففي شأنها وجهان: أحدهما لا تجب فيه إلا ما تجب في الصحاح وهو ظاهر المذهب لأنه لا يعتبر فيه صفة المال فلم يختلف بصحة المال ومرضه كالأضحية وقال أبو علي بن خيران تجب عليه شاة بالقسط فتقوم الإبل الصحاح والشاة التي تجب فيها ثم تقوم الإبل المراض فيجب فيها شاة بالقسط لأنه لو كان الواجب

من جنسه فرق بين الصحاح والمراض فكذلك إذا كان من غير جنسه وجب أن يفرق بين الصحاح والمراض. فصل: ومن وجبت عليه بنت مخاض فإن كانت في ماله لزمه إخراجها وإن لم تكن في ماله وعنده ابن لبون قبل منه ولا يرد معه شيئاً لما روى أنس رضي الله عنه في الكتاب الذي كتبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فمن لم تكن عنده بنت مخاض وعنده ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ولأن في بنت مخاض فضيلة بالأنوثية وفي ابن لبون فضيلة بالسن فاستويا وإن لم تكن عنده بنت مخاض ولا ابن لبون فله أن يشتري بنت مخاض ويخرج لأنه أصل فرضه وله أن يشتري ابن لبون ويخرج لأن ليس في ملكه بنت مخاض وإن كانت إبله مهازيل وفيها بنت مخاض سمينة لم يلزمه إخراجها فإن أراد إخراج ابن لبون فالمنصوص أنه يجوز لأنه لا يلزمه إخراج ما عنده فكان وجوده كعدمه كما لو كانت إبله سماناً وعنده بنت مخاض مهزولة ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأن عنده بنت مخاض تجزئ ومن وجب عليه بنت لبون وليست عنده وعنده حق لم يؤخذ منه لأن بنت اللبون تساوي الحق في ورود الماء والشجر وتفضل عليه بالأنوثية. فصل: ومن وجبت عليه جذعة أو حقة أو بنت لبون وليس عنده إلا ما هو أسفل منه بسنة أخذ منه مع شاتين أو عشرين درهماً وإن وجب عليه بنت مخاض أو بنت لبون أو حقة وليس عنده إلا ما هو أعلى منه بسنة أخذ منه ودفع إليه المصدق شاتين أو عشرين درهماً لما روى أنس رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له لما وجهه إلى البحرين كتاباً وفيه: ومن بلغت صدقته من الإبل الجذعة وليست عنده وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين أو عشرين درهماً ومن بلغت عنده صدقته الحقة وليس عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى معها شاتين أو عشرين درهماً ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطى معها عشرين درهماً أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين فأما إذا وجبت عليه جذعة وليست عنده وعنده ثنية فإن أعطاها ولم يطلب جبراناً قبلت لأنها أعلى من الفرض بسنة وإن طلب الجبران فالمنصوص أنه يدفع إليه لأنها أعلى من الفرض بسنة فهي كالجذعة مع الحقة ومن أصحابنا من قال لا يدفع الجبران لأن الجذعة

تساوي الثنية في القوة والمنفعة فلا معنى لدفع الجبران وإن وجبت عليه بنت مخاض وليس عنده إلا فصيل وأراد أن يعطي ويعطي معه الجبران لم يجز لأن الفصيل ليس بفرض مقدر وإن كان معه نصاب مراض ولم يكن عنده الفرض فأراد أن يصعد إلى فرض مريض ويأخذ معه الجبران لم يجز لأن الشاتين أو العشرين درهماً جعل جبراناً لما بين الصحيحين فإذا كانا مريضين كان الجبران أقل من الشاتين أو العشرين درهم فإن أراد أن ينزل إلى فرض دونه ويعطى معه شاتين أو عشرين درهماً جاز لأنه متطوع بالزيادة ومن وجبت عليه الشاتان أو العشرين درهماً كان الخيار إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار فيه إلى من يعطي في حديث أنس فإن اختار أن يعطي شاة وعشرة دراهم لم يجز لأن النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين شيئين فلو جوزنا أن يعطي شاة وعشرة دراهم خيرناه بين ثلاثة أشياء من وجب عليه فرض ووجد فوقه فرضاً وأسفل منه فرضاً فالخيار في الصعود والنزول إلى رب المال لأنه هو الذي يعطي فكان الخيار له كالخيار في الشاتين والعشرين الدرهم ومن أصحابنا من قال الخيار إلى المصدق وهو المنصوص لأنه يلزمه أن يختار ما هو أنفع للمساكين ولهذا إذا اجتمع الصحاح والمراض لم يأخذ المراض فلو جعلنا الخيار إلى رب المال أعطى ما ليس بنافع ويخالف الخيار في الشاتين والعشرين الدرهم فإن ذلك جعل جبراناً على سبيل التخفيف فكان ذلك إلى من يعطي وهذا تخير في الفرض فكان إلى المصدق ومن وجب عليه فرض ولم يجد إلا ما هو أعلى منه بسنتين أخذ منه وأعطي أربع شياه أو أربعين درهماً وإن لم يجد إلا ما هو أسفل منه بسنتين أخذ منه أربع شياه أو أربعون درهماً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر ما بين السنين بشاتين أو عشرين درهماً فدل على أن كل ما زاد في السن زاد في الجيران بقدرها فإن أراد من وجب عليه أربعون درهماً أو أربع شياه أن يعطى شاتين عن أحد الجبرانين وعشرين درهماً عن الجبران الآخر جاز لأنهما جبرانان فجاز أن يختار في أحدهما شيئاً وفي الآخر غيره ككفارتي يمينين يجوز أن يخرج في إحداهما الطعام وفي الأخرى الكسوة وإن وجب عليه الفرض ووجد سناً أعلى منه بسنة وسناً أعلى منه بسنتين فترك الأقرب وانتقل إلى الأبعد ففيه وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه قد عرف ما بينهما من الجبران والثاني لا يجوز وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الأقرب مقام الفرض ثم لو وجد الفرض لم ينتقل إلى الأقرب فكذلك إذا وجد الأقرب لم ينتقل إلى الأبعد. فصل: وإن اتفق في نصاب فرضان كالمائتين هي نصاب خمس بنات لبون ونصاب أربع حقاق فقد قال في الجديد: تجب أربع حقاق وخمس بنات لبون وقال في القديم:

تجب أربع حقاق فمن أصحابنا من قال يجب أحد الفرضين قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما تجب الحقاق لأنه إذا أمكن تغير الفرض بالسن لم يغير بالعدد كما قلنا فبما قبل المائتين والثاني يجب أبعد الفرضين لما روى سالم في نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون فعلى هذا إن وجد أحدهما تعين إخراجه لأن المخير في الشيئين إذا تعذر عليه أحدهما تعين عليه الآخر كالمكفر عن اليمين إذا تعذر عليه العتق والكسوة تعين عليه الإطعام وإن وجدهما اختار المصدق أنفعهما للمساكين وقال أبو العباس: يختار صاحب المال ما شاء منهما وقد مضى دليل المذهبين في الصعود والنزول فإن اختار المصدق الأدنى نظرت فإن كان ذلك بتفريط من رب المال بأن لم يظهر أحد الفرضين أو من الساعي بأن لم يجتهد وجب رد المأخوذ أو بدله إن كان تالفاً فإن لم يفرط واحد منهما أخرج رب المال الفضل وهو ما بين قيمة الصنفين وهل يجب ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يستحب لأن المخرج يجزئ عن الفرض فكان الفضل مستحباً والثاني أنه واجب وهو ظاهر النص لأنه لم يؤد الفرض بكامله فلزمه إخراج الفضل فإن كان الفضل يسيراً لا يمكن أن يشتري به جزء من الفرض تصدق به وإن كان يمكن ففيه وجهان: أحدهما يجب لأنه يمكن الوصول إلى جزء من الفرض فلم تجز فيه القيمة والثاني لا يجب لأنه يتعذر ذلك في العادة فإن عدم الفرضان في المال نزل إلى بنات مخاض أو صعد إلى الجذع مع الجبران وإن وجد أحد الفرضين وبعض الآخر أخذ الموجود فإن أراد أن يأخذ بعض الآخر مع الجبران لم يجز لأن أحد الفرضين كامل فلم يجز العدول إلى الجبران وإن وجد من كل واحد منهما بعضه بأن كان في المال ثلاث حقاق وأربع بنات لبون فأعطى الثلاث الحقاق وبنت لبون مع الجبران جازه وإن أعطى أربع بنات لبون وحقة وأخذ الجبران جاز وإن أعطى حقة وثلاث بنات لبون مع كل بنت لبون جبران ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز في ثلاث حقاق وبنت لبون والثاني لا يجوز لأنه يمكنه أن يعطي ثلاث حقاق وبنت لبون وجبراناً واحداً فلا يجوز ثلاث جبرانات ولأنه إذا أعطى ثلاث بنات لبون مع الجبران ترك بعض الفرض وعد إلى الجبران فلم يجز كما لا يجوز أخذ الجبران إذا وجد أحدهما كاملاً وإن وجد الفرضين معيبين لم يأخذ بل يقال له إما أن تشتري الفرض الصحيح وإما أن تصعد مع الجبران أو تنزل مع الجبران وإن كانت الإبل أربعمائة وقلنا إن الواجب أحد الفرضين جاز أن يأخذ عشر بنات لبون أو ثماني حقاق فإن أراد أن يأخذ عن مائتين أربع حقاق وعن مائتين خمس بنات لبون جاز وقال أبو سعيد الأصطخري: لا يجوز

كما لا يجوز ذلك في المائتين والمذهب الأول لأنهما فريضتان فجاز أن يأخذ في إحداهما جنساً وفي الأخرى جنساً آخر كما لو كان عليه كفارتا يمين فأخرج في إحداهما الكسوة وفي الأخرى الطعام.

باب صدقة البقر

باب صدقة البقر وأول نصاب البقر ثلاثون وفرضه تبيع وهو الذي له سنة وفي أربعين مسنة وهي التي لها سنتان وعلى هذا أبدأ في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة والدليل عليه ما روى معاذ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة بقرة ومن كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة فإن كان فرضه التبيع فلم يجد لم يصعد إلى المسنة مع الجبران وإن كان فرضه المسنة فلم يجد لم ينزل إلى التبيع مع الجبران فإن ذلك غير منصوص عليه والعدول إلى غير المنصوص عليه في الزكاة لا يجوز.

باب صدقة الغنم

باب صدقة الغنم وأول نصاب الغنم أربعون وفرضه شاة إلى مائة وإحدى وعشرين فتجب شاتان إلى مائتين وواحدة فتجب ثلاث شياه ثم تجب في كل مائة شاة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة وفيه في الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت على المائتين شاة ففيها ثلاث شياه إلى ثلثمائة فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة والشاة الواجبة في الغنم الجذعة من الضأن والثنية من المعز والجذعة هي التي لها سنة وقيل لها ستة أشهر والثنية هي التي لها سنتان. فصل: إذا كانت الماشية صحاحاً لم يؤخذ في فرضها مريضة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤخذ في الزكاة هرمة ولا ذات عوار" وروي "لا ذات عيب" وإن كانت مراضاً أخذت مريضة ولا يجب إخراج صحيحة لأن في ذلك إضراراً برب المال وإن كان بعضها صحاحاً وبعضها مراضاً أخذ عنها صحيحة ببعض قيمة فرض صحيح وبعض قيمة فرض

مريض لأنا لو أخذنا مريضة لتيممنا الخبيث وقد قال الله تعالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] . وإن كانت الماشية كبار الأسنان كالثنايا والبزل في الإبل لم يؤخذ غير الفرض المنصوص عليه لأنا لو أخذنا كبار الأسنان أخذنا عن خمس وعشرين جذعة ثم نأخذها في إحدى وستين فيؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير وإن كانت الماشية صغاراً نظرت فإن كانت من الغنم أخذ منها صغيرة لقول أبي بكر رضي الله عنه: لو منعوني عناقاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولأنا لو أوجبنا فيها كبيرة أجحفنا برب المال وإن كانت من الإبل أو البقر ففيه وجهان: قال أبو إسحاق تؤخذ الفرائض المنصوص عليها بالقسط فيقوم النصاب من الكبار ثم يقوم فرضه ثم يقوم النصاب من الصغار ويؤخذ كبيرة بالقسط ومن أصحابنا من قال: إن كان المال مما يتغير الفرض فيه بالسن لم يجز لأنه يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ عن الكثير وإن كان مما يتغير الفرض فيه بالعدد أخذ صغيره لأنه لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير

فأخذ الصغير من الصغار كالغنم والصحيح هو الأول لأن هذا يؤدي إلى أن يؤخذ من ست وسبعين فصيلان ومن إحدى وتسعين فصيلان وإن كانت الماشية إناثاً أو ذكوراً وإناثاً نظرت فإن كانت من الإبل والغنم لم يؤخذ في فرضها إلا الإناث لأن النص ورد فيها بالإناث على ما مضى ولأن في أخذ الذكر من الإناث تيمم الخبيث وقد قال الله تعالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] وإن كانت من البقر نظرت فإن كانت في فرض الأربعين لم يجز إلا الإناث لما ذكرناه وإن كانت في فرض الثلاثين جاز فيه الذكر والأنثى لحديث معاذ "في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة" وإن كانت كلها ذكوراً نظرت فإن كانت من الغنم أخذ واحداً منها وإن كانت من الإبل أو من الأربعين من البقر ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يجوز إلا الأنثى فيقوم النصاب من الإناث والفرض الذي فيها ثم يقوم النصاب من الذكور ويؤخذ أنثى بالقسط حتى لا يؤدي إلى التسوية بين الذكور والإناث والدليل عليه أنه لا يؤخذ إلا الأنثى لأن الفرائض كلها إناث إلا في موضع الضرورة ولا ضرورة ها هنا فوجبت الأنثى وقال أبو علي بن خيران: يجوز فيه الذكور وهو المنصوص في الأم والدليل عليه أن الزكاة وضعت على الرفق والمؤاساة فلو أوجبنا الإناث من الذكور أجحفنا برب المال قال أبو إسحاق: إلا أنه يؤخذ من ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين حتى لا يؤدي إلى التسمية بين القليل والكثير في الفرض وإن كانت الماشية صنفاً واحداً أخذ الفرض منه وإن كانت أنواعاً كالضأن والمعز والجواميس والبقر والبخاتي والعراب ففيه قولان: أحدهما أنه يؤخذ الفرض من الغالب منهما وإن كانوا سواء أخذ الساعي أنفع النوعين للمساكين لأنا لو ألزمناه الفرض من كل نوع شق فاعتبر الغالب والقول الثاني أنه يؤخذ من كل نوع بقسطه لأنها أنواع من جنس واحد فأخذ من كل نوع بقسطه كالثمار فعلى هذا إذا كان عشرون من الضأن وعشرون من المعز قوم النصاب من الضأن فيقال قيمته مثلاً مائة ثم يقوم فرضه فيقال قيمته عشرة ويقوم نصاب المعز فيقال قيمته خمسون ثم يقوم فرضه فيقال قيمته خمسة فيقال له اشتر شاة من أي النوعين شئت بسبعة ونصف وأخرج.

فصل: ولا يؤخذ في الفرائض الربى وهي التي ولدت ومعها ولدها ولا الماخض وهي الحامل ولا ما طرقها الفحل لأن البهيمة لا يكاد يطرقها الفحل إلا وهي تحبل ولا الأكولة وهي السمينة التي أعدت للأكل ولا فحل الغنم الذي أعد للضراب ولا حزرات المال وهي خيارها التي تحزرها العين لحسنها لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال له: إياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لعامله سفيان: قل لقومك إنا ندع لكم الربى والماخض وذات اللحم وفحل الغنم ونأخذ الجذع والثني وذلك وسط بيننا وبينكم في المال ولأن الزكاة تجب على وجه الرفق فلو أخذنا خيار المال خرج عن حد الرفق فإن رضي صاحب المال بإخراج ذلك قبل منه لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً فمررت برجل فلما جمع لي ماله فلم أجد فيها إلا بنت مخاض فقلت له: أد بنت مخاض فإنها صدقتك فقال: ذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر وما كنت لأقرض الله من مالي ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها فقلت ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته فخرج معي وخرج بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

"ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك" فقال فهاهي ذي فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة ولأن المنع من أخذ الخيار لحق رب المال فإذا رضي قبل منه فصل: ولا يجوز أخذ القيمة في شيء من الزكاة لأن الحق لله تعالى وقد علقه على ما نص عليه فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره كالأضحية لما علقها على الأنعام لم يجز نقلها إلى غيرها فإن أخرج عن المنصوص عليه سناً أعلى منه مثل أن يخرج عن بنت مخاض بنت لبون أجزأه لأنها تجزئ عن ست وثلاثين فلأن تجزئ عن خمس وعشرين أولى كالبدنة لما أجزأت عن سبعة في الأضحية فلأن تجزئ عن واحد أولى وكذلك لو وجب عليه مسنة فأخرج تبيعين أجزأه لأنه إذا أجزأه ذلك عن ستين فلأن تجزئ عن أربعين أولى.

باب صدقة الخلطاء

باب صدقة الخلطاء للخلطة تأثير في إيجاب الزكاة وهو أن يجعل مال الرجلين والجماعة كمال الرجل الواحد فيجب فيه ما يجب في مال الرجل الواحد فإذا كان بين نفسين وهما من أهل الزكاة نصاب مشاع من الماشية في حول كامل وجب عليهما زكاة الرجل الواحد وكذلك إن كان لكل واحد منهما مال منفرد ولم ينفرد أحدهما عن الآخر بالحول مثل أن يكون لكل واحد منهما عشرون من الغنم فخلطاها أو لكل واحد منهما أربعون ملكاها معاً فخلطاها صارا كمال الرجل الواحد في إيجاب الزكاة بشروط: أحدهما أن يكون الشريكان من أهل الزكاة والثاني أن يكون المال المختلط نصاباً والثالث أن يمضي عليهما حول كامل والرابع أن لا يتميز أحدهما عن الآخر في المراح والخامس أن لا يتميز أحدهما عن الآخر في المسرح والسادس أن لا يتميز أحدهما عن الآخر في المشرب والسابع أن لا يتميز أحدهما عن الآخر في الراعي والثامن أن لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفحل والتاسع أن لا يتميز أحدهما عن الآخر في المحلب والأصل فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وكان فيه: لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق مخافة الصدقة

وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ولأن المالين صارا كمال الواحد في المؤن فوجب أن تكون زكاته زكاة المال الواحد فأما إذا لم يكن أحدهما من أهل الزكاة بأن كان أحدهما كافراً أو مكاتباً لم يضم ماله إلى مال الحر المسلم في إيجاب الزكاة لأن مال الكافر والمكاتب ليس بزكائي فلا يتم به النصاب كالمعلوفة لا يتمم بها نصاب السائمة وإن كان المشترك بينهما دون النصاب بأن كان لكل واحد منهما عشرون من الغنم فخالط صاحبه بتسعة عشر وتركا شاتين منفردتين لم تجب الزكاة لأن المجتمع دون النصاب فلم تجب فيه الزكاة وإن تميز أحدهما عن الآخر في المراح أو المسرح أو المشرب أو الراعي أو الفحل أو المحلب لم يضم مال أحدهما إلى الآخر لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والخليطان ما اجتمعا على الفحل والراعي والحوض" فنص على هذه الثلاثة ونبه على ما سواها ولأنه إذا تم تميز كل واحد منهما بشيء مما ذكرناه لم يصير إكمال الرجل الواحد والواحد في المؤن وفي الاشتراك في الحلب وجهان: أحدهما أن من شرطه أن يحلب لبن أحدهما فوق لبن الآخر ثم يقسم كما يخلط المسافرون أزوادهم ثم يأكلون وقال أبو إسحاق: لا يجوز شرط حلب أحدهما فوق الآخر لأن لبن أحدهما قد يكون أكثر من لبن الآخر فإذا قسما بالسوية كان ذلك رباً لأن القسمة بيع وهل يشترط فيه نية الخلط؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يشترط لأنه يتغير به الفرض فلا بد فيه من النية والثاني أنها ليست بشرط لأن الخلطة إنما أثرت في الزكاة للاقتصار على مؤنة واحدة وذلك يحصل من غير نية. فصل: فأما إذا أثبت لكل واحد من الخليطين حكم الانفراد بالحول مثل أن يكون لكل واحد منهما نصاب من الغنم مضى عليه الحول ثم خلطاه نظرت فإن كان حولهما متفقاً بأن ملك كل واحد منهما نصابه في المحرم ثم خلطاه في صفر ففيه قولان: قال في القديم: يبنى حول الخلطة على حول الانفراد فإذا حال الحول على ماليهما لزمهما شاة واحدة لأن الاعتبار في قدر الزكاة بآخر الحول بدليل أنه لو كان معه مائة وإحدى وعشرون شاة ثم تلفت واحدة منها قبل الحول بيوم لم تجب إلا شاة ولو كانت مائة وعشرون ثم ولدت واحدة قبل الحول بيوم وجبت شاتان وقد وجدت الخلطة ههنا في آخر الحول فوجبت زكاة الخلطة وقال في الجديد: لا يبني على حول الانفراد فيجب على كل واحد منهما شاة لأنه قد انفرد كل واحد منهما في بعض الحول فكان زكاتهما زكاة الانفراد كما لو كانت الخلطة قبل الحول بيوم أو بيومين وهذا يخالف ما ذكروه فإن هناك لو وجدت زيادة شاة أو هلاك شاة قبل الحول بيوم أو بيومين تغيرت الزكاة

ولو وجدت الخلطة قبل الحول بيوم أو يومين لم يزكيا زكاة الخلطة وأما في السنة الثانية وما بعدها فإنها يزكيان زكاة الخلطة وإن كان حولهما مختلفان بأن ملك أحدهما في أول المحرم والآخر في أول صفر ثم خلطا في أول ربيع الأول فإنه يجب في قوله القديم على كل واحد منهما عند تمام حوله نصف شاة وعلى قوله الجديد تجب على كل واحد منهما شاة وأما في السنة الثانية وما بعدها فإنه يجب عليهما زكاة الخلطة وقال أبو العباس: يزكيان أبداً زكاة الانفراد لأنهما مختلفان في الحول فزكيا زكاة الانفراد كالسنة الأولى والأول هو المذهب لأنهما ارتفقا بالخلطة في حول كامل فصار كما لو اتفق حولهما وإن ثبت لمال أحدهما حكم الانفراد دون الآخر وذلك مثل أن يشتري أحدهما في أول المحرم أربعين شاة واشترى آخر أربعين شاة وخلطها بغنمه ثم باعها في أول صفر من رجل آخر فإن الثاني ملك الأربعين مختلطة لم يثبت لها حكم الانفراد والأول قد ثبت لغنمه حكم الانفراد فإن قلنا بقوله القديم وجب على المالك في أول المحرم نصف شاة وإن قلنا بقوله الجديد وجب عليه شاة وفي المشتري في صفر وجهان: أحدهما تجب عليه شاة لأن المالك في المحرم لم يرتفق بالخلطة فلا يرتفق المالك في صفر والثاني تجب عليه نصف شاة لأن غنمه لم تنفك عن الخلطة في جميع السنة بخلاف المشتري في المحرم وإن ملك رجل أربعين شاة ومضى عليها نصف حول ثم باع نصفها مشاعاً فإذا تم حول البائع وجب عليه نصف شاة على المنصوص وقال أبو علي بن خيران المسألة على قولين: إن قلنا بقوله الجديد إن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد انقطع حول البائع فيما لم يبع وإن قلنا بقوله القديم إن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد لم ينقطع حوله وهذا خطأ لأن الانتقال من الانفراد إلى الخلطة لا يقطع الحول وإنما القولان في نقصان الزكاة وزيادتها دون قطع الحول وأما المبتاع فإنا إن قلنا إن الزكاة تتعلق بالذمة وجب على المبتاع الزكاة وإن قلنا إنها تجب في العين لم يجب عليه زكاة لأنه بحول الحول زال ملكه عن قدر الزكاة فينقص النصاب وقال أبو إسحاق: فيه قول آخر إن الزكاة تجب فيه ووجهه أنه إذا أخرجها من غيرها تبينا أن الزكاة لم تتعلق بالعين ولهذا قال في أحد القولين إنه إذا باع ما وجبت فيه الزكاة وأخرج الزكاة من غيره صح البيع والصحيح هو الأول لأن الملك قد زال وإنما يعود بالإخراج من غيره وأما إذا باع عشرين منها بعينها نظرت فإن أفردها وسلمها انقطع الحول فإن سلمها

وهي مختلطة بما لم يبع بأن ساق الجميع حتى حصل في قبض المشتري لم ينقطع الحول وحكمه حكم ما لو باع نصفها مشاعاً ومن أصحابنا من قال ينقطع الحول لأنه لما أفردها بالبيع صار كما لو أفردها عن الذي لم يبع والأول هو الصحيح لأنه لم يزل الاختلاط فلم يزل حكمه فإن كان بين رجلين أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون ولأحدهما أربعون منفردة وتم الحول ففيه أربعة أوجه: أحدها وهو المنصوص أنه تجب شاة ربعها على صاحب العشرين والباقي على صاحب الستين لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك فيضم الأربعون المنفردة إلى العشرين المختلطة فإذا انضمت إلى العشرين المختلطة انضمت أيضاً إلى العشرين التي لخليطه فيصير الجميع كأنهما في مكان واحد فوجب فيه ما ذكرناه والثاني أنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة لأن الأربعين المنفردة تضم إلى العشرين بحكم الملك فيصير ستين فيصير مخالطاً بجميعها لصاحب العشرين فتجب عليه ثلاثة أرباع شاة وصاحب العشرين مخالط بالعشرين التي له العشرين التي لصاحبه فوجب عليه نصف شاة فأما الأربعون المنفردة فلا خلطة له بها فلم يرتفق بها في زكاته والثالث أنه تجب على صاحب الستين شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة لأن صاحب العشرين مخالط بعشرين فلزمه نصف شاة وصاحب الستين له مال منفرد ومال مختلط وزكاة المنفرد أقوى فغلب حكمها والرابع أنه تجب على صاحب الستين شاة إلا نصف سدس شاة وعلى صاحب العشرين شاة لأن لصاحب الستين أربعين منفردة فتزكى زكاة الانفراد فكأنه منفرد بستين شاة فيجب عليه فيها شاة يخص الأربعين منها ثلثا شاة وله عشرون مختلطة فتزكى زكاة الخلطة فكأن جميع الثمانين مختلطة فيخض العشرين منها ربع شاة فتجب عليه شاة إلا نصف سدس شاة ثلثا شاة في الأربعين المنفردة وربع شاة في العشرين المختلطة وأقل عدد يخرج منه ربع وثلثان اثنا عشر الثلثان منها ثمانية والربع منها ثلاثة فذلك أحد عشر سهماً فيجب عليه أحد عشر سهماً من اثني عشر سهماً من شاة ويجب على صاحب العشرين نصف شاة لأن الخلطة تثبت في حقه في الأربعين الحاضرة. "فرع" وإن كان لرجل ستون شاة فخالط بكل عشرين رجلاً له عشرون شاة ففيه ثلاثة أوجه على منصوص الشافعي رحمه الله في المسألة قبلها يجعل بضم الغنم بعضها إلى بعض وهل كان جميعها مختلطة فيجب فيها شاة على صاحب الستين نصفها وعلى الشركاء نصفها على كل واحد سدس شاة ومن قال في المسألة قبلها إن على صاحب

الستين شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة يجب ها هنا على صاحب الستين شاة لأن غنمه يضم بعضها إلى بعض وتجعل كأنها منفردة فتجب فيها شاة ويجب على كل واحد من الثلاثة نصف شاة لأن الخلطة في حق كل واحد منهم ثابتة في العشرين التي له وفي العشرين التي لخليطه ومن قال في المسألة قبلها إنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة يجب ها هنا على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة وعلى كل واحد من الشركاء نصف شاة لأنه لا يمكن ضم الأملاك الثلاثة بعضها إلى بعض لأنها متميزة في شروط الخلطة وأما الستون فإنه يضم بعضها إلى بعض بحكم الملك ولا يمكن ضم كل عشرين منها إلى واحد من الثلاثة فيقال لصاحب الستين قد انضم غنمك بعضها إلى بعض فضم الستين إلى غنم من شئت منهم فتصير ثمانين فتجب فيها شاة ثلاثة أرباعها على صاحب الستين وعلى كل واحد من الثلاثة نصف شاة لأن الخلطة ثابتة في حق كل واحد منهم في الأربعين. فصل: فأما أخذ الزكاة من مال الخلطة ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: إذا وجد ما يجب على كل واحد منهما في ماله لم يأخذه من مال الآخر وإن لم يجد الفرض إلا في مال أحدهما أو كان بينهما نصاب والواجب شاة جاز أن يأخذ من أي النصيبين شاء وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز أن يأخذ من أي المالين شاء سواء وجد الفرض في نصيبهما أو في نصيب أحدهما لأنا جعلنا المالين كالمال الواحد فوجب أن يجوز الأخذ منهما فإن أخذ الفرض من نصب أحدهما رجع على خليطه بالقيمة فإن اختلفا في قيمة الفرض فالقول قول المرجوع عليه لأنه غارم فكان القول قوله كالغاصب وإن أخذ المصدق أكثر من الفرض بغير تأويل لم يرجع بالزيادة لأنه ظلمه فلا يرجع به على غير الظالم وإن أخذ أكثر من الحق بتأويل بأن أخذ الكبيرة من السخال على قول مالك فإنه يرجع عليه بنصف ما أخذ منه لأنه سلطان فلا ينقص عليه ما فعله باجتهاده وإن أخذ منه قيمة الفرض ففيه وجهان: من أصحابنا من قال لا يرجع عليه بشيء لأن القيمة لا تجزي في الزكاة بخلاف الكبيرة فإنها تجزئ عن الصغار ولهذا لو تطوع بالكبيرة قبلت منه والثاني يرجع وهو الصحيح لأنه أخذه باجتهاده فأشبه إذا أخذ الكبير عن السخال. فصل: فأما الخلطة في غير المواشي وهي الأثمان والحبوب والثمار ففيها قولان: قال في القديم: لا تأثير للخلطة في زكاتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والرعي" ولأن الخلطة إنما تصح في المواشي لأن فيها منفعة بإزاء

الضرر وفي غيرها لا يتصور غير الضرر لأنه لا وقص فيها بعد النصاب وقال في الجديد: تؤثر الخلطة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع"1 ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن فهي كالمواشي.

_ (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 34. الترمذي في كتاب الزكاة باب 4. النسائي في كتاب الزكاة 5. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 11؟ الدارمي في كتاب الزكاة باب 8. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 23.

باب زكاة الثمار

باب زكاة الثمار وتجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم لما روى عتاب بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الكرم إنها تخرص كما يخرص النخل فتؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً ولأن ثمرة النخل والكرم يعظم منفعتهما لأنهما من الأقوات والأموال المدخرة فهي كالأنعام في المواشي. فصل: ولا تجب فيما سوى ذلك من الثمار كالتين والتفاح والسفرجل والرمان لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة المقتاتة ولا تجب في طلع الفحال لأنه لا يجيء منه الثمار واختلف قوله في الزيتون فقال في القديم تجب فيه الزكاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل في الزيت العشر وعن ابن عباس أنه قال في الزيتون الزكاة وعلى هذا القول إن أخرج الزيت عنه جاز لقول عمر رضي الله عنه ولأن الزيت أنفع من الزيتون فكان أولى بالجواز وقال في الجديد: لا زكاة فيه لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالخضراوات واختلف قوله في الورس وقال في الجديد لا زكاة فيه لأنه نبت لا يقتات به فأشبه الخضراوات قال الشافعي رحمه الله: من قال لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران ومن قال يجب في الورس فيحتمل أن يوجب في

الزعفران لأنهما طيبان ويحتمل أن لا يوجب في الزعفران ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق والزعفران نبات واختلف قوله في العسل فقال في القديم: يحتمل أن يجب فيه ووجهه ما روي أن بني شبابة بطناً من فهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحل كان عندهم العشر من عشر قرب قربة وقال في الجديد لا تجب لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض واختلف قولهم في القرطم وهو حب العصفر فقال في القديم: تجب إن صح فيه حديث أبي بكر رضي الله عنه وقال في الجديد لا تجب لأنه ليس بقوت فأشبه الخضراوات فصل: ولا تجب الزكاة في ثمر النخل والكرم إلا أن يكون نصاباً ونصابه خمسة أوسق لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة1" والخمسة الأوسق ثلثمائة صاع وهو ألف وستمائة رطل بالبغدادي وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان: أحدهما أنه قريب فلو نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة والدليل عليه أن الوسق حمل البعير قال النابغة: أين الشظاظان وأين المربعه ... وأين وسق الناقة المطبعه وحمل البعير يزيد وينقص والثاني أنه تحديد فإن نقص منه شيء قليل لم تجب الزكاة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوسق ستون صاعا"

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 4، 32. مسلم في كتاب الزكاة حديث 1، 3 أبو داود في كتاب الزكاة باب 2. الترمذي في كتاب الزكاة باب 7. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 6. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 1، 2. أحمد في مسنده "2/92".

ولا تجب حتى يكون يابسه خمسة أوسق لحديث أبي سعيد "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" فإن كان رطباً لا يجيء منه ثمر أو عنباً لا يجيء منه زبيب ففيه وجهان: أحدهما يعتبر نصابه بنفسه وهو أن يبلغ يابسه خمسة أوسق لأن الزكاة تجب فيه فاعتبر النصاب من يابسه والثاني أنه يعتبر بغيره لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه فاعتبره بغيره كالجناية التي ليس لها أرش مقدر في الحر فإنه يعتبر بالعبد وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب وإن اختلفت أوقاته بأن كان له نخيل بتهامة ونخيل بنجد فأدرك ثمر التي بتهامة فجذها وحملت التي بنجد وأطلعت التي بتهامة وأدركت قبل أن يجذ التي بنجد لم يضم أحدهما إلى الآخر لأن ذلك ثمرة عام آخر وإن حملت نخل حملاً فجذها ثم حملت حملاً آخر لم يضم ذلك إلى الأول لأن النخل لا يحمل في عام مرتين فيعتبر كل واحد منهما بنفسه فإن بلغ نصاباً وجب فيه العشر وإن لم يبلغ لم يجب. فصل: وزكاته العشر فيما سقى بغير مؤنة ثقيلة كماء السماء والأنهار وما يشرب بالعروق ونصف العشر فيما سقى بمؤنة ثقيلة كالنواضح والدواليب وما أشبههما لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً وروى عثرياً العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر والبعل الشجر الذي يشرب بعروقه والعثري الشجر الذي يشرب من الماء الذي يجتمع في موضع فيجري كالساقية ولأن المؤنة في أحدهما تخف وفي الآخر تثقل ففرق بينهما في الزكاة وإن كان يسقي نصفه بالناضح ونصفه بالسيح ففيه ثلاثة أرباع العشر اعتباراً باليقين وإن سقى بأحدهما أكثر ففيه

قولان: أحدهما يعتبر فيه الغالب فإن كان الغالب السقي بماء السماء أو السيح وجب العشر وإن كان الغالب السقي بالناضح وجب فيه نصف العشر لأنه اجتمع الأمران ولأحدهما قوة بالغلبة فكان الحكم له كالماء إذا خالطه مائع والقول الثاني يقسط على عدد السقيات لأن ما وجب فيه الزكاة بالقسط عند التماثل وجب فيه بالقسط عند التفاضل كزكاة الفطر في العبد المشترك وإن جهل القدر الذي سقى بكل واحد منهما جعلا نصفين لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب التسوية بينهما كالدار في يد اثنين وإذا زادت الثمرة على خمسة أوسق وجب الفرض فيه بحسابه لأنه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيه بحسابه كزكاة الأثمان. فصل: ولا يجب العشر حتى يبدو الصلاح في الثمار وبدو الصلاح أن يحمر البسر أو يصفر ويتموه العنب لأن قبل بدو الصلاح لا يقصد أكله فهو كالرطبة وبعده يقتات ويؤكل فهو كالحبوب فإن أراد أن يبيع الثمرة قبل بدو الصلاح نظرت فإن كان لحاجة لم يكره وإن كان يبيع للفرار من الزكاة كره لأنه فرار من القربة ومواساة المساكين فإن باع صح البيع لأنه باع ولا حق لأحد فيه وإن باع بعد بدو الصلاح ففي البيع في قدر الفرض قولان: أحدهما أنه باطل لأن في أحد القولين تجب الزكاة في العين وقدر الفرض للمساكين فلا يجوز بيعه بغير إذنهم وفي الآخر تجب في الذمة والعين مرهونة به وبيع المرهون لا يجوز من غير إذن المرتهن والثاني أنه يصح لأنا إن قلنا إن الزكاة تتعلق بالعين إلا أن أحكام الملك كلها ثابتة والبيع من أحكام الملك وإن قلنا إنها تجب في الذمة والعين مرتهنة به إلا أنه رهن يثبت بغير اختياره فلم يمنع البيع كالجناية في رقبة العبد فإن قلنا يصح في قدر الفرض ففيما سواه أولى وإن قلنا لا يصح في قدر الفرض ففيما سواه قولان بناء على تفريق الصفقة فإن أكل شيئاً من الثمار أو استهلكه وهو عالم عزر وغرم وإن كان جاهلاً غرم ولم يعزر وإن أصاب النخل عطش بعد بدو الصلاح وخاف أن يهلك جاز أن يقطع الثمار لأن الزكاة تجب على سبيل المواساة فلو ألزمناه تركها لحق المساكين صار ذلك سبباً لهلاك ماله فيخرج عن حد المواساة ولأن حفظ النخيل أنفع للمساكين في مستقبل الأحوال ولا يجوز أن يقطع إلا بحضرة المصدق ولأن الثمرة مشتركة بينه وبين المساكين فلا يجوز إلا بمحضر من النائب عنهم ولا يقطع إلا ما تدعو الحاجة إليه فإن قطع من غير حضور المصدق وهو عالم عزره إن رأى ذلك ولا يغرمه ما نقص لأنه لو حضر لوجب عليه أن يأذن له في قطعه وإن نقص به الثمرة. فصل: والمستحب إذا بدا الصلاح في النخل والكرم أن يبعث الإمام من يخرص

لحديث عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكرم يخرص كما يخرص النخل ويؤدى زكاته زبيباً كما يؤدى زكاة النخل تمراً ولأن في الخرص احتياطاً لرب المال والمساكين فإن رب المال يملك التصرف بالحرص ويعرف المصدق حق المساكين فيطالب به وهل يجوز خارص واحد أم لا؟ فيه قولان أحدهما يجوز وهو الصحيح كما يجوز حاكم واحد والثاني لا يجوز أقل من خارصين كما لا يجوز أقل من مقومين فإن كانت أنواعاً مختلفة خرص عليه نخلة نخلة وإن كانت نوعاً واحداً فهو بالخيار بين أن يخرص نخلة نخلة وبين أن يخرص الجميع دفعة فإذا عرف مبلغ الجميع ضمن رب المال حق الفقر فإن ضم حقهم جاز له أن يتصرف فيه بالبيع والأكل وغير ذلك فإن ادعى رب المال بعد الخرص هلاك الثمرة فإن كان ذلك لجائحة ظاهرة لم يقبل حتى يقيم البينة فإذا أقام البينة أخذ بما قال وإن لم يصدقه حلفه وهل اليمن مستحبة أو واجبة؟ فيه وجهان: أحدهما أنها واجبة فإن حلف سقطت الزكاة وإن نكل لزمته الزكاة والثاني أنها مستحبة فإن حلف سقطت الزكاة وإن نكل سقطت الزكاة وإن ادعى الهلاك بسبب يخفى كالسرقة وغيرها فالقول قوله مع يمينه وهل اليمين واجبة أو مستحبة على الوجهين فإن تصرف رب المال في الثمار وادعى أن الخارص قد أخطأ في الخرص نظرت فإن كان في قدر لا يخطئ فيه كالربع والثلث لم يقبل قوله وإن كان في قدر يجوز أن يخطئ فيه قبل قوله مع يمينه وهل تجب اليمين أو تستحب على الوجهين. فصل: ولا تؤخذ زكاة الثمار إلا بعد أن تجفف لحديث عتاب بن أسيد في الكرم يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً فإن أخذ الرطب وجب رده وإن فات وجب رد قيمته ومن أصحابنا من قال يجب رد مثله والمذهب الأول لأنه لا مثل له لأنه يتفاوت ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض فإن كانت الثمار نوعاً واحداً أخذ الواجب منه لقوله عز وجل {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] وإن كانت أنواعاً قليلة أخذ الزكاة من كل نوع بقسطه وإن كانت أنواعاً كثيرة أخرج من أوسطها لا من النوع الجيد ولا من النوع الرديء لأن أخذها من كل صنف بقسطه يشق فأخذ الوسط وإن كان رطباً لا يجيء منه التمر كالهلياث والسكر أو عنباً لا يجيء منه الزبيب أو أصاب النخل عطش فخاف عليها من ترك الثمار ففي القسمة قولان: إن قلنا إن القسمة فرز النصيبين جازت المقسمة فيجعل العشر في نخلات ثم المصدق ينظر فإن رأى أن يفرق عليهم فعل وإن رأى البيع

وقسمة الثمن فعل وإن قلنا إن القسمة بيع لم يجز لأنه يكون بيع رطب برطب وذلك ربا فعلى هذا يقبض المصدق عشرها مشاعاً بالتخلية بينه وبينها ويستقر عليه ملك المساكين ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرق عليهم وإن قطعت الثمار فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين تقاسموا كيلاً أو وزناً وإن قلنا إنها بيع لم تجز المقاسمة بل يسلم العشر إلى المصدق ثم يبيعه ويفرق ثمنه وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: تجوز المقاسمة كيلاً ووزناً على الأرض لأنه يمكنه أن يخلص حقوق المساكين بالكيل والوزن ولا يمكن ذلك في النخل والصحيح أنه لا فرق بين أن تكون على الشجر وبين أن تكون على الأرض لأنه بيع رطب برطب على هذا القول.

باب زكاة الزروع

باب زكاة الزروع وتجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض مما يقتات ويدخر وينبته الآدميون كالحنطة والشعير والدخن والذرة والجاورس والأرز وما أشبه ذلك لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فيما سقت السماء والبعل والسيل والعين العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر1" يكون ذلك في الثمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضراوات فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية كذلك تجب الزكاة في القطنية وهي العدس والحمص والماش واللوبيا والباقلا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 55. أبو داود في كتاب الزكاة باب 12. الترمذي في كتاب الزكاة باب 14. النسائي في كتاب الزكاة باب 25. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 33.

والهرطمان لأنه يصلح للإقتيات ويدخر للأكل فهو كالحنطة والشعير. فصل: ولا تجب الزكاة إلا في نصاب لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة1" ونصابه خمسة أوسق إلا الأرز والعلس فإن نصابها عشرة أوسق لأنهما يدخران في القشر ويجيء من كل وسقين وسق وزكاته العشر ونصف العشر على ما ذكرناه في الثمار فإن زاد على خمسة أوسق شيء وجب فيه بحسابه لأنه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيما زاد على النصاب بحسابه كالأثمان وتضم النواع من جنس واحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب فيضم العلس إلى الحنطة لأنه صنف منه ولا يضم السلت إلى الشعير والسلت حب يشبه الحنطة في الملامسة ويشبه الشعير في طوله وبرودته وقال أبو علي الطبري: يضم السلت إلى الشعير كما يضم العلس إلى الحنطة والمنصوص في البويطي أنه لا يضم لأنهما جنسان بخلاف الحنطة والعلس. فصل: وإن اختلفت أوقات الزرع ففي ضم بعضه إلى بعض أربعة أقوال: أحدهما أن الاعتبار بوقت الزراعة فكل زرعين زرعا في فصل واحد من صيف أو شتاء أو ربيع أو خريف ضم بعضه إلى بعض لأن الزراعة هي الأصل والحصاد فرع فكان اعتبار الأصل أولى والثاني أن الاعتبار بوقت الحصاد فإذا اتفق حصادهما في فصل ضم أحدهما إلى الآخر لأنه حالة الوجوب فكان اعتباره أولى والثالث يعتبر أن تكون زراعتهما في فصل وحصادهما في فصل لأن في زكاة المواشي والأثمان يعتبر الطرفان فكذلك ههنا والرابع يعتبر أن يكونا من زراعة عام واحد كما قلنا في الثمار. فصل: ولا يجب العشر قبل أن ينعقد الحب فإذا انعقد الحب وجب لأنه قبل أن ينعقد الحب كالخضراوات وبعد الانعقاد صار قوتاً يصلح للإدخار فإن زرع الذرة فأدرك وحصد ثم سنبل مرة أخرى فهل يضم الثاني إلى الأول؟ فيه وجهان: أحدهما لا

_ 1 تقدم

يضم كما لو حملت النخل ثمرة فجذها ثم حملت حملاً آخر والثاني يضم ويخالف النخل لأنه يراد للتأبيد فجعل لكل حمل حكم والزرع لا يراد للتأبيد فكان الحملان لعام واحد. فصل: ولا تؤخذ زكاة الحبوب إلا بعد التصفية كما لا تؤخذ زكاة الثمار إلا بعد الجفاف. فصل: وإن كان الزرع لواحد والأرض لآخر وجب العشر على مالك الزرع عند الوجوب لأن الزكاة تجب في الزرع فوجبت على مالكه كزكاة التجارة تجب على مالك المال دون مالك الدكان. فصل: فإن كان على أرض خراج وجب الخراج في وقته ويجب العشر في وقته ولا يمنع وجوب أحدهما وجوب الآخر لأن الخراج يجب للأرض والعشر يجب للزرع فلا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر وزكاة التجارة.

باب زكاة الذهب والفضة

باب زكاة الذهب والفضة وتجب الزكاة في الذهب والفضة لقوله عز وجل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] ولأن الذهب والفضة معدان للنماء فهو كالإبل والبقر السائمة ولا تجب فيما سواهما من الجواهر كالياقوت والفيروزج والؤلؤ والمرجان لأن ذلك معد للاستعمال فهو كالإبل والبقر العوامل ولا تجب فيما دون النصاب من الذهب والفضة ونصاب الذهب عشرون مثقالاً لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ولا يجب في اقل من عشرين مثقالاً من الذهب شيء" ونصاب الفضة مائتا درهم والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله

عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا بلغ مال أحدكم خمس أواق مائتي درهم ففيه خمسة دراهم1" والاعتبار بالمثقال الذي كان بمكة ودراهم الإسلام التي كانت كل عشرة بوزن سبعة مثاقيل وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة2" ولا يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب لأنهما جنسان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالإبل والبقر وزكاتهما ربع العشر نصف مثقال عن عشرين مثقالاً من الذهب وخمسة دراهم من مائتي درهم والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات "في الرقة ربع العشر3" وروى عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ليس في أقل من عشرين ديناراً شيء وفي عشرين نصف دينار وتجب فيما زاد على النصاب بحسابه لأنه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيما زاد بحسابه ويجب في الجيد الجيد وفي الرديء الرديء وإن كانت أنواعاً قليلة وجب في كل نوع بقسطه وإن كثرت الأنواع أخرج من الأوسط كما قلنا في الثمار وإن لم يعرف قدر ما فيه من الذهب أو الفضة فهو بالخيار إن شاء سبك الجميع ليعرف الواجب فيخرجه وإن شاء أخرج واستظهر ليسقط الفرض بيقين. فصل: وإن كان له دين نظرت فإن كان ديناً غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته لأن ملكه غير تام عليه فإن العبد يقدر أن يسقطه وإن كان لازماً نظرت فإن كان على مقر مليء لزمه زكاته لأنه مقدور على قبضه فهو كالوديعة وإن كان على مليء جاحد أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب وفيه قولان وقد بيناه في الزكاة وإن كان له دين مؤجل

_ 1رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 32. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 6. مسلم في كتاب الزكاة حديث 7. الموطأ في كتاب الزكاة باب 1. 2 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 8. النسائي في كتاب الزكاة باب 44. 3 رواه أحمد في مسنده "1/12".

ففيه وجهان: قال أبو إسحاق هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد فيكون على قولين وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا تجب فيه الزكاة فإذا قبضه استقبل به الحول لأنه لا يستحقه ولو حلف أنه لا يستحقه كان باراً والأول أصح لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه وإن كان له مال غائب فإن كان مقدوراً على قبضه وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب وإن كان معه أجرة دار لم يستوف المستأجر منفعتها وحال عليها الحول وجبت فيه الزكاة لأنه يملكها ملكاً تاماً وفي وجوب الإخراج قولان قال في البويطي يجب لأنه يملكه ملكاً تاماً فأشبه مهر المرأة وقال في الأم لا يجب لأن ملكه قبل استيفاء المنفعة غير مستقر لأنه قد تنهدم الدار فتسقط الأجرة فلم تجب الزكاة فيه كدين الكتابة والأول أصح لأن هذا يبطل بالصداق قبل الدخول فإنه يجوز أن يسقط بالردة ويسقط نصفه بالطلاق ثم يجب إخراج زكاته. فصل: ومن ملك مصوغاً من الذهب والفضة فإن كان معداً للقنية وجبت فيه الزكاة لأنه مرصد للنماء فهو كغير المصوغ وإن كان معداً للاستعمال نظرت فإن كان لاستعمال محرم كأواني الذهب والفضة وما يتخذه الرجل لنفسه من سوار أو طوق أو خاتم ذهب أو ما يحلى به المصحف أو يؤزر به المسجد أو يموه به السقف أو كان مكروهاً كالتضبيب القليل للزينة وجبت فيه الزكاة لأنه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط كحلي النساء وما أعدلهن وخاتم الفضة للرجال ففيه قولان: أحدهما لا تجب فيه الزكاة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس في الحلى زكاة" ولأنه معد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر والثاني تجب فيه الزكاة واستخار الله فيه الشافعي واختاره لما روي أن امرأة من اليمن جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها في يدها

مسكتان غليظتان من الذهب فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعطين زكاة هذا؟ فقالت لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ " فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله ولأنه من جنس الأثمان فأشبه الدراهم والدنانير وفيما لطخ به اللجام وجهان: قال أبو الطيب بن سلمة أنه مباح كالذي حلى به المنطقة والسيف فيكون على قولين وقال أبو إسحاق لا يحل وهو المنصوص لأن هذا حلية للدابة بخلاف السيف والمنطقة فإن ذلك حلية للرجل في الحرب فحل وإن كان للمرأة حلي فانكسر بحيث لا يمكن لبسه فوجبت فيه الزكاة كما لو تفتت والثاني لا تجب لأنه للإصلاح واللبس أقرب وإن كان لها حلي معد للإجارة ففيه طريقان: أحدهما أنه تجب فيه الزكاة قولاً واحداً لأنه معد لطلب النماء فأشبه إذا اشتراه للتجارة والثاني أنه على قولين لأن النماء المقصود قد فقد لأن ما يحصل من الأجرة قليل فلم يؤثر في إيجاب الزكاة كأجرة العوامل من الإبل والبقر وإذا وجبت الزكاة في حلى تنقص قيمته بالكسر ملك الفقراء ربع العشر منه ويسلمه إليهم بتسليم مثله ليستقر ملكهم عليه كما قلنا في الرطب الذي لا يجيء منه تمر وقال أبو العباس: يخرج زكاته لأنه يشق تسليم بعضه والأول أظهر.

باب زكاة التجارة

باب زكاة التجارة تجب الزكاة في عروض التجارة لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته" ولأن التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية. فصل: ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين: أحدهما أن يملكه بعقد يجب فيه العوض كالبيع والإجارة والنكاح والخلع والثاني أن ينوي عند العقد أنه يتملكه للتجارة

فأما إذا ملكه بإرث أو وصية أوهبة من غير شرط الثواب لم يصر للتجارة بالنية وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة وقال الكرابيسي من أصحابنا: إذا ملك عرضاً ثم نوى به التجارة صار للتجارة كما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية والمذهب الأول لأن ما لا يكون الزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى إسامتها ويفارق إذا نوى القنية بمال التجارة لأن القنية هي الإمساك بنية القنية وقد وجد الإمساك والنية والتجارة هي التصرف بنية التجارة وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف فلم يصر للتجارة. فصل: إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه كنصاب السائمة والكرم والنخل نظرت فإن وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى كخمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهم وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه لأنه وجد سببها ولم يوجد ما يعارضه فوجبت وإن وجد نصابهما ففيه طريقان: قال أبو إسحاق: إن سبق حول التجارة بأن يكون عنده نصاب من الأثمان مدة ثم اشترى به نصاباً من السائمة وجبت زكاة التجارة فيه وإن سبق وجوب زكاة العين بأن اشترى نخلاً للتجارة فبدا فيها الصلاح قبل أن يحول حول التجارة وجبت زكاة العين لأن السابق منهما قد وجد سبب وجوب زكاته وليس هناك زكاة تعارضها فوجبت كما قلنا في ما وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى وإن وجد سببهما في وقت واحد مثل أن يشتري بما تجب فيه الزكاة نصاباً من السائمة للتجارة ففيه قولان: قال في القديم: تجب زكاة التجارة لأنها أنفع للمساكين لأنها تزداد القيمة فكان إيجابها أولى وقال في الجديد تجب زكاة العين لأنها أقوى لأنها مجمع عليها وزكاة التجارة مختلف في وجوبها ولأن نصاب العين يعرف قطعاً ونصاب التجارة يعرف بالظن فكانت زكاة العين أولى وقال القاضي أبو حامد في المسألة قولان: سواء اتفق حولهما أو سبق حول أحدهما والأول أصح فإن كان المشتري نخيلاً وقلنا بقوله القديم قوم النخيل والثمرة وأخرج الزكاة عن قيمتهما وإن قلنا بقوله الجديد لزمه عشر الثمرة وهل يقوم النخيل؟ فيه قولان: أحدهما لا يقوم لأن

المقصود هو الثمار وقد أخرجنا عنها العشر والثاني يقوم ويخرج الزكاة من قيمتها لأن العشر زكاة الثمار فأما الأصول فلم يخرج زكاتها فوجب أن تقوم وتخرج عنها الزكاة وإن اشترى عبداً للتجارة وجبت عليه فطرته لوقتها وزكاة التجارة لحولها لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين فلم يمنع أحدهما الآخر كالجزاء والقيمة وحد الزنا والشرب وإن اشترى للتجارة عرضاً لا تجب فيه الزكاة لم يخل إما أن يشتري بعرض أو نقد فإن اشتراه بنقد نظرت فإن كان نصاباً جعل ابتداء الحول من حين ملك النصاب من النقد ويبني حول العرض الذي اشتراه عليه لأن النصاب هو الثمن وكان ظاهراً فصار في ثمن السلعة كامناً فبنى حوله عليه كما لو كان عيناً فأقرضه فصار ديناً وإن اشتراه بدون النصاب انعقد الحول عليه من حين الشراء سواء كانت قيمة العرض نصاباً أو أقل وقال أبو العباس: لا ينعقد الحول إلا أن يكون قيمته من أول الحول إلى آخره نصاباً كسائر الزكوات والمنصوص في الأم هو الأول لأن نصاب زكاة التجارة يتعلق بالقيمة وتقويم العرض في كل ساعة يشق فلم يعتبر إلا في حال الوجوب ويخالف سائر الزكوات فإن نصابها في عينها فلم يشق اعتباره في جميع الحول وإن اشتراه بعرض للقنية نظرت فإن كان من غير أموال الزكاة انعقد الحول عليه من يوم الشراء وإن اشتراه بنصاب من السائمة ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري: يبني حول التجارة على حول السائمة لأن الشافعي رحمه الله قال في المختصر: ولو اشترى عرضاً للتجارة بدراهم أو دنانير أو بشيء تجب فيه الصدقة لم يقوم عليه حتى يحول الحول من يوم ملك ثمن العرض والدليل عليه أنه ملكه بما يجزي في الحول فبنى حوله على حوله كما لو اشتراه بنصاب من الأثمان وقال أكثر أصحابنا: لا يبني على حول السائمة وتأولوا قوله في المختصر والدليل عليه أن الزكاة تتعلق بقيمة العرض والماشية ليست بقيمة فلم يبن حوله على حولها ويخالف الأثمان لأنها قيمة وإنما كانت عيناً ظاهرة فخفيت كالعين إذا صارت ديناً. فصل: إذا باع عرضاً للتجارة في أثناء الحول بعرض للتجارة لم ينقطع الحول لأن زكاة التجارة تتعلق بالقيمة وقيمة الثاني وقيمة الأول واحدة وإنما انتقلت من سلعة إلى سلعة فلم ينقطع الحول كمائتي درهم من بيت إلى بيت وإن باع العرض بالدراهم أو الدنانير نظرت فإن باعه بقدر قيمته بنى حول الثمن على حول العرض كما يبني حول العرض على حول الثمن وإن باعه بزيادة مثل أن يشتري العرض بمائتين فباعه في أثناء الحول بثلثمائة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يزكي المائتين لحولها ويستأنف الحول

للزيادة قولاً واحداً وقال أبو إسحاق في الزيادة قولان: أحدهما يزكيها لحول الأصل لأنه نماء الأصل فزكى لحول الأصل كالسخال والثاني يستأنف الحول لأنها فائدة غير متولدة مما عنده فلا يزكي لحوله كما لو استفاد الزيادة بإرث أو هبة فإذا قلنا يستأنف الحول الزيادة ففي حولها وجهان: أحدهما من حين ينض لأنه لا يتحقق وجودها قبل أن ينض والثاني من حين يظهر وهو الأظهر لأنه قد ظهر فإذا نض علمنا أنه قد ملكه من ذلك الوقت وإن كان عنده نصاب من الدراهم فباعه بالدراهم أو الدنانير فإن فعل ذلك لغير تجارة انقطع الحول فيما باع واستقبل الحول فيما اشترى وإن فعله للتجارة كما يفعل الصيارف ففيه وجهان: أحدهما أنه ينقطع الحول لأنه مال تجب الزكاة في عينه فانقطع الحول فيه بالمبادلة كالماشية والثاني لا ينقطع الحول لأنه باع مال التجارة بمال للتجارة فلم ينقطع الحول كما لو باع عرضاً بعرض. فصل: إذا حال الحول على عرض التجارة وجب تقويمه لإخراج الزكاة فإن اشتراه بنصاب من الأثمان قوم به لأنه فرع لما اشترى به فوجب التقويم به وإن اشتراه بعرض للقنية قوم بنقد البلد لأنه لا يمكن تقويمه بأصله فوجب تقويمه بنقد البلد فإن كان في البلد نقدان قوم بأكثرهما معاملة وإن كانا متساويين نظرت فإن كان بأحدهما يبلغ نصاباً وبالآخر لا يبلغ نصاباً قوم بما يبلغ به لأنه قد وجد نصاب تتعلق به الزكاة فوجب التقويم به وإن كان يبلغ بكل واحد منهما نصاباً ففيه أربعة أوجه: أحدها أنه يقوم بما شاء منهما وهو قول أبي إسحاق وهو الأظهر لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فخير بينهما والثاني يقوم بما هو أنفع للمساكين كما إذا اجتمع في النصاب فرضان أخذ ما هو أنفع للمساكين والثالث يقوم بالدراهم لأنها أكثر استعمالاً والرابع يقوم بنقد أقرب البلاد إليه لأن النقدين تساويا فجعلا كالمعدومين فإن قومه ثم باعه بزيادة على قيمته قبل إخراج الزكاة ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه زكاة تلك الزيادة لأنها زيادة حدثت بعد الوجوب فلم تلزمه زكاتها كالسخال الحادثة بعد الحول والثاني تلزمه لأن الزيادة حصلت في نفس القيمة التي تعلق بها الوجوب فهو بمنزلة الماشية إذا سمنت بعد الحول فإنه يلزمه إخراج فرض سمين وإن اشتراه بما دون النصاب من الأثمان ففيه وجهان: أحدهما يقوم بنقد البلد لأنه ملكه بما لا تجب فيه الزكاة فأشبه إذا ملكه بعرض للقنية والثاني أنه يقوم بالنقد الذي اشتراه به لأنه أصل يمكن أن يقوم به فيقوم به كما لو كان نصاباً فإن حال الحول على

العرض فقوم فلم يبلغ النصاب لم تجب فيه الزكاة فإن زادت قيمته بعد الحول بشهر فبلغت نصاباً ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا تجب الزكاة حتى يحول عليه الحول والثاني من حين حال الحول الأول لأن الحول يبتدأ من حين الشراء وقد تم الحول وهو ناقص عن النصاب فلم تتعلق به الزكاة وقال أبو علي ابن أبي هريرة: إذا بلغت قيمته نصاباً بعد شهر وجبت فيه الزكاة لأنه مضى عليه حول بعد الشراء بشهر وهو نصاب فوجبت فيه الزكاة. فصل: إذا قوم العرض فقد قال في الأم تخرج الزكاة مما قوم به وقال في القديم فيه قولان: أحدهما يخرج ربع عشر قيمته والثاني يخرج ربع عشر العرض وقال في موضع آخر لا يخرج إلا العين أو الورق أو العرض فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يخرج مما قوم به لأن الوجوب تعلق به والثاني يخرج من العرض لأن الزكاة تجب لأجله والثالث يخير بينهما لأن الزكاة تتعلق بهما فخير بينهما وقال أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما أنه يخرج مما قوم به والثاني أنه بالخيار وقال أبو علي ابن أبي هريرة: فيه قولان: أحدهما أنه يخرج مما قوم به والثاني يخرج العرض. فصل: إذا دفع إلى رجل ألف درهم قراضاً على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صارت ألفين بنيت على أن المضارب متى يملك الربح وفيه قولان: أحدهما يملكه بالمقاسمة والثاني يملكه بالظهور فإن قلنا بالأول كانت زكاة الجميع على رب المال فإن أخرجها من عين المال فمن أين تحسب؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه تحسب من الربح لأنها من رأس المال فتحسب من الربح كأجرة النقال والوزان والكيال والثاني تحسب من رأس المال لأن الزكاة دين عليه في الذمة في أحد القولين فإذا قضاه من المال حسب من رأس المال كسائر الديون والثالث أنها تحسب من رأس المال والربح جميعاً لأن الزكاة تجب في رأس المال والربح فحسب المخرج منهما وإن قلنا إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور وجب على رب المال زكاة ألف وخمسمائة وإخراجها على ما ذكرناه وتجب على العامل زكاة خمسمائة غير أنه لا يلزمه إخراجها لأنه لا يدري هل يسلم له أم لا فلم يلزمه إخراج زكاته كالمال الغائب فإن أخرج زكاته من غير المال جاز وإن أراد إخراجه من المال ففيه وجهان: أحدهما ليس له لأن الربح وقاية لرأس المال فلا يخرج منه الزكاة والثاني أن له ذلك لأنهما دخلا على حكم الإسلام ووجوب الزكاة.

باب زكاة المعدن والركاز

باب زكاة المعدن والركاز إذا استخرج حر مسلم من معدن في موات أوفي أرض يملكها نصاباً من الذهب أو الفضة وجب عليه الزكاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية وأخذ منه الزكاة فإن استخرجه مكاتب أو ذمي لم يجب عليه شيء لأنه زكاة والزكاة لا تجب على المكاتب والذمي وإن وجده في أرض مملوكة لغيره فهو لصاحب الأرض ويجب دفعه إليه فإذا أخذه مالكه وجب عليه زكاته وإن وجد شيئاً غير الذهب والفضة كالحديد والرصاص والفيروزج والبلور وغيرها لم تجب فيها الزكاة لأنها ليست من أموال الزكاة فلم يجب فيها حق المعدن وإن وجده دون النصاب لم تلزمه الزكاة لأنا بينا أن ذلك زكاة فلم تجب في غير النصاب ولأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالعشر وإن وجد النصاب في دفعات نظرت فإن لم ينقطع العمل ولا النيل ضم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب وإن انقطع العمل لعذر كالاستراحة أو إصلاح الأداة ضم ما وجده بعد زوال العذر إلى ما وجده قبله فإن ترك العمل لغير عذر لم يضم ما وجده بعد الترك إلى ما وجده قبله وإن اتصل العمل وانقطع النيل ثم عاد ففيه قولان: قال في القديم لا يضم الثاني إلى الأول لأنه إذا لم يضم ما وجده بعد قطع العمل إلى ما وجده قبله فلأن لا يضم ما وجده بعد انقطاع النيل وهو المقصود أولى وقال في الجديد يضم لأن انقطاع النيل بغير اختياره وانقطاع العمل باختياره. فصل: ويجب حق المعدن بالوجود ولا يعتبر فيه الحول في أظهر القولين لأن الحول يراد لتكامل النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلو يعتبر فيه الحول كالعشر وقال في البويطي: لا يجب حتى يحول عليه الحول لأنه زكاة في مال تتكرر فيه الزكاة فاعتبر فيها الحول كسائر الزكوات. فصل: وفي زكاته ثلاثة أقوال: أحدها يجب ربع العشر لأنا قد بينا أنه زكاة وزكاة الذهب والفضة ربع العشر والثاني يجب فيه الخمس لأنه مال تجب الزكاة فيه بالوجود

فتقدرت زكاته بالخمس كالركاز والثالث أنه إن أصابه من غير تعب وجب فيه الخمس وإن أصابه بتعب وجب فيه بربع العشر لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاختلف قدره باختلاف المؤن كزكاة الزرع ويجب إخراج الحق بعد التمييز كما قلنا في العشر إنه يجب بعد التصفية والتجفيف. فصل: ويجب في الركاز الخمس لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي الركاز الخمس1" ولأنه يصل إليه من غير تعب ولا مؤنة فاحتمل الخمس ولا يجب ذلك إلا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة ولا تجب إلا فيما وجده في موات أو مملوك لا يعرف مالكه لأن الموات لا مالك له وما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لا مالك له فأما إذا وجده في أرض يعرف مالكها فإن كان ذلك لحربي فهو غنيمة وإن كان لمسلم أو لمعاهد فهو لمالك الأرض فإن لم يدعه مالك الأرض فهو لمن انتقلت الأرض منه إليه ولا يجب إلا في مال جاهلي يعلم أن مثله لا يضرب في الإسلام لأن الظاهر أنه لم يملكه مسلم إلى أن وجده وإن كان من ضرب الإسلام كالدراهم الأحدية وما عليها اسم المسلمين فهو لقطة وإن كان يمكن أن يكون من مال المسلمين ويمكن أن يكون من مال الجاهلية بأن لا يكون عليه علامة أحد فالمنصوص أنه لقطة لأنه يحتمل الأمرين فغلب حكم الإسلام ومن أصحابنا من قال هو ركاز لأن الموضع الذي وجد فيه موات يشهد بأنه ركاز ويجب حق الركاز في الأثمان وفي غير الأثمان قولان: قال في القديم يجب في الجميع لأنه حق مقدر بالخمس فلم يختص بالأثمان كخمس الغنيمة وقال في الجديد لا يجب لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاختص بالأثمان كحق المعدن ولا يعتبر فيه الحول لأن الحول يعتبر لتكامل النماء وهذا لا يوجد الركاز وهل يعتبر فيه النصاب؟ فيه قولان: قال في القديم يخمس قليله وكثيره لأن ما خمس كثيره خمس قليله كالغنيمة وقال في الجديد لا يخمس ما دون النصاب لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 66. مسلم في كتاب الحدود حديث 45. الترمذي في كتاب الأحكام باب 37. ابن ماجه في كتاب اللقطة باب 4. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 9ز أحمد في مسنده "1/314".

فيه النصاب كحق المعدن فعلى هذا إذا وجد مائة درهم ثم وجد مائة أخرى لم يجب الخمس في واحد منهما وإن وجد دون النصاب وعنده نصاب من جنسه نظرت فإن وجد الركاز مع تمام الحول في النصاب الذي عنده ضمه إلى ما عنده وأخرج الخمس من الركاز وربع العشر من النصاب لأن الحول لا يعتبر في الركاز فيصير الركاز مع النصاب كالزيادة مع نصاب حال الحول عليهما وإن وجده بعد الحول على النصاب ضمه إليه لأن الحول قد حال على ما معه الركاز كالزيادة التي حال عليها الحول وإن وجده قبل الحول على النصاب لم يخمس لأن الركاز كبعض نصاب حال عليه الحول وإذا تم حول البعض ولم يتم حول الباقي لم تجب الزكاة فإذا تم حول النصاب أخرج زكاته وإذا تم حول الركاز من حين وجده أخرج عنه ربع العشر وسقط الخمس فأما إذا كان الذي معه أقل من النصاب فإن كان وجد الركاز قبل تمام الحول على ما معه لم يضم إليه بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب فإذا تم الحول أخرج الزكاة وإن وافق وجود الركاز حال حول الحول فالمنصوص في الأم أنه يضم إلى ما عنده فإذا بلغ النصاب أخرج من الركاز الخمس ومن الذي معه ربع العشر لأن الركاز لا يعتبر فيه حول فيجعل كالموجود معه في جميع الحول ومن أصحابنا من قال لا يضم بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب فإذا حال الحول أخرج عنهما ربع العشرة.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر زكاة الفطر واجبة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من قمح أو صاعاً شعير على كل ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين1" ولا يجب ذلك إلا على مسلم فأما الكافر فإنه إن كان أصلياً لم تجب عليه للخبر الوارد وإن كان مرتداً فعلى ما ذكرناه في أول الكتاب من الأقوال الثلاثة وأما المكاتب فالمذهب أنها لا تجب عليه لأنه لا يلزمه زكاة المال فلا يلزمه زكاة الفطر كالكافر ومن أصحابنا من قال يلزمه لأن زكاة الفطر تابعة للنفقة ونفقته على نفسه فكذلك فطرته وهذا يبطل بالذمي فإن نفقته على نفسه ولا تلزمه الفطرة ولا تجب إلا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 70، 71. مسلم في كتاب الزكاة حديث 12 – 16. أبو داود في كتاب الزكاة باب 20، 21. الترمذي في كتاب الزكاة باب 35. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 51.

على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته وقت الوجوب ما يؤدي في الفطرة فإن لم يفضل عن نفقته شيء لم تلزمه لأنه غير قادر فإن فضل بعض ما يؤديه ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه لأنه عدم بعض ما يؤدي به الفرض فلم يلزمه كما لو وجبت عليه كفارة وهو يملك نصف رقبة والثاني تلزمه لأنه لو ملك نصف عبد لزمه نصف فطرته فإذا ملك نصف الفرض لزمه إخراجه في فطرته. فصل: ومن وجبت عليه فطرته وجبت عليه فطرة من تلزمه نفقته إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدي عنهم فاضلاً عن نفقته فتجب على الأب والأم وعلى أبيهما أمهما وإن علوا فطرة ولدهما وولد ولدهما وإن سفلوا وعلى الولد وولد الولد وإن سفلوا فطرة الأب والأم وأبيهما وأمهما وإن علوا إذا وجبت عليهم نفقتهم لما روى ابن عمر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون فإن كان للولد أو الوالد عبد يحتاج إليه للخدمة وجبت عليه فطرته لأنه تجب عليه نفقته وتجب على السيد فطرة عبده وأمته لحديث ابن عمر وإن كان له عبد أبق ففيه طريقان: أحدهما أنه تجب فطرته قولاً واحداً لأن فطرته تجب بحق الملك والملك لا يزول بالإباق ومنهم من قال فيه قولان كالزكاة في المال المغصوب وإن كان عبد بين نفسين وجبت الفطرة عليهما لأن نفقته عليهما وإن كان نصفه حراً ونصفه عبداً وجب على السيد نصف فطرته وعلى العبد نصف فطرته لأن النفقة عليهما نصفان فكذلك الفطرة وإن كان له مكاتب لم تجب عليه فطرته لأنه لا تجب عليه نفقته وروى أبو ثور عن الشافعي رحمه الله أنه قال: تجب فطرته لأنه باق على ملكه ويجب على الزوج فطرة زوجته إذا وجبت عليه نفقتها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولأنه ملك يستحق به النفقة فجاز أن يستحق به الفطرة كمالك اليمين في العبد والأمة فإن كانت ممن تخدم ولها مملوك يخدمها وجبت عليه فطرته لأنه يجب عليه نفقته فلزمته فطرته فإن نشزت الزوجة لم يلزمه فطرتها لأنه لا يلزمه نفقتها ولا تجب عليه إلا فطرة مسلم فأما إذا كان المؤدي عنه كافراً لم تجب عليه فطرته لحديث ابن عمر على كل ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين ولأن القصد من

الفطرة تطهير المؤدي عنه لأن المؤدي قد طهر نفسه بالفطرة والكافر لا يلحقه التطهير ولا تجب حتى تفضل الفطرة على نفقته ونفقتة من تلزمه نفقته لأن النفقة أهم فوجبت في البداية بها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول1" فإن فضل ما يؤدي عن فطرة بعضهم ففيه أربعة أوجه: أحدها أنه يبدأ بمن يبدأ بنفقته فإن فضل صاع آخر أخرجه عن نفسه فإن فضل صاعاً آخر أخرجه عن زوجته فإن فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الصغير فإن فضل صاع آخر أخرجه عن أبيه فإن فضل صاع آخر أخرجه عن أمه فإن فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الكبير لأنا بينا أن الفطرة تابعة للنفقة وترتيبهم للنفقة على ما ذكرناه فكذلك في الفطرة والثاني يقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه لأنها تجب بحكم المعاوضة والثالث يبدأ بنفسه ثم بمن شاء والرابع أنه بالخيار في حقه وحق غيره لأن كل واحد منهم لو انفرد لزمته فطرته فإذا اجتمعوا تساووا ومن وجبت فطرته على غيره فهل يجب ذلك على المؤدي ابتداء أو يجب على المؤدي عنه ثم يتحمل المؤدي؟ فيه وجهان: أحدهما تجب على المؤدى ابتداء لأنها تجب في ماله والثاني تجب على المؤدي عنه لأنها تجب لتطهيره فإن تطوع المؤدي عنه وأخرج بغير إذن المؤدي ففيه وجهان: فإن قلنا إنها تجب على المؤدي ابتداء لم يجزه كما لو أخرج زكاة ماله عنه بغير إذنه وإن قلنا يتحمل جاز لأنه أخرج ما وجبت عليه وإن كان من يمونه مسلماً وهو كافر فعلى الوجهين فإن قلنا إنها تجب عليه ابتداء لم تجب لأنه إيجاب زكاة على كافر وإن قلنا إنه يتحمل وجب عليه لأن الفطرة وجبت على مسلم وإنما هو متحمل وإن كانت له زوجة موسرة وهو معسر فالمنصوص أنه لا يجب عليها وقال فيمن زوج أمته من معسر إن على المولى فطرتها فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وخرجها على قولين: أحدهما لا تجب لأنها زكاة تجب عليه مع القدرة فسقطت بالإعسار كفطرة نفسه والثاني تجب لأنه إذا كان معسراً جعل كالمعدوم ولو عدم الزوج وجبت فطرة الحرة على نفسها الأمة على مولاها وكذلك ههنا ومن أصحابنا من قال إن قلنا يتحمل وجب على الحرة وعلى مولى الأمة لأن الوجوب عليهما والزوج متحمل فإذا عجز عن التحمل بقي الوجوب في محله وإن قلنا تجب عليه ابتداء لم

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 95،97. أحمد في مسنده "2/94".

تجب على الحرة لا على مولى الأمة لأنه لا حق عليهما وقال أبو إسحاق: تجب على مولى الأمة ولا تجب على الحرة لأن فطرتها على المولى لأن المولى عليه التبوئة التامة فإذا سلم كان متبرعاً فلا يسقط بذلك ما وجب عليه من الزكاة والحرة غير متبرعة بالتسليم لأنه يجب عليها تسليم نفسها وإن لم يقدر على فطرتها سقطت عنها الفطرة. فصل: ومتى تجب الفطرة؟ فيه قولان: قال في القديم تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر لأنها قربة تتعلق بالعيد فلا يتقدم وقتها على يومه كالصلاة والأضحية وقال في الجديد تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر من رمضان والفطر من رمضان لا يكون إلا بعد غروب الشمس من ليلة العيد ولأن الفطر جعلت طهرة للصائم بدليل أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين وانقضاء الصوم بغروب الشمس فإن رزق ولداً أو تزوج امرأة أو اشترى عبداً ودخل عليه الوقت وهم عنده وجبت عليه فطرتهم وإن رزق الولد أو تزوج امرأة أو اشترى العبد بعد دخول الوقت أو ماتوا قبل دخول الوقت لم تجب فطرتهم وإن دخل وقت الوجوب وهم عنده ثم ماتوا قبل إمكان الأداء ففيه وجهان: أحدهما تسقط كما تسقط زكاة المال والثاني لا تسقط لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بموت المرأة ككفارة الظهار ويجوز تقديم الفطرة من أول شهر رمضان لأنها تجب بسببين: صوم شهر رمضان والفطر منه فإذا وجد أحدهما جاز تقديمها على الآخر كزكاة المال بعد ملك النصاب وقبل الحول ولا يجوز تقديمهما على شهر رمضان لأنه تقديم على السببين فهو كإخراج زكاة المال قبل الحول والنصاب والمستحب أن تخرج قبل صلاة العيد لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن يؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ولا يجوز تأخيرها عن يومه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" فإن أخره حتى خرج اليوم أثم وعليه القضاء لأنه حق مال وجب عليه وتمكن من أدائه فلا يسقط عنه بفوات الوقت. فصل: والواجب صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير والصاع خمسة أرطال وثلث

لما روى عمرو بن حبيب القاضي قال: حججت مع أبي جعفر فلما قدم المدينة قال ائتوني بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعايره فوجده خمسة أرطال وثلثاً برطل أهل العراق. فصل: وفي الحب الذي يخرجه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز من كل قوت لما روى أبو سعيد الخدري قال: كنا نخرج صاعاً من طعام أو صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب ومعلوم أن ذلك كله لم يكن قوت أهل المدينة فدل على أنه مخير بين الجميع وقال أبو عبيد بن حرب: تجب من غالب قوته وهو ظاهر النص لأنه لما وجب أداء ما فضل عن قوته وجب أن تكون من قوته وقال أبو العباس وأبو إسحاق: تجب من غالب قوت البلد لأنه حق يجب في الذمة تعلق بالطعام فوجب من غالب قوت البلد كالطعام في الكفارة فإن عدل عن قوت البلد إلى قوت بلد آخر نظرت فإن كان الذي انتقل إليه أجود أجزأه وإن كان دونه لم يجزه فإن كان أهل البلد يقتاتون أجناساً مختلفة ليس بعضها بأغلب من بعض فالأفضل أن يخرج من أفضلها لقوله عز وجل {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ومن أيها أخرج أجزأه وإن كان في موضع قوتهم الأقط ففيه طريقان: قال أبو إسحاق يجزئه قولاً واحداً لحديث أبي سعيد وقال القاضي أبو حامد فيه قولان: أظهرهما أنه يجزئه للخبر والثاني لا يجزئه لأنه لا تجب فيه الزكاة فأشبه اللحم فإذا قلنا يجزئه فأخرج اللبن أجزأه لأنه أكمل منه ولأنه يجيء منه الأقط وغيره وإن أخرج الجبن جاز لأنه مثله وإن أخرج المصل لم يجزه لأنه أنقص من الأقط لأنه لبن منزوع الزبد وإن كان في موضع لا قوت فيه أخرج من قوت أقرب البلاد إليه فإن كان بقربه بلدان متساويان في القوت أخرج من قوت أيهما شاء ولا يجوز في فطرة واحدة أن يخرج من جنسين لأن ما خير فيه بين جنسين لم يجز أن يخرج من كل واحد منهما بعضه ككفارة اليمين لا يجوز أن يطعم خمسة ويكسو خمسة فإن كان عبد بين نفسين في بلدين قوتهما مختلف ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجوز أن يخرج كل واحد منهما من قوته بل يخرجان من أدنى القوتين وقال أبو إسحاق يجوز أن يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته لأن كل واحد

منهما لم يبعض ما وجب عليه ومن أصحابنا من قال يعتبر فيه قوت العبد أو البلد الذي فيه العبد لأنها تجب لحقه فاعتبر فيه قوته أو قوت بلده كالحر في حق نفسه ولا يجوز إخراج حب مسوس لأن السوس أكل جوفه فيكون الصاع منه أقل من صاع ولا يجوز إحراج الدقيق وقال أبو القاسم الأنماطي: يجوز لأنه منصوص عليه في حديث أبي سعيد الخدري والمذهب أنه لا يجوز لأنه ناقص المنفعة عن الحب فلم يجز كالخبز وأما حديث أبي سعيد فقد قال أبو داود: روى سفيان الدقيق ووهم فيه ثم رجع عنه.

أحدهما لا يجزأه لأنه عجل الزكاة عن غير السخال فلا يجزئه عن زكاة السخال والثاني يجزئه لأنه لما كان حول الأمهات حول السخال كانت زكاة الأمهات زكاة عن السخال وإن اشترى بمائتي درهم عرضاً للتجارة فأخرج عنها زكاة أربعمائة درهم ثم حال الحول والعرض يساوي أربعمائة أجزأه لأن الاعتبار في زكاة التجارة بآخر الحول والدليل عليه أنه لو ملك سلعة تساوي مائة فحال الحول وهي تساوي مائتين وجبت فيه الزكاة وإن ملك مائة وعشرين شاة فعجل عنها شاة ثم نتجت شاة سخلة قبل الحول لزمته شاة أخرى وكذلك لو ملك مائتي شاة فأخرج شاتين ثم نتجت شاة سخلة أخرى قبل الحول لزمه شاة أخرى لأن المخرج كالباقي على ملكه ولهذا سقط به الفرض عند الحول فجعل كالباقي على ملكه في إيجاب الفرض. فصل: إذا عجل زكاة ماله ثم هلك النصاب أو هلك بعضه قبل الحول خرج المدفوع عن أن يكون زكاة وهل يثبت له الرجوع فيما دفع؟ ينظر فيه فإن لم يبين أنها زكاة معجلة لم يجز له الرجوع فإن الظاهر أن ذلك زكاة واجبة أو صدقة تطوع وقد لزمت بالقبض فلم يملك الرجوع وإن بين أنها زكاة معجلة ثبت له الرجوع لأنه دفع عما يستقر في الثاني فإذا طرأ ما يمنع الاستقرار ثبت له الرجوع كما لو عجل أجرة دار ثم انهدمت الدار قبل انقضاء المدة وإن كان الذي عجل هو السلطان أو المصدق من قبله ثبت له الرجوع بين أو لم يبين لأن السلطان لا يسترجعه لنفسه فلم يلحقه تهمة وإن عجل الزكاة عن نصاب ثم ذبح شاة أو أتلفها فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان أحدهما يرجع لأنه زال شرط الوجوب قبل الحول فثبت له الرجوع كما لو هلك بغير فعله والثاني لا يرجع لأنه مفرط وربما أتلف ليسترجع ما دفع فلم يجز له أن يرجع وإذا رجع فيما دفع وقد نقص في يد الفقير لم يلزمه ضمان ما نقص في أصح الوجهين لأنه نقص في ملكه فلم يلزمه ضمانه ومن أصحابنا من قال يلزمه لأن ما ضمن عينه إذا هلك ضمن نقصانه إذا نقص كالمغصوب فإن زاد المدفوع نظرت فإن كانت الزيادة لا تتميز كالسمن رجع فيه مع الزيادة لأن السمن يتبع الأصل في الرد كما نقول في الرد بالعيب وإن زادت زيادة تتميز كالولد واللبن لم يجب رد الزيادة لأنها زيادة حدثت في ملكه فلا يجب ردها مع الأصل كولد المبيعة في الرد بالعيب وإن هلك المدفوع في يد الفقير لزمته قيمته وفي القيمة وجهان: أحدهما يلزمه يوم التلف كالعارية والثاني يلزمه قيمته يوم الدفع لأن ما حصل فيه من زيادة حدثت في ملكه فلم يلزمه ضمانها.

فصل: وإن عجل الزكاة فدفعها إلى فقير فمات الفقير أو ارتد قبل الحول لم يجزه المدفوع عن الزكاة وعليه أن يخرج الزكاة ثانياً فإن لم يبين عند الدفع أنها زكاة معجلة لم يرجع وإن بين رجع فإذا رجع فيما دفع نظرت فإن كان من الذهب أو الفضة وإذا ضمه إلى ما عنده بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة لأنه قبل أن يموت الفقير كان كالباقي على حكم ملكه ولهذا لو عجله عن نصاب سقط به الفرض عند الحول فلو لم يكن كالباقي على حكم ملكه لم يسقط به الفرض وقد نقص المال عن النصاب ولما مات صار كالدين في ذمته والذهب والفضة إذا صارا ديناً لم ينقطع الحول فيه فضم إلى ما عنده وزكاه وإن كان الذي عجل شاة ففيه وجهان: أحدهما يضم إلى ما عنده كما يضم الذهب والفضة والثاني لا يضم لأنه لما مات صار كالدين والحيوان إذا كان دين لا تجب فيه الزكاة. فصل: وإن عجل الزكاة ودفعها إلى فقير واستغنى قبل الحول نظرت فإن استغنى بما دفع إليه أجزأه لأنه دفع إليه ليستغني به فلا يجوز أن يكون غناه به مانعاً من الإجزاء ولأنه زال شرط الزكاة من جهة الزكاة فلا يمنع الإجزاء كما لو كان عنده نصاب فعجل عنه شاة فإن المال قد نقص عن النصاب ولم يمنع الإجزاء عن الزكاة وإن استغنى من غيره لم يجزه عن الزكاة وعليه أن يخرج الزكاة ثانياً وهل يرجع على ما بيناه وإن دفع إلى فقير ثم استغنى ثم افتقر قبل الحول وحال الحول وهو فقير ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه كما لو عجل زكاة ماله ثم تلف ماله ثم استفاد غيره قبل الحول والثاني أنه يجزئه لأنه دفع إليه وهو فقير وحال الحول عليه وهو فقير. فصل: وإن تسلف الوالي الزكاة وهلكت في يده نظرت فإن تسلف بغير مسألة ضمنها لأن الفقراء أهل رشد لا يولى عليهم فإذا قبض مالهم قبل محله بغير إذنهم وجب عليه الضمان كالوكيل إذا قبض مال موكله قبل محله بغير إذنه وإن تسلف بمسألة رب المال تلف من ضمان رب المال لأنه وكيل رب المال فكان الهلاك من ضمان الموكل كما لو وكل رجلاً في حمل شيء إلى موضع فهلك في يده وإن تسلف بمسألة الفقراء هلك من ضمانهم لأنه قبض بإذنهم فصار كالوكيل إذا قبض دين موكله بإذنه فهلك في يده وإن تسلف بمسألة الفقراء ورب المال ففيه وجهان: أحدهما أنه يتلف من ضمان رب المال لأن جنبته أقوى لأنه يملك المنع والدفع والثاني أنه ضمان الفقراء لأن

الضمان يجب على من له المنفعة ولهذا يجب ضمان العارية على المستعير والمنفعة ههنا للفقراء فكان الضمان عليهم. فصل: فأما ما تجب الزكاة فيه من غير حول كالعشر وزكاة المعدن والركاز فلا يجوز فيه تعجيل الزكاة وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز تعجيل العشر والصحيح أنه لا يجوز لأن العشر يجب بسبب واحد وهو إدراك الثمرة وانعقاد الحب فإذا عجله قدمه على سببه فلم يجز كما لو قدم زكاة المال على النصاب.

باب تعجيل الصدقة

باب تعجيل الصدقة كل مال وجبت فيه الزكاة الحول والنصاب لم يجز تقديم زكاته قبل أن يملك النصاب لأنه لم يوجد سبب وجوبها فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع والدية قبل القتل وإن ملك النصاب جاز تقديم زكاته قبل الحول لما روى علي كرم الله وجهه أن العباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجعل زكاة ماله قبل محلها فرخص له في ذلك ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل محله كالدين المؤجل ودية الخطأ وفي تعجيل زكاة عامين وجهان: قال أبو إسحاق يجوز لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين ولأن ما جاز فيه تعجيل حق العام منه جاز تعجيل حق العامين كدية الخطأ ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنها زكاة لم ينعقد حولها فلم يجز تقديمها كالزكاة قبل أن يملك النصاب فإن ملك مائتي شاة فعجل عنها وعما يتولد من سخالها أربع شياه فتوالدت وصارت أربعمائة أجزأه زكاة المائتين وفي زكاة السخال وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه تقديم زكاة على النصاب والثاني يجوز لأن السخال جعلت كالموجودة في الحول في وجوب زكاتها فجعلت كالموجودة في تعجيل زكاتها وإن ملك أربعين شاة فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وماتت الأمهات وبقيت السخال فهل يجزئه ما أخرج عن الأمهات عن زكاة السخال؟ فيه وجهان:

باب قسم الصدقات

باب قسم الصدقات يجوز لرب المال أن يفرق زكاة الأموال الباطنة بنفسه وهي: الذهب والفضة وعروض التجارة والركاز لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقض دينه أو ليزك بقية ماله ويجوز أن يوكل من يفرق لأنه حق مال فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين ويجوز أن يدفع إلى الإمام لأنه نائب عن الفقر فجاز الدفع إليه كولي اليتيم وفي الأفضل ثلاثة أوجه: أحدها أن الأفضل أن يفرق بنفسه وهو ظاهر النص لأنه على ثقة من أدائه وليس على ثقة من أداء غيره والثاني أن الأفضل أن يدفع إلى الإمام عادلاً كان أو جائراً لما روي أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان فقال: وفيم أنت من ذلك قال: إنهم يشترون بها الأراضي ويتزوجون بها النساء فقال: إن كان عادلاً فالدفع إليه أفضل وإن كان جائراً فإن تفرقته بنفسه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم "فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه1" ولأنه على ثقة من أدائه إلى العادل وليس على ثقة من أدائه إلى الجائر لأنه ربما

_ 1 رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 38. النسائي في كتاب الزكاة باب 5.

يصرفه في شهواته وأما الأموال الظاهرة وهي المواشي والزروع والثمار والمعادن ففي زكاتها قولان: قال في القديم يجب دفعها إلى الإمام فإن فرقها بنفسه لزمه الضمان لقوله عز وجل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ولأنه مال للإمام فيه حق المطالبة فوجب الدفع إليه كالخراج والجزية وقال في الجديد يجوز أن يفرقها بنفسه لأنها زكاة فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن. فصل: ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه وفيهم من يبخل فوجب أن يبعث من يأخذ ولا يبعث إلا حراً عدلاً ثقة لأن هذا ولاية وأمانة والعبد والفاسق ليسا من أهل الأمانة والولاية ولا يبعث إلا فقيهاً لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها ولا يبعث هاشمياً أو مطالبياً ومن أصحابنا من قال يجوز لأن ما يأخذه على وجه العوض والمذهب الأول لما روي أن الفضل بن عباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه العمالة على الصدقة فلم يوله وقال: "أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس1" وفي مواليهم وجهان: أحدهما لا يجوز لما روى أبو رافع قال: ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال: إتبعني تصب منها فقلت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: "إن موالي القوم من أنفسهم وإنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة2" والثاني أنه يجوز لأن الصدقة إنما حرمت على بني هاشم وبني المطلب للشرف بالنسب وهذا لا يوجد في مواليهم وهو بالخيار أن يستأجر العامل بأجرة معلومة ثم يعطيه ذلك من الزكاة وبين أن يبعثه من غير شرط ثم يعطيه أجرة المثل من الزكاة.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 167، 168. أبو داود في كتاب الإمارة باب 20. النسائي في كتاب الزكاة باب 95. الموطأ في كتاب الصدقة حديث 13، 15. 2 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 161، 168. النسائي في كتاب الزكاة باب 95، 97. الموطأ في كتاب الصدقة حديث 13. أحمد في مسنده "1/200".

ويبعث لقبض ما سوى زكاة الزرع والثمار في المحرم لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في شهر المحرم: هذا شهر زكاتكم ولأنه أول السنة فكان البعث فيه أولى والمستحب للساعي أن يعد الماشية على أهلها على الماء إذا كانت الماشية ترد الماء وفي أفنيتهم إن لم ترد الماء لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وعند أفنيتهم" فإن أخبره صاحب المال بالعدد وهو ثقة عدل قبل منه وإن بذل له الزكاة أخذها ويستحب أن يدعو لقوله عز وجل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] والمستحب أن يقول اللهم صل على آل فلان لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ماله فقال له صلى الله عليه وسلم "اللهم صل على آل أبي أوفى" وبأي شيء دعا له جاز قال الشافعي: وأحب أن يقول آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت وإن ترك الدعاء جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ولم يأمره بالدعاء وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض وعزره على المنع والغلول وقال في القديم: يأخذ منه الزكاة وشطر ماله وقد مضى توجيه القولين في أول الزكاة وإن وصل الساعي قبل وجوب الزكاة ورأى أن يتسلف فعل وإن لم يسلفه رب المال لم يجبره على ذلك لأنها لم تجب بعد فلا يجبر على أدائه وإن رأى أن يوكل من يقبض إذا حال الحول فعل وإن رأى أن يتركه حتى يأخذه مع زكاة القابل فعل وإن قال رب المال لم يحل الحول على المال فالقول قوله فإن رأى أن يحلفه حلفه احتياطاً وإن قال بعته ثم اشتريته ولم يحل عليه الحول أو قال أخرجت الزكاة عنه وقلنا إنه يجوز أن يفرق بنفسه ففيه وجهان: أحدهما يجب تحليفه لأنه

يدعى خلاف الظاهر فإن نكل عن اليمين أخذت منه الزكاة والثاني أنه يستحب تحليفه ولا تجب لأن الزكاة موضوعة على الرفق فلو أوجبنا اليمين خرجت عن باب الرفق ويبعث الساعي لزكاة الثمار والزروع في الوقت الذي يصادف فيه الإدراك ويبعث معه من يخرص الثمار فإن وصل قبل وقت الإدراك ورأى أن يخرص الثمار ويضمن رب المال زكاتها فعل وإن وصل وقد وجبت الزكاة وبذلها له أخذه ودعا له فإن كان الإمام أذن للساعي في تفرقتها فرقها وإن لم يأذن له حملها إلى الإمام والمستحب أن يسم الماشية التي يأخذها في الزكاة لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسم إبل الصدقة ولأن بالوسم تتميز عن غيره وإذا شردت ردت إلى موضعها ويستحب أن يسم التي يأخذها في زكاة الإبل والبقر في أفخاذها لأنه موضع صلب فيقل الألم بوسمه ويخف الشعر فيه فيظهر ويسم الغنم في أذنها ويستحب أن يكتب في ماشية الزكاة لله أو زكاة وفي ماشية الجزية جزيةً أو صغاراً لأن ذلك أسهل ما يمكن ولا يجوز للساعي وللإمام أن يتصرف فيما يحصل عنده من الفرائض حتى يوصلها إلى أهلها لأن الفقراء أهل رشد لا يولى عليهم فلا يجوز التصرف في مالهم بغير إذنهم فإن أخذ نصف شاة أو وقف عليه شيء من المواشي وخاف هلاكه أو خاف أن يؤخذ في الطريق جاز له بيعه لأنه موضع ضرورة وإن لم يبعث الإمام الساعي وجب على رب المال أن يفرق الزكاة بنفسه على المنصوص لأنه حق للفقراء والإمام نائب وإذا ترك النائب لم يترك من عليه أداءه ومن أصحابنا من قال: إن قلنا إن الأموال الظاهر يجب دفع زكاتها إلى الأمام لم يجز أن يفرق بنفسه لأنه مال توجه حق القبض فيه إلى الأمام فإذا لم يطلب الإمام لم يفرق كالخراج والجزية. فصل: ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى1" ولأنها عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصلاة وفي وقت النية وجهان:

_ 1 رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1. مسلم في كتاب الإمارة حديث 155. أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 29.

أحدهما يجب أن ينوي حال الدفع لأنه عبادة يدخل فيها بفعله فوجبت النية في ابتدائها كالصلاة والثاني يجوز تقديم النية عليها لأنه يجوز التوكيل فيها ونيته غير مقارنة لأداء الوكيل فجاز تقديم النية عليها بخلاف الصلاة ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزه لأن الصدقة قد تكون نفلاً فلا تنصرف إلى الفرض إلا بالتعيين ولا يلزمه تعيين المال المزكى عنه وإن كان له نصاب حاضر ونصاب غائب فأخرج الفرض فقال هذا عن الحاضر أو الغائب أجزأه لأنه لو أطلق النية لكانت عن أحدهما فلم يضر تقييده بذلك فإن قال إن كان مالي الغائب سالماً فهذا عن زكاته وإن لم يكن سالماً فهو عن الحاضر فإن كان الغائب هالكاً أجزأه لأنه لو أطلق وكان الغائب هالكاً لكان هذا عن الحاضر وإن قال إن كان مالي الغائب سالماً فهذا عن زكاته أو تطوع لم يجزه لأنه لم يخلص النية للفرض ولأنه لو أطلق النية لكان هذا مقتضاه فلم يضر التقييد وإن كان له من يرثه فأخرج مالاً وقال إذا كان قد مات مورثي فهذا عن زكاة ما ورثته منه وكان قد مات لم يجزه لأنه لم يبن النية على أصل لأن الأصل بقاؤه وإن وكل من يؤدي الزكاة ونوى عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الدفع إلى الفقراء أجزأه وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجزه لأن الزكاة فرض على رب المال فلم تصح من غير نية وإن نوى رب المال ولم ينو الوكيل ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يجوز قولاً واحداً لأن الذي عليه الفرض قد نوى في وقت الدفع إلى الوكيل فتعين المدفوع للزكاة فلا يحتاج بعد ذلك إلى النية ومن أصحابنا من قال يبني على جواز تقديم النية فإن قلنا يجوز أجزأه وإن قلنا لا يجوز لم يجزه وإن دفعها إلى الإمام ولم ينو ففيه وجهان: أحدهما يجزئه وهو ظاهر النص لأن الإمام لا يدفع إليه إلا الفرض فاكتفى بهذا الظاهر عن النية ومن أصحابنا من قال لا يجزئه وهو الأظهر لأن الإمام وكيل للفقراء ولو دفع إلى الفقراء لم يجز إلا بالنية عند الدفع فكذلك إذا دفع إلى وكيلهم وتأول هذا القائل قول الشافعي رحمه الله من امتنع من أداء الزكاة فأخذها الإمام منه قهراً فإنه يجزئه لأنه تعذرت النية من جهته فقامت نية الإمام مقام نيته. فصل: ويجب صرف جميع الصدقات إلى ثمانية أصناف وهم: الفقراء والمساكين

والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل وقال المزني وأبو حفص الباب شامي: يصرف خمس الركاز إلى من يصرف إليه خمس الفيء والغنيمة لأنه حق مقدر بالخمس فأشبه خمس الفيء والغنيمة وقال أبو سعيد الأصطخري: تصرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء لأنه قدر قليل فإذا قسم على ثمانية أصناف لم يقع إلى ما يدفع إلى كل واحد منهم موقعاً من الكفاية والمذهب الأول والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فأضاف جميع الصدقات إليهم بلام التمليك وأشرك بينهم بواو التشريك فدل على أنه مملوك لهم مشترك بينهم فإن كان الذي يفرق كالزكاة هو الإمام قسمها على ثمانية أسهم: سهم للعامل وهو أول ما يبدأ به لأنه يأخذه على وجه العوض وغيره يأخذه على وجه المواساة فإن كان السهم قدر أجرته دفعه إليه وإن كان أكثر من أجرته رد الفضل على الأصناف وقسمه على سهامهم وإن كان أقل من أجرته تمم ومن أين يتمم؟ قال الشافعي: يتمم من سهم المصالح ولو قيل يتمم من حق سائر الأصناف لم يكن به بأس فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يتمم من سهم سائر الأصناف لأنه يعمل لهم فكانت أجرته عليهم والثاني يتمم من سهم المصالح لأن الله تعالى جعل لكل صنف سهماً فلو قسمنا ذلك على الأصناف نقصنا حقهم وفضلنا العامل عليهم ومن أصحابنا

من قال: الإمام بالخيار إن شاء تمم من سهم المصالح وإن شاء تمم من سهامهم لأنه يشبه الحاكم لأنه يستوفي به حق الغير على وجه الأمانة ويشبه الوكيل فخير بين حقيهما ومنهم من قال: إن كان قد بدأ بنصيبه فوجده ينقص تمم من سهامهم وإن كان قد بدأ بسهام الأصناف فأعطاهم ثم وجد سهم العامل ينقص تممه من سهم المصالح لأنه يشق استرجاع ما دفع إليهم ومنهم من قال إن فضل عن قدر حاجة الأصناف شيء تمم من الفضل وإن لم يفضل عنهم شيء تمم من سهم المصالح والصحيح هو الطريق الأول ويعطي الحاشر والعريف من سهم العامل لأنهم من جملة العمال وفي أجرة الكيال وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: على رب المال لأنها تجب للإيفاء والإيفاء حق على رب المال فكانت أجرته عليه وقال أبو إسحاق: تكون من الصدقة لأنا لو أوجبنا ذلك على رب المال زدنا على الفرض الذي وجب عليه في الزكاة. فصل: وسهم للفقراء والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعاً من كفايته فيدفع إليه ما تزول به حاجته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة أو بضاعة يتجر فيها حتى لو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له ويحسن التجارة فيها وجب أن يدفع إليه فإن عرف لرجل مال وادعى أنه افتقر لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه ثبت غناه فلا يقبل دعوى الفقر إلا بينة كما لو وجب عليه دين آدمي وعرف له مال فادعى الإعسار فإن كان قوياً فادعى أنه لا كسب له أعطي لما روى عبيد الله بن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة فصعد بصره إليهما وصوب ثم قال "أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لا حظ فيهما لغني ولا قوي مكتسب1" وهل يحلف؟ فيه وجهان أحدهما لا يحلف لأن

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 24. النسائي في كتاب الزكاة باب 91. أحمد في مسنده "4/224".

النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف الرجلين والثاني يحلف لأن الظاهر أنه يقدر على الكسب مع القوة فصل: وسهم للمساكين والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعاً من كفايته إلا أنه لا يكفيه وقال أبو إسحاق: المسكين هو الذي لا يجد ما يقع موقعاً من كفايته فأما الذي يجد ما يقع موقعاً من كفايته فهو الفقير والأول أظهر لأن الله تعالى بدأ بالفقراء والعرب لا تبدأ إلا بالأهم فالأهم فدل على أن الفقير أمس حاجة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً" وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الفقر فدل على أن الفقر أشد. فصل: ويدفع إلى المسكين تمام الكفاية فإن ادعى عيالاً لم يقبل إلا ببينة لأنه يدعي خلاف الظاهر. فصل: وسهم للمؤلفة وهم ضربان: مسلمون وكفار فأما الكفار فضربان: ضرب يرجى خيره وضرب يخاف شره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم وهل يعطون بعده؟ فيه قولان: أحدهما يعطون لأن المعنى الذي أعطاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يوجد بعده والثاني لا يعطون لأن الخلفاء رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطوهم قال عمر رضي الله عنه: إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فإذا قلنا إنهم يعطون فإنهم لا يعطون من الزكاة لأن الزكاة لا حق فيها لكافر وإنما يعطون من سهم المصالح وأما المسلمون فهم أربعة أضرب: أحدها قوم لهم شرف فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لكل واحد منهم مائة من الإبل وهل يعطي هذان الفريقان بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيه قولان: أحدهما لا يعطون لأن الله تعالى أعز الإسلام فأغنى من التألف بالمال والثاني يعطون لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومن أين يعطون؟ فيه قولان: أحدهما من الصدقات للآية والثاني من خمس الخمس لأن ذلك مصلحة فكان من سهم المصالح والضرب الثالث قوم يليهم قوم من الكفار إن أعطوا قاتلوهم والضرب الرابع قوم يليهم قوم من أهل الصدقات إن أعطوا جلبوا الصدقات وفي هذين الضربين أربعة أقوال: أحدها يعطون من سهم المصالح لأن ذلك مصلحة والثاني من سهم المؤلفة من الصدقات للآية والثالث من سهم الغزاة لأنهم يغزون والرابع وهو الصحيح أنهم يعطون من سهم الغزاة ومن سهم المؤلفة لأنهم جمعوا معنى الفريقين. فصل: وسهم للرقاب وهم المكاتبون فإذا لم يكن مع المكاتب ما يؤدي في الكتابة

وقد حل عليه نجم أعطى ما يؤديه وإن كان معه ما يؤديه لم يعط لأنه غير محتاج إليه فإن لم يكن معه شيء ولا حل عليه نجم ففيه وجهان: أحدهما لا يعطى لأنه لا حاجة به إليه قبل حلول النجم والثاني يعطى لأنه يحل عليه النجم والأصل أنه ليس معه ما يؤدي فإن دفع إليه ثم أعتقه المولى أو أبرأه من المال أو عجز نفسه قبل أن يؤدي المال إلى المولى رجع عليه لأنه دفع إليه ليصرفه في دينه ولم يفعل فإن سلمه إلى المولى وبقيت عليه بقية فعجزه المولى ففيه وجهان: أحدهما لا يسترجع من المولى لأنه صرفه فيما عليه والثاني يسترجع لأنه إنما دفع إليه ذلك إقراراً على نفسه والثاني لا يقيل لأنه متهم لأنه ربما واطأه حتى يأخذ الزكاة. فصل: وسهم للغارمين وهم ضربان: غرم لإصلاح ذات البين وضرب غرم لمصلحة نفسه فأما الأول فضربان: أحدهما من تحمل دية مقتول فيعطى مع الفقر والغنى لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة الغازي في سبيل الله أو العامل عليها أو الغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إليه1" والثاني من حمل مالاً في غير قتل لتسكين فتنة ففيه وجهان: أحدهما يعطى مع الغنى لأنه غرم لإصلاح ذات البين فأشبه إذا غرم دية مقتول والثاني لا يعطي مع الغنى لأنه مال حمله في غير قتل فأشبه إذا ضمر ثمناً في بيع وأما من غرم لمصلحة نفسه فإن كان قد أنفق في غير معصية دفع إليه مع الفقر وهل يعطى مع الغنى فيه قولان: قال في الأم: لا يعطى لأنه يأخذ لحاجته إلينا فلم يعط مع الغني كغير الغارم وقال في القديم والصدقات من الأم: يعطى لأنه غارم في غير معصية فأشبه إذا غرم لإصلاح ذات البين فإن غرم في معصية لم يعط مع الغنى وهل يعطى مع الفقر؟ ينظر فيه فإن كان مقيماً على المعصية لم يعط لأنه يستعين به على المعصية وإن تاب ففيه وجهان: أحدهما يعطى لأن المعصية قد زالت والثاني لا يعطى لأنه لا يؤمن أن يرجع إلى المعصية ولا يعطى الغارم إلا ما يقضي به الدين فإن أخذ ولم يقض به الدين أو أبرئ منه أو قضي عنه قبل تسليم المال استرجع منه وإن ادعى أنه غارم لم يقبل إلا ببينة فإن صدقه غريمه فعلى الوجهين كما ذكرنا في المكاتب إذا ادعى الكتابة وصدقة المولى. فصل: وسهم في سبيل الله وهم الغزاة الذين إذا انشطوا غزوا فأما من كان مرتبا

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 27. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 29.

في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء ويعطى الغازي مع الفقر والغنى للخبر الذي ذكرناه في الغارم ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس إن كان فارساً وما يعطى السائس وحمولة تحمله إن كان راجلاً والمسافة مما يقصر فيها الصلاة فإن أخذ ولم يغز استرجع منه. فصل: وسهم لابن السبيل وهو المسافر أو من ينشئ السفر وهو محتاج في سفره فإن كان سفره في طاعة أعطي ما يبلغ به مقصده وإن كان في معصية لم يعط لأن ذلك إعانة على معصية وإن كان سفره في مباح ففيه وجهان: أحدهما لا يعطى لأنه غير محتاج إلى هذا السفر والثاني يعطى لأن ما جعل رفقاً بالمسافر في طاعة الله جعل رفقاً بالمسافر في مباح كالفطر والقصر. فصل: ويجب أن يسوى بين الأصناف في السهام ولا يفضل صنفاً على صنف لأن الله تعالى سوى بينهم والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن وأقل ما يجزى أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف لأن الله تعالى أضاف إليهم بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة فإن دفع لاثنين ضمن نصيب الثالث وفي قدر الضمان قولان: أحدهما القدر المستحب وهو الثلث والثاني أقل جزء من السهم لأنه هذا القدر هو الواجب فلا يلزمه ضمان ما زاد وإن اجتمع في شخص واحد سببان ففيه ثلاثة طرق: من أصحابنا من قال لا يعطى بالسببين بل يقال له اختر أيهما شئت فنعطيك به ومنهم من قال إن كانا سببين متجانسين مثل أن يستحق بكل واحد منهما إلا بسبب واحد وإن كانا سببين مختلفين مثل أن يكون بأحدهما يستحق لحاجتنا إليه وبالآخر يستحق لحاجته إلينا أعطي بالسببين كما قلنا في الميراث إذا اجتمع في شخص واحد جهتا فرض لم يعط بهما وإن اجتمع فيه جهة فرض وجهة تعصيب أعطي بهما ومنهم من قال فيه قولان أحدهما يعطى بالسببين لأن الله تعالى جعل للفقير سهماً وللغارم سهماً وهذا فقير غارم والثاني يعطى بسبب واحد لأنه شخص واحد فلا يأخذ سهمين كما لو انفرد بمعنى واحد. فصل: وإن كان الذي يفرق الزكاة رب المال سقط سهم العامل لأنه لا عمل له فيقسم الصدقة على سبعة أصناف لكل صنف سهم على ما بيناه وإن كان في الأصناف

أقارب له لا تلزمه نفقتهم فالمستحب أن يخص الأقارب لما روت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصدقة على المسلم صدقة وهي على ذي القرابة صدقة وصلة". فصل: ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف في البلد الذي فيه المال لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم فإن نقل إلى الأصناف في بلد آخر ففيه قولان: أحدهما يجزئه لأنهم من أهل الصدقة فأشبه أصناف البلد الذي فيه المال والثاني لا يجزئه لأنه حق واجب لأصناف بلد ومن أصحابنا من قال القولان في جواز النقل ففي أحدهما يجوز وفي الثاني لا يجوز فأما إذا نقل فإنه يجزئه قولاً واحداً والأول هو الصحيح فإن كان له أربعون شاة عشرون في بلد وعشرون في بلد آخر قال الشافعي: إذا أخرج الشاة في أحد البلدين كرهت وأجزأه فمن أصحابنا من قال إنما أجاز ذلك على القول الذي يقول يجوز نقل الصدقة فأما على القول الآخر فلا يجوز حتى يخرج في كل بلد نصف شاة ومنهم من قال يجزئه ذلك قولاً واحداً لأن في إخراج نصف الشاة في كل بلد ضرراً في التشريك بينه وبين الفقراء والصحيح هو الأول لأنه قال كرهت وأجزأه فدل على أنه أحد القولين ولو كان قولاً واحداً لم يقل كرهت وفي الموضع الذي تنقل إليه طريقان: من أصحابنا من قال القولان فيه إذا نقل إلى مسافة تقصر فيها الصلاة فأما إذا نقل إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة فإنه يجوز قولاً واحداً لأن ذلك في حكم البلد بدليل أنه لا يجوز فيه القصر والفطر والمسح على الخفين ومنهم من قال القولان في الجميع وهو الأظهر وإن وجبت عليه الزكاة وهو من أهل الخيم الذين ينتجعون لطلب الماء والكلأ فإنه ينظر فيه فإن كانوا متفرقين كان موضع الصدقة من عند المال إلى حيث تقصر فيه الصلاة فإذا بلغ حداً تقصر فيه الصلاة لم يكن ذلك موضع

الصدقة وإن كان في حال مجتمعة ففيه وجهان: أحدهما أنه كالقسم قبله والثاني أن كل حلة كالبلد وإن وجبت الزكاة وليس في البلد الذي فيه المال أحد من الأصناف نقلها إلى أقرب البلاد إليه لأنهم أقرب إلى المال وإن وجد فيه بعض الأصناف فيدفع إلى من في بلد المال من الأصناف سهمهم وينقل الباقي إلى بقية الأصناف في غير بلد المال وهو الصحيح لأن استحقاق الأصناف أقوى لأنه ثبت بنص الكتاب واعتبار البلد ثبت بخير الواحد فقدم من ثبت حقه بنص الكتاب. فصل: فإن قسم الصدقة على الأصناف فنقص نصيب بعضهم عن كفايتهم ونصيب الباقين على قدر كفايتهم دفع إلى كل واحد منهم ما قسم له ولا يدفع إلى من نقص سهمه عن كفايته من نصيب الباقين شيء لأن كل صنف منهم ملك سهمه فلا ينقص حقه لحاجة غيره وإن كان نصيب بعضهم ينقص عن كفايته ونصيب البعض يفضل عن كفايته فإن قلنا إن المغلب اعتبار البلد الذي فيه المال صرف ما فضل إلى بقية الأصناف في البلد وإن قلنا إن المغلب اعتبار الأصناف صرف الفاضل إلى ذلك الصنف الذي فضل عنهم بأقرب البلاد. فصل: وإن وجبت عليه الفطرة وهو في بلد وماله فيه وجب إخراجها إلى الأصناف في البلد وإن مصرفها مصرف سائر الزكوات وإن كل ماله في بلد وهو في بلد آخر ففيه وجهان: أحدهما أن الاعتبار بالبلد الذي فيه المال والثاني أن الاعتبار بالبلد الذي هو فيه لأن الزكاة تتعلق بعينه فاعتبر الموضع الذي هو فيه كالمال في سائر الزكوات. فصل: وإذا وجبت الزكاة لقوم معينين في بلد فلم يدفع إليهم حتى مات بعضهم انتقل حقه إلى ورثته لأنه تعين حقه في حال الحياة فانتقل بالموت إلى ورثته. فصل: ولا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي لقوله صلى الله عليه وسلم "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة1" ولا يجوز دفعها إلى مطلبي لقوله صلى الله عليه وسلم "إن بني هاشم وبني المطلب شيء

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 161، 168. النسائي في كتاب الزكاة باب 95، 97. الموطأ في كتاب الصدقة حديث 13. أحمد في مسنده "1/200".

واحد" وشبك بين أصابعه ولأنه حكم متعلق بذوي القربى فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس وقال أبو سعيد الاصطخري: إن منعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم لأنهم إنما حرموا الزكاة لحقهم في خمس الخمس فإذا منعوا الخمس وجب أن يدفع إليهم والمذهب الأول لأن الزكاة حرمت عليهم لشرفهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس وفي مواليهم وجهان: أحدهما يدفع إليهم والثاني لا يدفع وقد بينا وجه المذهبين في سهم العامل. فصل: ولا يجوز دفعها إلى كافر لقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". فصل: ولا يجوز دفعها إلى غني من سهم الفقراء لقوله صلى الله عليه وسلم "لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". فصل: ولا يجوز دفعها إلى من يقدر على كفايته بالكسب للخبر ولأن غناه بالكسب كغناه بالمال. فصل: ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء لأن ذلك إنما جعل للحاجة ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة. فصل: فإن دفع الإمام الزكاة إلى من ظاهره الفقر ثم بان أنه غني لم يجزه ذلك عن الفرض فإن كان باقياً استرجع منه ودفع إلى فقير وإن كان فائتاً أخذ للبدل وصرف إلى فقير فإن لم يكن للمدفوع إليه مال لم يجب على رب المال ضمانه لأنه قد سقط الفرض عنه بالدفع إلى الإمام ولا يجب على الإمام لأنه أمين غير مفرط فهو كالمال الذي يتلف في يد الوكيل وإن كان الذي دفع إليه رب المال فإن لم يبين عند الدفع أنه زكاة واجبة لم يكن له أن يرجع لأنه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع فإذا ادعى الزكاة كان متهماً فلم يقبل قوله ويخالف الإمام فإن الظاهر من حاله أنه لا يدفع إلا الزكاة

فثبت له الرجوع وإن كان قد بين أنها زكاة رجع فيها إن كانت باقية وفي بدلها إن كانت فائتة فإن لم يكن له للمدفوع إليه مال فهل يضمن رب المال الزكاة؟ فيه قولان: أحدهما لا يضمن لأنه دفع إليه بالاجتهاد كالإمام والثاني يضمن لأنه كان يمكنه أن يسقط الفرض بيقين بأن يدفعها إلى الإمام فإذا فرط بنفسه فقد فرط فلزمه الضمان بخلاف الإمام وإن دفع الزكاة إلى رجل ظنه مسلماً وكان كافراً أو إلى رجل ظنه حراً فكان عبداً فالمذهب أن حكمه حكم ما لو دفع إلى رجل ظنه فقيراً فكان غنياً ومن أصحابنا من قال يجب الضمان ههنا قولاً واحداً لأن حال الكافر والعبد الكافر لا يخفى فكان مفرطاً في الدفع إليهما وحال الغني قد يخفى فلم يكن مفرطاً. فصل: ومن وجبت عليه الزكاة وتمكن من أدائها فلم يفعل حتى مات وجب قضاء ذلك من تركته لأنه حق مال لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدمي فإن اجتمع مع الزكاة دين آدمي ولم يتسع المال للجميع ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يقدم دين الآدمي لأنه مبناه على التشديد والتأكيد وحق الله تعالى مبني على التخفيف ولهذا لو وجب عليه قتل قصاص وقتل ردة فدم قتل القصاص والثاني تقدم الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحج "فدين الله عز وجل أحق أن يقضى" والثالث أنه يقسم بينهما لأنهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء وبالله التوفيق.

باب صدقة التطوع

باب صدقة التطوع لا يجوز أن يتصدق بصدقة تطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقة عياله لما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي دينار قال: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال: عندي آخر قال أنفقه على أهلك قال: عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال عندي آخر قال أنت أعلم به1" وقال صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت2" ولا يجوز لمن عليه دين وهو محتاج إلى ما يتصدق لقوله صلى الله عليه وسلم "وليتصدق الرجل من ديناره وليتصدق من درهمه وليتصدق من صاع بره وليتصدق من صاع تمره3" وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 24. النسائي في كتاب الزكاة باب 91. أحمد في مسنده "4/ 224". 2 رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 54. أحمد في مسنده "2/ 251، 471". 3 رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 45. أحمد في مسنده "2/160، 193".

"من أطعم مؤمناً جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً على ظمأ أسقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة ومن كسى مؤمناً عارياً كساه الله تعالى من خضر الجنة" ويستحب الإكثار منه في شهر رمضان لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان فإن كان ممن يصبر على الإضاقة استحب له التصدق بجميع ماله لما روى عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً فجئت بنصف مالي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ " فقلت: أبقيت لهم مثله وأتى أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبداً وإن كان ممن لا يصبر على الإضافة كره له ذلك لما روى جابر قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها من بعض المغازي فأتاه من ركنه الأيسر فقال: يا رسول الله خذها صدقة فوالله ما أصبحت أملك مالاً غيرها فأعرض عنه ثم جاءه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم جاءه من بين يديه فقال له مثل ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هاتها مغضباً فحذفه بها حذفة لو أصابه لأوجعه أو عقره ثم قال يأتي أحدكم بماله كله فيتصدق به ثم يجلس بعد ذلك يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى". فصل: والأفضل أن يخص بالصدقة الأقارب لقوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم" وفعلها في السر أفضل لقوله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ولما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلة الرحم تزيد

في العمر وصدقة السر تطفيء غضب الرب وصنائع المعروف تقي مصارع السوء1" وتحل صدقة التطوع للأغنياء ولبني هاشم ولبني المطلب لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنهما انه كان يشرب من سقايا بين مكة والمدينة فقيل له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب البر باب 36.

كتاب الصيام

كتاب الصيام مدخل ... كتاب الصيام صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان1". فصل: ويتحتم وجوب ذلك على كل مسلم بالغ عاقل طاهر قادر مقيم فأما الكافر

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 1، 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 19 -22. الترمذي في كتاب الإيمان باب 3. النسائي في كتاب الإيمان باب 13.

فإنه إن كان أصلياً لم يخاطب به في حال كفره لأنه لا يصح منه وإن أسلم لم يجب عليه القضاء لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيراً عن الإسلام وإن كان مرتداً لم يخاطب به في حال الردة لا لأنه لا يصح منه وإن أسلم وجب عليه قضاء ما تركه في حال الكفر لأنه التزم ذلك فلم يسقط ذلك بالردة كحقوق الآدميين. فصل: وأما الصبي فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق1" ويؤمر بفعله لسبع سنين إذا أطاق الصوم ويضرب على تركه لعشر قياساً عن الصلاة فإن بلغ لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر لأنه لو وجب عليه ذلك لوجب عليه أداؤه في الصغر لأنه يقدر على فعله ولأن أيام الصغر تطول فلو أوجبنا عليه قضاء ما يفوت لشق. ومن زال عقله بجنون لم يجب عليه الصوم لقوله صلى اله عليه وسلم "وعن المجنون حتى يفيق" فإن أفاق لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون لأنه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف لنقص فلم يجب قضاؤه كما لو فات في حال الصغر وإن زال عقله بالإغماء لم يجب عليه في الحال لأنه لا يصح منه فإن أفاق وجب عليه القضاء لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] والإغماء مرض ويخالف الجنون فإن نقص ولهذا لا يجوز الجنون على الأنبياء ويجوز عليهم الإغماء فإن أسلم الكافر أو أفاق المجنون في أثناء يوم من رمضان استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يلزمهم ذلك لأن المجنون أفطر لعذر والكافر وإن أفطر بغير عذر إلا أنه لما أسلم جعل كالمعذور فيما فعل في حال الكفر ولهذا لا يؤاخذ بقضاء ما تركه ولا بضمان بما أتلفه ولهذا قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ولا يأكل عند من لا يعرف عذره لأنه إذا تظاهر بالأكل عرض نفسه للتهمة

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 17. أحمد في مسنده "1/116".

وعقوبة السلطان وهل يجب عليه قضاء ذلك اليوم أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يجب لأنه أدرك جزءاً من وقت الفرض ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بيوم فوجب أن يقضيه بيوم كامل كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد فإنه يجب بقسطه صوم نصف يوم ولكن لما لم يمكن فعل ذلك إلا بيوم وجب عليه صوم يوم والثاني لا يجب ـ وهو المنصوص في البويطي ـ لأنه لم يدرك من الوقت ما يمكن الصوم فيه لأن الليل يدركه قبل التمام فلم يلزمه كمن أدرك من أول وقت الصلاة قدر الركعة ثم جن فإن بلغ الصبي في أثناء يوم من رمضان نظرت فإن كان مفطراً فهو كالكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق في جميع ما ذكرناه وإن كان صائماً ففيه وجهان: أحدهما يستحب له إتمامه لأنه صوم نقل فاستجب إتمامه ويجب قضاؤه لأنه لم ينو به الفرض من أوله فوجب قضاؤه والثاني أنه يلزمه إتمامه ويستحب قضاؤه لأنه صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة فلزمه إتمامها كما لو دخل في صوم التطوع ثم نذر إتمامه. فصل: وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم لأنه لا يصح منهما فإذا طهرتا وجب عليهما القضاء لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت في الحيض كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة فوجب القضاء على الحائض بالخبر وقسنا النفساء عليها لأنها في معناها فإن طهرت في أثناء النهار استحب لها أن تمسك بقية النهار ولا يجب لما ذكرنه في الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق. فصل: ومن لا يقدر على الصوم بحال وهو الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي لا يرجى برؤه فإنه لا يجب عليهما الصوم لقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وفي الفدية قولان: أحدهما لا تجب لأنه أسقط عنهما فرض الصوم فلم تجب عليهما الفدية كالصبي والمجنون والثاني يجب عن كل يوم مد طعام وهو الصحيح لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكيناً وعن أبي هريرة أنه قال: من أدركه الكبر فلم يستطع صوم رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا ضعفت عن الصوم أطعم عن كل يوم مداً وروي أن أنساً ضعف عن الصوم عاماً قبل وفاته فأفطر وأطعم وإن لم يقدر على الصوم لمرض يخاف زيادته ويرجو البرء لم يجب عليه الصوم للآية فإن برئ وجب عليه القضاء لقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وإن أصبح صائماً وهو صحيح ثم مرض أفطر لأنه أبيح له الفطر للضرورة والضرورة موجودة فجاز له الفطر. فصل: فأما المسافر إن كان سفره دون أربعة برد لم يجز له أن يفطر لأنه إسقاط فرض للسفر فلا يجوز فيما دون أربعة برد كالقصر وإن كان سفره في معصية لم يجز له أن يفطر لأن ذلك إعانة على المعصية وإن كان سفره أربع برد في غير معصية فله أن يصوم وله أن يفطر لما روت عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو والأسلمي قال يا رسول الله أصوم في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" فإن كان ممن لا يجهده الصوم في السفر فالأفضل أن يصوم لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال للصائم في السفر إن أفطرت فرخصة وإن صمت فهو أفضل وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال: الصوم أحب إلي ولأنه إذا أفطر عرض الصوم للنسيان وحوادث الزمان فكان الصوم أفضل وإن كان يجهده الصوم فالأفضل أن يفطر لما روى جابر رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل تحت شجرة يرش عليه الماء فقال: ما بال هذا قالوا: صائم يا رسول الله فقال: "ليس من البر الصيام في السفر1" فإن صام المسافر ثم أراد أن يفطر فله أن يفطر لأن العذر قائم فجاز له أن يفطر كما لو صام المريض ثم أراد أن يفطر ويحتمل عندي أنه لا يجوز له أن يفطر في ذلك اليوم لأنه دخل في فرض المقيم فلا يجوز له أن يترخص برخص المسافر كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام ثم أراد أن يقصر ومن أصبح في الحضر صائماً ثم سافر لم يجز له أن يفطر في ذلك اليوم وقال المزني: له أن يفطر كما لو أصبح الصبح صائماً ثم مرض فله أن يفطر والمذهب الأول والدليل عليه أنه عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا بدأ بها في الحضر ثم سافر لم يثبت له رخصة السفر كما لو دخل في الصلاة في الحضر ثم سافر في أثنائها ويخالف المريض فإن ذلك مضطر إلى الإفطار والمسافر مختار وإن قدم المسافر وهو مفطر أو برء المريض وهو مفطر استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا لعذر ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة وإن قدم

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصيام باب 36. مسلم في كتاب الصيام حديث 93. أبو داود في كتاب الصيام باب 43. النسائي في كتاب الصيام باب 46. الدارمي في كتاب الصوم باب 15. أحمد في مسنده "4/299، 319".

المسافر وهو صائم أو بريء المريض وهو صائم فهل لهما أن يفطرا؟ فيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز لهما الإفطار لأنه أبيح لهما الفطر من أول النهار ظاهراً وباطناً فجاز لهما الإفطار في بقية النهار كما لو دام السفر والمرض وقال أبو إسحاق: لا يجوز لهما الإفطار لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص فلم يجز الترخص كما لو قدم المسافر وهو في الصلاة فإنه لا يجوز له القصر. فصل: وإن خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما من الصوم أفطرتا وعليهما القضاء دون الكفارة لأنهما أفطرتا للخوف على أنفسهما فوجب عليهما القضاء دون الكفارة كالمريض وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء بدلاً عن الصوم وفي الكفارة ثلاثة أقوال: قال في الأم: يجب عن كل يوم مد من طعام وهو الصحيح لقوله عز وجل {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} "البقرة: 184" قال ابن عباس رضي الله عنه: نسخت هذه الآية وبقيت الرخصة للشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكيناً والثاني أن الكفارة مستحبة غير واجبة - وهو قول المزني - لأنه إفطار لعذر فلم تجب به الكفارة كإفطار المريض والثالث أنه يجب على المريض دون الحامل لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها كالمريض والمرضع أفطرت لمنفصل عنها فوجبت عليها الكفارة. فصل: ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال فإن غم عليهم وجب عليهم استكمال شعبان ثلاثين يوماً ثم يصومون لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً1" فإن أصبحوا في يوم الثلاثين وهم يظنون أنه من شعبان فقامت البينة أنه من رمضان لزمهم قضاؤه لأنه بان أنه من رمضان وهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزمهم لأنهم أفطروا لعذر فلم يلزمهم إمساك بقية النهار كالحائض إذا طهرت والمسافر إذا قدم والثاني يلزمهم لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان وقد بان أنه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 5،11. مسلم في كتاب الصوم حديث 6- 9 الترمذي في كتاب الصوم باب 2. النسائي في كتاب الصوم باب 17 الموطأ في كتاب الصيام حديث 1-3. أحمد في مسنده "2/5،13" "3/229".

من رمضان فلزمهم الإمساك فإن رأوا الهلال بالنهار فهو لليلة المستقبلة لما روى سفيان بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بخانقين أن الأهلة بعضهما أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس وإن رأوا الهلال في بلد ولم يروه في بلد آخر فإن كانا بلدين متقاربين وجب على أهل البلدين الصوم وإن كانا بلدين متباعدين وجب على من رأى ولا يجب على من لم ير لما روى كريب قال: قدمت الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فقال عبد الله بن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة فقال: أنت رأيت؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا أو صام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه قلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: وفي الشهادة التي يثبت بها رؤية هلال شهر رمضان قولان: قال في البويطي: لا تقبل إلا من عدلين لما روى الحسين بن حريث الجدلي جديلة قيس قال: خطبنا أمير مكة الحرث بن خاطب فقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرأيته فإن لم نره فهذان شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما وقال في القديم والجديد: يقبل من عدل واحد وهو الصحيح لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصيام ولأنه إيجاب عبادة فقبل من واحد احتياطاً للفرض فإن قلنا يقبل من واحد فهل من العبد والمرأة؟ فيه وجهان: أحدهما يقبل لأن ما قبل فيه قول الواحد قبل من العبد والمرأة كأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثاني لا يقبل وهو الصحيح لأن طريقها طريق الشهادة بدليل أنه لا تقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم يقبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات ولا يقبل في هلال الفطر إلا شاهدان لأنه إسقاط فرض فاعتبر فيه العدد احتياطاً للفرض فإن شهد واحد على رؤية هلال رمضان فقبل قوله وصاموا ثلاثين يوماً وتغيمت السماء ففيه وجهان: أحدهما أنهم لا يفطرون لأنه إفطار بشاهد واحد والثاني أنهم يفطرون وهو المنصوص في الأم لأنه بينة ثبت بها الصوم فجاز الإفطار باستكمال العدد منها كالشاهدين وقوله إن هذا إفطار بشاهد لا يصح لأنه الذي ثبت بالشاهد هو الصوم والفطر ثبت على سبيل التبع وذلك يجوز كما تقول إن النسب لا يثبت بقول أربع نسوة ثم لو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت الولادة وثبت النسب على سبيل التبع للولادة وإن شهد اثنان على رؤية هلال رمضان فصاموا ثلاثين يوماً والسماء مصحية فلم يروا الهلال ففيه وجهان: قال أبو بكر بن الحداد: لا يفطرون لأن عدم الهلال مع الصحو يقين والحكم بالشاهدين ظن واليقين يقدم على الظن وقال أكثر أصحابنا: يفطرون لأن شهادة اثنين يثبت بها الصوم والفطر فوجب أن يثبت بها الفطر وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان: قال أبو العباس: يلزمه الصوم لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة والثاني أنه لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن رأى هلال شوال وحده أفطر وحده لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ويفطر لرؤية هلال شوال سراً لأنه إذا أظهر الفطر عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان. فصل: وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه أن يتحرى ويصوم كما يلزمه أن يتحرى في وقت الصلاة وفي القبلة فإن تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه فإن وافق شهراً بالهلال ناقصاً وشهر رمضان الذي صامه الناس كان تاماً ففيه وجهان: أحدهما يجزئه وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله - لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين ولهذا لو نذر صوم شهر فصام شهراً ناقصاً بالأهلة أجزأه والثاني أنه يجب عليه

صوم يوم - وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله - وهو الصحيح عندي لأنه فاته صوم ثلاثين يوماً وقد صام تسعة وعشرين يوماً فلزمه صوم يوم وإن وافق صومه شهر أقبل رمضان قال الشافعي رحمه الله: لا يجزئه ولو قال قائل يجزئه كان مذهباً قال أبو إسحاق المروزي لا يجزئه قولاً واحداً وقال سائر أصحابنا: فيه قولان: أحدهما يجزئه لأنه عبادة تفعل في السنة مرة فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم عرفة والثاني لا يجزئه وهو الصحيح لأنه تعين له تيقن الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء فلم يعتد بما فعله كما لو تحرى في وقت الصلاة فصلى قبل الوقت. فصل: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنه عبادة محضة فلم يصح من غير نية كالصلاة وتجب النية لكل يوم لأن صوم كل يوم عبادة منفردة يدخل وقتها بطلوع الفجر ويخرج وقتها بغروب الشمس ولا يفسد بفساد ما قبله ولا بفساد ما بعده فلم تكفه نية واحدة كالصلاة ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنية من الليل لما روت حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له1" وهل تجوز نية مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال يجوز لأنه عبادة فجاز بنية تقارن ابتداءها كسائر العبادات وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة رضي الله عنها ولأن أول وقت الصوم يخفى فوجب تقديم النية عليه بخلاف سائر العبادات فإذا قلنا بهذا فهل تجوز النية في جميع الليل؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال لا يجوز إلا في النصف الثاني قياساً على أذان الصبح والدفع من المزدلفة وقال أكثر أصحابنا تجوز في جميع الليل لحديث حفصة ولأنا لو أوجبنا النية في النصف الثاني ضاق ذلك على الناس وشق فإن نوى بالليل ثم أكل أو جامع لم تبطل نيته وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: تبطل لأن الأكل ينافي الصوم فأبطل النية والمذهب الأول وقيل إن أبا إسحاق رجع عن ذلك والدليل عليه أن الله تعالى أحل

_ 1 رواه النسائي في كتاب الصيام باب 68. الدارمي في كتاب الصوم باب 10.

الأكل إلى طلوع الفجر فلو كان الأكل يبطل النية لما جاز أن يأكل إلى الفجر لأنه يبطل النية. فصل: وأما صوم التطوع فإنه يجوز بنية قبل الزوال وقال المزني: لا يجوز إلا بنية من الليل كالفرض والدليل على جوازه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أصبح عندكم اليوم شيء تطعموناه يا عائشة فقالت: لا فقال: إني إذاً صائم" ويخالف الفرض لأن النفل أخف من الفرض والدليل عليه أنه يجوز ترك القيام واستقبال القبلة في النفل مع القدرة ولا يجوز في الفرض وهل تجوز نيته بعد الزوال؟ فيه قولان: روى حرملة أنه يجوز لأنه جزء من النهار فجازت نية النفل فيه كالنصف الول وقال في القديم والجديد لا تجوز لأن النية لم تصحب معظم العبادة فأشبه إذا نوى مع غروب الشمس ويخالف النصف الأول لأن النية هناك صحبت معظم العبادة ومعظم الشيء يجوز أن يقوم مقام الجميع ولهذا لو أدرك معظم الركعة مع الإمام جعل مدركاً للركعة ولو أدرك دون المعظم لم يجعل مدركاً لها فإن صام التطوع بنية من النهار فهل يكون صائماً من أول النهار أو من وقت النية؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق يكون صائماً من وقت النية لأن ما قبل النية لم توجد فيه قصد القربة فلم يجعل صائماً فيه وقال أكثر أصحابنا إنه صائم من أول النهار لأنه لو كان صائماً من وقت النية لم يضره الأكل قبله. فصل: ولا يصح صوم رمضان إلا بتعيين النية وهو أن ينوي أنه صائم من رمضان لأنه فريضة وهو قربة مضافة إلى وقتها فوجب تعيين الوقت في نيتها كصلاة الظهر والعصر وهل يفتقر إلى نية الفرض؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق يلزمه أن ينوي صوم فرض رمضان لأن صوم رمضان قد يكون نفلاً في حق الصبي فيفتقر إلى نية الفرض لتميزه من صوم الصبي وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفتقر إلى ذلك لأن رمضان في حق البالغ لا يكون إلا فرضاً فلا يفتقر إلى تعيين الفرض فإن نوى في ليلة الثلاثين من شعبان فقال: إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو عن تطوع وكان من رمضان لم يصح لعلتين: إحداهما أنه لم يخلص النية لرمضان والثاني أن الأصل أنه من شعبان فلم تصح نية رمضان ولأنه شك في دخول وقت العبادة فلم تصح نيته كما لو شك في دخول وقت الصلاة وإن قال إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان وإن لم يكن من رمضان فأنا صائم عن تطوع لم يصح لعلة واحدة وهو أن الأصل أنه من شعبان فلا يصح

بنية الفرض فإن قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو مفطر وكان من رمضان لم يصح صومه لأنه لم يخلص النية للصوم فإن قال إن كان غد من رمضان وإن لم يكن فأنا مفطر وكان من رمضان صح صومه لأنه أخلص النية للفرض وبنى عن الأصل لأن الأصل أنه من رمضان ومن دخل في الصوم ونوى الخروج منه بطل الصوم لأن النية شرط في جميعه فإذا قطعها في أثنائه بقي الباقي بغير نية فبطل وإذا بطل البعض بطل الجميع لأنه لا ينفرد بعضه عن بعض ومن أصحابنا من قال لا تبطل لأنه عبادة تتعلق الكفارة بجنسها فلم تبطل بنية الخروج كالحج والأول أظهر لأن الحج لا يخرج منه بما يفسده والصوم يخرج منه بما يفسده فكان كالصلاة. فصل: ويدخل في الصوم بطلوع الفجر ويخرج بغروب الشمس لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغابت الشمس من ههنا فقد أفطر الصائم" ويجوز أن يأكل ويشرب ويباشر إلى طلوع الفجر لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة187" فإن جامع قبل طلوع الفجر وأصبح وهو جنب وجاز صومه لأنه لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائماً وهو جنب وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم فإن طلع الفجر وفيه طعام فأكله أو كان مجامعاً فاستدام بطل صومه وإن لفظ الطعام أو أخرج مع طلوع الفجر لم يصح صومه لأن الجماع إيلاج وإخراج وإن بطل بالإيلاج بطل بالإخراج والدليل على أنه يصح صومه هو أن الإخراج ترك الجماع وما علق على فعل شيء لا يتعلق بتركه كما لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب وهو عليه فبدأ بنزعه لم يحنث وإن أكل وهو يشك في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل وإن أكل وهو يشك في غروب الشمس لم يصح صومه لأن الأصل بقاء النهار. فصل: ويحرم على الصائم الأكل والشرب لقوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} "البقرة 187" وإن أكل أو شرب وهو ذاكر للصوم عالم بالتحيم مختار بطل صومه لأنه فعل ما

ينافي الصوم من غير عذر فبطل فإذا استعط أو صب الماء في أذنه فوصل إلى دماغه بطل صومه لما روى لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استنشقت فبالغ في الوضوء إلى أن تكون صائماًً1" فدل على أنه إذا وصل إلى الدماغ شيء بطل صومه ولأن الدماغ أحد الجوفين فبطل الصوم بالواصل إليه كالبطن وإن احتقن بطل صومه لأنه إذا بطل بما يصل إلى الدماغ لسعوط فلأن يبطل بما يصل إلى الجوف بالحقنة أولى وإن كانت به جائفة أو آمة فداواها فوصل الدواء إلى الجوف أو الدماغ أو طعن نفسه أوطعنه غيره بإذنه فوصلت الطعنة إلى جوفه بطل صومه لما ذكرناه في السعوط أو الحقنة وإن زرق في إحليله شيئاً أو دخل فيه ميلاً ففيه وجهان: أحدهما يبطل صومه لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه فتعلق بالواصل إليه كالفم والثاني أنه لا يبطل لأنه ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئاً. فصل: ولا فرق بين أن يأكل ما يؤكل أو ما لا يؤكل فان استف تراباً وابتلع حصاة أو درهماً أو ديناراً بطل صومه لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف وهذا ما أمسك ولهذا يقال: فلان يأكل الطين ويأكل الحجر ولأنه إذا بطل الصوم بما يصل إلى الجوف مما ليس يؤكل كالسعوط والحقنة وجب أيضاً أن يبطل بما يصل مما ليس بمأكول وإن قلع ما بقي بين أسنانه بلسانه وابتلعه بطل صومه وإن جمع في فيه ريقاً كثيراً فابتلعه ففيه وجهان: أحدهما أنه يبطل صومه لأنه ابتلع ما يمكنه الاحتراز منه مما لا حاجة به إليه فأشبه إذا قلع ما بين أسنانه وابتلعه والثاني لا يبطل لأنه

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 68. أبو داود في كتاب الطهارة باب 56. النسائي في كتاب الطهارة باب 70. أحمد في مسنده "4/33.

وصل إلى جوفه من معدنه فأشبه ما يبتلعه من ريقه على عادته فإن أخرج البلغم من صدره ثم ابتلعه أو جذبه من رأسه ثم ابتلعه بطل صومه وإن استقاء بطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه1" ولأن القيء إذا صعد ثم تردد فرجع بعضه إلى الجوف فيصير كطعام ابتلعه. فصل: ويحرم عليه المباشرة في الفرج لقوله عز وجل {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] إلى قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فإن باشرها في الفرج بطل صومه لأنه أحد ما ينافي الصوم فهو كالأكل وإن باشرها فيما دون الفرج فأنزل أو قبل فأنزل بطل صومه وإن لم ينزل لم يبطل صومه لما روى جابر قال: قبلت وأنا صائم ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قبلت وأنا الصائم؟ فقال: "أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم"؟ فشبه القبلة بالمضمضة وقد ثبت إذا تمضمض فوصل الماء إلى جوفه أفطر وإن لم يصل لم يفطر فدل على أن القبلة مثلها وإن جامع قبل طلوع الفجر فأخرج مع الطلوع وأنزل لم يبطل صومه لأن الإنزال تولد من مباشرة وهو مضطر إليها فلم يبطل الصوم وإن نظر وتلذذ فأنزل لم يبطل صومه لأنه إنزال من غير مباشرة فلم يبطل الصوم كما لو نام فاحتلم وإن استمنى فأنزل بطل صومه لأنه إنزال عن مباشرة فهو كالإنزال عن القبلة ولأن الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية في الإثم والتعزير فكذلك في الإفطار. فصل: وإن فعل ذلك كله ناسياً لم يبطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل ناسياً أو شرب ناسياً فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله تعالى2" فنص على الأكل والشرب وقسنا عليهما كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره فإن فعل ذلك وهو جاهل بتحريمه لم يبطل صومه لأنه يجهل تحريمه فهو كالناسي وإن فعل ذلك به بغير اختياره بأن أوجر الطعام في حلقه مكرهاً لم يبطل صومه وإن شد امرأته ووطئها وهي مكرهة لم يبطل صومها وإن استدخلت المرأة ذكر رجل وهو نائم لم يبطل صومه لحديت أبي هريرة رضي الله عنه ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه فدل على أن كل ما حصل بغير اختياره لم يجب به القضاء ولأن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 33. الترمذي في كتاب الصوم باب 24. الدارمي في كتاب الصيام باب 25. الموطأ في كتاب الصيام حديث 47. أحمد في مسنده "2/ 498". 2 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 15. الترمذي في كتاب الصوم باب 26. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 15 أحمد في مسنده "2/489، 491".

أضاف أكل الناسي إلى الله تعالى فأسقط به القضاء فدل على أن كل ما حصل بغير فعله لا يوجب القضاء وإن أكره حتى أكل بنفسه أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطء فوطئها ففيه قولان: أحدهما يبطل الصوم لأنه فعل ما ينافي الصوم لدفع الضرر وهو ذاكر للصوم فبطل صومه كما لو أكل لخوف المرض أو شرب لدفع العطش والثاني لا يبطل لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فأشبه إذا أوجر في حلقه وإن تمضمض أو استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو دماغه فقد نص فيه على قولين: فمن أصحابنا من قال القولان إذا لم يبالغ فأما إذا بالغ بطل صومه قولاً واحداً وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة "إذا استنشقت فبالغ في الوضوء إلا أن تكون صائماً" فنهاه عن المبالغة فلو لم يكن وصول الماء في المبالغة يبطل الصوم لم يكن للنهي عن المبالغة معنى ولأن المبالغة منهي عنها في الصوم وما تولد من سبب منهي عنه فهو كالمباشرة والدليل عليه أنه إذا جرح إنساناً فمات جعل كأنه باشر قتله ومن أصحابنا من قال: هي على قولين بالغ أو يبالغ أحدهما أنه يبطل صومه لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قبل وهو صائم: "أرأيت لو تمضمضت" فشبه القبلة بالمضمضة وإذا قبل وأنزل بطل صومه فكذلك إذا تمضمض فنزل الماء إلى جوفه وجب أن يبطل صومه والثاني لا يبطل لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فلم يبطل صومه كغبار الطريق وغربلة الدقيق وإن أكل أو جامع وهو يظن أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو يظن أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لزمه القضاء لما روى حنظلة قال: كنا في المدينة في شهر رمضان وفي السماء شيء من السحاب فظننا أن الشمس قد غربت فأفطر بعض الناس فأمر عمر رضي الله عنه من كان أفطر أن يصوم يوماً مكانه ولأنه مفرط لأنه كان يمكنه أن يمسك إلى أن يعلم فلم يعذر. فصل: ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استقاء فعليه القضاء1" ولأن الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر مع وجود العذر فلأن يجب مع عدم العذر أولى ويجب عليه إمساك بقية النهار لأنه أفطر بغير عذر فلزمه إمساك بقية النهار ولا تجب عليه الكفارة لأن الأصل

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 32. الترمذي في كتاب الصوم باب 25. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 16. الدارمي في كتاب الصيام باب 25. أحمد في مسنده "2/498".

عدم الكفارة إلا فيما ورد به الشرع وقد ورد الشرع بإيجاب الكفارة في الجماع وما سواه ليس في معناه لأن الجماع أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير ولا يجب فيما سواه فبقي على الأصل وإن بلغ ذلك السلطان عذره لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فثبت فيه التعزيز كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية. فصل: وإن أفطر بالجماع من غير عذر وجب عليه القضاء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي واقع أهله في رمضان بقضائه ولأنه إذا وجب فالقضاء على المريض والمسافر وهما معذوران فعلى المجامع أولى ويجب عليه إمساك بقية النهار لأنه أفطر بغير عذر وفي الكفارة ثلاثة أقوال: أحدها يجب على الرجل دون المرأة لأنه حق مال يختص بالجماع فاختص به الرجل دون المرأة كالمهر والثاني يجب على كل واحد منهما كفارة لأنه عقوبة تتعلق بالجماع فاستوى فيها الرجل والمرأة كحد الزنا والثالث يجب عليه عنه وعنها كفارة لأن الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل مشترك بينه وبينها فأوجب عتق رقبة فدل على أن ذلك عنه وعنها. فصل: والكفارة عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع على امرأته في يوم من شهر رمضان أن يعتق رقبة قال لا أجد قال: صم شهرين متتابعين قال: لا أستطيع قال: اطعم ستين مسكيناً قال: لا أجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعاً قال: خذه وتصدق به قال: على أفقر من أهلي؟ والله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال: خذه واستغفر الله تعالى وأطعم أهلك1" فإن قلنا يجب على كل واحد منهما كفارة اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه فمن كان من أهل العتق أعتق ومن كان من أهل الصوم صام ومن كان من أهل الإطعام أطعم كرجلين أفطرا بالجماع فإن قلنا يجب عليه كفارة عنه وعنها اعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أعتق وإن كانا من أهل الإطعام أطعم وإن كانا من أهل الصيام وجب على كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين لأن الصوم لا يتحمل وإن اختلف حالهما نظرت فإن كان الرجل من أهل العتق وهي من أهل الصوم

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 30، 31. مسلم في كتاب الصيام حديث 81. أبو داود في كتاب الصوم باب 37. الترمذي في كتاب الصوم باب 28. أحمد في مسنده "2/208".

أعتق رقبة ويجزئ عنهما لأن من فرضه الصوم إذا أعتق أجزأه وكان ذلك أفضل من الصوم وإن كان من أهل الصوم وهي من أهل الإطعام لزمه أن يصوم شهرين ويطعم عنها ستين مسكيناً لأن النيابة تصح في الإطعام وإنما أوجبنا كفارتين لأن الكفارة لا تتبعض فوجب تكميل نصف كل واحدة منهما وإن كان الرجل من أهل الصوم وهي من أهل العتق صام عن نفسه شهرين وأعتق عنها رقبة وإن كان من أهل الإطعام وهي من أهل الصوم أطعم عن نفسه ولم يصم عنها لأن الصوم لا تدخله النيابة وإن كانت المرأة أمة وقلنا إن الأمة لا تملك المال فهي من أهل الصوم ولا يجزئ عنها عتق فإن قلنا إنها تملك المال أجزأ عنها العتق كالحرة والمعسرة وإن قدم الرجل من السفر وهو مفطر وهي صائمة فقالت أنا مفطرة فوطئها فإن قلنا إن الكفارة عليه لم يلزمه ولم يلزمها وإن قلنا إن الكفارة عنه وعنها وجب عليها الكفارة في مالها لأنها غرته بقولها إني مفطرة وإن أخبرته بصومها فوطئها وهي مطاوعة فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها لم يجب عليه شيء وإن قلنا إن الكفارة عنه وعنها لزمه أن يكفر عنها إن كانت من أهل العتق أو الإطعام وإن كانت من أهل الصيام لزمها أن تصوم وإن وطئ المجنون زوجته وهي صائمة مختارة فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها لم تجب وإن قلنا تجب عنه وعنها فهل يتحمل الزوج؟ فيه وجهان: قال أبو العباس لا يتحمل لا فعل له وقال أبو إسحاق يتحمل لأنها وجبت بوطئه والوطء كالجناية وجناية المجنون مضمونة في ماله وإن كان الزوج نائماً فاستدخلت المرأة ذكره فإن قلنا الكفارة عنه دونها فلا شيء عليه وإن قلنا عنهما لم يلزمه كفارة لأنه لم يفطر ويجب عليها أن تكفر ولا يتحمل الزوج لأنه لم يكن من جهته فعل وإن زنى بها في رمضان فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها وجبت عليه كفارة وإن قلنا عنه وعنها وجب عليهما كفارتان ولا يتحمل الرجل كفارتهما لأن الكفارة إنما تتحمل بالملك ولا ملك ههنا. فصل: وإن جامع في يومين أو في أيام لكل يوم كفارة لأن صوم كل يوم عبادة منفردة فلم تتداخل كفاراتها كالعمرتين وإن جامع في يوم مرتين لم يلزمه للثاني كفارة لأن الجماع الثاني لم يصادف صوماً وإن رأى هلال رمضان ورد الحاكم شهادته

فصام وجامع وجبت عليه الكفارة لأنه أفطر في شهر رمضان بالجماع من غير عذر فأشبه إذا قبل الحاكم شهادته وإن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام مع العلم بالفجر وجبت عليه الكفارة لأنه منع صحة يوم من رمضان بجماع من غير عذر فوجبت عليه الكفارة كما لو وطئ في أثناء النهار وإن جامع وعنده أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لم تجب الكفارة لأنه جامع وهو معتقد أنه يحل له ذلك وكفارة الصوم عقوبة تجب مع المأثم فلا تجب مع اعتقاد الإباحة كالحد وإن أكل ناسياً فظن أنه أفطر بذلك ثم جامع عامداً فالمنصوص في الصيام أنه لا تجب الكفارة لأنه وطئ وهو معتقد أنه غير صائم فأشبه إذا وطئ وعنده أنه ليل ثم بان أنه كان نهاراً وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري: يحتمل عندي أن تجب الكفارة لأن الذي ظنه لا يبيح الوطء بخلاف ما لو جامع وهو يظن أن الشمس قد غربت لأن الذي ظن هناك يبيح له الوطء وإن أفطر بالجماع وهو مريض أو مسافر لم تجب الكفارة لأنه يحل له الفطر فلا تجب الكفارة مع إباحة الفطر وإن أصبح المقيم صائماً ثم سافر وجامع وجبت عليه الكفارة لأن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم فكان وجوده كعدمه وإن أصبح صائماً ثم مرض وجامع لم تجب الكفارة لأن المرض يبيح له الفطر في هذا اليوم وإن جامع ثم سافر لم تسقط عنه الكفارة لأن السفر لا يبيح له الفطر في يومه فلا يسقط ما وجب فيه من الكفارة وإن جامع ثم مرض أو جن ففيه قولان: أحدهما أنه لا تسقط عنه الكفارة لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلا يسقط الكفارة السفر والثاني يسقط لأن اليوم يرتبط بعضه ببعض فإذا خرج جزؤه عن أن يكون صائماً فيه أو عن أن يكون الصوم فيه مستحقاً خرج أوله عن أن يكون صوماً أو مستحقاً فيكون جماعه في يوم فطر أو في يوم صوم غير مستحق فلا تجب به الكفارة. فصل: ووطء المرأة في الدبر واللواط كالوطء في الفرج في جميع ما ذكرناه من إفساد الصوم ووجوب الكفارة والقضاء لأن الجميع وطء ولأن الجميع في إيجاب الحد واحد فكذلك في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كالجماع في الفرج وإن قلنا يجب فيه التعزير لم يفسد الصوم ولم تجب به الكفارة لأنه كالوطء فيما دون الفرج في التعزير فكان مثله في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة ومن أصحابنا من قال يفسد الصوم ويوجب الكفارة قولاً واحداً لأنه وطء يوجب الغسل فجاز أن يتعلق به إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كوطء المرأة. فصل: ومن وطئ وطأ يوجب الكفارة ولم يقدر على الكفارة فيه قولان: أحدهما

لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "خذه واستغفر الله وأطعم أهلك" ولنه حق مالي يجب لله تعالى لا على وجه البدل فلم يجب مع العجز كزكاة الفطر والثاني أنها تثبت في الذمة فإذا قدر لزمه أداؤها وهو الصحيح لأنه حق لله تعالى يجب بسبب من جهته فلم يسقط بالعجز كجزاء الصيد. فصل: إذا نوى الصوم من الليل ثم أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وعليه القضاء وقال المزني: يصح صومه كما لو نوى الصوم ثم نام جميع النهار والدليل على أن الصوم لا يصح أن الصوم نية وترك ثم لو انفرد الترك عن النية لم يصح فإذا انفردت النية عن الترك لم يصح وأما النوم فإن أبا سعيد الاصطخري قال: إذا نام جميع النهار لم يصح صومه كما لا يصح إذا أغمي عليه جميع النهار والمذهب أنه يصح صومه إذا نام والفرق بينه وبين الإغماء أن النائم ثابت العقل لأنه إذا نبه انتبه والمغمى عليه بخلافه ولأن النائم كالمستيقظ ولهذا ولايته ثابتة على ماله بخلاف المغمى عليه وإن نوى الصوم ثم أغمي عليه في بعض النهار فقد قال في كتاب الظهار ومختصر البويطي: إذا كان في أوله مفيقاً صح صومه وقال في كتاب الصوم: إذا أفاق في بعضه أجزأه وقال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: إذا كانت صائمة فأغمي عليها أو حاضت بطل صومها وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه إن كان مفيقاً في طرفي النهار صح صومه فمن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد أنه يعتبر أن يكون مفيقاً في أول النهار وتأول ما سواه من الأقوال على هذا ومن أصحابنا من قال فيه أربعة أقوال: أحدها إنه يعتبر الإفاقة في أوله كالنية تعتبر في أوله والثاني تعتبر الإفاقة في طرفيه كما أن في الصلاة يعتبر القصد في الطرفين في الدخول والخروج ولا يعتبر فيما بينهما والثالث أنه تعتبر الإفاقة في جميعه فإذا أغمي عليه في بعضه لم يصح صومه لأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض والرابع أنه تعتبر الإفاقة في جزء منه ولا أعرف له وجهاً وإن نوى الصوم ثم جن ففيه قولان: قال في الجديد يبطل الصوم لأنه عارض يسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض وقال في القديم هو كالإغماء لأنه يزيل العقل والولاية فهو كالإغماء. فصل: ويجوز للصائم أن ينزل إلى الماء ويغطس فيه لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب الماء على رأسه من شدة الحر والعطش وهو صائم ويجوز أن يكتحل لما روي عن أنس

رضي الله عنه أنه كان يكتحل وهو صائم ولأن العين ليس بمنفذ فلم يبطل الصوم بما وصل إليها ويجوز أن يحتجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم قال في الأم: ولو ترك كان أحب إلي لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والوصال في الصوم إيقاء على أصحابه قال: وأكره له العلك لأنه يجفف الفم ويعطش ولا يفطر لأنه يدور في الفم ولا ينزل إلى الجوف منه شيء وإن تفرك وتفتت فوصل إلى الجوف منه شيء بطل الصوم ويكره له أن يمضغ الخبز فإن كان له ولد صغير ولم يكن له من يمضغ له غيره لم يكره له ذلك ومن حركت القبلة شهوته كره له أن يقبل وهو صائم والكراهة كراهية تحريم وإن لم تكن تحرك القبلة شهوته قال الشافعي رحمه الله: فلا بأس به وتركها أولى والأصل في ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها: قالت: كان رسول صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه أرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب ولأن في حق أحدهما لا يؤمن أن ينزل فيفسد الصوم وفي الآخر يؤمن ففرق بينهما. فصل: وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم فإن شوتم فليقل إني صائم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم1".

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 2. مسلم في كتاب حديث 120. أبو داود في كتاب الصوم باب 29. الموطأ في كتاب الصيام حديث 57. أحمد في مسنده "2/245، 465".

فصل: ويكره الوصال في الصوم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال إياكم والوصال" قالوا: إنك تواصل يا رسول الله قال: "إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني1" وهل هو كراهية تنزيه أو تحريم؟ فيه وجهان: أحدهما أنه كراهة تحريم لأن النهي يقتضي التحريم والثاني أنه كراهية تنزيه لأنه إنما نهي عنه حتى لا يضعف عن الصوم وذلك أمر غير متحقق فلم يتعلق به إثم فإن واصل لم يبطل صومه لأن النهي لا يرجع إلى الصوم فلا يوجب بطلانه. فصل: والمستحب أن يتسحر للصوم لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تسحروا فإن بالسحور بركة2" ولأن فيه معونة على الصوم ويستحب تأخير السحور لما روي أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن عبد الله يعجل الفطر وتؤخر السحور فقالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ولأن السحور يراد ليتقوى به على الصوم فكان التأخير أبلغ في ذلك وأولى ويستحب أن يعجل الفطر إذا يتحقق غروب الشمس لحديث عائشة رضي الله عنها الله عنها ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر3" لأن اليهود والنصارى يؤخرون والمستحب أن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء روى سلمان بن عامر قال: قال

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصيام باب 49. مسلم في كتاب الصيام حديث 58. الدارمي في كتاب الصيام باب 14. الموطأ في كتاب الصيام حديث 38. أحمد في مسنده "2/231". 2 رواه النسائي في كتاب الصيام باب 18. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 22. الدارمي في كتاب الصوم باب 9. أحمد في مسنده "2/377" "3/32". 3 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 20. أحمد في مسنده "2/450".

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور1" والمستحب أن يقول عند إفطاره: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صام أو أفطر قال: "أللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت2" ويستحب أن يفطر الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائماً فله مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم شيء3". فصل: إذا كان عليه قضاء أيام من رمضان ولم يكن له عذر لم يجز له أن يؤخر إلى أن يدخل رمضان آخر فإن أخره حتى أدركه رمضان آخر وجب عليه لكل يوم مد من طعام لما روي عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتى أدركه رمضان يطعم عن الأول فإن أخر سنين ففيه وجهان: أحدهما يجب لكل سنة مد لأنه تأخير سنة فأشبه السنة الأولى والثاني لا يجب للثانية شيء لأن القضاء القضاء مؤقت فيما بين رمضانين فإذا أخر عن السنة الأولى فقد أخره عن وقته فوجبت الكفارة وهذا المعنى لا يوجد فيما بعد السنة الأولى فلم يجب للتأخير كفارة والمستحب أن يقضي ما عليه متتابعاً لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه" ولأن فيه مبادرة إلى أداء الفرض ولأن هذا أشبه بالأداء فإن قضاه متفرقاً جاز لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ولم يفرق ولأنه تتابع وجب لأجل الوقت فسقط بفوات الوقت فإن كان عليه قضاء اليوم الأول فصام ونوى به اليوم الثاني فإنه محتمل أن يجزئه لأن تعيين اليوم غير واجب ويحتمل أن لا يجزئه لأنه نوى غير ما عليه فلم يجزه كما لو كان عليه عتق عن اليمين فنوى العتق عن الظهار. فصل: إذا كان عليه قضاء شيء من رمضان فلم يصم حتى مات نظرت فإما أخره لعذر اتصل حتى مات لم يجب عليه شيء لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه كالحج وإن زال العذر وتمكن فلم يصم شيء حتى مات أطعم عنه لكل مسكين مد من طعام ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر أنه يصام عنه لما روت عائشة رضي الله عنها

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 21. الترمذي في كتاب الزكاة باب 26. النسائي في كتاب الصيام باب 28. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 25. أحمد في مسنده "4/17، 18". 2 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 22. 3 رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 82. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 45. الدارمي في كتاب الصوم باب 13. أحمد في مسنده "4/114، 116".

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صوم رمضان صام عنه وليه1" ولأنها عبادة لا يدخلها النيابة في حال الحياة فلا يدخلها النيابة بعد الموت كالصلاة فإن قلنا إنه يصام عنه فصام عنه وليه أجزأه وإن أمر أجنبياً فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة أجزأه كالحج وإن قلنا يطعم عنه نظرت فإن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه عن كل يوم مسكين وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر ففيه وجهان: أحدهما يلزمه مدان مد للصوم ومد للتأخير والثاني أنه يكفيه مد واحد للتأخير لأنه إذا أخرج مداً للتأخير زال التفريط بالمد فيصير كما لو أخره من غير تفريط فلا تلزمه كفارة.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 42. مسلم في كتاب الصيام حديث 153. أبو داود في كتاب الصوم باب 41. أحمد في مسنده "6/69".

باب صوم التطوع والأيام التي نهى عن الصيام فيها

باب صوم التطوع والأيام التي نهى عن الصيام فيها يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام من رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله2" ويستحب لغير الحاج يوم عرفة لما روى أبو عقادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوم يوم عاشوراء كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة قبلها ماضية وسنة بعدها مستقبلة3" ولا يستحب ذلك للحاج لما روت أم الفضل بنت الحارث أن ناساً اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب منه ولأن الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه والصوم يضعفه فكان الإفطار أفضل ويستحب صوم يوم عاشوراء لحديث أبي قتادة ويستحب أن يصوم تاسوعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل - يعني يوم عاشوراء - لأصومن اليوم التاسع4" ويستحب صيام أيام البيض وهي ثلاثة أيام: لما روى أبو هريرة

_ 2 رواه مسلم في كتاب الصيام حديث 204. الترمذي في كتاب الصوم باب 52. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 33. الدارمي في كتاب الصوم باب 44. أحمد في مسنده "5/417". 3 رواه أحمد في مسنده "5/296، 304" "6/128". 4 رواه مسلم في كتاب الصيام حديث 134. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 41. أحمد في مسنده "1/225".

رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ويستحب صوم يوم الاثنين ويوم الخميس لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس. فصل: ولا يكره صوم الدهر إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقاً ولم يخف ضرراً لما روت أم كلثوم رضي الله عنها مولاة أسماء قالت: قيل لعائشة رضي الله عنها تصومين الدهر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر قالت: نعم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام الدهر ولكن من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر وسئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن صيام الدهر فقال: أولئك فينا من السابقين يعني من صام الدهر وإن خاف ضرراً أو تضييع حق كره لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال: ما شأنك؟ فقالت: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا فقال سلمان: يا أباالدرداء إن لربك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً فصم وأفطر وقم ونم وائت أهلك وأعط كل ذي حق حقه فذكر أبو الدرداء لرسول الله ما قال سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال سلمان ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصومن المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه1" ولأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه لنفل. فصل: ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع استحب له إتمامها فإن خرج

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 84، 86. مسلم في كتاب الزكاة حديث 84. أبو داود في كتاب الصوم باب 73. الترمذي في كتاب الصوم باب 64 أحمد في مسنده "2/179، 184".

منها جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل عندك شيء فقلت لا فقال: إني اذاً أصوم ثم دخل علي يوماً آخر فقال: هل عندك شيء؟ فقلت: نعم فقال: إذاً أفطر وإن كنت قد فرضت الصوم". فصل: ولا يجوز صوم يوم الشك لما روى عمار رضي الله عنه أنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فإن صام يوم الشك عن رمضان لم يصح لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً" ولأنه يدخل في العبادة وهو يشك في وقتها فلم يصح كما لو دخل في الظهر وهو يشك في وقتها وإن صام فيه عن فرض عليه كره وأجزأه كما لو صلى في دار مغصوبة وإن صام عن تطوع نظرت فإن لم يصله بما قبله ولا وافق عادة له لم يصح لأن التطوع مجرد قربة فلا يحصل بفعل معصية وإن وافق عادة له جاز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم1" فإن وصله بما قبل النصف جاز وإن وصله بما بعده لم يجز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان2". فصل: ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده فإن وصله بيوم قبله أو بيوم بعده لم يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " 3. فصل: ولا يجوز صوم يوم الفطر ويوم النحر فإن صام فيه لم يصح لما روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون فيه من لحم نسككم وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم. فصل: ولا يجوز أن يصوم في أيام التشريق صوماً غير صوم التمتع فإن صام لم

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 1. مسلم في كتاب الصيام حديث 120. النسائي في كتاب الصيام باب 32. الدارمي في كتاب الصوم باب 46. أحمد في مسنده "2/438". 2 رواه أبو داود في كتاب الصوم باب 12. 3 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 63. مسلم في كتاب الصيام حديث 146. أبو داود في كتاب الصوم باب 50 أحمد في مسنده "2/422".

يصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام ستة أيام يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق واليوم الذي يشك فيه من رمضان وهل يجوز فيها صوم التمتع؟ فيه قولان: قال في القديم يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما: أنهما قالا: لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي وقال في الجديد لا يجوز لأن كل يوم لا يجوز فيه صوم غير التمتع لا يجوز فيه صوم التمتع كيوم العيد. فصل: ولا يجوز أن يصوم في رمضان عن غير رمضان حاضراً كان أو مسافراً فإن صام عن غيره لم يصح صومه عن رمضان لأنه لم ينوه ولا يصح عما نواه لأن الزمان مستحق لصوم رمضان فلا يصح فيه غيره. فصل: ويستحب طلب ليلة القدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه1" ويطلب ذلك في ليالي الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان في كل وتر"2 وقال الشافعي رحمه الله: والذي يشبه أن تكون ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت

_ 1رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 25. مسلم في كتاب المسافرين حديث 173- 176. الترمذي في كتاب الصوم باب 1. الموطأ في كتاب رمضان حديث 2. أحمد في مسنده "1/191، 195" "5/318". 2 رواه البخاري في كتاب ليلة القدر باب 4. الموطأ في كتاب الاعتكاف حديث 13. أحمد في مسنده "3/10".

هذه الليلة ثم أنسيتها ورأيتني في صبيحتها في ماء وطين1" قال أبو سعيد: وانصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين في صبيحة يوم إحدى وعشرين وروى عبد الله بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ورأيتني أسجد في ماء وطين" فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين على جبهته قال الشافعي رحمه الله: ولا أحب ترك طلبها فيها كلها قال أصحابنا: إذا قال لامرأته أنت طالق ليلة القدر فإن كان ذلك في رمضان قبل مضي ليلة من ليالي العشر حكم بالطلاق في الليلة الأخيرة من الشهر وإن كان قد مضت ليلة وقع الطلاق في السنة الثانية في مثل تلك الليلة التي قال فيها ذلك والمستحب أن يقول فيها: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني لما روت عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: "تقولين اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني2"

_ 1 رواه البخاري في كتاب الاعتكاف باب 1. مسلم في كتاب الصيام حديث 215. أبو داود في كتاب رمضان باب 3. 2 رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 84. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 5. أحمد في مسنده "1/419".

كتاب الإعتكاف

كتاب الاعتكاف الاعتكاف سنة حسنة لما روى أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان وفي حديث عائشة رضي الله عنها فلم يزل يعتكف حتى مات ويجب بالنذر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه1". فصل: ولا يصح إلا من مسلم عاقل فأما الكافر فلا يصح منه لأنه من فروع الإيمان ولا يصح من الكافر كالصوم وأما من زال عقله كالمجنون والمترسم فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر. فصل: ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن الزوج لأن إستمتاعها ملك له فلا يجوز إبطاله عليه بغير إذنه ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن مولاه لأن منفعته لمولاه فلا يجوز إبطالها عليه بغير إذن فإن نذرت المرأة الاعتكاف بإذن الزوج أو نذر العبد بإذن مولاه نظرت فإن كان غير متعلق بزمان يعينه لم يجز أن يدخل فيه بغير إذنه لأن الاعتكاف ليس على الفور وحق الزوج والمولى على الفور فقدم على الاعتكاف وإن كان النذر متعلقاً بزمان يعينه جاز أن يدخل فيه بغير إذنه لأنه تعين عليه فعله بإذنه وإن اعتكفت المرأة بإذن الزوج أو العبد بإذن مولاه نظرت فإن كان في تطوع جاز له أن يخرجه منه لأنه لا يلزمه بالدخول فجاز إخراجه منه وإن كان في فرض متعلق بزمان يعينه لم يجز له إخراجه منه لأنه تعين عليه فعله في وقته فلا يجوز إخراجه منه وإن كان في فرض غير متعلق بزمان يعينه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز إخراجه منه لأنه وجب بإذنه ودخل فيه بإذنه فلم يجز إخراجه منه والثاني أنه إن كان متتابعاً لم يجز إخراجه منه لأنه لا يجوز له الخروج منه فلا يجوز إخراجه منه كالمنذور في زمان بعينه وإن كان غير متتابع جاز إخراجه منه لأنه يجوز له الخروج منه فجاز إخراجه منه كالتطوع. فصل: وأما المكاتب فإنه يجوز له أن يعتكف بغير إذن مولاه لأنه لا حق للمولى في منفعته فجاز أن يعتكف بغير إذنه كالحر ومن نصفه حر ونصفه عبد ينظر فيه فإن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 28، 31. أبو داود في كتاب الأيمان باب 19. الترمذي في كتاب النذور باب 2. الموطأ في كتاب النذور حديث 8. أحمد في مسنده "6/36".

لم يكن وبين المولى مهايأة فهو كالعبد وإن كان بينهما مهايأة ففي اليوم الذي هو للمولى كالعبد لا يعتكف لأن حق السيد متعلق بمنفعته وفي اليوم الذي هو له كالمكاتب لأن حق المولى لا يتعلق بمنفعته. فصل: ولا يصح الاعتكاف من الرجل إلا في المسجد لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فدل على أنه لا يكون إلا في المسجد ولا يصح الاعتكاف من المرأة إلا في المسجد لأن من صح اعتكافه في المسجد لم يصح اعتكافه في غير المسجد كالرجل. فصل: والأفضل أن يعتكف في المسجد الجامع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد الجامع ولأن الجماعة في صلاته أكثر ولأنه يخرج من الخلاف فإن الزهري قال: لا يجوز في غيره وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة بعينه - وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى - جاز أن يعتكف في غيره - لأنه لا مزية لبعضها على بعض فلم يتعين وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه أن يعتكف فيه لما روي أن عمر رضي الله عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" ولأنه أفضل من سائر المساجد ولا يجوز أن يسقط فرضه بما دونه وإن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان: أحدهما أنه يلزمه أن يعتكف فيه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فتعين بالنذر كالمسجد الحرام والثاني لا يتعين لأنه مسجد لا يجب قصده بالشرع فلم يتعين بالنذر كسائر المساجد. فصل: والأفضل أن يعتكف بصوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في شهر رمضان فإن اعتكف بغير صوم جاز لحديث عمر رضي الله عنه إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" ولو كان الصوم شرطاً فيه لم يجزه بالليل وحده فإن نذر أن يعتكف يوماً بصوم فاعتكف بغير صوم ففيه وجهان: قال أبو علي الطبري يجزيه الاعتكاف عن النذر وعليه أن يصوم يوماً لأنهما عبادتان تنفرد كل واحدة منهما عن الأخرى فلم يلزمه الجمع بينهما بالنذر كالصوم والصلاة وقال عامة أصحابنا لا يجزئه - وهو المنصوص في الأم - لأن الصوم صفة مقصودة في الاعتكاف فلزمه بالنذر كالتتابع ويخالف الصوم والصلاة لأن إحداهما ليست بصفة مقصودة في الأخرى فصل: ويجوز الاعتكاف في جميع الأزمان والأفضل أن يعتكف في العشر

الأواخر من شهر رمضان لحديث أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما ويجوز أن يعتكف ما شاء من ساعة ويوم وشهر كما يجوز أن يتصدق بما شاء من قليل وكثير وإن نذر اعتكافاً مطلقاً أجزأه ما يقع عليه الاسم كما يجزئه في نذر الصوم والصدقة ما يقع عليه الاسم قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن يعتكف يوماً وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يجيز أقل من يوم وإن نذر اعتكاف العشر الآخر دخل فيه ليلة الحادي والعشرين قبل غروب الشمس ليستوفي الفرض بيقين كما يغسل جزءاً من رأسه ليستوفي غسل الوجه بيقين وخرج منه بهلال شوال - تاماً كان الشهر أو ناقصاً - لأن العشر عبارة عما بين العشرين إلى آخر الشهر وإن نذر اعتكاف عشرة أيام من آخره وكان الشهر ناقصاً اعتكف بعد الشهر يوماً آخر لتمام العشرة لأن العشرة عبارة عن عشرة آحاد بخلاف العشر. فصل: وإن نذر أن يعتكف شهراً نظرت فإن كان شهراً بعينه لزمه اعتكافه ليلاً ونهاراً سواء الشهر تاماً أو ناقصاً لأن الشهر عبارة عما بين الهلالين تم أو نقص وإن نذر اعتكاف نهار الشهر لزمه بالنهار دون الليل لأنه خص النهار فلم يلزمه بالليل فإن فاته الشهر ولم يعتكف فيه لزمه قضاؤه ويجوز أن يقضيه متتابعاً ومتفرقاً لأن التتابع في أدائه بحكم الوقت فإذا فات سقط كالتتابع في صوم رمضان وإن نذر أن يعتكف متتابعاً لزمه قضاؤه متتابعاً لأن التتابع ههنا بحكم النذر فلم يسقط بفوات الوقت قال في الأم: إذا نذر اعتكاف شهر وكان قد مضى الشهر لم يلزمه لأن الاعتكاف في شهر ماض محال وإن نذر اعتكاف شهر غير معين واعتكف شهراً بالأهلة أجزأه تم الشهر أو نقص لأن اسم الشهر يقع عليه وإن اعتكف شهراً بالعدد لزمه ثلاثون يوماً لأن الشهر بالعدد ثلاثون يوماً ثم ينظر فيه فإن شرط التتابع لزمه متتابعاً لقوله صلى الله عليه وسلم "من نذر نذراً سماه لزمه الوفاء به" وإن شرط أن يكون متفرقاً جاز أن يكون متفرقاً ومتتابعاً لأن المتتابع أفضل من المتفرق فجاز أن يسقط أدنى الفرضين بأفضلهما كما لو نذر أن يعتكف في غير المسجد الحرام فإن له أن يعتكف في المسجد الحرام وإن أطلق النذر جاز متفرقاً ومتتابعاً كما لو نذر صوم شهر وإن نذر اعتكاف يوم لزمه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس ليستوفي الفرض بيقين وهل يجوز له أن يفرقه في ساعات أيام؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز أن يعتكف شهراً من شهور والثاني لا يجوز لأن اليوم عبارة عما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

فصل: وإن نذر اعتكاف يومين لزمه اعتكافهما وفي الليلة التي بينهما ثلاثة أوجه: أحدها أن يلزمه اعتكافها لأنه ليل يتخلل نهاري الاعتكاف فلزمه اعتكافه كاليالي العشر والثاني أنه إن شرط التتابع لزمه الاعتكاف لأنه لا ينفك منه اليومان فلزمه اعتكافه وإن لم يشرط التتابع لم يلزمه اعتكافه لأنه قد ينفك منه اليومان ولا يلزمه اعتكافه والثالث أنه لا يلزمه - شرط التتابع فيه أو أطلق - وهو الأظهر لأنه زمان لم يتناوله نذره فلم يلزمه اعتكافه دليله ما قبله وما بعده - وإن نذر اعتكاف ليلتين لزمه اعتكافهما وفي اليوم الذي بينهما الأوجه الثلاثة وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً لزمه اعتكاف ثلاثين يوماً وفي لياليها الأوجه الثلاثة. فصل: ولا يصح الاعتكاف إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنها عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة فإن كان الاعتكاف فرضاً لزمه تعيين النية للفرض لتمييزه عن التطوع وإن دخل في الاعتكاف ثم نوى الخروج منه ففيه وجهان: أحدهما يبطل لأنه قطع شرط صحته فأشبه إذا قطع نية الصلاة والثاني لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلم يخرج منه بنية الخروج كالحج. فصل: ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني إلي رأسه لأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه لأن الاعتكاف هو اللبث في المسجد فإذا خرج منه فقد فعل ما ينافيه من غير عذر فبطل كما لو أكل في الصوم ويجوز أن يخرج رأسه ورجله ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة رضي الله عنها ولأن بإخراج الرأس والرجل لا يصير خارجاً ولهذا لو حلف لا خرجت من الدار فأخرج رأسه أو رجله لم يحنث. فصل: ويجوز أن يخرج لحاجة الإنسان ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة رضي الله عنها ولأن ذلك خروج لما لابد له منه فلم يمنع منه وإن كان للمسجد سقاية لم يلزمه قضاء الحاجة فيها لأن ذلك نقصان مروءة وعليه في ذلك مشقة فلم يلزمه وإن كان بقربه

بيت صديق له لم يلزمه قضاء الحاجة فيه لأنه ربما احتشم وشق عليه فلم يكلف ذلك وإن كان له بيتان قريب وبعيد ففيه وجهان: أظهرهما أنه لا يجوز أن يمضي إلى البعيد فإن خرج إليه بطل اعتكافه لأنه لا حاجة له إليه فأشبه إذا خرج لغير حاجة وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز أن يمضي إلى الأبعد ولا يبطل اعتكافه لأنه خروج لحاجة الإنسان فأشبه إذا لم يكن له غيره. فصل: ويجوز أن يمضي إلى البيت للأكل ولا يبطل اعتكافه وقال أبو العباس لا يجوز فإن خرج بطل اعتكافه لأنه يمكنه أن يأكل في المسجد فلا حاجة به إلى الخروج والمنصوص هو الأول لأن الأكل في المسجد ينقص من المروءة فلم يلزمه. فصل: وفي الخروج إلى المنارة الخارجة عند رحبة المسجد ليؤذن ثلاثة أوجه: أحدها يجوز فإن خرج لم يبطل اعتكافه لأنها بنيت للمسجد فصارت كالمنارة التي في رحبة المسجد والثاني لا يجوز لأنها خارجة من المسجد فأشبه غير المنارة وقال أبو إسحاق المروزي: إن كان المؤذن ممن قد ألف الناس صوته جاز أن يخرج ولا يبطل اعتكافه لأن الحاجة تدعو إليه لإعلام الناس بالوقت وإن لم يألفوا صوته لم يجز أن يخرج فإن خرج بطل اعتكافه لأنه لا حاجة به إليه. فصل: وإن عرضت صلاة الجنازة نظرت فإن كان في اعتكاف تطوع فالأفضل أن يخرج لأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية فقدمت على الاعتكاف وإن كان في اعتكاف فرض لم يخرج لأنه تعين عليه فرضه فلا يجوز تركه لصلاة الجنازة التي لم يتعين عليه فرضها فإن خرج اعتكافه لأنه غير مضطر إلى الخروج فإن غيره يقوم مقامه فيه. فصل: ويجوز أن يخرج في اعتكاف التطوع لعيادة المريض لأنها تطوع والاعتكاف تطوع فخير بينهما فإن اختار الخروج بطل اعتكافه لأنه خروج غير مضطر إليه وإن خرج لما يجوز الخروج له من حاجة الإنسان والأكل فسأل عن المريض في الطريق ولم يعرج عليه جاز ولم يبطل اعتكافه وإن وقف بطل اعتكافه لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي ولا تقف ولأنه لم يترك الاعتكاف بالمسألة فلم يبطل اعتكافه وبالوقوف يترك الاعتكاف فبطل.

فصل: وإن حضرت الجمعة وهو من أهل الفرض والاعتكاف في غير الجامع لزمه أن يخرج إليها لأن الجمعة فرض بالشرع فلا يجوز تركها بالاعتكاف وهل يبطل اعتكافه بذلك بذلك أم لا؟ فيه قولان: قال في البويطي: لا يبطل لأنه خروج لا بد له منه فلم يبطل الاعتكاف كالخروج لقضاء حاجة الإنسان وقال في عامة كتبه يبطل اعتكافه لأنه كان يمكنه الاحتراز من الخروج بأن يعتكف في الجامع فإن لم يفعل بطل اعتكافه كما لو دخل صوم الشهرين المتتابعين في شعبان فخرج منه بصوم رمضان فإن تعين عليه أداء شهادة لزمه الخروج لأدائها لأنه تعين لحق آدمي فقدم على الاعتكاف وهل يبطل اعتكافه بذلك؟ ينظر فيه فإن كان قد تعين عليه تحملها لم يبطل لأنه مضطر إلى الخروج وإلى تسببه وإن لم يتعين عليه تحملها فقد روى المزني رضي الله عنه أنه قال يبطل الاعتكاف وقال في المعتكفة إذا طلقت تخرج وتعتد ولا يبطل اعتكافها فنقل أبو العباس جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما يبطل فيهما لأن التسبب حصل باختياره والثاني لا يبطل لأنه مضطر إلى الخروج وحمل أبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقال في الشهادة يبطل وفي العدة لا يبطل لأن المرأة لا تتزوج لتطلق فتعتد والشاهد إنما يتحمل ليؤدي ولأن المرأة محتاجة إلى التسبب وهو النكاح للنفقة والعفة والشاهد غير محتاج إلى التحمل. فصل: ومن مرض مرضاً لا يؤمن معه تلويث المسجد كإطلاق الجوف وسلس البول خرج كما يخرج لحاجة الإنسان وإن كان مرضاً يسيراً يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة لم يخرج فإن خرج بطل اعتكافه وإن كان مرضاً حتى يحتاج فيه إلى الفراش ويشق معه المقام في المسجد ففيه قولان: بناء على القولين في المريض إذا أفطر في صوم الشهرين المتتابعين وإن أغمي عليه فأخرج من المسجد لم يبطل اعتكافه قولاً واحداً لأنه لم يخرج باختياره. فصل: قال في الأم: وإن سكر فسد اعتكافه ثم قال: وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: فمنهم من قال لا يبطل فيهما قولاً واحداً لأنهما لم يخرجا من المسجد وتأول قوله في السكران إذا سكر فأخرج لأنه لا يجوز إقراره في المسجد أو أخرج ليقام عليه الحد ومنهم من قال يبطل فيهما لأن السكران خرج عن أن يكون من أهل المقام في المسجد والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات وتأول قوله في المرتد إذا ارتد في اعتكاف غير متتابع أنه يرجع ويتم ما بقي.

ومنهم من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال في السكران يبطل لأنه ليس من أهل المقام في المسجد لأنه لا يجوز إقراره فيه فصار كما لو خرج من المسجد والمرتد من أهل المقام لأنه يجوز لإقراره فيه. فصل: وإن حاضت المعتكفة خرجت من المسجد لأنه لا يمكنها المقام في المسجد وهل يبطل اعتكافها؟ ينظر فيه فإن كان الاعتكاف في مدة لا يمكن حفظها من الحيض لم يبطل وإذا طهرت بنت عليه كما لو حاضت في صوم شهرين متتابعين وإن كان في مدة يمكن حفظها من الحيض بطل كما لو حاضت في صوم ثلاثة أيام متتابعة. فصل: وإن أحرم المعتكف بالحج فإن أمكنه أن يتم الاعتكاف ثم يخرج لم يجز أن يخرج فإن خرج بطل اعتكافه لأنه غير محتاج إلى الخروج وإن خاف فوت الحج خرج إلى الحج لأن الحج يجب بالشرع فلا يتركه بالاعتكاف فإذا خرج بطل اعتكافه لأن الخروج حصل باختياره لأنه كان يسعه أن يؤخره. فصل: وإن خرج من المسجد ناسياً لم يبطل اعتكافه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه1" ولأنه لو أكل في الصوم ناسياً لم يبطل فكذلك إذا خرج من الاعتكاف ناسياً لم يبطل وإن أخرج مكرهاً محمولاً لم يبطل اعتكافه للخبر ولأنه لو أوجر الصائم في فيه طعاماً لم يبطل صومه فكذلك هذا وإن أكره حتى خرج بنفسه ففيه قولان كالصائم إذا أكره حتى أكل بنفسه وإن أخرجه السلطان لإقامة الحد عليه فإن كان قد ثبت الحد بإقراره بطل اعتكافه لأنه خرج باختياره وإن ثبت بالبينة ففيه وجهان: أحدهما يبطل لأنه اختار سببه وهو الشرب والسرقة والثاني لا يبطل لأنه لم يشرب ولم يسرق ليخرج ويقام عليه الحد. فصل: وإن خاف من ظالم فخرج واستتر لم يبطل اعتكافه لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذور فيه فلم يبطل اعتكافه. فصل: وإن خرج لعذر ثم زال العذر وتمكن من العود فلم يعد بطل اعتكافه لأنه ترك الاعتكاف من غير عذر فأشبه إذا خرج من غير عذر. فصل: ولا يجوز للمعتكف المباشرة بشهوة لقوله عز وجل {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 16.

عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فإن جامع في الفرج ذاكراً للاعتكاف عالماً بالتحريم فسد اعتكافه لأنه أحد ما ينافي الاعتكاف فأشبه الخروج من المسجد وإن باشر فيما دون الفرج بشهوة أو قبل بشهوة ففيه قولان: قال في الإملاء يبطل وهو الصحيح لأنها مباشرة محرمة في الاعتكاف فبطل بها كالجماع وقال في الأم لا يبطل لأنها مباشرة لا تبطل الحج فلم تبطل الاعتكاف كالقبلة بغير شهوة وقال أبو إسحاق لو قال قائل إنه لو أنزل بطل وإن لم ينزل لم تبطل كالقبلة في الصوم كان مذهباً وهذا قول لم يذهب إليه أحد من أصحابنا ويخالف الصوم فإن القبلة فيه لا تحرم على الإطلاق فلم تبطل على الإطلاق والقبلة في الاعتكاف محرمة على الإطلاق فأبطلته على الإطلاق. فصل: ويجوز أن يباشر من غير شهوة ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدني إلي رأسه لأرجله فإن باشر ناسياً لم يبطل اعتكافه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه1" ولأن كل عبادة أبطلتها مباشرة العامد لم تبطلها مباشرة الناسي كالصوم وإن باشر وهو جاهل بالتحريم لم يبطل لأن الجاهل كالناسي وقد بينا ذلك في الصلاة والصوم. فصل: ويجوز للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف ولم ينقل أنه غير شيئاً من ملابسه ولو فعل لنقل ويجوز أن يتطيب لأنه لو حرم التطيب عليه لحرم ترجيل الشعر كالأحرام وقد روت عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترجل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف فدل على أنه لا يحرم عليه التطيب ويجوز أن يتزوج ويزوج لأنها عبادة لا تحرم الطيب فلا تحرم النكاح كالصوم ويجوز أن يقرأ القرآن ويقرئ غيره ويدرس العلم ويدرس غيره لأن ذلك كله زيادة خير لا يترك به شرط من شروط الاعتكاف ويجوز أن يأمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته ويبيع ويبتاع لكنه لا يكثر منه لأن المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعاً للبيع والشراء فإن أكثر من ذلك كره لأجل المسجد ولم يبطل به الاعتكاف وقال في القديم: إن فعل ذلك والاعتكاف منذور رأيت أن يستقبله ووجهه أن الاعتكاف هو حبس النفس على الله عز وجل فإذا أكثر من البيع والشراء صار قعوده في المسجد للبيع والشراء لا للاعتكاف والصحيح أنه لا يبطل والأول مرجوع عنه لأن ما لا يبطل قليله الاعتكاف لم يبطل كثيره كالقراءة والذكر.

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 16.

فصل: ويجوز أن يأكل في المسجد لأنه عمل قليل لا بد منه ويجوز أن يضع فيه المائدة لأن ذلك أنظف للمسجد ويغسل فيه اليد وإن غسل في الطست فهو أحسن. فصل: إذا فعل في الاعتكاف ما يبطله من خروج أو مباشرة أو مقام في البيت بعد زوال العذر نظرت فإن كان ذلك في تطوع لم يبطل ما مضى من الاعتكاف لأن ذلك القدر لو أفرده واقتصر عليه أجزأه ولا يجب عليه إتمامه لأنه لا يجب عليه المضي في فاسدة فلا يلزمه بالشروع كالصوم وإن كان اعتكافه منذوراً نظرت فإن لم يشرط فيه التتابع لم يبطل ما مضى من اعتكافه لما ذكرناه في التطوع ويلزمه أن يتمم لأن الجميع قد وجب عليه وقد فعل البعض فوجب الباقي وإن كان قد شرط التتابع بطل التتابع ويجب عليه أن يستأنف ليأتي به على الصفة التي وجبت عليه والله أعلم.

كتاب الحج

كتاب الحج مدخل ... كتاب الحج الحج ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان" وفي العمرة قولان: قال في الجديد: هي فرض لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أعلى النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة وقال في القديم: ليست بفرض لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أهي واجبة قال: لا وأن تعتمر خير لك والصحيح هو الأول لأن هذا الحديث يرفعه ابن لهيعة وهو ضعيف ففيما ينفرد به ولا يجب في العمر أكثر من حجة وعمرة بالشرع لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحج كل عام قال: "لا بل حجة واحدة" وروى سراقة بن مالك قال: قلت يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال: بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ومن حج واعتمر حجة الإسلام وغمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة نظرت فإن كان لقتال أو دخلها خائفاً من ظالم يطلبه ولا يمكنه أن يظهر لأداء النسك جاز أن يدخل بغير إحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام لأنه كان لا يأمن أن يقاتل ويمنع النسك وإن كان دخوله لتجارة أو زيارة ففيه قولان: أشهرهما أنه لا يجوز أن يدخل إلا بحج أو عمرة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل أحدكم مكة إلا محرماً ورخص للحطابين والثاني أنه يجوز لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك وإن كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطابين والصيادين

جاز بغير نسك لحديث ابن عباس ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة فإن دخل بتجارة وقلنا إنه يجب عليه الإحرام فدخل بغير إحرام لم يلزمه القضاء لأنا لو ألزمناه القضاء لزمه لدخوله للقضاء قضاء ولا يتناهى قال أبو العباس بن القاص: فإن دخل بغير إحرام ثم صار حطاباً أو صياداً لزمه القضاء لأنه لا يلزمه للقضاء قضاء. فصل: ولا يجب الحج والعمرة إلا على مسلم عاقل بالغ حر مستطيع فأما الكافر فإن كان أصلياً لم يصح منه لأن ذلك من فروع الإيمان فلم يصح من الكافر ولا يخاطب به في حال الكفر لأنه لا يصح منه وإن أسلم لم يخاطب بما فاته في حال الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله1" ولأنه لم يلتزم وجوبه فلم يلزمه ضمائنه كحقوق الآدميين وإن كان مرتداً لم يصح منه لما ذكرناه ويجب عليه لأنه التزم وجوبه فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين وأما المجنون فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات فلم يصح حجه ولا يجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" وأما الصبي فلا يجب عليه للخبر ويصح منه لما روى ابن عباس أن امرأة رفعت صبياً لها من محفتها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر فإن كان مميزاً فأحرم بإذن الولي صح إحرامه وإن أحرم بغير إذنه ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يصح كما يصح إحرامه في الصلاة وقال أكثر أصحابنا لا يصح لأنه يفتقر في أدائه إلى المال فلا يصح من غير إذن الولي بخلاف الصلاة وإن كان غير مميز جاز لأمه أن تحرم عنه لحديث ابن عباس ويجوز لأبيه قياساً على الأم ولا يجوز للأخ والعم أن يحرما عنه لأنه لا ولاية لهما على الصغير فإن عقد له الإحرام فعل بنفسه ما يقدر عليه ويفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه لما روى جابر قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نحج بصبياننا فمن استطاع منهم رمى ومن لم يستطع رمي عنه وفي نفقة الحج وما يلزمه من الكفارة قولان: أحدهما يجب في مال الولي لأنه هو الذي أدخله فيه والثاني يجب في مال الصبي لأنه وجب لمصلحته فكان

_ 1 رواه أحمد في مسنده "4/199، 204".

في ماله كأجرة المعلم وأما العبد فلا يجب عليه الحج لأن منافعه مستحقة لمولاه وفي إيجاب الحج عليه إضرار بالمولى ويصح منه لأنه من أهل العبادة فصح منه الحج كالحر فإن أحرم بإذن السيد وفعل ما يوجب الكفارة فإن ملكه السيد مالاً وقلنا إنه يملك لزمه الهدي وإن قلنا لا يملك أو لم يملكه السيد وجب عليه الصوم ويجوز للسيد أن يمنعه من الصوم لأنه لم يأذن في سببه وإن أذن في التمتع أو القران وقلنا أنه لا يملك المال صام وليس للمولى منعه من الصوم لأنه وجب بإذنه فإن قلنا إنه يملك ففي الهدى قولان: أحدهما يجب في مال السيدة لأنه أذن في سببه والثاني لا يجب لأن أذنه رضا بوجوبه على عبده لا في ماله ولأن بوجوب التمتع في حق العبد هو الصوم لأنه لا يقدر على الهدي فلا يجب عليه الهدى فإن حج الصبي ثم بلغ أو حج العبد ثم أعتق لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى" وإن بلغ الصبي أو أعتق العبد في الإحرام نظرت فإن كان قبل الوقوف بعرفة أو في حال الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام لأنه أتى بأفعال النسك في حال الكمال فأجزأه وإن كان ذلك بعد فوات الوقوف لم يجزه وإن كان بعد الوقوف وقبل فوات وقته ولم يرجع إلى الموقف فقد قال أبو عباس: يجزئه لأن إدراك وقت العبادة في حال الكمال كفعلها في حال الكمال والدليل عليه أنه لو أحرم كمل جعل كأنه بدأ بالإحرام حال الكمال ولو صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخر الوقت جعل كأنه صلى في حال بلوغه والمذهب أنه لا يجزيه لأنه لم يدرك الوقوف في حال الكمال فأشبهه إذا كمل في يوم النحر ويخالف الإحرام لأن هناك أدرك الكمال والإحرام

قائم فوازنه من مسألتنا أن يدرك الكمال وهو واقف بعرفة فيجزئه وههنا أدرك الكمال وقد انقضى الوقوف فلم يجزه كما لو أدرك الكمال بعد التحلل عن الإحرام ويخالف الصلاة فإن الصلاة تجزئه بإدراك الكمال بعد الفراغ منها ولو فرغ من الحج ثم أدرك الكمال لم يجزه. فصل: فأما غير المستطيع فلا يجب عليه لقوله عز وجل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] فدل على أنه لا يجب على غير المستطيع والمستطيع اثنان: مستطيع بنفسه ومستطيع بغيره والمستطيع بنفسه ينظر فيه فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة فهو أن يكون صحيحاً واجداً للزاد والماء بثمن المثل في المواضع التي جرت العادة أن يكون فيها في ذهابه ورجوعه واجداً لراحلة تصلح لمثله بثمن المثل أو بأجرة المثل وأن يكون الطريق آمنا من غير خفارة وأن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء فأما إذا كان مريضاً تلحقه مشقة غير معتادة لم يلزمه لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يمنعه من الحج مرض حابس أو سلطان جائر فمات فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً1". فصل: فإن لم يجد الزاد لم يلزمه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج فقال: الزاد والراحلة فإن لم يجد الماء لم يلزمه لأن الحاجة إلى الماء أشد من الحاجة إلى الزاد فإذا لم يجب على من لم يجد الزاد فلأن لا يجد على من لم يجد الماء أولى وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه لأنه لو لزم ذلك لم يأمن أنه لا يباع منه ذلك إلا بما يذهب به جميع ماله في إيجاب ذلك إضرار فلم يلزمه وإن لم يجد راحلة لم يلزمه لحديث ابن عمر وإن وجد راحلة لا تصلح لمثله بأن يكون ممن لا يمكنه الثبوت على القتب والزاملة لم يلزمه

_ 1 رواه النسائي في كتاب المناسكبباب 8، 11. الدارمي في كتاب المناسك باب 2.

حتى يجد عمارية أو هودجاً وإن بذل له رجل راحلة من غير عرض لم يلزمه قبولها لأن عليه في قبول ذلك منة وفي تحمل المنة مشقة فلا يلزمه وإن وجد بأكثر من ثمن المثل ولو بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه لما ذكرناه في الزاد وإن وجد الزاد والراحلة لذهابه ولم يجد لرجوعه نظرت فإن كان له أهل في بلده لم يلزمه وإن لم يكن له أهل ففيه وجهان: أحدهما يلزمه لأن البلاد كلها في حقه واحدة والثاني لا يلزمه لأنه يستوحش بالانقطاع عن الوطن والمقام في الغربة لم يلزمه وإن وجد ما يشتري به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه لم يلزمه حالاً كان الدين أو مؤجلاً لأن الدين الحال على الفور والحج على التراخي فقدم عليه والمؤجل يحل عليه فإذا صرف ما معه في الحج لم يجد ما يقضي به الدين وإن كان محتاجاً إليه لنفقة من تلزمه نفقة لم يلزمه الحج لأن النفقة على الفور والحج على التراخي وإن احتاج إليه لمسكن لا بد له من مثله أو خادم يحتاج إلى خدمته لم يلزمه وإن احتاج إلى النكاح وهو يخاف العنت قدم النكاح لأن الحاجة إلى ذلك الفور والحج ليس على الفور وإن احتاج إليه في بضاعة يتجر فيهل ليحصل منها على ما يحتاج إليه للنفقة ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج لا يلزمه الحج أنه محتاج إليه فهو كالمسكن والخادم ومن أصحابنا من قال يلزمه لأنه واجد للزاد والراحلة وإن لم يجد الزاد والراحلة وهو قادر على المشي وله صنعة يكتسب بها ما يكفيه لنفقته استحب له أن يحج لأنه يقدر على إسقاط الفرض بمشقة لا يكره تحملها فاستحب له إسقاط الفرض كالمسافر إذا قدر على الصوم في السفر وإن لم يكن له صنعة ويحتاج إلى مسألة الناس كره له أن يحج لأن المسألة مكروهة ولأن في المسألة تحمل مشقة شديدة فكره وإن كان الطريق غير آمن لم يلزمه لحديث أبي أمامة ولأن في إيجاب الحج مع الخوف تغريراً بالنفس والمال وإن كان الطريق آمناً إلا أنه يحتاج فيه إلى خفارة لم يلزمه لأن ما يؤخذ في الخفارة بمنزلة ما زاد على ثمن المثل وأجرة المثل

في الزاد والراحلة فلا يلزمه ولأنه رشوة على واجب فلا يلزمه وإن لم يكن له طريق إلا في البحر فقد قال في الأم: لا يجب عليه وقال في الإملاء: إن كان أكثر معاشه في البحر لزمه فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يجب لأنه طريق مسلوك فأشبه البر والثاني لا يجب لأن فيه تغريراً بالنفس والمال فلا يجب كالطريق المخوف ومنهم من قال إن كان الغالب منه السلامة لزمه وإن كان الغالب منه الهلاك لم يلزمه كطريق البر ومنهم من قال إن كان عادة بركوبه لزمه وإن لم يكن له عادة بركوبه لم يلزمه لأن من له عادة لا يشق عليه ومن لا عادة له يشق عليه وإن كان أعمى لم يجب عليه إلا أن يكون معه قائد فإن الأعمى من غير قائد كالزمن ومع القائد كالبصير وإن كانت امرأة لم يلزمها إلا أن تأمن على نفسها بزوج أو محرم أو نساء ثقات قال في الإملاء أو امرأة واحدة وروى الكرابيسي عنه إذا كان الطريق آمناً جاز من غير نساء وهو الصحيح لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى لتوشك الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة قال عدي: فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالكعبة بغير جوار ولأنها تصير مستطيعة بما ذكرناه ولا تصير مستطيعة بغيره فإن لم يبق من الوقت ما يتمكن فيه من السير لأداء الحج لم يلزمه لأنه إذا ضاق الوقت لم يقدر على الحج فلا يلزمه فرضه. فصل: وإن كان من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجد راحلة نظرت فإن كان قادراً على المشي وجب عليه لأنه يمكنه الحج من غير مشقة شديدة وإن كان زمناً على المشي ويقدر على الحبو لم يلزمه لأن المشقة في الحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة في المسافة البعيدة في السير.

فصل: وإن كان من أهل لمكة وقدر على المشي إلى مواضع النسك من غير خوف وجب عليه لأنه بصير مستطيعاً بذلك. فصل: ومن قدر على الحج راكباً أو ماشياً فالأفضل أن يحج راكباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً ولأن الركوب أعون على المناسك. فصل: والمستطيع بغيره اثنان: أحدهما من لا يقدر على الحج بنفسه لزمانه أو كبر وله مال يدفع إلى من يحج عنه فيجب عليه فرض الحج لأنه يقدر على أداء الحج بغيره كما يقدر على أدائه بنفسه فيلزمه فرض الحج والثاني من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له مال ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج فينظر فيه فإن كان الولد مستطيعاً بالزاد والراحلة وجب على الأب الحج ويلزمه أن يأمر الولد بأدائه عنه لأنه قادر على أداء الحج بولده كما يقدر على أدائه بنفسه وإن لم يكن للولد مال ففيه وجهان: أحدهما يلزمه لأنه قادر على تحصيل الحج بطاعته والثاني لا يلزمه لأن الصحيح لا يلزمه فرض الحج من غير زاد ولا راحلة فالمغصوب أولى أن لا يلزمه وإن كان الذي يطيعه غير الولد ففيه وجهان: أحدهما أن الحاكم ينوب عنه في الإذان كما ينوب عنه إذا امتنع من إخراج الزكاة والثاني لا ينوب عنه كما إذا كان له مال ولم يجهز من يحج عنه ينب الحاكم عنه في تجهيز من يحج عنه وإن بذل له الطاعة ثم رجع الباذل ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجوز لأنه لما لم يجز للمبذول له أن يرد لم يجز للباذل أن يرجع والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأنه متبرع بالبذل فلا يلزمه الوفاء بما بذل وأما إذا بذل له مالاً يدفعه إلى من يحج عنه ففيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه قبوله كما يلزمه قبول الطاعة والثاني لا يلزمه وهو الصحيح لأنه إيجاب كسب لإيجاب الحج فلم يلزمه كالكسب بالتجارة. فصل: والمستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يقدمه لقوله تعالى:

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ولأنه إذا أخره عرضه للفوات ولحوادث الزمان ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة لأن فريضة الحج نزلت سنة ست فأخر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر من غير عذر فلو لم يجز التأخير لما أخره. فصل: ومن وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات نظرت فإن مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط فرضه ولم يجب القضاء وقال أبو يحيى البلخي: يجب القضاء وأخرج إليه أبو إسحاق نص الشافعي رحمه الله فرجع عنه والدليل على أنه يسقط أنه هلك ما تعلق به الفرض قبل التمكن من الأداء فسقط الفرض كما لو هلك النصاب قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة وإن مات بعد التمكن من الأداء لم يسقط الفرض ويجب قضاؤه من تركته لما روى بريدة قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج قال: حجي عن أمك ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدمي ويجب قضاؤه عنه من الميقات لأن الحج يجب من الميقات ويجب من رأس المال لأنه دين واجب فكان من رأس المال كدين الآدمي وإن اجتمع الحج ودين الآدمي والتركة لا تتسع لهما ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في آخر الزكاة. فصل: وتجوز النيابة في حج الفرض في موضعين: أحدهما في حق الميت إذا مات وعليه حج والدليل عليه حديث بريدة والثاني في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير معتادة كالزمن والشيخ الكبير والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم قالت: أينفعه ذلك؟ قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه ولأنه أيس من الحج بنفسه فتاب عنه غيره كالميت وفي حج التطوع قولان: أحدهما لا يجوز لأنه غير مضطر إلى الاستنابة فيه فلم تجز الاستنابة فيه كالصحيح والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأن كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها كالصدقة فإن استأجر من يتطوع عنه وقلنا لا يجوز فإن الحج للحاج وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يستحق لأن الحج قد انعقد له فلا يستحق الأجرة كالصرورة والثاني أنه يستحق لأنه لم يحصل له بهذا الحج منفعة لأنه لم يسقط به عنه فرض ولا حصل له به ثواب بخلاف الصرورة فإن هناك قد سقط عنه الفرض فأما الصحيح الذي يقدر على الثبوت على الراحلة فلا يجوز النيابة عنه في الحج لأن الفرض عليه في بدنه فلا ينتقل الفرض إلى غيره إلا في الموضع الذي وردت فيه الرخصة وهو إذا أيس وبقي فيما سواه

على الأصل فلا تجوز النيابة عنه فيه وأما المريض فينظر فيه فإن كان غير مأيوس منه لم يجز أن يحج عنه غيره لأنه لم ييأس من فعله بنفسه فلا تجوز النيابة عنه فيه كالصحيح فإن خالف أو حج عن نفسه ثم مات فهل يجزئه عن حجة الإسلام؟ فيه قولان: أحدهما يجزئه لأنه مات تبينا أنه كان مأيوساً منه والثاني لا يجزئه لأنه حج وهو غير مأيوس منه في الحال فلم يجزه كما لو برأ منه وإن كان مريضاً مأيوساً منه جازت النيابة عنه في الحج لأنه مأيوس منه فأشبه الزمن والشيخ الكبير فإن حج عن نفسه ثم برأ من المرض ففيه طريقان: أحدهما أنه كالمسألة التي قبلها وفيها قولان والثاني أنه يلزمه الإعادة قولاً واحداً لأنا تبينا الخطا في الأياس ويخالف إذا كان غير مأيوس منه فمات لأنا لم نتبين الخطأ لأنه يجوز أنه لم يكن مأيوساً منه ثم زاد المرض فصار مأيوساً منه ولا يجوز أن يكون مأيوساً منه ثم يصير غير مأيوس منه. فصل: ولا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول لبيك عن شبرمة فقال: "حججت عن نفسك قال: لا قال: فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يسمي من لم يحج صرورة لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة في الإسلام" ولا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة وعليه فرضهما ولا يحج ويعتمر عن النذر وعليه فرض حجة الإسلام لأن النفل والنذر أضعف من حجة الإسلام فلا يجوز تقديمهما عليها كحج غيره على حجة فإن أحرم من غيره وعليه فرضه انعقد إحرامه لنفسه لما روي في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أحججت عن نفسك؟ قال: لا قال: "فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة" فإن أحرم بالنفل وعليه فرضه انعقد إحرامه عن الفرض وإن أحرم عن النذر وعليه فرض الإسلام انعقد إحرامه عن فرض الإسلام قياساً على من أحرم عن غيره وعليه فرضه فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن النذر وعليه حجة الإسلام فأحرم عنه انصرف إلى حجة الإسلام لأنه نائب عنه ولو أحرم هو عن النذر انصرف إلى حجة الإسلام فكذلك النائب عنه.

فصل: فإن كان عليه حجة الإسلام وحجة نذر فاستأجر رجلين يحجان عنه في سنة واحدة فقد نص في الأم أنه يجوز وكان أولى لأنه لم يقدم النذر على حجة الإسلام ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه يحج بنفسه حجتين في سنة وليس بشيء. فصل: ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج والدليل عليه قوله عز وجل {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] والمراد به وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أنه أراد به وقت الإحرام ولأن الإحرام نسك من مناسك الحج فكان مؤقتاً كالوقوف والطواف وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر لما روى عن ابن مسعود وجابر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قالوا: أشهر الحج معلومات شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة فإن أحرم بالحج في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة لأنها عبادة مؤقتة فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد إحرامه بالنفل ولا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة فلا يمكن أداء الحجة الأخرى. فصل: وأما العمرة فإنها تجوز في أشهر الحج وغيرها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة1" ولا يكره فعل عمرتين وأكثر في سنة لما ذكرناه من حديث عائشة رضي الله عنها.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الحج باب 95. أبو داود في كتاب المناسك باب 79. النسائي في كتاب الصيام باب 6. أحمد في مسنده "1/ 352".

فصل: ويجوز إفراد الحج عن العمرة والتمتع بالعمرة إلى الحج والقران بينهما لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة. فصل: والإفراد والتمتع من القران وقال المزني القران أفضل والدليل على ما قلناه أن المفرد والمتمتع يأتي بكل واحد من النسكين بكمال أفعاله والقارن يقتصر على عمل الحج وحده فكان الإفراد والتمتع أفضل. فصل: وفي التمتع والإفراد قولان: أحدهما أن التمتع أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج والثاني أن الإفراد أفضل لما روى جابر قال أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ليس معه عمرة ولأن التمتع يتعلق به وجوب دم فكان الإفراد أفضل منه كالقران وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه يحتمل أنه أمر بالتمتع كما روي أنه رجم ماعزاً وأراد أنه يرجمه والدليل عليه أن ابن عمر هو الراوي وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج. فصل: والإفراد أن يحج ثم يعتمر والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه والقران أن يحرم بهما معاً فإن أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف جاز ويصير قارناً لما روي أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بالعمرة فحاضت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي" وإن أدخل عليها الحج بعد الطواف لم يجز واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال لا يجوز لأنه قد أخذ في التحلل ومنهم قال لا يجوز لأنه قد أتى بمقصود العمرة وإن أحرم بالحج وأدخل عليه بالعمرة ففيه قولان: أحدهما يجوز لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالحج والثاني لا يجوز لأن أفعال العمرة استحقت بإحرام الحج فلا يعد إحرام العمرة شيئاً فإن قلنا إنه يجوز فهل

يجوز بعد الوقوف أن يبني على العلتين في إدخال الحج على العمرة بعد الطواف؟ فإن قلنا لا يجوز إدخال الحج على العمرة بعد الطواف لأنه أخذ في التحلل ههنا بعد الوقوف لأنه لم يأخذ في التحلل وإن قلنا لا يجوز لأنه أتى بالمقصود لم يجز ههنا لأنه قد أتى بمعظم المقصود وهو الوقوف فإن أحرم بالعمرة فأفسدها ثم أدخل عليها الحج ففيه وجهان: أحدهما ينعقد الحج ويكون فاسداً لأنه إدخال حج على عمرة فأشبه إذا كان صحيحاً والثاني لا ينعقد لأنه لا يجوز أن يصح لأنه إدخال حج على إحرام فاسد ولا يجوز أن يفسد لأن إحرامه لم يصادفه الوطء فلا يجوز إفساده. فصل: ويجب على المتمتع الدم لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولا يجب عليه إلا بخمسة شروط: أحدها أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج فلم يلزمه دم كالمفرد وإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وأتى بأفعالها في أشهر الحج ففيه قولان: قال في القديم والإملاء: يجب عليه دم لأن استدامة الإحرام بمنزلة الابتداء ولو ابتدأ الإحرام بالعمرة في أشهر الحج لزمه الدم فكذلك إذا استدام وقال في الأم: لا يجب عليه الدم لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به أتى به في غير أشهر الحج فلم يلزمه دم التمتع كالطواف والثاني أن يحج من سنته فأما إذا حج في سنة اخرى لم يلزمه الدم لما روى سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا ولأن الدم إنما يجب بترك الإحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته وإن رجع إلى بلده وعاد فقد أحرم من الميقات والثالث أن لا يعود لإحرام إلى الميقات فأما إذا رجع لإحرام الحج إلى الميقات فأحرم لم يلزمه الدم لأن الدم توجب بترك الإحرام من الميقات وهذا لم يترك الميقات فإن أحرم بالحج من جوف مكة ثم رجع إلى الميقات قبل أن يقف ففيه وجهان: أحدهما لا دم عليه لأنه حصل محرماً من الميقات قبل التلبس بنسك فأشبه من جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم وعاد إلى الميقات والثاني يلزمه لأنه وجب عليه الدم بالإحرام من مكة فلا يسقط بالعود إلى الميقات كما لو ترك الميقات وأحرم دونه ثم عاد بعد التلبس بالنسك والرابع أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وحاضر المسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة لأن الحاضر في اللغة هو

القريب ولا يكون قريباً إلا في مسافة لا تقصر فيها الصلاة وفي الخامس وهو نية التمتع وجهان: أحدهما أنه لا يحتاج إليها لأن الدم يتعلق بترك الإحرام بالحج من الميقات وذلك يوجد من غير نية والثاني أنه يحتاج إلى نية التمتع لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين فإذا قلنا بهذا ففي وقت النية وجهان: أحدهما أنه يحتاج أن ينوي عند الإحرام بالعمرة والثاني يجوز أن ينوي ما لم يفرغ من العمرة بناء على القولين في وقت نية الجمع بين الصلاتين فإن في ذلك قولين: أحدهما ينوي في ابتداء الأولى منهما والثاني ما لم يفرغ من الأولى. فصل: ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولأن شرائط الدم إنما توجد بوجود الإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به وفي وقت جوازه قولان: أحدهما لا يجوز قبل أن يحرم بالحج لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن فلا يجوز قبل وجوبها كالصوم والصلاة والثاني يجوز بعد الفراغ من العمرة لأنه حق مال يجب بشيئين فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب. فصل: فإن لم يكن واجداً للهدي في موضعه انتقل إلى الصوم وهو صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] فأما صوم ثلاثة أيام في الحج فلا يجوز قبل الإحرام بالحج لأنه صوم واجب فلا يجوز قبل وجوبه كصوم رمضان ويجوز بعد الإحرام بالحج إلى يوم النحر والمستحب أن يفرغ منه قبل يوم عرفة فإنه يكره للحاج صوم عرفة وهل يجوز صيامها في أيام التشريق على قولين وقد ذكرناهما في كتاب الصيام وأما صوم السبعة ففيه قولان: قال في حرملة: لا يجوز حتى يرجع إلى أهله لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وقال في الإملاء: يصوم إذا أخذ في السير خارجاً من مكة لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] وابتداء الرجوع إذا ابتدأ بالسير من مكة فإذا قلنا بهذا ففي الأفضل قولان: أحدهما الأفضل أن يصوم بعد الابتداء بالسير لأن تقديم العبادة في أول وقتها أفضل والثاني الأفضل أن يؤخر إلى يرجع إلى الوطن ليخرج من الخلاف فإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى أهله لزمه صوم عشرة أيام وهل يشترط التفريق بينهما: فيه وجهان: أحدهما أنه ليس بشرط لأن التفريق وجب بحكم الوقت وقد فات فسقط كالتفريق بين الصلوات والثاني أنه يشترط وهو المذهب لأن ترتيب أحدهما

على الآخر لا يتعلق بوقت فلم يسقط بالفوات كترتيب أفعال الصلاة فإن قلنا بالوجه الأول صام عشرة أيام كيف شاء وإن قلنا بالمذهب فرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء. فصل: فإن دخل في الصوم ثم وجد الهدي فالأفضل أن يهدي ولا يلزمه وقال المزني: يلزمه كالمتيمم إذا رأى الماء فإن وجد الهدى بعد الإحرام بالحج وقبل الدخول في الصوم فهو مبني على الأقوال الثلاثة في الكفارات: أحدها أن الاعتبار بحال الوجوب ففرضه الصوم والثاني أن الاعتبار بحال الأداء ففرضه الهدي والثالث الاعتبار بأغلظ الحالين ففرضه الهدي. فصل: ويجب على القارن دم لأنه روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ولأنه إذا وجب على المتمتع لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى فإن لم يجد الهدي فعليه صوم التمتع ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على ما بيناه وبالله التوفيق.

باب المواقيت

باب المواقيت ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وميقات أهل الشام الجحفة وميقات أهل نجد قرن وميقات أهل اليمن يلملم لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن" قال ابن عمر رضي الله عنهما: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل

اليمن من يلملم وأهل الشام من الجحفة وأما أهل العراق فميقاتهم ذات عرق1" وهل هو منصوص عليه أو مجتهد فيه؟ قال الشافعي رحمه الله في الأم: هو غير منصوص عليه ووجهه ما روي عن ابن عمر قال: لما فتح المصران أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً وإنا إذ أردنا أن نأتي قرناً شق علينا فقال: فانظروا حذوها من طريقكم قال: فحد لهم ذات عرق ومن أصحابنا من قال هو منصوص عليه ومذهبه ما ثبتت به السنة والدليل عليه ما روى جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يهل أهل المشرق من ذات عرق" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق وقال الشافعي رحمه الله: ولو أهل أهل المشرق من العقيق كان أحب إلي لأنه روي عن ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق ولأنه أبعد من ذات عرق فكان أفضل وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرناً ولأهل اليمن يلملم وقال: "هذه المواقيت لأهلها ولكل من أتى عليها من غير أهلها ممن أراد الحج والعمرة" ومن كان داره دون ذلك فمن حيث ينشيء ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة ومن سلك طريقاً لا ميقات فيه من بر أو بحر فميقاته إذا حاذى أقرب المواقيت إليه لأن عمر رضي الله عنه لما اجتهد في ميقات أهل العراق اعتبر ما ذكرناه. فصل: ومن كانت داره فوق الميقات فله أن يحرم من الميقات وله أن يحرم من فوق الميقات لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وفي الأفضل قولان: أحدهما أن الأفضل أن يحرم من الميقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ولم يحرم من المدينة ولأنه إذا أحرم من بلده لم يأمن أن يرتكب محظورات الإحرام فإذا أحرم من الميقات أمن من ذلك فكان الإحرام من الميقات أفضل والثاني أن الأفضل أن يحرم من داره لما روت أم سلمة رضي الله

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحج باب 8. الترمذي في كتاب الحج باب 17. النسائي في كتاب المناسك باب 17، 18. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 13. الموطأ في كتاب الحج حديث 22.

عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة1" ومن كانت داره دون الميقات فيمقاته موضعه ومن جاوز الميقات قاصداً إلى موضع قبل مكة ثم أراد النسك أحرم من موضعه كما إذا دخل مكة لحاجة ثم أراد الإحرام كان ميقاته من مكة ومن كان من أهل مكة وأراد أن يحج فميقاته من مكة وإن أراد العمرة فميقاته من أدنى الحل والأفضل أن يحرم من الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها فإن أخطأها فمن التنعيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم ومن بلغ الميقات مريداً للنسك لم يجز أن يجاوزه حتى يحرم لما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإن جاوزه وأحرم دونه نظرت فإن كان له عذر بأن يخشى أن يفوته الحج أو الطريق مخوف لم يعد وعليه دم وإن لم يخش شيئاً لزمه أن يعود لأنه نسك واجب مقدور عليه فلزمه الاتيان به فإن لم يرجع لزمه الدم وإن رجع نظرت فإن كان قبل أن يتلبس بنسك سقط عنه الدم لأنه قطع المسافة بالإحرام وزاد عليه فلم يلزمه دم وإن عاد بعد ما وقف أو بعد ما طاف لم يسقط عنه الدم لأنه عاد بعد فوات الوقت فلم يسقط عنه الدم كما لو دفع من الموقف قبل الغروب ثم عاد في غير وقته وإن نذر الإحرام من موضع فوق الميقات لزمه الإحرام منه فإن جاوزه وأحرم دونه كان كمن جاوز الميقات وأحرم دونه في وجوب العود والدم لأنه وجب الإحرام منه كما وجب الإحرام من الميقات فكان حكمه حكم الميقات وإن مر كافر بالميقات مريداً للحج فأسلم دونه وأحرم ولم يعد إلى الميقات لزمه الدم وقال المزني رحمه الله: لا يلزمه لأنه مر بالميقات وليس هو من أهل النسك فأشبه إذا مر به غير مريد للنسك ثم أسلم دونه وأحرم وهذا لا يصح لأنه ترك الإحرام من الميقات وهو مريد للنسك فلزمه الدم كالمسلم وإن مر بالميقات صبي وهو محرم أو عبد وهو محرم فبلغ الصبي أو عتق العبد ففيه قولان: أحدهما أنه يجب عليه دم لأنه ترك الإحرام بحجة الإسلام من الميقات والثاني لا يلزمه لأنه جاوز الميقات وهو محرم فلم

_ 1 رواه أحمد في مسنده "6/299".

يلزمه دم كالحر البالغ فإن كان من أهل مكة فخرج لإحرام الحج إلى أدنى الحل وأحرم فإن رجع إلى مكة قبل أن يقف بعرفة لم يلزمه دم وإن لم يرجع حتى وقف وجب عليه دم لأنه ترك الإحرام من الميقات فأشبه غير المكي إذا أحرم من دون الميقات وإن خرج من مكة إلى خارج البلد وأحرم من موضع من الحرم ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه الدم لأن مكة والحرم في الحرمة سواء والثاني يلزمه وهو الصحيح لأن الميقات هو البلد وقد تركه فلزمه الدم وإن أراد العمرة وأحرم من جوف مكة نظرت فإن خرج إلى أدنى الحل قبل أن يطوف لم يلزمه دم لأنه دخل الحرم محرماً فأشبه إذا أحرم من الحل وإن طاف وسعى ولم يخرج إلى الحل ففيه قولان: أحدهما لا يعتد بالطواف والسعي عن العمرة لأنه لم يقصد الحرم بإحرام فلا يعتد بالطواف والسعي والثاني أنه يعتد بالطواف وعليه دم لترك الميقات كغير المكي إذا جاوز ميقات بلده غير محرم ثم أحرم ودخل مكة وطاف وسعى والله أعلم.

باب الإحرام وما يحرم فيه

باب الإحرام وما يحرم فيه إذا أراد أن يحرم فالمستحب أن يغتسل لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه وإن كانت امرأة حائضاً أو نفساء اغتسلت للإحرام لما روى القاسم بن محمد أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مروها فلتغتسل ثم لتهل" ولأنه غسل يراد للنسك فاستوى فيه الحائض والطاهر ومن لم يجد الماء تيمم لأنه غسل مشروع فانتقل منه إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة قال في الأم: ويغتسل لسبعة مواطن: للإحرام ولدخول مكة والوقوف بعرفة والوقوف بمزدلفة ولرمي الجمار الثلاث لأن هذه المواطن تجتمع لها الناس فاستحب لها الاغتسال ولا يغتسل لرمي جمرة العقبة لأن وقته من نصف الليل إلى آخر النهار فلا يجتمع لها الناس في وقت واحد وأضاف إليها في القديم الغسل لطواف الزيارة وطواف الوداع لأن الناس يجتمعون لهما ولم يستحبه في الجديد لأن وقتهما متسع فلا يتفق اجتماع الناس فيهما.

فصل: ثم يتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين ونعلين لما روى بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين والمستحب أن يكون ذلك بياضاً لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم1" والمستحب أن يتطيب في بدنه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ولا يطيب ثوبه لأنه ربما نزعه للغسل فيطرحه على بدنه فتجب به الفدية والمستحب أن يصلي ركعتين لما روى ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ذي الحليفة ركعتين ثم أحرم وفي الأفضل قولان: قال في القديم: الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة وقال في الأم: الأفضل أن يحرم إذا انبعث به راحلته إن كان راكباً وإذا ابتدأ بالسير إن كان راجلاً لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رحتم إلى منى متوجهين فأهلوا بالحج" ولأنه إذا لبى مع السير وافق قوله فعله وإذا لبى في مصلاه لم يوافق فعله فكان ما قلناه أولى وينوي الإحرام ولا يصح الإحرام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأنه عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم ويلبي لنقل الخلف عن السلف فإن اقتصر على النية ولم يلب أجزأه وقال أبو إسحاق وأبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إلا بالنية والتلبية كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبيرة والمذهب الأول لأنها عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب النطق في أولها كالصوم وله أن يعين ما يحرم به من الحج والعمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فإن لبى بنسك ونوى غيره انعقد ما نواه لأن النية في القلب وله أن يحرم إحراماً مبهماً لما روى أبو موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أهللت قال: قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت وفي الأفضل قولان: قال في

_ 1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 13. الترمذي في كتاب الجنائز باب 18. النسائي في كتاب الجنائز باب 38. أحمد في مسنده "5/10 , 13".

الأم: التعيين أفضل لأنه إذا عين عرف ما دخل فيه والثاني أن الإبهام أفضل لأنه أحوط فإنه ربما عرض مرض أو إحضار فيصرفه إلى ما هو أسهل عليه فإن عين انعقد بما عينه والأفضل أن يذكر ما أحرم به في تلبيته على المنصوص لما روى نافع قال: سئل ابن عمر أيسمى أحدنا حجاً أو عمرة فقال: أتنبئون الله بما في قلوبكم إنما هي نية أحدكم ومن أصحابنا من قال الأفضل أن ينطق به لما روى أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحجة وعمرة ولأنه إذا نطق به كان أبعد من السهو فإن أبهم الإحرام جاز أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لأنه يصلح لهما فصرف إلى ما شاء منهما فإن قال إهلالاً كإهلال فلان إنعقد إحرامه بما عقد به فلان إحرامه فإن مات الرجل الذي علق إهلاله بإهلاله أو جن ولم يعلم ما أهل به لزمه أن يقرن ليسقط ما لزمه بيقين فإن بان أن فلاناً لم يحرم انعقد إحراماً مطلقاً فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لأنه عقد الإحرام وإن علق عين النسك على إحرام فلان فإذا سقط إحرام فلان بقي إحرامه مطلقاً فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة وإن أحرم بحجتين أو بعمرتين لم ينعقد الإحرام بهما لأنه لا يمكن المضي فيهما وينعقد بإحداهما لأنه يمكن المضي في إحداهما قال في الأم إذا استأجره رجلان للحج فأحرم بهما انعقد إحرامه عن نفسه لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا تقديم أحدهما على الآخر فتعارضا وسقطا وبقي إحرام مطلق فانعقد له قال: ولو استأجره رجل ليحج عنه فأحرم عنه وعن نفسه انعقد الإحرام عن نفسه لأنه تعارض التعيينان فسقطا وبقي مطلق الإحرام فانعقد له وإن أحرم بنسك معين ثم نسيه قبل أن يأتي بنسك ففيه قولان: قال في الأم: يلزمه أن يقرن لأنه شك لحقه بعد الدخول في العبادة فيبني فيه على اليقين كما لو شك في عدد ركعات الصلاة وقال في القديم: يتحرى لأنه يمكنه أن يدرك بالتحري فيتحرى فيه كالقبلة فإن قلنا يقرن لزمه أن ينوي القران فإذا قرن أجزأه ذلك عن الحج وهل يجزئه عن العمرة؟ إذ قلنا يجوز إدخال العمرة على الحج أجزأه عن العمرة أيضاً وإن قلنا لا يجوز ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لأنه يجوز أن يكون أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة فلم يصح وإذا شك لم يسقط الفرض والثاني أنه يجزئه لأن العمرة إنما لا يجوز إدخالها على الحج من غير

حاجة وهاهنا به حاجة إلى إدخال العمرة على الحج والمذهب الأول وإن قلنا إنه يجزئه عن العمرة لزمه الدم لأنه قارن وإن قلنا لا يجزئه عن العمرة هل يلزمه دم ففيه وجهان: أحدهما لا دم عليه وهو المذهب لأنا لم نحكم له بالقران فلا يلزمه دم والثاني يلزمه دم لجواز أنه يكون قارناً فوجب عليه الدم احتياطاً وإن نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم فإن نوى القران وعاد قبل طواف القدوم أجزأه الحج لأنه إن كان حاجاً أو قارناً فقد إنعقد إحرامه بالحج وإن كان معتمراً فقد أدخل الحج على العمرة قبل طواف العمرة فصح حجه ولا يجزئه عن العمرة لأن إدخال العمرة على الحج لا يصح في أحد القولين ويصح في الآخر ما لم يقف بعرفة فإذا وقف بعرفة لم يصح فلم يجزه وإن نسي بعد طواف القدوم وقبل الوقوف فإن قلنا إن إدخال العمرة على الحج لا يجوز لم يصح له الحج ولا العمرة لأنه يحتمل أنه كان معتمراً فلا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف فلم يسقط فرض الحج مع الشك ولا تصح العمرة لأنه يحتمل أن لا يكون أحرم بها أو أحرم بها على حج فلا يصح وإن قلنا إنه يجوز إدخال العمرة على الحج لم يصح له الحج لجواز أن يكون أحرم بالعمرة وطاف لها فلا يجوز أن يدخل الحج عليها وتصح له العمرة لأنه أدخلها على الحج قبل الوقوف فإن أراد أن يجزئه الحج طاف وسعى لعمرته ويحلق ثم يحرم بالحج ويجزئه لأنه إن كان معتمراً فقد حل من العمرة وأحرم بالحج وإن كان حاجاً أو قارناً فلا يضره تجديد الإحرام بالحج ويجب عليه دم واحد لأنه إن كان معتمراً فقد حلق في وقته وصار متمتعاً فعليه دم التمتع دون الدم الحلاق وإن كان حاجاً فقد حلق في غير وقته فعليه دم الحلاق دون دم التمتع وإن كان قارناً فعليه دم الحلاق ودم القران فلا يجب عليه دمان بالشك ومن أصحابنا من قال: يجب عليه دمان احتياطاً وليس بشيء. فصل: ويستحب أن يكثر من التلبية ويلبي عند اجتماع الرفاق وفي كل صعود وهبوط وفي أدبار الصلوات وإقبال الليل والنهار لما روى جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

يلبي إذا رأى ركباً أو صعد وهبط وادياً وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل ولأن في هذه المواضع ترفع الأصوات ويكثر الضجيج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الحج العج والثج1" ويستحب في مسجد مكة ومنى وعرفات وفيما عداها من المساجد قولان: قال في القديم لا يلبي وقال في الجديد يلبي لأنه مسجد بني للصلاة فاستحب فيه التلبية كالمساجد الثلاثة وفي حال الطواف قولان: قال في القديم يلبي ويخفض صوته وقال في الأم لا يلبي لأن للطواف ذكراً يختص به فكان الاشتغال به أولى ويستحب أن يرفع صوته بالتلبية لما روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله قال: "جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحاج" وإن كانت امرأة لم ترفع الصوت بالتلبية لأنه يخاف عليها الافتتان. فصل: والتلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الحج باب 14، ابن ماجه في كتاب المناسق باب 6، 16. الدارمي في كتاب المناسك باب 8.

والملك لا شريك لك قال الشافعي رحمه الله: فإن زاد على هذا فلا بأس لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يزيد فيها لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغبة إليك وإذا رأى شيئاً يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنهم أعجبه ما هم فيه فقال: لبيك إن العيش عيش الآخرة والمستحب إذا فرغ من التلبية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كالأذان ثم يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار ثم يدعو بما أحب. فصل: وإذا أحرم الرجل حرم عليه حرم الرأس لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ويحرم عليه حلق شعر سائر البدن لأنه حلق يتنظف به ويترفه به فلم يجز كحلق الرأس ويجب به الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]

ولما روى كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعلك آذاك هوام رأسك فقلت: نعم يا رسول الله فقال: أحلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة" ويجوز له أن يحلق شعر الحلال لأن نفعه يعود إلى الحلال فلم يمنع منه كما لو أراد أن يعممه أو يطيبه. فصل: ويحرم عليه أن يقلم أظفاره لأنه جزء ينمى وفي قطعة ترفيه وتنظيف فمنع الإحرام منه كحلق الشعر ويجب به الفدية قياساً على الحلق. فصل: ويحرم عليه أن يستر رأسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره "لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً1" وتجب به الفدية لأنه فعل محرم في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ويجوز أن يحمل على رأسه مكتلاً لأنه لا يقصد به الستر فلم يمنع منه كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في عيبة المتاع حين لم يقصد المصحف ويجوز أن يترك يده على رأسه لأنه يحتاج إلى وضع اليد على الرأس في المسح فعفى عنه ويحرم عليه لبس القميص لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم: "لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران" وتجب به الفدية لأنه فعل محظور في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ولا فرق بين أن يكون ما يلبسه من الخرق أو الجلود أو اللبود أو الورق ولا فرق بين أن يكون مخيطاً بالإبرة أو ملصقاً بعضه إلى بعض لأنه في معنى المخيط والعباءة والدراعة كالقميص فيما ذكرناه لأنه في معنى القميص ويحرم عليه لبس السراويل لحديث ابن عمر رضي الله عنه وتجب به الفدية لما ذكرناه من المعنى والتبان والران كالسراويل فيما ذكرناه لأنه في معنى السراويل وإن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 19 – 21. مسلم في كتاب الحج حديث 93. الترمذي في كتاب الحج باب 103. الدارمي في كتاب المناسك باب 35. أحمد في مسنده "1/215، 328".

شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز لأنهما كالسراويل وما على الساقين كالبابكين ويجوز أن يعقد عليه إزاره لأن فيه مصلحة له وهو أن يثبت عيه ولا يعقد الرداء عليه لأنه لا حاجة به إليه وله أن يغرز طرفيه في إزاره وإن جعل لإزاره حجزة وأدخل فيها التكة واتزر به جاز وإن اتزر وشد فوقه تكة جاز قال في الإملاء وإن زره أو خاطه أو شوكه لم يجز لأنه يصير كالمخيط وإن لم يجد إزاراً جاز أن يلبس السراويل ولا فدية عليه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين1" فإن لم يجد رداء لم يلبس القميص لأنه يمكنه أن يرتدي به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل فإن لبس السراويل ثم وجد الإزار لزمه خلعه ويحرم عليه لبس الخفين للخبر وتجب الفدية لما ذكرناه من القياس على الحلق فإن لم يجد نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين للخبر فإن لبس الخف مقطوعاً من أسفل الكعب مع وجود النعل لم يجز على المنصوص وتجب عليه الفدية ومن أصحابنا من قال يجوز ولا فدية عليه لأنه قد صار كالنعل بدليل أنه لا يجوز المسح عليه وهذا خلاف المنصوص وخلاف السنة وما ذكره من المسح لا يصح لأنه وإن لم يجز المسح إلا أنه يترفه به في دفع الحر والبرد والأذى ولأنه يبطل بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه ثم يمنع من لبسه ويحرم عليه لبس القفازين وتجب به الفدية لأنه ملبوس على قدر العضو فأشبه الخف ولا يحرم عليه ستر الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي خر من بعيره: "ولا تخمروا رأسه" فخص الرأس بالنهي ويحرم على المرأة ستر الوجه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحج باب 21. مسلم في كتاب الحج حديث 1-5. الترمذي في كتاب الحج باب 19. النسائي في كتاب الحج باب 52، 53. الموطأ في كتاب الحج حديث 8، 9. أحمد في مسنده "1/ 215، 221" "3/ 323".

القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب وليلبس بعد ذلك ما اختير من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلى أو سراويل أو قميص أو خف وتجب به الفدية قياساً على الحلق ويجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن ستر الرأس إلا بستره لأنه لا يمكن ستر الرأس إلا بستره فعفى عن ستره فإن أرادت ستر وجهها عن الناس سدلت على وجهها شيئاً لا يباشر الوجه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا وكشفنا ولأن الوجه من المرأة كالرأس من الرجل ثم يجوز للرجل ستر الرأس من الشمس بما لا يقع عليه فكذلك المرأة في الوجه ولا يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولأن جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين فجاز لها ستره لما ذكرناه وهل يجوز لها لبس القفازين فيه قولان: أحدهما أنه يجوز لأنه عضو يجوز لها ستره بغير المخيط فجاز لها ستره بالمخيط كالرجل والثاني لا يجوز للخبر ولأنه عضو ليس بعورة فتعلق به حرمة الإحرام في اللبس كالوجه. فصل: ويحرم عليه استعمال الطيب في ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران1" وتجب به الفدية قياساً على الحلق ولا يلبس ثوباً مبخراً بالطيب ولا ثوباً مصبوغاً بالطيب ويجب به الفدية قياساً على ما مسه الورس والزعفران وإن علق بخفه طيب وجبت به الفدية لأنه ملبوس فهو كالثوب ويحرم عليه استعمال الطيب في بدنه ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا يستعط به ولا يحتقن به فإن استعمله في شيء من ذلك لزمته الفدية لأنه إذا وجب ذلك فيما يستعمله بالثياب فلأن يجب فيما يستعمله ببدنه أولى وإن كان الطيب في طعام نظرت فإن ظهر ذلك في طعمه أو رائحته لم يجزأ كله وتجب به الفدية

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصيد باب 13. مسلم في كتاب الحج حديث 1، 2. أبو داود في كتاب المناسك باب 31 الموطأ في كتاب الحج حديث 8. أحمد في مسنده "2/4، 8".

وإن ظهر ذلك في لونه وصبغ به اللسان من غير طعم ولا رائحة فقد قال في المختصر الأوسط من الحج لا يجوز وقال في الأم والإملاء يجوز قال أبو إسحاق: يجوز قولاً واحداً وتأول قوله في الأوسط على ما إذا كانت له رائحة ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأن اللون إحدى صفات الطيب فمنع من استعماله كالطعم والرائحة والثاني يجوز وهو الصحيح لأن الطيب بالطعم والرائحة. فصل: والطيب كل ما يتطيب به ويتخذ منه الطيب كالمسك والكافور والعنبر والصندل والورد والياسمين والورس والزعفران وفي الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس قولان: أحدهما أنه يجوز شمها لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن المحرم يدخل البستان قال: نعم ويشم الريحان ولأن هذه الأشياء لها رائحة إذا كانت رطبة فإذا جفت لم يكن لها رائحة والثاني لا يجوز لأنه يراد للرائحة فهو كالورد والزعفران وأما البنفسج فقد قال الشافعي رحمه الله: ليس بطيب فمن أصحابنا من قال

هو طيب قولاً واحد لأنه يشم رائحته ويتخذ منه الدهن فهو كالورد وتأول قول الشافعي على المربب بالسكر ومنهم من قال ليس بطيب قولاً واحداً لأنه يراد للتداوي ولا يتخذ من يابسه طيب ومنهم من قال هو كالنرجس والريحان وفيه قولان: لأنه يشم رطبه ولا يتخذ من يابسه طيب وأما الأترج فإنه ليس بطيب لأنه يراد للأكل فهو كالتفاح والسفرجل وأما العصفر فليس بطيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليلبسن ما أحببن من المعصفر" ولأنه يراد للون فهو كالنيل والحناء ليس بطيب لما روي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يختضبن بالحناء وهن محرمات ولأنه يراد للون فهو كالعصفر ولا يجوز أن يستعمل الأدهان المطيبة كدهن الورد والزنبق وهدن البان المنشوش وتجب به الفدية لأنه يراد للرائحة وأما غير المطيب كالزيت والشيرج والبان غير المنشوش فإنه يجوز استعماله في غير الرأس واللحية لأنه ليس فيه طيب ولا تزيين ويحرم استعماله في شعر الرأس واللحية لأنه يرجل الشعر ويربيه وتجب به الفدية فإن استعمله في رأسه وهو أصلع جاز له لأنه ليس فيه تزيين وإن استعمله في رأسه وهو محلوق لم يجز لأنه يحسن الشعر إذا نبت ويجوز أن يجلس عند العطار وفي موضع يبخر لأن في المنع من ذلك مشقة ولأن ذلك ليس بطيب مقصود والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون في موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهي تجمر فلا يكره ذلك لأن الجلوس عندها قربة فلا يستحب تركها لأمر مباح وله أن يحمل الطيب في خرقة أو قارورة والمسك في نافجة ولا فدية عليه لأن دونه حائلاً وإن مس طيباً فعبقت به رائحته ففيه قولان: أحدهما لا فدية عليه لأنه رائحة عن مجاوره فلم يكن لها حكم كالماء إذا تغيرت بجيفة بقربه والثاني يجب لأن المقصود من الطيب هو الرائحة وقد حصل ذلك وإن كان عليه طيب فأراد غسله فالمستحب أن يولي غيره غسله حتى لا يباشره بيده فإن غسله بنفسه جاز لأن غسله ترك له فلا يتعلق به تحريم كما لو دخل دار غيره بغير إذنه فأراد أن يخرج فإن حصل عليه طيب ولا يقدر على إزالته بغير الماء وهو محدث ومعه من الماء ما لا يكفي الطيب والوضوء غسل به الطيب لأن الوضوء له بدل وغسل الطيب لا بدل له وإن كان عليه

نجاسة استعمل الماء في إزالة النجاسة لأن النجاسة تمنع صحة الصلاة والطيب لا يمنع صحة الحج. فصل: ويحرم عليه أن يتزوج وأن يزوج غيره بالوكالة والولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل لما روى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا يخطب ولا ينكح1" ولأنه عبادة تحرم الطيب فحرمت النكاح كالعدة وهل يجوز للإمام أو الحاكم أن يزوج بولاية الحكم؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز أن يزوج بالولاية الخاصة والثاني يجوز لأن الولاية العامة آكد والدليل عليه أنه يملك بالولاية العامة أن يزوج المسلمة والكافرة ولا يملك ذلك بالولاية الخاصة ويجوز أن يشهد في النكاح وقال أبو سعيد الأصطخري لا يجوز لأنه ركن في العقد فلم يجز أن يكون محرما كالولي والمذهب أنه يجوز لأن العقد هو الإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك ويكره له الخطبة لأن النكاح لا يجوز فكرهت الخطبة له ويجوز أن يراجع الزوجة في الإحرام لأن الرجعة كاستدامة النكاح بدليل أنه يصح من غير ولي ولا شهود ويصح من العبد بغير إذن المولى فلم يمنع الإحرام منه كالبقاء على العقد. فصل: ويحرم عليه الوطء في الفرج لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] قال ابن عباس: الرفث الجماع وتجب به الكفارة لما روي عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنهم أوجبوا فيه الكفارة ولأنه إذا وجبت الكفارة في الحلق فلأن تجب في الجماع أولى. فصل: ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج لأنه إذا حرم عليه النكاح فلأن تحرم المباشرة وهي أدعى للوطء أولى وتجب فيه الكفارة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من قبل امرأة وهو محرم فليهرق دماً ولأنه فعل محرم في الإحرام فوجبت به الكفارة كالجماع. فصل: ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير ولا يجوز له أخذه لقوله

_ 1 رواه مسلم في كتاب النكاح حديث 14 -45. الترمذي في كتاب الحج باب 23. النسائي في كتاب المناسك باب 91. الدارمي في كتاب النكاح باب 17. أحمد في مسنده "1/ 75".

تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فإن أخذه لم يملكه بالأخذ لأن ما منع أخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير إذنه كما لو غضب مال غيره وإن كان الصيد لآدمي وجب رده إلى مالكه وإن كان من المباح وجب إرساله في موضع يمتنع على من يأخذه لأن ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده إلى مالكه كالمغصوب فإن هلك عنده وجب عليه الجزاء لأنه مال حرام أخذه لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي فإن خلص صيداً من فم سبع فداواه فمات في يده لم يضمنه لأنه قصد الصلاح قال الشافعي رحمه الله: ولو قيل يضمن لأنه تلف في يده كان محتملاً ويحرم عليه قتله فإن قتله عمداً وجب عليه الجزاء لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فإن قتله خطأ وجب عليه الجزاء لأن ما ضمن عمده بالمال ضمن خطؤه كمال الآدمي ولأنه كفارة تجب بالقتل فاستوى فيها الخطأ والعمد ككفارة القتل فإن كان الصيد مملوكاً لآدمي وجب عليه الجزاء والقيمة وقال المزني: لا يجب الجزاء في الصيد المملوك لأنه يؤدي إلى إيجاب بدلين عن متلف واحد والدليل على أنه يجب أنه كفارة تجب بالقتل فوجبت بقتل المملوك ككفارة القتل ويحرم عليه جرحه لأن ما منع من إتلافه لحق الغير منع من إتلاف أجزائه كالآدمي وإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء لأن ما ضمن جميعه بالبدل ضمن أجزاؤه كالآدمي ويحرم عليه تنفير الصيد لقوله صلى الله عليه وسلم في مكة: "لا ينفر صيدها" وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام فإن نفره فوقع في بئر فهلك أو نهشته حية أو أكله سبع وجب عليه الضمان لما روي أن عمر رضي الله عنه دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه طير فخاف أن ينجسه فطيره فنهشته حية فقال طير طردته حتى نهشته

الحية فسأل من كان معه أن يحكموا عليه فحكموا عليه بشاة ولأنه هلك بسبب من جهته فأشبه إذا حفر له بئراً ونصب له أحبولة فهلك بها ويحرم عليه أن يعين على قتله بدلالة أو إعارة آلة لأن ما حرم قتله حرمت الإعانة على قتله كالآدمي وإن أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة فقتل لم يلزمه الجزاء لأن ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير ويحرم عليه أكل ما صيد له لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيد حلال لكم ما لم تصيدوا أو يصد لكم1" ويحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة لما روى عبد الله بن أبي قتادة قال: كان أبو قتادة في قوم محرمين وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطاً فضربه حتى صرعه ثم ذبحه وأكل هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل أشار إليه أحد منكم"؟ قالوا: لا قال: فلم ير بأكله بأساً فإن أكل ما صيد له أو أعان على قتله فهل يجب عليه الجزاء؟ فيه قولان: أحدها يجب لأنه فعل محرم يحكم الإحرام فوجبت فيه الكفارة كقتل الصيد والثاني لا يجب لأنه ليس بنام ولا بآيل إلى النماء فلا يضمن بالجزاء كالشجر اليابس والبيض المذر فإن ذبح صيداً حرم عليه أكله لأنه إذا حرم عليه ما صيد له أو دل عليه فلأن يحرم ما ذبحه أولى وهل يحرم على غيره؟ فيه قولان: قال في الجديد يحرم لأن ما حرم على الذابح أكله حرم على غيره كذبيحة المجوسي وقال في القديم لا يحرم لأن من حل بذكاته غير الصيد حل بذكاته الصيد كالحلال فإن أكل ما ذبحه لم يضمن بالأكل لأن ما ضمنه بالقتل لم يضمنه بالأكل كشاة الغير ويحرم عليه أن يشتري الصيد أو يهبه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" ولأنه سبب يتملك به الصيد فلم يتملك به مع الإحرام كالاصطياد فإن مات من يرثه وله صيد ففيه وجهان: أحدهما لا يرثه لأنه سبب للملك فلا يملك به الصيد كالبيع والهبة والثاني أنه يرثه لأنه يدخل في ملكه بغير قصده ويملك به الصبي والمجنون فجاز أن يملك به المحرم الصيد وإن كان في ملكه

_ 1 رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 40. الترمذي في كتاب الحج باب 25. النسائي في كتاب المناسك باب 81. أحمد في مسنده "3/362".

صيد فأحرم ففيه قولان: أحدهما لا يزول ملكه عنه لأنه ملك فلا يزول بالاحرام كملك البضع والثاني يزول عنه لأنه معنى لا يراد للبقاء يحرم على المحرم ابتداؤه فحرمت استدامته كلبس المخيط فإن قلنا إنه لا يزول ملكه جاز له بيعه وهبته ولا يجوز له قتله فإن قتله وجب عليه الجزاء لأن الجزاء كفارة تجب لله تعالى فجاز أن تجب على مالكه ككفارة القتل وإن قلنا يزول ملكه وجب عليه إرساله فإن لم يرسله حتى مات ضمنه بالجزاء وإن لم يرسله حتى تحلل ففيه وجهان: أحدهما يعود إلى ملكه ويسقط عنه فرض الإرسال لأن علة زوال الملك هو الإحرام وقد زال فعاد الملك كالعصير إذا صار خمراً ثم صار خلاً والثاني أنه لا يعود إلى ملكه ويلزمه إرساله لأن يده متعدية فوجب أن يزيلها. فصل: وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولداً مما يؤكل ومما لا يؤكل كالسبع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل فحكمه حكم ما يؤكل في تحريم صيده ووجوب الجزاء لأنه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلب جهة التحريم في أكله وإن كان حيواناً لا يؤكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فحرم من الصيد ما يحرم بالإحرام وهذا لا يكون إلا فيما يؤكل وهل يكره قتله أو لا يكره ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والبرغوث والقمل والجرجس والزنبور فالمستحب أن يقتله لأنه يدفع ضرره عن نفسه وعن غيره وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازي فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لما فيه من المضرة وإن كان مما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان وبنات وردان فإنه يكره قتله ولا يحرم. فصل: وإن كان الصيد وما حرم على المحرم من الصيد حرم عليه بيضه وإذا كسره وجب عليه الجزاء وقال المزني: لا جزاء عليه لأنه لا روح فيه والدليل عليه ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه ولأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله فضمن بالجزاء كالفرخ وإن كسر بيضاً لم يحل له أكله وهل يحل لغيره؟ فيه قولان كالصيد وقال شيخنا القاضي أبو الطيب: في تحريمه على غيره نظر لأنه لا روح فيه فلا يحتاج إلى ذكاة وإن كسر بيضاً مذراً لم يضمنه من غير النعامة لأنه لا قيمة له ويضمنه من النعامة لأن لقشر بيض النعامة قيمة.

فصل: وإن احتاج المحرم إلى اللبس لحر شديد أو برد شديد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس للأذى أو إلى شد رأسه بعصابة لجراحة عليه أو إلى ذبح الصيد للمجاعة لم يحرم عليه وتجب عليه الكفارة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ولحديث كعب بن عجرة فثبت الحلق بالنص وقسنا ما سواه عليه لأنه في معناه وإن نبت في عينه شعرة فقلعها أو نزل شعر الرأس إلى عينه فغطاها فقطع ما غطى العين أو انكسر شيء من ظفره فقطع ما انكسر منه أو صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه جاز ولا كفارة عليه لأن الذي تعلق به المنع ألجأه إلى إتلافه ويخالف إذا آذاه القمل في رأسه فحلق الشعر لأن الأذى لم يكن من جهة الشعر الذي تعلق به المنع وإنما كان من غيره وإن افترش الجراد في طريقه فقتله ففيه قولان: أحدهما يجب عليه الجزاء لأنه قتله لمنفعة نفسه فأشبه إذا قتله للمجاعة والثاني لا يجب لأن الجراد ألجأه إلى قتله فأشبه إذا صال عليه الصيد فقتله للدفع وإن باض صيد على فراشه فنقله فلم يحضنه الصيد فقد حكى الشافعي رحمه الله عن عطاء أنه لا يلزمه ضمانه لأنه مضطر إلى ذلك قال: ويحتمل عندي أن يضمن لأنه أتلفه باختياره فحصل فيه قولان كالجراد وإن كشط من بدنه جلداً وعليه شعر وقطع كفه وفيه أظافر لم تلزمه فدية لأنه تابع لمحله فسقط حكمه تبعاً لمحله كالأطراف مع النفس في قتل الآدمي. فصل: وإن لبس أو تطيب أو دهن رأسه أو لحيته جهلاً بالتحريم أو ناسياً للإحرام لم تلزمه الفدية لما روى أبو يعلى بن أمية قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال: اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة وما كنت صانعاً في حجتك فاصنع في عمرتك

ولم يأمره بالفدية فدل على أن الجاهل لا فدية عليه فإذا ثبت هذا في الجاهل ثبت في الناسي لأن الناسي يفعل وهو يجهل تحريمه عليه فإن ذكر ما فعله ناسياً أو علم ما فعله جاهلاً نزع اللباس وأزال الطيب لحديث يعلى بن أمية فإن لم يقدر على إزالة الطيب لم تلزمه الفدية لأنه مضطر إلى تركه فلم تلزمه فدية كما لو أكره على التطيب وإن قدر على إزالته واستدام لزمته الفدية لأنه تطيب من غير عذر فأشبه إذا ابتدأ به وهو عالم بالتحريم وإن مس طيباً وهو يظن أنه يابس وكان رطباً ففيه قولان: أحدهما تلزمه الفدية لأنه قصد مس الطيب والثاني لا تلزمه لأنه جهل تحريمه فأشبه إذا جهل تحريم الطيب في الإحرام فإن حلق الشعر أو قلم الظفر ناسياً أو جاهلاً بالتحريم فالمنصوص أنه تجب عليه الفدية لأنه إتلاف فاستوى في ضمانه العمد والسهو كإتلاف مال الآدمي وفيه قول آخر مخرج إنه لا تجب لأنه ترفه وزينة فاختلف في فديته السهو والعمد كالطيب وإن قتل صيداً ناسياً أو جاهلاً بالتحريم وجب عليه الجزاء لأن ضمانه ضمان مال فاستوى فيه السهو والعمد والعلم والجهل كضمان مال الآدميين وإن أحرم ثم جن وقتل صيداً ففيه قولان: أحدهما يجب عليه الجزاء لما ذكرناه والثاني لا يجب لأن المنع من قتل الصيد تعبد والجنون ليس من أهل التعبد فلا يلزمه ضمان ومن أصحابنا من نقل هذين القولين إلى الناسي وليس بشيء وإن جامع ناسياً أو جاهلاً بالتحريم ففيه قولان: قال في الجديد لا يفسد حجه ولا يلزمه شيء لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فاختلف في الوطء فيها العمد والسهو كالصوم وقال في القديم يفسد حجه وتلزمه الكفارة لأنه معنى يتعلق به قضاء الحج فاستوى فيه العمد والسهو كالفوات وإن حلق رجل رأسه فإن كان بإذنه وجبت عليه الفدية لأنه أزال شعره بسبب لا عذر له فيه فأشبه إذا حلقه بنفسه وإن حلقه وهو نائم أو مكره وجبت الفدية وعلى من تجب؟ فيه قولان: أحدهما تجب على الحالق لأنه أمانة عنده فإذا أتلفه غيره وجب الضمان على من أتلفه كالوديعة إذا أتلفها غاصب والثاني تجب على المحلوق لأنه هو الذي ترفه بالحلق فكانت الفدية عليه فإذا قلنا تجب الفدية على الحالق فالمحلوق مطالبته بإخراجها لأنها تجب بسببه فإن مات الحالق أو أعسر بالفدية لم تجب على المحلوق الفدية وإن قلنا تجب على المحلوق أخذها من الحالق وأخرج وإن افتدى المحلوق نظرت فإن افتدى بالمال رجع بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع فإن أداها بالصوم لم يرجع عليه لأنه لا يمكن الرجوع به ومن أصحابنا من قال يرجع بثلاثة أمداد لأن صوم كل يوم مقدر بمد وإن حلق رأسه وهو ساكت ففيه طريقان: أحدهما أنه كالنائم والمكره لأن السكوت لا يجري مجرى الإذن والدليل عليه هو أنه لو أتلف رجل ماله وسكت لم يكن سكوته إذناً في إتلافه والثاني أنه

بمنزلة ما لو أذن فيه لأنه يلزمه حفظه والمنع من حلقه فإذا لم يفعل جعل سكوته كالإذن فيه كالمودع إذا سكت عن إتلاف الوديعة. فصل: ويكره للمحرم أن يحك شعره بأظافره حتى لا ينتثر شعره فإن انتثر منه شعره لزمته الفدية ويكره أن يفلي رأسه ولحيته فإن فلى وقتل قملة استحب له أن يفديها قال الشافعي رحمه الله: وأي شيء فداها به فهو خير منها فإن ظهر القمل على بدنه وثيابه لم يكره أن ينحيه لأنه ألجأه إليه ويكره أن يكتحل بما لا طيب فيه لأنه زينة والحاج أشعث أغبر فإن احتاج إليه لم يكره لأنه إذا لم يكره ما يحرم من الحلق والطيب للحاجة فلأن لا يكره ما لا حرم أولى ويجوز أن يدخل الحمام ويغتسل بالماء لما روى أبو أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم ويجوز أن يغسل شعره بالماء والسدر لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره: "اغسلوا بماء وسدر" ويجوز أن يحتجم ما لم يقطع شعرا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ويجوز أن يفتصد أيضاً كما يجوز أن يحتجم ويجوز أن يستظل سائراً ونازلاً لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فإذا ثبت جواز ذلك بالحرم نازلاً وجب أن يجوز سائراً قياساً عليه ويكره أن يلبس الثياب المصبغة لما روي أن عمر رضي الله عنه رأى على طلحة رضي الله عنه ثوبين مصبوغين وهو حرام فقال: أيها الرهط أنتم أئمة يقتدى بكم ولو أن جاهلاً رأى عليك ثوبيك لقال قد كان طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الإحرام شيئاً ويكره أن يحمل بازاً أو كلباً معلماً لأنه ينفر به الصيد وربما انفلت فقتل صيداً وينبغي أن ينزه إحرامه عن الخصومة والشتم والكلام القبيح لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] قال ابن عباس: الفسوق المنابزة بالألقاب وتقول لأخيك يا ظالم يا فاسق والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه1" وبالله التوفيق.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحج باب4. مسلم في كتاب الحج حديث 438. الترمذي في كتاب الحج باب 2. الدارمي في كتاب المناسك باب 7. أحمد في مسنده "2/229، 248".

باب مايجب بمحظورات الإحرام من الكفارة وغيرها

باب ما يجب بمحظورات الإحرام من الكفارة وغيرها إذا حلق المحرم رأسه فكفارته أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام وهو مخير بين الثلاثة لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ولحديث كعب بن عجرة وإن حلق ثلاثة شعرات كانت كفارته ما ذكرناه في حلق الرأس لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو حلق جميع رأسه وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه لزمه ما ذكرناه وقال أبو القاسم الأنماطي يجب عليه فديتان لأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ألا ترى أنه يتعلق النسك بحلق الرأس ولا يتعلق بشعر البدن والمذهب الأول لأنهما وإن اختلفا في النسك إلا أن الجمع جنس واحد فأجزأه لهما فدية واحدة كما لو غطى رأسه ولبس القميص والسراويل وإن حلق شعره أو شعرتين ففيه ثلاثة أقوال أحدها يجب لكل شعر ثلث دم لأنه إذا وجب فيه ثلاثة شعرات دم وجب في كل شعرة ثلثه والثاني يجب لكل شعرة درهم لأن إخراج ثلث الدم يشق فعدل إلى قيمته وكانت قيمة الشاة ثلاثة دراهم فوجب ثلثها والثالث مد لأن الله تعالى عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام فيجب أن يكون ههنا مثله وأقل ما يجب من الطعام مد فوجب ذلك فإن قلم أظفاره أو ثلاثة أظفار وجب عليه ما وجب في الحلق وإن قلم ظفراً أو ظفرين وجب فيهما ما يجب في الشعرة أو الشعرتين لأن في معناهما. فصل: وإن تطيب ولبس المخيط في شيء من بدنه أو غطى رأسه أو شيئاً منه أو دهن على رأسه أو لحيته وجب عليه ما يجب في حلق الشعر لأنه ترفه وزينة فهو كالحلق وإن تطيب ولبس وجب لكل واحد منهما كفارة لأنهما جنسان مختلفان وإن لبس ثوباً مطيباً وجبت كفارة واحدة لأن الطيب تابع للثوب فدخل في ضمانه وإن لبس ثم لبس أو تطيب في أوقات متفرقة ففيه قولان: أحدهما تتداخل لأنها جنس واحد فأشبه إذا كانت في وقت واحد والثاني لا تتداخل لأنها في أوقات مختلفة فكان لكل وقت من ذلك حكم نفسه وإن حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات فهي على القولين إن قلنا يتداخل لزمه دم وإن قلنا لا يتداخل وجب لكل شعرة مد وإن حلق

تسع شعرات في ثلاثة أوقات فعلى لقولين إن قلنا لا يتداخل وجب ثلاثة دماء وإن قلنا تتداخل لزمه دم واحد. فصل: وإن وطئ في العمرة أو في الحج قبل التحلل الأول فقد فسد نسكه ويجب عليه أن يمضي في فاسده ثم يقضي لما روي عن عمرو وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا ذلك وهل يجب القضاء على الفور أو لا؟ فيه وجهان أحدهما أنه على الفور وهو ظاهر النص لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا يقضي من قابل والثاني أنه على التراخي لأن الأداء على التراخي فكذلك القضاء وهذا لا يصح لأن القضاء بدل عما أفسده من الأداء وذلك واجب على الفور فوجب أن يكون القضاء مثله ويجب الإحرام في القضاء من حيث أحرم في الأداء لأنه قد تعين ذلك بالدخول فيه فإذا أفسده وجب قضاؤه كحج التطوع فإن سلك طريقاً آخر لزمه أن يحرم من مقدار مسافة الإحرام في الأداء وإن كان قارناً فقضاه بالإفراد جاز لأن الإفراد أفضل من القران ولا يسقط عنه دم القران لأن ذلك دم وجب عليه فلا يسقط عنه بالإفساد كدم الطيب وفي نفقة المرأة في القضاء وجهان: أحدهما في مالها كنفقة الأداء والثاني تجب على الزوج لأنها غرامة تتعلق بالوطء فكانت على الزوج كالكفارة وفي ثمن الماء الذي تغتسل به وجهان: أحدهما يجب على الزوج لما ذكرناه والثاني يجب عليها لأن الغسل يجب للصلاة فكان ثمن الماء عليها وهل يجب عليهما أن يفترقا في موضع الوطء؟ فيه وجهان: أحدهما يجب لما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا يفترقان ولأن اجتماعهما في ذلك الوقت يدعو إلى الوطء فمنع منه والثاني أنه لا يجب وهو الظاهر النص كما لا يجب في سائر الطريق ويجب عليه بدنة روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: على كل واحد منهما بدنة فإن لم يجد فبقرة لأن البقرة كالبدنة لأنها تجزئ في الأضحية عن سبعة فإن لم يجد لزمه سبع من الغنم فإن لم يجد قوم البدنة دراهم والدراهم طعاماً فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوماً وقال أبو إسحاق: فيه قول آخر أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة قياساً على فدية الأذى. فصل: وإن كان المحرم صبياً فوطئ عامداً بنيت على القولين فإن قلنا إن عمده خطأ فهو كالناسي وقد بيناه وإن قلنا إن عمده عمد فسد نسكه ووجبت الكفارة وعلى

من تجب فيه قولان: أحدهما في ماله والثاني على الولي وقد بيناه في أول الحج وهل يجب عليه القضاء فيه قولان: أحدهما لا يجب لأنها عبادة تتعلق بالبدن فلا تجب على الصبي كالصوم والصلاة والثاني يجب لأن من فسد الحج بوطئه وجب عليه القضاء كالبالغ فإن قلنا يجب فهل يصح منه في حال الصغر؟ فيه قولان: أحدهما لا يصح لأنه حج واجب فلا يصح من الصبي كحجة الإسلام والثاني يصح لأنه يصح منه أداؤه فصح منه قضاؤه كالبالغ وإن وطئ العبد في إحرامه عامداً فسد حجه ويجب عليه القضاء ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه لأنه ليس من أهل فرض الحج وهذا خطأ لأنه يلزمه الحج بالنذر فلزمه القضاء بالإفساد كالحر وهل يصح منه القضاء في حال الرق؟ على القولين على ما ذكرناه في الصبي فإن قلنا إنه يصح منه القضاء فهل للسيد منعه؟ منه يبنى على الوجهين في أن القضاء على الفور أم لا فإن قلنا إن القضاء على التراخي فله منعه لأن حق السيد على الفور فقدم على الحج وإن قلنا على الفور ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يملك منعه لأن موجب ما أذن فيه وهو الحج فصار كما لو أذن فيه والثاني أنه يملك منعه لأن المأذون فيه حجة صحيحية فإن أعتق بعد التحلل من الفاسد وقبل القضاء لم يجز أن يقضي حتى يحج الإسلام ثم يقضي وإن أعتق قبل التحلل من الفاسد نظرت فإن كان بعد الوقوف مضى في فاسده ثم يحج حجة الإسلام في السنة الثانية ثم يحج عن القضاء في السنة الثالثة وإن أعتق قبل الوقوف مضى في فاسده ثم يقضي ويجزئه ذلك عن القضاء وعن حجة الإسلام لأنه لو لم يفسد لكان أداؤه يجزئه عن حجة الإسلام فإذا فسد وجب أن يجزئه قضاؤه عن حجة الإسلام. فصل: وإن وطئ وهو قارن وجب مع البدنة دم القران لأنه دم وجب بغير الوطء فلا يسقط بالوطء كدم الطيب. فصل: وإن وطئ ثم وطئ ولم يكفر عن الأول ففيه قولان: قال في القديم يجب عليه بدنة واحدة كما لو زنى ثم زنى كفاه لهما حد واحد وقال في الجديد يجب عليه للثاني كفارة أخرى وفي الكفارة الثانية قولان: أحدهما شاة لأنها مباشرة لا توجب الفساد فوجبت فيها شاة كالقبلة بشهوة والثاني يلزمه بدنة لأنه وطء في إحرام منعقد فأشبه الوطء في إحرام صحيح وإن وطئ بعد التحلل الأول لم يفسد حجه لأنه قد زال الإحرام فلا يلحقه فساد وعليه كفارة وفي كفارته قولان: أحدهما بدنة لأنه وطيء في حال يحرم فيه الوطء فأشبه ما قبل التحلل والثاني أنها شاة لأنها مباشرة لا توجب الفساد فكانت كفارته شاة كالمباشرة فيما دون الفرج وإن جامع في قضاء الحج لزمته بدنة ولا يلزمه إلا قضاء حجة واحدة لأن المقضى واحد فلا يلزمه أكثر منه.

فصل: والوطء في الدبر واللواط وإتيان البهيمة كالوطء في القبل في جميع ما ذكرناه لأن الجميع وطء. فصل: وإن قبلها بشهوة أو باشرها فيما دون الفرج بشهوة لم يفسد حجه لأنها مباشرة لا توجب الحد فلم تفسد الحج كالمباشرة بغير شهوة ويجب عليه فدية الأذى لأنه استمتاع لا يفسد الحج فكانت كفارته ككفارة فدية الأذى والطيب والاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج لأنه بمنزلتها في التحريم والتعزير فكان بمنزلتها في الكفارة. فصل: وإن قتل صيد نظرت فإن كان له مثل من النعم وجب عليه مثله من النعم والنعم هي الإبل والبقر والغنم والدليل عليه قوله عز وجل {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فيجب في النعامة بدنة وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة وفي الضبع كبش وفي الغزال عنز وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة لما روي عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن الزبير ومعاوية رضي الله عنهم أنهم قضوا في النعامة ببدنة وعن عمر رضي الله عنه أنه جعل في حمار الوحش بقرة وحكم في الضبع بكبش وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة وعن عثمان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بحلان وهو الحمل فما حكم في الصحابة فلا يحتاج إلى اجتهاد وما لم تحكم في الصحابة يرجع في معرفة المماثلة بينه وبين النعم إلى عدلين من أهل المعرفة لقوله تعالى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً} [المائدة:95] وروى قبيصة بن جابر الأسدي قال: أصبت ظبياً وأنا محرم فأتيت عمر رضي الله عنه ومعي صاحب لي فذكرت له فأقبل على رجل إلى جنبه فشاوره فقال لي: اذبح شاة فلما انصرفنا قلت لصاحبي إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول فسمعني فأقبل علي ضرباً بالدرة وقال: أتقتل صيداً وأنت محرم وتغمص الفتيا أي تحتقرها وتطعن فيها قال الله عز

وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] ها أنا ذا عمر وهذا ابن عوف والمستحب أن يكونا فقيهين وهل يجوز أن يكون القاتل أحدهما؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز أن يكون المتلف للمال أحد المقومين والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأنه يجب عليه لحق الله تعالى فجاز أن يجعل من يجب عليه أميناً فيه كرب المال في الزكاة ويجوز أن يفدى الصغير بالصغير والكبير بالكبير فإن فدى الذكر بالأنثى جاز لأنها أفضل وإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار جاز لأن المقصود فيهما واحد. فصل: وإذا وجب عليه المثل فهو بالخيار بين أن يذبح المثل ويفرقه وبين أن يقومه بالدراهم والدراهم طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوماً لقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة:95] . فصل: وإن جرح صيداً له مثل فنقص قيمته فالمنصوص أنه يجب عليه عشر ثمن المثل وقال بعض أصحابنا يجب عليه عشر المثل وتأول النص عليه إذا لم يجد عشر المثل لأن ما ضمن كله بالمثل ضمن بعضه بالمثل كالطعام والدليل على المنصوص أن إيجاب بعض المثل يشق فوجب العدول إلى القيمة كما عدل في خمس من الإبل إلى الشاة حين شق إيجاب جزء من البعير وإن ضرب صيداً حاملاً فأسقطت ولداً حياً ثم ماتا ضمن الأم بمثلها وضمن الولد بمثله وإن ضربها فأسقطت جنيناً ميتاً والأم حية ضمن ما بين قيمتها حاملاً وحائلاً ولا يضمن الجنين. فصل: وإن كان الصيد لا مثل له من النعم وجب عليه قيمته في الموضع الذي أتلفه فيه لما روي أن مروان سأل ابن عباس رضي الله عنه عن الصيد يصيده المحرم ولا مثل له من النعم قال ابن عباس: ثمنه يهدى إلى مكة ولأنه تعذر إيجاب المثل فيه فضمن بالقيمة كمال الآدمي فإذا أراد أن يؤدي فهو الخيار بين أن يشتري بثمنه طعاماً ويفرقه وبين أن يقوم ثمنه طعاماً ويصوم عن كل مد يوماً وإن كان الصيد طائراً نظرت فإن كان حماماً وهو الذي يعب ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت كالدبسي والقمري والفاختة فإنه يجب فيه شاة لأنه روي ذلك عن عمر وعثمان ونافع بن عبد الحارث وابن

عباس رضي الله عنهم ولأن الحمام يشبه الغنم لأنه يعب ويهدر كالغنم فضمن به وإن كان أصغر من الحمام كالعصفور والبلبل والجراد ضمنه بالقيمة لأنه لا مثل له فضمن بالقيمة وإن كان أكبر من الحمام كالقطا واليعقوب والبط والأوز فيه قولان: أحدهما يجب فيه شاة لأنها إذا وجبت في الحمام فلأن تجب في هذا وهو أكبر أولى والثاني أنه يجب فيها قيمتها لأنه لا مثل لها من النعم فضمن بالقيمة وإن كسر بيض صيد ضمنه بالقيمة وإن نتف ريش طائر ثم نبت ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن والثاني يضمن بناء على القولين فيمن قلع شيئاً ثم نبت. فصل: وإن قتل صيداً بعد صيد لكل واحد منهما جزاء لأنه ضمان متلف فيتكرر بتكرر الإتلاف وإن اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد وجب عليهم جزاء واحد لأنه بدل متلف يتجزأ فإذا اشترك الجماعة في إتلافه قسم البدل بينهم كقيم المتلفات وإذا اشترك حلال وحرام في قتل صيد وجب على المحرم نصف الجزاء ولم يجب على الحلال شيء كما لو اشترك رجل وسبع في قتل آدمي وإن أمسك محرم صيداً فقتله حلال ضمنه المحرم بالجزاء ثم يرجع به على القاتل لأن القاتل أدخله في الضمان فرجع عليه كما لو غصب مالاً من رجل فأتلفه آخر في يده. فصل: وإن جنى على صيد فأزال امتناعه نظرت فإن قتله غيره ففيه طريقان: قال أبو العباس: عليه ضمان ما نقص وعلى القاتل جزاؤه مجروحاً إن كان محرماً ولا شيء عليه إن كان حلالاً وقال غيره فيه قولان: أحدهما عليه ضمان ما نقص لأنه جرح ولم يقتل فلا يلزمه جزاء كامل كما لو بقي ممتنعاً ولأنا لو أوجبنا عليه جزاء كاملاً وعلى القاتل وإن كان محرماً - جزاء كاملاً سوينا بين القاتل والجارح ولأنه يؤدي إلى أن نوجب

على الجارح أكثر مما يجب على القاتل لأنه يجب على الجارح جزاؤه صحيحاً وعلى القاتل جزاؤه مجروحاً وهذا خلاف الأصول والقول الثاني أنه يجب عليه جزاؤه كاملاً لأنه جعله غير ممتنع فأشبه الهالك فأما إذا كسره ثم أخذه وأطعمه وسقاه حتى بريء نظرت فإن عاد ممتنعاً ففيه وجهان كما قلنا فيمن نتف ريش طائر فعاد ونبت فإن لم يعد ممتنعاً فهو على القولين أحدهما يلزمه ضمان ما نقص والثاني يلزمه جزاء كامل. فصل: والمفرد والقارن في كفارات الإحرام واحد لأن القارن كالمفرد في الأفعال فكان كالمفرد في الكفارات. فصل: ويحرم صيد الحرم على الحلال والمحرم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم مكة لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها1" فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر لصاغتنا فقال: إلا الإذخر وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء فإن قتل محرم صيداً في الحرم لزمه جزاء واحد لأن المقتول واحد فكان الجزاء واحدا كما لو

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصيد باب 9، 10. مسلم في كتاب الحج حديث 445. أبو داود في كتاب المناسك باب 89. النسائي في كتاب الحج باب 110. الدارمي في كتاب البيوع باب 60. أحمد في مسنده "1/119، 253".

قتله في الحل وإن اصطاد الحلال صيداً في الحل وأدخله إلى الحرم جاز له التصرف فيه بالإمساك والذبح وغير ذلك مما كان يملكه قبل أن يدخله إلى الحرم لأنه من صيد الحل فلم يمنع من التصرف فيه وإن ذبح الحلال صيداً من صيود الحرم لم يحل له أكله وهل يحرم على غيره فيه طريقان من أصحابنا من قال: هو على قولين كالمحرم إذا ذبح صيداً ومنهم من قال: يحرم ههنا قولاً واحداً لأن الصيد في الحرم محرم على كل أحد فهو كالحيوان الذي لا يؤكل فإن رمى من الحل إلى صيد في الحرم فأصابه لزمه الضمان لأن الصيد في موضع أمنه وإن رمى من المحرم إلى صيد في الحل فأصابه لزمه ضمانه لأن كونه في الحرم يوجب عليه تحريم الصيد فإن رمى من الحل إلى صيد في الحل ومر السهم في موضع من الحرم فأصابه فيه وجهان: أحدهما يضمنه لأن السهم مر من الحرم إلى الصيد والثاني لا يضمنه لأن الصيد في الحل والرمي في الحل وإن كان في الحرم شجرة وأغصانها في الحل فوقعت حمامة على غصن في الحل فرماه من الحل فأصابه لم يضمنه لأن الحمام غير تابع للشجر فهو كطير في هواء الحل وإن رمى صيداً في الحل فعدل السهم فأصاب صيداً في الحرم فقتله لزمه الجزاء لأن العمد والخطأ في ضمان الصيد واحد وإن أرسل كلباً في الحل على صيد في الحل فدخل الصيد الحرم وتبعه الكلب فقتله لم يلزمه الجزاء لأن الكلب اختياراً وقد دخل إلى الحرم باختياره بخلاف السهم قال في الإملاء: إذا أمسك الحلال صيداً في الحل وله فرخ في الحرم فمات الصيد في يده ومات الفرخ لأنه مات في الحرم بسبب من جهته ولا يضمن الأم لأنه صيد في الحل مات في يد الحلال. فصل: وإن دخل كافر إلى الحرم فقتل فيه صيداً فقد قال بعض أصحابنا: يجب عليه الضمان لأنه ضمان يتعلق بالإتلاف فاستوى فيه المسلم والكافر كضمان الأموال ويحتمل عندي أنه لا ضمان عليه لأنه غير ملتزم لحرمة الحرم فلم يضمن صيده. فصل: ويحرم عليه قطع شجر الحرم ومن أصحابنا من قال: ما أنبته الآدميون يجوز قلعه والمذهب الأول لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ولأن ما حرم لحرمة الحرام استوى فيه المباح والمملوك كالصيد ويجب فيه الجزاء فإن كانت شجرة كبيرة ضمنها ببقرة وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه

قال: في الدوحة بقرة وفي الشجرة الجزلة شاة فإن قطع غصناً منها ضمن ما نقص فإن نبت مكانه فهل يسقط عنه الضمان؟ على قولين بناء على القولين في السن إذا قلع ثم نبت ويجوز أخذ الورق ولا يضمنه لأنه لا يضربها وإن قلع شجرة من الحرم لزمه ردها إلى موضعها كما إذا أخذ صيداً منه لزمه تخليته فإن أعادها إلى موضعها فنبتت لم يلزمه شيء وإن لم تبت وجب عليه ضمانها. فصل: ويحرم قطع حشيش الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم "ولا يختلى خلاها" ويضمنه لأنه ممنوع من قطعه لحرمة الحرم فضمنه كالشجر وإن قطع الحشيش فنبت مكانه لم يلزمه الضمان قولاً واحداً لأن ذلك يستخلف في العادة فهو كسن الصبي إذا قلعه فنبت مكانه بخلاف الأغصان ويجوز قطع الإذخر لحديث ابن عباس رضي الله عنه ولأن الحاجة تدعو إليه ويجوز رعي الحشيش لأن الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز كقطع الإذخر ويجوز قطع العوسج والشوك لأنه مؤذ فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب. فصل: ولا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره لما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم وروى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر قال: قدمت مع أمي أو مع جدتي مكة فأتينا صفية بنت شيبة فأرسلت إلى الصفا فقطعت حجراً من جنابه فخرجنا به فنزلنا أول منزل فذكر من علتهم جميعاً فقالت أمي أو جدتي: ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم قال: وكنت أنا أمثلهم فقالت لي: انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها وقل لها: إن الله عز وجل وضع في حرمه شيئاً لا ينبغي أن يخرج منه قال عبد الأعلى: فما هو إلا ان نحينا ذلك فكأنما أنشطنا من عقال ويجوز إخراج ماء زمزم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استهدى راوية من ماء زمزم فبعث إليه براوية من ماء ولأن الماء يستخلف بخلاف التراب والأحجار.

فصل: ويحرم صيد المدينة وقطع شجرها لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرم إبراهيم مكة وإني حرمت المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد1" فإن قتل فيها صيداً ففيه قولان: قال في القديم يسلب القاتل لما روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ سلب رجل قتل صيداً في المدينة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من وجدتموه يقتل صيداً في حرم المدينة فأسلبوه2" وقال في الجديد: لا يسلب لأنه وضع يجوز دخوله بغير إحرام فلا يضمن كصيدوج فإن قلنا يسلب دفع سلبه إلى مساكين المدينة كما يدفع جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة وقال شيخنا القاضي أبو الطيب: يكون سلبه لمن أخذه لأن سعد بن أبي وقاص أخذ سلب القاتل وقال طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: ويحرم قتل صيدوج وهو واد بالطائف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل صيدوج فإن قتل صيداً لم يضمنه بالجزاء ولم يسلب القاتل لأن الجزاء وجب بالشرع والشرع لم يرد إلا في الإحرام والحرم وصيدوج لا يبلغ الحرم في الحرمة فلم يلحق به في الجزاء. فصل: وإذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم لقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فإن ذبحه في الحل وأدخله إلى الحرم نظرت فإن تغير وأنتن لم يجز لأن

_ 1 رواه البخاري في كتاب العلم باب 39. مسلم في كتاب الحج حديث 447، 448. أبو داود في كتاب المناسك باب 89. النسائي في كتاب المناسك باب 120. أحمد في مسنده "1/318، 348". 2 رواه أحمد في مسنده "1/170".

المستحق لحم كامل غير متغير فلم يجزه المنتن المتغير وإن لم يتغير ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة والثاني يجزئه لأن المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم وإن وجب عليه طعام وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم قياساً على الهدي وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان لأنه لا منفعة لأهل الحرم في صيامه فإن وجب عليه هدي وأحصر عن المحرم جاز أن يذبح ويفرق حيث أحصر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحالت كفار قرش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع النحر والله أعلم.

باب صفة الحج والعمرة

باب صفة الحج والعمرة ... باب صفة الحج العمرة إذا أراد دخول مكة وهو محرم بالحج اغتسل بذي طوى لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء وادي طوى بات حتى صلى الصبح فاغتسل ثم دخل من ثنية كداء ويدخل من ثنية كداء من أعلى مكة ويخرج من السفل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى وإذا رأى البيت دعا لما روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة" ويستحب أن يرفع اليد في دعاء لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترفع الأيدي في الدعاء لاستقبال البيت" ويستحب أن يقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن

حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً لما روى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال ذلك ويضيف إليه: "اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام" لما روى أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك. فصل: ويبتدئ بطواف القدوم لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت فإن خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أتى بها قبل الطواف لأنها تفوت والطواف لا يفوت وهذا الطواف سنة لأنه تحية فلم يجب كتحية المسجد ومن شرط الطواف الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام" ومن شرطه ستر العورة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه إلى مكة فنادى ألا لا يطوفن بالبيت مشرك ولا عريان وهل يفتقر إلى النية فيه وجهان: أحدهما يفتقر إلى النية لأنها عبادة تفتقر إلى الستر فافتقرت إلى النية كركعتي المقام والثاني لا يفتقر لأن نية الحج تأتي عليه كما تأتي على الوقوف والسنة أن يضطبع فيجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويكشف الأيمن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فاضطبعوا فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوها على عواتقهم يرملون.

ويطوف سبعاً لما روى جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعاً ثم صلى وإن ترك السبعة لم يجزه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً وقال: "خذوا عني مناسككم1" ولا يجزئه حتى يطوف حول جميع البيت فإن طاف على جدار الحجر لم يجزه لأن الحجر من البيت والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر من البيت" فإن طاف على شاذروان الكعبة لم يجزه لأن ذلك كله من البيت والأفضل أن يطوف بالبيت راجلاً لأنه إذا طاف راكباً زاحم الناس وآذاهم فإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلاً لم يكره الطواف راكباً لما روت أم سلمة رضي الله عنها أنها قدمت مريضة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "طوفي وراء الناس وأنت راكبة" فإن طاف راكباً من غير عذر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً ليراه الناس ويسألوه فإن حمل محرم محرماً به ونويا جميعاً لم يجز عنهما جميعاً لأنه طواف واحد فلا يسقط به طوفان ولمن يكون الطواف فيه قولان: أحدهما للمحمول لأن الحامل كالراحلة والثاني أنه للحامل لأن المحمول لم يوجد منه فعل وإنما الفعل للحامل فكان الطواف له ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود والمستحب أن يستقبل الحجر الأسود

_ 1 رواه النسائي في كتاب المناسك باب 220. أحمد في مسنده "3/318، 366".

لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبله ووضع شفتيه عليه فإن لم يستقبله جاز لأنه جزء من البيت فلا يجب استقباله كسائر أجزاء البيت ويحاذيه ببدنه لا يجزئه غيره وهل تجزئه المحاذاة ببعض البدن فيه قولان قال في القديم: تجزئه محاذاته ببعضه لأنه لما جاز محاذاة بعض الحجر جاز محاذاته ببعض البدن وقال في الجديد يجب أن يحاذيه بجميع البدن لأن ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته بجميع البدن كالاستقبال في الصلاة ويستحب أن يستلم الحجر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود أول ما يطوف ويستحب أن يستفتح الاستلام بالتكبير لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على راحلته كلما أتى على الركن أشار بشيء في يده وكبر وقبله ويستحب أن يقبله لما روى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قبل الحجر ثم قال: والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك وإن لم يمكنه أن يستلم أو يقبل من الزحام أشار إليه بيده لما روى أبو مالك سعد بن طارق عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت فإذا ازدحم الناس على الطواف استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن بيده ولا يشير إلى القبلة بالفم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ويستحب أن يقول عند الاستلام وابتداء الطواف: بسم الله والله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن الذي فيه الحجر وكبر وقال: "اللهم وفاء بعهدك وتصديقاً بكتابك" وعن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول إذا استلم: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما مثله ثم يطوف فيجعل البيت على يساره

ويطوف على يمينه لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ في الطواف أخذ عن يمينه فإن طاف على يساره لم يجزه لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على يمينه وقال: "خذوا عني مناسككم" ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها الترتيب كالصلاة والمستحب أن يدنو من البيت لأنه هو المقصود فكان القرب منه أفضل فإذا بلغ الركن اليماني فالمستحب أن يستلمه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني والأسود ولا يستلم الآخرين ولأنه ركن بنى على قواعد إبراهيم عليه السلام فيسن فيه الاستلام كالركن الأسود ويستحب أن يستلم الركنين في كل طوفة لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركنين في كل طوفة ويستحب كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر ويقبله لأنه مشروع في محل فتكرر بتكرره كالاستلام ويستحب إذا استلم أن يقبل يده لما روى نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده وقبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عند الركن اليماني ملك قائم يقول آمين آمين فإذا مررتم به فقولوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. فصل: والسنة أن يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي في الأربعة لما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً فإن كان راكباً حرك دابته في موضع الرمل وإن كان محمولاً رمل به الحامل ويستحب أن يقول في رمله اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً ويدعو بما أحب من أمر

الدين والدنيا قال في الأم: يستحب أن يقرأ القرآن لأنه موضع ذكر والقرآن من أعظم الذكر فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقض في الأربعة لأنه هيئة في محل فلا يقضي في غيره كالجهر بالقراءة في الأوليين ولأن السنة في الأربع المشي فإذا قضى الرمل في الأربعة أخل بالسنة في جميع الطواف وإذا اضطبع ورمل في طواف القدوم نظرت فإن سعى بعده لم يعد الرمل والاضطباع في طواف الزيارة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً فدل على أنه لم يعد في غيره وإن لم يسع بعده وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في طواف الزيارة لأنه يحتاج إلى الاضطباع للمسعى فكره أن يفعل ذلك في السعي ولا يفعله في الطواف وإن طاف للقدوم وسعى بعده ونسي الرمل والاضطباع في الطواف فهل يقضي في طواف الزيارة؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يقضي لأنه لم يقض فإنه سنة الرمل والاضطباع ومن أصحابنا من قال لا يقضي وهو المذهب لأنه لو جاز أن يقضي الرمل لقضاه في الأشواط الأربعة فإن ترك الرمل والاضطباع والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف جاز ولم يلزمه شيء لأن الرمل والاضطباع هيئة فلم يتعلق بتركها جبران كالجهر والاسرار في القراءة والتورك والافتراش في التشهد والاستلام والتقبيل والدعاء كمال فلا يتعلق به جبران كالتسبيح في الركوع والسجود ولا ترمل المرأة ولا تضطبع لأن في الرمل تلين أعضاؤها وفي الاضطباع ينكشف ما هو عورة منها ويجوز الكلام في الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام" والأفضل أن لا يتكلم لما روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف بالبيت سبعاً لم يتكلم فيه إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات" وإن أقيمت الصلاة وهو في الطواف أو عرضت له حاجة لا بد منها قطع الطواف فإذا فرغ بنى لما

روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بالبيت فلما أقيمت الصلاة صلى مع الإمام ثم بنى على طوافه وإن أحدث وهو في الطواف توضأ وبنى لأنه يجوز إفراد بعضه عن بعض فإذا بطل ما صادفه الحدث منه لم يبطل الباقي فجاز له البناء عليه. فصل: وإذا فرغ من الطواف صلى ركعتي الطواف وهل يجب ذلك أم لا فيه قولان: أحدهما أنها واجبة لقوله عز وجل {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] الأمر يقتضي الوجوب والثاني لا يجب لأنها صلاة زائدة على الصلوات الخمس فلم تجب بالشرع على الأعيان كسائر النوافل والمستحب أن يصليهما عند المقام لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين فإن صلاهما في مكان آخر جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه طاف بعد الصبح ولم ير أن الشمس قد طلعت فركب فلما أتى ذا طوى أناخ راحلته وصلى ركعتين وكان ابن عمر رضي الله عنهما يطوف بالبيت ويصلي ركعتين في البيت والمستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف {قُلْ هُوَ اللَّهُ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم يعود إلى الركن فيستلمه ويخرج من باب الصفا لما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً وصلى ركعتين ثم رجع إلى الحجر فاستلمه ثم خرج من باب الصفا. فصل: ثم يسعى وهو ركن من أركان الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم" فلا يصح السعي إلا بعد طواف فإن سعى ثم طاف لم يعتد بالسعي لما روى ابن عمر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فنحن نصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسعي أن

يمر سبع مرات بين الصفا والمروة لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نبدأ بالذي بدأ الله به" وبدأ بالصفا حتى فرغ من آخر سعيه على المروة فإن مر من الصفا إلى المروة حسب ذلك مرة وإذا رجع من المروة إلى الصفا حسب ذلك مرة أخرى وقال أبو بكر الصيرفي: لا يحتسب رجوعه من المروة إلى الصفا مرة وهذا خطأ لأنه استوفى ما بينهما بالسعي فحسب مرة كما لو بدأ من الصفا وجاء إلى المروة فإن بدأ بالمروة وسعى إلى الصفا فلم يجزه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابدءوا بما بدأ الله به" ويرقى على الصفا حتى يرى البيت فيستقبله ويقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لما روى جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى إذا رأى البيت توجه إليه وكبر ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثم قال مثل هذا ثلاثاً ثم نزل ثم يدعو لنفسه بما أحب من أمر الدين والدنيا لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يدعو بعد التهليل والتكبير لنفسه فإذا فرغ من الدعاء نزل من الصفا ويمشي حتى

يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحو من ستة أذرع فيسعى سعياً شديداً حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى يصعد المروة لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه فإذا صعد مشى حتى يأتي المروة والمستحب أن يقول بين الصفا والمروة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم لما روت صفية بنت شيبة عن امرأة من بني نوفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإن ترك السعي ومشى في الجميع جاز لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يمشي بين الصفا والمروة وقال: إن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير وإن سعى راكباً جاز لما روى جابر قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في طواف حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس ويسألوه والمستحب إذا صعد المروة أن يفعل مثل ما فعل على الصفا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا قال في الأم: فإن سعى بين الصفا والمروة ولم يرق عليهما أجزأه وقال أبو حفص بن الوكيل: لا يجزئه حتى يرقى عليهما ليتيقن أنه استوفى السعي بينهما وهذا لا يصح لأن المستحق هو السعي بينهما وقد فعل ذلك وإن كانت امرأة ذات جمال فالمستحب أن تطوف وتسعى ليلاً فإن فعلت ذلك نهاراً مشت في موضع السعي وإن اقيمت الصلاة أو عرض عارض قطع السعي فإذا فرغ بنى لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بين الصفا والمروة فأعجله البول فتنحى ودعا بماء فتوضأ ثم قام فأتم على ما مضى. فصل: ويخطب الإمام اليوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة ويأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى وهي إحدى الخطب الأربع المسنونة في الحج والدليل عليه ما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم ويخرج إلى منى في اليوم الثامن ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويثبت بها إلى أن يصلي الصبح لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم التروية بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة فإذا طلعت الشمس سار إلى الموقف لما روى جابر رضي الله عنه قال: ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ثم ركب فأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها فإذا زالت الشمس

خطب الإمام وهي الخطبة الثانية من الخطب الأربع فيخطب خطبة خفيفة ويجلس ثم يقوم إلى الثانية ويبتدئ المؤذن بالأذان حتى يكون فراغ الإمام مع فراغ المؤذن لما روي أن سالم بن عبد الله قال للحجاج: إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال ابن عمر رضي الله عنهما: صدق ثم يصلي الظهر والعصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: ثم يروح إلى عرفة ويقف والوقوف ركن من أركان الحج لما روى عبد الرحمن الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج1" والمستحب أن يغتسل لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل إذا راح إلى عرفة ولأنه قربة يجتمع بها الخلق في موضع واحد فشرع لها الغسل كصلاة الجمعة والعيد ويصح الوقوف في جميع عرفة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرفة كلها موقف2" والأفضل أن يقف عند الصخرات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات وجعل بطن ناقته إلى الصخرات ويستحب أن يستقبل القبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة ولأنه إذا لم يكن بد من جهة فجهة القبلة أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير المجالس ما استقبل به القبلة" ويستحب الإكثار من الدعاء وأفضله لا إله إلا الله وحده لا شريك له لما روى طلحة بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الدعاء يوم عرفة وافضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله

_ 1 رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 28. مسلم في كتاب الحج باب 57. الموطأ في كتاب الوقوت حديث 15، 17. 2 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 149. أبو داود في كتاب الصوم باب 5. الترمذي في كتاب الحج باب 54. الموطأ في كتاب الحج حديث 166، 167.

وحده لا شريك له1" ويستحب أن يرفع يديه لما روى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ترفع الأيدي عند الموقفين" يعني عرفة والمشعر الحرام وهل الأفضل أن يكون راكباً أم لا؟ فيه قولان: قال في الأم: النازل والراكب سواء وقال في القديم والإملاء: الوقوف راكباً أفضل وهو الصحيح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف راكباً ولأن الراكب أقوى على الدعاء فكان الركوب أولى ولهذا كان الإفطار بعرفة أفضل لأن المفطر أقوى على الوقوف والدعاء وأول وقته إذا زالت الشمس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال وقد قال صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم وآخر وقته إلى أن يطلع الفجر الثاني لحديث عبد الرحمن الديلي فإن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائماً أو قاعداً أو مجتازاً فقد أدرك الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى هذه الصلاة معنا وقد قام قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه" وإن وقف وهو مغمى عليه لم يدرك الحج وإن وقف وهو نائم فقد أدرك الحج لأن المغمى عليه ليس من أهل العبادات والنائم من أهل العبادات ولهذا لو أغمي عليه في جميع نهار الصوم لم يصح صومه وإن نام في جميع النهار صح صومه وإن وقف وهو لا يعلم أنه عرفة فقد أدرك لأنه وقف بها وهو مكلف فأشبه إذا علم أنها عرفة والسنة أن يقف بعد الزوال إلى أن تغرب الشمس لما روى علي كرم الله وجهه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ثم أفاض حين غابت الشمس فإن دفع منها قبل الغروب نظرت فإن رجع إليها قبل طلوع الفجر لم يلزمه شيء لأنه جمع في الوقوف بين الليل والنهار فأشبه إذا أقام بها إلى أن غربت الشمس فإن لم يرجع قبل طلوع الفجر أراق دماً وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك نسكاً فعليه دم" لأنه نسك يختص بمكان فجاز أن يجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات والثاني أنه يستحب لأنه وقف في إحدى زماني الوقوف فلا يلزمه دم للزمان الآخر كما لو وقف في الليل دون النهار. فصل: وإذا غربت الشمس دفع إلى المزدلفة لحديث علي كرم الله وجهه ويمشي

_ 1 رواه الموطأ في كتاب القرآن حديث 32. كتاب الحج حديث 246.

وعليه السكينة لما روى الفضل ابن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس عشية عرفة وغداة جمع حين دفعوا "عليكم بالسكينة" فإذا وجد فرجة أسرع لما روى أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ويجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة على ما بيناه في كتاب الصلاة فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها جاز لأن الجمع رخصة لأجل السفر فجاز له تركه ويثبت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء واضجع حتى إذا طلع الفجر صلى الفجر وفي أي موضع من المزدلفة بات أجزأه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر1" وهل يجب المبيت بمزدلفة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما يجب لأنه نسك مقصود في موضع فكان واجباً كالرمي والثاني أنه سنة لأنه مبيت فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة فإن قلنا إنه يجب وجب تركه الدم وإن قلنا أنه سنة لم يجب بتركه الدم ويستحب أن يؤخذ منها

_ 1 رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 56. النسائي في كتاب المناسك باب 211. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 55. الموطأ في كتاب الحج حديث 166. أحمد في مسنده "1/72".

حصى جمرة العقبة لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غداة يوم النحر القط لي حصى فلقطت له حصيات مثل حصى الحذف ولأن السنة إذا أتى منى لا يعرج على غير الرمي فاستحب أن يأخذ الحصى حتى لا يشغل عن الرمي وإن أخذ الحصى من غيرها جاز لأن الاسم يقع عليه ويصلي الصبح بالمزدلفة في أول الوقت وتقديمها أفضل لما روى عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا المغرب والعشاء بجمع وصلاة الفجر يومئذ قبل ميقاتها ولأنه يستحب الدعاء بعدها فاستحب تقديمها ليكثر الدعاء فإن صلى وقف على قزح وهو المشعر الحرام ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب القصواء حتى رقى على المشعر الحرام واستقبل القبلة فدعا الله عز وجل وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس والمستحب أن يدفع قبل طلوع الشمس لحديث جابر فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس كره لما روى المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس على رؤوس الجبال كأنهم عمائم الرجال في وجوههم وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك" فإن قدم الدفع بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ثبطة فاستأذنت سول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل

الإفاضة ليلاً في ليلة المزدلفة فإذن لها والمستحب إذا دفع من المزدلفة أن يمشي وعليه السكينة لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس وإذا وجد فرجة أسرع كما يفعل في الدفع من عرفة والمستحب إذا بلغ وادي محسر أن يسرع إن كان ماشياً ويحرك دابته إذا كان راكباً بقدر رمية حجر لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك قليلاً في وادي محسر. فصل: وإذا أتى منى بدأ برمي مرة العقبة وهو من واجبات الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى وقال خذوا عني مناسككم والمستحب أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وإن رمى بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر أجزأه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها والمستحب أن يرمي من بطن الوادي وأن يكون راكباً وأن يكبر مع كل حصاة لما روت أم سليم رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب وهو يكبر مع كل حصاة والمستحب أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه لأن ذلك أعون على الرمي ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روى الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلبي حتى رمى حتى رمى جمرة العقبة ولأن التلبية للإحرام فإذا رمى فقد شرع في التحلل فلا معنى للتلبية ولا يجوز الرمي إلا بالحجر فإن رمى بغيره من مدر أو حذف لم يجزه لأنه لا يقع عليه اسم الحجر والمستحب أن يرمي بمثل حصى الخذف وهو بقدر الباقلا لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: عليكم بمثل حصى الخذف فإن رمى بحجر كبير أجزأه لأنه يقع عليه اسم الحجر ولا يرمي بحجر قد رمى به لأن ما قبل منها يرفع ومالا يقبل منها يترك والدليل عليه ما روى أبو سعيد قال: قلنا يا رسول الله: إن هذه الجمار ترمى كل عام فنحسب أنها تنقص قال: أما إنه ما يقبل منها يرفع ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال فإن رمى بما رمى به أجزأه لأنه يقع عليه الاسم ويجب أن يرمي فإن أخذ الحصاة وتركها في المرمى لم يجزه لأنه لم يرم ويجب أن يرميها واحدة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى واحدة واحدة وقال: {خذوا عني

مناسككم} ويجب أن يقصد بالرمي إلى المرمى فإن رمى حصاة في الهواء فوقع في المرمى لم يجزه لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى وإن رمى حصاة فوقعت على الأخرى ووقعت الثانية في المرمى لم يجزه لأنه لم يقصد رمي الثانية وإن رمى حصاة فوقعت على محمل أو أرض فازدلفت ووقعت على المرمى أجزأه لأنه حصل في المرمى بفعله وإن رمى فوق المرمى فتدحرج لتصويب المكان الذي أصابه فوقع في المرمى ففيه وجهان: أحدهما أنه يجزئه لأنه لم يوجد في حصوله في المرمى فعل غيره والثاني لا يجزئه لأنه لم يقع في المرمى بفعله وإنما أعان عليه تصويب المكان فصار كما لو وقع في ثوب رجل فنفضه حتى وقع في المرمى. فصل: وإذا فرغ من الرمي ذبح هدياً إذا كان معه لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ويجوز النحر في جميع منى لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مى كلها منحر. فصل: ثم يحلق لما روى أنس قال: لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وفرغ من نسكه ناول الحالق شكه الأيمن فحلقه ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه فإن لم يحلق وقصر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا والحلق افضل لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله المحلقين" قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: "رحم الله المحلقين" قالوا يا رسول الله والمقصرين قال في الرابعة "والمقصرين" وأقل ما يحلق ثلاث شعرات لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فأشبهه الجميع والأفضل أن يحلق الجميع لحديث أنس وإن كان أصلع فالمستحب أن يمر الموسى على رأسه لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في الأصلع يمر الموسى على رأسه ولا يجب ذلك لأنه قربة تتعلق بمحل فسقطت بفواته كغسل اليد إذا قطعت وإن كانت امرأة قصرت ولم تحلق لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير ولأن الحلق في النساء مثلة فلم يفعل وهل الحلاق نسك أو استباحة محظور؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس بنسك لأنه محرم في الإحرام فلم يكن نسكاً كالطيب والثاني أنه نسك وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" فإن حلق قبل الذبح جاز لما روى عبد الله بن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى

فجاءه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت رأسي قبل أن أذبح فقال اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال: "إرم ولا حرج" فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال إفعل ولا حرج فإن حلق قبل الرمي فإن قلنا إن الحلق نسك جاز لما روى ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل حلق قبل أن يذبح أو قبل أن يرمي يقول: "لا حرج لا حرج" وإن قلنا إنه استباحة محظور لم يجز لأنه فعل محظور فلم يجز قبل الرمي من غير عذر كالطيب. فصل: والسنة أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى وهي أحد الخطب الأربع ويعلم الناس الإفاضة والرمي وغيرهما من المناسك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر بعد رميه الجمرة فكان في خطبته: "إن هذا يوم الحج الأكبر" ولأن في هذا اليوم وما بعده مناسك تحتاج إلى العلم بها فسن فيه الخطبة لذلك. فصل: ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ثم ركب فأفاض إلى البيت وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به والأصل فيه قوله عز وجل {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وروت عائشة أن صفية رضي الله عنهما حاضت فقال صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي"؟ فقلت يا رسول الله إنها قد أفاضت فقال: "فلا إذاً" فدل على أنه لابد من فعله وأول وقته إذا انتصفت ليلة النحر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت والمستحب أن يطوف يوم النحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر فإن أخره إلى بعده وطاف جاز لأنه أتى به بعد دخول الوقت. فصل: وإذا رمى وحلق وطاف حصل له التحلل الأول والثاني وبأي شيء حصل التحلل؟ إن قلنا إن الحلق نسك حصل له التحلل الأول باثنتين من ثلاثة وهي الرمي والحلق والطواف وحصل له الخلل الثاني بالثالث وإن قلنا إن الحلق ليس بنسك حصل

له التحلل الأول بواحد من اثنين الرمي والطواف وحصل له التحلل الثاني بالثاني وقال أبو سعيد الاصطخري: إذا دخل وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم كما إذا فات وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم والمذهب الأول لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء" فعلق التحلل بفعل الرمي ولأن ما تعلق به التحلل لم يتعلق بدخول وقته كالطواف ويخالف إذا فات فإن بفوات الوقت يسقط فرض الرمي كما يسقط بفعله وبدخول الوقت لا يسقط الفرض فلم يحصل به التحلل وفيما يحل بالتحلل الأول والثاني قولان: أحدهما وهو الصحيح أنه يحل بالأول جميع المحظورات إلا الوطء وبالثاني يحل الوطء لحديث عائشة رضي الله عنها والقول الثاني أنه يحل بالأول كل شيء إلا الطيب والنكاح والاستمتاع بالنساء وقتل الصيد لما روى مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا رميتم الجمرة فقد أحل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء والصيد والصحيح هو الأول لأن حديث عمر مرسل ولأن السنة مقدمة عليه هذا إذا كان قد سعى عقيب طواف القدوم فأما إذا لم يسع وقف التحلل على الطواف والسعي لأن السعي ركن كالطواف. فصل: وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى وأقام بها أيام التشريق يرمي في كل يوم الجمرات الثلاث كل جمرة بسبع حصيات فيرمي الجمرة الأولى وهي التي مسجد الخيف ويقف قدر سورة البقرة يدعو الله عز وجل ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف ويدعو كما ذكرناه ثم يرمي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ولا يقف عندها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة حتى صلى الظهر ثم رجع إلى منى فأقام بها أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار فيرمي الجمرة الأولى إذا زالت الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يقف ويدعو ثم يأتي الجمرة الثانية فيقول مثل ذلك ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ولا يقف عندها ولا يجوز أن يرمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة إلا مرتباً بالأولى ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى هكذا وقال: {خذوا

عني منسككم} فإن نسي حصاة ولم يعلم من أي الجمار تركها جعلها من الجمرة الأولى ليسقط الفرض بيقين ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لأن عائشة رضي الله عنها قالت: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار الثلاث حين تزول الشمس فإن ترك الرمي في اليوم الثالث سقط الرمي لأنه فات أيام الرمي ويجب عليه دم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً فعليه دم" فإن ترك الرمي في اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو ترك الرمي في اليوم الثاني إلى الثالث فالمشهور من المذهب أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد فما ترك في الأول يرميه في اليوم الثاني وما تركه في اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث والدليل عليه أنه يجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا رمي يوم إلى يوم بعده فلو لم يكن اليوم الثاني وقتاً لرمي اليوم الأول لما جاز الرمي فيه وقال في الإملاء: رمي كل يوم مؤقت بيومه والدليل عليه أنه رمي مشروع في يوم ففات بفواته كرمي اليوم الثالث فإن تدارك عليه رمي يومين أو ثلاثة أيام فإن قلنا بالمشهور بدأ ورمي عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني ثم عن اليوم الثالث فإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجزئه لأنه ترك الترتيب والثاني أنه يجزئه عن الأول لأن الرمي مستحق عن اليوم الأول فانصرف إليه كما لو طاف بنية الوداع وعليه طواف الفرض وإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت بيومه وفات اليوم ولم يرم ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الرمي يسقط وينتقل إلى الدم كاليوم الخير والثاني أنه يرمي ويريق دماً للتأخير كما لو أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يصوم ويفدي والثالث أنه يرمي ولا شيء عليه كما لو ترك الوقوف بالنهار فإنه يقف بالليل ولا دم عليه فعلى هذا إذا رمى عن اليوم الثاني قبل اليوم الأول جاز لأنه قضاء فلا يجب فيه الترتيب كصلوات الفائتة وأما إذا نسي رمي يوم النحر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كرمي أيام التشريق فيرمي رمى يوم النحر في أيام التشريق وتكون أيام التشريق وقتاً له وعلى قوله في الإملاء يكون على الأقوال الثلاثة ومن أصحابنا من قال يسقط رمي يوم النحر قولاً واحداً لأنه خالف رمي أيام التشريق في المقدار والمحل خالفه في الوقت ومن ترك

رمي الجمار الثلاث في يوم لزمه دم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً فعليه دم" فإن ترك ثلاث حصيات فعليه دم لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو ترك الجميع وإن ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يجب عليه ثلث دم والثاني مد والثالث درهم وإن ترك حصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثاً دم وفي الثاني مدان وفي الثالث درهمان وإن ترك الرمي في أيام التشريق وقلنا بالقول المشهور إن الأيام كاليوم الواحد لزمه دم كاليوم الواحد فإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت لزمه ثلاثة دماء وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق فإن قلنا إن رمي يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على القول المشهور دم واحد وإن قلنا إنه ينفرد عن رمي أيام التشريق فإن قلنا إن رمي أيام التشريق كرمي اليوم الواحد لزمه دمان وإن قلنا إن رمي كل يوم موقت بيومه لزمه أربعة دماء. فصل: ومن عجز عن الرمي بنفسه لمرض مأيوس منه أو غير مأيوس جاز أن يستنيب من يرمي عنه لأن وقته ضيق وربما فات قبل أن يرمي بخلاف الحج فإنه على التراخي فلا يجوز لغير المأيوس أن يستنيب لأنه قد يبرأ فيؤديه بنفسه والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر ويرمي النائب فإن رمى عنه النائب ثم بريء من المرض فالمستحب أن يعيد بنفسه وإن أغمي عليه فرمى عنه غيره فإن كان بغير إذنه لم يجزه وإن كان قد أذن له فيه قبل أن يغمى عليه جاز. فصل: ويبيت بمنى ليال الرمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما أنه مستحب لأنه مبيت فلم يجب كالمبيت ليلة عرفة والثاني أنه يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس في ترك المبيت لأجل السقاية فدل على أنه لا يجوز لغيره تركه فإن قلنا إنه يستحب لم يجب بتركه الدم وإن قلنا يجب وجب بتركه الدم فعلى هذا إذا ترك المبيت في الليالي الثلاث وجب عليه دم وإن ترك ليلة ففيه ثلاثة أقوال على ما ذكرناه في الحصاة. فصل: ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية العباس رضي الله عنه أن يدعو المبيت ليالي

منى ويرموا يوماً ويدعوا يوماً ثم يرموا ما فاتهم والدليل عليه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليلة منى من أجل سقايته وروى عاصم بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل في ترك البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون يوم النفر فإن أقام الرعاة إلى أن تغرب الشمس لم يجز لهم ترك المبيت وإن أقام أهل السقاية إلى أن تغرب الشمس جاز لهم ترك المبيت لأن حاجة أهل السقاية بالليل موجودة وحاجة الرعاة لا تكون بالليل لأن الراعي لا يكون بالليل ومن أبق له عبد ومضى في طلبه أو خاف أمراً يفوته ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجوز له ما يجوز للرعاة وأهل سقاية العباس لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعي وأهل السقاية والثاني أنه يجوز لأنه صاحب عذر فأشبه الرعاة وأهل السقاية. فصل: والسنة أن يخطب الإمام يوم النفر الأول وهو اليوم الأوسط من أيام التشريق وهي إحدى الخطب الأربع ويودع الحاج ويعلمهم جواز النفر ولأنه يحتاج فيه إلى بيان من يجوز له النفر ومن لا يجوز ومن أراد أن ينفر مع النفر الأول فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل غروب الشمس سقط عنه الرمي في اليوم الثالث ومن لم ينفر

حتى غربت الشمس لزمه أن يقيم حتى يرمي في اليوم الثالث لقوله عز وجل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] وإن نفر قبل الغروب ثم عاد زائراً أو ليأخذ شيئاً نسيه لم يلزمه المبيت لأنه حصلت له الرخصة بالغفر فإن بات لم يلزمه أن يرمي لأنه لم يلزمه المبيت فلا يلزمه الرمي ويستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به فإن ترك النزول بالمحصب لم يؤثر ذلك في نسكه لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحصب ليس بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: نزول المحصب ليس من النسك إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: إذا فرغ من الحج فأراد المقام لم يكلف طواف الوداع فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف للوداع وهل يجب طواف الوداع أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت1" والثاني لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه فإن قلنا إنه واجب وجب بتركه الدم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكاً فعليه دم" وإن قلنا لا يجب لم يجب بتركه دم لأنه سنة فلا يجب بتركه دم كسائر سنن الحج وإن طاف الوداع ثم أقام لم يعتد بعد طوافه عن الوداع لأنه لا توديع مع المقام فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زاداً لم يعد الطواف لأنه لا يصير بذلك مقيماً وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكر فإن قلنا إنه واجب نظرت فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه دم فإن عاد وطاف لم يسقط الدم لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول فإن ذكر وهو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم لأنه في حكم المقيم ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض فإن نفرت الحائض ثم طهرت فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف فإذا

_ 1 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 379. أبو داود في كتاب المناسك باب 83. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 82. الدارمي في كتاب المناسك باب 85. أحمد في مسنده "1/222".

فرغ من طواف الوداع فالمستحب أن يقف في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيدعو ويقول: اللهم إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم أصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني فإنه قد روي ذلك عن بعض السلف ولأنه دعاء يليق بالحال ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. فصل: وإن كان محرماً بالعمرة وحدها وأراد دخول مكة فعلى ما ذكرناه في الدخول للحج فإذا دخل مكة طاف وسعى وحلق وذلك جميع أفعال العمرة والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة وأما من أهل بالحج والعمرة فلم يحلوا إلا يوم النحر فإن كان قارناً بين الحج والعمرة فعل ما يفعله المفرد بالحج فيقتصر على طواف واحد وسعي واحد والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد ولأنه يدخل فيهما بتلبية واحدة ويخرج منهما بحلاق واحد فوجب أن يطوف لهما طوافاً واحداً ويسعى لهما سعياً واحداً كالمفرد بالحج. فصل: وأركان الحج أربعة: الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة والسعي

بين الصفا والمروة وواجباته الإحرام من الميقات والرمي والوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى في ليالي الرمي وفي طواف الوداع قولان: أحدهما أنه واجب والثاني أنه ليس بواجب وسنته الغسل وطواف القدوم والرمل والاضطباع في الطواف والسعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية وأفعال العمرة كلها أركان إلا الحلق فمن ترك ركناً لم يتم نسكه ولم يتحلل حتى يأتي به ومن ترك واجباً لزمه الدم ومن ترك سنة لم يلزمه شيء. فصل: ويستحب دخول البيت لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفوراً له" ويستحب أن يصلي فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإنه أفضل بمائة صلاة1" ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماء زمزم لما شرب له2". فصل: ويستحب إذا خرج من مكة أن يخرج من أسفلها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة من أعلاها وخرج من أسفلها قال أبو عبد الله الزبيري: ويخرج وبصره إلى البيت حتى يكون آخر عهده بالبيت. فصل: ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" ويستحب أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد" وبالله التوفيق.

_ 1 رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 505 – 510. النسائي في كتاب المناسك باب 124. الترمذي في كتاب المواقيت باب 126. الموطأ في كتاب القبلة حديث 9. 2 رواه ابن ماجه في كتاب المناسك باب 78.

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار من أحرم بالحج ولم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمل عمرة وهي الطواف والسعي والحلق ويسقط عنه المبيت والرمي

وقال المزني: لا يسقط المبيت والرمي كما لا يسقط الطواف والسعي وهذا خطأ لما روى الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن فاته الحج: تحلل بعمل عمرة وعليك الحج من قابل وهدي ولأن المبيت والرمي من توابع الوقوف ولهذا لا يجب على المعتمر حين لم يجب عليه الوقوف وقد سقط الوقوف ههنا فسقطت توابعه بخلاف الطواف والسعي فإنهما غير تابعين للوقوف فبقي فرضهما ويجب عليه القضاء لحديث عمر رضي الله عنه ولأن الوقوف معظم الحج والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" وقد فاته ذلك فوجب قضاؤه وهل يجب القضاء على الفور أم لا؟ فيه وجهان كما ذكرناه فيمن أفسد الحج ويجب هدي لقول عمر رضي الله عنه ولأنه تحلل من الإحرام قبل التمام فلزمه الهدي كالمحصر ومتى يجب الهدي فيه وجهان: أحدهما يجب مع القضاء لقول عمر رضي الله عنه ولأنه كالمتمتع ودم التمتع لا يجب إلا إذا أحرم بالحج والثاني يجب في عامه كدم الإحصار فإن أخطأ الناس فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر لم يجب عليهم القضاء لأن الخطأ في ذلك إنما يكون بأن يشهد اثنان برؤية الهلال قبل الشهر بيوم فوقفوا يوم الثامن بشهادتهما ثم بان كذبهما أو غم عليهم الهلال فوقفوا يوم العاشر ومثل هذا لا يؤمن في القضاء فسقط. فصل: ومن أحرم فأحصره عدو نظرت فإن كان العدو من المسلمين فالأولى أن يتحلل ولا يقاتله لأن التحلل أولى من قتال المسلمين وإن كان من المشركين لم يجب عليه القتال لأن قتال الكفار لا يجب إلا إذا بدءوا بالحرب وإن كان بالمسلمين ضعف وفي العدو قوة فالأولى أن لا يقابلهم لأنه ربما انهزم المسلمون فيلحقهم وهن وإن كان في المسلمين قوة وفي المشركين ضعف فالأفضل أن يقاتلهم ليجمع بين نصرة الإسلام وإتمام الحج فإن طلبوا مالاً لم يجب إعطاء المال لأن ذلك ظلم ولا يجب الحج مع احتمال الظلم فإن كانوا مشركين كره أن يدفع إليهم لأن في ذلك صغاراً على الإسلام

فلا يجب احتماله من غير ضرورة وإن كانوا مسلمين لم يكره فصل: وإن أحصره العدو عن الوقوف أو الطواف أو السعي فإن كان له طريق آخر يمكنه الوصول منه إلى مكة لم يجز له التحلل قرب أو بعد لأنه قادر على أداء النسك فلا يجوز له التحلل بل يمضي ويتم النسك وإن سلك الطريق الآخر ففاته الحج تحلل بعد عمرة وفي القضاء قولان: أحدهما يجب عليه لأنه فاته الحج فأشبه إذا أخطأ العدد والثاني لا يجب عليه لأنه تحلل من غير تفريط فلم يلزمه القضاء كما لو تحلل بالإحصار فإن أحصر ولم يكن له طريق آخر جاز له أن يتحلل لقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون في الحديبية فتحلل ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر سنين فتلحقه المشقة العظيمة في البقاء على الإحرام وقد قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فإن كان الوقت واسعاً فالأفضل أن لا يتحلل لأنه ربما زال الحصر وأتم النسك وإن كان الوقت ضيقاً فالأفضل أن يتحلل حتى لا يفوته الحج فإن اختار التحلل نظرت فإن كان واجداً للهدي لم يجز له أن يتحلل حتى يهدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فإن كان في الحرم ذبح الهدي فيه وإن كان في غير الحرم ولم يقدر على الوصول إلى الحرم ذبح الهدي حيث أحصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية وهي خارج الحرم وإن قدر على الوصول إلى الحرم ففيه وجهان: أحدهما إنه يجوز أن يذبح في موضعه لأنه موضع تحلله فجاز فيه الذبح كما لو أحصر في الحرم والثاني لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم لأنه قادر على الذبح في الحرم فلا يجوز أن يذبح في غيره كما لو أحصر فيه ويجب أن ينوي بالهدي التحلل لأن الهدي قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميز بينهما ثم يحل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية فإن قلنا إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق وإن قلنا إنه ليس بنسك حصل له التحلل بالنية والهدي وإن كان عادماً للهدي ففيه قولان: أحدهما لا بدل للهدي لقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فذكر الهدي ولم يذكر له بدلاً ولو كان بدل لذكره كما ذكره في جزاء الصيد والقول الثاني له بدل لأنه دم يتعلق وجوبه بالإحرام فكان له بدل كدم التمتع فإن قلنا لا بدل للهدي فهل يتحلل فيه قولان: أحدهما لا يتحلل حتى يجد الهدي لأن الهدي شرط في التحلل فلا يجوز التحلل قبله والثاني أنه يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على

الإحرام إلى أن يجد الهدي أدى ذلك إلى المشقة فإن قلنا له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال: أحدها الإطعام والثاني الصيام والثالث أنه مخير بين الصيام والإطعام وإن قلنا إن بدله الإطعام ففي الإطعام وجهان: أحدهما إطعام التعديل كالإطعام في جزاء الصيد لأنه أقرب إلى الهدي ولأنه يستوفي قيمة الهدي والثاني إطعام فدية الأذى لأنه وجب للترفه فهو كفدية الأذى وإن قلنا إن بدله الصوم ففي صومه ثلاثة أوجه أحدها صوم التمتع لأنه وجب للتحلل كما وجب صوم التمتع للتحلل بين الحج والعمرة في أشهر الحج والثاني صوم التعديل لأن ذلك أقرب إلى الهدي لأنه يستوفي قيمة الهدي ثم يصوم عن كل مد يوماً والثالث صوم فدية الأذى لأنه وجب للترفه فهو كصوم فدية الأذى فإن قلنا أنه مخير فهو بالخيار بين صوم فدية الأذى وبين إطعامها لأنا بينا أنه في معنى فدية الأذى فإن أوجبنا عليه الإطعام - وهو واجد - أطعم وتحلل وإن كان عادماً له فهل يتحلل أم لا يتحلل حتى يجد الطعام على القولين كما قلنا في الهدي وإن أوجبنا الصيام فهل يتحلل قبل أن يصوم؟ فيه وجهان: أحدهما لا يتحلل كما لا يتحلل بالهدي حتى يهدي والثاني يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام إلى أن يفرغ من الصيام أدى إلى المشقة لأن الصوم يطول فإذا تحلل نظرت فإن كان في حج تقدم وجوبه بقي الوجوب في ذمته وإن كان في تطوع لم يجب القضاء لأنه تطوع أبيح له الخروج منه فإذا خرج لم يلزمه القضاء كصوم التطوع وإن كان الحصر خاصاً بأن منعه غريمه ففيه قولان: أحدهما لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في الحصر العام والثاني يلزمه لأنه تحلل قبل الإتمام بسبب يختص به فلزمه القضاء كما لو ضل الطريق ففاته الحج وإن أحصر فلم يتحلل حتى فاته الوقوف نظرت فإن زال العذر وقدر على الوصول تحلل بعمل عمرة ولزمه القضاء وهدي للفوات وإن فاته والعذر لم يزل تحلل ولزمه القضاء وهدي للفوات وهدي للإحصار فإن أفسد الحج ثم أحصر تحلل لأنه إذا تحلل من الحج الصحيح فلأن يتحلل من الفاسد أولى فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف لزمه ثلاثة دماء: دم الفساد ودم الفوات ودم الإحصار ويلزمه قضاء واحد لأن الحج واحد. فصل: ومن أحرم فأحصره غريمه وحبسه ولم يجد ما يقضي دينه فله أن يتحلل لأنه يشق البقاء على الإحرام كما يشق بحبس العدو وإن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلل لأنه لا يتخلص بالتحلل من الأذى الذي هو فيه فلا يتحلل كمن ضل الطريق. فصل: وإن أحرم العبد بغير إذن المولى جاز للمولى أن يحلله لأن منفعته مستحقة

له فلا يملك إبطالها عليه بغير رضاه فإن ملكه السيد مالاً وقلنا إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه أو ملكه وقلنا إنه لا يملك فهو كالحر المعسر وهل يتحلل قبل الهدي أو الصوم على ما ذكرناه من القولين في الحر ومن أصحابنا من قال يجوز للعبد أن يتحلل قبل الهدي والصوم قولاً واحداً لأن على المولى ضرراً في بقائه على الإحرام لأنه ربما يحتاج أن يستخدمه في قتل صيد أو إصلاح طيب وإن أحرم بإذن المولى لم يجز له أن يحلله لأنه عقد لازم عقده بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه كالنكاح وإن أحرم المكاتب بغير إذن المولى ففيه طريقان: أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في سفره للتجارة ومن أصحابنا من قال له أن يمنعه قولاً واحداً لأن في سفر الحج ضرراً على المولى من غير منفعة وسفر التجارة فيه منفعة للمولى. فصل: وإن أحرمت المرأة بغير إذن الزوج فإن كان في تطوع جاز له أن يحللها لأن حق الزوج واجب فلا يجوز إبطاله عليه بتطوع وإن كان في حجة الإسلام ففيه قولان: أحدهما أن له أن يحللها لأن حقه على الفور والحج على التراخي فقدم حقه والثاني أنه لا يملك لأنه فرض فلا يملك تحليلها منه كالصوم والصلاة وإن أحرم الولد بغير إذن الأبوين فإن كان في حج فرض لم يجز لهما تحليله لأنه حج فرض فلم يجز إخراجه منه كالصوم والصلاة وإن كان في حج تطوع ففيه قولان: أحدهما يجوز لهما تحليله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد أن يجاهد وله أبوان قال: "ففيهما فجاهد" فمنع من الجهاد لحقهما وهو فرض فدل على أن المنع من التطوع لحقهما أولى والثاني لا يجوز لأنها قربة لا مخافة عليه فيها فلا يجوز لهما تحليله منها كالصوم. فصل: إذا أحرم وشرط التحلل لغرض صحيح مثل إن شرط أنه إذا مرض تحلل أو إذا ضاعت نفقته تحلل ففيه طريقان: أحدهما أنه لا يثبت الشرط لأنه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر فلم يجز التحلل منها بالشرط كالصلاة المفروضة والثاني أنه يثبت الشرط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب قالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أن أهل؟ قال أهلي واشترطي أن تحلي حيث حبستني فدل على جواز الشرط ومنهم من قال: يصح الشرط قولاً واحداً لأنه علق أحد القولين على صحة حديث ضباعة وقد صح حديث ضباعة فعلى هذا إذا شرط أنه إذا مرض تحلل لم يتحلل إلا بالهدي وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالاً فمرض صار حلالاً ومن أصحابنا من قال لا يتحلل إلا بالهدي لأنه مطلق كلام الآدمي يحمل على ما تقرر في الشرع والذي تقرر بالشرع أنه لا يتحلل إلا بالهدي وأما إذا

شرط أنه يخرج منه إذا شاء أو يجامع فيه إذا شاء لم يجز لأنه خروج من غير عذر فلم يصح شرطه. فصل: إذا أحرم ثم ارتد ففيه وجهان: أحدهما أنه يبطل إحرامه لأنه إذا بطل الإسلام الذي هو الأصل فلأن يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى والثاني أنه لا يبطل كما لا يبطل بالجنون والموت فعلى هذا إذا رجع إلى الإسلام بنى عليه.

باب الهدي

باب الهدي يستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام وينحره ويفرقه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة والمستحب أن يكون ما يهديه سميناً حسناً لقوله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] قال ابن عباس في تفسيرها: الاستسمان والاستحسان والاستعظام فإن نذر وجب عليه لأنه قربة فلزمه بالنذر فإن كان من الإبل والبقر فالمستحب أن يشعرها في صفحة سنامها الأيمن ويقلدها نعلين لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذي الحليفة ثم أتي ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها ثم قلدها نعلين ولأنه ربما اختلط بغيره فإذا أشعر وقلد تميز وربما ند فيعرف بالأشعار والتقليد فيرد وإن كان غنماً قلدها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مرة غنماً مقلدة وتقلد الغنم خرب القرب لأن الغنم يثقل عليها حمل النعال ولا يشعرها لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها. فصل: فإن كان تطوعاً فهو باق على ملكه وتصرفه إلى أن ينحر وإن كان نذراً زال ملكه عنه وصار للمساكين فلا يجوز له بيعه ولا إبداله بغيره لما روى ابن عمر رضي الله

عنهما أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهديت نجيبة وأعطيت بها ثلثمائة دينار أفأبيعها وأبتاع بثمنها بدناً وأنحرها؟ قال: "لا ولكن انحرها إياها" فإن كل مما يركب جاز له أن يركبه بالمعروف إذا احتاج لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج:33] وسئل جابر رضي الله عنه عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها" فإن نقصت بالركوب ضمن النقصان وإن نتجت تبعها الولد وينحره معها سواء حدث بعد النذر أو قبله لما روي أن علياً رضي الله عنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها ولأنه معنى يزيل الملك فاستتبع الولد كالبيع والعتق فإن لم يمكنه أن يمشي حمله على ظهر الأم لما روي أن عمر كان يحمل ولد البدنة إلى أن يضحي عليها ولا يشرب من لبنها إلا ما لا يحتاج إليه الولد لقول علي كرم الله وجهه ولأن اللبن غذاء الولد والولد كالأم فإذا لم يجز أن يمنع الأم علفها لم يجز أن يمنع الولد غذاءه وإن فضل عن الولد شيء فله أن يشربه لقوله عز وجل: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج:33] ولقول علي رضي الله عنه والأولى أن يتصدق به وإن كان لها صوف نظرت فإن كان في تركه صلاح بأن يكون في الشتاء وتحتاج إليه للدفء لم يجزه لأنه ينتفع به الحيوان في دفع البرد عنه وينتفع به المساكين عند الذبح وإن كان الصلاح في جزه بأن يكون في وقت الصيف وقد بقي إلى وقت النحر مدة طويلة جزه لأنه يترفه به الهدي ويستمر فتنتفع به المساكين فإن أحصر نحره حيث أحصر كما قلنا في هدي المحصر وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه لأنه أمانة عنده فإذا هلكت من غير تفريط لم تضمن كالوديعة وإن أصابه عيب ذبحه وأجزأه لأن ابن الزبير أتى في هداياه بناقة عوراء فقال: إن كان أصابها بعد ما اشتريتموها فامضوها وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فابدلوها ولأنه لو هلك جميعه لم يضمنه فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة. فصل: وإن عطب وخاف أن يهلك نحره وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي ثم يقول: "إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من

رفقتك1" ولأنه هدي معكوف عن الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر وهل يجوز أن يفرقه على فقراء الرفقة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لحديث أبي قميصة ولأن فقراء الرفقة يتهمون في سبب عطبها فلم يطعموا منها والثاني يجوز لأنهم من أهل الصدقة فجاز أن يطعموا كسائر الفقراء فإن أخر ذبحه حتى مات ضمنه لأنه مفرط في تركه فضمنه كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه حتى سرقها وإن أتلفها لزمه الضمان لأنه أتلف مال المساكين فلزمه ضمانه ويضمنه بأكثر المرين من قيمته أو هدي مثله لأنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع فلزمه ضمانهما كما لو أتلف شيئين فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى مثله وأهداه وإن كانت أقل لزمه أن يشتري مثله ويهديه وإن كانت أكثر من ذلك نظرت فإن كان يمكنه أن يشتري به هديين اشتراهما وإن لم يمكنه اشترى هدايا وفيما يفضل ثلاثة أوجه: أحدها يشتري به جزءاً من حيوان ويذبح لأن إراقة الدم مستحقة فإذا أمكن لم يترك والثاني أنه يشتري به اللحم لأن اللحم والإراقة مقصودان والإراقة تشق فسقطت والتفرقة لا تشق فلم تسقط والثالث أن يتصدق بالفاضل لأنه إذا سقطت الإراقة كان اللحم والقيمة واحداً وإن أتلفها أجنبي وجبت عليه القيمة فإن كانت القيمة مثل ثمن مثلها اشترى بها مثلها وإن كانت أكثر ولم تبلغ ثمن مثلين اشترى المثل وفي الفاضل الأوجه الثلاثة وإن كانت أقل من ثمن المثل ففيه الأوجه الثلاثة وإن كان الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيباً بعد النذر لم يجز له الرد بالعيب لأنه قد أيس من الرد لحق الله عز وجل ويرجع بالأرض ويكون الأرش للمساكين لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر فإن لم يمكنه أن يشتري به هدايا ففيه الأوجه الثلاثة. فصل: وإن ذبحه أجنبي بغير إذنه أجزأه عن النذر لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده فإذا فعله بغير إذنه وقع الموقع كرد الوديعة وإزالة النجاسة ويجب على الذابح ضمان ما بين قيمته حياً ومذبوحاً ولأنه لو أتلفه ضمنه فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم وفيما يؤخذ منه الأوجه الثلاثة. فصل: وإن كان في ذمته هدي فعينه بالنذر في هدي تعين لأن ما وجب معيناً جاز أن يتعين به ما في الذمة كالبيع ويزول ملكه عنه فلا يملك بيعه ولا إبداله كما قلنا فيما أوجبه بالنذر فإن هلك بتفريط أو بغير تفريط رجع الواجب إلى ما في الذمة كما لو كان عليه دين فباع به عيناً ثم هلكت العين قبل التسليم فإن الدين يرجع إلى الذمة وإن حدث

_ 1 رواه أحمد في مسنده "4/225".

به عيب يمنع الإجزاء لم يجزه عما في الذمة لأن الذي في الذمة سليم فلم يجزه عنه معيب وإن عطب فنحره عاد الواجب إلى ما في الذمة وهل يعود ما نحره إلى ملكه فيه وجهان: أحدهما يعود إلى ملكه لأنه إنما نحره ليكون عما في ذمته فإذا لم يقع عما في ذمته عاد إلى ملكه والثاني أنه لا يعود لأنه صار للمساكين فلا يعود إليه فإن قلنا إنه يعود إلى ملكه جاز له أن يأكله ويطعم من شاء ثم ينظر فيه فإن كان الذي في ذمته مثل الذي عاد إلى ملكه نحر مثله في الحرم وإن كان أعلى مما ذمته ففيه وجهان: أحدهما يهدي مثل ما نحر لأنه قد تعين عليه فصار ما في ذمته زائداً فلزمه نحر مثله والثاني أنه يهدي مثل الذي كان في ذمته لأن الزيادة فيما عينه وقد هلك من غير تفريط فسقط وإن نتجت فهل يتبعها ولدها أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يتبعها وهو الصحيح لأنه تعين بالنذر فصار كما لو وجب في النذر والثاني لا يتبعها لأنه غير مستقر لأنه يجوز أن يرجع إلى ملكه بعيب يحدث به بخلاف ما وجب بنذره لأن ذلك لا يجوز أن يعود إلى ملكه بنذره والله أعلم.

باب الأضحية

باب الأضحية الأضحية سنة لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين قال أنس: وأنا أضحي بهما وليست بواجبة لما روي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى ذلك واجباً. فصل: ويدخل وقتها إذا مضى بعد دخول وقت صلاة الأضحى قدر ركعتين وخطبتين فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: "من صلى صلاتنا هذه ونسك نسكنا فقد أصاب سنتنا ومن نسك قبل صلاتنا فذلك شاة لحم فليذبح مكانها1" واختلف أصحابنا في مقدار الصلاة فمنهم من اعتبر قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ركعتان يقرأ فيهما (ق - واقتربت الساعة) وقدر خطبتيه ومنهم من اعتبر قدر ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين ويبقى

_ 1 رواه البخاري في كتاب العيدين باب 23. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 5. النسائي في كتاب العيدين باب 23.

وقتها إلى آخر أيام التشريق لما روى جيبر بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أيام التشريق أيام ذبح" فإن لم يضح حتى مضت أيام التشريق نظرت فإن كان ما يضحي تطوعاً لم يصح لأنه ليس بوقت لسنة الأضحية وإن كان نذر لزمه أن يضحي لأنه وجب عليه ذبحه فلم يسقط بفوات الوقت. فصل: ومن دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فالمستحب أن لا يحلق شعره ولا يقلم أظفاره حتى يضحي لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه فرأى هلال ذي الحجة فلا يمس من شعره ولا من أظافره شيء حتى يضحي" ولا يجب عليه ذلك لأنه ليس بمحرم فلا يحرم عليه حلق الشعر ولا تقليم الظفر. فصل: ولا يجزئ في الأضحية إلا الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم لقوله عز وجل: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:34] ولا يجزئ فيها إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن1" وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذع من الضأن وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذع من الضأن وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تضحوا بالجذع من المعز والإبل والبقر ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روت أم كرز عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكراناً كن أو إناثاً2" وإذا جاز ذلك في العقيقة بالخبر دل على جوازه في الأضحية ولأن لحم الذكر أطيب ولحم الأنثى أرطب. فصل: والبدنة أفضل من البقرة لأنها أعظم والبقرة أفضل من الشاة لأنها بسبع من الغنم والشاة أفضل من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة لأنه يتفرد بإراقة دم والضأن

_ 1 رواه مسلم في كتاب الأضاحي حديث 4. النسائي في كتاب الضحيا باب 13. ابن ماجه في كتاب الأضاحي باب 7 أحمد في مسنده "3/312، 327". 2 رواه النسائي في كتاب العقيقة باب 1.

أفضل من المعز لما روى عبادة ابن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير الأضحية الكبش الأقرن1" وقالت أم سلمة رضي الله عنها: لأن أضحي بالجذع من الضأن أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز ولأن لحم الضان أطيب والسمينة أفضل من غير السمينة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] قال: تعظيمها استسمانها واستحسانها وخطب علي رضي الله عنه قال ثنياً فصاعداً واستسمن فإن أكلت أكلت طيباً وإن أطعمت أطعمت طيباً والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين والأملح الأبيض وقال أبو هريرة: دم البيضاء في الأضحية أفضل من دم سوداوين وقال ابن عباس: تعظيمها استحسانها والبيض أحسن. فصل: ولا يجزئ ما فيه عيب ينقص اللحم كالعوراء والعمياء والجرباء والعرجاء التي تعجز عن المشي في المرعى لما روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تنقى2" فنص على هذه الأربعة لأنها تنقص اللحم فدل على أن كل ما ينقص اللحم لا يجوز ويكره أن يضحي بالجلحاء وهي التي لم يخلق لها قرن وبالقصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها وبالعضباء وهي التي انكسر قرنها وبالشرقاء

_ 1رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 31. الترمذي في كتاب الأضاحي باب 17. ابن ماجه في كتاب الأضاحي باب 4. 2 رواه أبو داود في كتاب الضحايا باب 5.

وهي التي انتقيت من الكي أذنها وبالخرقاء وهي التي تشق أذنها بالطول لأن ذلك كله يشينها وقد روينا عن ابن عباس رضي الله أن تعظيمها استحسانها فإن ضحى بما ذكرناه أجزأه لأن ما بها لا ينقص من لحمها فإن نذر أن يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الأجزاء كالجرب وجب عليه ذبحه ولا يجزئه عن الأضحية فإن زال العيب قبل أن يذبح لم يجزه عن الأضحية لأنه أزال الملك فيها بالنذر وهي لا تجزئ فلم يتغير حكمها بما يحدث فيها كما لو أعتق في الكفارة عبداً أعمى ثم صار بعد العتق بصيراً. فصل: والمستحب أن يضحي بنفسه لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين ووضع رجله على صفاحهما وسمى وكبر ويجوز أن يستنيب غيره لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً رضي الله عنه فنحر ما غبر منها والمستحب أن لا يستنيب إلا مسلماً لأنه قربة فكان الأفضل أن لا يتولاها كافر ولأنه يخرج بذلك من الخلاف لأن عند مالك رحمه الله لا يجزئه ذبحه فإن استناب يهودياً أو نصرانياً جاز لأنه من أهل الذكاة ويستحب أن يكون عالماً لأنه أعرف بسنة الذبح والمستحب أنه إذا استناب غيره أن يشهد الذبح لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: "قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك" ويستحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرتها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة" ولأنها قربة لابد فيها من جهة فكانت القبلة فيها أولى ويستحب أن يسمي الله تعالى لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى وكبر والمستحب أن يقول اللهم تقبل مني لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة ثم يقول: من الله وإلى الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا ضحى قال: من الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل مني. فصل: وإذا نحر الهدي أو الأضحية نظرت فإن كان تطوعاً فالمستحب أن يأكل منه لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً رضي الله عنه فنحر ما غبر وأشركه في هديه وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلها في قدر فطبخت فأكل من

لحمها وشرب من مرقها ولا يجب ذلك لقوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين أكله وبين تركه وفي القدر الذي يستحب أكله قولان: قال في القديم: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] فجعلها بين اثنين فدل على أنها بينهما نصفين وقال في الجديد: يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث لقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] وقال الحسن: القانع الذي يسألك والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقال مجاهد: القانع الجالس في بيته والمعتر الذي يسألك فجعلها بين ثلاثة فدل على أنها بينهم أثلاثاً وأما القدر الذي يجوز أن يؤكل ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص: يجوز أن يأكل الجميع لأنها ذبيحة يجوز أن يأكل منها فجاز أن يأكل جميعها كسائر الذبائح وقال عامة أصحابنا: يجب أن يبقى منها قدر ما يقع عليه اسم الصدقة لأن القصد منها القربة فإذا أكل الجميع لم تحصل القربة له فإن أكل الجميع لم يضمن على قول أبي العباس وابن القاص ويضمن على قول سائر أصحابنا وفي القدر الذي يضمن وجهان: أحدهما يضمن أقل ما يجزئ في الصدقة والثاني يضمن القدر المستحب وهو الثلث في أحد القولين والنصف في الآخر بناء على القولين فيمن فرق سهم الفقراء على اثنين وإن كان نذراً نظرت فإن كان قد عينه عما في ذمته لم تجز أن يأكل منه لأنه بدل عن واجب فلم يجز أن يأكل منه كالدم الذي يجب بترك الإحرام من الميقات وإن كان نذر مجازاة

كالنذر لشفاء المريض وقدوم الغائب لم يجز أن يأكل منه لأنه جزاء فلم يجز أن يأكل منه كجزاء الصيد فإن أكل شيئاً منه ضمنه وفي ضمانه ثلاثة أوجه: أحدها يلزمه قيمة ما أكل كما لو أكل منه أجنبي والثاني يلزمه مثله من اللحم لأنه لو أكل جميعه ضمنه بمثله فإذا أكل بعضه ضمنه بمثله والثالث يلزمه أن يشتري جزءاً من حيوان مثله ويشارك في ذبحه وإن كان نذراً مطلقاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجوز أن يأكل منه لأنه إراقة دم واجب فلا يجوز أن يأكل منه كدم الطيب واللباس والثاني يجوز لأن مطلق النذر يحمل على ما تقرر في المشرع والهدي والأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها فحمل النذر عليه والثالث أنه إن كان أضحية جاز أن يأكل منها لأن الأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها وإن كان هدياً لم يجز أن يأكل منه لأن أكثر الهدايا في الشرع لا يجوز الأكل منها فحمل النذر عليها. فصل: ولا يجوز بيع شيء من الهدي والأضحية نذراً كان أو تطوعاً لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة فأقسم جلالها وجلودها وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا ولو جاز أخذ العوض منه لجاز أن يعطي الجازر منها في أجرته ولأنه إنما أخرج ذلك قربة فلا يجوز أن يرجع إليه ما رخص فيه وهو الأكل. فصل: ويجوز أن ينتفع بجلدها فيضع منه النعال والخفاف والفراء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دفت دافة من أهل البادية حضرة الأضحى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي" فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله: يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ " قالوا: يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وتصدقوا وادخروا" فدل على أنه يجوز اتخاذ الأسقية منها. فصل: ويجوز أن يشترك سبعة في بدنة وفي البقرة لما روى جابر رضي الله عنه

قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وإن اشترك جماعة في بدنة أو بقرة وبعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد القربة جاز لأن كل سبع منها قائم مقام الشاة فإن أرادوا القسمة وقلنا إن القسمة فرز النصيبين قسم بينهم وإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز القسمة فيملك من يريد القربة نصيبه لثلاثة من الفقراء فيصيرون شركاء لمن يريد اللحم فإن شاءوا باعوا نصيبهم ممن يريد اللحم وإن شاءوا باعوا من أجنبي وقسموا الثمن وقال أبو العباس بن القاص: تجوز قولاً واحداً لأنه موضع ضرورة لأن بيعه لا يمكن وهذا خطأ لأنا بينا أنه يمكن البيع فلا ضرورة بهم إلى القسمة. فصل: إذ نذر أضحية بعينها فالحكم فيها كالحكم في الهدي المنذور في ركوبها وولدها ولبنها وجز صوفها وتلفها وإتلافها وذبحها ونقصانها بالعيب وقد بينا ذلك في الهدي فأغنى عن الإعادة والله أعلم.

باب العقيقة

باب العقيقة العقيقة سنة وهو ما يذبح عن المولود لما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجب ذلك لما روى عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك له فليفعل1" فعلق على المحبة فدل على أنها لا تجب ولأنه إراقة دم من غير جناية ولا نذر فلم يجب كالأضحية والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة لما روت أم كرز قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "للغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة" ولأنه إنما شرع للسرور بالمولود والسرور بالغلام أكثر فكان الذبح عنه أكثر وإن ذبح عن كل واحد منهما شاة جاز لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام كبشاً كبشاً ولا يجزئ فيه ما دون الجذعة من الضأن ودون الثنية من المعز ولا يجزئ فيه إلا السليم من العيوب لأنه إراقة دم بالشرع فاعتبر فيه ما ذكرناه كالأضحية والمستحب أن يسمي الله تعالى ويقول اللهم

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 20. النسائي في كتاب العقيقة باب 1. الموطأ في كتاب العقيقة حديث 1. أحمد في مسنده "2/ 182، 194".

لك وإليك عقيقة فلان لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وقال: "قولوا بسم الله اللهم لك وإليك عقيقة فلان" والمستحب أن يفصل أعضاءها ولا يكسر عظمها لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة تطبخ جدولاً ولا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع ولأنه أول ذبيحة فاستحب أن لا يكسر عظم تفاؤلاً بسلامة أعضائه ويستحب أن يطبخ من لحمها طبيخاً حلواً تفاؤلاً بحلاوة أخلاقه. فصل: ويستحب أن يأكل منها ويهدي ويتصدق لحديث عائشة ولأنه إراقة دم مستحب فكان حكمها ما ذكرناه كالأضحية. فصل: والسنة أن يكون ذلك في اليوم السابع لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى فإن قدمه على اليوم السابع أو أخره أجزأه لأنه فعل ذلك بعد وجود السبب والمستحب أن يحلق شعره بعد الذبح لحديث عائشة ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع في الرأس والمستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران ويكره أن يلطخ بدم العقيقة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقاً.

فصل: ويستحب لمن ولد له ولد أن يسميه بعبد الله أو عبد الرحمن لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن1" ويكره أن يسمى نافعاً وبشاراً ونجيحاً ورباحاً أو أفلح وبركة لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسمين غلامك أفلح ولا نجيحاً ولا بشاراً ولا رباحاً فإنك إذا قلت أثم هو قالوا لا2" ويكره أن يسمي باسم قبيح فإن سمي باسم قبيح غيره لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال أنت جميلة ويستحب لمن ولد له ولد أن يؤذن في أذنه لما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة عليهما السلام بالصلاة ويستحب أن يحنك المولود بالتمر لما روى أنس قال: ذهبت بعبد الله ابن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد فقال: هل معك تمر؟ قلت: نعم فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حب الأنصار التمر" وسماه عبد الله.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الأدب حديث 2. البخاري في كتاب الأدب باب 5. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 30. أحمد في مسنده "2/24". 2 رواه مسلم في كتاب الأدب حديث 11، 12. الترمذي في كتاب الأدب باب 65. أحمد في مسنده "3/ 385".

باب النذر

باب النذر ويصح النذر من كل مسلم بالغ عاقل فأما الكافر فلا يصح نذره ومن أصحابنا من قال يصح نذره لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" والمذهب الأول لأنه سبب وضع

لإيجاب القربة فلم يصح من الكافر كالإحرام وأما الصبي والمجنون فلا يصح نذرهما لقوله صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" ولأنه إيجاب حق بالقول فلا يصح من الصبي والمجنون كضمان المال. فصل: ولا يصح النذر إلا بالقول وهو أن يقول لله علي كذا فإن قال علي كذا ولم يقل لله صح لأن القربة لا تكون إلا لله تعالى فحمل الإطلاق عليه وقال في القديم: إذا أشعر بدنة أو قلدها ونوى أنها هدي أو أضحية صارت هدياً أو أضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر بدنة وقلدها ولم ينقل أنه قال: إنها هدي وصارت هدياً وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه يصير هدياً أو أضحية بمجرد النية ومن أصحابنا من قال: إن ذبح ونوى صار هدياً أو أضحية والصحيح هو الأول لأنه إزالة ملك يصح بالقول فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه كالوقف والعتق ولأنه لو كتب على دار أنها وقف أو على فرس أنها في سبيل الله لم تصر وقفاً فكذلك ههنا. فصل: ويجب بالنذر جميع الطاعات المستحبة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه1" وأما المعاصي كالقتل والزنا وصوم يوم العيد وأيام الحيض والتصدق بما لا يملكه فلا يصح نذرها لما روى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم" ولا يلزمه بنذره كفارة وقال الربيع: إذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض وجبت عليها كفارة يمين ولعله خرج ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين2" والمذهب الأول والحديث متأول فأما المباحات كالأكل والشرب فلا تلزم بالنذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل قائم في الشمس لا يستظل فسأل عنه فقيل هذا ابن اسرائيل نذر أن يقف ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال: "مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه". فصل: فإن نذر طاعة نظرت فإن علق ذلك على إصابة خير أو دفع سوء فأصاب

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 28، 31. أبو داود في كتاب الأيمان 19. الترمذي في كتاب النذور باب 2. النسائي في كتاب الأيمان باب 27، 28. 2 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 12. أبو داود في كتاب الأيمان باب 25 الترمذي في كتاب النذور باب 4. أحمد في مسنده "4/144".

الخير أو دفع السوء عنه لزمه الوفاء بالنذر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ركبت في البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً فماتت قبل أن تصوم فأتت أختها أو أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنها فإن لم يعلقه على شيء بأن قال لله علي أن أصوم أو أصلي ففيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه وهو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه1" والثاني لا يلزمه وهو قول أبي إسحاق وأبي بكر الصيرفي لأنه التزام من غير عوض فلم يلزمه بالقول كالوصية والهبة وإن نذر طاعة في لجاج وغضب بأن قال إن كلمت فلاناً فعلي كذا فكلمه فهو بالخيار بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة يمين2" ولأنه يشبه من حيث إنه قصد المنع والتصديق ويشبه النذر من حيث إنه التزم قربة في ذمته فخير بين موجبهما ومن أصحابنا من قال: إن كانت القربة حجاً أو عمرة لزمه الوفاء به لأن ذلك يلزم بالدخول فيه بخلاف غيره والمذهب الأول لأن العتق أيضاً يلزم إتمامه بالتقويم ثم لا يلزمه. فصل: إذا نذر أن يصدق بماله لزمه أن يتصدق بالجميع لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذراً أن يطيع الله فليطعه" فإن نذر أن يعتق رقبة ففيه وجهان: أحدهما يجزئه ما يقع عليه من الاسم اعتباراً بلفظه والثاني لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة لأن الرقبة التي يجب عتقها بالشرع ما تجب في الكفارة فحمل النذر عليه فإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه أن يعتقها ولا يزول ملكه عنها حتى يعتقها فإن أراد بيعها أو إبدالها بغيرها لم يجز لأنه تعين للقربة فلا يملك بيعه كالوقف وإن تلف أو أتلفه لم يلزمه بدله لأن الحق للعبد فسقط بموته فإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة للمولى ولا يلزمه صرفها في عبد آخر لما ذكرناه. فصل: وإن نذر هدياً نظرت فإن سماه كالثوب والعبد والدار لزمه ما سماه وإن أطلق الهدي ففيه قولان: قال في الإملاء والقديم: يهدي ما شاء لأن اسم الهدي يقع عليه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 28، 31. أبو داود في كتاب الأيمان باب 19. الترمذي في كتاب النذور باب 2. النسائي في كتاب الأيمان باب 27، 28. 2 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 12. أبو داود في كتاب الأيمان باب 25 الترمذي في كتاب النذور باب 4. أحمد في مسنده "4/144".

ولهذا يقال أهديت له داراً وأهدى لي ثوباً وأن الجميع يسمى قرباناً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" فإذا سمي قرباناً وجب أن يسمى هدياً وقال في الجديد: لا يجزئه إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر لأن الهدي المعهود في الشرع ما ذكرناه فحمل مطلق النذر عليه وإن نذر بدنة أو بقرة أو شاة فإن قلنا بالقول الأول أجزأه من ذلك ما يقع عليه الاسم وإن قلنا بالقول الثاني لم يجزه إلا ما يجزئ في الأضحية وإن نذر شاة فأهدى بدنة أجزأه لأن البدنة بسبع من الغنم وهل يجب الجميع؟ فيه وجهان: أحدهما أن الجميع واجب لأنه مخير بين الشاة والبدنة فأيهما فعل كان واجباً كما تقول في العتق والإطعام في كفارة اليمين والثاني أن الواجب هو السبع لأن كل سبع منها بشاة فكان الواجب هو السبع وإن نذر بدنة وهو واجد للبدنة ففيه وجهان: أحدهما أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم لأن كل واحد من الثلاثة قائم مقام الآخر والثاني أنه لا يجزئه غير البدنة لأنه عينها بالنذر وإن كان عادماً للبدنة انتقل إلى البقر فإن لم يجد بقرة انتقل إلى سبع من الغنم ومن أصحابنا من قال لا يجزئه غير البدنة فإن لم يجد ثبتت في ذمته إلى أن يجد لأنه التزم ذلك بالنذر والمذهب الأول لأنه فرض له بدل فانتقل عند العجز إلى بدله كالوضوء. فصل: فإن نذر الهدي للحرم لزمه في الحرم وإن نذر لبلد آخر لزمه في البلد الذي سماه لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا المكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال: لصنم قالت لا قال: لوثن قالت: لا قال: أوفي بنذرك" فإن نذر لأفضل بلد لزمه بمكة لأنها أفضل البلاد والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته: "أي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: بلدنا هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا1" ولأن مسجدها أفضل المساجد فدل على أنها أفضل البلاد وإن أطلق النذر ففيه وجهان: أحدهما يجوز حيث

_ 1 رواه البخاري في كتاب العلم باب 9، 37. مسلم في كتاب القيامة حديث 29. الترمذي في كتاب تفسير سورة 9 باب 1. الدارمي في كتاب المناسك باب 34. أحمد في مسنده "1/230".

شاء لأن الاسم يقع عليه والثاني لا يجوز إلا في الحرم لأن الهدي المعهود في الشرع هو الهدي في الحرم والدليل عليه قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وقال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] فحمل مطلق النذر عليه فإن كان قد نذر الهدي لرتاج الكعبة أو عمارة مسجد لزمه صرفه فيما نذر فإن أطلق ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يصرفه فيما شاء من وجوه القرب في ذلك البلد الذي نذر الهدي فيه لأن الاسم يقع عليه والثاني أنه يفرقه على مساكين البلد الذي نذر أن يهدي إليه لأن الهدي المعهود في الشرع ما يفرق على المساكين فحمل مطلق النذر عليه وإن كان ما نذره مما لا يمكن نقله كالدار باعه ونقل ثمنه إلى حيث نذر. فصل: وإن نذر النحر في الحرم ففيه وجهان: أحدهما يلزمه النحر دون التفرقة لأنه نذر أحد مقصودي الهدي فلم يلزمه الآخر كما لو نذر التفرقة والثاني يلزمه النحر والتفرقة وهو الصحيح لأنه نحر الهدي في الحرم في عرف الشرع ما يتبعه التفرقة فحمل مطلق النذر عليه وإن نذر النحر في بلد غير الحرم ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن النحر في غير الحرم ليس بقربة يلزمه بالنذر والثاني يلزمه النحر والتفرقة لأن النحر على وجه القربة لا يكون إلا للتفرقة فإذا نذر النحر تضمن التفرقة. فصل: وإن نذر صلاة لزمه ركعتان في أظهر القولين لأن أقل صلاة واجبة في الشرع ركعتان فحمل النذر عليه وتلزمه ركعة في القول الآخر لأن الركعة صلاة في الشرع وهي الوتر فلزمه ذلك وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى جاز له أن يصلي في غيره لأن ما سوى المساجد الثلاثة في الحرمة والفضيلة واحدة فلم يتعين بالنذر وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لزمه فعلها فيه لأنه يختص بالنسك والصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره والدليل عليه ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا" فلا يجوز أن يسقط ما نذره

بالصلاة في غيره وإن نذر الصلاة في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان: أحدهما يلزمه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فأشبه المسجد الحرام والثاني لا يلزمه لأنه لا يجب قصده بالنسك فلا تتعين الصلاة فيه بالنذر كسائر المساجد فإن قلنا يلزمه فصلى في المسجد الحرام أجزأه عن النذر لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل فسقط به فرض النذر وإن نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فصلى في مسجد المدينة أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال: "يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال: صل ههنا فأعاد عليه فقال: صل ههنا ثم أعاد عليه فقال: شأنك" ولأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في بيت المقدس فسقط به فرض النذر. فصل: وإن نذر الصوم لزمه صوم يوم لأن أقل الصوم يوم وإن نذر صوم سنة بعينها لزمه صومها متتابعاً كما يلزمه صوم رمضان متتابعاً فإذا جاء رمضان صام عن رمضان لأنه مستحق بالشرع ولا يجوز أن يصوم فيه عن النذر ولا يلزمه قضاؤه عن النذر لأنه لم يدخل في النذر ويفطر في العيدين وأيام التشريق لأنه مستحق للفطر ولا يلزمه قضاؤها لأنه لم يتناولها النذر وإن كانت امرأة فحاضت فهل يلزمها القضاء؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزمها لأنه مستحق للفطر فلا يلزمها قضاؤه كأيام العيد والثاني يلزمها لأن الزمان محل للصوم وإنما تفطر هي وحدها فإن أفطر فيه لغير عذر نظرت فإن لم يشترط فيه التتابع أثم ما بقي لأن التتابع فيه يجب على الصائم في رمضان وإن شرط التتابع لزمه أن يستأنف لأن التتابع لزمه بالشرط فبطل بالفطر كصوم الظهار وإن أفطر لمرض وقد شرط التتابع ففيه قولان أحدهما: ينقطع التتابع لأنه أفطر باختياره والثاني لا ينقطع لأنه أفطر بعذر فأشبه الفطر بالحيض فإن قلنا لا ينقطع التتابع فهل يجب القضاء فيه وجهان بناء على القولين في الحائض وقد بيناه وإن أفطر بالسفر فإن قلنا إنه ينقطع التتابع بالمرض فالسفر أولى وإن قلنا لا ينقطع بالمرض ففي السفر وجهان: أحدهما لا ينقطع لأنه أفطر بعذر فهو كالفطر بالمرض والثاني ينقطع لأن سببه باختياره بخلاف

المرض وإن نذر سنة غير معينة فإن لم يشترط التتابع جاز متتابعاً ومتفرقاً لأن الاسم يتناول الجميع فإن صام شهوراً بالأهلة وهي ناقصة أجزأه لأن الشهور في الشرع بالأهلة وإن صام سنة متتابعة لزمه قضاء رمضان وأيام العيد لأن الفرض في الذمة فانتقل فيما لم يسلم منه إلى البدل كالمسلم فيه إذا رد بالعيب ويخالف السنة المعينة فإن الفرض فيها يتعلق بمعين فلم ينتقل فيما لم يسلم إلى البدل كالسلعة المعينة إذا ردها العيب وأما إذا شرط فيها التتابع فإنه يلزمه صومها متتابعاً على ما ذكرناه. فصل: وإن نذر أن يصوم في كل اثنين لم يلزمه قضاء أثانين رمضان لأنه يعلم أن رمضان لا بد فيه من الأثانين فلا يدخل في النذر فلم يجب قضاؤها وفيما يوافق منها أيام العيد قولان: أحدهما لا يجب وهو قول المزني قياساً على ما يوافق رمضان والثاني يجب لأنه نذر ما يجوز أن لا يوافق أيام العيد فإذا وافق لزمه القضاء وإن لزمه صوم الأثانين بالنذر ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في كفارة بدأ بصوم الشهرين ثم يقضي صوم الأثانين لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين يمكنه بعد الفراغ من الشهرين أن يقضي صوم الأثانين وإذا بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه أن يقضي صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى فإذا فرغ من صوم الشهرين لزمه قضاء صوم الأثانين لأنه لم يمكنه صيامها وإنما تركه لعارض فلزمه القضاء كما لو تركه لمرض وإن وجب عليه صوم الشهرين ثم نذر صوم الأثانين بدأ بصوم الشهرين ثم يقضي صوم الأثانين كما قلنا فيما تقدم ومن أصحابنا من قال لا يجب القضاء لأنه استحق صيامه عن الكفارة فلا يدخل في النذر والمذهب الأول أنه يلزمه لأنه كان يمكنه صومه عن النذر فإذا صامه عن غيره لزمه القضاء. فصل: وإن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ففيه قولان: أحدهما نذره لأنه يمكنه أن يتحرى اليوم الذي يقدم فيه فينوي صيامه من الليل فإذا قدم صار ما صامه قبل القدوم تطوعاً وما بعده فرضاً وذلك يجوز كما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه والثاني لا يصح نذره لأنه لا يمكنه الوفاء بنذره لأنه إن قدم بالنهار فقد مضى جزء منه وهو فيه غير صائم وإن تحرى اليوم الذي يقدم فيه فنوى من الليل فقدم في أثناء النهار كان ما قبل القدوم تطوعاً وقد أوجب صوم جميعه بالنذر فإن قلنا إنه يصح نذره فقدم ليلاً لم يلزمه لأن الشرط أن يقدم نهاراً وذلك لم يوجد فإن قدم نهاراً وهو مفطر لزمه قضاؤه وإن قدم نهاراً وهو صائم عن تطوع لم يجزه عن النذر لأنه لم ينو من أوله وعليه أن يقضيه وإن عرف أنه يقدم غداً فنوى الصوم من الليل عن النذر صح عن النذر

ويكون أوله تطوعاً والباقي فرضاً فإن اجتمع في يوم نذران بأن قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم اليوم الذي يلي يوم مقدمه وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول خميس بعده فقدم زيد وعمرو يوم الأربعاء لزمه صوم يوم الخميس عن أول نذر نذره ثم يقضي عن الآخر. فصل: وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح النذر فإن قدم ليلاً لم يلزمه شيء لأن الشرط لم يوجد وإن قدم نهاراً لزمه اعتكاف بقية النهار وفي قضاء ما فات وجهان: أحدهما يلزمه وهو اختيار المزني والثاني لا يلزمه وهو المذهب لأن ما مضى قبل القدوم لم يدخل في النذر فلا يلزمه قضاؤه وإن قدم وهو محبوس أو مريض فالمنصوص أنه يلزمه القضاء لأنه فرض وجد شرطه في حال المرض فبقي في الذمة كصوم رمضان وقال القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري: لا يلزمه لأن ما لا يقدر عليه لا يدخل في النذر كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه. فصل: وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي إليه بحج أو عمرة لأنه لا قربة في المشي إليه إلا بنسك فحمل مطلق النذر عليه ومن أي موضع يلزمه المشي والإحرام؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله لأن الأصل في الإحرام أن يكون من دويرة أهله وإنما أجيز تأخيره إلى الميقات رخصة فإذا أطلق النذر حمل الأصل وقال عامة أصحابنا: يلزمه الإحرام والمشي من الميقات لأن مطلق كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع والمعهود هو من الميقات فحمل النذر عليه فإن كان معتمراً لزمه المشي إلى أن يفرغ وإن كان حاجاً لزمه المشي إلى أن يتحلل التحلل الثاني لأن بالتحلل الثاني يخرج من الإحرام فإن فاته لزمه القضاء ماشياً لأن فرض النذر يسقط بالقضاء فلزمه المشي فيه كالأداء وهل يلزمه أن يمشي في فائتة؟ فيه قولان: أحدهما يلزمه لأنه لزمه بحكم النذر فلزمه المشي فيه كما لو لم يفته والثاني لا يلزمه لأن فرض النذر لا يسقط به وإن نذر المشي فركب وهو قادر على المشي لزمه دم لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "إن الله لغني عن نذر أختك لتركب ولتهد بدنة" ولأنه صار بالنذر نسكاً واجباً فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات وإن لم يقدر على المشي فله أن يركب لأنه إذا جاز أن يترك القيام الواجب في الصلاة للعجز جاز أن يترك المشي فإن ركب فهل يلزمه دم؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزمه لأن حال

العجز لم يدخل في النذر والثاني يلزمه لأن ما وجب به الدم لم يسقط الدم فيه بالمرض كالطيب واللباس وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى لزمه دم لأنه ترفه بترك مؤنة الركوب وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجاً ولا معتمراً ففيه وجهان: أحدهما لا ينعقد نذره لأن المشي في غير نسك ليس بقربة فلم ينعقد كالمشي إلى غير البيت والثاني ينعقد نذره ويلزمه المشي بحج أو عمرة لأنه لما نذر المشي لزمه المشي بنسك ثم رام إسقاطه فلم يسقط وإن نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل الحرام ولا نواه فالمذهب أنه يلزمه لأن البيت المطلق بيت الله الحرام فحمل مطلق النذر عليه ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأن البيت يقع على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد فلا يجوز حمله على البيت الحرام فإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي بحج أو عمرة لأن قصده لا يجوز من غير إحرام فكان إيجابه إيجاباً للإحرام وإن نذر المشي إلى عرفات لم يلزمه لأنه يجوز قصده من غير إحرام فلم يكن في نذره المشي إليه أكثر من إيجاب مشي وذلك ليس بقربة فلم يلزمه وإن نذر المشي إلى مسجد غير المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لم يلزمه لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا1" وإن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة ففيه قولان: قال في البويطي يلزمه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فلزمه المشي إليه بالنذر كالمسجد الحرام وقال في الأم لا يلزمه لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر المساجد. فصل: وإن نذر أن يحج في هذه السنة نظرت فإن تمكن من أدائه فلم يحج صار ذلك ديناً في ذمته كما قلنا في حجة الإسلام وإن لم يتمكن من أدائه في هذه السنة سقط عنه فإن قدر بعد ذلك لم يجب لأن النذر اختص بتلك السنة فلم يجب في سنة أخرى إلى بنذر آخر.

_ 1 رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 1،6. مسلم في كتاب الحج حديث 415. الترمذي في كتاب الصلاة باب 126. الدارمي في كتاب الصلاة باب 132.. أحمد في مسنده "2/234".

باب الأطعمة

باب الأطعمة ما يؤكل شيأن: حيوان وغير حيوان فأما الحيوان فضربان: حيوان البر وحيوان

البحر فأما حيوان البر فضربان: طاهر ونجس فأما النجس فلا يحل أكله وهو الكلب والخنزير والدليل عليه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] وقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] والكلب من الخبائث والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب خبيث خبيث ثمنه" وأما الطاهر فضربنا طائر ودواب فأما الدواب فضربان دواب الإنس ودواب الوحش فأما دواب الإنس فإنه يحل منها الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1] وقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] والأنعام من الطيبات لم يزل الناس يأكلونها ويبيعون لحومها في الجاهلية والإسلام ويحل أكل الخيل لما روى جابر رضي الله عنه قال: ذبحنا يوم حنين الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل ولا تحل البغال والحمير لحديث جابر رضي الله عنه ولا يحل السنور لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهرة سبع" ولأنه يصطاد بالناب ويأكل الجيف فهو كالأسد. فصل: وأما الوحش فإنه يحل منه الظباء والبقر لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] والظباء والبقر من الطيبات يصطاد ويؤكل ويحل الحمار الوحش للآية ولما روي أن أبا قتادة كان مع قوم محرمين وهو حلال فسنح لهم حمر وحش فحمل عليها أو قتادة فعقر منها أتاناً فأكلوا منها وقالوا نأكل من لحم صيد ونحن محرمون فحملوا ما بقي من لحمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا ما بقي من لحمها" ويحل أكل الضبع لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} قال الشافقي رحمه الله: ما زال

الناس يأكلون الضبف ويبيعونه بين الصفا والمروة وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الضبع صيد يؤكل وفيه كبش إذا أصابه المحرم. فصل: ويحل أكل الأرنب لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} والأرنب من الطيبات ولما روى جابر أن غلاماً من قومه أصاب أرنباً فذبحها بمروة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أكلها فأمره أن يأكلها ويحل اليربوع لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} واليربوع من الطيبات تصطاده العرب وتأكله وأوجب فيه عمر رضي الله عنه على المحرم إذا أصابه جفرة فدل على أنه صيد مأكول ويحل أكل الثعلب لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} والثعلب من الطيبات مستطاب يصطاد ولأنه لا يتقوى بنابه فأشبه الأرنب ويحل أكل ابن عرس والوبر لما ذكرناه في الثعلب ويحل أكل القنفذ لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن القنفذ فتلا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145] الآية ولأنه مستطاب لا يتقوى بنابه فحل أكله كالأرنب ويحل أكل الضب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم: بيت ميمونة رضي الله عنها فوجد عندها ضباً محنوذاً فقدمت الضب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يده فقال خالد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم: ينظر فلم ينهه ولا يحل ما يتقوى بنابه ويعدو على

الناس وعلى البهائم كالأسد والفهد والذئب والنمر والدب لقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهذه السباع من الخبائث لأنها تأكل الجيف ولا تستطيبها العرب ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وأكل ذي مخلب من الطير وفي ابن آوى وجهان: أحدهما يحل لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب والثاني لا يحل لأنه مستخبث كريه الرائحة ولأنه من جنس الكلاب فلم يحل أكله وفي نسور الوحش وجهان: أحدهما لا يحل لأنه يصطاد بنابه فلم يحل كالأسد والفهد والثاني يحل لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي يحرم الأهلي منه ويحل الوحشي منه كالحمار الوحشي ولا يحل أكل حشرات الأرض كالحيات والعقارب والفأر والخنافس والعظاء والصراصر والعناكب والوزغ وسام أبرص والجعلان والديدان وبنات وردان وحمار قبان لقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} . فصل: وأما الطائر فأنه يحل منه النعامة لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157] توقضت الصحابة فيها ببدنة فدل على أنها صيد مأكول ويحل الديك والدجاج والحمام والدراج والقبج والقطا والبط والكراكي والعصفور والقنابر لقوله تعالى:

{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهذه كلها مستطابة وروى أبو موسى الأشعري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم: يأكل لحم الدجاج وروى سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حباري. ويحل أكل الجراد لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبع غزوات يأكل الجراد ونأكله ويحرم أكل الهدهد

والخطاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن قتلهما وما يؤكل لا ينهى عن قتله ويحرم ما يصطاد ويتقوى بالمخلب كالصقر والبازي لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ويحرم أكل الحدأة والغراب الأبقع لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والحدأة والكلب العقور1" وما أمر بقتله لا يحل أكله قالت عائشة رضي الله عنها: إني لأعجب ممن يأكل الغراب قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قتله ويحرم الغراب الأسود الكبير لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع وفي الغداف وغراب الزرع وجهان: أحدهما لا يحل للخبر والثاني يحل لأنه مستطاب يلقط الحب فهو كالحمام والدجاج ويحرم حشرات الطير كالنحل والزنبور والذباب لقوله عز وجل: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وهذه من الخبائث. فصل: وما سوى ذلك من الدواب والطير ينظر فيه فإن كان مما يستطيبه العرب حل أكله وإن كان مما لا يستطيبه العرب لم يحل أكله لقوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ويرجع في ذلك إلى العرب من أهل الريف والقرى

_ 1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 16. مسلم في كتاب الحج حديث 72، 73. أبو داود في كتاب المناسك باب 39. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 91. أحمد في مسنده "2/ 8، 48".

وذوي اليسار والغنى دون الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة فإن استطاب قوم شيئاً واستخبثه قوم رجع إلى ما عليه الأكثر وإن اتفق في بلد العجم ما لا يعرفه العرب نظرت إلى ما يشبهه فإن كان حلالاً حل وإن كان حراماً حرم وإن لم يكن له شبيه فيما يحل ولا فيما يحرم ففيه وجهان: قال أبو إسحاق وأبو علي الطبري: يحل لقوله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام:145] وهذا ليس بواحد منها وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما سكت عنه فهو عفو ومن أصحابنا من قال: لا يحل أكله لأن الأصل في الحيوان التحريم فإذا أشكل بقي على الأصل. فصل: ولا يحل ما تولد بين مأكول وغير مأكول كالسبع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحوش وحمار الأهل لأنه مخلوق مما يؤكل ومما لا يؤكل فغلب فيه الحظر كالبغل. فصل: ويكره أكل الجلالة وهي التي أكلها العذرة من ناقة أو شاة أن بقرة أو ديك أو دجاجة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبان الجلالة ولا يحرم أكلها لأنه ليس فيها أكثر من تغيير لحمها وهذا لا يوجب التحريم فإن أطعم الجلالة طعاماً طاهراً فطاب لحمها لم يكره لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تعلف الجلالة علفاً طاهراً إن كانت ناقة أربعين يوماً وإن كانت شاة سبعة أيام وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام. فصل: وأما حيوان البحر فإنه يحل منه السمك لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال1" ولا يحل أكل الضفدع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع ولو حل أكله لم ينه عن قتله وفيما سوى ذلك وجهان: أحدهما يحل لما روى أبو هريرة

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الصيد باب 9. أحمد في مسنده "2/97".

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: "اغتسلوا منه وتوضئوا به فإنه الطهور ماؤه الحل ميتته1" ولأنه حيوان لا يعيش إلا في الماء فحل أكله كالسمك والثاني أن ما أكل مثله في البر يحل أكله وما لا يؤكل مثله في البر لم يحل أكله اعتباراً بمثله. فصل: وأما غير الحيوان فضربان: طاهر ونجس فأما النجس فلا يؤكل لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} والنجس خبيث وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تقع في السمن: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فأريقوه2" فلو حل أكله لم يأمر بإراقته وأما الطاهر فضربان: ضرب يضر وضرب لا يضر فما يضر لا يحل أكله كالسم والزجاج والتراب والحجر والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وأكل هذه الأشياء تهلكه فوجب أن لا يحل وما لا يضر يحل أكله كالفواكه والحبوب والدليل عليه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] . فصل: ومن اضطر إلى أكل الميتة أو لحم الخنزير فله أن يأكل منه ما يسد به الرمق لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وهل يجب أكله في وجهان: أحدهما يجب لقوله تعالى: {لا تقتلوا أنفسكم} والثاني لا يجب وهو قول أبي إسحاق لأن له غرضاً في تركه وهو أن يجتنب ما حرم عليه وهل يجوز أن يشبع منه؟ فيه قولان: أحدهما لا يجوز وهو اختيار المزني لأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلا يجوز له أكل الميتة كما لو أراد أن يبتديء بالأكل وهو غير مضطر والثاني يحل لأن كل طعام جاز أن يأكل منه قدر سد الرمق جاز له أن يشبع منه كالطعام الحلال وإن اضطر إلى طعام غيره وصاحبه غير مضطر إليه وجب عليه بذله لأن الامتناع من بذله إعانة على قتله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الدارمي في كتاب الوضوء باب 53. 2 رواه أبو داود في كتاب الأطعمة باب 47. البخاري في كتاب الذبائح باب 34. الترمذي في كتاب الأطعمة باب 8. أحمد في مسنده "2/233" "6/230".

مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله1" وإن طلب منه ثمن المثل لزمه أن يشتريه منه ولا يجوز أن يأكل الميتة لأنه غير مضطر فإن طلب أكثر من ثمن المثل أو امتنع من بذله فله أن يقاتله عليه فإن لم يقدر على مقاتلته فاشترى منه بأكثر من ثمن المثل ففيه وجهان: أحدهما يلزمه لأنه ثمن في بيع صحيح والثاني لا يلزمه إلا ثمن المثل كالمكره على شرائه فلم يلزمه أكثر من ثمن المثل وإن وجد الميتة وطاعم الغير وصاحبه غائب ففيه وجهان: أحدهما أنه يأكل الطعام لأنه طاهر فكان أولى والثاني يأكل الميتة لأن أكل الميتة ثبت بالنص وطعام الغير ثبت بالاجتهاد فقدم أكل الميتة عليه ولأن المنع من أكل الميتة لحق الله سبحانه وتعالى والمنع من طعام الغير لحق الآدمي وحقوق الله تعالى مبنية على التسهيل وحقوق الآدمي مبنية على التشديد وإن وجد ميتة وصيداً وهو محرم ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: إذا قلنا إنه إذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة أكل الميتة وترك الصيد لأنه إذا ذكاه صار ميتة ولزمه الجزاء وإن قلنا إنه لا يصير ميتة أكل الصيد لأنه طاهر ولأن تحريمه أخف لأنه يحرم عليه وحده والميتة محرمة عليه وعلى غيره ومن أصحابنا من قال: إن قلنا إنه يصير ميتة أكل الميتة وإن قلنا إنه لا يكون ميتة ففيه قولان: أحدهما يذبح الصيد ويأكله لأنه طاهر ولأن تحريمه أخف على ما ذكرناه والثاني أنه يأكل الميتة لأنه منصوص عليها والصيد مجتهد فيه وإن اضطر ووجد آدمياً ميتاً جاز له أكله لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت وإن وجد مرتداً أو من وجب قتله في الزنا جاز له أن يأكله لأن قتله مستحق وإن اضطر ولم يجد شيئاً فهل يجوز له أن يقطع شيئاً من بدنه ويأكله؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجوز لأنه إحياء نفس بعضو فجاز كما يجوز أن يقطع عضواً إذا وقعت فيه الأكلة لإحياء نفسه ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه إذا قطع عضواً منه كان المخافة عليه أكثر وإن اضطر إلى شرب الخمر أو البول شرب البول لأن تحريم الخمر أغلظ ولهذا يتعلق به الحد فكان البول أولى وإن اضطر إلى شرب الخمر وحدها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجوز أن يشرب لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم2" والثاني يجوز لأنه يدفع به الضرر عن نفسه فصار كما لو أكره على شربها والثالث أنه إن اضطر إلى شربها للعطش لم يجز لأنها تزيد في الإلهاب

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 1. 2 رواه البخاري في كتاب الأشربة باب 15.

والعطش وإن اضطر إليها للتداوي جاز. فصل: وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر لم يجز أن يأخذ منه شيئاً بغير إذن صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه". فصل: ولا يحرم كسب الحجام لما روى أبو العالية أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن كسب الحجام فقال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه أجره ولو كان حراماً ما أعطاه ويكره للحر أن يكتسب بالحجامة وغيرها من الصنع الدنيئة كالكنس والذبح والدبغ لأنها مكاسب دنيئة فينزع الحر منها ولا يكره للعبد لأن العبد أدنى فلا يكره له وبالله التوفيق.

باب الصيد والذبائح

باب الصيد والذبائح لا يحل شيء من الحيوان المأكول سوى السمك والجراد إلا بذكاة لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] ويحل السمك والجراد من غير ذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد" لأن ذكاتهما لا تمكن في العادة فسقط اعتبارها. فصل: والأفضل أن يكون المزكي مسلماً فإن ذبح مشرك نظرت فإن كان مرتداً أو وثنياً أو مجوسياً لم يحل لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وإن كان يهودياً أو نصرانياً من العجم حل للآية وإن كان من نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب لم يحل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب ولأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل منهم فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تحل ذبائحهم.

والمستحب أن يكون المذكي رجلاً لأنه أقوى على الذبح من المرأة فإن كان امرأة جاز لما روى كعب بن مالك أن جارية له كسرت حجراً فذبحت به شاة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بأكلها ويستحب أن يكون بالغاً لأنه أقدر على الذبح فإن ذبح صبي حل لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من ذبح من ذكر أو أنثى أو صغير أو كبير وذكر اسم الله عليه حل ويكره ذكاة الأعمى لأنه ربما أخطأ المذبح فإن ذبح خل لأنه لم يفقد فيه إلا النظر وذلك لا يوجب التحريم ويكره ذكاة السكران والمجنون لأنه لا يأمن أن يخطئ المذبح فيقتل الحيوان فإن ذبح حل لأنه لم يفقد في ذبحهما إلا القصد والعلم وذلك لا يوجب التحريم كما لو ذبح شاة وهو يظن أنه يقطع حشيشاً. فصل: والمستحب أن يذبح بسكين حادة لما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته1" فإن ذبح بحجر محدد أو ليطة حل لما ذكرناه من حديث كعب بن مالك في المرأة التي كسرت حجراً فذبحت بها شاة ولما روي أن رافع بن خديج قال: يا رسول الله إنا نرجو أن نلقى العدو غداً وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأخبركم ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة2" وإن ذبح بسن أو ظفر لم يحل لحديث رافع بن خديج والمستحب أن تنحر الإبل معقولة من قيام لما روي

_ 1 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 57. الترمذي في كتاب الديات باب 14. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3. 2 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 15. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 20. الترمذي في كتاب الصيد باب 18. أحمد في مسنده "3/ 463" "4/140".

أن ابن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً أضجع بدنة فقال قياماً سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وتذبح البقر والغنم مضجعة لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ووضع رجليه على صفاحهما وسمى وكبر والبقر كالغنم في الذبح فكان مثله في الاضجاع والمستحب أن توجه الذبيحة إلى القبلة لأنه لا بد لها من جهة فكانت جهة القبلة أولى والمستحب أن يسمي الله تعالى على الذبح لما روى عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه1". فإن ترك التسمية لم يحرم لما روت عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله تعالى عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكر اسم الله تعالى عليه وكل" والمستحب أن يقطع الحلقوم والمرئ والودجين لأنه أوحى وأروح للذبيحة فإن اقتصر على قطع الحلقوم والمرئ أجزأه لأن الحلقوم مجرى النفس والمرئ مجرى الطعام والروح لا تبقى مع قطعهما والمستحب أن ينحر الإبل ويذبح البقر والشاء فإن خالف ونحر البقر والشاء وذبح الإبل أجزأه لأن الجميع موح من غير تعذيب ويكره أن يبين الرأس وأن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ النخاع وهو عرق يمتد من الدماغ ويستبطن الفقار إلى عجب الذنب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النخع ولأن فيه زيادة تعذيب فإن فعل ذلك لم يحرم لأن ذلك يوجد بعد حصول الذكاة وإن ذبحه من قفاه فإن بلغ السكين الحلقوم والمرئ وقد

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 21. الترمذي في كتاب الصيد باب 4، 7. النسائي في كتاب الصيد باب 18، 21.

بقيت فيه حياة مستقرة حل لأن الذكاة صادفته وهو حي وإن لم يبق فيه حياة مستقرة إلا حركة مذبوح لم يحل لأنه صار ميتاً قبل الذكاة فإن جرح السبع شاة فذبحها صاحبها وفيها حياة مستقرة حل وإن لم يبق فيها حياة مستقرة لم تحل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخشني: "فإن رد عليك كلبك غنمك وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذلك وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكله" والمستحب إذا ذبح أن لا يكسر عنقها ولا يسلخ جلدها قبل أن تبرد لما روي أن الفرافصة قال لعمر رضي الله عنه إنكم تأكلون طعاماً لا نأكله قال: وما ذاك يا أبا حسان؟ فقال: تعجلون الأنفس قبل أن تزهق فأمر عمر رضي الله عنه منادياً ينادي الذكاة في الحلق واللبة لمن قدر ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق. فصل: ويجوز الصيد بالجوارح المعلمة كالكلب والفهد والبازي والصقر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] قال ابن عباس رضي الله عنه: هي الكلاب المعلمة والبازي وكل طائر يعلم الصيد. فصل: والمعلم هو الذي إذا أرسله على الصيد طلبه فإذا أشره استشلى فإذا أخذ الصيد أمسكه وخلى بينه وبينه فإذا تكرر منه ذلك كان معلماً وحل له ما قتله. فصل: وإن أرسل من تحل ذكاته جارحة معلمة على الصيد فقتله بظفره أو نابه أو بمنقاره حل أكله لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنت في أرض صيد فأرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله تعالى وكل" وأما إذا أرسله من لا تحل ذكاته فقتله لم يحل لأن الكلب آلى كالسكين والمذكي هو المرسل فإذا لم يكن من أهل

الذكاة لم يحل صيده فإن أرسل جارحة غير معلمة فقتل الصيد لم يحل لما روى أبو ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم فما أدركت ذكاته فكل" وإن استرسل المعلم بنفسه فقتل الصيد لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أرسلت كلابك المعلمة فأمسكن عليك فكل1" قلت: وإن قتلن؟ قال "وإن قتلن" فشرط أن يرسل وإن أرسل فقتل الصيد بثقله ففيه قولان: أحدهما لا يحل لأنه آلة للصيد فإذا قتل بثقله لم يحل كالسلاح والثاني يحل لحديث عدي ولأنه لا يمكن تعليم الكلب الجرح وإنهار الدم فسقط اعتباره كالعقر في محل الذكاة وإن شارك كلبه في قتل الصيد كلب مجوسي أو كلب استرسل بنفسه لم يحل لأنه اجتمع في ذبحه ما يقتضي الحظر والإباحة فغلب الحظر كالمتولد بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل وإن وجد مع كلبه كلباً آخر لا يعرف حاله ولا يعلم القاتل منهما لم يحل لما روى عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسلت كلبي ووجدت مع كلبي كلباً آخر لا أدري أيهما أخذه فقال: لا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ولأن الأصل فيه الحظر فإذا أشكل بقي على أصله وإن قتل الكلب الصيد وأكل منه ففيه قولان: أحدهما يحل لما روى أو ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك وإن أكل منه" والثاني لا يحل لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن إلا أن يأكل الكلب منه فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه2" وإن شرب من دمه لم يحرم قولاً واحداً لأن الدم لا منفعة له فيه ولا يمنع الكلب منه فلم يحرم وإن كانت الجارحة سن الطير فأكل من الصيد فهو كالكلب وفيه قولان وقال المزني أكل الطير لا يحرم وأكل الكلب يحرم لأن الطير لا يضرب على الأكل والكلب يضرب وهذا لا يصح لأنه يمكن أن يعلم الطير ترك الأكل كما يعلم الكلب وإن اختلفا في الضرب. فصل: إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد نجس وهل يجب غسله؟ فيه وجهان: أحدهما يجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب قياساً على غير الصيد والثاني لا يجب لأنا لو أوجبنا ذلك ألزمناه أن يغسل جميعه لأن الناب إذا لاقى جزءا من الدم نجس ذلك الجزء ونجس كل ما لاقاه إلى أن ينجس جميع بدنه وغسل جميعه يشق فسقط كدم البراغيث. فصل: ويجوز الصيد بالرمي لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله إنا

_ 1 رواه النسائي في كتاب الصيد باب 5. 2 رواه النسائي في كتاب الصيد باب 5.

نكون في أرض صيد فيصيب أحدنا بقوسه الصيد ويبعث كلبه المعلم فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما لا ندرك ذكاته فقال صلى الله عليه وسلم: "ما ردت عليك قوسك فكل وما أمسك كلبك المعلم فكل1" وإن رماه بمحدد كالسيف والنشاب والمروة المحددة وأصابه بحده فقتله لم يحل وإن رمي بما لا حد له كالبندق والدبوس أو بما له حد فأصابه بغير حده فقلته لم يحل لما روى عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال: "إذا أصبد بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وإن رماه بسهم لا يبلغ الصيد وأعانه الريح حتى بلغه فقتله حل أكله لأنه لا يمكن حفظ الرمي من الريح فعفى عنه وإن رمى بسهم فأصاب الأرض ثم ازدلف فأصاب الصيد فقتله ففيه وجهان بناء على القولين فيمن رمى إلى الغرض في المسابقة فوقع السهم دون الغرض ثم ازدلف وبلغ الغرض وإن رمى طائراً فوقع على الأرض فمات حل أكله لأنه لا يمكن حفظه من الوقوع على الأرض وإن وقع في ماء فمات أو على حائط أو جبل فتردى منه ومات لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله فإن وجدته ميتاً فكل إلا أن تجده قد وقع في الماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك2". فصل: وإن رمى صيداً أو أرسل عليه كلباً فعقره ولم يقتله نظرت فإن أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة بأن شق جوفه وخرجت الحشوة أو أصاب العقر مقتلاً فالمستحب أن يمر السكين على الحلق ليريحه وإن لم يفعل حتى مات حل لأن العقر قد ذبحه وإنما بقيت فيه حركة المذبوح وإن كانت فيه حياة مستقرة ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من ذبحه حل وإن بقي من الزمان ما يتمكن فيه من ذبحه فلم يذبحه أو لم يكن معه ما يذبح به فمات لم يحل لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رد عليك كلبك المكلب وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل وإن رد عليك كلب غنمك فذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل وما ردت عليك يدك وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 22. الترمذي في كتاب الصيد باب 1. النسائي في كتاب الصيد باب 16. أحمد في مسنده "4/156" "5/388". 2 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 7. النسائي في كتاب الصيد باب 18.

وإن لم تدرك ذكاته فكله1" وإن عقره الكلب أو السهم وغاب عنه ثم وجده ميتاً والعقر مما يجوز أن يموت منه ويجوز أن لا يموت منه فقد قال الشافعي رحمه الله: لا يحل إلا أن يكون خبر فلا رأى فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يحل لما روى عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي الصيد فأطلبه فلا أجده إلا بعد ليلة قال: "إذا رأيت سهمك فيه ولم يأكل منه سبع فكل2" ولأن الظاهر أنه مات منه لأنه لم يعرف سبب سواه والثاني أنه لا يحل لما روى زياد بن أبي مريم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رميت صيداً ثم تغيب فوجدته ميتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هوام الأرض كثيرة" ولم يأمره بأكله ومنهم من قال يؤكل قولاً واحداً لأنه قال: لا يؤكل إذا لم يكن خبر وقد ثبت الخبر أنه أمر بأكله. فصل: وإن نصب أحبولة وفيها حديدة فوقع فيها صيد فقتلته الحديدة لم يحل لأنه مات بغير فعل من جهة أحد فلم يحل. فصل: وإن أرسل سهماً على صيد فأصاب غيره فقتله حل أكله لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة ما رد عليك قوسك فكل ولأننه مات بفعله ولم يفقد إلا القصد وذلك لا يعتبر في الذكاة والدليل عليه أنه تصح ذكاة المجنون وإن لم يكن له قصد فإن أرسل كلباً على صيد فأصاب غيره فقتله نظرت فإن أصابه في الجهة التي أرسله فيها حل لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رد عليك كلبك ولم درك ذكاته فكل3" وإن عدل إلى جهة أخرى فأصاب صيداً غيره ففيه وجهان: أحدهما لا يحل - وهو قول أبي إسحاق - لأن للكلب اختياراً فإذا عدل كان صيده باختياره فلم يحل كما لو استرسل بنفسه فأخذ الصيد ومن أصحابنا من قال يحل لأن الكلب لا يمكن منعه من العدول في طلب الصيد. فصل: وإن أرسل كلباً وهو لا يرى صيداً فأصاب صيداً لم يحل لأنه أرله على غير صيد فلم يحل ما اصطاده كما لو حل باطله فاسترسل بنفسه واصطاد وإن أرسل

_ 1 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 4، 10. مسلم في كتاب الصيد حديث 8. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 22. النسائي في كتاب الصيد باب 4. أحمد في مسنده "4/194". 2 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 8. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 22. أحمد في مسنده "4/377". 3

سهماً في الهواء وهو لا يرى صيداً سهماً في الهواء وهو لا يرى صيداً فأصاب صيداً ففيه وجهان: قال أبو إسحاق يحل لأنه قتله بفعله ولم يفقد إلا القصد إلى الذبح وذلك لا يعتبر كما لو قطع شيئاً وهو يظن أنه خشبة فكان حلق شاة ومن أصحابنا من قال لا يحل وهو الصحيح لأنه لم يقصد صيداً بعينه فأشبه إذا نصب أحبولة فيها حديدة فوقع فيها صيد فقتله وإن كان في يده سكين فوقعت على حلق شاة فقتلتها حل في قول أبي إسحاق لأنه حصل الذبح بفعله وعلى القول الآخر لا تحل لأنه لم يقصد. فصل: وإن رأى صيداً فظنه حجراً أو حيواناً غير الصيد فرماه فقتله حل أكله لأنه قتله بفعل قصده وإنما جهل حقيقته والجهل بذلك لا يؤثر كما لو قطع شيئاً فظنه غير الحيوان فكان حلق شاة وإن أرسل على ذلك كلباً فقتله ففيه وجهان: أحدهما يحل كما يحل إذا رماه بسهم والثاني لا يحل لأنه أرسله على غير صيد فأشبه إذا أرسله على غير شيء. فصل: وإن توحش أهلي أو ند بعير أو تردى في بر فلم يقدر على ذكاته في حلقه فذكاته حيث يصاب من بدنه لما روى رافع ابن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة وقد أصاب القوم غنماً وإبلاً فند منها بعير فرمى بسهم فحبسه الله به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا1" وقال ابن عباس رضي الله عنه: ما أعجزك من البائم فهو بمنزلة الصيد ولأنه تعذر ذكاته في الحلق فصار كالصيد وإن تأنس الصيد فذكاته ذكاة الأهلي كما أن الأهلي إذا توحش فذكاته ذكاة الوحشي وإن ذكى ما يؤكل لحمه ووجد في جوفه جنيناً ميتاً حل أكله لما روى أبو سعيد قال: قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين

_ 1 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 15، 18. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 20. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 14. الترمذي في كتاب الصيد باب 19. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 15.

أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه1" ولأن الجنين لا يمكن ذبحه فجعل ذكاة الأم ذكاة له وإن خرج الجنين حياً وتمكن من ذبحه لم يحل من غير ذبح وإن مات قبل أن يتمكن من ذكاته حل. فصل: إذا أثبت صيداً بالرمي أو بالكلب فأزال امتناعه ملكه لأنه حبسه بفعله فملكه كما لو أمسكه بيده فإن رماه اثنان واحد بعد واحد فهو لمن أثبته منهما فإن ادعى كل واحد منهما أنه هو الذي سبقه وأزال امتناعه وأن الآخر رماه فقتله فعليه الضمان لم يحل أكله لأنهما اتفقا على أنه قتل بعد إمكان ذبحه فلم يحل ويتحالفان فإذا حلفا بريء كل واحد منهما مما يدعي الآخر وإن اتفقا على أن أحدهما هو السابق غير أن السابق ادعى أنه هو الذي أثته بسهمه وادعى الآخر أنه بقي على الامتناع إلى أن رماه هو فالقول قول الثاني لأن الأصل بقاؤه على الامتناع وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح كالقبج والقطا فرماه أحدهما فأصاب الرجل ثم رماه الآخر فأصاب الجناح ففيه وجهان: أحدهما أنه يكون بينهما لأنه زال الامتناع بفعلهما فتساويا والثاني أنه للثاني وهو الصحيح لأن الامتناع لم يزل إلا بفعل الثاني فوجب أن يكون له. فصل: وإن رمى الصيد اثنان أحدهما بعد الآخر ولم يعلم بإصابه من منهما صار غير ممتنع فقد قال في المختصر: إنه يؤكل ويكون بينهما فحمل أبو إسحاق هذا على ظاهره فقال: يحل أكله لأن الأصل أنه بقي بعد عقر الأول على الامتناع إلى أن قتله الآخر فيحل ويكون بينهما لأن الظاهر أنهما مشتركان فيه بحكم اليد ومن أصحابنا من قال: إن بقي على الامتناع حتى رماه الآخر فقتله حل وكان للثاني وإن زال امتناعه بالأول فهو للأول ولا يحل بقتل الثاني لأنه صار مقدوراً عليه فيجب أن يتأول عليه إذا لم يمتنع الصيد حتى أدركه وذكاه فيحل واختلفا في السابق منهما فيكون بينهما. فصل: فإن رمى رجل صيداً فأزال امتناعه ثم رماه الآخر نظرت فإن أصاب الحلقوم والمريء فقتله حل أكله لأنه قد صار ذكاته في الحلق واللبة وقد ذكاه في الحلق واللبة ويلزمه للأول ما بين قيمته مجروحاً ومذبوحاً كما لو ذبح له شاة مجروحة وإن

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الصيد باب 10. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 17. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 15. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 17. أحمد في مسنده "3/31".

أصاب غير الحلق واللبة نظرت فإن وحاه لم يحل أكله لأنه قد صار ذكاته في الحلق واللبة فقتله بغير ذكاة فلم يحل ويجب عليه قيمته لصاحبه مجروحاً كما لو قتل له شاة مجروحة فإن لم يوجه وبقي مجروحاً ثم مات نظرت فإن مات قبل أن يدركه صاحبه أو بعد ما أدركه وقبل أن يتمكن من ذبحه وجب عليه قيمته مجروحاً لأنه مات من جنايته وإن أدركه وتمكن من ذبحه فلم يذبحه حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته في الحلق مع القدرة واختلف أصحابنا في ضمانه فقال أبو سعيد الإصطخري: تجب عليه قيمته مجروحاً لأنه لم يوجد من الأول أكثر من الرمي الذي ملك به وهو فعل مباح وترك ذبحه إلى أن مات وهذا لا يسقط الضمان كما لو جرح رجل شاة لرجل فترك صاحبها ذبحها حتى ماتت والمذهب أنه لا يجب عليه كمال القيمة لأنه مات بسببين محظورين: جناية الثاني وسراية جرح الأول فالسراية كالجناية في إيجاب الضمان فيصير كأنه مات من جناية اثنين وما هلك بجناية اثنين لا يجب علي أحدهما كمال القيمة وإذا قلنا بهذا قسم الضمان على الجانبين فما يخص الأول يسقط عن الثاني ويجب عليه الباقي ونبين ذلك في جنايتين مضمونتين ليعرف ما يجب على كل واحد منهما فما وجب على الأول منهما من قيمته أسقطناه عن الثاني فنقول: إذا كان لرجل صيد قيمته عشرة فجرحه رجل جراحة نقص من قيمته درهم ثم جرحه آخر فنقص درهم ثم مات ففيه لأصحابنا ستة طرق: أحدها - وهو قول المزني - إنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد الجنايتين بينهما نصفان فيجب على الأول درهم وعلى الثاني درهم ثم تجب قيمته بعد الجنايتين - وهو ثمانية - بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة فيحصل على كل واحد منهما خمسة لأن كل واحد منهما انفرد بجنايته فوجب عليه أرشها ثم هلك الصيد بجنايتهما فوجب عليهما قيمته والثاني - وهو قول أبي إسحاق إنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم الجناية ونصف أرش جنايته فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وسقط عنه النصف لأن أرش الجناية يدخل في النفس وقد ضمن نصف النفس والجناية كانت على النصف الذي ضمنه وعلى النصف الذي ضمنه الآخر فما حصل على النصف الذي ضمنه يدخل في الضمان فيسقط وما حصل على النصف الذي ضمنه الآخر يلزم فيحصل عليه خمسة دراهم ونصف الآخر جنى وقيمته تسعة فيلزمه نصف قيمته أربعة ونصف وأرش جنايته درهم فيدخل نصفه في النصف الذي ضمنه ويبقى النصف لأجل النصف الذي ضمنه الأول فيجب عليه خمسة دراهم ثم يرجع الأول على الثاني بنصف الأرض الذي ضمنه وهو نصف درهم لأن هذا الأرش وجب بالجناية على

النصف الذي ضمنه الأول وقد ضمن الأول كمال قيمة النصف فرجع بأرش الجناية عليه كرجل غصب من رجل ثوباً فخرقه رجل ثم هلك الثوب وجاء صاحبه وضمن الغاصب كمال قيمة الثوب فإنه يرجع على الجاني بأرش الحرق فيحصل على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني خمسة دراهم فهذا يوافق قول المزني في الحكم وإن خالفه في الطريق والثالث - وهو قول أبي الطيب بن سلمة - إنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته حال الجناية ونصف أرض جناية ويدخل النصف فيما ضمنه صاحبه كما قال أبو إسحاق إلا أنه قال لا يعود من الثاني إلى الأول شيء ثم ينظر لما حصل على كل واحد منهما ويضم بعضه إلى بعض وتقسم عليه العشرة فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني خمسة دراهم فذلك عشرة ونصف فتقسم العشرة على عشرة ونصف فما يخص خمسة ونصفاً يجب على الأول وما يخص خمساً يجب على الثاني والرابع ما قال بعض أصحابنا إنه يجب على الأول أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد ذلك بينهما نصفين ولا يجب على الثاني أرش جنايته فيجب على الأول درهم ثم تجب التسعة بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة دراهم ونصف فيحصل على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني أربعة دراهم ونصف لأن الأول انفراد بالجناية فلزمه أرشها ثم اجتمع جناية الثاني وسراية الأول فحصل الموت منهما فكانت القيمة بينهما والخامس ما قال بعض أصحابنا إن الأرش في قيمة الصيد فيجب على الأول نصف قيمته حال الجناية وهو خمسة وعلى الثاني نصف قيمته حال الجناية وهو أربعة ونصف ويسقط نصف درهم قال: لأني لم أجد محلاً أوجبه فيه والسادس وهو قول أبي علي بن خيران وهو أن أرش جناية كل واحد منهما يدخل في القيمة فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول إلى قيمة الصيد عند جناية الثاني فتكون تسعة عشر ثم تقسم العشرة على ذلك فيما يخص الطرق الأربعة لا يدخلون الأرش في بدل النفس وهذا لا يجوز لأن الأرش يدخل في بدل النفس وصاحب الطريق الخامس يوجب في صيد قيمته عشرة تسعة ونصفاً ويسقط من قيمته نصف درهم وهذا لا يجوز. فصل: ومن ملك صيداً ثم خلاه ففيه وجهان: أحدهما يزول ملكه كما لو ملك عبداً ثم أعتقه والثاني لا يزول ملكه كما لو ملك بهيمة ثم سيبها وبالله التوفيق.

المجلد الثاني

المجلد الثاني كتاب البيوع مدخل ... كتاب البيوع البيع جائز وأصله قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} [النساء: 29] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة: 275] ويصح البيع من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا يصح بيعهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" ولأنه تصرف في المال فلم يفوض إلى الصبي والمجنون كحفظ المال فأما المكره فإنه إن كان بغير حق لم يصح بيعه لقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فدل على أنه إذا لم يكن عن تراض لم يحل الأكل وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما البيع عن تراض" فدل على أنه لا بيع عن غير تراض ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر إذا أكره عليها المسلم وإن كان بحق صح لأنه قول حمل عليه بحق فصح ككلمة الإسلام إذا أكره عليها الحربي. فصل: ولا ينعقد البيع إلا بالإيجاب والقبول فأما المعاطاة فلا ينعقد فيها البيع لأن اسم البيع لا يقع عليه والإيجاب أن يقول بعتك أو ملكتك أو ما أشبههما والقبول أن يقول قبلت أو ابتعت أو ما أشبههما فإن قال المشتري بعني فقال البائع: بعتك انعقد البيع لأن ذلك يتضمن الإيجاب والقبول وإن كتب رجل إلى رجل ببيع سلعة فيه وجهان: أحدهما ينعقد

البيع لأنه موضع ضرورة والثاني لا ينعقد وهو الصحيح لأنه قادر على النطق فلا ينعقد البيع بغيره وقول القائل الأول إنه موضع ضرورة لا يصح لأنه يمكنه أن يوكل من يبيعه بالقول. فصل: وإذا انعقد البيع ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر1" والتفرق أن يتفرقا بأبدانهما بحيث إذا كلمه عن العادة لم يسمع كلامه لما روى نافع أن ابن عمر كان إذا اشترى شيئاً مشى أذرعاً ليجب البيع ثم يرجع ولأن التفرق في الشرع مطلق فوجب أن يحمل على التفرق المعهود وذلك يحصل بما ذكرناه وإن لم يتفرقا ولكن جعل بينهما حاجز من ستر أو غيره لم يسقط الخيار لأن ذلك لا يسمى تفرقاً وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر اختر إمضاء البيع أو فسخه فيقول الآخر اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار لقوله عليه الصلاة والسلام "أو يقول أحدهما للآخر اختر" فإن خير أحدهما صاحبه فسكت لم ينقطع خيار المسؤول وهل ينقطع خيار السائل؟ فيه وجهان: أحدهما لا ينقطع خياره كما لو قال لزوجته اختاري فسكتت فإن خيار الزوج في طلاقها لا يسقط والثاني أنه ينقطع لقوله عليه الصلاة والسلام: "أو يقول أحدهما للآخر اختر" فدل على أنه إذا قال يسقط خياره ويخالف تخيير المرأة فإن المرأة لم تكن مالكة للخيار وإذا خيرها فقد ملكها ما لم تكن تملكه فإذا سكتت بقي على حقه وههنا المشتري يملك الفسخ فلا يفيد تخييره إسقاط حقه من الخيار فإن أكرها على التفرق ففيه وجهان: أحدهما يبطل الخيار لأنه كان يمكنه أن يفسخ بالتخاير فإذا لم يفعل فقد رضي بإسقاط الخيار والثاني أنه لا يبطل لأنه لم يوجد منه أكثر من السكوت والسكوت لا يسقط الخيار. فصل: فإن باعه على أن لا خيار له ففيه وجهان: من أصحابنا من قال يصح لأن الخيار جعل رفقاً بهما فجاز لهما تركه ولأن الخيار غرر فجاز إسقاطه وقال أبو إسحاق لا يصح وهو الصحيح لأنه خيار يثبت بعد تمام البيع فلم يجز إسقاطه قبل تمامه كخيار الشفيع فإن قلنا بهذا فهل يبطل العقد بتمام الشرط؟ فيه وجهان أحدهما لا يبطل لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى الجهل بالعوض المعوض والثاني يبطل لأنه

_ 1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 19، 22.ومسلم في كتاب البيوع حديث رقم 4، 46.وأبو داود في كتاب البيوع باب 51.والترمذي في البيوع باب 26.النسائي في كتاب البيوع باب 4، 8.ابن ماجة في كتاب التجارات باب 17. الموطأ في كتاب البيوع باب حديث رقم 79. أحمد في مسنده "2/4، 9" "3/403".

يسقط موجب العقد كما لو شرط ألا يسلم المبيع. فصل: ويجوز شرط خيار ثلاثة أيام في البيوع التي لاربا فيها لما روى محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي قد بلغ ثلاثين ومائة سنة لا يترك البيع والشراء ولا يزال يخدع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بايعته فقل لاخلابة وأنت بالخيار ثلاثاً1" فأما في البيوع التي فيها الربا وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام فلا يجوز فيها شرط الخيار لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمام المبيع ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين فلو جوزنا شرط الخيار لتفرقا ولم يتم البيع بينهما وجاز شرط الخيار في ثلاثة أيام وفيما دونهما لأنه لو جاز شرط الثلاث فما دونها أولى بذلك ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام لأنه غرر وإنما جوز في الثلاث لأنه رخصة فلا يجوز فيما زاد ويجوز أن يشترط لهما ولأحدهما دون الآخر ويجوز أن يشترط لأحدهما ثلاثة أيام وللآخر يوم أو يومان لأن ذلك جعل إلى شرطهما فكان على حسب الشرط فإن شرطا ثلاثة أيام ثم تخايرا سقط قياساً على خيار المجلس وإن شرط الخيار لأجنبي ففيه قولان: أحدهما لا يصح لأنه حكم من أحكام العقد فلا يثبت لغير المتعاقدين كسائر الأحكام والثاني يصح لأنه جعل إلى شرطهما للحاجة وربما دعت الحاجة إلى شرطه للأجنبي بأن يكون أعرف بالمتاع منهما فإن شرطه للأجنبي وقلنا إنه يصح فهل يثبت له؟ فيه وجهان: أحدهما يثبت له لأنه إذا ثبت للأجنبي من جهته فلأن يثبت له أولى والثاني لا يثبت لأن ثبوته بالشرط فلا يثبت إلا لمن شرط له قال في الصرف: إذا اشترى بشرط الخيار على أن لا يفسخ حتى يستأمر فلاناً لم يكن له أن يفسخ حتى يقول استأمرته فأمرني بالفسخ فمن أصحابنا من قال له أن يفسخ من غير إذنه لأن له أن يفسخ من غير شرط الاستثمار فلا يسقط حقه بذكر الاستثمار وتأول ما قاله على أنه أراد به أنه لا يقول استأمرته إلا بعد أن يستأمره لئلا يكون كاذباً ومنهم من حمله على ظاهره أنه لا يجوز أن يفسخ لأنه ثبت بالشرط فكان على ما شرط وإذا شرط الخيار في البيع ففي ابتداء مدته وجهان: أحدهما من حين العقد لأنها مدة ملحقة بالعقد فاعتبر ابتداؤها من حين العقد كالأجل ولأنه اعتبر من

_ 1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 48.مسلم في كتاب البيوع حديث 48. أبو داود في كتاب البيوع باب 66. الترمذي في كتاب البيوع باب 28. الموطأ في كتاب البيوع حديث رقم 98. أحمد في مسنده"2/80".

حين التفرق صار أول مدة الخيار مجهولاً لأنه لا يعلم متى يفترقان والثاني أنه يعتبر من حين التفرق لأن ما قبل التفرق الخيار ثابت فيه بالشرع فلا يثبت فيه بشرط الخيار فإن قلنا إن ابتداءه من حين العقد فشرط أن يكون من حين التفرق بطل لأن وقت الخيار مجهول ولأنه يزيد الخيار على ثلاثة أيام ولو قلنا أن ابتداءه من حين التفرق فشرط أن يكون من حين العقد ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن ابتداء الوقت معلوم والثاني لا يصح لأنه شرط ينافي موجب العقد فأبطله ومن ثبت له الخيار فله أن يفسخ في محضر من صاحبه وفي غيبته لأنه رفع عقد جعل إلى اختياره فجاز في حضوره وغيبته كالطلاق فإن تصرف في المبيع تصرفاً يفتقر إلى الملك كالعتق والوطء والهبة والبيع وما أشبهها نظرت فإن كان ذلك من البائع كان اختياراً للفسخ لأنه تصرف يفتقر إلى الملك فجعل اختياراً للفسخ والرد إلى الملك وإن كان ذلك من المشتري ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: إن كان ذلك عتقاً كان اختياراً للإمضاء وإن كان غيره لم يكن اختياراً لأن العتق لو وجد قبل العلم بالعيب منع الرد فأسقط خيار المجلس وخيار الشرط وما سواه لو وجد قبل العلم بالعيب لم يمنع الرد فلم يسقط خيار المجلس وخيار الشرط وقال أبو سعيد الإصطخري: الجميع اختيار للإممضاء وهو الصحيح لأن الجميع يفتقر إلى الملك فكان الجميع اختياراً للملك ولأن في حق البائع الجميع واحد فكذلك في حق المشتري فإن وطئها المشتري بحضرة البائع وهو ساكت فهل ينقطع خيار البائع بذلك؟ فيه وجهان أحدهما ينقطع لأنه أمكنه أن يمنعه فإذا سكت كان ذلك رضا بالبيع والثاني لا ينقطع لأنه سكوت عن التصرف في ملكه فلا يسقط عليه حكم التصرف كما لو رأى رجلاً يخرق ثوبه فسكت عنه فإن جن من له الخيار أو أغمي عليه انتقل الخيار إلى الناظر في ماله وإن مات فإن كان في خيار الشرط انتقل الخيار إلى من ينتقل إليه المال لأنه حق ثابت لإصلاح المال كالرهن وحبس المبيع على الثمن فإن لم يعلم والوارث حتى انقضت المدة ففيه وجهان: أحدهما يثبت له الخيار في القدر الذي بقي من المدة لأنه لما انتقل الخيار إلى غير من شرط له بالموت وجب أن ينتقل إلى غير الزمان الذي شرط فيه والثاني أن تسقط المدة ويثبت الخيار للوارث على الفور لأن المدة فاتت وبقي الخيار فكان على الفور كخيار الرد بالعيب وإن كان في خيار المجلس فقد روى المزني أن الخيار للوارث وقال في المكاتب إذا مات وجب البيع فمن أصحابنا من قال لا يسقط الخيار بالموت في المكاتب وغيره وقوله في المكاتب وجب

البيع أراد به أن ينفسخ بالموت كما تنفسخ الكتابة ومنهم من قال يسقط الخيار في بيع المكاتب ولا يسقط في بيع غيره لأن السيد يملك بحق الملك فإذا لم يملك في حياة المكاتب لم يملك بعد موته والوارث يملك بحق الإرث فانتقل إليه بموته ومنهم من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وخرجهما على قولين: أحدهما أنه يسقط الخيار لأنه إذا سقط الخيار بالتفرق فلأن يسقط بالموت والتفرق فيه أعظم أولى والثاني لا يسقط وهو الصحيح لأنه خيار ثابت لفسخ البيع فلم يبطل بالموت كخيار الشرط فعلى هذا إن كان الذي ينتقل إليه الخيار حاضراً ثبت له الخيار إلى أن يتفرقا أو يتخايرا وإن كان غائباً ثبت له الخيار إلى أن يفارق الموضع الذي بلغه فيه. فصل: وفي الوقت الذي ينتقل الملك في البيع الذي فيه خيار المجلس أو خيار الشرط ثلاثة أقوال: أحدها ينتقل بنفس العقد لأنه عقد معاوضة يوجب الملك فانتقل الملك فيه بنفس العقد كالنكاح والثاني أنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار لأنه لا يملك التصرف إلا بالعقد وانقضاء الخيار فدل على أنه لا يملك إلا بهما والثالث أنه موقوف مراعى فإن لم ينفسخ العقد تبينا أنه ملك بالعقد وإن فسخ تبينا أنه لم يملك لأنه لا يجوز أنه يملك بالعقد لأنه لو ملك بالعقد لملك التصرف ولا يجوز أن يملك بانقضاء الخيار لأن انقضاء الخيار لا يوجب الملك فثبت أنه موقوف مراعى فإن كان المبيع عبداً فأعتقه البائع نفذ عتقه لأنه إن كان باقياً على ملكه فقد صادف العتق ملكه وإن كان قد زال ملكه عنه إلا أن يملك الفسخ فجعل العتق فسخاً وإن أعتقه المشتري لم يخل إما أن يفسخ البائع البيع أو لا يفسخ فإن لم يفسخ وقلنا إنه يملكه بنفس العقد أو قلنا إنه موقوف نفذ عتقه لأنه صادف ملكه وإن قلنا إنه لا يملك بالعقد م يعتق لأنه لم يصادف ملكه وإن فسخ البائع وقلنا إنه لا يملك بالعقد أو موقوف لم يعتق لأنه لم يصادف ملكه وإن قلنا إنه يملك بالعقد ففيه وجهان: قال أبو العباس إن كان موسراً عتق وإن كان معسراً لم يعتق لأن العتق صادف ملكه وقد تعلق به حق الغير فأشبه عتق المرهون ومن أصحابنا من قال لا يعتق وهو المنصوص لأن البائع اختار الفسخ والمشتري اختار الإجازة بالعتق والفسخ والإجازة إذا اجتمعا قدم الفسخ ولهذا لو قال المشتري أجزت وقال البائع بعده فسخت قدم الفسخ وبطلت الإجازة وإن كانت سابقة للفسخ فإن قلنا لا يعتق عاد العبد إلى ملك البائع وإن قلنا يعتق فهل يرجع البائع بالثمن أو بالقيمة؟ قال أبو العباس يحتمل وجهين: أحدهما يرجع بالثمن ويكون العتق مقرراً للعقد ومبطلاً للفسخ. والثاني

أنه يرجع بالقيمة لأن البيع انفسخ وتعذر الرجوع إلى العين فرجع إلى قيمته كما لو اشترى عبداً بثوب واعتق العبد ووجد البائع بالثوب عيباً فرده فإنه يرجع بقيمة العبد فإن باع البائع المبيع أو وهبه صح لأنه إما أن يكون على ملكه فيملك العقد عليه وإما أن يكون للمشتري إلا أنه يملك الفسخ فجعل البيع والهبة فسخاً وإن باع المشتري المبيع أو وهبه نظرت فإن كان بغير رضى البائع فإن قلنا إنه في ملك البائع لم يصح تصرفه وإن قلنا إنه في ملكه ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري: يصح وللبائع أن يختار الفسخ فإذا فسخ بطل تصرف المشتري ووجهه أن التصرف صادف ملكه الذي ثبت للغير فيه حق الانتزاع فأشبه إذا اشترى شقصاً فيه شفعة فباعه ومن أصحابنا من قال لا يصح لأنه باع عيناً تعلق بها حق الغير من غير رضاه فلم يصح كما لو باع الراهن المرهون فأما إذا تصرف فيه برضى البائع نظرت فإن كان عتقاً نفذ لأنهما رضيا بإمضاء البيع وإن كان بيعاً أو هبة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه ابتدأ بالتصرف قبل أن يتم ملكه والثاني يصح لأن المنع من التصرف لحق البائع وقد رضي البائع. فصل: وإن كان المبيع جارية لم يمنع البائع من وطئها لأنها باقية على ملكه في بعض الأقوال ويمكن ردها إلى ملكه في بعض الأقوال فإذا وطئها انفسخ البيع ولا يجوز للمشتري وطؤها لأن في أحد الأقوال لا يملكها وفي الثاني مراعي فلا يعلم هل يملكها أم لا وفي الثالث يملكها ملكاً غير مستقر فإن وطئها لم يجب الحد وإن أحبلها ثبت نسب الولد وانعقد الولد حراً لأنه إما أن يكون في ملك أو في شبهة ملك وأما المهر وقيمة الولد وكون الجارية أم ولد فإنه يبنى على الأقوال فإن أجاز البائع البيع بعد وطء المشتري وقلنا إن الملك للمشتري أو موقوف لم يلزمه المهر ولا قيمة الولد وتصير الجارية أم ولد لأنها مملوكته وإن قلنا إن الملك للبائع فعليه المهر وقال أبو إسحاق: لا يلزمه كما لا تلزمه أجرة الخدمة والمذهب الأول لأنه وطء في ملك البائع ويخالف الخدمة فإن الخدمة تستباح بالإباحة والوطء لا يستباح وفي قيمة الولد وجهان: أحدهما لا تلزمه لأنها وضعته في ملكه والاعتبار بحال الوضع ألا ترى أن قيمة الولد تعتبر حال الوضع والثاني تلزمه لأن العلوق حصل في غير ملكه والاعتبار بحال العلوق لأنها حالة الإتلاف وإنما تأخر التقويم إلى حال الوضع لأنه لا يمكن تقويمه في حال العلوق وهل تصير الجارية أم ولد؟ فيه قولان كما قلنا فيمن أحبل جارية غيره بشبهة فأما إذا فسخ البيع وعادت إلى ملكه فإن قلنا إن الملك للبائع أو موقوف وجب عليه المهر وقيمة الولد ولا تصير الجارية في الحال أم ولد وهل تصير أم ولد إذا ملكها؟ فيه قولان وإن قلنا إن

الملك للمشتري لم يجب عليه المهر لأن الوطء صادف ملكه ومن أصحابنا من قال: يجب لأن لم يتم ملكه عليها وهذا يبطل به إذا أجاز البائع البيع وعلى قول أبي العباس تصير أم ولد كما تعتق إذا أعتقها عنده وهل يرجع البائع بقيمتها أو بالثمن؟ فيه وجهان: وقد بينا ذلك في العتق وعلى المنصوص أنها لا تصير أم ولد له لأن حق البائع سابق فلا يسقط بإحبال المشتري فإن ملكها المشتري بعد ذلك صارت أم ولد لأنها لم تصر أم ولد له في الحال لحق البائع فإذا ملكها صارت أم ولد. فصل: وإن اشترى جارية فولدت في مدة الخيار بنينا على أن الحمل هل له حكم في البيع وفيه قولان: أحدهما له حكم ويقابله قسط من الثمن وهو الصحيح لأن ما أخذ قسطاً من الثمن بعد الانفصال أخذ قسطاً من الثمن قبل الانفصال كاللبن والثاني لا حكم له ولا قسط له من الثمن لأنه يتبعها في العتق فلم يأخذ قسطاً من الثمن كالأعضاء فإن قلنا إن له حكماً فهو مع الأم بمنزلة العينين المبيعتين فإن أمضى العقد كانا للمشتري وإن فسخ العقد كانا للبائع كالعينين المبيعتين وإن قلنا لا حكم له نظرت فإن أمضى العقد وقلنا إن الملك ينتفل بالعقد أو موقوف فهما للمشتري وإن قلنا إنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار فالولد للبائع وإن قلنا يملك بالعقد فهو للمشتري وقال أبو اسحاق الولد للبائع لأن على هذا القول لا ينفذ عتق المشتري وهذا خطأ لأن العتق يفتقر إلى ملك تام والنماء لا يفتقر إلى ملك تام. فصل: وإن تلف المبيع في يد المشتري في مدة الخيار فلمن له الخيار الفسخ والإمضاء لأن الحاجة التي دعت إلى الخيار باقية بعد تلف المبيع فإن فسخ وجبت القيمة على المشتري لأنه تعذر رد العين فوجب رد القيمة وإن أمضى العقد فإن قلنا إنه يملك بنفس العقد أو موقوف فقد هلك من ملكه وإن قلنا يملك بالعقد وانقضاء الخيار وجب على المشتري قيمته والله أعلم.

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز الأعيان ضربان: نجس وطاهر فأما النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه ونجس بملاقاة نجاسة فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام1" وروى

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب التجارات باب 11.

ابن مسعود وأبو هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب" فنص على الكلب والخنزير والخمر والميتة وقسنا عليها سائر الأعيان النجسة فأما اقتناؤها فينظر فيه فإن لم يكن فيها منفعة مباحة كالخمر والخنزير والميتة العذرة لم يجز اقتناؤها لما روى أنس قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تصنع خلاً فكرهه وقال: "اهرقها" ولأن اقتناء ما لا منفعة فيه سفه فلم يجز فإن كان فيه منفعة مباحة كالكلب جاز اقتناؤه للصيد والماشية والزرع لما روى سالم عن أبيه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان1" وفي حديث أبو هريرة: "إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع" ولأن الحاجة تدعو إلى الكلب في هذه المواضع فجاز اقتناؤه وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدروب؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز للخبر والثاني يجوز لأنه حفظ مال فأشبه الزرع والماشية وهل يجوز لمن لا يصطاد أن يقتنيه ليصطاد به إذا أراد؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز للخبر والثاني لا يجوز لأنه لا حاجة به إليه وهل يجوز اقتناء الجرو للصيد والزرع والماشية فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه ليس فيه منفعة يحتاج إليها والثاني يجوز لأنه إذا جاز اقتناه للصيد جاز اقتناؤه لتعليم ذلك وأما السرجين فإنه يكره اقتناؤه وتربية الزرع به لما فيه من مباشرة النجاسة وأما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة فينظر فيها فإن كان جامداً كالثوب وغيره جاز بيعه لأن البيع يتناول الثوب وهو طاهر وإنما جاورته نجاسة وإن كان مائعاً نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس لم يجز بيعه لأنه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة وإن كان ماء ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز بيعه لأنه نجس لا يطهر بالغسل فلم يجز بيعه كالخمر والثاني يجوز بيعه لأنه يطهر بالماء فأشبه الثوب فإن كان دهناً فهل يطهر بالغسل؟ فيه وجهان: أحدهما لا يطهر لأن لا يمكن عصره من النجاسة فلم يطهر كالخل والثاني يطهر لأنه يمكن غسله بالماء فهو كالثوب فإن قلنا لا يطهر لم يجز بيعه كالخل وإن قلنا يطهر ففي بيعه وجهان كالماء النجس ويجوز استعماله في السراج والأولى أن لا يفعل لما فيه من مباشرة النجاسة. فصل: وأما الأعيان الطاهرة فضربان: ضرب لا منفعة فيه وضرب فيه منفعة فأما

_ 1 رواه البخاري في كتاب الذبائح باب 6.مسلم في كتاب المساقاة حديث 51- 60. الترمذي في كتاب الصيد باب 17. النسائي في كتاب الصيد باب 12،13. الموطأ في كتاب الإستئذان حديث 13. أحمد في مسنده "2/4، 8".

ما لا منفعة فيه فهو كالحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد والطيور التي لا تؤكل ولا تصطاد كالرخمة والحدأة وما يؤكل من الغراب فلا يجوز بيعه لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل وبذل العوض فيه من السفه واختلف أصحابنا في بيع دار لا طريق لها أو بيع بيت من دار لا طريق إليه فمنهم من قال لا يصح لأنه لا يمكن الانتفاع به فلم يصح بيعه ومنهم من قال يصح لأنه يمكن أن يحصل له طريق فينتفع به فيصح بيعه وأما مافيه منفعة فلايجوز بيع الحر منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره" ولايجوز بيع أم الولد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع أمهات الأولاد ولأنه استقر لها حق الحرية وفي بيعها إبطال ذلك فلم يجز ويجوز بيع المدبر لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً دبر غلاماً له ليس له مال غيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه منه فاشتراه نعيم" ويجوز بيع المعتق بصفة لأنه ثبت له العتق بقول السيد وحده فجاز بيعه كالمدبر وفي المكاتب قولان: قال في القديم يجوز بيعه لأن عتقه غير مستقر فلا يمنع من البيع وقال في الجديد لايجوز لأنه كالخارج من ملكه ولهذا لا يرجع أرش الجناية عليه إليه فلم يملك بيعه كما لو باعه ولايجوز بيع الوقف لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال أصاب عمر رضي الله عنه أرضا بخيبر فأتى البني صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: "إن شئت حبست أصله وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر صدقة لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث. فصل: ويجوز بيع ما سوى ذلك من الأعيان المنتفع بها من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم وما ينتفع به من الحيوان بالركوب والأكل والدر والنسل والصيد والصوف وما يقتنيه الناس من العبيد والجواري والأراضي والعقار لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعها من غير إنكار ولا فرق بين ما كان في الحرم من الدور

وغيره لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر نافع بن عبد الحارث أن يشتري داراً بمكة للسجن من صفوان بن أمية فاشتراها بأربعة آلاف درهم ولأنه أرض حية لم يرد عليها صدقة مؤبدة فجاز بيعها كغير الحرم ويجوز بيع المصاحف وكتب الأدب لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس يأخذون أجور أيديهم ولأنه طاهر منتفع به فهو كسائر الأموال واختلف أصحابنا في بيع بيض دود القز وبيض ما لا يؤكل لحمه من الطيور التي يجوز بيعها كالصقر والبازي فمنهم من قال هو طاهر ومنهم من قال هو نجس بناءً على الوجهين في طهارة من ما لا يؤكل لحمه ونجاسته فإن قلنا إن ذلك طاهر جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به فهو كبيض الدجاج وإن قلنا إنه نجس لم يجز بيعه لأنه عين نجسة فلم يجز بيعه كالكلب والخنزير.

باب مانهى عنه من بيع الغرر وغيره

باب ما نهى عنه من بيع الغرر وغيره ولا يجوز بيع المعدوم كالثمرة التي لم تخلق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر والغرر ما انطوى عليه أمره وخفيت عليه عاقبته ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في وصف أبو بكر رضي الله عنه: فرد نشر الإسلام على غره أي على طيه والمعدوم قد انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته فلم يجز بيعه وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعاومة وفي بعضها بيع السنين.

فصل: ولايجوز بيع مالا يملكه من غير إذن مالكه لما روى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبع ماليس عندكسيئ1" ولأن مالا يملكه لا يقدر على تسليمه فهو كالطير في الهواء أو السمك في الماء. فصل: ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجازة والصداق وماأشبهها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال يا رسول الله إني أبيع بيوعاً كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم قال: "لاتبع ما لم تقبضه2" ولأن ملكه عليه غير مستقر لأنه بما هلك فانفسخ العقد وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وهل يجوز عتقه؟ فيه وجهان: أحدهما أنه لايجوز لما ذكرناه والثاني يجوز لأن العتق له سراية فصح لقوته فأما ماملكه بغير معاوضة كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد فإنه يجوز بيعه وعتقه قبل القبض لأن ملكه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض وأما الديون فينظر فيها فإن كان الملك مستقراً كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لأن ملكه مستقر عليه فجاز بيعه كالمبيع وهل يجوز من غيره فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعه والثاني لا يجوز لأنه لا يقدر على تسليمه إليه لأنه ربما منعه أوجحده وذلك غرر لاحاجة به إليه فلم يجز والأول أظهر لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولاجحود وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلماً فلم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس وقال خذ برأس المال علفاً أو غنماً ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان: قال في الصرف يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لابأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء" ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالمبيع بعد

_ 1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 68. الترمذي في كتاب البيوع باب 9. النسائي في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 20. 2 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 55.

القبض وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن ملكه غير مستقر عليه لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان: أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته والثاني انه لايصح ذلك قولاً واحداً وهو المنصوص في المختصر لأنه لايملكه ملكاً مستقراً فلم يصح بيعه كالمسلم فيه والقبض فيما بنقل النقل لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحالهم وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجداد التخلية لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية. فصل: ولا يجوز بيع مالا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد والفرس العائر والعبد الآبق والمال المغصوب في يد الغاصب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وهذا غرر ولهذا قال ابن مسعود لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف وذلك لايمكن فيما لايقدر على تسليمه فإن باع طيراً في برج مغلق الباب أو السمك في بركة لاتتصل بنهر نظرت فإن قدر على تناوله إذا أراد من غير تعب جاز بيعه وإن كان في برج عظيم أو بركة عظيمة لايقدر على أخذه إلا بتعب لم يجز بيعه لأنه غير مقدور عليه في الحال وإن باع العبد الآبق ممن يقدر عليه أو المغصوب من الغاصب أو ممن يقدر على أخذه منه جاز لأنه لاغرر في بيعه منه. فصل: ولايجوز بيع عين مجهولة كبيع عبد من عبيد وثوب من أثواب لأن ذلك غرر من غير حاجة ويجوز أن يبيع قفيزاً من صبرة لأنه إذا عرف الصبرة عرف القفيز منها فزال الغرر. فصل: ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي بيع ما لايعرف جنسه أو نوعه غرر كبير فإن علم الجنس والنوع بأن قال بعتك الثوب المروي الذي في كمي أو العبد الزنجي الذي في داري أو الفرس الأدهم الذي في اصطبلي ففيه قولان: قال في القديم والصرف يصح ويثبت له الخيار إذا رآه لما روي ابن أبي مليكة أن عثمان رضي الله عنه ابتاع من طلحة

أرضاً بالمدينة ناقله بأرض له بالكوفة فقال عثمان بعتك ما لم أره فقال طلحة: إنما النظر لأني ابتعت مغيباً وأنت قد رأيت ما ابتعت فتحاكما إلى جبير بن مطعم فقضي على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لأنه ابتاع مغيباً ولأنه عقد على عين فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح وقال في الجديد لايصح لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي هذا البيع غرر ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم فإذا قلنا بقوله القديم فهل تفتقر صحة البيع إلى ذكر الصفات أم لا فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لايصح حتى تذكر جميع الصفات المسلم فيه والثاني لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة والثالث أنه لايفتقر إلى ذكر شيء من الصفات وهو المنصوص في الصرف لأن الاعتماد على الرؤية ويثبت له الخيار إذا رآه فلا يحتاج إلى ذكر الصفات فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف ثبت له الخيار وإن وجده على ما وصف أو أعلى ففيه وجهان: أحدهما لاخيار له لأنه وجده على ما وصف فلم يكن له خيار كالمسلم فيه والثاني أن له الخيار لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية فلا يجوز أن يخلو من الخيار وهل يكون له الخيار على الفور أم لا؟ فيه وجهان: قال ابن أبي هريرة هو على الفور لأنه خيار تعلق بالرؤية فكان على الفور كخيار الرد بالعيب وقال أبو إسحاق يتقدر الخيار بالمجلس لأن العقد إنما يتم بالرؤيا فيصير كأنه عقد عند الرؤية فيثبت له خيار كخيار المجلس وأما إذا رأى المبيع قبل العقد ثم غاب عنه ثم اشتراه فإن كان مما لايتغير كالعقار وغيره جاز بيعه وقال أبو القاسم الأنماطي: لايجوز في قوله الجديد لأن الرؤية شرط في العقد فاعتبر وجودها في حال العقد كالشهادة في النكاح والمذهب الأول لأن الرؤية تراد للعلم بالمبيع وقد حصل العلم بالرؤية المتقدمة فعلى هذا إذا اشتراه ثم وجده على الصفة الأولى أخذه وإن وجده ناقصاً فله الرد لأنه ماالتزم العقد فيه إلا على تلك الصفة وإن اختلفا فقال البائع لم يتغير وقال المشتري تغير فالقول قول المشتري لأنه يؤخذ منه الثمن فلا يجوز من غير رضاه وإن كان مما يجوز أن يتغير ويجوز أن لا يتغير أو يجوز أن يبني ويجوز أن لا يبقى ففيه وجهان: أحدهما أنه لايصح لأنه مشكوك في بقائه على صفته والثاني يصح وهو المذهب لأن الأصل بقاؤه على صفته فصح بيعه قياساً على ما لا يتغير. فصل: وإن باع الأعمى أو اشترى شيئاً لم يره فإن قلنا أن بيع مالم يره البصير لا يصح لم يصح بيع الأعمى وشراؤه وإن قلنا يصح ففي بيع الأعمى وشرائه وجهان: أحدهما يصح كما يصح من البصير فيما لم يره ويستنيب في القبض والخيار كما يستنيب

في شرط الخيار والثاني لا يصح لأن بيع مالم يره يتم بالرؤية وذلك لا يوجد في حق الأعمى ولايمكنه أن يوكل في الخيار لأنه خيار ثبت بالشرع فلا يجوز الاستنابة به كخيار المجلس بخلاف خيار الشرط. فصل: إذا رأى بعض المبيع دون بعض نظرت فإن كان مما لايختلف أجزاؤه كالصبرة من الطعام والجرة من الدبس جاز بيعه لأن برؤية البعض يزول غرر الجهالة لأن الظاهر أن الباطن كالظاهر وإن كان مما يختلف نظرت فإن كان مما يشق رؤية باقيه كالجوز في القشر الأسفل جاز بيعه لأن رؤية الباطن تشق فسقط اعتبارها كرؤية أساس الحيطان وإن لم تشق رؤية الباقي كالثوب المطوي ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كبيع مالم ير شيئاً منه ومنهم من قال يبطل البيع قولاً واحداً لأن ما رآه لا خيار فيه ومالم يره فيه الخيار وذلك لا يجوز في عين واحدة. فصل: واختلف أصحابنا في بيع الباقلا في قشره فقال أبو سعيد الإصطخري يجوز لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار ومنهم من قال لا يجوز وهو المنصوص في الأم لأن الحب قد يكون صغاراً وقد يكون كباراً وقد يكون في بيوته ما لا شيء فيه وقد يكون فيه حب متغير وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز واختلفوا أيضاً في بيع نافجة المسك فقال أبو العباس: يجوز بيعها لأن النافجة فيها صلاح للمسك لأن بقاءه فيها أكثر فجاز بيعه فيها كالجوز في القشر الأسفل ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو ظاهر النص لأنه مجهول القدر مجهول الصفة وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز واختلفوا في بيع الطلع في قشره فقال أبو اسحاق: لا يجوز بيعه لأن المقصود مستور بما لا يدخر فيه فلم يصح بيعه كالتمر في الجراب وقال أبو علي عن أبي هريرة يجوز لأنه مستور بما يؤكل معه من القشر فجاز بيعه فيه كالقثاء والخيار واختلف قوله في بيع الحنطة في سنبلها فقال في القديم: يجوز لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد" وقال في الجديد: لا يجوز لأن لا يعلم قدر ما فيه من الحب ولا صفة الحب وذلك غرر لاتدعو الحاجة إليه فلم يجز.

فصل: ولا يجوز بيع مجهول القدر فإن قال قد بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح البيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي بيع البعض غرر لأنه يقع على القليل والكثير ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدر المبيع كالسلم وإن قال بعتك هذه الصبرة جاز وإن لم يعرف قفزانها وإن قال بعتك هذه الدار أو هذا الثوب جاز وإن لم يعرف ذرعانها لأن غرر الجهالة ينتفي عنهما بالمشاهدة قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافاً لأنه يجهل قدرها على الحقية وإن قال بعتك ثلثها أو ربعها أو بعتك إلا ثلثها أو ربعها جاز لأن من عرف الشيء عرف ثلثه وربعه وما يبقى بعدهما وإن قال بعتك هذه الصبرة إلا قفيزاً منها أو هذه الدار أو هذا الثوب إلا ذراعاً منه نظرت فإن علما مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الدار والثوب جاز لأن المبيع معلوم إن لم يعلما ذلك لم يجز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا ولأن المبيع هو الباقي بعد القفيز والذراع وذلك مجهول وإن قال بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة جاز لأنها معلومة القدر والصفة فإن اختلفا فقال البائع أعطيك من أسفلها وقال المشتري من أعلاها فالخيار إلى البائع فمن أي موضع أعطاه جاز لأنه أعطاه من الصبرة وإن قال بعتك عشرة أذرع من هذه الدار أو عشرة أذرع من هذا الثوب فإن كانا يعلمان مبلغ ذرعان الدار والثوب وأنها مئة ذراع صح البيع في عشرها لأن العشرة من المئة عشرها فلا فرق بين أن يقول بعتك عشرها وبين أن يقول بعتك عشرة من مئة ذراع منها وإن لم يعلما مبلغ ذرعان الدار والثوب لم يصح لأنه إن جعل البيع في عشر أذرع مشاعة لم يعرف قدر المبيع أنه عشرها أو ثلثها أو سدسها وإن جعل البيع في عشرة أذرع من موضع بعينه لم يعرف صفة المبيع فإن أجزاء الثوب والدار تختلف وقد يكون بعضها أجود من بعض وإن قال بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من هذا المكان ولم يبين المنتهى ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن أجزاء المبيع مختلفة وقد ينتهي إلى موضع يخالف موضع

الابتداء والثاني أنه يصح لأنه يشاهد السمت وإن بين الابتداء والانتهاء صح في الدار وأما في الثوب فإنه إن كان مما لا ينقص قيمته بالقطع فهو كالدار وإن كان مما ينقص لم يصح لأنه شرط إدخال نقص عليه فيما لم يبع من الثوب ومن أصحابنا من قال يصح لأنه رضي بما يدخل عليه من الضرر وإن قال بعتك هذا السمن مع الظرف كل من بدرهم نظرت فإن لم يعلما مقدار السمن والظرف لم يجز لأن ذلك غرر لأن الظرف قد يكون خفيفاً وقد يكون ثقيلاً وإن علما وزنهما جاز لأنه لا غرر فيه واختلف أصحابنا في بيع النحل في الكندوج فقال أبو العباس يجوز بيعه لأنه يعرف مقداره حال دخوله وخروجه ومن أصحابنا من قال لايجوز وهو قول أبي حامد الإسفرايني لأنه قد يكون في الكندوج ما لا يخرج وإن اجتمع فرخه في موضع وشوهد جميعه جاز بيعه لأنه معلوم مقدور على تسليمه فجاز بيعه. فصل: ولا يجوز بيع الحمل في البطن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي نهى عن المجر والمجر اشتراء ما في الأرحام ولأنه قد يكون حملاً وقد يكون ريحاً وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولأنه إن كان حملاً فهو مجهول القدر مجهول الصفة وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وإن باع حيواناً وشرط أنه حامل ففيه قولان: أحدهما أن البيع باطل لأنه مجهول الوجود مجهول الصفة والثاني أنه يجوز لأن الظاهر أنه موجود والجهل به لايؤثر لأنه لاتمكن رؤيته فعفى عن الجهل به كأساس الدار. فصل: ولايجوز بيع اللبن في الضرع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "لاتبيعوا الصوف على ظهر الغنم ولاتبيعوا اللبن في الضرع" ولأنه مجهول القدر لأنه قد يرى امتلاء الضرع في السمن فيظن أنه من اللبن ولأنه مجهول الصفة لأنه قد يكون اللبن صافي وقد يكون كدراً وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز. فصل: ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم لقول ابن عباس ولأنه قد يموت الحيوان قبل الجز فيتنجس شعره وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولأنه لا يمكن تسليمه إلا باستئصاله من أصله ولا يمكن ذلك إلا بإيلام الحيوان وهذا لايجوز.

فصل: ولا يجوز البيع إلابثمن معلوم الصفة فإن باع بثمن مطلق في موضع ليس فيه نقد متعارف لم يصح البيع لأنه عوض في البيع فلم يجز مع الجهل بصفته كالمسلم فيه فإن باع بثمن معين تعين لأنه عوض فتعين بالتعيين كالمبيع فإن لم يره المتعاقدان أو أحدهما فعلى ما ذكرناه من القولين في بيع العين التي لم يرها المتبايعان أو أحدهما. فصل: ولا يجوز البيع إلا بثمن معلوم القدر فإن باع بثمن مجهول كبيع السلعة برقمها وبيع السلعة بما باع به فلان سلعته وهما لا يعلمان ذلك فالبيع باطل لأنه عوض في البيع فلم يجز مع الجهل بقدره كالمسلم فيه فإن باعه بثمن معين جزافاً فأجاز لأنه معلوم بالمشاهدة ويكره ذلك ما قلنا في بيع الصبرة جزافاً وإن قال بعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم أو هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وهما لا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وعدد القطيع صح البيع لأن غرر الجهالة ينتفي بالعلم بالتفصيل كما ينتفي بالعلم بالجملة جاز بالعلم بالتفصيل وإن كان لرجل عبدان فباع أحدهما من رجل الآخر من رجل آخر في صفقة واحدة بثمن واحد فإن الشافعي رحمه الله قال فيمن كاتب عبدين بمال واحد أنه على قولين: أحدهما يبطل العقد لأن العقد الواحد مع اثنين عقدان فإذا لم يعلم قدر العوض في كل واحد منهما بطل كما لو باع كل واحد منهما في صفقة بثمن مجهول والثاني يصح ويقسم العوض عليهما على قدر قيمتهما فمن قال في البيع أيضاً قولان وهو قول أبي العباس وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو إسحاق يبطل البيع قولاً واحداً لأن البيع يفسد العوض والصحيح قول أبي العباس لأن الكتابة أيضاً تفسد بفساد العوض وقد نص فيها على قولين فإن قال بعتك بألف مثقال ذهباً وفضة فالبيع باطل لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلاً وإن قال بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة فالبيع باطل لأنه لم يعقد على ثمن بعينه فهو كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين. فصل: وإن باع بثمن مؤجل لم يجز إلى أجل مجهول كالبيع إلى العطاء لأنه عوض في بيع فلم يجز إلى أجل مجهول كالمسلم فيه. فصل: ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج لأنه

بيع غرر من غير حاجة فلم يجز ولا يجوز بيع المنابذة وهو أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ولابيع الملامسة وهو أن يمس بيده ولا ينشره وإذا مسه فقد وجب البيع لما روى أبو سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين المنابذة والملامسة" والمنابذة أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع والملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره فإذا مسه فقد وجب البيع ولأنه إذا علق وجوب البيع على نبذ الثوب فقد علق البيع على شرط وذلك لا يجوز وإذا لم ينشر الثوب فقد باع مجهولاً وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولايجوز بيع الحصى وهو أن يقول بعتك ما وقع عليه الحصى من ثوب أو أرض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصى ولأنه بيع مجهول من غير حاجة فلم يجز ولا يجوز حبل الحبلة لما روي ابن عمر رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحبلة" واختلف في تأويله فقال الشافعي رحمه الله: هو بيع السلعة بثمن إلى أن تلد الناقة ويلد حملها وقال أبو عبيد: هو بيع ما يلد حمل الناقة فإن كان على ما قال الشافعي رحمه الله فهو بيع بثمن إلى أجل مجهول وقد بينا أن ذلك لايجوز وإن كان على ما قال أبو عبيد فهو بيع معدوم ومجهول وذلك لا يجوز ولا يجوز بيعان في بيعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال "نهى رسول الله عن بيعتين في بيعة" فيحتمل أن يكون المراد به أن يقول بعتك هذا بألف نقداً أو بألفين نسيئة فلا يجوز للخبر ولأنه لم يعقد على ثمن معلوم ويحتمل أن يكون المراد به أن يقول

بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف فلا يصح للخبر ولأنه شرط في عقد وذلك لايصح فإذا سقط وجب أن يضاف إلى ثمن السلعة بإزاء ما سقط من الشرط وذلك مجهول فإذا أضيف إلى الثمن صار مجهولاً فبطل. فصل: ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن حلوان الكاهن ومهر البغي وعن الزهري في امرأة زنت بمال عظيم قال لا يصلح لملاها أكله لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي فإن كان معه حلال وحرام كره مبايعته والأخذ منه لما روى النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات وسأضرب لكم في ذلك مثلاً إن الله تعالى حمى حمى وإن حمى الله حرام وأن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى" وإن بايعه وأخذ منه جاز لأن الظاهر مما في يده أنه له فلا يحرم الأخذ منه ويكره بيع العنب ممن يعصر الخمر والتمر ممن يعمل النبيذ وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به لأنه لا يأمن أن يكون ذلك معونة على المعصية فإن باع منه صح البيع لأنه قد لا يتخذ الخمر ولا يعصي الله تعالى بالسلاح ولا يجوز بيع المصحف ولا العبد المسلم من الكافر لأنه يعرض العبد للصغار والمصفح للابتذال فإن باعه منه ففيه قولان: أحدهما أن البيع باطل لأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام فلم يصح كتزويج المسلمة من الكافر والثاني يصح لأنه سبب يملك به العبد الكافر فجاز أن يملك به العبد المسلم كالإرث فإذا قلنا بهذا أمرناه بإزالة ملكه لأن في تركه ملكه صغاراً على الإسلام فإن باعه أو أعتقه جاز وإن كاتبه ففيه قولان: أحدهما يقبل لأن بالكتابة يصير كالخارج من ملكه في التصرفات والثاني لايقبل لأنه عقدة لا يزيل الملك فلا يقبل منه كالتزويج والإجارة فإن ابتاع الكافر أباه المسلم ففيه طريقان: أحدهما أنه على

القولين والثاني أنه يصح قولاً واحداً لأنه يحصل له من الكمال بالحرية أكثر مما يحصل له من الصغار بالرق. فصل: ولا يجوز بيع الجارية إلا حملها لأنه يتبعها في البيع والعتق فلا يجوز بيعها دونه كاليد والرجل ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وولدها في البيع قبل سبع سنين لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاتوله والدة بولدها" وقال عليه السلام: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة1" وإن فرق بينهما بالبيع بطل البيع لأنه تفريق محرم فأفسد البيع كالتفريق بين الجارية وحملها وهل يجوز بعد سبع سنين إلى البلوغ؟ فيه قولان: أحدهما لا يجوز لعموم الأخبار ولأنه غير بالغ فلا يجوز التفريق بينه وبين أمه في البيع كما لو كان دون سبع سنين والثاني يجوز لأنه لأنه مستغن عن حضانتها فجاز التفريق بينهما كالبالغ.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب البيوع باب 52. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 46. الدارمي في كتاب السير باب 38. أحمد في مسنده "5/413".

باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده

باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده إذا شرط في البيع شرطاً نظرت فإن كان شرطاً يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما لم يبطل العقد لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد فلم يبطله فإن شرط ما لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة كالخيار والأجل والرهن ولاضمين لم يبطل العقد لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله وبه الثقة ولأن الحاجة تدعو إليه فلم يفسد العقد فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة لتعتقها فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق" وإن اشتراه بشرط العتق فامتنع من إعتاقه ففيه وجهان: أحدهما يجبر عليه لأنه عتق مستحق عليه فإذا امتنع أجبر عليه كما لو نذر عتق عبد ثم امتنع من إعتاقه والثاني لا يجبر بل يثبت الخيار في فسخ البيع لأنه ملكه بالعوض وإنما شرط للبائع حقاً فإذا لم يف ثبت للبائع الخيار كما لو اشترى شيئاً بشرط أن يرهن بالثمن رهناً فامتنع من الرهن فإن رضي البائع بإسقاط حقه من العتق ففيه وجهان: أحدهما لا يسقط لأنه عتق مستحق فلا يسقط بإسقاط الآدمي كالمنذور والثاني أنه يسقط لأنه حق شرطه البائع لنفسه فسقط بإسقاطه كالرهن والضمين وإن تلف العبد قبل العتق ففيه

ثلاثة أوجه: أحدها أنه ليس للبائع إلا الثمن لأنه لم يفقد أكثر من العتق والثاني يأخذ الثمن وما نقص من الثمن بشرط العتق فيقوم من غير شرط العتق ثم يقوم مع شرط العتق ويجب ما بينهما من الثمن والثالث أنه يفسخ العقد لأن البائع لم يرض بهذا الثمن وحده والمشتري لم يلتزم أكثر من هذا الثمن فوجب أن يفسخ العقد. فصل: فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع بأن باع عبداً بشرط أن لا يبيعه أو لا يعتقه أو باع داراً بشرط أن يسكنها مدة أو ثوباً بشرط أن يخيطه له أو فعلة بشرط أن يحذوها له بطل البيع لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع وشرط" وروي أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن فاستفتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: لا تقر بها وفيها شرط لأحد وروي أن عبد الله اشترى جارية واشترط خدمتها فقال له عمر رضي الله عنه: لا تقبر بها وفيها مثنوية ولأنه شرط لم يبن على التغليب ولا هو من مقتضى العقد ولا من مصلحته فأفسد العقد كما لو شرط أن لا يسلم إليه المبيع فإن قبض المبيع لم يملكه لأنه قبض في عقد فاسد فلا يوجب الملك كالوطء في النكاح الفاسد فإن كان باقياً وجب رده وإن هلك ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف ومن أصحابنا من قال: يضمن قيمته يوم التلف لأنه مأذون في إمساك فضمن قيمته يوم التلف كالعارية وليس بشيء لأنه قبض مضمون في عين يجب ردها فإذا هلكت ضمنها بأكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كقبض الغاصب ويخالف العارية فإن العارية مأذون في إتلاف منافعها ولأن في العارية لو رد العين ناقصة بالاستعمال لم يضمن ولو رد المبيع ناقصاً ضمن النقصان وإن حدثت في عينها زيادة بأن سمنت ثم هزلت ضمن ما نقص لأن ما ضمن عينه ضمن نقصانه كالمغصوب ومن أصحابنا من قال: لا يضمن لأن البائع دخل في العقد ليأخذ بدل العين دون الزيادة والمنصوص هو الأول وماقاله هذا القائل يبطل بالمنافع فإنه لم يدخل في العقد ليأخذ بدلها ثم تستحق فإن كان لمثله أجرة لزمه الأجرة للمدة التي أقام في يده لأنه مضمون عليه غير مأذون في الانتفاع به فضمن أجرته كالمغصوب فإن كانت جارية فوطئها لم يلزمه الحد لأنه وطء بشبهة لأنه اعتقد أنها ملكه ويجب عليه المهر لأنه وطء بشبهة فوجب به المهر كالوطء في النكاح الفاسد وإن كانت بكراً وجب عليه أرش البكارة لأن البكارة جزء من أجزائها وأجزاؤها مضمونة عليه فكذلك البكارة وإن أتت منه بولد فهو حر لأنه اعتقد

أنها جاريته ويلزمه قيمة الولد لأنه أتلف عليه رقه باعتقاده ويقوم بعد الانفصال لأنه لا يمكن تقويمه قبل الانفصال ولأنه يضمن قيمة الولد للحيلولة وذلك لا يحصل إلا بعد الانفصال فإن ألقت الولد ميتاً لم يضمنه لأنه لا قيمة له قبل الانفصال ولا توجد الحيلولة إلا بعد الانفصال فإن ماتت الجارية من الولادة لزمه قيمتها لأنها هلكت بسبب من جهته ولا تصير الجارية أم ولد في الحال لأنها عقلت منه في غير ملكه وهل تصير أم ولد إذا ملكها فيه قولان.

باب تفريق الصفقة

باب تفريق الصفقة إذا جمع في البيع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه كالحر والعبد وعبده وعبد غيره ففيه قولان: أحدهما تفرق الصفقة فيبطل البيع فيما لا يجوز ويصح فيما يجوز لأنه ليس إبطاله فيهما لبطلانه في أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما لصحته في أحدهما فبطل حمل أحدهما على الآخر وبقيا على حكمهما فصح فيما يجوز وبطل فيما لا يجوز والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق فيبطل للعقد فيهما واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال يبطل لأن العقد جمع حلالاً وحراماً فغلب التحريم كما لو جمع بين أختين في النكاح أو باع درهماً بدرهمين ومنهم من قال يبطل لجهالة الثمن وذلك أنه إذا باع حراً وعبداً بألف سقط ما يخص الحر من الثمن فيصير العبد مبيعاً بما بقي وذلك مجهول في حال العقد فبطل كما لو قال بعتك هذا العبد بحصته من ألف درهم فإن قلنا بالتعليل الأول بطل البيع فيما ينقسم الثمن فيه على القيمة كالعبدين وفيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء كالعبد الواحد نصفه له ونصفه لغيره أو كرين من طعام أحدهما له والآخر لغيره وكذلك لو جمع بين ما يجوز وبين ما لا يجوز في الرهن أو الهبة أو النكاح بطل في الجميع لأنه جمع بين الحلال والحرام وإن قلنا إن العلة جهالة العوض لم يبطل البيع فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء لأن العوض غير مجهول ولا يبطل الرهن والهبة لأنه لا عوض فيه ولا يبطل النكاح لأن الجهل بالعوض لا يبطله فإن قلنا أن العقد يبطل فيهما رد المبيع واسترجع الثمن وإن قلنا أنه يصح في أحدهما فله الخيار بين فسخ البيع وبين إمضائه لأنه يلحقه ضرر بتفريق الصفقة فثبت له الخيار فإن اختار الإمساك فبكم يمسك فيه قولان: أحدهما يمسك بجميع الثمن أو يرد لأن مالاً يقابل العقد لا ثمن له فيصير الثمن كله في مقابلة الآخر والثاني أنه يمسكه بقسطه لأنه لم يبذل جميع العوض إلا في مقابلتهما فلا يؤخذ منه جميعه في مقابلة أحدهما واختلف

أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان فيما يتقسط العوض عليه بالقيمة فأما ما يتقسط العوض عليه بالأجزاء فإنه يمسك الباقي بالقسط من الثمن قولاً واحداً لأن فيما يتقسط الثمن عليه بالقيمة ما يخص الجائز مجهول فدعت الضرورة إلى أن يجعل جميع الثمن في مقابلته ليصير معلوماً وفيما يتقسط الثمن عليه بالأجزاء ما يخص الجائز معلوم فلا حاجة بنا إلى أن نجعل جميع الثمن في مقابلته ومنهم من قال: القولان في الجميع وهو الصحيح لأنه نص على القولين في بيع الثمرة قبل أن تخرج الزكاة والثمار مما يتقسط الثمن عليها بالأجزاء فإن قلنا يمسك بجميع الثمن لم يكن للبائع الخيار لأنه لا ضرر عليه وإن قلنا يمسك بحصته فهل للبائع الخيار؟ فيه وجهان أحدهما أن له الخيار لأنه تبعضت عليه الصفقة فيثبت له الخيار كما يثبت للمشتري والثاني لاخيار له لأنه دخل على بصيرة لأن الحر لا يؤخذ منه بثمن وإن باع مجهولاً ومعلوماً فإن قلنا لاتفرق الصفقة بطل العقد فيهما وإن قلنا تفرق وقلنا إنه يمسك الجائز بحصته بطل البيع فيه لأن الذي يخصه مجهول وإن قلنا يمسكه بجميع الثمن صح العقد فيه وإن جمع بين حلالين ثم تلف أحدهما قبل القبض بطل البيع فيه وإن يبطل في الباقي فيه طريقان: أحدهما أنه على القولين في تفريق الصفقة لأن ما يحدث من الهلاك قبل القبض كالموجود في حال العقد في إبطال العقد فوجب أن يكون كالموجود في حال العقد فيما ذكرناه والثاني لايبطل إلا فيما تلف لأن في الجمع ما بين الحلال والحرام إنما بطل للجهل بالعوض أو للجمع بين الحلال والحرام في العقد ولا يوجد ههنا واحد منهما فعلى هذا يصح العقد في الباقي وللمشتري الخيار في فسخ العقد لأنه تفرقت عليه الصفقة فإن أمضاه أخذ البا قي بقسطه من الثمن قولاً واحداً لأن العوض ههنا قابل المبيعين فانقسم عليهما فلا يتغير بالهلاك. فصل: وإن جمع بين بيع وإجارة أو بين بيع وصرف أو بين عبدين بشرط الخيار في أحدهما دون الآخر بعوض واحد ففيه قولان: أحدهما أنه يبطل العقدان لأن أحكام العقدين متضادة وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل الجميع والثاني أنه يصح العقدان وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتهما لأنه ليس فيه أكثر من اختلاف حكم

العقدين وهذا لا يمنع صحة العقد كما لو جمع في البيع بين ما فيه شفعة وبين ما لا شفعة فيه وإن جمع بين البيع والنكاح بعوض واحد فالنكاح لا يبطل لأنه لا يبطل بفساد العوض وفي البيع قولان ووجههما ما ذكرناه وإن جمع بين البيع والكتابة فإن قلنا في البيع والإجارة أنهما يبطلان بطل البيع والكتابة وإن قلنا إن البيع والإجارة يصحان بطل البيع ههنا لأنه لا يجوز أن يبيع السيد من عبده وهل تبطل الكتابة يبني على تفريق الصفقة فإن قلنا لا تفرق بطل وإن قلنا تفرق بطل البيع وصحت الكتابة.

باب الربا

باب الربا الربا محرم والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} {البقرة: 275} وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] روي في التفسير حين يقوم من القبر وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه". فصل: والأعيان التي نص على تحريم الربا فيها الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً فمن زاد أو استزاد فقد أربى فأما الذهب والفضة فإنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة وهو أنهما من جنس الأثمان فيحرم الربا فيهما ولا يحرم فيما سواهما من الموزونات والدليل عليه أن لا يجوز أن يكون تحريم الربا لمعنى يتعداهما إلى غيرهما من الأموال لأنه لو كان لمعنى يتعداهما إلى غيرهما لم يجز إسلامهما فيما سواهما من الأموال لأن شيئين جمعتها علة واحدة في الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر كالذهب والفضة والحنطة والشعير فلما جاز إسلام الذهب والفضة في الموزونات والمكيلات وغيرهما من الأموال دل على أن العلة فيهما لمعنى لا يتعداهما وهو أنه من جنس الأثمان فأما الأعيان الأربعة ففيها قولان: قال في الجديد العلة فيها أنها مطعومة والدليل عليه ماروى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" والطعام اسم لكل ما يتطعم والدليل عليه قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 45] أراد به الذبائح وقالت

عائشة رضي الله عنها: مكثنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر وقال لبيد: لمعفر قهد ينازع شلوه ... غبش كواسب ما يمن طعامها وأراد بع الفريسة والحكم إذا علق على اسم مشتق كان ذلك علة فيه كالقطع في السرقة والحد في الزنا ولأن الحب ما دام مطعوماً يحرم فيه الربا فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوماً لم يحرم فيه الربا فإذا انعقد الحب وصار مطعوماً حرم فيه الربا فدل على أن العلة فيه كونه مطعوماً فعلى هذا يحرم الربا في كل ما يطعم من الأقوات والإدام والحلاوات والفواكه والأدوية وفي الماء وجهان: أحدهما يحرم فيه الربا لأنه مطعوم فهو كغيره والثاني لا يحرم فيه الربا لأنه مباح في الأصل غير متمول في العادة فلا يحرم فيه الربا وفي الأدهان المطيبة وجهان: أحدهما لا ربا فيها لأنها تعد للانتفاع برائحتها دون الأكل والثاني أنه يحرم فيها الربا وهو الصحيح لأنه مأكول وإنما لا يؤكل لأنه ينتفع به فيما هو أكثر من الأكل وفي البزر ودهن السمك وجهان: أحدهما لا ربا فيه لأنه يعد

للاستصباح والثاني أنه يحرم الربا فيه لأنه مأكول فأشبه الشيرج وقال في القديم العلة فيها أنها مطعومة مكيلة أو مطعومة موزونة والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن فعلى هذا لا يحرم الربا فيما لا يكال ولا يوزن من الأطعمة كالرمان والسفرجل والقثاء والبطيخ وما أشبهها. فصل: وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيها الربا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً ونسيئة ويجوز فيها التفرق قبل التقابض لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني رسول الله أن أجهز جيشاً فنقدت الإبل فأمرني أن آخذ على قلاص الصدقة فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة وعن علي كرم الله وجهه أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيراً وباع ابن عباس رضي الله عنه بعيراً بأربعة أبعرة واشترى ابن عمر رضي لله عنه راحلة بأربعة رواحل ورواحله بالربذة واشترى رافع بن خديج رضي الله عنه بعيراً ببعيرين فأعطاه أحدهما وقال آتيك بالآخر غداً ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الكاليء بالكاليء " قال أبو عبيدة: هو النسيئة بالنسيئة. فصل: فأما ما يحرم فيه الربا فينظر فيه فإن باعه بجنسه حرم فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض لما روى عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد1" فإن باعه بغير جنسه نظرت فإن كان مما يحرم الربا فيهما لعلة واحدة كالذهب والفضة والشعير والحنطة جاز فيه التفاضل وحرم فيه النساء والتفرق قبل التقابض لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث81. أبو داود في كتاب البيوع باب 12.

فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" فإن تبايعا وتخايرا في المجلس قبل التقابض بطل البيع لأن التخاير كالتفرق ولو تفرقا قبل التقابض بطل العقد فكذلك إذا تخايرا وإن تبايعا دراهم بدنانير في الذمة وتقابضا ثم وجد أحدهما بما قبض عيباً نظرت فإن لم يتفرقا جاز أن يرد ويطالب بالبلد لأن المعقود عليه ما في الذمة وقد قبض قبل التفرق وإن تفرقا ففيه قولان: أحدهما يجوز إبداله قبل التفرق جاز بعده كالمسلم فيه والثاني لا يجوز وهو قول المزني لأنه إذا أبدله صار القبض بعد التفرق وذلك لا يجوز وإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلتين كبيع الحنطة بالذهب والشعير بالفضة حل فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض لإجماع الأمة على جواز إسلام الذهب والفضة في المكيلات المطعومة. فصل: وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة كالتمر البرني والتمر المعقلي فهما جنس واحد وكل شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والشعير والتمر والزبيب فهما جنسان والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ستة أشياء وحرم التفاضل إذا باع كل شيء منها بما وافقه في الاسم وأباح فيه التفاضل إذا باعه بما خالفه في الاسم فدل على أن كل شيئين اتفقا في الاسم فهما جنس وإذا اختلفا في الاسم فهما جنسان وما اتخذ من أموال الربا كالدقيق والخبز والعصير والدهن تعتبر بأصولها فإن كانت الأصول أجناساً فهي أجناس وإن كانت الأصول جنساً واحداً فهي جنس واحد فعلى هذا دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان وخبز الحنطة وخبز الشعير جنسان ودهن الجوز ودهن اللوز جنسان واختلف قوله في زيت الزيتون وزيت الفجل فقال في أحد القولين: هما جنس واحد لأنه جمعهما اسم الزيت والثاني أنهما جنسان وهو الصحيح

لأنهما يختلفان في الطعم واللون فكانا جنسين كالتمر الهندي والتمر البرني ولأنهما فرعان لجنسين مختلفين فكانا جنسين كدهن الجوز ودهن اللوز واختلف قوله في اللحمان فقال في أحد القولين هي أجناس وهو قول المزني هو الصحيح لأنها فروع لأصول هي أجناس فكانت أجناساً كالأدقة والأدهان والثاني أنها جنس واحد لأنها تشترك في الاسم الخاص في أول دخولها في تحريم الربا فكانت جنساً واحداً كالتمور وتخالف الأدقة والأدهان لأنه أصولها أجناس يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً فاعتبر فروعها بها واللحمان لا يحرم الربا في أصولها فاعتبرت بنفسها فإن قلنا إن اللحم جنس واحد لم يجز بيع لحم شيء من الحيوان بلحم غيره متفاضلاً وهل يدخل لحم السمك في ذلك فيه وجهان: قال أبو اسحاق يدخل فيها فلا يجوز بيعه بلحم شيء من الحيوان متفاضلاً لأن اسم اللحم يقع عليه والدليل قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} [النحل: 14] ومن أصحابنا من قال لا يدخل فيه لحم السمك وهو المذهب لأنه لا يدخل في إطلاق اللحوم أجناس جاز بيع لحم كل جنس من الحيوان بلحم جنس آخر متفاضلاً فيجوز بيع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلاً ولحم بقر الوحش بلحم بقر الأهل لأنهما جنسان ولا يجوز بيع لحم الضأن بلحم المعز ولا لحم البقر بلحم الجواميس متفاضلاً لأنهما نوعان من جنس واحد. فصل: واللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس واحد لأن الجميع لحم واللحم والشحم جنسان واللحم والألية جنسان والشحم والألية جنسان واللحم والكبد جنسان والكبد والطحال جنسان واللحم والكلية جنسان لأنه مختلفة الاسم والخلقة فأما الألبان ففيها طريقان: من أصحابنا من قال هي كاللحمان وفيها قولان ومنهم من قال الألبان أجناس قولاً واحداً لأنها تتولد من الحيوان والحيوان أجناس فكذلك الألبان واللحمان لا تتولد من الحيوان والصحيح أنها كاللحمان. فصل: وما حرم فيه التفاضل لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب تبره وعينه وزناً بوزن والفضة بالفضة تبرها وعينها وزناً بوزن والملح بالملح والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير كيلاً بكيل فمن زاد أو أزاد فقد أربى1" فإن باع

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساقاة 80، 82. أبو داود في كتاب البيوع باب 12. الترمذي في كتاب البيوع باب 23. النسائي في كتاب البيوع باب 42، 43. أحمد في مسنده "2/232" "3/50".

صبرة طعام بصبرة طعام وهما لا يعلمان كيلهما لم يصح البيع لما روى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام1" وإن باع صبرة طعام بصبرة طعام صاعاً بصاع فخرجتا متساويتين صح البيع وإن خرجتا متفاضلتين ففيه قولان: أحدهما أنه باطل لأنه بيع طعام بطعام متفاضلاً والثاني أنه يصح فيما تساويا فيه لأنه شرط التساوي في الكيل ومن نقصت صبرته فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يمضيه بمقدار صبرته لأنه دخل على أن يسلم له جميع الصبرة ولم يسلم له فثبت له الخيار وإن باع صبرة طعام بصبرة شعير كيلاً بكيل فخرجتا متساويتين جاز وإن خرجتا متفاضلتين فإن رضي صاحب الصبرة الزائد بتسليم الزيادة أقر العقد ووجب على الآخر قبوله لأنه ملك الجميع بالعقد إن رضي صاحب الصبرة الناقصة بقدر صبرته من الصبرة الزائدة أقر العقد وإن تشاحا فسخ البيع لأن كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة صاحبه على التساوي في المقدار وقد تعذر ذلك ففسخ العقد. فصل: ويعتبر التساوي فيما يكال ويوزن بكيل الحجاز ووزنه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة" وإن كان مما لا أصل له بالحجاز في الكيل والوزن نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله اعتبر التساوي فيه بالوزن لأنه لا يمكن غيره وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان: أحدهما أن يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز فإن كان مكيلاً لم يجز بيعه إلا كيلاً وإن كان موزوناً لم يجز بيعه إلا موزوناً لأن الأصل فيه الكيل والوزن بالحجاز فإذا لم يكن له في الحجاز أصل في الكيل والوزن اعتبر بأشبه الأشياء به والثاني أنه يعتبر بالبلد الذي فيه البيع لأنه أقرب إليه وإن كان مما لا يكال أو يوزن وقلنا بقوله الجديد إنه يحرم فيه الربا وجوزنا بيع بعضه ببعض نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله كالبقل والقثاء والبطيخ وما أشبهها بيع وزناً وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان: أحدهما لا يباع إلا كيلاً لأن الأصل هو الأعيان الأربعة المنصوص عليها وهي مكيلة فوجب رده إلى الأصل والثاني أنه لا يباع إلا وزنا لأن الوزن أحصر.

_ 1 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 38.

فصل: وما حرم فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض ومع أحد العوضين جنس آخر يخالفه في القيمة كبيع ثوب ودرهم بدرهمين، ومد عجوة ودرهم بدرهمين ولا يباع نوعان من جنس بنوع كدينار قاساني ودينار سابوري بقاسانين أو سابورين أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو دينارين قراضة والدليل عليه ما روى فضالة بن عبيد قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز مغلفة بذهب فابتاعها رجل بسبعة دنانير أو تسعة دنانير فقال عليه الصلاة والسلام: "لاحتى تميز بينه وبينه" قال: إنما أردت الحجارة فقال: لاحتى تميز بينهما ولأن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما والدليل عليه أنه إذا باع سيفاً وشقصاً بألف قوم السيف والشقص وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن على قدر قيمته وأمسك المشتري السيف بحصته من الثمن على قدر قيمته وإذا قسم الثمن على قدر القيمة أدى إلى الربا لأنه إذا باع ديناراً صحيحاً قيمته عشرون درهماً وديناراً قراضة قيمته عشرة بدينارين وقسم الثمن على قدر قيمتهما صارت القراضة مبيعة بثلث الدينارين والصحيح بالثلثين وذلك ربا. فصل: ولا يباع خالصه بمشوبه كحنطة خالصة بحنطة فيها شعير أو زؤان وفضة خالصة لفضة مغشوشة وعسل مصفى بعسل فيه شمع لأن أحدهما يفضل على الآخر ولا يباع مشوبه بمشوبه كحنطة فيها شعير أو زؤان بحنطة فيها شعير أو زؤان وفضة مغشوشة بفضة مغشوشة أو عسل فيه شمع بعسل فيه شمع لأنه لا يعلم التماثل بين الحنطتين وبين الفضتين وبين العسلين ويجوز أن يباع طعام بطعام وفيه قليل تراب لأن التراب يحصل في سفوف الطعام ولا يظهر في الكيل فإن باع موزوناً بموزون من جنسه من أموال الربا وفيه قليل تراب لم يجز لأن ذلك يظهر في الوزن ويمنع من التماثل.

فصل: ولا يباع رطبه بيابسه على الأرض لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس" فقيل له نعم قال: "فلا". فنهى عن بيع الرطب بالتمر وجعل العلة فيه أنه ينقص عن يابسه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بيابسه وأما بيع رطبه برطبه فينظر فيه فإن كان ذلك مما يدخر يابسه كالرطب والعنب ولم يجز بيع رطبه برطبه وقال المزني يجوز لأن معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع بعضه ببعض كالبن والدليل على أنه لا يجوز أنه لا يعلم التماثل بينهما في حال الكمال والادخار فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالتمر بالتمر جزافاً ويخالف اللبن فإن كماله في حال رطوبته لأنه يصلح لكل ما يراد به الكمال في الرطب والعنب في حال يبوسته لأنه يعمل منه كل ما يراد منه ويصلح للبقاء والادخار وإن كان مما لا يدخر يابسه كسائر الفواكه ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه جنس فيه رباً فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب والثاني أنه يجوز لأن معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع رطبه برطبه كاللبن وفي الرطب الذي لا يجيء منه التمر والعنب الذي لا يجيء منه الزبيب طريقان: أحدهما أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض لأن الغالب منه أنه يدخر يابسه وما لا يدخر منه نادر فألحق بالغالب والثاني وهو قول أبي العباس إنه على قولين لأن معظم منفعته في حال رطوبته فكان على قولين كسائر الفواكه وفي بيع اللحم الطري باللحم الطري طريقان: أحدهما وهو المنصوص إنه لا يجوز لأنه يدخر يابسه فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب والثاني وهو قول أبي العباس إنه على قولين لأن معظم منفعته في حال رطوبته فصار كالفواكه فإن باع منه ما فيه نداوة يسيرة بمثله كالتمر الحديث بعضه ببعض جاز بلا خلاف لأن ذلك لا يظهر في الكيل وإن كان مما يوزن كاللحم لم يجز لأنه يظهر في الوزن. فصل: وأما العرايا وهو بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض خرصاً فإنه يجوز للفقراء فيخرص ما على النخل من الرطب وما يجيء منه من التمر إذا جف ثم يبيع ذلك بمثله تمراً ويسلمه إليه قبل التفرق والدليل عليه ماروى محمود بي لبيد قال:

قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بيتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطباً وهل يجوز للأغنياء فيه قولان: أحدهما لا يجوز - وهو اختيار المزني - لأن الرخصة وردت في حق الفقراء والأغنياء لا يشاركونهم في الحاجة فبقي في حقهم على الحظر والثاني أنه يجوز لما روى سهل بن أبي حثمة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تبتاع بخرصها تمراً يأكلها أهلها رطباً ولم يفرق ولأن كل بيع جاز للفقراء جاز للأغنياء كسائر البيوع وهل يجوز ذلك في الرطب بالرطب؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها يجوز - وهو قول أبي علي بن خيران لما روى زيد بن ثابت قال: رخص رسول الله في العرايا بالتمر والرطب ولم يرخص في غير ذلك والثاني لايجوز وهو قول أبي سعيد الإصطخري لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبايعوا ثمر النخل بثمر النخل" ولأن الخرص غرر وقد وردت الرخصة في جوازه في أحد العوضين فلو جوزناه في الرطب بالرطب لجوزناه في العوضين وذلك غرر كثير زائد على ما وردت فيه الرخصة فلم يجز كشرط الخيار فيما زاد على ثلاثة أيام والثالث وهو قول أبي إسحاق إنه إن كان نوعاً واحداً لم يجز لأنه لاحاجة به إليه لأن مثل ما يبتاعه عنده وإن كان نوعين جاز لأنه قد يشتهي كل واحد منهما النوع الذي عند صاحبه فيكون كمن عنده تمر ولارطب عنده ولا يجوز في العرايا فيما زاد على خمسة أوسق في عقد واحد لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة فالمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة والمزابنة أن يبيع الثمر على رؤوس النخل بمائة فرق والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع ويجوز ذلك فيما دون خمسة أوسق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق وفي خمسة أوسق قولان: أحدهما لا يجوز وهو قول المزني لأن الأصل هو الحضر وقد ثبت جواز ذلك فيما دون خمسة أوسق

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي خمسة أوسق شك لأنه روي في حديث أبي هريرة فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق شك فيه داود بي الحصين فبقي على الأصل ولأن خمسة أوسق في حكم ما زاد بدليل أنه تجب الزكاة في الجميع فإذا لم تجز فيما زاد على خمسة أوسق لم تجز في خمسة أوسق والقول الثاني أنه يجوز لعموم حديث سهل بن أبي حثمة. فصل: وما جاز في الرطب بالتمر جاز في العنب بالزبيب لأنه يدخر يابسه ويمكن خرصه فأشبه الرطب وفيما سوى ذلك من الثمار قولان: أحدهما يجوز لأنه ثمرة فجاز بيع رطبها بيابسها خرصاً كالرطب والثاني لا يجوز لما روى زيد بن ثابت قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا بالتمر والرطب ولم يرخص في ذلك ولأن سائر الثمار لايدخر يابسها ولا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها في الأوراق فلم يجز بيعها خرصاً. فصل: ولا يباع منه ما نزع نواه بما لم ينزع نواه لأن أحدهما على هيئة الادخار والآخر على غير هيئة الادخار ويتفاضلان حال الادخار فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالرطب بالتمر وهل يجوز بيع ما نزع نواعه بعضه ببعض؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا التمر بالتمر إلا سواء بسواء" والثاني لا يجوز لأنه يتجافى في المكيال

فلا يتحقق التساوي ولأنه يجهل تساويهما في حال الكمال والادخار فأشبه بيع التمر بالتمر جزافاً. فصل: ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه لأن النار تعقد أجزاءه وتسخنه فإن بيع كيلاً لم يجز لأنهما لا يتساويان في الكيل في حال الادخار وإن بيع وزناً لم يزد لأن أصله الكيل فلا يجوز بيعه وزناً ولا يجوز بيع مطبوخه لأن النار قد تعقد من أجزاء أحدهما أكثر من الآخر فيجهل التساوي واختلف أصحابنا في بيع العسل المصفى بالنار بعضه ببعض فمنهم من قال لا يجوز لأن النار تعقد أجزاءه فلا يعلم تساويهما ومنهم من قال يجوز وهو المذهب لأن نار التصفية نار لينة لا تعقد الأجزاء وإنما تميزه من الشمع فصار كالعسل المصفى بالشمس واختلفوا في بيع السكر بعضه ببعض فمنهم من قال لا يجوز لأن النار قد عقدت أجزاءه ومنهم من قال يجوز لأن ناره لا تعقد الأجزاء وغنما تميزه من القصب. فصل: ولا يجوز بيع الحب بدقيقه متفاضلاً لأن الدقيق هو الحب بعينه وإنما فرقت أجزاؤه فهو كالدنانير الصحاح بالقراضة فأما بيعه به متماثلاً فالمنصوص أنه لا يجوز وقال الكرابيسي: قال أبو عبد الله: تجوز فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولاً آخر وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز قولاً واحداً ولعل الكرابيسي أراد أبا عبد الله مالكاً أو أحمد فإن عندهما يجوز ذلك والدليل على أنه لا يجوز أنه جنس فيه ربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار بما ليس منه على هيئة الادخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار فلم يصح كبيع الرطب بالتمر ولا يجوز بيع دقيقة بدقيقة وروى المزني عنه في المنثور أنه يجوز وإليه أومأ في البويطي لأنهما يتساويان في الحال ولا يتفاضلان في الثاني فجاز بيع أحدهما بالآخر كالحنطة بالحنطة والصحيح هو الأول لأنه جهل التساوي بينهما في حال الكمال والإدخار فأشبه بيع الصبرة بالصبرة جزافاً ولا يجوز بيع حبه بسويقه ولا سويقه بسويقه لما ذكرناه في الدقيق ولأن النار قد دخلت عليه وعقدت أجزاؤه فمنع التماثل ولا يجوز بيعه بخبزه لأنه دخله النار وخالطه الملح والماء وذلك يمنع التماثل ولأن الخبز موزون والحنطة مكيل فلا يمكن معرفة التساوي بينهما ولا يجوز بيع خبزه بخبزه لأن ما فيه من الماء والملح يمنع من لا علم بالتماثل فمنع جواز العقد وإن جفف الخبز وجعل فتيتاً وبيع بعضه ببعض كيلاً ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه لا يعلم تساويهما في حال التكامل فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالرطب بالرطب والثاني أنه يجوز لأنه مكيل مدخر فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر.

فصل: ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالسمسم بالشيرج والعنب بالعصير لأنه إذا عصر الأصل نقص عن العصير الذي بيع به ويجوز بيع العصير بالعصير إذا لم تنعقد أجزاؤه لأنه يدخر على صفته فجاز بيع بعضه ببعض كالزبيب بالزبيب ويجوز بيع الشيرج بالشيرج ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنه يخالطه الماء والملح وذلك يمنع التماثل فمنع العقد والمذهب الأول لأنه يدخر على جهته فجاز بيع بعضه ببعض كالعصير وأما الماء والملح فإنه يحصل في الكسب ولا ينعصر لأنه لو انعصر في الشيرج لبان عليه ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر لأنه يدخر على جهته فجاز بيع بعضه ببعض كالزبيب بالزبيب ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب لأن في خل الزبيب ماء وذلك يمنع من تماثل الخلين ولا يجوز خل الزبيب بخل الزبيب ولا بيع خل التمر بخل التمر لأنا إن قلنا إن الماء فيه ربا لم يجز للجهل بتماثل الماءين والجهل بتماثل الخلين وإن باع خل الزبيب بخل التمر فإن قلنا إن في الماء ربا لم يجز للجهل بتماثل الماءين فيهما وإن قلنا لا ربا في الماء جاز لأنهما جنسان فجاز بيع أحدهما بالآخر مع الجهل بالمقدار كالتمر بالزبيب والله أعلم. فصل: ولا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلب شاة لأن اللبن يدخل في البيع ويقابله قسط من الثمن والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعاً من تمر ولأن اللبن في الضرع كاللبن في الإناء والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلبن أحدكم شاة غيره بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى خزانته فينتثل ما فيها1" فجعل اللبن كالمال في الخزانة فصار كما لو باع لبناً وشاة بلبن فإن باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ففيه وجهان: قال أبو الطيب بن سلمى: يجوز كما يجوز بيع السمسم بالسمسم وإن كان في كل واحد منهما شيرج وكما يجوز بيع دار بدار وإن كان في كل واحدة منهما بئر ماء وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز لأنه جنس فيه ربا بيع بعضه ببعض ومع كل واحد منهما شيء مقصود فلم يجز كما لو باع نخلة مثمرة بنخلة مثمرة ويخالف السمسم لأن الشيرج في السمسم كالمعدوم لأنه لا يحصل إلا بطحن وعصر واللبن موجود في الضرع

_ 1 رواه مسلم في كتاب اللقطة حديث 13. أبو داود في كتاب الجهاد باب 85. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 68. أحمد في مسنده "2/6، 7".

من غير فعل ويمكن أخذه من غير مشقة وأما الدار فإن قلنا إن الماء يملك ويحرم فيه الربا فلا يجوز بيع إحدى الدارين بالأخرى ويجوز بيع اللبن الحليب بعضه ببعض لأن عامة منافعه في هذه الحال فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر بالتمر ويجوز بيع اللبن الحليب بالرائب وهو الذي فيه حموضة لأنه لبن خالص وإنما تغير فهو كتمر طيب بتمر غير طيب ويجوز بيع الرائب بالرائب كما يجوز بيع تمر متغير بتمر متغير ولا يجوز بيع اللبن بما يتخذ منه من الزبد والسمن لأن ذلك مستخرج منه فلا يجوز بيعه به كالشيرج بالسمسم ولا يجوز بيعه بالمخيض لأن المخيض لبن نزع منه الزبد والحليب لم ينزع منه الزبد فإذا بيع أحدهما بالآخر تفاضل اللبنان ولا يجوز بيعه بالشيراز واللبأ والجبن لأن أجزاءها قد انعقدت فلا يجوز بيعها باللبن كيلاً لأنهما يتفاضلان ولا يجوز بيعها وزناً لأن اللبن مكيل فلا يباع بجنسه وزناً وأما بيع ما يتخذ منه بعضه ببعض فإنه إن باع السمن بالسمن جاز لأنه لا يخالطه غيره قال الشافعي رحمه الله والوزن فيه أحوط وقال أبو إسحاق: يباع كيلاً لأن أصله الكيل فإن باع الزبد بالزبد ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز بيع السمن بالسمن واللبن باللبن والثاني لا يجوز لأن الزبد فيه لبن فيكون بيع لبن وزبد بلبن وزبد وإن باع المخيض بالمخيض نظرت فإن لم يطرح فيه الماء جاز لأنه بيع لبن بلبن وإنما طرح فيه ماء للضرب لم يجز لتفاضل الماءين وتفاضل اللبنين وإن باع الجبن أو الأقط أو المصل أو اللبأ بعضه ببعض لم يجز لأن أجزاءها منعقدة ويختلف انعقادها ولأن فيها ما يخالطه الملح والأنفحة وذلك يمنع التماثل وأما بيع نوع منه بنوع آخر فإنه ينظر فيه فإن باع الزبد بالسمن لم يجز لأن السمن مستخرج من الزبد فلا يجوز بيعه بما استخرج منه كالشيرج بالسمسم وإن باع المخيض بالسمن فالمنصوص أنه يجوز لأن ليس في أحدهما شيء من الآخر قال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: هما كالجنسين فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً بلا خلاف وإن باع الزبد بالمخيض فالمنصوص أنه يجوز وقال أبو إسحاق أنه لا يجوز لأن في الزبد شيئاً من المخيض فيكون بيع زبد ومخيض بمخيض وهذا لا يصح لأن الذي فيه من المخيض لا يظهر إلا بالتصفية

والنار فلم يكن له حكم وما سوى ذلك لا يجوز بيع نوع منه بنوع آخر لأنه يؤدي إلى التفاضل. فصل: ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يباع حي بميت" وروى ابن عباس رضي الله عنه أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني بها لحماً فقال أبو بكر: لا يصلح هذا ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم وفي بيع اللحم بحيوان لا يؤكل قولان: أحدهما لا يجوز للخبر والثاني يجوز لأنه ليس فيه مثله فجاز بيعه به كاللحم بالثوب ويجوز بيع اللحم بجنسه إذا تناهى جفافه ونزع منه العظم لأنه يدخر على هذه الصفة فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر وهل يجوز بيع بعضه ببعض قبل زرع العظم؟ فيه وجهان: قال أبو سعيد الإصطخري يجوز كما يجوز بيع التمر بالتمر وفيه النوى ومن أصحابنا من قال لا يجوز كما لا يجوز بيع العسل الذي فيه شمع بعضه ببعض ويخالف النوى في التمر فإن فيه مصلحة له وليس في ترك العظم في اللحم مصلحة له. فصل: ولا يجوز بيع بيض الدجاج بدجاجة في جوفها بيض لأنه جنس فيه ربا بيع بما في مثله فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان.

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار إذا باع أرضاً وفيها بناء أو غراس نظرت فإن قال بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها البناء والغراس لأنه من حقوقها وإن لم يقل بحقوقها فقد قال في البيع يدخل وقال في الرهن لا يدخل واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: فمنهم من قال لا يدخل في الجميع لأن الأرض ليست بعبارة عن الغراس والبناء وتأول قوله في البيع عليه إذا قال بحقوقها ومنهم من نقل جوابه في الرهن إلى البيع وجوابه في البيع إلى الرهن وجعلهما على قولين: أحدهما لا يدخل في الجميع لأن الأرض اسم للعرصة دون ما فيها من الغراس والبناء والثاني يدخل لأنه متصل بها فدخل فيها الغراس والبناء والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك فلم يدخل فيه الغراس والبناء فإن قال بعتك هذه القرية بحقوقها لم تدخل فيها المزارع لأن القرية اسم للأبنية دون المزارع وإن قال بعتك هذه الدار دخل بها ما اتصل بها من الرفوف المسمرة والجوابي والأجاجين المدفونة فيها للانتفاع بها

وإن كان فيها رحا مبينة دخل الحجر السفلاني في بيعها لأنه متصل بها وفي الفوقاني وجهان: أحدهما أنه يدخل وهو الصحيح لأنه ينصب هكذا فدخل فيه كالباب والثاني لا يدخل لأنه منفصل عن المبيع ويدخل الغلق المسمر في الباب وفي المفتاح وجهان أحدهما: يدخل فيه لأنه من مصلحته فلا ينفرد عنه والثاني لا يدخل لأنه منفصل فلم يدخل كالدلو والبكرة وإن كان في الدار شجرة فعلى الطرق الثلاثة التي ذكرناها في الأرض وأما الماء الذي في البئر فاختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: الماء غير مملوك لأنه لو كان مملوكاً لصاحب الدار لما جاز للمستأجرين شربه لأنه إتلاف عين فلا يستحق بالإجارة كثمرة النخل ولوجب أن لا يجوز للمشتري رد الدار بالعيب بعد شربه كما لا يجوز رد النخل بعد أكل ثمرته فعلى هذا لا يدخل في بيع الدار غير أن المشتري أحق به لثبوت يده على الدار وقال أبو علي بن أبي هريرة: هو مملوك لمالك الدار وهو المنصوص في القديم وفي كتاب حرملة لأنه من نماء الأرض فكان لمالك الأرض كالحشيش فإذا باع الدار فإن الماء الظاهر للبائع لايدخل في بيع الدار من غير شرط وما يظهر بعد العقد فهو للمشتري فعلى هذا لا يصح البيع حتى يشترط أن الظاهر من الماء للمشتري لأنه إذا لم يشترط اختلط ماء البائع بماء المشتري فينفسخ البيع وإن كان في الأرض معدن باطن كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع لأنه من أجزاء الأرض وإن كان معدناً ظاهراً كالنفط والقار فهو كالماء المملوك في قول أبي علي بن أبي هريرة وغير مملوك في قول أبي إسحاق والحكم في دخوله في البيع على ما بيناه في الماء وإن باع أرضاً وفيها ركاز أو حجارة مدفونة لم تدخل في البيع لأنها ليست من أجزاء الأرض ولا هي متصلة بها فلم تدخل في بيعها. فصل: وإن باع نخلاً وعليها طلع غير مؤبر دخل في بيع النخل وإن كان مؤبراً لم يدخل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع1" فجعلها للبائع بشرط أن تكون مؤبرة فدل على

_ 1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 17. مسلم في كتاب البيوع حديث 80. الترمذي في كتاب البيوع 25. النسائي في كتاب البيوع باب 76.

أنها إذا لم تكن مؤبرة فهي للمبتاع ولأن ثمرة النخل كالحمل لأنه نماء كامن لظهوره غاية كالحمل ثم الحمل الكامن يتبع الأصل في البيع والحمل الظاهر لا يتبع فكذلك الثمرة قال الشافعي رحمه الله: وما شقق في معنى ما أبر لأنه نماء ظاهر فهو كالمؤبر وإن باع فحالاً وعليها طلع لم يتشقق ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يدخل في بيع الأصل لأن جميع الطلع مقصود مأكول وهو ظاهر فلم يتبع الأصل كالتين والثاني أنه يدخل في بيع الأصل وهو الصحيح لأنه طلع لم يتشقق فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث وما قاله الأول لا يصح لأن المقصود ما فيه وهو الكش الذي تلقح به الإناث وهو غير ظاهر فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث. فصل: وإن باع حائطاً أبر بعضه دون بعض جعل الجميع كالمؤبر فيكون الجميع للبائع لأنا لو قلنا إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فجعل مالم يؤبر تبعاً للمؤبر لأن الباطن يتبع الظاهر ولم نجعل ما أبر تابعاً لما لم يؤبر لأن الظاهر لا يتبع الباطن ولهذا جعلنا أساس الدار تابعاً لظاهرها في تصحيح البيع ولم نجعل ظاهرها تابعاً للباطن في إفساد البيع وقال أبو على بن خيران: إن كان نوعاً واحداً جعل غير المؤبر تابعاً للمؤبر وإن كان نوعين لم يجعل مالم يؤبر من أحد النوعين تابعاً للمؤبر من نوع آخر لأن النوع الواحد يتقارب ظهوره والنوعان يختلف ظهورهما والمذهب الأول لما ذكرناه من سوء المشاركة واختلاف الأيدي وذلك يوجد في النوعين كما يوجد في النوع الواحد وأما إذا كان له حائطان فأبر أحدهما دون الآخر وباعهما فإن المؤبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري ولا يتبع أحدهما الآخر لأن انفراد كل واحدة منهما بثمرة حائط لا يؤدي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فاعتبر كل واحد منهما بنفسه وإن كان له حائط أطلع بعضه دون بعض فأبر المطلع ثم باع الحائط ثم أطلع الباقي ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: ما أطلع في ملك المشتري لا يتبع المؤبر بل يكون للمشتري لأنه حادث في ملكه فلا يصير للبائع والثاني أنه يتبع المؤبر فيكون للبائع لأنه من ثمرة عامه فجعل تابعاً له كالطلع الظاهر في حال العقد فإن أبر

بعض الحائط دون بعض ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع ففي طلعه وجهان: أحدهما أنه للبائع لأنا جعلناه في الحكم كالمؤبر بدليل أنه لو باع الجميع كان للبائع فصار كما لو أفرد بعض المؤبر بالبيع والثاني أنه للمشتري لأنه إنما جعل كالمؤبر إذا بيع معه فيصير تابعاً له فأما إذا أفرده فليس بتابع للمؤبر فتبع أصله. فصل: قال الشافعي رحمه الله والكرسف إذا بيع أصله كالنخل وأراد به كرسف الحجاز فإنه شجر يحمل في كل سنة وتخرج ثمرته في كمام وتتشقق عنه كالنخل فإن باع وقد تشقق جوزه فهو للبائع وإن لم يتشقق فهو للمشتري وإن تشقق بعضه دون بعض جعل الجميع للبائع كالنخل وأما ما لا يحمل إلا سنة وهو قطن العراق وخراسان فهو كالزرع ويجيء حكمه إن شاء الله تعالى. فصل: وإن باع شجراً غير النخل والكرسف لم يخل إما أن يقصد منه الورد أو الورق أو الثمرة فإن كان يقصد منه الورد فإن كان ورده يخرج في كمام ثم ينفتح منه كالورد فهو كالنخيل فإن كان في الكمام تبع الأصل في البيع كالطلع الذي لم يؤبر وإن كان خارجاً من الكمام لم يتبع الأصل كالطلع المؤبر وإن كان لا كمام له كالياسمين كان ماظهر منه للبائع وما لم يظهر للمشتري وإن كان مما يقصد منه الورق كالتوت ففيه وجهان: أحدهما أنه إن لم ينفتح فهو للمشتري وإن تفتح فهو للبائع لأن الورق من هذا كالثمر من سائر الأشجار والثاني أنه للمشتري تفتح أو لم يتفتح لأنه بمنزلة الأغصان من سائر الأشجار وليس كالثمر لأن ثمرة التوت ما يؤكل منه وإن كان مما يقصد منه الثمرة فهو على أربعة أضرب: أحدها ما تخرج ثمرته ظاهرة من غير كمام كالتين والعنب فما ظهر منه فهو للبائع لا يدخل في البيع من غير شرط وما يظهر بعد العقد فهو للمشتري لأن الظاهر منه كالطلع المؤبر والباطن منه كالطلع الذي لم يؤبر والثاني ما يخرج في كمام لا يزال عنه إلا عند الأكل كالرمان والموز فهو للبائع لأن كمامه من مصلحته فهو كأجزاء الثمرة والثالث ما يخرج وعليه قشرتان كالجوز واللوز والرانج فالمنصوص أنه كالرمان لا يدخل في بيع الأصل لأن قشره لا يتشقق عنه كما لا يتشقق قشر الرمان ومن أصحابنا من قال: هو كثمرة النخل الذي لم يؤبر لأنه لا يترك في القشر الأعلى كما

لا تترك الثمرة في الطلع والرابع ما يكون في نور يتناثر عنه النور كالتفاح والكمثري فاختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: هو كثمرة النخل إن تناثر عنه النور فهو للبائع وإن لم يتناثر عنه فهو للمشتري وهو ظاهر كتشقق الطلع عن الثمرة فكان في الحكم مثلها وقال الشيخ أبو حامد الأسفرايني: هو للبائع وإن لم يتناثر النور عنها لأن الثمرة قد ظهرت بالخروج من الشجر واستتارها بالقشر الأبيض فكذلك هذه الثمرة للبائع مع استتارها بالنور. فصل: وإن باع أرضاً وفيها نبات غير الشجر فإن كان مما له أصل يحمل مرة بعد أخرى كالرطبة والبنفسج والنرجس والنعنع والهندبا والبطيخ والقثاء دخل الأصل في البيع وما ظهر منه فهو للبائع وما لم يظهر فهو للمشتري كالأشجار وإن كان مالا يحمل إلا مرة كالحنطة والشعير لم يدخل في بيع لأصل لأنه لماء ظاهر لا يراد للبقاء فلم يدخل في بيع الأصل كالطلع المؤبر وفي بيع الأرض طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان لأنها في يد البائع إلى أن يحصد الزرع فكان في بيعها قولان كالأرض المستأجرة ومنهم من قال يصح بيع الأرض قولاً واحداً لأن المبيع في يد المشتري وإنما يدخل البائع للسقي أو الحصاد فجاز بيعه قولاً واحداً كالأمة المزوجة وإن باع أرضاً فيها بذر لم يدخل البذر لأنه مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها كالركاز فإن باع الأرض مع البذر ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح تبعاً للأرض والثاني لايصح وهو المذهب لأنه لا يجوز بيعه منفرداً فلم يجز بيعه مع الأرض. فصل: إذا باع أصلاً وعليه ثمرة وعليه ثمرة للبائع لم يكلف قطع الثمرة إلى أوان الجداد فإن كان مما يقطع بسراً كالبسر الحيسواني والقرشي لم يكلف قطعه إلى أن يصير بسراً وإن كان مما لا يقطع إلا رطباً لم يكلف قطعه إلى أن يصير رطباً لأن نقل المبيع على حسب العادة ولهذا إذا اشترى بالليل متاعاً لم يكلف نقله حتى يصبح وإن اشتراه في المطر لم

يكلف نقله حتى يسكن المطر والعادة في قطع الثمار ما ذكرناه فلا يكلف القطع قبله. فصل: فإن أصاب النخل عطش وخاف أن تشرب الثمرة الماء من أصل النخل فيهلك ففيه قولان: أحدهما لا يكلف البائع قطع الثمرة لأن المشتري دخل في العقد على أن يترك الثمار إلى الجداد فلزمه تركه والثاني أنه يكلف قطعه لأن المشتري إنما رضي بذلك إذا لم يضر به فإذا أضر به لم يلزمه تركه فإن احتاج أحدهما إلى سقي ماله ولم يكن على الآخر ضرر جاز له أن يسقيه لأنه إصلاح لما له من غير إضرار بأحد فجاز وإن كان على الآخر ضرر في السقي وتشاحا ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يفسخ العقد لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر في الأضرار فوجب أن يفسخ وقال أبو علي بن أبي هريرة يجبر الممتنع منهما لأنه حين دخل في العقد رضي بدخول الضرر عليه لأنه يعلم أنه لا بد من السقي ويجب أجرة السقي على من يسقي لأن منفعته تحصل له. فصل: ولا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثمرة النخل حتى تزهى والسنبل والزرع حتى يبيض ويأمن العاهة ولأن المبيع إنما ينقل على حسب العادة ولهذا لو اشترى بالليل متاعاً لم يكلف نقله حتى يصبح والعادة في الثمار تركها إلى أوان الجداد فإذا باعها قبل بدو الصلاح لم يأمن أن يصيبها عاهة فتتلف وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وإن باعها بشرط القطع جاز لأنه يأخذه قبل أن يتلف فيأمن الغرر وإن باع الثمرة مع الأصل والزرع مع الأرض قبل بدو الصلاح جاز لأن حكم الغرر مع الأصل كالغرر في الحمل يسقط حكمه إذا بيع مع الأصل وإن باع الثمرة ممن يملك الأصل أو الزرع ممن يملك الأرض ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه يحصل لمالك الأصل فجاز كما لو باعها مع الشجر والأرض والثاني لا يصح لأن أفرده بالبيع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع فأشبه إذا باعها من غير مالك الأصل وإن بدا صلاحها جاز بيعها بشرط القطع لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه إذا جاز بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح فلأن يجوز بعد بدو الصلاح أولى ويجوز بيعها مطلقاً للخبر ولأنه أمن من العاهة فجاز بيعها مطلقاً كسائر الأموال ويجوز بيعها بشرط التبقية إلى الجداد للخبر ولأن إطلاق البيع يقتضي التبقية إلى أوان الجداد فإذا شرط التبقية فقد شرط ما يقتضيه الإطلاق فجاز.

فصل: وبدو الصلاح في الثمار أن يطيب أكلها فإن كان رطباً أن يحمر أو يصفر وإن كان عنباً أسود بأن يتموه وإن كان أبيض بأن يرق ويحلو وإن كان زرعاً بأن يشتد وإن كان بطيخاً بأن يبدو فيه النضج وإن كان قثاء أن يكبر بحيث يؤخذ ويؤكل والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم فإن وجد بدو الصلاح في بعض الجنس من حائط جاز بيع ذلك الجنس كله في ذلك الحائط لأنا لو قلنا لا يجوز إلا فيما بدا صلاحه فيه أدى إلى المشقة والضرر بسوء المشاركة ولا يجوز أن يبيع ما لم يبد فيه الصلاح من جنس آخر ولا ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس من حائط آخر لأن المنع من ذلك لا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة فإن بدا الصلاح في بعض الجنس في حائط فباع منه ما لم يبد فيه الصلاح مفرداً من غير شرط القطع ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنا جعلناه في حكم ما بدا فيه الصلاح فجاز إفراده بالبيع والثاني لا يجوز لأنه جعل في حكم ما بدا فيه الصلاح بيعاً لما بدا فيه الصلاح وما أجيز بيعه تبعاً لغيره لم يجز إفراده بالبيع كالحمل. فصل: إذا ابتاع زرعاً أو ثمرة بعد بدو الصلاح لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجداد لأن العادة فيها تركها إلى الحصاد والجداد فلم يكلف نقله قبله كما نقول فيمن اشترى متاعاً بالليل إنه لا يكلف نقله إلا بالنهار فإذا احتاجت الثمرة أو الزرع إلى السقي لزم البائع ذلك لأنه يجب عليه تسليمها في حال الجداد والحصاد وذلك لا يحصل إلا بالسقي فلزمه. فصل: وإذا اشترى ثمرة على الشجر فلم يأخذ حتى حدث ثمرة أخرى واختلطت ولم تتميز أو اشترى حنطة فلم يقبض حتى انثالت عليها حنطة أخرى ففيه قولان: أحدهما ينفسخ البيع وهو الصحيح لأنه تعذر التسليم المستحق بالعقد فإن البائع لا يلزمه تسليم ما اختلط به من ماله فإن رضي البائع بتسليم ماله لم يلزم المشتري قبوله وإذا تعذر تسليم المعقود عليه بطل العقد كما لو تلف المبيع والثاني لا ينفسخ لأن المبيع باق وإنما انضاف إليه زيادة فصار كما لو باع عبداً فسمن أو شجرة فكبرت فإن قلنا لا ينفسخ

قلنا للبائع إن سمحت بحقك أقر العقد وإن لم تسمح فسخ العقد وإن اشترى شجرة عليها حمل للبائع فلم يأخذه حتى حدث حمل للمشتري واختلطت ولم تتميز ففيه طريقان: قال أبو علي بن خيران وأبو علي الطبري لا ينفسخ العقد قولاً واحداً بل يقال إن سمح أحد كما بترك حقه من الثمرة أقر العقد لأن المبيع هو الشجر ولم يختلط الشجر بغيره وإنما اختلط ما عليها من الثمرة والثمرة غير مبيعة فلم ينفسخ البيع كما لو اشترى داراً وفيها طعام للبائع وطعام للمشتري فاختلط أحد الطعامين بالآخر فإن البيع لا ينفسخ في الدار وقال المزني وأكثر أصحابنا: إنها على قولين كالمسئلة قبلها لأن المقصود بالشجر هو الثمرة فكان اختلاطها كاختلاط المبيع وإن اشترى رطبة بشرط القطع فلم يقطع حتى زادت وطالت ففيه طريقان: أحدها أنه لا يبطل البيع قولاً واحداً بل يقال للبائع إن سمحت بحقك أقر العقد وإن لم تسمح فسخ العقد لأنه لم يختلط المبيع بغيره وإنما زاد المبيع في نفسه فصار كما لو اشترى عبداً صغيراً فكبر أو هزيلاً فسمن والثاني هو الصحيح أنه على قولين: أحدهما لا ينفسخ البيع والثاني ينفسخ ويخالف السمن والكبر في العبد فإن تلك الزيادة لا حكم لها ولهذا يجبر البائع على تسليم العبد مع السمن والكبر ولهذه الزيادة حكم ولهذا لا يجبر البائع على تسليمها فدل على الفرق بينهما. فصل: وإن كان له شجرة تحمل حملين فباع أحد الحملين بعد بدو الصلاح وهو يعلم أنه يحدث الحمل الآخر ويختلط به ولا يتميز فالبيع باطل وقال الربيع فيه قول آخر إن البيع يصح ولعله أخذه من أحد القولين فيمن باع جزة من الرطبة فلم يأخذ حتى حدث شيء آخر أن البيع يصح في أحد القولين والصحيح هو الأول لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه لأن العادة فيها الترك فإذا ترك اختلط به غيره فتعذر التسليم بخلاف الرطبة فإنه باعها بشرط القطع فلا يتعذر التسليم.

باب بيع المصراة والرد بالعيب

باب بيع المصراة والرد بالعيب إذا اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ولم يعلم أنها مصراة ثم علم أنها مصراة

فهو بالخيار بأن يمسك وبين أن يرد لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر1" وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً2" واختلف أصحابنا في وقت الرد فمنهم من قال يتقدر الخيار بثلاثة أيام فإن علم بالتصرية فيما دون الثلاث كان له الخيار في بقية الثلاث للسنة ومنهم من قال: إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور فإن لم يرد سقط خياره لأنه خيار ثبت لنقص فكان على الفور كخيار الرد بالعيب. فصل: فإن اختار رد المصراة رد بدل اللبن الذي أخذه واختلفت الرواية فيه فروى أبو هريرة صاعاً من تمر وروى ابن عمر مثل أو مثلي لبنها قمحاً واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس بن سريج: يرد في كل بلد من غالب قوته وحمل حديث أبو هريرة على من قوت بلده التمر وحديث ابن عمر على من قوت بلده القمح كما قال في زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير وأراد التمر لمن قوته التمر والشعير لمن قوته الشعير وقال أبو إسحاق: الواجب صاع من تمر لحديث أبو هريرة وتأول حديث ابن عمر عليه إذا كان مثل لبنها من القمح أكثر قيمة من صاع من التمر فتطوع به وإن كان قيمة الصاع بقيمة الشاة أو أكثر ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجب عليه قيمة صاع بالحجاز لأنا لو أوجبنا صاعاً بقيمة الشاة حصل للبائع الشاة وبدلها فوجب قيمة الصاع بالحجاز لأنه هو الأصل ومن أصحابنا من يقول يلزمه الصاع وإن كان بقيمة الشاة أو أكثر ولا يؤدي إلى الجمع بين الشاة وبدلها لأن الصاع ليس ببدل عن الشاة وإنما هو بدل عن اللبن فجاز كما لو غصب عبداً فخصاه فإنه يرد العبد مع قيمته ولا يكون ذلك جمعاً بين العبد وقيمته لأن القيمة بدل عن العضو المتلف وإن كان ما حلب من اللبن باقياً فأراد رده ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يجبر البائع على أخذه لأنه أصبح بالحلب ناقصاً لأنه يسرع إليه التغير فلا يجبر على أخذه ومن أصحابنا من قال يجبر لأن نقصانه حصل

_ 1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 64، 71.أبو داود في كتاب البيوع باب 46. النسائي في كتاب البيوع باب 14. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 42. أحمد في مسنده "1/430". 2 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 64، 65. أبو داود في كتاب البيوع باب 46.

لمعنى يستعلم به العيب فلم يمنع الرد ولأنه لو لم يجز رده لنقصانه بالحلب فلم يجز إفراد الشاة بالرد لأنه إفراد بعض المعقود عليه بالرد فلما جاز ذلك ههنا وإن لم يجز في سائر المواضع جاز رد اللبن ههنا مع نقصانه بالحلب وإن لم يجز في سائر المواضع. فصل: وإن اشترى جارية مصراة ففيه أربعة أوجه: أحدها أنه يردها ويرد معها صاعاً لأنه يقصد لبنها فثبت بالتدليس له فيه الخيار والصاع كالشاة والثاني أنه يردها لأن لبنها يقصد لتربية الولد ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد ولا يرد بدله لأنه لا يباع ولا يقصد بالعوض والثالث لا يردها لأن الجارية في العادة لا يقصد في العادة إلا عينها دون لبنها والرابع لا يردها ويرجع بالأرش لأنه لا يمكن ردها مع عوض اللبن لأنه ليس للبنها عوض مقصود ولا يمكن رده من غير عوض لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها من غير بدل ولا يمكن إجبار المبتاع على إمساكها بالثمن المسمى لأنه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له ما دلس به من اللبن فوجب أن يرجع على البائع بالأرش كما لو وجد بالمبيع عيباً وحدث عنده عيب. فصل: وإن اشترى أتاناً مصراة فإن قلنا بقول الإصطخري إن لبنها طاهر ردها ورد معها بدل اللبن كالشاة وإن قلنا بالمنصوص إنه نجس ففيه وجهان: أحدهما أنه يردها ولا يرد بدل اللبن لأنه لا قيمة له فلا يقابل ببدل والثاني يمسكها ويأخذ الأرض لأنه لا يمكن ردها مع البدل لأنه لا بدل له ولا ردها من غير بدل لما فيه من إسقاط حق البائع من لبنها ولا إمساكها بالثمن لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن ولم تسلم فوجب أن تمسك ويأخذ الأرش. فصل: إذا ابتاع بشرط أن تحلب كل يوم خمسه أرطال ففيه وجهان بناء على القولين فيمن باع شاة شرط حملها: أحدهما لا يصح لأنه شرط مجهول فلم يصح والثاني أنه يصح لأنه يعلم بالعادة فصح شرطه فعلى هذا إذا لم تحلب المشروط فهو بالخيار بين الإمساك والرد. فصل: إذا ابتاع جارية قد جعد شعرها ثم بان أنها سبطة الشعر أو سود شعرها ثم

بان بياض شعرها أو حمر وجهها ثم بان صفرة وجهها ثبت له الرد لأنه تدليس بما يختلف به الثمن فثبت به الخيار كالتصرية وإن سبط شعرها ثم بان أنها جعدة ففيه وجهان: أحدهما لا خيار له لأن الجعدة أكمل وأكثر ثمناً والثاني أنه يثبت له الخيار لأنه قد تكون السبطة أحب إليه وأحسن عنده وهذا لا يصح لأنه اعتبار به وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن والجعدة أكثر ثمناً من السبطة وإن ابتاع صبرة ثم بان أنها كانت على صخرة أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة ثبت له الرد لما ذكرناه من العلة في المسألة قبلها. فصل: ومن ملك عيناً وعلم بها عيباً لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم فلا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً يعلم فيه عيباً إلا بينه له1" فإن علم غير المالك بالعيب لزمه أن يبين ذلك لمن يشتريه لما روى أبو سباع قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركنا عقبة بن عامر فقال هل بين لك ما فيها؟ قلت: وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة فقال: أردت بها سفراً أم أردت بها لحماً قلت: أردت عليها الحج قال: إن بخفها نقباً قال صاحبها: أصلحك الله ما تريد إلى هذا تفسد علي قال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه" فإن باع ولم يبين العيب صح البيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح البيع في المصراة مع التدليس بالتصرية. فصل: فإن لم يعلم بالعيب واشتراه ثم علم بالعيب فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له ذلك فثبت له الرجوع بالثمن كما قلنا في المصراة فإن ابتاع شيئاً ولا عيب به ثم حدث به عيب في ملكه نظرت فإن كان حدث قبل القبض ثبت له الرد لأن المبيع مضمون على البائع فثبت له الرد بما يحدث فيه من العيب كما قبل العقد وإن حدث العيب بعد القبض نظرت فإن لم يستند إلى سبب قبل القبض لم يثبت له الرد لأنه دخل المبيع في ضمانه فلم يرد بالعيب الحادث وإن استند إلى ما قبل القبض بأن كان عبداً فسرق أو قطع يداً قبل القبض فقطعت يده بعد القبض ففيه وجهان: أحدهما أنه يرد وهو على قول أبي أسحق لأنه قطع بسبب كان قبل

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب التجارات باب 45.

القبض فصار كما لو قطع قبل القبض والثاني أنه لا يرد وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن القطع وجد في يد المشتري فلم يردكما لو لم يستند إلى سبب قبله. فصل: إذا وجد المشتري بالمبيع عيباً لم يخل إما أن يكون المبيع باقياً على وجهه أو زاد أو نقص فإن كان باقياً على جهته وأراد الرد لم يؤخره فإن أخره من غير عذر سقط الخيار لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فكان على الفور كخيار الشفعة فإن كان المبيع دابة فساقها ليردها فركبها في الطريق أو علفها أو سقاها لم يسقط حقه من الرد لأنه لم يرض بالعيب ولم يوجد منه أكثر من الركوب والعلف والسقي وذلك حق له إلى أن يرد فلم يمنع الرد وله أن يرد بغير رضى البائع ومن غير حضوره لأنه رفع عقد جعل إليه فلا يعتبر فيه رضى صاحبه ولا حضوره كالطلاق فإن اشترى ثوباً بجارية فوجد بالثوب عيباً فوطيء الجارية ففيه وجهان: أحدهما أنه ينفسخ البيع كما ينفسخ البيع في مدة خيار الشرط بالوطء والثاني لا ينفسخ لأن الملك قد استقر للمشتري فلا يجوز إلا بالقول فإن زال العيب قبل الرد ففيه وجهان: بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد ثم أعتق العبد قبل أن تختار الأمة الفسخ: أحدهما يسقط الخيار لأن الخيار ثبت لدفع الضرر وقد زال الضرر والثاني لا يسقط لأن الخيار ثبت بوجود العيب فلا يسقط من غير رضاه وإن قال البائع أنا أزيل العيب مثل أن يبع أرضاً فيها حجارة مدفونة يضر تركها بالأرض فقال البائع: أنا أقلع ذلك في مدة لا أجرة لمثلها سقط حق المشتري من الرد لأن ضرر البيع يزول من غير إضرار وإن قال البائع أمسك المبيع أنا أعطيك أرش العيب لم يجبر المشتري على قبوله لأنه لم يرض إلا بمبيع سليم بجميع الثمن فلم يجبر على إمساك معيب ببعض الثمن وإن قال المشتري أعطني الأرش لأمسك المبيع لم يجبر البائع على دفع الأرش لأنه لم يبذل المبيع إلا بجميع الثمن فلم يجبر على تسليمه ببعض الثمن فإن تراضيا على دفع الأرش لأنه لم يبذل المبيع إلا بجميع الثمن فلم يجبر على تسليمه ببعض الثمن فإن تراضيا على دفع الأرش لإسقاط الخيار ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو قول أبي العباس لأن خيار الرد يجوز أن يسقط إلى المال وهو إذا حدث عند المشتري عيب فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي كالخيار في القصاص والثاني لا يجوز وهو المذهب لأنه خيار فسخ فلم يجز إسقاطه بمال كخيار الشرط وخيار الشفعة فإن تراضيا على ذلك وقلنا إنه لا يجوز فهل يسقط خياره؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يسقط لأنه رضي بإمساك العين مع العيب والثاني لا يسقط وهو المذهب ولأنه رضي بإمساك العين مع العيب والثاني لا يسقط وهو المذهب ولأنه رضي بإسقاط الخيار بعوض ولم يسلم له العوض فبقي الخيار وإن أراد أن يرد بعضه لم يجز لأن على البائع

ضرراً في تبعيض الصفقة عليه فلم يجز من غير رضاه وإن اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً فهل له أن يفرده بالرد؟ فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه تبعيض صفقة على البائع فلم يجز من غير رضاه والثاني يجوز لأن العيب اختص بأحدهما فمجاز أن يفرده بالرد وإن ابتاع اثنان عبداً فأراد أحدهما أن يمسك حصته وأراد الآخر أن يرد حصته جاز لأن البائع فرق الملك في الإيجاب لهما فجاز أن يرد عليه أحدهما دون الآخر كما لو باع منهما في صفقتين فإن مات من له الخيار انتقل إلى وارثه لأنه حق لازم يختص بالمبيع فانتقل بالموت إلى الوارث كحبس المبيع إلى أن يحضر الثمن فإن كان له وارثان فاختار أحدهما أن يرد نصيبه دون الآخر لم يجز لأنه تبعيض صفقة في الرد فلم يجز من غير رضا البائع كما لو أراد المشتري أن يرد بعض المبيع. فصل: وإن وجد العيب وقد زاد المبيع نظرت فإن كانت الزيادة لا تتميز كالسمن واختار الرد مع الزيادة لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلا يجوز أن ترد دونها وإن كانت زيادة منفصلة كأكساب العبد فله أن يرد ويمسك الكسب لما روت عائشة رضي الله عنها أن رجلاً ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه فقال الرجل يا رسول الله قد استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان1" وإن كان المبيع بهيمة فحملت عنده وولدت أو شجرة فأثمرت عنده رد الأصل وأمسك الولد والثمرة لأنه نماء منفصل حدث في ملكه فجاز أن يمسكه ويرد الأصل كغلة البعد وإن كان المبيع جارية فحملت عنده وولدت ثم علم بالعيب ردها وأمسك الولد لما ذكرناه ومن أصحابنا من قال: لا يرد الأم بل يرجع بالأرش لأن التفريق بين الأم والولد فيما دون سبع سنين لا يجوز وهذا لا يصح لأن التفريق بينهما يجوز عند الضرورة ولهذا قال الشافعي رحمه الله في الجارية المرهونة إنها تباع دون الولد فإن اشتراها وهي حامل فولدت عنده فإن قلنا إن الحمل له حكم رد الجميع وإن قلنا لا حكم للحمل رد الأم دون الولد وإن كان المبيع جارية ثيباً فوطئها ثم علم بالعيب فله أن يردها لأنه انتفاع لا يتضمن نقصاً فلم يمنع الرد كالاستخدام وإن وجد العيب وقد نقص المبيع نظرت فإن كان النقص بمعنى لا يقف استعلام العيب على جنسه كوطء البكر وقطع الثوب وتزويج الأم لم يجز له الرد بالعيب لأنه أخذه من البائع

_ 1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 71. الترمذي في كتاب البيوع باب 53. النسائي في كتاب البيوع باب 15. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 43. أحمد في مسنده "6/49".

وبه عيب فلا يجوز رده وبه عيبان من غير رضاه وينتقل حقه إلى الأرش لأنه فات جزء من المبيع وتعذر الفسخ بالرد فوجب أن يرجع إلى بدل الجزء الفائت وهو الأرش فإن قال البائع أنا آخذ المبيع مع العيب الحادث لم يلزمه دفع الأرش لأنه لم يكن له غير الرد وإن قال المشتري أرده وأعطي معه أرش العيب الحادث في يده فإذا رضي به صار كأنه لم يحدث عنده عيب فلم يكن له غير الرد وإن قال المشتري أرده وأعطي معه أرش العيب الحادث عندي لم يلزم البائع قبوله كما إذا حدث العيب به عند البائع فقال: خذه وأنا أعطيك معه أرش العيب لم يلزم المشتري قبوله. فصل: فإذا أراد الرجوع بالأرش قوم المبيع بلا عيب فيقال قيمته مئة ثم يقوم مع العيب فيقال قيمته تسعون فيعلم أنه قد نقص العشر من بدله فيرجع على البائع بعشر الثمن ولايرجع بما نقص من قيمته لأن الرش بدل عن الجزء الفائت ولو فات المبيع كله رجع على البائع بجميع الثمن فإذا فات قدر العشر منهرجع بعشر الثمن كالجزء لما ضمن جميعه بالدية ضمن الجزء منه بجزء من الدية ولأنا لو قلنا إنه يرجع بما نقص من قيمته أدى إلى أن يجتمع الثمن والمثمن للمشتري فإنه قد يشتري ما يساوي مائة بعشرة فإذا رجع بالعشرة رجع جميع الثمن إليه فيجتمع له الثمن والمثمن وهذا لا يجوز وإن اختلفت قيمة المبيع من حال العقد إلى حال القبض قوم بأقل القيمتين لأنه إن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقص كان ما نقص في يده مضموناً عليه وماكان نقصانه من ضمانه فلا يجوز أن يقوم على البائع وإن كان قيمته وقت العقد أكثر ثم نقص كان ما نقص في يده مضموناً عليه وما كان نقصانه من ضمانه فلا يجوز أن يقوم على البائع وإن كانت قيمته وقت العقد أقل ثم زادت في يده فإنها زيادة حدثت في ملك المشتري لا حق للبائع فيها فلا يجوز إدخالها في التقويم فإن كان المبيع إناء من فضة وزنه ألف وقيمته ألفان فكسره ثم علم به عيباً لم يجز له الرجوع بأرش العيب لأن ذلك رجوع بجزء من الثمن فيصير الأف بدون الألف وذلك لا يجوز فيفسخ البيع ويسترجع الثمن ثم يغرم أرش الكسر وحكى أبو القاسم الداركي وجهاً آخر أنه يرجع بالأرش لأن ما ظهر من الفضل بالرجوع بالأرش لا اعتبار به والدليل عليه أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا ولا يقال إن هذا لا يجوز لأنه يصير الثمن مجهولاً. فصل: وإن وجد العيب وقد نقص المبيع بمعنى يقف استعلام العيب على جنسه بأن كان جوزاً أو بيضاً أو غير ذلك مما لا يقف على عيبه إلا بكسره فينظر فيه فإن كسره فوجده لا قيمة للباقي كالبيض المذر والرمان العفن فالبيع باطل لأن مالا قيمة له لا يصح

بيعه فيجب رد الثمن فإن كان له قيمة كبيض النعامة والبطيخ الحامض وما دود بعضه من المأكول نظرت فإن كسر منه قدراً لا يوفق على العيب بما دونه ففيه قولان: أحدهما أنه لا يرد وهو قول المزني لأنه نقص حدث في يد المشتري فمنع الرد كقطيع الثوب والثاني لا يمنع الرد لأنه معنى لا يوقف على العيب إلا به فلم يمنع الرد كنشر الثوب فإن قلنا لا يرد رجع بأرش العيب على ما ذكرناه وإن قلنا يرد فهل يلزمه أن يدفع معه أرش الكسر؟ فيه قولان: أحدهما يلزمه كما يلزمه بدل لبن الشاة المصراة والثاني لا يلزمه لأن الكسر الذي يتوصل به إلى معرفة العيب مستحق له فلا يلزمه لأجله أرش فإنا قلنا يلزمه الأرش قوم معيباً صحيحاً ومعيباً مكسوراً ثم يرجع عليه بما بين القيمتين لأنه لما رد انفسخ العقد فصار فيه كالمقبوض بالسوم والمقبوض بالسوم مضمون بالقيمة فضمن نقصانه بما نقص من القيمة ويخالف الأرش مع بقاء العقد لأن المبيع مع بقاء العقد مضمون بالثمن فضمن نقصانه بجزء من الثمن وإن كسر منه قدراً يمكنه الوقوف على العيب بأقل منه ففيه طريقان أحدهما: لا يجوز الرد قولاً واحداً لأنه نقص حدث بمعنى لا يحتاج إليه لمعرفة العيب فمنع الرد كقلع الثوب والثاني أنه على القولين لأنه يشق التمييز بين القدر الذي يحتاج إليه في معرفة العيب وبين ما زاد عليه فسوي بين القليل والكثير. فصل: وإن لم يعلم بالعيب حتى أبق العبد لم يطالب بالأرش لأنه لم ييأس من الرد فإن رجع رده بالعيب وإن هلك أخذ عنه الأرش فإن لم يعلم بالعيب حتى باعه لم يجز له المطالبة بالأرش قال أبو إسحاق: العلة فيه أنه استدرك الظلامة فغبن كما غبن فزال عنه ضرر العيب وقال أكثر أصحابنا العلة فيه أنه ييأس من الرد لأنه قد يرجع إليه فيرد عليه فإن رد المشتري الثاني بالعيب على المشتري الأول رده على البائع لأنه أمكنه الرد ولم يستدرك الظلامة وإن حدث عند الثاني عيب فرجع على الأول بالأرش رجع هو على بائعه لأنه أيس من الرد ولم يستدرك الظلامة وإن تلف في يد الثاني وقلنا بتعليل أبي إسحاق لم يرجع لأنه استدرك الظلامة وإن قلنا بتعليل غيره رجع بالأرش لأنه قد أيس من الرد وإن رجع المبيع إليه ببيع أو هبة أو إرث لم يرد على تعليل أبي إسحاق لأنه استدرك الظلامة وعلى تعليل غيره يرد لأنه أمكنه الرد فإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره فإن كان بعوض كالبيع وقد بيناه وإن وهبه بغير عوض لم يرجع بالأرش لأنه لم ييأس من الرد فإن رجع إليه ببيع أو هبة أو إرث فله الرد بلا خلاف لأنه أمكنه الرد ولم يستدرك الظلامة.

فصل: والعيب الذي يرد به المبيع ما يعده الناس عيباً فإن خفي منه شيء رجع فيه إلى أهل الخبر بذلك الجنس فإن اشترى عبداً فوجده أعمى أو أعرج أو أصم أو أخرس أو مجذوماً أو أبرص أو مريضاً أو أبخر أو مقطوعاً أو أقرع أو زانياً أو سارقاً أو آبقاً ثبت له الرد لأن هذه عاهات يقتضي مطلق العقد السلامة منها فلا يلزمه العقد مع وجودها وإن وجده يبول في الفراش فإن كان صغيراً لم يرد لأن بول الصغير معتاد فلا يعد عيباً وإن كان كبيراً رد لأن ذلك عاهة ونقص وإن وجده خصياً ثبت له الرد لأن العقد يقتضي سلامة الأعضاء وهذا ناقص وإن وجده غير مختون فإن كان صغيراً لم يثبت له الرد لأنه لا يعد ذلك نقصاً في الصغير لأنه لا يخاف عليه منه وإن كان كبيراً ثبت له الرد لأنه يعد نقصاً لأنه يخاف عليه منه وإن كانت جارية لم ترد صغيرة أو كبيرة لأن ختانها سليم لا يخاف عليها منه وإن اشترى جارية فوجدها مغنية لم ترد لأنه لا تنقص به العين ولا القيمة فلم يعد ذلك عيباً وإن وجدها ثيباً أو مسنة لم يثبت له الرد لأن الثيوبة والكبر ليس بنقص وإنما هو عدم فضيلة فإن وجد المملوك مرتداً أو وثنياً ثبت له الرد لأنه لا يقر على دينه وإن وجده كتابياً لم يثبت له الرد لأن كفره لا ينقص من عينه ولا من ثمنه وإن اشترى أمة فوجدها مزوجة أو عبداً فوجده مستأجراً ثبت له الرد لأن إطلاق البيع يقتضي سلامة المنافع للمشتري ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد وإن اشترى شيئاً فتبين أنه غبن في ثمنه لم يثبت له الرد لما روي أن حبان بن منقذ كان يخدع في البيع فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا بعت فلا خلابة ولك الخيار ثلاثاً" ولم يثبت له خيار الغبن ولأن المبيع سليم ولم يوجد من جهة البائع تدليس وإنما فرط المشتري في ترك الاستظهار فلم يجز له الرد.

فصل: وإن اشترى عبداً بشرط أنه كاتب فوجده غير كاتب أو على أنه يحسن صنعة فوجده لا يحسن ثبت له الرد لأنه أنقص مما شرط فجاز له الرد وإن اشتراه على أنه فحل فوجده خصياً ثبت له الرد لأنه الخصي أنقص من الفحل في الخلقة والبطش والقوة وإن شرط أنه خصي فوجده فحلاً ثبت له الرد لأن الفحل دون الخصي في الثمن والدخول إلى الحرم وإن اشتراه على أنه لا يثبت له الرد لأن المسلم أفضل من الكافر وهذا لا يصح لأن المسلم أفضل في الدين إلا أن الكافر أكثر ثمناً لأنه يرغب فيه المسلم والكافر والمسلم لا يشتريه الكافر وإذا اشترى جارية على أنها بكر فوجدها ثيباً ثبت له الرد لأن الثيب دون البكر وإن اشتراها على أنها ثيب فوجدها بكراً لم يثبت له الرد لأن البكر أفضل من الثيب ومن أصحابنا من قال: يثبت له الرد لأنه قد يكون ضعيفاً لا يطيق وطء البكر فكانت الثيب أحب إليه والمذهب الأول لأنه لا اعتبار بما عنده وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن والبكر أفضل من الثيب في الثمن وإن باعه حيواناً على أنه بغل فوجده حماراً أو على أنه حمار فوجده بغلاً ففيه وجهان: أحدهما أن البيع صحيح لأن العقد وقع على العين والعين موجودة فصح البيع وثبت له الرد لأنه لم يجده على ما شرط والثاني أن البيع باطل لأن العقد وقع على جنس فلا ينعقد في جنس آخر وإن اشترى ثوباً أو أرضاً على أنه عشرة أذرع فوجده تسعة فهو بالخيار بين أن يأخذه بجميع الثمن وبين أن يرده لأنه دخل في العقد على أن تسلم له العشرة ولم تسلم له فثبت له الخيار كما لو وجد بالمبيع عيباً وإن وجده أحد عشر ذراعاً ففيه وجهان: أحدهما أن البائع بالخيار بين أن يفسخ العقد وبين أن يسلمه بالثمن ويجبر المشتري على قوله كما أجبرنا البائع إذا كان دون العشرة والثاني أن البيع باطل لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على عشرة ولا إجبار للمشتري على الرضا بما دون الثوب والساحة من الأرض لأنه لم يرض بالشركة والتبعيض فوجب أن يبطل العقد فإن اشترى صبرة على أنها مائة قفيز فوجدها دون المائة فهو بالخيار بين أن يفسخ لأنه لم يسلم له ما شرط وبين أن يأخذ الموجود بحصته من الثمن لأنه يمكن قسمة الثمن على الأجزاء لتساويها في القيمة ويخالف الثوب والأرض لأن أجزاءها مختلفة فلا يمكن قسمة الثمن على أجزائه لأنا لا نعلم كم قيمة الذراع لو كانت موجودة لنسقطها من الثمن وإن وجد الصبرة أكثر من مائة قفيز أخذ المائة بالثمن وترك الزيادة لأنه يمكن أخذ ما عقد عليه من إضرار. فصل: وإن باع عبداً جانياً ففيه قولان: أحدهما أن البيع صحيح وهو اختيار المزني لأنه إن كانت الجناية عمداً فهو عبد تعلق برقبته قتل فصح بيعه كالعبد المرتد أو يخشى

هلاكه وترجى سلامته فجاز بيعه كالمريض وإن كان خطأً فلأنه عبد تعلق برقبته حق بغير اختياره فلا يمنع من بيعه والقول الثاني أن البيع باطل لأنه عبد تعلق برقبته آدمي فلا يصح بيعه كالمرهون وفي موضع القولين ثلاث طرق: أحدها أن القولين في العمد والخطأ لأن القصاص حق آدمي فهو كالمال ولأنه يسقط إلى مال بالعفو فهو كالمال والثاني أن القولين في جناية لا توجب القصاص فأما فيما توجب القصاص فلا تمنع البيع قولاً واحداً لأنه كالمرتد والثالث أن القولين فيما وجب القصاص فأما فيما يوجب لا مال فلا يجوز قولاً واحداً لأنه كالمرهون فإذا قلنا إن البيع صحيح في قتل العمد فقتل العبد في يد المشتري ففيه وجهان: قال أبو العباس وأبو علي بن أبي هريرة: إن علم المشتري بالجناية في حال العقد لم يرجع عليه بالأرش وإن لم يعلم رجع بأرش العيب لأنه تعلق القتل برقبته كالعيب لأنه ترجى سلامته ويرجه هلاكه فهو كالمريض وإذا اشترى المريض ومات وكان قد علم بمرضه لم يرجع بالأرش وإن لم يعلم رجع فكذلك ههنا فعلى هذا إذا لم يعلم بحاله وقتل قوم وهو جان وقوم غير جان فيرجع بما بينهم من الثمن وقال أبو إسحاق وجود القتل بمنزلة الاستحقاق وهو المنصوص فإذا قتل انفسخ البيع ورجع بالثمن على البائع علم بالجناية حال العقد أو لم يعلم لأنه أزيلت يده عن الرقبة بسبب كان في يد البائع فأشبه إذا استحق ويخالف المريض فإنه لم يمت بالمريض الذي في يد البائع وإنما مات بزيادة مرض حدث في يد المشتري فلم يرجع بجميع الثمن وإن اشترى عبداً مرتداً فقتل في يده ففيه وجهان: في قول أبي إسحاق ينفسخ البيع ويرجع بالثمن وعلى قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة إن كان قد علم بالردة لم يرجع بالأرش وإن لم يعلم رجع بالأرش ووجههما ما ذكرناه في الجاني عمداً وإن قتل العبد في المحاربة وانحتم قتله فقد ذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايني رحمه الله في التعليق أن البيع باطل لأنه لا منفعة فيه لأنه مستحق القتل فلا يصح بيعه كالحشرات وقال شيخنا القاضي أبو الطيب يصح بيعه لأن فيه منفعة وهو أن يعتقه فصح بيعه كالزمن فعلى هذا إذا قتل في يد المشتري فحكمه حكم القاتل عمداً في غير المحاربة وقد بيناه. فصل: إذا باع بشرط البراءة من العيب ففيه طريقان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الأسطخري أن المسألة على ثلاثة أقوال: أحدهما أنه يبرأ من كل عيب لأنه عيب رضي به المشتري فبرئ منه البائع ما لو أوقفه عليه والثاني لا يبرأ من شيء من العيوب لأنه شرط يرتفق به أحد المبايعين فلم يصح مع الجهالة كالأجل المجهول والرهن المجهول والثالث أنه لا يبرأ إلا من عيب واحد وهو العيب الباطن في الحيوان الذي لا

يعلم به البائع لما روى سالم أن أباه باع غلاماً بثمانمائة بالبراءة من كل آفة فوجد الرجل به عيباً فخاصمه إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان لابن عمر: احلف لقد بعته وما به من داء تعلمه فأبى ابن عمر أن يحلف وقبل الغلام فباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة فدل على أنه يبرأ مما لا يعلم ولا يبرأ مما علمه قال الشافعي رحمه الله: ولأن الحيوان يفارق ما سواه لأنه يغتذي بالصحة والسقم وتحول طبائعه وقلما يبرأ من عيب يظهر أو يخفي فدعت الحاجة إلى التبرئ من العيب الباطن فيه لأنه لا سبيل إلى معرفته وتوقيف المشتري عليه وهذا المعنى لا يوجد في العيب الظاهر ولا في العيب الباطن في غير الحيوان فلم يجز التبري منه مع الجهالة والطريق الثاني أن المسألة على قول واحد وهو أنه يبرأ من عيب باطن في الحيوان لم يعلم به ولا يبرأ من غيره وتأول هذا القائل ما أشار إليه الشافعي من القولين الآخرين على أنه حكى ذلك عن غيره ولم يختره لنفسه فإن قلنا إن الشرط باطل فهل يبطل البيع فيه وجهان: أحدهما لا يبطل البيع ويرد المبيع لحديث عثمان رضي الله عنه فإنه أمضى البيع والثاني أنه يبطل البيع لأن هذا الشرط يقتضي جزءاً من الثمن تركه البائع لأجل الشرط فإذا سقط وجب أن يرد الجزء الذي تركه بسبب الشرط وذلك مجهول والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولاً فيصير الثمن مجهولاً ففسد العقد والله أعلم.

باب بيع المرابحة

باب بيع المرابحة من اشترى سلعة جاز له بيعها برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم" ويجوز أن يبيعها مرابحة وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول ثمنها مائة وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لايرى بأساً بده يازده وده دواز ده ولأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة وعشرة ويجوز أن يبيعها مواضعة رأن يقول رأس مالها مائة وقد بعتك برأس مالها ووضع درهم من كل عشرة لأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة إلا عشرة ويجوز أن يبيع بعضه مرابحة فإن كان مما لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد والواحد قسم الثمن على أجزائه وباع ما يريد بيعه منه بحصته وإن كان مما يختلف كالثوبين والعبدين قومهما وقسم الثمن عليهما على قدر

قيمتهما ثم باع ما شاء منهما بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على المبيعين على قدر قيمتهما ولهذا لو اشترى سيفاً وشقصاً بألف قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ثم أخذ الشفيع الشقص بما يخصه من الثمن على قدر قيمته. فصل: ولا يخبر بالثمن إلا بالذي لزم به البيع فإن اشترى بثمن ثم حط البائع عنه بعضه أو ألحق به زيادة نظرت فإن كان بعد لزوم العقد لم يلحق ذلك بالعقد ولم يحط في بيع المرابحة ما حط عنه ولا يخبر بالزيادة فيما زاد لأن البيع استقر بالثمن الأول فالحط والزيادة تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير به الثمن وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وجعل الثمن ماتقرر بعد الحط والزيادة وقال أبو علي الطبري: إن قلنا أن المبيع ينتقل بنفس العقد لم يلحق به لأن المبيع قد ملكه بالثمن الأول فلم يتغير بما بعده والمذهب الأول لأنه وإن كان قد انتقل المبيع إلا أن البيع لم يستقر فجاز أن يتغير الثمن بما يلحق به وإن اشترى ثوباً بعشرة وقصره بدرهم ورفاه بدرهم وطرزه بدرهم قال هو علي بثلاثة عشر وما أشبه ذلك ولا يقول اشتريت بثلاثة عشر ولا يقول ثمنه ثلاثة عشر لأن ذلك كذب وإن قال رأس مالي ثلاثة عشر ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن يقول لأن رأس المال هو الثمن والثمن عشرة والثاني يجوز لأن رأس المال ما وزن فيه وقد وزن فيه ثلاثة عشر وإن عمل فيه ذلك بيده قال اشتريته بعشرة وعملت فيه ما يساوي ثلاثة ولا يقول هو علي بثلاثة عشر لأن عمله لنفسه لا أجرة له ولا يتقوم عليه وإن اشترى عيناً بمائة ووجد بها عيباً وحدث عنده عيب آخر فرجع بالأرش وهو عشرة دراهم قال هي علي بتسعين أو تقوم علي بتسعين ولا يجوز أن يقول الثمن مائة لأن الرجوع بالأرش استرجاع جزء من الثمن فخرج عن أن يكون الثمن مائة ولا يقول اشتريتها بتسعين لأنه كذب وإن كان المبيع عبداً فجنى ففداه بأرش الجناية لم يضف ما فداه إلى الثمن لأن الفداء جعل لاستبقاء الملك فلم يضف إلى الثمن كعلف البهيمة وإن جنى عليه فأخذ الأرش ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يحط من الثمن قدر الأرش لأنه كما لا يضيق ما فدى به الجناية إلى الثمن لا يحط ما أخذ عن أرش الجناية عن الثمن والثاني أنه يحط لأنه عوض عن جزء تناوله البيع فحط من الثمن كأرش العيب وإن حدثت من العين فوائد في ملكه كالولد واللبن والثمرة لم يحط ذلك من الثمن لأن العقد لم يتناوله وإن أخذ ثمرة كانت موجودة عند العقد أو لبناً كان موجوداً حال العقد حط من الثمن لأن العقد تناوله وقابله قسط من الثمن فأسقط ما قابله وإن أخذ ولداً كان موجوداً حال العقد فإن قلنا إن الحمل له حكم فهو كاللبن والثمرة

وإن قلنا لا حكم له لم يحط من الثمن شيئاً وإن ابتاع بثمن مؤجل لم يخبر بثمن مطلق لأن الأجل يأخذ جزءاً من الثمن فإن باعه مرابحة ولم يخبره بالأجل ثم علم المشتري بذلك ثبت له الخيار بذلك لأنه دلس عليه بما يأخذ جزءاً من الثمن فثبت له الخيار كما لو باعه شيئاً وبع عيب ولم يعلمه بعيبه وإن اشترى شيئاً بعشرة وباعه بخمسة ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن ففإن اشترى بعشرة وباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة ثم أخبر بعشرة ولا يحط ما ربح من الثمن لأن الثمن ما ابتاع به في العقد الذي هو مالك به وذلك عشرة وإن اشترى بعشرة ثم واطأ غلامه فباع منه ثم اشتراه منه بعشرين ليخبر بما اشتراه من الغلام كره ما فعله لأنه لو صرح بذلك في العقد فسد العقد فإذا قصده كره فإن أخبر بالعشرين في بيع المرابحة جاز بيعه من الغلام كبيعه من الأجنبي في الصحة فجاز أن يخبر بما اشترى به منه فإن علم بذلك المشتري لم يثبت له الخيار لأن شراءه بعشرين صحيح. فصل: إذا قال رأس المال مائة وقد بعتكه برأس المال وربح درهم في كل عشرة أو بربح ده يازده فالثمن مائة وعشرة وإن قال بعتك برأس المال ووضع ده يازده فالثمن أحد وتسعون درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم لأنه معناه بعتك بمائة على أن أضع درهماً من كل أحد عشر درهما فسقط تسعة وتسعين درهماً لأنها تسع مرات أحد عشر ويبقى من رأس المال درهم فيسقط منه جزء من أحد عشر جزءاً فيكون الباقي أحداً وتسعين درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم وإن قال: بعتك على وضع درهم من كل عشرة ففي الثمن وجهان: أحدهما أن الثمن أحد وتسعون درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله والثاني أن الثمن تسعون درهماً وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله وهو الصحيح لأن المائة عشرة مرات عشرة فإذا وضع من كل عشرة درهماً بقي تسعون. فصل: إذا أخبر أن رأس المال مائة وباع على ربح درهم في كل عشرة ثم قال أخطأت أو قامت البينة أن الثمن كان تسعين فالبيع صحيح وحكى القاضي أبو حامد وجهاً آخر أن البيع باطل لأنه بان أن الثمن كان تسعين وأن ربحها تسعة هذا كان مجهولاً حال العقد فكان العقد باطلاً والمذهب الأول لأن البيع عقد على ثمن معلوم وإنما سقط بعضه بالتدليس وسقوط بعض الثمن لا يفسد البيع كسقوط بعض الثمن بالرجوع بأرش العيب وأما الثمن الذي يأخذه به ففيه قولان: أحدهما أنه مائة وعشرة لأن المسمى في

العقد مائة وعشرة فإذا بان تدليس من جهة البائع لم يسقط من الثمن شيء كما لو باعه شيئاً بثمن فوجد به عيباً والثاني أن الثمن تسعة وتسعون وهو الصحيح لأنه نقل ملك يعتبر فيه الثمن الأول فإذا أخبر بزيادة وجب حط الزيادة كالشفعة والتولية ويخالف العيب فإن هناك الثمن هو المسمى في العقد وههنا الثمن هو رأس المال وقدر الربح وقد بان أن رأس المال تسعون والربح تسعة فإن قلنا إن الثمن مائة وعشرة فهو بالخيار بين أن يمسك المبيع بالثمن وبين أن يفسخ لأنه دخل على أن يأخذ المبيع برأس المال وهذا أكثر من رأس المال فثبت له الخيار وإن قلنا إن الثمن تسعة وتسعون فهل يثبت له الخيار؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما أن له الخيار لأنه إن كان قد أخطأ في الخبر الأول لم يأمن أنيكون قد أخطأ في الثاني وأن لا ثمن غيره وإن كان قد خان في الأول فلا يأمن أن يكون قد خان في الثاني فثبت له الخيار والقول الثاني وهو الصحيح أنه لاخيار له لأن الخيار إنما يثبت لنقص وضرر وهذا زيادة ونفع لأنه دخل على أن الثمن مائة وعشرة وقد رجع إلى تسعة وتسعين فلا وجه للخيار ومنهم من قال إن ثبتت الخيانة بإقرار البائع لزم المشتري تسعة وتسعون ولا خيار له وإن ثبتت بالبينة فهل له الخيار أم لا فيه قولان لأنه إذا ثبتت بالإقرار دل على أمانته فلم يتهم في خيانة أخرى وإذا ثبتت بالبينة كان متهماً في خيانة أخرى فثبت له الخيار قال أصحابنا: القولان إذا كانت العين باقية فأما إذا تلفت العين فإنه يلزم البيع بتسعة وتسعين قولاً واحداً لأنا لو جوزنا له فسخ البيع مع تلف العين رفعنا الضرر عنه وألحقناه بالبائع والضرر لا يزال بالضرر ولهذا لو هلك المبيع عنده ثم علم به عيباً لم يملك الفسخ فإن قلنا لاخيار له وإن قلنا له الخيار فاختار البيع فهل يثبت للبائع الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما يثبت له الخيار لأنه لم يرض إلا بالثمن المسمى وهو مائة وعشرة ولم يسلم له ذلك والثاني لاخيار له لأنه رضي برأس المال وربحه وقد حصل له ذلك. فصل: وإن أخبر أن الثمن مائة وربحه عشرة ثم قال أخطأت والثمن مائة وعشرة لم يقبل قوله لأنه رجوع عن إقرار متعلق به حق آدمي فلم يقبل كما لو أقر له بدين وإن قال لي بينة على ذلك لم تسمع لأنه كذب بالإقرار السابق بينته فلم تقبل فإن قال أحلفوا لي المشتري أنه لا يعلم أن الثمن مائة وعشرة ففيه طريقان: أحدهما أنه إن قال ابتعته بنفسي لم يحلف المشتري لأن إقراره بكذبه وإن قال إبتاعه وكيل لي فظننت أنه ابتاع بمائة وقد بان لي أنه ابتاع بمائة وعشرة حلف لأنه الآن لا يكذبه إقراره والثاني أنه يبني على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعي عليه فإن قلنا أنه كالبينة لم يعرض اليمين

لأنه إذا نكل حصلنا على بينة والبينة لا تسمع وإن قلنا أنه كالإقرار عرضنا اليمين لأنه إذا نكل حصلنا على الإقرار وإقراره مقبول.

باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار

باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار ويحرم النجش وهو أن يزيد في الثمن ليغر غيره والدليل عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش ولأنه خديعة مكر فإن اغتر الرجل بمن ينجش فابتاع فالبيع صحيح لأن النهي لا يعود إلى البيع فلم يمنع صحته كالبيع في حال النداء فإن علم المبتاع بذلك نظرت فإن لم يكن للبائع فيه صنع لم يكن للمبتاع الخيار لأنه ليس من جهة البائع تدليس وإن كان النجش بمواطأة من البائع ففيه قولان: أحدهما أن له الخيار بين الإمساك والرد لأنه دلس عليه فثبت له الرد كما لو دلس عليع بعيب والثاني لا خيار له لأن المشتري فرط في ترك التأمل وترك التفويض إلى من يعرف ثمن المتاع. فصل: ويحرم أن يبيع على بيع أخيه وهو أن يجيء إلى من اشترى شيئاً في مدة الخيار فيقول افسخ فإني أبيعك أجود منه بهذا الثمن أو أبيعك مثله بدون هذا الثمن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه1" ولأن في هذا إفساداً وإنجاشاً فلم يحل فإن قبل منه وفسخ البيع واشترى منه صح البيع لما ذكرناه في النجش. فصل: ويحرم أن يدخل على سوم أخيه وهو أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في بيع سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه أو يجيء إلى المشتري فيعرض عليه مثل السلعة بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب

_ 1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 58، 64. مسلم في كتاب البيوع حديث 7، 8. أبو داود في كتاب النكاح باب 17. الترمذي في كتاب البيوع باب 57 ابن ماجة في كتاب التجارات باب 13. الدارمي في كتاب البيوع 17، 33. الموطأ في كتاب البيوع حديث 95، 96.

الرجل على خطبة أخيه ولا يسم على سوم أخيه1" ولأن في هذا إفساداً وإنجاشاً فلم يحل فأما إذا جاء إليه فطلب منه متاعاً فلم ينعم له جاز لغيره أن يطلبه لأنه لم يدخل على سومه وإن طلبه منه فسكت ولم يظهر منه رد ولا إجابة ففيه قولان: أحدهما يحرم والثاني لا يحرم كالقولين في الخطبة على خطبة أخيه وأما إذا عرضت السلعة في النداء جاز لمن شاء أن يطلبها ويزيد في ثمنها لما روى أنس رضي الله عنه عن رجل من الأنصار أنه أصابه جهد شديد هو وأهل بيته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فقال: ما عندي شيء إذهب فأتني بما عندك فذهب فجاء بحلس وقدح فقال: يا رسول الله هذا الحلس والقدح فقال: "من يشتري هذا الحلس والقدح" فقال رجل أنا آخذهما بدرهم فقال: "من يزيد على درهم"؟ فسكت القوم قال: "من يزيد على درهم" فقال رجل أن آخذهما بدرهمين فقال: "هما لك" ثم قال بعد ثم قال: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي دم موجع أو فقر مدقع أو غرم مفظع2" ولأن في النداء لا يقصد رجلاً بعينه فلا يؤدي إلى النجش والإفساد. فصل: ويحرم أن يبيع حاضر لباد وهو أن يقدم رجلاً ومعه متاع يريد بيعه ويحتاج الناس إليه في البلد فإذا باع اتسع وإذا لم يبع ضاق فيجيء إليه سمسار فيقول لا تبع

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 45. مسلم في كتاب النكاح باب 38. الترمذي في كتاب النكاح باب 38. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 10. الموطأ في كتاب النكاح حديث 1، 2. 2 رواه أبو داود في كتاب الزكاةباب 26. الترمذي في كتاب الزكاة باب 23. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 25. أحمد في مسنده "3/114، 127".

حتى أبيع لك قليلاً قليلاً وأزيد في ثمنها لما روى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد1" قلت ما لا يبع حاضر لباد قال لا يكون له سمساراً وروى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" فإن خالف وباع له صح البيع لما ذكرناه في النجش فإن كان البلد كبيراً لا يضيق على أهله بترك البيع ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز للخبر والثاني يجوز لأن المنع لخوف الإضرار بالناس ولا ضرر ههنا. فصل: ويحرم تلقي الركبان وهو أن يتلقى القافلة ويخبرهم بكساد ما معهم من متاع ليغبنهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق ولأن هذا تدليس وغرر فلم يحل فإن خالف واشترى صح البيع لما ذكرناه في النجش فإن دخلوا البلد فبان لهم الغبن كان لهم الخيار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجلب فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق2" ولأنه غرهم ودلس عليهم فثبت لهم الخيار كما لو دلس عليهم بعيب وإن بان لهم أنه لم يغبنهم ففيه وجهان: أحدهما أن لهم الخيار للخبر والثاني لا خيار لهم لأنه ما غر ولا دلس وإن خرج إلى خارج البلد لحاجة غير التلقي فرأى القافلة فهل يجوز أن يبتاع منهم فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لم يقصد التلقي والثاني لا يجوز لأن المنع من التلقي للبيع وهذا المعنى موجود وإن لم يقصد التلقي فلم يجز.

_ 1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 58. مسلم في كتاب البيوع حديث 11. أبو داود في كتاب البيوع باب 45. النسائي في كتاب البيوع باب 16. الموطأ في كتاب البيوع حديث 96. 2 رواه ابن ماجة في كتاب التجارات باب 16.أحمد في مسنده "2/284".

فصل: ولا يحل للسلطان التسعير لما روى أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: يا رسول الله سعر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال1". فصل: ويحرم الاحتكار في الأقوات وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه ومن أصحابنا من قال: يكره ولا يحرم وليس بشيء لما روى عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" وروى معمر العدوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ2" فدل على أنه حرام فأما إذا ابتاع في وقت الرخص أو جاءه من ضيعته طعام فأمسكه ليبيعه إذا غلا فلا يحرم ذلك لأنه في معنى الجالب وقد روى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون3" وروى أبو الزناد قال: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني عنك أنك قلت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحتكر بالمدينة إلا خاطئ وأنت تحتكر! قال: ليس هذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها فإما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه ثم يضعه فإن احتاج الناس إليه أخرجه فذلك خير وأما غير الأقوات فيجوز إحتكاره لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام فدل على أن غيره يجوز ولأنه لا ضرر في احتكار غير الأقوات فلم يمنع منه.

_ 1 أخرجه الترمذي في كتاب البيوع باب 73. أبو داود في كتاب البيوع باب 49. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 37. أحمد في مسنده "2/337". 2 رواه ابن ماجة كتاب التجارات باب 6.الدارمي في كتاب البيوع باب 13. 3 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 129‘ 130. أ [وجاود في كتاب البيوع باب 47. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 6. أحمد في مسنده "3/453".

باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع

باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن ولم تكن بينة تحالفا لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى الناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه1" فجعل اليمين على المدعى عليه والبائع مدعى عليه بيع بألف والمشتري مدعى عليه بيع بألفين فوجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين لأن كل واحد منهما مدعى عليه ولا بينة فتحالفا كما لو ادعى رجل على رجل ديناراً وادعى الآخر على المدعى درهماً. فصل: قال الشافعي رحمه الله في البيوع يبدأ بيمين البائع وقال في الصداق إذا اختلف الزوجان يبدأ بيمين الزوج كالمشتري وقال في الدعوى والبينات إن بدأ بالبائع خير المشتري وإن بدأ بالمشتري خير البائع وهذا يدل على أنه مخير بين أن يبدأ بالبائع وبين أن يبدأ بالمشتري فمن أصحابنا من قال فيها ثلاثة أقوال: أحدهما يبدأ بالمشتري لأن جنبته أقوى لأن المبيع على ملكه فكان بالبداية أولى والثاني يبدأ بمن شاء منهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في الدعوى فتساويا كما لو تداعيا شيئاً في يديهما والثالث أن يبدأ بالبائع وهو الصحيح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع والمبتاع بالخيار2" فبدأ بالبائع ثم خير المبتاع ولأن جنيته أقوى لأنه إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداية به أولى ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنه يبدأ بالبائع ويخالف الزوج في الصداق لأن جنبته أقوى من جنبة الزوجة لأن البضع بعد التحالف على ملك الزوج فكان بالتقديم أولى وها هنا جنبة البائع أقوى لأن المبيع بعد التحالف على ملك موضع اجتهاد فقال إن حلف الحاكم البائع باجتهاده خير المشتري وإن حلف المشتري خير البائع. فصل: ويجب أن يجمع كل واحد منهما في اليمين بين النفي والإثبات لأنه يدعي عقداً وينكر عقداً فوجب أن يحلف عليهما ويجب أن يقدم النفي على الإثبات. وقال أبو

_ 1 رواه البخاري في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 3. مسلم في كتاب الأقضية حديث 1. النسائي في كتاب القضاة باب 36. ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 7. 2 رواه الترمذي في كتاب البيوع باب 43. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 19. الدارمي في كتاب البيوع باب 16. الموطأ في كتاب البيوع باب16. الموطأ في كتاب البيوع حديث 80.

سعيد الإصطخري: يقدم الإثبات على النفي كما قدمنا الإثبات على النفي في اللعان والمذهب الأول لأن الأصل في اليمين أن يبدأ بالنفي وهي يمين المدعي عليه فوجب أن يبدأ ههنا أيضاً بالنفي ويخالف اللعان فإنه لا أصل له في البداية بالنفي وهل تجمع بين النفي والإثبات بيمين واحدة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما يجمع بينهما بيمين واحدة وهو المنصوص في الأم لأنه أقرب إلى فصل القضاء فعلى هذا يحلف البائع إنه لم يبع بألف ولقد باع بألفين ويحلف المشتري ما إنه اشترى بألفين ولقد اشترى بألف فإن نكل المشتري قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا والثاني أن يفرد النفي بيمين والإثبات بيمين لأنه دعوى عقد وإنكار فافتقر إلى يمينين ولأنا إذا جمعنا بينهما بيمين واحدة حلفنا البائع على الإثبات قبل نكول المشتري عن يمين النفي وذلك لا يجوز فعلى هذا يحلف البائع أنه ما باع بألفين فإن نكل المشتري حلف البائع أنه باع بألفين وقضى له فإن حلف المشتري حلف البائع أنه باع بألفين ثم يحلف المشتري أنه ابتاع بألف فإن نكل قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا. فصل: وإذا تحالفا وجب فسخ البيع لأنه لا يمكن إمضاء العقد مع التحالف وهل ينفسخ بنفس التحالف أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما أنه ينفسخ بنفس التحالف كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف ولأن بالتحالف صار الثمن مجهولاً والبيع لا يثبت مع جهالة العوض فوجب أن ينفسخ والثاني أنه لا ينفسخ إلا بالفسخ بعد التحالف وهو المنصوص لأن العقد في الباطن صحيح لأنه وقع على ثمن معلوم فلا ينفسخ بتحالفهما ولأن البينة أقوى من اليمين ثم لو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه لم ينفسخ البيع فلأن لا ينفسخ باليمين أولى وفي الذي يفسخه وجهان: أحدهما أنه يفسخه الحاكم لأنه مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب والثاني أنه ينفسخ بالمتعاقدين لأنه فسخ لاستدراك الظلامة فصح من المتبايعين كالرد بالعيب. فصل: وإذا فسخ أو انفسخ فهل ينفسخ ظاهراً وباطناً أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما ينفسخ ظاهراً وباطناً لأنه فسخ بالتحالف فوقع ظاهراً وباطناً كفسخ النكاح باللعان ولأنه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فصح ظاهراً أو باطناً كالرد بالعيب والثاني أنه ينفسخ في الظاهر دون الباطن لأن سبب الفسخ هو الجهل بالثمن والثمن معلوم في الباطن مجهول في الظاهر فلما اختصت الجهالة بالظاهر دون الباطن اختص البطلان بالظاهر دون الباطن والثالث أنه إن كان البائع هو الظالم وقع الفسخ في الظاهر دون الباطن لأنه يمكنه أن يصدق المشتري ويأخذ منه الثمن ويسلم إليه المبيع فإذا لم يفعل كان ممتنعاً من تسليم

المبيع بظلم فلم ينفسخ البيع وإن كان البائع مظلوماً انفسخ ظاهراً وباطناً لأنه تعذر عليه أخذ الثمن ووجد عين ماله فجاز له أن يفسخ ويأخذ عين ماله كما لو أفلس المشتري ووجد البائع عين ماله فإن قلنا إن الفسخ يقع في الظاهر والباطن عاد المبيع إلى ملك البائع وإلى تصرفه وإن قلنا إن الفسخ في الظاهر دون الباطن نظرت فإن كان البائع هو الظالم لم يجز له قبض المبيع والتصرف فيه بل يلزمه أن يأخذ ما أقر به المشتري من الثمن ويسلم المبيع إليه وإن كان مظلوماً لم يجز له التصرف في المبيع بالوطء والهبة لأنه على ملك المشتري ولكن يستحق البائع الثمن في ذمة المشتري ولا يقدر على أخذه منه فيبيع من المبيع بقدر حقه كما تقول فيمن له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه ووجد شيئاً من ماله. فصل: وإن اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة في يد المشتري تحالفا وفسخ البيع بينهما لأن التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة فوجب أن يثبت التحالف فإذا تحالفا رجع بقيمته ومتى تعتبر قيمته فيه وجهان: أحدهما تجب قيمته يوم التلف والثاني تجب قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف وقد ذكرنا دليل الوجهين في هلاك السلعة في البيع الفاسد فإن زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك وحكي عن أبي علي بن خيران أنه قال: ما زاد على الثمن لا يجب لأن البائع لا يدعيه فلم يجب كما لو أقر لرجل بما لا يدعيه والمذهب الأول لأنه بالفسخ سقط اعتبار السلعة فالقول قول المشتري لأنه غارم فكان القول قوله كالغاصب فإن تقايلا أو وجد بالمبيع عيباً فرده واختلفا في الثمن فقال البائع الثمن ألف وقال المشتري الثمن ألفان فالقول قول البائع لأن البيع قد انفسخ والمشتري مدع والبائع منكر فكان القول قوله. فصل: وإن مات المتبايعان فاختلف ورثتهما تحالفوا لأنه يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في دعوى المال وإن كان البيع بين وكيلين واختلفا في الثمن ففيه وجهان: أحدهما يتحالفان لأنهما عاقدان فتحالفا كالمالكين والثاني لا يتحالفان لأن اليمين تعرض حتى يخاف الظالم منهما فيرجع والوكيل إذا أقر ثم رجع لم يقبل رجوعه فلا تثبت اليمين في حقه. فصل: وإن اختلف المتبايعان في قدر المبيع تحالفا لما ذكرنا في الثمن وإن اختلفا في عين المبيع يأن قال البائع بعتك هذا العبد بألف وقال المشتري بل اشتريت هذه الجارية بألف ففيه وجهان: أحدهما يتحالفان لأن كل واحد منهما يدعي عقداً ينكره الآخر

فأشبه إذا اختلفا في قدر المبيع والثاني أنهما لايتحالفا بل يحلف البائع أنه ما باعه الجارية ويحلف المشتري أنه ما اشترى العبد وهو اختيار الشيخ أبي حامد الأسفرايني رحمه الله لأنهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية فكان القول فيه قول من ينكر كما لوادعى أحدهما على الآخر عبد والآخر جارية من غير عقد فإن أقام البائع بينة أنه باعه العبد وجب على المشتري الثمن فإن كان العبد في يده أقر في يده وإن كان في يد البائع ففيه وجهان: أحدهما يجبر المشتري على قبضه لأن البينة قد شهدت له بالملك والثاني لا يجبر لأن البينة شهدت له بما لا يدعيه فلم يسلم إليه فعلى هذا يسلم إلى الحاكم ليحفظه. فصل: وإن اختلفا في شرط الخيار أو الأجل أو الرهن أو في قدرها تحالفا لما ذكرناه في الثمن فإن اختلفا في شرط يفسد البيع ففيه وجهان بناءً على القولين في شرط الخيار في الكفالة: أحدهما أن القول قول من يدعي الصحة لأن الأصل عدم ما يفسد والثاني أن القول من يدعي الفساد لأن الأصل عدم العقد فكان القول قول من يدعي ذلك فإن اختلفا في الصرف بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا قبل القبض وقال الآخر تفرقنا بعد القبض ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول من يدعي التفرق قبل القبض لأن الأصل عدم القبض والثاني أن القول قول من يدعي التفرق بعد القبض لأن الأصل صحة العقد وإن اختلفا بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا عن تراض وقال الآخر تفرقنا عن فسخ البيع ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول من يدعي التراضي لأن الأصل عدم الفسخ وبقاء العقد والثاني أن القول قول من يدعي الفسخ لأن الأصل عدم اللزوم ومنع المشتري من التصرف فأما إذا اختلفنا في عيب المبيع ومثله يجوز أن يحدث فقال البائع عندك حدث العيب وقال المشتري بل حدث عندك فالقول قول البائع لأن الأصل عدم العيب فإن اختلفا في المردود بالعيب فقال المشتري هو المبيع وقال البائع الذي بعتك غير هذا فالقول قول البائع لأن الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد فكان القول قوله فإن اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيباً فرده وقلنا إنه يجوز أن يرد أحدهما واختلفا في قيمة التآلف ففيه قولان: أحدهما وهو الصحيح أن القول قول البائع لأنه ملك جميع الثمن فلا يزال ملكه إلا عن القدر الذي يقربه كالمشتري والشفيع إذا اختلفا في الثمن فإن القول قول المشتري لأنه ملك الشقص فلايزال إلا بما يقربه والثاني أن القول قول المشتري لأنه كالغارم فكان القول قوله فإن باعه عشرة أقفزة من صبرة وسلمها بالكيل فادعى المشتري أنها دون حقه ففيه قولان: أحدهما أن القول قول المشتري لأن

الأصل أنه لم يقبض جميعه والثاني أن القول قول البائع لأن العادة فيمن يقبض حقه بالكيل أن يستوفي جميعه فجعل القول قول البائع. فصل: إذا باعه سلعة بثمن في الذمة ثم اختلفا فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدهما يجبر البائع على إحضار المبيع والمشتري على إحضار الثمن ثم يسلم إلى كل واحد منهما ما له دفعة واحدة لأن التسليم واجب على كل واحد منهما فإذا امتنعا أجبرا كما لو كان لأحدهما على الآخر دراهم وللآخر عليه دنانير والثاني لا يجبر واحد منهما بل يقال من يسلم منكما ما عليه أجبر الآخر على تسليم ما عليه لأن على كل واحد منهما حقاً في مقابلة حق له فإذا تمانعا لم يجبر واحد منهما كما لو نكل المدعي عليه فردت اليمين على المدعي فنكل والثالث أنه يجبر البائع على تسليم المبيع ثم يجبر المشتري وهو الصحيح لأن حق المشتري متعلق بعين وحق البائع في الذمة فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون ولأن البائع يتصرف في الثمن في الذمة فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصرف المشتري في المبيع ومن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد وهو أن يجبر البائع على تسليم المبيع كما ذكرناه وما سواه من الأقوال ذكره الشافعي عن غيره ولم يختره فعلى هذا ينظر فيه فإن كان المشتري موسراً نظرت فإن كان ماله حاضراً أجبر على تسليمه في الحال وإن كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يدفع الثمن لأنه إذا لم يحجر عليه لم نأمن أن يتصرف فيه فيضر بالبائع وإن كان غائباً منه على مسافة يقصر فيها الصلاة فللبائع أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن فجاز له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس المشتري وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان: أحدهما ليس له أن يختار عين ماله لأنه في حكم الحاضر والثاني له أن يختار عين ماله لأنه يخاف عليه الهلاك فيما قرب كما يخاف عليه فيما بعد وإن كان المشتري معسراً ففيه وجهان: أحدهما تباع السلعة ويقضى دينه من ثمنها والمنصوص أنه يرجع إلى عين ماله لأنه تعذر الثمن بالإعسار فثبت له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس بالثمن وإن كان الثمن معيناً ففيه قولان: أحدهما يجبران والثاني لا يجبر واحد

منهما ويقسط القول الثالث أنه يجبر البائع لأن الثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين والمنع من التصرف فيه قبل القبض. فصل: وإن باع من رجل عيناً فأحضر المشتري نصف الثمن ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر البائع على تسليم شيء من المبيع لأنه محبوس بدين فلا يسلم شيء منه بحضور بعد الدين كالرهن والثاني أنه يجبر على تسليم نصف المبيع لأن كل واحد منهما عوض عن الآخر وكل جزء من المبيع في مقابلة جزء من الثمن فإذا سلم بعض الثمن وجب تسليم ما في مقابلته ويخالف الرهن في الدين فإن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة به فجاز له حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين وإن باع من اثنين عبداً بثمن فأحضر أحدهما نصف الثمن وجب تسليم حصته إليه لأنه أحضر جميع ما عليه من الثمن فوجب تسليم ما في مقابلته من المبيع كما لو اشترى عيناً وأحضر ثمنها والله أعلم. فصل: إذا تلف المبيع في يد البائع قبل التسليم لم يخل إما أن يكون ثمرة أو غيرها فإن كان غير الثمرة نطرت فإن كان تلفه بآفة سماوية انفسخ البيع لأنه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع كما لو اصطرفا وتفرقا قبل القبض فإن كان المبيع عبداً فذهبت يده بآكلة فالمبتاع بالخيار بين أن يرد وبين أن يمسك فإن اختار الرد رجع بجميع الثمن وإن اختار الإمساك أمسك بجميع الثمن لأن الثمن لا ينقسم على الأعضاء فلم يسقط بتلفها شيء من الثمن وإن أتلفه أجنبي ففيه قولان: أحدهما أنه ينفسخ البيع لأنه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع كما لو تلف بآفة سماوية والثاني أن المشتري بالخيار بين أن يفسخ العقد ويرجع بالثمن وبين أن يقر البيع ويرجع عن الأجنبي بالقيمة لأن القيمة عوض عن المبيع فقامت مقامه في القبض فإن كان عبداً فقطع الأجنبي يده فهو بالخيار بين أن يفسخ ويرجع بالثمن وبين أن يجيزه ويرجع على الجاني بنصف قيمته فإن أتلفه البائع ففيه طريقان: قال أبو العباس فيه قولان كالأجنبي وقال أكثر أصحابنا ينفسخ قولاً واحداً لأنه لا يمكن الرجوع على البائع بالقيمة لأن المبيع مضمون عليه بالثمن فلا يجوز أن يكون مضموناً عليه بالقيمة بخلاف الأجنبي فإن المبيع غير مضمون عليه بالثمن فجاز أن يضمنه بالقيمة فإن كان عبداً فقطع البائع يده ففيه وجهان: قال أبو العباس المبتاع بالخيار إن شاء فسخ البيع ورجع بالثمن وإن شاء أجازه ورجع على البائع بنصف القيمة وقال أكثر أصحابنا هو بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أجازه ولا شيء له لأنه جزء من المبيع فلا يضمنه البائع بالقيمة قبل القبض كما لو

ذهب بآكلة فإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن لأن الإتلاف كالقبض ولهذا لو أعتقه جعل إعتاقه كالقبض فكذلك إذا أتلفه فإن كان عبداً فقطع يده لم يجز له أن يفسخ لأنه نقص بفعله إن اندمل ثم تلف في يد البائع رجع البائع على المشتري بأرش النقص فيقوم مع اليد ويقوم بلا يد ثم يرجع بما نقص من الثمن ولا يرجع بما نقص من القيمة لأن المبيع مضمون على المشتري بالثمن فلا يجوز أن يرجع عليه بما نقص من القيمة وإن كان المبيع ثمرة فإن كان على الأرض فهو كغيره من الثمار وقد بيناه وإن كانت على الشجر نظرت فإن تلفت قبل التخلية فهي كغير الثمرة إذا هلك قبل أن يقبض وقد بيناه فإن تلفت بعد التخلية ففيه قولان: أحدهما أنها تتلف من ضمان المشتري لأن التخلية قبض يتعلق به جواز التصرف فدخل في ضمانه كالنقل فيما ينقل والثاني أنها تتلف من ضمان البائع لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق1" وروى جابر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح فإن قلنا بهذا فاختلفا في الهالك فقال البائع الثلث وقال المشتري النصف فالقول قول البائع لأن الأصل عدم الهلاك وإن بلغت الثمار وقت الجداد فلم ينقل حتى هلكت كان هلاكها من ضمان المشتري لأنه وجب عليه النقل فلم يلزم البائع ضمانها والله أعلم.

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 14. ا [وداود في كتاب البيوع باب 58. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 33. أحمد في مسنده "3/477".

باب السلم

باب السلم السلم جائز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أجله الله في كتابه وأذن فيه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} . فصل: ولا يصلح السلم إلا من مطلق التصرف في المال لأنه عقد على مال فلا يصح إلا من جاز له التصرف كالبيع قال الشافعي رحمه الله: ويصح السلم من الأعمى قال المزني رحمه الله: أعلم من نطقه أنه أراد الأعمى الذي عرف الصفات قبل أن يعمى

قال أبو العباس: هذا الذي قال المزني حسن فأما الأكمه الذي لا يعرف الصفات فلا يصح سلمه لأنه يعقد على مجهول وبيع المجهول لا يصح وقال أبو إسحاق: يصح السلم من الأعمى وإن كان أكمه لأنه يعرف الصفات بالسماع. فصل: وينعقد بلفظ السلف والسلم وفي لفظ البيع وجهان: من أصحابنا من قال: لا ينعقد السلم بلفظ البيع فإذا عقد بلفظ البيع كان بيعاً ولا يشترط فيه قبض العوض في المجلس لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه ومنهم من قال ينعقد لأنه نوع بيع يقتضي القبض في المجلس فانعقد بلفظ البيع كالصرف. فصل: ويثبت فيه خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا" ولا يثبت فيه خيار الشرط لأنه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه. فصل: ويجوز مؤجلاً للآية ويجوز حالاً لأنه إذا جاز مؤجلاً فلأن يجوز حالاً وهو من الغرر أبعد أولى ويجوز في المعدوم إذا كان موجوداً عند المحل لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمرة السنتين والثلاث فقال: "أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم1" فلو لم يجز السلم في المعدوم لنهاهم عن السلم في الثمار السنتين والثلاث ويجوز السلم في الموجود لأنه إذا جاز السلم في المعدوم فلأن يجوز في الموجود أولى لأنه أبعد من الغرر. فصل: ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته كالأثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجواري والأصواف والأشعار والأخشاب والأحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبللور والزجاج وغير ذلك من الأموال التي تباع وتضبط بالصفات والدليل عليه حديث ابن عباس في الثمار وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا نسلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا في الزيت والحنطة وروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على

_ 1 رواه أحمد في مسنده "1/358".

قلاص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في السلم في الكرابيس إذا كان ذرعاً معلوماً إلى أجل معلوم فلا بأس وعن أبي النضر قال: سئل ابن عمر رضي الله عنه عن السلم في السرق قال: لا بأس والسرق الحرير فثبت جواز السلم فيما رويناه في الأخبار وثبت فيما سواه مما يباع ويضبط بالصفات بالقياس على ما ثبت بالأخبار لأنه في معناه. فصل: وأما ما لا يضبط بالصفة فلا يجوز السلم فيه لأنه يقع البيع فيه على مجهول وبيع المجهول لا يجوز قال الشافعي رحمه الله: ولا يجوز السلم في النبل لأن دقته وغلظه مقصود وذلك لا يضبط ولا يجوز في الجواهر كاللؤلؤ والعقيق والياقوت والفيروزج والمرجان لأن صفاءها مقصود وعلى قدر صفائه يكون ثمنها وذلك لايضبط بالوصف ولا يجوز السلم في الجلود لأن جلد الأوراك غليظ وجلد البطن رقيق ولا يضبط قدر رقته وغلظه ولأنه مجهول المقدار لأنه لا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه ولا يجوز في الرق لأنه لا يضبط رقته وغلظه ويجوز في الورق لأنه معلوم القدر معلوم الصفة. فصل: ولا يجوز فيما عملت فيه النار كالخبز والشواء لأن عمل النار فيه يختلف فلا يضبط واختلف أصحابنا في اللبأ المطبوخ فقال الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله: لا يجوز لأن النار تعقد أجزاءه فلا يضبط وقال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله يجوز لأن ناره لينة. فصل: ولا يجوز فيما يجمع أجناساً مقصودة لا تتميز كالغالية والند والمعجون والقوس والخف والحنطة التي فيها الشعير لأنه لا يعرف قدر كل جنس منه ولا يجوز فيما خالطه ما ليس بمقصود من غير حاجة كاللبن المشوب بالماء والحنطة التي فيها الزوان لأن ذلك يمنع من العلم بمقدار المقصود وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد ويجوز

فيما خالطه غيره للحاجة كخل التمر وفيه الماء والجبن وفيه الأنفحة والسمك المملوح وفيه الملح لأن ذلك من مصلحته فلم يمنع جواز العقد ويجوز في الأدهان المطيبة لأن الطيب لا يخالطه وإنما تعبق به رائحته ولا يجوز في ثوب نسج ثم صبغ لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول ويجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لأنه بمنزلة صبغ الأصل ولا يجوز في ثوب عمل فيه من غير غزله كالقرقوبي لأن ذلك لا يضبط واختلف أصحابنا في الثوب المعمول من غزلين فمنهم من قال: لا يجوز لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية ومنهم من قال: يجوز لأنهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما وفي السلم في الرؤوس قولان: أحدهما يجوز لأنه لحم وعظم فهو كسائر اللحوم والثاني لا يجوز لأنه يجمع أجناساً مقصودة لا تضبط بالوصف ولأن معظمه العظم وهو غير مقصود. فصل: ولا يجوز السلم في الطير لأنه لا يضبط بالسن ولا يعرف قدره بالذرع ولا يجوز السلم في جارية وولدها ولا في جارية وأختها لأنه يتعذر وجود جارية وولدها أو جارية وأخنها على على ماوصف وفي الجارية الحامل طريقان: أحدهما لا يجوز السلم فيها لأن الحمل مجهول والثاني يجوز لأن الجهل بالحمل لاحكم له مع الأم كما نقول في بيع الجارية الحامل وفي السلم في شاة لبون. فصل: وفي السلم في الأواني المختلفة الأعلى والأسفل كالإبريق والمنارة والكراز وجهان: أحدهما لا يجوز لأنها مختلفة الأجزاء فلم يجز السلم فيها كالجلود والثاني يجوز لأنها يمكن وصفها فجاز السلم فيها كالأسطال المربعة والصحاف الواسعة واختلف أصحابنا في السلم في الدقيق فمنهم من قال لا يجوز وهو قول أبي القاسم الداركي رحمه الله لأنه لا يضبط والثاني يجوز لأنه يذكر النوع والنعومة والجودة فيصير

معلوماً ولا يجوز السلم في العقار لأن المكان فيه مقصود والثمن يختلف باختلافه فلا بد من تعيينه والعين لا تثبت في الذمة. فصل: ولا يجوز السلم إلا في شيء عام الوجود مأمون الانقطاع في المحل فإن أسلم فيما لا يعم كالصيد في موضع لا يكثر فيه أو ثمرة ضيعة بعينها أو جعل المحل وقتالاً يأمن انقطاعه فيه لم يصح لما روى عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن زيد بن سعنة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً إلى أجل معلوم من حائط بني فلان فقال: "لا يا يهودي ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى كذا وكذا من الأجل" ولأنه لا يؤمن أن يتعذر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد. فصل: ولا يجوز السلم إلا فيقدر معلوم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم1" فإن كان في مكيل ذكر كيلاً معروفاً وإن كان في موزون ذكر وزناً معروفاً وإن كان في مذروع ذكر ذرعاً معروفاً فإن علق العقد على كيل غير معروف كملء زبيل لا يعرف ما يسع أو ملء جرة لا يعرف ما تسع أو زنة صخرة لا يعرف وزنها أو ذراع رجل بعينه لم يجز لأن المعقود عليه غير معلوم في الحال لأنه لا يؤمن أن يهلك ما علق عليه العقد فلا يعرف قدر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد كما لو علقه على ثمرة حائط بعينه وإن أسلم فيما يكال بالوزن وفيما يوزن بالكيل جاز لأن القصد أن يكون معلوماً والعلم يحصل بذلك وإن أسلم فيما لا يكال ولا يوزن كالجوز والبيض والقثاء والبطيخ والبقل والرؤوس إذا جوزنا السلم فيها أسلم بالوزن وقال أبو إسحاق: يجوز أن يسلم في الجوز كيلاً لأنه لا يتجافى في المكيال والمنصوص هو الأول. فصل: ولا يجوز حتى يصف المسلم فيه بالصفات التي تختلف بها الأثمان كالصغر والكبر والطول والعرض والدور والسمك والنعومة والخشونة واللين والصلابة والرقة والصفاقة والذكورية والأنوثية والثيوبية والبكارة والبياض والحمرة والواد والسمرة والرطوبة واليبوسة والجودة والرداءة وغير ذلك من الصفات التي تختلف بها الأثمان

_ 1 رواه أحمد في مسنده "1/358".

ويرجع فيما لا يعلم من ذلك إلى نفسين من أهل الخبرة وإن شرط الأجود لم يصح العقد لأن ما من جيد إلا ويجوز أن يكون فوقه ما هو أجود منه فيطالب به فلا يقدر عليه وإن شرط الأردأ ففيه قولان: أحدهما لا يصح لأنه ما من رديء إلا ويجوز أن يكون دونه ما هو أردأ منه فيصير كالأجود والثاني أنه يصح لأنه إن كان ما يحضره هو الأردأ فهو الذي أسلم فيه وإن كان دونه أردأ منه فقد تبرع بما أحضره فوجب قبوله فلا يتعذر التسليم وإن أسلم في ثوب من الصفات التي يختلف بها الثمن وشرط أن يكون وزنه قدراً معلوماً ففيه وجهان: أحدهما لا يصح وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني لأنه لا يتفق ثوب على هذه الصفات مع الوزن المشروط إلا نادراً فيصير كالسلم في جارية وولدها وكالسلم فيما لا يعم وجوده والثاني أنه يجوز لأن الشافعي رحمه الله نص على أنه إذا أسلم في آنية وشرط وزناً معلوماً جاز فكذلك ههنا. فصل: فإن أسلم في المؤجل وجب بين أجل لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ولأن الثمن يختلف باختلافه فوجب بيانه كالكيل والوزن وسائر الصفات والأجل المعلوم ما يعرفه الناس كشهور العرب وشهور الفرس وشهور الروم وأعياد المسلمين والنيروز والمهرجان فإن أسلم إلى الحصاد أو إلى العطاء أو إلى عيد اليهود والنصارى لم يصح لأنه ذلك غير معلوم لأنه يتقدم ويتأخر وإن جعله إلى شهر ربيع أو جمادى صح وحمل على الأول منهما ومن أصحابنا من قال: لا يصح حتى يبين والمذهب الأول لأنه نص على أنه إذا جعل إلى النفر حمل على النفر الأول فإن قال إلى يوم كذا كان المحل إذا طلع الفجر فإن قال إلى شهر كذا كان المحل إذا غربت الشمس من الليلة التي يرى فيها الهلال فإن قال محله في يوم كذا أو سنة كذا ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة يجوز ويحمل على أوله كما لو قال لامرأته أنت طالق في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا فإن الطلاق يقع في أولها والثاني لا يجوز وهو الصحيح لأن ذلك يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر والسنة فإذا لم يبين كان مجهولاً ويخالف الطلاق فإنه يجوز إلى أجل

مجهول وإذا صح تعلق بأوله بخلاف السلم فإن ذكر شهوراً مطلقة حمل على شهور الأهلة لأن الشهور في عرف الشرع شهور الأهلة فجمل العقد عليها فإن كان العقد في الليلة التي رؤي فيها الهلال اعتبر الجميع بالأهلة وإن كان العقد في أثناء الشهر اعتبر شهراً بالعدد وجعل الباقي بالأهلة فإن أسلم في حال وشرط أنه حاال صح العقد وإن أطلق ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه أحد محلي السلم فوجب بينه كالمؤجل والثاني أنه يصح ويكون حالاً لأن ما جاز حالاً ومؤجلاً حمل إطلاقه على الحال كالثمن في البيع وإن عقد السلم حالاً وجعله مؤجلاً أو مؤجلاً فجعله حالاً أو زاد في أجله أو نقص نظرت فإن كان ذلك بعد التفرق لم يلحق بالعقد لأن العقد استقر فلا يتغير وإن كان قبل التفرق لحق بالعقد وقال أبو علي الطبري إن قلنا أن المبيع انتقل بنفس العقد لم يلحق به والصحيح هو الأول وقد ذكرناه في الزيادة في الثمن. فصل: وإن أسلم في جنسين إلى أجل أو في جنس إلى أجلين ففيه قولان: أحدهما أنه لا يصح لأن ما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر وذلك مجهول فلم يجز والثاني أنه يصح وهو الصحيح لأن كل بيع جاز في جنس واحد وأجل واحد جاز في جنسين وفي أجلين كبيع الأعيان ودليل القول الأول يبطل ببيع الأعيان فإنه يجوز إلى أجلين وفي جنسين مع الجهل بما يقابل كل واحد منهما. فصل: وأما بيان موضع التسليم فإنه إن كان في العقد في موضع لا يصلح للتسليم كالصحراء وجب بيانه وإن كان موضع يصلح للتسليم ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يجب بيانه لأنه يختلف الغرض باختلافه فوجب بيانه كالصفات والثاني لا يجب بل يحمل على موضع العقد كما نقول في بيع الأعيان والثالث أنه إن كان لحمله مؤنة وجب بيانه لأنه يختلف الثمن باختلافه فوجب بيانه كالصفات التي يختلف الثمن باختلافها فإن لم يكن

لحمله مؤنة لميجب بيانه لأنه لا يختلف الثمن باختلافها فلم يجب بيانه كالصفات التي لا يختلف الثمن باختلافها. فصل: ولا يجوز تأخير قبض رأس المال عن المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسلفوا في كيل معلوم" والإسلاف هو التقديم ولأنه إنما سمي سلماً لما فيه من تسليم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلماً فلم يصح ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس ويسلمه ويجوز أن يكون معيناً فإن كان في الذمة نظرت فإن كان من الأثمان حمل على نقد البلد وإن كان في البلد نقود حمل على الغالب منها وإن لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم وإن كان رأس المال عرضاً وجب بين الصفات التي تختلف بها الأثمان لأنه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف فوجب بيان صفاته كالمسلم فيه وإن كان رأس المال معيناً ففيه قولان: أحدهما يجب ذكر صفاته ومقداره لأنه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده والثاني لا يجب ذكر صفاته ومقداره لأنه عوض في عقد لا يقتضي رد المثل فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره كالمهر والثمن في البيع وإن كان رأس المال بما لا يضبط بالصفة كالجواهر وغيرها فعلى القولين إن قلنا يجب صفاته لم يجز أن يجعل ذلك رأس المال لأنه لا يمكن ذكر صفاته وإن قلنا لا يجب جاز أن يجعل ذلك رأس المال لأنه معلوم بالمشاهدة والله أعلم.

باب تسليم المسلم فيه

باب تسليم المسلم فيه إذا حل دين السلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمراً لزمه ما يقع عليه اسم التمر على الإطلاق فإن أحضر حشفاً أو رطباً لم يقبل منه فإن كان رطباً لزمه ما يطلق عليه اسم الرطب على الإطلاق ولا يقبل منه بسر ولا منصف ولا مذنب ولا مشدخ وإن كان طعاماً لزمه ما نقى من التبن فإن كان فيه قليل تراب نظرت فإن كان أسلم فيه كيلاً قبل منه لأن القليل من التراب لا يظهر في الكيل وإن أيلم فيه وزناً لم يقبل منه لأنه يظهر في الوزن فيكون المأخوذ من الطعام دون حقه وإن كان عسلاً لزمه ما صفى من الشمع فإن أسلم إليه في ثوب فأحضر ثوباً

أجود منه لزمه قبوله لأنه أحضر المسلم فيه وفيه زيادة صفة لا تتميز فلزمه قبوله فإن جاءه بالأجود وطلب عن الزيادة عوضاً لم يجز لأنه بيع صفة والصفة لا تفرد بالبيع فإن أتاه بثوب رديء لم يجبر على قبوله لأنه دون حقه فإن قال خذه وأعطيك للجودة درهماً لم يجز لأنه بيع صفة ولأنه بيع جزء من المسلم فيه قبل قبضه فإن أسلم في نوع آخر من ذلك الجنس كالمعقلي عن البرني والهروي عن المروي ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يجوز لأنه غير الصنف الذي أسلم فيه فلم يجز أخذه عنه كالزبيب عن التمر وقال أبو علي ابن أبي هريرة يجوز لأن النوعين من جنس واحد بمنزلة النوع الواحد ولهذا يحرم التفاضل في بيع أحدهما بالآخرة ويضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة فإن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان: أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة ففيه وجهان: أحدهما إن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز قبوله لأنه يصير الثمن هو المثمن والعقد يقتضي أن يكون الثمن غير المثمن والثاني أنه يجوز لأن الثمن هو الذي سلم إليه والمثمن هو الموصوف وإن أسلم إلى محل فأحضر المسلم فيه قبله أو شرط أن يسلم إليه في مكان فأحضر المسلم فيه في غير ذلك المكان فامتنع المسلم من أخذه نظرت فإن كان له غرض صحيح في الامتناع لزمه أخذه فإن لم يأخذه رفع إلى الحاكم ليأخذه عنه والدليل عليه ماروي أن أنساً رضي الله عنه كاتب عبداً له على مال إلى أجل فجاءه بمال قبل الأجل فأبى أن يأخذه فأتى عمر رضي الله عنه فأخذه منه وقال له إذهب فقد عتقت ولأنه زاده بالتقديم خيراً فلزمه قبوله وإن سأله المسلم أن يقدمه قبل المحل فقال أنقصني من الدين حتى أقدمه ففعل لم يجز لأنه بيع أجل والأجل لا يفرد بالبيع ولأن هذا في معنى ربا الجاهلية فإن كان من في الجاهلية يقول من عليه الدين زدني في الأجل أزدك في الدين. فصل: وإن أسلم إليه في طعام بالكيل أو اشترى منه طعاماً بالكيل فدفع إليه الطعام من غير كيل لم يصح القبض لأن المستحق قبض بالكيل فلا يصح قبض بغير الكيل فإن كان المقبوض باقياً رده على البائع ليكيله له وإن تلف في يده قبل الكيل تلف من ضمانه لأنه قبض حقه وإن ادعى أنه كان دون حقه فالقول قوله لأن الأصل أنه لم يقبض إلا ماثبت بإقراره فإن باع الجميع قبل الكيل لم يصح لأنه لا يتحقق أن الجميع له وإن باع منه القدر الذي يتحقق أنه له ففيه وجهان: أحدهما يصح وهو قول أبي إسحاق لأنه دخل في ضمانه فنفذ بيعه فيه كما لو قبضه بالكيل والثاني لا يصح وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وهو المنصوص في الصرف لأنه باعه قبل وجود القبض

المستحق بالعقد فلم يصح بيعه كما لو باعه قبل أن يقبضه فإن دفع إليه بالكيل ثم ادعى أنه دون حقه فإن كان ما يدعيه قليلاً قبل منه وإن كان كثيراً لم يقبل لأن القليل يبخس به والأصل عدم القبض والكثير لا يبخس به فكان دعواه مخالفاً للظاهر فلم يقبل. فصل: فإن أحاله على رجل له عليه طعام لم يصح لأن الحوالة بيع وقد بينا في كتاب البيوع أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض وإن قال لي عند رجل طعام فأحضر معي حتى أكتاله لك فحضر واكتاله له لم يجز لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري وهذا لم يجر فيه الصاعان وهل ييصح قبض المسلم إليه لنفسه فيه وجهان بناء على القولين فيمن باع دين المكاتب فقبضمنه المشتري فإن قبض المشتري لنفسه لا يصح وهل يصح القبض للسيد فيه قولان: أحدهما يصح لأنه قبضه بإذنه فصار كما لو قبضه وكيله والثاني لا يصح لأنه لم يأذن له في قبضه له وإنما أذن له في قبضه لنفسه فلا يصير القبض له ويخالف الوكيل فإنه قبضه لموكله فإن قلنا إن قبضه لا يصح اكتال لنفسه مرة أخرى ثم يكيله للمسلم وإن قلنا إن قبضه يصح كاله للمسلم فإن قال أحضر معي حتى أكتاله لنفسي وتأخذه ففعل ذلك صح القبض للمسلم إليه لأنه قبضه لنفسه قبضاً صحيحاً ولا يصح للمسلم لأنه دفعه إليه من غير كيل وإن اكتاله لنفسه وسلم إلى المسلم وهو في المكيال ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان وهذا يقتضي كيلاً بعد كيل وذاك لم يوجد والثاني أنه يصح لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ولو ابتدأ بكيله جاز فكذلك إذا استدامه. فصل: وإن دفع المسلم إليه إلى المسلم دراهم وقال اشتر لي بها مثل مالك علي واقبضه لنفسك ففعل لم يصح قبضه لنفسه وهل يصح للمسلم إليه على الوجهين المبينين على القولين في دين المكاتب فإن قال اشتري لي واقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء والقبض للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لأنه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حق نفسه. فصل: إذا قبض المسلم فيه وجد به عيباً فله أن يرده لأن إطلاق العقد يقتضي مبيعاً سليماً فلا يلزمه قبول المعيب فإن رد ثبت له المطالبة بالسليم لأنه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ماله في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالأرش لأنه لا يمكنه رده ناقصاً عما أخذ ولا يمكن إجباره على أخذه مع العيب فوجب الأرش.

فصل: فإن أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان: أحدهما أن العقد ينفسخ لأن المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلكت فانفسخ العقد كما لو اشتري لي واقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء والقبض للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لأنه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في قبض حق نفسه. فصل: إذا قبض المسلم فيه ووجد به عيباً فله أن يرده لأن إطلاق العقد يقتضي مبيعاً سليماً فلا يلزمه قبول المعيب فإن رد ثبت له المطالبة بالسليم لأنه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ماله في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالأرش لأنه لا يمكنه رده ناقصاً عما أخذ ولا يمكن إجباره على أخذه مع العيب فوجب الأرش. فصل: فإن أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان: أحدهما أن العقد ينفسخ لأن المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلك فانفسخ العقد كما لو اشترى قفيزاً من صبرة فهلكت الصبرة والثاني أنه لا ينفسخ لكنه بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن توجد الثمرة فيأخذها لأن المعقود عليه ما في الذمة لا ثمرة هذا العام والدليل عليه أنه لو أسلم إليه في ثمرة عامين فقدم في العام الأول ما يجب له في العام الثاني جاز وما في الذمة لم يتلف وإنما تأخر فثبت له الخيار كما لو اشترى عبداً فأبق. فصل: يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه فإذا فسخا وانفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقياً وجب رده وإن كان تالفاً ثبت بدله في ذمة المسلم إليه فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين وإن أراد أن يشتري به عيناً نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عيناً بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان: أحدهما يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عيناً بعين أن يتفرقا من غير قبض والثاني لا يجوز لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه والله أعلم.

باب القرض

باب القرض القرض قربة مندوب إليه لما روى أبوهريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من

كشف عن مسلم كربة كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه1" وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردا ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: قرض مرتين خير من صدقة مرة. فصل: ولا يصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد على المال فلا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع ولا ينعقد إلا يالإيجاب والقبول لأنه تمليك آدمي فلا يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة ويصح بلفظ القرض والسلف لأن الشرع ورد بهما ويصح بما يؤدي معناه وهو أن يقول ملكتك هذا على أن ترد علي بدله فإن قال ملكتك ولم يذكر البدل كان هبة فإن اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لأنه الظاهر معه فإن التمليك من غير ذكر عوض هبة في الظاهر وإن قال أقرضتك ألفاً وقبل وتفرقا ثم دفع إليه ألفاً فإن لم يطل الفصل جاز لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب وإن طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ القرض لأنه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل. فصل: وإن كتب إليه وهو غائب أقرضتك هذا أو كتب إليه بالبيع ففيه وجهان: أحدهما ينعقد لأن الحاجة مع الغيبة داعية للكتابة والثاني لا ينعقد لأنه قادر على النطق فلا ينعقد عقده بالكتابة كما لو كتب وهو حاضر وقول القائل الأول إن الحاجة داعية إلى الكتابة لا يصح لأنه يمكنه أن يوكل من يعقد العقد بالقول. فصل: ولا يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط لأن الخيار يراد للفسخ وفي القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء فلا معنى لخيار المجلس وخيار الشرط ولا يجوز شرط الأجل فيه لأن الأجل يقتضي جزءاً من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلا يجوز شرط الأجل فيه ويجوز شرط الرهن فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لأهله ويجوز أخذ الضمين فيه لأنه وثيقة فجاز في القرض كالرهن. فصل: وفي الوقت الذي يملك فيه وجهان: أحدهما أنه يملكه بالقبض لأنه عقد

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصائم باب 3. مسلم في كتاب البر حديث 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 38، 60. الترمذي في كتاب الحدود باب 3. أحمد في مسنده "2/91، 252".

يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك فيه على القبض كالهبة فعلى هذا إذا كان القرض حيواناً فنفقته بعد القبض على المستقرض فإن اقترض أباه وقبضه عتق عليه والثاني أنه لا يملكه إلا بالتصرف بالبيع والهبة والإتلاف لأنه لو ملك قبل التصرف لما جاز للمقرض أن يرجع فيه بغير رضاه فعلى هذا تكون نفقته على المقرض فإن اقترض أباه لم يعتق عليه قبل أن يتصرف فيه واختلف أصحابنا فيمن قدم طعاماً إلى رجل ليأكله على أربعة أوجه: أحدهما أنه يملكه بالأخذ والثاني أنه يملكه بمركه في الفم والثالث أنه يملكه بالبلع والرابع أنه لا يملكه بل يأكله على ملك صاحب الطعام. فصل: ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز أن يملك ويضبط بالوصف كالسلم فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن القرض يقتضي رد المثل وما لا يضبط بالوصف لا مثل له والثاني يجوز لأن ما لا مثل له يضمنه المستقرض بالقيمة والجواهر كغيرها في القيمة ولا يجوز إلا في مال معلوم القدر فإن أقرضه دراهم لا يعرف وزنها أو طعاماً لا يعرف كيله لم يجز لأن القرض يقتضي رد المثل فإذا لم يعلم القدر لم يمكن القضاء. فصل: ويجوز استقراض الجارية لمن لا يحل له وطؤها كالبيع والهبة والمنصوص هو الأول لأنه عقد إرفاق جائز من الطرفين فلا يستباح الوطء كالعارية ويخالف البيع والهبة فإن الملك فيهما تام لأنه لو أراد كل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ لم يملك والملك في القرض غير تام لأنه يجوز لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ فلو جوزنا فيمن يحل له وطؤها أدى إلى الوطء في ملك غير تام وذلك لا يجوز وإن أسلم جارية في جارية ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يجوز لأنا لا نأمن أن يطأها ثم يردها عن التي تستحق عليه فيصير كمن اقترض جارية فوطئها ثم ردها ومن أصحابنا من قال: يجوز وهو المذهب لأن كل عقد صح في العبد بالعبد صح في الجارية بالجارية كالبيع. فصل: ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفاً على أن يبني داره أو على

أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها سفتجة يربح فيها خطر الطريق والدليل عليه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز وروي عن أبي كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه فإن شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن مقتضى القرض رد المثل فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يجز كما لو شرط الزيادة والثاني يجوز لأن القرض جعل رفقاً بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه فجاز فإن بدأ المستقرض فزاده أو رد عليه ما هو أجود منه أو كتب سفتجة أو باع منه داره جاز لما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: استسلف رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكراً فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطه فإن خياركم أحسنكم قضاء1" وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فقضاني وزادني فإ عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في العوض ففي إقراضه وجهان: أحدهما لا يجوز إقراضه إلا أن

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 118, 120، 122.

يشترط رد المثل لأن المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز فكذلك إذا عرف بالعادة والثاني أنه يجوز وهو المذهب وإن الزيادة مندوب إليها فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد فإن شرط في العقد شرطاً فاسداً بطل الشرط وفي القرض وجهان: أحدهما أنه يبطل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" ولأنه إنما أقرضه بشرط ولم يسلم الشرط فوجب أن لا يسلم القرض والثاني أنه يصح لأن القصد منه الإرفاق فإذا زال الشرط بقي الإرفاق. فصل: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل وفيما لا مثل له وجهان: أحدهما يجب عليه القيمة لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات والثاني يجب عليه مثله في الخلقة والصورة لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر ولأن ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياساً على ماله مثل ويخالف المتلفات فإن المتلف متعد فلم يقبل منه إلا القيمة لأنها أحصر وهذا عقد أجيز للحاجة فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف فإن اقترض الخبز وقلنا يجوز إقراض ما لا يضبط بالوصف ففي الذي يرد وجهان: أحدهما مثل الخبز والثاني ترد القيمة فعلى هذا إذا أقرضه الخبز وشرط أن يرد عليه الخبز ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن مبناه على الرفق فلو منعناه من رد الخبز شق وضاق والثاني لا يجوز لأنه إذا شرط صار بيع خبز بخبز وذلك لا يجوز. فصل: إذا أقرضه دراهم بمصر ثم لقيم بمكة فطالبه بها لزمه دفعها إليه فإن طالبه المستقرض بأن يأخذها وجب عليه أخذها لأنه لا ضرر عليه في أخذها فوجب أخذها فإن أقرضه طعاماً بمصر فلقيه بمكة فطالبه به لم يجبر على دفعه إليه لأن الطعام بمكة أغلى فإن طالبه المستقرض بالأخذ لم يجبر على أخذه لأن عليه مؤنة في حمله فإن تراضيا جاز لأن المنع لحقهما وقد رضيا جميعاً فإن طالبه بقيمة الطعام بمكة أجبر على دفعها لأنه بمكة كالمعدوم وماله مثل إذا عدم وجبت قيمته ويجب قيمته بمصر لأنه يستحقه بمصر فإن أراد أن يأخذ عن بدل القرض عوضاً جاز لأن ملكه عليه مستقر فجاز أخذ العوض عنه كالأعيان المستقرة وحكمه في اعتبار القبض في المجلس حكم ما يأخذه بدلاً عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد بيناه والله أعلم.

كتاب الرهن

كتاب الرهن مدخل ... كتاب الرهن ويجوز الرهن على الدين في السفر لقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ويجوز في الحضر لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعاً عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيراً لأهله. فصل: ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف في المال كالبيع. فصل: ويجوز أخذ الرهن على دين السلم وعوض القرض للآية والخبر ويجوز على الثمن والأجرة والصداق وعوض الخلع ومال الصلح وأرش الجناية وغرامة المتلف لأنه دين لازم فجاز أخذ الرهن عليه كدين السلم وبدل القرض ولا يجوز أخذه على دين الكتابة لأن الرهن إنما جعل ليحفظ عوض ما زال عنه ملكه من مال ومنفعة وعضو والمعوض في الكتابة هو الرقبة وهي باقية على ملكه لا يزول ملكه عنها إلا بالأداء فلا حاجة به إلى الرهن ولأن الرهن إنما يعقد لتوثيق الدين حتى لا يبطل والمكاتب يملك أن يبطل الدين بالفسخ إذا شاء فلا يصح توثيقه فأما مال الجعالة قبل العمل ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أخذ الرهن به لأنه مال شرط في عقد لا يلزم فلا يجوز أخذ الرهن به كمال الكتابة والثاني يجوز لأنه دين يؤول إلى اللزوم فجاز أخذ الرهن به كالثمن في مدة الخيار وأما مال السبق والرمي ففيه قولان: أحدهما أنه كالإجارة فيجوز أخذ الرهن به والثاني أنه كالجعالة فيكون على الوجهين وأما العمل في الإجارة فإنه إن كانت الإجارة على عمل الأجير فلا يجوز أخذ الرهن به لأن القصد بالرهن استيفاء الحق منه عند التعذر وعمله لا يمكن استيفاؤه من غيره وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة جاز أخذ الرهن به لأنه يمكن استيفاؤه من الرهن بأن يباع ويستأجر بثمنه من يعمل. فصل: ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين وهو أن يرهن بالثمن بعد البيع ويعوض القرض بعد القرض ويجوز عقده مع العقد على الدين وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع وعقد القرض لأن الحاجة تدعو إلى شرطه بعد ثبوته وحال ثبوته فأما شرطه قبل العقد فلا يصح لأن الرهن تابع للدين فلا يجوز شرط قبله. فصل: ولا يجوز أخذ الرهن على الأعيان كالمغصوب والمسروق والعارية

والمأخوذ على وجه اليوم لأنه إن رهن على قيمتها إذا تلفت لم يصح لأن رهن على دين قبل ثبوته وإن رهن على عينها لم يصح لأنه لا يمكن استيفاء العين من الرهن. فصل: ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن لأن العقد لحظه لاحظ فيه للراهن فجاز له فسخه إذا شاء فأما من جهة الراهن فلا يلزم إلا بقبض والدليل عليه قوله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فوصف الرهن بالقبض فدل على أنه لا يلزم إلا به ولأنه عقد إرفاق يفتقد إلى القبول والقبض فلم يلزم من غير قبض كالهبة فإن كان المرهون في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضه إلا بإذن الراهن لأن للراهن أن يفسخه قبل القبض فلا يملك المرتهن إسقاط حقه من غير إذنه فإن كان في يد المرتهن فقد قال في الرهن إنه لا يصير مقبوضاً بحكم الرهن إلا بإذن الراهن وقال في الإقرار والمواهب إذا وهب له عيناً في يده صارت مقبوضة من غير إذن فمن أصحابنا من نقل جوابه في الرهن إلى الهبة وجوابه في الهبة إلى الرهن فجعلها على قولين: أحدهما لا يفتقر واحد منهما إلى الإذن في القبض لأنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف لم يفتقر إلى إذن مستأنف والثاني أنه يفتقر وهو الصحيح لأنه عقد افتقر لزومه إلى القبض فافتقر القبض إلى الإذن كما لو لم تكن العين في يده وقولهم إنه لا يحتاج إلى نقل مستأنف لا يصح لأن النقل يراد ليصير في يده وذلك موجود والإذن يراد لتمييز قبض الهبة والرهن عن قبض الوديعة والغصب وذلك لا يحصل إلا بإذن ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال في الهبة لا يفتقر إلى الإذن وفي الرهن يفتقر لأن الهبة عقد يزيل الملك فلم يفتقر إلى الإذن لقوته والرهن لا يزيل الملك فافتقر إلى الإذن فضعفه والصحيح هو الطريق الأول لأن هذا الفرق يبطل به إذا لم تكن العين في يده فإنه يفتقر إلى الإذن في الرهن والهبة مع ضعف أحدهما وقوة الآخر فإن عقد على عين رهناً وإجارة وأذن له في القبض عن الرهن والإجارة صار مقبوضاً عنهما فإن أذن له في القبض عن الإجارة دون الرهن لم يصر مقبوضاً عن الرهن لأنه لم يأذن له في قبض الرهن فإن أذن له في القبض عن الرهن دون الإجارة صار مقبوضاً عنهما لأنه أذن له في قبض الرهن وقبض الإجارة لا يفتقر إلى الإذن لأنه مستحق عليه. فصل: وإن أذن له في قبض ما عنده لم يصر مقبوضاً حتى يمضي زمان يتأتى فيه القبض وقال في حرملة لا يحتاج إلى ذلك كما لا يحتاج إلى نقل والمذهب الأول لأن القبض إنما يحصل بالاستيفاء أو التمكين من الاستيفاء ولهذا لو استأجر داراً لم يحصل له القبض في منافها إلا بالاستيفاء أو بمضي زمان يتأتى فيه الاستيفاء فكذلك ههنا فعلى

هذا إن كان المرهون حاضراً فبأن يمضي زمان أن ينقله أمكنه ذلك وإن كان غائباً فبأن يمضي هو أو وكيله ويشاهده ثم يمضي من الزمان ما يتمكن فيه من القبض وقال أبو إسحاق إن كان مما ينتقل كالحيوان لم يصر مقبوضاً إلا بأن يمضي إليه لأنه يجوز أن يكون قد انتقل من المكان الذي كان فيه فلا يمكنه أن يقدر الزمان الذي يمكن المضي فيه إليه من موضع الإذن إلى موضع القبض فأما ما لا ينتقل فإنه لا يحتاج إلى المضي إليه بل يكفي أن يمضي زمان لو أراد أن يمضي ويقبض أمكنه ومن أصحابنا من قال إن أخبره ثقة أنه باق على صفته ومضى زمان يتأتى فيه القبض صار مقبوضاً كما لو رآه وكيله ومضى زمان يتأتى فيه القبض والمنصوص هو الأول وما قال أبو إسحاق لا يصح لأنه كما يجوز أن ينتقل الحيوان من مكان إلى مكان فلا يتحقق زمان إلامكان في غير الحيوان ويجوز أن يكون قد أخذ أو هلك وما قال القائل الآخر من خبر الثقة لا يصح لأنه يجوز أن يكون بعد رؤية الثقة حدث عليه حادث فلا يتحقق إمكان القبض ويخالف الوكيل فإنه قائم مقامه فقام حضوره مقام حضوره والثقة بخلافه. فصل: وإن أذن له في القبض ثم رجع لم يجز أن يقبض لأن الإذن قد زال فعاد كما لو لم يأذن له وإن أذن له أو أغمي عليه لم يجز أن يقبضه لأنه خرج عن أن يكون من أهل الإذن ويكون الإذن في القبض إلى من ينظر في ماله فإن رهن شيئاً ثم تصرف فيه قبل أن يقبضه نظرت فإن باعه أو جعله مهراً في نكاح أو أجرة في إجارة أو وهبة وأقبضه أو رهنه وأقبضه أو كان عبداً فكاتبه أو أعتقه انفسخ الرهن لأن هذه التصرفات تمنع الرهن فانفسخ بها الرهن فإن دبره فالمنصوص في الأم أنه رجوع وقال الربيع فيه قول آخر أنه لايكون رجوعاً وهذا من تخريجه ووجهه أنه يمكن الرجوع في التدبير فإذا دبره أمكنه أن يرجع فيه فيقبضه في الرهن ويبيعه في الدين والصحيح هو الأول لأن المقصود بالتدبير هو العتق وذاك ينافي الرهن فجعل رجوعاً كالبيع والكتابة فإن رهن ولم يقبض أو وهب ولم يقبض كان ذلك رجوعاً عن المنصوص لأن المقصود منه ينافي الرهن وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعاً لأنه يمكنه الرجوع فيه وإن كان المرهون جارية فزوجها لم يكن ذلك رجوعاً لأن التزويج لا يمنع الرهن فلا يكون رجوعاً في الرهن وإن كان داراً فأجرها نظرت فإن كانت الإجارة إلى مدة تنقضي قبل محل الدين لم يكن رجوعاً لأنها لا تمنع البيع عند المحل فلم ينفسخ بها كالتزويج وإن كانت إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها فإن قلنا إن المستأجر يجوز بيعه لم يكن رجوعاً لأنه لا يمنع البيع عند المحل وإن قلنا لا يجوز بيعه كان رجوعاً لأنه تصرف ينافي مقتضى الرهن فجعل رجوعا كالبيع.

فصل: وإن مات أحد المتراهنين فقد قال في الرهن: إذا مات المرتهن لم ينفسخ وقال في التفليس: إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن فمن أصحابنا من جعل ما قال في التفليس قولاً آخر أن الرهن ينفسخ بموت الراهن ونقل جوابه فيه إلى المرتهن وجوابه في المرتهن إليه وجعلهما على قولين: أحدهما ينفسخ بموتهما لأنه عقد لا يلزم بحال فانفسخ بموت العاقد كالوكالة والشركة والثاني لا ينفسخ لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار ومنهم من قال يبطل بموت الراهن ولا يبطل بموت المرتهن لأن بموت الراهن يحل الدين ويتعلق بالتركة فلا حاجة إلى بقاء الرهن وبموت المرتهن لا يحل الدين فالحاجة باقية إلى بقاء الرهن ومنهم من قال لا يبطل بموت واحد منهما قولاً واحداً لأنه لم إذا لم يبطل بموت المرتهن على ما نص عليه والعقد غير لازم في حقه بحال فلأن لا يبطل بموت الراهن والعقد لازم له بعد القبض أولى وما قال في التفليس لاحجة فيه لأنه لم يرد أن الرهن ينفسخ وأنما أراد أنه إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن من غير إذن الورثة. فصل: إذا امتنع الراهن من تسليم الرهن أو انفسخ العقد قبل القبض نظرت فإن كان الرهن غبر مشروط في العقد على البيع بقي الدين بغير رهن وإن كان الرهن مشروطاً في البيع ثبت للبائع الخيار بين أن يمضي البيع من غير رهن أو يفسخه لأنه دخل في البيع بشرط أن يكون له بالثمن وثيقة ولم تسلم له فثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء. فصل: إذا أقبض الراهن الرهن لزم العقد من جهته ولا يملك فسخه لأنه عقد وثيقة فإذا تم لم يجز فسخه من غير رضا من له الحق كالضمان ولأنا لو جوزنا له الفسخ من غير رضا المرتهن بطلت الوثيقة وسقط فائدة الرهن. فصل: ولا ينفك من الرهن شيء حتى يبرأ الراهن من جميع الدين لأنه وثيقة محضة فكان وثيقة بالدين وبكل جزء منه كالشهادة والضمان، فإن رهن اثنان عند رجل

عيناً بينهما بدين له عليهما فبرئ أحدهم أو رهن رجل عند اثنين عيناً بدين عليه لهما فبرئ من دين أحدهما إنفك نصف العين من الرهن لأن الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان فهما عقدان فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر كما لو فرق بين العقدين وإن أراد الراهنان في المسألة الأولى أن يقتسما أو الرهن في المسألة الثانية أن يقاسم المرتهن الذي لم يبرأ من دينه نظرت فإن كان مما لا ينقص قيمته بالقسمة كالحبوب جاز ذلك من غير رضا المرتهن وإن كان مما ينقص قيمته ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز من غير رضا المرتهن لأنه يدخل عليه بالقسمة فلم يجز من غير رضاه والثاني يجوز لأن المرهون عنده نصف العين فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لاحق له فيه. فصل: وإذا قبض المرتهن الرهن ثم وجد به عيباً كان قبل القبض نظرت فإن كان في رهن عقد بعد عقد البيع لم يثبت له الخيار في فسخ البيع وإن كان في رهن شرط في البيع فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يمضيه لأنه دخل في البيع بشرط أن يسلم له الرهن فإذا لم يسلم له ثبت له الخيار فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده أو حدث به عيب عنده لم يملك الفسخ لأنه لا يمكنه رد العين على الصفة التي أخذ فسقط حقه من الفسخ كما قلنا في المبيع إذا هلك عند المشتري أو حدث به عيب عنده ولا يثبت له الأرش لأن الأرش بدل عن الجزء الفائت ولو فات الرهن بالهلاك لم يجب بدله فإذا فات بعضه لم يجب بدله والله أعلم.

باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز

باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز ما لا يجوز بيعه كالوقف وأم الولد والكلب والخنزير لا يجوز رهنه لأن المقصود من الرهن أن يباع ويستوفى الحق منه وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه فلم يصح رهنه. فصل: وما يسرع إليه الفساد من الأطعمة والفواكه الرطبة التي لا يمكن استصلاحها يجوز رهنه بالدين الحال والمؤجل الذي يحل قبل فساده لأنه يمكن بيعه واستيفاء الحق من ثمنه فأما ما رهنه بدين مؤجل إلى وقت يفسد قبل محله فإنه ينظر فيه فإن شرط أن يبيعه إذا خاف عليه الفساد جاز رهنه وإن أطلق ففيه قولان: أحدهما لا يصح وهو الصحيح لأنه لا يمكن بيعه بالدين في محله فلم يجز رهنه كأم الولد والثاني يصح وإذا خيف عليه أجبر على بيعه ويجعل ثمنه رهناً لأن مطلق العقد يحمل على المتعارف ويصير كالمشروط والمتعارف فيما يفسد أن يباع قبل فساده فيصير كما لو شرط ذلك ولو شرط ذلك جاز رهنه فكذلك إذا أطلق فإن رهن ثمرة يسرع إليها الفساد مع الشجر ففيه طريقان:

من أصحابنا من قال فيه قولان كما لو أفرده بالعقد ومنهم من قال يصح قولاً واحداً لأنه تابع للشجر فإذا هلكت الثمرة بقيت الشجرة. فصل: وإن علق عتق عبد على صفة توجد قبل محل الدين لم يجز رهنه لأنه ل ايمكن بيعه في الدين وقال أبو علي الطبري رحمه الله إذا قلنا يجوز رهن ما يسرع إليه الفساد جاز رهنه وإن علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل محل الدين ويجوز أن لا توجد ففيه قولان: أحدهما يصح لأن الأصل بقاء العقد وإمكان البيع ووقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه فلا يمنع صحة الرهن كجواز الموت في الحيوان المرهون والثاني لا يصح لأنه قد توجد الصفة قبل محل الدين فلا يمكن بيعه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة الرهن. فصل: واختلف أصحابنا في المدبر فمنهم من قال لا يجوز رهنه قولاً واحداً لأنه قد يموت المولى فجأة فيعتق فلا يمكن بيعه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة الرهن ومنهم من قال يجوز قولاً واحداً لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه كالعبد القن ومنهم من قال فيه قولان بناء على القولين في أن التدبير وصية أو عتق بصفة فإن قلنا إنه وصية جاز رهنه لأنه يجوز الرجوع فيه بالقول فجعل الرهن رجوعاً إن قلنا إنه عتق بصفة لم يجز رهنه لأنه لا يجوز الرجوع فيه بالقول وإنما يجوز الرجوع فيه بتصرف يزيل الملك والرهن لا يزيل الملك قال أبو إسحاق إذا قلنا إنه يصح رهنه فحل الحق وقضى سقط حكم الرهن وبقي العبد على تدبيره وإن لم يقض قيل له أترجع في الدبير فإن اختار الرجوع بيع العبد في الرهن وإن لم يختر كان له مال غيره قضي منه الدين ويبقى العبد على التدبير وإن لم يكن له مال غيره ففيه وجهان: أحدهما أنه يحكم بفساد الرهن لأنا إنما صححنا الرهن لأنا قلنا لعله يقضي الدين من غيره أو يرجع في التدبير فإذا لم يفعل حكمنا بفساد الرهن والثاني أنه يباع في الدين وهو الصحيح لأنا حكمنا بصحة الرهن ومن حكم الرهن أنه يباع في الدين وما سوى ذلك من الأموال كالعقار والحيوان وسائر ما يباع يجوز رهنه لأنه يحصل به مقصود الرهن وما جاز رهنه جاز رهن البعض منه مشاعاً لأن المشاع كالمقسوم في جواز البيع فكان كالمقسوم في جواز الرهن فإن كان بين رجلين دار فرهن أحدهما نصيبه من بيت بغير إذن شريكه ففيه وجهان: أحدهما يصح كما يصح بيعه والثاني لا يصح لأن فيه إضراراً بالشريك بأن يقتسما فيقع هذا البيت في حصته فيكون بعضه رهناً.

فصل: ولا يجوز رهن مال الغير بغير إذنه لأنه لا يقدر على تسليمه ولا على بيعه في الدين فلم يجز رهنه كالطير الطائر والعبد الآبق فإن كان في يده مال لمن يرثه وهو يظن أنه حي فباعه أو رهنه ثم بان أنه قد مات قبل العقد فالمنصوص أن العقد باطل لأنه عقد وهو لاعب فلم يصح ومن أصحابنا من قال: يصح لأنه صادف ملكه فأشبه إذا عقد وهو يعلم أنه ميت. فصل: وإن رهن مبيعاً لم يقبضه نظرت فإن رهنه قبل أن ينقد ثمنه لم يصح الرهن لأنه محبوس بالثمن فلا يملك رهنه كالمرهون فإن رهنه بعد نقد الثمن ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في المبيع قبل القبض كالبيع والثاني يصح وهو المذهب لأن الرهن لا يقتضي الضمان فجاز فيما لم يدخل في ضمانه بخلاف البيع. فصل: وفي رهن الدين وجهان: أحدهما يجوز لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه كالعين والثاني لا يجوز لأنه لا يدري هل يعطيه أم لا وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد. فصل: ولا يجوز رهن المرهون من غير إذن المرتهن لأن ما استحق بعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير إذن من له الحق كبيع ما باعه وإجارة ما أجره وهل يجوز رهنه بدين آخر عند المرتهن فيه قولان: قال في القديم يجوز وهو اختيار المزني لأنه إذا جاز أن يكون مرهوناً بألف ثم يصير مرهوناً بخمسمائة جاز أن يكون مرهوناً بخمسمائة ثم يصير مرهوناً بألف وقال في الجديد لا يجوز لأنه رهن مستحق بدين فلا يجوز رهنه بغيره كما لو رهنه عند غير المرتهن فإن جنى العبد المرهون ففداه المرتهن وشرط على الرهن أن يكون رهناً بالدين والأرش ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو على القولين ومنهم من قال: يصح ذلك قولاً واحداً والفرق بين الأرش وبين سائر الديون أن الأرش متعلق بالرقبة فإذا رهنه به فقد علق بالرقبة ما كان متعلقاً بها وغيره لم يكن متعلقاً بالرقبة فلم يجز رهنه به ولأن في الرهن بالأرش مصلحة للراهن في حفظ ماله وللمرتهن في حفظ وثيقته وليس في رهنه بدين آخر مصلحة ويجوز للمصلحة ما لا يجوز لغيرها والدليل عليه أنه يجوز أن يفتدي للعبد بقيمته في الجناية ليبقى عليه وإن كان لا يجوز أن يشتري ماله بماله. فصل: وفي رهن العبد الجاني قولان واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق: فمنهم من قال القولان في العمد فأما في جناية الخطأ فلا يجوز قولاً واحداً

ومنهم من قال القولان في جناية الخطأ فأما في جناية العمد فيجوز قولاً واحداً ومنهم من قال القولان في الجميع وقد بينا وجوههما في البيع. فصل: ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والطير الطائر لأنه لا يمكن تسليمه ولا بيعه في الدين فلم يصح رهنه. فصل: وما لا يجوز بيعه من المجهول لا يجوز رهنه لأن الصفات مقصودة في الرهن للوفاء بالدين كما أنها مقصودة في البيع للوفاء بلا ثمن فإذا لم يجز بيع المجهول وجب أن لا يجوز رهن المجهول. فصل: وفي رهن الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع قولان: أحدهما لا يصح لأنه عقد لا يصح فيما لا يقدر على تسليمه فلم يجز في الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع كالبيع والثاني أنه يصح لأنه إن كان بدين حال فمقتضاه أن تؤخذ لتباع فيأمن أن تهلك بالعاهة وإن كان بدين مؤجل فتلفت الثمرة لم يسقط دينه وإنما تبطل وثيقته والغرر في بطلان الوثيقة مع بقاء الدين قليل فجاز بخلاف البيع فإن العادة فيه أن يترك إلى أوان الجذاذ فلا يأمن أن يهلك بعاهة فيذهب الثمن ولا يحصل المبيع فيعظم الضرر فلم يجز من غير شرط القطع. فصل: وإن كان له أصول تحمل في السنة مرة بعد أخرى كالتين والقثاء فرهن الحمل الظاهر فإن كان بدين يستحق فيه بيع الرهن قبل أن يحدث الحمل الثاني ويختلط به جاز لأنه يأمن الغرر بالاختلاط وإن كان بدين لا يستحق البيع فيه إلا بعد حدوث الحمل الثاني واختلاطه به نظرت فإن شرط أنه إذا خيف الاختلاط قطعه جاز لأنه منع الغرر بشرط القطع وإن لم يشترط القطع ففيه قولان: أحدهما أن العقد باطل لأنه يختلط بالمرهون غيره فلا يمكن إمضاء العقد على مقتضاه والثاني أنه صحيح لأنه يمكن الفصل عند الاختلاط بأن يسمح الراهن بترك ثمرته للمرتهن أو ينظر كم كان المرهون فيحلف عليه ويأخذ ما زاد فإذا أمكن إمضاء العقد لم يحكم ببطلانه. فصل: ويجوز أن يرهن الجارية دون ولدها لأن الرهن لا يزيل الملك فلا يؤدي إلى التفريق بينهما فإن حل الدين ولم يقبضه بيعت الأم والولد ويقسم الثمن عليهما فما قابل الأم تعلق به حق المرتهن في قضاء دينه وما قابل الولد يكون للراهن لا يتعلق به حق المرتهن. فصل: وفي جواز رهن المصحف وكتب الأحاديث والعبد المسلم عند الكافر طريقان: قال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: فيه قولان كالبيع أحدهما يبطل والثاني

يصح ويجبر على تركه في يد مسلم وقال أبو علي الطبري في الإفصاح يصبح الرهن قولاً واحداً ويجبر على تركه في يد مسلم ويفارق البيع بأن البيع ينتقل فيه إلى الكافر وفي الرهن المرهون باق على ملك المسلم. فصل: فإن شرط في الرهن شرطاً ينافي مقتضاه مثل أن يقول رهنتك على أن لا أسلمه أو على أن لا يباع في الدين أو على أن منفعته لك أو على أن ولده لك فالشرط باطل لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ولو كان مائة شرط1" وهل يبطل الرهن ينظر فيه فإن كان الشرط نقصاناً في حق المرتهن كالشرطين الأولين فالعقد باطل لأنه يمنع المقصود فأبطله وإن كان زيادة في حق المرتهن كالشرطين الآخرين ففيه قولان: أحدهما يبطل الرهن وهو الصحيح لأنه شرط فاسد قارن العقد فأبطله كما لو شرط نقصاناً في حق المرتهن والثاني أنه لا يبطل لأنه شرط جميع أحكامه وزاد فبطلت الزيادة وبقي العقد بأحكامه فإذا قلنا إن الرهن يبطل فإن كان الرهن مشروطاً في بيع فهل يبطل فيه قولان: أحدهما أنه لا يبطل لأنه يجوز شرطه بعد البيع وما جاز شرطه بعد تمام العقد لم يبطل العقد بفساده كالصداق في النكاح والثاني أنه يبطل وهو الصحيح لأن الرهن يترك لأجله جزء من الثمن فإذا بطل الرهن وجب أن يضم إلى الثمن الجزء الذي ترك لأجله وذلك مجهول والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولاً فيصير الثمن مجهولاً والجهل بالثمن يفسد البيع. فصل: ويجوز أن يجعل الرهن في يد المرتهن ويجوز أن يجعل في يد عدل لأن الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه من ذلك فإن كان المرهون أمة لم توضع إلا عند امرأة وعنده محرم لها أو عند من له زوجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان2" فإن جعل الرهن على يد عدل ثم أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره لم يكن له ذلك لأنه حصل عند العدل برضاهما فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد بنقله فإن اتفقا على النقل إلى غيره جاز لأن الحق لهما وقد رضيا فإن مات العدل أو اختل فاختلف الراهن والمرتهن فيمن يكون عنده أو مات المرتهن أو اختل والرهن عنده فاختلف الراهن ومن ينظر في مال المرتهن فيمن يكون الرهن عنده رفع الأمر إلى الحاكم فيجعله عند

_ 1 رواه البخاري في كتاب الشروط باب17، 10. النسائي في كتاب الطلاق باب 31. أحمد في مسنده "6/183". 2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 111، 112. مسلم في كتاب الحج حديث 424. الترمذي في كتاب الرضاع باب 16. أحمد في مسنده "1/222".

عدل فإن جعلا الرهن على يد عدلين فأراد أحد العدلين لأن يجعل الجميع في يد الآخر ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن ما جعل إلى اثنين لم يجز أن ينفرد به أحدهما كالوصية والثاني يجوز لأن في اجتماع الاثنين على حفظه مشقة فعلى هذا اتفقا على أن يكون في يد أحدهما جاز وإن تشاحا نظرت فإن كان مما لا ينقسم جعل في حرز لهما وإن كان مما ينقسم جاز أن يقتسما فيكون عند كل واحد منهما نصفه فإن اقتسما ثم سلم أحدهما حصته إلى الآخر ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لو سلم إليه قبل القسمة جاز فكذلك بعد القسمة والثاني لا يجوز لأنهما لما اقتسما صار كل واحد منهما منفرداً بحصته فلا يجوز أن يسلم ذلك إلى غيره كما لو جعل في يد كل واحد منهما نصفه والله أعلم.

باب مايدخل في الرهن وما لايدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه

باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه ما يحدث في عين الرهن من النماء المتميز كالشجر والثمر واللبن والولد والصوف والشعر لا يدخل في الرهن لما روى روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن الرهن من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه1" والنماء من الغنم فوجب أن يكون له وعن ابن عمر وأبي هريرة مرفوعاً الرهن مجلوب ومركوب ومعلوم أنه لم يرد أنه مجلوب مركوب للمرتهن فدل على أنه أراد به مجلوب ومركوب للراهن

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب الرهون باب 3. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 13.

ولأنه عقد لا يزيل الملك فلم يسر إلى النماء المتميز كالإجارة فإن رهن نخلاً على أن ما يتميز داخل في الرهن أو ماشية على أن تنتج داخل في الرهن فالمنصوص في الأم أن الشرط باطل وقال في الأمالي القديمة لو قال قائل إن الثمرة والنتاج يكون رهناً كان مذهباً ووجهه أنه تابع للأصل فجاز أن يتبعه كأساس الدار والمذهب الأول وهذا مرجوع عنه لأنه رهن مجهول ومعدوم فلم يصح بخلاف أساس الدار فإنه موجود ولكنه شق رؤيته فعفى عن الجهل به وأما النماء الموجود في حال العقد ينظر فيه فإن كان شجراً فقد قال في الرهن لا يدخل فيه وقال في البيع يدخل واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق وقد بيناها في البيوع وإن كان ثمراً نظرت فإن كان ظاهراً كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار لم يدخل في الرهن لأنه إذا لم يدخل ذلك في البيع وهو يزيل الملك فلأن لا يدخل في الرهن وهو لا يزيل الملك أولى وإن كن ثمراً غير ظاهر كالطلع الذي لم يؤبر وما أشبهه من الثمار ففيه من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يدخل فيه قياساً على البيع والثاني لا يدخل فيه وهو الصحيح لأنه لما لم يدخل فيه ما يحدث بعد العقد لم يدخل الموجود حال العقد ومنهم من قال لا يدخل فيه قولاً واحداً ويخالف البيع فإن في البيع ما يحدث بعد العقد ملك للمشتري والحادث بعد العقد لا حق للمرتهن فيه ولأن البيع يزيل الملك فيدخل فيه النماء والرهن لا يزيل الملك فلم يدخل فيه واختلف أصحابنا في ورق التوت والآس وأغصان الخلاف فمنهم من قال: هو كالورق والأغصان من سائر الأشجار فيدخل في الرهن ومنهم من قال: إنها كالثمار من سائر الأشجار فيكون حكمها حكم الثمار وإن كان النماء صوفاً أو لبناً فالمنصوص أنه لا يدخل في العقد وقال الربيع في الصوف قول آخر إنه يدخل فمن أصحابنا من قال فيه قولان ومنهم من قال لا يدخل قولاً واحداً وما قاله الربيع من تخريجه. فصل: ويملك الراهن التصرف في منافع الرهن على وجه لا ضرر فيه على المرتهن كخدمة العبد وسكنى الدار وركوب الدابة وزراعة الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن مجلوب ومركوب" ولأنه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له فبقي على ملكه وتصرفه كخدمة الأمة المزوجة ووطء الأمة المستأجرة وله أن يستوفي ذلك بالإجارة والإعارة وهل له أن يستوفي ذلك بنفسه؟ قال في الأم: له ذلك وقال في الرهن الصغير: لا يجوز فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه لا يأمن أن يجحد فيبطل حق المرتهن والثاني يجوز وهو الصحيح لأن كل منفعة جاز أن يستوفيها بغيره جاز أن

يستوفيها بنفسه كمنفعة غير المرهون ودليل القول الأول يبطل به إذا أكراه من غيره فإنه لا يؤمن أن يجحد ثم يجوز ومنهم من قال إن كان الراهن ثقة جاز لأنه يؤمن أن يجحد وإن كان غير ثقة لم يجز لأنه لا يؤمن أن يجحد وحمل القولين على هذين الحالين. فصل: وأما ما فيه ضرر بالمرتهن فإنه لا يملك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار1" فإن كان المرهون مما ينقل فأراد أن ينتفع به في السفر أو يكريه ممن يسافر به لم يجز لأن أمن السفر لا يوثق به فلا يؤمن أن يؤخذ فيد فيدخل على المرتهن الضرر وإن كان ثواباً لم يملك لبسه لأنه ينقص قيمته وإن كان أمة لم يملك تزويجها لأنه ينقص قيمتها وهل يجوز وطؤها ينظر فإن كانت مما تحبل لم يجز وطؤها لأنه لا يؤمن أن تحبل فتنقص قيمتها وتبطل الوثيقة باستيلادها وإن كانت مما لا تحبل لصغر أو لكبر ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجوز وطؤها لأنا قد أمنا الضرر بالإحبال وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز لأن السن الذي لا تحبل فيه لا يتميز عن السن الذي تحبل فيه مع اختلاف الطباع فمنع من الجميع كما قلنا في شرب الخمر لما لم يتميز ما يسكر مما لا يسكر مع اختلاف الطباع في السكر حرم الجميع فإذا منعنا من الوطء منعنا من الاستخدام لأنه لا يؤمن أن يطأها وإذا لم يمنع من الوطء جاز الاستخدام فإن كان أرضاً فأراد أن يغرس فيها أو يبني لم يجز لأنه يراد للبقاء وينقص به قيمة الأرض عند القضاء فإذا خالف وغرس أو بنى والدين مؤجل لم يقلع في الحال لأنه يجوز أن يقضي الدين من غير الأرض وربما لم تنقص قيمة الأرض مع الغراس والبناء عن الدين فلا يجوز الإضرار بالراهن في الحال لضرر متوهم في ثاني الحال فإن حل الدين ولم يقض وعجزت قيمة الأرض مع الغراس والبناء على قدر الدين قلع فإن أراد أن يزرع ما يضر بالأرض لم يجز وإن لم يضر بالأرض نظرت فإن كان مما يحصد قبل محل الدين جاز وإن كان لا يحصد إلا بعد محل الدين ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه ينقص قيمة الأرض فيستضر به المرتهن والثاني يجوز لأنه ربما قضاه الدين من غير الأرض وربما وفت قيمة الأرض مع الزرع بالدين فلا يمنع منه في الحال وإن أراد أن يؤجر إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها لم يجز له لأنه ينقص قيمة الأرض وقال أبو علي الطبري رحمه الله: فيها قولان كزراعة ما لا يحصد قبل محل الدين وإن كان فحلاً وأراد أن ينزيه

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 17. الموطأ في كتاب الأفضية حديث 31. أحمد في مسنده "5/327".

على الإناث جاز لأنه انتفاع لا ضرر فيه على المرتهن فلم يمنع منه كالركوب فإن كان أنثى أراد أن ينزي عليها الفحل نظرت فإن كانت تلد قبل محل الدين جاز لأنه لا ضرر على المرتهن وإن كان الدين يحل قبل ولادتها وقبل ظهور الحمل بها جاز لأنه يمكن بيعها وإن كان يحل بعد ظهور الحمل فإن قلنا إن الحمل لا حكم له جاز لأنه يباع معها وإن قلنا له حكم لم يجز لأنه خارج من الرهن فلا يمكن بيعه مع الأم ولا يمكن بيع الأم دونه فلم يجز. فصل: ويملك الراهن التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن كودج الدابة وتبزيغها وفصد العبد وحجامته لأنه إصلاح مال من غير إضرار بالمرتهن وإن أراد أن يختن العبد فإن كان كبيراً لم يجز لأنه يخاف منه عليه وإن كان صغيراً نظرت فإن كان في وقت يندمل الجرح فيه قبل حلول الدين جاز وإن كان في وقت يحل الدين قبل اندماله جرحه لم يجز لأنه ينقص ثمنه وإن كانت به أكلة يخاف من تركها ولا يخاف من قطعها جاز أن يقطع وإن كان يخاف من تركها ويخاف من قطعها لم يجز قطعها لأنه جرح يخاف عليه منه فلم يجز كما لو أراد أن يجرحه من غير أكلة وإن كانت ماشية فأراد أن يخرج منها في طلب الكلأ فإن كان الموضع مخصباً لم يجز له ذلك لأنه يغرر به من غير حاجة وإن كان الموضع مجدباً جاز له لأنه موضع ضرورة وإن اختلفا في موضع النجعة فاختار الراهن جهة واختار المرتهن أخرى قدم اختيار الراهن لأنه يملك العين والمنفعة وليس للمرتهن إلا حق الوثيقة فكان تقديم اختياره أولى وإن كان الرهن عبداً فأراد تدبيره جاز لأنه يمكن بيعه في الدين فإن دبره وحل الدين فإن كان له مال غيره لم يكلف بيع المدبر وإن لم يكن له مال غيره بيع منه بقدر الدين وبقي الباقي على التدبير وإن استغرق الدين جميعه بيع الجميع.

فصل: ولا يملك التصرف في العين بما فيه ضرر على المرتهن لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار1" فإن باعه أو وهبه أو جعله مهرا في نكاح أو أجرة في إجارة أو كان عبداً فكاتبه لم يصح لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة فلم يصح من الراهن بنفسه كالفسخ وإن أعتقه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يصح لأنه عقد لا يزيل الملك فلم يمنع صحة العتق كالإجارة والثاني أنه لا يصح لأنه قول يبطل الوثيقة من عين الرهن فلم يصح من الراهن بنفسه كالبيع والثالث وهو الصحيح أنه إن كان موسراً صح وإن كان معسراً لم يصح لأنه عتق في ملكه يبطل به حق غيره فاختلف فيه الموسر والمعسر كالعتق في العبد المشترك بينه وبين غيره فإن قلنا إن العتق يصح فإن كان موسراً أخذت منه القيمة وجعلت رهناً مكانه لأنه أتلف رقه فلزمه ضمانه كما لو قتله وتعتق قيمته وقت الإعتاق لأنه حال الإتلاف ويعتق بنفس اللفظ ومن أصحابنا من قال في وقت العتق ثلاثة أقوال: أحدها بنفس اللفظ والثاني بدفع القيمة والثالث موقوف فإن دفع القيمة حكمنا أنه عتق من حين الإعتاق وإن لم يدفع حكمنا أنه لم يعتق في حال الإعتاق كما قلنا فيمن أعتق شركاً له في عبد أنه يسري وفي وقت السراية ثلاثة أقوال وهذا خطأ لأنه لو كان كالعتق في العبد المشترك لوجب أن لا يصح العتق من المعسر كما لا يسري العتق بإعتاق المعسر في العبد المشترك وإن كان معسراً وجبت عليه القيمة في ذمته فإن أيسر قبل محل الدين طولب بها لتكون رهناً مكانه وإن أيسر في محل الدين طولب بقضاء الدين وإن قلنا إن الحق لا يصح ففكه أو بيع في الدين ثم ملكه لم يعتق عليه ومن أصحابنا من قال يعتق لأنه إنما لم يعتق في الحال الحق المرتهن وقد زال حق المرتهن فنفذ العتق كما لو أحبلها ثم فكها أو بيعت ثم ملكها والمذهب الأول لأنه عتق لم ينفذ في الحال فلم ينفذ بعد ذلك كما لو أعتق المحجور عليه عبده ثم فك عنه

_ 1 المصدر السابق.

الحجر ويخالف الإحبال فإنه فعل وحكم الفعل أقوى من حكم القول ولهذا لو أحبل المجنون جاريته نفذ إحباله وثبت له حق الحرية ولو أعتقها لم يصح وإن قلنا إنه يصح العتق إن كان موسراً ولا يصح إذا كان معسراً فقد بينا حكم الموسر والمعسر وإن كان المرهون جارية فأحبلها فهل ينفذ إحباله أم لا على الأقوال الثلاثة وقد بينا وجوهها في العتق فإن قلنا إنه ينفذ فالحكم فيه كالحكم في العتق وإن قلنا إنه لا ينفذ إحباله صارت أم الولد في حق الراهن لأنه علقت بحر في ملكه وإنما لم ينفذ لحق المرتهن فإن حل الدين وهي حامل لم يجز بيعها لأنها حامل بحر وإن ماتت من الولادة لزمه قيمتها لأنها هلكت بسبب من جهته وفي القيمة التي تجب ثلاثة أوجه: أحدها تجب قيمتها وقت الوطء لأنه وقت سبب التلف فاعتبرت القيمة فيه كما لو جرحها وبقيت ضنيئة إلى أن ماتت والثاني تجب قيمتها أكثر مما كانت من حين الوطء إلى حين التلف كما قلنا فيمن غصب جارية وأقامت في يده ثم ماتت والثالث أنه تجب قيمتها وقت الموت لأن التلف حصل بالموت والمذهب الأول وما قال الثاني لا يصح لأن الغصب موجود من حين الأخذ إلى حين التلف والوطء غير موجود من حين الوطء إلى حين التلف وما قال الثالث يبطل به إذا جرحها ثم ماتت فإن التلف حصل بالموت ثم تجب القيمة وقت الجراحة وإن ولدت نظرت فإن نقصت بالولادة وجب عليه أرش ما نقص وإن حل الدين ولم يقضمه فإن أمكن أن يقضي الدين بثمن بعضها بيع منها بقدر ما يقضي به الدين إن فكها من المرهن أو بيعت وعادت إليه ببيع أو غيره صارت أم ولد له وقال المزني لا تصير كما لا تعتق إذا أعتقها ثم فكها أو ملكها وقد بينا الفرق بين الإعتاق والإحبال فأغنى عن الإعادة. فصل: وإن وقف المرهون ففيه وجهان: أحدهما أنه كالعتق لأنه حق الله تعالى لا يصح إسقاطه بعد ثبوته فصار كالعتق والثاني أنه لا يصح لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلا يصح البيع كالبيع والهبة. فصل: وما منع منه الراهن لحق المرتهن كالوطء والتزويج وغيرهما إذا أذن فيه جاز له فعله لأن المنع لحقه فزال بإذنه وما يبطل لحقه كالبيع والعتق وغيرهما إذا فعله بإذنه صح لأن بطلانه لحقه فصح بإذنه فإن أذن البيع أو العتق ثم رجع قبل أن يبيع أو قبل أن يعتق لم يجز البيع والعتق لأنه بالرجوع سقط الإذن فصار كما لو لم يأذن فإن لم يعلم بالرجوع فباع أو أعتق ففيه وجهان: أحدهما أنه يسقط ويصير كما إذا باع أو أعتق بغير الإذن والثاني أنه لا يسقط الإذن بناء على القولين في الوكيل إذا عزله الموكل ولم يعلم حتى تصرف.

فصل: وإن أذن له في العتق فأعتق أو في الهبة فوهب وأقبض بطل الرهن لأنه تصرف ينافي مقتضى الوثيقة فعله بإذنه فبطلت به الوثيقة فإن أذن له في البيع لم يخل إما أن يكون في دين حال أو في دين مؤجل فإن كان في دين حال تعلق حق المرتهن بالثمن ووجب قضاء الدين منه لأن مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الحق منه وإن كان في دين مؤجل نظرت فإنكان الإذن مطلقاً فباع بطل الرهن وسقط حقه من الوثيقة لأنه تصرف في عين الرهن لا يستحق المرتهن فعله بإذنه فبطل به الرهن كما لو أعتقه بإذنه وإن أذن له في البيع بشرط أن يكون الثمن رهناً ففيه قولان: قال في الإملاء يصح ووجهه أنه لو أذن له في بيعه بعد المحل بشرط أن يكون ثمنه رهناً إلى أن يوفيه جاز وقال في الأم: لا يصح لأن ما يباع به من الثمن مجهول ورهن المجهول لا يصح فإذا بطل الشرط بطل البيع لأنه إنما أذن في البيع بهذا الشرط ولم يثبت الشرط فلم يصح البيع وإن أذن له في البيع بشرط أن يعجل الدين فباع لم يصح البيع وقال المزني يبطل الشرط ويصح العقد لأنه شرط فاسد سبق البيع فلم يمنع صحته كما لو قال لرجل بع هذه السلعة ولك عشر ثمنها وهذا خطأ لأنه إنما أذن له بشرط أن يعجل الدين لم يسلم له فإذا لم يسلم له الشرط بطل الإذن فيصير البيع بغير إذن ويخالف مسألة الوكيل فإن هناك لم يجعل العوض في مقابلة الإذن وإنما جعله في مقابلة البيع وههنا جعل تعجيل الدين في مقابلة الإذن فإذا بطل التعجيل بطل الإذن والبيع بغير إذن المرتهن باطل وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: في هذه المسألة قول آخر أنه يصح البيع ويكون ثمنه رهناً كما لو أذن له في البيع بشرط أن يكون ثمنه رهناً. فصل: وما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف وغيرها فهو على الراهن لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً وعلى الذي يركب ويشرب نفقته1" والذي يركب ويشرب هو الراهن فوجب أن تكون النفقة عليه ولأن الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه وإن احتاج إلى شرب دواء أو فتح عرق فامتنع لم يجبر عليه لأن الشفاء بيد الله تعالى وقد يجيء من غير فصد ولا دواء ويخالف النفقة فإنه لا يبقى دونها فلزمه القيام بها. فصل: وإن جنى العبد المرهون لم يخل إما أن يجني على الأجنبي أو على المولى

_ 1 رواه البخاري في كتاب الرهن باب 4. أبو داود في كتاب البيوع باب 76. الترمذي في كتاب البيوع باب 31. ابن ماجة في كتاب الرهون باب 2. أحمد في مسنده "2/472".

أو على مملوك للمولى فإن كانت الجناية على أجنبي تعلق حق المجني عليه برقبته ويقدم على حق المرتهن لأن حق المجني عليه يقدم على حق المالك فلأن يقدم على حق المرتهن أولى ولأن حق المجني عليه يختص بالعين فلو قدمنا حق المرتهن عليه أسقطنا حقه وحق المرتهن يتعلق بالعين والذمة فإذا قدمنا حق المجني عليه لم يسقط حقه فوجب تقديم حق المجني عليه فإن سقط حق المجني عليه بالعفو أو الفداء بقي حق المرتهن لأن حق المجني عليه لم يبطل الرهن وإنما قدم عليه حق المجني عليه لقوته فإذا سقط حق المجني عليه بقي المرتهن وإن لم يسقط حق المجني عليه نظرت فإن كان قصاصاً في النفس اقتص له وبطل الرهن وإن كان في الطرف اقتص له وبقي الرهن في الباقي وإن كان مالاً وأمكن أن يوفي ببيع بعضه بيع منه ما يقضي به حقه وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه بيع فإن فضل عن حق المجني عليه شيء من ثمنه تعلق به حق المرتهن وإن كانت الجناية على المولى نظرت فإن كان فيما دون النفس اقتص منه إن كان عمداً وإن كان خطأً أو عمداً فعفى عنه على مال لم يثبت له المال وقال أبو العباس: فيه قول آخر أنه يثبت له المال ويستفيد به بيعه وبطل حق المرتهن من الرهن ووجهه أنه من ثبت له القصاص في العمد ثبت له المال في الخطأ كالأجنبي والصحيح هو الأول لأن المولى لا يثبت له المال على عبده ولهذا لو أتلف له مالاً لم يستحق عليه بدله ووجه الأول يبطل بغير المرهون فإنه يجب له القصاص في العمد ولا يجب له المال في الخطأ وإن كانت الجناية على النفس وإن كانت عمداً ثبت للوارث القصاص فإن اقتص بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفى على مال ففيه قولان: أحدهما لا يثبت له المال لأن الوارث قائم مقام المولى والمولى لا يثبت له في رقبة العبد مال فلا يثبت لمن يقوم مقامه والثاني أنه يثبت له لأنه يأخذ المال عن جناية حصلت وهو في غير ملكه فصار كمن جنى على من يملكه المولى وإن كانت الجناية على مملوك للمولى فإن كانت على مملوك غير مرهون فإن كانت الجناية عمداً فللمولى أن يقتص منه وإن كانت خطأ أو عمداً وعفا على مال لم يجز لأن المولى لا يستحق على عبده مالاً وإن كانت الجناية على مملوك مرهون عند مرتهن آخر فإن كانت الجناية عمداً فللمولى أن يقتص منه فإن اقتص بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا على مال ثبت المال لحق المرتهن الذي عنده المجني عليه لأنه لو قتله المولى لزمه ضمانه فإذا قتله عبده تعلق بالضمان برقبته فإن كانت قيمته أكثر من قيمة المقتول وأمكن أن يقضي أرش الجناية ببيع بضعه منه ما يقضي به أرش الجناية ويكون الباقي رهناً فإن لم يمكن إلا ببيع

جميعه وبيع ما فضل من ثمنه يكون رهناً فإن كانت قيمته مثل قيمة المقتول أو أقل منه ففيه وجهان: أحدهما أن ينقل القاتل إلى مرتهن المقتول ليكون رهناً مكانه لأنه لا فائدة في بيعه والثاني أنه يباع لأنه ربما رغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته فيحصل عند كل واحد من المرتهنين وثيقة بدينه وإن كانت الجناية على مرهون عند المرتهن الذي عنده القاتل فإن كانت عمداً فاقتص منه بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفى عنه على مال نظرت فإن اتفق الدينان في المقدار والحلول والتأجيل واتفقت قيمة العبدين ترك على حاله لأنه لا فائدة في بيعه وإن كان الدين الذي رهن به المقتول حالاً والدين الذي رهن به القاتل مؤجلاً بيع لأن في بيعه فائدة وهو أن يقضي الدين الحال فإن اختلف الدينان واتفقت القيمتان نظرت فإن كان الدين الذي ارتهن به القاتل أكثر لم يبع لأنه مرهون بقدر فإذا بيع صار مرهوناً ببعضه وإن كان الدين الذي ارتهن به القاتل أقل نقل فإن في نقله فائدة وهو أن يصير مرهوناً بأكثر من الدين الذي هو مرهون به وهل يباع وينقل ثمنه أو ينقل بنفسه فيه وجهان وقد مضى توجيههما وإن اتفق الدينان بأن كان كل واحد منهما مائة واختلف القيمتان نظر فيه فإن كانت قيمة المقتول أكثر لم يبع لأنه إذا ترك كان رهناً بمائة وإذا بيع كان ثمنه رهناً بمائة فلا يكون في بيعه فائدة وإن كانت قيمة القاتل أكثر بيع منه بقدر قيمة المقتول ويكون رهناً بالحق الذي كان المقتول رهناً به وباقيه على ما كان. فصل: فإن جنى العبد المرهون بإذن المولى نظرت فإن كان بالغاً عاقلاً فحكمه ما لو جنى بغير إذنه في القصاص والأرش على ما بيناه ولا يلحق السيد بالإذن أو الإثم فإنه يأثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعان على قتل مسلم ولو بشرط كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" فإن كان غير بالغ نظرت فإن كان مميزاً يعرف أن طاعة المولى لا تجوز في القتل كان كالبالغ في جميع ما ذكرناه إلا في القصاص فإن القصاص لا يجب على الصبي وإن كان صغيراً لا يميز أو أعجمياً لا يعرف أن طاعة المولى لا تجوز في القتل لم تتعلق الجناية برقبته بل يتعلق حكم الجناية بالمولى فإن كان موسراً أخذ منه الأرش وإن كان معسراً فقد قال الشافعي رحمه الله: يباع العبد في أرش الجناية فمن أصحابنا من حمله على ظاهره وقال يباع لأنه قد باشر الجناية فبيع فيها ومنهم من قال لا يباع لأن القاتل في الحقيقة هو المولى وإنما هو آلة كالسيف وغيره وحمل قول الشافعي رحمه الله على أنه أراد إذا ثبت بالبينة أنه قتله فقال المولى أنا أمرته

فقال يؤخذ منه الأرش إن كان موسراً بحكم إقراره وإن كان معسراً بيع العبد بظاهر البينة والله أعلم. فصل: وإن جنى على العبد المرهون فالخصم في الجناية هو الراهن لأنه هو المالك للعبد ولما يجب من بدله ادعى على رجل أنه جنى عليه فأنكره ولم تكن بينة فالقول قول المدعي عليه مع يمينه فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الراهن فإن نكل فهل ترد اليمين على المرتهن فيه قولان بناء على القولين في المفلس إذا ردت عليه اليمين فنكل فهل ترد على الغريم فيه قولان: أحدهما لا ترد لأنه غير مدع والثاني ترد لأنه ثبت له حق فيما يثبت باليمين فهو كالمالك فإن أقر المدعي عليه أو قامت البينة عليه أو نكل وحلف الراهن أو المرتهن على أحد القولين فإن كانت الجناية موجبة للقود فالراهن بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو فإن اقتص بطل الرهن وإن قال لا أقتص ولاأعفو ففيه وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: للمرتهن إجباره على اختيار القصاص أو أخذ المال لأن له حقاً في بدله فجاز له إجباره على تعيينه وقال أبو القاسم الداركي: إن قلنا إن الواجب بقتل العمد هو القود لم يملك إجباره لأنه إذا ملك إسقاط القصاص فلأن يملك تأخيره أولى وإن قلنا أن الواجب أحد الأمرين أجبر على التعيين لأن له حقاً هو القصاص وللمرتهن حقاً هو المال فلزمه التعيين وإن عفى على مال أو كانت الجناية خطأ وجب الأرش وتعلق حق المرتهن به لأن الأرش بدل عن المرهون فتعلق حق المرتهن به وإن أسقط المرتهن حقه من الوثيقة سقط لأنه لو كان الرهن باقياً فأسقط حقه منه سقط فكذلك إذا أسقط من بدله فإن أبرأ المرتهن الجاني من الأرش لم يصح إبراؤه لأنه لا يملكه فلا ينفذ إبراؤه فيه كما لو كان الراهن باقياً فوهبه وهل يبطل بهذا الإبراء حقه من الوثيقة فيه وجهان: أحدهما يبطل لأن إبراءه تضمن إبطال حقه من الوثيقة فإذا سقط الإبراء بقي ما تضمنه من إبطال الوثيقة والثاني لا يبطل لأن الذي أبطله هو الإبراء والإبراء لم يصح فلم يبطل ما نضمنه فإن أبرأه الراهن من الأرش لم يصح إبراؤه لأنه يبطل حق المرتهن من الوثيقة من غير رضاه فلم يصح كما لوكان الرهن باقياً فأراد أن يهبه فإن أبرأه ثم قضى دين المرتهن أو أبرأه المرتهن منه فهل ينفذ إبراء الراهن للجاني من الأرش فيه وجهان: أحدهما ينفذ لأن المنع منه لحق المرتهن وقد زال حق المرتهن فينفذ إبراء الراهن والثاني أنه لا ينفذ لأنا حكمنا ببطلانه فلا يجوز أن يحكم بصحته بعد الحكم ببطلانه كما لو وهب مال غيره ثم ملكه وإن أراد أن يصالحه عن الأرش على حيوان أو غيره من غير رضا المرتهن لم يجز لأن حق المرتهن يتعلق بالقيمة فلا يجوز إسقاطه إلى بدل من غير رضاه كما لو كان الراهن باقياً فأراد أن يبيعه من غير رضاه فإن

رضي المرتهن بالصلح فصالح على حيوان تعلق به حق المرتهن وسلم إلى من كان عنده الرهن ليكون رهناً مكانه فإن كان مما له منفعة انفرد الراهن بمنفعته وإن كان له نماء انفرد بنمائه كما كان ينفرد بمنفعة أصل الرهن ونمائه فإن كان المرهون جارية فجنى عليها فأسقطت جنيناً ميتاً وجب عليه عشر قيمة الأم ويكون خارجاً من الرهن لأنه بدل عن الولد والولد خارج من الرهن فكان بدله خارجاً منه وإن كانت بهيمة فألقت جنيناً ميتاً وجب عليه ما نقص من قيمة الأم ويكون رهناً لأنه بدل عن جزء من المرهون فإن ألقته حياً ثم مات ففيه قولان: أحدهما يجب عليه قيمة الولد حياً لأنه يمكن تقويمه فيكون للراهن فإن عفى عنه صح عفوه والثاني يجب عليه أكثر الأمرين من قيمته حياً أو ما نقص من قيمة الأم فإن كان قيمته حياً أكثر وجب ذلك للراهن وصح عفوه عنه وإن كان ما نقص من قيمة الأم أكثر كان رهناً. فصل: وإن جنى على العبد المرهون ولم يعرف الجاني فأقر رجل أنه هو الجاني فإن صدقه الراهن دون المرتهن كان الأرش له ولا حق للمرتهن فيه وإن صدقه المرتهن دون الراهن كان الأرش رهناً عنده فإن لم يقضه الراهن الدين استوفى من المرتهن حقه من الأرش فإن قضاه الدين أو أبرأه منه المرتهن رد الأرش إلى المقر. فصل: فإن كان المرهون عصيراً صار في يد المرتهن خمراً زال ملك الراهن عنه وبطل الرهن لأنه صار محرماً لا يجوز التصرف فيه فزال الملك وبطل الرهن كالحيوان إذا مات فإن تخللت عاد الملك فيه لأنه عاد مباحاً يجوز التصرف فيه فعاد الملك فيه كجلد الميتة إذا دبغ ويعود رهناً لأنه عاد إلى الملك السابق وقد كان في الملك السابق رهناً فعاد رهناً فإن كان المرهون حيواناً فمات وأخذ الراهن جلده ودبغه فهل يعود الرهن؟ فيه وجهان: قال أبوعلي ابن خيران: يعود كما لو رهنه عصيراً فصار خمراً ثم صار خلاً وقال أبو إسحاق: لا يعود الرهن لأنه عاد الملك فيه بمعالجة وأمر أحدثه فلم يعد رهناً بخلاف الخمر فإنها صارت خلاً بغير معنى من جهته. فصل: وإن تلف الرهن في يد المرتهن من غير تفريط تلف من ضمان الراهن ولا يسقط من دينه شيء لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يغلق الرهن ممن رهنه ولأنه وثيقة بدين ليس يعوض منه فلم يسقط الدين بهلاكه كالضامن فإن عصب عيناً ورهنها بدين ولم يعلم المرتهن وهلكت عنده من غير تفريط فهل يجوز للمالك أن يغرمه؟ فيه وجهان: أحدهما لا يغرمه لأنه دخل على الأمانة والثاني له أن يغرمه لأنه أخذه من يد ضامنة فإن قلنا إنه يغرمه فغرمه فهل يرجع بما غرم

على الراهن فيه وجهان: أحدهما يرجع لأنه غره والثاني لا يرجع لأنه حصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه فإن بدأ وغرم الراهن فإن قلنا إن المرتهن إذا غرم رجع على الراهن لم يرجع الراهن على المرتهن بما غرمه وإن قلنا إن المرتهن إذا غرم لا يرجع على الراهن رجع عليه الراهن بما غرمه فإن رهن عند رجل عيناً وقال رهنتك هذا إلى شهر فإن لم أعطك مالك فهو لك بالدين فالرهن باطل لأنه وقته والبيع باطل لأنه علقه على شرط فإن ملك العين قبل الشهر لم يضمن لأنه مقبوض بحكم الرهن فلم يضمنه كالمقبوض عن رهن صحيح وإن هلك بعد الشهر ضمنه لأنه مقبوض بحكم البيع فضمنه كالمقبوض عن بيع صحيح.

باب اختلاف المتراهنين

باب اختلاف المتراهنين إذا اختلف المتراهنان فقال الراهن ما رهنتك وقال المرتهن رهنتني فالقول قول الراهن مع يمينه لأن الأصل عدم العقد. فصل: وإذا اختلفا في عين الرهن فقال الراهن فقال رهنتك العبد وقال المرتهن بل رهنتني الثوب فالقول قول الراهن إنه لم يرهن الثوب فإذا حلف خرج الثوب عن أن يكون رهناً بيمينه وخرج العبد عن أن يكون رهناً برد المرتهن. فصل: وإذا اختلفا في قدر الرهن فقال الراهن رهنتك هذا العبد وقال بل رهنتني هذين العبدين فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الرهن إلا فيما أقر به ولأن كل من كان القول قوله إذا اختلفا في أصله كان القول قوله إذا اختلفا في قدره كالزوج في الطلاق فإن رهنه أرضاً وأقبضه ووجد فيه نخيل يجوز أن يكون حدث بعد الرهن ويجوز أن يكون قبله فقال الراهن حدث بعد الرهن فهو خارج من الرهن وقال المرتهن بل كان قبل الرهن ورهنتنيه مع الأرض فالقول قول الراهن قال المزني: القول قول المرتهن لأنه في يده وهذا خطأ لما ذكرناه في العبدين وقوله إنه في يده لا يصح لأن اليد إنما يقدم بها في الملك دون العقد ولهذا لو اختلفا في أصل العقد كان القول قول الراهن وإن كانت العين في يد المرتهن فإن رهن حمل شجرة تحمل حملين وحدث حمل آخر وقلنا إنه يصح العقد فاختلفا في مقدار الحمل الأول فالقول قول الراهن وقال المزني: القول قول المرتهن لأنه في يده وهذا لا يصح لأن الأصل أنه لم يدخل في العقد إلا ما أقر به وأما اليد فقد بينا أنه لا يرجح بها في العقد. فصل: وإن اختلفا في قدر الدين فقال الراهن رهنتك هذا العبد بألف وقال المرتهن بل رهنتنيه بألفين فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الألف فإن قال رهنته

بألف وزادني ألفاً آخر على أن يكون رهناً بالألفين وقال المرتهن بل رهنتني بالألفين وقلنا لا تجوز الزيادة في الدين في رهن واحد ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الراهن لأنهما لو اختلفا في أصل العقد كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في صفته والثاني أن القول قول المرتهن لأنهما اتفقا على صحة الرهن والدين والراهن يدعي أن ذلك كان في عقد آخر والأصل عدمه فكان القول قول المرتهن فإن بعث عبده مع رجل ليرهنه عند رجل بمال ففعل ثم اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن أذنت له في الرهن بعشرة وقال المرتهن بل بعشرين نظرت فإن صدق الرسول الراهن حلف الرسول أنه ما رهن إلا بعشرة ولا يمين على الراهن لأنه لم يعقد وإن صدق الرسول المرتهن فالقول قول الراهن مع يمينه فإذا حلف بقي الرهن على عشرة وعلى الرسول عشرة لأنه أقر بقبضها. فصل: قال في الأم: إذا كان في يد رجل عبد لآخر فقال رهنتنيه بألف وقال السيد بل بعتكه بألف حلف السيد أنه ما رهنه بألف لأن الأصل عدم الرهن ويحلف الذي في يده العبد أنه ما اشتراه لأن الأصل عدم الشراء ويأخذ السيد عبده فإن قال السيد رهنتكه بألف قبضتها منك قرضاً وقال الذي في يده العبد بل بعتنيه بألف قبضتها مني ثمناً حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه لأن الأصل عدم العقد وعلى السيد الألف لأنه مقر بوجوبها فإن قال الذي في يده العبد بعتنيه بألف وقال السيد بل رهنتكه بألف حلف السيد أنه ما باعه فإذا حلف خرج العبد من يده لأن البيع قد زال والسيد معترف بأنه رهن والمرتهن ينكر ومتى أنكر المرتهن الرهن زال الرهن. فصل: وإن اتفقا على رهن عين ثم وجدت العين في يد المرتهن فقال الراهن قبضته بغير إذني وقال المرتهن بل قبضته بإذنك فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الإذن ولأنهما لو اختلفا في أصل العقد والعين في يد المرتهن كان القول قول الراهن فكذلك إذا اختلفا في الإذن فإن اتفقا على الإذن فقال الراهن رجعت في الإذن قبل القبض وقال المرتهن لم ترجع حتى قبضت فالقول قول المرتهن لأن الأصل بقاء الإذن وإن اتفقا على الإذن واختلفا في القبض فقال الراهن لم تقبضه وقال المرتهن بل قبضت فإن كانت العين في يد الراهن فالقول قوله لأن الأصل عدم القبض وإن كان في يد المرتهن فالقول قوله لأنه أذن في قبضه والعين في يده فالظاهر أنه قبضه بحق فكان القول قوله وإن قال رهنته وأقبضته ثم رجع وقال ما كنت أقبضته حلفوه أنه قبض فالمنصوص أنه يحلف وقال أبو إسحاق إن قال وكيلي أقبضه وبان لي أنه لم يكن أقبضه حلف وعليه تأول النص وإن قال أنا أقبضته ثم رجع لم يحلف لأن إقراره المتقدم

يكذبه وقال أبو علي ابن خيران وعامة أصحابنا: إنه يحلف لأنه يمكن صدقه بأن يكون قد وعده بالقبض فأقر به ولم يكن قبض. فصل: وإن رهن عصيراً وأقبضه ثم وجده خمراً في يد المرتهن فقال أقبضتنيه وهو خمر فلي الخيار في فسخ البيع وقال الراهن بل أقبضتكه وهو عصير فصار في يدك خمراً فلا خيار لك ففيه قولان: أحدهما أن القول قول المرتهن وهو اختيار المزني لأن الراهن يدعي قبضاً صحيحاً والأصل عدمه والثاني أن القول قول الراهن وهو الصحيح لأنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا في صفة يجوز حدوثها فكان القول من ينفي الصفة كما لو اختلف البائع والمشتري في عيب بعد القبض وإن اختلفا في العقد فقال المرتهن رهنتنيه وهو خمر وقال الراهن بل رهنتكهه وهو عصير فصار عندك خمراً فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أكثرهم هي على قولين وقال أبو علي ابن أبي هريرة القول قول المرتهن قولاً واحداً لأنه ينكر العقد والأصل عدمه فإن رهن عبداً فأقبضه في محمل أو ملفوفاً في ثوب ووجد ميتاً فقال المرتهن أقبضتنيه وهو ميت فلي الخيار فسخ البيع وقال الراهن أقبضتكه حياً ثم مات عندك فلا خيار لك ففيه طريقان: أحدهما وهو الصحيح أنه على القولين كالعصير والثاني وهو قول أبي علي الطبري أن القول قول المرتهن لأن هذا اختلاف في أصل القبض لأن الميت لا يصح قبضه لأنه لا يقبض إلا ظاهراً بخلاف العصير فإنه يقبض في الظرف والظاهر منه الصحة. فصل: وإن كان لرجل عبد وعليه ألفان لرجلين لكل واحد منهما ألف فادعى كل واحد منهما أنه رهن العبد عنده بدينه والعبد في يد الراهن أو في يد العادل نظرت فإن كذبهما فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الرهن وإن صدقهما وادعى الجهل بالسابق منهما فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف فسخ الرهن الرهن على المنصوص لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فبطل كما لو زوج امرأة وليان من رجلين وجهل السابق منهما ومن أصحابنا من قال: يجعل بينهما نصفين لأنه يجوز أن يكون مرهوناً عندهما بخلاف الزوجة وإن صدق أحدهما وكذب الآخر أو صدقهما وعين السابق منهما فالرهن للمصدق وهل يحلف؟ فيه قولان: أحدهما يحلف والثاني لا يحلف بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو فهل يغرم عمرو شيئاً أم لا فيه وجهان: فإن قلنا لا يغرم لم يحلف لأنه إن نكل لم يغرم فلا فائدة في عرض اليمين وإن قلنا يغرم حلف لأنه ربما نكل فيغرم الثاني قيمته فإن قلنا لا يحلف فلا كلام وإن قلنا يحلف نظرت فإن حلف انصرف الآخر وإن نكل عرضت اليمين على الثاني فإن نكل انصرف وإن حلف

بنينا على القول في يمين المدعي مع نكول المدعي عليه فإن قلنا إنها كالبينة نزع العبد وسلم إلى الثاني وإن قلنا إنه كالإقرار ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه ينفسخ لأنه أقر لهما وجهل السابق منهما والثاني يجعل بينهما لأنهما استويا ويجوز أن يكون مرهوناً عندهما فجعل بينهما والثالث يقر الرهن في يد المصدق ويغرم للآخر قيمته ليكون رهناً عنده لأنه جعل كأنه أقر بأنه حال بينه وبين الرهن فلزمه ضمانه وإن كان العبد في يد أحد المرتهنين نظرت فإن كان في يد المقر له أقر في يده لأنه اجتمع له اليد والإقرار وهل يحلف للثاني على القولين فإن كان في يد الذي لم يقر له فقد حصل لأحدهما اليد وللآخر الإقرار وفيه قولان: أحدهما يقدم الإقرار لأنه يخبر عن أمر باطن والثاني يقدم اليد وهو قول المزني لأن الظاهر معه والأول أظهر لأن اليد إنما تدل على الملك لا على العقد وإن كان في يدهما فللمقر له الإقرار واليد على النصف الآخر له الإقرار وللآخر يد وفيه قولان: أحدهما يقدم الإقرار فيصير الجميع رهناً عند المقر له والثاني يقدم اليد فيكون الرهن بينهما نصفين. فصل: وإن رهن عبداً وأقبضه ثم أقر أنه جنى قبل الرهن على رجل وصدقه المقر لن وأنكر المرتهن ففيه قولان: أحدهما أن القول قول المرتهن وهو اختيار المزني لأنه عقد إذا تم منع البيع فمنع الإقرار كالبيع والثاني أن القول قول الراهن لأنه أقر في ملكه بما لا يجر نفعاً إلى نفسه فقبل إقراره كما لو لم يكن مرهوناً ويخالف هذا إذا باعه لأنه هناك زال ملكه عن العبد فلم يقبل إقراره عليه وهذا باق على ملكه فقبل إقراره عليه فإن قلنا إن القول قول الراهن فهل يحلف؟ فيه قولان: أحدهما لا يحلف لأن اليمين إنما يعرض ليخاف فيرجع إن كان كاذباً والراهن لو رجع لم يقبل رجوعه فلا معنى لعرض اليمين ولأنه أقر في ملكه لغيره فلم يحلف عليه كالمريض إذا أقر بدين والثاني يحلف لأنه يحتمل أن يمون كاذباً بأن واطأ المقر له ليسقط بالإقرار حق المرتهن فحلف فإذا ثبت أنه رهنه وهو جان ففي رهن الجاني قولان: أحدهما أنه باطل والثاني أنه صحيح وقد بينا ذلك في أول الرهن فإن قلنا إنه باطل وجب بيعه في أرش الجناية فإن استغرق الأرش قيمته بيع الجميع وإن لم يستغرق بيع منه بقدر الأرش وفي الباقي وجهان: أحدهما أنه مرهون لأنه إنما حكم ببطلانه لحق المجني عليه وقد زال والثاني أنه لا يكون مرهوناً لأنا حكمنا ببطلان الرهن من أصله فلا يصير مرهوناً من غير عقد وإن قلنا إنه صحيح فإن استغرق الأرش قيمته بيع الجميع وإن لم يستغرق بيع منه بقدر الأرش

ويكون الباقي مرهوناً فإن اختار السيد أن يفديه على هذا القول فبكم يفديه؟ فيه قولان: أحدهما يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية والثاني يفديه بأرش الجناية بالغاً أو يسلم المبيع فإن قلنا إن القول قول المرتهن لم يقبل قوله من غير يمين لأنه لو رجع قبل رجوعه فحلف فإذا ثبت أنه غير جان فهل يغرم الراهن أرش الجناية ففيه قولان بناء على فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو: أحدهما يغرم لأنه منع بالرهن حق المجني عليه والثاني لا يغرم لأنه إن كان كاذباً فلا حق عليه وإن كان صادقاً وجب تسليم العبد فإن قلنا إنه لا يغرم فرجع إليه تعلق بالأرش برقبته كما لو أقر على رجل أنه أعتق عبده ثم ملك العبد فإنه يعتق عليه وإن قلنا يغرم فبكم يغرم؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالقسم قبله ومنهم من قال يغرم أقل الأمرين قولاً واحداً لأن القول الثاني إنما يجيء في الموضع الذي يمكن بيعه فيمتنع وههنا لا يمكن بيعه فصار كجناية أم الولد وإن نكل المرتهن عن اليمين فعلى من ترد اليمين؟ فيه طريقان: أحدهما ترد على الراهن وإن نكل فهل ترد على المجني عليه فيه قولان كما قلنا في غرماء الميت ومن ومن أصحابنا من قال ترد اليمين على المجني عليه أولا ًفإن نكل فهل ترد على الراهن على قولين لأنه المجني عليه يثبت الحق لنفسه وغرماء الميت يثبتون الحق للميت. فصل: وإن أعتق الراهن العبد ثم اختلفا فقال الراهن أعتقته بإذنك وأنكر المرتهن الإذن فالقول قوله لأن الأصل عدم الإذن فإن نكل عن اليمين حلف الراهن وإن نكل الراهن فهل ترد على العبد؟ فيه طريقان: أحدهما أنه على قولين بناء على رد اليمين على غرماء الميت قال في الجديد: لا ترد لأنه غير المتراهنين فلا ترد عليه اليمين وقال في القديم: ترد لأنه يثبت لنفسه حقاً باليمين ومن أصحابنا من قال ترد اليمين على العبد قولاً واحداً لأن العبد يثبت باليمين حقاً لنفسه وهو العتق خلاف غرماء الميت. فصل: وإن كان المرهون جارية فادعى الراهن أنه وطئها بإذن المرتهن فأتت بولد لمدة الحمل وصدقه المرتهن ثبت نسب الولد وصارت الجارية أم ولد وإن اختلفا في الإذن أو في الولد أو في مدة الحمل فأنكر المرتهن شيئاً من ذلك فالقول قوله لأن الأصل في هذه الأشياء العدم. فصل: فإن كان عليه ألف برهن وألف بغير رهن فدفع إليه ألفاً ثم اختلفا نظرت فإن اختلفا في اللفظ فادعى المرتهن أنه قال هي عن الألف التي لا رهن بها وقال الراهن بل قلت هي عن الألف التي بها رهن فالقول قول الراهن لأنه منه ينتقل إلى المرتهن

فكان القول قوله في صفة النقل وإن اختلفا في النية فقال الراهن نويت أنها عن الألف التي بها الرهن وقال المرتهن بل نزيت أنها عن الألف التي لا رهن بها فالقول قول الراهن لما ذكرناه في اللفظ ولأنه أعرف بنيته وإن دفع إليه الألف من غير لفظ ولا نية ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يصرفه إلى ما شاء منهما كما لو طلق إحدى المرأتين وقال أبو علي بن أبي هريرة يجعل بينهما نصفين لأنهما استويا في الوجوب فصرف القضاء إليهما. فصل: وإن أبرأ المرتهن الراهن عن الألف ثم اختلفا نظرت فإن اختلفا في اللفظ فادعى الراهن أنه قال أبرأتك عن الألف التي بها رهن وقال المرتهن بل قلت أبرأتك من الألف التي لا رهن بها فالقول قول المرتهن لأنه هو الذي يبرئ فكان القول في صفة الإبراء قوله فإن اختلفا في النية فقال الراهن نويت الإبراء عن الألف التي بها الرهن وقال المرتهن نويت الإبراء عن الألف التي لا رهن بها فالقول قول المرتهن لما ذكرناه في اللفظ ولأنه أعرف بنيته فإن أطلق صرفه إلى ما شاء منهما في قول أبي إسحاق وجعل بينهما في قول أبي علي بن أبي هريرة. فصل: وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين فكان القول قوله في الهلاك كالمودع وإن ادعى الرد لم يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعة نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر. فصل: وإن كان الرهن على يد عدل قد وكل في بيعه فاختلفا في النقد الذي يبيع به باعه بنقد البلد فإن كان في البلد نقدان متساويان باع بما هو أنفع للراهن لأنه ينفع الراهن ولا يضر المرتهن فوجب به البيع فإن كانا في النفع واحداً فإن كان أحدهما من جنس الدين باع به لأنه أقرب إلى المقصود وهو قضاء الدين فإن لم يكن واحد منهما من جنس الدين باع بأيهما شاء لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر ثم يصرف الثمن في جنس الدين.

باب التفليس

باب التفليس إذا كان على رجل دين فإن كان مؤجلاً لم يجز مطالبته لأنا لو جوزنا مطالبته سقطت فائدة التأجيل فإن أراد سفراً قبل محل الدين لم يكن للغريم منعه ومن أصحابنا من قال إن كان السفر مخوفاً كان له منعه لأنه لا يأمن أن يموت فيضيع دينه والصحيح

هو الأول لأنه لا حق له عليه قبل محل الدين وجواز أن يموت لا يمنع من التصرف في نفسه قبل المحل كما يجوز في الحضر أن يهرب ثم لا يملك حبسه لجواز الهرب وإن قال أقم لي كفيلاً بالمال لم يلزمه لأنه لم يحن عليه الدين فلم يملك المطالبة بالكفيل كما لو لم يرد السفر وإن كان الدين حالاً نظرت فإن كان معسراً لم يجز مطالبته لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ولا يملك ملازمته لأن كل دين لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدين المؤجل فإن كان يحسن صنعة فطلب الغريم أن يؤجر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك لأنه إجبار على التكسب فلم يجز الإجبار على التجارة وإن كان موسراً جازت مطالبته لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فدل على أنه إذا لم يكن ذا عسرة لم يجب إنظاره فإن لم يقضه ألزمه الحاكم فإن امتنع فإن كان له مال ظاهر باعه عليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه أن يقال سبق الحاج فإدان معرضاً فأصبح وقدرين به فمن له دين فليحضر فإنا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه وإن كان له مال كتمه حبسه وعزره حتى يظهره فإن ادعى الإعسار نظرت فإن لم يعرف له قبل ذلك مال فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم المال فإن عرف له مال لم

يقبل قوله لأنه معسر إلا ببينة لأن الأصل بقاء المال فإن قال غريمي يعلم أني معسر أو أن مالي هلك فحلفوه حلف لأن ما يدعيه محتمل فإن أراد أن يقيم البينة على هلاك المال قبل فيه شهادة عدلين فإن أراد أن يقيم البينة على الإعسار لم يقبل إلا بشهادة عدلين من أهل الخبرة والمعرفة بحاله لأن الهلاك يدركه كل أحد والإعسار لا يعلمه إلا من يخبر باطنه فإن أقام البينة على الإعسار وادعى الغريم أن له مالاً باطناً فطلب اليمين عليه ففيه قولان: أحدهما لا يحلف لأنه أقام البينة على ما ادعاه فلا يحلف كما لو ادعى ملكاً وأقام عليه البينة والثاني يحلف لأن المال الباطن يجوز خفاؤه على الشاهدين فجاز عرض اليمين فيه عند الطلب كما لو أقام عليه البينة بالدين وادعى أنه أبرأه منه وإن وجد في يده مال فادعى أنه لغيره نظرت فإن كذبه المقر له بيع في الدين لأن الظاهر أنه له وإن صدقه سلم إليه فإن قال الغريم أحلفوه لي أنه صادق في إقراره ففيه وجهان: أحدهما يحلف لأنه يحتمل أن يكون كاذباً في إقراره والثاني لا يحلف وهو الصحيح لأن اليمين تعرض ليخاف فيرجع عن الإقرار ولو رجع عن الإقرار لم يقبل رجوعه فلا معنى لعرض اليمين. فصل: وإن ركبته الديون ورفعه الغرماء إلى الحاكم وسألوه أن يحجر عليه نظر الحاكم في ماله فإن كان له مال يفي الديون لم يحجر عليه لأنه لا حاجة به إلى الحجر بل يأمره بقضاء الدين على ما بيناه فإن كان ماله لا يفي بالديون حجر عليه وباع ماله عليه لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئاً فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين فكلم النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيئ وروى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ماله وإن كان ماله بالديون إلا أنه ظهرت عليه أمارة التفليس بأن زاد خرجه على دخله ففيه وجهان: أحدهما لا يحجر عليه لأنه مليء بالدين فلا يحجر عليه كما لو لم يظهر فيه أمارة الفلس والثاني يحجر عليه لأنه إذا لم يحجر عليه أتى الخرج على ماله فذهب ودخل على الغرماء.

_ "1"رواه ابن ماجة في كتاب الديات باب 1.

فصل: والمستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس حاله فلا يعاملوه إلا على بصيرة فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء بماله ومنع من التصرف فيه فإن اقترض أو اشترى في ذمته شيئاً صح لأنه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت في ذمته ومن باع أو أقرضه بعد الحجر لم يشارك الغرماء في ماله لأنه إذا علم بالحجر فقد دخل على بصيرة وإن ديون الغرماء متعلقة بماله وإن لم يعلم فقد فرط حين دخل في معاملته على غير بصيرة فلزمه الصبر إلى أن يفك عنه الحجر فإن تصرف في المال بالبيع والهبة والعتق ففيه قولان: أحدهما أنه صحيح موقوف لأنه حجر ثبت لحق الغرماء فلم يمنع من صحة التصرف في المال كالحجر على المريض والثاني لا يصح وهو الصحيح لأنه حجر ثبت بالحاكم فمنع من التصرف في المال كالحجر على السفيه ويخالف حجر المريض لأن الورثة لا تتعلق حقوقهم بماله إلا بعد الموت وههنا حقوق الغرماء تعلقت بماله في الحال فلم يصح تصرفه فيه كالمرهون فإن قلنا يصح تصرفه وقف فإن وفى ماله بالدين نفذ تصرفه وإن لم يف فسخ لأنا جوزنا تصرفه رجاء أن تزيد قيمة المال أو يفتح عليه بما يقضي به الدين فإذا عجز فسخ كما نقول في هبة المريض قال أصحابنا وعلى هذا ينقض من تصرفه الأضعف فالأضعف فأضعفها الهبة لأنه لا عوض فيه ثم البيع لأنه يلتقه الفسخ ثم العتق لأنه أقوى التصرفات ويحتمل عندي أنه يفسخ الآخر فالآخر كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها الثلث. فصل: قال الشافعي رحمه الله: ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فله إجازة البيع ورده فمن أصحابنا من حمل هذا على ظاهره وقال له أن يفعل ما يشاء لأن الحجر إنما يؤثر في عقد مستأنف وهذا عقد سبق الحجر فلم يؤثر الحجر وقال أبو إسحاق: إن كان الحظ في الرد لم يجز وإن كان في الإجازة لم يرد لأن الحجر يقتضي طلب الحظ فإن طرأ في بيع الخيار أوجب طلب الحظ كما لو باع بشرط الخيار ثم جن فإن الولي لا يفعل إلا ما فيه الحظ من الرد والإجازة ومن أصحابنا من قال إن قلنا إن المبيع انتقل بنفس العقد لم يجب الرد وإن كان الحظ في الرد لأن الملك قد انتقل فلا يكلف رده وحمل قول الشافعي رحمه الله على هذا القول وإن قلنا إن المبيع لم ينتقل أو موقوف لزمه الرد إن كان الحظ في الرد لأن المبيع على ملكه فلا يفعل إلا ما فيه الحظ. فصل: وإن وهب هبة تقتضي الثواب وقلنا إن الثواب مقدر بما يرضي به الواهب ثم أفلس فله أن يرضىي بما شاء لأنا لو ألزمناه أن يطلب الفضل لألزمناه أن يكتسب والمفلس لا يكلف الاكتساب. فصل: وإن أقر بدين لزمه قبل الحجر لزم الإقرار في حقه وهل يلزم في حق

الغرماء فيه قولان: أحدهما لا يلزم لأنه متهم لأنه ربما واطأ المقر له ليأخذ ما أقر به ويرد عليه والثاني أنه يلزمه وهو الصحيح لأنه يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر فلزم في حق الغرماء كما لو ثبت بالبينة وإن ادعى عليه رجل مالاً وأنكر ولم يحلف وحلف المدعي فإن قلنا إن يمين المدعي مع نكول المدعي عليه كالبينة شارك الغرماء في المال وإن قلنا كالإقرار فعلى القولين في الإقرار وإن أقر لرجل بعين لزمه الإقرار في حقه وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان: أحدهما لا يلزم والثاني يلزم وتسلم العين إلى المقر له ووجه القولين ما ذكرناه في الإقرار بالدين. فصل: وإن جنى على رجل جناية توجب المال وجب قضاء الأرش من المال لأنه حق لزمه بغير رضى من له الحق فوجب قضاؤه من المال وإن جنى عليه جناية توجب لمال تعلق حق الغرماء بالأرش كما يتعلق بسائر أمواله. فصل: وإن ادعى على رجل مالاً وله شاهد فإن حلف استحق وتعلق به حق الغرماء وإن لم يحلف فهل تحلف الغرماء أم لا؟ قال في التفليس لا يحلفون وقال في غرماء الميت إذا لم يحلف الوارث مع الشاهد ففيه قولان: أحدهما يحلفون والثاني لا يحلفون فمن أصحابنا من نقل أحد القولين من غرماء الميت إلى غرماء المفلس فجعل فيهما قولين: أحدهما يحلفون لأن المال إذا ثبت استحقوه والثاني لا يحلفون لأنهم يحلفون لإثبات المال لغيرهم وذلك لا يجوز ومن أصحابنا من قال لا تحلف غرماء المفلس ومن غرماء الميت قولان لأن الميت لم يمتنع من اليمين فحلف غرماؤه والمفلس امتنع من اليمين فلم تحلف غرماؤه ولأن غرماء الميت أيسوا من يمين الميت فحلفوا وغرماء المفلس لم ييأسوا من يمين المفلس فلم يحلفوا وإن حجر عليه وعليه دين مؤجل فهل يحل؟ فيه قولان: أحدهما يحل لأن الدين تعلق بالمال فحل الدين المؤجل كما لو مات والثاني لا يحل وهو الصحيح لأنه يملك التصرف في الذمة فلم يحل عليه الدين كما لو لم يحجر عليه. فصل: وإن لم يكن له كسب ترك ما يحتاج إليه للنفقة إلى أن يفك الحجر عنه ويرجع إلى الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول1" فقدم حق نفسه على حق العيال وهو دين فدل على أنه يقدم على كل دين ويكون الطعام على ما جرت به عادته ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة من غير إسراف ولا إجحاف لأن الحاجة إلى الكسوة

_ 1 رواه الدارمي في كتاب الزكاة باب 21. مسلم في كتاب الزكاة حديث 95، 97. أبو داود في كتاب الزكاة باب 39، 40.

كالحاجة إلى القوت فإن كان له من تلزمه نفقته من زوجة أو قريب ترك لهم ما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة بالمعروف لأنهم يجرون مجراه في النفقة والكسوة ولا تترك له دار ولا خادم لأنه يمكنه أن يكترى داراً يسكنها وخادماً يخدمه وإن كان له كسب جعلت نفقته في كسبه لأنه لا فائدة في إخراج ماله في نفقته وهو يكتسب ما ينفق. فصل: وإذا أراد الحاكم بيع ماله فالمستحب أن يحضره لأنه أعرف بثمن ماله فإن لم يكن من يتطوع بالنداء استؤجر من ينادي عليه من سهم المصالح لأن ذلك من المصالح فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق فإن لم يكن سهم المصالح اكترى من مال المفلس لأنه يحتاج إليه لإيفاء ما عليه فكان عليه ويقدم على سائر الديون لأن في ذلك مصلحة له ويباع كل شيء في سوقه لأن أهل السوق أعرف بقيمة المتاع ومن يطلب السلعة في السوق أكثر ويبدأ بما يسرع إليه الفساد لأنه إذا أخر ذلك هلك وفي ذلك إضرار وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" ثم في بالحيوان لأنه يحتاج إلى علف ويخاف عليه التلف ويتأنى بالعقار لأنه إذا تأنى به كثر من يطلبه ولا يتأنى به أكثر من ثلاثة أيام لأن فيما زاد إضراراً بالغرماء في تأخير حقهم فإن كان في المال رهن أو عبد تعلق الأرض برقبته بيع في حق المرتهن والمجني عليه لأن حقهما يختص بالعين فقدم وإن بيع له متاع وقبض ثمنه فهلك الثمن واستحق المبيع رجع المشتري بالعهدة في مال المفلس وهل يقدم على سائر الغرماء روى المزني أنه يقدم وروى الربيع أنه أسوة الغرماء فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يقدم لأن في تقدمه المصلحة فإنه متى لم يقدم تجنب الناس شراء ماله خوفاً من الاستحقاق فإذا قدم رغبوا في شراء ماله والثاني إنه أسوة الغرماء لأن هذا دين تعلق بذمته بغير رضى من له الحق فضرب به مع الغرماء كأرش الجناية ومنهم من قال إن لم يفك الحجر عنه قدم لأن فيه مصلحة له وإن فك الحجر عنه كسائر الغرماء وحمل رواية الربيع على هذا. فصل: وإن كان في الغرماء من باع منه شيئاً قبل الإفلاس ولم يأخذ من ثمنه شيئاً ووجد عين ماله على صفته ولم يتعلق به حق غيره فهو بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ البيع ويرجع في عين ماله لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع سلعة ثم أفلس صاحبها فوجدها بعينها فهو أحق بها من الغرماء1" وهل يفتقر الفسخ إلى إذن الحاكم فيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يفسخ إلا

_ 1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 74. ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 26.

بإذن الحاكم لأنه مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كفسخ النكاح بالإعسار والنفقة وقال أبو القاسم الداركي لا يفتقر إلى الحاكم لأنه فسخ ثبت بنص السنة فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد فإن حكم حاكم بالمنع من الفسخ فقد قال أبو سعيد الإصطخري ينقص حكمه لأنه حكم مخالف لنص السنة ويحتمل أن لا ينقض لأنه مختلف فيه فلم ينقض وهل يكون الفسخ على الفور أو على التراخي؟ فيه وجهان: أحدهما أنه على التراخي لأنه خيار لا يسقط إلى بدل فكان على التراخي كخيار الرجوع في الهبة والثاني أنه على الفور لأنه خيار ثبت لنقص في العوض فكان على الفور كخيار الرد بالعيب وهل يصح الفسخ بالوطء في الجارية؟ فيه وجهان: أحدهما يصح كما يصح الفسخ في الوطء في خيار الشرط والثاني أنه لا يصح لأنه ملك مستقر فلا يجوز رفعه بالوطء وإن قال الغرماء نحن نعطيك الثمن ولا نفسخ لم يسقط حقه من الفسخ لأنه ثبت له حق الفسخ فلم يسقط ببدل العوض كالمشتري إذا وجد بالسلعة عيباً وبذل له البائع الأرش. فصل: وإن كان قد باعه بعد الإفلاس ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يفسخ لأنه باعه قبل وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت امرأة بفقير ثم أعسر بالنفقة والثاني أنه ليس له أن يفسخ لأنه باعه مع العلم بخراب ذمته فسقط خياره كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها. فصل: وإن وجد المبيع وقد قبض من الثمن بعضه رجع بحصة ما بقي من الثمن لأنه إذا رجع بالجميع إذا لم يقبض جميع الثمن رجع في بعضه إذا لم يقبض بعض الثمن وإن كان المبيع عبدين متساويي القيمة وباعهما بمائة وقبض من الثمن خمسين ثم مات أحد العبدين وأفلس المشتري فالمنصوص في التفليس إنه يأخذ الباقي بما بقي من الثمن ونص في الصداق إذا أصدقها عبدين فتلف أحدهما ثم طلقها قبل الدخول على قولين: أحدهما أنه يأخذ الموجود بنصف الصداق مثل قوله في التفليس والثاني أنه نصف الموجود ونصف قيمة التالف فمن أصحابنا من نقل هذا القول إلى البيع وقال فيه قولان: أحدهما أنه يأخذ نصف الموجود ويضرب مع الغرماء بنصف ثمن التالف وهو اختيار المزني رحمه الله لأن البائع قبض الخمسين من ثمنه وما قبض من ثمنه لا يرجع به والثاني أنه يأخذ الموجود بما بقي لأن ما أخذه جميعه لدفع الضرر إذا كان باقياً أخذ الباقي إذا هلك بعضه كالشقص في الشفعة ومن أصحابنا من قال: يأخذ البائع الموجود بما بقي من الثمن قولاً واحداً وفي الصداق قولان والفرق بينهما أن البائع إذا رجع

بنصف الموجود ونصف بدل التالف لم يصل إلى كمال حقه لأن غريمه مفلس والزوج إذا رجع بنصف الموجود ونصف قيمة التالف وصل إلى جميع حقه لأن الزوجة موسرة فلم يجز له الرجوع بجميع الموجود بنصف المهر. فصل: وإن وجد البائع عين ماله وهو رهن لم يرجع به لأن حق المرتهن سابق لحقه فلم يملك إسقاطه بحقه فإن أمكن أن يقضي حق المرتهن ببيع بعضه بيع منه بقدر حقه ويرجع البائع بالباقي لأن المنع كان لحق المرتهن وقد زال. فصل: وإن كان المبيع شقصاً تثبت فيه الشفعة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الشفيع أحق لأن حقه سابق فإنه يثبت بالعقد وحق البائع ثبت بالحجر فقدم حق الشفيع والثاني أن البائع أحق لأنه إذا أخذ الشفيع الشقص زال الضرر عنه وحده وإذا أخذه البائع زال الضرر عنهما لأن البائع يرجع إلى عين ماله والشفيع يتخلص من ضرر المشتري فيزول الضرر عنهما والثالث أنه يدفع الشقص إلى الشفيع ويؤخذ منه ثمنه ويدفع إلى البائع لأن في ذلك جمعاً بين الحقين وإذا أمكن الجمع بين الحقين لم يجز إسقاط أحدهما. فصل: وإن كان المبيع صيداً والبائع محرم لم يرجع فيه لأنه تمليك فلم يجز مع الإحرام كشراء الصيد. فصل: وإن وجد عين ماله ودينه مؤجل وقلنا إن الدين المؤجل لا يحل وديون الغرماء حالة فالمنصوص أن يباع المبيع في الديون الحالة لأنها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل ومن أصحابنا من قال لا يباع بل يوقف إلى أن يحل فيختار البائع الفسخ أو الترك وإليه أشار في الإملاء لأن بالحجر تتعلق الديون بماله فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل فلا يباع في الديون الحالة. فصل: وإن وجد المبيع وقد باعه المشتري ورجع إليه ففيه وجهان: أحدهما له أن يرجع فيه لأنه وجد رأس ماله خالياً من حق غيره فأشبه إذا لم يبعه والثاني لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه. فصل: وإن وجد المبيع ناقصاً نظرت فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن كعبدين تلف أحدهما أو نخلة مثمرة تلفت ثمرتها فالبائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ البيع فيما بقي بحصته من الثمن ويضرب مع الغرماء بثمن ما تلف لأن البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن كما يستحق المشتري المبيع في يد البائع بالثمن ثم المشتري إذا وجد أحد العينين في يد البائع والآخر هالكاً كان بالخيار بين أن يترك الباقي ويطالب بجميع الثمن وبين أن يأخذ الموجود بثمنه ويطالب بثمن التالف

فكذلك البائع وإن كان المبيع نخلاً مع ثمرة مؤبرة فهلكت الثمرة قوم النخل مع الثمرة ثم يقوم بلا ثمرة ويرجع بما بينهما من الثمن وتعتبر القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض فإن كانت قيمته وقت العقد أقل قوم وقت العقد لأن الزيادة حدثت في ملك المشتري فلا تقوم عليه وإن كان في وقت القبض أقل قوم في وقت القبض لأن ما نقص لم يقبضه المشتري فلم يضمنه فإن كان نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن كذهاب يد وتأليف دار نظرت فإن لم يجب لها أرش بأن أتلفها المشتري أو ذهبت بآفة سماوية فالبائع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه ويضرب بالثمن مع الغرماء كما تقول فيمن اشترى عبداً فذهبت يده أو داراً فذهب تأليفها في يد البائع فإن المشتري بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه ويرجع بالثمن فإن وجب لها أرض بأن أتلفها أجنبي فالبائع بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يأخذ ويضرب بما نقص من الثمن لأن الأرش في مقابلة جزء كان البائع يستحقه فاستحق ما يقابله كما نقول فيمن اشترى عبداً فقطع الأجنبي يده أنه بالخيار بين أن يتركه ويرجع بالثمن وبين أن يأخذه ويطالب الجاني بالأرش غير أن المشتري يرجع على الجاني بقيمة اليد لأنها تلفت في ملكه فوجب له البدل والبائع يرجع بحصة اليد من الثمن لأنها تلفت في ملك المفلس فوجب الأرش له فيرجع البائع عليه بالحصة من الثمن لأن المبيع مضمون إلى المفلس بالثمن فإن كان المبيع نخلاً عليه طلع غير مؤبر فهلكت الثمرة ثم أفلس بالثمن فرجع البائع في النخل ففيه وجهان: أحدهما يأخذها بجميع الثمن لأن الثمرة تابعة للأصل في البيع فلم يقابلها قسط من الثمن والثاني يأخذها بقسطها من الثمن ويضرب بحصة الثمرة مع الغرماء لأن الثمرة يجوز إفرادها بالبيع فصارت مع النخل بمنزلة العينين. فصل: وإن وجد المبيع زائداً نظرت فإن كانت زيادة غير متميزة كالسمن والكبر واختار البائع الفسخ رجع في المبيع مع الزيادة لأنها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب وإن كان المبيع حباً فصار زرعاً أو زرعاً فصار حباً أو بيضاً فصار فرخاً ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع به لأن الفرخ غير البيض والزرع غير الحب والثاني يرجع - وهو المنصوص - لأن الفرخ والزرع عين المبيع وإنما تغيرت صفته فهو كالودي إذا صار نخلاً والجدي إذا صار شاة وإن كانت الزيادة متميزة نظرت فإن كانت ظاهرة كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار رجع فيه دون الزيادة لأنه نماء طاهر متميز حدث في ملك المشتري فلم يتبع الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب، فإن اتفق المفلس

والغرماء على قطعها قطع وإن اتفقوا على تركها إلى الجداد ترك لأنه ملك أحدهما وحق الآخر وإن دعا أحدهما إلى قطعها والآخر إلى تركها وجب القطع لأن من دعا إلى القطع تعجل حقه فلا يؤخر بغير رضاه وإن كانت الزيادة غير ظاهرة كطلع غير مؤبر وما أشبهه من الثمار ففيه قولان: روى الربيع أنه يرجع في النخل دون الطلع لأن الثمرة ليست عين ماله فلم يرجع بها وروى المزني أنه يرجع لأنه يتبع الأصل في البيع فتبعه في الفسخ كالثمن والكبر فإذا قلنا بهذا فأفلس وهو غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يرجع في الثمرة لأنها أبرت وهي في ملك المفلس فإن اختلف البائع والمفلس فقال البائع رجعت فيه قبل التأبير فالثمرة لي وقال المفلس رجعت بعد التأبير فالثمرة لي فالقول قول المفلس لأن الأصل بقاء الثمرة على ملكه فإن لم يحلف المفلس فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان وقد مضى دليلهما فإن كذبوه فحلف واستحق وأراد أن يفرقه على الغرماء ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يلزمهم قبوله لأنهم أقروا أنه أخذ بغير حق والثاني يلزمهم قبوله أو الإبراء من الدين وعليه نص في المكاتب إذا حمل إلى المولى نجماً فقال المولى هو حرام أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه منه فإن صدقه بعضهم وكذبه البعض فقد قال الشافعي رحمه الله: يفرق ذلك فيمن صدقه دون من كذبه فمن أصحابنا من قال لا يجوز أن يفرقه إلا على من صدقه لأنه لا حاجة به إلى دفع ذلك إلى من يكذبه وقال أبو إسحاق إذا اختار المفلس أن يفرق على الجميع جاز كما يجوز إذا كذبوه وحمل قول الشافعي رحمه الله إذا اختار أن يفرق فيمن صدقه وإن قال البائع رجعت قبل التأبير فالثمرة لي فصدقه المفلس وكذبه الغرماء ففيه قولان: أحدهما يقبل قول المفلس لأنه غير متهم والثاني لا يقبل لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يقبل إقراره فيه فإذا قلنا بهذا فهل يحلف الغرماء؟ فيه طريقان: فمن أصحابنا من قال هي على القولين كما قلنا في القسم قبله ومنهم من قال يحلفون قولاً واحداً لأن اليمين ههنا توجهت عليهم ابتداء وفي القسم قبله توجهت اليمين على المفلس فلما نكل نقلت إليهم. فصل: وإن كان المبيع جارية فحبلت في ملك المشتري نظرت فإذا أفلس بعد الوضع رجع في الجارية دون الولد كما قلنا في الرد بالعيب ولا يجوز التفرق بين الأم والولد فإما أن يرد البائع قيمة الولد فيأخذه مع الأم أو تباع الأم والولد فيأخذ البائع ثمن الأم ويأخذ المفلس ثمن الولد ومن أصحابنا من قال إما أن يزن قيمة الولد فيأخذه مع الأم وإما أن يسقط حقه من الرجوع والمذهب الأول لأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره فثبت له الرجوع وإن أفلس قبل الوضع فإن قلنا لا حكم للحمل رجع فيهما لأنه

كالسمن وإن قلنا إن الحمل له حكم رجع في الأم دون الحمل لأنه كالحمل المنفصل فإن باعها وهي حبلى ثم أفلس المشتري نظرت فإن أفلس قبل الوضع رجع فيهما وإن أفلس بعد الوضع فإن قلنا للحمل حكم رجع فيهما لأنهما كعينين باعهما وإن قلنا لا حكم للحمل رجع في الأم دون الحمل لأنه نماء تميز في ملك المشتري فلم يرجع فيه البائع ولا يفرق بين الأم والولد على ما ذكرناه. فصل: وإن كان المبيع طعاماً فطحنه المشتري أو ثوباً فقصره ثم أفلس نظرت فإن لم تزد قيمته بذلك واختار البائع الرجوع رجع فيه ولا يكون المشتري شؤيكاً له بقدر عمله لأن عمله قد استهلك ولم يظهر له أثر وإن زادت قيمته بأن كانت عشر قيمته فصارت قيمته خمسة عشر ففيه قولان: أحدهما أن البائع يرجع فيه ولا يكون المشتري شريكاً له بقدر ما عمل فيه وهو قول المزني لأنه لم يضف إلى المبيع عيناً وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة وفي القصارة أظهر بياضاً كان كامناً في الثوب فلم يصر شريكاً للبائع في العين كما لو كان المبيع جوزاً فكسره ولأنه زيادة لا تتميز فلم يتعلق بها حق المفلس كما لو كان المبيع غلاماً فعلمه أو حيواناً فسمنه والثاني أن المشتري يكون شريكاً للبائع بقدر ما زاد بالعمل ويكون حكم العمل حكم العين وهو الصحيح لأنها زيادة حصلت بفعله فصار شريكاً كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه ولأن القصار يملك حبس العين لقبض الأجرة كما يملك البائع حبس المبيع لقبض الثمن فدل على أن العمل كالعين بخلاف كسر الجوز وتعلين الغلام وتسمين الحيوان فإن الأجير على هذه الأشياء لا يملك حبس العين لقبض الأجرة فعلى هذا يباع الثوب فيصرف ثلث الثمن إلى الغرماء والثلثان إلى البائع وإن كان قد استأجر المشتري من قصر الثوب وطحن الطعام ولم يدفع إليه الأجرة دفع الأجرة إلى الأجير من ثمن الثوب لأن الزيادة حصلت بفعله فقضى حقه من بدله. فصل: وإن اشترى من رجل ثوباً بعشرة ومن آخر صبغاً بخمسة فصبغ به الثوب ثم أفلس نظرت فإن لم تزد ولم تنقص بأن صار قيمة الثوب خمسة عشر فقد وجد كل واحد من البائعين عين ماله فإن اختار الرجوع صار الثوب بينهما لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث وإن نقص فصار قيمة الثوب اثني عشر فقد وجد بائع الثوب عين ماله ووجد بائع الصبغ بعض ماله لأن النقص دخل عليه بهلاك بعضه فإن اختار الرجوع كان لبائع الثوب عشرة ولبائع الصبغ درهمان ويضرب بما هلك من ماله وهو ثلاثة مع الغرماء وإن زاد فصار يساوي الثوب عشرين درهماً بنينا على القولين في أن

زيادة القيمة بالعمل كالعين أم لا فإن قلنا أنها ليست كالعين حصلت الزيادة في مالهما فيسقط بينهما على الثلث والثلثين لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث وإن قلنا إنها كالعين كانت الزيادة للمفلس فيكون شريكاً للبائعين بالربع. فصل: وإن كان المبيع أرضاً فبناها أو غرسها فإذا أنفق المفلس والغرماء على قلع البناء والغراس ثبت للبائع الرجوع في الأرض لأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره فجاز له الرجوع فإن رجع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزم المفلس تسوية الأرض وأرش نقص إن حدث بها من القلع لأنه نقص حصل لتخليص ماله ويقدم ذلك على سائر الديون لأنه يجب لإصلاح ماله فقدم ذلك كعلف البهائم وأجرة النقال وإن امتنعوا من القلع لم يجبروا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق1" وهذا غرس وبناء بحق فقال البائع أنا أعطي قيمة الغراس والبناء وآخذه مع الأرض أو قلع وأضمن أرش النقص ثبت له الرجوع لأنه يرجع في عين ماله من غير إضرار وإن امتنع المفلس والغرماء من القلع وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص فقد روى المزني فيه قولين: أحدهما أنه يرجع والثاني أنه لا يرجع فمن أصحابنا من قال إن كانت قيمة الغراس والبناء أقل من قيمة الأرض فله أن يرجع لأن الغراس والبناء تابع فلم يمنع الرجوع وإن كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الأرض لم يرجع لأن الأرض صارت كالتبع للغراس والبناء وحمل القولين على هذين الحالين وذهب المزني وأبو العباس وأبو إسحاق إلى أنها على قولين: أحدهما يرجع لأنه وجد عين ماله مشغولاً بملك المفلس فثبت له الرجوع كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه المفلس بصبغ من عنده والثاني لا يرجع لأنه إذا رجع في الأرض بقي الغراس والبناء من غير طريق ومن غير شرب فيدخل الضرر على المفلس والضرر لا يزال بالضرر فإن قلنا إنه يرجع وامتنع البائع عن بذل العوض وأرش النقص وامتنع المفلس والغرماء من القلع فهل يجبر البائع على البيع؟ فيه قولان: أحدهما يجبر لأن الحاجة تدعوا إلى البيع لقضاء الدين فوجب أن يباع كما يباع الصبغ مع الثوب وإن لم يكن الصبغ له ويباع ولد المرهونة مع الرهن وإن لم يدخل في الرهن والثاني لا يجبر لأنه لايمكن إفراد كل واحد منهما بالبيع ولا يجبر على بيعها مع الغراس والبناء. فصل: وإن كان المبيع أرضاً فزرعها المشتري ثم أفلس واختار البائع الرجوع في

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحرث باب 15. أبو داود في كتاب الإمارة باب 37. الترمذي في كتاب الأحكام باب 38. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 26. أحمد في مسنده "5/327".

الأرض جاز له لأنه وجد عين ماله مشغولاً بما ينقل فجاز له الرجوع فيه كما لو كان المبيع داراً وفيها متاع للمشتري فإن رجع في الأرض نظرت في الزرع فإن استحصد وجب نقله وإن لم يستحصد جاز تركه إلى أوان الحصاد من غير أجرة لأن زرعه في ملكه فإذا زال الملك جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد من غير أجرة كما لو زرع أرضه ثم باع الأرض. فصل: وإن كان المبيع من ذوات الأمثال كالحبوب والأدهان فخلطه بجنسه نظرت فإن خلطه بمثله كان للبائع أن يرجع لأن عين ماله موجود من جهة الحكم ويملك أخذه بالقسمة فإن رجع واتفقا على القسمة قسم ودفع إليه مثل مكيلته فإن طلب البائع البيع فهل يجبر المفلس فيه وجهان: أحدهما لا يجبر لأنه تمكن القسمة فلا يجبر على البيع كالمال بين الشريكين والثاني يجبر لأنه إذا بيع وصل البائع إلى بدل ماله بعينه وإذا قسم لم يصل إلى جميع ماله ولا إلى بدله وإن خلطه بأردأ منه فله أن يرجع لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فملك أخذه بالقسمة وكيف يرجع فيه وجهان: قال أبو إسحاق يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لأنه إن أخذ مثل زيته بالكيل كان ذلك أنقص من حقه وإن أخذ أكثر من زيته كان ربا فوجب البيع والثاني وهو المنصوص أنه يأخذ مثل زيته بالكيل لأنه وجد عين ماله ناقصاً فرجع فيه مع النقص كما لو كان عين ماله ثوباً فحدث به عيب عند المشتري فإن خلطه بأجود منه ففيه قولان: أحدهما يرجع وهو قول المزني لأنه وجد عين ماله مختلطاً بما لايتميز عنه فأشبه إذا خلطه بمثله أو كان ثوباً فصبغه والثاني أنه لا يرجع لأن عين ماله غير موجود حقيقة لأنه اختلط بما لا يمكن تمييزه منه حقيقة ولاحكماً لأنه لا يمكن المطالبة بمثل مكيلته منه ويخالف إذا خلطه بمثله لأنه تمكن المطالبة بمثل مكيلته ويخالف الثوب إذا صبغه لأن الثوب موجود وإنما تغير لونه فإن قلنا إنه يرجع فكيف يرجع فيه قولان: أحدهما يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لأنه لا يمكن أن يأخذ مثل زيته بالكيل لأنه يأخذ أكثر من حقه ولا يمكن أن يأخذ أقل من زيته بالكيل لأنه ربا فوجب البيع والثاني يرجع من الزيت بقيمة مكيلته فيكون قد أخذ بعض حقه وترك بعضه باختياره. فصل: وإن أسلم إلى رجل في شيء وأفلس المسلم إليه وحجر عليه فإن كان رأس المال باقياً فله أن يفسخ العقد ويرجع إلى عين ماله لأنه وجد عين ماله خالياً من حق غيره فرجع إليه كالمبيع وإن كان رأس المال تالفاً ضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه فإن لم يكن في ماله الجنس المسلم فيه اشترى ودفع إليه لأن أخذ العوض عن المسلم فيه

لا يجوز وقال أبو إسحاق: إذا أفلس المسلم إليه فللمسلم أن يفسخ العقد ويضرب مع الغرماء برأس المال لأنه يتعذر تسليم المسلم فيه فثبت الفسخ كما لو أسلم في الرطب فانقطع والمذهب أنه لا يثبت الفسخ لأنه غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ بالإفلاس كما لو باعه عيناً فأفلس المشتري بالثمن والعين تالفة ويخالف إذا أسلم وانقطع الرطب لأن الفسخ هناك لتعذر المعقود عليه قبل التسليم وههنا الفسخ بالإفلاس والفسخ بالإفلاس إنما يكون لمن وجد عين ماله وهذا غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ. فصل: وإن أكرى أرضاً فأفلس المكتري بالأجرة فإن كان قبل استيفاء شيء من المنافع فله أن يفسخ لأن المنافع في الإجارة كالأعيان المبيعة في البيع ثم إذا أفلس المشتري والعين باقية ثبت له الفسخ فكذلك إذا أفلس المكتري والمنافع باقية وجب أن يثبت له الفسخ وإن أفلس وقد استوفى بعض المنافع وبقي البعض ضرب مع الغرماء بحصة ما مضى وفسخ فيما بقي كما لو ابتاع عبدين وتلف عنده أحدهما ثم أفلس فإنه يضرب بثمن ما تلف مع الغرماء ويفسخ البيع فيما بقي فإن فسخ وفي الأرض زرع لم يستحصد نظرت فإن اتفق الغرماء والمفلس على تبقيته بأجرة إلى وقت الحصاد لزم المكري قبوله لأن زرع بحق وقد بذل له الأجرة لما بقي فلزمه قبوله وإن لم يبذل له الأجرة جاز له المطالبة بقطعه لأن التبقية إلى الحصاد لدفع الضرر عن المفلس والغرماء والضرر لا يزال بالضرر وفي تبقيته من غير عوض إضرار بالمكري وإن دعا بعضهم إلى القطع وبعضهم إلى التبقية نظرت فإن كان الزرع لا قيمة له في الحال كالطعام في أول ما يخرج من الأرض لم يقطع لأنه إذا قطع لم يكن له قيمة وإذا ترك صار له قيمة فقدم قول من دعا إلى الترك وإن كان له قيمة كالقصيل الذي يقطع ففيه وجهان: أحدهما يقدم قول من دعا إلى القطع لأن من دعا إلى القطع تعجل حقه فلم يؤخر والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يفعل ما هو أحظ والأول أظهر. فصل: إذا قسم مال المفلس بين الغرماء ففي حجره وجهان: أحدهما يزول الحجر لأن المعنى الذي لأجله حجر عليه حفظ المال على الغرماء وقد زال ذلك فزال الحجر كالمجنون إذا أفاق والثاني لا يزول إلا بالحاكم لأنه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل إلا بالحاكم كالحجر على المبذر. فصل: ومن مات وعليه ديون تعلقت الديون بماله كما تتعلق بالحجر في حياته فإن كان عليه دين مؤجل حل الدين بالموت لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الرجل وله دين إلى أجل وعليه دين إلى أجل فالذي عليه حال

والذي له إلى أجله" ولأن الأجل جعل رفقاً بمن عليه الدين والرفق بعد الموت أن يقضي دينه وتبرأ ذمته والدليل عليه ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن مرتهنة في قبره بدينه إلى أن يقضى عنه". فصل: فإن تصرف الوارث في التركة قبل مضي الدين ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه مال تعلق به دين فلا يصح التصرف فيه من غير رضى من له الحق كالمرهون والثاني يصح لأنه حق تعلق بالمال من غير رضى المالك فلم يمنع التصرف كمال المريض وإن قلنا إنه يصح فإن قضى الوارث الدين نفذ تصرفه وإن لم يقضي فسخنا وإن باع عبداً ومات وتصرف الوارث في التركة ثم وجد المشتري بالعبد عيباً فرده أو وقع في بئر كان حفرها بهيمة في تصرف الورثة وجهان: أحدهما أنه يصح لأنهم تصرفوا في ملك لهم لا يتعلق به حق أحد والثاني يبطل لأنا تبينا أنهم تصرفوا والدين متعلق بالتركة فإن كان في غرماء الميت من باع شيئاً ووجد عين ماله فإن لم تف التركة بالدين فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في رجل أفلس هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه1" فإن كانت التركة تفي بالدين ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أن له أن يرجع في عين ماله لحديث أبي هريرة والثاني لا يجوز أن يرجع في عين ماله وهو المذهب لأن المال يفي بالدين فلم يجز الرجوع في المبيع كالحي المليء وحديث أبي هريرة قد روى فيه أبو بكر النيسابوري وإن خالف وفاء فهو أسوة الغرماء. فصل: إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين الغرماء ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه لأنا إنما قسمنا بينهم بحكم الظاهر إنه لا غريم له غيرهم فإذا بان بخلاف ذلك وجب نقض القسمة كالحاكم إذا حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه وإن أكرى رجل داره سنة وقبض الأجرة وتصرف فيها ثم أفلس وقسم ماله بين الغرماء ثم انهدمت الدار في أثناء المدة فإن المكتري يرجع على المفلس بأجرة ما بقي وهل يشارك الغرماء فيما اقتسموا به أم لا؟ ففيه وجهان: أحدهما لا يشاركهم لأنه دين وجب بعد القسمة فلم يشارك به الغرماء فيما اقتسموا كما لو استقرض مالا ًبعد القسمة والثاني يشاركهم لأنه دين وجب بسبب قبل الحجر فشارك به الغرماء

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 26.

كما لو انهدمت الدار قبل القسمة ويخالف القرض لأنه دينه لا يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر وهذا استند إلى ما قبل الحجر ولأن المقرض لا يشارك الغرماء في المال قبل القسمة والمكتري يشاركهم في المال قبل القسمة فشاركهم بعد القسمة.

باب الحجر

باب الحجر إذا ملك الصبي أو المجنون مالاً حجر عليه في ماله والدليل عليه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فدل على أنه لا يسلم إليه مال قبل البلوغ والرشد. فصل: وينظر في ماله الأب ثم الجد لأنها ولاية على حق الصغير فقدم الأب والجد فيهما على غيرهما كولاية النكاح فإن لم يكن أب ولا جد نظر فيه الوصي لأنه نائب عن الأب والجد فقدم على غيره وإن لم يكن وصي نظر السلطان لأن الولاية من جهة القرابة قد سقطت فثبتت للسلطان كولاية النكاح وقال أبو سعيد الإصطخري: فإن لم يكن أب ولا جد نظرت الأم لأنها أحد الأبوين فثبت لها الولاية في المال كالأب والمذهب إنه لا ولاية لها لأنها ثبتت بالشرع فلم تثبت للأم كولاية النكاح. فصل: ولا يتصرف الناظر في ماله إلا على النظر والاحتياط ولا يتصرف إلا فيما فيه حظ واغتباط فأما ما لا حظ فيه كالعتق والهبة والمحاباة فلا يملكه لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 165] ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار"

وفي هذه التصرفات إضرار بالصبي فوجب أن لا يملكه ويجوز أن يتجر في ماله لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولى يتيماً وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة1". فصل: ويبتاع له العقار لأنه يبقى وينتفع بغلته ولا يبتاع إلا من مأمون لأنه إذا لم يكن مأموناً لم يأمن أن يبيع مالاً يملكه ولا يبتاعه في موضع أشرف على الخراب أو يخاف عليه الهلاك لأن في ذلك تغريراً بالمال ويبنى له العقار ويبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن والجص لأن الآجر يبقى واللبن يهلك والجص يجحف به والطين لا ثمن له والجص يتناثر ويذهب ثمنه والطين لا يتناثر وإن تناثر فلا ثمن له ولأن الآجر لا يتخلص من الجص إذا أراد نقضه ويتلف عليه ويتخلص من الطين فلا يتلف عليه ولا يبيع له العقار إلا في موضعين: أحدهما أن تدعو إليه الضرورة بأن يفتقر إلى النفقة وليس له مال غيره ولم يجد من يقرضه والثاني أن يكون له في بيعه غبطة وهو أن يطلب منه بأكثر من ثمنه فيباع له ويشتري ببعض الثمن مثله لأن البيع في هذين الحالين فيه حظ وفيما سواهما لا حظ فيه فلم يجز وإن باع العقار وسأل الحاكم أن يسجل له نظر فإن باعه الأب أو الجد سجل له لأنهما لا يتهمان في حق الولد وإن كان غيرهما لم يسجل حتى يقيم بينة على الضرورة أو الغبطة لأنه تلحقه للتهمة فلم يسجل له من غير بينة فإن بلغ الصبي وادعى أنه باع من غير ضرورة ولا غبطة فإن كان الولي أباً أو جداً فالقول قوله وإن كان غيرهما لم يقبل إلا ببينة لما ذكرناه من الفرق فإن بيع في شركته شقص فإن كان الحظ في أخذه بالشفعة لمن يترك وإن كان الحظ في الترك لم يأخذ لأن بينا أن تصرفه على النظر والاحتياط فلا يفعل إلا ما يقتضي النظر والاحتياط. فإن ترك الشفعة

_ 1 رواه الموطأ في كتاب الزكاة حديث 12.

والحظ في تركها ثم بلغ الصبي وأراد أن يأخذ فالمنصوص أنه لا يملك ذلك لأن ما فعل الولي مما فيه نظر لا يملك الصبي نقضه كما لو أخذوا الحظ في الأخذ فبلغ وأراد أن يرد من أصحابنا من قال: له أن يأخذ لأنه يملك بعد البلوغ التصرف فيما فيه حظ وفيما لا حظ فيه وقد بلغ فجاز أن يأخذ وإن لم يكن فيه حظ وهذا خطأ لأن له أن يتصرف فيما لا حظ فيه إذا كان باقياً وهذا قد سقط بعفو الولي فسقط فيه اختياره فإن بلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطة فالحكم فيه كالحكم في بيع العقار وقد بيناه. فصل: ولا يبيع ما له بنسيئة من غير غبطة فإن كانت السلعة تساوي مائة نقداً ومائة وعشرين نسيئة فباعها بمائة نسيئة فالبيع باطل لأنه باع بدون الثمن وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة من غير رهن لم يصح البيع لأنه غرر بالمال فإن باع بمائة نقداً وعشرين مؤجلاً وأخذ بالعشرين رهناً جاز لأنه لو باعها بمائة نقداً جاز فلأن يجوز وقد زاده عشرين أولى وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ به رهناً ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه أخرج ماله من غير عوض والثاني يجوز وهو ظاهر النص وقول أبي إسحاق لأنه باع بربح واستوثق بالرهن فجاز. فصل: ولا يكاتب عبده ولو كان بأضعاف القيمة لأنه يأخذ العوض من كسبه وهو مال له فيصير كالعتق من غير عوض. فصل: ولا يسافر بماله من غير ضرورة لأن فيه تغريراً بالمال ويروى "إن المسافر وماله على قلت" أي على هلاك وفيه قول الشاعر: بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الباز مقلاة نزور فصل: فإن دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك في الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به لأن السفر ههنا أحوط. فصل: ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة لأنه يخرجه من يده فلم يجز فإن خاف من نهب أو حريق أو غرق أو أراد سفراً وخاف عليه جاز له الإيداع والإقراض فإن قدر على الإيداع دون الإقراض أودع ولا يودع إلا ثقة وإن قدر على الإقراض دون الإيداع أقرضه ولا يقرضه إلا ثقة ملياً لأن غير الثقة يجحد وغير الملى لا يمكن أخذ البدل منه فإن أقرض ورأى أخذ الرهن عليه أخذ وإن رأى ترك الرهن لم يأخذ وإن قدر على الإيداع والإقراض فالإقراض أولى لأن القرض مضمون بالبدل والوديعة غير

مضمونة فكان القرض أحوط فإن ترك الإقراض وأودع ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يجوز كل واحد منهما فإذا قدر عليهما تخير بينهما والثاني لا يجوز لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] والاقراض ههنا أحسن فلم يجز تركه ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة ويرهن ماله عليه لأن في ذلك مصلحة له فجاز. فصل: وينفق عليه بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] وإن رأى أن يخلط ماله بماله في النفقة جاز لقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فإن بلغ الصبي واختلفا في النفقة فإن كان الولي الأب أو الجد فالقول قوله وإن كان غيرهما ففيه وجهان: أحدهما يقبل لأن في إقامة البينة على النفقة مشقة فقبل قوله والثاني لا يقبل قوله كما لا يقبل في دعوى الضرر والغبطة في بيع العقار. فصل: وإن أراد أن يبيع ماله بماله فإن كان أباً أو جداً جاز ذلك لأنهما لا يتهمان في ذلك لكمال شفقتهما وإن كان غيرهما لم يجز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشتري الوصي من مال اليتيم" ولأنه متهم في طلب الحظ له في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه. فصل: وإن أراد أن يأكل من ماله نظرت فإن كان غنياً لم يجز لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وإن كان فقيراً جاز أن يأكل لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وهل يضمن البدل فيه قولان: أحدهما لا يضمن لأنه أجير له الأكل بحق الولاية فلم يضمنه كالرزق الذي يأكله الإمام من أموال المسلمين

والثاني أنه يضمن لأنه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره. فصل: ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فأما البلوغ فإنه يحصل بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الإنزال والسن والإنبات واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحبل فأما الإنزال فهو إنزال المني فمتى أنزل صار بالغاً والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] فأمرهم بالاستئذان بعد الاحتلام فدل على أنه بلوغ وروى عطية القرظي قال: عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن قريظة فمن كان محتلماً أو نبتت عانته قتل فلو لم يكن بالغاً لما قتل وأما السن فهو أن يستكمل خمس عشرة سنة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة فرآني بلغت فأجازني وأما الإنبات فهو الشعر الخشن الذي ينبت على العانة وهو بلوغ في حق الكافر والدليل عليه ما روى عطية القرظي قال: كنت فيمن حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه فشكوا في أمن الذرية أنا أم من المقاتلة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انظروا فإن كان قد أنبت وإلا فلا تقتلوه" فنظروا فإذا عانتي لم تنبت فجعلوني في الذرية ولم أقتل وهل هو بلوغ في نفسه أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان: أحدهما أنه بلوغ فعلى هذا هو بلوغ في حق المسلم لأن ما كان بلوغاً في حق الكافر كان بلوغاً في حق المسلم كالاحتلام والسن والثاني أنه دلالة على البلوغ فعلى هذا هل يكون دلالة في حق المسلم وفيه وجهان: أحدهما أنه دلالة لما روى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاماً من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر رضي الله عنه فلم يجده أنبت فقال: لو أنبت الشعر لحددتك والثاني أنه ليس بدلالة في حق المسلم وهو ظاهر النص لأن المسلمين يمكن الرجوع إلى أخبارهم فلم يجعل ذلك دلالة في حقهم والكفار لا يمكن

الرجوع إلى أخبارهم فجعل ذلك دلالة في حقهم ولأن الكافر لا يستفيد بالبلوغ إلا وجوب الحرية ووجوب القتل فلا يتهم في مداواة العانة بما ينبت الشعر والمسلم يستفتد بالبلوغ التصرف والكمال بالأحكام فلا يؤمن أن يداوي العانة بما ينبت الشعر فلم يجعل ذلك دلالة في حقه فأما الحيض فهو بلوغ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما "إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى الوجه والكف فعلق وجوب الستر بالمحيض وذلك تكليف فدل على أنه بلوغ يتعلق به التكليف وأما الحبل فهو دليل على البلوغ فإذا حبلت حكمنا بأنها بالغ لأن الحبل لا يكون إلا بإنزال الماء فدل على البلوغ فإذا كانت المرأة لها زوج فولدت حكمنا بأنها بالغ من قبل الوضع بستة أشهر لأن ذلك أقل مدة الوضع وإن كانت مطلقة وأتت بولد يلحق الزوج حكمنا بأنها بالغ من قبل الطلاق وإن كانت خنثى فخرج المني من ذكره أو الدم من فرجه لم يحكم بالبلوغ لجواز أن يكون ذلك من العضو الزائد فإن خرج المني من الذكر والدم من الفرج فقد بلغ لأنه إذا كان رجلاً فقد أمنى وإن كان امرأة فقد حاضت. فصل: فأما إيناس الرشد فهو إصلاح الدين والمال فإصلاح الدين أن لا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة وإصلاح المال أن يكون حافظاً لماله غير مبذر ويختبره الولي اختبار مثله من تجارة إن كان تاجراً أو تناء إن كان تانئاً أو إصلاح أمر البيت إن كان امرأة واختلف أصحابنا في وقت الاختبار فمنهم من قال لا يختبر في التجارة إلا بعد البلوغ لأن قبل البلوغ لا يصح تصرفه فلا يصح اختباره ومنهم من قال يختبر قبل البلوغ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فأمر باختبار اليتامى وهم الصغار فعلى هذا كيف يختبر؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يسلم إليه المال فإذا ساوم وقرر الثمن عقد الولي لأن عقد الصبي لا يصح والثاني أنه يتركه حتى يعقد لأن هذا موضع ضرورة.

فصل: وإن بلغ مبذراً استديم الحجر عليه لأن الحجر عليه إنما يثبت للحاجة إليه لحفظ المال والحاجة قائمة مع التبذير فوجب أن يكون الحجر باقياً وإن بلغ مصلحاً للمال فاسقاً في الدين استديم الحجر عليه لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] والفاسق لم يؤنس منه الرشد ولأن حفظه للمال لا يوثق به مع الفسق لأنه لا يؤمن أن يدعوه الفسق إلى التبذير فلم يفك الحجر عنه ولهذا لم تقبل شهادته وإن كان معروفاً بالصدق لأنا لا نأمن أن يدعوه الفسق إلى الكذب وينظر في ماله من كان ينظر في حال الصغر وهو الأب والجد والوصي والحاكم لأنه حجر ثبت من غير قضاء فكان النظر إلى من ذكرنا كالحجر على الصبي والمجنون. فصل: وإن بلغ مصلحاً للدين والمال فك عنه الحجر لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وهل يفتقر فك الحجر إلى الحاكم فيه وجهان: أحدهما لا يفتقر إلى الحاكم لأنه حجر ثبت من غير حكم فزال من غير حكم كالحجر على المجنون والثاني أنه يفتقر إلى الحاكم لأنه يحتاج إلى نظر واختبار فافتقر إلى الحاكم كفك الحجر عن السفيه. فصل: وإن فك عنه الحجر ثم صار مبذراً حجر عليه لما روي أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ابتاع أرضاً سبخة بستين ألفاً فقال عثمان: ما يسرني أن تكون لي بنعلي معاً فبلغ ذلك علياً كرم الله وجهه وعزم أن يسأل عثمان أن يحجر عليه فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير وذكر أن علياً يريد أن يسأل عثمان رضي الله عنهما أن يحجر عليه فقال الزبير أنا شريكك فجاء علي إلى عثمان رضي الله عنهما وسأله أن يحجر عليه فقال كيف أحجر على من شريكه الزبير فدل على جواز الحجر لأن كل معنى اقتضى الحجر إذا قارن البلوغ اقتضى الحجر إذا طرأ بعد البلوغ كالجنون فإن فك عنه الحجر ثم صار فاسقاً ففيه وجهان: قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر لأنه معنى يقتضي الحجر عند البلوغ فاقتضى الحجر بعده كالتبذير وقال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر لأن الحجر للفسق لخوف التبذير وتبذير الفاسق ليس بيقين فلا يزال به ما تيقنا من حفظه للمال ولا يعاد عليه الحجر بالتبذير إلا بالحاكم لأن علياً كرم الله وجهه أتى عثمان رضي الله عنه وسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر ولأن العلم بالتبذير يحتاج إلى

نظر، فإن الغبن قد يكون تبذيراً وقد يكون غير تبذير ولأن الحجر للتبذير مختلف فيه فلا يجوز إلا بالحاكم فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم لأنه حجر ثبت بالحاكم فصار هو الناظر كالحجر في المفلس ويستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس بحاله وأن من عامله ضيع ماله فإن أقرضه رجل مالاً أو باع منه متاعاً لم يملكه لأنه محجور عليه لعدم الرشد فلم يملك بالبيع والقرض كالصبي والمجنون فإن كانت العين باقية ردت وإن كانت تالفة لم يجب ضمانها لأن المالك إن علم بحاله فقد دخل على بصيرة وأن ماله ضائع وإن لم يعلم فقد فرط حين ترك الاستظهار ودخل في معاملته على غير معرفة وإن غصب مالاً وأتلفه وجب عليه ضمانه لأن حجر العبد والصبي آكد من حجره ثم حجر العبد والصبي لا يمنع من وجوب ضمان المتلف فلأن لا يمنع حجر المبذر أولى فإن أودعه مالاً فأتلفه ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجب ضمانه لأنه فرط في التسليم إليه والثاني يجب ضمانه لأنه لم يرض بالإتلاف فإن أقر بمال لم يقبل إقراره لأنه حجر عليه لحظه فلا يصح إقراره بالمال كالصبي ولأنا لو قلنا يصح إقراره وصل بالإقرار إلى إبطال معنى الحجر وما لا يلزمه بالإقرار والابتياع لا يلزمه إذا فك عنه الحجر لأنا أسقطنا حكم الإقرار والابتياع لحفظ المال فلو قلنا إنه يلزمه إذا فك عنه الحجر لم يؤثر الحجر في حفظ المال وإن طلق امرأته صح الطلاق لأن الحجر لحفظ المال والطلاق لا يضيع المال بل يتوفر المال عليه وإن خالع جاز لأنه إذا صح الطلاق بغير مال فلأن يصح بالمال أولى ولا يجوز للمرأة أن تدفع إليه المال فإن دفعته لم يصح القبض ولم تبرأ المرأة منه فإن تلف كان ذلك من ضمانها وإن تزوج من غير إذن الولي فالنكاح باطل لأنه يجب به المال فإذا صححنا من غير إذن الولي تزوج من غير حاجة فيؤدي إلى إتلاف المال فإن تزوج بإذنه صح لأن الولي لا يأذن إلا في موضع الحاجة فلا يؤدي إلى إتلاف ماله فإن باع ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن كالنكاح والثاني لا يصح لأن القصد منه المال وهو محجور عليه في المال فإن حلف انعقدت يمينه فإذا حنث كفر بالصوم لأنه مكلف ممنوع من التصرف بالمال فصحت يمينه وكفر بالصوم كالعبد وإن أحرم بالحج صح إحرامه لأنه من أهل العبادات فإن كان فرضاً لم يمنع من إتمامه ويجب الإنفاق عليه إلى أن يفرغ منه لأنه مال يحتاج إليه لأداء الفرض فوجب وإن كان تطوعاً فإن كان ما يحتاج إليه في الحج لا يزيد على نفقته لزمه إتمامه وإن كان يزيد على نفقته فإن كان له كسب إذا أضيف إلى النفقة أمكنه الحج لزمه إتمامه وإن لم يكن حلله الولي من الإحرام ويصير كالمحصر

ويتحلل بالصوم دون الهدي لأنه محجور عليه في المال فتحلل بالصوم دون الهدي كالعبد وإن أقر بنسب ثبت النسب لأنه حق ليس بمال فقبل إقراره به كالحد وينفق على الولد من بيت المال لأن المقر محجور عليه في المال فلا ينفق عليه من المال كالعبد وإن وجب له القصاص فله أن يقتص ويعفو لأن القصد منه التشفي ودرك الغيظ فإن عفا على مال وجب المال وإن عفا مطلقاً أو عفا على غير مال فإن قلنا إن القتل يوجب أحد الأمرين من القصاص أو الدية وجبت الدية ولم يصح عفوه عنها وإن قلنا إنه لا يوجب غير القصاص سقط ولم يجب المال.

كتاب الصلح

كتاب الصلح مدخل ... كتاب الصلح إذا كان لرجل عند رجل عين في يده أو دين في ذمته جاز له أن يصالح منه والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون على شروطهم1" والصلح جائز بين المسلمين فإن صالح عن المال على مال فهو بيع يثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار ويحرم فيه ما يحرم في البيع من الغرر والجهالة والربا ويفسد بما يفسد به البيع من الشروط الفاسدة لأنه باع ماله بمال فكان حكمه حكم البيع فيما ذكرناه وإن صالحه من دين على دين وتفرقا قبل القبض لم يصح لأنه بيع دين بدين تفرقا فيه قبل القبض فإن صالحه فيه من دين على عين وتفرقا قبل القبض ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنهما تفرقا والعوض والمعوض في ضمان واحد فأشبه إذا تفرقا عن دين بدين والثاني يصح لأنه بيع عين بدين فصار كبيع العين بالثمن في الذمة وإن صالح عن المال على منفعة فهو إجارة يثبت فيه ما يثبت في الإجارة من الخيار ويبطل بما تبطل به الإجارة من الجهالة لأنه استأجر منفعة بالمال فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الإجارة. فصل: وإن صالح من دار على نصفها ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه ابتاع ماله بماله والثاني يصح لأنه لما عقد بلفظ الصلح صار كأنه وهب النصف وأخذ النصف وإن صالحه من الدار على سكناها سنة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه ابتاع داره بمنفعتها والثاني يصح لأنه لما عقد بلفظ الصلح صار كما لو أخذ الدار وأعاره سكناها سنة وإن صالحه من ألف درهم على خمسمائة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه بيع ألف بخمسمائة والثاني أنه يصح لأنه لما عقد بلفظ الصلح جعل كأنه قال أبرأتك من خمسمائة وأعطني خمسمائة. فصل: وإن ادعى عليه عيناً في يده أو ديناً في ذمته فأنكر المدعي عليه فصالحه منه على عوض لم يصح الصلح لأن المدعي اعتاض عما لا يملكه فصار كمن باع مال غيره والمدعي عليه عاوض على ملكه فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله فإن جاء أجنبي إلى المدعي وصدقه على ما ادعاه وقال صالحني منه على مال لم يخل إما أن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإجازة باب 14. أبو داود في كتاب القضية باب 12.

يكون المدعي عيناً أو ديناً فإن كان ديناً نظرت فإن صالحه عن المدعي عليه صح الصلح لأنه إن كان قد وكله المدعى عليه فقد قضى دينه بإذنه وإن لم يوكله فقد قضى دينه بغير إذنه وذلك يجوز فإن صالحه عن نفسه وقال صالحني عن هذا الدين ليكون لي في ذمة المدعي عليه ففيه وجهان بناء على الوجهين في بيع الدين من غير من عليه: أحدهما لا يصح لأنه لا يقدر على تسليم ما في ذمة المدعي عليه والثاني يصح كما لو اشترى وديعة في يد غيره وإن كان المدعي عيناً فإن صالحه عن المدعي عليه وقال قد أقر لك في الباطن ووكلني في مصالحتك فصدقه المدعي صح الصلح لأن الاعتبار بالمتعاقدين وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز ثم ينظر فيه فإن كان قد أذن له في الصلح ملك المدعي عليه العين لأنه ابتاعه له وكيله وإن لم يكن أذن له في الصلح لم يملك المدعي عليه العين لأنه ابتاع له عيناً بغير إذنه فلم يملكه ومن أصحابنا من قال يملكه ويصير هذا الصلح استنقاذاً لماله كما قال الشافعي رحمه الله في رجل في يده دار فجعلها مسجداً ثم ادعاها رجل فأنكر فاستنقذه الجيران من المدعي بغير إذن المدعي عليه أنه يجوز ذلك وإن صالحه لنفسه فقال: أنا أعلم أنه لك فصالحني فأنا أقدر على أخذه صح الصلح لأنه بمنزلة بيع المغصوب ممن يقدر على أخذه فإن أخذه استقر الصلح وإن لم يقدر على أخذه فهو بالخيار بين أن يفسخ ويرجع إلى ما دفع وبين أن يصبر إلى أن يقدر كمن ابتاع عبداً فأبق قبل القبض. فصل: إذا أقر المدعي عليه بالحق ثم أنكر جاز الصلح فإن أنكر فصولح ثم أقر كان الصلح باطلاً لأن الإقرار المتقدم لا يبطل بالإنكار الحادث فيصح الصلح إذا أنكر بعد إقراره لوجوده بعد لزوم الحق ولم يصح الصلح إذا كان عقيب إنكاره وقبل إقراره لوجوده قبل لزوم الحق. فصل: فلو أنكر الحق فقامت عليه البينة جاز الصلح عليه للزوم الحق بالبينة كلزومه بالإقرار لفظاً ويقاس عليه لو نكل المدعي عليه فحلف المدعي من طريق الأولى إذ اليمين المردودة كالإقرار على أحد القولين. فصل: وإن ادعى عليه مالاً فأنكره ثم قال صالحني عنه لم يكن ذلك إقراراً له بالمال لأنه يحتمل أنه إذا أراد قطع الخصومة فلم يجعل ذلك إقراراً فإن قال بعني ذلك ففيه وجهان: أحدهما لا يجعل ذلك إقراراً وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني لأن البيع والصلح واحد فإذا لم يكن الصلح إقراراً لم يكن البيع إقراراً والثاني وهو قول شيخنا

القاضي أبي الطيب أنه يجعل ذلك إقراراً لأن البيع تمليك والتمليك لا يصح إلا ممن يملك. فصل: وإن أخرج جناحاً إلى طريق لم يخل إما أن يكون نافذاً أو غير نافذ فإن كان الطريق نافذاً نظرت فإن كان الجناح لا يضر بالمارة جاز ولم يعترض عليه واختلفوا في علته فمن أصحابنا من قال يجوز لأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير إضرار فجاز كالمشي في الطريق ومنهم من قال يجوز لأن الهواء تابع للقرار فلما ملك الارتفاق بالطريق من غير إضرار ملك الارتفاق بالهواء من غير إضرار فإن وقع الجناح أو نقضه وبادر من يحاذيه فأخرج جناحاً يمنع من إعادة الجناح الأول جاز لأن الأول ثبت له الارتفاق بالسبق إلى إخراج الجناح فإذا زال الجناح جاز لغيره أن يرتفق كما لو قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه. فصل: فإن صالحه الإمام عن الجناح على شيء لم يصح الصلحين لمعنيين: أحدهما أن الهواء تابع للقرار في العقد فلا يفرد بالعقد كالحمل والثاني أن ذلك حق له فلا يجوز أن يؤخذ منه عوض على حقه كالاجتياز في الطريق وإن كان الجناح يضر بالمارة لم يجز وإذا أخرجه وجب نقضه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" ولأنه يضر بالمارة في طريقهم فلم يجز كالقعود في المضيق وإن صالحه الإمام من ذلك على شيء لم يجز لمعنيين: أحدهما أن الهواء تابع للقرار فلا يفرد بالعقد والثاني أن ما منع منه الإضرار بالناس لم يجز بعوض كالقعود في المضيق والبناء في الطريق. فصل: ويرجع فيما يضر وفيما لا يضر إلى حال الطريق فإن كان الطريق لا تمر فيه القوافل ولا تجوز فيه الفوارس لم يجز إخراج الجناح إلا بحيث يمر الماشي تحته منتصباً لأن الضرر يزول بهذا القدر ولا يزول بما دونه وإن كان الطريق تمر فيه القوافل وتجوز فيه الفوارس لم يجز إلا عالياً بمقدار ما تمر العمارية تحته ويمر الراكب منتصباً وقال أبو عبيدة ابن حربويه: لا يجوز حتى يكون عالياً يمر الراكب ورمحه منصوب لأنه ربما ازدحم الفرسان فيحتاج إلى نصب الرماح ومتى لم ينصبوا تأذى الناس بالرماح والأول هو المذهب لأنه يمكنهم أن يضعوا أطرافها على الأكتاف غير منصوبة فلا يتأذوا. فصل: وإن أخرج جناحاً إلى داره جاره من غير إذنه لم يجز واختلف أصحابنا في تعليله فمنهم من قال لا يجوز لأنه ارتفاق بما تعين مالكه فلم يجز بغير إذنه من غير ضرورة كأكل ماله ومنهم من قال: لا يجوز لأن الهواء تابع للقرار والجار لا يملك

الارتفاق بقرار دار الجار فلا يملك الارتفاق بهواء داره فإن صالحه صاحب الدار على شيء لم يجز لأن الهواء تابع فلا يفرد بالعقد. فصل: وإن أخرج جناحاً إلى درب غير نافذ نظرت فإن لك يكن له في الدرب طريق لم يجز لما ذكرناه في دار الجار وإن كان له فيه طريق ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني لأن الهواء تابع للقرار فإذا جاز أن يرتفق بالقرار بالاجتياز جاز أن يرتفق بالهواء بإخراج الجناح والثاني لا يجوز وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأنه موضع تعين ملاكه فلم يجز إخراج الجناح إليه كدار الجار فإن صالحه عنه أهل الدرب فإن قلنا يجوز إخراج الجناح لم يجز الصلح لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج من الشارع وإن قلنا لا يجوز إخراجه لم يجز الصلح لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج إلى دار الجار. فصل: وإن أراد أن يعمل ساباطاً ويضع أطراف جذعه على حائط الجدار المحاذي لم يجز ذلك من غير إذنه لأنه حمل على ملك الغير من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه كحمل المتاع على بهيمة غيره فإن صالحه منه على شيء جاز إذا عرف مقدار الأجذاع فإن كانت حاضرة نظر إليها وإن لم تحضر وصفها فإن أراد أن يني عليها ذكر سمك البناء وما يبنى به فإن أطلق كان بيعاً مؤبداً لمغارز الأجذاع ومواضع البناء وإن وقت كان ذلك إجارة تنقضي بانقضاء المدة. فصل: ولا يجوز أن يفتح كوة ولا يسمر مسماراً في حائط جاره إلا بإذنه ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره إلا بإذنه لأن ذلك يوهي الحائط ويضربه فلا يجوز من غير إذن مالكه ولا يجوز أن يبني على حائط جاره ولا على الحائط المشترك شيئاً من غير إذن مالكه ولا على السطحين المتلاصقين حاجزاً من غير إذن صاحبه لأنه حمل على

ملك الغير فلم يجز من غير إذن كالحمل على بهيمته ولا يجوز أن يجري على سطحه ماء من غير إذنه فإن صالحه منه على عوض جاز إذا عرف السطح الذي يجري ماؤه لأنه يختلف ويتفاوت. فصل: وفي وضع الجذوع على حائط الجار والحائط الذي بينه وبين شريكه قولان: قال في القديم يجوز فإذا امتنع الجار أو الشريك أجبر إذا كان الجذع خفيفاً لا يضر بالحائط ولا يقدر على التسقيف إلا به لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره1" قال أبو هريرة رضي الله عنه: إني لأراكم عنها معرضين والله لأرمينها بين أظهركم ولأنه إذا وجب ذلك فضل الماء لكلأ لاستغنائه عنه وحاجة غيره وجب بذل فضل الحائط لاستغنائه عنه وحاجة جاره وقال في الجديد لا يجوز بغير إذن وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلا يجوز بغير إذنه كالحمل على بهيمته والبناء في أرضه وحديث أبي هريرة نحمله على الاستحباب وأما الماء فإنه غير مملوك في قول بعض أصحابنا والحائط مملوك ولأن الماء لا تنقطع مادته والحائط بخلافه فإن كان الجذع ثقيلاً يضر بالحائط لم يجز وضعه من غير إذنه قولاً واحداً لأن الارتفاق بحق الغير لا يجوز مع الإضرار ولهذا لا يجوز أن يخرج إلى الطريق جناحاً يضر بالمارة وإن كان لاحاجة إليه لم يجبر عليه لأن الفضل إنما يجب بذله عند الحاجة إليه ولهذا يجب بذلك فضل الماء عند الحاجة إليه للكلأ ولا يجب مع عدم الحاجة فإن قلنا يجبر عليه فصالح منه على مال لم يجز لأن من وجب له حق لا يؤخذ منه عوضه وإن قلنا لا يجبر عليه فصالح منه على مال جاز على ما بيناه في أجذاع الساباط. فصل: إذا وضع الخشب على حائط الجار أو الحائط المشترك وقلنا إنه يجبر في قوله القديم أو صالح عنه على مال في قوله الجديد فرفعه جاز له أن يعيده فإن صالحه صاحب الحائط عن حقه بعوض ليسقط حقه من الوضع جاز لأن ما جاز بيعه جاز ابتياعه كسائر الأموال. فصل: وإن كان في ملكه شجرة فاستعلت وانتشرت أغصانها وحصلت في دار جاره جاز للجار مطالبته بإزالة ما حصل في ملكه فإن لم يزله جاز للجار إزالته عن

_ 1 رواه البخاري في كتاب المظالم باب 20. مسلم في كتاب المساقاة حديث 136. أبو داود في كتاب الأقضية باب 31. ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 15. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 32.

ملكه كما لو دخل رجل إلى داره بغير إذنه فإن له أن يطالبه بالخروج فإن لم يخرج أخرجه فإن صالحه منه على مال فإن كان يابساً لم يجز لأنه عقد على الهواء والهواء لا يفرد بالعقد وإن كان رطباً لم يجز لما ذكرناه ولأنه صلح على مجهول لأنه يزيد في كل وقت. فصل: وإن كان لرجل في زقاق لا ينفذ دار وظهرها إلى الشارع ففتح باباً من الدار إلى الشارع جاز لأن له حق الاستطراق في الشارع فجاز أن يفتح إليه باباً من الدار وإن كان باب الدار إلى الشارع وظهرها إلى الزقاق ففتح باباً من الدار إلى الزقاق نظرت فإن فتحه ليستطرق الزقاق لم يجز لأنه يجعل لنفسه حق الاستطراق في درب مملوك لأهله لا حق له في طريقه فإن قال أفتحه ولا أجعله طريقاً بل أغلقه وأسمره ففيه وجهان: أحدهما إن له ذلك لأنه إذا جاز له أن يرفع جميع حائط الدار فلأن يجوز أن يفتح فيه باباً أولى والثاني لا يجوز لأن الباب دليل على الاستطراق فمنع منه وإن فتح في الحائط كوة إلى الزقاق جاز لأنه ليس بطريق ولا دليل عليه فإن كان له داران في زقاقين غير نافذين وظهر كل واحدة من الدارين إلى الأخرى فأنفذ إحدى الدارين إلى الأخرى ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يجعل الزقاقين نافذين ولأنه يجعل لنفسه الاستطراق من كل واحد من الزقاقين إلى الدار التي ليست فيه ويثبت لأهل كل واحد من الزقاقين الشفعة في دور الزقاق الآخر على قول من يوجب الشفعة بالطريق والثاني يجوز وهو اختيار شيخنا القاضي رحمه الله لأن له أن يزيل الحاجز بين الدارين ويجعلهما داراً واحدة ويترك البابين على حالهما فجاز أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى. فصل: إن كان لداره باب في وسط درب لا ينفذ فأراد أن ينقل الباب نظرت فإن أراد نقله إلى أول الدرب جاز له لأنه يترك بعض حقه من الاستطراق وإن أراد أن ينقله إلى آخر الدرب ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يريد أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في موضع لم يكن له والثاني يجوز لأن حقه ثابت في جميع الدرب ولهذا لو أرادوا قسمته كان له حق في جميعه فإن كان باب في آخر الدرب وأراد أن ينقل الباب إلى

وسطه ويجعل إلى عند الباب دهليزاً إن قلنا إن من بابه في وسط الدرب يجوز أن يؤخره إلى آخر الدرب لم يجز لهذا أن يقدمه لأنه مشترك بين الجميع فلا يجوز أن يختص به وإن قلنا لا يجوز جاز لهذا أن يقدمه لأنه يختص به. فصل: إذا كان بين رجلين حائط مشترك فانهدم فدعا أحدهما صاحبه إلى العمارة وامتنع الآخر ففيه قولان: قال في القديم: يجبر لأنه إنفاق على مشترك يزول به الضرر عنه وعن شريكه فأجبر عليه كالإنفاق على العبد وقال في الجديد لا يجبر لأنه إنفاق على ملك أو انفرد به لم يجب فإذا اشتركا لم يجب كزراعة الأرض فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم الممتنع على الإنفاق فإن لم يفعل وله مال باعه وأنفق عليه فإن لم يكن له مال اقترض عليه وأنفق عليه فإذا بنى الحائط كان بينهما كما كان ومنه له رسم خشب أو غيره أعاده كما كان وإن أراد الشريك أن يبنيه لم يمنع منه لأنه يعيد رسماً في ملك مشترك فلم يمنع منه كما لو كان على الحائط رسم خشب فوقع فإن بنى الحائط من غير إذن الحاكم نظرت فإن بناه بآلته ونقضه معاً عاد الحائط بينهما كما كان برسومه وحقوقه لأن الحائط عاد بعينه وليس للباني فيه إلا أثر في تأليفه وإن بناه بغير آلته كان الحائط للباني لا يجوز لشريكه أن ينتفع من غير إذنه فإن أراد الباني نقضه كان له ذلك لأن ملكه لا حق لغيره فيه فجاز له نقضه فإن قال له الممتنع لا تنقض وأنا أعطيك نصف القيمة لم يجز له نقضه لأن على هذا القول يجبر على البناء فإذا بناه أحدهما وبذل له الآخر نصف القيمة وجب تبقيته وأجبر عليه كما أجبر على البناء وإن قلنا بقوله الجديد فأراد الشريك أن يبنيه لم يمنع لأن يعيد رسماً في ملك مشتري وهو عرصة الحائط فلم يمنع منه فإن بناه بآلته فهو بينهما ولكل واحد منهما أن ينتفع به ويعيد ماله من رسم خشب وإن بناه بآلة أخرى فالحائط له وله أن يمنع الشريك من الانتفاع به وإن أراد نقضه كان له لأنه لا حق لغيره فيه فإن قال له الشريك لا تنقضه وأنا أعطيك نصف القيمة لم يمنع من نقضه لأن على هذا القول لو امتنع من البناء في الابتداء لم يجبر فإذا لم يجبر على

تبقيته وإن قال قد كان لي عليه رسم خشب وأعطيك نصف القيمة وأعيد رسم الخشب قلنا للباني إما أن تمكنه من إعادة رسمه وتأخذ نصف القيمة وإما أن تنقضه ليبني معك لأن القرار مشترك بينهما فلا يجوز أن يعيد رسمه ويسقط حق شريكه. فصل: وإن كان لأحدهما علو وللآخر سفل والسقف بينهما فانهدم حيطان السفل لم يكن لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولاً واحداً لأن حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر صاحب العلو على بنائه وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السفل على البناء؟ فيه قولان: فإن قلنا يجبر ألزمه الحاكم فإن لم يفعل وله مال باع الحاكم عليه ماله وأنفق عليه وإن لم يكن له مال اقترض عليه فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكاً لصاحب السفل لأنه بنى له وتكون النفقة في ذمته ويعيد صاحب العلو غرفته عليه وتكون النفقة على الغرفة وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السفل لأنها ملكه لا حق لصاحب السفل فيه وأما السقف فهم بينهما وما ينفق عليه فهو من مالهما فإن تبرع صاحب العلو وبنى من غير إذن الحاكم لم يرجع صاحب العلو على صاحب السفل بشيء ثم ينظر فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السفل لأن الآلة كلها له وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع بها ولا يملك نقضها لأنها لصاحب السفل وله أن يعيد حقه من الغرفة وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو وليس لصاحب السفل أن ينتفع بها ولا أن يتد فيها وتداً ولا يفتح فيها كوة من غير إذن صاحب العلو ولكن له أن يسكن في قرار السفل لأن القرار له ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من الحيطان لأنه لا حق لغيره فيها فإن بذل صاحب السفل القيمة ليترك نقضها لم يلزمه قبولها لأنه لا يلزمه بناؤها قولاً واحداً فلا يلزمه تبقيتها ببذل العوض والله أعلم.

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة مدخل ... كتاب الحوالة تجوز الحوالة بالدين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم فإذا تبع أحدكم على مليء فليتبع1". فصل: ولا تجوز إلا على دين يجوز بيعه كعوض القرض وبدل المتلف فأما ما لا يجوز بيعه كدين السلم ومال الكتابة فلا تجوز الحوالة به لأن الحوالة بيع في الحقيقة لأن المحتال يبيع ماله في ذمة المحيل بماله في ذمة المحال عليه والمحيل يبيع ماله في ذمة المحال عليه بما عليه من الدين فلا يجوز إلا فيما يجوز بيعه. فصل: واختلف أصحابنا في جنس المال الذي تجوز به الحوالة فمنهم من قال لا تجوز إلا بما له مثل كالأثمان والحبوب وما أشبهها لأن القصد بالحوالة اتصال الغريم إلى حقه على الوفاء من غير زيادة ولا نقصان ولا يمكنه ذلك إلا فيما له مثل فوجب أن لا يجوز فيما سواه ومنهم من قال تجوز في كل ما يثبت في الذمة بعقد السلم كالثياب والحيوان لأنه مال ثابت في الذمة يجوز بيعه قبل القبض فجازت الحوالة به كذوات الأمثال. فصل: ولا تجوز إلا بمال معلوم لأنا بينا أنه بيع فلا تجوز في مجهول واختلف أصحابنا في إبل الدية فمنهم من قال لا تجوز وهو الصحيح لأنه مجهول الصفة فلم تجز الحوالة به كغيره ومنهم من قال تجوز لأنه معلوم العدد والسن فجازت الحوالة به. فصل: ولا تجوز إلا أن يكون الحقان متساويين في الصفة والحلول والتأجيل فإن اختلفا في شيء من ذلك لم تصح الحوالة لأن الحوالة إرفاق كالقرض فلو جوزنا مع الاختلاف صار المطلوب منه طلب الفضل فتخرج عن موضوعها فإن كان لرجل على رجلين ألف على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه خمسمائة

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحوالات باب 1،2. مسلم في كتاب المساقاة حديث 33. أبو داود في كتاب البيوع باب 10. الترمذي في كتاب البيوع باب 100،101. الموطأ في كتاب البيوع حديث 84. أحمد في مسنده "2/71، 245".

فأحال عليهما رجلاً عليه ألف على أن يطالب من شاء منهما بألف ففيه وجهان: أحدهما تصح وهو قول الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه لا يأحذ إلا قدر حقه والثاني لا تصح وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأنه يستفتد بالحوالة زيادة في المطالبة وذلك لا يجوز ولأن الحوالة بيع فإذا خبرناه بين الرجلين صار كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين. فصل: ولا تجوز الحوالة إلا على من له عليه دين لأنا بينا أن الحوالة بيع ما في الذمة بما في الذمة فإذا أحال من لادين عليه كان بيع معدوم فلم تصح ومن أصحابنا من قال تصح إذا رضي المحال عليه لأنه تحمل دين يصح إذا كان عليه مثله فصح وإن لم يكن عليه مثله كالضمان فعلى هذا يطالب المحيل بتخليصه كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه فإن قضاه بإذنه رجع على المحيل وإن قضاه بغير إذنه لم يرجع. فصل: ولا تصح الحوالة من غير رضا المحتال لأنه نقل حق من ذمة إلى غيرها فلم يجز من غير رضا صاحب الحق كما لو أراد أن يعطيه بالدين عيناً وهل تصح من غير رضا المحال عليه؟ ينظر فيه فإن كان على من لا حق له عليه وقلنا أنه تصح الحوالة على من لا حق له عليه لم تجز إلا برضاه وإن كان على من له عليه حق ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري واختيار المزني أنه لا تجوز إلا برضاه لأنه أحد من تتم به الحوالة فاعتبر رضاه في الحوالة كالمحتال والثاني وهو المذهب أنه تجوز لأنه تفويض قبض فلا يعتبر فيه رضا من عليه كالتوكيل في قبضه ويخالف المحتال فإن الحق له فلا ينقل بغير رضاه كالبائع وههنا الحق عليه فلا يعتبر رضاه كالعبد في البيع. فصل: إذا أحال بالدين انتقل الحق إلى المحال عليه وبرئت ذمة المحيل لأن الحوالة إما أن تكون تحويل حق أو بيع حق وأيهما كان وجب أن بيرأ به ذمة المحيل فصل: ولا يجوز شرط الخيار فيه لأنه لم يبن على المغابنة فلا يثبت فيه خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما يثبت لأنه بيع فيثبت خيار المجلس كالصلح والثاني لا يثبت لأنه يجري مجرى الإبراء ولهذا لا يجوز بلفظ البيع فلم يثبت فيه خيار المجلس.

فصل: وإن أحاله على مليء فأفلس أو جحد الحق وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل لأنه انتقل حقه إلى مال يملك بيعه فسقط حقه من الرجوع كما لو أخذ بالدين سلعة ثم تلفت بعد القبض وإن أحاله على رجل بشرط أنه مليء فبان أنه معسر فقد ذكر المزني أنه لا خيار له وأنكر أبو العباس هذا وقال له الخيار لأنه غره بالشرط فثبت له الخيار كما لو باعه عبداً بشرط أنه كاتب ثم بان أنه ليس بكاتب وقال عامة أصحابنا لاخيار له لأن الإعسار نقص فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع ويخالف الكتابة فإن عدم الكتابة ليس بنقص وإنما هو عدم فضيلة فاختلف الأمر فيه بين أن يشرط وبين أن لا يشرط. فصل: وإن اشترى رجل من رجل شيئاً بألف وأحال المشتري البائع على رجل بالألف ثم وجد بالمبيع عيباً فرده فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو علي الطبري لا تبطل الحوالة فيطلب البائع المحال عليه بالمال ويرجع المشتري على البائع بالثمن لأنه تصرف في أحد عوضي البيع فلا يبطل بالرد بالعيب كما لو اشترى عبداً بثوب وقبضه وباعه ثم وجد البائع بالثوب عيباً فرده وقال أبو إسحاق تبطل الحوالة وهو الذي ذكره المزني في المختصر فلا يجوز للبائع مطالبة المحال عليه لأن الحوالة وقعت بالثمن فإذا فسخ البيع خرج المحال به عن أن يكون ثمناً فإذا خرج عن أن يكون ثمناً ولم يتعلق به حق غيرهما وجب أن تبطل الحوالة ويخالف هذا إذا اشترى عبداً وقبضه وباعه لأن العبد تعلق به حق غير المتبايعين وهو المشتري الثاني فلم يكن إبطاله والحوالة لم يتعلق بها حق غيرهما فوجب إبطالها وإن أحال الزوج زوجته بالمهر على رجل ثم ارتدت المرأة قبل الدخول ففي الحوالة وجهان بناء على المسألة قبلها وإن أحال البائع رجلاً على المشتري بالألف ثم المشتري المبيع بالعيب لم تبطل الحوالة وجهاً واحداً لأنه تعلق بالحوالة حق غير المتعاقدين وهو الأجنبي المحتال لم يجز إبطالها. فصل: وإن أحال البائع على المشتري رجلاً بألف ثم اتفقا على أن العبد كان حراً فإن كذبهما المحتال لم تبطل الحوالة كما لو اشترى عبداً وباعه ثم اتفق البائع والمشتري أنه كان حراً فإن أقاما على ذلك بينة لم تسمع لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع وإن صدقهما المحتال بطلت الحوالة لأنه ثبتت الحرية وسقط الثمن فبطلت الحوالة. فصل: إذا أحال رجل رجلاً له عليه دين على رجل له عليه دين ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك وقال المحتال بل أحلتني نظرت فإن اختلفا في اللفظ فقال المحيل بل وكلتك بلفظ الوكالة وقال المحتال بل أحلتني بلفظ الحوالة فالقول قول المحيل لأنهما

اختلفا في لفظه فكان القول فيه قوله وإن اتفقا على لفظ الحوالة ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك وقال المحتال بل أحلتني ففيه وجهان: قال أبو العباس القول قول المحتال لأن اللفظ يشهد له ومن أصحابنا من قال القول قول المحيل وهو قول المزني لأنه يدعي بقاء الحق في الذمة والمحتال يدعي انتقال الحق من الذمة والأصل بقاء الحق في الذمة فإن قلنا بقول أبي العباس وحلف المحتال ثبتت الحوالة وبرئ المحيل وثبتت له مطالبة المحال عليه وإن قلنا بقول المزني فحلف المحيل ثبتت الوكالة فإن لم يقبض المال انعزل عن الوكالة بإنكاره إن كان قد قبض المال أخذه المحيل وهل يرجع هو على المحيل بدينه فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه أقر ببراءة ذمته من دينه والثاني له أن يرجع لأنه يقول إن كنت محتالاً فقد استرجع مني ما أخذته بحكم الحوالة وإن كنت وكيلاً فحقي باق في ذمته فيجب أن يعطيني وإن هلك في يده لم يكن للمحيل الرجوع عليه لأنه يقر بأن ماله تلف في يد وكيله من غير عدوان وليس للمحتال أن يطالب المحيل بحقه لأنه يقر بأنه استوفى حقه وتلف عنده وإن قال المحيل أحلتك وقال المحتال بل وكلتني فقد قال أبو العباس القول قول المحيل لأن اللفظ يشهد له وقال المزني: القول قول المحتال لأنه يدعي بقاء دينه في ذمة المحيل والأصل بقاؤه في ذمته فإن قلنا بقول أبي العباس فحلف المحيل برئ من دين المحتال وللمحتال مطالبة المحال عليه بالدين لأنه إن كان محتالاً فله مطالبته بمال الحوالة وإن كان وكيلاً فله المطالبة بحكم الوكالة فإذا قبض المال صرف إليه لأن المحيل يقول هو له بحكم الحوالة والمحتال يقول هو لي فيما لي عليه من الدين الذي لم يوصلني إليه وإن قلنا بقول المزني وحلف المحتال ثبت أنه وكيل فإن لم يقبض المال كان له مطالبة المحيل بماله في ذمته وهل يرجع المحيل على المحال عليه بشيء؟ فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه مقر بأن المال صار للمحتال والثاني يرجع لأنه إن كان وكيلاً فدينه ثابت في ذمة المحتال عليه وإن كان محتالاً فقد قبض المحتال المال منه ظلماً وهو مقر بأن ما في ذمة المحتال عليه للمحتال فكان له قبضه عوضاً عما أخذه منه ظلماً فإن كان قد قبض المال فإن كان باقياً صرف إليه لأنه قبضه بحوالة فهو له وإن قبضه بوكالة فله أن يأخذه عما له في ذمة المحيل وإن كان تالفاً نظرت فإن تلف بتفريط لزمه ضمان وثبت للمحيل عليه مثل ما ثبت له في ذمته فتقاصا وإن تلف من غير تفريط لم يلزمه الضمان لأنه وكيل ويرجع على المحيل بدينه ويبرأ المحال عليه لأنه إن كان محتالاً فقد وفاه حقه وإن كان وكيلاً فقد دفع إليه.

كتاب الضمان

كتاب الضمان يصح ضمان الدين عن الميت لما روى أبو قتادة قال: أقبل بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل على صاحبكم من دين" فقالوا عليه ديناران قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم ويصح عن الحي لأنه دين لازم فصح ضمانه كالدين على الميت. فصل: ويصح ذلك من كل جائز التصرف في ماله فأما من يحجر عليه لصغر أو جنون أو سفه فلا يصح ضمانه لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح من الصبي والمجنون والسفيه كالبيع ومن حجر عليه للفلس يصح ضمانه لأنه إيجاب مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس كالشراء بثمن في الذمة وأما العبد فإنه إن ضمن بغير إذن المولى ففيه وجهان: قال أبو إسحاق يصح ضمانه ويتبع به إذاً عتق لأنه لا ضرر فيه على المولى لأنه يطالب به بعد العتق فصح منه كالإقرار بإتلاف ماله وقال أبو سعيد الاصطخري لا يصح لأنه عقد تضمن إيجاب مال منه فلم يصح منه بغير إذن المولى كالنكاح فإن ضمن بإذن مولاه صح ضمانه لأن الحجر لحقه فزال بإذنه ومن أين يقضي ينظر فيه فإن قال له المولى اقضه من كسبك قضاه منه وإن قال اقضه مما في يدك للتجارة قضاه منه لأن المال له وقد أذن له فيه وإن لم يذكر القضاء ففيه وجهان: أحدهما يتبع به إذا أعتق لأنه أذن في الضمان دون الأداء والثاني يقضي من كسبه إن كان له كسب أو مما في يده إن كان مأذوناً له في التجارة لأن الضمان يقتضي الغرم كما يقتضي النكاح المهر ثم إذا أذن له في النكاح وجب قضاء المهر مما في يده فكذلك إذا أذن له في الضمان وجب قضاء الغرم مما في يده فإن كان على المأذون له دين وقلنا إن دين الضمان يقضيه مما في يده فهل يشارك فيه الغرماء؟ فيه وجهان: أحدهما يشارك به لأن المال للمولى وقد أذن له في القضاء منه إما بصريح الإذن أو من جهة الحكم فوجب المشاركة به والثاني أنه لا يشارك به لأن المال تعلق به الغرماء فلا يشارك بمال الضمان كالرهن وأما المكتب فإنه ضمن بغير إذن المولى فهو كالعبد القن وإن ضمن بإذنه فهو تبرع وفي تبرعات المكاتب بإذن المولى قولان نذكرهما في المكاتب إن شاء الله تعالى. فصل: ويصح الضمان من غير رضا المضمون عنه لأنه لما جاز قضاء دينه من غير رضاه جاز ضمان ما عليه من غير رضاه واختلف أصحابنا في رضا المضمون له فقال أبو

علي الطبري يعتبر رضاه لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم فشرط فيه رضاه كالثمن في البيع وقال أبو العباس لا يعتبر لأن أبا قتادة ضمن الدين عن الميت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم رضا المضمون له. فصل: وهل يفتقر إلى معرفة المضمون له والمضمون عنه؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يفتقر إلى معرفة المضمون عنه ليعلم أنه هل هو ممن يسدي إليه الجميل ويفتقر إلى معرفة المضمون له ليعلم هل يصلح لمعاملته أم لا يصلح كما يفتقر إلى معرفة ما تضمنه من المال هل يقدر عليه أم لا يقدر عليه والثاني أنه يفتقر إلى معرفة المضمون له لأن معاملته معه ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة بينه وبينه والثالث أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما لأن أبا قتادة ضمن عن الميت ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له والمضمون عنه. فصل: وإن باعه بشرط أن يضمن الثمن ضامن لم يجز حتى يعين الضامن لأن الغرض يختلف باختلاف من يضمن كما يختلف باختلاف ما يرهن من الرهون وإن شرط أن يضمنه ثقة لم يجز حتى يعين لأن الثقات يتفاوتون فإن لم يف به بما شرط من الضمين ثبت للبائع الخيار لأنه دخل في العقد بشرط الوثيقة ولم يسلم له الشرط فثبت له الخيار كما لو شرط له رهناً ولم يف له بالرهن وإن شرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الشهود فإن عين له شاهدين فهل يجوز إبدالهما بغيرهما؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز في الضمان والثاني يجوز لأن الغرض لا يختلف. فصل: ويصح ضمان كل دين لازم الثمن والأجرة وعوض القرض ودين السلم وأرش الجناية وغرامة المتلف لأنه وثيقة يستوفي منها الحق فصح في كل دين لازم كالرهن وأما ما لا يلزم بحال وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لأنه لا يلزم المكاتب أداؤه فلم يلزم ضمانه ولأن الضمان يراد لتوثيق الدين ودين الكتابة لا يمكن توثيقه لأنه يملك إسقاطه إذا شاء فلا معنى لضمانه وفي مال الجعالة والثمن في مدة الخيار ثلاثة أوجه: أحدها لا يصح ضمانه لأنه دين غير لازم فلم يصح ضمانه كدين الكتابة والثاني يصح لأنه يئول إلى اللزوم فصح ضمانه والثالث يصح ضمان الثمن في مدة

الخيار ولا يصح ضمان مال الجعالة لأن عقد البيع يئول إلى اللزوم وعقد الجعالة لا يلزم بحال فأما مال المشروط في السبق والرمي ففيه قولان: أحدهما أنه كالإجارة فيصح ضمانه والثاني أنه كالجعالة فيكون في ضمانه وجهان. فصل: ولا يجوز ضمان المجهول لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي مع الجهالة كالثمن في البيع وفي إبل الدية وجهان: أحدهما لا يجوز ضمانه لأنه مجهول اللون والصفة والثاني أنه يجوز لأنه معلوم السن والعدد ويرجع في اللون والصفة إلى عرف البلد. فصل: ولا يصح ضمان ما لم يجب وهو أن يقول ما تداين فلام فأنا ضامن له لأنه وثيقة بحق فلا يسبق الحق كالشهادة. فصل: ولا يجوز تعليقه على شرط لأنه إيجاب مال لآدمي بعقد فلم يجز تعليقه على شرط كالبيع وإن قال ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه صح فإذا ألقاه وجب ما ضمنه لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح فأشبه إذا قال طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف وإن قال بع عبدك من زيد بخمسمائة ولك علي خمسمائة أخرى فباعه ففيه وجهان: أحدهما يصح البيع ويستحق ما بذله لأنه مال بذله في مقابلة إزالة الملك فأشبه إذا قال طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف والثاني لا يصح لأنه بذل مال لغرض غير صحيح فلم يجز ويخالف ما بذله في الطلاق والعتق فإن في ذلك بذل مال لغرض صحيح وهو تخليص المرأة من الزوج وتخليص العبد من الرق. فصل: ويجوز أن يضمن الدين الحال إلى أجل لأنه رفق ومعروف فكان على حسب ما يدخل فيه وهل يجوز أن يضمن المؤجل حالاً؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز أن يضمن الحال مؤجلاً والثاني لا يجوز لأن الضمان فرع لما على المضمون عنه فلا يجوز أن يكون الفرع معجلاً والأصل مؤجلاً. فصل: ولا يثبت في الضمان خيار لأن لدفع الغبن وطلب الحظ والضامن يدخل في العقد على بصيرة أنه مغبون وأنه لا حظ له في العقد ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة وأوسطها ملامة وآخرها غرامة. فصل: ويبطل بالشروط الفاسدة لأنه عقد يبطل بجهالة المال فبطل بالشرط الفاسد كالبيع وإن شرط ضماناً فاسداً في عقد بيع فإنه يبطل البيع فيه قولان كالقولين في الرهن الفاسد إذا شرطه في البيع وقد بينا وجه القولين في الرهن. فصل: ويجب بالضمان الدين في ذمة الضامن ولا يسقط عن المضمون عنه

والدليل عليه ما روى "جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل منا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال أعليه دين قلنا ديناران فتحملهما أبو قتادة ثم قال بعد ذلك بيوم ما فعل الديناران قال: إنما مات بالأمس ثم أعاد عليه بالغد قال: قد قضيتهما قال الآن بردت عليه جلده" ولأنه وثيقة بدين في الذمة فلا يسقط الدين عن الذمة كالرهن ويجوز للمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه لأن الدين ثابت في ذمتهما فكان له مطالبتهما فإن ضمن عن الضامن ثالث جاز لأنه ضمان دين ثابت فجاز كالضمان الأول وإن ضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز لأنه المضمون عنه أصل والضامن فرع فلا يجوز أن يصير الأصل فرعاً والفرع أصلاً ولأنه يضمن ما في ذمته ولأنه لا فائدة في ضمانه وهو ثابت في ذمته. فصل: وإن ضمن عن رجل ديناً بغير إذن لم يجز له مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لم يدخل فيه بإذنه فلم يلزمه تخليصه وإن ضمن بإذنه نظرت فإن طالبه صاحب الحق جاز له مطالبته بتخليصه لأنه إذا جاز أن يغرمه إذا غرم جاز له أن يطالبه إذا طولب وإن لم يطالب ففيه وجهان: أحدهما له أن يطالبه لأنه شغل ذمته بالدين بإذنه فجاز له المطالبة بتفريغ ذمته كما لو أعاره عيناً ليرهنها فرهنها والثاني ليس له وهو الصحيح لأنه لما لم يغرمه قبل أن يغرم لم يطالبه قبل أن يطالب ويخالف إذا أعاره عيناً ليرهنها فرهنها لأن عليه ضرراً في حبس العين والمنع من التصرف بها ولا ضرر عليه في دين في ذمته لا يطالب به فإن دفع المضمون عنه مالاً إلى الضامن وقال خذ هذا بدلاً عما يجب لك بالقضاء ففيه وجهان: أحدهما يملكه لأن الرجوع يتعلق بسبب الضمان والغرم وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر كإخراج الزكاة قبل الحول وإخراج الكفارة قبل الحنث فإن قضى عنه الدين استقر ملكه على ما قبض وإن أبرئ من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ كما يجب رد ما عجل من الزكاة إذا هلك النصاب قبل الحول والثاني لا يملك لأنه أخذه بدلاً عما يجب في الثاني فلا يملكه كما لو دفع إليه شيئاً عن بيع لم يعقده فعلى هذا يجب رده فإن هلك ضمنه لأنه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوء البيع. فصل: وإن قبض المضمون له الحق من المضمون منه برئ الضمان لأنه وثيقة بحق فانحلت بقبض الحق كالرهن وإن قبضه من الضامن برئ المضمون عنه لأنه استوفى الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الدين كما لو قضى الدين من ثمن الرهن وإن أبرئ المضمون عنه برئ الضامن لأن الضامن وثيقة بالدين فإذا أبرئ من عليه الدين انحلت الوثيقة كما ينحل الرهن إذ أبرئ الراهن من الدين وإن أبرئ الضامن لم يبرأ

المضمون عنه لأن إبراءه إسقاط وثيقة من غير قبض فلم يبرأ به من عليه الدين كفسخ الرهن. فصل: وإن قضى الضامن الدين نظرت فإن ضمن بإذن المضمون عنه وقضى بإذنه رجع عليه لأنه أذن له في الضمان والقضاء وإن ضمن بغير إذنه وقضى بغير إذنه لم يرجع لأنه تبرع بالقضاء فلم يرجع وإن ضمن بغير إذنه وقضى بإذنه ففيه وجهان: من أصحابنا من قال يرجع لأنه قضى بإذنه والثاني لا يرجع وهو المذهب لأنه لزمه بغير إذنه فلم يؤثر إذنه في قضائه وإن ضمن بإذنه وقضى بغير إذنه فالمنصوص أنه يرجع عليه وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأنه اشتغلت ذمته بالدين بإذنه فإذا استوفى منه رجع كما لو أعاره مالاً فرهنه في دينه وبيع في الدين وقال أبو إسحاق: إن أمكنه أن يستأذنه لم يرجع لأنه قضاه باختياره وإن لم يمكنه رجع لأنه قضاه بغير اختياره وإن أحاله الضامن على رجل له عليه دين برئت ذمة المضمون عنه لأن الحوالة بيع فصار كما لو أعطاه عن الدين عوضاً وإن أحاله على من لا دين له عليه وقيل المحال عليه وقلنا يصح بريء الضامن لأن بالحوالة تحول ما ضمن ولا يرجع عن المضمون عنه لأنه لم يغرم فإن قبضه منه ثم وهبه له فهل يرجع على الضامن؟ فيه وجهان بناءً على القولين في المرأة إذا وهب الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول. فصل: وإن دفع الضامن إلى المضمون له ثوباً عن الدين في موضع يثبت له الرجوع رجع بأقل الأمرين من قيمة الثوب أو قدر الدين فإن كان قيمة الثوب عشرة والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة لأنه لم يغرم وإن كان قيمة الثوب عشرين والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة لأنه تبرع بما زاد فلا يرجع به وإن كان الدين الذي ضمنه مؤجلاً فعجل قضاؤه لم يرجع به قبل المحل لأنه تبرع بالتعجيل. فصل: ويصح ضمان الدرك على المنصوص وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه لايصح لأنه ضمان ما يستحق من المبيع وذلك مجهول والصحيح أنه يصح قولاً واحداً لأن الحاجة داعية إليه لأنه يسلم الثمن ولا يأمن أن يستحق عليه المبيع ولا يمكنه أن يأخذ على الثمن رهناً لأن البائع لا يعطيه من المبيع رهناً ولا يمكنه أن يستوثق بالشهادة لأنه قد يفلس البائع فلا تنفعه الشهادة فلم يبق ما يستوثق به غير الضمان ولا يمكن أن يجعل القدر الذي يستحق معلوماً فعفى عن الجهالة فيه كما عفى عن الجهل بأساس الحيطان ويخالف ضمان المجهول لأنه يمكنه أن يعلم قدر الدين ثم يضمنه وفي وقت ضمانه وجهان: أحدهما لا يصح حتى يقبض البائع الثمن لأنه قبل أن يقبض ما وجب له شيء

وضمان ما لم يجب لا يصح والثاني يصح قبل قبض الثمن لأن الجارية داعية إلى هذا الضمان في عقد البيع فجاز قبل قبض الثمن وإن اشترى جارية وضمن دركها فخرج بعضها مستحقاً فإن قلنا إن البيع يصح في الباقي رجع بثمن ما استحق وإن قلنا يبطل البيع في الجميع رجع على الضامن بثمن ما استحق وهل يرجع عليه بثمن الباقي فيه وجهان: أحدهما يرجع عليه لأنه بطل البيع فيه لأجل الاستحقاق فضمن كالمستحق والثاني لا يرجع لأنه لم يضمن إلا ما يستحق فلم يضمن ما سواه وإن ضمن الدرك فوجد بالمبيع عيباً فرده فهل يرجع على الضامن بالثمن فيه وجهان: أحدهما لا يرجع وهو قول المزني وأبي العباس لأنه زال ملكه عنه بأمر حادث فلم يرجع عليه بالثمن كما لو كان شقصاً فأخذه الشفيع والثاني يرجع لأنه رجع إليه الثمن بمعنى قارن العقد فثبت له الرجوع على الضامن كما لو خرج مستحقاً وإن وجد به العيب وقد حدث عنده عيب فهل يرجع بأرش العيب على ما ذكرناه من الوجهين. فصل: وتجوز كفالة البدن على المنصوص في الكتب وقال في الدعاوى والبينات إن كفالة البدن ضعيفة فمن أصحابنا من قال تصح قولاً واحداً وقوله ضعيف أراد من جهة القياس ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما أنها لا تصح لأنه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح كالسلم في ثمرة نخلة بعينها والثاني يصح وهو الأظهر لما روى أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب قال: صليت مع عبد الله بن مسعود الغداة فلما سلم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فوالله لقد بت البارحة وما في نفسي على أحد إحنة وإني كنت استطرقت رجلاً من بني حنيفة وكان أمرني أن آتيه بغلس فانتهيت إلى مسجد بني حنيفة - مسجد عبد الله بن النواحة - فسمعت مؤذنهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن

مسيلمة رسول الله فكذبت سمعي وكففت فرسي حتى سمعت أهل المسجد قد تواطؤوا على ذلك فقال عبد الله بن مسعود علي بعبد الله بن النواحة فحضر واعترف فقال له عبد الله أين ما كنت تقرأ من القرآن؟ قال كنت أتقيكم به فقال له تب فأبى فأمر به فأخرج إلى السوق فجز رأسه ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم فقال عدي بن حاتم ثؤلول كفر قد أطلع رأسه فاحسمه وقال جرير بن عبد الله والأشعث بن قيس استتبهم فإن تابوا كفلهم عشائرهم فاستتابوا فتابوا وكفلهم عشائرهم ولأن البدن يستحق تسليمه بالعقد فجاز الكفالة به كالدين فإن قلنا تصح جازت الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم يدين لأنه حق لازم لآدمي فصحت الكفالة به كالدين وإن كان عليه حد فإن كان لله تعالى لم تصح الكفالة به لأن الكفالة للاستيثاق وحق الله تعالى مبني على الدرء والإسقاط فلم يجز الاستيثاق بمن عليه وإن كان قصاصاً أو حد قذف ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح الكفالة به كمن عليه حد لله تعالى والثاني تصح لأنه حق لآدمي فجازت الكفالة ببدن من عليه كالدين ومن عليه دين لازم كالمكاتب لا تجوز الكفالة ببدنه لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة. فصل: وإن كان عليه دين مجهول ففيه وجهان: قال أبو العباس لا تصح الكفالة ببدنه لأنه قد يموت المكفول به فيلزمه الدين فإذا كان مجهولاً لم تمكن المطالبة والثاني أنه تصح وهو المذهب لأن الكفالة بالبدن لا تعلق لها بالدين. فصل: وتصح الكفالة ببدن الكفيل كما يصح ضمان الدين عن الضمين. فصل: وتجوز الكفالة حالاً ومؤجلاً كما يجوز ضمان الدين حالاً ومؤجلاً وهل يجوز إلى أجل مجهول فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه تبرع من غير عوض فجاز في المجهول كإباحة الطعام والثاني لا يجوز لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي فلا يجوز إلى أجل مجهول كالبيع ويخالف الإباحة فإنه لو أباحه أحد الطعامين جاز ولو تكفل ببدن أحد الرجلين لم يجز. فصل: وتجوز الكفالة به ليسلم في مكان معين وتجوز مطلقاً فإن أطلق وجب

التسليم في موضع العقد كما تجوز حالاً ومؤجلاً وإذا أطلق وجب التسليم في حال العقد. فصل: ولا تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به لأنه إذا تكفل به من غير إذنه لم يقدر على تسليمه ومن أصحابنا من قال: تصح كما تصح الكفالة بالدين من غير إذن من عليه بالدين. فصل: وإن تكفل بعضو منه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يصح لأنه في تسليمه تسليم جميعه والثاني لا يجوز لأن إفراد العضو بالعقد لا يصح وتسريته إلى الباقي لا تمكن لأنه لا سراية له فبطلت والثالث إن كان العضو لا يبقى البدن دونه كالرأس والقلب جاز لأنه لا يمكن تسليمه إلا بتسليم البدن وإن كان عضواً يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح لأنه يقطع فيبرأ مع بقائه. فصل: وإن أحضر المكفول به قبل المحل أو في غير الموضع الذي شرط فيه التسليم فإن كان عليه في قبوله ضرر أو في رده غرض لم يلزمه قبوله وإن لم يكن عليه ضرر ولا في رده غرض وجب قبوله فإن لم يتسلمه أحضره عند الحاكم ليتسلم عنه ويبرأ كما قلنا في دين السلم وإن أحضره وهناك يد حائلة لم يبرأ لأن التسليم المستحق هو التسليم من غير حائل ولهذا لو سلم المبيع مع الحائل لم يصح تسليمه وإن سلمه وهو في حبس الحاكم صح التسليم لأن حبس الحاكم ليس بحائل ويمكن إحضاره ومطالبته بما عليه من الحق وإن حضر المكفول به بنفسه وسلم نفسه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا أدى المضمون عنه الدين وإن غاب المكفول به إلى موضع لا يعرف خبره لم يطالب وإن غاب إلى موضع يعرف خبره لم يطالب به حتى يمضي زمان يمكن فيه الذهاب والمجيء لأن ما لزم تسليمه لم يلزم إلا بإمكان التسليم فإن مضى زمان الإمكان ولم يفعل حبس الكفيل إلى أن يحضره فإن أبرأه المكفول له من الكفالة برئ كما يبرأ الضامن إذا أبرأه المضمون له فإن جاء رجل وقال أبرئ الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به ففيه وجهان: قال أبو العباس يصح لأنه نقل الضمان إلى نفسه فصار كما لو ضمن رجل مالاً فأحال الضامن المضمون له على آخر وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب الطبري رحمهما الله لا يصح لأنه تكفل بشرط أن يبرأ الكفيل وذلك شرط فاسد فمنع صحة العقد وإن تكفل ببدن رجل لنفسين فسلمه إلى أحدهما لم يبرأ من حق الآخر لأنه ضمن تسليمين فلم يبرأ بأحدهما كما لوضمن لهما دينين فأدى دين أحدهما وإن تكفل اثنان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما فقد قال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله أنه لا يبرأ الآخر لأنه لو أبرئ أحدهما لم يبرأ الآخر فإذا سلمه أحدهما لم يبرأ الآخر

وعندي أنه يبرأ لأن المستحق إحضاره قد حصل فبرئا كما لو ضمن رجلان ديناً فأداه أحدهما ويخالف الإبراء فإن الإبراء مخالف للأداء والدليل عليه أن في ضمان المال لو أبرئ أحد الضامنين لم يبرأ الآخر ولو أدى أحد الضامنين برئ. فصل: وإن تكفل ببدن رجل فمات المكفول به برئ الكفيل وقال أبو العباس يلزمه ما على المكفول به من الدين لأنه وثيقة فإذا مات من عليه الدين وجب أن يستوفي الدين منها كالرهن والمذهب الأول لأنه لم يضمن الدين فلا يلزمه. فصل: وإن تكفل بعين نظرت فإن كان أمانة كالوديعة لم يصح لأنه إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده فلأن لا يجب على من يضمن عنه أولى وإن كان عيناً مضمونة كالمغصوب والعارية والمبيع قبل القبض ففيه وجهان بناء على القولين في كفالة البدن فإن قلنا إنها تصح فهلكت العين فقد قال أبو العباس فيه وجهان: أحدهما يجب عليه ضمانها والثاني لا يجب وقال الشيخ أبو حامد لا يجوز بناء ذلك على كفالة البدن لو تلف لم يضمن بدله ولو هلكت العين ضمنها. فصل: وإن ضمن عنه ديناً ثم اختلفا فقال الضامن ضمنت وأنا صبي وقال المضمون له ضمنت وأنت بالغ فالقول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وإن قال ضمنت وأنا مجنون وقال بل ضمنت وأنت عاقل فإن لم يعرف له حالة جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل العقل وصحة الضمان وإن عرف له حالة جنون فالقول قول الضامن لأنه يحتمل أن يكون الضمان في حالة الإفاقة ويحتمل أن يكون في حالة الجنون والأصل عدم الضمان وبراءة الذمة وإن ضمن عن رجل شيئاً وأدى المال ثم ادعى أنه ضمن بإذنه وأدى بإذنه ليرجع وأنكر المضمون عنه الإذن لم يرجع عليه لأن الأصل عدم الإذن وإن تكفل ببدن رجل ثم ادعى أنه تكفل به ولا حق عليه فالقول قول المكفول له لأن الكفيل قد أقر بالكفالة والكفالة لا تكون إلا بمن عليه حق فكان القول قول المكفول له فإن طلب الكفيل يمين المكفول له على ذلك ففيه وجهان: أحدهما يحلف لأن ما يدعيه الكفيل ممكن فحلف عليه الخصم والثاني لا يحلف لأن إقراره بالكفالة يقتضي وجوب الحق وما يدعيه يكذب إقراره فلم يحلف الخصم وإن ادعى الضامن أنه قضى الحق عن المضمون عنه وأقر المضمون له وأنكر المضمون عنه ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول المضمون عنه لأن الضامن يدعي القضاء ليرجع فلم يقبل قوله والمضمون له يشهد على فعل نفسه أنه قبض فلم تقبل شهادته فسقط قولهما وحلف المضمون عنه والثاني أن القول قول الضامن لأن قبض المضمون له يثبت بالإقرار مرة وبالبينة أخرى ولو ثبت قبضه بالبينة رجع الضامن فكذلك إذا ثبت بالإقرار.

كتاب الشركة

كتاب الشركة يصح عقد الشركة على التجارة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانا خرجت من بينهما1" ولا تصح الشركة إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد على التصرف في المال فلم تصح إلا من جائز التصرف في المال. فصل: ويكره أن يشارك المسلم الكافر لما روى أبو جمرة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً قلت لم؟ قال لأنهم يربون والربا لا يحل. فصل: وتصح الشركة على الدراهم والدنانير لأنهما أصل لكل ما يباع ويبتاع وبهما تعرف قيمة الأموال وما يزيد فيها من الأرباح فأما ما سواهما من العروض فضربان: ضرب لا مثل له وضرب له مثل فأما ما لا ضرب له كالحيوان والثياب فلا يجوز عقد الشركة عليها لأنه قد تزيد قيمة أحدهما دون الآخر فإن جعلنا ربح ما زاد قيمته لمالكه أفردنا أحدهما بالربح والشركة معقود على الاشتراك في الربح وإن جعلنا الربح بينهما أعطينا من لم تزد قيمة ماله ربح مال الآخر وهذا لا يجوز وأما ماله مثل كالحبوب والأدهان ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز عقد الشركة عليه وعليه نص في البويطي لأنه من غير الأثمان فلم يجز عقد الشركة عليه كالثياب والحيوان والثاني يجوز وهو قول أبي إسحاق لأنه من ذوات الأمثال فأشبه الأثمان وإن لم يكن لهما غير العروض وأراد الشركة باع كل واحد منهما بعض عرضه ببعض عرض الآخر فيصير الجميع مشتركاً بينهما ويشتركان في ربحه. فصل: ولا يصح من الشركة إلا شركة العنان ولا يصح ذلك إلا أن يكون مال

_ 1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 26.

أحدهما من جنس مال الآخر وعلى صفته فإن كان مال أحدهما دنانير والآخر دراهم أو مال أحدهما صحاحاً والآخر قراضة أو مال أحدهما من سكة ومال الآخر من سكة أخرى لم تصح الشركة لأنهما مالان لا يختلطان فلم تصح الشركة عليهما كالعروض فإن كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الآخر مائة درهم وابتاعا بها شيئاً وربحا قسم الربح بينهما على قدر المالين فإن كان نقد البلد أحدهما قوم به الآخر فإن استوت قيمتاهما استويا في الربح وإن اختلفت قيمتاهما تفاضلا في الربح على قدر مالهما. فصل: ولا تصح حتى يختلط المالان لأنه قبل الاختلاط لا شركة بينهما في مال ولأنه لو صححنا الشركة قبل الاختلاط وقلنا إن من ربح شيئاً من ماله انفرد بالربح أفردنا أحدهما بالربح وذلك لا يجوز وإن قلنا يشاركه الآخر أخذ أحدهما ربح الآخر وهذا لا يجوز وهل تصح الشركة مع تفاضل المالين في القدر؟ فيه وجهان: أحدهما لا تصح وهو قول أبي القاسم الإنماطي لأن الشركة تشتمل على مال وعمل ثم لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح فذلك لا يجوز أن يتساويا في العمل ويتفاضلا في الربح وإذا اختلف مالهما في القدر فقد تساويا في العمل وتفاضلا في الربح فوجب أن لا يجوز والثاني تصح وهو قول عامة أصحابنا وهو الصحيح لأن المقصود بالشركة أن يشتركا في ربح مالهما وذلك يحصل مع تفاضل المالين كما يحصل مع تساويهما وما قاله الإنماطي من قياس العمل على المال لا يصح لأن الاعتبار في الربح بالمال لا بالعمل والدليل عليه أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالمال ويشتركا في الربح فلم يجز أن يستويا في المال ويختلفا في الربح وليس كذلك العمل فإنه يجوز أن ينفرد أحدهما بالعمل ويشتركا في الربح فجاز أن يستويا في العمل ويختلفا في الربح. فصل: ولا يجوز لأحد الشريكين أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بإذنه فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف تصرف وإن أذن أحدهما ولم يأذن الآخر تصرف المأذون في الجميع ولا يتصرف الآخر إلا في نصيبه ولا يجوز لأحدهما أن يتجر في

نصيب شريكه إلا في الصنف الذي يأذن فيه الشريك ولا أن يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل ولا بغير نقد البلد إلا أن يأذن له شريكه لأن كل واحد منهما وكيل للآخر في نصفه فلا يملك إلا ما يملك كالوكيل. فصل: ويقسم الربح والخسران على قدر المالين لأن الربح نماء مالهما والخسران نقصان مالهما فكانا على قدر المالين فإن شرطا التفاضل في الربح والخسران مع تساوي المالين أو التساوي في الربح والخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة فلم يصح كما لو شرط أن يكون الربح لأحدهما فإن تصرفا مع هذا الشرط صح التصرف لأن الشرط لا يسقط الإذن فنفذ التصرف فإن ربحا أو خسرا جعل بينهما على قدر المالين ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه لأنه إنما عمل ليسلم له ما شرط وإذا لم يسلم رجع بأجرة عمله. فصل: وأما شركة الأبدان وهي الشركة على ما يكتسبان بأبدانهما فهي باطلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذا الشرط ليس في كتاب الله تعالى فوجب أن يكون باطلاً ولأن عمل كل واحد منهما يختص به فلم يجز أن يشاركه الآخر في بدله فإن عملا وكسبا أخذ كل واحد منهما أجرة عمله لأنها بدل عمله فاختص بها. فصل: وأما شركة المفاوضة وهو أن يعقد الشركة على أن يشتركا فيما يكتسبان بالمال والبدن وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بغصب أو بيع أو ضمان فهي شركة باطلةلحديث عائشة رضي الله عنها ولأنها شركة معقودة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه فيما يختص بسببه فلم تصح كما لو عقد الشركة على ما يملكان بالإرث والهبة ولأنها شركة معقودة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بعدوانه فلم تصح كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بالجناية فإن عقدا الشركة على ذلك واكتسبا وضمنا أخذ كل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله وضمن كل واحد منهما ما لزمه بغصبه وبيعه وضمانه لأن الشرط قد سقط

وبقي الربح والضمان على ما كانا قبل الشرط ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه لأنه عمل في ماله ليسلم له ما شرط له ولم يسلم فوجب أجرة عمله. فصل: وأما شركة الوجوه وهو أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه فهي شركة باطلة لأن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له ينفرد به فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه وإن وكل كل واحد منهما صاحبه في شراء شيء بينهما واشترى كل واحد منهما ماأذن فيه شريكه ونوى أن يشتريه بينه وبين شريكه دخل في ملكهما وصارا شريكين فيه فإذا بيع قسم الثمن بينهما لأنه بدل مالهما. فصل: وإن أخذ رجل من رجل جملاً ومن آخر راوية على أن يستقي الماء ويكون الكسب بينهم فقد قال في موضع يجوز وقال في موضع لا يجوز فمن أصحابنا من قال إن كان الماء مملوكاً للسقاء فالكسب له ويرجع عليه صاحب الجمل والراوية أجرة المثل للجمل والراوية لأنه استوفى منفعتهما بإجارة فاسدة فوجب عليه أجرة المثل وإن كان الماء مباحاً فالكسب بينهم أثلاثاً لأنه استقى الماء على أن يكون الكسب بينهم فكان الكسب بينهم كما لو وكلاه في شراء ثوب بينهم فاشتراه على أن يكون بينهم وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان الماء مملوكاً للسقاء كان الكسب له ويرجعان عليه بالأجرة لما ذكرناه وإن كان الماء مباحاً ففيه قولان: أحدهما أنه بينهم أثلاثاً لأنه أخذه على أن يكون بينهم فدخل في ملكهم كما لو اشترى شيئاً بينهم بإذنهم والثاني أن الكسب للسقاء لأنه مباح اختص بحيازته فاختص بملكه كالغنيمة ويرجعان عليه بأجرة المثل لأنهما بذلا منفعة الجمل والراوية ليسلم لهما الكسب ولم يسلم فثبت لهما أجرة المثل. فصل: والشريك أمين فيما في يده من مال شريكه فإن هلك المال في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عنه في الحفظ والتصرف فكان المالك في يده كالهالك في يده فإن ادعى الهلاك فإن كان بسبب ظاهر لم يقبل حتى يقيم البينة عليه فإذا أقام البينة على السبب فالقول قوله في الهلاك مع يمينه وإن كان بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه من غير بينة لأنه يتعذر إقامة البينة على الهلاك فكان القول قوله مع يمينه وإن ادعى عليه الشريك خيانة وأنكر فالقول قوله لأن الأصل عدم الخيانة وإن كان في يده عين وادعى شريكه أن ذلك من مال الشركة وادعى هو أنه له فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه فإن اشترى شيئاً فيه ربح فادعى الشريك أنه للشركة وادعى هو

أنه اشتراه لنفسه واشترى شيئاً فيه خسارة وادعى الشريك أنه اشتراه لنفسه وادعى هو أنه اشتراه للشركة فالقول قوله لأنه أعرف بعقده ونيته. فصل: وإن كان بينهما عبد فأذن أحدهما لصاحبه في بيعه فباعه بألف ثم أقر الشريك الذي لم يبع أن البائع قبض الألف من المشتري وادعى المشتري ذلك وأنكر البائع فإن المشتري يبرأ من حصة الشريك الذي لم يبع لأنه أقر أنه سلم حصته من الثمن إلى شريكه بإذنه وتبقى الخصومة بين البائع وبين المشتري وبين الشريكين فإن تحاكم البائع والمشتري فإن كان للمشتري بينة بتسليم الثمن قضى له وإن لم يكن له من يشهد غير الشريك الذي لم يبع فإن شهادته مردودة في قبض حصته لأنه يجر بها إلى نفسه نفعاً وهو حق الرجوع عليه بما قبض من حصته وهل ترد في حصة البائع؟ فيه قولان: فإن قلنا تقبل حلف معه المشتري ويبرأ وإن قلنا لا تقبل أو لم يكن عدلاً فالقول قول البائع مع يمينه أنه لم يقبض فإن حلف أخذ منه نصف الثمن وليس للشريك الذي لم يبع أن يأخذ مما أخذ البائع شيئاً لأنه أقر أنه قد أخذ الحق مرة وإن ما أخذه الآن أخذه ظلماً فلا يجوز أن يأخذ منه وإن نكل البائع حلف المشتري ويبرأ وإن تحاكم الشريكان فإن كان للذي لم يبع بينة بأن البائع قبض الثمن رجع عليه بحصته وإن لم تكن له بينة حلف البائع أنه لم يقبض ويبرأ وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الذي لم يبع فيحلف ويأخذ منه حصته وإن ادعى البائع أن الذي لم يبع قبض الألف من المشتري وادعاه المشتري وأنكر الذي لم يبع نظرت فإن كان الذي لم يبع مأذوناً له في القبض برئت ذمة المشتري من نصيب البائع لأنه أقر أنه سلمه إلى شريكه بإذنه وتبقى الخصومة بين الذي لم يبع وبين المشتري وبين الشريكين فيكون البائع ههنا كالذي لم يبع والذي لم يبع كالبائع في المسألة قبلها وقد بيناه وإن لم يكن واحد منهما مأذون له في القبض لم تبرأ ذمة المشتري من شيء من الثمن لأن الذي باعه أقر بالتسليم إلى من لم يأذن له والذي لم يبع أنكر القبض فإن تحاكم البائع والمشتري أخذ البائع منه حقه من غير يمين لأنه سلمه إلى شريكه بغير إذنه وإن تحاكم المشتري والذي لم يبع فإن كان للمشتري بينة برئ من حقه وإن لم يكن له من يشهد غير البائع فإن كان عدلاً قبلت شهادته لأنه لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعاً ولا يدفع بها ضرراً فإذا شهد حلف معه المشتري وبرئ وإن لم يكن عدلاً فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه فإذا حلف أخذ منه حقه وإن كان البائع مأذوناً له في القبض والذي لم يبع غير مأذون له وتحاكم البائع والمشتري قبض منه حقه

من غير يمين لأنه سلمه إلى شريكه من غير إذنه وهل للشريك الذي لم يبع مشاركته فيما أخذ قال المزني: له مشاركته وهو بالخيار بين أن يأخذ من المشتري خمسمائة وبين أن يأخذ من المشتري مائتين وخمسين ومن الشريك مائتين وخمسين وقال أبو العباس: لا يأخذ منه شيئاً لأنه لما أقر أن الذي لم يبع قبض جميع الثمن عزل نفسه من الوكالة في القبض لأنه لم يبق له ما يتوكل في قبضه فلا يأخذ بعد العزل إلا حق نفسه فلا يجوز للذي لم يبع إلا أن يشاركه فيه فإن تحاكم المشتري والذي لم يبع فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض لأن الأصل عدم القبض فإن كان للمشتري بينة قضى له وبرئ وإن لم يكن له من يشهد إلا البائع لم تقبل شهادته على قول المزني لأنه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة ضرراً وهو رجوع الشريك الذي لم يبع عليه بنصف ما في يده وعلى قول أبي العباس تقبل شهادته قولاً واحداً لأنه لا يدفع بشهادته ضرراً لأنه لا رجوع له عليه. فصل: ولكل واحد من الشريكين أن يعزل نفسه عن التصرف إذا شاء لأنه وكيل وله أن يعزل شريكه عن التصرف في نصيبه لأنه وكيله فيملك عزله فإذا انعزل أحدهما لم ينعزل الآخر عن التصرف لأنهما وكيلان فلا يعزل أحدهما بعزل الآخر فإن قال أحدهما فسخت الشركة انعزلا جميعاً لأن الفسخ يقتضي رفع العقد من الجانبين فانعزلا وإن ماتا أو أحدهما انفسخت الشركة لأنه عقد جائز فبطل بالموت كالوديعة وإن جنى أو أحدهما أو أغمي عليهما أو على أحدهما بطل لأنه بالجنون والإغماء يخرج عن أن يكون من أهل التصرف ولهذا تثبت الولاية عليه في المال فبطل العقد كما لومات والله أعلم.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة تجوز الوكالة فيعقد البيع لما روي عن عروة بن الجعد قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً أشتري شاة أو أضحية فاشتريت شاتين فبعت إحداهما بدينار فدعا لي بالبركة فكان لو اشترى تراباً لربح فيه ولأن الحاجة تدعو إلى الوكالة في البيع لأنه قد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ إليه لكثرة أشغاله فجاز أن يوكل فيه غيره وتجوز في سائر عقود المعاملات كالرهن والحوالة والضمان والكفالة والشركة والوكاة والوديعة والإعارة والمضاربة والجعالة والمساقاة والإجارة والقرض والهبة والوقف والصدقة لأن الحاجة إلى التوكيل فيها كالحاجة إلى التوكيل في البيع وفي تملك المباحات كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد والاحتشاش قولان: أحدهما لا يصح التوكيل فيها لأنه تملك مباح فلم يصح التوكيل فيه كالاغتنام والثاني يصح لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه فجاز أن يوكل فيه كالابتياع والاتهاب ويخالف الاغتنام لأنه يستحق بالجهاد وقد تعين عليه بالحضور فتعين له ما استحق به. فصل: ويجوز التوكيل في عقد النكاح لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية الضمري في نكاح أم حبيبة ويجوز في الطلاق والخلع والعتاق لأن الحاجة تدعوا إلى التوكيل فيه كما تدعوا إلى التوكيل في البيع والنكاح ولا يجوز التوكيل في الإيلاء والظهار واللعان لأنها أيمان فلا تحتمل التوكيل وفي الرجعة وجهان: أحدهما لا يجوز التوكيل فيه كما لا يجوز في الإيلاء والظهار والثاني أنه يجوز وهو الصحيح فإنه إصلاح للنكاح فإذا جاز في النكاح جاز في الرجعة. فصل: ويجوز التوكيل في إثبات الأموال والخصومة فيها لما روي أن علياً كرم الله وجهه وكل عقيلاً رضي الله عنه عند أبي بكر وعمرو رضي الله عنهما وقال ما قضى له فلي وما قضى عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان رضي الله عنه وقال علي أن للخصومات قحماً قال أبو زباد الكلابي: القحم المهالك ولأن الحاجة تدعوا إلى التوكيل في الخصومات لأنه قد يكون له حق أو يدعي عليه حق ولا يحسن الخصومة فيه

أو يكره أن يتولاها بنفسه فجاز أن يوكل فيه ويجوز ذلك من غير رضى الخصم لأنه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه كالتوكيل في قبض الديون ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف لأنه حق آدمي فجاز التوكيل في إثباته كالمال ولا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى لأن الحق له وقد أمرنا فيه بالدرء والتوصل إلى إسقاطه وبالتوكيل يتوصل إلى إيجابه فلم يجز ويجوز التوكيل في استيفاء الأموال لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العمال لقبض الصدقات وأخذ الجزي ويجوز في استيفاء حدود الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أنيساً لإقامة الحد وقال: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ووكل عثمان رضي الله عنه علياً كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على الوليد بن عقبة وأما القصاص وحد القذف فإنه يجوز التوكيل في استيفائهما بحضرة الموكل لأن الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه لأنه قد يكون له حد أو قصاص ولا يحسن أن يستوفيه فجاز لأن يوكل فيه غيره وهل يجوز أن يستوفيه في غيبة الموكل؟ قال في الوكالة لا يستوفي وقال في الجنايات ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو وقبل العلم بالعفو ففي الضمان قولان: وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل فمن أصحابنا من قال يجوز قولاً واحداً وهو قول أبي إسحاق لأنه حق يجوز أن يستوفيه بحضرة الموكل فجاز في غيبته كأخذ المال وحمل قوله لا يستوفي على الاستحباب ومنهم من قال لا يجوز قولاً واحداً لأن القصاص والحد يحتاط في إسقاطهما والعفو مندوب إليه فيهما فإذا حضر رجونا أن يرحمه فيعفو عنه وحمل قوله في الجنايات على أنه أراد إذا انتفع به ولم يغب عن عينه فعفا ولم يسمع الوكيل فقتل ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز والثاني لا يجوز ووجههما ما ذكرناه. فصل: ويجوز التوكيل في فسخ العقود لأنه إذا جاز التوكيل في عقدها ففي فسخها أولى ويجوز أن يوكل في الإبراء من الديون لأنه إذا جاز التوكيل في إثباته واستيفائها جاز التوكيل في الإبراء عنها وفي التوكيل في الإقرار وجهان: أحدهما يجوز وهو ظاهر النص لأنه إثبات مال في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع والثاني لا يجوز وهو قول أبي العباس لأنه توكيل في إخبار عن حق فلم يجز كالتوكيل في الشهادة بالحق فإذا قلنا لا يجوز فهل يكون توكيله إقراراً فيه وجهان: أحدهما أنه إقرار لأنه لم يوكل في الإقرار بالحق إلا والحق واجب عليه والثاني أنه لا يكون إقراراً كما لا يكون التوكيل في الإبراء إبراء.

فصل: ولا يصح التوكيل إلا ممن يملك التصرف في الذي يوكل فيه بملك أو ولاية فأما من لا يملك التصرف في الذي يوكل فيه كالصبي والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في النكاح والفاسق في تزويج ابنته فلا يملك التوكيل فيه لأنه لا يملكه فلا يملك أن يملك ذلك غيره وأما من لا يملك التصرف إلا بالإذن كالوكيل والعبد المأذون فإنه لا يملك التوكيل إلا بالإذن لأنه يملك التصرف بالإذن فكان توكيله بالإذن واختلف أصحابنا في غير الأب والجد من العصبات هل تملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة فمنهم من قال يملك لأنه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع فملك التوكيل من غير إذن كالأب والجد ومنهم من قال لا يملك لأنه لا يملك التزويج إلا بإذن فلا يملك التوكيل إلا بإذن كالوكيل والعبد المأذون. فصل: ومن لا يملك التصرف في حق نفسه لنقص فيه كالمرأة في النكاح والصبي والمجنون في جميع العقود لم يملك أن يتوكل لغيره لأنه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه بحق الملك لم يملكه في حق غيره بالتوكيل ومن ملك التصرف فيما تدخله النيابة في حق نفسه جاز أن يتوكل فيه لغيره لأنه يملك في حق نفسه بحق الملك فملك في حق غيره بالإذن واختلف أصحابنا في العبد هل يجوز أن يتوكل في قبول النكاح فمنهم من قال يجوز لأنه يملك قبول العقد لنفسه بإذن المولى فملك أن يقبل لغيره بالتوكيل ومنهم من قال لا يجوز لأنه لا يملك النكاح وإنما أجيز له القبول لنفسه للحاجة إليه ولا حاجة إلى القبول لغيره فلم يجز واختلفوا في توكيل المرأة في طلاق غيرها فمنهم من قال يجوز كما يجوز توكيلها في طلاقها ومنهم من قال لا يجوز لأنها لا تملك الطلاق وإنما أجيز توكيلها في طلاق نفسها للحاجة ولا حاجة إلى توكيلها في طلاق غيرها فلم يجز ويجوز للفاسق أن يتوكل في قبول النكاح للزوج لأنه يجوز أن يقبل لنفسه مع الفسق فجاز أن يقبل لغيره وهل يجوز أن يتوكل في الإيجاب فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه موجب للنكاح فلم يجز أن يكون فاسقاً كالولي والثاني يجوز لأنه ليس بولي وإنما هو مأمور من جهة الولي والولي عدل. فصل: ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والإجارة ويجوز القبول على الفور وعلى التراخي وقال القاضي أبو حامد المروروذي: لا يجوز إلا على الفور لأنه عقد في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع والمذهب الأول لأنه إذن في التصرف والإذن قائم ما لم يرجع فيه فجاز القبول ويجوز القبول بالفعل لأنه إذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل كالإذن في أكل الطعام.

فصل: ولا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم فإن قال وكلتك في كل قليل وكثير لم يصح لأنه يدخل فيه ما يطيق وما لا يطيق فيعظم الضرر ويكثر الغرر وإن قال وكلتك في بيع جميع مالي أو قبض جميع ديوني صح لأنه عرف ماله ودينه وإن قال بع ما شئت من مالي أو اقبض ما شئت من ديوني جاز لأنه إذا عرف ماله ودينه عرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقل الغرر وإن قال اشتر لي عبداً لم يصح لأن فيه ما يكون بمائة وفيه ما يكون بألف فيكثر الغرر وإن قال اشتر لي عبداً بمائة لم يصح لأنه ذكر الثمن لا يدل على النوع فيكثر الغرر وإن قال اشتر لي عبداً تركياً بمائة جاز لأن مع ذكر النوع وقدر الثمن يقل الغرر فإن قال اشتر لي عبداً تركياً ولم يقدر الثمن ففيه وجهان: قال أبو العباس يصح لأنه يحمل الأمر على أعلى هذا النوع ثمناً فيقل الغرر ومن أصحابنا من قال لا يصح لأن أثمان الترك تختلف وتتفاوت فيكثر الغرر وإن وكله في الإبراء لم يجز حتى يبين الجنس الذي يبرئ منه والقدر الذي يبرئ منه وإن وكله في الإقرار وقلنا إنه يصح التوكيل فيه لم يجز حتى يبين جنس ما يقر به وقدر ما يقر به لأنه إذا أطلق عظم الضرر وكثر الغرر فلم يجز وإن وكله في خصومة كل من يخاصمه ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن الخصومة معلومة والثاني لا يصح لأنها قد تقل الخصومات وقد تكثر فيكثر الغرر. فصل: ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل ومن أصحابنا من قال يجوز لأنه أذن في التصرف فجاز تعليقه على مستقبل كالوصية والمذهب الأول لأنه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والإجارة ويخالف الوصية فإنها لا يؤثر فيها غرر الجهالة فلا يؤثر فيها غرر الشرط والوكالة تؤثر الجهالة في إبطالها فأثر غرر الشرط فإن علقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صح التصرف لأن مع فساد العقد الإذن قائم فيكون تصرفه بإذن فصح فإن كان قد سمى له جعلاً سقط المسمى ووجب له أجرة المثل لأنه عمل في عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل فوجب أجرة المثل كالعمل في الإجارة الفاسدة وإن عقد الوكالة في الحال وعلق التصرف على شرط بأن قال: وكلتك بأن تطلق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهر صح لأنه لم يعلق العقد على شرط وإنما علق التصرف على شرط فلم يمنع صحة العقد. فصل: ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن الموكل من جهة النطق أو

من جهة العرف لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما يقتضيه الإذن والإذن يعرف بالنطق وبالعرف فإن تناول الإذن تصرفين وفي أحدهما إضرار بالموكل لم يجز ما فيه إضرار لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" فإن تناول تصرفين وفي أحدهما نظر للموكل لزمه مافيه نظر للموكل لما روى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس الدين النصيحة قلنا يارسول الله لمن؟ قال: لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وللمسلمين عامة1" وليس من النصح أن يترك ما فيه الحظ والنظر للموكل. فصل: وإن وكل في تصرف وأذن له أن يوكل إذا شاء نظرت فإن عين له أن يوكله وكله أميناً كان أو غير أمين لأنه قطع اجتهاده بالتعيين وإن لم يعين من يوكل لم يوكل إلا أميناً لأنه لا نظر للموكل في توكيل غير الأمين فإن وكل أميناً فإن صار خائناً فهل يملك عزله؟ فيه وجهان: أحدهما يملك عزله لأن الوكالة تقتضي استعمال أمين فإذا خرج عن أن يكون أميناً لم يجز استعماله فوجب عزله والثاني لا يملك عزله لأنه أذن له في التوكيل دون العزل وإن وكله ولم يأذن له في التوكيل نظرت فإن كان موكله فيه مما يتولاه الوكيل ويقدر عليه لم يجز أن يوكل فيه غيره لأن الإذن لا يتناول تصرف غيره من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضي غيره وإن وكله في تصرف وقال اصنع فيه ما شئت ففيه وجهان: أحدهما أنه يجوز أن يوكل فيه غيره لعموم قوله اصنع فيه ما شئت والثاني لا يجوز لأن التوكيل يقتضي تصرفاً يتولاه بنفسه وقوله اصنع فيه ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل في تصرفه بنفسه وإن كان ما وكله فيه مما لا يتولاه بنفسه كعمل لا يحسنه أو عمل يترفع عنه جاز أن يوكل فيه غيره لأن توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف وإن كان مما

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 42.مسلم في كتاب الإيمان حديث 95.

يتولاه إلا أنه لا يقدر على جميعه لكثرته جاز له أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه لأن توكيله فيما لا يقدر عليه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف وهل يجوز أن يوكل في جميعه؟ فيه وجهان: أحدهما له أن يوكل في جميعه لأنه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل والثاني ليس له أن يوكل فيما يقدر عليه منه لأن التوكيل يقتضي أن يتولى الوكيل بنفسه وإنما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز وبقي فيما يقدر عليه على مقتضى التوكيل وإن وكل نفسين في بيع أو طلاق فإن جعله إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد به لأنه أذن لكل واحد منهما في التصرف وإن لم يجعل لكل واحد منهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد به لأنه لم يرض بتصرف أحدهما فلا يجوز أن ينفرد به وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه في حرز لهما وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه إن كان مما ينقسم جاز أن يقتسما ويكون عند كل واحد منهما نصفه وإن لم ينقسم جعلاه في حرز لهما كما يفعل المالكان والصحيح هو الأول لأنه تصرف أشرك فيه بينهما فلم يجز لأحدهما أن ينفرد ببعضه فيه كالبيع ويخالف المالكين لأن تصرف المالكين بحق الملك ففعلا ما يقتضي الملك وتصرف الوكيلين بالإذن والإذن يقتضي اشتراكهما ولهذا يجوز لأحد المالكين أن ينفرد ببيع بعضه ولا يجوز لأحد الوكيلين أن ينفرد ببيع بعضه. فصل: وإن وكل رجلاً في الخصومة لم يملك الإقرار على الموكل ولا الإبراء من دينه ولا الصلح عنه لأن الإذن في الخصومة لا يقتضي شيئاً من ذلك وإن وكله في تثبيت حق فثبته لم يملك قبضه لأن الإذن في التثبيت ليس بإذن في القبض من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه ليس في العرف أن من يرضاه للتثبيت يرضاه للقبض وإن وكله في قبض حق من رجل فجحد الرجل الحق فهل يملك أن يثبته عليه؟ فيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن الإذن في القبض ليس بإذن في التثبيت من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه ليس في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للتثبيت والثاني أنه يملك لأنه يتوصل بالتثبيت إلى القبض فكان الإذن في القبض إذناً بالتثبيت وإن وكله في بيع سلعة فباعها لم يملك الإبراء من الثمن لأن الإذن في البيع ليس بإذن في الإبراء من الثمن وهل يملك قبضه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما أنه لا يملك لأن الإذن في البيع ليس بإذن في قبض الثمن من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه قد يرضى الإنسان للبيع من لا يرضاه للقبض والثاني أنه يملك لأن العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض الثمن فحملت الوكالة عليه وإن وكله في شراء عبد فاشترى وسلم الثمن ثم استحق العبد فهل يملك

أن يخاصم البائع في درك الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما يملك لأنه من أحكام العقد والثاني لا يملك لأن الذي وكل فيه هو العقد وقد فرغ منه فزالت الوكالة. فصل: وإن وكل في البيع في زمان لم يملك البيع قبله ولا بعده لأن الإذن لا يتناول ما قبله ولا ما بعده من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه قد يؤثر البيع في زمان الحاجة ولا يؤثر في زمان قبله ولا زمان بعده وإن وكله في البيع في مكان فإن كان الثمن فيه أكثر أو النقد فيه أجود لم يجز البيع في غيره لأنه قد يؤثر البيع في ذلك المكان لزيادة الثمن أو جودة النقد فلا يجوز تفويت ذلك عليه وإن كان الثمن فيه وفي غيره واحداً ففيه وجهان: أحدهما أنه يملك البيع في غيره لأن المقصود فيهما واحد فكان الإذن في أحدهما إذناً في الآخر والثاني لا يجوز لأنه لما نص عليه دل على أنه قصد عينه لمعنى هو أعلم به من يمين وغيرها فلم تجز مخالفته. فصل: وإن وكله في البيع من رجل لم يجزأن يبيع من غيره لأنه قد يؤثر تمليكه دون غيره فلا يكون الإذن في البيع منه إذناً في البيع من غيره وإن قال خذ مالي من فلان فمات لم يجز أن يأخذ من ورثته لأنه قد لايرضى أن يكون ماله عنده ويرضى أن يكون عند ورثته فلا يكون الإذن في الأخذ منه إذناً في الأخذ من ورثته وإن قال خذ مالي على فلان فمات جاز أن يأخذ من ورثته لأنه قصد أخذ ماله وذلك يتناول الأخذ منه ومن ورثته وإن وكل العدل في بيع الرهن فأتلفه رجل فأخذت منه القيمة لم يجز له بيع القيمة لأن الإذن لم يتناول بيع القيمة. فصل: وإن وكل في بيع فاسد لم يملك الفاسد لأن الشرع لم يأذن فيه ولا يملك الصحيح لأن الموكل لم يأذن فيه. فصل: وإن وكل في بيع سلعة لم يملك بيعها من نفسه من غير إذن لأن العرف في البيع أن يوجب لغيره فحمل الوكالة عليه ولأن إذن الموكل يقتضي البيع ممن يستقصي في الثمن عليه وفي البيع من نفسه لا يستقصي في الثمن فلم يدخل في الإذن وهل يملك البيع من ابنه أو مكاتبه؟ فيه وجهان: أحدهما يملك وهو قول أبو سعيد الاصطخري لأنه يجوز أن يبيع منه ماله فجاز له أن يبيع منه مال موكله كالأجنبي والثاني لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأنه متهم في الميل إليهما كما يتهم في الميل إلى نفسه ولهذا لا تقبل شهادته لهما كما لا تقبل شهادته لنفسه فإن أذن له في البيع من نفسه ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز أن يوكل المرأة في طلاقها والثاني لا يجوز وهو

المنصوص لأنه يجتمع في عقده غرضان متضادان الاستقصاء للموكل والاسترخاص لنفسه فتمانعا ويخالف الطلاق فإنه يصح بالزوج وحده فصح بمن يوكل والبيع لا يصح بالبائع وحده فلم يصح بمن يوكله وإن كان رجلاً في بيع عبده ووكله آخر في شرائه لم يصح لأنه عقد واحد يجتمعان فيه غرضان متضادان فلم يصح التوكيل فيه كالبيع من نفسه وإن وكله في خصومة رجل ووكله الرجل في خصومته ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه توكيل في أمر يجتمع فيه عرضان متضادان فلم يصح كما لو وكله أحدهما في بيع عبده ووكله آخر في شرائه والثاني يصح لأنه لا يتهم في إقامة الحجة لكل واحد منهما مع حضور الحاكم فإن وكل عبد الرجل ليشتري له نفساً أو عبداً غيره من مولاه ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لما جاز توكيله في الشراء من غير مولاه جاز توكيله في الشراء من مولاه والثاني لا يجوز لأن يد العبد كيد المولى ولهذا يحكم له بما في يد العبد كما يحكم له بما في يده ثم لو وكل المولى في الشراء من نفسه لم يجز فكذلك إذا وكل العبد. فصل: وإن وكل في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشتري معيباً لأن إطلاق البيع يقتضي السلامة من العيب ولهذا لو اشترى عيناً فوجد فيها عيباً ثبت له الرد فإن اشترى معيباً نظرت فإن اشتراه وهو يعلم أنه معيب لم يصح الشراء للموكل لأنه اشترى له ما لم يأذن فيه فلم يصح له وإن اشتراه وهو لا يعلم أنه معيب ثم علم لم يخل إما أن يرضى به أو لا يرضى فإن لم يرض به نظرت فإن علم الموكل ورضي به لم يجز للوكيل رده لأن الرد لحقه وقد رضي به فسقط وإن لم يعلم الموكل ثبت للوكيل الرد لأنه ظلامة حصلت بعقده فجاز له رفعها كما لو اشترى نفسه فإن قال البائع أخر الرد حتى تشاور الموكل فإن لم يرض قبلته لم يلزمه التأخير لأنه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره وإن قبل منه وأخره بهذا الشرط فهل يسقط حقه من الرد فيه وجهان: أحدهما يسقط لأنه ترك الرد مع القدرة والثاني لا يسقط لأنه لم يرض بالعيب فإن ادعى البائع أن الموكل علم بالعيب ورضي به فالقول قول الوكيل مع يمينه لأن الأصل عدم الرضا فإن رضي الوكيل بالعيب سقط خياره فإن حضر الموكل ورضي بالعيب استقر العقد وإن اختار الرد نظرت فإن كان قد سماه الوكيل في الابتياع أو نواه وصدقه البائع جاز أن يرده لأن الشراء له وهو لم يرض بالعيب وإنما رضي وكيله فلا يسقط حقه من الرد وإن لم يسمه الوكيل في الابتياع ولا صدقة البائع أنه نواه فالمنصوص أن السلعة تلزم الوكيل لأنه ابتاع في الذمة للموكل ما

لم يأذن فيه ومن أصحابنا من قال: يلزم الموكل لأن العقد وقع له وقد تعذر الرد بتفريط الوكيل في ترك الرد ويرجع الموكل على الوكيل بنقصان العيب لأن الوكيل صار كالمستهلك له بتفريطه وفي الذي يرجع به وجهان: أحدهما وهو قول أبي يحيى البلخي أنه يرجع بما نقص من قيمته معيباً على الثمن فإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة مائة لم يرجع بشيء وإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة تسعين رجع بعشرة كما نقول في شاهدين شهدا على رجل أنه باع سلعة بمائة فأخذت منه ووزن له المشتري الثمن ثم رجع الشهود عن الشهادة فإن الحكم لا ينقض ويرجع البائع على الشهود بما نقص من القيمة عن الثمن فإن كان الثمن والقيمة سواء لم يرجع عليهم بشيء وإن كانت القيمة مائة والثمن تسعون رجع بعشرة والثاني أنه يرجع بأرش العيب وهو الصحيح لأنه عيب فات الرد به من غير رضاه فوجب الرجوع بالأرض وإن وكل في شراء سلعة بعينها فاشتراها ووجد بها عيباً فهل له أن يرد من غير إذن الموكل؟ فيه وجهان: أحدهما له أن يرد لأن البيع يقتضي السلامة من العيب ولم يسلم من العيب فثبت له الرد كما لو وكل في شراء سلعة موصوفة فوجد بها عيباً فعلى هذا يكون حكمه في الرد على ما ذكرناه في السلعة الموصوفة والثاني لا يرد من غير إذن الموكل لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين. فصل: وإن وكل في بيع عبد أو شراء عبد لم يجز أن يعقد على بعضه لأن العرف في بيع العبد وشرائه أن يعقد على جميعه فحمل الوكالة عليه ولأن في تبعيضه إضراراً بالموكل فلم يملك من غير إذن وإن وكل في شراء أعبد أو بيع أعبد جاز أن يعقد على واحد لأن العرف في العبيد أن تباع وتشترى واحداً واحداً ولأنه لا ضرر في إفراد بعضهم عن بعض فإن وكله أن يشتري له عشرة أعبد صفقة واحدة فابتاع عشرة أعبد من اثنين صفقة واحدة ففيه وجهان: قال أبو العباس يلزم الموكل لأنه اشتراهم صفقة واحدة ومن أصحابنا من قال لا يلزم الموكل لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان. فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد من غير إذن ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بغير نقد البلد من غير إذن لأن إطلاق البيع يقتضي نقد البلد ولهذا لو قال بعتك بعشرة دراهم حمل على نقد البلد وإن كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما لأن نقد البلد هو الغالب فإن استويا في المعاملة باع بما هو أنفع للموكل لأنه مأمور بالنصح له ومن النصح أن يبيع بالأنفع فإن استويا باع بما شاء منهما لأنه لا

مزية لأحدهما على الآخر فخير بينهما وإن أذن له في العقد بنقد لم يجز أن يعقد بنقد آخر لأن الإذن في جنس ليس بإذن في جنس آخر ولهذا لو أذن له في شراء عبد لم يجز أن يشتري جارية ولو أذن له في شراء حمار لم يجز أن يشتري فرسا. فصل: وإن دفع إليه ألفا وقال اشتريها بعينها في ذمته لم يصح الشراء للموكل، لأنه لم يرض بالتزام غير الألف، فإذا ابتاع بألف في الذمة فقد ألزمه في ذمته ألفا لم يرض بالتزامها فلم يلتزم وإن قال اشتر لي في الذمة وانقد الألف فيه فابتاع فابتاع بعينها ففيه وجهان: أحدهما أن البيع باطل لأنه أمره بعقد لا ينفسخ بتلف الألف فعقد عقدا ينفسخ بتلف الألف وذالك لم يأذن فيه ولم يرض به. والثاني أن يصح لأنه أمره بعقد يلزمه الثمن مع بقا الألف، ومع تلفها قد عقد عقدا يلزمه الثمن مع بقائها ولايلزمه مع تلفها فزاد بذالك خيرا، وإن دفع إليه ألفا وقال اشتر عبدا ولم يقل بعينها ففيه وجهان: أحدهما مقتضاه الشراء بعينها لأنه لما دفع إليه الألف دل علي أنه قصد الشراء بعينها لأن الأمر مطلق فهلي هذا يجوز أن يشتري بعينها ويجوز أن يشتري في الذمة وينقد الألف فيه. فصل: فإن وكله في الشراء ولم يدفع إليه الثمن فاشتراه ففي الثمن ثلاثة أوجه: أحدهما أنه علي الموكل والوكيل ضامن لأنه المبيع للموكل فكان الثمن عليه والوكيل تولي العقد والتزم الثمن فضمنه، فعلي هذا يجوز للبائع أن يطالب الوكيل والموكل لأن أحدهما ضامن والآخر مضمون عنه فإن وزن الوكيل الثمن رجع علي الموكل وإن وزن الموكل لم يرجع علي الوكيل. والثاني أن الثمن علي الوكيل دون الموكل لأن الذي التزم هو الوكيل فكان الثمن عليه فعلي هذا يجوز للبائع مطالبة الوكيل لأن الثمن عليه ولا يجوز له مطالبة الموكل لأنه لا شيء عليه، فإن وزن الوكيل رجع علي الموكل لأنه التزم بإذنه وإن لم يزن لم يرجع كما نقول فيمن أحال بدين عليه علي رجل لا دين له عليه، أنه إذا وزن رجع وإذا لم يزن لم يرجع وإن أبر البائع الوكيل سقط الثمن وحصلت السلعة للموكل من غير ثمن. والثالث أن الثمن علي الوكيل وللوكيل في ذمة الموكل مثل الثمن فيجوز للبائع مطالبة الوكيل دون الموكل، وللوكيل مطالبة الموكل بالثمن وإن لم يطالبه البائع. فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بثمن مؤجل من غير إذن لأن الأفضل في البيع النقد، وإنما يدخل التأجيل لكساد أو فساد فإن أطلق حمل علي الأصل، فإن أذن له في بيع مؤجل وقدر الأجل أكثر منه لأنه لم يرض بما زاد علي المقدر

ففي علي الصل في المنع، وإن أطلق الأجل ففيه وجهان: أحدهما لايصح التوكيل لأن الأجال تختلف فيكثر الغرر فيه فلم يصح. والثاني يصح ويحمل علي العرف في مثله لأن مطلق الوكالة يحمل علي المتعارف، وإن لم يكن فيه عرف باع بأنفع ما يقدر عليه لأنه مأمور بالنصح لموكله. ومن أصحابنا من قال يجوز القليل والكثير لأن اللفظ مطلق ومنهم من قال: يجوز إلي سنة لأن الديون المؤجلة في الشرع مقدرة بالسنة وهي الدية والجزية والصحيح هو الأول، وقول القائل الثاني إن اللفظ مطلق لا يصح لأن العرف يخصه، ونصح الموكل يخصه، وقول القائل الثالث لا يصح لأن الدية والجزية وجبت بالشرع فحمل علي تأجيل الشرع، وهذا وجب بإذن الموكل فحمل علي المتعارف، وإن أذن له في البيع إلي أجل فباع بالنقد نظرت فإن باع بدون ما يساوي نسيئة لم يصح لأن الإذن في البيع نسيئة يقتضي افلبيع بما يساوي نسيئة، فإذا باع بما دونه لم يصح. وإن باع نقدا بما يساوي نسيئة؛ فإن كان في وقت لا يأمن أن ينهب أو يسرق لم يصح لأن ضرر لم يرض به فلم يلزمه، وإن كان في وقت مأمون ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة ملئ، ففوت عليه ذالك فلم يصح، والثاني يصح لأنه زاده بالتعجيل خيرا. وإن وكله أن يشتري عبدا بألف فاشتراه بألف مؤجل ففيه وجهان: أحدهما لا يصح الشراء للموكل لأنه قصد أن لا يكون عليه دين وأن لا يشتري إلا بما معه، والثاني أنه يصح لأنه حصل له العبد وزاده التأجيل خيرا. فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يشترط الخيار للمشتري ولا للوكيل في الشراء أن يشترط الخيار للبائع من غير إذن لأنه شرط لاحظ فيه للموكل فلا يجوز من غير إذن كالأجل، وهل يجوز أن يشترط لنفسه أو للموكل؟ فيه وجهان أحدهما لا يجوز لأن إطلاق البيع يقتضي البيع من غير شرط، والثاني يجوز لأنه احتاط للموكل بشرط الخيار. فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن لأنه منهي عن الإضرار بالموكل مأمور بالنصح له، وفي النقصان عن ثمن المثل في البيع والزيادة علي ثمن المثل في الشراء ضرار وترك النصح، ولأن العرف في البيع ثمن المثل فحمل إطلاق الإذن عليه فإن حضر من يطلب الزيادة علي ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لأنه مأمور بالنصح والنظر للموكل، ولا نصح ولا نظر للموكل في ترك الزيادة، وإن باع بثمن المثل ثم حضر من يزيد في حال الخيار ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه فسخ البيع لأن المزايد قد لا يثبت علي الزيادة فلا يلزمه الفسخ

بالشك، والثاني يلزمه الفسخ وهو الصحيح لأن حال الخيار كحال العقد. ولو حضر في حال العقد من يزيد وجب البيع منه فكذلك إذا حضر في حال الخيار، وقول القائل الأول إنه قد لا يثبت علي الزيادة فيكون الفسخ بالشك، وإن باع بنقصان يتغابن الناس بمثله بأن باع ما يساوي عشرة بتسعة صح البيع، وإن اشتري بزيادة يتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوي عشرة بأحد عشرة صح الشراء ولزم الموكل لأن ما يتغابن الناس بمثله يعد من المثل، ولأنه يمكن الإحتراز منه فعفي عنه، وإن اشتري بزيادة لا تتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع مايساوي عشرة بإثني عشر فإن كان بعين مال الموكل بطل الشراء لأنه عقد على ماله عقدا لم يأذن فيه وإن كان في الذمة لزم الوكيل لأنه اشترى في الذمة بغير إذن فوقع الملك وإن باع بنقصان لا يتغابن الناس بمثله بأن باع مايساوي عشرة بثمانية لم يصح البيع لأنه بيع غير مأذون فيه فإن كان المبيع باقيا رد وإن كان تالفا وجب ضمانه وللموكل أن يضمن الوكيل لأنه سلم مالم يكن له تسليمه وله أن يضمن المشتري لأنه ضمن قبض مالم يكن له قبضه فإن اختار تضمن المشتري ضمن جميع القيمة وهو عشرة لأنه ضمن المبيع بالقبض فضمنه بكمال البلد وإن اختار تضمين الوكيل ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يضمنه جميع القيمة لأنه لزمه رد المبيع فضمن جميع بدله والثاني يضمنه تسعة لأنه لو باعه بتسعة جاز فلا يضمن مازاد ويضمن المشتري تمام القيمة وهو درهم والثالث يضمنه درهما لأنه لم يفرط إلا بدرهم فلا يضمن غيره ويضمن المشتري تمام القيمة وهو تسعة ومايضمنه الوكيل يرجع به على المشتري ومايضمنه المشتري لا يرجع به على الوكيل لأن المبيع تلف في يده فاستقر الضمان عليه وإن قدر الثمن فقال بع بألف درهم لم يجر أن يبيع بدونها لأن الأذن في الألف ليس بإذن فيما دونها وإن باع بألفين نظرت فإن كان قد عين من يبيع منه لم يجز لأنه قصد تمليكه بألف فلا يجوز أن يفوت عليه غرضه وإن لم يعين من يبيع منه جاز لأن الإذن في الألف إذن فيما زاد من جهة العرف لأن من رضي بألف رضي بألفين. وإن قال بع بألف ولاتبع بما زاد لم يجز أن يبيع بما زاد لأنه صرح بالنهي فدل على غرض قصده فلم يجز مخالفته وإن قال بع بألف فباع بألف وثوب ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح لأنه حصل له الألف وزيادة فصار كما لو باع بألفي درهم والثاني أنه لا يصح لأن الدراهم والثوب تتقسط على السلعة فيكون ما يقابل الثوب من السلعة مبيعا بالثوب وذلك خلاف ما يقتضيه الإذن فإن الإذن يقتضي البيع بالنقد فعلى هذا هل يبطل العقد في الدراهم؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة وإن وكله في

بيع عبد بألف فباع نصفه بألف جاز لأنه مأذون له فيه من جهة العرف لأن من يرضى ببيع العبد بألف يرضى ببيع نصفه بالألف فإن باع نصفه بما دون الألف لم يصح لأنه ربما لم يمكنه بيع الباقي بتمام الألف وإن وكله ببيع ثلاثة أعبد بألف فباع عبدا بدون الألف لم يصح لأنه قد لا يشتري الباقي بما بقي من الألف وإن باع أحد الثلاثة بألف جاز لأن من رضي ببيع ثلاثة بألف رضي ببيع أحدهم بألف وهل له أن يبيع الآخرين؟ فيه وجهان: أحدهما لا يملك لأنه قد حصل المقصود وهو الألف والثاني أنه يجوز أذن له في بيع الجميع فلا يسقط الأمر ببيع واحد منهم كما لو لم يقدر الثمن وإن وكله في شراء عبد بعينه بمائة رضي أن يشتريه بخمسين وإن قال اشتر بمائة ولا تشتر بخمسين جاز أن يشتري بمائة لأنه مأذون فيه ولا يشتري بخمسين لأنه منهي عنه ويجوز أن يشتري بما بين الخمسين والمائة لأنه لما أذن في الشراء بالمائة دل علي أنه رضي بالشراء بما دونها ثم خرج الخمسون بالنهي وبقي فيما زاد على مادل عليه المأمور به وهل يجوز أن يشتري بأقل من الخمسين فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لما نص على المائة دل على ما دونها أولى إلا فيما أخرجه النهي والثاني لا يجوز لانه لما نهى عن الخمسين دل على أن ما دونها أولى بالمنع. وإن قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل وقال أبو العباس يلزمه الموكل بنائه ويضمن الوكيل ما زاد على المائة لأنه تبرع بالترام الزيادة والمذهب الأول لأنه زاد على الثمن المأذون فلم يلزم الموكل كما لو قال اشتر لي عبدا فاشتراه بأكثر من ثمن المثل ولأنه لو قال بع هذا العبد بمائة فباعه بمائة إلا عشرة لم يصح ثم يضمن الوكيل ما نقص من المائة فكذلك إذا قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل ثم يضمن الوكيل ما زاد على المائة. وإن وكله في شراء عبد بنائة فاشترى عبدا بمائتين وهو يساوي المائتين لم يلزم الموكل لأنه غير مأذون فيه من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه رضاه بعبد بمائة لا يدل على الرضا بعبد بمائتين وإن جفع له دينارا لم يلزم الموكل لأنه لا يطلب بدينار ما لا يساوي دينارا وإن كل واحدة منهما تساوي دينارا فإن اشترى في الذمة ففيه قولان: أحدهما أن الجميع للموكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقي دينارا ليشتري له شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار فدعا له بالبركة ولأن الإذن في شاة بدينار إذن في شاتين بدينار لأن من رضي شاة بدينار رضي شاتين بدينار، والثاني أن

للموكل شاة لأنه فيه والأخري للوكيل لأنه لم يأذن فيه الموكل فوقع الشراء للوكيل. فإن قلنا إن الجميع للموكل فباع إحداهما فقد خرج أبو العباس فيه وجهين: أحدهما أنه لا يصح لأنه باع مال الموكل بغير إذنه فلم يصح، والثاني أنه يصح لحديث عروة البارقي والمذهب الأول والحديث يتأول، فإن قلنا إن للوكيل شاة استرجع الموكل منه نصف دينار، وغن اشتري الشاتين بعين الدينار فإن قلنا فيما اشتري في الذمة إن الجميع للموكل كان الجميع ههنا للموكل، وإن قلنا عن أحداهما للوكيل والأخري للموكل صح الابتياع للموكل في إحداهما ويبطل في الأخري، لأنه لا يجوز أن يصح الابتياع له بمال الموكل فبطل. فصل: إذا اشتري الوكيل ما أذن فيه الموكل إنتقل الملك إلي الموكل لأن العقد له فوقع الملك له كما لو عقده بنفسه، وإن اشتري مالم يأذن فيه، فإن كان قد اشتراه بعين مال الموكل فالعقد باطل لأنه عقد علي مال لم يؤذن في العقد عليه فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه، وإن اشتراه بثمن في الذمة نظرت، فإن لم يذكر الموكل في العقد لزمه ما اشتري لأنه اشتري لغيره في الذمة ما لم يأذن فيه فانعقد الشراء له كما لو اشتراه من غير وكالة، وغن ذكر الموكل في العقد ففيه وجهان: أحدهما أن العقد باطل لأنه عقد علي أنه للموكل والموكل لم يأذن فيه فبطل، والثاني أنه يصح العقد ويلزم الوكيل ما اشتراه وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح لأنه اشتري في الذمة ولم يصح في حق الموكل فانعقد في حقه كما لو لم يذكر الموكل. فصل: وإن وكله فلي قضاء دين لزمه أن يشهد علي القضاء لأنه مأمور بالنظر والاحتياط للموكل، ومن النظر أن يشهد عليه لئلا يرجع عليه فإن ادعي الوكيل أنه قضاه وأنكر الغريم لم يقبل قول الكيل علي الغريم، لأن الغريم لم يأتمنه علي المال فلا يقبل قوله عليه في الدفع كالوصي وإذا ادعي دفع المال إلي الصبي. وهل يضمن المال للموكل ينظر فيه، فإن كان فيه غيبة الموكل وأشهد شاهدين ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن لأنه لم يفرط، وإن لم يشهد ضمن لأنه فرط، وإن أشهد شاهدا واحدا ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن الشاهد مع اليمين بينه، والثاني يضمن لأنه فرط حيث أنه اقتصر علي بينه مختلف فيها وإن كان بمحضر الموكل وأشهد لم يضمن، وإن لم يشهد ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن المفرط هو الموكل فإنه حضر وترك الإشهاد، والثاني انه

يضمن لأنه ترك الإشهاد يثبت الضمان فلا يسقط حكمه بحضور الموكل كما لو أتلف مله وهو حاضر. وإن وكله في إيداع ماله عند رجل فهل يلزمه الإشهاد فيه وجهان: أحدهما يلزمه لأنه لا يأمن أن يجحد فيشهد عليه الشهود، والثاني لا يلزمه لأن القول قول المودع في الرد والهلاك فلا فائدة في الإشهاد، وإن وكله في الإيداع فادعي أنه أودع وأنكر المودع لم يقبل قول الوكيل عليه، لأنه لم يأتمنه المودع فلا يقبل قوله عليه كالوصي إذا ادعي دفع المال إلي اليتيم، وهل يضمن الوكيل؟ ينظر فيه، فإن أشهد ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن لأنه لم يفرط، وإن لم يشهد، فإن قلنا إنه يجب الإشهاد ضمن لأنه فرط، وإن قلنا لا يجب لم يضمن لأنه لم يفرط. فصل: وإن كان عليه حق لرجل ادعي أنه وكيل صاحب الحق في قبضه وصدقه جاز أن يدفع إليه ولا يجب الدفع إليه، وقال المزني يجب الدفع إليه لأنه أقر له بحق القبض، وهذا لا يصح لأنه دفع غير مبريء فلم يجبر عليه كما لو كان عليه دين بشهادة فطولب به من غير إشهاد، فإن دفع إليه ثم حضر الموكل وأنكر التوكيل فالقول قوله مع يمينه أنه ما وكل لأن الأصل عد التوكيل، فإذا حلف نظرت؛ فإن كان الحق عينا أخذها إن كانت باقية ورجع ببدلها إن كانت تالفة، وله أن يطالب الدافع والقابض لأن الدافع سلم إلي من لم يأذن له الموكل والقابض أخذ مالم يكن له أخذه فإن ضمن الدافع لم يرجع علي القابض وإن ضمن القابض لم يرجع إلي الدافع لأن كل واحد منهما يقول إن ما يأخذه المالك ظلم فلا يرجع به علي غير، وإن كان الحق دينا أن يطالب به الدافع لأن حقه في ذمته لم ينتقل. وهل له أن يطالب القابض؟ فيه وجهان: أحدهما له أن يطالب وهو قول أبي إسحاق لأنه يقر بأنه قبض حقه فرجع عليه كما لو كان الحق عينا، والثاني ليس له وهو قول أكثر أصحابنا لأن دينه في ذمة الدافع لم يتعين فيما صار في يد القابض فلم يجز أن يطالب به، وإن جاء رجل إلي من عليه الحق وادعي أنه وارث صاحب الحق فصدقه وجب الدفع إليه لأنه اعترف بأنه لا مالك له غيره، وإن دفعه إليه دفع مبرئ فلزمه. وإن جاء رجل فقال: أحالني عليك صاحب الحق فصدقه ففيه وجهان: أحدهما يلزمه الدفع إليه لأنه أقر أنه انتقل الحق إليه فصار كالوارث، والثاني أنه لا يلزمه لأن الدفع غير مبرئ لأنه ربما يجئ صاحب الحق فلينكر الحوالة فيضمنه، وإن كذبه لم يلزمه الدفع إليه في المسائل كلها، وهل يحلف إن قلنا إنه إن صدقه لزمه الدفع إليه حلف لأنه قد يخاف اليمين فيصدقه فيلزمه الدفع إليه، وإن قلنا لا يلزمه الدفع إليه إذا صدقه لم يحلف لأن اليمين يعرض ليخاف فيصدق ولو صدق لم يلزمه الدفع فلا معني لعرض اليمين.

فصل: ويجوز للموكل أن يعزل الوكيل إذا شاء ويجوز للوكيل أن يعزل نفسه متي شاء، لأنه أذن في التصرف في ماله فجاز لكل واحد منهما إبطاله كالإذن في أكل طعامه، وإن رهن عند رجل شيئا وجعلاه علي يد عدل واتفقا علي أنه يبيعه إذا حل الدين ثم عزله الراهن عن البيع انعزل لأنه وكيله في البيع فأنعزل بعزله كالوكيل في بيع غير الرهن وإن عزله المرتهن ففيه وجهان: أحدهما أنه ينعزل وهو ظاهر النص لأنه يبيع الرهن لحقه فانعزل بعزله كالراهن، والثاني لا ينعزل وهو قول أبي إسحاق لأنه ليس بوكيل له في البيع فلم ينعزل بعزله، وإن وكل رجلا في تصرف وأذن له في توكيل غيره نظرت، فإن أذن له في التوكيل عن الموكل فهما وكيلان للموكل، فإن بطلت وكالة أحدهما لم تبطل وكالة الآخر، وإن أذن له في توكيله عن نفسه فإن الثاني وكيل الوكيل فإن عزله الموكل انعزل لأنه يتصرف فملك عزله كالوكيل وإن عزله الوكيل انعزل لأنه وكيله فانعزل بعزله وإن بطلت وكالة الوكيل بطلت وكالته، لأنه فرع له فإذا بطلت وكالة الأصل بطلت وكالة الفرع وإن وكل رجلا في أمر ثم خرج عن أن يكون من أهل التصرف في ذالك الأمر بالموت أو الجنون أو الإغماء أو الحجر أو الفسق بطلت الوكالة، لأنه لا يملك التصرف فلا يملك غيره من جهته. وإن أمر عبده بعقد ثم عتقه أو باعه ففيه وجهان: أحدهما لا ينعزل كما لو أمر زوجته بعقد ثم طلقها، والثاني أنه ينعزل لأن ذالك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو أمر ولهذا يلزم إمتثاله وبالعتق والبيع سقط أمره عنه وإن وكل في بيع عين فتعدي فيها بأن كان ثوبا فلبسه أو دابة فركبها فهل تبطل الوكالة أم لا؟ في وجهان: أحدهما تبطل فلا يجوز له البيع لأنه عقد أمانه فتبطل بالخيانه كالوديعة، والثاني أنها لا تبطل لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفا، فإذا تعدي فيه بطلت الأمانة وبقي التصرف كالرهن يتضمن أمانة ووثيقة فإذا تعدي فيه بطلت الأمانة وبقيت الوثيقة. وإن وكل رجلا في تصرف ثم عزله ولم يعلم الوكيل بالعزل ففيه قولان: أحدهما لا ينعزل فإن تصرف صح تصرفه لأنه أمر فلا يسقط حكمه قبل العلم بالنهي كأمر صاحب الشرع، والثاني أنه ينعزل فإن تصرف لم ينفذ تصرفه لأنه قطع عقد لا يفتقر إلي رضاه فلم يفتقر إلي علمه كالطلاق. فصل: والوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل، فإن تلف في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن، وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها فباعها وقبض ثمنها وتلف الثمن

واستحق المبيع رجع المشتري بالثمن علي المكل لأن البيع له فكان الرجوع بالعهدة عليه كما لو باع نفسه. فصل: إذا ادعي رجل انه وكل في تصرف فأنكر المدعي عليه، فالقول قوله لأنه ينكر العقد والأصل عدمه فكان القول قوله، وغن اتفقا علي الوكالة واختلفا في صفتها بأن قال الوكيل وكلتني في بيع ثوب، وقال الموكل بل وكلتك في عبد، أو قال الوكيل وكلتني في البيع بألف، وقال بل وكلتك في البيع بألفين، أو قال الوكيل وكلتني في البيع بثمن مؤجل، وقال الموكل بل وكلتك في البيع بثمن حال، فالقول قول الموكل لأنه ينكر إذنا والأصل عدمه، ولأن من جعل القول قوله في أصل التصرف كان القول قوله في كيفية كالزوج في الطلاق. فصل: وإن اختلفا في التصرف فادعي الوكيل أنه باع المال وأنكر الموكل أو اتفقا علي البيع واختلفا في قبض الثمن فادعي الوكيل أنه قبض الثمن وتلف وأنكر الموكل ففيه قولان: أحدهما أن القول قول الوكيل لأنه يملك العقد والقبض. ومن ملك تصرفا ملك الإقرار به كالأب في تزويج البكر، والثاني أنه لا يقبل قوله لأنه إقرار علي الموكل بالبيع وقبض الثمن فلم يقبل كما لو أقر عليه أنه باع ماله من رجل وقبض ثمنه، وغن وكله في ابتياع جارية فابتاعها ثم اختلفا فقال الوكيل: ابتعتها بإذنك بعشرين، وقال الموكل يل أذنت لك في ابتياعها بعشرة، فالقول قول الموكل لما بيناه، فإن حلف الموكل صارت الجارية للوكيل في الظاهر لأنه قد ثبت انه ابتاعها بغير الإذن، فإن كان الوكيل كاذبا كانت الجارية في الظاهر والباطن، وإن كان صادقا كانت الجارية للموكل في لباطن وللوكيل في الظاهر قال المزني: ويستحب الشافعي رحمه الله في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل فيقول إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فبعه إياها بعشرين، فإن قال له بعتك هذه الجارية بعشرين صارت الجارية للوكيل في الظاهر والباطن، وإن قال كما قال المزني إن كنت اذنت لك في ابتياعها بعشرين فقد بعتكها بعشرين فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال لا يصح لأنه بيع معلق علي شرط فلم يصح وجعل ما قاله المزني من كلام الحاكم لا من كلام الموكل، ومنهم من قال يصح لأن هذا الشرط يقتضيه العقد لأنه لا يصح أن يبيعها إلا أن يكون قد أذن له في الإبتياع بعشرين وما يقتضيه العقد لا يبطل العقد بشرطه، فإن امتنع الموكل من البيع قال المزني يبيعها الوكيل وبأخذ حقه من ثمنها، وقال

أبو سعيد الأصطخري فيه وجهان: أحدهما ما قال المزني، والثاني يملكها ظاهرا وباطنا بناء علي القولين فيمن ادعي علي رجل أنه اشتري منه دارا وأنكر المشتري وحلف أن المستحب للمشتري أن يقول للبائع إن كنت اشتريتها منك فقد فسخت البيع، وإن لم يفعل االمشتري ذلك ففيه قولان: أحدهما أن البائع يبيع الدار وبأخذ ثمنها، والثاني أن البائع يملك الدار لأن المشتري صار كالمفلس بالثمن لتعذر من جهته فيكون البائع أحق بعين ماله وقال أبو إسحاق لا يملك الوكيل الجارية قولا واحدا وتخالف المتبايعان والجارية لم تكن للوكيل فتعود إليه عند التعذر، فإن قلنا يملكها ظاهرا وباطنا تصرف فيها بالوطيء وغيره، وإن قلنا إنها للمكل في الباطن كان كمن له علي رجل دين لا يصل إليه ووجد له مالا من غير جنس حقه. فصل: وإن اختلفا في تلف المال فادعي الوكيل أنه تلف وأنكر الموكل، فالقول قول الوكيل لأن التلف يتعذر إقامة البينة عليه فجعل القول قوله. فصل: وإن اختلف في رد المال فقال رددت عليك المال وأنكر الموكل نظرت، فإن كانت الوكالة بغير جعل فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه فيض العين لمنفعة الملك فكان القول في الرد قول كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل ففيه وجهان: أحمدهما لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعة نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر والمرتهن، والثاني أنه يقبل قوله لأن انتفاعه بالعمل في العين فأما العين فلا منفعة له فيها فقبل قوله في ردها كالمودع في الوديعة. فصل: إذا كان لرجل علي رجل آخر حق فطالبه به فقال لا أعطيك حتي تشهد علي نفسك بالقبض نظرت، فإن كان مضمونا عليه كالغصب والعارية فإن كان عليه فليه بينة فله أن يمتنع حتي يشهد عليه بالقبض لأنه لا يأمن أن القبض ثم يجحد ويقيم عيه البينة فيغرمه، وإن كان أمانة كالوديعة أو ما في يد الوكيل والشريك أو مضمونا لا بينة عليه فيه ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يمتنع حتي يشهد بالقبض وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأنه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد فيحتاج أن يحلف أنه لا يستحق عليه وفي الناس من يكره أن يحلف، والثاني أنه ليس له أن يمتنع لأنه إذا جحد كان القول قوله أنه لا يستحق عليه شيئا، وليس علي في اليمين علي الحق ضرر فلم يجز له أن يمتنع والله أعلم.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة يستحب لمن قدر على حفظ الوديعة وأداء الأمانة فيها أن يقبلها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه1" فإن لم يكن من يصلح لذلك غيره وخاف إن لم يقبل أن تهلك تعين عليه قبولها لأن حرمة المال كحرمة النفس والدليل عليه ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه2" ولو خاف على دمه لوجه عليه حفظه فكذلك إذا خاف على ماله وإن كان عاجزاً عن حفظها أو لا يأمن أن يخون فيها فلم يجز له قبولها لأنه يغرر بها ويعرضها للهلاك فلم يجز له أخذها. فصل: ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال فإن أودعه صبي أو سفيه لم يقبل لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والسفيه كالبيع فإن أخذها منه ضمنها ولأنه أخذ ماله من غير إذن فضمنه كما لو غصبه ولا يبرأ من الضمان إلا بالتسليم إلى الناظر في ماله كما تقول فيما غصبه من ماله وإن خاف المودع أنه إن لم يأخذ منه

_ 1 رواه البخاري في كتاب المظالم باب 3. مسلم في كتاب البر حديث 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 38. الترمذي في كتاب الحدود باب 3. أحمد في مسنده "2/91". 2 رواه أحمد في مسنده"1/446".

استهلكه فأخذه ففيه وجهان: بناء على القولين في المحرم إذا خلص طائراً من جارحة وأمسكه ليحفظه: أحدهما لا يضمن لأنه قصد حفظه والثاني يضمن لأنه ثبتت يده عليه من غير ائتمان. فصل: ولا يصح إلا عند جائز التصرف فإن أودع صبياً أو سفيهاً لم يصح الإيداع لأن القصد من الإيداع الحفظ والصبي والسفيه ليسا من أهل الحفظ فإن أودع واحداً منهما فتلف عنده لم يضمن لأنه لا يلزمه حفظه فلا يضمنه كما لو تركه عند بالغ من غير إيداع فتلف وإن أودعه فأتلفه ففيه وجهان: أحدهما يضمن لأنه لم يسلطه على إتلافه فضمنه بالإتلاف كما لو أدخله دراه فتلف ماله والثاني لا يضمن لأنه مكنه من إتلافه فلم يضمنه كما لو باع منه شيئاً وسلمه إليه فأتلفه. فصل: وتنعقد الوديعة بما تنعقد به الوكالة من الإيجاب بالقول والقبول بالفعل وتنفسخ كما تنفسخ به الوكالة من العزل والجنون والإغماء والموت كما تنفسخ الوكالة لأنه وكالة في الحفظ فكان كالوكالة في العقد والفسخ. فصل: والوديعة أمانة في يد المودع فإن تلفت من غير تفريط لم تضمن لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أودع وديعة فلا ضمان عليه1" وروى ذلك أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم وهو إجماع فقهاء الأمصار ولأنه يحفظها للمالك فكانت يده كيده ولأن حفظ الوديعة معروف وإحسان فلو ضمنت من غير عدوان زهد الناس في قبولها فيؤدي إلى قطع المعروف فإن أودعه وشرط عليه الضمان لم يصر مضموناً لأنه أمانه فلا يصير مضموناً بالشرط كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط وإن ولدت الوديعة ولداً كان الولد أمانة لأنه يوجد فيه سبب يوجب الضمان لا بنفسه ولا بأمه وهل يجوز إمساكه فيه وجهان: أحدهما لا يجوز بل يجب أن يعلم صاحبه كما لو ألقت الريح ثوباً في داره والثاني لا يجوز لأن إيداع الأم إيداع لما يحدث منها. فصل: ومن قبل الوديعة نظرت فإن لم يعين المودع الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها فإن أخر إحرازها فتلفت لزمه الضمان لأنه ترك الحفظ من غير عذر فضمنها فإن

_ 1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 88. ابن ماجة في كتاب الصدقات باب 6.

وضعها في حرز دون حرز مثلها ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ فإذا أطلق حمل على التعارف وهو حرز المثل فإذا تركها فيما دون حرز مثلها فقط فرط فلزمه الضمان وإن وضعها في حرز فوق حرز مثلها لم يضمن لأن من رضي بحرز المثل رضي بما فوقه فإن قال لا تقفل عليه فأقفل عليه أو قال لا تقفل عليه قفلين فأقفل قفلين أو قال لا ترقد عليه فرقد عليه فالمذهب أنه لا يضمن لأنه زاده في الحرز ومن أصحابنا من قال يضمن لأنه نبه اللص عليه وأغراه به. فصل: وإن عين له الحرز فقال احفظها في هذا البيت فنقلها إلى ما دونه ضمن لأن من رضي حرزاً لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثله أو إلى ما هو أحرز منه لم يضمن لأن من رضي حرزاً رضي مثله وما هو أحرز منه وإن قال له احفظها في هذا البيت ولا تنقلها فنقلها إلى ما دونه ضمن لأنه لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثلها أو إلى ما هو أحرز منه ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري لا يضمن لأنه جعله في مثله فأشبه إذا لم ينهه عن النقل وقال أبو إسحاق يضمن لأنه نهاه عن النقل فضمنه بالنقل فإن خاف عليه في الحرز المعين من نهب أو حريق نظرت فإن كان النهي مطلقاً لزمه النقل ولا يضمن لأن النهي عن النقل للاحتياط في حفظها والاحتياط في هذا الحال أن تنقل فلزمه النقل فإن لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لأنه فرط في الترك وإن قال له لا تنقل وإن خفت عليه الهلاك فنقلها لم يضمن لأنه زاده خيراً وإن تركها حتى تلفت ففيه وجهان: قال أبو العباس وأبو إسحاق لا يضمن لأن نهيه مع خوف الهلاك أبرأ من الضمان وقال أبو سعيد الاصطخري يضمن لأن نهيه عن النقل مع خوف الهلاك لا حكم له لأنه خلاف الشرع فيصير كما لو لم ينهه والأول أظهر لأن الضمان يجب لحقه فسقط بقوله وإن خالف الشرع كما لو قال لغيره اقطع يدي أو أتلف مالي. فصل: فإن أودعه شيئاً فربطه في كمه لم يضمن فإن تركه في كمه ولم يربطه نظرت فإن كان خفيفاً إذا سقط لم يعلم به ضمنه لأنه مفرط في حفظه وإن كان ثقيلاً إذا سقط علم به لم يضمن لأنه غير مفرط وإن تركه في جيبه فإن كان مزرراً أو كان الفتح ضيقاً لم يضمن لأنه لا تناله اليد وإن كان واسعاً غير مزرر ضمن لأن اليد تناله وإن أودعه شيئاً فقال اربطه في كمك فأمسكه في يده فتلف فقد روى المزني أنه لا يضمن وروى الربيع في الأم أنه يضمن فمن أصحابنا من قال: هو على قولين: أحدهما لا يضمن لأن اليد أحرز من الكم لأنه قد يسرق من الكم ولا يسرق من اليد والثاني أنه

يضمن لأن الكم أحرز من اليد لأن اليد حرز مع الذكر دون النسيان والكم حرز مع النسيان والذكر ومن أصحابنا من قال إن ربطها في كمه وأمسكها بيده لم يضمن لأن اليد مع الكم أحرز من الكم وإن تركها في يده ولم يربطها في كمه ضمن لأن الكم أحرز من اليد وحمل الروايتين على هذين الحالين وإن أمره أن يحرزها في جيبه فأحرزها في كمه ضمن لأن الجيب أحرز من الكم لأن الكم قد يرسله فيقع منه ولا يقع من الجيب وإن قال احفظها في البيت فشدها في ثوبه وخرج ضمنها لأن البيت أحرز فإن شدها في عضده فإن كان الشد مما يلي أضلاعه لم يضمن لأنه أحرز من البيت وإن كان من الجانب الآخر ضمن لأن البيت أحرز منه وإن دفعها إليه في السوق وقال احفظها في البيت فقام في الحال ومضى إلى البيت فأحرزها لم يضمن وإن قعد في السوق وتوانى ضمنها لأنه حفظها فيما دون البيت وإن أودعه خاتماً وقال احفظه في البنصر فجعله في الخنصر ضمن لأن الخنصر دون البنصر في الحرز لأن الخاتم في الخنصر أوسع فهي إلى الوقوع أسرع وإن قال اجعله في الخنصر فجعله في البنصر لم يضمن لأن البنصر أحرز لأنه أغلظ والخاتم فيه أحفظ وإن قال اجعله في الخنصر فلبسه في البنصر فانكسر ضمن لأنه تعدى فيه. فصل: وإن أراد المودع السفر ووجد صاحبها أو كيله سلمها إليه فإن لم يجد سلمها إلى الحاكم لأنه لا يمكن منعه من السفر ولا قدرة على المالك ولا وكيله فوجب الدفع إلى الحاكم كما لو حضر من يخطب المرأة والولي غائب فإن الحاكم ينوب عنه في التزويج فإن سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله ضمن لأن الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك أو وكيله كما لا ولاية له في تزويج المرأة مع حضور الولي أو وكيله فإن لم يكن حاكم سلمها إلى أمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن واستخلف علياً كرم الله وجهه في ردها وإن سلم إلى أمين مع وجود الحاكم ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن وهو ظاهر النص وهو قول أبي إسحاق لأنه أمين فأشبه الحاكم والثاني يضمن وهو ظاهر قوله في الرهن وهو قول أبي سعيد الاصطخري

لأن أمانة الحاكم مقطوع بها وأمانة الأمين غير مقطوع بها فلا يجوز ترك ما يقطع به بما لا يقطع به كما لا يترك النص للاجتهاد فإن لم يكن أمين لزمه أن يسافر بها لأن السفر في هذه الحال أحوط فإن وجد المالك أو الحاكم أو الأمين فسافر ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ في الحرز وليس السفر من مواضع الحفظ لأنه إما أن يكون مخوفاً أو آمناً لا يوثق بأمنه فلا يجوز مع عدم الضرورة وإن دفنها ثم سافر نظرت فإن كان في موضع لا يد فيه لأحد ضمن لأن ما تتناوله الأيدي معرض للأخذ فإن كان في موضع مسكون فإن لم يعلم بها أحداً ضمن لأنه ربما أدركته المنية في السفر فلا تصل إلى صاحبها فإن أعلم بها من لا يسكن في الموضع ضمن لأن ما في البيت إنما يكون محفوظاً بحافظ فإن أعلم بها من يسكن في الموضع فإن كان غير ثقة ضمن لأنه عرضه للأخذ وإن كان ثقة فهو كما لو استودع ثقة ثم سافر وقد بينا حكم من استودع ثم سافر. فصل: وإن حضره الموت فهو بمنزلة من حضره السفر لأنه لا يمكنه الحفظ مع الموت بنفسه كما لا يمكنه الحفظ مع السفر وقد بينا حكمه وإن قال في مرضه عندي وديعة ووصفها ولم يوجد ذلك في تركته فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: لا يضرب المقر له مع الغرماء بقيمتها لأن الوديعة أمانة فلا يضمن بالشك ومن أصحابنا من قال يضرب المقر له بقيمتها مع الغرماء وهو ظاهر النص لأن الأصل وجوب ردها فلا يسقط ذلك بالشك. فصل: وإن أودع الوديعة غيره من غير ضرورة ضمنها لأن المودع لم يرض بأمانة غيره فإن هلكت عند الثاني جاز لصاحبها أن يضمن الأول لأنه سلم ما لم يكن له تسليمه وله أن يضمن الثاني لأنه أخذ ما لم يكن له أخذه فإن ضمن الثاني نظرت فإن كان قد علم بالحال لم يرجع بما ضمنه على الأول لأنه دخل على أنه يضمن فلم يرجع فإن لم يعلم ففيه وجهان: أحدهما أنه يرجع لأنه دخل على أنه أمانة فإذا ضمن رجع على من غره والثاني أنه لا يرجع لأنه هلك في يده فاستقر الضمان عليه فإن ضمن الأول فإن قلنا إن الثاني إذا ضمن يرجع على الأول لم يرجع الأول عليه وإن قلنا إنه لا يرجع رجع الأول عليه فأما إذا استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز أو سقاها أو علفها

فإنه لا يضمن لأن العادة قد جرت بالاستعانة ولأنه ما أخرجها عن يده ولا فوض حفظها إلى غيره. فصل: وإن أودعه دراهم فخلطها بمثلها من ماله ضمن لأن صاحبها لم يرض أن يخلط ماله بمال غيره فإن خلطها بدراهم لصاحب الدراهم ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن الجميع له والثاني أنه يضمن وهو الأظهر لأنه لم يرض أن يكون أحدهما مختلطاً بالآخر وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله أو خرق ما تحت الشد ضمن ما فيه لأنه هتك الحرز من غير عذر وإن أودعه دراهم في غير وعاء فأخذ منها درهماً ضمن الدرهم لأنه تعدى فيه ولا يضمن الباقي لأنه لم يتعدى فيه فإن رد الدرهم فإن كان متميزاً بعلامة لم يضمن غيره وإن لم يتميز بعلامة فقد قال الربيع يضمن الجميع لأنه خلط المضمون بغيره فضمن الجميع والمنصوص أنه لا يضمن الجميع لأن المالك رضي أن يختلط هذا الدرهم بالدراهم فلم يضمن وإن أنفق الدرهم ورد بدله فإن كان متميزاً عن الدراهم لم يضمن الدراهم لأنها باقية كما كانت وإن كان غير متميز ضمن الجميع لأنه خلط الوديعة بما لا يتميز عنها فضمن الجميع. فصل: فإن أودعه دابة فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ضمنها لأنها ماتت بسبب تعدى به فضمنها وإن قال لا تسقها ولا تعلفها فلم يسقها ولم يعافها حتى ماتت ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري يضمن لأنه لاحكم لنهيه لأنه يجب عليه سقيها وعلفها فإذا ترك ضمن كما لو لم ينه عن السقي والعلف وقال أبو العباس وأبو إسحاق لا يضمن لأن الضمان يجب لحق المالك وقد رضي بإسقاطه. فصل: إذا أخرج الوديعة من الحرز لمصلحة لها كإخراج الثياب للتشرير لم يضمن لأن ذلك من مصلحة الوديعة ومقتضى الإيداع فلم يضمن به وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها لأنه تصرف في الوديعة بما ينافي مقتضاها فضمن به كما لو أحرزها في غير حرزها فإن كان دابة فأخرجها للسقي والعلف إلى خارج الحرز فإن كان المنزل ضيقاً لم يضمن لأنه مضطر إلى الإخراج وإن كان المنزل واسعاً ففيه وجهان: أحدهما يضمن وهو المنصوص وهو قول أبي سعيد الاصطخري لأنه أخرج الوديعة من حرزها من غير حاجة فضمنها كما لو أخرجها ليركبها والثاني أنه لا يضمن وهو قول أبي إسحاق لأن العادة قد جرت بالسقي والعلف خارج المنزل وحمل النص عليه إذا كان الخارج غير آمن وإن نوى إخراجها للانتفاع بها كاللبس والركوب أو نوى ألا يردها على صاحبها ففيه

ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس أنه يضمن كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها والثاني وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي أنه إن نوى إخراجها للانتفاع بها لم يضمن وإن نوى أن لا يردها ضمن لأن هذه النية صار ممسكاً لها على نفسه وبالنية الأولى لا يصير ممسكاً على نفسه والثالث وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يضمن لأن الضمان إنما يكون بفعل يوقع في العين وذلك لم يوجد. فصل: وإن أخذت الوديعة منه قهراً لم يضمن لأنه غير مفرط في ذلك وإن أكره حتى سلمها ففيه وجهان بناء على القولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم: أحدهما أنه يضمن لأنه فوت الوديعة على صاحبها لدفع الضرر عن نفسه فأشبه إذا أنفقها على نفسه لخوف التلف من الجوع والثاني أنه لا يضمن لأنه مكره فأشبه إذا أخذت بغير فعل من جهته. فصل: وإن طالبه المودع برد الوديعة فأخر من غير عرف ضمن لأنه مفرط فإن أخرها لعذر لم يضمن لأنه غير مفرط. فصل: وإن تعدى في الوديعة فضمنها ثم ترك التعدي في الوديعة لم يبرأ من الضمان لأنه ضمن العين بالعدوان فلم يبرأ بالرد إلى المكان كما لو غصب من داره شيئاً ثم رده إلى الدار فإن قال المودع أبراتك من الضمان أو أذنت لك في حفظها ففيه وجهان: أحدهما يبرأ من الضمان وهو ظاهر النص لأن الضمان يجب لحقه فسقط بإسقاطه والثاني أنه لا يبرأ حتى يردها إليه لأن الإبراء إنما يكون عن حق في الذمة ولا حق له في الذمة فلم يصح الإبراء. فصل: إذا اختلف المودع والمودع فقال أودعتك وديعة وأنكرها المودع فالقول قوله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لوأن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه والبينة على من أنكر" ولأن الأصل أنه لم يودعه فكان القول قوله. فصل: وإن ادعى أنها تلفت نظرت فإن ادعى التلف بسبب ظاهر كالنهب والحريق فلم يقبل حتى يقيم البينة على وجود النهب والحريق لأن الأصل أن لا نهب ولا حريق ويمكن إقامة البينة عليها فلم يقبل قوله من غير بينة فإن أقام البينة على ذلك أو ادعى

الهلاك بسبب يخفى فالقول قوله مع اليمين أنها هلكت لأن الهلاك يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قوله مع يمينه. فصل: وإن اختلفا في الرد فالقول قوله مع يمينه لأنه أخذ العين لمنفعة المالك فكان القول في الرد قوله وإن ادعى عليه أنه أودعه فأنكر الإيداع فأقام المودع بينة بالإيداع فقال المودع صدقت البينة أودعتني ولكنها تلفت أو رددتها لم يقبل قوله لأنه صار خائناً ضامناً فلا يقبل قوله في البراءة بالرد والهلاك فإن قال أنا أقيم البينة بالتلف أو الرد ففيه وجهان: أحدهما أنها تسمع لأنه لو صدقه المدعي ثبتت براءته فإذا قامت البينة سمعت والثاني لا تسمع لأنه كذب البينة بإنكاره الإيداع فأما إذا ادعى عليه أنه أودعه فقال: ماله عندي شيء فأقام البينة بالإيداع فقال صدقت البينة أودعتني ولكنها تلفت أو رددتها قبل قوله مع اليمين لأنه صادق في إنكاره أنه لا شيء عنده لأنها إذا تلفت أو ردها عليه لم يبق له عنده شيء والله أعلم.

كتاب العارية

كتاب العارية الإعارة قربة مندوب إليها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وروى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت بقاع قرقر تشتد عليه بقوائمها وأخفافها قال رجل يا رسول الله ماحق الإبل؟ قال: حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها1". فصل: ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال فأما من لا يملك التصرف في المال كالصبي والسفيه فلا تصح منه لأنه تصرف في المال فلا يملكه الصبي والسفيه كالبيع. فصل: وتصح الإعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها كالدور والعقار والعبيد والجواري والثياب والدواب والفحل للضراب لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر إعارة دلوها وإعارة فحلها ورى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً فركبه وروى صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً في غزاة حنين فثبت في هذه الأشياء بالخبر وقسنا عليها كل ما كان ينتفع به مع بقاء عينه.

_ 1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 16. النسائي في كتاب الزكاة باب 6. أحمد في مسنده "2/360، 482".

فصل: ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير ذي رحم محرم لأنه لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها فإن كانت قبيحة أو كبيرة لا تشتهى لم يحرم لأنه يؤمن عليها الفساد ولا تجوز إعارة العبد المسلم من الكافر لأنه لا يجوز أن يخدمه ولا تجوز إعارة الصيد من المحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا التصرف فيه ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة لأنه يكره أن يستخدمهما فكره استعارتهما لذلك. فصل: ولا تنعقد إلا بإيجاب وقبول لأنه إيجاب حق لآدمي فلا يصح إلا بالإيجاب والقبول كالبيع والإجارة وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر فإن قال المستعير أعرني فسلمها إليه انعقد وإن قال المعير أعرتك فقبضها المستعير انعقد لأنه إباحة للتصرف في مال فصلح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر كإباحة الطعام. فصل: وإذا قبض العين ضمنها لما روى صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً يوم حنين فقال أغصباً يا محمد قال: "بل عارية مضمونة" ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه لا على وجه الوثيقة فضمنها كالمغصوب فإن هلكت نظرت فإن كان مما لا مثل له ففي ضمانها وجهان: أحدهما يضمنها بأكثر ما كانت قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالمغصوب وتصير الأجزاء تابعة للعين إن سقط ضمانها بالرد سقط ضمان الأجزاء وإن وجب ضمانها بالتلف وجب ضمان الأجزاء والثاني أنها تضمن بقيمتها يوم التلف وهو الصحيح لأنا لو ألزمناه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف أوجبنا ضمان الأجزاء التالفة بالإذن وهذا لا يجوز ولهذا لو كانت العين باقية وقد نقصت أجزاؤها بالاستعمال لم يجب ضمانها وإن كان مما له مثل فإن قلنا فيما لا مثل له أنه يضمن بأكثر ما كانت قيمته لزمه مثلها وإن قلنا إنه يضمن بقيمته يوم التلف ضمنها بقيمتها واختلف أصحابنا في ولد المستعارة فمنهم من قال إنه مضمون لأنها مضمونة فضمن ولدها كالمغصوبة ومنهم من قال لا يضمن لأن الولد لم يدخل في الإعارة فلم يدخل في الضمان ويخالف المغصوبة فإن الولد يدخل في الغصب فدخل في الضمان فإن غصب عيناً فأعارها من غيره ولم يعلم المستعير وتلفت عنده فضمن المالك المستعير لم يرجع بما غرم على الغاصب لأنه دخل على أنه يضمن العين وإن ضمنه أجرة المنفعة فهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان: بناء على القولين فيمن غصب طعاماً وقدمه إلى غيره: أحدهما يرجع لأنه غره والثاني لا يرجع لأن المنافع تلفت تحت يده. فصل: ويجوز للمعير أن يرجع في العارية بعد القبض ويجوز للمستعير أن يرد لأنه إباحة فجاز لكل واحد منهما رده كإباحة الطعام وإذا فسخ العقد وجب الرد على

المستعير لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدرعاً وسلاحاً فقال: أعارية مؤداة قال: "عارية مؤداة" ويجب ردها إلى المعير أو إلى وكيله فإن ردها إلى المكان الذي أخذها منه لم يبرأ من الضمان لأن ما وجب رده وجب رده إلى المالك أو إلى وكيله كالمغصوب والمسروق. فصل: ومن استعار عيناً جاز له أن يستوفي منفعتها بنفسه أو بوكيله لأن الوكيل نائب عنه وهل له أن يعير غيره؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز للمستأجر أن يؤجر والثاني لا يجوز وهو الصحيح لأنه إباحة فلا يملك بها الإباحة لغيره وكإباحة الطعام ويخالف المستأجر فإنه يملك المنافع ولهذا يملك أن يأخذ عليه العوض فملك نقله إلى غيره كالمشتري للطعام والمستعير لا يملك ولهذا لا يملك أخذ العوض عليه فلا يملك نقله إلى غيره كمن قدم إليه الطعام. فصل: وتجوز الإعارة مطلقاً ومعيناً لأنه إباحة فجاز مطلقاً ومعيناً كإباحة الطعام فإن قال أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها جاز له أن يزرع ويغرس ويبني لأن الإذن مطلق وإن استعار للبناء أو للغرس جاز له أن يزرع لأن الزرع أقل ضرراً من الغراس والبناء فإذا رضي بالبناء والغراس رضي بالزرع ومن أصحابنا من قال إن استعار للبناء لم يزرع لأن في الزرع ضرراً ليس في البناء وهو أنه يرخي الأرض وإن استعار للزرع لم يغرس ولم يبن لأن الغراس والبناء أكثر ضرراً من الزرع فلا يكون الإذن في الزرع إذناً في الغراس والبناء وإن استعار للحنطة زرع الحنطة وما ضرره ضرر الحنطة لأن الرضا بزراعة الحنطة رضا بزراعة مثله وإن استعار للغراس والبناء ملك ما أذن فيه منهما وهل يملك الآخر فيه وجهان: أحدهما أنه يملك الآخر لأن الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأييد فكان الإذن في أحدهما إذناً في الآخر والثاني أنه لا يجوز لأنه في كل واحد منهما ضرراً ليس في الآخر فإن ضرر الغراس في باطن الأرض أكثر وضرر البناء في ظاهر الأرض أكثر فلا يملك بالإذن في أحدهما الآخر. فصل: وإن أعاره أرضاً للغراس أو البناء فغرس وبنى ثم رجع لم يجز أن يغرس ويبني شيئاً آخر لأنه يملك الغراس والبناء بالإذن وقد زال الإذن فأما ما غرس وبنى فينظر فإن كان قد شرط عليه القلع أجبر على القلع لقوله صلى الله عليه وسلم: "والمؤمنون عند شروطهم" ولأنه رضي بالتزام الضرر الذي يدخل عليه بالقلع فإذا قلع لم تلزمه تسوية الأرض لأنه لما

شرط عليه القلع رضي بما يحصل بالقلع من الحفر ولأنه مأذون فيه فلا يلزمه ضمان ما حصل به من النقص كاستعمال الثوب لا يلزمه ضمان ما يبليه منهن وإن لم يشرط القلع نظرت فإن لم تنقص قيمة الغراس والبناء بالقلع قلع لأنه يمكن رد العارية فارغة من غير إضرار فوجب ردها فإن نقصت قيمة الغراس بالقلع نظرت فإن اختار المستعير القلع كان له ذلك لأنه ملكه فملك نقله فإذا قلعه فهل تلزمه تسوية الأرض فيه وجهان: أحدهما لا تلزمه لأنه لما أعاره من العلم بأن له أن يقلع كان ذلك رضا بما يحصل بالقلع من التخريب فلم تلزمه التسوية كما لو شرط القلع والثاني تلزمه لأن القلع باختياره فإنه لو امتنع لم يجبر عليه فلزمه تسوية الأرض كما لو أخرب أرض غير هـ من غير غراس وإن لم يختر القلع نظرت فإن بذل المعير قيمة الغراس والبناء ليأخذه مع الأرض أجبر المستعير عليه لأنه رجوع في العاريو من غير إضرار وإن ضمن أرش النقص بالقلع أجبر المستعير على القلع لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإن بذل المعير القيمة ليأخذه مع الأرض وبذل المستعير قيمة الأرض ليأخذها مع الغراس قدم المعير لأن الغراس يتبع الأرض في البيع فجاز أن يتبعها في التملك والأرض لا تتبع الغراس في البيع فلم تتبعه في التملك وإن امتنع المعير من بذل القيمة وأرش النقص وبذل المستعير أجرة الأرض لم يجبر على القلع لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق" وهذا ليس بظالم فوجب أن يكون له حق ولأنه غراس مأذون فيه فلا يجوز الإضرار به في قلعه وإن لم يبذل المستعير الأجرة ففيه وجهان: أحدهما لا يقلع لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان والثاني يقلع لأن بعد الرجوع لا يجوز الانتفاع بماله من غير أجرة. فصل: إذا أقررنا الغراس في ملكه فأراد المعير أن يدخل إلى الأرض للتفرج أو يستظل بالغراس لم يكن للمستعير منعه لأن الذي استحق المستعير من الأرض موضع الغراس فأما البياض فلا حق للمستعير فيه فجاز للمالك دخوله وإن أراد المستعير

دخولها نظرت فإن كان للتفرج والاستراحة لم يجز لأنه قد رجع في الإعارة فلا يجوز دخولها من غير إذن وإن كان لإصلاح الغراس أو أخذ الثمار ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن حقه إقرار الغراس والبناء دون ما سواه والثاني أنه يملك وهو الصحيح لأن الإذن في الغراس إذن فيه فيما يعود بصلاحه وأخذ ثماره وإن أراد المعير بيع الأرض جاز لأنه لا حق فيها لغيره فجاز له بيعها وإن أراد المستعير بيع الغراس من غير المعير ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه ملك له لا حق فيه لغيره والثاني لا يجوز لأن ملكه غير مستقر لأن للمعير أن يبذل له قيمة الغراس والبناء فيأخذهما والصحيح هو الأول لأن عدم الاستقرار لا يمنع البيع كالشقص المشفوع يجوز للمشتري بيعه وإن جاز أن ينتزعه الشفيع بالشفعة. فصل: وإن حمل السيل طعام رجل إلى أرض آخر فنبت فيه فهل يجبر صاحب الطعام على القلع مجاناً؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجبر لأنه غير مفرط في إنباته والثاني يجبر وهو الصحيح لأنه شغل ملك غيره بملكه من غير إذن فأجبر على إزالته كما لو كان في داره شجرة فانتشرت أغصانها في هواء دار غيره. فصل: وإن أعاره أرضاً للزراعة فزرعها ثم رجع في العارية قبل أن يدرك الزرع وطالبه بالقلع ففيه وجهان: أحدهما أنه كالغراس في التبقية والقلع والأرش والثاني أنه يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل لأن للزرع وقتاً ينتهي إليه فلو أجبرنا على التبقية عطلنا عليه أرضه. فصل: وإن أعاره حائطاً ليضع عليه أجذاعاً فوضعها لم يملك إجباره على قلعها لأنه تراد للبقاء فلا يجبر على قلعها كالغراس وإن ضمن المعير قيمة الأجذاع ليأخذها لم يجبر المستعير على قبولها لأن أحد طرفيها في ملكه فلم يجبر على أخذ قيمته وإن تلفت الأجذاع وأراد أن يعيد مثلها على الحائط فلم يجز أن يعيد إلا بالإذن لأن الأذن تناول الأول دون غيره فإن انهدم الحائط وبناه بتلك الآلة لم يجز أن يضع الأجذاع على الثاني لأن الإذن تناول الأول من أصحابنا من قال يجوز لأن الإعارة اقتضت التأييد والمذهب الأول.

فصل: وإن وجدت أجذاع على الحائط ولم يعرف سببها ثم تلفت جاز إعادة مثلها لأن الظاهر أنها بحث ثابت. فصل: إذا استعار من رجل عبداً ليرهنه فأعاره ففيه قولان: أحدهما أنه ضمان وإن المالك للرهن ضمن الدين عن الراهن في رقبة عبده لأن العارية ما يستحق به منفعة العين والمنفعة ههنا للمالك فدل على أنه ضمان والثاني أنه عارية لأنه استعاره ليقضي به حاجته فهو كسائر العواري فإن قلنا إنه ضمان لم يصح حتى يتعين جنس الدين وقدره ومحله لأنه ضمان فاعتبر فيه العلم بذلك وإن قلنا إنه عارية لم يفتقر إلى ذلك لأنه عارية فلا يعتبر فيه العلم فإن عين له جنساً وقدراً ومحلاً تعين على القولين لأن الضمان والعارية يتعينان بالتعيين فإن خالفه في الجنس لم يصح لأنه عقد على ما لم يأذن له فيه وإن خالفه في المحل بأن أذن له في دين مؤجل فرهنه بدين حال لم يصح لأنه قد لا يجد ما يفك به الرهن في الحال وإن أذن له في دين حال فرهنه بدين مؤجل لم يصح لأنه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل فإن خالفه في القدر بأن أذن له في الرهن بعشرة فرهن بما دونها جاز لأن من رضي أن يقضي عن غيره عشرة رضي أن يقضي ما دونه وإن رهنه بخمسة عشر لم يصح لأن من رضي بقضاء عشرة لم يرض بما زاد. فصل: وإن رهن العبد بإذنه بدين حال جاز للسيد مطالبته بالفكاك على القولين في الحال لأن للمعير أن يرجع في العارية وللضامن أن يطالب بتخليصه من الضمان فإن رهنه بدين مؤجل بإذنه فإن قلنا إنه عارية جاز له المطالبة بالفكاك لأن للمعير أن يرجع متى شاء وإن قلنا إنه ضمان لم يطالب قبل المحل لأن الضامن إلى أجل لا يملك المطالبة قبل المحل. فصل: وإن بيع في الدين فإن قلنا إنه عارية رجع السيد على الراهن بقيمته لأن العرية تضمن بقيمتها وإن قلنا إنه ضمان رجع بما بيع سواء بقدر قيمته أو بأقل أو بأكثر لأن الضامن يرجع بما غرم ولم يغرم إلا ما بيع به. فصل: وإن تلف العبد فإن قلنا إنه عارية ضمن قيمته لأن العارية مضمونة بالقيمة وإن قلنا إنه ضمان لم يضمن شيئاً لأنه لم يغرم شيئاً. فصل: وإن استعار رجل من رجلين عبداً فرهنه عند رجل بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما من الرهن ففيه قولان: أحدهما لا تخرج لأنه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه دون بعض والثاني يخرج نصفه لأنه لم يأذن كل واحد منهما إلا في رهن نصيبه بخمسين فلا يصير رهناً بأكثر منه.

فصل: إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال المالك أكريتها فعليك الأجرة وقال الراكب بل أعرتنيها فلا أجرة لك فقد قال في العارية القول قول الراكب وقال في المزارعة إذا دفع أرضه إلى رجل فزرعها ثم اختلفا فقال المالك أكريتكها وقال الزارع بل أعرتنيها فالقول قول المالك فمن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال في الدابة القول قول الراكب وقال في الأرض القول قول المالك لأن العادة أن الدواب تعار فالظاهر فيها مع الراكب والعادة في الأرض أنها تكرى ولا تعار فالظاهر فيها مع المالك ومنهم من نقل الجواب في كل واحدة منهما الأخرى وجعلهما على قولين وهو اختيار المزني: أحدهما أن القول قول المالك لأن المنافع كالأعيان في الملك والعقد عليها ثم لو اختلفا في عين فقال المالك بعتكها وقال الآخر بل وهبتنيها كان القول قول المالك فكذلك إذا اختلفا في المنافع والثاني أن القول قول المتصرف لأن المالك أقر بالمنافع له ومن أقر لغيره بملك ثم ادعى عليه عوضاً لم يقبل قوله فإن قلنا إن القول قول المالك حلف ووجبت له الأجرة وفي قدر الأجرة وجهان: أحدهما يجب المسمى لأنه قبل قوله فيها وحلف عليها والثاني أنها تجب أجرة المثل وهو المنصوص لأنهما لو اتفقا على الأجرة واختلفا في قدرها وجبت أجرة المثل فلأن تجب أجرة المثل وقد اختلفا في الأجرة أولى فإن نكل عن اليمين لم يرد على المتصرف لأن اليمين إنما ترد ليستحق بها حق والمتصرف لا يدعي حقاً فلم ترد عليه وإن قلنا إن القول قول المتصرف حلف وبريء من الأجرة فإن نكل رد اليمين على المالك فإن حلف استحق المسمى وجهاً واحداً لأن يمينه بعد النكول كالبينة في أحد القولين وكالإقرار في الآخر وأيهما كان وجب المسمى وإن تلفت الدابة بعد الركوب ثم اختلفا فإن قلنا إن القول قول المالك حكم له بالأجرة وإن قلنا القول قول الراكب فهل يلزمه أقل الأمرين من الأجرة أو القيمة؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه لاتفاقهما على استحقاقه والثاني لا يحكم له بشيء لأنه لا يدعي القيمة ويستحق الأجرة. فصل: وإن قال المالك غصبتنيها فعليك الأجرة وقال المتصرف بل أعرتنيها فلا أجرة علي فإن المزني نقل أن القول قول المستعير واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال المسألة على طريقين كما ذكرنا في المسألة قبلها أحدهما الفرق بين الأرض والدابة والثاني أنهما على قولين لأن الخلاف في المسألتين جميعاً في وجوب الأجرة والمالك يدعي وجوبها والمتصرف ينكر فيجب أن لا يختلفا في الطريقين ومنهم من قال إن القول قول المالك وما نقل المزني غلط لأن في تلك المسألة أقر المالك للمتصرف بملك

المنافع فلا يقبل قوله في دعوى العوض وههنا اختلفا أن الملك للمالك أو للمتصرف والأصل أنها للمالك. فصل: وإن اختلفا فقال المالك أعرتكها وقال الراكب أجرتنيها فالقول قول المالك لأنهما اتفقا أن الملك له واختلفا في صفة انتقال اليد فكان القول قول المالك فإن كانت العين باقية حلف وأخذ وإن كانت تالفة نظرت فإن لم تمض مدة لمثلها أجرة حلف واستحق القيمة وإن مضت مدة لمثلها أجرة فالمالك يدعي القيمة والراكب بقوله بالأجرة فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة لم يستحق شيئاً ثم يحلف وإن كانت القيمة مثل الأجرة أو أقل منها ففيه وجهان: أحدهما يستحق من غير يمين لأنهما متفقان على استحقاقه والثاني لا يستحق من غير يمين لأنه أسقط حقه من الأجرة وهو يدعي القيمة بحكم العارية والراكب منكر فلم يستحق من غير يمين. فصل: وإن اختلفا فقال المالك غصبتنيها فعليك ضمانها وأجرة مثلها وقال الراكب بل أجرتنيها فلا يلزمني ضمانها ولا أجرة مثلها فالقول قول المالك مع يمينه لأن الأصل أنه ما أجره فإن اختلفا وقد تلفت العين حلف واستحق القيمة وإن بقيت في يد الراكب مدة ثم اختلفا فإن المالك يدعي أجرة المثل والراكب يقر بالمسمى فإن كانت أجرة المثل أكثر من المسمى لم يستحق الزيادة حتى يحلف وإن لم تكن أكثر استحق من غير يمين لأنهما متفقان على استحقاقه والله أعلم.

كتاب الغصب

كتاب الغصب الغصب محرم لما روى أبو بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" وروى أبو حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير طيب نفس منه". فصل: ومن غصب ماله غيره وهو من أهل الضمان في حقه ضمنه لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على اليد ما أخذت حتى ترده1". فصل: فإن كان منفعة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة ضمن الأجرة لأنه يطلب بدلها بعقد المغابنة فضمن بالغصب كالأعيان. فصل: فإن كان المغصوب باقياً لزمه رده لما روى عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً أو جاداً إذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها2" فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين الرد لم يلزمه ضمان ما نقص من قيمته وقال أبو ثور من أصحابنا: يضمن كما يضمن زيادة العين وهذا خطأ لأن الغاصب يضمن ما غصب والقيمة لا تدخل في الغصب لأنه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين والعين باقية كما كانت فلم يلزمه شيء. فصل: وإن تلف في يد الغاصب أو أتلفه لم يخل إما أن يكون له مثل أو لا مثل له فإن لم يكن له مثل نظرت فإن كان من غير جنس الأثمان كالثياب والحيوان ضمنه بالقيمة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركاً له في عبد فإن

_ 1 رواه الترمذي في كتاب البيوع باب 39. ابن ماجة في كتاب الصدقات باب 5. أحمد في مسنده "5/8، 12". 2 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 3. أبو داود في كتاب الأدب باب 85. أحمد في مسنده "4/221".

كان معه ما يبلغ به ثمن العبد قوم عليه وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد1" وإلا فقد عتق عليه ما عتق فأوجب القيمة في العبد بالإتلاف بالعتق ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه وإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ضمنها بأكثر ما كانت لأنه غاصب في الحال التي زادت فيها قيمته فلزمه ضمان قيمته فيها كالحالة التي غصبه فيها وتجب القيمة من نقد البلد الذي تلفت العين فيه لأنه موضع الضمان فوجبت القيمة من نقده وإن كان من جنس الأثمان نظرت فإن لم يكن فيه صنعه كالسبيكة والنقرة فإن كان نقد البلد من غير جنسه أو من جنسه لكن لا تزيد قيمته على وزنه ضمن بالقيمة لأن تضمينه بالقيمة لا يؤدي إلى الربا فضمن بالقيمة كما قلنا في غير الأثمان وإن كان نقد البلد من جنسه وإذا قوم به زادت قيمته على وزنه قوم بجنس آخر حتى لا يؤدي إلى الربا وإن كانت فيه صنعته نظرت فإن كانت صنعة محرمة ضمن كما تضمن السبيكة والنقرة لأن الصنعة لا قيمة لها فكان وجودها كعدمها وإن كانت صنعة مباحة فإن كان النقد من غير جنسه أو من جنسه ولكنه لا تزيد قيمته على وزنه ضمنه بقيمته لأنه لا يؤدي إلى الربا وإن كان النقد من جنسه ونوعه وتزيد قيمته على وزنه ففيه وجهان: أحدهما يقوم بجنس آخر لا يؤدي إلى الربا والثاني أنه يضمنه بقيمته من جنسه بالغة ما بلغت وهو الصحيح لأن الزيادة على الوزن في مقابلة الصنعة فلا تؤدي إلى الربا وإن كان مخلوطاً من الذهب والفضة قومه بما شاء منهما. فصل: وإن كان مما له مثل كالحبوب والأدهان ضمن بالمثل لأن إيجاب المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع وإيجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظن فإن أمكن الرجوع إلى القطع لم يرجع إلى الاجتهاد كما لا يجوز الرجوع إلى القياس مع النص وإن غصب ما له مثل واتخذ منه ما لا مثل له كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء أو الحنطة

_ 1 رواه البخاري في كتاب الشركة با 5، 14. مسلم في كتاب العتق حديث 1. أبو داود في كتاب العتاق باب 6. الترمذي في كتاب الأحكام باب 14. النسائي في كتاب البيوع باب 105. أحمد في مسنده "1/56".

إذا جعلها دقيقاً وقلنا إنه لا مثل له ثم تلف لزمه مثل الأصل لأن المثل أقرب إلى المغصوب من القيمة وإن غصب مالاً مثل له واتخذ منه ماله مثل كالرطب إذا جعله تمراً ثم تلف لزمه مثل التمر لأن المثل أقرب إليه من قيمة الأصل وإن غصب ماله مثل واتخذ منه ماله مثل كالسمسم إذا عصر منه الشيرج ثم تلف بالمغصوب منه فهو بالخيار إن شاء رجع عليه بمثل السمسم وإن شاء رجع عليه بمثل الدهن لأنه قد ثبت ملكه على كل واحد من المثلين فرجع بما شاء منهما وإن وجب المثل فأعوز فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال تجب قيمته وقت المحاكمة لأن الواجب هو المثل وإنما القيمة تجب بالحكم فاعتبرت وقت الحكم ومنهم من قال تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حيث النصب إلى حين تعذر المثل كما تعتبر قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ومنهم من قال تضمن قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى وقت الكم لأن الواجب في الذمة هو المثل إلى وقت الحكم كما أن الواجب في المغصوب رد العين إلى وقت التلف ثم يغرم قيمة الغصوب أكثر ما كانت من حيث الغصب إلى حين التلف فيجب أن يعتبر في المثل أكثر ما كانت قيمته إلى وقت الحكم ومنهم من قال: إن كان ذلك مما يكون في وقت وينقطع في وقت كالعصير وجبت قيمته وقت الانقطاع لأنه بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة وإن كان مما لا ينقطع عن أيدي الناس وإنما يتعذر في موضع وجبت قيمته وقت الحكم لأنه لا ينتقل إلى القيمة إلا بالحكم وإن وجد المثل بأكثر من ثمن المثل احتمل وجهين: أحدهما لا يلزمه المثل لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن المثل كعدمه كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفارة والثاني يلزمه لأن المثل كالعين ولو احتاج في رد العين إلى أضعاف ثمنه لزمه فكذلك المثل. فصل: وإن ذهب المغصوب من اليد وتعذر رده بأن كان عبداً فأبق أو بهيمة فضلت كان للمغصوب منه المطالبة بالقيمة لأنه حيل بينه وبين ماله فوجب له البدل كما لو تلف وإذا قبض البدل ملكه لأنه بدل ماله فملكه كبدل التالف ولا يملك الغاصب المغصوب لأنه لا يصح تملكه بالبيع فلا يملك بالتضمن كالتالف فإن رجع المغصوب وجب رده على المالك وهل يلزم الغاصب الأجرة من حين دفع القيمة إلى أن يرده فيه وجهان: أحدهما لا تلزمه لأن المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرته والثاني تلزمه لأنه تلفت عليه منافع ماله بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها كما لو لم يدفع القيمة وإذا رد المغصوب وجب على المغصوب منه رد البدل لأنه ملكه بالحيلولة وقد زالت الحيلولة فوجب الرد وإن زاد البدل في يده نظرت فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن

وجب الرد مع الزيادة لأن الزيادة المتصلة تتبع الأصل في الفسخ بالعيب وهذا فسخ وإن كانت زيادة منفصلة كالولد واللبن لم ترد الزيادة كما لا ترد في الفسخ بالعيب. فصل: فإن نقص المغصوب نقصاناً تنقص به القيمة نظرت فإن كان في غير الرقيق لم يخل إما أن يكون نقصاناً مستقراً أو غير مستقر فإن كان مستقراً بأن كان ثوباً فتخرق أو إناء فانكسر أو شاة فذبحت أو طعاماً فطحن ونقصت قيمته رده ورد معه أرش ما نقص لأن نقصان عين في يد الغاصب نقصت به القيمة فوجب ضمانه كالقفيز من الطعام والذراع من الثوب فإن ترك المغصوب منه المغصوب على الغاصب وطالبه ببدله لم يكن له ذلك ومن أصحابنا من قال في الطعام إذا طحنه أن له أن يتركه ويطالب بمثل طعامه لأن مثله أقرب إلى حقه من الدقيق والمذهب الأول لأن عين ماله باقية فلا يملك المطالبة ببدله كالثوب إذا تخرق والشاة إذا ذبحت وإن كان نقصاناً غير مستقر كطعام ابتل وخيف عليه الفساد فقد قال في الأم: للمغصوب منه مثل مكيلته وقال الربيع: فيه قول آخر أن يأخذه وأرش النقص فمن أصحابنا من قال هو على قولين: أحدهما يأخذه وأرش النقص كالثوب إذا تخرق والثاني أنه ياخذ مثل مكيلته لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف فصار كالمستهلك ومنهم من قال يأخذ مثل مكيلته قولاً واحداً ولا يثبت ما قاله الربيع وإن كان في الرقيق نظرت فإن لم يكن له أرش مقدر كإذهاب البكارة والجنايات التي ليس لها أرش مقدر رده وأرش ما نقص لأنه نقصان ليس فيه أرض مقدر فضمن بما نقص كالثوب إذا تخرق وإن كان له أرش مقدر كذهاب اليد نظرت فإن كان ذهب من غير جناية رده وما نقص من قيمته ومن أصحابنا من قال: يرده وما يجب بالجناية والمذهب الأول لأن ضمان اليد ضمان المال ولهذا لا يجب فيه القصاص ولا تتعلق به الكفارة في النفس فلم يجب فيه أرض مدر وإن ذهب بجناية بأن عصبه ثم قطع يده فإن قلنا إن ضمانه باليد كضمانه بالجناية وجب عليه نصف القيمة وقت الجناية لأن اليد في الجناية تضمن بنصف بدل النفس وإن قلنا إن ضمانه ضمان المال وجب عليه أكثر الأمرين من نصف القيمة أو ما نقص من قيمته لأنه وجد اليد والجناية فوجب أكثرهما ضماناً وإن عصب عبداً يساوي مائة ثم زادت قيمته فأصبح يساوي ألفاً ثم قطع يده لزمه خمسمائة لأن زيادة السوق مع تلف العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع اليد فوت عليه نصفه فضمنه بزيادة السوق. فصل: وإن نقصت العين ولم تنقص القيمة نظرت فإن كان ما نقص من العين له بدل مقدر فنقص ولم تنقص القيمة مثل أن غصب عبداً فقطع أنثييه ولم تنقص قيمته أو

غصب صاعاً من زيت فأغلاه فنقص نصفه ولم تنقص قيمته لزمه في الأنثيين قيمة العبد وفي الزيت نصف صاع لأن الواجب في الأنثيين مقدر بالقيمة والواجب في الزيت مقدر بما نقص من الكيل فلزمه ما يقدر به وإن كان مانقص لا يضمن إلا بما نقص من القيمة فنقص ولم تنقص القيمة كالسمن المفرط إذا نقص ولم تنقص القيمة لم يلزمه شيء لأن السمن يضمن بما نقص من القيمة ولم ينقص من القيمة شيء فلم يلزمه شيء واختلف أصحابنا فيمن عصب صاعاً من عصير فأغلاه ونقص نصفه ولم تنقص قيمته فقال أبو علي الطبري: يلزمه نصف صاع كما قلنا في الزيت وقال أبو العباس لا يلزمه شيء لأن نقص العصير باستهلاك مائه ورطوبته لا قيمة لها وأما حلاوته فيه باقية لم تنقص ونقصان الزيت باستهلاك أجزائه ولأجزائه قيمة فضمنها بمثلها. فصل: وإن تلف بعض العين ونقصت قيمة الباقي بأن غصب ثوباً تنقص قيمته بالقطع فشقه بنصفين ثم تلف أحد النصفين لزمه قيمة التالف وهو قيمة نصف الثوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ورد الباقي وأرش ما نقص لأنه نقص حدث بسبب تعدي به فضمنه فإن كان لرجل خفان قيمتهما عشرة فأتلف رجل أحدهما فصار قيمة الباقي درهمين ففيه وجهان: أحدهما يلزمه درهمان لأن الذي أتلفه قيمته درهمان والثاني تلزمه ثمانية وهو المذهب لأنه ضمن أحدهما بالإتلاف ونقص قيمة الآخر بسبب التعدي به فلزمه ضمانه. فصل: فإن غصب ثوباً فلبسه وأبلاه ففيه وجهان: أحدهما يلزمه أكثر الأمرين من الأجرة أو أرش ما نقص لأن ما نقص من الأجزاء في مقابلة الأجرة ولهذا لا يضمن المستأجر أرض الأجزاء والثاني تلزمه الأجرة وأرش ما نقص لأن الأجرة بدل للمنافع والأرش بدل الأجزاء فلم يدخل أحدهما في الآخر كالأجرة وأرش ما نقص من السمن. فصل: وأن نقصت العين ثم زال النقص بأن كانت جارية سمينة فهزلت ونقصت قيمتها ثم سمنت وعادت قيمتها ففيه وجهان: أحدهما يسقط عنه الضمان وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنه زال ما أوجب الضمان كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض والثاني أنه لا يسقط وهو قول أبي سعيد الاصطخري لأن السمن الثاني غير الأول فلا يسقط به ما وجب بالأول وإن سمنت ثم هزلت ثم سمنت ثم هزلت ضمن أكثر السمنين قيمة في قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنه بعود السمن يسقط ما في مقابلته من الأرش ويضمن السمنين في قول أبي سعيد لأن السمن الثاني غير الأول فلزمه ضمانهما.

فصل: وإن غصب عبداً فجنى على إنسان في يد الغاصب لزم الغاصب ما يستوفي في جنايته فإن كانت الجناية على النفس فأقيد به ضمن الغاصب قيمته لأنه تلف بسبب كان في يده فإن كان في الطرف فأقيد منه ضمن وفي الذي يضمن وجهان: أحدهما أرش العضو في الجناية والثاني ما نقص من قيمته لأنه ضمان وجب باليد لا الجناية لأن القطع في القصاص ليس بجناية وقد بينا الوجهين فيما تقدم فإن عفى عن القصاص على مال لزم الغاصب أي يفديه لأنه حق تعلق برقبته في يده فلزم تخليصه منه. فصل: وإذا زاد المغصوب في يد الغاصب بأن كانت شجرة فأثمرت أو جارية فسمنت أو ولدت ولداً مملوكاً ثم تلف ضمن ذلك كله لأنه مال للمغصوب منه حصل في يده بالغصب فضمنه بالتلف كالعين المغصوبة وإن ألقت الجارية الولد ميتاً ففيه وجهان: أحدهما أنه يضمنه بقيمته يوم الوضع كما لو كان حياً وهو ظاهر النص لأنه غصبه بغصب الأم فضمنه بالتلف كالأم والثاني أنه لا يضمنه وهو قول أبي إسحاق لأنه إنما يقوم حال الحيلولة بينه وبين المالك وهو حال الوضع ولا قيمة له في تلك الحال فلم يضمن وحمل النص عليه إذا ألقته حياً ثم مات. فصل: وإن غصب دراهم فاشترى سلعة في الذمة ونقد الدراهم في ثمنها وربح ففي الربح قولان: قال في القديم هو للمغصوب منه لأنه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد وقال في الجديد هو للغاصب لأنه بدل ماله فكان له. فصل: وإن غصب عبداً فاصطاد صيداً فالصيد لمولاه لأن يد العبد كيد المولى فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التي اصطاد فيها؟ فيه وجهان: أحدهما تلزمه لأنه أتلف عليه منافعه والثاني لا تلزمه لأن منافعه صارت إلى المولى وإن غصب جارية كالفهد والبازي فاصطاد بها صيداً ففي صيده وجهان: أحدهما أنه للغاصب لأنه هو المرسل والجارحة آلة فكان الصيد كما لو غصب قوساً فاصطاد بها وعليه أجرة الجارحة لأنه أتلف على صاحبها منافعها والثاني أن الصيد للمغصوب منه لأنه كسب ماله فكان له كصيد العبد فعلى هذا في أجرته وجهان على ما ذكرناه في العبد. فصل: وإن غصب عيناً فاستحالت عنده بأن كان بيضاً فصار فرخاً أو كان حباً

فصار زرعاً أو كان زرعاً فصار حباً فللمغصوب منه أن يرجع به لأنه عين ماله فإن نقصت قيمته بالاستحالة رجع بأرش النقص لأنه حدث في يده وإن غصب عصيراً فصار خمراً ضمن العصير بمثله لأنه بانقلابه خمراً سقطت قيمته فصار كما لو غصب حيواناً فمات فإن صار الخمر خلاً رده وهل يلزمه ضمان العصير مع رد الخل؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه لأن الخل غير العصير فلا يسقط برد الخل ضمان ما وجب بهلاك العصير والثاني لا يلزمه لأن الخل عين العصير فلا يلزمه مع ردها ضمان العصير فعلى هذا إن كانت قيمة الخل دون قيمة العصير رد مع الخل أرش النقص. فصل: وإن غصب شيئاً فعمل فيه عملاً زادت به قيمته بأن كان ثوباً فقصره أو قطناً فغزله أو غزلاً فنسجه أو ذهباً فصاغه حلياً أو خشباً فعمل منه باباً رده على المالك لأنه عين ماله ولا يشارك الغاصب فيه ببدل عمله لأنه عمل تبرع به في ملك غيره فلم يشاركه ببدله. فصل: وإن غصب شيئاً فخلطه بما لا يتميز منه من جنسه بأن غصب صاعاً من زيت فخلطه بصاع من زيته أو صاعاً من الطعام فخلطه بصاع من طعامه نظرت فإن خلطه بمثله في القيمة فله أن يدفع إليه صاعاً منه لأنه تعذر بالاختلاط عين ماله فجاز أن يدفع إليه البعض من مثله وإن أراد أن يدفع إليه مثله من غيره وطلب المغصوب منه مثله منه ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص أن الخيار إلى الغصب لأنه لا يقدر على رد عين ماله فجاز أن يدفع إليه مثله كما لو هلك والثاني وهو قول أبي إسحاق وأبي علي ابن أبي هريرة أنه يلزمه أن يدفع صاعاً منه لأنه يقدر أن يدفع إليه بعض ماله فلا ينتقل إلى البدل في الجميع ما لو غصب صاعاً فتلف بعضه وإن خلطه بأجود منه فإن بذل الغاضب صاعاً منه لزم المغصوب منه قبوله لأنه دفع إليه بعض ماله وبعض مثله خيراً منه وإن بذل مثله من غيره وطلب المغصوب منه صاعاً منه ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص في الغصب أن الخيار إلى الغاصب لأنه تعذر رد المغصوب بالاختلاط فقبل منه المثل والثاني أنه يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما وهو المنصوص في التفليس لأنا إذا فعلنا ذلك أوصلنا كل واحد منهما إلى عين ماله وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يلزم الرجوع إلى البدل فإن كان ما يخص المغصوب منه من الثمن أقل من قيمة ماله استوفى قيمة صاعه ودخل النقص على الغاصب لأنه نقص بفعله فلزمه ضمانه وعلى هذا الوجه إن طلب المغصوب منه أن يدفع إليه من الزيت المختلط بقدر قيمة ماله ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأنه يأخذ بعض صاع عن

صاع وذلك ربا والثاني أنه يجوز لأن الربا إنما يكون في البيع وليس ههنا بيع وإنما يأخذ هو بعض حقه ويترك بعضه كرجل له على رجل درهم فأخذ بعضه وترك البعض. فصل: وإن خلطه بما دونه فإن طلب المغصوب منه صاعاً وامتنع الغاصب أجبر على الدفع لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن طلب مثله من غيره وامتنع الغاصب أجبر على دفع مثله لأن المخلوط دون حقه فلا يلزمه أخذه من أصحابنا من قال يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله وإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته ضمن الغاصب تمام القيمة لأنه نقص بفعله. فصل: وإن غصب شيئاً فخلطه بغير جنسه أو نوعه فإن أمكن تمييزه كالحنطة إذا اختلطت بالشعير أو الحنطة البيضاء إذا اختلطت بالحنطة السمراء لزمه تمييزه ورده لأنه يمكن رد العين فلزمه وإن لم يمكن تمييزه كالزيت إذا خلطه بالشيرج لزمه صاع من مثله لأنه تعذر رد العين بالاختلاط فعدل إلى مثله من أصحابنا من قال يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله كما قلنا في القسم قبله. فصل: وإن غصب دقيقاً فخلطه بدقيق له ففيه وجهان: أحدهما أن الدقيق له مثل وهو قول أبي العباس وظاهر النص لأن تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة في صغر الحب وكبره فعلى هذا يكون حكمه حكم الحنطة إذا خلطها بالحنطة وقد بيناه والثاني أنه لا مثل له وهو قول أبي إسحاق لأنه يتفاوت في الخشونة والنعومة ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض فعلى هذا اختلف أصحابنا فيما يلزمه قيمته لأنه تعذر رده بالاختلاط ولا مثل له فوجبت القيمة ومنهم من قال يصيران شريكين فيه فيباع ويقسم الثمن بينهما على ما ذكرناه في الزيت إذا خلطه بالشيرج. فصل: وإن غصب أرضاً فغرس بها غراساً أو بنى فيها بناء فدعا صاحب الأرض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لعرق ظالم حق" فإن قلعه فقد قال في الغصب يلزمه أرش ما نقص من الأرض وقال في البيع إذا قلع الأحجار المستودعة عليه تسوية الأرض ومن أصحابنا من جعلهما على قولين: أحدهما يلزمه أرش النقص لأنه نقص بفعل مضمون فلزمه أرش، والثاني يلزمه

تسوية الأرض لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة ومنهم من قال يلزمه في الغصب أرش من نقص وفي البيع يلزمه تسوية الأرض لأن الغاصب متعد فغلظ عليه بالأرش لأنه أوفي والبائع غير متعد فلم يلزمه أكثر من التسوية وإن كان الغراس لصاحب الأرض فطالبه بالقلع فإن كان له غرض في قلعه أخذ بقلعه لأنه قد فوت عليه بالغراس غرضاً مقصوداً في الأرض فأخذ بإعادتها إلى ما كانت وإن لم يكن له غرض ففيه وجهان: أحدهما لا يؤخذ بقلعه لأن قلعه من غير غرض سفه وعبث والثاني يؤخذ به لأن المالك محكم في ملكه والغاصب غير محكم فوجب أن يؤخذ به. فصل: وإن غصب أرضاً حفر بها بئراً فطالبه صاحب الأرض بطمها لزمه طمها لأن التراب ملكه وقد نقله من موضعه فلزمه رده إلى موضعه فإن أراد الغاصب طمها فامتنع صاحب الأرض أجبر وقال المزني لا يجبر كما لو غضب غزلاً ونسجه لم يجبر المالك على نقضه وهذا غير صحيح لأن له غرضاً في طمها وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع فيها بخلاف نقض الغزل المنسوج فإن أبرأه صاحب الأرض من ضمان يقع فيها ففيه وجهان: أحدهما يصح الابراء لأنه لما سقط الضمان عنه إذا أذن في حفرها سقط عنه إذا أبرأه منها والثاني أنه لا يصح لأن الإبراء إنما يكون من واجب ولم يجب بعد شيء فلم يصح الإبراء. فصل: إذا غصب ثوباً فصبغه بصبغ من عنده نظرت فإن لم تزد قيمة الثوب والصبغ ولم تنقص بأن كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشر فصارت قيمة الثوب مصبوغاً عشرين صار شريكا ًلصاحب الثوب بالصبغ لأن الصبغ عين مال له قيمة فإن بيع الثوب كان الثمن بينهما نصفين فإن زادت قيمتهما بأن صارت قيمة الثوب ثلاثين حدث الزيادة في ملكهما لأنه بفعله زاد ماله ومال غيره وما زاد في ماله يملكه لأنه حصل بعمل عمله بنفسه في ماله فإن بيع الثوب قسم الثمن بينهما نصفين وإن نقص قيمتهما بأن صار الثوب يساوي خمسة عشر حسب النقصان على الغاصب في صبغه لأنه بفعله حصل النقص فإن بيع الثوب بخمسة عشر دفع إلى صاحب الثوب عشرة وإلى الغاصب خمسة فإن صارت قيمة الثوب عشرة حسب النقص على الغاصب فإن بيع الثوب بعشرة دفع العشرة كلها إلى صاحب الثوب لأنه إما أن يكون سقط بدل الصبغ بالاستهلاك أو نقص به قيمة الثوب فلزمه أن يجبر ما نقص من قيمة الثوب فإن صارت قيمة الثوب

ثمانية لم يستحق بصبغه شيئاً لأنه استهلكه في الثوب ويلزمه درهمان لأنه نقص بصبغه من قيمة الثوب درهمان. فصل: إذا استهلك ثمن الصبغ لم يبق للغاصب في الثوب حق لأن ماله هو الصبغ وقد استهلكه وإن بقي للصبغ ثمن فطلب الغاصب استخراجه أجيز إلى ذلك عين ماله فكان له أخذه كما لو غرس في أرض مغصوبة غراساً ثم أراد قلعه فإن نقصت قيمة الثوب باستخراج النقص ضمن ما نقص لأنه حصل بسبب من جهته وإن طلب صاحب الثوب استخراج الصبغ وامتنع الغاصب ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر وهو قول أبي العباس لأن الصبغ يهلك بالاستخراج ولاحاجة به إلى ذلك لأنه يمكنه أن يستوفي حقه في البيع ولا يجوز أن يتلف مال الغير والثاني يجبر وهو قول أبي إسحاق وأبي علي بن خيران لأنه عرق ظالم لا حق له فيه فأجبر على قلعه كالغراس في الأرض المغصوبة وإن بذل المغصوب منه قيمة الصبغ ليتملكه وامتنع الغاصب لم يجبر على القبول لأنه إجبار على بيع ماله وإن أراد صاحب الثوب بيع وامتنع الغاصب بيع لأنه ملك له فلا يملك الغاصب أن يمنعه من بيعه بتعديه وإن أراد الغاصب البيع وامتنع صاحب الثوب ففيه وجهان: أحدهما يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه والثاني لا يجبر لأنه متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه وإن وهب الغاصب الصبغ من صاحب الثوب ففيه وجهان: أحدهما يجبر على قبوله لأنه لا يتميز من العين فلزمه قبوله كقصارة الثوب والثاني لا يجبر لأنه هبة عين فلا يجبر على قبولها. فصل: فإن غصب ساجاً فأدخله في البناء أو خيطاً أخاط به شيئاً نظرت فإن عفن التاج وبلي الخيط لم يؤخذ برده لأنه صار مستهلكاً فسقط رده ووجبت قيمته وإن كان باقياً على جهته نظرت فإن كان الساج في البناء والخيط في الثوب وجب نزعه ورده لأنه مغصوب يمكن رده فوجب رده كما لو لم يبن عليه ولم يخط به وإن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان فإن كان مباح الدم كالمرتد والخنزير والكلب العقور وجب نزعه ورده لأنه لا حرمة له فكان كالثوب وإن كان محرم الدم فإن كان مما لا يؤكل كالآدمي والبغل والحمار وخاف من نزعه الهلاك لم ينزع لأن حرمة الحيوان آكد من حرمة المال ولهذا يجوز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان ولا يجوز أخذه لحفظ المال فلا يجوز هتك حرمة الحيوان لحفظ المال وإن كان مما يؤكل ففيه قولان: أحدهما يجب رده لأنه

يمكن نزعه بسبب مباح فوجب رده كالساج والثاني لا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة. فصل: وإن غصب لوحاً وأدخله في سفينة وخاف من نزعه الغرق فإن كان فيها حيوان لم ينزع لما ذكرناه في الخيط وإن كان المال لغاصب ففيه وجهان: أحدهما ينزع كما تنقض الدار لرد الساج والثاني لا ينزع لأنه يمكن رده من غير إتلاف المال بأن تجر إلى الشط بخلاف التاج في البناء وعلى هذا إن أراد المالك أن يطالب بالقيمة كان له ذلك لأنه حيل بينه وبين ماله فجاز له المطالبة بالبدل كما لوغصب منه عبداً فأبق وإن اختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب ففيه وجهان: أحدهما ينقض الجميع كما ينقض جميع السفينة والثاني لا ينقض ما لم تتعين لأنه إتلاف مال لم يتعين فيه التعدي فصل: وإن غصب جوهرة فبلعتها بهيمة له فإن كانت البهيمة مما لا تؤكل ضمن قيمة الجوهرة لأنه تعذر ردها فضمن البدل وإن كانت مما تؤكل ففيه وجهان بناءً على القولين في الخيط الذي خيط به جرح ما يؤكل. فصل: وإن غصب فصيلاً فأدخله إلى داره فكبر ولم يخرج من الباب نقض الباب لرد الفصيل كما ينقض البناء لرد الساج وإن دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه نقض الباب وعلى صاحب الفصيل ضمان ما يصلح به الباب لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب. فصل: وإن غصب ديناراً وطرحه في محبرة كسرت المحبرة ورد الدينار كما ينقص البناء لرد الساج وإن وقع في المحبرة من غير تفريط من صاحبها كسرت وعلى صاحب الدينار قيمة المحبرة لأنها كسرت لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب المحبرة. فصل: وإن غصب عيناً وباعها وقبضها المشتري وتصرف فيها وتلفت عنده فللمالك أن يضمن الغاصب لأنه غصبها وله أن يضمن المشتري لأنه قبض ما يمكن له قبضه فصار كالغاصب فإن ضمن الغاصب العين ضمنه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى أن تلف في يد المشتري لأنه من حين الغصب إلى حين التلف في ضمانه وإن ضمن المشتري ضمنه أكثر ما كانت قيمته من حين قبض إلى أن تلف لأنه لم يدخل في ضمانه قبل القبض فلا يضمن ما قبله فإن بدأ فضمن المشتري نظرت فإن كان عالماً بالغصب لم يرجع بما ضمنه على الغاصب لأنه غاصب تلف المغصوب عنده فاستقر الضمان عليه

كالغاصب من المالك إذا تلف عنده فإن لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب لأن الغاصب لم يغره بل دخل معه على أن يضمنه وإن لم يتلزم ضمانه بالعقد نظرت فغن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد نقصان الجارية بالولادة رجع على الغاصب لأنه غره ودخل معه على أن لا يضمنه وإن حصلت له في مقابلته منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة ففيه قولان: أحدهما يرجع به لأنه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه والثاني لا يرجع به لأنه حصل له في مقابلته منفعة وإن بدأ فضمن الغاصب فما لا يرجع به المشتري على الغاصب إذا غرم رجع به الغاصب على المشتري وما يرجع به المشتري على الغاصب لايرجع به لأنه لا فائدة في أن يرجع عليه ثم يرجع المشتري به عليه. فصل: وإن غصب من رجل طعاماً فأطعمه رجلاً فللمالك أن يضمن الغاصب لأنه غصبه وله أن يضمن الآكل لأنه أكل ما لم يكن له أكله فإن صمن الآكل نظرت فإن علم أنه مغصوب فأكله لم يرجع على الغاصب بما ضمن لأنه غاصب استهلك المغصوب فلم يرجع بما ضمنه فإن أكل ولم يعلم أنه مغصوب ففيه قولان: أحدهما يرجع لأنه غره وأطعمه على أن لا يضمنه والثاني لا يرجع لأنه حصل له منفعة فإن أطعمه المالك فإن علم أنه له برئ الغاصب من الضمان لأنه استهلك ماله برضاه مع العلم به وإن لم يعلم ففيه قولان: أحدهما يبرأ الغاصب لأنه عاد إلى يده فبرئ الغاصب من الضمان كما أورده عليه والثاني أنه لا يبرأ لأنه إنما ضمن لأنه أزال يده وسلطانه عن المال وبالتقديم إليه ليأكله لم تعد يده وسلطانه لأنه لو أراد أن يأخذه لم يمكنه فلم يزل الضمان. فصل: وإن غصب من رجل شيئاً ثم رهنه عنده أو أودعه أو آجره منه وتلف عنده فإن علم أنه له برئ الغاصب من ضمانه لأنه أعاده إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم ففيه وجهان: أحدهما أنه يبرأ الغاصب من الضمان لأنه عاد إلى يده والثاني لا يبرأ لأنه لم يعد إلى سلطانه وإنما عاد إليه على أنه أمانة عنده وإن باعه منه برئ من الضمان علم أو لم يعلم لأنه قبضه بابتياع وجب الضمان فبرئ به الغاصب من الضمان. فصل: وإن غصب شيئاً فرهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ الغاصب وقال المزني يبرأ لأنه أذن له في إمساكه فبرئ من الضمان كما لو أودعه والمذهب الأول لأن الرهن يجتمع مع الضمان وهو إذا رهنه شيئاً فتعدى فيه فلا ينافي الضمان. فصل: وإن غصب حراً وحبسه ومات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال فلم يضمنه

باليد وإن حبسه مدة لمثلها أجرة فإن استوفى فيها منفعته لزمته الأجرة لأنه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه الضمان كما لو أتلف عليه ماله أو قطع أطرافه وإن لم يستوف منفعته ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الأجرة لأن منفعته تضمن بالإجارة فضمنت بالغصب كمنفعة المال والثاني لا تلزمه لأنها تلفت تحت يده فلا يضمنه الغاصب بالغصب كأطرافه وثياب بدنه. فصل: وإن غصب كلباً فيه منفعة رده على صاحبه لأنه يجوز اقتناؤه للانتفاع به فلزمه رده فإن حبسه مدة لمثلها أجرة فهل تلزمه الأجرة؟ فيه وجهان بناءً على الوجهين في جواز إجارته. فصل: وإن غصب خمراً نظرت فإن غصبها في ذمي لزمه ردها عليه لأنه يقر على شربها فلزمه ردها عليه وإن غصبها من مسلم ففيه وجهان: أحدهما يلزمه ردها عليه لأنه يجوز أن يطفئ بها ناراً أو يبل بها طيناً فوجب ردها عليه والثاني لا يلزمه وهو الصحيح لما روي أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقها فإن أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه" ولأن ما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل كالميتة والدم فإن صار خلاً لزمه رده على صاحبه لأنه صار خلاً على حكم ملكه فلزمه رده إليه فإن تلف ضمنه لأنه مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب فضمنه. فصل: وإن غصب جلد ميتة لزمه رده لأن له أن يتوصل إلى تطهيره بالدباغ فوجب رده عليه فإن دبغه الغاصب ففيه وجهان: أحدهما يلزمه رده كالخمر إذا صار خلاً والثاني لا يلزمه لأنه بفعله صار مالاً فلم يلزمه رده. فصل: وإن فصل صليباً أو مزماراً لم يلزمه شيء لأن ما أزاله لا قيمة له والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر وبيع الخنازير وبيع الأصنام وبيع الميتة1" فدل على أنه لا قيمة له وما لا قيمة له لا يضمن فإن كسره نظرت فإن كان إذا فصله يصلح لمنفعة مباحة وإذا كسره لم

_ 1 رواه البخاري في كتتتاب البيوع باب 112. مسلم في كتاب المساقاة حديث 71. أبو داود في كتاب البيوع باب 64. الترمذي في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 11.

يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلاً ومكسوراً لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة فلزمه ضمانه فإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه شيء لأنه لم يتلف ماله قيمة. فصل: وإن فتح قفصاً عن طائر نظرت فإن نفره حتى طار ضمنه لأن تنفير الطائر بسبب ملجيء إلى ذهابه فصار كما لو باشر إتلافه وإن لم ينفره نظرت فإن وقف ثم طار لم يضمنه لأنه وجد منه سبب غير ملجئ ووجد من الطائر مباشرة والسبب إذا لم يكن ملجئاً واجتمع مع المباشرة سقط حكمه كما لو حفر بئراً فوقع فيها إنسان باختياره فإن طار عقيب الفتح ففيه قولان: أحدهما لا يضمن لأنه طار باختياره فأشبه إذا وقف بعد الفتح ثم طار والثاني يضمن لأن من طبع الطائر النفور ممن قرب منه فإذا طار عقيب الفتح كان طيرانه بنفوره فصار كما لو نفره. فصل: وإن وقع طائر لغيره على جدار فرماه بحجر فطار لم يضمنه لأن رميه لم يكن سبباً لفواته لأنه قد كان ممتنعاً وفائتاً من قبل أن يرميه فإن طار في هواء داره فرماه فأتلفه ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر من هواء داره فصار كما لو رماه في غير داره. فصل: وإن فتح زقاً فيه مائع فخرج ما فيه نظرت فإن خرج في الحال ضمنه لأنه كان محفوظاً بالوكاء فتلف بحله فضمنه وإن خرج منه شيء فابتل أسفله أو ثقل به أحد جانبيه فسقط وذهب ما فيه ضمنه لأنه ذهب بعضه بفعله وبعضه بسبب فعله فضمنه كما لو قطع يد رجل فمات منه وإن فتحه ولم يخرج منه شيء ثم هبت ريح فسقط وذهب ما فيه لم يضمن لأن ذهابه لم يكن بفعله فلم يضمنه كما لو فتح قفصاً عن طائر فوقف ثم طار أو نقب حرزاً فسرق منه غيره وإن فتح زقاً فيه جامد فذاب وخرج فيه وجهان: أحدهما لا يضمنه لأنه لم يخرج عقيب الحل فصار كما لو كان مائعاً فهبت عليه ريح فسقط والثاني أنه يضمن وهو الصحيح لأن الشمس لا توجب للخروج وإنما تذيبه والخروج بسبب فعله فضمنه كالمائع إذا خرج عقيب الفتح وإن حل زقاً فيه جامد وقرب إليه آخر ناراً فذاب وخرج فقد قال بعض أصحابنا لا ضمان على واحد منهما لأن الذي حل الوكاء لم توجد منه عند فعله جناية يضمن بها وصاحب النار لم يباشر ما يضمن فصارا كسارقين

نقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال فإنه لا قطع على واحد منهما وعندي أنه يجب الضمان على صاحب النار لأنه باشر الإتلاف بإدناء النار فصار كما لو حفر رجل بئراً ودفع فيها آخر إنساناً وأما السارق فهو حجة عليه لأنا أوجبنا الضمان على من أخرج المال فيجب أن يجب الضمان ههنا على صاحب النار وأما القطع فلا يجب عليهما لأنه لا يجب القطع إلا بهتك الحرز والذي أخذ المال لم يهتك الحرز والضمان يجب بمجرد الإتلاف وصاحب النار قد أتلف فلزمه الضمان. فصل: وإن فتح زقاً مستعلي الرأس فاندفع ما فيه فخرج فجاء آخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه ففيه وجهان: أحدهما يشتركان في ضمان ما خرج بعد التنكيس كالجارحين والثاني أن ما خرج بعد التنكيس يجب على الثاني كالجارح والذابح. فصل: وإن حل رباط سفينة فغرقت نظرت فإن غرقت في الحال ضمن لأنها تلفت بفعلهن وإن وقفت ثم غرقت فإن كان بسبب حادث كريح هبت لم يضمن لأنها غرقت بغير فعله وإن غرقت بغير سبب حادث ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن كالزق إذا ثبت بعد فتحه ثم سقط والثاني أنه يضمن لأن الماء أحد المتلفات. فصل: إذا أجج على سطحه ناراً فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها فإن كان الذي فعله ما جرت به العادة لم يضمن لأنه غير متعد وإن فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار ما لا يقف على حد داره أو سقى أرضه من الماء ما لا تحتمله ضمن لأنه متعد. فصل: إذا ألقت الريح ثوباً لإنسان في داره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده فلزمه حفظها كاللقطة فإن عرف صاحبه لزمه إعلامه فإن لم يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير رضاه من غير تعريف فصار كالغاصب وإن وقع في داره طائر لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه فإن دخل إلى برج في داره طائر فأغلق عليه الباب نظرت فإن نوى إمساكه على نفسه ضمنه لأنه أمسك مال غيره فضمنه كالغاصب وإن لم ينو إمساكه على نفسه لم يضمنه لأنه يملك التصرف في برجه فلا يضمن ما فيه.

فصل: إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب فقال المغصوب منه هو باق وقال الغاصب تلف فالقول قول مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف وهل يلزمه البدل؟ فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه لأن المغصوب منه لا يدعيه والثاني يلزمه لأنه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين فاستحق البدل كما لو غضب عبداً فأبق. فصل: وإن تلف المغصوب واختلفا في قيمته فقال الغاصب قيمته عشرة وقال المغصوب منه قيمته عشرون فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته فلا يلزمه إلا ما أقر به كما لو ادعى عليه ديناً من غير غصب فأقر ببعضه. فصل: وإن اختلفا في صفته فقال الغاصب كان سارقاً فقيمته مائة وقال المغصوب منه لم يكن سارقاً فقيمته ألف فالقول قول المغصوب منه لأن الأصل عدم السرقة ومن أصحابنا من قال: القول قول الغاصب لأنه غارم والأصل براءة ذمته مما زاد على المائة فإن قال المغصوب منه كان كاتباً فقيمته ألف وقال الغاصب لم يكن كاتباً فقيمته مائة فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم الكتابة وبراءة الذمة مما زاد على المائة فإن قال المغصوب منه غصبتني طعاماً حديثاً وقال الغاصب بل غصبتك طعاماً عتيقاً فالقول قول الغاصب لأن الأصل أنه لا يلزمه الحديث فإذا حلف للمغصوب منه أن يأخذ العتيق لأنه أنقص من حقه. فصل: وإن غصبه خمراً وتلف عنده ثم اختلفا فقال المغصوب منه صار خلاً ثم تلف فعليك الضمان وقال الغاصب بل تلف وهو خمر فلا ضمان علي فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته ولأن الأصل أنه باق على كونه خمراً. فصل: وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب فادعى المغصوب منه أنها له وادعى الغاصب أنها له فالقول قول الغاصب لأن العبد وما عليه في يد الغاصب فكان القول قوله والله أعلم.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة وتجب الشفعة في العقار لما روى جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعه أو حائط لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك فثبتت فيه الشفعة لإزالة الضرر. فصل: وأما غير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شفعة إلا في ربعة أو حائط" وأما البناء والغراس فإنه إن بيع مع الأرض ثبت فيه الشفعة لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شريك في ربع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذه وإن كرهه تركه1" لأنه يراد لتأبيد فهو كالأرض فإن بيع منفرداً لم تثبت فيه الشفعة لأنه ينقل ويحول فلم تثبت فيه الشفعة واختلف أصحابنا في النخل إذا بيعت مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الأرض فمنهم من قال تثبت فيه الشفعة لأنه فرع تابع لأصل ثابت ومنهم من قال لا شفعة فيها لأن القرار تابع لها فإذا لم تجب الشفعة فيها إذا بيعت مفردة لم تجب فيها وفي تبعها وإن كانت دار أسفلها لواحد وعلوها مشترك بين جماعة فباع أحدهم نصيبه فإن كان السقف لصاحب السفل لم تثبت الشفعة في الحصة المبيعة من العلو لأنه بناء مفرد وإن كان السقف للشركاء في العلو ففيه وجهان: أحدهما لا تثبت فيه الشفعة لأنه لا يتبع أرضاً والثاني تثبت لأن السقف أرض لصاحب العلو يسكنه ويأوي إليه فهو كالأرض. فصل: وإن بيع الزرع مع الأرض أو الثمرة الظاهرة مع الأصل لم تؤخذ مع الأصل

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 135.

بالشفعة لأنه منقول فلم يؤخذ مع الأرض بالشفعة كنيران الضيعة فإن بيع وفيه ثمرة غير مؤبرة ففيه وجهان: أحدهما تؤخذ الثمرة مع الأصل بالشفعة لأنها تبعت الأصل في البيع فأخذت معه بالشفعة كالغراس والثاني لا تؤخذ لأنه منقول فلم تؤخذ مع الأصل كالزرع والثمرة الظاهرة. فصل: ولا تثبت الشفعة إلا للشريك في ملك مشاع فأما الجار والقاسم فلا شفعة لهما لما روى جابر رضي الله عنه قال: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ولأن الشفعة إنما تثبت لأنه يدخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوا الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقصان قيمة الملك وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق وهذا لا يوجد في المقسوم. فصل: ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة لأنه عقار فثبت فيه الشفعة قياساً على ما تجب قسمته والمذهب الأول لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر والأرف تقطع كل شفعة ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة وذلك لا يوجد فيما لا يقسم وأما الطريق المشترك في درب مملوك ينظر فيه فإن كان ضيقاً إذا قسم لم يصب كل واحد منهم طريقاً يدخل فيه إلى ملكه فلا شفعة فيه وإن كان واسعاً نظرت فإن كان للدار المبيعة طريق آخر وجبت الشفعة في الطريق لأنه أرض مشتركة تحتمل القسمة ولا ضرر على أحد في أخذه بالشفعة فأشبه غير الطريق وإن لم يكن للدار طريق غيره ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا شفعة فيه لأنه لو أثبتنا الشفعة فيه أضررنا بالمشتري لأنه يبقى ملكه بغير طريق والضرر لا يزال بالضرر والثاني تثبت فيه الشفعة لأنه أرض تحتمل القسمة فتثبت فيها الشفعة كغير الطريق والثالث أنه إن أمكن الشفيع المشتري من دخول الدار ثبت له

الشفعة وإن لم يمكنه فلا شفعة فيه لأنه مع التمكين يمكن دفع الضرر من غير إضرار ولا يمكن مع عدم التمكين إلا بالإضرار. فصل: وتثبت الشفعة في الشقص المملوك بالبيع لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به" وتثبت في كل عقد يملك الشقص فيه بعوض كالإجارة والنكاح والخلع لأنه عقد معاوضة فجاز أن تثبت الشفعة في الشقص المملوك به كالبيع. فصل: فأما فيما ملك فيه الشقص بغير عوض كالوصية والهبة من غير عوض فلا تثبت فيه الشفعة لأنه ملكه بغير بدل فلم تثبت فيه الشفعة كما لو ملكه بالإرث وإن باع من رجل شقصاً فعفى الشفيع فيه عن الشفعة ثم رجع الشقص فيه بالإقالة لم تثبت فيه الشفعة لأنه لم يملكه بعوض وإنما انفسخ البيع ورجع المبيع إلى ملكه بغير بدل فإن باعه شقصاً فعفا الشفيع عن الشفعة ثم ولاه رجلاً ثبتت فيه الشفعة لأن التولية ببيع رأس المال وإن قال لأم ولده إن خدمت ورثتي شهراً فلك هذا الشقص فخدمتهم ملكت الشقص وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما أنه تثبت لأنها ملكته ببدل هو كالخدمة فصار كالمملوك بالإجارة والثاني لا تثبت فيه الشفعة لأنه وصية في الحقيقة لأنه يعتبر من الثلث فلا تثبت فيه الشفعة كسائر الوصايا وإن دفع المكاتب إلى مولاه شقصاً عن نجم عليه ثم عجز ورق فهل للشفيع في الشقص شفعة أم لا فيه وجهان: أحدهما لا شفعة له لأنه بالعجز صار ماله للمولي بحق الملك لا بالمعاوضة وما ملك بغير المعاوضة لا شفعة فيه والثاني تثبت فيه لأنه ملكه بعوض فثبت فيه الشفعة فلا تسقط بالفسخ بعده. فصل: وإن بيع شقص في شركة الوقف فإن قلنا إن الموقوف عليه لا يملك الوقف لم تجب فيه الشفعة لأنه لا ملك له وإن قلنا أنه يملك ففيه وجهان: أحدهما أنه يأخذ بالشفعة لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك فأشبه مالك الطلق والثاني لا يأخذه لأن ملكه غير تام بدليل أنه لا يملك التصرف فيه فلا يملك به ملكاً تاماً. فصل: وإن اشترى شقصاً وشرط الخيارة فيه للبائع لم يكن للشفيع أن يأخذ قبل انقضاء الخيار لأنه في أحد الأقوال لا يملك الشقص وفي القول الثاني ملكه موقوف فلا يعلم هل يملك أم لا وفي القول الثالث يملكه ملكاً غير تام لأن للبائع أن يفسخه ولأنه إذا أخذ بالشفعة أضر بالبائع لأنه يسقط حقه من الفسخ والضرر لا يزال بالضرر وإن

شرط الخيار للمشتري وحده فإن قلنا إنه لا يملك أو قلنا إنه موقوف لم يأخذ لما ذكرناه خيار البائع وإن قلنا إنه يملكه ففيه قولان: أحدهما لا يأخذه لأنه بيع فيه خيار فلا يأخذ به كما لو كان الخيار للبائع والثاني يأخذه وهو الصحيح لأنه لا حق لغير المشتري والشفيع يملك إسقاط حقه ولهذا يملك إسقاط حقه بعد لزومه البيع واستقرار الملك فلأن يملك قبل لزومه أولى. فصل: وتثبت الشفعة للكافر على المسلم لحديث جابر رضي الله عنه لا يحل حتى يؤذن شريكه فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولم يفرق ولأنه خيار جعل لدفع الضرر عن المال فاستوى فيه الكافر والمسلم كالرد بالعيب. فصل: ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على العوض لأنه إذا أخذه ولم يقدر على العوض أضر بالمشتري والضرر لا يزال بالضرر فإن أحضر رهناً أو ضميناً أو عوضاً عن الثمن لم يلزم قبوله لأنه ما استحق أخذه بالعوض لم يلزم قبول الرهن والضمين والعوض فيه كالمبيع في يد البائع. فصل: ويأخذ الشفيع بالعوض الذي ملك به فإن اشتراه أخذه بالثمن لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن باعه فهو أحق به بالثمن" وإن اشترى شقصاً وسيفاً بثمن قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشقص بحصته وترك السيف على المشتري بحصته لأن الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته ولا يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع بتفريق الصفقة عليه لأنه دخل في العقد على بصيرة أن الصفقة تفرق عليه وإن اشترى الشقص بثمن ثم ألحق به زيادة أو حط عنه بعض أو وجد به عيباً فأخذ عنه الأرش فعلى ما ذكرناه في بيع المرابحة فإن نقص الشقص في يد المشتري فقد روى المزني أن الشفيع يأخذه بجميع الثمن وقال في القديم يأخذه بالحصة واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال: فيه قولان: وهو الصحيح: أحدهما يأخذ بجميع الثمن كالعبد المبيع إذا ذهبت عينه في يد البائع فإن المشتري يأخذه بجميع الثمن والقول الثاني أنه يأخذه بالحصة وهو الصحيح لأنه أخذ بعض ما دخل في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف ومنهم من قال إن ذهب التالف ولم يذهب من الأجزاء شيء أخذ بالجميع لأن الذي يقابله الثمن أجزاء العين وهي باقية فإن تلف بعض الأجزاء من الآجر والخشب أخذه بالحصة لأنه تلف بعض ما يقابله الثمن فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال: إن تلف بجائحة من السماء أخذ بالجميع لأنه لم يحصل للمشتري بدل التالف وإن تلف بفعل آدمي أخذ بالحصة لأنه حصل للمشتري بدل التالف وحمل القولين على هذين الحالين.

فصل: وإن اشترى الشقص بمائة مؤجلة ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يأخذ بمائة مؤجلة لأن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته فكان تابعاً له في التأجيل والثاني أنه يأخذ بسلعة تساوي مائة إلى الأجل لأنه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة لأن ذلك أكثر مما لزم المشتري ولا يمكن أن يطالب بمائة مؤجلة لأن الذمم لا تتماثل فتجعل ذمة الشفيع مثل ذمة المشتري فوجب أن يعدل إلى جنس آخر بقيمته كما يعدل فيما لا مثل له إلى جنس آخر بقيمته والثالث وهو الصحيح أنه يخير بين أن يعجل الثمن ويأخذ وبين أن يصبر إلى أن يحل فيأخذ لأنه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة ولا بمائة مؤجلة لما ذكرناه ولا يمكن أن يأخذ بسلعة لأن الشفيع إنما يأخذ بالمثل أو القيمة والسلعة ليست بمثل الثمن ولا هي قيمته فلم يبق إلا التخيير. فصل: وإن باع رجل من وارثه شقصاً يساوي ألفين بألف ولم تجز الوراثة بطل البيع في نصفه لأنه قدر المحاباة فإن اختار الشفيع أن يأخذ النصف بالألف لم يكن للمشتري الخيار في تفريق الصفقة لأن الشفيع أخذه بألف وإن لم يأخذ الشفيع فللمشتري أن يفسخ البيع لتفرق الصفقة عليه وإن باع من أجنبي وحاباه والشفيع وارث فاحتمل الثلث المحاباة ففيه خمسة أوجه: أحدها أن البيع يصح في نصف الشقص بالألف وللشفيع أن يأخذه ويبقى النصف للمشتري بلا ثمن لأن المحاباة وصية والوصية للمشتري تصح ولا تصح للشفيع فيصير كأنه وهب له النصف وباع منه النصف بثمن المثل ويأخذ الشفيع النصف بجميع الثمن ويبقى النصف للمشتري بغير ثمن والثاني أن البيع يصح في نصفه بالألف لأنا لو دفعنا الجميع إلى الشفيع بالألف حصلت الوصية للوارث وإن دفعنا إليه النصف بالألف وتركنا النصف على المشتري ألزمنا الشفيع في النصف أكثر مما لزم المشتري فلم يبق إلا الفسخ بالنصف ودفع النصف إلى الوارث من غير محاباة والثالث أن البيع باطل لأن المحاباة تعلقت بالكل فلا يجوز أن تجعل في نصفه والرابع أنه يصح البيع وتسقط الشفعة لأن إثبات الشفعة يؤدي إلى إبطال البيع وإذا بطل البيع سقطت الشفعة وما أدى ثبوته إلى سقوطه وسقوط غيره سقط فسقطت الشفعة وبقي البيع والخامس وهو الصحيح أنه يصح البيع في الجميع بالألف ويأخذ الشفيع بالألف لأن المحاباة وقعت للمشتري دون الشفيع والمشتري أجنبي فصحت المحاباة له. فصل: وإن اشترى الشقص بعرض فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان أخذه بمثله

لأنه من ذوات الأمثال فأخذ به كالدراهم والدنانير وإن لم يكن له مثل كالعبيد والثياب أخذه بقيمته لأن القيمة مثل لما لا مثل له ويأخذه بقيمته حال وجوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذي وجب عنده وجوب الشفعة وإن اشترى الشقص بعبد أخذ الشفيع بقيمته ووجد البائع بالعبد عيباً ورده أخذ قيمة الشقص وهل يثبت التراجع للشفيع والمشتري بما بين قيمة العبد وقيمة الشقص؟ فيه وجهان: أحدهما لا يتراجعان لأن الشفيع أخذ بما استقر عليه العقد وهو قيمة العبد فلا يتغير بما طرأ بعده والثاني يتراجعان فإن كانت قيمة الشقص أكثر رجع المشتري على الشفيع وإن كانت قيمة العبد أكثر رجع الشفيع على المشتري لأنه استقر الشقص على المشتري بقيمته فثبت التراجع بما بين القيمتين وإن وجد البائع بالعبد العيب وقد حدث عنده عيب آخر فرجع على المشتري بالأرش نظرت فإن أخذ المشتري من الشفيع قيمة العبد سليماً لم يرجع عليه بالأرش لأن الأرش دخل في القيمة وإن أخذ قيمته معيباً فهل يرجع بالأرش؟ فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه أخذ الشقص بقيمة العبد المعيب الذي استقر عليه العقد والثاني يرجع بالأرش لأنه استقر الشقص عليه بقيمة عبد سليم فرجع به على الشفيع. فصل: وإن جعل الشقص أجرة في إجارة أخذ الشفيع بأجرة مثل المنفعة فإن جعل صداقاً في نكاح أو بدلاً في خلع أخذ الشفيع بمهر المرأة لأن المنفعة لا مثل لها فأخذ بقيمتها كالثوب والعبد وإن جعل متعة في طلاق امرأة أخذ الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر لأن الواجب بالطلاق متعة مثلها لا المهر. فصل: والشفيع بالخيار بين الأخذ والترك لأنه حق ثبت له لدفع الضرر عنه فخير بين أخذه وتركه وفي خياره أربعة أقوال: قولان نص عليهما في القديم أحدهما أنه على التراخي لا يسقط إلا بالعفو أو بما يدل على العفو كقوله بعني أو قاسمني وما أشبههما لأنه حق له لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره فلم يسقط إلا بالعفو كالخيار في القصاص والثاني أنه بالخيار بين أن يرفعه المشتري إلى الحاكم ليجبره عن الأخذ أو العفو لأنا لو قلنا إنه على الفور أضررنا بالشفيع لأنه لا يأمن مع الاستعجال أن يترك والحظ في الأخذ أو يأخذه والحظ في الترك فيندم وإن قلنا على التراخي إلى أن يسقط أضررنا بالمشتري لأنه لا يقدر على التصرف والسعي في عمارته خوفاً من الشفيع فجعل له إلى أن يرفع إلى الحاكم ليدفع عنه الضرر والثالث نص عليه في سير حرملة أنه بالخيار إلى ثلاثة أيام لأنه لا يمكن أن يجعل على الفور لأنه يستضر به الشفيع ولا أن يجعل على التراخي لأنه يستضر به المشتري فقدر بثلاثة أيام لأنه لا ضرر فيه على

الشفيع، لأنه يمكنه أن يعرف ما فيه من الحظ في ثلاثة أيام ولا على المشتري قريب والرابع نص عليه في الجديد أنه على الفور وهو الصحيح لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة لمن واثبها" وروي أنه قال: "الشفعة كنشطة العقال" إن قيدت ثبتت وإن تركت فاللوم على من تركها فعلى هذا إن أخر الطلب من غير عذر سقط لأنه على الفور فسقط بالتأخير من غير عذر كالرد بالعيب وإن أخره لطهارة أو صلاة أو طعام أو لبس ثوب أو إغلاق باب فهو على شفعته لأنه ترك الطلب لعذر وإن قال سلام عليكم أنا مطالب بالشفعة ثبتت الشفعة لأن السلام قبل الكلام سنة فلا تسقط به الشفعة وإن قال بارك الله في صفقة يمينك أنا مطالب بالشفعة لم تسقط لأن الدعاء له بالبركة لا يدل على ترك الشفعة لأنه يجوز أن يكون دعاء للصفقة بالبركة لأنها أوصلته إلى الأخذ بالشفعة وإن قال صالحني عن الشفعة على مال لم يصح الصلح لأنه خيار فلا يجوز أخذ العرض عنه كخيار الشرط وفي شفعته وجهان: أحدهما تسقط لأنه أعرض عن طلبها من غير عذر والثاني لا يسقط لأنه تركها على عوض ولم يسلم له العوض فبقي على شفعته فإن أخذه بثمن مستحق ففيه وجهان: أحدهما تسقط لأنه ترك الأخذ الذي يملك به من غير عذر والثاني لا تسقط لأنه استحق الشقص بمثل الثمن في الذمة فإذا عينه فيما لا يملك سقط التعيين وبقي الاستحقاق كما لو اشترى شيئاً بثمن في الذمة ووزن فيه ما لا يملك. فصل: وإن وجبت وهو محبوس أو مريض أو غائب نظرت فإن لم يقدر على الطلب ولا على التوكيل وعلى الإشهاد فهو على شفعته لأنه ترك بعذر وإن قدر على التوكيل فلم يوكل فيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول القاضي أبي حامد إنه تسقط شفعته لأنه ترك الطلب مع القدرة فأشبه إذا قدر على الطلب بنفسه فترك والثاني وهو قول أبي علي الطبري إنه لا تسقط لأن التوكيل إن كان بعوض لزمه غرم وفيه ضرر وإن كان بغير عوض احتاج إلى التزام منه وفي تحملها مشقة وذلك عذر فلم تسقط به الشفعة ومن أصحابنا من قال إن وجد من يتطوع بالوكالة سقطت شفعته لأنه ترك الطلب

من غير ضرر فإن لم يجد من يتطوع لم تسقط لأنه ترك للضرر وإن عجز عن التوكيل وقدر على الإشهاد فلم يشهد ففيه قولان: أحدهما تسقط شفعته لأن الترك قد يكون للزهد وقد يكون للعجز وقد قدر على أن يبين ذلك بالشهادة فإذا لم يفعل سقطت شفعته والثاني لا تسقط لأن عذره في الترك ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة. فصل: وإن قال أخرت الطلب لأني لم أصدق فإن كان قد أخبره عدلان سقطت شفعته لأنه أخبره من يثبت بقوله الحقوق وإن أخبره حر أو عبد أو امرأة ففيه وجهان: أحدهما لا تسقط لأنه ليس ببينة والثاني تسقط لأنه أخبره من يجب تصديقه في الخبر وهذا من باب الأخبار فوجب تصديقهم فيه. فصل: فإن قال المشتري اشتريت بمائة فعفا الشفيع ثم بان أنه اشترى بخمسين فهو على شفعته لأنه عفا عن الشفعة لعذر وهو أنه لا يرضاه بمائة أو ليس معه مائة وإن قال اشتريت بخمسين فعفا ثم بان أنه قد اشتراه بمائة لم يكن له أن يطلب لأن من لا يرضى الشقص بخمسين لا يرضاه بمائة وإن قال اشتريت نصفه بمائة فعفا ثم بان أنه قد اشترى جميعه بمائة فهو على شفعته لأنه لم يرض بترك الجميع وإن قال اشتريت الشقص بمائة فعفا ثم بان أنه كان قد اشترى نصفه بمائة لم يكن له أن يطالب بالشفعة لأن من لم يرض الشقص بمائة لا يرضى نصفه بمائة وإن قال اشتريت بأحد النقدين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بالنقد الآخر فهو على شفعته لأنه يجوز أن يكون عفا لإعواز أحد النقدين عنده أو لحاجته إليه وإن قال اشتريت الشقص فعفا ثم بان أنه كان وكيلاً فيه وإنما المشتري غيره فهو على شفعته لأنه قد يرضى مشاركة الوكيل ولا يرضى مشاركة الموكل. فصل: وإن وجبت له الشفعة فباع حصته فإن كان بعد العلم بالشفعة سقطت شفعته لأنه ليس له ملك يستحق به وإن باع قبل العلم بالشفعة ففيه وجهان: أحدهما تسقط لأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه والثاني لا تسقط لأنه وجبت له الشفعة والشركة موجودة فلا تسقط بالبيع بعده. فصل: ومن وجبت له الشفعة في شقص لم يجز أن يأخذ البعض ويعفو عن البعض لأن في ذلك إضراراً بالمشتري في تفريق الصفقة عليه والضرر لا يزال بالضرر فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت سفعته لأنه لا يتبعض فإذا عفا عن البعض سقط الجميع كالقصاص وإن اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد فأراد الشفيع أن يأخذ أحدهما دون الآخر ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو الأظهر لما فيه من الإضرار

بالمشتري في تفريق الصفقة عليه والثاني يجوز لأن الشفعة جعلت لدفع الضرر وربما كان الضرر في أحدهما دون الآخر فإن كان البائع أو المشتري اثنين جاز للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر كما لو اشتراه في عقدين متفرقين. فصل: وإن كان للشقص شفعاء نظرت فإن حضروا وطلبوا أخذوا فإن كانت حصة بعضهم أكثر ففيه قولان: أحدهما أنه يقسم الشقص بينهم على عدد الرؤوس وهو قول المزني لأن كل واحد منهم لو انفرد أخذ الجميع فإذا اجتمعوا تساووا كما لو تساووا في الملك والثاني أنه يقسم بينهم على قدر الأنصباء لأنه حق يستحق بسبب الملك فيسقط عند الاشتراك على قدر الأملاك كأجرة الدكان وثمرة البستان وإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الباقون جميعه لأن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري فإن جعل بعضهم حصته لبعض الشركاء لم يصح بل يكون لجميعهم لأن ذلك عفو ليس بهبة وإن حضر بعضهم أخذ جميعه فإن حضر آخر قاسمه وإن حضر الثالث قاسمهما لأنا بينا أنه لا يجوز التبعيض فإن أخذ الحاضر الشقص وزاده في يده بأن كان نخلاً فأثمرت ثم قدم الغائب قاسمه على الشقص دون الثمار لأن الثمار حديث في ملك الحاضر فاختص بها وإن قال الحاضر أنا آخذ بقدر مالي لم يجز وهل تسقط شفعته؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تسقط لأنه قدر على أخذ الجميع وقد تركه والثاني وهو قول أبي إسحاق أنها لا تسقط لأنه تركه بعذر وهو أنه يخشى أن يقدم الغائب فينتزعه منه والترك للعذر لا يسقط الشفعة كما قلنا فيمن أظهر له المشتري ثمناً كثيراً ثم ترك ثم بان بخلافه. فصل: وإن كان للمشتري شريكاً بأن كان بين ثلاثة دار فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه لم يكن للشريك الثاني أن يأخذ الجميع لأن المشتري أحد الشريكين فلم يجز للآخر أن يأخذ الجميع كما لو كان المشتري أجنبياً وقال أبو العباس للشريك أن يأخذ الجميع لأنا لو قلنا إنه يأخذ النصف لتركنا النصف على المشتري بالشفعة والإنسان لا يأخذ بالشفعة من نفسه والمذهب الأول لأن المشتري لا يأخذ النصف من نفسه بالشفعة وإنما يمنع الشريك أن يأخذ الجميع ويبقى الباقي على ملكه. فصل: وإن ورث رجلان من أبيهما داراً ثم مات أحدهما وخلف ابنين ثم باع أحد هذين الابنين حصته في الشفعة قولان: أحدهما أن الشفعة بين الأخ والعم وهو الصحيح لأنهما شريكان للمشتري فاشتركا في الشفعة كما لو ملكاه بسبب واحد والثاني أنها

للأخ دون العم لأن الأخ أقرب إليه في الشركة لأنهما ملكاه بسبب واحد والعم ملك بسبب قبلهما فعلى هذا إن عفا الأخ عن حقه فهل يستحق العم؟ فيه وجهان: أحدهما يستحق به لأنه شريك وإنما قدم الأخ عليه لأنه أقرب في الشركة فإذا ترك الأخ ثبت للعم كما نقول فيمن قتل رجلين أنه يقتل الأول لأن حقه أسبق فإذا عفا ولي الأول قتل بالثاني والوجه الثاني أنه لا يستحق لأنه لم يستحق الشفعة وقت الوجوب فلم يستحق بعده وإن كان بين ثلاثة أنفس دار فباع أحدهم نصيبه من رجلين وعفا شريكاه عن الشفعة ثم باع أحد المشتريين نصيبه فعلى القولين: أحدهما أن الشفعة للمشتري الآخر لأنهما ملكاه بسبب واحد والشريكان الآخران ملكاه بسبب سابق لملك المشتريين والثاني أنها بين الجميع لأن الجميع شركاء في الملك في حال وجوب الشفعة وإن مات رجل عن دار وخلف ابنتين وأختين ثم باعت إحدى الأختين نصيبها ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هي على القولين: أحدهما أن الشفعة للأخت لأنها ملكت مع الأخت بسبب واحد وملك البنات بسبب آخر والثاني أن الشفعة بين البنات والأخت لأن الجميع شركاء في الملك ومنهم من قال إن الشفعة بين البنات والأخت قولاً واحداً لأن الجميع ملكن الشقص في وقت واحد لم يسبق بعضهن بعضاً. فصل: وإن تصرف المشتري في الشقص ثم حضر الشفيع نظرت فإن تصرف بما لا تستحق به الشفعة كالوقف والهبة والرهن والإجارة فللشفيع أن يفسخ ويأخذ لأن حقه سابق للتصرف ومع بقاء التصرف لا يمكن الأخذ فملك الفسخ وإن تصرف بما تستحق به الشفعة كالبيع والصداق فهو بالخيار بين أن يفسخ ويأخذ بالعقد الأول وبين أن يأخذ بالعقد الثاني لأنه شفيع بالعقدين فجاز أن يأخذ بما شاء منهما وإن قابل البائع أو رده عليه بعيب فللشفيع أن يفسخ الإقالة والرد بالعيب فملك الفسخ وإن تحالفا على الثمن وفسخ العقد جاز للشفيع أن يأخذ بالثمن الذي حلف عليه البائع لأن البائع أقر للمشتري بالملك وللشفيع بالشفعة بالثمن الذي حلف عليه فإذا بطل حق المشتري بالتحالف بقي حق الشفيع وإن اشترى شقصاً بعبد ووجد البائع بالعبد عيباً ورده قبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان: أحدهما يقدم الشفيع لأن حقه سابق لأنه ثبت بالعقد وحق البائع ثبت بالرد والثاني أن البائع أولى لأن في تقديم الشفيع إضراراً بالبائع في إسقاط حقه من الرد والضرر لا يزال بالضرر وإن أصدق امرأته شقصاً وطلقها قبل الدخول وقبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان: أحدهما يقدم الزوج على الشفيع لأن حق الزوج على أقوى لأنه ثبت بنص الكتاب وحق الشفيع ثبت بخبر

الواحد فقدم حق الزوج والثاني يقدم الشفيع لأن حقه سابق لأنه ثبت بالعقد وحق الزوج ثبت بالطلاق. فصل: وإن اشترى شقصاً وكان الشفيع غائباً فقاسم وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه وغرس وبنى ثم حضر الشفيع أو أظهر له ثمناً كثيراً فقاسمه ثم غرس وبنى ثم بان خلافه وأراد الأخذ فإن اختار المشتري قلع الغراس والبناء لم يمنع لأنه ملكه فملك نقله ولا تلزمه تسوية الأرض لأنه غير متعد وإن لم يختر القلع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقص بثمن والغراس والبناء بالقيمة وبين أن يقلع الغراس والبناء ويضمن ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا إضرار" ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك. فصل: وإن اشترى شقصاً وحدث فيه زيادة قبل أن يأخذ الشفيع نظرت فإن كانت زيادته لا تتميز كالفسيل إذا طال وامتلأ فإن الشفيع ياخذه مع زيادته لأن ما لا يتميز يتبع الأصل في الملك كما يتبعه في الرد بالعيب وإن كانت متميزة كالثمرة فإن كانت ثمرة ظاهرة لم يكن للشفيع فيها حق لأن الثمرة الظاهرة لا تتبع الأصل كما قلنا في الرد بالعيب وإن كانت غير ظاهرة ففيه قولان: قال في القديم تتبع الأصل كما تتبع في البيع وقال في الجديد لا تتبعه لأنه استحقاق بغير تراض فلا يأخذ به إلا ما دخل بالعقد ويخالف البيع لأنه استحقاق عن تراض يقدر فيه على الاستثناء فإذا لم يستثن تبع الأصل. فصل: إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الأخذ من غير حكم الحاكم لأن الشفعة ثابتة بالنص والإجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كالرد بالعيب فإن كان الشقص في يد المشتري أخذه منه وإن كان في يد البائع ففيه وجهان: أحدهما يجوز أن يأخذ منه لأنه استحق فملك الأخذ كما لو كان في يد المشتري والثاني لا يجوز أن يأخذ منه بل يجبر المشتري على القبض ثم يأخذه منه لأن الأخذ من البائع يؤدي إلى إسقاط الشفعة لأنه يفوت به التسليم وفوات التسليم يوجب بطلان العقد فإذا بطل العقد سقطت الشفعة وما أدى إثباته إلى إسقاطه سقط. فصل: ويملك الشفيع الشقص بالأخذ لأنه تملك مال بالقهر فوقع الملك فيه بالأخذ كتملك المباحات ولا يثبت فيه خيار الشرط لأن الشرط إنما يثبت مع تملك الاختيار والشقص يؤخذ بالإجبار فلم يصح فيه شرط الخيار وهل يثبت له خيار المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما يثبت لأنه تملك مال بالثمن فثبت فيه خيار المجلس كالبيع والثاني لا يثبت لأنه إزالة الملك لدفع الضرر فلم يثبت فيه خيار المجلس كالرد بالعيب.

فصل: وإن وجد بالشقص عيباً فله أن يرده لأنه ملكه بالثمن فثبت له الرد بالعيب كالمشتري في البيع وإن خرج مستحقاً رجع بالعهدة على المشتري لأنه أخذ منه على أنه ملكه فرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه. فصل: وإن مات الشفيع قبل العفو والأخذ انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب وإن كان له وارثان فعفا أحدهما عن حقه سقط حقه وهل يسقط حق الآخر؟ فيه وجهان: أحدهما يسقط لأنها شفعة واحدة فإذا عفا عن بعضها سقط الباقي كالشفيع إذا عفا عن بعض الشقص والثاني لا يسقط لأنه عفا عن حقه فلم يسقط حق غيره كما لو عفا أحد الشفيعين. فصل: إذا اختلف الشريكان في الدار فادعى أحدهما على الآخر أنه ابتاع نصيبه فله أخذه بالشفعة وقال الآخر بل ورثته أو أوهبته فلا شفعة لك فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأنه يدعي عليه استحقاق ملكه بالشفعة فكان القول قوله كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة فإن نكل عن اليمين حلف المدعي وأخذ بالشفعة وفي الثمن ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقال للمدعى عليه قد أقر لك بالثمن وهو مصدق في ذلك فإما أن تأخذه أو تبرئه من الثمن الذي لك عليه كما قلنا في المكاتب إذا حمل نجماً إلى المولى فادعى المولى أنه مغصوب والثاني أنه يترك الثمن في يد المدعي لأنه قد أقر لمن لا يدعيه فأقر في يده كما لو أقر بدار لرجل وكذبه المقر له والثالث يأخذه الحاكم ويحفظه إلى أن يدعيه صاحبه لأنهما اتفقا على أنهما لا يستحقان ذلك. فصل: وإن ادعى كل منهما على شريكه أنه ابتاع حصته بعده وأنه يستحق عليه ذلك بالشفعة فالقول قول كل واحد منهما لما ذكرناه فإن سبق أحدهما فادعى وحلف المدعى عليه استقر ملكه ثم يدعى الحالف على الآخر فإن حلف استقر أيضاً ملكه وإن نكل الأول ردت اليمين على المدعي فإذا حلف استحق وإن أراد الناكل أن يدعي على الآخر بعد ذلك لم تسمع دعواه لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة. فصل: وإن اختلفا في الثمن فقال المشتري الثمن ألف وقال الشفيع هو خمسمائة فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه هو العاقد فكان أعرف بالثمن ولأنه مالك الشقص فلا ينزع منه بالدعوى من غير بينة. فصل: وإن ادعى الشفيع أن الثمن ألف وقال المشتري لا أعلم قدره فالقول قول المشتري لأن ما يدعيه ممكن فإنه يجوز أن يكون

قد علم بالثمن ثم نسي فإذا حلف لم يستحق الشفعة لأنه لا يستحق من غير بدل ولا يمكن أن يدفع إليه مالاً يدعيه وقال أبو العباس: يقال له إما أن تبين قدر الثمن أو نجعلك ناكلاً فيحلف الشفيع أن الثمن ألف ويستحق كما نقول فيمن ادعى على رجل ألفاً فقال للمدعى عليه لا أعلم القدر والمذهب الأول لأن ما يدعيه ممكن فإنه يجوز أن يكون قد اشتراه بثمن جزاف لا يعرف وزنه ويجوز أن يكون قد علم ثم نسي ويخالف إذا ادعى عليه ألفاً فقال لا أعرف القدر لأن هناك لم يجب عن الدعوى وههنا أجاب عن استحقاق الشفعة وإنما ادعى الجهل بالثمن. فصل: وإن قال المشتري الثمن ألف وقال الشفيع لا أعلم هل هو ألف أو أقل فهل له أن يحلف المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما ليس له أن يحلفه حتى يعلم لأن اليمين لا يجب بالشك والثاني له أن يحلفه لأن المال لا يملك بمجرد الدعوى وإن قال المشتري الثمن ألف وقال الشفيع لا أعلم كم هو ولكنه دون الألف فالقول قول المشتري فإن نكل لم يحلف الشفيع حتى يعلم قدر الثمن لأنه لا يجوز أن يحلف على ما لم يعلم. فصل: وإن اشترى الشقص بعرض وتلف العرض واختلفا في قيمته فالقول قول المشتري لأن الشقص ملك له فلا ينتزع بقول المدعي. فصل: وإن أقر المشتري أنه اشترى الشقص بألف وأخذ الشفيع بألف ثم ادعى البائع أن الثمن كان ألفين وصدقه المشتري لم يلزم الشفيع أكثر من الألف لأن المشتري أقر بأنه يستحق الشفعة بألف فلا يقبل رجوعه في حقه فإن كذبه المشتري فأقام عليه بينة أن الثمن ألفان لزم المشتري الألفان ولا يرجع على الشفيع بما زاد على الألف لأنه كذب البينة بإقراره السابق. فصل: فإن كان بين رجلين دار وغاب احدهما وترك نصيبه في يد رجل فادعى الشريك على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه منه وأنه استحق أخذه بالشفعة فأقر به فهل يلزمه تسليمه إليه بالشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يسلمه لأنه أقر بالملك للغائب ثم ادعى انتقاله بالشراء فلم يقبل قوله والثاني يسلم إليه لأنه في يده فقبل قوله فيه. فصل: وإن أقر أحد الشريكين في الدار أنه باع نصيبه من رجل ولم يقبض الثمن وصدقه الشريك وأنكر الرجل فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا نثبت الشفعة للشريك لأن الشفعة تثبت بالشراء ولم يثبت الشراء فلم تثبت الشفعة للشريك وذهب عامة أصحابنا إلى أنه تثبت الشفعة وهو جواب المزني فيما أجاب فيه على قول الشافعي

رحمه الله لأنه أقر للشفيع بالشفعة وللمشتري بالملك فإذا أسقط أحدهما حقه لم يسقط حق الآخر كما لو أقر لرجلين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الآخر وهل يجوز للبائع أن يخاصم المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما ليس له ذلك لأنه يصل إلى الثمن من جهة الشفيع فلا حاجة به إلى خصومة المشتري والثاني له أن يخاصمه لأنه قد يكون المشتري أجهل في المعاملة من الشفيع فإن قلنا لا يخاصم المشتري أخذ الشفيع الشقص من البائع وعهدته عليه لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن وإن قلنا يخاصمه فإن حلف أخذ الشفيع الشقص من البائع ورجع بالعهدة عليه وإن نكل فحلف البائع سلم الشقص إلى المشتري وأخذ الشفيع الشقص من المشتري ورجع بالعهدة عليه لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن وإن أقر البائع بالبيع وقبض الثمن وأنكر المشتري فمن قال لا شفعة إذا لم يقر بقبض الثمن لم تثبت الشفعة إذا أقر بقبض ومن قال تثبت إذا لم يقر بقبض الثمن اختلفوا إذا أقر بقبضه فمنهم من قال لا تثبت لأنه يأخذ الشقص من غير عوض وهذا لا يجوز ومنهم من قال تثبت لأن البائع أقر له بحق الشفعة وفي الثمن الأوجه الثلاثة والتي ذكرناها فيمن ادعى الشفعة على شريكه وحلف بعد نكول الشريك والله أعلم.

كتاب القراض

كتاب القراض مدخل ... كتاب القراض القراض جائز لما روى زيد بن اسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت ثم قال: بل ههنا مل من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما ربحه فقالا: وددنا ففعل فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال فلما قدما وباعا وربحا فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما فقالا: لا فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه فقال أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فأخذ رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال ولأن الأثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود إلا بالعمل فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها كالنخل في المساقاة. فصل: وينعقد بلفظ القراض لأنه لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز وبلفظ المضاربة لأنه موضوع له في لغة أهل العراق وبما يؤدي معناه لأن المقصود هو المهنى فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك. فصل: ولا يصح إلى على الأثمان وهي الدراهم والدنانير فأما ما سواهما من العروض والعقار والسبائك والفلوس فلا يصح القراض عليها لأن المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح ومتى عقد على غير الأثمان لم يحصل المقصود لأنه ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله إن كان له مثل

وفي رد قيمته إن لم يكن له مثل وفي هذا إضرار بالعامل وربما نقصت قيمته فيصرف جزءاً يسيراً من الكسب في رد مثله أو رد قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي وفي هذا إضرار برب المال لأن العامل يشاركه في أكثر رأس المال وهذا لا يوجد في الأثمان لأنها لا تقوم بغيرها ولا يجوز على المغشوش من الأثمان لأنه تزيد قيمته وتنقص كالعروض. فصل: ولا يجوز إلا على مال معلوم الصفة والقدر فإن قارضه على دراهم جزاف لم يصح لأن مقتضى القراض رد رأس المال وهذا لا يمكن فيما لا يعرف صفته وقدره فإن دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم فقال قارضتك على أحدهما وأودعتك الآخر ففيه وجهان: أحدهما يصح وأنهما متساويان والثاني لا يصح لأنه لم يبين مال القراض من مال الوديعة وإن قارضه على ألف درهم هي له عنده وديعة جاز لأنه معلوم وإن قارضه على درهم هي له عنده مغصوبة ففيه وجهان: أحدهما يصح الوديعة والثاني لا يصح لأنه مقبوض عنده قبض ضمان فلا يصير مقبوضاً قبض أمانة. فصل: ولا يجوز إلا على جزء من الربح معلوم فإن قارضه على جزء مبهم لم يصح لأن الجزء يقع على الدرهم والألف فيعظم الضرر وإن قارضه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز لأن القراض كالمساقاة وقد ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع وإن قارضه على درهم معلوم لم يصح لأنه قد لا يربح ذلك الدرهم فيستضر العامل وقد لا يربح إلا ذلك الدرهم فيستضر رب المال وإن قال قارضتك على أن الربح بيننا ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه مجهول لأن هذا القول يقع على التساوي وعلى التفاضل والثاني يصح لأنه سوى بينهما في الإضافة فحمل على التساوي كما لو قال هذه الدار لزيد وعمرو وإن قال قارضتك على أن لي نصف الربح ففيه وجهان: أحدهما يصح ويكون الربح بينهما نصفين لأن الربح بينهما فإذا شرط لنفسه النصف دل على أن الباقي للعامل والثاني لا يصح وهو الصحيح لأن الربح كله لرب المال بالملك وإنما يملك العامل جزءاً منه بالشرط ولم يشرط له شيئاً فبطل وإن قال قارضتك على أن لك النصف ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لم يبين ما لرب المال والثاني يصح وهو الصحيح لأن ما لرب المال لا يحتاج إلى شرط لأنه يملكه بملك المال وإنما يحتاج إلى شرط ما للعامل فإذا شرط للعامل النصف بقي الباقي على ملك رب

المال فعلى هذا لو قال قارضتك على أن لك النصف ولي الثلث وسكت عن السدس صح ويكون النصف له لأن الجميع له إلا ما شرطه للعامل وقد شرط له النصف فكان الباقي له. فصل: وإن قال قارضتك على أن الربح كله لي أو كله لك بطل القراض لأن موضوعه على الاشتراك في الربح فإذا شرط الربح لأحدهما فقد شرط ما ينافي مقتضاه فبطل وإن دفع إليه ألفاً وقال تصرف فيه والربح كله لك فهو قرض لا حق لرب المال في ربحه لأن اللفظ مشترك بين القراض والقرض وقد قرن به حكم القرض فانعقد القرض به كلفظ التمليك لما كان مشتركاً بين البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعاً وإن قال تصرف فيه والربح كله لي فهو بضاعة لأن اللفظ مشترك بين القراض والبضاعة وقد قرن به حكم البضاعة فكان بضاعة كما قلنا في لفظ التمليك. فصل: ولا يجوز أن يختص أحدهما بدرهم معلوم ثم الباقي بينهما لأنه ربما لم يحصل ذلك الدرهم فيبطل حقه وربما لم يحصل غير ذلك الدرهم فيبطل حق الآخر ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين لأنه قد لا يربح في ذلك فيبطل حقه أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الآخر ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما في عبد يشتريه فإن شرط أنه إذا اشترى عبداً أخذه برأس المال أو أخذه العامل بحقه لم يصح العقد لأنه قد لا يكون في المال ما فيه ربح غير العبد فيبطل حق الآخر. فصل: ولا يجوز أن يعلق العقد على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والإجارة. فصل: قال الشافعي رحمه الله: ولا تجوز الشريطة إلى مدة فمن أصحابنا من قال لا يجوز شرط المدة فيه لأنه عقد معاوضة يجوز مطلقاً فبطل بالتوقيت كالبيع والنكاح ومنهم من قال: إن عقده إلى مدة على أن لا يبيع بعدها لم يصح لأن العامل يستحق البيع لأجل الربح وإذا شرط المنع منه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يصح وإن عقده إلى مدة على أن لا يشتري بعدها صح لأن رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد فلم يمنع صحته. فصل: ولا يصح إلا على التجارة في جنس يعم كالثياب والطعام والفاكهة وقتها فإن عقده على ما لا يعم كالياقوت الأحمر والخيل البلق وما أشبهها أو على التجارة في

سلعة بعينها لم يصح لأن المقصود بالقراض الربح فإذا علق على ما لا يعم أو على سلعة بعينها تعذر المقصود لأنه ربما يتفق ذلك ولا يجوز عقده على أن لا يشري إلا من رجل بعينه لأنه قد لا يتفق عنده ما يربح فيه أو لا يبيع منه ما يربح فيه فيبطل المقصود. فصل: وعلى العامل أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه من النشر والطي والإيجاب والقبول وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف والعرف في هذه الأشياء أن يتولاه بنفسه فإن استأجر من يفعل ذلك لزمه الأجرة في ماله فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع ووزن ما يثقل وزنه فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه لأن العرف في هذه الأشياء أن لا يتولاه بنفسه فإن تولى ذلك بنفسه لم يستحق الأجرة لأنه تبرع به وإن سرق المال أو غصب فهل يخاصم السارق والغاصب؟ ففيه وجهان: أحدهما لا يخاصم لأن القراض معقود علىالتجارة فلا تدخل فيه الخصومة والثاني أنه يخاصم فيه لأن القراض يقضي حفظ المال والتجارة ولا يتم ذلك إلا بالخصومة والمطالبة. فصل: ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره من غير إذن رب المال لأن تصرفه بالإذن ولم يأذن له رب المال في القراض فلم يملكه فإن قارضه رب المال على النصف وقارض العامل آخر واشترى الثاني في الذمة ونقض الثمن من مال القراض وربح بنينا على القولين في الغاصب إذا اشترى في الذمة ونقد فيه المال المغصوب وربحه فإن قلنا بقوله القديم إن الربح لرب المال فقد قال المزني ههنا إن لرب المال نصف الربح والآخر بين العاملين نصفين واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق هذا صحيح لأن رب المال رضي أن يأخذ نصف ربح فلم يستحق أكثر منه والنصف الثاني بين العاملين لأنهما رضيا أن ما رزق الله بينهما والذي رزق الله تعالى هو النصف فإن النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك ومن أصحابنا من قال يرجع العامل الثاني على العامل الأول بنصف أجرة مثله لأنه دخل على أن يأخذ نصف ربح المال ولم يسلم له ذلك وإن قلنا بقوله الجديد فقد قال المزني الربح كله للعامل الأول وللعامل الثاني أجرة المثل فمن أصحابنا من قال هذا غلط لأن على هذا القول الربح كله للعامل الثاني لأنه هو المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض ومنهم من قال الربح للأول كما قال المزني لأن العامل الثاني لم يشتر لنفسه وإنما اشتراه للأول فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القراض فإن ذلك اشتراه لنفسه فكان الربح له. فصل: ولا يتجر العامل إلا فيما أذن فيه رب المال فإن أذن له في صنف لم يتجر

في غيره لأن تصرفه بالإذن فلم يملك ما لم يأذن له فيه فإن قال له اتجر في البز جاز له أن يتجر في أصناف البز من المنسوج من القطن والإبريسم والكتان وما يلبس من الأصواف لأن اسم البز يقع على ذلك كله ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش لأنه لا يطلق عليه اسم البز وهل يجوز أن يتجر في الأكسية البركانية؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يلبس فأشبه الثياب والثاني لا يجوز لأنه لا يطلق عليه اسم البز ولهذا لا يقال لبائعه بزاز وإنما يقال له كسائي ولو أذن له في التجارة في الطعام لم يجز أن يتجر في الدقيق ولا في الشعير لأن الطعام لا يطلق إلا على الحنطة. فصل: ولا يشتري العامل بأكثر من رأس المال لأن الإذن لم يتناول غير رأس المال فإن كان رأس المال ألفاً فاشترى عبداً بألف ثم اشترى آخر بألف قبل أن ينقد الثمن في البيع الأول فالأول للقراض لأنه اشتراه بالإذن وأما الثاني فينظر فيه فإن اشتراه بعين الألف فالشراء باطل لأنه اشتراه بمال استحق تسليمه في البيع الأول فلم يصح وإن اشتراه بألف في الذمة كان العبد له ويلزمه الثمن في ماله لأنه اشترى في الذمة لغيره مالم يأذن فيه فوقع الشراء. فصل: ولا يتجر إلا على النظر والاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل لأنه وكيل فلا يتصرف إلا على النظر والاحتياط وإن اشترى معيباً رأى شرائه جاز لأن المقصود طلب الحظ وقد يكون الربح في المعيب وإن اشترى شيئاً على أنه سليم فوجده معيباً جاز له الرد لأنه فوض إليه النظر والاجتهاد فلك الرد. فصل: وإن اختلفا فدعا أحدهما إلى الرد والآخر إلى الإمساك فعل ما فيه النظر لأن المقصود طلب الحظ لهما فإذا اختلفا حمل الأمر على ما فيه الحظ. فصل: وإن اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه لم يلزم رب المال لأن القصد بالقراض شراء ما يربح فيه وذلك لا يوجد في شراء من يعتق عليه وإن كان رب المال امرأة فاشترى العامل زوجها بغير إذنها ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمها لأن المقصود شراء ما تنتفع به وشراء الزوج تستضر به لأن النكاح ينفسخ وتسقط نفقتها واستمتاعها والثاني يلزمها لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه والزوج كغيره في الربح فلزمها شراؤه.

فصل: ولايسافر بالمال من غبر إذن رب المال لأنه مأمور بالنظر والاحتياط وليس في السفر احتياط لأن فيه تغريراً بالمال ولهذا يروى أن المسافر ومتاعه لعلى قلت فإن أذن له في السفر فقد قال في موضع له أن ينفق من مال القراض وقال في موضع آخر لا نفقة له فمن أصحابنا من قال: لا نفقة له قولاً واحداً لأن نفقته على نفسه فلم تلزم من مال القراض كنفقة الإقامة وتأول قوله على ما يحتاج إليه لنقل المتاع وما يحتاج إليه مال القراض ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا ينفق لما ذكرناه والثاني ينفق لأن سفره لأجل المال فكان نفقته منه كأجرة الحمال فإن قلنا ينفق من مال القراض ففي قدره وجهان: أحدهما جميع ما يحتاج إليه لأن من لزمه نفقة غيره لزمه جميع نفقته والثاني ما يزيد على نفقة الحضر لأن النفقة إنما لزمته لأجل السفر فلم يلزمه إلا ما زاد بالسفر. فصل: وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان: أحدهما أن الجميع لرب المال فلا يملك العامل حصته بالربح إلا بالقسمة لأنه لو ملك حصته من الربح لصار شريكاً لرب المال حتى إذا هلك شيء كان هالكاً من المالين فلم يجعل التالف من المالين دل على أنه لم يملك منه شيئاً والثاني أن العامل يملك حصته من الربح لأنه أحد المتقارضين فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال. فصل: وإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح قبل المفاصلة فامتنع الآخر لم يجبر لأنه إن امتنع رب المال لم يجز إجباره لأنه يقول الربح وقاية لرأس المال فلا أعطيك حتى تسلم لي رأس المال وإن كان الذي امتنع هو العام لم يجز إجباره لأنه يقول لا نأمن أن نخسر فنحتاج أن نرد ما أخذه وإن تقاسما جاز لأن المنع لحقهما وقد رضيا فإن حصل بعد القسمة خسر إن لزم العامل أن يجبره بما أخذ لأنه لا يستحق الربح إلا بعد تسليمه رأس المال. فصل: وإن اشترى العامل من يعتق عليه فإن لم يكن في المال ربح لزم الشراء في مال القراض لأنه لا ضرر فيه على رب المال فإن ظهر بعدما اشتراه ربح فإن قلنا إنه لا يملك حصته قبل القسمة لم يعتق وإن قلنا أنه يملك بالظهور فهل يعتق بقدر بحصته؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يعتق منه بقدر حصته لأنه ملكه فعتق والثاني لا يعتق لأن ملكه غير مستقر لأنه ربما تلف بعض المال فلزمه جبرانه بماله وإن اشترى وفي الحال ربح فإن قلنا إنه لا يعتق عليه صح الشراء لأنه لا ضرر فيه على رب المال وإن قلنا يعتق لم يصح الشراء لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق به. فصل: والعامل أمين فيما في يده فإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن

لأنه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع فإن دفع إليه ألفاً فاشترى عبداً في الذمة ثم تلف الألف قبل أن ينقده في ثمن العبد انفسخ القراض لأنه تلف رأس المال بعينه وفي الثمن وجهان: أحدهما أنه على رب المال لأنه اشتراه له فكان الثمن عليه كما لو اشترى الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقذه والثاني أن الثمن على العامل لأن رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في رأس المال فلم يلزمه ما زاد وإن دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان: أحدهما يتلف من رأس المال وينفسخ فيه القراض لأنه بدل عن رأس المال فكان هلاكه كهلاكه والثاني أنه يتلف من الربح لأنه تصرف في المال فكان في القراض وإن قارضه رجلان على مالين فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه قولان: أحدهما تباعان فإن لم يكن فيهما ربح قسم بين ربي المال وإن كان فيهما ربح شاركهما العامل في الربح وإن كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لأنه حصل بتفريطه والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما لأنه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما. فصل: ويجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء لأنه تصرف في مال الغير بإذنه فملك كل واحد منهما فسخه كالوديعة والوكالة فإن فسخ العقد والمال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز وإن باعاه جاز لأن الحق لهما وإن طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر لأن حق العامل في الربح وذلك لا يحصل إلا بالبيع فإن قال رب المال أنا أعطيك مالك فيه الربح وامتنع العامل فإن قلنا إنه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه كما لو كان بينهما مال مشترك وبذل أحدهما للآخر عوض حقه وإن قلنا لا يملك ففيه وجهان بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى عن بيعه وضمن للمجني عليه قيمته أحدهما لا يجبر على بيعه لأن البيع لحقه وقد بذل له حقه والثاني أنه يجبر لأنه ربما زاد مزايد ورغب راغب فزاد في قيمته وإن طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه لأن حق رب المال في رأس المال ولا يحصل ذلك إلا بالبيع فإن قال العامل أنا أترك حقي ولا أبيع فإن قلنا إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه لأنه يريد أن يهب حقه وقول الهبات لا يجب وإن قلنا إنه لا يملك بالظهور ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر على بيعه لأن البيع لحقه وقد تركه فسقط والثاني يجبر لأن البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله فإذا رضي بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله وإن فسخ العقد وهناك دين وجب على العامل أن يتقاضاه لأنه دخل في العقد على أن يرد رأس المال فوجب أن يتقاضاه ليرده

فصل: وإن مات أحدهما أو جن انفسخ لأنه عقد جائز فبطل بالموت والجنون كالوديعة والوكالة وإن مات رب المال أو جن وأراد الوارث أو الولي أن يعقد القراض والمال عرض فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق يجوز لأنه ليس بابتداء قراض وإنما هو بناء على مال القراض فجاز ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لأن القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض على غرض فلم يجز. فصل: وإن قارض في مرضه على ربح أكثر من أجرة المثل ومات اعتبر الربح من رأس المال لأن الذي يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله والربح ليس من ماله وإنما يحصل بكسب العامل فلم يعتبر من الثلث وإن مات وعليه دين قدم العامل على الغرماء لأن حقه يتعلق بعين المال فقدم على الغرماء. فصل: وإن قارض قراضاً فاسداً وتصرف العامل نفذ تصرفه لأن العقد بطل وبقي الإذن فملك به التصرف فغن حصل في المال ربح لم يستحق العامل منه شيئاً لأن الربح يستحقه بالقراض وقد بطل القراض فاما أجرة المثل فإنه ينظر فيه فإن لم يرض إلا بربح استحق لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض فإذا لم يسلم له رجع إلى أجرة المثل وإن رضي من غير ربح بأن قارضه على أن الربح كله لرب المال ففي الأجرة وجهان: أحدهما لا يستحق وهو قول المزني لأنه رضي أن يعمل من غير عوض فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض والثاني أنه يستحق وهو قول أبي العباس لأن العمل في القراض يقتضي العوض فلا يسقط بإسقاطه كالوطء في النكاح وإن كان له على رجل دين فقال إقبض ملي عليك فعزل الرجل ذلك وقارضه عليه لم يصح القراض لأنه قبضه له من نفسه لا يصح فإذا قارضه عليه فقد قارضه على مال لا يملكه فلم يصح فإن اشترى العامل شيئاً في الذمة ونقد في ثمنه ما عزله لرب المال وربح ففيه قولان: أحدهما أن ما اشتراه مع الربح لرب المال لأنه اشتراه له بإذنه ونقد فيه الثمن بإذنه وبرئت ذمته من الدين لأنه سلمه إلى من اشترى منه بإذنه ويرجع العامل بأجرة المثل لأنه عمل ليسلم له الربح ولم يسلم فرجع إلى أجرة عمله والثاني أن الذي اشتراه مع الربح له لا حق لرب المال فيه لأن رب المال عقد القراض على مال لا يملكه فلم يقع الشراء له. فصل: وإن اختلف العامل ورب المال في تلف المال فادعاه العامل وأنكره رب المال أو في الخيانة فادعاها رب المال وأنكر العامل فالقول قول العامل لأنه أمين والأصل عدم الخيانة فكان القول قوله كالمودع. فصل: فإن اختلفا في رد المال فادعاه العامل وأنكره رب المال ففيه وجهان:

أحدهما لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والثاني يقبل قوله لأن معظم منفعته لرب المال لأن الجميع له إلا السهم الذي جعله للعامل فقبل قوله عليه في الرد كالمودع. فصل: فإن اختلفا في قدر الربح المشروط فادعى العامل أنه النصف وادعى رب المال أنه الثلث تحالفا لأنهما اختلفا في عوض مشروط في العقدة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن فإن حلفا صار الربح كله لرب المال ويرجع العامل بأجرة المثل لأنه لم يسلم له المسمى فرجع ببدل عمله. فصل: وإن اختلفا في قدر رأس المال فقال رب المال ألفان وقال العامل ألف فإن لم يكن في المال ربح فالقول قول العامل لأن الأصل عدم القبض فلا يلزمه إلا ما أقر به وإن كان في المال ربح ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول العامل لما ذكرناه والثاني أنهما يتحالفان لأنهما اختلفا فيما يستحقان من الربح فتحالفا كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط والصحيح هو الأول لأن الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وهذا اختلاف فيما قبض فكان الظاهر مع الذي ينكر كالمتبايعين إذا اختلفا في قبض الثمن فإن القول قول البائع. فصل: وإن كان في المال عبد فقال رب المال اشتريته للقراض وقال العامل اشتريته لنفسي أو قال رب المال اشتريته لنفسك وقال العامل اشتريته للقراض فالقول قول العامل لأنه قد يشتري لنفسه وقد يشتريه للقراض ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية فوجب الرجوع إليه فإن أقام رب المال البينة أنه اشتراه بمال القراض ففيه وجهان: أحدهما أنه يحكم بالبينة لأنه لا يشتري بمال القراض إلا للقراض والثاني أنه لا يحكم بها لأنه يجوز أن يشتري لنفسه بمال القراض على ووجه التعدي فلا يكون للقراض لبطلان البيع. فصل: وإن كان في يده عبد فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه وأنكر العامل فالقول قول العامل لأن الأصل عدم النهي ولأن هذا دعوى خيانة والعامل أمين فكان القول فيهما قوله. فصل: وإن قال ربحت في المال ألفاً ثم ادعى أنه غلط فيه أو أظهر ذلك خوفاً من نزع المال من يده لم يقبل قوله لأن هذا رجوع عن الإقرار بالمال لغيره فلم يقبل كما لو أقر لرجل بمال ثم ادعى أنه غلط فإن قال قد كان فيه ربح ولكنه هلك قبل قوله لأن دعوى التلف بعد الإقرار لا تكذب إقراره فقبل.

باب العبد المأذون له في التجارة

باب العبد المأذون له في التجارة لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن المولى لأن منافعه مستحقة له فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذوناً لأنه تصرف يفتقر إلى الإذن فلم يكن السكوت إذناً فيه كبيع مال الأجنبي فإن اشترى شيئاً في الذمة فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخري وأبو إسحاق لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح من العبد بغير إذن المولى كالنكاح وقال أبو علي بن أبي هريرة يصح لأنه محجور عليه لحق غيره فصح شراؤه في الذمة كالمفلس ويخالف النكاح فإنه تنقص به قيمته ويستضر به المولى فلم يصح من غير إذنه فإن قلنا إنه يصح دخل المبيع في ملك المولى لأنه كسب للعبد فكان للمولى كما لو احتشم أو اصطاد ويثبت الثمن في ذمته لأن إطلاق البيع يقتضي إيجاب الثمن في الذمة فإن علم البائع برقه لم يطالبه حتى يعتق لأنه رضي بذمته فلزمه الصبر إلى أن يقدر كما نقول فيمن باع من رجل ثم أفلس بالثمن وإن قلنا إن الشراء باطل وجب رد المبيع لأنه مقبوض عن بيع فاسد فإن تلف في يد العبد أتبع بقيمته إذا أعتق لأنه رضي بذمته وإن تلف في يد السيد جاز له مطالبة المولى في الحال ومطالبة العبد إذا عتق لأنه ثبتت يد كل واحد منهما عليه بغير حق. فصل: وإن أذن له في التجارة صح تصرفه لأن الحجر عليه الحق المولى وقد زال وما يكتسبه للمولى لأنه إن دفع إليه مالاً فاشترى به كان المشتري عوض ماله فكان له وإن أذن له في الشراء في الذمة كان المشتري من أكسابه لأنه تناوله الإذن فإن لم يكن في يده شيء اتبع به إذا عتق لأنه دين لزمه برضى من له الحق فتعلق بذمته ولا تباع فيه رقبته لأن المولى لم يأذن له في رقبته فلم يقض منها دينه. فصل: ولا يتجر إلا فيما أذن به لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما دخل فيه فإن أذن له في التجارة لم يملك الإجارة ومن أصحابنا من قال يملك إجارة ما يشتريه للتجارة لأنه من فوائد المال فملك العقد عليه كالصوف واللبن والمذهب الأول لأن المأذون فيه هو التجارة والإجارة ليست من التجارة فلم يملك بالإذن من التجارة. فصل: ولا يبيع بنسيئة ولا بدون ثمن المثل لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف والعرف فيه هو البيع بالنقد وثمن المثل ولأنه يتصرف في حق غيره فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط فلا يملك ولا يسافر بالمال لأن فيه تغريرا

بالمال، فلا يملك من غير إذن وإن اشترى من يعتق على مولاه بغير إذن ففيه قولان: أحدهما أنه لا يصح وهو الصحيح لأن الإذن في التجارة يقتضي ما ينتفع به ويربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه والثاني أنه يصح لأن العبد لا يصح منه الشراء لنفسه فإذا أذن له فقد أقامه مقام نفسه فوجب أن يملك جميع ما يملك فإن قلنا يصح فإن لم يكن عليه دين عتق وإن كان عليه دين ففيه قولان: أحدهما يعتق لأنه ملكه والثاني لا يعتق لأن حقوق الغرماء تعلقت به فإن اشتراه بإذنه صح الشراء فإن لم يكن عليه دين عتق عليه وإن كان عليه دين فعلى القولين ومتى صح العتق لزمه أن يغرم قيمته للغرماء لأنه أسقط حقه منهم بالعتق. فصل: وإذا اكتسب العبد مالاً بأن احتش أو اصطاد أو عمل في معدن فأخذ منه مالاً أو ابتاع أو اتهب أو أوصى له بمال فقبل دخل ذلك في ملك المولى لأنها اكتساب ماله فكانت له فإن ملكه مالاً ففيه قولان: قال في القديم يملكه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع1" ولأنه يملك البضع فملك المال كالحر وقال في الجديد: لا يملك لأنه سبب يملك به المال فلا يملك به العبد كالإرث فإن ملكه جارية وأذن له في وطئها ملك وطئها في قوله القديم ولا يملك في الجديد وإن ملكه نصاباً لم يجب زكاته على المولى في قوله القديم ويجب في الجديد فإن وجب كفارة عليه كفر بالطعام والكسوة في قوله القديم وكفر بالصوم في قوله الجديد وأما العتق فلا يكفر به على القولين لأن العتق يتضمن الولاء والعبد ليس من أهل الولاء وإن باعه وشرط المبتاع ماله جاز في قوله القديم أن يكون المال مجهولاً لأنه تابع ولا يجوز في الجديد لأنه غير تابع والله أعلم.

_ 1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 17. مسلم في كتاب البيوع حديث 78. أبو داود في كتاب البيوع 42. الموطأ في كتاب البيوع حديث 2.أحمد في مسنده "2/9،78".

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة مدخل ... كتاب المساقاة تجوز المساقاة على النخل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع وتجوز على الكرم لأنه شجر تجب الزكاة في ثمرته فجازت المساقاة عليه كالنخيل وتجوز على الفسلان وصغار الكرم إلى وقت أن تحمل لأنه بالعمل عليها تحصل الثمرة كما تحصل بالعمل على النخل والكرم ولا تجوز على المباطخ والمقاثئ والعلف وقصب السكر لأنها بمنزلة الزرع فكان المساقاة عليها كالمخابرة على الزرع واختلف قوله في سائر الأشجار المثمرة كالتين والتفاح فقال في القديم تجوز المساقاة عليها لأنه شجر مثمر فأشبه النخل والكرم وقال في الجديد لا تجوز لأنه لا تجب الزكاة في ثماره فلم تجز المساقاة عليه كالغرب والخلاف واختلف قوله في المساقة على الثمرة الظاهرة فقال في الأم تجوز لأنه إذا جاز على الثمرة المعدومة مع كثرة الغرر فلأن تجوز على الثمرة الموجدة وهي من الغرر أبعد أولى وقال في البويطي لا تجوز لأن المساقاة عقد على غرر وإنما أجيز على الثمرة المعدومة للحاجة إلى استخراجها بالعمل فإذا ظهرت الثمرة زالت الحاجة فلم تجز. فصل: ولا تجوز إلا على شجر معلوم وإن قال ساقيتك على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يخلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على حائط غير معين كالبيع وهل يجوز على حائط معين لم يره؟ فيه طريقان: أحدهما أنه على قولين كالبيع والثاني أنه لا يصح قولاً واحداً لأن المساقاة معقودة على الغرر فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر لعدم الرؤية بخلاف البيع. فصل: ولا تجوز إلا على مدة معلومة لأنه عقد لازم فلو جوزناه مصلقاً استبد العامل بالأصل فصار كالمالك ولا تجوز إلا على أقل من مدة توجد فيها الثمرة فإن ساقاه على

النخل أو على الودي إلى مدة لا تحمل لم يصح لأن يشتركا في الثمرة وذلك لا يوجد فإن عمل العامل فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما لا يستحق وهو قول المزني لأنه رضي أن يعمل بغير عوض فلم يستحق لأجرة كالمتطوع في غير المساقاة والثاني أنه يستحق وهو قول أبي العباس لأن العمل في المساقاة يقتضي العوض فلا يسقط بالرضا بتركه كالوطء في النكاح وإن ساقاه إلى مدة قد تحمل وقد لا تحمل ففيه وجهان: أحدهما أنها تصح لأنه عقد إلى مدة يرجى فيها وجود الثمرة فأشبه إذا ساقاه إلى مدة توجد الثمرة فيها في الغالب والثاني أنها لا تصح وهو قول أبي إسحاق لأنه عقد على عوض موجود ولا الظاهر وجوده فلم يصح كما لو أسلم في معدوم إلى محل لا يوجد في الغالب فعلى هذا إن عمل استحق أجرة المثل لأنه لم يرض أن يعمل من غير ربح ولم يسلم له الربح فرجع إلى بدل عمله واختلف قوله في أكثر مدة الإجارة والمساقاة فقال في موضع سنة وقال في موضع يجوز ما شاء وقال في موضع يجوز ثلاثين سنة فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها لا تجوز بأكثر من سنة لأنه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة لأن منافع الأعيان تتكامل في سنة والثاني تجوز ما بقيت العين لأن كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل والثالث أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الثلاثين شطر العمر ولا تبقى الأعيان على صفة أكثر من ذلك ومنهم من قال هي على القولين الأولين وأما الثلاثون فإنما ذكره على سبيل التكثير لا على سبيل التجديد وهو الصحيح فإن ساقاه إلى سنة لم يجب ذكر قسط كل شهر لأن شهور السنة لا تختلف منافعها وإن ساقاه إلى سنتين ففيه قولان: أحدهما لا يجب ذكر كل سنة كما إذا اشترى أعياناً بثمن واحد لم يجب ذكر قسط كل عين منها والثاني يجب لأن المنافع تختلف باختلاف السنين فإذا لم يذكر قسط كل سنة لم نأمن أن ينفسخ العقد فلا يعرف ما يرجع فيه من العوض ومن أصحابنا من قال القولان في الإجارة فأما في المساقاة فإنه يجب ذكر قسط كل سنة من العوض لأن الثمار تختلف باختلاف السنين والمنافع لا تختلف في العادة باختلاف السنين. فصل: وإذا ساقاه إلى عشر سنين فانقضت المدة ثم أطلعت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق لأنها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد إن طلعت قبل انقضاء المدة وانقضت المدة هي طلع أو بلح تعلق به حق العامل لأنها حدثت قبل انقضاء المدة. فصل: ولا تجوز إلا على جزء معلوم فإن ساقاه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز لحديث ابن عمر فإن عقد على جزء غير مقدر كالجزء والسهم والنصيب لم يصح

لأن ذلك يقع على القليل والكثير فيعظم الغرر وإن ساقاه على صاع معلوم لم يصح لأنه ربما لم يحصل ذلك فيستضر العامل وربما لا يحصل إلا ذلك فيستضر رب النخل وإن ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها لم يصح لأنه قد لا تحمل تلك النخلات فيستضر العامل أو لا يحمل إلا هي فيستضر رب النخل وإن ساقاه عشر سنين وشرط له ثمرة السنة غير السنة العاشرة لم يصح لأنه شرط عليه بعد حقه عملاً لا يستحق عليه عوضاً وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح كما يصح أن يعمل في جميع السنة وإن كانت الثمرة في بعضها والثاني لا يصح لأنه يعمل فيها مدة تثمر فيها ولا يستحق شيئاً من ثمرها. فصل: ولا يصح إلا على عمل معلوم فإن قال إن سقيته بالسيح فلك الثلث وإن سقيته بالناضح فلك النصف لم يصح لأنه عقد على مجهول. فصل: وتنعقد بلفظ المساقاة لأنه موضوع له وتنعقد بما يؤدي معناه لأن القصد منه المعنى فصح بما دل عليه فإن قال استأجرتك لتعمل فيه على نصف ثمرته لم تصح لأنه عقد الأجارة بعوض مجهول القدر فلم تصح. فصل: ولا يثبت فيه خيار الشرط لأنه إذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه وفي خيار المجلس وجهان: لأحدهما يثبت فيه لأنه عقد لازم يقصد به المال فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع والثاني لا يثبت لأنه عقد لا يعتبر فيه قبض العوض في المجلس فلو ثبت خيار المجلس لثبت فيه خيار الشرط كالبيع. فصل: وإذا تم العقد لم يجز لواحد منهما فسخه لأن النماء متأخر عن العمل فلو قلنا إنه يملك الفسخ لم يأمن أن يفسخ بعد العمل ولا تحصل له الثمرة. فصل: وعلى العامل أن يعمل ما فيه مستزاد في الثمرة من التلقيح وصرف الجريد وإصلاح الأجاجين وتنقية السواقي والسقي وقع الحشيش المضر بالنخل وعلى رب النخل عمل ما فيه حفظ الأصل من سد الحيطان ونصب الدولاب وشراء الثيران لأن ذلك يراد لحفظ الأصل ولهذا من يريد إنشاء بستان فعل هذا كله واختلف أصحابنا في

الجذاذ واللقاط فمنهم من قال لا يلزم العامل ذلك لأن ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء ومنهم من قال يلزمه لأنه لا تستغني عنه الثمرة. فصل: وإن شرط العامل في القراض والمساقاة أن يعمل معه رب المال لم يصح لأن موضوع العقد أن يكون المال من رب المال والعمل من العامل فإذا لم يجز شرط المال على العامل لم يجز شرط العمل على رب المال وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فقد نص في المساقاة أنه يجوز واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه فمنهم من قال لا يجوز فيهما لأن عمل الغلمان كعمل رب المال فإذا لم يجز شرط عمله لم يجز شرط عمل غلمانه وحمل قوله في المساقاة على أنه أراد ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره والثاني يجوز فيهما لأن غلمانه ماله فجاز أن يجعل تابعاً لماله كالثور والدولاب والحمار لحمل المتاع بخلاف رب المال فإنه مالك فلا يجوز أن يجعل تابعاً لماله والثالث أنه يجوز في المساقاة ولا يجوز في القراض لأن في المساقاة ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره فجاز أن يشترط فيها عمل غلمانه وليس في القراض ما يلزم رب المال فلم يجر شرط غلمانه فإذا قلنا إنه يجوز لم يصح حتى تعرف الغلمان بالؤية أو الوصف ويجب أن يكون الغلمان تحت أمر العامل وأما نفقتهم فإنه إن شرط على العامل جاز لأن بعملهم ينحفظ الأصل وتزكو الثمرة وإن لم يشرط ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنها على العامل لأن العمل مستحق عليه فكانت النفقة عليه والثاني أنها على رب المال لأنه شرط عملهم عليه فكانت النفقة عليه والثالث أنها من الثمرة لأن عملهم على الثمرة فكانت النفقة منها. فصل: وإذا ظهرت الثمرة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هي على القولين في العامل في القراض أحدهما تملك في الظهور والثاني بالتسليم ومنهم من قال في المساقاة تملك في الظهور قولاً واحداً لأن الثمرة لم تجعل وقاية لرأس المال فملك بالظهور والربع جعل وقاية لرأس المال فلم يملك بالظهور في أحد القولين. فصل: والعامل أمين فيما يدعي من هلاك وفيما يدعى عليه من خيانة لأنه ائتمنه رب المال فكان القول قوله فإن ثبتت خيانته ضم إليه من يشرف عليه ولا تزال يده لأن العمل مستحق عليه ويمكن استيفاؤه منه فوجب أن يستوفي وإن لم ينحفظ استؤجر عليه من ماله من يعمل عنه لأنه لا يمكن استيفاء العمل بفعله فاستوفى بغيره. فصل: وإنه هرب رفع الأمر إلى الحاكم ليستأجر من ماله من يعمل عنه فإن لم

يكن مال اقترض عليه فإن لم يجد من يقرضه فلرب النخل أن يفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت له الفسخ كما لو اشترى عبداً فأبق من يد البائع فإن فسخ نظرت فإن لم تظهر الثمرة فهي لرب النخل لأن العقد زال قبل ظهورها وللعامل أجرة ما عمل وإن ظهرت الثمرة فهي بينهما فإن عمل فيه رب النخل أو استأجر من عمل فيه بغير إذن الحاكم لم يرجع لأنه متبرع وإن لم يقدر على إذن الحاكم فإن لم يشهد لم يرجع لأنه متبرع وإن أشهد ففيه وجهان: أحدهما يرجع لأنه موضع ضرورة والثاني لا يرجع لأنه يصير حاكماً لنفسه على غيره وهذا لا يجوز لا لضرورة ولا لغيرها. فصل: وإن مات العامل قبل الفراغ فإن تمم الوارث العمل استحق نصيبه من الثمرة وإن لم يعمل فإن كان له تركة استؤجر منهما من يعمل لأنه حق عليه يمكن استيفاؤه من التركة فوجب أن يستوفي كما لو كان عليه دين وله تركة وإن لم تكن له تركة لم يلزم الوارث العمل لأن ما لزم الموروث لا يطالب به الوارث كالدين ولا يقترض عليه لأنه لا ذمة له ولرب النخل أن يفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فإن فسخ كان الحكم فيه على ما ذكرناه في العامل إذا هرب. فصل: وإن ساقى رجلاً على نخل على النصف فعمل فيه العامل وتقاسما الثمرة ثم استحق النخل رجع العامل على من ساقاه بالأجرة لأنه عمل بعوض ولم يسلم له العوض فرجع ببدل عمله فإن كانت الثمرة باقية أخذها المالك فإن تلفت رجع بالبدل فإن أراد تضمين الغاصب ضمنه الجميع لأنه حال بينه وبين الجميع وإن أراد أن يضمن العامل ففيه وجهان: أحدهما يضمنه الجميع لأنه ثبتت يده على الجميع فضمنه كالعامل في القراض في المال المغصوب والثاني لا يضمن إلا النصف لأنه لم يحصل في يده إلا ما أخذه بالقسمة وهو النصف فأما النصف الآخر فإنه لم يكن في يده لأنه لو كان في يده لزمه حفظه كما يلزم العامل في القراض. فصل: إذا اختلف العامل ورب العمل في العوض المشروط فقال العامل شرطت لي النصف وقال رب النخل شرطت لك الثلث تحالفا لأنهما متعاقدان اختلفا في العوض المشروط ولا بينة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وبالله التوفيق.

باب المزارعة

باب المزارعة لا تجوز المزارعة على بياض لا شجر فيه لما روى سلين بن بشار أن رافع بن

خديج قال: كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً وطاعة الله ورسوله أنفع لنا وأنفع قلنا وما ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى1" فأما إذا كانت الأرض بين النخل ولا يمكن سقي الأرض إلا بقسيها نظرت فإن كان النخيل كثيراً والبياض قليلاً جاز أن تساقيه على النخل وتزارعه على الأرض لما روى ابن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من تمر وزرع فإن عقد المزارعة على الأرض ثم عقد المساقاة على النخل لم تصح المزارعة لأنها إنما أجيزت تبعاً للمساقاة للحاجة ولا حاجة قبل المساقاة وإن عقدت بعد المساقاة ففيه وجهان: أحدهما لا تصح لأنه أفرد المزارعة بالعقد فأشبه إذا قدمت والثاني تصح لأنهما يحصلان لمن له المساقاة وإن عقدها مع المساقاة وسوى بينهما في العوض جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع فإن فاضل بينهما في العوض ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو الصحيح لأنهما عقدان فجاز أن يفاضل بينهما في العوض والثاني لا يجوز لأنهما إذا تفاضلا تميزا فلم يكن أحدهما تبعاً للآخر فإن كان النخل قليلاً والبياض كثيرا ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لا يمكن سقي النخل إلا بسقي الأرض فأشبه الكثير والثاني لا يجوز لأن البياض أكثر فلا يجوز أن يكون الأكثر تابعا للأقل.

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب الرهون باب 7،8. البخاري في كتاب الحرث باب 18. مسلم في كتاب البيوع 78، 89. الترمذي في كتاب الأحطام باب 42. أحمد في مسنده "1/286".

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة مدخل ... كتاب الإجارة يجوز عقد الإجارة على المنافع المباحة والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق وروى أبو أمامة التيمي قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا فقال ابن عمر: ألستم تلبون وتطوفون بين الصفا والمروة إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عما تسألونني فلم يرد عليه حتى نزل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فتلاها عليه وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع. فصل: ولا تجوز على المنافع المحرمة لأنه يحرم فلا يجوز أخذ العوض عليه كالميتة والدم. فصل: واختلف أصحابنا في استئجار الكلب المعلم فمنهم من قال: يجوز لأن فيه منفعة مباحة فجاز استئجاره كالفهد ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لأن اقتناءه لا يجوز إلا للحاجة وهو الصيد وحفظ الماشية وما لا يقوم غير الكلب فيه مقامه إلا بمؤن والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان" وما أبيح للحاجة لم يجز أخذ العوض عليه كالميتة ولأنه لا يضمن منفعته بالغصب فدل على أنه لا قيمة لها. فصل: واختلفوا في استئجار الفحل للضراب فمنهم من قال: يجوز لأنه يجوز أن يستباح بالإعارة فجاز أن يستباح بالإجارة كسائر المنافع ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل

ولأن المقصود منه هو الماء الذي يخلق منه وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عليه كالميتة والدم. فصل: واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان واستئجار الأشجار لتجفيف الثياب والاستظلال فمنهم من قال يجوز لأنه منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع ومنهم من قال: لا يجوز وهو الصحيح لأن الدراهم والدنانير لا تراد للجمال ولا الأشجار لتجفيف الثياب والاستظلال فكان بذل العوض فيه من السفه وأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل ولأنه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد. فصل: واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلماً إجارة معينة فمنهم من قال فيه قولان لأنه عقد يتضمن حبس المسلم فصار كبيع العبد المسلم منه ومنهم من قال يصح قولاً واحداً لأن علياً كرم الله وجهه كان يستقي الماء لامرأة يهودية كل دلو بتمرة. فصل: ولا يصح إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد يقصد به المال فلم يصح إلا من جائز التصرف في المال كالبيع. فصل: وينعقد بلفظ الإجارة لأنه لفظ موضوع له وهل ينعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما ينعقد لأنه صنف من البيع لأنه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض كالبيع فانعقد بلفظه والثاني لا ينعقد لأنه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح. فصل: ويجوز على منفعة عين حاضرة مثل أن يستأجر ظهراً بعينه للركوب ويجوز على منفعة عين في الذمة مثل أن يستأجر في الذمة للركوب ويجوز على عمل معين مثل أن يكتري رجلاً ليخيط له ثوباً أو يبني له حائطاً ويجوز على عمل في الذمة مثل أن يكتري رجلاً ليحصل له خياطة ثوب أو بناء حائط لأنا بينا أن الإجارة بيع والبيع يصح في عين حاضرة وموصوفة في الذمة فكذلك الإجارة وفي استئجار عين لم يرها قولان: أحدهما لا يصح والثاني يصح ويثبت الخيار إذا رآها كما قلنا في البيع. فصل: وتجوز على عين مفردة وعلى جزء مشاع لأنا بينا أنه بيع والبيع يصح في المفرد والمشاع وكذلك الإجارة. فصل: ولا تجوز إلا على عين يمكن استيفاء المنفعة منها فإن استأجر أرضاً

للزراعة لم تصح حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه كماء العين والمد بالبصرة والثلج والمطر في الجبل لأن المنفعة في الإجارة كالعين في البيع فإذا لم يجز بيع عين لا يقدر عليها لم تجز إجارة منفعة لا يقدر عليها فإن اكترى أرضاً على نهر إذا زاد سقي وإذا لم يزد لم يسقى كأرض مصر والفرات وما انحدر من دجلة نظرت فإن اكتراها بعد الزيادة صح العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه فهو كبيع الطير في القفص وإن كان قبل الزيادة لم يصح لأنه لم يعلم هل يقدر على المعقود عليه أو لا يقدر فلم يصح كبيع الطير في الهواء وإن اكترى أرضاً لا ماء لها ولم يذكر أن يكتريها للزراعة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الأرض لا تكتري في العادة إلا للزراعة فصار كما لو شرط أنه يكتريها للزراعة والثاني إن كانت الأرض عالية لا يطمع في سقيها صح العقد أنه يعلم أنه لم يكترها للزراعة وإن كانت مستقلة يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع لم يصح لأنه اكتراها للزراعة مع تعذر الزراعة فإن اكترى أرضاً غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في الماء كالحنطة والشعير نظرت فإن كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الأرض وقدر على الزراعة صح العقد لأنه يمكن زراعتها بفتح المغيض كما يمكن سكنى الدار بفتح الباب وإن لم يكن له مغيض ولا يعلم أن الماء ينحسر عنها لم يصح العقد لأنه لا يعلم هل يقدر على المعقود عليه أم لا يقدر فلم يصبح العقد كبيع ما في يد الغاصب فإن كان يعلم أن الماء ينحسر وتنشفه الريح ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال والثاني يصح وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع به فإن اكترى أرضاً على ماء إذا زاد غرقت فاكتراها قبل الزيادة صح العقد لأن الغرق متوهم فلا يمنع صحة العقد. فصل: وإن استأجر رجلاً ليعلمه بنفسه سورة وهو لا يحسنها ففيه وجهان: أحدهما يصح كما يصح أن يشتري سلعة بدراهم وهو لا يملكها ثم يحصلها ويسلم والثاني لا يصح لأنه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها فلم يصح كما لو أجر عبد غيره. فصل: ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة القدر لأنا بينا أن الإجارة بيع

والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر فكذلك الإجارة ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل أو بتقدير المدة فإن كانت المنفعة معلومة القدر في نفسها كخياطة ثوب وبيع عبد والركوب إلى مكان قدرت بالعمل لأنها معلومة في نفسها فلا تقدر بغيرها وإن قدر بالعمل والمدة بأن استأجره يوماً ليخيط له قميصاً فالإجارة باطلة لأنه يؤدي إلى التعارض وذلك أنه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم فإن طولب في بقية اليوم بالعمل أخل بشرط العمل وإن لم يطالب أخل بشرط المدة فإن كانت المنفعة مجهولة المقدار في نفسها كالسكنى والرضاع وسقي الأرض والتطيين والتجصيص قدر بالمدة لأن السكنى وما يشبع به الصبي من اللبن وما تروى به الرض من السقي يختلف ولا ينضبط ومقدار التطيين والتجصيص لا ينضبط لاختلافهما في الرقة والثخونة فقدر بالمدة واختلف أصحابنا في استئجار الظهر للحرث فمنهم من قال يجوز أن يقدر بالعمل بأن يستأجره ليحرث أرضاً بعينها ويجوز أن يقدر بالمدة بأن يستأجره ليحرث له شهراً ومنهم من قال لا يجوز تقديره بالمدة والأول أظهر لأنه يمكن تقديره بكل واحد منهم فجاز التقدير بكل واحد منهما. فصل: وما عقد على مدة لا يجوز إلا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء فإن قال أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار فالإجارة باطلة وقال في الإملاء تصح في الشهر الأول وتيطل فيما زاد لأن الشهر الأول معلوم وما زاد مجهول فصح في المعلوم وبطل في المجهول كما لو قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه والصحيح هو الأول لأنه عقد على الشهر وما زاد من الشهور وذلك مجهول فبطل ويخالف هذا إذا قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه لأن هناك أفرد الشهر الأول بالعقد وههنا لم يفرد الشهر عما بعده بالعقد فبطل بالجميع فإن أجره سنة مطلقة حمل على سنة بالأهلة لأن السنة المعهودة بالشرع سنة الأهلة والدليل عليه قوله عز وجل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فوجب أن يحمل العقد عليه فإن كان العقد في أول الهلال عد اثني عشر شهراً بالأهلة تاماً كان الشهر أو ناقصاً وإن كان في أثناء الشهر عد ما بقي من الشهر وعد بعده أحد عشر شهراً بالأهلة ثم كمل عدد الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوماً لأنه تعذر إتمامه بالشهر الهلالي فتمم بالعدد فإن أجره سنة شمسية ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه على حساب أنسيء فيه الأيام والنسيء حرام والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] والثاني أنه يصح لأنه وإن كان النسيء حراماً إلا أن المدة معلومة فجاز العقد كالنيروز والمهرجان وفي أكثر المدة التي يجوز عقد الإجارة عليه طريقان ذكرناهما في المساقاة.

فصل: ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة لأن الإجارة بيع والمنفعة فيها كالعين في البيع والبيع لا يصح إلا في المعلوم فكذلك الإجارة فإن كان المكترى داراً لم يصح العقد عليها حتى تعرف الدار لأن المنفعة تختلف باختلافها فوجب العلم بها ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنها لا تضبط بالصفة فافتقر إلى التعيين كالعقار والجواهر في البيع وهل يفتقر إلى الرؤية؟ فيه قولان بناء على القولين في البيع ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ولا إلى ذكر صفاتها لأن الدار لا تكترى إلا للسكنى وذلك معلوم بالعرف فاستغنى عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف وإن اكترى أرضاً لم يصح حتى تعرف الأرض لما ذكرناه في الدار ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من الزراعة والغراس والبناء لأن الأرض تكترى لهذه المنافع وتأثيرها في الأرض يختلف فوجب بيانها وإن قال أجرتك هذه الأرض لتزرعها ما شئت جاز لأنه جعل له زراعة أضر الأشياء فأي صنف زرع لم يستوف به أكثر من حقه وإن قال أجرتك لتزرع وأطلق ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الزروع مختلفة في التأثير في الأرض فوجب بينها والثاني يصح لأن التفاوت بين الزرعين يقل وإن قال أجرتك لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه جعل له أحدهما ولم يعين فلم يصح كما قال بعتك أحد هذين العبدين وإن قال أجرتك لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان: أحدهما لا يصح وهو قول المزني وأبي العباس وأبي إسحاق لأنه لم يبين المقدار من كل واحد منهما والثاني يصح وله أن يزرع النصف ويغرس النصف وهو ظاهر النص وهو قول أبي الطيب بن سلمة لأن الجمع يقتضي التسوية فوجب أن يكون نصفين. فصل: وإن استأجر ظهراً للركوب لم يصح العقد حنى يعرف جنس المركوب لأن الغرض يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والوصف لأنه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والوصف كما قلنا في البيع فإن كان في الجنس نوعان مختلفان في السير كالمهملج والقطوف من الخيل ففيه وجهان: أحدهما يفتقر إلى ذكره لأن سيرهما يختلف والثاني لا يختلف لأن التفاوت في جنس واحد يقل ولا يصح حتى يعرف الراكب ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنه يختلف بثقله وخفته وحركته وسكونه ولا يضبط ذلك بالوصف فوجب تعيينه ولا يصح حتى يعرف ما يركب به من سرج وغيره لأنه يختلف ذلك على المركوب والراكب فإن كان عمارية أو محملاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها

أنه يجوز العقد عليه بالوصف لأنه يمكن وصفه فجاز العقد عليه بالصفة كالسرج والقتب والثاني إن كانت من المحامل البغدادية الخفاف جاز العقد عليه بالصفة لأنها لا تختلف وإن كانت من الخراسانية الثقال لم يجز إلا بالتعيين لأنها تختلف وتتفاوت والثالث وهو المذهب أنه لا يجوز إلا بالتعيين لأنها تختلف بالضيق والسعة والثقل والخفة وذلك لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه واختلف أصحابنا في المعاليق كالقدر والسطيحة فمنهم من قال: لا يجوز حتى يعرف قولاً واحداً لأنها تختلف فوجب العلم بها ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز حتى يعرف لما ذكرناه والثاني يجوز وتحمل على ما جرت به العادة لأنه تابع غير مقصود فلم تؤثر الجهالة فيه كالغطاء في الإجارة والحمل في البيع وإن كان السير في طريق فيه منازل معروفة جاز العقد عليه مطلقاً لأنه معلوم بالعرف فجاز العقد عليه مطلقاً كالثمن في موضع فيه نقد متعارف فإن لم يكن فيه منازل معروفة لم يصح حتى يبين لأنه مختلف لا عرف فيه فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه. فصل: فإن استأجر ظهراً لحمل متاع صح العقد من غير جنس الظهر لأنه لا غرض في معرفته ولا يصح حتى يعرف جنس المتاع إنه حديد أو قطن لأن ذلك يختلف على البهيمة ولا يصح حتى يعرف قدره لأنه يختلف فإن كان موزوناً ذكر وزنه وإن كان مكيلاً ذكر كيله فإن ذكر الوزن فهو أولى لأنه أخصر وأبعد من الغرر فإن عرف بالمشاهدة جاز كما يجوز بيع الصبرة بالمشاهدة وإن لم يعرف كيلها فإن شرط أن يحمل عليها ما شاء بطل العقد لأنه دخل في الشرط ما يقتل البهيمة وذلك لا يجوز فبطل به العقد فأما الظروف التي فيها متاع فإنه إن دخلت في وزن المتاع صح العقد لأن الغرر قد زال بالوزن وإن لم تدخل في وزن المتاع نظرت فإن كان ظروفاً معروفة كالغرائر الجبلية جاز العقد عليها من غير تعيين لأنها تتفاوت وإن كانت غير معروفة لم يجز حتى تعين لأنها تختلف ولا تضبط بالصفة فوجب تعيينه. فصل: فإن استأجر ظهراً للسقي لم يصح العقد حتى يعرف الظهر لأنه لا يجوز إلا على مدة وذلك يختلف باختلاف الظهر فوجب العلم به على الأظهر ويجوز أن يعرف ذلك بالتعيين والصفة لأنه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والصفة كما يجوز بيعه بالتعيين والصفة ولا يصح حتى يعرف الدولاب لأنه يختلف ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنه لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.

فصل: وإن استأجر ظهراً للحرث لم يصح حتى يعرف الأرض لأنه يختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها فإن كان على جريان لم يفتقر إلى العلم بالظهر لأنه لا يختلف وإن كان على مدة وقلنا إنه يصح لم يجز حتى يعرف الظهر الذي يحرث به لأن العمل يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفة لما ذكرناه في السقي. فصل: وإن استأجر ظهراً للدياس لم يصح حتى يعرف الجنس الذي يداس لأن العمل يختلف باختلافه فإن كان على زرع معين لم يفتقر إلى ذكر الحيوان الذي يداس به لأنه لا غرض في تعيينه فإن كان على مدة لم يصح حتى يعرف الحيوان الذي يداس به لأن العمل يختلف باختلافه. فصل: وإن استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنس الجارحة لأن الصيد يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفة لأنه يضبط بالصفة ولا يصح حتى يعرف ما يرسله عليه من الصيد لأن لكل صنف من الصيد تأثيراً في إتعاب الجارحة. فصل: وإن استأجر رجلاً ليرعى له مدة لم يصح حتى يعرف جنس الحيوان لأن لكل جنس من الماشية تأثيراً في إتعاب الراعي ويجوز أن يعقد على جنس معين وعلى جنس في الذمة فإن عقد على موصوف لم يصح حتى يذكر العدد لأن العمل يختلف باختلافه ومن أصحابنا من قال يجوز مطلقاً ويحمل على ما جرت به العادة أن يرعاه الواحد من مائة أو أقل أو أكثر والأول أظهر لأن ذلك يختلف وليس فيه عرف واحد. فصل: وإن استأجر امرأة للرضاع لم يصح العقد حتى يعرف الصبي الذي عقد على إرضاعه لأنه يختلف الرضاع باختلافه ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنه لا يضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر موضع الرضاع لأن الغرض يختلف باختلافه. فصل: وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً أو نهراً لم يصح العقد حتى يعرف الأرض لأن الحفر يختلف باختلافها ولا يصح حتى يذكر الطول والعرض والعمق لأن الغرض يختلف باختلافها وإن استأجر لبناء حائط لم يصح العقد حتى يذكر الطول والعرض وما يبنى به من الآجر واللبن والجص والطين لأن الأغراض تختلف باختلافها، وإن استأجره

لضرب اللبن لم يصح حتى يعرف موضع الماء والتراب ويذكر الطول والعرض والسمك والعدد وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها وإن كان فيما يختلف الغرض باختلافه ما لا يعرفه رجع فيه إلى أهل الخبرة ليعقد على شرطه كما إذا أراد أن يعقد النكاح ولم يعرف شروط العقد رجع إلى من يعرفه ليعقد بشروطه وإن عجز عن ذلك فوضه إلى من يعرفه ليعقد بشرطه كما يوكل الأعمى في البيع والشراء من يشاهد المبيع. فصل: وإن استأجر رجلاً ليلقنه سورة من القرآن لم يصح حتى يعرف السورة لأن الغرض يختلف باختلافها وإن كان على تلاوة عشر آيات من القرآن لم يصح حتى يعينها لأن آيات القرآن تختلف فإن كان على عشر آيات من سورة معينة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الأعشار تختلف والثاني يصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه فقال لها: "اجلسي بارك الله فيك أما نحن فلا حاجة لنا فيك ولكن تملكيننا أمرك" قالت نعم: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه القوم فدعا رجلاً منهم فقال: "إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت" فقالت ما رضيت لي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رضيت ثم قال للرجل: "هل عندك من شيء" قال لا والله يا رسول الله قال: "ما تحفظ من القرآن؟ " قال: سورة البقرة والتي تليها قال: "قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" وهل يفتقر إلى تعيين الحرف؟ فيه وجهان: أحدهما لا يصح حتى يعين الحرف لأن الأغراض تختلف باختلاف الحرف والثاني لا يحتاج إلى تعيين الأحرف لأن ما بين الأحرف من الاختلاف قليل. فصل: وإن استأجر للحج والعمرة لم يصح حتى يذكر أنه إفراد أو قران أو تمتع لأن الأغراض تختلف باختلافها فأما موضع الإحرام فقال في الأم لا يجوز حتى يعين وقال في الإملاء إذا استأجر أجيراً أحرم من الميقات ولم يشترط التعيين واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق المرزوي فيه قولان: أحدهما لا يجوز حتى يعين لأن الإحرام قد يكون من الميقات وقد يكون من دويرة أهله وقد يكون من غيرهما فإذا أطلق العقد على مجهول فلم يصح والثاني أنه يجوز من غير تعيين ويحمل على ميقات الشرع لأن الميقات معلوم بالشرع فانصرف الإطلاق إليه كنقد البلد في البيع ومن أصحابنا من قال إن كان الحج عن حي لم يجز حتى يعين لأنه يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه وإن كان عن ميت جاز من غير تعيين لأنه لا يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه وحمل القولين

على هذين الحالين ومنهم من قال: إن كان للبلد ميقاتان لم يجز حتى يبين لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب بيانه كالثمن في موضع فيه نقدان وإن لم يكن له إلا ميقات واحد جاز من غير تعيين كالثمن في موضع ليس فيه إلا نقد واحد وحمل القولين على هذين الحالين فإن ترك التعيين وقلنا إنه لا يصح فحج الأجير انعقد الحج للمستأجر لأنه فعله بإذنه مع فساد العقد فوقع له كما لو وكله وكالة فاسدة في بيع. فصل: ولا تصح الإجارة إلا على أجرة معلومة لأنه عقد يقصد به العوض فلم يصح من غير ذكر العوض كالبيع ويجوز إجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها لأن المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع ثم الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع. فصل: ولا تجوز إلا بعوض معلوم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استأجر أجيراً فليعلمه أجره1" ولأنه عقد معاوضة فلم يجز بعوض مجهول كالبيع وإن عقد بمال جزاف نظرت فإن كان العقد على منفعة في الذمة ففيه قولان لأن إجارة المنفعة في الذمة كالسلم وفي السلم على مال جزاف قولان فكذلك في الإجارة ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز والثاني لا يجوز لأنه عقد على منتظر وربما انفسخ فيحتاج إلى الرجوع إلى العوض فكان في عوضه جزافاً قولان كالسلم وإن كانت الإجارة على منفعة معينة جاز بأجرة حالة ومؤجلة لأن إجارة العين كبيع العين وبيع العين يصح بثمن حال ومؤجل فكذلك الإجارة فإن أطلق العقد وجبت الأجرة بالعقد ويجب تسليمها بتسليم العين لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف رشحه2" ولأن الإجارة كالبيع ثم في البيع يجب الثمن بنفس العقد ويجب تسليمه بتسليم العين فكذلك في الأجرة فإن استوفى المنفعة استقرت الأخيرة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربكم عز وجل: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره" ولأنه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع فإن سلم إليه العين التي وقع في العقد على منفعتها ومضت مدة يمكن فيها الاستيفاء استقر البدل لأن المعقود عليه تلف تحت يده فاستقر عليه البدل كالمبيع إذا تلف في يد المشتري فإن عرض العين على المستأجر ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الأجرة لأن المنافع تلفت باختياره فاستقر عليه

_ 1 رواه النسائي في كتاب الأيمان باب 44. أحمد في مسنده "3/59،68". 2 رواه ابن ماجة في كتاب الرهون باب 4.

ضمانها كالمشتري إذا أتلف المبيع في يد البائع فإن كان هذا في إجارة فاسدة استقر عليه أجرة المثل لأن الإجارة كالبيع والمنفعة كالعين ثم البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل فكذلك في الإجارة فإن كان العقد على منفعة في الذمة لم يجز بأجرة مؤجلة لأن إجارة ما في الذمة كالسلم ولا يجوز السلم بثمن مؤجل فكذلك الإجارة ولا يجوز حتى يقبض العوض في المجلس كما لا يجوز في السلم ومن أصحابنا من قال إن كان العقد بلفظ السلم وجب قبض العوض في المجلس لأنه سلم وإن كان بلفظ الإجارة لم يجب لأنه إجارة والأول أظهر لأن الحكم يتبع المعنى لا الإسم ومعناه معنى السلم فكان حكمه كحكمه ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة إلا باستيفاء المنفعة لأن المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه. فصل: وما عقد من الإجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالاً ومؤجلاً في الذمة كالسلم والسلم يجوز حالاً ومؤجلاً فكذلك الإجارة في الذمة وإن استأجر منفعة في الذمة وأطلق وجبت المنفعة حالة كما إذا أسلم في شيء وأطلق وجب حالاً فإن استأجر رجلاً للحج في الذمة لزمه الحج من سنته فإن أخره عن السنة نظرت فإن كانت الإجارة عن حي كان له أن يفسخ لأن حقه تأخر وله في الفسخ فائدة وهو أن يتصرف في الأجرة فإن كانت عن ميت لم يفسخ لأنه لا يمكن التصرف في الأجرة إذا فسخ العقد ولا بد من استئجار غيره في السنة الثانية فلم يكن للفسخ وجه وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالاً فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد وإن كان على عمل معين لم يجز إلا في الوقت الذي يمكن الشروع في العمل لأن إجارة العين كبيع العين وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الإجارة فإن استأجر من يحج له لم يجز إلا في الوقت الذي يتمكن فيه من التوجه فإن كان في موضع قريب لم يجز قبل شهر الحج لأنه يتأخر استيفاء المعقود عليه عن حال العقد وإن كان في موضع بعيد لا يدرك الحج إلا أن يسير قبل أشهره لم يستأجر إلا في الوقت الذي يتوجه بعده لأنه وقت الشروع في الاستيفاء فإن قال أجرتك هذه الدار شهراً لم يصح لأنه ترك تعيين المعقود عليه في عقد شرط فيه التعيين فبطل كما لو قال بعتك عبداً فإن أجر داراً من رجل شهراً من وقت العقد ثم أجرها منه الشهر الذي بعده قبل انقضاء الشهر الأول ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه إجارة منفعة معينة على مدة متأخرة عن العقد فأشبه إذا أجرها من غيره والثاني أنه يصح وهو المنصوص لأنه ليس لغيره يد تحول بينه وبين ما استأجر ولأن أحد شهريه لا ينفصل عن الآخر فأشبه إذا جمع بينهما في العقد

فصل: فإن أكرى ظهراً من رجلين يتعاقبان عليه أو اكترى من رجل عقبة ليركب في بعض الطريق دون بعض جاز وقال المزني لا يجوز اكتراء العقبة إلا مضموناً لأنه يتأخر حق أحدهما عن العقد فلم يجز كما لو أكراه ظهراً في مدة تتأخر عن العقد والمذهب الأول لأنه استحقاق الاستيفاء مقارن للعقد وإنما يتأخر في القسمة وذلك لا يمنع صحة العقد كما لو باع من رجلين صبرة فإنه يصح وإن تأخر حق أحدهما عند القسمة فإن كان ذلك في طريق فيه عادة في الركوب والنزول جاز العقد عليه مطلقاً وحملا في الركوب والنزول على العادة لأنه معلوم بالعادة فحمل الإطلاق عليه كالنقد المعروف في البيع وإن لم يكن فيه عادة لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لأنه غير معلوم بالعادة فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه فإن اختلفا في البادئ في الركوب أقرع بينهما فمن خرجت عليه القرعة قدم لأنهما تساويا في الملك فقدم القرعة. فصل: وما عقد من الإجارة على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار لأن الخيار يمنع من التصرف فإن حسب ذلك على المكرى زدنا عليه المدة وإن حسب على المكترى نقصنا من المدة وهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما لا يثبت لما ذكرناه من النقصان والزيادة في خيار الشرط والثاني يثبت لأنه قدر يسير ولكل واحد منهما إسقاطه وإن كان الإجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يثبت فيه الخياران لأنه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار والثاني يثبت فيه الخياران لأن المنفعة المعينة كالعين المعينة في البيت ثم العين المعينة يثبت فيها الخياران فكذلك المنفعة والثالث يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط لأنه عقد على منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم وإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة ففيه وجهان: أحدهما لا يثبت فيه الخياران لأنه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار والثاني يثبت فيه خيار المجلس دون الشرط لأن الإجارة في الذمة كالسلم وفي السلم يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط فكذلك في الإجارة. فصل: وإذا تم العقد لزم ولم يملك واحد منهما أن ينفرد بفسخه من غير عيب لأن الإجارة كالبيع ثم البيع إذا تم لزم فكذلك الإجارة وبالله التوفيق.

باب مايلزم المتكاريين وما يجوز لهما

باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما يجب على المكري ما يحتاج إليه المكتري للتمكين من الانتفاع كمفتاح الدار وزمام

الجمل والبرة التي في أنفه والحزام والقتب والسرج واللجام للفرس لأن التمكين عليه ولا يحصل التمكين إلا بذلك فإن تلف شيء منه في يد المكتري لم يضمنه كما لا يضمن العين المستأجرة وعلى المكري بدله لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفى المستأجر المنفعة وما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالدلو والحبل والمحمل والغطاء فهو على المكتري لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع واختلف أصحابنا فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر فمنهم من قال هو على المكري لأنه من آلة التمكين فكان على المكري ومنهم من قال هو على المكتري لأنه بمنزلة تأليف المحمل وضم بعضه إلى بعض. فصل: وعلى المكري إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده لأن العادة أنه يتولاه المكري فحمل العقد عليه وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لأنه لا يمكن ذلك على الظهر ولا يجب ذلك للأكل وصلاة النفل لأنه يمكن فعله على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والشيخ الضعيف لأن ذلك من مقتضى التمكين من الانتفاع فكان عليه فأما أجرة الدليل فينظر فيه فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب فهو على المكري لأن ذلك من مؤن التحصيل وإن كانت الإجارة على ظهر بعينه فهو على المكتري لأن الذي يجب على المكري تسلم الظهر وقد فعل وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش لأنه من مقتضى التمكين فإن امتلأ في يد المكتري ففي كسحه وجهان: أحدهما أنه على المكري لأنه من مقتضى التمكين فكان عليه والثاني أنه على المكتري لأنه حصل بفعله فكان تنقيته عليه كتنظيف الدار من القماش وعلى المكري إصلاح ما تهدم من الدار وإبدال ما تكسر من الخشب لأن ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه واختلف أصحابنا في المستأجرة على الرضاع هل يلزمها الحضانة وغسل الخرق فمنهم من قال يلزمها لأن الحضانة تابعة للرضاع فاستحقت بالعقد على الرضاع ومنهم من قال لا يلزمها لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى فلا تلزم بالعقد على إحداهما الأخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به وللمستأجر أن يطالبها بذلك لأن من مقتضى التمكين من الرضاع وفي تركه إضرار بالصبي.

فصل: وعلى المكري علف الظهر وسقيه لأن ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه فإن هرب الجمال وترك الجمال فللمستأجر أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف لأن ذلك مستحق عليه فجاز أن يتوصل بالحكم إليه فإن أنفق المستأجر ولم يستأذن الحاكم لم يرجع لأنه متطوع وإن رفع الأمر إلى الحاكم ولم يكن للجمال مال اقترض عليه فإن اقترض من المستأجر وقبضه منه ثم دفعه إليه لينفق جاز وإن لم يقبض منه ولكنه أذن له في الإنفاق عليها قرضاً على الجمال ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه إذا أنفق احتجنا أن يقبل قوله في استحقاق حق له على غيره والثاني يجوز لأنه موضع ضرورة لأنه لا بد للجمال من علف وليس ههنا من ينفق غيره فإن أذن له وأنفق ثم اختلفا في قدر ما أنفق فإن كان ما يدعيه زيادة على المعروف لم يلتفت إليه لأنه إن كان كاذباً فلا حق له وإن كان صادقاً فهو متطوع بالزيادة فلم تصح الدعوى وإن كان ما يدعيه هو المعروف فالقول قوله لأنه مؤتمن في الإنفاق فقبل قوله فيه فإن لم يكن حاكم فأنفق ولم يشهدلم يرجع لأنه متطوع وإن أشهد فهل يرجع فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه يثبت حقاً لنفسه على غيره من غير إذن ولا حاكم والثاني يرجع لأنه حق على غائب تعذر استيفاؤه منه فجاز أن يتوصل إليه بنفسه كما لو كان له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه فإن لم يجد من يشهد أنفق وفي الرجوع وجهان: أحدهما لا يرجع لما ذكرناه فيه إذا أشهد والثاني يرجع لأن ترك الجمال مع العلم أنه لا بد لها من العلف إذن في الإنفاق. فصل: واختلف أصحابنا في رد المستأجر بعد انقضاء الإجارة فمنهم من قال لا يلزمه قبل المطالبة لأنه أمانة فلا يلزمه ردها قبل الطلب كالوديعة ومنهم من قال يلزمه لأنه بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في إمساكها فلزمها الرد كالعارية المؤقتة بعد انقضاء وقتها فإن قلنا لا يلزمه الرد لم يلزمه مؤنة الرد كالوديعة وإن قلنا يلزمه لزمه مؤنة الرد كالعارية. فصل: وللمستأجر أن يستوفي مثل المنفعة المعقود عليها بالمعروف، لأن إطلاق

العقد يقتضي المتعارف والمتعارف كالمشروط فإن استأجر داراً للسكنى جاز أن يطرح فيها المتاع لأن ذلك متعارف في السكنى ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يقصر فيها الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب لأن ذلك غير متعارف في السكنى وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن الفأر ينقب الحيطان للوصول إلى ذلك والثاني يجوز وهو الأظهر لأن طرح ما يسرع إليه قميصاً للبس لم يجز أن ينام فيه بالليل ويجوز بالنهار لأن العرف أن يخلع لنوم الليل دون نوم النهار وإن استأجر ظهر للركوب ركب عليه لا مستلقياً ولا منكباً لأن ذلك هو المتعارف وإن كان في طريق العادة فيه السير في أحد الزمانين من ليل أو نهار لم يسر في الزمان الآخر لأن ذلك هو المعارف وإن اكترى ظهراً في طريق العادة فيه النزول للرواح ففيه وجهان: أحدهما يلزمه النزول لأن ذلك متعارف والمتعارف كالمشروط والثاني لا يلزمه لأنه عقد على الركوب في جميع الطريق فلا يلزمه تركه في بعضه فإن اكترى ظهراً إلى مكة لم يجز أن يحج عليه لأن ذلك زيادة على المعقود عليه وإن اكتراه للحج عليه فله أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة وهل يجوز أن يركبه من مكة عائداً إلى منى للمبيت والرمي؟ فيه وجهان: أحدهما له ذلك لأنه من تمام الحج والثاني ليس له لأنه قد حل من الحج. فصل: فإن اكترى ليحمل له أرطالاً من الزاد فهل له أن يبدل مال يأكله فيه قولان: أحدهما له أن يبدل وهو اختيار المزني كما أن له أن يبدل ما يشرب من الماء والثاني ليس له أن يبدله لأن العادة أن الزاد يشتري موضعاً واحداً بخلاف الماء قال أبو إسحاق: هذا إذا لم تختلف قيمة الزاد في المنازل فأما إذا كانت قيمته تختلف في المنازل جاز له أن يبدله قولاً واحداً لأنه له غرضاً أن لا يشتري موضعاً واحداً.

فصل: وإن اكترى ظهراً فله أن يضربه ويكبحه باللجام ويركضه بالرجل للاستصلاح لما روى جابر قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى مني بعيراً وحملني عليه إلى المدينة وكان يسوقه وأنا راكبه وإنه ليضربه بالعصا ولا يتوصل إلى استيفاء المنفعة إلا بذلك فجاز له فعله. فصل: وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها وما دونها في الضرر ولا يملك أن يستوفي ما فوقها في الضرر فإن اكترى ظهراً ليركبه في طريق فله أن يركبه في مثله وما دونه في الخشونة ولا يركبه فيما هو أخشن منه فإن استأجر أرضاً ليزرع فيها الحنطة فله أن يزرع مثلها وما دونها في الضرر ولا يزرع ما فوقها لأن في مثلها يستوفي قدر حقه وفيما دونها يستوفي بعض حقه وفيما فوقها يستوفي أكثر من حقه فإن اكترى ظهراً ليحمل عليه القطن لم يحمل عليه الحديد لأنه أضر على الظهر من القطن لاجتماعه وثقله فإن اكتراه للحديد لم يحمل عليه القطن لأنه أضر من الحديد لأنه يتجافى ويقع فيه الريح فيتعب الظهر فإن اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عرياً لأن ركوبه عرياً أضر فإن اكتراه عرياً لم يركبه بسرج لأنه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه فإن اكترى ظهراً ليركبه لم يجز أن يحمل عليه المتاع لأن الراكب يعين الظهر بحركته والمتاع لا يعينه فإن اكتراه لحمل المتاع لم يجز أن يركبه لأن الراكب أشد على الظهر لأنه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه فإن اكترى قميصاً للبس لم يجز أن يتزر به لأن الإتزار أضر من اللبس لأنه يعتمد فيه على طاقين وفي اللبس يعتمد فيه على طاق واحد وهل له أن يرتدي به فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه أخف من اللبس والثاني لا يجوز لأنه استعمال غير معروف فلا يملكه كالاتزار. فصل: وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبغيره فإن اكترى داراً ليسكنها فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر ولا يسكنها من هو أضر منه فإن اكترى ظهراً ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لما ذكرناه في الفصل قبله. فصل: فإن استأجر عيناً لمنفعة وشرط عليه أن لا يستوفي مثلها أو دونها أو لا يستوفيها لمن هو مثله أو دونه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الإجارة باطلة لأنه شرط فيها ما ينافي موجبها فبطلت والثاني أن الإجارة جائزة والشرط باطل لأنه شرط لا يؤثر في حق

المؤجر فألغي وبقي العقد على مقتضاه الثالث أن الإجارة جائزة والشرط لازم لأن المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به. فصل: وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها لأن الإجارة كالبيع وبيع المبيع يجوز بعد القبض فكذلك إجارة المستأجر ويجوز من المؤجر وغيره كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره وهل يجوز قبل القبض فيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجوز كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض والثاني يجوز لأن المعقود عليه هو المنافع والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين فلم يؤثر فيها قبض العين والثالث أنه يجوز إجارتها من المؤجر لأنها في قبضته ولا يجوز من غيره لأنها ليست في قبضته ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر لأنا بينا أن الإجارة بيع وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه فكذلك الإجارة. فصل: وإن استأجر عيناً لمنفعة فاستوفى أكثر منها فإن كانت زيادة تتميز بأن اكترى ظهراً ليركبه إلى مكان فجاوز أو ليحمل عليه عشرة أقفزة فحمل عليه أحد عشر قفيزاً لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل لما زاد لأنه استوفى المعقود عليه فاستقر عليه المسمى واستوفى زيادة فلزمه ضمان مثلها كما لو اشترى عشرة أقفزة فقبض أحد عشر قفيزاً فإن كانت الزيادة لا تتميز بأن اكترى أرضاً ليزرعها حنطة فزرعها دخناً فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب المزني وأبو إسحاق إلى أن المسألة على قولين: أحدهما يلزمه أجرة المثل للجميع لأنه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره فلزمه ضمان المثل كما لو اكترى أرضاً للزراعة فزرع أرضاً أخرى والثاني يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة لأنه استوفى ما استحقه وزيادة فأشبه إذا استأجر ظهراً إلى موضع فجاوزه وذهب القاضي أبو حامد المروروذي إلى أن المسألة على قول واحد وأن صاحب الأرض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة وبين أن يأخذ أجره المثل للجميع لأنه أخذ شبهاً ممن استأجر ظهراً إلى مكان فجاوزه وشبهاً ممن اكترى أرضاً للزرع فزرع غيرها فخير بين الحكمين. فصل: وإن أجره عينا ثم أراد أن يبدلها بغيرها لم يملك لأن المستحق معين فلم يملك إبداله بغيره كما لو باع عيناً فأراد أن يبدها بغيرها. فصل: فإن استأجر أرضاً مدة للزراعة فأراد أن يزرع ما لا يستحصد في تلك المدة فقد ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز وللمؤجر أن يمنعه من زراعته فإن بادر

المستأجر وزرع لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة ويحتمل عندي أنه لا يجوز منعه من الزراعة لأنه يستحق الزراعة إلى أن ينقضي المدة فلا يجوز منعه قبل القضاء المدة ولأنه لا خلاف أنه إن سبق وزرع لم يجبر على نقله فلا يجوز منعه من زراعته. فصل: وإن اكترى أرضاً مدة للزرع لم يخل إما أن يكون لزرع مطلق أو لزرع معين فإن كان لزرع مطلق فزرع وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع نظرت فإن كان بتفريط منه بأن زرع صنفاً لا يستحصد في تلك المدة أو صنفاً يستحصد في المدة إلا أنه أخر زراعته فللمكري أن يأخذه بنقله لأنه لم يعقد إلا على المدة فلا يلزمه الزيادة عليها لتفريط المكتري فإن لم يستحصد لشدة البرد أو قلة المطر ففيه وجهان: أحدهما يجبر على نقله لأنه كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الإجارة فإذا لم يفعل لم يلزم المكري أن يستدرك له ما تركه والثاني لا يجبر وهو الصحيح لأنه تأخر من غير تفريط منه فإن قلنا مجبر على نقله وتراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لأن النقل لحق المكري وقد رضي بتركه وإن قلنا لا يجبر فعليه المسمى إلى القضاء المدة بحكم العقد وأجرة المثل لما زاد لأنه كما لا يجوز الإضرار بالمستأجر في نقل زرعه لا يجوز الإضرار بالمؤجر في تفويت منفعة أرضه فإن كان لزرع معين لا يستحصد في المدة وانقضت المدة والزرع قائم نظرت فإن شرط عليه القلع فالإجارة صحيحة لأنه عقد على مدة معلومة ويجبر على قلعه لأنه دخل على هذا الشرط فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن شرط التبقية بعد المدة فالإجارة باطلة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد فأبطله فإن لم يزرع كان لصاحب الأرض أن يمنعه من الزراعة لأنها زراعة فالعقد باطل فإن بادر وزرع لم يجبر على القلع لأنه زرع مأذون فيه وعليه أجرة المثل لأنه استوفى منفعة الأرض بإجارة فاسدة فإن أطلق العقد ولم يشرط التبقية ولا القلع ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يجبر على قلعه لأن العقد إلى مدة وقد انقضت فأجبر على قلعه كالزرع المطلق والثاني لا يجبر لأنه دخل معه على العمل بحال الزرع وأن العادة فيه الترك إلى الحصاد فلزمه الصبر عليه كما لو باع ثمرة بعد بدو الصلاح وقبل الإدراك ويخالف هذا إذا اكترى لزرع مطلق لأن هناك يمكنه أن يزرع ما يستحصد في المدة فإذا ترك كان ذلك بتفريط منه فأجبر على قلعه وههنا هو زرع معنى علم المكري أنه لا يستحصد في تلك المدة فإذا قلنا يجبر فتراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن قلنا لا يجبر لزمه المسمى للمدة وأجرة المثل للزيادة لأنه كما لا يجوز الإضرار بالمكتري في نقل زرعه لا يجوز الإضرار بالمكري في إبطال منفعة أرضه.

فصل: وإن اكترى أرضاً للغراس مدة لم يجز أن يغرس بعد انقضائها لأن العقد يقتضي الغرس في المدة فلم يملك بعدها فإن غرس في المدة وانقضت المدة نظرت فإن شرط عليه القلع بعد المدة أخذ بقلعه لما تقدم من شرطه ولا يبطل العقد بهذا الشرط لأن الذي يقتضيه العقد هو الغراس في المدة وشرط القلع بعد المدة لا يمنع ذلك وإنما يمنع من التبقية بعد المدة والتبقية بعد المدة من مقتضى الإذن لا من مقتضى العقد لم يبطل العقد بإسقاطها فإذا قلع لم يلزمها تسوية الأرض لأنه لما شرط القلع رضي بما يحصل به من الحفر فإن أطلق العقد ولم يشترط القلع ولا التبقية لم يلزمه القلع لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة ولهذا لو اكترى داراً وترك فيها متاعاً وانقضت المدة لم يلزمه المستأجر على حسب العادة ولهذا لو اكترى داراً وترك فيها متاعاً وانقضت المدة لم يلزمه تفريغها إلا على حسب العادة في نقل مثله والعادة في الغراس التبقية إلى أن يجف ويستقلع فإن اختار المكتري القلع نظرت فإن كان ذلك قبل انقضاء المدة ففيه وجهان: أحدهما يلزمه تسوية الأرض لأنه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه فلزمه تسوية الأرض والثاني لا يلزمه لأنه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه فلزمه تسوية الأرض والثاني لا يلزمه لأنه قلع الغراس من أرض له عليه يد فإن كان ذلك بعد انقضاء المدة لزمه تسوية الأرض وجهاً واحداً لأنه قلع الغراس من أرض غيره بلا إذن ولا يد فإن اختار التبقية نظرت فإن أراد صاحب الأرض أن يدفع قيمة الغراس ويتملكه أجبر المكتري على ذلك لأنه يزول عنه الضرر بدفع القيمة فإن أراد أن يقلعه نظرت فإن كان قيمة الغراس لا تنقص بالقلع أجبر المكتري على القلع لأنه لا ضرر عليه في القلع فإن كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع أجبر المكتري على القلع لأنه لا ضرر عليه في القلع فإن كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع فإن ضمن له أرض نقص أجبر عليه لأنه لا ضرر عليه بالقلع مع دفع الأرش فإن أراد أن يقلع ولا يضمن أرش النقص لم يجبر المكتري قال المزني يجبر لأنه لا يجوز أن ينتفع بأرض غيره من غير رضاه وهذا خطأ لأن في قلع ذلك من غير ضمان الأرض إضراراً بالمكتري والضرر لا يزال بالضرر فإن اختار أن يقر الغراس في الأرض ويطالب المكتري بأجرة المثل أجبر المكتري لأنه كما لا يجوز الإضرار بالمكتري بالقلع من غير ضمان لا يجوز الإضرار بالمكري بإبطال منفعة الأرض عليه من غير أجرة فإن أراد المكتري أن يبيع الغراس من المكري جاز وإن أراد بيعه من غيره ففيه وجهان وقد بيناهما في كتاب العارية فإن اكترى بشرط التبقية بعد المدة جاز لأن إطلاق العقد يقتضي التبقية فلا يبطل بشرطها والحكم في القلع والتبقية على ما ذكرناه فيه إذا أطلق العقد. فصل: فإن اكترى أرضاً بإجارة فاسدة وغرس كان حكمها في القلع والإقرار على ما بيناه في الإجارة الصحيحة لأن الفاسد كالصحيح فيما يقتضيه من القلع والإقرار فكان حكمهما واحداً وبالله التوفيق.

باب مايوجب فسخ الإجارة

باب ما يوجب فسخ الإجارة إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً جاز له أن يرد لأن الإجارة كالبيع، فإذا جاز رد المبيع بالعيب جاز رد المستأجر وله أن يرد بما يحدث في يده من العيب لأن المستاجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع فإذا جاز رد المبيع بما يحدث من العيب في يد البائع جاز رد المستأجر بما يحدث من العيب في يد المستأجر. فصل: والعيب الذي يرد به ما تنقص به المنفعة كتعثر الظهر في المشي والعرج الذي يتأخر به عن القافلة وضعف البصر والجذام والبرص في المستأجر للخدمة وانهدام الحائط في الدار وانقطاع الماء في البئر والعين والتغير الذي يمتنع به الشرب أو الوضوء وغير ذلك من العيوب التي تنقص بها المنفعة فأما إذا اكترى ظهراً فوجده خشين المشي لم يرد لأن ذلك لا تنقص به المنفعة وإن اكترى ظهراً للحج عليه فعجز عن الخروج بالمرض أو ذهاب المال لم يجز له الرد وإن اكترى حماماً فتعذر عليه ما يوقده لم يجز له الرد لأن المعقود عليه باق وإنما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره فلم يجز له الرد كما لو اشترى ظهراً ليحج عليه فعجز عن الحج لمرض أو ذهاب المال وإن اكترى أرضاً للزراعة فزرعها ثم هلك الزرع بزيادة المطر أو شدة برد أو دوام ثلج أو أكل جراد لم يجز له الرد لأن الجائحة حدثت على مال المستأجر دون منفعة الأرض فلم يجز له الرد وإن اكترى داراً فتشعثت فبادر المكري إلى إصلاحها لم يكن للمستأجر ردها لأنه لا يلحقه الضرر فإن لم يبادر ثبت له الفسخ لأنه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة فإن رضي سكناها ولم يطالب بالإصلاح فهل يلزمه جميع الأجرة أم لا فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه جميع الأجرة لأنه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة فلم يلزمه جميع الأجرة كما لو اكترى داراً سنة فسكنها بعض السنة ثم غصبت والثاني يلزمه جميع الأجرة لأنه استوفى جميع المعقود عليه ناقصاً بالعيب فلزمه جميع البدل كما لو اشترى عبداً فتلفت يده في يد البائع ورضي به. فصل: ومتى رد المستأجر العين بالعيب فإن كان العقد على عينها انفسخ العقد لأنه عقد على معين فانفسخ برده كبيع العين وإن كان العقد على موصوف في الذمة لم

ينفسخ العقد برد العين بل يطالب ببدله لأن العقد على ما في الذمة فإن رد العين رجع إلى ما في الذمة كما لو وجد بالمسلم فيه عيباً فرده. فصل: وإن استأجر عبداً فمات في يده فإن كان العقد على موصوف في الذمة طالب ببدله كما ذكرناه في الرد بالعيب وإن كان العقد على عينه فإن لم يمض من المدة ماله أجرة انفسخ العقد وقال أبو ثور من أصحابنا لا ينفسخ بل يلزم المستأجر الأجرة لأنه هلك بعد التسليم فلم ينفسخ العقد كما لو هلك المبيع بعد التسليم فلم ينفسخ العقد والمذهب الأول لأن المعقود عليه هو المنافع وقد تلفت قبل قبضها فانفسخ العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض وإن مضى من المدة ماله أجرة انفسخ العقد فيما بقي بتلف المعقود عليه وفيما مضى طريقان: أحدهما لا ينفسخ فيه العقد قولاً واحداً والثاني أنه على قولين بناء على الطريقين في الهلاك الطارئ في بعض المبيع قبل القبض هل هو كالهلاك المقارن للعقد أم لا لأن المنافع في الإجارة كالمبيع قبل القبض وفي المبيع قبل القبض طريقان فكذلك الإجارة. فصل: وإن اكترى داراً فانهدمت فقد قال في الإجارة ينفسخ العقد وقال في المزارعة إذا اكترى أرضاً للزراعة فانقطع ماؤها إن المكتري بالخيار بين أن يفسخ وبين أن لا يفسخ واختلف أصحابنا فيهما على طريقين فمنهم من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى فخرجهما على قولين وهو الصحيح: أحدهما أن العقد ينفسخ فيهما لأن المنفعة المقصودة هي السكنى والزراعة وقد فاتت فانفسخ العقد كما لو اكترى عبداً للخدمة فمات والثاني لا ينفسخ لأن العين باقية يمكن الانتفاع بها وإنما نقصت منفعتها فثبت له الخيار كما لو حدث به عيب ومنهم من قال إذا انهدمت الدار انفسخ العقد وإن انقطع الماء من الأرض لم ينفسخ لأن الأرض باقية مع انقطاع الماء والدار غير باقية مع الانهدام. فصل: وإن أكرى نفسه فهرب أو أكرى عيناً فهرب بها نظرت فإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة استؤجر عليه من ماله كما لو أسلم إليه في شيء فهرب فإنه يبتاع عليه المسلم فيه وإن لم يكن الاستئجار عليه ثبت للمستأجر الخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر لأنه تأخر حقه فيثبت له الخيار كما لو أسلم في شيء فتعذر وإن كانت الإجارة على عين فهو بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر لأنه تأخر حقه فثبت له الخيار كما لو ابتاع عبداً فأبق قبل القبض فإن لم يفسخ نظرت فإن كانت الإجارة على مدة انفسخ العقد بمضي المدة يوماً بيوم لأن المنافع تتلف بمضي الزمان فانفسخ العقد بمضيه وإن كانت على عمل معين لم ينفسخ لأنه يمكن استيفاؤه إذا وجده.

فصل: وإن غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر، فإن كان العقد على موصوف في الذمة طولب المؤجر بإقامة عين مقامها على ما ذكرناه في هرب المكري وإن كان على العين فللمستأجر أن يفسخ العقد لأنه تأخر حقه فثبت له الفسخ كما لو ابتاع عبداً فغضب فإن لم يفسخ فإن كانت الإجارة على عمل لم تنفسخ لأنه يمكن استيفاؤها إذا وجده وإن كانت على مدة فانقضت ففيه قولان: أحدهما ينفسخ العقد فيرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل والثاني لا ينفسخ بل يخير المستأجر بين أن يفسخ ويرجع على المؤجر بالمسمى ثم يرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل وبين أن يقر العقد ويرجع على الغاصب بأجرة المثل لأن المنافع تلفت في يد الغاصب فصار كالمبيع إذا أتلفه الأجنبي وفي المبيع قولان إذا أتلفه الأجنبي فكذلك ههنا. فصل: وإن مات الصبي الذي عقد الإجارة على إرضاعه فالمنصوص أنه ينفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع فبطل ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه لا ينفسخ لأن المنفعة باقية وإنما هلك المستوفي فلم ينفسخ العقد كما لو استأجر داراً فمات فعلى هذا إن تراضيا على إرضاع الصبي آخر جاز وإن تشاحا فسخ العقد لأنه تعذر إمضاء العقد ففسخ. فصل: وإن استأجر رجلاً ليقلع له ضرساً فسكن الوجع أو ليكحل عينه فبرئت أو ليقتص له فعفا عن القصاص انفسخ العقد على المنصوص في المسألة قبلها لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ كما لو تعذر بالموت ولا ينفسخ على قول من خرج القول الآخر. فصل: وإن مات الأجير في الحج قبل الإحرام نظرت فإن كان العقد على حج في الذمة استؤجر من تركته من يحج فإن لم يمكن ثبت للمستأجر الخيار في فسخ العقد كما قلنا في السلم وإن كان حجه بنفسه انفسخ العقد لأنه تلف المعقود عليه قبل القبض فإن مات بعدما أتى بجميع الأركان وقبل المبيت والرمي سقط الفرض لأنه أتى بالأركان ويجب في تركته الدم لما بقي كما يجب ذلك في حج نفسه وإن مات بعد الإحرام وقبل أن يأتي بالأركان فهل يجوز أن يبني غيره على عمله؟ فيه قولان: أحدهما قال في القديم يجوز لأنه عمل تدخله النيابة فجاز البناء عليه كسائر الأعمال وقال في الجديد لا يجوز وهو الصحيح لأنه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها فلا تتأدى بنفسين كالصوم والصلاة فإن قلنا لا يجوز البناء كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه بطلت لأنه فات المعقود عليه

ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج وإن كانت الإجارة على حج في الذمة لم تبطل لأن المعقود عليه لم يفت بموته فإن كان وقت الموقوف باقياً استؤجر من تركته من يحج وإن فات الموقوف فللمستأجر أن يفسخ لأنه تأخر حقه فثبت له الفسخ وإن قلنا يجوز البناء على فعل الأجير فإن كانت الإجارة على فعل الأجير بنفسه بطلت لأن حجه فات بموته فإن كان وقت الوقوف باقياً أقام المستأجر من يحرم بالحج ويبني على عمل الأجير وإن كان بعد فوات وقت الوقوف أقام من يحرم بالحج ويتم وقال أبو إسحاق لا يجوز للباقي أن يحرم بالحج لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد بل يحرم بالعمرة ويتم والصحيح هو الأول لأنه لا يجوز أن يطوف في العمرة ويقع على الحج وقوله إن الإحرام بالحج لا ينعقد في غير أشهر الحج لا يصح لأن هذا بناء على إحرام حصل في أشهر الحج وإن كانت الإجارة على حج في الذمة استؤجر من تركته الأجير من يبني على إحرامه على ما ذكرناه. فصل: ومتى انفسخ العقد بالهلاك أو بالرد بالعيب أو بتعذر المنفعة بعد استيفاء بعض المنفعة قسم المسمى على ما استوفى وعلى ما بقي فما قابل المستوفي استقر وما قابل الباقي سقط كما يقسم الثمن على ما هلك من المبيع وعلى ما بقي فإذا كان ذلك مما يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة وإن كان العقد على الحج فمات الأجير أو أحصر نظرت فإن كان بعد قطع المسافة وقبل الإحرام ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا يستحق شيئاً من الأجرة بناء على قوله في الأم أن الأجرة لا تقابل قطع المسافة وهو الصحيح لأن الأجرة في مقابلة الحج وابتداء الحج من الإحرام وما قبله من قطع المسافة تسبب إلى الحج وليس بحج فلم يستحق في مقابلته أجرة كما لو استأجر رجلاً ليخبز له فأحضر الآلة وأوقد النار ومات قبل أن يخبز والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري وأبي بكر الصير في أنه يستحق من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة بناء على قوله في الإملاء إن الأجرة تقابل قطع المسافة والعمل لأن الحج لا يتأدى إلا بهما فسقطت الأجرة عليهما وإن كان بعد الفراغ من الأركان وقبل الرمي والمبيت ففيه طريقان: أحدهما يلزمه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك قولاً واحداً لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله كما لو استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى تسعة ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يلزمه لما ذكرناه والثاني لا يلزمه لأن ما دخل على الحج من النقص بترك الرمي والمبيت جبره بالدم فصار كما لو لم يتركه وإن كان بعد الإحرام وقبل أن يأتي بباقي الأركان ففيه وجهان: أحدهما لا يستحق شيئاً كما لو قال من رد عبدي

الآبق فله دينار فرده رجل إلى باب البلد ثم هرب والثاني أنه يستحق بقدر ما عمله وهو الصحيح لأنه عمل بعض ما استؤجر عليه فأشبه إذا استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى بعضها ثم مات فإن قلنا إنه يستحق بعض الأجرة فهل تسقط الأجرة على العمل والمسافة أو على العمل دون المسافة على ما ذكرناه في القولين. فصل: وإن أجر عبداً ثم أعتقه صح العتق لأنه عقد على منفعة فلم يمنع العتق كما لو زوج أمته ثم أعتقها ولا تنفسخ الإجارة كما لا ينفسخ النكاح وهل يرجع العبد على مولاه بالأجرة؟ فيه قولان: قال في الجديد لا يرجع وهو الصحيح لأنها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها بعد العتق كما لو زوج أمته ثم أعتقها وقال في القديم يرجع لأنه فوت بالإجارة ما ملكه من منفعته بالعتق فوجب عليه البدل فإن قلنا يرجع بالأجرة كانت نفقته على نفسه لأنه ملك بدل منفعته فكانت نفقته عليه كما لو أجر نفسه بعد العتق وإن قلنا لا يرجع بالأجرة ففي نفقته وجهان: أحدهما أنها على المولى لأنه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك فكانت نفقته عليه والثاني أنها في بيت المال لأنه لا يمكن إيجابها على المولى لأنه زاد ملكه عنه ولا على العبد لأنه لا يقدر عليها في مدة الإجارة فكانت في بيت المال. فصل: وإن أجر عيناً ثم باعها من غير المستأجر ففيه قولان: أحدهما أن البيع باطل لأن يد المستأجر تحول دون فلم يصح البيع كبيع المغصوب من غير الغاصب والمرهون من غير المرتهن والثاني يصح لأنه عقد على المنفعة فلم يمنع صحة البيع كما لو زوج أمته ثم باعها ولا تنفسخ الإجارة كما لا ينفسخ النكاح في بيع الأمة المزوجة وإن باعها من المستأجر صح البيع قولاً واحداً لأنه في يده لا حائل دونه فصح بيعها منه كما لو باع المغصوب من الغاصب والمرهون من المرتهن ولا تنفسخ الإجارة بل يستوفي المستأجر المنفعة بالإجارة لأن الملك لا ينافي الإجارة والدليل عليه أنه يجوز أن يستأجر ملكه من المستأجر فإذا طرأ عليها لم يمنع صحتها وإن تلفت المنافع قبل انقضاء المدة انفسخت الإجارة ورجع المشتري بالأجرة لما بقي على البائع. فصل: فإن أجر عيناً من رجل ثم مات أحدهما لم يبطل العقد لأنه عقد لازم فلا يبطل بالموت مع سلامة العقود عليه كالبيع فإن أجر وقفاً عليه ثم مات ففيه وجهان: أحدهما لا يبطل لأنه أجر ما يملك إجارته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه ثم مات فعلى هذا يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجرة المدة الباقية لأن المنافع في المدة الباقية حق له فاستحق أجرتها والثاني تبطل لأن المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ

عقده عليها من غير إذن ولا ولاية ويخالف إذا أجر ملكه ثم مات فإن الوارث يملك من جهة الموروث فلا يملك ما خرج من ملكه بالإجارة والبطن الثاني يملك غلة الوقف من جهة الواقف فلم ينفذ عقد الأول عليه وإن أجر صبياً في حجره أو أجر ماله ثم بلغ ففيه وجهان: أحدهما لا يبطل العقد لأنه عقد لازم عقده بحق الولاية فلا يبطل بالبلوغ كما لو باع داره والثاني يبطل لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي إلى هذا الوقت والصحيح عندي في المسائل كلها أن الإجارة لا تبطل وبالله التوفيق.

باب تضمين المستأجر والأجير

باب تضمين المستأجر والأجير إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان لأنه عين قبضها ليستوفي منها ما ملكه فلم يضمنها بالقبض كالمرأة في يد الزوج والنخلة التي اشترى ثمرتها وإن تلفت بفعله نظرت فإن كان بغير عدوان كضرب الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن لأنه هلك من فعل مستحق فلم يضمنه كما هلك تحت الحمل وإن تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان لأنه جناية على مال الغير فلزمه ضمانه. فصل: وإن اكترى ظهراً إلى مكان فجاوز به المكان فهلك نظرت فإن لم يكن معه صاحبه لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به المكان إلى أن تلف لأنه ضمنه باليد من حين جاوز فصار كالغاصب وإن كان صاحبه معه نظرت فإن هلك بعد نزوله وتسليمه إلى صاحبه لم يضمن لأنه ضمنه باليد فبرئ بالرد كالمغصوب إذا رده إلى مالكه وإن تلف في حال السير والركوب ضمن لأنه هلك في حال العدوان وفي قدر الضمان قولان: أحدهما نصف قيمته لأنه تلف من مضمون وغير مضمون فكان الضمان بينهما نصفين كما لو مات في جراحته وجراحة مالكه والثاني أنه تقسط القيمة على المسافتين فما قابل مسافة الإجارة سقط وما قابل الزيادة يجب لأنه يمكن تقسيطه على قدرهما فقسط بناء على القولين في الجلاد إذا ضرب رجلاً في القذف إحدى وثمانين فمات وإن تعادل اثنان ظهراً استأجراه وارتدف معهما الثالث من غير إذن فتلف الظهر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجب على المرتدف نصف القيمة لأنه هلك من مضمون وغير مضمون والثاني يجب عليه الثلث لأن الرجال لا يوزنون فقسط الضمان على عددهم والثالث أنه يقسط على أوزانهم فيجب على المرتدف ما يخصه بالوزن لأنه يمكنه تقسيطه بالوزن فقسط عليه. فصل: وإن استأجر عيناً واستوفى المنفعة وحبسها حتى تلفت فإن كان حبسها العذر لم يلزمه الضمان لأنه أمانة في يده فلم يضمن بالحبس لعذر كالوديعة وإن كان

لغير عذر فإن قلنا لا يجب الرد قبل الطلب لم يضمن كالوديعة قبل الطلب وإن قلنا يجب ردها ضمن الوديعة بعد الطلب. فصل: وإن تلفت العين التي استؤجر على العمل فيها نظرت فإن كان التلف بتفريط بأن استأجره ليخبز له فأسرف يجوز الوقود أو ألزقه بل وقته أو تركه في النار حتى احترق ضمنه لأنه هلك بعدوان فلزمه الضمان وإن استؤجر على تأديب غلام فضربه فمات فضمنه لأنه يمكن تأديبه بغير الضرب فإذا عدل إلى الضرب كان ذلك تفريطاً منه فلزمه الضمان وإن كان التلف بغير تفريط نظرت فإن كان العمل في ملك المستأجر بأن دعاه إلى داره ليعمل له أو كان العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليحمل له شيئاً وهو معه لم يضمن لأن يد صاحبه عليه فلم يضمن من غير جناية وإن كان العمل في يد الأجير من غير حضور المستأجر نظرت فإن كان الأجير مشركاً وهو الذي يعمل له ولغيره كالقصار الذي يقصر لكل أحد والملاح الذي يحمل لكل أحد ففيه قولان: أحدهما يجب عليه الضمان لما روى الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعي فضمنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن خلاس بن عمرو أن علياً رضي الله عنه كان يضمن الأجير وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي كرم الله وجهه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس إلا ذلك ولأنه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فضمنها كالمستعين والثاني لا ضمان عليه وهو قول المزني وهو الصحيح قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يذهب إلى أنه لا ضمان على الأجير ولكنه لا يفتى به لفساد الناس والدليل عليه أنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك فلم يضمنه كالمضارب وإن كان الأجير منفرداً وهو الذي يعمل له ولا يعمل لغيره فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو كالأجير المشترك وهو المنصوص فإن الشافعي رحمه الله قال: والأجراء كلهم سواء فيكون على قولين لأنه منفرد باليد فأشبه الأجير المشترك ومنهم من قال لا يجب عليه الضمان قولاً واحداً لأنه منفرد بالعمل فأشبه إذا كان عمله في دار المستأجر فإن قلنا إنه أمين فتعدى فيه ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدي إلى أن تلف لأنه ضمن بالتعدي فصار كالغاصب وإن قلنا إنه ضامن لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كالغاصب ومن أصحابنا من قال يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير وليس بشيء. فصل: وإن عمل الأجير بعض العمل أو جميعه ثم تلف نظرت؛ فإن كان العمل في

ملك صاحبه أو بحضرته وجبت له الأجرة لأنه تحت يده فكل ما عمل شيئاً صار مسلماً له وإن كان في يد الأجير فإن قلنا إنه أمين لم يستحق الأجرة لأنه لم يسم العمل وإن قلنا إنه ضامن استحق الأجرة لأنه يقوم عليه معمولاً فيصير بالتضمين مسلماً للعمل فاستحق الأجرة. فصل: وإن دفع ثوباً إلى خياط وقال إن كان يكفيني لقميص فاقطعه فقطعه ولم يكفه لزمه الضمان لأنه أذن له بشرط فقطع من غير وجود الشرط فضمنه وإن قال أيكفيني للقميص فقال نعم فقال: إقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن لأنه قطعه بإذن مطلق. فصل: واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامي هل هو ثمن الماء أو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب فمنهم من قال هو ثمن الماء وهو متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل فعلى هذا لا يضمن الثياب إذا أتلفت وله عوض السطل إذا تلف ومنهم من قال هو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب فعلى هذا لا يضمن الداخل السطل إذا هلك لأنه مستأجر وهل يضمن الحمامي الثياب؟ فيه قولان لأنه أجير مشترك. فصل: وإن استأجر رجلاً للحج فتطيب في إحرامه أو لبس وجبت الفدية على الأجير لأنه جناية لم يتناولها الإذن فوجب ضمانها كما لو استأجر ليشتري له ثوباً فاشتراه ثم خرقه وإن أفسد الحج صار الإحرام عن نفسه لأن الفاسد غير مأذون فيه فانعقد له كما ولو وكله في شراء عبد فاشترى أمة فإن كان العقد على حجه في هذه السنة انفسخ لأنه فات المعقود عليه وإن كان على حج في الذمة ثبت له الخيار لأنه تأخر حقه فإن استأجر للحج من ميقات فأحرم من ميقات آخر لم يلزمه شيء لأن المواقيت المنصوص عليها متساوية في الحكم وإن كان بعضها أبعد من بعض فإذا ترك بعضها إلى بعض لم يحصل نقص يقتضي الجبران وإن أحرم دون الميقات لزمه دم لأنه ترك الإحرام من موضع يلزمه الإحرام منه فلزمه دم كما لو ترك ذلك في حجه لنفسه فإن استأجر ليحرم من دويرة أهله فأحرم دونه لزمه دم لأنه وجب عليه ذلك بعقد الإجارة فصار كما لو لزمه لحجه لنفسه بالشرع أو بالنذر فتركه وهل يلزمه أن يرد الأجرة بقسطه قال في القديم يهرق دماً وحجة تام وقال في الأم يلزمه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك فمن أصحابنا من قال يلزمه قولاً واحداً والذي قاله في القديم ليس فيه نص أنه لا يجب ومنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح: أحدهما لا يلزمه لأن النص الذي لحق الإحرام جبره بالدم فصار كما لو لم يترك والثاني أنه يلزمه لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه

رد بدله كما لو استأجره لبناء عشرة أذرع فبنى تسعة فعلى هذا يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من الموضع الذي أحرم منه فإن استأجره ليحرم بالحج من الميقات فأحرم من الميقات بعمرة عن نفسه ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة لزمه الدم لترك الميقات وهل يرد من الأجرة بقدر ما ترك على ما ذكرناه من الطرفين فإن قلنا يلزمه ففيه قولان: قال في الأم يرد بقدر ما بين حجه من الميقات وحجه من مكة لأن الحج من الإحرام وما قبله ليس من الحج وقال في الإملاء يلزمه أن يرد ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة لأنه جعل الأجرة في مقابلة السفر والعمل وجعل سفره لنفسه ويخالف المسألة قبلها لأن هناك سافر للمستاجر وإنما ترك الميقات وإن استأجره للحج فحج عنه وترك الرمي أو الميت لزمه الدم كما يلزمه لحجه وهل يرد من الأجرة بقسطه على ما ذكرناه فيمن ترك الإحرام من الميقات.

باب اختلاف المتكاريين

باب اختلاف المتكاريين إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الأجرة ولم تكن بينة فتحالفا لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع وإذا تحالفا كان الحكم في فسخ الإجارة كالحكم في البيع لأن الإجارة كالبيع فكان حكمها في الفسخ كالحكم في البيع فإن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فادعاه المؤجر وأنكره المستأجر فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان فإن اختلفا في الرد فادعاه المستأجر وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر إنه لم يرد عليه لأن المستأجر قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وإن اختلف الأجير المشترك والمستأجر في رد العين فادعى الأجير أنه ردها وأنكر المستأجر فإن قلنا إن الأجير يضمن العين بالقبض لم يقبل قوله في الرد لأنه ضامن فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والغاصب وإن قلنا إنه لا يضمن العين بالقبض فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه وجهان كالوكيل بجعل وقد مضى توجيههما في الوكالة وإن هلكت العين فادعى الأجير أنها هلكت بعد العمل وأنه يستحق الأجرة وأنكر المستأجر فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العمل وعدم البدل. فصل: وإن دفع ثوباً إلى خياط فقطعه قباء ثم اختلفا فقال رب الثوب أمرتك أن تقطعه قميصاً فتعديت بقطعه قباء فعليك ضمان النقص وقال الخياط بل أمرتني أن أقطعه قباء فعليك الأجرة فقد حكى الشافعي رحمه الله في اختلاف العراقيين قول ابن أبي ليلى إن القول قول الخياط وقول أبي حنيفة رحمة الله عليه إن القول قول رب الثوب ثم قال

وهذا أشبه وكلاهما مدخول وقال في كتاب الأجير والمستأجر إذا دفع إليه ثوباً ليصبغه أحمر فصبغه أخضر فقال أمرتك أن تصبغه أحمر فقال الصباغ بل أمرتني أن أصبغه أخضر إنهما يتحالفان واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها إن القول قول الخياط لأنه مأذون له في القطع فكان القول قوله في صفته والثاني أن القول قول رب الثوب كما لو اختلفا في أصل الإذن والثالث أنهما يتحالفان وهو الصحيح لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه لأن صاحب الثوب يدعي الأرض والخياط ينكره والخياط يدعي الأجرة وصاحب الثوب ينكره فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن ومن أصحابنا من قال المسألة على القولين المذكورين في اختلاف العراقيين وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق وأبي علي بن أبي هريرة والقاضي أبي حامد ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنهما يتحالفان وهو قول أبي حامد الإسفرايني لأن الشافعي رحمه الله ذكر القولين الأولين ثم قال: وكلاهما مدخول فإن قلنا إن القول قول الخياط فحلف لم يلزمه أرش النقص لأنه ثبت بيمينه أنه مأذون فيه وهل يستحق الأجرة؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لايستحق الأجر لأن قوله قبل في سقوط الغرم لأنه منكر فأما في الأجرة فإنه مدع لم يقبل قوله والثاني وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن له الأجرة لأنا قبلنا قوله في الإذن فعلى هذا هل يجب المسمى أو أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما يجب المسمى لأنا قبلنا قوله أنه أذن له فوجب ما اقتضاه والثاني أنه يجب له أجرة المثل لأنا إذا قبلنا قوله لم نأمن أن يدعي ألفاً وأجرة مثله درهم وإن قلنا أن القول قول صاحب الثوب فحلف لم تجب الأجرة لأنه فعل ما لم يؤذن فيه ويلزمه أرش القطع لأنه قطع ما لم يكن له قطعه وفي قدر الأرش قولان: أحدهما يلزمه ما بين قيمته مقطوعاً وصحيحاً لأنا حكمنا أنه لم يؤذن له في القطع فلزمه أرش القطع والثاني يلزمه ما بين قيمته مقطوعاً قميصاً وبين قيمته مقطوعاً قباء لأنه قد أذن له في القطع وإنما حصلت المخالفة في الزيادة فلزمه أرش الزيادة فإن لم يكن بينهما تفاوت لم يلزمه شيء وإذا قلنا إنهما يتحالفان فتحالفا لم تجب الأجرة لأن التحالف يوجب رفع العقد والخياطة من غير عقد لا توجب الأجرة وهل يجب أرش القطع؟ ففيه قولان: أحدهما يجب لأن كل واحد منهما حلف على ما ادعاه ونفى ما ادعى عليه فبرئا كالمتبايعين والثاني أنه يجب أرش النقص لأنا حكمنا بارتفاع العقد بالتحالف

فإذا ارتفع العقد حصل القطع من غير عقد فلزمه أرشه ومتى قلنا إنه يستحق الأجرة لم يرجع بالخيوط لأنه أخذ بدلها فإن قلنا لا يستحق الأجرة فله أن يأخذ خيوطه لأنه عين ماله فكان له أن يأخذه. فصل: إذا استأجر صانعاً على عمل من خياطة أو صباغة فعمل فهل له أن يحبس العين على الأجرة فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه لم يرهن العين عنده فلم يجز له احتباسها كما لو استأجره ليحمل له متاعاً فحمله ثم أراد أن يحبس المتاع على الأجرة والثاني يجوز لأن عمله ملكه فجاز له حبسه على العوض كالمبيع في يد البائع. فصل: وإن دفع ثوباً إلى رجل فخاطه ولم يذكر له أجرة فقد اختلف أصحابنا فيه على أربعة أوجه: أحدها أنه تلزمه الأجرة وهو قول المزني رحمه الله لأنه استهلك عمله فلزمه أجرته والثاني أنه إن قال له خطه لزمه وإن بدأ الرجل فقال أعطني لأخيطه لم تلزمه وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا أمره فقد ألزمه بالأمر والعمل لا يلزم من غير أجرة فلزمته وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الأجرة فلم تلزم والثالث أنه إذا كان الصانع معروفاً بأخذ الأجرة على الخياطة لزمه وإذا لم يكن معروفاً بذلك لم يلزمه وهو قول أبي العباس لأنه إذا كان معروفاً بأخذ الأجرة صار العرف في حق الشرط وإن لم يكن معروفاً لم يوجد ما يقتضي الأجرة من جهة الشرط ولا من جهة العرف والرابع وهو المذهب أنه لا يلزمه بحال لأنه بذل مال من غير عوض فلم يجب له العوض كما لو بذل طعامه لمن أكله وإن نزل رجل في سفينة ملاح بغير إذنه فحمله فيها إلى بلد لزمه الأجرة لأنه استهلك منفعة موضعه من السفينة من غير إذن فلزمه أجرتها وإن نزل فيها عن إذنه ولم يذكر الأجرة فعلى ما ذكرناه من الوجوه الأربعة في الخياطة وبالله التوفيق.

باب الجعالة

باب الجعالة يجوز عقد الجعالة وهو أن يبذل الجعل لمن عمل له عملاً من رد ضالة ورد آبق وبناء حائط وخياطة ثوب وكل ما يستأجر عليه من الأعمال والدليل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وروى أبو سعيد الخدري أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حياً من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل فيكم راق؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلاً؟

فجعلوا لهم قطيع شاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فضحك وقال: "ما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي فيها بسهم1" ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز الإجارة والمضاربة. فصل: ويجوز أن يعقد لعامل معين للآية ولأنه قد يكون له عمل ولا يعرف من يعمله فجاز من غير تعيين وروى المزني في المختصر عن الشافعي رحمه الله في المنثور أنه قال: إذا قال أول من يحج عني فله مائة فحج عنه رجل أنه يستحق المائة وقال المزني ينبغي أن يستحق أجرة المثل لأنه إجارة فلم تصح من غير تعيين وهذا خطأ لأن ذلك جعالة وقد بينا أن الجعالة لا تجوز من غير تعيين العامل. فصل: وتجوز على عمل مجهول للآية ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز مع الجهالة كالمضاربة ولا تجوز إلا بعوض معلوم لأنه عقد معاوضة فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح فإن شرط له جعلاً مجهولاً استحق أجرة المثل لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده كالبيع والنكاح. فصل: ولا يستحق العامل الجعل إلا بإذن صاحب المال فأما إذا عمل له عملاً من غير إذنه بأن وجد له آبقاً فجاء به أو ضالة فردها إليه لم يستحق الجعل لأنه بذل منفعته من غير عوض فلم يستحق العوض فإن عمل بإذنه ولم يشرط له الجعل فعلى الأوجه الأربعة التي ذكرناها في الإجارة فإن أذن له وشرط له الجعل فعمل استحق الجعل لأنه استهلك منفعته بعوض فاستحق العوض كالأجير فإن نادى فقال: من رد عبدي فله دينار فرده من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل لأنه متطوع بالرد من غير بدل فإن أبق عبد لرجل فنادى غيره أن من رد عبد فلان فله دينار فرده رجل وجب الدينار على المنادي لأنه ضمن العوض فلزمه فإن قال في النداء قال فلان من رد عبدي فله دينار فرده رجل لم يلزم المنادي لأنه لم يضمن وإنما حكى قول غيره. فصل: ولا يستحق العامل الجعل إلا بالفراغ من العمل فإن شرط له جعلاً على رد الآبق فرده إلى باب الدار ففر منه أو مات قبل أن يسلمه لم يستحق شيئاً من الجعل لأن المقصود هو الرد والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شيء وإن قال من رد عبدي الآبق من البصرة فله دينار وهو ببغداد فرده رجل من واسط استحق نصف الدينار لأنه رده من

_ 1 رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 9.مسلم في كتاب السلام حديث 65،66. أبو داود في كتاب البيوع باب 37. الترمذي في كتاب الطب باب 20. أحمد في مسنده "3/2، 10".

نصف الطريق وإن رده من أبعد من البصرة لم يستحق أكثر من الدينار لأنه لو لم يضمن له لما زاد شيئاً وإن أبق له عبدان فقال: من ردهما فله دينار فرد رجل أحدهما استحق نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل وإن قال من رد عبدي فله دينار فاشترك في رده اثنان اشتركا في الدينار لأنهما اشتركا في العمل فاشتركا في الجعل وإن قال لرجل إن رددت عبدي فلك دينار وقال الآخر إن رددته فلك ديناران فاشتركا في الرد استحق كل واحد منهما نصف ما جعل له وإن جعل لأحدهما ديناراً وللآخر ثوباً مجهولاً فرداه استحق صاحب الدينار نصف دينار وصاحب الثوب نصف أجرة المثل لأن الدينار جعل صحيح فاستحق نصفه والثوب جعل باطل فاستحق نصف أجرة المثل وإن قال لرجل إن رددت عبدي فلك دينار فشاركه غيره في رده فإن قال شاركته معاونة له كان الدينار للعامل لأن العمل كله له فكان الجعل كله له وإن قال شاركته لأشاركه في الجعل كان للعامل نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للشريك لأنه لم يشرط له شيئاً. فصل: ويجوز لكل واحد منهما فسخ العقد لأنه عقد على عمل مجهول بعوض فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة فإن فسخ العامل لم يستحق شيئاً لأن الجعل يستحق بالفراغ من العمل وقد تركه فسقط حقه وإن فسخ رب المال فإن كان قبل العمل لم يلزمه شيء لأنه فسخ قبل أن يستهلك منفعة العمل فلم يلزمه شيء كما لو فسخ المضاربة قبل العمل وإن كان بعد ما شرع في العمل لزمه أجرة المثل لما عمل لأنه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل. فصل: وتجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل فإن قال من رد عبدي فله دينار ثم قال من رده فله عشرة فرده رجل استحق عشرة وإن قال من رد عبدي فله عشرة ثم قال من رده فله دينار استحق الدينار لأنه مال بذل في مقابلة عمل في عقد جائز فجاز الزيادة والنقصان فيه قبل العمل كالربح في المضاربة. فصل: وإن اختلف العامل ورب المال فقال العامل شرطت لي الجعل وأنكر رب المال فالقول قول رب المال لأن الأصل عدم الشرط وعدم الضمان وإن اختلفا في عين العبد فقال السيد شرطت الجعل في رد غيره وقال العامل بل شرطت الجعل في رده فالقول قول المالك لأن العامل يدعي عليه شرط الجعل في عقد الأصل عدمه فكان القول فيه قوله وإن اختلفا في قدر الجعل تحالفا كما قلنا في البيع فإذا تحالفا رجع إلى أجرة المثل كما رجع في البيع بعد هلاك السلعة إلى قيمة العين وإن اختلف العامل والعبد فقال العامل أنا رددته وقال العبد جئت بنفسي وصدقه المولى فالقول قول المولى مع يمينه لأن الأصل عدم الرد وعدم وجوب الجعل وبالله التوفيق.

كتاب السبق والرمي

كتاب السبق والرمي مدخل ... كتاب السبق والرمي تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل والمضمرة منها من الحفيا إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ناقة يقال لها العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله سبقت العضباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه حق على الله أن لا يرتفع من هذه القدرة شيء إلا وضعه1" وروى سلمة بن الأكوع قال: أتي علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نترامى فقال: "حسن هذا لعباً ارموا يا بني اسماعيل فإن أباكم كان رامياً ارموا وأنا مع ابن الأدرع" فكف القوم أيديهم وقسيهم وقال غلب يا رسول الله من كنت معه قال: "ارموا وأنا معكم جميعاً" فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب إليه لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة هي الرمي قالها ثلاثاً2" وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 8. النسائي في كتاب الخيل باب 14، 16. 2 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 167. أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده "4/157".

من أن تركبوا1" و "ليس من اللهو إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله وتأديبه فرسه رميه بقوسه2" و "من علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها وإن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاث الجنة: صانعه المحتسب في الخير والرامي ومنبله3". فصل: ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سأل عثمان رضي الله عنه أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه والرهن لا يكون إلا على عوض ولأن في بذل العوض فيه تحريضاً على التعلم والاستعداد للجهاد. فصل: ويجوز أن يكون العوض منهما ويجوز أن يكون من أحدهما ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال ويجوز أن يكون من رجل من الرعية لأنه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله ولا يجوز إلا على عوض معلوم إما معيناً أو موصوفاً في الذمة لأنه عقد معاوضة فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع ويجوز على عوض حال ومؤجل لأنه عوض يجوز أن يكون عيناً وديناً فجاز أن يكون حالاً ومؤجلاً كالثمن في البيع. فصل: فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من الرعية فهو كالجعالة وإن كان منهما ففيه قولان: أحدهما أنه يلزم كالإجارة وهو الصحيح لأنه عقد من شرط صحته أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازماً كالإجارة والثاني أنه لا يلزم كالجعالة لأنه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به فلم يلزم كالجعالة فإن قلنا إنه كالإجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم الإجارة وحكمهما في خيار

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. النسائي في كتاب الخيل باب 8. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. 2 رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 11. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده "4/144، 148". 3 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. الترمذي في كتاب الجهاد باب 11 النسائي في كتاب الجهاد باب 26. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده "4/144، 146، 148".

المجلس وخيار الشرط حكم الإجارة ولا يجوز لواحد منهما فسخه بعد تمامه ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه كما لا يجوز ذلك في الإجارة وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكماً في الرهن والضمان حكم الجعالة وقد مضى ذلك في كتاب الرهن والضمان فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد وينقص لأنه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه وإن كانا غير متكافئين نظرت فإن كان الذي له الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة جاز لأنه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه فملك الفسخ والزيادة فيه وإن كان الذي عليه الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان: أحدهما له ذلك لأنه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه والثاني ليس له لأنا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحداً لأنه متى لاح له أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود. فصل: وتجوز المسابقة على الخيل والإبل بعوض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر1" ولأن الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والإبل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض واختلف قوله في البغل والحمار فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض لحديث أبي هريرة ولأنه ذو حافر أهلي فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل والثاني لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر فأشبه البقر واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض فمنهم من قال لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر ومنهم من قال تجوز لحديث أبي هريرة ولأنه ذو خف يقاتل عليه فأشبه الإبل واختلفوا في المسابقة على الحمام فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأنه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة عليه بعوض ومنهم من قال تجوز لأنه يستعان به على الحرب في حمل الأخبار فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات فمنهم من قال تجوز وهو قول أبي العباس لأنها في قتال

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 60. النرمذي في كتاب الجهاد باب 22. النسائي في كتاب الخيل باب 14. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 44.

الماء كالخيل في قتال الأرض ومنهم من قال لا تجوز لأن سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها واختلفوا في المسابقة على الإقدام بعوض فمنهم من قال تجوز لأن الإقدام في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان ومنهم من قال لا تجوز وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأن المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد والمشي بالأقدام لا يحتاج إلى التعلم واختلفوا في السراع فمنهم من قال يجوز بعوض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة على شاء فصرعه ثم عاد فصرعه فأسلم ورد عليه الغنم ومنهم من قال لا يجوز وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأنه ليس من آلات القتال وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم ولأنه لما أسلم رد عليه ما أخذه منه. فصل: وتجوز المسابقة بعوض على الرمي بالنشاب والنبل وكل ما له نصل يرمي به كالحراب والرانات لحديث أبي هريرة ولأنه لا يحتاج إلى تعلمه في الحر فجاز أخذ العوض عليه ويجوز على رمي الأحجار عن المقلاع لأنه سلاح يرمي به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان: أحدهما تجوز المسابقة عليها بعوض لأنه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب والثاني لا يجوز لأن القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب والمسابقة بهذه الآلات محاربة لا مسابقة فلم تجز كالسبق على أن يرمي بعضهم بعضاً بالسهم. فصل: وأما كرة الصولجان ومداحاة الأحجار ورفعها من الأرض والمشابكة والسباحة واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من اللعب الذي لا يستعان به على الحرب فلا تجوز المسابقة عليها بعوض لأنه لا يعد للحرب فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل. فصل: وإن كانت المسابقة على مركوبين فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال لا تجوز إلا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين فإن سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لأن تفاضل الجنسين معلوم ولأنه لا يجري البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر:

إن المذرع لا تغنى خؤلته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين لأن العتيق في أول شوطه أحد وفي آخره ألين والهجين في أول شوطه أليه وفي آخره أحد فربما صارا عند الغاية متكافئين ومنهم من قال وهو قول أبي إسحاق إنه يعتبر التكافؤ بالتقارب في السبق فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز لأنه يجوز أن يكون لكل واحد منهما سابقاً والآخر مسبوقاً وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي والنجيب لم يجز لأنه يعلم أن أحدهما لا يجري في شوط الآخر قال الشاعر: إن البراذين إذا أجريتها ... مع العتاق ساعة أعنيتها فلا معنى للعقد عليه. فصل: ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لأن القصد معرفة جوهرهما ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين فصل: ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الإبتداء والإنتهاء لحديث ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ولأنهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم يؤمن أن يسبق أحدهما الآخر إلى أن يعطبا ولا يجوز أن يكون إجراؤه إلا بتدبير الراكب لأنهما إذا جريا لأنفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية وإن تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له فقد قال أبو علي الطبري في الإفصاح يجوز ذلك عندي لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه وينفرد أحدهما بالقدر الذي شرطه فجاز كما يجوز في الرمي أن يتناضلا على أن يتحاطا ما تساويا فيه ويفضل لأحدهما عدد قال أبو علي الطبري: ورأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجهاً.

فصل: وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل إلا أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم فإن جعله للسابق بأن قال من سبق منكم فله عشرة جاز لأن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ السبق فيحصل المقصود فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لأنه سبق وإن سبق اثنان أو ثلاثة وجاؤوا مكاناً واحداً اشتركوا في العشرة لأنهم اشتركوا في السبق فإن جاؤوا كلهم مكاناً واحداً لم يستحق واحد منهم لأنه لم يسبق منهم أحد وإن جعله بعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل الباقي جاز لأن كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلي ليأخذ السبق فيحصل المقصود وإن جعله لجميعهم نظرت فإن سوى بينهم بأن قال من جاء منكم إلى الغاية فله عشرة لم يصح لأن القصد من بذل العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم الفروسية فإذا سوى بين الجميع علم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني خمسون وللتالي وهو الثالث أربعون وللبارع وهو الرابع ثلاثون وللمرتاح وهو الخامس عشرون وللحظى وهو السادس خمسة عشر وللعاطف وهو السابع عشرة وللمرمل وهو الثامن ثمانية وللطيم وهو التاسع خمسة وللسكيت وهو العاشر درهم وللفكسل وهو الذي يجيء بعد الكل نصف درهم ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الأكثر والثاني لا يجوز لأن كل واحد منهم يعلم أنه لا يخلوا من شيء تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فإن جعل للأول عشرة وللثالث خمسة وللرابع أربعة ولم يجعل للثاني شيئاً ففيه وجهان: أحدهما يصح ويقوم الثالث مقام الثاني والرابع مقام الثالث لأن الثاني بخروجه من السبق يجعل كأن لم يكن والثاني أنه يبطل لأنه فضل الثالث والرابع على من سبقهما. فصل: فإن كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت فإن كان معهما محلل وهو الثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد وإن لم يكن معهما محلل فالعقد باطل لما

روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار1" ولأن مع المحلل لا يكون قماراً لأن فيهم من يأخذ إذا سبق ولا يعطي إذا سبق وهو المحلل ومع عدم المحلل ليس فيهم إلا من يأخذ إذا سبق ويعطي إذا سبق وذلك قمار وإذا كان المحلل اثنان أو أكثر جاز لأن ذلك أبعد من القمار وإن كان المسابقة بين حزبين كان حكمهما في المحلل حكم الرجلين لأن القصد من دخول المحلل الخروج من القمار وذلك يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته واختلف أصحابنا في دخول المحلل فذهب أكثرهم إلى أن دخول المحلل لتحليل السبق لكل من سبق منهم وذهب أبو علي بن خيران إلى أن دخوله لتحليل السبق لنفسه وإن يأخذ إذا سبق ولا يأخذان إذا سبقا لأنا لو قلنا إنهما إذا سبقا أخذاً حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطي مرة وهذا قمار والمذهب الأول لأنا بينا أن بدخول المحلل خرجا من القمار لأن في القمار ليس فيهم إلا من يعطي مرة ويأخذ مرة وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطي فلم يكن قماراً فإن تسابقوا نظرت فإن انتهوا إلى الغاية معاً أحرز كل واحد منهما سبقه لأنه لم يسبقه أحد ولم يكن للمحلل شيء لأنه لم يسبق واحداً منهما وإن سبق المخرجان أحرز كل واحد منهما سبقه لأنهما تساويا في السبق ولا شيء للمحلل لأنه مسبوق وإن سبقهما المحلل أخذ سبقهما لأنه سبقهما وإن سبق أحد المخرجين وتأخر المحلل والمخرج الآخر أحرز السابق سبق نفسه وفي سبق المسبوق وجهان: المذهب أنه للسابق المخرج لأنه انفرد بالسبق وعلى مذهب ابن خيران يكون سبق المسبوق لنفسه لأنه لا يستحقه السابق المخرج على قوله ولا يستحقه المحلل لأنه لم يسبق وإن سبق المحلل وأحد المخرجين أحرز السابق سبق نفسه وفي سبق المسبوق وجهان: المذهب أنه بين المخرج السابق والمحلل وعلى مذهب ابن خيران يكون سبقه للمحلل. وإن سبق أحد المخرجين ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الآخر ففيه وجهان: المذهب إن سبق المسبوق للمخرج السابق بسبقه وعلى مذهب ابن خيران للمحلل دون السابق وإن سبق

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 44. أحمد في مسنده "2/505".

أحد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني ثم جاء المحلل ففيه وجهان: المذهب أن سبق المسبوق للسابق وعلى مذهب ابن خيران يكون للمسبوق لأن المخرج السابق لا يستحقه والمحلل له يسبق فبقي على ملك صاحبه. فصل: وإن كان المخرج للسبق أحدهما جاز من غير محلل لأن فيهم من يأخذ ولا يعطي وهو الذي لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما المحلل فإن تسابقا فسبق المخرج أحرز السبق وإن سبق الآخر أخذ سبقه وإن جاءا معاً أحرز المخرج السبق لأنه لم يسبقه الآخر. فصل: ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن أو خلاس عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس" فخرج علي كرم الله وجهه فدعا بسراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثاً هل مصلح للجام أو حام لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثاً ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه جعل بينهما لأنه أعدل وأقطع للتنافر وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لأنها مزية لأحدهما على الآخر ولا يجلب وراءه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا" قال مالك الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشن ليستحث به السبق. فصل: وأما ما يسبق به فينظر فيه فإن شرط في السبق أقداماً معلومة لم يستحق

السبق بما دونها لأنه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت إن تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكتد فإن سبق أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق وإن اختلفا في العنق اعتبر السبق بالكتد لأنه لا يختلف وإن سبق أطولهما عنقاً بقدر زيادة الخلقة لم يحكم له بالسبق لأنه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجري. فصل: وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأر ض أو وقف لعلة أصابته فسبقه الآخر لم يحكم للسابق بالسبق لأنه لم يسبق بجودة الجري ولا تأخر المسبوق لسوء جريه. فصل: وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد لأنه العقد تعلق بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا هلك قبل القبض وإن مات الراكب فإن قلنا إنه كالجعالة بطل العقد بموته وإن قلنا إنه كالإجارة لم يبطل وقام الوارث فيه مقامه. فصل: وإن كان العقد على الرمي لم يجز بأقل من نفسين لأن المقصود معرفة الحذق ولم يبين ذلك بأقل من اثنين فإن قال رجل لآخر ارم عشراً وناضل فيها خطأك بصوابك فإن كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز لأنه بذل العوض على أن يناضل نفسه وقد بينا أن ذلك لا يجوز وإن قال ارم عشراً فإن كان صوابك أكثر فلك دينار ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه فجاز والثاني لا يجوز لأنه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب والخطأ لا يستحق به بدل فصل: ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج العوض منهما أو من غيرهما وفي دخول المحلل بينهما. فصل: ولا يصح حتى يتعين المتراميان لأن المقصود معرفة حذفهما ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين فإن كان أحدهما كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما كالآخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل والثاني لا يجوز لأن أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمي والحذق فيه. فصل: ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فإن عقد على جنسين بأن يرمي أحدهما بالنشاب والآخر بالحراب لم يجز لأنه لا يعلم فضل أحدهما على الآخر في واحد من

الجنسين وإن عقد على نوعين من جنس بأن يرمي أحدهما بالنبل والآخر بالنشاب أو يرمي أحدهما على قوس عربي والآخر على قوس فارسي جاز لأن النوعين من جنس واحد يتقاربان فيعرف به حذقهما فإن أطلق العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه وإن لم يكن فيه عرف لم يصح حتى يبين لأن الأغراض تختلف باختلاف النوعين فوجب بيانه وإن عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الإجابة إليه لأن الأغراض تختلف باختلاف الأنواع فإن من الناس من يرمي بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الآخر وإن عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من نوعها جاز لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان فإن شرط على أنه لا يبدل فهو على الأوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهراً ليركبه على أنه لا يركبه مثله وقد بيناها في كتاب الإجارة. فصل: ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذي يرمي به لأنه إذا لم يعرف منتهى العدد لم يبن الفضل ولم يظهر السبق. فصل: ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم لأنه لا يبين الفضل إلا بذلك فإن شرط إصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شارط إصابة ثمانية من عشرة والثاني لا يصح لأن إصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد. فصل: ولا يجوز إلا أن يكون مدى الغرض معلوماً لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد فوجب العلم به فإن كان في الموضع غرض معلوم المدى فأطلق العقد جاز وحمل عليه كما يجوز أن يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد وإن لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين فإن أطلق العقد بطل كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه ويجوز أن يكون مدى الغرض قدراً يصيب مثلهما في مثله في العادة ولا يجوز أن يكون قدراً لا يصيب مثلهما في مثله وفيما يصيب مثلهما في مثله نادراً وجهان: أحدهما يجوز لأنه قد يصيب مثلهما في مثله فإذا عقدا عليه بعثهما العقد على الاجتهاد في الإصابة والثاني لا يجوز لأن إصابتهما في مثله تندر فلا يحصل

المقصود وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعاً وما لا يصاب بما زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعاً وفيما بينهما وجهان: فإن تراميا على غير غرض على أن يكون السبق لأبعدهما رمياً ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يمتحن به قوة الساعد ويستعان به على قتال من بعد من العدو والثاني لا يجوز لأن الذي يقصد بالرمي هو الإصابة فأما الأبعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ العوض عليه. فصل: ويجب أن يكون الغرض معلوماً في نفسه فيعلم طوله وعرضه وقدر انخفاضه وارتفاعه من الأرض لأن الإصابة تختلف باختلافه فإن كان العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد وإن لم يكن فيه غرض وجب بيانه والمستحب أن يكون الرمي بين غرضين لما روى عبد الدائم بن دينار قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة وعن عقبة بن عامر أنه كان يرمي بين غرضين بينهما أربعمائة وعن ابن عمر أنه كان يختفي بين الغرضين وعن أنس أنه كان يرمي بين الهدفين ولأن ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب. فصل: ويجب أن يكون موضع الإصابة معلوماً وأن الرمي إلى الهدف وهو التراب الذي يجمع أو الحائط الذي يبني أو إلى الغرض وهو الذي ينصب في الهدف أو الشن الذي في الغرض أو الدارة التي في الشن أو الخاتم الذي في الدارة لأن الغرض يختلف باختلافها فإن أطلق العقد حمل على الغرض لأن العرف في الرمي إصابة الغرض فحمل العقد عليه ويجب أن تكون صفة الرمي معلومة من القرع وهو إصابة الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو الخسق وهو الذي يثقبه ويثبت فيه أو المرق وهو الذي ينفذ منه أو الخرم وهو أن يقع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجاً منه لأن الخزق لا يبين إلا بذلك فإن أطلق العقد حمل على القرع لأنه هو المتعارف فحمل مطلق العقد عليه فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين جاز لأنهما يتساويان فيه وإن أصاب أحدهما تسعة قرعاً وأصاب الآخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لأنه استكمل العشرة بالخواسق. فصل: واختلف أصحابنا في بيان حكم الإصابة إنه مبادرة أو محاطة أو حوابي فمنهم من قال يجب بيانه فإن أطلق العقد لم يصح لأن حكمها يختلف وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه ومنهم من قال يصح ويحمل على المبادرة لأن المتعارف في الرمي وهو المبادرة واختلفوا في بيان من يبتدئ بالرمي فمنهم من قال يجب فإن أطلق

العقد بطل وهو المنصوص لأن ذلك موضوع على نشاط القلب وقوة النفس ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الآخر وساء رميه فلا يحصل مقصود العقد ومنهم من قال يصح لأن ذلك من توابع العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة فإذا قلنا إنه يصح في البادئ وجهان: أحدهما إن كان السبق من أحدهما قدم لأن له مزية بالسبق وإن كان السبق منهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لحدهما على الآخر والثاني لا يبدأ أحدهما بالقرعة لأن أمر المسابقة موضوع على أن لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق فإن كان الرمي بين غرضين فبدأ أحدهما من أحد الغرضين بدأ الآخر من الغرض الآخر لأنه أعدل وأسهل فإن كانت البداية لأحدهما فبدأ الآخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ لأنه رمي بغير عقد فلم يعتد به وإن اختلفا في موضع الوقوف كان الأمر إلى من له البداية لأنه لما ثبت له السبق ثبتت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا وإن طلب أحدهما استقبال الشمس والآخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لأنه أوفق بالرمي. فصل: ويجوز أن يرميا سهماً وخمساً خمساً وأن يرمي كل واحد منهما جميع الرشق فإن شرطا شيئاً من ذلك حملا عليه وإن أطلق العقد تراسلا سهماً سهماً لأن العرف على ما ذكرناه وإن رمى أحدهما أكثر مما لم يحسب له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ لأنه رمى من غير عقد فلم يعتد به. فصل: ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الإصابة ولا في صفة الإصابة ولا في محل الإصابة ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقاً ولا أن يكون في يد أحدهما السهام أكثر مما في يد الآخر في حال الرمي ولا أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه لأن القصد أن يعرف حذقهما وذلك لا يعرف مع الاختلاف لأنه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمي فإن شرط شيئاً من ذلك بطل العقد لأنه في أحد القولين كالإجارة وفي الثاني كالجعالة والجميع يبطل بالشرط الفاسد وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما لا تجب وهو قول أبي إسحاق لأنه لا يحصل للمسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته والثاني تجب وهو الصحيح لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب عوض المثل في فاسده كالبيع والإجارة. فصل: وإن شرط على السابق أن يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط لأنه شرط

ينافي مقتضى العقد فبطل وهو يبطل العقد المنصوص أنه يبطل لأنه تمليك مال شرط فيه شرط يمنع كمال التصرف فإذا بطل الشرط بطل العقد كما لو باعه سلعة بألف على أن يتصدق بها وقال أبو إسحاق: يحتمل قولاً آخر لا يبطل كما قال فيمن أصدق امرأته ألفين على أن تعطي أباها ألفاً أن الشرط باطل ويصح الصداق فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق وهل يرجع السابق بأجرة المثل على الوجهين. فصل: وإذا تناضلا لم يخل إما أن يكون الرمي مبادرة أو محاطة أو حوابي فإن كان مبادرة وهو أن يعقد على إصابة عدد من الرشق وأن من بدر منهما إلى ذلك مع تساويهما في الرمي كان ناضلاً فإن كان العقد على إصابة عشرة من ثلاثين نظرت فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين وأصاب الآخر تسعة من عشرين فالأول ناضل لأنه بادر إلى عدد الإصابة وإن أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمي الباقي لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها وإن أصاب الأول تسعة من عشرين وأصاب الآخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله لأنه لم يستوف واحد منهما عدد الإصابة فيرميان فإن رمى الأول سهماً وأصاب فقد فلج وسقط رمي الباقي وإن رمى الأول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فأصاب في جميعها فإن الناضل هو الثاني ويسقط رمي ما بقي من الرشق لأن الأول أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين وإن أصاب الأول تسعة من تسعة عشر وأصاب الآخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهماً فأصاب فقد نضل ولا يرمي الثاني ما بقي من رشقه لأنه لا يستفيد به نضلاً ولا مساواة لأن الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين فإن أصاب كل واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمي لأنه ربما يصيب فيساويه. فصل: وإن كان الرمي محاطة وهو أن يعقدا على إصابة عدد من الرشق وأن يتحاطا ما استويا فيه من عدد الإصابة ويفضل لأحدهما عدد الإصابة فيكون ناضلاً نظرت فإن كان العقد على إصابة خمسة من عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الآخر لأنه لم يفضل له عدد من الإصابة فيرميان ما تبقى من الرشق لأنه يرجو كل واحد منهما أن ينضل فإن فضل لأحدهما بعد تساويهما في الرمي وإسقاط ما استويا فيه عدد الإصابة لم يخل إما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده فإن كان بعد

إكمال الرشق بأن رمى أحدهما عشرين وأصابها ورمى الآخر فأصاب خمسة عشر فالأول هو الناضل لأنه يفضل له بعد المحاطة فيما استويا فيه عدد الإصابة وإن كان قبل كمال الرشق وطالب صاحب الأقل صاحب الأكثر برمي باقي الرشق نظرت فإن لم يكن له فائدة مثل أن يرمي الأول خمسة عشر وأصابها ورمى الثاني خمسة عشر فأصاب خمسة لم يكن له مطالبته لأن أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقي له وهو خمسة ويبقى للأول خمسة فينضله بها وإن كان له فيه فائدة بأن يرجو أن ينضل بأن يرمي أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمي الآخر عشرة فيصيب واحداً ثم يرمي صاحب الستة فيخطئ فيما بقي له من الرشق ويرمي صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقي له فينضله بخمسة أو يساويه بأن يرمي أحدهما خمسة عشر فيصيب منها عشرة ويرمي الآخر خمسة عشر فيصيب منها خمسة ثم يرمي صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمي صاحب الخمسة فيصيب فيساويه أو يقلل إصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر ويصيب الآخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمي صاحب الأحد عشر ما بقي له من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمي صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له سبعة ويبقى لصاحبه أربعة فهو لأقلهما إصابة مطالبة الآخر بإكمال الرشق فيه وجهان: أحدهما ليس له مطالبته لأنه بدر إلى الإصابة مع تساويهما في الرمي بعد المحاطة فحكم له بالسبق والثاني له مطالبته لأن مقتضى المحاطة إسقاط ما استويا فيه من الرشق وقد بقي من الرشق بعضه. فصل: وإن كان على العقد على جرابي وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الآخر فمن فضل له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق فإن رمى أحدهما فأصاب من الهدف موضعاً بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له فإن رمى الآخر فأصاب موضعاً بينه وبين الغرض قدر إصبع حسب له وأسقط ما رماه الأول فإن عاد الأول رمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه وإن أصاب أحدهما الشن وأصاب الآخر العظم الذي في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله من الرماة من قال إنه تسقط الإصابة من العظم ما كان أبعد منه قال الشافعي رحمه الله: وعندي أهما سواء لأن الغرض كله موضع الإصابة فإن استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذي اشترطاه فقد تكافآ وإن فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ بالسبق وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا قال: والقياس أن يتقايسا لأن أحدهما أقرب إلى الغرض من الآخر فأسقط الأقرب الأبعد كما لو أصاب أسفل الغرض أو جنبه.

فصل: وإن كان النضال بين حزبين جاز وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز لأنه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره والمذهب الأول لما رويناه في أول الكتاب من حديث سلمة بن الأكوع وينصب كل واحد من الحزبين زعيماً يتوكل لهم في العقد ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحداً كما لا يجوز أن يكون وكيل المشتري والبائع واحداً ولا يجوز إلا على حزبين متساويي العدد لأن القصد معرفة الحذق فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الآخر بكثرة العدد لا بالحذق وجودة الرمي ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه قرعة أحدهما كان معه لم يجز لأنه ربما أخرجت القرعة الحذاق لأحد الحزبين والضعفاء للحزب الآخر فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز لأنه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم فإن كان عدد كل حزب ثلاثة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين وإن كانوا أربعة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالأربعين والثمانين لأنه إذا لم يفعل ذلك بقي سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه لأنه بطل العقد فيه لأنه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب الآخر بإزائه واحد كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد لأن الصفقة تبعضت عليهم بغير اختيارهم فإن اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلة من الحزب الآخر فسخ العقد لأنه تعذر إمضاؤه على مقتضاه ففسخ ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولاً واحداً لأن من في مقابلته من الحزب الآخر لا يتعين ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة فبطل في الجميع فإن نضل أحد الحزبين الآخر ففي قسمة المال بين الناضلين وجهان: أحدهما يقسم بينهما بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب استحق والثاني تقسم بينهم على قدر إصابتهم لأنهم استحقوا بالإصابة فاختلف باختلاف الإصابة ويخالف ما لزم المنضولين فإن ذلك وجب بالالتزام والاستحقاق بالرمي فاعتبر بقدر الإصابة فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئاً وبالله التوفيق.

باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي

باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذي يشد فيه الشن أو العري وهو السير الذي يشد به الشن على الجريد حسب له لأن ذلك كله من الغرض وإن أصاب العلاقة ففيه قولان: أحدهما يحسب له لأنه من جملة الغرض ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العري والثاني لا يحسب لأن العلاقة ما يعلق به الغرض فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به وإن شرط إصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له لأنه لم يصب الخاصرة وإن شرط إصابة الشن فأصاب العروة وهو السير أو العلاقة لم يحسب لأن ذلك كله غير الشن فإن أصاب سهماً في الغرض فإن كان السهم متعلقاً بنصله وباقيه خارج الغرض لم يحسب له ولا عليه لأن بينه وبين الغرض طول السهم ولا يدري لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لايصيب وإن كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له لأن العقد على إصابة الغرض ومعلوم أنه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض فإن خرج السهم من القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له وإن أصاب الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في الرمي وإنما أصاب بفعل الريح لا بفعله وإن رمى وفي الجو ريح ضعيفة فأرسل السهم مفارقاً للغرض وأمال يده ليصيب مع الريح فأصاب الغرض أو كانت ريح خلفه فنزع نزعاً قريباً ليصيب مع معاونة الريح فأصاب حسب له لأنه أصاب بفراهته وحذقه وإن أخطأ حسب عليه لأنه أخطأ بسوء رميه ولأنه لو أصاب مع الريح لحسب له فإذا أخطأ معها حسب عليه وإن كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب لأنه لم يصب بحسن رميه ولا يحسب عليه إذا أخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بالرمي في غير وقته وإن رمى في غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من القوس فأخطأ لم يحسب عليه لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض الريح وإن أصاب فقد قال بعض أصحابنا فيه وجهان بناء على القولين في إصابة السهم المزدلف وعندي أنه لا يحسب له قولاً واحداً لأن المزدلف إنما أصاب الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم أنه أصاب برميه وإن رمى سهماً فأصاب الغرض بفوقه لم يحسب له لأن ذلك من أسوأ الرمي وأردئه.

فصل: وإن انكسر القوس أو انقطع الوتر أو أصابت يده ريح فرمى وأصاب حسب له لأن إصابته مع اختلاف الآلة أدل على حذقه فإن أخطأ لم يحسب عليه في الخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض وإن أغرق السهم فخرج من الجانب الآخر نظرت فإن أصاب حسب له لأن إصابته مع الإغراق أدل على حذقه فإن أخطأ لم يحسب عليه ومن أصحابنا من قال: يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في مد القوس والمنصوص هو الأول لأن الإغراق ليس من سوء الرمي وإنما هو لمعنى قبل الرمي فهو كانقطاع الوتر وانكسار القوس وإن انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما لم يصب لفساد الآلة لا لسوء الرمي وإن أصاب بما فيه النصل حسب له لأن إصابته مع فساد الآلة دل على حذقه وإن أصابه بالموضع الآخر لم يحسب له لأنه لم يصب ولم يحسب عليه لأن خطأه لفساد الآلة لا لسوء الرمي. فصل: وإن عرض دون الغرض عارض من إنسان أو بهيمة نظرت فإن رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لأنه لم يصل للعارض لا لسوء الرمي وإن نفذ السهم وأصاب حسب له لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه وحكي أن الكسعي كان رامياً فخرج ذات ليلة فرأى ظبياً فرمى فأنفذه وخرج السهم فأصاب حجراً وقدح فيه ناراً فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر القوس وقطع إبهامه فلما أصبح رأى الظبي صريعاً قد نفذ فيه سهمه فندم فضربت به العرب مثلاً وقال الشاعر: ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه وإن رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبو إسحاق أنه يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ بسوء الرمي للعارض لأنه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض فلما جاوزه ولم يصب دل على أنه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ والثاني أنه لا يحسب عليه لأن العارض قد يشوش الرمي فيقصر عن الغرش وقد يجاوزه وإن رمى السهم فأصاب الأرض وازدلف فأصاب الغرض ففيه قولان: أحدهما يحسب لأنه أصاب الغرض بالنزعة التي أرسلها وما

عرض دونها من الأرض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شيء فهتكه وأصاب الغرض والثاني لا يحسب له لأن السهم خرج من الرمي إلى غير الغرض وإنما أعانته الأرض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له وإن ازدلف ولم يصب الغرض ففيه وجهان: أحدهما يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما ازدلف بسوء رميه لأن الحاذق لا يزدلف سهمه والثاني لا يحسب عليه لأن الأرض تشوش السهم وتزيله عن سنته فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه. فصل: وإن كان العقد على إصابة موصوفة نظرت فإن كان على القرع فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لأن الشرط هو الإصابة وقد حصل ذلك في هذه الأنواع. فصل: وإن كان الشرط هو الخسق نظرت فغن أصاب الغرض وثبت فيه ثم سقط حسب له لأن الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك كما لو ثبت ثم نزعه إنسان فإن ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم يثبت ففيه قولان: أحدهما أنه يحسب لأن الخسق أن يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم وقد فعل ذلك ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه والثاني وهو الصحيح أنه لا يحسب له لأن الأصل عدم الخسق وأنه لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له وإن كان الغرض ملصقاً بالهدف فأصابه السهم ولم يثبت فيه فقال الرامي قد خسق إلا أنه لم يثبت فيه لغلظ لقيه من نواة أو حصاة وقال رسيله لم يخسق نظرت فإن لم يعلم موضع الإصابة من الغرض فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق وهل يحلف ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن فيه شيء يمنع من ثبوته لم يحلف لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن علم موضع الإصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل من غير يمين لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن كان فيه ما يمنع الثبوت ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الرامي لأن المانع شهد له والثاني أن القول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن لكان خاسقاً ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق بالشك وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف نظرت فإن كان الموضع الذي ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به لأنا نعلم أنه لو كان الشن صحيحاً لثبت فيه وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين الرطب لم يعتد له ولا عليه لأنا لنعلم لأنه لو كان صحيحاً هل كان يثبت فيه أم لا فيرد إليه

السهم حتى يرميه وإن خرمه وثبت ففيه قولان: أحدهما يعتد به لأن الخسق هو أن يثبت النصل وقد ثبت والثاني لا يعتد به لأن الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن ولم يوجد ذلك فإن مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله هو عندي خاسق ومن الرماة من لا يحتسبه فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولاً واحداً وما حكاه من غيره ليس بقول له لأن معنى الخسق قد وجد وزيادة ولأنه لو مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما يحسب له لما ذكرناه والثاني لا يحسب له لأن الخسق أن يثبت وما ثبت ولأن في الخسق زيادة حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق والتعليل الأول أصح لأن هذا يبطل به إذا مرق والشرط القرع وإن أصاب الشن ومرق وثبت في الهدف ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامي هذا الجلد قطعه سهمي بقوته وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق. فصل: إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد لأن المقصود معرفة حذقه وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع وإن رمدت عينه أو مرض لم يبطل العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر وإن أراد أن يفسخ فإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر وقد بيناه في أول الكتاب وإن قلنا أنه كالإجارة جاز له أن يفسخ لأنه تأخر المعقود عليه فملك الفسخ كما يملك في الإجارة وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمي للدعة فإن قلنا إنه كالإجارة أجبر عليه كما أجبر في الإجارة وإن قلنا إنه كالجعالة لم يجبر كما لم يجبر في الجعالة.

كتاب إحياء الموات

كتاب إحياء الموات مدخل ... كتاب إحياء الموات يستحب إحياء الموات لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر وما أكله العوافي منها فهو له صدقة1" وتملك به الأرض لما روى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" ويجوز ذلك من غير إذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالاصطياد. فصل: وأما الموات الذي جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يملك بالإحياء لما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم بعد" ولأنه إن كان في دار الإسلام فهو كاللقطة التي لا يعرف مالكها وإن كان في دار الحرب فهو كالركاز والثاني لا يملك لأنه إن كان في دار الإسلام فهو لمسلم ولذمي أو لبيت المال فلا يجوز إحياؤه وإن كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يحل ماله ولا يجوز تملكه والثالث أنه إن كان في دار الإسلام لم يملك وإن كان في دار الحرب ملك لأن ما كان في دار الإسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة وما كان في دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس وما يوجد في دار الإسلام يجب تعريفه وإن قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن تملك بالإحياء بل هي غنيمة بين الغانمين لأنهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين فلم تملك بالإحياء والثاني أنه يجوز أن تملك بالإحياء لأنهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز أن تملك بالإحياء كسائر الموات. فصل: وما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار والطريق

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحرث باب 15. أبو داود في كتاب الإمارة باب 37. الترمذي في كتاب الأحكام باب 38. الموطأ في كتاب 26، 27. أحمد في مسنده "3/303،304".

ومسيل الماء لا يجوز إحياؤه لأنه تابع للعامر فلا يملك بالإحياء ولأنا لو جوزنا إحياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأن الشرع قد ورد بإحياء الموات وهذا من جملة العامر لنا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطرقهم وهذا لا يجوز. فصل: ويجوز إحياء كل من يملك المال لأنه فعل يملك به فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالإحياء في دار الإسلام ولا للإمام أن يؤذن له في ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني" فجمع الموتان وجعلها للمسلمين فانتفى أن يكون لغيرهم ولأن موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين فكان الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه ولا يجوز للمسلم أن يحيي الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه لأن الموات تابع للبلد فإن لم يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته. فصل: والإحياء الذي يملك به أن يعمر الأرض لما يريده ويرجع في ذلك إلى العرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين فحمل على المتعارف فإن كان يريده للسكنى فأن يبني سور الدار من اللبن والآجر والطين والجص إن كانت عادتهم ذلك أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك ويسقف وينصب عليه الباب لأنه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك فإن أراد مراحاً للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب لأنه لا يصير مراحاً وحظيرة بما دون ذلك وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق الماء إليها من نهر أو بئر فإن كانت الأرض من البطائح فأن يحبس

عنها الماء لأن إحياء البطائح أن يحبس عناه الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه ويحرثها وهو أن يصلح ترابها وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الأم وهو قول أبي إسحاق لأن الإحياء قد تم وما بقي إلا الزراعة ذلك انتفاع بالمحيا فلم يشترط كسكنى الدار والثاني وهو ظاهر وما نقله المزني أنه لا يملك إلا بالزراعة لأنها من تمام العمارة ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة وإنما هو كالحصاد في الزرع والثالث وهو قول أبي العباس أنه لايتم إلا بالزراعة والسقي لأن العمارة لا تكمل إلا بذلك وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء لأنه لا يحصل البئر إلا بذلك فإن كانت الأرض صلبة تم الإحياء وإن كانت رخوة لم يتم الإحياء حتى تطوق البئر لأنها لا تكمل إلا به. فصل: وإذا أحيا الأرض ملك الأرض وما فيها من المعادن كالبلور والفيروزج والحديد والرصاص لأنها من أجزاء الأرض فملك بملكها وبملك ما يتبع فيها من الماء والقار وغير ذلك وقال أبو إسحاق لا يملك الماء وما ينبع فيها وقد بينا ذلك في البيوع ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلأ وقال أبو القاسم الصيمري لا يملك الكلأ لما روي أن أبيض بن حمال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حمى الأراك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى في الأراك1" ولأنه لو فرخ في الأرض طائر لم يملك فكذلك إذا نبت فيه الكلأ وقال أكثر أصحابنا يملك لأنه نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم. فصل: ويملك بالإحياء ما يحتاج إليه من المرافق كفناء الدار والطريق ومسيل الماء وحريم البئر وهو بقدر ما يقف فيه المستقي إن كانت البئر للشرب وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج منه من التقن ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع والدليل عليه ماروى عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً حولها عطن لماشيته" وروى ابن شهاب

_ 1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 68.

عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب العادية خمسون ذراعاً وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعاً وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع فإن أحيا أرضاً إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو مقصرة لم يكن للآخر معه من ذلك لنه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه وإن ألصق حائطه بحائطه منع من ذلك وإن طرح في أصل حائط سرجيناً منع منه لنه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه فإن حفر حشاً في أصل حائطه لم يمنع منه لأنه تصرف في ملكه ومن أصحابنا من قال: يمنع لأنه يضر بالحاجز الذي بينهما في الأرض وإن ملك بئراً بالإحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئراً فنقص ماء الأول لم يمنع منه لأنه تصرف في موات لا حق لغيره فيه. فصل: وإن تحجر رجل مواتاً وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار أحق به من غيره قوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به لأنه آثره صاحب الحق به وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه لأنه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يصح لأنه صار به فملك بيعه والثاني أنه لا يصح وهو المذهب لأنه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ وإن بادر غيره إلى إحيائه نظرت فإن كان ذلك قبل أن تطول المدة ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن يد المتحجر أسبق والثاني يملك لأن الإحياء يملك به والتحجر لا يملك به فقدم ما يملك به على ما لا يملك به وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره وإن سأل أن يمهل أمهل مدة قريبة فإن انقضت المدة ولم يحي فبادر غيره فأحيا ملك لأنه لا حق له بعد انقضاء المدة. فصل: ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" فإن أطال المقام ففيه وجهان: أحدهما لا يمنع

لأنه سبق إليه والثاني يمنع لأنه يصير كالمتحجر فإن سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا فإن كانا يأخذان للتجارة هايأ الإمام بينهما فإن تشاحا في السبق أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فقدم بالقرعة وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر والثاني يقسم بينهما لأنه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه والثالث يقدم الإمام أحدهما لأن للإمام نظراً في ذلك فقدم من رأى تقديمه وإن كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالإحياء لأنه يوصل إليه بالعمل والمؤنة فملك بالإحياء كالموات. فصل: وإن سبق إلى معدن باطن وهو الذي لا يوصل إليه إلا بالعمل والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به1" وهل يملك المعدن فيه قولان: أحدهما يملكه لأنه موات لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل والإنفاق فملكه بالإحياء كموات الأرض والثاني لا يملك وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموت على الإحياء وهو العمارة والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به ولأنه يحتاج في كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه إلا ما أخذ ويخالف موات الأرض لأنه إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به فإن قلنا إنه يملك بالإحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه فإن تباعد إنسان عن حريمه وحفر معدناً فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه لأنه إحياء في موات لاحق فيه لغيره فإن حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات الأرض فإن قلنا لا يملك كان كالمعدن الظاهر في إزالة يده إذا طال مقامه وفي القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الإمام تقديمه. فصل: ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب الواسعة بالقعود للبيع

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب 36.

والشراء لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع منه كالاجتياز فإن سبق إليه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "مني مناخ من سبق" وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وإن أراد أن يبني دكة منع لأنه يضيق به الطريق ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز وإن قام وترك المتاع لم يجز لغيره أن يقعد فيه لأن يد الأول لم تزل وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه لأنه زالت يده وإن قعد وأطال ففيه وجهان: أحدهما يمنع لأنه يصير كالمتملك وتملكه لا يجوز والثاني يجوز لأنه قد ثبت له اليد بالسبق إليه وإن سبق إليه اثنان ففيه وجهان: أحدهما يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر والثاني يقدم الإمام أحدهما لأن للأمام النظر والاجتهاد ولا تجيء القسمة لأنها لا تملك فلم تقسم.

باب الإقطاع والحمى

باب الإقطاع والحمى يجوز للأمام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالإحياء لما روى علقمة بن وائل عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسل معه معاوياً أن أعطه إياها أو قال أعطها إياه وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه فقال: أعطوه من حيث وقع السوط وروي أن أبو بكر أقطع الزبير وأقطع عمر علياً وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وسعداً وابن مسعود وخباباً وأسامة بن زيد رضي الله عنهم ومن أقطعه الإمام شيئاً من ذلك صار أحق به ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه لأن بإقطاع الإمام صار أحق به كالمتحجر فكان حكمه حكم المتحجر ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه لأنه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة. فصل: وأما المعادن فإن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز إقطاعها لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب

فأقطعه إياه ثم إن الأقرع بن حابس قال يا رسول الله إني قد وردت الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن ورده أخذه وهو مثل الماء العد بأرض فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو منك صدقة" وهو مثل الماء العد ومن ورده أخذه وإن كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا إنها تملك بالإحياء جاز قطاعه لأنه موات يجوز أن يملك بالإحياء فجاز قطاعه كموات الأرض وإن قلنا لا تملك بالإحياء فهل يجوز إقطاعه فيه قولان: أحدهما يجوز إقطاعه لأنه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز إقطاعه كموات الأرض والثاني لا يجوز لأنه معدن لا يملك بالإحياء فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرنا في إقطاع الموات. فصل: ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الأسواق للارتفاق فمن أقطع شيئاً من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أولم ينقل لأن للإمام النظر والاجتهاد فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه. فصل: ولا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع الإحياء ورعى ما فيه من الكلأ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حمى إلا لله ولرسوله" فأما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه وللمسلمين فإما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى المسلمين والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين وأما غيره من الأئمة فلا يجوز أن يحمي لنفسه للخبر وهل يجوز أن يحمي لخيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان أحدهما: لا يجوز للخبر والثاني يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه وجعل ينفخ ويفتح شاربه وكان إذا كره أمراً فتل شاربه ونفخ فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر المال مال الله والعباد عباد الله فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في

كل عام أربعين ألفاً من الظهر وقال مرة من الخيل وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنياً على الحمى وقال له يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة وإياك ونعم ابن عوف وإياك ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك إن الماء والكلأ أيسر عندي من الذهب والورق والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها وإن زالت الحاجة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه زال السبب والثاني لا يجوز لأن ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم نص فلا يجوز نقضه بالاجتهاد وإن حماه إمام غيره وقلنا إنه يصح حماه فأحياه رجل ففيه قولان: أحدهما لا يملكه كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني يملك لأن حمى الإمام اجتهاد وملك الأرض بالإحياء نص والنص لا ينقض بالاجتهاد.

باب حكم المياه

باب حكم المياه الماء اثنان: مباح وغير مباح فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة فصاحب الأرض أحق به من غيره لأنه على المنصوص يملكه وعلى قول أبي إسحاق لا يملكه إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه فكان أحق به وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية لكلأ لزمه بدله من غير عوض وقال أبو عبيد بن حرب لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلأ للماشية ولا بذل الدلو والحبل ليستقي به الماء للماشية والمذهب الأول لما روى إياس بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته1" ويخالف الكلأ فإنه لا يستخلف عقيب أخذه وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف فيستضر والضرر لا يزال بالضرر ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع لأن الزرع لا حرمة له في نفسه والماشية لها حرمة في نفسها ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه ولو كانت الماشية لزمه سقيها وإن لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على من منع الفضل ولأن ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله والضرر لا يزال بالضرر. فصل: وأما المباح فهو الماء الذي ينبع في الموات فهو مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ2" فمن سبق منهم إلى شيء منه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق3" فإن أراد أن يسقي منه أرضاً فإن كان نهراً عظيماً كالنيل والفرات وما أشبههما من الأودية العظيمة جاز أن يسقي منه ما شاء ومتى شاء لأنه لا ضرر فيه على أحد وإن كان نهراً صغيراً لا يمكن سقي الأرض منه إلا أن يحبسه فإن كانت الأرض متساوية بدأ من في أول النهر فيحبس الماء حتى يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب ثم يرسله إلى من يليه وعلى هذا إلى أن تنتهي الأراضي لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب نهر من سيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل ويجعل الماء فيه إلى الكعب ثم يرسله إلى الأسفل الذي يليه كذلك حتى تنتهي الأرضون وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلاً من الأنصار تنازعا في شراج الحرة التي يسقى بها النخل، فقال الأنصاري

_ 1 رواه أحمد في مسنده "2/179،183،221". 2 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب الرهون باب 16. أحمد في مسنده "5/364". 3 رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب 36.

للزبير سرح الماء فأبى الزبير فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجدر" وإن كانت الأرض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الأرض العالية إلى الكعب حتى يقف في الأرض المستفلة إلى الوسط فيسقي المستفلة حتى يبلغ الماء إلى الكعب ثم يسدها ويسقي العالية حتى يبلغ الكعب فإن أحيا جماعة أرضاً على هذا النهر وسقوا منه ثم جاء رجل فأحيا أرضاً في أعلاه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر منع من ذلك لأن من ملك أرضاً ملكها بمرافقها والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه. فصل: وإن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها فإن دخلوا على أن يتساووا وتساووا في الإنفاق وإن دخلوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في الإنفاق ويكون الماء بينهم على قدر النفقة لأنهم استفادوا ذلك بالإنفاق فكان حقهم على قدره فإن أرادوا سقي أراضيهم بالمهأياة يوماً يوماً جاز وإن أرادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الأراضي وتفتح فيها كوى على قدر حقوقهم فتخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك لأن حريم النهر مشترك بينهم فلا يجوز لواحد منهم أن يحفر فيه فإن أراد أن ينصب رحاً قبل المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك لأنه يتصرف في حريم مشترك فإن أراد أن يأخذ الماء ويسقي به أرضاً أخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر منع منه لأنه يجعل لنفسه شرباً لم يكن له كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان في دربين أن يفتح من أحدهما باباً إلى الأخرى فيجعل لنفسه طريقاً لم يكن له والله أعلم.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة إذا وجد الحر الرشيد لقطة يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر والثياب فإن كان ذلك في غير الحرم جاز التقاطه للتملك لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال ما كان منها في طريق مئتاء فعرفها حولاً فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك وما كان منها في خراب ففيها وفي الركاز الخمس وله أن يلتقطها للحفظ على صاحبها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" وإن كانت في الحرم لم يجز أن يأخذها إلا للحفظ على صاحبها ومن أصحابنا من قال يجوز التقاطها للتملك لأنها أرض مباحة فجاز أخذ لقطتها للتملك كغير الحرم والمذهب الأول لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام إلى يوم القيامة لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف1" ويلزمه المقام للتعريف وإن لم يمكنه المقام دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح. فصل: وهل يجب أخذها؟ روى المزني أنه قال لا أحب تركها وقال في الأم لا يجوز تركها فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجب لأنها أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة والثاني يجب لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه" ولو خاف على نفسه لوجب حفظها فكذلك إذا خاف على ماله وقال أبو

_ 1 رواه البخاري في كتاب العلم باب 19. أبو داود في كتاب المناسك باب 120. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 103. الدارمي في كتاب البيوع باب 60. أحمد في مسنده "1/253".

العباس وأبو إسحاق وغيرهما: إن كانت في موضع لا يخاف عليها لأمانة أهله لم يجب عليه لأن غيره يقوم مقامه في حفظها وإن كان في موضع يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب لأن غيره لا يقوم مقامه فتعين عليه وحمل القولين على هذين الحالين فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن لأن المال إنما يضمن باليد أو بالإتلاف ولم يوجد شيء من ذلك ولهذا لا يضمن الوديعة إذا ترك أخذها فكذلك اللقطة. فصل: وإن أخذها اثنان كانت بينهما كما لو أخذا صيداً كان بينهما فإن أخذها واحداً وضاعت منه ووجدها غيره وجب عليه ردها إلى الأول لأنه سبق إليها فقدم كما لو سبق إلى موات فتحجره. فصل: وإذا أخذها عرف عفاصها - وهو الوعاء الذي تكون فيه - ووكاءها - وهو الذي تشد به - وجنسها وقدرها لما روى زيد بن خلد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: "أعرف عفاصها ووكاؤها وعرفها سنة فإن جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك1" فنص على العفاص والوكاء وقسنا عليهما الجنس والقدر ولأنه إذا عرف هذه الأشياء لم تختلط بماله وتعرف به صدق من يدعيها وهل يلزمه أن يشهد عليها وعلى اللقيط؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجب لأنه دخول في أمانة فلم يجب الإشهاد عليه كقبول الوديعة والثاني يجب لما روى عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من التقط لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب2" ولأنه إذا لم يشهد لم يؤمن أن يموت فتضيع اللقطة أو يسترق اللقيط والثالث أنه لا يجب على اللقطة لأنه اكتساب مال فلم يجب الإشهاد عليه كالبيع ويجب على اللقيط لأنه يحفظ به النسب فوجب الإشهاد عليه كالنكاح وإن أخذها وأراد الحفظ على صاحبها لم يلزمه التعريف لأن التعريف للتملك فإذا لم يرد التملك لم يجب التعريف فإن أراد أن يتملكها نظرت فإن كان مالاً له قد يرجع من ضاع منه في طلبه لزمه أن يعرفه سنة لحديث عبد الله بن

_ 1 رواه البخاري في كتاب اللقطة باب 2 - 4. مسلم في كتاب اللقطة حديث 1،2،5 - 7. أبو داود في كتاب اللقطة باب 1. الترمذي في كتاب الأحكام باب 35. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 46. 2 رواه أبو داود في كتاب اللقطة باب 9. ابن ماجة في كتاب اللقطة باب 2. أحمد في مسنده "4/162،266".

عمرو وحديث زيد بن خالد وهل يجوز تعريفها سنة متفرقة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز ومتى قطع استأنف لأنه إذا قطع لم يظهر أمرها ولم يظهر طالبها والثاني يجوز لأن اسم السنة يقع عليها ولهذا لو نذر صوم سنة جاز أن يصوم سنة متفرقة ويجب أن يكون التعريف في أوقات اجتماع الناس كأوقات الصلوات وغيرها وفي المواضع التي يجتمع الناس فيها كالأسواق وأبواب المساجد لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك ويكثر منه في الموضع الذي وجدها فيه لأن من ضاع منه شيء يطلبه في الموضع الذي ضاع فيه ولا يعرفها في المساجد لما روى جابر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالة في المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت1" وذلك لأنه كان يكره أن ترفع فيه الأصوات ويقول من ضاع منه شيء أو ضاع منه دنانير ولا يزيد عليها حتى لا يضبطها رجل فيدعيها فإن ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن بمجرد الصفة لا يجب الدفع والثاني يضمن لأنه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل ثم يرافعه إلى من يوجب الدفع بالصفة فإن لم يوجد من يتطوع بالنداء كانت الأجرة على الملتقط لأنه يتملك به وإن كانت اللقطة مما لا يطلب كالتمرة واللقمة لم تعرف لما روى أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تمرة في الطريق مطروحة فقال: "لولا أن أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها2" وإن كان مما يطلب إلا أنه قليل ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يعرف القليل والكثير سنة وهو ظاهر النص لعموم الأخبار والثاني لا يعرف الدينار لما روي أن علياً كرم الله وجهه وجد ديناراً فعرفه ثلاثاً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كله أو شأنك به" والثالث يعرف ما يقطع فيه السارق ولا يعرف ما دونه لأنه تافه ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه.

_ 1 رواه مسلم في كتابالمساجد حديث 79. أبو داود في كتاب الصلاة باب 21. النسائي في كتاب المساجد باب 25. أحمد في مسنده "2/349". 2 رواه البخاري في كتاب اللقطة باب 6.مسلم في كتاب الزكاة حديث 164، 165.

فصل: فإن عرفها فلم يجد صاحبها ففيه وجهان: أحدهما تدخل في ملكه بالتعريف لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن جاء صاحبها وإلا فهي له" ولأنه كسب مال بفعل فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد والثاني أنه يملكه باختيار التملك لما روي في حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" فجعله إلى اختياره ولأنه تملك ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالملك بالبيع وحكى فيه وجهان آخران: أحدهما أنه يملك بمجرد النية والثاني يملكه بالتصرف ولا وجه لواحد منهما ولا فرق في ملكها بين الغني والفقير لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" ولم يفرق لأنه ملك بعوض فاستوى فيه الغني والفقير كالملك في القرض والبيع. فصل: فغن حضر صاحبها قبل أن يملكها نظرت فإن كانت العين باقية وجب ردها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة لأنها باقية على ملكه وإن كانت تالفة لم يلزم الملتقط ضمانها لأنه يحفظ لصاحبها فلم يلزم ضمانها من غير تفريط كالوديعة وإن حضر بعد ما ملكها فإن كانت باقية وجب ردها وإن كانت تالفة وجب عليه بدلها وقال الكرابيسي لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها لأنه مال لا يعرف له مالك فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدلها لأنه مال لا يعرف له مالك فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز والمذهب الأول لما روى أبو سعيد الخدري أن علياً كرم الله وجهه وجد ديناراً فجاء صاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أده" قال علي قد أكلته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء ناشئ أديناه" ويخلف الركاز فإنه مال لكافر لا حرمة له وهذا مال مسلم ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز ويلزمه تعريف اللقطة فإن كانت العين باقية فقال الملتقط أنا أعطيك البدل لم يجبر المالك على قبوله لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله فلا يجبر على قبول البدل وإن حضر وقد باعها الملتقط وبينهما خيار ففيه وجهان: أحدهما يفسخ البيع ويأخذ لأنه يستحق العين والعين باقية والثاني لا يجوز له أن يفسخ لأن الفسخ حق للعاقد فلا يجوز لغيره من غير إذنه وإن حضر وقد زادت العين فإن كانت زيادة متصلة رجع فيها مع الزيادة وإن كانت زيادة منفصلة رجع فيها دون الزيادة لأنه فسخ ملك فاختلفت فيه الزيادة المتصلة والمنفصلة كالرد بالعيب. فصل: وإن جاء من يدعيها ووصفها فإن غلب على ظنه أنها له أن يدفع إليه ولا يلزمه الدفع لأنه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة فإن دفع إليه بالوصف ثم جاء غيره وأقام البينة أنها له قضى بالبينة لأنها حجة توجب الدفع فقدمت على

الوصف فإن كانت باقية ردت على صاحب البينة وإن كانت تالفة فله أن يضمن الملتقط لأنه دفع ماله بغير حق وله أن يضمن الآخذ لأنه أخذ ماله بغير حق فإن ضمن الآخذ لم يرجع على الملتقط لأنه إن كان مستحقاً عليه فقد دفع ما وجب عليه فلم يرجع وإن كان مظلوماً لم يجز أن يرجع على غير من ظلمه فلا يرجع على من لم يظلمه وإن لم يقر له ولكنه قال يغلب على ظني أنها لك فله الرجوع لأنه بان بأنه لم يكن له وقد تلف في يده فاستقر الضمان عليه. فصل: وإن وجد ضالة لم يخل إما أن تكون في برية أو بلد فإن كانت في برية نظرت فإن كانت مما يمتنع على صغار السباع بقوته كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير أو ببعد أثره لسرعته كالظباء والأرانب أو بجناحه كالحمام والدراج لم يجز التقاطه للتملك لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل فغضب واحمرت عيناه وقال: "ما لك ولها معها الحذاء والسقاء تأكل من الشجر وترد الماء حتى يأتي ربها" وسئل عن ضالة الغنم فقال: "خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب1" وهل يجوز أخذها للحفظ؟ ينظر فيه فإن كان الواجد هو السلطان جاز لأن للسلطان ولاية في حفظ أموال المسلمين ولهذا روي أنه كان لعمر حظيرة يضع فيها الضوال فإن كان له حمى تركها في الحمى وأشهد عليها ويسمها بسمة الضوال للتميز عن غيرها من الأموال وإن لم يكن له حمى فإن كان يطمع في مجيء صاحبها بأن يعرف أنها من نعم قوم يعرفهم حفظها اليومين والثلاثة وإن لم يعرف أو عرف ولم يجئ صاحبها باعها وحفظ ثمنها لأنه إذا تركها احتاجت إلى نفقة وفي ذلك إضرار وإن كان الواجد لها من الرعية ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يأخذها للحفظ على صاحبها فجاز كالسلطان والثاني لا يجوز لأنه لا ولاية له على صاحبها بخلاف السلطان فإن أخذها للتملك أو للحفظ وقلنا إنه لا يجوز ضمنها لأنه تعدى بأخذها فضمنها كالغاصب وإن دفعها إلى السلطان ففيه وجهان: أحدهما لا يبرأ من الضمان لأنه لا ولاية للسلطان على رشيد والثاني يبرأ وهو

_ 1 رواه البخاري في كتاب اللقطة باب 11. مسلم في كتاب اللقطة حديث 5، 6. ابن ماجة في كتاب اللقطة باب 1. الترمذي في كتاب الأحكام باب 35.

المذهب لأن للسلطان ولاية على الغائب في حفظ ما يخاف عليه من ماله ولهذا لو وجدها السلطان جاز له أخذها للحفظ على مالكها فإذا أخذها غيره وسلمها إليه بريء من الضمان وإن كان مما لا يمتنع من صغار السباع كالغنم وصغار الإبل والبقر أخذها لحديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ضالة الغنم: "خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب1" ولأنه إذا تركها أخذها غيره أو أكلها الذئب فكان أخذها أحوط لصاحبها وإذا أخذها فهو بالخيار بين أن يمسكها ويتطوع بالإنفاق عليها ويعرفها حولاً ثم يملكها وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم بمالك الثمن وبين أن يأكلها ويغرم بدلها ويعرفها لأنه إذا لم يفعل ذلك احتاج إلى نفقة دائمة وفي ذلك إضرار بصاحبها والإمساك أولى من البيع والأكل لأنه يحفظ العين على صاحبها ويجري فيها على سنة الإلتقاط في التعريف والتملك والبيع أولى من الأكل لأنه إذا أكل استباحها قبل الحول وإذا باع لم يملك الثمن إلا بعد الحول فكان البيع أشبه بأحكام اللقطة فإن أراد البيع ولم يقدر على الحاكم باعها بنفسه لأنه موضع ضرورة وإن قدر على الحاكم ففيه وجهان: أحدهما لا يبيع إلا بإذنه لأن الحاكم له ولاية ولا ولاية للملتقط والثاني يبيع من غير إذنه لأنه قد قام مقام المال فقام مقامه في البيع وإن أكل فهل له أن يعزل البدل مدة التعريف؟ فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه لأن كل حالة جاز أن يستبيح أكل اللقطة يلزمه عزل البدل كما بعد الحول ولأنه إذا لم يعزل كان البدل قرضاً في ذمته وإذا عزله كان أمانة والقرض أحوط من الأمانة والثاني يلزمه عزل البدل لأنه أشبه بأحكام اللقطة فإن من حكم اللقطة أن تكون أمانة قبل الحول وقرضاً بعد الحول فيصير البدل كاللقطة إن شاء حفظها له وإن شاء عرفها ثم تملك وإن أفلس الملتقط كان صاحبها أحق بها من سائر الغرماء وإن وجد ذلك في بلد فقد روى المزني أن الصغار والكبار في البلد لقطة فمن أصحابنا من قال المذهب ما رواه المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رفق بين الصغار والكبار في البرية لأن الكبار لا يخاف عليها لأنها ترد الماء وترعى الشجر وتتحفظ بنفسها والصغار يخاف عليها لأنها لا ترد الماء والشجر فتهلك وأما في البلد فالكبار كالصغار في الخوف عليها فكان الجميع لقطة ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر إن البلد كالبرية فالصغار فيه لقطة والكبار ليست بلقطة لعموم الخبر فإن قلنا إن البلد كالبرية فالحكم فيه على ما ذكرناه إلا في الأكل فله أن يأكل الصغار في البرية وليس له أكلها في البلد لأن في البرية إذا لم يأكل الصغار هلكت لأنه لا يمكن بيعها وفي البلد يمكن بيعها فلم يجز

_ 1 المصدر السابق.

الأكل وإن قلنا إن الجميع في البلد لقطة فالحكم في الكبار كالحكم في الصغار في البرية إلا في الأكل فإنه لا يأكل في البلد ويأكل الصغار في البرية لما ذكرناه. فصل: وإن وجد عبداً صغيراً لا تمييز له جاز أن يلتقطه لأنه كالغنم يعرفه حولاً ثم يملكه وإن وجد جارية صغيرة لا تمييز لها فإن كان لا يحل له وطؤها جاز له أن يلتقطها للتملك كما يجوز أن يقترضها وإن كانت تحل له لم يجز أن يلتقطها للتملك كما لا يجوز أن يقترضها. فصل: وإن وجد كلب صيد لم يجز أن ينتفع به قبل الحول فإن عرفه حولاً ولم يجد صاحبه جاز له أن ينتفع به لأن الانتفاع بالكلب كالتصرف في المال والتصرف في المال يقف على التعريف في الحول فكذلك الإنتفاع بالكلب. فصل: وإن وجد مالاً يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ فهو الخيار بين أن يأكله ويغرم البدل وبين أن يبيعه ويحفظ الثمن على ما ذكرناه في الغنم في بيعه وحفظ ثمنه وأكله وعزل بدله وخرج المزني فيه قولاً آخر أنه يلزمه البيع ولا يجوز الأكل والمذهب الأول لأنه معرض للهلاك فخير فيه بين البيع والأكل كالغنم وإن وجد ما لا يبقى ولكن يمكن التوصل إلى حفظه كالرطب والعنب فإن كان الأنفع لصاحبه أن يباع بيع وإن كان الأنفع أن يجفف جفف وإن احتاج إلى مؤنة في تخفيفه ولم يوجد من يتطوع بيع بعضه وأنفق عليه. فصل: وإن وجد خمراً أراقها صاحبها لم يلزمه تعريفها لأن إراقتها مستحقة فلم يجز التعريف فإن صارت عنده خلاً ففيه وجهان: أحدهما أنها لمن أراقها لأنها عادت إلى الملك السابق والملك السابق للذي أراق فعاد إليه كما لو غصبه من رجل فصار في يده خلاً والثاني أنه للملتقط لأن الأول أسقط منها فصارت في يد الثاني ويخالف المغصوبة لأنها أخذت بغير رضاه فوجب ردها إليه. فصل: فأما العبد إذا وجد لقطة ففيه قولان: أحدهما له أن يلتقط لأنه كسب بفعل فجاز للعبد كالإصطياد والثاني لا يجوز لأن الإلتقاط يقتضي ولاية قبل الحول وضماناً بعد الحول والعبد ليس من أهل الولاية ولا له ذمة يستوفى منها الحق إلى أن يعتق ويوسر فإن قلنا إنه يجوز أن يلتقط فهلك في يده من غير تفريط لم يضمن وإن هلك بتفريط ضمنها في رقبته فتباع فيها وإن عرفها صح تعريفه ولا يملك به لأنه في أحد القولين لا يملك المال وفي الثاني يملك إذا ملكه السيد وههنا لم يملكه السيد فإن قلنا إن الملتقط يملك بالتعريف من غير اختيار التملك دخل في ملك السيد كما يدخل في ملكه ما التقطه وعرفه وإن قلنا لا يملك إلا باختيار التملك وقف على اختياره فإن تملكها العبد وتصرف فيها

ففيه وجهان: أحدهما يضمنها في ذمته ويتبع بها إذا عتق كما لو اقترض شيئاً والثاني يضمنها في رقبته لأنه مال لزمه بغير رضا من له الحق فتعلق برقبته كأرش الجناية وإن علم السيد نظرت فإن لم يكن عرفها العبد عرفها السيد حولاً ثم تملك وإن عرفها العبد تملكها السيد في الحال لأن تعريف العبد كتعريفه فإن عرفها العبد بعض الحول عرفها السيد ما بقي ثم تملك وإن أقرها في يد العبد نظرت فإن كان العبد أميناً لم يضمن كما لا يضمن ما التقطه بنفسه وسلمه إلى عبده وإن كان خائناً ضمنها كما لو التقطها بنفسه وسلمها إليه وهو خائن وإن قلنا إنه لا يجوز أن يلتقط فالتقط ضمنها في رقبته لأنه أخذ مال غيره بغير حق فأشبه إذا غصبه وإن عرفها لم يصح تعريفه لأنها ليست في يده بحكم اللقطة فإن علم السيد نظرت فإن أخذها صارت في يده أمانة لأنه ما يجوز له أخذه بحكم الإلتقاط فصار كما لو وجد لقطة فالتقطها ويبرأ العبد من الضمان لأنه دفعها إلى من يجوز الدفع إليه فبرئ من الضمان كما لو دفعها إلى الحاكم وإن أراد أن يتملك ابتدأ التعريف ثم يتملك ابتدأ التعريف ثم تملك فإن أقرها في يد العبد ليعرفها فإن كان أميناً لم يضمن كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه وإن لم يأخذها ولا أقرها في يده ولكنه أهملها فقد روى المزني أنه يضمنها في رقبة العبد وروى الربيع أنه يضمنها في ذمته ورقبة العبد فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما رواه المزني أنه يختص برقبته لأن الذي أخذ هو العبد فاختص الضمان برقبته فعلى هذا إن تلف العبد سقط الضمان وقال أبو إسحاق: الصحيح ما رواه الربيع وأنه يتعلق بذمة السيد ورقبة العبد لأن العبد تعدى بالأخذ والسيد تعدى بالترك فاشتركا في الضمان فعلى هذا إن تلف العبد لم يسقط الضمان وإن التقط العبد لقطة ولم يعلم السيد بها حتى أعتقه فعلى القولين إن قلنا إنه يجوز للعبد أن يلتقط كان للسيد أن يأخذها منه لأنه كسب له حصل في حال الرق فكان للسيد كسائر أكسابه وإن قلنا لا يجوز للعبد أن يلتقط كان للسيد أن يأخذها منه لأنه كسب له حصل له في حال الرق فكان السيد كسائر أكسابه وإن قلنا لا يجوز أن يلتقط لم يكن للسيد أن يأخذها منه لأنه لم يثبت للعبد عليه الإلتقاط فعلى هذا يكون العبد لأنها في يده وهو من أهل الالتقاط ويحتمل أن لا يكون أحق بها لأن يده يد ضمان فلا تصير يد أمانة. فصل: وإن وجد المكاتب لقطة فالمنصوص أنه كالحر واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إنه كالحر قولاً واحداً لأنه يملك التصرف في المال وله ذمة يستوفي منها الحق فهو كالحر ومنهم من قال: هو كالعبد لأنه ناقص بالرق كالعبد فيكون في التقاطه قولان: فإن قلنا إنه كالحر أو قلنا إنه كالعبد وجوزنا التقاطه صح تعريفه فإذا عرفها ملكها لأنه من أهل الملك وإذا قلنا إنه كالعبد ولم نجوز التقاطه صار ضامناً لأنه تعدى

بالأخذ ويجب أن يسلمها إلى السلطان لأنه لا يمكن إقرارها في يده لأنها في يده بغير حق ولا يمكن تسليمها إلى السيد لأنه لا حق له في إكسابه فوجب تسليمها إلى السلطان فإن أخذها السلطان برئ المكاتب من الضمان فتكون في يده السلطان أبداً إلى أن يجد صاحبها. فصل: وإن وجد اللقطة من نصفه حر ونصفه عبد فالمنصوص أنه كالحر فمن أصحابنا من قال: هو كالحر قولاً واحداً لأنه تملك ملكاً تاماً وله ذمة صحيحة فهو كالحر ومنهم من قال هو كالعبد القن لما فيه من نقص الرق فيكون على قولين فإذا قلنا إنه كالحر نظرت فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة كانا شريكين فيها كسائر أكسابه وإن كانت بينهما مهايأة فإن قلنا إن الكسب النادر لا يدخل في المهايأة كانت اللقطة بينهما لأنه بمنزلة ما لم يكن بينهما مهايأة وإن قلنا إن الكسب النادر يدخل في المهايأة كانت اللقطة لمن وجدها في يومه. فصل: وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنون أو صغر لقطة صح التقاطه لأنه كسب بفعل فصح المحجور عليه كالإصطياد وعلى الناظر في أمره أن ينتزعها منه ويعرفها لأن اللقطة في مدة التعريف أمانة والمحجور عليه ليس من أهل الأمانة فإن كان ممن يجوز الاقتراض عليه تملكها له وإن كان ممن لا يجوز الاقتراض عليه لم يتملك له لأن التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البدل. فصل: وإن وجد الفاسق لقطة لم يأخذها لأنه لا يؤمن أن لا يؤدي الأمانة فيها فإن التقطها ففيه قولان: أحدهما لا تقر في يده وهو الصحيح لأن الملتقط قبل الحول كالولي في حق الصغير والفاسق ليس من أهل الولاية في المال والثاني تقر في يده لأنه كسب بفعل فأقر في يده كالصيد فعلى هذا يضم إليه من يشرف عليه وهل يجوز أن ينفرد بالتعريف فيه قولان: أحدهما يجوز لأن التعريف لا يفتقر إلى الأمانة والثاني لا يجوز حتى يكون معه من يشرف عليه لأنه لا يؤمن أن يفرط في التعريف فإذا عرفه ملكه لأنه من أهل التملك. فصل: وإن التقط كافر لقطة في دار الإسلام ففيه وجهان: أحدهما يملك بالتعريف لأنه كسب بالفعل فاستوى فيه الكافر والمسلم كالصيد والثاني لا يملك لأن تصرفه بالحفظ والتعريف بالولاية والكافر لا ولاية له على المسلم.

كتاب اللقيط

كتاب اللقيط التقاط المنبوذ فرض على الكفاية لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولأنه تخليص آدمي له حرمة من الهلاك فكان فرضاً كبذل الطعام للمضطر. فصل: وإن وجد لقيط مجهول الحال حكم بحريته لما روى سنين أبو جميلة قال: أخذت منبوذاً على عهد عمر رضي الله عنه فذكره عريفي لعمر رضي الله عنه فأرسل إلي فدعاني والعريف عنده فلما رآني قال عسى الغوير أبؤساً فقال عريفي: إنه لا يتهم فقال عمر ما حملك على ما صنعت قلت وجدت نفساً بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله تعالى فيه فقال: هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه ولأن الأصل في الناس الحرية فإن كان عليه ثياب أو حلي أو تحته فراش أو في يده دراهم أو عنان فرس أو كان في دار ليس فيها غيره فهي له لأنه حر فكان ما في يده له كالبالغ وإن كان على بعد منه مال مطروح أو فرس مربوط لم يكن له لأنه لا يد له عليه وإن كان بالقرب منه وليس هناك غيره ففيه وجهان: أحدهما ليس له لأنه لا يد له عليه والثاني لأن الإنسان قد يترك ماله بقربه فإذا لم يكن هناك غيره فالظاهر أنه له وإن كان تحته مال مدفون لم يكن له لأن البالغ لو

جلس على الأرض وتحته دفين لم يكن له ذلك فكذلك اللقيط. فصل: وإن وجد في بلد من بلاد المسلمين وفيه مسلم فهو مسلم لأنه اجتمع له حكم الدار وإسلام من فيها وإن كان في بلد الكفار ولا مسلم فيه فهو كافر لأن الظاهر أنه ولد بين كافرين وإن كان فيه مسلم ففيه وجهان: أحدهما أنه كافر تغليباً لحكم الدار والثاني أنه مسلم تغليباً لإسلام المسلم الذي فيه وإن التقطه حر مسلم أمين مقيم موسر أقر في يده لما ذكرناه من حديث عمر رضي الله عنه ولأنه لا بد من أن يكون في يد من يكفله فكان الملتقط أحق به لحق السبق. فصل: فإن كان له مال كانت نفقته في ماله كالبالغ ولا يجوز للملتقط أن ينفق من ماله بغير إذن الحاكم فإن أنفق عليه من غير إذنه ضمنه لأنه لا ولاية له عليه إلا في الكفاية فلم يملك الإنفاق بنفسه كالأم وإن فوض إليه الحاكم أن ينفق عليه مما وجده معه فقد قال في كتاب اللقيط يجوز وقال في كتاب اللقطة إذا أنفق الواحد على الضالة ليرجع به لم يجز حتى يدفع إلى الحاكم ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما لا يجوز لأنه لا يلي بنفسه فلم يجز أن يكون وكيلاً لغيره في القبض له من نفسه كما لو كان عليه دين ففوض إليه صاحب الدين قبض ماله عليه من نفسه والثاني يجوز لأنه جعل أميناً على الطفل فجاز أن ينفق عليه مما له في يده كالوصي ومنهم من قال يجوز في اللقيط ولا يجوز في الضالة لأن اللقيط لا ولي به في الظاهر فجاز أن يجعل الواحد ولياً له والضالة لها مالك هو ولي عليها فلا يجوز أن يجعل الواحد ولياً عليها وإن لم يكن حاكم فأنفق من غير إشهاد ضمن وإن أشهد ففيه قولان: أحدهما يضمن لأنه لا ولاية له فضمن كما لو كان الحاكم موجوداً والثاني لا يضمن لأنه موضع ضرورة وإن لم يكن له مال وجب على السلطان القيام بنفقته لأنه آدمي له حرمة يخشى هلاكه فوجب على السلطان القيام بحفظه كالفقير الذي لا كسب له ومن أين تجب النفقة فيه قولان: أحدهما من بيت المال لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا من بيت المال ولأن من لزم حفظه بالإنفاق ولم يكن له مال وجبت نفقته من بيت المال كالفقير الذي لا كسب له فعلى هذا لا يرجع على أحد بما أنفق عليه والقول الثاني: لا يجب من بيت المال لأن مال بيت المال لا يصرف إلا فيما لا وجه له غيره واللقيط يجوز أن يكون عبداً فنفقته على مولاه أو حراً له مال أو فقيراً له من تلزمه نفقته فلم يلزم من بيت المال فعلى هذا يجب على الإمام أن يقترض له ما ينفق من بيت

المال أو من رجل من المسلمين فإن لم يكن في بيت المال ولا وجد من يقرضه جمع الإمام من له مكنة وعد نفسه فيهم وقسط عليهم نفقته فإن بان أنه عبد رجع على مولاه وإن بان أن له أباً موسراً رجع عليه بما اقترض له فإن لم يكن له أحد وله كسب رجع في كسبه وإن لم يكن له كسب قضى سهم من ثري من المساكين أو الغارمين. فصل: وأما إذا التقطه عبد فإن كان بإذن السيد وهو من أهل الإلتقاط جاز لأن الملتقط هو السيد والعبد نائب عنه وإن كان بغير إذنه لم يقر في يده لأنه لا يقدر على حضانته مع خدمة السيد وإن علم به السيد وأقره في يده كان ذلك التقاطاً من السيد والعبد نائب عنه. فصل: وإن التقطه كافر نظرت فإن كان اللقيط محكوماً بإسلامه لم يقر في يده لأن الكفالة ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم ولأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه وإن كان محكوماً بكفره أقر في يده لأنه على دينه وإن التقطه فاسق لم يقر في يده لأنه لا يؤمن أن يسترقه وأن يسيء في تربيته ولأن الكفالة ولاية الفاسق ليس من أهل الولاية. فصل: وإن التقطه ظاعن يريد أن يسافر به نظرت فإن لم تختبر أمانته في الباطن لم يقر في يده لأنه لا يؤمن أن يسترقه إذا غاب وإن اختبرت أمانته في الباطن فإن كان اللقيط في الحضر والملتقط من أهل البدو ويريد أن يخرج به إلى البدو ومنع منه لأنه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء وفي الخبر: من بدا فقد جفا وإن أراد أن يخرج به إلى بلد آخر ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو ظاهر النص لأن البلد كالبلد والثاني لا يجوز لأن البلد الذي وجد فيه أرجى لظهور نسبه فيه وإن كان الملتقط في بدو فإن كان الملتقط من أهل الحضر وأراد أن يخرج به إلى الحضر جاز لأن الحضر أرفق به وأنفع له وإن كان من البادية فإن كانت حلته في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده لأن الحلة كالقرية وإن كان يظعن في طلب الماء والكلأ

ففيه وجهان: أحدهما يقر في يده لأنه أرجى لظهور نسبه والثاني لا يقر في يده لأنه يشقى بالتنقل في البدو. فصل: وإن التقطه فقير ففيه وجهان: أحدهما لا يقر في يده لأنه لا يقدر على القيام بحضانته وفي ذلك إضرار باللقيط والثاني يقر في يده لأن الله تعالى يقوم بكفاية الجميع. فصل: وإن تنازع في كفالته نفسان من أهل الكفاية قبل أن يأخذاه أخذه السلطان وجعله في يد من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا حق لهما قبل الأخذ ولا مزية لهما عن غيرهما فكان الأمر فيه إلى السلطان وإن التقطاه وتشاحا أقرع بينهما فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده وقال أبو علي بن خيران: لا يقرع بينهما بل يجتهد الحاكم فيقره في يد من هو أحظ له والمنصوص هو الأول لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ولأنه لا يمكن أن يجعل في أيديهما لأنه لا يمكن أحدهما لأنهما متساويان في سبب الاستحقاق ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط فلا يجوز إخراجه عنهما فأقرع بينهما كما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه وإن ترك أحدهما حقه من الحضانة ففيه وجهان: أحدهما يدفع إلى السلطان فيقره في يد من يرى لأن الملتقط لا يملك غير الحفظ فأما إقرار اللقيط في يد غيره فليس ذلك إليه ولهذا لو انفرد بالالتقاط لم يملك أن ينقله إلى غيره والثاني وهو المذهب أنه يقر في يد الآخر من غير إذن السلطان لأن الحضانة بحكم الإلتقاط لا تفتقر إلى إذن السلطان ولهذا لو انفرد كل واحد منهما بالإلتقاط ثبت له الحضانة من غير إذن فإذا اجتمعا وترك أحدهما حقه ثبت للآخر كالشفعة بين شفيعين. فصل: فأما إذا اختلفا في الإلتقاط فادعى كل واحد منهما أنه الملتقط ولم تكن بينة فإن لم يكن لأحدهما عليه أقره السلطان في يد من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا حق لهما وإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه لأن اليد تشهد له وإن كان في يدهما تحالفا فإن حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب وعلى قول أبي علي ابن خيران يقره الحاكم في يد من هو أحظ له فإن كان لأحدهما بينة قضى له لأن البينة أقوى من اليد والدعوى وإن كان لكل واحد منهما بينة فإن كانت بينة أحدهما أقدم تاريخاً قضى له لأنه قد ثبت له السبق إلى الإلتقاط وإن لم تكن له بينة أحدهما أقدم تاريخاً فقد تعارضت البينتان ففي أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة وقد بيناه وفي القول الثاني تستعملان وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها

القسمة والثاني القرعة والثالث الوقف ولا يجيء ههنا إلا القرعة لأنه لا يمكن اللقيط بينهما ولا يمكن الوقف لأن فيه إضرارا باللقيط فوجبت القرعة. فصل: وإن ادعى حر مسلم نسبه لحق به وتبعه في الإسلام لأنه يقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال وله أن يأخذه من الملتقط لأن الوالد أحق بكفالة الولد ومن الملتقط وإن كان الذي أقر بالنسب هو الملتقط فالمستحب أن يقال له من أين صار ابنك لأنه ربما اعتقد أنه بالإلتقاط صار أباً له وإن ادعى نسبه عبد لحق به لأن العبد كالحر في السبب الذي يلحق به النسب ولا يدفع إليه لأنه لا يقدر على حضانته لاشتغاله بخدمة مولاه وإن ادعى نسبه كافر لحق به لأن الكافر كالمسلم في سبب النسب وهل يصير اللقيط كافراً؟ قال في اللقيط أحببت أن أجعله مسلماً وقال في الدعوى والبينات أجعله مسلماً فمن أصحابنا من قال إن أقام البينة حكم بكفره قولاً واحداً وإن لم تقم البينة ففيه قولان: أحدهما يحكم بكفره لأنا لما حكمنا بثبوت نسبه فقد حكمنا بأنه ولد على فراشه والقول الثاني يحكم بإسلامه لأنه محكوم بإسلامه بالدار فلا يحكم بكفره بقول كافرن وقال أبو إسحاق: الذي قال في اللقيط أراد به إذا ادعاه وأقام البينة عليه لأنه قد ثبت بالبينة أنه ولد على فراش كافر والذي قال في الدعوى والبينات أراد إذا ادعاه من غير بينة لأنه محكوم بإسلامه بظاهر الدار فلا يصير كافراً بدعوى الكافر وهذا الطريق هو الصحيح لأنه نص عليه في الإملاء وإذا قلنا إنه يتبع الأب في الكفر فالمستحب أن يسلم إلى مسلم أن يبلغ احتياطاً للإسلام فإن بلغ ووصف الكفر أقررناه على كفره وإن وصف الإسلام حكمنا بإسلامه من وقته. فصل: وإن ادعت امرأة نسبة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقبل لأنها أحد الأبوين فقبل إقرارها بالنسب كالأب والثاني لايقبل وهو ظاهر النص لأنه يمكن إقامة البينة على ولادتها من طريق المشاهدة فلا يحكم فيها بالدعوى بخلاف الأب فإنه لا يمكن إقامة البينة على ولادته من طريق المشاهدة فقبلت فيه دعواه ولهذا قلنا إنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لم يقبل قولها في دخول الدار إلا ببينة ولو قال لها إن حضت فأنت طالق قبل قولها في الحيض من غير بينة لما ذكرناه من الفرق فكذلك ههنا والثالث إن كانت فراشاً لرجل لم يقبل قولها لأن إقرارها يتضمن إلحاق النسب بالرجل وإن لم تكن فراشاً قبل لأنه لا يتضمن إلحاق النسب بغيرها. فصل: وإن تداعى نسبه رجلان لم يجز إلحاقه بهما لأن الولد لاينعقد من اثنين

والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] فإن لم يكن لواحد منهما بينة عرض الولد على القافة وهم قوم بني مدلج من كنانة فإن ألحقته بأحدهما لحق به لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه فقال ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد وقد غطيا رؤوسهما وقد بدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض فلو لم يكن ذلك حقاً لما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يجوز أن يكون من غير بني مدلج؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن ذلك ثبت بالشرع ولم يرد الشرع إلا في بني مدلج والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأنه علم يتعلم ويتعاطى فلم تختص به قبيلة كالعلم بالأحكام وهل يجوز أن يكون واحداً فيه وجهان: أحدهما أنه يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي وحده ولأنه بمنزلة الحاكم لأنه يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ثم يحكم والثاني لا يجوز أقل من اثنين لأنه حكم بالشبه في الخلقة فلم يقبل من واحد كالحكم في المثل من جزاء الصيد ولا يجوز أن يكون امرأة ولا عبداً كما لا يجوز أن يكون الحاكم امرأة ولا عبداً ولا يقبل إلا قول من جرب وعرف بالقيافة حذقه كما لا يقبل في الفتيا إلا قول من عرف في العلم حذقه وإن ألحقته بهما أو نفته عنهما أو أشكل الأمر عليها أو لم تكن قافة ترك حتى يبلغ ويؤخذان بالنفقة عليه لأن كل واحد منهما يقول أنا الأب وعلى نفقته فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للغلام الذي أحلقته القافة بهما: وال أيهما شئت ولأن الولد يجد لوالده مالا يجد لغيره فإذا تعذر العلم بقول القافة رجع إلى اختيار الولد وهل يصح أن ينتسب إذا صار متميزاً ولم يبلغ؟ فيه وجهان: أحدهما يصح كما يصح أن يختار الكون مع أحد الأبوين إذا صار مميزاً والثاني لا يصح لأنه قول يتعين به النسب ويلزم الأحكام به فلا يقبل من الصبي ويخالف اختيار الكون مع أحد الأبوين لأن ذلك غير لازم ولهذا لو اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر جاز ولا يجوز ذلك في النسب وإن كان لأحدهما بينة قدمت على القافة لأن البينة تخبر عن سماع أو مشاهدة والقافة تخبر عن اجتهاد فإن كان لكل واحد

منهما متعارضتان لأنه لا يجوز أن يكون الولد من اثنين ففي أحد القولين يسقطان ويكون كما لو لم تكن بينة وقد بيناه وفي الثاني تستعملان فعلى هذا هل يقرع بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضى له لأنه لا يمكن قسمة الولد بينهما ولا يمكن الوقف لأن فيه إضرارا باللقيط فوجبت القرعة والثاني لا يقرع لأن معنا ما هو أقوى من القرعة وهي القافة فعلى هذا يصير كما لو لم يكن لهما بينة وليس موضع تسقط الأقوال الثلاثة في استعمال البينتين إلا في هذا الموضع على هذا المذهب وإن تداعت امرأتان نسبه وقلنا إنه يصح دعوى المرأة ولم تكن بينة فهل يعرض على القافة؟ فيه وجهان: أحدهما يعرض لأن الولد يأخذ الشبه من الأم كما يأخذ من الأب فإذا جاز الرجوع إلى القافة في تمييز الأب من غيره بالشبه جاز في تمييز الأم من غيرها والثاني لا يعرض لأن الولد يمكن معرفة أمه يقيناً فلم يرجع إلى القافة بخلاف الأب فإنه لا يمكن معرفته إلا ظناً فجاز أن يرجع فيه إلى الشبه. فصل: وإن ادعى رجل رق اللقيط لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل هو الحرية فإن شهدت له البينة نظرت فإن شهدت له بأنه ولدته أمته فقد قال في اللقيط جعلته له وقال في الدعوى والبينات إن شهدت له بأنه ولدته أمته في ملكه جعلته له فمن أصحابنا من قال يجعل له قولاً واحداً وإن لم تقل ولدته في ملكه وما قال في الدعوى والبينات ذكره تأكيد لا شرطاً لأن ما تأتي به أمته من غيره لا يكون إلا مملوكاً له ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجعل له بينة والثاني لا يجعل له لأنه يحتمل أن تكون الأمة ولدته قبل أن يملكها ثم ملكها فلم يملك ولدها وإن شهدت له البينة بالملك ولم تذكر سبب الملك ففيه قولان: أحدهما يحكم له كما يحكم له إذا شهدت له بملك مال وإن لم تذكر سببه والثاني لا يحكم لأن البينة قد تراه في يده فتشهد بأنه عبده بثبوت يده عليه بالإلتقاط أو غيره وإن شهدت البينة له باليد فإن كان المدعي هو الملتقط لم يحكم له لأنه قد عرف سبب يده وهو الإلتقاط ويد الإلتقاط لا تدل على الملك فلم يكن للشهادة تأثير وإن كان المدعي غيره ففيه قولان: أحدهما يحكم له مع اليمين لأن اليد قد ثبتت فإذا حلف حكم له كما لو كان في يده مال فحلف عليه والثاني لا يحكم له لأن ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك لأن الظاهر الحرية. فصل: ومن حكم بإسلامه أو بأحد أبويه أو بالسابي فحكمه قبل البلوغ حكم سائر المسلمين في الغسل والصلاة والميراث والقصاص والدية لأن السبب الذي أوجب

الحكم بإسلامه لم يزل فأشبه من أسلم بنفسه وبقي على إسلامه فإن بلغ ووصف الكفر فالمنصوص أنه مرتد فإن تاب وإلا قتل لأنه محكوم بإسلامه قطعاً فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما ما ذكرناه والثاني أنه يقر على الكفر لأنه لما بلغ زال حكم التتبع فاعتبر بنفسه فإن بلغ ولم يف الإسلام ولا الكفر فقتله قاتل فالمنصوص أنه لا قود على قاتله ومن أصحابنا من قال يجب القود لأنه محكوم بإسلامه فأشبه ما قبل البلوغ وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكون غير راض بالإسلام والقصاص يسقط بالشبهة فسقط ويخالف ما قبل البلوغ فإن إسلامه قائم قطعاً وبعد البلوغ لا نعلم بقاء الإسلام فأما من حكم بإسلامه بالدار فإنه قبل البلوغ كالمحكوم بإسلامه بأبويه أو بالسابي فإن بلغ ووصف الكفر فإنه يفزع ويهدد على الكفر احتياطاً فإن أقام على الكفر أقر عليه ومن أصحابنا من قال هو كالمحكوم بإسلامه بأبويه لأنه محكوم بإسلامه بغيره فصار كالمسلم بأبويه والمنصوص أنه يقر على الكفر لأنه محكوم بإسلامه من جهة الظاهر ولهذا لو ادعاه ذمي وأقام البينة حكم بكفره. فصل: وإن بلغ اللقيط وقذفه رجل وادعى أنه عبد وقال اللقيط بل أنا حر ففيه قولان: أحدهما أن القول قول اللقيط لأن الظاهر من حاله الحرية والثاني أن القول قول القاذف لأنه يحتمل أن يكون عبداً والأصل براءة ذمة القاذف من الحد وإن قطع حر طرفه وادعى أنه عبد وقال اللقيط بل أنا حر فالمنصوص أن القول قول اللقيط فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: كالقذف ومنهم من قال إن القول قول اللقيط قولاً واحداً وفرق بينه وبين القذف بأن القصاص قد وجب في الظاهر ووجوب القيمة مشكوك فيه فإذا أسقطنا القصاص انتقلنا من الظاهر إلى الشك فلم يجز وفي القذف قد وجب الحد في الظاهر ووجوب التعزير يقين لأنه بعض الحد فإذا أسقطنا الحد انتقلنا من الظاهر إلى اليقين فجاز. فصل: إذا بلغ اللقيط ووهب وأقبض وابتاع ونكح وأصدق وجنى وجني عليه ثم قامت البينة على رقه كان حكمه في التصرفات كلها حكم العبد القن يمضي ما يمضي من تصرفه وينقض ما ينقض من تصرفه فيما يضره ويضر غيره لأنه قد ثبت بالبينة أنه مملوك فكان حكمه حكم المملوك فإن أقر على نفسه بالرق لرجل فصدقه نظرت فإن كان قد تقدم منه إقرار بحريته لم يقبل إقراره بالرق لأنه لزمه بإقراره بالحرية أحكام الأحرار في العبادات والمعاملات فلم يقبل إقراره في إسقاطها وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يقبل إقراره بالرق لأنه محكوم

بحريته فلم يقبل إقراره بالرق كما لو أقر بالحرية ثم أقر بالرق والثاني يقبل لأنا حكمنا بحريته في الظاهر وما ثبت بالظاهر يجوز إبطاله بالإقرار ولهذا لو ثبت إسلامه بظاهر الدار وبلغ وأقر بالكفر قبل منه فكذلك ههنا ومنهم من قال إقراره بالرق قولاً واحداً لما ذكرناه ويكون حكمه في المستقبل حكم الرقيق فإما تصرفه بعد البلوغ وقبل الحكم برقه فعلى قولين: أحدهما يقال إقراره في جميعه لأن الرق هو الأصل وقد ثبت فوجب أن تثبت أحكامه كما لو ثبت بالبينة والثاني يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره لأن إقراره يتضمن ما يضره ويضر غيره فقبل فيما يضره ولم يقبل فيما يضر غيره كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره وهذا الطريق هو الصحيح وعليه التفريع فإن باع واشترى فإن قلنا يقبل إقراره في الجميع وقلنا إن عقود العبد من غير إذن المولى لا تصح كانت عقوده فاسدة فإن كانت الأعيان باقية وجب ردها وإن كانت تالفة وجب بدلها في ذمته يتبع به إذا عتق وإن قلنا يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره لم يقبل قوله في إفساد العقود ويلزمه أعواضها فإن كان في يده مال استوفى منه فإن فضل في يده شيء كان لمولاه وإن كان اللقيط جارية فزوجها الحاكم ثم أقرت بالرق فإن قلنا يقبل إقرارها في الجميع فالنكاح باطل لأنه عقد بغير إذن المولى فإن كان قبل الدخول لم يجب على الزوج شيء وإن كان بعد الدخول وجب عليه مهر المثل لأنه وطء في نكاح فاسد وإن أتت بولد فهو حر لأنه دخل على أنه حر وعليه قيمته ويجب عليها عدة أمه وهي قرءان وإن قلنا لا يقبل فيما يضر غيره لم يبطل النكاح لأن فيه إضراراً بالزوج ولكنه في حق الزوج في حكم الصحيح وفي حقها في حكم الفاسد فإن كان قبل الدخول لم يجب لها مهر لأنها لا تدعيه وإن كان بعد الدخول وجب لها أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى لأنه إن كان المهر أقل لم يجب ما زاد لأن فيه إضراراً بالزوج وإن أتت منه بولد فهو حر ولا قيمة عليه لأنا لا نقبل قوله فيما يضره ونقول للزوج قد ثبت أن زوجتك أمة فإن اخترت إمساكها كان ما تلده مملوكاً للسيد لأنك تطؤها على علم أنها أمة وإن طلقها اعتدت عدة حرة وهو ثلاثة أقراء وله فيها الرجعة لأنا لا نقبل قولها عليه فيما يضره وإن مات عنها لزمته عدة أمة وهي شهران وخمس ليال لأن عدة الوفاة تجب لحق الله تعالى لا حق له فيها ولهذا تجب من غير وطء وقول اللقيط يقبل فيما يسقط حق الله تعالى من العبادات وإن كان اللقيط غلاماً فتزوج ثم أقر بالرق فإن قلنا يقبل إقراره في الجمع بطل النكاح من أصله لأنه بغير إذن المولى فإن لم يدخل بها لم يلزمه شيء وإن دخل بها لزمه أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل لم يجب ما زاد لأنها لا

تدعيه وإن كان مهر المثل أقل لم يجب ما زاد لأن قوله مقبول وإن ضر غيره وإن قلنا لا يقبل قوله فيما يضر غيره لم يقبل قوله إن النكاح باطل لأنه يضرها ولكن يحكم بانفساخه في الحال لأن أقر بتحريمها فإن كان قبل الدخول لزمه نصف المسمى وإن دخل بها لزمه جميعه لأنه لا يقبل قوله في إسقاط المسمى. فصل: وإن جنى عمداً على عبد ثم أقر بالرق وجب عليه القصاص على القولين وإن جنى خطأ وجب الأرش في رقبته على القولين لأن وجوب القصاص ووجوب الأرش في رقبته يضره ولا يضر غيره وقبل قوله فيه وإن جنى عليه حر عمداً لم يجب القول على الجاني لأن ذلك مما يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه وإن جنى عليه خطأ بأن قطع يده فإن الجاني يقر بنصف الدية واللقيط يدعي نصف القيمة فإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية وجب نصف القيمة لأن ما زاد عليه لا يدعيه وإن كان أكثر من نصف الدية فعلى القولين: إن قلنا يقبل قوله في الجميع وجب على الجاني نصف القيمة وإن قلنا لا يقبل فيما يضره غيره وجب نصف الدية لأن فيما زاد إضراراً بالجاني. فصل: وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل وكذبه الرجل سقط إقراره كما لو أقر له بدار فكذبه وإن أقر اللقيط بعد التكذيب بالرق لآخر لم يقبل وقال أبو العباس: يقبل كما لو أقر لرجل بدار فكذبه ثم أقر بها الآخر والمذهب الأول لأن بإقراره الأول قد أخبر أنه لم يملكه غيره فإذا كذبه المقر له رجع إلى الأصل وهو أنه حر فلم يقبل إقراره بالرق بعده ويخالف الدار لأنه إذا كذبه الأول رجع إلى الأصل وهي مملوكة فقبل الإقرار بها لغيره فصل: وإذا بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبد فأنكره فالقول قوله لأن الأصل الحرية وإن طلب المدعي يمينه فهل يحلف؟ يبنى على القولين في إقراره بالرق فإن قلنا يقبل حلف لأنه ربما خاف من اليمين فأقر له بالرق وإن قلنا لا يقبل لم يحلف لأن اليمين إنما تعرض ليخاف فيقر ولو أقر لم يقبل فلم يكن في عرض اليمين فائدة وبالله التوفيق.

كتاب الوقف

كتاب الوقف الوقف قربة مندوب إليها لما روى عبد الله بن عمر أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر فقال: قد أصبت مالاً لم أصب مثله وقد أردت أن أتقرب به لله تعالى فقال: "حبس الأصل وسبل الثمرة1". فصل: ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام كالعقار والحيوان والأساس والسلاح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب يعني الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقم بن جميل إلا أنه كان كان فقيراً فأغناه الله ورسوله" فأما خالد فإنكم تظلمون خالداً إن خالداً قد حبس أدرعه وأعتده معاً في سبيل الله ولأنه لما أمر عمر رضي الله عنه بتحبيس الأصل وتسبيل الثمرة دل ذلك على جواز وقف كل ما يبقى وينتفع به وأما ما لا ينتفع به على الدوام كالطعام وما يشم من الريحان وما تحطم وتكسر من الحيوان فلا يجوز وقفه لأنه لا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الشروط باب 19. مسلم في كتاب الوصاية حديث 15. أبو داود في كتاب الصايا 13. الترمذي في كتاب الأحكام باب 36. النسائي في كتاب الأحباس باب 2.

يمكن الانتفاع به على الدوام ويجوز وقف الصغير من الرقيق والحيوان لأنه يرجى الانتفاع به على الدوام ولا يجوز وقف الحمل لأنه تمليك منجز فلم يصح في الحمل وحده كالبيع. فصل: واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها واختلفوا في الكلب فمنهم من قال: لا يجوز وقفه لأن الوقف تمليك والكلب لا يملك ومنهم من قال: يجوز الوقف لأن القصد من الوقف المنفعة وفي الكلب منفعة فجاز وقفه واختلفوا في أم الولد فمنهم من قال: يجوز وقفها ولأنه ينتفع بها على الدوام فهي كالأم القنة ومنهم من قال لا يجوز لأنها لا تملك. فصل: ولا يصح الوقف إلا في عين معينة فإن وقف عبداً غير معين أو فرساً غير معين فالوقف باطل لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح في عين في الذمة كالعتق والصدقة. فصل: وما جاز وقفه جاز وقف جزء منه مشاع لأن عمر رضي الله عنه وقف مائة سهم من خيبر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القصد بالوقف حبس الأصل وتسبيل المنفعة والمشاع كالمقسوم في ذلك ويجوز وقف علو الدار دون سفلها وسفلها دون علوها لأنهما عينان يجوز وقفهما فجاز وقف أحدهما دون الآخر كالعبدين. فصل: ولا يصح الوقف إلا على بر ومعروف كالقناطر والمساجد والفقراء والأقارب فإن وقف على ما لا قربة فيه كالبيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل وعلى من يقطع الطريق أو يرتد عن الدين لم يصح لأن القصد بالوقف القربة وفيما ذكرناه إعانة على المعصية وإن وقف على ذمي جاز لأنه في موضع القربة ولهذا يجوز التصدق عليه

فجاز الوقف عليه وفي الوقف على المرتد والحربي وجهان: أحدهما يجوز لأنه يجوز تمليكه فجاز الوقف عليه كالذمي والثاني لا يجوز لأن القصد بالوقف نفع الموقوف عليه والمرتد والحربي مأمور بقتلهما فلا معنى للوقف عليهما وإن وقف على دابة رجل ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن مؤونتها على صاحبها والثاني يجوز لأنه كالوقف على مالكها. فصل: ولا يجوز أن يقف على نفسه ولا أن يشرط لنفسه منه شيئاً وقال أبو عبد الله الزبيدي: يجوز لأن عثمان رضي الله عنه وقف بئر رومة وقال دلوي كدلاء المسلمين وهذا خطأ لأن الوقف يقتضي حبس العين وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى ويخالف وقف عثمان رضي الله عنه لأن ذلك وقف عام ويجوز أن يدخل في العام ما لا يدخل في الخاص والدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في المساجد وهي وقف على المسلمين وإن كان لا يجوز أن يخص بالصدقة ولأن في الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل على الفرق بينهما. فصل: ولا يجوز الوقف على من لا يملك كالعبد والحمل لأنه تمليك منجز فلم يصح على من لا يملك كالهبة والصدقة. فصل: ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف لعى رجل غير معين والوقف على من يختاره فلان لأنه تمليك منجز فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة. فصل: ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ولا يصح بشرط الخيار وبشرط أن يرجع فيه إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو يدخل فيه من شاء أو يخرج منه من شاء لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة. فصل: ولا يجوز إلى مدة لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يجز إلى مدة كالعتق والصدقة. فصل: ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع وذلك من وجهين: أحدهما أنه يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها والثاني أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض مثل أن يقف على رجل بعينه ثم على الفقراء أو على رجل ثم على عقبه ثم على الفقراء فأما إذا وقف وقفاً منقطع الإبتداء والإنتهاء كالوقف على عبده أو على ولده ولا ولد له فالوقف باطل لأن العبد لا يملك والولد

الذي لم يخلق لا يملك فلا يفيد الوقف عليها شيئاً وإن وقف وقفاً متصل الإبتداء منقطع الإنتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان: أحدهما أن الوقف باطل لأن القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام وهذا لا يوجد في هذا الوقف لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه والثاني أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه وفيما سكت عنه على مقتضاه ويصير كأنه وقف مؤبد ويقدم المسمى على غيره فإذا اقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف لأنه من أعظم جهات الثواب والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صدقة وذو رحم محتاج" وروى سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صدقتك على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة1" وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه قولان: أحدهما يختص به الفقراء لأن مصرف الصدقات إلى الفقراء والثاني يشترك فيه الفقراء والأغنياء لأن في الوقف الغني والفقير سواء وإن وقف وقفاً منقطع الإبتداء متصل الإنتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء أو على رجل غير معين ثم على الفقراء ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: يبطل قولاً واحداً لأن الأول باطل والثاني فرع الأصل باطل فكان باطلاً ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما أنه باطل لما ذكرناه والثاني أنه يصح لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن وصار الثاني أصلاً فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الأول لا يملك اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها ينقل في الحال إلى من بعده لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه فصار كالمعدوم والثاني وهو المنصوص أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل لمن بعده لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء فبقي على ملكه والثالث أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء لأنه لا يمكن تركه على الواقف لأنه أزال الملك فيه ولا يمكنأن يجعل للفقراء لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء على ما ذكرناه من القولين.

_ 1 رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 82. الترمذي في كتاب الزكاة باب 26. الدارمي في كتاب الزكاة باب 38. أحمد في مسنده "3/402".

فصل: وإن وقف وقفاً مطلقاً ولم يذكر سبيله ففيه قولان: أحدهما أن الوقف باطل لأنه تمليك فلا يصح مطلقاً كما لو قال بعت داري ووهبت مالي والثاني يصح وهو الصحيح لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقاً كالأضحية فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الإبتداء المنقطع الإنتهاء وقد بيناه. فصل: ولا يصح الوقف إلا بالقول فإن بنى مسجداً وصلى فيه أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفاً لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح من غير قول مع القدرة كالعتق وألفاظه ستة: وقفت وحبست وسبلت وتصدقت وأبدت وحرمت فأما الوقف والحبس والتسبيل فهي صريحة فيه لأن الوقف موضوع له ومعروف به والتحبيس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "حبس الأصل وسبل الثمرة" وأما التصدق فهو كناية فيه لأنه مشترك بين الوقف وصدقة التطوع فلم يصح الوقف بمجرده وإن اقترنت به نية الواقف أو لفظ من الألفاظ الخمسة بأن يقول تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة أو حكم الوقف بأن يقول صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفاً لأنه مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف وأما قوله حرمت وأبدت ففيه قولان: أحدهما أنه كناية فلا يصح به الوقف إلا بإحدى القرائن التي ذكرنا لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا عرف اللغة فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق والثاني أنه صريح لأن التأبيد والتحريم في غير الأبضاع لا يكون إلا بالوقف فحمل عليه. فصل: وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها1" لا تباع ولا توهب ولا تورث ويزول ملكه عن العين ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه لا يزول ملكه عن العين لأن الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة وذلك لا يوجب زوال الملك والصحيح هو الأول لأنه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فأزال الملك كالعتق واختلف أصحابنا فيمن ينتقل الملك إليه فمنهم من قال: ينتقل إلى الله تعالى قولاً واحداً لأنه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة أزال الملك إلى الله تعالى كالعتق ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما أنه ينتقل إلى الله تعالى وهو الصحيح لما ذكرناه والثاني أنه ينتقل إلى الموقوف عليه لأن ما أزال الملك عن العين لم يزل المالية ينقل إلى الآدمي كالصدقة.

_ 1 تقدم.

فصل: ويملك الموقوف عليه غلة الوقف فإن كان الموقوف شجرة ملك ثمرتها وتجب عليه زكاتها لأنه يملكها ملكاً تاماً فوجب زكاتها عليه فإن كان حيواناً ملك صوفه ولبنه لأن ذلك من غلة الوقف وفوائده فهو كالثمرة وهل يملك ماتلده فيه وجهان: أحدهما يملكه لأنه نماء الوقف فأشبه الثمرة وكسب العبد والثاني أنه موقوف كالأم لأن كل حكم ثبت فيه للأم يتبعه فيه الولد كحرمة الاستيلاد في أم الولد وإن كان جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها ولا يملك وطأها لأنها في أحد القولين لا يملكها وفي الثاني يملكها ملكاً ضعيفاً فلم يملك به الوطأ فإن وطئها لم يلزمه الحد لأنه في أحد القولين يملكها وفي الثاني له شبهة ملك وفي تزويجها وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه ينقص قيمتها وربما تلفت من الولاد فيدخل الضرر على من بعده من أهل الوقف والثاني يجوز لأنه عقد على منفعتها فأشبه الإجارة فإن قلنا إنها للموقوف عليه كان تزويجها إليه وإن قلنا إنها تنتقل إلى الله تعالى كان تزويجها إلى الحاكم كالحرة التي لا ولي لها ولا يزوجها الحاكم إلا بإذن الموقوف عليه لأن له حقاً في منفعتها فلم يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن أتت بولد مملوك كان الحكم فيه كالحكم فيما تلد البهيمة. فصل: وإن أتلفه الواقف أو أجنبي فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال يبني على القولين فإن قلنا إنه للموقوف عليه وجبت القيمة له لأنه بدل ملكه وإن قلنا إنه لله تعالى اشترى به مثله ليكون وقفاً لله تعالى وقال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: يشتري بها مثله ليكون وقفاً مكانه قولاً واحداً لأنا وإن قلنا إنه ينتقل إلى الموقوف عليه إلا أنه لا يملك الإنتفاع برقبته وإنما يملك الإنتفاع بمنفعته ولأن في ذلك إبطال حق البطن الثاني من الوقف وإن أتلفه الموقوف عليه فإن قلنا إنه إذا أتلفه غيره كانت القيمة له لم تجب عليه لأنها تجب له وإن قلنا يشتري بها ما يكون وقفاً مكانه أخذت القيمة منه واشترى بها ما يكون مكانه وإن كان الوقف جارية فوطئها رجل بشبهة فأتت منه بولد ففي قيمة الولد ما ذكرناه من الطريقين في قيمة الوقف إذا أتلف وإن كان الوقف عبداً فجنى جناية توجب المال لم يتعلق برقبته لأنها ليست بمحل للبيع فإن قلنا إنه للموقوف عليه وجب الضمان عليه وإن قلنا إنه لله تعالى ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يلزم الواقف وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح لأنه منع من بيعه ولم يبلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته فلزمه أن يفيده كأم الولد والثاني أنه يجب في بيت المال لأنه لا يمكن إيجابه على الواقف لنه لا يملكه ولا على الموقوف عليه لأنه لا يملكه فلم يبق إلا بيت المال.

والثالث أنه يجب في كسبه لأنه كان محله الرقبة ولا يمكن تعليقه عليها فتعلق بكسبه لأنه مستفاد من الرقبة ويجب أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية لأنه لا يمكن بيعه كأم الولد. فصل: وتصرف الغلة على شرط الواقف من الأثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتأخير والجمع الترتيب وإدخال من شاء وإخراجه بصفة لأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدقة للسائل والمحروم والضيف ولذي القربى وابن السبيل وفي سبيل الله وكتب علي كرم الله وجهه بصدقته ابتغاء مرضاة الله ليولجني الجنة ويصرف النار عن وجهي ويصرفني عن النار في سبيل الله وذي الرحم والقريب والبعيد لا يباع ولا يورث وكتبت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء بني هاشم وبني المطلب. فصل: فإن قال وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والأنثى والخنثى لأن الجميع أولاده ولا يدخل فيه ولد الولد لأن ولده حقيقة ولده من صلبه فإن كان له حمل لم يدخل فيه حتى ينفصل فإذا انفصل استحق ما يحدث من الغلة بعد الانفصال دون ما كان

حدث قبل الانفصال لأنه قبل الانفصال لا يسمى ولداً وإن وقف على ولده وله ولد فنفاه باللعان لم يدخل فيه وقال أبو إسحاق: يدخل فيه لأن اللعان يسقط النسب في حق الزوج ولا يتعلق به حكم سواه ولهذا تنقضي به العدة والمذهب الأول لأن الوقف على ولده باللعان قد بان أنه ليس بولده فلم يدخل فيه وإن وقف على أولاد أولاده دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات لأن الجميع أولاد أولاده فإن قال على نسلي أو عقبي أو ذريتي دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات قربوا أو بعدوا لأن الجميع من نسله وعقبه وذريته ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 84] فجعل هؤلاء كلهم من ذريته وهو ينسب إليه بالأم فإن وقف على عترته فقد قال ابن الأعرابي وثعلب هم ذريته وقال القتيبي هم عشيرته وإن وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات لأنهم لا ينسبون إليه ولهذا قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب وإن وقف على البنين لم يدخل فيه الخنثى المشكل لأنا لا نعلم أنه من البنين فإن وقف على البنات لم يدخل فيه لأنا لا نعلم أنه من البنات فإن وقف على البنين والبنات ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يدخل فيه لأنه ليس من البنين ولا من البنات والثاني أنه يدخل لأنه لا يخلو من أن يكون ابناً أو بنتاً وإن شكل علينا فإن وقف على بني زيد لم يدخل فيه بناته فإن وقف على بني تميم وقلنا إن الوقف صحيح ففيه وجهان: أحدهما لا يدخل فيه البنات لأن البنين اسم للذكور حقيقة والثاني يدخلن فيه لأنه إذا أطلق اسم القبيلة دخل فيه كل من ينسب إليها من الرجال والنساء. فصل: وإن قال وقفت على أولادي فإن انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفاً منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء ومن أصحابنا من قال يدخل فيه أولاد الأولاد بعد انقراض ولد الصلب لأنه لما شرط انقراضهم دل على أنهم يستحقون كولد الصلب والصحيح هو الأول لأنه لم يشرط شيئاً وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم. فصل: وإن وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته فإن كان للواقف أب يعرف به وينسب إليه دخل في وقفه كل من ينسب إلى ذلك الأب ولا يدخل فيه من ينسب إلى أخي الأب أو أبيه فإن وقف الشافعي رحمه الله لأقاربه دخل فيه كل من

ينسب إلى شافع بن السائب لأنهم يعرفون بقرابته ولا يدخل فيه من ينسب إلى علي وعباس بن السائب ولا من ينسب إلى السائب لأنهم لا يعرفون بقرابته ويستوي فيه من قرب وبعد من أقاربه ويستوي فيه الذكر والأنثى لتساوي الجميع في القرابة فإن حدث قريب بعد الوقف دخل فيه وذكر البويطي أنه لا يدخل فيه وهذا غلط من البويطي لأنه لا خلاف أنه إذا وقف على أولاده دخل فيه من يحدث من أولاده. فصل: وإن وقف على أقرب الناس إليه ولم يكن له أبوان صرف إلى الولد ذكراً كان أو أنثى لأنه أقرب من غيره لأنه جزء منه فإن لم يكن له ولد فإلى ولد الولد من البنين والبنات فإن لم يكن ولد ولا ولد ولد وله أحد الأبوين صرف إليه لأنهما أقرب من غيرهما فإن اجتمعا استويا فإن لم يكن صرف إلى أبيهما الأقرب فالأقرب فإن كان له أب وابن ففيه وجهان: أحدهما أنهما سواء لأنهما في درجة واحدة في القرب والثاني يقدم الابن لأنه أقوى تعصيباً من الأب فإن قلنا إنهما سواء قدم الأب على ابن الابن لأنه أقرب منه وإن قلنا يقدم الابن قدم ابن الابن على الأب لأنه أقوى تعصيباً منه فإن لم يكن أبوان ولا ولد وله إخوة صرف إليهم لأنهم أقرب من غيرهم فإن اجتمع أخ من أب وأخ من أم استويا وإن كان أحدهما من الأب والأم والآخر من أحدهما قدم الذي من الأب والأم لأنه أقرب فإن لم يكن له إخوة صرف إلى بني الإخوة على ترتيب آبائهم فإن كان له جد وأخ ففيه قولان: أحدهما أنهما سواء لتساويهما في القرب ولهذا سوينا بينها في الإرث والثاني يقدم الأخ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد فإذا قلنا إنهما سواء قدم الجد على ابن الأخ وإن قلنا يقدم الأخ فابن الأخ وإن سفل أولى من الجد فإن لم يكن إخوة وله أعمام صرف إليهم ثم إلى أولادهم على ترتيب الإخوة وأولادهم فإن كان له عم وأبو جد فعلى القولين في الجد والأخ وإن كان له عم وخال أو عمة وخالة أو ولدهما فهما سواء فإن كان له جدتان إحداهما تدلي بقرابتين والأخرى بقرابة فالتي تدلي بقرابتين أولى لأنها أقرب ومن أصحابنا من قال إن قلنا إن السدس بينهما في الميراث استويا في الوقف. فصل: وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من أقرب الأقارب فإن وجد بعض الثلاثة في درجة والباقي في درجة أبعد استوفى ما أمكن من العدد من الأقرب وتمم الباقي من الدرجة الأبعد لأنه شرط الأقرب والعدد فوجب اعتبارهما. فصل: وإن وقف على مواليه وله مولى من أعلى ومولى من أسفل ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها يصرف إليهما لأن الاسم يتناولهما والثاني يصرف إلى المولى من أعلى لأن له مزية بالعتق والتعصيب والثالث أن الوقف باطل لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر ولا يجوز الحمل عليهما لأن المولى في أحدهما بمعنى وفي الآخر بمعنى آخر فلا تصح إرادتهما بلفظ واحد فبطل. فصل: وإن وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقي من أهل الوقف فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء وقال أبو علي الطبري: يرجع إلى الفقراء لأنه لما جعل لهم إذا انقرضوا وجب أن تكون حصة كل واحد منهم لهم إذا انقرض والمنصوص في حرملة هو الأول لأنه لا يمكن نقله إلى الفقراء لأنه قبل انقراضهم لم يوجد شرط النقل إلى الفقراء ولا يمكن رده إلى الواقف لأنه أزال ملكه عنه فكان أهل الوقف أحق به. فصل: وإن وقف مسجداً فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه لم يعد إلى الملك ولم يجز له التصرف فيه لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبداً ثم زمن وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة فزمنت أو جذوعاً على مسجد فتكسرت ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد والثاني يجوز بيعه لأنه لا يرجى منفعته فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه وقد يعمر الموضع فيصلى فيه فإن قلنا تباع كان الحكم في ثمنه حكم القيمة التي توجد من متلف الوقف وقد بيناه وإن وقف شيئاً على ثغر فبطل الثغر كطرسوس أو على مسجد فاختل المكان حفظ الارتفاع ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان. فصل: وإن احتاج الوقف إلى نفق أنفق عليه من حيث الواقف لأنه لما اعتبر شرطه في سبيله اعتبر شرطه في نفقته كالمالك في أمواله وإن لم يشترط أنفق عليه من غلته لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة فحمل الوقف عليه وإن لم يكن له غلة فهو على القولين إن قلنا إنه لله تعالى كانت نفقته في بيت المال كالحر المعسر الذي لا كسب له وإن قلنا للموقوف عليه كانت نفقته عليه. فصل: والنظر في الوقف إلى من شرطه الواقف لأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وشرطوا من ينظر فجعل عمر رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها وإذا توفيت فإنه إلى ذوي الرأي من أهلها ولأن سبيله إلى شرطه فكان النظر إلى من شرطه وإن وقف

ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه إلى الواقف لأنه كان النظر إليه فإذا لم يشرطه بقي على نظره والثاني أنه للموقوف عليه لأن الغلة له فكان النظر إليه والثالث إلى الحاكم لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى فإن جعل الواقف النظر إلى اثنين من أفاضل ولده ولم يوجد فيهم فاضل إلا واحد ضم الحاكم إليه آخر لأن الواقف لم يرض فيه بنظر واحد. فصل: إذا اختلف أرباب الوقف في شروط الوقف وسبيله ولا بينة جعل بينهم بالسوية فإن كان الواقف حياً رجع إلى قوله لأنه ثبت بقوله فرجع إليه.

كتاب الهبات

كتاب الهبات مدخل ... كتاب الهبات الهبة مندوب إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا" وللأقارب أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" "الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله" ومن قطعها قطعه الله وفي الهبة صلة الرحم والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطية فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعطيت ابني عطية وإن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل أعطيت كل ولدك مثل ذلك" قال: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء" قال: بلى قال: "فلا إذا" قال الشافعي رحمه الله: ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره ولأن الأقارب ينفس بعضها بعضاً ما لا ينفس العدى فإن فضل بعضهم بعطية صحت العطية لما روي في حديث النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد على هذا غيري" فلو لم يصح لبين له ولم يأمره لأن يشهد عليه غيره ولا يستنكف أن يهب القليل ولا أن يتهب القليل لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع أو ذراع لقبلت". فصل: وما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته لأنه عقد يقصد به ملك العين فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بن سلمة الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة حتى أتى الروحاء فإذا حمار عقير فقيل يا رسول الله هذا

حمار عقير فقال: "دعوه فإنه سيطلبه صاحبه" فجاء رجل من فهر فقال: يا رسول الله إني أصبت هذا فشأنكم به فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر يقسم لحمه بين الرفاق ولأن القصد منه التمليك والمشاع كالمقسوم في ذلك. فصل: وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملكه عليه كالبيع قبل القبض لا تجوز هبته لأنه عقد يقصد به تمليك المال في حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع. فصل: ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع. فصل: ولا تصح إلا بالإيجاب والقبول لأنه تمليك آدمي فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول إلى على الفور وقال أبو العباس يصح على التراخي والصحيح هو الأول لأنه تمليك مال في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع. فصل: ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض لما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إن أحب الناس غنى بعدي لأنت وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت وإن كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً من مالي ووددت أنك جذذته وحزته وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك قالت: هذان أخواي فمن أختاي قال: ذو بطن بنت خارجة فإني أظنها جارية فإن مات قبل القبض قام وارثه إن شاء قبض وإن شاء لم يقبض ومن أصحابنا من قال: يبطل العقد بالموت لأنه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة والمنصوص أنه لا يبطل لأنه عقد يئول إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار فإذا قبض ملك بالقبض ومن أصحابنا من قال يتبين أنه تلك بالعقد فإن حدث منه نماء قبل القبض كان للموهوب له لأن الشافعي رضي الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل أن يهل عليه هلال شوال وقبض بعدما أهل إن فطرة العبد على الموهوب له والمذهب الأول وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.

فصل: فإن وهب لغير الولد وولد الولد شيئاً وأقبضه لم يملك الرجوع فيه لما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما أعطى ولده وإن وهب للولد أو ولد الولد وإن سفل جاز له أن يرجع للخبر ولأن الأب لا يتهم في رجوعه لأنه لا يرجع إلا لضرورة أو لإصلاح الولد وإن تصدق عليه فالمنصوص أن له أن يرجع كالهبة ومن أصحابنا من قال لا يرجع لأن القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عز وجل فلا يجوز أن يتغير رأيه في ذلك والقصد من الهبة إصلاح حال الولد وربما يكون الصلاح في استرجاعه فجاز له الرجوع وإن تداعى رجلان نسب مولود ووهبا له مالاً لم يجز لواحد منهما أن يرجع لأنه لم يثبت بنوته فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه ثبت أنه ولده والثاني لا يجوز لأنه لم يثبت له الرجوع في حال العقد وإن وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه في ملك من يجوز له الرجوع في هبته والثاني لا يجوز لأنه رجوع على غير من وهب له فلم يجز وإن وهب لولده شيئاً فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان: أحدهما يرجع لأن حقه سابق لحقوق الغرماء والثاني لا يرجع لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه. فصل: وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشتري أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم أفلس في رجوع البائع وقد بيناه في التفليس. فصل: فإن وهب شيئاً من دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض لأن القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقة وإن وهب لمن هو مثله لم يلزمه أيضاً أن يثيبه لأن القصد من هبته اكتساب المحبة وتأكيد الصداقة وإن وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان: قال في القديم: لم يلزمه أن يثيبه عليه بعوض لأن العرف في هبة الأدنى للأعلى أن يلتمس به العوض فيصير ذلك كالمشروط وقال في الجديد: لا يجب لأنه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة النظير للنظير فإن قلنا لا يجب فشرط فيه ثواباً معلوماً ففيه قولان: أحدهما يصح لأنه تمليك مال بمال فجاز كالبيع فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه والثاني أنه باطل لأنه عقد لا يقتضي العوض فبطل شرط العوض كالرهن فعلى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه وإن شرط فيه ثواباً مجهولاً بطل قولاً واحداً لأنه شرط العوض ولأنه شرط

عوضاً مجهولاً وإن قلنا أنه يجب العوض ففي قدره ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزمه أن يعطيه إلى أن يرضى لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها وقال "أرضيت؟ " قال لا فزاده وقال: أرضيت فقال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي" والثاني يلزمه قدر قيمته لأنه عقد يوجب العوض فإذا لم يكن مسمى وجب عوض المثل كالنكاح والثالث يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله لأن العوض وجب بالعرف فوجب مقداره في العرف فإن قلنا إنه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع فإن تلفت العين رجع بقيمتها لأن كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع ومن أصحابنا من قال: لايجب لأن حق الواهب في العين وإن نقصت العين رجع فيها وهل يرجع بأرش ما نقص؟ فيه وجهان كالوجهين في رد القيمة إذا تلفت وإن شرط عوضاً مجهولاً لم تبطل لأنه شرط ما يقتضيه العقد لأن العقد على هذا القول يقتضي عوضاً مجهولاً وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب ضمن العوض بلا خلاف وإن شرط عوضاً معلوماً ففيه قولان: أحدهما أن العقد يبطل لأن العقد يقتضي عوضاً غير مقدر فبطل بالتقدير والثاني يصح لأنه إذا صح بعوض مجهول فلأن يصح بعوض معلوم أولى. فصل: وإن اختلف الواهب والموهوب له فقال الواهب وهبتك ببدل وقال الموهوب له وهبتني على غير بدل ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الواهب لأنه لم يقر لخروج الشيء من ملكه إلا على بدل والثاني أن القول قول الموهوب له لأن الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلاً الأصل عدمه.

باب العمرى والرقبى

باب العمرى والرقبى العمرى هو أن يقول أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك عمرك وفيها ثلاث مسائل: إحداها أن يقول أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعدك فهذه عطية صحيحة تصح بالإيجاب والقبول ويملك فيها بالقبض والدليل عليه ماروى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها1" لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث والثانية أن يقول أعمرتك هذه الدار

_ 1 رواه مسلم في كتاب الهبات حديث 25. أأأبو داود في كتاب البيوع باب 85. النسائي في كتاب العمري باب 4. أحمد في مسنده "3/304".

حياتك ولم يشرط شيئاً ففيه قولان: قال في القديم: هو باطل لأنه تمليك عين قدرة بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك حياة زيد وقال في الجديد: هو عطية صحيحة ويكون للمعمر في حياته ولو ورثته بعده وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر عمرى حياته فهي له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده1" ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك وتنتقل إلى الورثة فلم يكن ما جعله في حياته منافياً لحكم الأملاك والثالثة أن يقول أعمرتك حياتك فإن مت عادت إلي إن كنت حياً وإلى ورثتي إن كنت ميتاً فهي كالمسألة الثانية فتكون على قولين أحدهما تبطل والثاني تصح لأنه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى وارثه وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه. فصل: وأما الرقبى فهو أن يقول أرقبتك هذه الدار أو داري لك رقبى ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحبه فإن مت قبلي عادت إلي وإن مت قبلك فهي لك فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى وقد بينا أن الثالثة كالثانية فتكون على قولين وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتاً وهذا خطأ لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعمر وأرقب رقبى فهي للمعتمر يرثها من يرثه2". فصل: ومن وجب على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه من أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بقبول من عليه الدين لأنه تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة ولأن فيه التزاماً منه فلم يملك من غير قبوله كالهبة والمذهب الأول لأنه إسقاط حق ليس فيه تمليك مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق والعفو عن الشفعة والقصاص ولا يصح الإبراء من دين مجهول لأنه إزالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الهبة باب 32. مسلم في كتاب الهبات حديث 30 - 32. الترمذي في كتاب الأحكام باب 15. النسائي في كتاب العمري باب 1،2. أحمد في مسنده "1/250". 2 المصدر السابق.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا مدخل ... كتاب الوصايا من ثبتت له الخلافة على الأمة جاز له أن يوصي بها إلى من يصلح لها لأن أبا بكر رضي الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضي الله عنه إلى أهل الشورى رضي الله عنهم ورضيت الصحابة رضي الله عنهم بذلك. فصل: ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولي بعده جاز له أن يوصي إلى من ينطر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضي الله عنه عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عثمان والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضي الله عنهم فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله وإن كان له جد لم يجز أن يوصي إلى غيره لأن ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية. فصل: ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز أن يوصي إلى من يزوجها وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصي إلى من ينظر في مالها وهذا خطأ لما روى ابن عمر قال: زوجني قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون فأتى قدامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عمها ووصي أبيها وقد زوجتها من عبد الله بن عمر فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها" ولأن ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد. فصل: ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمي أو حج أو زكاة أو رد وديعة جاز أن يوصي إلى من يؤدي عنه لأنه إذا جاز أن يوصي في حق غيره فلأن يجوز في خاصة نفسه أولى. فصل: ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة ملك الوصية بثلثه في وجود البر لما روى عامر بن سعيد عن أبيه قال: مرضت مرضاً أشرفت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت: يا رسول الله لي مال كثير وليس يرثني إلا ابنتي أفأتصدق بمالي كله قال: "لا" قال: أتصدق بثلثي مالي قال: "لا" قلت أتصدق بالشطر قال: "لا" قلت: أتصدق بالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من

أن تتركهم عالة يتكففون الناس1" ولا يجب ذلك لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] وفسر بالوصية فجعل ذلك إليهم فدل على أنها لا تجب ولأنه عطية لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به قياساً على ما زاد على الثلث. فصل: وإن كانت ورثته فقراء فالمستحب أن لا يستوفي الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس" فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن المستحب أن لا يستوفي الثلث وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن يستوفي الثلث لأنه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا أغنياء أن يستوفيه. فصل: وينبغي لمن رأى المريض يجنف في الوصية أن ينهاه لقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن يقول اتق الله ولا توص بمالك كله ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدا عن الزيادة على الثلث.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 16. مسلم في كتاب الوصية حديث 8،8. أبو داود في كتاب الصايا باب 2. الترمذي في كتاب الصايا باب 1. الموطأ في كتاب الوصايا حديث 4. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 5. أحمد في مسنده "1/168".

فصل: والأفضل أن يقدم ما يوصي به من البر في حياته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا1" ولأنه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به بعد موته فإنه اختار أن يوصي فالمستحب أن لا يؤخر الوصية لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولأنه إذا أخر لم يؤمن أن يموت فجأة فتفوته. فصل: وأما من لا يجوز تصرفه في المال فإن كان ممن لا يميز كالمعتوه والمبرسم ومن عاين الموت لم تصح وصيته لأن الوصية تتعلق صحتها بالقول ولا قول لمن لا يميز ولهذا لا يصح إسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته فإن كان صبياً مميزاً أو بالغاً مبذراً ففيه قولان: أحدهما لا تصح وصيته لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والمبذر كالهبة والثاني تصح لأنه منع من التصرف خوفاً من إضاعة المال وليس في الوصية إضاعة المال لأنه إن عاش فهو على ملكه وإن مات لم يحتج إلى غير الثواب وقد حصل له ذلك بالوصية. فصل: وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث فإن لم يكن له وارث بطلت الوصية فيما زاد على الثلث لأن ماله ميراث للمسلمين ولا مجيز له منهم فبطلت فإن كان له وارث ففيه قولان: أحدهما أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعداً عن الوصية بما زاد على الثلث والنهي يقتضي الفساد وليست الزيادة مالاً للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث والثاني أنها تصح وتقف على إجازة الوارث فإن أجاز نفذت وإن ردها بطلت لأن الوصية صادفت ملكه وإنما يتعلق بها حق الوارث في الثاني فصحت ووقفت الإجازة كما لو باع ما فيه شفعة فإن قلنا على أنها باطلة كانت الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها الإيجاب والقبول باللفظ الذي تنعقد به الهبة ويعتبر في لزومها القبض وإن كانت الوصية عتقاً لم يصح إلا بلفظ العتق ويكون

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 93. النسائي في كتاب الزكاة باب 60. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 4. أحمد في مسنده "2/231".

الولاء فيه للوارث وإن قلنا إنها تصح كانت الإجازة إمضاء لما وصى به الموصي وتصح بلفظ الإجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو فإن كانت الوصية عتقاً كان الولاء للموصي ولا يصح الرد والإجازة إلا بعد الموت لأنه لا حق له قبل الموت فلم يصح إسقاطه كالعفو عن الشفعة قبل البيع. فصل: فإن جاز الوارث ما زاد على الثلث ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال قليل وأن ثلثه قليل وقد بان أنه كثير لزمت الإجازة فيما علم والقول قول فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه لأن الإجازة في أحد القولين هبة وفي الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وإن وصى بعبد فأجازه الوارث ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال كثير وقد بان قليل ففيه قولان: أحدهما أن القول قوله كالمسألة قبلها والثاني أنه يلزمه الوصية لأنه عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فإن هناك لم يعلم ما أجازه. فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قدر المال لإخراج الثلث فمنهم من قال الإعتبار بقدر المال في حال الوصية لأنه عقد يقتضي اعتبار قدر المال فكان الإعتبار فيه بحال العقد كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفة ألفين لم تلزم الوصية في الزيادة فإن أوصى بألف ولا مال ثم استفاد مالاً لم تتعلق به الوصية وإن وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية ومنهم من قال: الإعتبار بقدر المال عند الموت وهو المذهب لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها ولأنه لو وصى بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم تتعلق بالثمن لأنه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الألفين فإن وصى بمال ولا مال ثم استفاد مالاً تعلقت به الوصية فإن وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله لم تبطل الوصبية. فصل: وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصية للكنيسة والوصية بالسلاح لأهل الحرب فهي باطلة لأن الوصية إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها الحسنات ولهذا روي أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم1" وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم تصح فيه الوصية فإن وصى ببيع ما له من رجل من غير محاباة ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه قصد تخصيصه بالتمليك والثاني لا يصح لأن البيع من غير محاباة ليس بقربة فلم تصح الوصية به وإن وصى لذمي جاز لما روي أن صفية وصت لأخيها بثلثها ثلاثين ألفاً وكان يهودياً ولأن الذمي موضع للقربة ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية فإن وصى لحربي ففيه وجهان أحدهما: أنه لا تصح الوصية وهو قول أبي العباس بن القاص لأن القصد بالوصية نفع الموصى له وقد أمرنا بقتل الحربي وأخذ ماله فلا معنى للوصية له والثاني يصح وهو المذهب لأنه تمليك يصح للذمي فصح للحربي كالبيع. فصل: واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال في أحد القولين لا يجوز لأنه مال مستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث وقال في الثاني: يجوز لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع فإن قتلت أم الولد مولاها عتقت لأن عتقها ليس بوصية بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم يمنع القتل منه فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا إن التدبير عتق بالصفة عتق لأنه ليس بوصية وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفة تعتق وإن قلنا إنه وصية وقلنا إن الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق وإن قلنا إنها تجوز عتق من الثلث فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين لأن الأجل حق للمقتول لا حظ له في بقائه بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضي فيتخلص منه. فصل: واختلف قوله في الوصية للوارث فقال في أحد القولين لا تصح لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث2" ولأنها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث فعلى هذا الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة والثاني تصح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز لوارث وصية إلا إن شاء الورثة" فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 5. 2 رواه البخالري في كتاب الوصايا ببباب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 6.

وليست الوصية في ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية. فصل: ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية لأنه تمليك فلم يصح للميت كالهبة وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية أو لستة أشهر وليست بفراش صحت الوصية لأنه يملك بالإرث فملك بالوصية وإن وضعته لستة أشهر وهي فراش لم تصح الوصية لأنه يجوز أن يكون حدث بعد الوصية فلم تصح الوصية بالشك فإن ألقته ميتاً لم تصح الوصية لأنه لا يتقين حياته حال الوصية ولهذا لا يحكم له بالإرث فلم يحكم له بالملك بالوصية فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح الوصية وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الأول لأنه تمليك لمن لا يملك فلم يصح. فصل: فإن قال وصيت بهذا العبد لأحد هذين الرجلين لم يصح لأنه تمليك لغير معين فإن قال أعطوا هذه العبد أحد هذين الرجلين جاز لأنه ليس بتمليك وإنما هو وصية بالتمليك ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله: بع هذا العبد من أحد هذين الرجلين جاز. فصل: فإن أوصى لعبده كانت الوصية لوارثه لأن العبد لا يملك فكانت الوصية للوارث وقد بيناه فإن وصى لمكاتبه صحت الوصية لأن المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصية فإن وصى لأم ولده صحت لأنها حرة عند الاستحقاق فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصية لأنه حر عند الموت فهو كأم الولد فإن لم يعتق كانت الوصية للوارث وقد بيناه فإن وصى لعبد غيره كانت الوصية لمولاه وهل يصح قبوله من غير إذن المولى؟ فيه وجهان: أحدهما وهو الصحيح أنه يصح ويملك به المولى كما يملك ما يصطاده بغير إذنه والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري أنه لا يصح لأنه تمليك للسيد بعقد فلم يصح القبول فيه من غير إذنه وهل يصح قبول السيد فيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الإيجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالإيجاب في البيع والثاني يصح لأن القبول في الوصية يصح لغير من أوجب له وهو الوارث بخلاف البيع. فصل: وتجوز الوصية بالمشاع والمقسوم لأنه تمليك جزء من ماله فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه

كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء جاز أن يخلفه الموصى له فإن وصى بمال الكتابة جاز لما ذكرناه فإن وصى برقبته فهو على القولين في بيعه. فصل: فإن وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصية لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصية ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الإعتبار بحال الوصية لم تصح لأنه لا يملك في الحال ما وصى به. فصل: وتجوز الوصية بالمنافع لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث فكانت كالأعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعة لآخر لأن المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة بالمدة وبمنفعة مؤبدة لأن المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت الوصية بالجميع. فصل: وتجوز الوصية بما يجوز الإنتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت النجس والكلب وجلد الميتة لأنه يحل اقتناؤها للإنتفاع بها فجاز نقل اليد فيها بالوصية ولا يجوز بما لا يحل الإنتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لأنه لا يحل الإنتفاع ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصية بها. فصل: ويجوز تعليق الوصية على شرط في الحياة لأنها تجوز في المجهول فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة إذا جاز تعليقها على شرط في الحياة جاز بعد الموت. فصل: وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لأنه لا يمكن اعتبار القبول فلم يعتبر وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لأنه تمليك لمعين فلم يلزم من غير قبول كالبيع ولا يصح القبول إلا بعد الموت لأن الإيجاب بعد الموت فكان القبول بعده فإن قبل حكم له بالملك وفي وقت الملك قولان منصوصان: أحدهما تملك بالموت والقبول لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع الملك قبله كالهبة والثاني أنه موقوف فإن قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت لأنه لا يجوز أن يكون للموصي لأن الميت لا يملك ولا يجوز أن يكون للوارث لأن الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية ولا يجوز أن يكون للموصي له لأنه لو انتقل إليه لم يملك رده كالميراث فثبت أنه موقوف وروى ابن عبد الحكم قولاً ثالثاً أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق بالموت فانتقل به كالميراث.

فصل: وإن رد نظرت فإن كان في حياة الوصي لم يصح الرد لأنه لا حق له في حياته فلم يملك إسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع وإن رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لأنه يثبت له الحق فملك إسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة بعد البيع وإن رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان: أحدهما لا يصح الرد لأنه ملكه ملكاً تاماً فلم يصح رده كما لو قبضه والثاني أنه يصح الرد وهو المنصوص لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل فصح رده قبل القبض كالوقف وإن لم يقبل ولم يرد كان للورثة المطالبة بالقبول أو الرد فإن امتنع القبول والرد حكم عليه بالرد لأن الملك متردد بينه وبين الورثة كما لو تحجز أرضاً فامتنع عن إحيائها أوقف في مشرعة ماء فلم يأخذ ولم ينصرف. فصل: وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلب الوصية ولا يقوم وارثه مقامه إن مات قبل إستحقاق الوصية وإن مات بعد موته وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لأنه خيار ثابت في تملك المال فقام الوارث مقامه كخيار الشفعة.

باب مايعتبر من الثلث

باب ما يعتبر من الثلث ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من الثلث سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض أو بعضها في الصحة وبعضها في المرض لأن لزوم الجميع عند الموت فأما الواجبات من ديون الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وجب قضاؤها من رأس المال دون الثلث لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة ولا حق للورثة مع الديون فلم تعتبر من الثلث وإن وصى أن يؤدي ذلك من الثلث اعتبر من الثلث لأنها في الأصل من رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنها قصد التوفير على الورثة فاعتبرت من الثلث وإن وصى بها ولم يقل أنها من الثلث ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص لأنها من رأس المال فلما وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا والثاني هو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه إن لم يفرق بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من رأس المال وإن قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث لأنها في الأصل من رأس المال فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها وإن قرن بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحداً والثالث أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح لأنها في الأصل من رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها والقرينة تقتضي التسوية بينهما في الفعل لا في السبيل فبقيت على أصلها. فصل: وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم يعتبر من

الثلث لأنه مطلق التصرف في ماله لا حق لأحد في ماله فاعتبر من رأس المال وإن كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث لأن الإنسان لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح وإن كان ذلك في مرض مخوف واتصل به الموت اعتبر من الثلث لما روى عمران بن الحصين أن رجلاً أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل قولاً شديداً ثم دعاهم فجزأهم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ولأنه في هذه الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت وإن برئ من المرض لم يعتبر من الثلث لأنه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد وإن وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لأنه لم يلزم إلا بالقبض وقد وجد ذلك منه في المرض. فصل: وإن باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لأنه ليس بوصية لأن الوصية أن يخرج مالاً من غير عوض ولم يخرج ههنا شيئاً من غير عوض وإن كاتب عبداً اعتبر من الثلث لأن ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق بغير عوض وإن وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه من الثلث فإذا مات لم يرثه وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه لأنه ليس بوصية لأنه لم يخرج من ملكه شيئاً بغير عوض والمذهب الأول لأنه ملكه بالقبول وعتق عليه والعتق في المرض وصية والميراث والوصية لا يجتمعان فلو ورثناه بطل عتقه وإذا بطل العتق بطل الإرث فأثبتنا وأبطلنا الإرث. فصل: والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف الدائم والإسهال المتواتر وقيام الدم والسل في انتهائه والفالج الحادث في ابتدائه والحمى المطبقة لأن هذه الأمراض لا يؤمن معها معاجلة الموت فجعل كحال الموت فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم أو يومين وإسهال يوم أو يومين من غير دم والسل قبل انتهائه والفالج إذا طال لأن هذه الأمراض يؤمن معها

معاجلة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه لم يكن موته من هذه الأمراض وإن أشكل شيء من هذه الأمراض رجع إلى نفسين من أطباء المسلمين ولا يقبل فيه قول الكافر وإن ضرب الحامل الطلق فهو مخوف لأنه يخاف منه الموت وفيه قول آخر أنه غير مخوف لأن السلامة منه أكثر. فصل: وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان أو كان في البحر وتموج أو في أسر كفار يرون قتل الأسارى أو قدم للقتل في المحاربة أو الرجم في الزنا ففيه قولان: أحدهما أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث لأنه لا يأمن الموت كما لا يأمن في المرض المخوف والثاني أنه كالصحيح لأنه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم القتل القصاص فالمنصوص أنه لا تعتبر من الثلث ما لم يجرح واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياساً على الأسير في يد كفار يرون قتل الأسارى ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث لأنه غير مخوف لأن الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا فصار كالأسير في يد من لا يرى قتل الأسارى. فصل: وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخلو إما أن يكون في التبرعات المنجزة في المرض أو في الوصايا فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض فإن كانت في وقت واحد نظرت فإن كانت في هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع لتساويهما في اللزوم فإن كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوي كما يفعل في الديون وإن كان عتقاً في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين ولأن القصد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه فإن وقعت متفرقة قدم الأول فالأول عتقاً كان أو غيره لأن الأول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز إسقاطه بما بعده فإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم: إن أعتقت غانماً فأنت حر ثم أعتق غانماً قدم عتق غانم لأن عتقه سابق فإن قال إن أعتقت غانماً فأنت حر حال عتق غانم ثم أعتق غانماً فقد قال بعض أصحابنا يعتق غانم لأن عتقه غير متعلق بعتق غيره وعتق سالم متعلق بعتق غيره فإذا أعتقناهما في وقت واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدي إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لأنه أصل ويحتمل عندي أنه لا يعتق واحد منهما لأنه جعل عتقهما في وقت واحد ولا يمكن أن نقرع بينهما لما ذكرناه ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر

بالسبق فوجب أن يسقطا وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق لأن ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت فإن كانت كلها هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوي إن تساوت وإن كان الجميع عتقاً أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله وإن كان بعضها عتقاً وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان: أحدهما أن الثلث يقسم بين الجميع لأن الجميع يعتبر من الثلث ويلزم في وقت واحد والثاني يقدم العتق بما له من القوة وإن كان بعضها كتابة وبعضها هبات ففيه طريقان: أحدهما أنه لا تقدم الكتابة لأنه ليس له قوة وسراية فلم تقدم كالهبات والثاني أنها على قولين لأنها تتضمن العتق فكانت كالعتق. فصل: وإن وصى أن يحج عنه حجة الإسلام من الثلث أو يقضى دينه من الثلث وصى معها بتبرعات ففيه وجهان: أحدهما يسقط الثلث على الجميع لأن الجميع يعتبر من الثلث فإن كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفي تمم من رأس المال لأنه في الأصل من رأس المال وإنما اعتبر من الثلث بالوصية فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال والثاني يقدم الحج والدين لأنه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا. فصل: وإن وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين وإلى الورثة الثلثان وكل ما حضر من الغائب أو نض من الدين شيء قسم بين الورثة والموصى له لأن الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال وإن وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له ثلث الحاضر ويوقف الثلثان لأن الموصى له شريك الوارث في المال فصار كالشريك في المال وإن أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن الوصية في ثلث الحاضرة ماضية فمكن من التصرف فيه والثاني لا يجوز لأنا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث وإن دبر عبداً قيمته مائة وله مائتان غائبة ففيه وجهان: أحدهما يعتق ثلث العبد لأنه عتق ثلثه مستحق بكل حال والثاني وهو ظاهر المذهب إلى أنه لا يعتق لأنا لو أعتقنا الثلث حصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز. فصل: وإن وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص وقال أبو ثور وأبو العباس لا تنفذ الوصية إلا في

ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان والمذهب الأول لأن ثلث العبد ملكه وثلث ماله يحتمله فنفذت الوصية فيه كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق ثلثاه لأن الوصية هناك بثلث ماله وماله هو الباقي بعد الاستحقاق وليس كذلك ههنا لأنه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه. فصل: وإن وصى له بمنفعة عبد سنة ففي اعتبارها من الثلث وجهان: أحدهما يقوم العبد كامل المنفعة ويقوم مسلوب المنفعة في مدة سنة ويعتبر ما بينهما من الثلث والثاني تقوم المنفعة سنة فيعتبر قدرها من الثلث ولا تقوم الرقبة لأن الموصى به هو المنفعة فلا يقوم غيرها وإن وصى له بمنفعة عبد على التأبيد ففي اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه: أحدها تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق الوارث لأن الموصى له ملك المنفعة والوارث ملك الرقبة وينظر كم قدر التركة مع قيمة الرقبة مساوية المنفعة وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث والثاني تقوم المنفعة في حق الموصى له لأنه ملكها بالوصية ولا تقوم الرقبة في حق الموصى له لأنه لم يملكها ولا في حق الوارث لأنها مسلوبة المنفعة في حقها لا فائدة له فيها فعلى هذا ينظر كم قدر التركة وقيمة المنفعة فتعتبر من الثلث والثالث وهو المنصوص تقوم الرقبة بمنافعها في حق الموصي له لأن المقصود من الرقبة منفعتها فصار كما لو كانت الرقبة له فقومت في حقه وينظر قدر التركة فتعتبر قيمة الرقبة من ثلثه وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعة لواحد قومت الرقبة في حق من وصى له بها والمنفعة في حق من وصى له بها لأن كل واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتهما من الثلث. فصل: وإن وصى له بثمرة بستانه فإن كانت موجودة اعتبرت قيمتها من الثلث وإن لم تخلق فإن كانت على التأبيد ففي التقويم وجهان: أحدهما يقوم جميع البستان والثاني يقوم كامل المنفعة ثم يقوم مسلوب المنفعة ويعتبر ما بينهما من الثلث فإن احتمله الثلث نفذت الوصية فيما بقي من البستان وإن احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشاركه فيه الورثة فإن كان الذي يحتمله النصف كان للموصي له من ثمرة كل عام النصف وللورثة النصف والله أعلم.

باب جامع الوصايا

باب جامع الوصايا إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين داراً من كل جانب لما روى أبو هريرة رضي الله

عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق الجوار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا يميناً وشمالاً وقداماً وخلفاً". فصل: وإن وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن وهل يدخل فيه من لا يحفظ جميعه؟ فيه وجهان: أحدهما يدخل فيه لعموم اللفظ والثاني لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظه وإن وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا عليهم ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه لأن سماع الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم. فصل: فإن وصى للأيتام لم يدخل فيه من له أب لأن اليتيم في بني آدم من فقد الأب ولا يدخل فيه بالغ لقوله: "لا يتم بعد الحلم1" وهل يدخل فيه الغني فيه وجهان: أحدهما يدخل فيه لأنه يتيم بفقد الأب والثاني لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غني فإن وصى للأرامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال فيه وجهان: أحدهما لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال والثاني يدخل فيه لأنه قد يسمى الرجل أرملاً كما قال الشاعر: كل الأرامل قد قضيت حاجتهم ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وهل يدخل فيه من لها مال على وجهين كما قلنا في الأيتام. فصل: وإن وصى للشيوخ أعطى من جاوز الأربعين وإن وصى للفتيان والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين وإن وصى للغلمان والصبيان أعطى من لم يبلغ لأن هذه الأسماء لا تطلق في العرف إلا على ما ذكرناه. فصل: وإن وصى للفقراء جاز أن يدفع إلى الفقراء والمساكين وإن وصى للمساكين جاز أن يدفع إلى المساكين والفقراء لأن كل واحد من الإسمين يطلق على الفريقين وإن وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في العطية لأان الجمع بينهما يقتضي الجمع في العطية كما قلنا في آية الصدقات وإن وصى لسبيل الله تعالى دفع إلى الغزاة من أهل الصدقات لأنه قد ثبت لهم هذا الاسم في عرف الشرع فإن وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين لأن الرقاب في عرف الشرع اسم للمكاتبين وإن وصى لأحد هذه الأصناف دفع إلى ثلاثة منهم لأنه قد ثبت لهذه الألفاظ عرف الشرع في ثلاثة وهو

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.

في الزكاة فحملت الوصية عليها فإن وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كأحدهم فمن أصحابنا من قال: هو بظاهره أن يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم لأنه أضاف إليه وإليهم فوجب أن يكون كأحدهم ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء لأنه أضاف إليه وإليهم فوجب أن يساويهم ومنهم من قال يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة أرباعه إلى الفقراء لأن أقل الفقراء ثلاثة فكأنه وصى لأربعة فكان حق كل واحد منهم الربع وإن وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء وزيد فقير لم يعط غير الدينار لأنه قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار. فصل: وإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين والهاشميين وطيء وتميم ففيه قولان: أحدهما أن الوصية تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم كما قلنا في الوصية للفقراء والثاني أن الوصية باطلة لأنه لا يمكن أن يعطي الجميع ولا عرف هذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء فإنه قد ثبت لهذا اللفظ عرف وهو في ثلاثة في الزكاة. فصل: وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لأنه تمليك ملكه بالإذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع والمستحب أن يصرفه إلى من لا يرث الموصي من أقاربه فإن لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من الرضاع فإن لم يكونوا صرف إلى جيرانه لأنه قائم مقام الموصي والمستحب للموصي أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي. فصل: وإن وصى بالثلث لزيد وجبريل كان لزيد نصف الثلث وتبطل في الباقي فإن وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع لزيد لأن ذكر الرياح لغو والثاني أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها فإن قال ثلثي لله ولزيد ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع لزيد وذكر الله تعالى للتبرك كقوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] والثاني أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقي للفقراء لأن عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء. فصل: وإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكراً وأنثى صرف إليهما وسوى بينهما لأن ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والأنثى وإن وصى إن ولدت ذكراً فله ألف وإن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكراً وأنثى استحق الذكر الألف والأنثى المائة فإن ولدت خنثى دفع إليه المائة لأنه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين فإن ولدت ذكرين أو الأنثيين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الوارث يدفع الألف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من يشاء

من الأنثيين لأن الوصية لأحدهما فلا تدفع إليهما والاجتهاد في ذلك إلى الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه والثاني أنه يشترط الذكران في الألف والأنثيان في المائة لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما ويخالف العبد فإن جعله إلى الوارث وههنا لم يجعله إلى الوارث والثالث أنه يوقف الألف بين الذكرين والمائة بين الأنثيين إلى أن يبلغا ويصطلحا لأن الوصية لأحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث فوجب التوقف فإن قال إن كان ما في بطنك ذكراً فله ألف وإن كان أنثى فله مائة فولدت ذكراً وأنثى لم يستحق واحداً منهما شيئاً لأنه شرط أن يكون جميع ما في البطن ذكراً أو جميعه أنثى ولم يوجد واحد منهما. فصل: فإن أوصى لرجل بسهم أو بقسط أو بنصيب أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير لأن هذه الألفاظ تستعمل في القليل والكثير. فصل: فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم نصيباً لأنه نصيب أحدهم فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية بنصف المال لأنه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل ويحتمل أنه جعله مع ابنه فلا يلزمه إلا اليقين ولأنه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا فيما ذكرناه فإن كان له ابنان فوصى لهما بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية لأن نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال ابنه من غير الميراث ومن أصحابنا من قال يصح ويجعل المال بينهما كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطلة لأنه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن. فصل: فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلاً نصيب أحدهم لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله ولهذا يروى أن عمر رضي الله عنه أضعف الصدقة على نصارى بني تغلب أي أخذ مثلي ما يؤخذ من المسلمين فإن وصى له بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم وقال أبو ثور: يعطي أربعة أمثاله وهذا غلط لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله فوجب أن يكون الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه. فصل: فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجاز الورثة قسم المال بينهما على خمسة للموصى له بالثلث سهمان وللموصى له بالنصف ثلاثة أسهم فإن لم يجيزوا قسم الثلث بينهما على خمسة على ما ذكرناه لأن ما قسم على التفاضل عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث والمال بين الغرماء فإن أوصى لرجل

بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة قسم المال بينهما على أربعة للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم وللموصى له بالثلث منهم لأن السهام في الوصايا كالسهام في المواريث ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال أعيلت الفريضة بالسهم الزائد فكذلك في الوصية فإن لم يجيزوا قسم الثلث بينهما على ما قسم الجميع. فصل: فإن قال أعطوه رأساً من رقيقي ولا رقيق له أو قال أعطوه عبدي الحبشي وله عبد سندي أو عبدي الحبشي وسماه باسمه ووصفه بصفة من بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية باطلة لأنه وصى له بما لا يملكه فإن كان له رقيق أعطى منه واحداً سليماً كان أو معيباً لأنه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الاسم فإن مات ماله من الرقيق بطلت الوصية لأنه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصي بطلت الوصية لأنه جاء وقت الوجوب ولا رقيق له فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لأنه بدل ما وجب له. فصل: فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ ومن أصحابنا من قال لا يجزي إلا ما يجزي في الكفارة لأن العتق في الشرع له عرف وهو ما يجزي في الكفارة فحملت الوصية عليه فإن وصى أن يعتق عنه رقبة فعجز الثلث عنها ولم وتجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لأن الوصية تعلقت بجميعها فإذا تعذر الجميع بقي في قدر الثلث فإن وصى أن يعتق عنه رقاب أعتق ثلاثة لأن الرقاب جمع وأقله ثلاثة فإن عجز الثلث عن الثلاثة أعتق عنه ما أمكن فإن اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شيء فإن لم يمكن أن يشتري بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين وإن أمكن أن يشتري به بعض الثالثة ففيه وجهان: أحدهما يزاد في ثمن الرقبتين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الرقاب فقال: "أكثرها ثمناً وأنفسها عند أهلها" والثاني أن يشتري بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار1" ولأن ذلك أقرب إلى العدد الموصى به. فصل: فإن قال أعتقوا عبداً من عبيدي وله خنثى حكم له بأنه رجل ففيه وجهان:

_ 1 رواه البخاري في كتاب الكفارات با 6. مسلم في كتاب العتق حديث 22،23. أبو داود في كتاب العتق باب 13. أحمد في مسنده "2/420".

أحدهما أنه يجوز لأنه محكوم بأنه عبد والثاني لا يجوز لأن اسم العبد لا ينصرف إليه فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل وروى المزني أنه يجوز فمن أصحابنا من قال يجوز كما نقله المزني لأنه من الرقيق ومنهم من قال لا يجوز كما نقله الربيع لأن إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل. فصل: فإن قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن والمعز لأن اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إلى تيس ولا كبش على المنصوص ومن أصحابنا من قال: يجوز الذكر والأنثى لأن الشاة اسم للجنس يقع على الذكر والأنثى كالإنسان يقع على الرجل والمرأة فإن قال: أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر فإن كانت ذكوراً لم يدفع إليه أنثى لأنه أضاف إلى المال وليس في المال غيره فإن كانت غنمه ذكوراً وإناثاً فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف إلى المال فإن قال أعطوه ثوراً لم يعط بقرة فإن قال أعطوه جملاً لم يعط ناقة فإن قال أعطوه بعيراً فالمنصوص أنه لا يعطي ناقة ومن أصحابنا من قال يعطى لأن البعير كالإنسان يقع على الذكر والأنثى فإن قال أعطوه رأساً من الإبل أو رأساً من البقر أو رأساً من الغنم جاز الذكر والأنثى لأنه ذلك اسم للجنس. فصل: فإن قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطي فرساً أو بغلاً أو حماراً واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا ما قاله على عادة أهل مصر فإن الدواب في عرفهم الأجناس الثلاثة فإن كان الموصي بمصر أعطى واحداً من الثلاثة وإن كان في غيرها لم يعط إلا الفرس لأنه لا تطلق الدابة في سائر البلاد إلا على الفرس وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يعطي واحداً من الثلاثة في جميع البلاد لأن اسم الدواب يطلق على الجميع فإن قال أعطوه دابة من دوابي وليس عنده إلا واحداً من الثلاثة أعطى منه لأنه أضاف إلى ماله وليس له غيره فإن قال: أعطوه دابة ليقاتل عليها العدو لم يعط إلا فرساً فإن قال ليحمل عليه لم يعط إلا بغلاً أو حماراً فإن قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرساً أو حماراً لأن القرينة دلت على ما ذكرناه. فصل: فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة لأنه ليس عنده كلب ولا يمكن ان يشتري فبطلت الوصية فإن قال أعطوه كلباً من كلابي وعنده كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية لأن ما لا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه فإن كان ينتفع بها من أعطى واحداً منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ زرع فيدفع إليه ما دلت عليه القرينة فإن كان

له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى بجميعها ولم تجز الورثة ردت إلى الثلث وفي كيفية الرد وجهان: أحدهما يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الأعيان والثاني يدفع إليه أحدها وتخالف سائر الأعيان لأن الأعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم فاستوى جميعها وفيما يأخذ وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ واحداً منها بالقرعة والثاني يعطيه الوارث ما شاء منها فإن كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه فإن كان له مال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يدفع الجميع إلى الموصى له لأن أقل المال خير من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه والثاني هو قول أبي سعيد الاصطخري أنه يدفع إليه ثلث الكلب لأنه لا يجوز أن يحصل للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه ولا يمكن اعتبار الكلب من ثلث المال لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه. فصل: وإن وصى له بطبل من طبوله وليس له إلا طبول الحرب أعطى واحداً منها وإن لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت فإن لم يصلح وهو طبل لغير اللهو وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطلة لأنه وصية بمحرم وإن كان يصلح لمنفعة مباحة مع بقاء الاسم جازت الوصية لأنه يمكن الانتفاع به في مباح وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو أعطي طبل الحرب لأن طبل اللهو لا تصح الوصية به فيصير كالمعدوم وإن كان يصلح لمنفعة مباحة أعطاه الوارث ما شاء منهما. فصل: فإن وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود البناء كانت الوصية بعود اللهو لأن إطلاق الاسم ينصرف إليه فإن كان عود اللهو يصلح لمنفعة مباحة دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لأن اسم العود يقع من غير وتر ولا مضراب وإن كان لا يصلح لغير اللهو فالوصية باطلة لأنه وصية بمحرم ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لأن المحرم كالمعدوم كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله وعنده طبل حرب وطبل لهو أنه يجعل الوصية في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم والمذهب أنه لا يعطى شيئاً لأن العود لا يطلق إلا على عود اللهو والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب فإن قال أعطوه

عوداً من عيداني وليس عنده إلا عود قوس أو عود البناء أعطي منها لأنه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه. فصل: فإن وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذي يرمي عنه النبل والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق لأن إطلاق الاسم ينصرف إلى ما يرمي عنه ولا يعطي معه الوتر ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لأنه لا ينتفع به إلا مع الوتر والصحيح أنه لا يعطى لأن الاسم يقع عليه من غير وتر فإن قال: أعطوه قوساً من قسيي وليس عنده إلا قوس الندف أو قوس البندق أعطي مما عنده لأنه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه وإن كان عنده قوس البندق وقوس الندف أعطي قوس البندق لأن الاسم إليه أسبق. فصل: فإن وصى بعتق مكاتبه أو بالإبراء مما عليه اعتبر من الثلث أقل الأمرين من قيمته أو مال الكتابة لأن الإبراء عتق والعتق إبراء فاعتبر أقلهما وألغي الآخر فإن احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال وإن لم يحتمل شيئاً منه لديوان عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فإن أدى عتق أو عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة فإن احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن يحتمل النصف من أقل الأمرين عتق نصفه وبقي نصفه على الكتابة فإن أدى عتق وإن عجز رق وإن احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الأقل فعتق به فإن لم يكن له مال غير العبد نظر فإن كان قد حل عليه مال الكتابة عتق ثلثه في الحال وبقي الباقي على الكتابة إن أدى عتق وإن عجز رق وإن لم يحل عليه مال الكتابة ففيه وجهان: أحدهما لا يتعجل عتق شيء منه لأنه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فإنه لا تمضي الوصية في شيء حتى يحصل للورثة مثلاه والثاني وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق بالأداء أو الرق بالعجز لأن الورثة على يقين من الثلثين إما بالأداء وإما بالعجز بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لأنه ليس على يقين من سلامة الغائب. فصل: فإن قال ضعوا عن مكاتبي أكثر ام عليه وضع عنه النصف وشيء لأنه هو الأكثر فإن قال ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع إلا شيئاً وروى المزني أنه إذا قال ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع إلا شيئاً فمن أصحابنا من قال الصحيح مارواه الربيع لأن قوله من كتابته يقتضي

التبعيض وما رواه المزني خطأ في النقل والذي يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لأن قوله ما شاء عدم في الكل والبعض وقال أبو إسحاق: ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضاً صحيح فإنه يقتضي أن يبقى من الكل شيء لأنه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل فإن قال ضعوا عنه ما قل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير لأنه ما من قدر إلا وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه فإن قال ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالاً لأن إطلاق الأكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع نجومه أوسط في القدر وأوسط في المدة وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لأن الوسط يقع على الثلاثة فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الأوسط في العدد فإن كانت النجوم ثلاثة وضع عنه الثاني فإن كانت أربعة وضع عنه الثاني والثالث فإن كانت خمسة وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس. فصل: وإن كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح الوصية لأنه لا شيء له في ذمته فصار كما لو وصى بمال في ذمة حر ولا شيء له في ذمته وإن وصى له بما يقبضه منه صحت الوصية لأنه أضاف إلى مال يملكه فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفي هذا عندي نظر لأنه لا يملكه بالقبض وإنما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه وإن وصى برقبته والكتابة فاسد نظرت فإن لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان: أحدهما أن الوصية جائزة لأنها صادفت ملكه والثاني أنها باطلة لأنه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصية وإن وصى بها وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولاً واحداً كما لو باع من رجل شيئاً بيعاً فاسداً ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الأول ومن أصحابنا من قال: القولان في الجميع ويخالف البيع فإن فاسده لا يجري مجرى الصحيح في الملك وفي الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الأولى. فصل: وإن وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لأن الحج من الميقات وما قبله سبب إليه فإن وصى به من الثلث ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يحج عنه من بلده فإن عجز الثلث عنه تمم من رأس المال لأنه يجب عليه الحج من بلده والثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لأن الحج يجب بالشرع من الميقات فحملت الوصية عليه وإن أوصى أن يجعل جميع الثلث في الحج الفرض

حج عنه من بلده وإن عجز الثلث عن ذلك جح عنه من حيث أمكن من طريقه وإن عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج من الميقات لأن الحج من الميقات مستحق من رأس المال وإنما جعله من الثلث توفيراً على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقي فيما لم يف من رأس المال. فصل: وإن أوصى بحج التطوع وقلنا إنه تدخله النيابة نظرت فإن قال أحجوا بمائة من ثلثي حج عنه من حيث أمكن وإن لم يوجد من يحج بهذا القدر بطلت الوصية وعاد المال إلى الورثة لأنها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل بمال فرده وإن قال أحجوا عني بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج فإن اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لايكفي لحجة أخرى من بلده حج من حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات فإن عجز الفضل عن حجة من الميقات رد الفضل إلى الورثة وإن أمكن أن يعتمر به لم يفعل لأن الموصى له هو الحج دون العمرة فإن قال أحجوا عني حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده إلى الميقات فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه. فصل: وإن وصى أن يحج عنه بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله فإن كان الثلث مائة سقطت وصيته للموصى له بالباقي لأن وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شيء فإن أجاز الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائة وإلى الموصى له بالمائة مائة وإن لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين لأنهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائة فإن كان الثلث أكثر من مائة وأجاز الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائة إلى الموصى له بالمائة ودفع ما بقي إلى الموصى له بالباقي وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى نصفها وهو الثلث فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث وفي النصف الآخر وجهان: أحدهما يقدم فيه الموصى له بالمائة ولايدفع إلى الموصى له بالباقي شيء حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه وإن كان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئاً قبل أن يستوفي الموصى له بالباقي ما يبقى والوجه الثاني أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف على قدر وصيتهما من الثلث فإن كانا مائتين اقتسما المائة نصفين لكل واحد منهما خمسون وإن كان مائة وخمسون اقتسما الخمسة والسبعين

أثلاثاً للموصى له بالمائة خمسون وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون وعلى هذا القياس لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له فرض أو وصية. فصل: وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر بما يبقى من الثلث ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق إن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة لأن الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شيء من الثلث فعلى هذا إن أجاز الورثة نقدت الوصيتان وإن لم يجيزوا ردت الوصية إلى الثلث فإن كان الثلث مائة استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين وإن كان الثلث خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى له بالمائة سهم فإن كان الثلث ألفاً قسم على أحد عشر سهماً للموصى له بالثلث عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم والوجه الثاني وهو قول أبي على بن أبي هريرة إن الحكم في هذه المسألة كالحكم في المسألة قبلها لأنه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث لأن الوصية الأولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثاً ثانياً فإذا أوصى بعد المائة بما يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني فصار موصياً بثلثي ماله كالمسألة قبلها. فصل: وإن وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقي من الثلث قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى فإن خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فإن بقي من الثلث شيء دفع إلى الآخر وإن لم يبق شيء بطلت الوصية بالباقي لأن وصيته فيما بقي وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصي قوم سليماً ودفع إلى الموصى له بالباقي لأنه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم وإن مات العبد بعد موت الموصي بطلت الوصية فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من الثلث لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما. فصل: فإن وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه فإن كان جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها ولا يجوز للمالك وطؤها لأنه تملك الرقبة من غير منفعة ولا للموصى له وطؤها لأنها تملك المنفعة من غير الرقبة والوطء لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه: أحدها يملكه الموصى له بالمنفعة لأن المهر له والثاني يملكه المالك لأنه يملك رقبتها والثالث لا يصح العقد إلا باتفاقهما لأن لكل واحد منهما حقاً فلا ينفرد به أحدهما دون الآخر فإن

أتت بولد مملوك ففيه وجهان: أحدهما أنه للموصى له لأنه من جملة فوائدها فصار كالكسب والثاني أنه كالأم رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لأنه جزء من الأم فكان حكمه حكم الأم فإن قتل ففي قيمته وجهان: أحدهما أنها للمالك لأنها بدله فكانت له والثاني وهو الصحيح أنه يشتري به مثله للمالك رقبته وللموصى له منفعته لأنه قائم مقام الأصل فكان حكمه كحكم الأصل فإن جنى على طرفه ففي أرشه وجهان: أحدهما أنه للمالك لأنه بدل ملكه والثاني وهو الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبة للمالك وما قابل منه ما نقص من المنفعة للموصى له لأنه دخل النقص عليهما فقسط الأرش عليهما فإن احتاج العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبو سعيد الاصطخري أن النفقة على الموصى له بالمنفعة لأن الكسب له والثاني أنها على المالك وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن النفقة على الرقبة فكانت على مالكها والثالث أنها في كسبه فإن لم يف الكسب ففي بيت المال لأنه لا يمكن إيجابها على المالك لأنه لا يملك الإنتفاع ولا على الموصى له لأنه لا يملك الرقبة فلم يبق إلا ما قلناه فغن احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقي أو الدار الموصى بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما لأنه لو انفرد كل واحد منهما بملك الجميع يجبر على الإنفاق فإذا اشتركا لم يجب. فصل: فإن أراد المالك بيع الرقبة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز لأنه يملكها ملكاً تاماً والثاني أنه لا يجوز لأنها عين مسلوبة المنفعة فلم يجز بيعها كالأعيان التي لامنفعة فيها والثالث يجوز بيعها من الموصى له لأنه يمكنه الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لأنه لا يمكنه الإنتفاع بها فإن أراد أن يعتقه جاز لأنه يملكه ملكاً تاماً وللموصى له أن يستوفي المنفعة بعد العتق لأنه تصرف في الرقبة فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لأن هناك ملك بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة.

باب الرجوع في الوصية

باب الرجوع في الوصية يجوز الرجوع في الوصية لأنها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة قبل القبض ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لأنه فسخ عقداً قبل إتمامه فجاز بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار وفسخ الهبة قبل القبض وإن قال هو حرام عليه فهو رجوع لأنه لا يجوز أن يكون وصية وهو محرم عليه فإن قال لوارثي فهو رجوع

لأنه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له وإن قال هو تركتي ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأن التركة للورثة والثاني أنه ليس برجوع لأن الوصية من جملة التركة. فصل: وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لآخر لم يكن ذلك رجوعاً لإمكان أن يكون نسي الأول أو قصد الجمع بينهما فإن قال ما وصيت به لفلان فقد وصيت به لآخر فهو رجوع ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة قبلها والمذهب الأول لأنه صرح بالرجوع. فصل: وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب فهو رجوع لأنه صرفه عن الموصى له وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع لأن تعريضه لزوال الملك صرف عن الموصى له ومن أصحابنا من قال أنه ليس برجوع لأنه لم يزل الملك وليس بشيء وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعاً لأن الوصية بثلث المال عند الموت إلا بثلث ما باعه فإن وصى بعبد ثم دبره فإن قلنا إن التدبير عتق بصفة كان ذلك رجوعاً لأنه عرضه لزوال الملك وإن قلنا إنه وصية وقلنا في أحد القولين إن العتق يقدم على سائر الوصايا كان ذلك رجوعاً لأنه أقوى من الوصية فأبطلها وإن قلنا إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان: أحدهما أن ليس برجوع فيكون نصفه مدبراً ونصفه موصى به كما لو أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر والثاني أنه رجوع لأن التدبير أقوى لأنه يتنجز من غير قبول والوصية لا تتم إلا بالقبول فقدم التدبير كما يقدم ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية. فصل: وإن وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم يكن ذلك رجوعاً لأن هذه التصرفات لا تنافي الوصية فإن كانت جارية فوطئها لم يكن ذلك رجوعاً لأنه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعاً كالاستخدام وقال أبو بكر بن الحداد المصري إن عزل عليها لم يكن رجوعاً وإن لم يعزل عنها كان رجوعاً لأنه قصد التسري بها. فصل: وإن وصى بطعام معين فخلطه بغير كان ذلك رجوعاً لأنه جعله على صفة لا يمكن تسليمه فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم يكن ذلك رجوعاً لأن الوصية مختلطة بمثلها والذي خلط به مثله فلم يكن ذلك رجوعاً فإن خلطه بأجود منه كان رجوعاً لأنه أحدث فيه بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها فإن خلطه بما دونه ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه ليس برجوع لأنه نقص حدثه فيه فلم يكن رجوعاً كما لو أخلف بعضه والثاني أنه رجوع لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود

منه فإن نقله إلى بلد أبعد بلد الموصى له ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه لو لم يرد الرجوع لما أبعده عنه والثاني أنه ليس برجوع لأنه باق على صفته. فصل: فإن وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعاً لأنه جعله كالمستهلك وإن وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه أو بعجين فخبزه كان ذلك رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم ولأنه جعله للإستهلاك وإن وصى له بخبز فجعله فتيتاً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه إطلاق اسم الخبز فأشبه إذا ثرده والثاني ليس برجوع لأن الاسم باق عليه لأنه يقال خبز مدقوق وإن وصى برطب فجعله تمراً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه اسم الرطب والثاني ليس برجوع لأنه أبقى له وأحفظ على الموصى له. فصل: وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم وإن أوصى له بقطن فحشى به فراشاً ففيه وجهان: أحدهما رجوع لأنه جعله للإستهلاك والثاني ليس برجوع لأن الاسم باق عليه. فصل: وإن أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها كان رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم ولأنه جعله للإستهلاك وإن وصى له بلحم فطبخه أو شواه كان ذلك رجوعاً لأنه جعله للأكل وإن قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب إذا جعله تمراً فصل: وإن وصى له بثوب فقطعه قميصاً أو بساج فجعله باباً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه إطلاق اسم الثوب والساج ولأنه جعله للإستعمال والثاني أنه ليس برجوع لأن اسم الثوب والساج باق عليه. فصل: وإن وصى بدار فهدمها كان رجوعاً لأنه تصرف أزال به الاسم فكان رجوعاً كما لو وصى بحنطة فطحنها وإن تهدمت نظرت فإن لم يزل عنها اسم الدار فالوصية باقية فيما بقي وأما ما انفصل عنها فالمنصوص أنه خارج من الوصية لأنه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى وحكى القاضي أبو القاسم ابن كج رحمه الله وجهاً آخر أنه للموصى له لأنه تناولته الوصية فلم يخرج منها بالإنفصال وإن زال عنها اسم الدار ففي الباقي من العرصة وجهان: أحدهما أنه تبطل فيه الوصية لأنه أزال عنها اسم الدار والثاني لا تبطل لأنه لم يوجد من جهته ما يدل على الرجوع. فصل: وإن وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعاً لأنه لا يراد البقاء وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعاً وإن غرسها أو بنى فيها ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه جعلها لمنفعة مؤبدة فدل على الرجوع والثاني ليس برجوع لأنه استيفاء منفعة فهو كالزراعة فعلى هذا في موضع الأساس وقرار الغراس وجهان: أحدهما أنه لا تبطل

فيه الوصية كالبياض الذي بينهما فإذا مات الغراس أو زال البناء عاد إلى الموصى له والثاني أنه تبطل الوصية فيه لأنه جعله تابعاً لما عليه. فصل: وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك رجوعاً لأنه قد تنقضي الإجارة قبل الموت فإن مات قبل انقضاء الإجارة ففيه وجهان: أحدهما يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الإجارة والثاني أنها تبطل الوصية بقدر ما بقي من مدة انقضاء الإجارة في مدة الباقي.

باب الأوصياء

باب الأوصياء لا تجوز الوصية إلا إلى بالغ عاقل حر عدل فأما الصبي والمجنون والعبد الفاسق فلا تجوز الوصية إليهم لأنه لا حظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية وأما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم لقوله عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ولأنه غير مأمون على المسلم ولهذا قال الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 8] وفي جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه يجوز أن يكون ولياً له فجاز أن يكون وصياً له كالمسلم والثاني لا يجوز كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم. فصل: وتجوز الوصية إلى المرأة لما روي أن عمر رضي الله عنه وصى إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت فإذا ماتت فهو إلى ذوي الرأي من أهلها ولأنها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل واختلف أصحابنا في الأعمى فمنهم من قال: لا تجوز الوصية لأنه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح من الأعمى وفضل نظر لا يدرك إلا بالعين. فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه الشروط التي تصح بها الوصية إليه فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة فإن وصى إلى صبي فبلغ أو كافر فأسلم أو فاسق فصار عدلاً قبل الوفاة صحت الوصية لأن التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الأداء أو الحكم دون التحمل ومنهم من قال تعتبر عند العقد وعند الموت ولا تعتبر فيما بينهما لأن حال العقد حال الإيجاب وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما ومنهم من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها لأن كل

وقت من ذلك يجوز أن يستحق فيه التصرف بأن يموت فاعتبرت الشروط في الجميع. فصل: وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الوصي فإن كان لضعف ضم إليه معين أمين وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصية إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه. فصل: ويجوز أن يوصي إلى نفسين لما روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت النظر في وقفها إلى علي كرم الله وجهه فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها ويجوز أن يجعل إليهما وإلى كل واحد منهما لأنه تصرف مستفاد بالإذن فكان على حسب الإذن فإن جعل إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف فإن ضعف أحدهما أو فسق أو مات جاز للآخر أن يتصرف ولا يقام مقام الآخر غيره لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما وحده فإن وصى إليهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف لأنه لم يرض بأحدهما فإن ضعف أحدهما ضم إليه من يعينه فإن فسق أحدهما أو مات أقام الحاكم من يقوم مقامه لأن الموصي لم يرض بنظره وحده فإن أراد الحاكم أن يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لأنه لم يرض الموصي باجتهاده وحده فإن ماتا أو فسقا فهل للحاكم أن يفوض إلى واحد؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الأمر فيه إلى الحاكم والثاني لا يجوز لأنه لم يرض بنظر واحد وإن اختلف الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين فإذا بلغا إلى التصرف فإن كان التصرف إلى كل واحد منهما تصرف كل واحد منهما في الجميع وإن كان إليهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف دون الآخر. فصل: ومن وصى إليه في شيء لم يصر وصياً في غيره ومن وصى إليه إلى مدة لم يصر وصياً بعد المدة لأنه تصرف بالإذن فكان على حسب الإذن. فصل: وللوصي أن يوكل فيما لم تجر به العادة أن يتولاه بنفسه كما قلنا في الوكيل ولا يجوز أن يوصي إلى غيره لأنه يتصرف بالإذن فلم يملك الوصية كالوكيل فإذا قال أوصيت إليك فإن مت فقد أوصيت إلى فلان صح لأن عمر رضي الله عنه وصى إلى حفصة فإذا ماتت فإلى ذوي الرأي من أهلها ووصت فاطمة رضي الله عنها إلى علي كرم الله وجهه فإذا مات فإلى ابنيها ولأنه علق وصية التالي على شرط فصار كما لو قال: وصيت إليك شهراً ثم قال إلى فلان فإن أوصى إليه وأذن له أن يوصي إلى من يرى فقد

قال في الوصايا لا يجوز وقال في اختلاف العراقيين يجوز فمن أصحابنا من قال يجوز قولاً واحداً لأنه ملك الوصية والتصرف في المال فإذا جاز أن ينقل التصرف في المال إلى الوصي جاز أن ينقل الوصية إليه وما قال في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز لما ذكرناه والثاني لا يجوز لأنه يعقد الوصية عن الموصي في حال لا ولاية له فيه وإن وصى إليه وأذن له أن يوصي بعد موته إلى رجل بعينه ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه قطع اجتهاده فيه بالتعيين والثاني أنه كالمسألة الأولى لأن علة المسألتين واحدة. فصل: ولا تتم الوصية إليه إلا بالقبول لأنه وصية فلا تتم بالقبول كالوصية له وفي وقت القبول وجهان: أحدهما يصح القبول في الحال وفي الثاني لأنه أذن له في التصرف فصح القبول في الحال والثاني كالوكالة والثاني لا يصح إلا بعد الموت كالقبول في الوصية له. فصل: وللموصي أن يعزل الوصي إذا شاء وللوصي أن يعزل نفسه متى شاء لأنه تصرف بالإذن لكل واحد منهما فسخه كالوكالة. فصل: إذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة فقال الوصي أنفقت عليك وقال الصبي لم تنفق علي فالقول قول الوصي لأنه أمين وتعذر عليه إقامة البينة على النفقة فإن اختلفا في قدر النفقة قال أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار وقال الصبي بل أنفقت علي خمسين ديناراً فإن كان ما يدعيه الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لأنه أمين وإن كان أكثر من النفقة بالمعروف فعليه الضمان لأنه فرط في الزيادة وإن اختلفا في المدة فقال الوصي أنفقت عشر سنين وقال الصبي خمس سنين ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري إن القول قول الوصي كما لو اختلفنا في قدر النفقة والثاني وهو قول أكثر أصحابنا إن القول قول الصبي لأنه اختلاف في مدة الأصل عدمها. فصل: وإن اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي أنه دفعه إليه وأنكر الصبي ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص أن القول قول الصبي لأنه لم يأتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها والثاني أن القول قول الوصي كما قلنا في النفقة. فصل: ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذنه إلا دين يقضى عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له فأما الدين فالدليل عليه ما روي أن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج عن أبيها فأذن لها فقالت أينفعه ذلك؟ قال: "نعم كما لو

كان على أبيك دين فقضيته نفعه" وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمه توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: "نعم" قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر: 10] فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء لإخوانهم من الموتى وأما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها فلا يلحق الميت ثوابها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له1" واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة يمين فأعتق عنه فمنهم من قال لا يقع العتق عن الميت بل يكون للمعتق لأن العتق غير متحتم على الميت لأنه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه كما لو تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة ومنهم من قال: يقع عنه لأنه لو أعتق في حياته سقط به الفرض وبالله التوفيق.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الوصية حديث 14. أبو داود في كتاب الوصية باب 14. النسائي في كتاب الوصايا باب 8.

كتاب العتق

كتاب العتق مدخل ... كتاب العتق العتق قربة مندوب إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه1" ولا يصح إلا من مطلق التصرف في المال لأنه تصرف في المال كالبيع والهبة فإن أعتق الموقوف عليه العبد الموقوف لم يصح عتقه لأنه لا يملكه في أحد القولين ويملكه في الثاني إلا أنه يبطل به حق البطن الثاني فلم يصح وإن أعتق المريض عبداً وعليه دين يستغرقه لم يصح لأن العتق في المرض وصية فلم يصح مع الدين وإن أعتق العبد الجاني فعلى ما ذكرناه في العبد المرهون. فصل: ويصح بالصريح والكناية وصريحه العتق والحرية لأنه ثبت لهما عرف الشرع وعرف اللغة والكناية كقوله: سيبتك وخليتك وحبلك على غاربك ولا سبيل عليك ولا سلطان لي عليك وأنت لله وأنت طالق وما أشبههما لأنه تحتمل العتق فوقع بها العتق مع النية وفي قوله: فككت رقبتك وجهان أحدهما أنه صريح لأنه ورد به

_ 1 رواه البخاري في كتاب الكفارات باب 6. مسلم في كتاب العتق حديث 22، 23. الترمذي في كتاب النذور باب 14.

القرآن قال الله سبحانه: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [سورة البلد: 13] والثاني أنه كناية لأنه يستعمل في العتق وغيره وإن قال لأمته أنت علي كظهر أمي ونوى العتق ففيه وجهان: أحدهما تعتق لأنه لفظ يوجب تحريم الزوجة فكان كناية في العتق كسائر الطلاق والثاني لا تعتق لأنه لا يزيل الملك فلم يكن كناية في العتق بخلاف الطلاق. فصل: وإن كان بين نفسين عبد فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسراً قوم عليه نصيب شريكه وعتق لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركاً له في عبد فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل وأعطى شركاؤه حصصهم وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق ما رق" وإن كان بين مسلم وكافر عبد مسلم فأعتق الكافر حصته وهو موسر فالمنصوص أنه يقوم عليه فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الكافر لا يملك العبد المسلم لم يقوم عليه لأن التقويم يوجب التمليك ومنهم من قال: يقوم عليه قولاً واحداً لأنه تقويم متلف فاستوى فيه المسلم والكافر كتقويم المتلفات ويخالف البيع لأن القصد منه التمليك وفي ذلك صغار على الإسلام والقصد من التقويم العتق ولا صغار فيه فإن كان نصف العبد وقفاً ونصفه طلقاً فأعتق صاحب الأرض نصيبه لم يقوم عليه الوقف لأن التقويم يقتضي التمليك والوقف لا يملك ولأن الوقف لا يعتق بالمباشرة فلأن لا يعتق بالتقويم أولى. فصل: وتجب قيمة النصيب عند العتق لأنه وقت الإتلاف ومتى يعتق فيه ثلاثة أقوال: أحدها يعتق في الحال فإن كانت جارية فولدت كان الولد حراً لما روى أبو المليح عن أبيه أن رجلاً أعتق شقصاً له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس لله شريك" وفي بعضها فأجاز عتقه والثاني أنه يقع بدفع القيمة فإن كان جارية فولدت كان نصف الولد حراً ونصفه مملوكاً لما روى سالم عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهم نصيبه فإن كان موسراً يقوم عليه ولا وكس ولا شطط ثم يعتق" ولأنه عتق بعوض فلا يتقدم على العوض كعتق المكاتب والثالث أنه مراعى فإن دفع العوض حكمنا بأنه عتق في الحال وإن لم يدفع حكمنا بأنه لم يعتق لأنا إذا أعتقناه في

الحال أضررنا بالشريك في إتلاف ماله قبل أن يسلم له العوض وإن لم نعتقه أضررنا بالعبد في إبقاء أحكام الرق عليه فإذا قلنا إنه مراعى لم يكن على كل واحد منهما ضرر فإن دفع القيمة كان حكمه حكم القول الأول وإن لم يدفع كان حكمه حكم القول الثاني فإن بذل المعتق القيمة أجبرنا الشريك على قبضها وإن طلب الشريك أجبرنا المعتق على دفعها فإن أمسك الشريك عن الطلب والمعتق عن الدفع وقلنا إن العتق يقف على الدفع فللعبد أن يطالب المعتق بالدفع والشريك بالقبض ليصل إلى حقه فإن أمسك الجميع فللحاكم أن يطالب بالدفع والقبض لما في العتق من حق الله تعالى فإن أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن يعتق لأنه عتق صادف ملكه والثاني وهو المذهب أنه لا يعتق لأن العتق مستحق من جهة المعتق والولاء مستحق له فلا يجوز إبطاله عليه. فصل: وإن كان بين اثنين جارية فأحبلها أحدهما ثبتت حرمة الاستيلاد في نصيبه وفي نصيب الشريك الأقوال التي ذكرناها في العتق لأن الاستيلاد كالعتق في إيجاب الحرية فكان كالإعتاق في التقويم والسراية. فصل: وإن اختلف المعتق والشريك في قيمة العبد والبينة متعذرة فإن قلنا إنه يسري في الحال فالقول قول المعتق لأنه غارم لما استهلكه فكان القول قوله كما لو اختلفا في قيمة ما أتلفه بالجناية وإن قلنا لا يعتق إلا بدفع القيمة فالقول قول الشريك لأن نصيبه باق على ملكه فلا ينزع منه إلا بما يقربه كالمشتري في الشفعة وإن ادعى الشريك أنه كان يحسن صنعة تزيد بها القيمة فأنكر المعتق ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كالإختلاف في القيمة وفيه قولان ومنهم من قال قول المعتق قولاً واحداً لأن الظاهر معه والشريك يدعي صنعة الأصل عدمها وإن ادعى المعتق عيباً في العبد ينقص به القيمة وأنكر الشريك ففيه طريقان أيضاً: من أصحابنا من قال هو كالإختلاف في القيمة فيكون على قولين ومنهم من قال: القول قول الشريك قولاً واحداً لأن الظاهر معه والمعتق يدعي عيباً الأصل عدمه.

فصل: وإن كان المعتق معسراً عتق نصيبه وبقي نصيب الشريك على الرق والدليل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنه وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق منه ما رق ولأن تنفيذ العتق لدفع الضرر عن العبد فلو أعتقنا نصيب الشريك لأضررنا به لأنا نتلف ماله ولا يحصل له عوض والضرر لا يزال بالضرر وإن كان موسراً بقيمة البعض عتق منه بقدره لأن ما وجب بالإستهلاك إذا عجز عن بعضه وجب ما قدر عليه كبدل المتلف وإن كان معه قيمة الحصة وعليه دين يستغرق ما معه ففيه قولان بناء على القولين في الدين هل يمنع وجوب الزكاة فإن قلنا لا يمنع وجب عليه العتق وإن قلنا يمنع لم يجب العتق. فصل: وإن ملك عبداً فأعتق بعضه سرى إلى الباقي لأنه موسر بالقدر الذي يسري إليه كما لو أعتق شركاً له في عبد وهو موسر. فصل: وإن أوصى بعتق شرك له في عبد فأعتق عنه لم يقوم عليه نصيب شريكه وإن احتمله الثلث لأنه بالموت زال ملكه فلا ينفذ إلا فيما استثناه بالوصية وإن وصى بعتق نصيبه بأن يعتق عنه نصيب شريكه والثلث يحتمله قوم عليه وأعتق عنه الجميع لأنه في الوصية بالثلث كالحي فإذا قوم على الحي قوم على الميت بالوصية. فصل: وإن كان عبد بين ثلاثة لأحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس فأعتق صاحب الثلث والسدس نصيبهما في وقت واحد وكانا موسرين قوم النصيب الشريك عليهما بالسوية لأن التقويم استحق بالسراية فقسط على عدد الرؤوس كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل فجرحه أحدهما جراحة والآخر جراحات. فصل: وإن كان له عبدان فأعتق أحدهما بعينه ثم أشكل أمر بأن يتذكر فإن قال أعتقت هذا قبل قوله لأنه أعرف بما قال فإن اتهمه الآخر حلف لجواز أن يكون كاذباً فإن نكل حلف الآخر وعتق العبدان أحدهما بإقراره والآخر بالنكول واليمين وإن قال هذا بل هذا عتقا جميعاً لأنه صار راجعاً عن الأول مقراً بالثاني فإن مات قبل أن يبين رجع إلى قول الوارث لأن له طريقاً إلى معرفته فإن قال الوارث: لا أعلم فالمنصوص أنه يقرع بينهما لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فرجع إلى القرعة ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه يوقف إلى أن ينكشف لأن القرعة تفضي إلى أن يرق من أعتقه ويعتق من أرق فوجب أن يوقف إلى أن يبين والأول هو الصحيح لأن البيان قد فات والوقوف يضر بالوارث في رقيه وبالحر في حق نفسه. فصل: وإن أعتق عبداً من أعبد أخذ بتعيينه وله أن يعين من شاء فإن قال هو سليم بل غانم عتق سالم ولم يعتق غانم لأنه تخير لتعيين عتق فإذا عينه في واحد سقط خياره

في الثاني ويخالف القسم قبله لأن ذلك إخبار لا خيار له فيه فلم يسقط حكم خبره فإن مات قبل أن يعين ففيه وجهان: أحدهما لا يقوم الوارث مقامه في التعيين كما لا يقوم مقامه في تعيين الطلاق في إحدى المرأتين فعلى هذا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق والثاني يقوم مقامه وهو الصحيح لأنه خيار ثابت يتعلق بالمال فقام الوارث فيه مقامه كخيار الشفعة والرد بالعيب. فصل: ومن ملك أحد الوالدين وإن علوا أو أحد المولودين وإن سفلوا عتقوا عليه لقوله تعالى: {تكاد تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 90 - 93] فنفى الولادة مع العبودية على أنه لا يجتمعان ولأن الولد بعض منه فيصير كما لو ملك بعضه وإن ملك بعضه فإن كان بسبب من جهته كالبيع والهبة وهو موسر قوم عليه الباقي لأنه عتق بسبب من جهته فصار كما لو أعتق بعض عبد وإن كان سبب من جهته كالإرث لم يقوم عليه لأنه عتق من غير سبب من جهته وإن ملك من سوى الوالدين والمولودين من الأقارب ولم يعتق عليه لأنه لا بعضية بينهما كالأجانب وإن وجد من يعتق عليه مملوكاً فالمستحب أن يشتريه ليعتق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه" ولا يجب عليه ذلك لأنه استجلاب مال لقربة لم يتقدم وجوبها فلم يجب كشراء المال للزكاة وإن وصى للمولى عليه بأبيه فإن كان لا يلزمه نفقته وجب على الولي قبوله لأنه يعتق عليه فيحصل على جمال عاجل وثواب آجل من غير إضرار وإن كانت تلزمه نفقته لم يجب قبوله لأنه يعتق عليه ويطالب بنفقته وفي ذلك إضرار فلم يجز وإن وصى له ببعضه فإن كان معسراً لزمه قبوله لأنه لا ضرر عليه من جهة التقويم ولا من جهة النفقة وإن كان موسراً والأب ممن تلزمه نفقته لم يجب قبوله لأنه تلزمه نفقته وفي ذلك إضرار وإن كانت لا تلزمه نفقته ففيه قولان: أحدهما لا يجوز قبوله لأنه ملكه يقتضي التقويم وفي ذلك إضرار والثاني يلزم قبوله ولا يقوم عليه لأنه يعت عليه بغير اختياره فلم يقوم عليه كما لو ملكه بالإرث.

باب القرعة

باب القرعة والقرعة أن تقطع رقاع متساوية ويكتب في كل رقعة ما يراد إخراجه وتجعل في

بنادق من طين متساوية الوزن والصفة وتجفف وتغطى بشيء ثم يقال لرجل لم يحضر الكتابة والبندقة أخرج بندقة ويعمل بما فيها فإن كان القصد عتق الثلث جزؤوا ثلاثة أجزاء وإن كان القصد عتق الرابع جزؤوا أربعة أجزاء وإن كان القصد عتق النصف جزؤوا نصفين وتعدل السهام فإن كان القصد عتق الثلث فإن كان عددهم وقيمته متساوية فإن كانوا ستة أعبد قيمة كل واحد منهم مائة جعل كل اثنين جزءاً ثم الحاكم بالخيار بين أن يكتب في الرقاع الأسماء ويخرج الأسماء على الحرية والرق وبين أن يكتب الرق والحرية ويخرج على الأسماء فإن اختار كتب الأسماء كتب كل اسمين في رقعة فإن شاء أخرج القرعة على الحرية فإذا خرجت القرعة باسم اثنين عتقا ورق الباقون وإن شاء أخرج على الرق فإن خرجت رق من فيها ثم يخرج قرعة أخرى على الرق فإذا خرجت رق من فيها ويعتق الباقيان والإخراج على الحرية أولى لأنه أقرب إلى فصل الحكم فإن اتفق العدد واختلفت القيم وأمكن تعديل العدد بالقيمة بأن يكونوا ستة قيمة اثنين أربعمائة وقيمة اثنين ستمائة وقيمة اثنين مائتان جعل اللذان قيمتهما أربعمائة جزءاً وضم أحد العبدين المقومين بستمائة إلى أحد العبدين المقومين بمائتين ويجعل العبدان الآخران جزءاً ويخرج القرعة على ما ذكرناه من الوجهين وإن اختلفت قيمتهم ولم يتفق عددهم بأن كانوا ثمانية قيمة واحد مائة وقيمة ثلاثة مائة وقيمة أربعة مائة عدلوا بالقيمة فيجعل العبد جزءاً والثلاثة جزءاً والأربعة جزءاً فإن خرجت قرعة العتق على العبد عتق ورق السبعة وإن خرجت على الثلاثة عتقوا ورق الخمسة وإن خرجت على الأربعة عتقوا ورق الأربعة لأنه لا يمكن تعديلهم بغير القيمة فعدلوا بالقيمة وعلى هذا لو كانوا اثنين قيمة أحدهما مائة وقيمة الآخر مائتان جعلا جزأين وأقرع بينهما فإن خرجت قرعة العتق على المقوم بمائة عتق جميعه ورق الآخر وإن خرجت على المقوم بمائتين عتق نصفه ورق نصفه وجميع الآخر فإن اتفق العدد واختلفت القيم فإن عدل بالعدد اختلفت القيم وإن عدل بالقيمة اختلف العدد بأن كانوا ستة قيمة واحد مائة وقيمة اثنين مائة وقيمة ثلاثة مائة فالمنصوص أنهم يعدلون بالقيمة فيجعل العبد جزءاً والعبدان جزءاً والثلاثة جزءاً وتخرج القرعة على ما ذكرناه من الوجهين ومن أصحابنا من قال: يعدلون بالعدد فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءاً ويضم أحد الثلاثة إلى المقوم بمائة فيجعلان جزءاً وقيمتهما مائة وثلث ويجعل الآخران جزءاً وقيمتهما ثلثمائة وأقرع بينهم فإن خرجت القرعة على المقومين بالمائة وقد استكملا الثلث ورق الباقون وإن خرجت على العبدين

المقوم أحدهما بمائة والآخر بثلث المائة عتقا ورق الأربعة الباقون ويقرع بين العبدين اللذين خرجت القرعة عليهما لأنهما أكثر من الثلث فلم ينفذ العتق فيهما فإن أقرع فخرجت القرعة على المقوم بمائة عتق ورق الآخر وإن خرجت على المقوم بثلث المائة عتق وعتق من الآخر الثلثان لاستكمال الثلث ورق الباقي والصحيح هو المنصوص عليه لأن فيما قال هذا القائل يحتاج إلى إعادة القرعة وتبعيض الرق والحرية في شخص واحد فإن اختلف العدد والقيم ولم يمكن التعديل بالعدد ولا بالقيمة بأن كانوا خمسة وقيمة أحدهم مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلثمائة وقيمة الرابع أربعمائة وقيمة الخامس خمسمائة ففيه قولان: أحدهما أنه يكتب أسماؤهم في رقاع بعددهم ثم يخرج على العتق فإن خرج المقوم بخمسمائة وهو الثلث عتق ورق الأربعة وإن خرج المقوم بأربعمائة عتق وقد بقي من الثلث مائة فيخرج اسم آخر فإن خرج اسم المقوم بثلثمائة عتق منه ثلثه ورق باقيه والثلاثة الباقون وعلى هذا القياس يعمل في كل ما يخرج والقول الثاني أنهم يجزؤون ثلاثة أجزاء على القيمة دون العدد فيجعل المقوم بخمسمائة جزءاً ويجعل المقوم بثلاثمائة والمقوم بمائتين جزءاً ويجعل المقوم بأربعمائة والمقوم بمائة جزءاً ثم يخرج القرعة ويعتق من فيها وهو الثلث ويرق الباقون لأن النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء. فصل: قال الشافعي: وإن أعتق ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فمات واحد ثم مات السيد أقرع بين الحيين والميت فإن خرج سهم الحرية على الميت رق الاثنان وحكم من خرج عليه سهم الحرية حكم الأحرار منذ خوطب بالعتق إلى أن مات وكان له ما اكتسب واستفاد بإرث وغيره وإن خرج سهم الحرية على أحد الحيين لم يعتق منه إلا ثلثاه لأن الميت قبل موت سيد مات عبداً فلم يكن له حكم ما خلف السيد وإن مات المعتق ولم يقرع بينهم حتى مات اثنان أقرع بين الحي والميتين فإن خرج بينهم العتق على الحي عتق كله وأعطي كل ما استفاد من يوم خوطب بالعتق ورق الميتان. فصل: إذا أعتق في مرضه ستة أعبد لا مال له غيرهم فاعتق اثنان بالقرعة ثم ظهر مال يحتمل أن يعتق آخر إن جعل الأربعة جزءين وأقرع بينهم وأعتق منهم اثنان. فصل: وإن أعتق في مرضه أعبداً له ومات وعليه دين يستغرق التركة لم ينفذ العتق لأن العتق في المرض وصية فلا ينفذ إلا في ثلث ما يفضل به بعد قضاء الدين وإن استغرق نصفها جعل التركة جزءين ويكتب في رقعة دين وفي رقعة تركة وإن استغرق الثلث جعلوا ثلاثة أجزاء في رقعة دين وفي رقعتين تركة ويقرع بينهم فمن خرجت عليه قرعة

الدين بيع في الدين وما سواه يجعل ثلاثة أجزاء ويعتق منه الثلث لأنه اجتمع حق الدين وحق التركة وحق العتق وليس بعضها بالبيع والإرث والعتق بأولى من البعض وللقرعة مدخل في تمييز العتق من غيره فأقرع بينهم. فصل: وإن أعتقهم ومات وأقرع بينهم وأعتق الثلث ثم ظهر دين مستغرق لم ينفذ العتق لما ذكرناه فإن قال الورثة نحن نقضي الدين وننفذ العتق ففيه وجهان: أحدهما أن لهم ذلك لأن المنع من نفوذ العتق لأجل الدين فإذا قضي الدين زال المنع والثاني أن ليس لهم ذلك لأنهم تقاسموا العبيد بالقرعة لأنه تعلق بهم حق الغرماء فلم يصح كما لو تقاسم شريكان ثم ظهر شريك ثالث فعلى هذا يقضي الدين ثم يستأنف العتق وإن كان الدين يستغرق نصف التركة فهل يبطل العتق بالجميع فيه وجهان: أحدهما يبطل كما قلنا في قسمة الشريكين والثاني يبطل بقدر الدين لأن بطلانه بسببه فيقدر بقدره فإن كان الذي أعتق عبدين عتق من كل واحد منهما نصفه ورق النصف ثم يقرع بينهما لجمع الحرية فإن خرجت القرعة لأحدهما وكانت قيمتهما سواء عتق وبيع الآخر في الدين وإن كانت قيمة أحدهما أكثر فخرجت القرعة على أكثرهما قيمة عتق منه نصف قيمة العبدين ورق باقيه والعبد الآخر وإن خرجت على أقلهما قيمة عتق وعتق من الثاني تمام النصف وبيع الباقي في الدين.

باب المدبر

باب المدبر التدبير قربة لأنه يقصد به العتق ويعتبر من الثلث في الصحة والمرض لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدبر من الثلث" ولأنه تبرع يتنجز بالموت فاعتبر من الثلث كالوصية فإن دبر عبداً وأوصى بعتق آخر وعجز الثلث عنهما أقرع بينهما ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يقدم المدبر لأنه يعتق بالموت والموصى بعتقه لا يعتق بالموت والصحيح هو الأول لأن لزومهما بالموت فاستويا. فصل: ويصح من السفيه لأنه إنما منع من التصرف حتى لا يضيع ماله فيفتقر وبالتدبير لا يضيع ماله لأنه باق على ملكه وإن مات استغنى عن المال وحصل له

الثواب وهل يصح من الصبي المميز؟ فيه قولان: أحدهما أنه يصح لما ذكرناه في السفيه والثاني لا يصح وهو الصحيح لأنه ليس من أهل العقود فلم يصح تدبيره كالمجنون. فصل: والتدبير هو أن يقول إن مت فأنت حر فإن قال دبرتك أو أنت مدبر ونوى العتق صح وإن لم ينو فالمنصوص في المدبر أنه يصح وقال في المكاتب: إذا قال كاتبتك على كذا وكذا لم يصح حتى يقول إن أديت أنت حر فمن أصحابنا من نقل جوابه في المدبر إلى المكاتب وجوابه في المكاتب إلى المدبر وجعلهما على قولين أحدهما أنهما صريحان لأنهما موضوعان للعتق في عرف الشرع والثاني أنهما كنايتان فلا يقع العتق بهما إلا بقرينة أو نية لأنهما يستعملان في العتق وغيره ومنهم من قال في المدبر صريح وفي المكاتب كناية ولم يذكر فرقاً يعتمد عليه. فصل: ويجوز مطلقاً وهو أن يقول إن مت فأنت حر ويجوز مقيداً وهو أن يقول إن مت من هذا المرض أو في هذا البلد فأنت حر لأنه عتق معلق على صفة فجاز مطلقاً ومقيداً كالعتق المعلق على دخول الدار ويجوز تعليقه على شرطك بأن يقول إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي كما يجوز أن يعلق العتق المعلق على دخول الدار بشرط قبله فإن وجد الشرط صار مدبراً وإن لم يوجد الشرط حتى مات السيد لم يصر مدبراً لأنه علق التدبير على صفة وقد بطلت الصفة بالموت فسقط ما عتق عليه. فصل: ويجوز تدبير المعتق بصفة كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة أخرى فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بالصفة وبطل التدبير به وإن مات قبل وجود الصفة عتق بالتدبير وبطل العتق بالصفة ويجوز تدبير المكاتب كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة فإن دبره صار مكاتباً مدبراً ويستحق العتق بالكتابة والتدبير فإن أدى المال قبل الموت عتق بالكتابة وبطل التدبير وإن مات قبل الأداء فإن كان يخرج من الثلث عتق بالتدبير وبطلت الكتابة وإن لم يخرج جميعه عتق منه بقدر الثلث ويسقط من مال الكتابة بقدره وبقي الباقي على الكتابة ولا يجوز تدبير أم الولد لأن الذي يقتضيه التدبير هو العتق بالموت وقد استحقت مال الكتابة بقدره وبقي الباقي على الكتابة ولا يجوز تدبير أم الولد لأن الذي يقتضيه التدبير هو العتق بالموت وقد استحقت ذلك بالاستيلاد فلم يفد التدبير شيئاً فإذا دبرها ومات عتقت بالاستيلاد من رأس المال. فصل: ويجوز تدبير الحمل كما يجوز في بعض عبد كما يجوز عتقه ويجوز في العتق فإن كان بين رجلين عبد فدبر أحدهما نصيبه وهو موسر فهل يقوم عليه نصيب شريكه ليصير الجميع مدبراً؟ فيه قولان: أحدهما يقوم عليه لأنه أثبت له شيئاً يفضي إلى

العتق لا محالة فأوجب التقويم كما لو استولد جارية بينه وبين غيره والثاني وهو المنصوص أنه لا يقوم عليه لأن التقويم إنما يجب بالإتلاف كالعتق أو بسبب يوجب الإتلاف كالإستيراد والتدبير ليس بإتلاف ولا سبب يوجب الإتلاف لأنه يمكن نقضه بالتصرف فلم يوجب التقويم فإن كان له عبد فدبر بعضه فالمنصوص أنه لا يسري إلى الباقي ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يسري فيصير الجميع مدبراً ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها فإن كان عبد بين اثنين فدبراه بأن قال كل واحد منهما إذا مت فأنت حر جاز كما لو أعتقاه فإن أعتق أحدهما نصيبه بعد التدبير وهو موسر فهل يقوم عليه نصيب شريكه ليعتق؟ فيه قولان منصوصان أحدهما لا يقوم عليه لأن لنصيب شريكه جهة يعتق بها فاستغنى عن التقويم ولأنا إذا قومناه على المعتق أبطلنا على شريكه ما ثبت له من العتق والولاء بحكم التدبير والثاني يقوم عليه ليصير الكل حراً لأن المدبر كالقن في الملك والتصرف فكان كالقن في التقويم والسراية فإن كان بين نفسين عبد فقالا إذا متنا فأنت حر لم يعتق حصة واحد منهما إلا بموته وموت شريكه فإن ماتا معاً عتق عليهما بوجود الصفة فإن مات أحدهما قبل الآخر انتقل نصيب الميت إلى وارثه ووقف عتقه على موت الآخر فإذا مات الآخر عتق فإن قالا أنت حبيس على آخرنا موتاً فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها إلا في فصل واحد وهو أن في المسألة الأولى إذا مات أحدهما انتقل نصيب الميت إلى وارثه إلى أن يموت الآخر وفي هذه إذا مات أحدهما كان منفعة نصيبه موصى بها للآخر إلى أن يموت لقوله أنت حبيس على آخرنا موتاً فإذا مات الآخر عتق. فصل: ويملك المولى بيع المدبر لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر منه ولم يكن له مال غيره فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة ويملك هبته ووقفه وكتابته قياساً على البيع ويملك أكسابه ومنافعه وأرش ما يجني عليه لأنه لما كان كالعبد القن في التصرف في الرقبة كان كالقن فيما ذكرناه وإن جنى خطأ تعلق الأرش برقبته وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع وبين أن يفديه كما يفدي العبد القن لأنه كالقن في جواز بيعه فكان كالقن في جواز التسليم للبيع والفداء وإن مات السيد قبل أن يفديه فإن قلنا لا يجوز عتق الجاني لم يعتق وللوارث الخيار بين التسليم للبيع وبين الفداء كالسيد في حياته وإن قلنا يجوز عتق الجاني عتق من الثلث ووجب أرش الجناية من التركة لأنه عتق بسبب من جهته فتعلق الأرش بتركته ولا يجب إلا أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية لأنه لا يمكن تسليمه للبيع بعد العتق.

فصل: وإن كان المدبر جارية فأتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها في التدبير؟ فيه قولان: أحدهما يتبعها لأنها تستحق الحرية فتبعها الولد كأم الولد فعلى هذا إن ماتت الأم في حياة المولى لم يبطل التدبير في الولد والثاني لا يتبعها لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن والوصية وإن دبرها وهي حامل تبعها الولد قولاً واحداً كما يتبعها في العتق وإن دبر عبداً ثم ملكه جارية فأتت منه بولد لحقه نسبه لأنه يملكها في أحد القولين وله فيها شبهة في القول الثاني لاختلاف الناس في ملكه فإن قلنا لا يملك الجارية فالولد مملوك للمولى لأنه ولد أمته وإن قلنا يملكها فالولد ابن المدبر ومملوكه لأنه من أمته وهل يكون مدبراً فيه وجهان: أحدهما أنه ليس بمدبر لأن الولد إنما يتبع الأم دون الأب والأم غير مدبرة والثاني أنه مدبر لأنها علقت به في ملكه فكان كالأب كولد الحر من أمته. فصل: ويجوز الرجوع في التدبير بما يزيل الملك كالبيع والهبة المقبوضة لما رويناه من حديث جابر رضي الله عنه وهل يجوز بلفظ الفسخ كقوله فسخت ونقضت ورجعت؟ فيه قولان: أحدهما أنه يجري مجرى الوصية فيجوز له فسخه بلفظ الفسخ وهو اختيار المزني لأنه تصرف يتنجز بالموت يعتبر من الثلث فهو كالوصية والثاني أنه يجري مجرى العتق بالصفة فلا يجوز فسخه بلفظ الفسخ وهو الصحيح لأنه عتق علقه على صفة فهو كالعتق بالصفات وإن وهبه ولم يقبضه فقد اختلف أصحابنا فمنهم من قال إن قلنا إنه كالوصية فهو رجوع وإن قلنا إنه كالعتق بالصفة فليس برجوع لأنه لم يزل الملك ومنهم من قال هو رجوع على القولين لأنه تصرف يفضي إلى زوال الملك وإن كاتبه فإن قلنا إن التدبير كالوصية كان رجوعاً كما لو أوصى بعبد ثم كاتبه وإن قلنا إنه كالعتق بالصفة لم يكن رجوعاً بل يصير مدبراً مكاتباً وحكمه ما ذكرناه فيمن دبر مكاتباً وإن دبره ثم قال إن أديت إلى وارثي ألفاً فأنت حر فإن قلنا إنه كالوصية كان ذلك رجوعاً في التدبير لأنه عدل عن العتق بالموت إلى العتق بأداء المال فبطل التدبير ويتعلق العتق بالأداء وإن قلنا إنه كالعتق بالصفة وخرج من الثلث عتق بالتدبير وسقط حكم الأداء بعده لأنه علق عتقه بصفة متقدمة ثم علقه بصفة متأخرة فعتق بأسبقهما وأسبقهما الموت فعتق به وإن دبر جارية ثم أولدها بطل التدبير لأن العتق بالتدبير والاستيلاد في وقت واحد والاستيلاد أقوى فأسقط التدبير.

فصل: ويجوز الرجوع في تدبير البعض كما يجوز التدبير في الابتداء في البعض وإن دبر جارية فأتت بولد من نكاح أو زنا وقلنا إنه يتبعها في التدبير ورجع في تدبير الأم لم يتبعها الولد في الرجوع وإن تبعها في التدبير كما أن ولد أم الولد يتبعها في حق الحرية ثم لا يتبعها في بطلان حقها من الحرية بموتها وإن دبرها الصبي وقلنا إنه يصح تدبيره فإن قلنا يجوز الرجوع بلفظ الفسخ جاز رجوعه لأنه لا حجر عليه في التدبير فجاز رجوعه فيه كالبالغ وإن قلنا لا يجوز الرجوع إلا بتصرف يزيل الملك لم يصح الرجوع في تدبيره إلا بتصرف يزيل الملك من جهة الولي. فصل: وإن دبر عبده ثم ارتد فقد قال أبو إسحاق: لا يبطل التدبير فإن مات عتق العبد لأنه تصرف نفذ قبل الرد فلم تؤثر الردة فيه كما لو باع ماله ثم ارتد ومن أصحابنا من قال: يبطل التدبير لأن المدبر إنما يعتق إذا حصل للورثة شيء مثلاه وهاهنا لم يحصل للورثة شيء فلم يعتق ومنهم من قال: يبنى على الأقوال في ملكه فإن قلنا يزول ملكه بالردة بطل لأنه زال ملكه فيه فأشبه إذا باعه وإن قلنا لا يزول لم يبطل كما لو لم يدبر وإن قلنا موقوف فالتدبير موقوف وما قال أبو إسحاق غير صحيح لأنه ارتد والمدبر على ملكه فزال بالردة بخلاف ما لو باعه قبل الردة وقال الآخر: لا يصح لأن ماله بالموت صار للمسلمين وقد حصل لهم مثلاه. فصل: وإن دبر الكافر عبداً كافراً ثم أسلم العبد ولم يرجع السيد في التدبير ففيه قولان: أحدهما يباع عليه وهو اختيار المزني لأنه يجوز بيعه فبيع عليه كالعبد القن والثاني لا يباع عليه وهو الصحيح لأنه لا حظ للعبد في بيعه لأنه يبطل به حقه من الحرية فعلى هذا هو بالخيار بين أن يسلمه إلى مسلم وينفق عليه إلى أن يرجع في التدبير فيباع عليه أو يموت فيعتق عليه وبين أن يخارجه على شيء لأنه لا سبيل إلى قراره في يده فلم يجز إلا ما ذكرناه فإن مات السيد وخرج من الثلث عتق وإن لم يخرج عتق منه بقدر الثلث وبيع الباقي على الورثة لأنه صار قناً. فصل: وإن اختلف السيد والعبد فادعى العبد أنه دبره وأنكر السيد فإن قلنا إن التدبير كالعتق بالصفة صح الاختلاف لأنه لا يمكن الرجوع فيه والقول قول السيد لأن الأصل أنه لم يدبر وإن قلنا إنه كالوصية ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول السيد لأن جحوده رجوع وهو يملك الرجوع والثاني أنه ليس برجوع وهو المذهب لأنه قال في

الدعوى والبينات إذا أنكر السيد قلنا له قل رجعت ولا يحتاج إلى اليمين فدل على أن جحوده ليس برجوع والدليل عليه أن جحود الشيء ليس برجوع كما أن جحود النكاح ليس بطلاق فعلى هذا يصح الاختلاف والحكم فيه كالحكم فيه إذا قلنا إنه عتق الصفة وإن مات السيد واختلف العبد والوارث صح الاختلاف على القولين والقول قول الوارث وإن كان في يده مال فقال كسبته بعد العتق وقال الوارث بل كسبته قبل العتق فالقول قول المدبر لأن الأصل عدم الكسب إلا في الوقت الذي وجد فيه وقد وجد وهو في يد المدبر فكان له وإن كان أمة ومعها ولد فادعت أنها ولدته بعد التدبير وقال الوارث بل ولدته قبل التدبير فالقول قول الوارث لأن الأصل في الولد الرق. فصل: ويجوز تعليق العتق على صفة مثل أن يقول إن دخلت الدار فأنت حر وإن أعطيتني ألفاً فأنت حر لأنه عتق على صفة فجاز كالتدبير فإن قال ذلك في المرض اعتبر من الثلث لأنه لو أعتقه اعتبر من الثلث فإن عقده اعتبر من الثلث وإن قال ذلك وهو صحيح اعتبر من رأس المال سواء وجدت الصفة وهو صحيح أو وجدت وهو مريض لأن العتق إنما يعتبر من الثلث في حال المرض لأنه قصد إلى الإضرار بالورثة في حال يتعلق حقهم بالمال وههنا لم يقصد إلى ذلك فإن علق العتق على صفة مطلقة ثم مات بطل لأن تصرف الإنسان مقصور على حال الحياة فحمل على إطلاق الصفة عليه وإن علق عتقه على صفة بعد الموت لم يبطل بالموت لأنه يملك العتق بعد الموت في الثلث فملك عقده على صفة بعد الموت. فصل: وإن علق عتق أمة على صفة ثم أتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها الولد؟ فيه قولان كما قلنا في المدبر فإن بطلت الصفة في الأم بموتها أو بموته بطلت في الولد لأن الولد يتبعها في العتق لا في الصفة بخلاف ولد المدبرة فإنه يتبعها في التدبير فإذا بطل فيها بقي فيه وإن قال لأمته أنت حرة بعد موتي بسنة فمات السيد وهي تخرج من الثلث فللوارث أن يتصرف في كسبها ومنفعتها ولا يتصرف في رقبتها لأنها موقوفة على العتق فإن أتت بولد بعد موت السيد فقد قال الشافعي رحمه الله: يتبعها الولد قولاً واحداً فمن أصحابنا من قال قولان كالولد الذي تأتي به قبل الموت والذي قاله الشافعي رحمه الله أحد القولين ومنهم من قال يتبعها الولد قولاً واحداً لأنها أتت به وقد استقر عتقها بالموت فيتبعها الولد كأم الولد بخلاف ما قبل الموت فإن عتقها غير مستقر لأنه يلحقه الفسخ. فصل: وإن علق عتق عبده على صفة لم يملك الرجوع فيها بالقول لأنه كاليمين أو

كالنذر والرجوع في الجميع لا يجوز ويجوز الرجوع فيه بما يزيل الملك كالبيع وغيره فإن علق عتقه على صفة ثم باعه ثم رجع إليه فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان بناء على القولين فيمن علق طلاق امرأته على صفة وبانت منه ثم تزوجها وإن دبر عبده ثم باعه ثم رجع إليه فإن قلنا إن التدبير كالوصية لم يرجع لأن الوصية إذا بطلت لم تعد وإن قلنا إنه كالعتق بصفة فهل يعود أم لا على ما ذكرناه في القولين.

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب مدخل ... كتاب المكاتب الكتابة جائزة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] ولا تجوز الكتابة إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد على المال فلم يجز إلا من جائز التصرف في المال كالبيع ولا يجوز أن يكاتب عبداً أجيراً لأن الكتابة تقتضي التمكين من التصرف والإجارة تمنع من ذلك ولا يجوز أن يكاتب عبداً مرهوناً لأن الرهن يقتضي البيع والكتابة تمنع البيع وتجوز كتابة المدبر وأم الولد لأنه عتق بصفة يجوز أن تتقدم على الموت فجاز في المدبر وأم الولد كالعتق المعلق على دخول الدار فإن كاتب مدبراً صار مكاتباً ومدبراً وقد بينا حكمه في المدبر وإن كاتب أم ولد صارت مكاتبة وأم ولد فإن أدت المال قبل موت السيد عتقت بالكتابة وإن مات السيد قبل الأداء عتقت بالاستيلاد وبطلت الكتابة. فصل: وتجوز كتابة بعض العبد إذا كان باقيه حراً لأنه كتابة على جميع ما فيه من الرق فأشبه كناية العبد في جميعه وإن كان عبد بين اثنين فكاتبه أحدهما في نصيبه بغير إذن شريكه لم يصح لأنه لا يعطى من الصدقات ولا يمكنه الشريك من الاكتساب بالأسفار وإن كاتبه بإذن شريكه ففيه قولان: أحدهما لا يصح لما ذكرناه من نقصان كسبه والثاني يصح لأن المنع لحق الشريك فزال بالأذن وإن كان لرجل عبد فكاتبه في بعضه فالمنصوص أنه لا يصح واختلف أصحابنا فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يصح قولاً واحداً كما لا يصح أن يبعض العتق فيه ومنهم من قال إذا قلنا إنه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك بإذن لشريك صح ههنا لأن اتفاقهما على كتابة البعض كاتفاق الشريكين فإن وصى رجل بكتابة عبد وعجز الثلث عن جميعه فالمنصوص أنه يكاتب القدر الذي يحتمله الثلث فمن أصحابنا من جعل في الجميع قولين ومنهم من قال يصح في الوصية وقد فرق بينه وبين العبد المشترك بأن الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة في جميعه والكتابة في الوصية استحقت في جميعه فإذا تعذرت في البعض لم تسقط في الباقي. فصل: وإن طلب العبد الكتابة نظرت فإن كان له كسب وأمانة استحب أن يكاتب لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} وقد فسر الخير بالكسب والأمانة ولأن المقصود بالكتابة العتق على مال وبالكسب والأمانة يتوصل إليه ولا يجب ذلك لأنه عتق فلا يجب بطلب العبد كالعتق في غير

الكتابة وإن لم يكن له كسب ولا أمانة أو له كسب بلا أمانة لم تستحب لأنه لا يحصل المقصود بكتابته ولا تكره لأنه سبب للعتق من غير إضرار فلم تكره وإن كان له أمانة بلا كسب ففيه وجهان: أحدهما أنه لا تستحب لأنه مع عدم الكسب يتعذر الأداء فلا يحصل المقصود والثاني تستحب لأن الأمين يعان ويعطى من الصدقات وإن طلب السيد الكتابة فكره العبد لم يجبر عليه لأنه عتق على مال فلا يجبر العبد عليه كالعتق على مال في غير الكتابة. فصل: ولا يجوز إلا بعوض مؤجل لأنه إذا كاتبه على عوض حال لم يقدر على أدائه فينفسخ العقد ويبطل المقصود ولا يجوز على أقل من نجمين لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه غضب على عبد له وقال لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين فدل على أنه لا يجوز على أقل من ذلك وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني ولا يجوز إلا على نجمين معلومين وأن يكون ما يؤدى في كل نجم معلوماً لأنه عوض منجم في عقد فوجب العلم بمقدار النجم ومقدار ما يؤديه فيه كالسلم إلى أجلين. فصل: ولا يجوز إلا على عوض وعلوم الصفة لأنه عوض في الذمة فوجب العلم بصفته كالمسلم فيه. فصل: وتجوز الكتابة على المنافع لأنه يجوز أن تثبت في الذمة بالعقد فجاز الكتابة عليها كالمال فإن كاتبه على عملين في الذمة في نجمين جاز كما يجوز على مالين في نجمين وإن كاتبه على خدمة شهرين لم يجز لأن ذلك نجم واحد وإن كاتبه على خدمة شهر ثم خدمة شهر بعده لم يجز لأن العقد في الشهر الثاني على منفعة معينة في زمان مستقبل فلم يجز كما لو استأجره للخدمة في شهر مستقبل وإن كاتبه على دينار وخدمة شهر بعده لم يجز لأنه لا يقدر على تسليم الدينار في الحال وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار في نجم بعده جاز لأنه يقدر على تسليم الخدمة فهو مع الدينار كالمالين في نجمين وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: لا يجوز لأنه إذا لم يفصل بينهما صارا نجماً واحداً ومنهم من قال: يجوز لأنه يستحق الدينار في غير الوقت الذي يستحق فيه الخدمة وإنما يتصل استيفاؤهما فعلى هذا لو كاتبه على خدمة شهر ودينار في نصف الشهر جاز لأنه يستحق الدينار في غير الوقت الذي يستحق فيه الخدمة.

فصل: وإن كاتب رجلان عبداً بينهما على مال بينهما على قدر الملكين وعلى نجوم واحدة جاز وإن تفاضلا في المال مع تساوي الملكين أو تساويا في المال مع تفاضل الملكين أو على أن نجوم أحدهما أكثر من نجوم الآخر أو على أن نجم أحدهما أطول من نجم الآخر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يبنى على القولين فيمن كاتب نصيبه من العبد بإذن شريكه فإن قلنا يجوز جاز وإن قلنا لا يجوز لم يجز لأن اتفاقهما على الكتابة ككتابة أحدهما في نصيبه بإذن الآخر وعلى هذا يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال في الأم: ولو أجزت لأجزت أن ينفرد أحدهما بكتابة نصيبه فدل على أنه إذا جاز ذلك جاز هذا وإن لم يجز ذلك لم يجز هذا ومنهم من قال: لا يصح قولاً واحداً لأنه يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بحق شريكه من الكسب لأنه يأخذ أكثر مما يستحق وربما عجز المكاتب فيرجع على شريكه بالفاضل بعد ما انتفع به. فصل: ولا يصح على شرط فاسد لأنه معاوضة يلحقها الفسخ فبطلت بالشرط الفاسد كالبيع ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع. فصل: وإذا انعقد العقد لم يملك المولى فسخه قبل العجز لأنه أسقط حقه منه بالعوض فلم يملك فسخه قبل العجز عن العوض كالبيع ويجوز للعبد أن يمتنع من أداء المال لأن ما لا يلزمه إذا لم يجعل شرطاً في عتقه لم يلزمه إذا جعل شرطاً في عتقه كالنوافل وهل يملك أن يفسخ؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال لا يملك لأنه لا ضرر عليه في البقاء على العقد ولا فائدة له في الفسخ فلم يملكه ومنهم من قال أن يفسخ لأنه عقد لحظه فملك أن ينفرد بالفسخ كالمرتهن فإن مات المولى لم يبطل العقد لأنه لازم من جهته فلم يبطل بالموت كالبيع وينتقل المكاتب إلى الوارث لأنه مملوك لا يبطل رقه بموت المولى فانتقل إلى وارثه كالعبد القن وإن مات العبد بطل العقد لأنه فات المعقود عليه قبل التسليم فبطل العقد كالمبيع إذا تلف قبل القبض ولا يجوز شرط الخيار فيه لأن الخيار لدفع الغبن عن المال والسيد يعلم أنه مغبون من جهة المملوك لأنه يبيع ماله بماله والعبد مخير بين أن يدفع المال وبين أن لا يدفع فلا معنى لشرط الخيار فإن اتفقا على الفسخ جاز لأنه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال فجاز فسخه بالتراضي كالبيع.

باب ما يملكه المكاتب ومالا يملكه

باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه ويملك المكاتب بالعقد اكتساب المال بالبيع والإجارة والصدقة والهبة والأخذ بالشفعة والاحتشاش والاصطياد وأخذ المباحات وهو مع المولى كالأجنبي مع الأجنبي في ضمان المال وبذل المنافع وأرش الأطراف لأنه صار بما بذله له من العوض عن رقبته كالخارج عن ملكه ويملك التصرف في المال بما يعود إلى مصلحته ومصلحة ماله فيجوز أن ينفق على نفسه لأن ذلك من أهم المصالح وله أن يفدي في حياته نفسه أو رقيقه لأن له فيه مصلحة وله أن يختن غلامه ويؤد به لأن إصلاح للمال وأما الحد فالمنصوص أنه لا يملك إقامته لأن طريقه الولاية والمكاتب ليس من أهل الولاية ومن أصحابنا من قال له أن يقيم الحد كما يملك الحر في عبده وله أن يقتص في الجناية عليه وعلى رقيقه وذكر الربيع قولاً آخر أنه لا يقتص من غير إذن المولى ووجهه أنه ربما عجز فيصير ذلك للسيد فيكون قد أتلف الأرش الذي كان للسيد أن يأخذه لو لم يقتص منه قال أصحابنا: هذا القول من تخريج الربيع والمذهب أنه يجوز أن يقتص لأن فيه مصلحة له. فصل: وإن كان المكاتب جارية فوطئها المولى وجب عليها المهر ولها أن تطالب به لتستعين به على الكتابة لأنه يجري مجرى الكسب وإن أذهب بكارتها لزمه الأرش لأن ائتلاف جزء لايستحقه فضمن بدله كقطع الطرف وإن أتت منه بولد صارت مكاتبة وأم ولد وقد بينا حكمهما في أول الباب وإن كانت مكاتبة بين اثنين فأولدها أحدهما نظرت فإن كان معسراً صار نصيبه أم ولد وفي الولد وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الولد ينعقد جميعه حراً ويثبت للشريك في ذمة الواطئ نصف قيمته لأنه يستحيل أن ينعقد نصف الولد حراً ونصفه عبداً والثاني وهو قول أبي إسحاق أن نصفه حر ونصفه مملوك وهو الصحيح اعتباراً بقدر ما يملك منها ولا يمتنع أن ينعقد نصفه حراً ونصفه عبداً كالمرأة إذا كان نصفها حراً ونصفها مملوكاً فأتت بولد فإن نصفه حر ونصفه عبد وإن كان موسراً فالولد حر وصار نصيبه من الجارية أم ولد ويقوم على الواطئ نصيب شريكه وهل يقوم في الحال فيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يقوم في الحال فإذا قوم انفسخت الكتابة وصار جميعها أم ولد للواطئ ونصفها مكاتباً له فإن أدت المال عتق نفسها وسرى إلى باقيها والقول الثاني أنه يؤخر التقويم إلى العجز فإن أدت ما عليها عتقت عليها بالكتابة وإن عجزت قوم على الواطئ نصيب شريكه وصار الجميع أم

ولد. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقوم في الاستيلاد نصيب الشريك في الحال قولاً واحداً بل يؤخر إلى أن تعجز لأن التقويم في العتق فيه حظ للعبد لأنه يتعجل له الحرية في الباقي ولا حظ لها في التقويم في الاستيلاد بل الحظ في التأخير لأنه إذا أخر ربما أدت المال فعتقت وإذا قوم في الحال صارت أم ولد ولا تعتق إلا بالموت والصحيح هو الأول وأنه على قولين كالعتق لأن الاستيلاد كالعتق بل هو أقوى لأنه يصح من المجنون والعتق لا يصح منه فإذا كان في التقويم في العتق قولان وجب أن يكون في الاستيلاد مثلاه. فصل: وإن أتت المكاتبة بولد من نكاح أو زنا ففيه قولان: أحدهما أنه موقوف فإن وقف الأم رق وإن عتقت عتق لأن الكتابة سبب يستحق به العتق فيتبع الولد الأم فيه كالاستيلاد والثاني أنه مملوك يتصرف فيه لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن فإن قلنا إنه للمولى كان حكمه حكم العبد القن في الجناية والكسب والنفقة والوطء وإن قلنا إنه موقوف فقتل ففي قصته قولان: أحدهما انها لأمه تستعين بها في الكتابة لأن القصد بالكتابة طلب حظها والثاني أنها للمولى لأنه تابع للأم وقيمة الأم للمولى فكذلك قيمة ولدها فإن كسب الولد مالاً ففيه قولان: أحدهما أنه للأم لأنه تابع لها في حكمها فكسبها لها فكذلك كسب ولدها والثاني أنه موقوف لأن الكسب نماء الذات وذاته موقوف فكذلك كسبه فعلى هذا يجمع الكسب فإذا عتق ملك الكسب كما تملك الأم كسبها إذا عتقت وإن رق بعجز الأم صار الكسب للمولى فمن أصحابنا من خرج فيه قولاً ثالثاً أنه للمولى كما قلنا في قيمته في أحد القولين وإن أشرفت الأم على العجز وكان في كسب الولد وفاء بمال الكتابة ففيه قولان: أحدهما أنه ليس للأم أن تستعين به على الأداء لأنه موقوف على السيد أو الولد فلم يكن للأم حق فيه والثاني أن لها أن تأخذه وتؤديه لأنها إذا أدت عتقت وعتق الولد فكان ذلك أحظ للولد من أن ترق ويأخذه المولى فإن احتاج الولد إلى النفقة ولم يكن في كسبه ما يفي فإن قلنا إن الكسب للمولى فالنفقة عليه وإن قلنا إنه للأم فالنفقة عليها وإن قلنا إنه موقوف ففي النفقة وجهان: أحدهما أنها على المولى لأنه مرصد لملكه والثاني أنها في بيت المال لأن المولى لا يملكه فلم يبق إلا بيت المال وإن كان الولد جارية فوطئها المولى فإن قلنا إن كسبه له لم يجب عليه المهر لأنه لو وجب لكان له وإن قلنا إنه للأم فالمهر لها وإن قلنا إنه موقوف وقف المهر وإن أحبلها صارت أم ولد بشبهة الملك ولاتلزمه قيمتها لأن

القيمة تجب لمن يملكها والأم لا تملك رقبتها وإنما هي موقوفة عليها. فصل: وإن حبس السيد المكاتب مدة ففيه قولان: أحدهما يلزمه تخليته في مثل تلك المدة لأنه دخل في العقد على التمكين من التصرف في المدة فلزمه الوفاء به والثاني تلزمه أجرة المثل للمدة التي حبسه فيها وهو الصحيح لأن المنافع لا تضمن بالمثل وإنما تضمن بالأجرة وإن قهر أهل الحرب المكاتب على نفسه مدة ثم أفلت من أيديهم ففيه قولان: أحدهما لا تجب تخليته في مكث المدة لأنه لم يكن الحبس من جهته والثاني تجب لأنه فات ما استحقه بالعقد ولا فرق بين أن يكون بتفريط أو غير تفريط كالمبيع إذا هلك في يد البائع ولا يجيء ههنا إيجاب الأجرة على المولى لنه لم يكن الحبس من جهته فلا تلزمه أجرته. فصل: ولا يملك المكاتب التصرف إلا على وجه النظر والاحتياط لأن حق المولى يتعلق باكتسابه فإن أراد أن يسافر فقد قال في الأم يجوز وقال في الأمالي: لا يجوز بغير إذن المولى فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأن فيه تغريراً والثاني يجوز لأنه من أسباب الكسب ومنهم من قال: إن كان السفر طويلاً لم يجز وإن كان قصيراً جاز وحمل القولين على هذين الحالين والصحيح هو الطريق الأول. فصل: ولا يجوز أن يبيع نسيئة وإن كان بأضعاف الثمن ولا على أن يأخذ بالثمن رهناً أو ضميناً لأنه يخرج المال من يده من غير عوض والرهن قد يتلف والضمين قد يفلس وإن باع ما يساوي مائة بمائة نقداً وعشرين نسيئة جاز لأنه لا ضرر فيه ولا يجوز أن يقرض ولا يضرب ولا يرهن لأنه إخراج مال بغير عوض. فصل: ولا يجوز أن يشتري من يعتق عليه لأنه يخرج ما لا يملك التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه وفي ذلك إضرار وإن وصى له بمن يعتق عليه فإن لم يكن له كسب لم يجز قبوله لأنه يحتاج أن ينفق عليه وفي ذلك إضرار وإن كان له كسب جاز قبوله لأنه لا ضرر فيه فإن قبله ثم صار زمناً لا كسب له فله أن ينفق فله لأن فيه إصلاح لماله. فصل: ولا يعتق ولا يكاتب ولا يهب ولا يحابي ولا يبرئ من الدين ولا يكفر بالمال ولا ينفق على أقاربه الأحرار ولا يسرف في نفقة نفسه وإن كان له أمة مزوحة لم تبذل العوض للخلع لأن ذلك كله استهلاك للمال وإن كان عليه دين مؤجل لم يملك تعجيله لأنه يقطع التصرف فيما يجعله من المال من غير حاجة وإن كان مكاتباً بين نفسين لم يجز أن يقدم حق أحدهما لأن ما يقدمه من ذلك يتعلق به حقهما فلا يجوز أن

يخص به أحدهما وإن أقر بجناية خطأ ففيه قولان: أحدهما يقبل لأنه إقرار بالمال فقبل كما لو أقر بدين معاملة والثاني لا يقبل لأنه يخرج به الكسب من غير عوض فبطل كالهبة وإن جنى هو أو عبد له يملك بيعه على أجنبي لم يجز أن يفديه بأكثر من قيمته لأن الفداء كالابتياع فلا يجوز بأكثر من القيمة وإن كان عبداً لا يملك بيعه كالأب والابن لم يجز أن يفديه بشيء قل أو كثر لأنه يخرج ما يملك التصرف فيه لاستبقاء ما لا يملك التصرف فيه. فصل: وإن فعل ذلك كله بإذن المولى ففيه قولان: أحدهما لا يصح لأن المولى لا يملك ما في يده والمكاتب لا يملك ذلك بنفسه فلا يصح باجتماعهما كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها والثاني أنه يصح وهو الصحيح لأن المال موقوف عليهما ولا يخرج منهما فصح باجتماعهما كالشريكين في المال المشترك والراهن والمرتهن في الرهن وإن وهب للمولى أو حاباه أو أقرضه أو ضاربه أو عجل له ما تأجل من ديونه أو فدى جنايته عليه بأكثر من قيمته فإن قلنا يصح للأجنبي بإذن المولى صح وإن قلنا لا يصح في حق الأجنبي بإذنه لم يصح لأن قبوله كالإذن فإن وهب أو أقرض وقلنا إنه لا يصح فله أن يسترجع فإن لم يسترجع حتى عتق لم يسترجع على ظاهر النص لأنه إنما لم يصح لنقصانه وقد زال ذلك من أصحابنا من قال: له أن يسترجع لأنه قد وقع فاسداً فثبت له الاسترجاع. فصل: ولا يتزوج المكاتب إلا بإذن المولى لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر1" ولأنه يلزمه المهر والنفقة في كسبه وفي ذلك إضرار بالمولى فلم يجز بغير إذنه فإن أذن له المولى جاز قولاً واحداً للخبر ولأن الحاجة تدعو إليه بخلاف الهبة. فصل: ولا يتسرى بجارية من غير إذن المولى لأنه ربما أحبلها فتلفت بالولادة فإن أذن له المولى وقلنا إن العبد يملك ففيه طريقان: من أصحابنا من قال على قولين كالهبة ومنهم من قال: يجوز قولاً واحداً لنه ربما دعت الحاجة إليه فجاز كالنكاح فإن أولدها فالولد ابنه ومملوكه لأنه ولد جاريته وتلزمه نفقته لأنه مملوكه بخلاف ولد الحرة ولا يعتق عليه لنقصان ملكه فإن أدى المال عتق معه لأنه كمل ملكه وإن رق رق معه.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 16. الترمذي في كتاب النكاح باب 21. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 43.

فصل: ويجب على المولى الإيتاء وهو أن يضع عنه جزءاً من المال أو يدفع إليه جزءاً من المال لقوله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وعن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "يحط عنه ربع الكتابة" والوضع أولى من الدفع لأنه يتحقق الانتفاع به في الكتابة ن واختلف أصحابنا في القدر الواجب فمنهم من قال: ما يقع عليه الاسم من قليل أو كثير وهو المذهب لأن اسم الإيتاء يقع عليه وقال أبو إسحاق: يختلف باختلاف قلة المال وكثرته فإن اختلفا قدره الحاكم باجتهاده كما قلنا في المتعة فإن اختار الدفع جاز بعد العقد للآية وفي وقت الوجوب وجهان: أحدهما يجب بعد العتق كما تجب المتعة بعد الطلاق والثاني أنه يجب قبل العتق لأنه إيتاء وجب للمكاتب فوجب قبل العتق كالإيتاء في الزكاة ولا يجوز الدفع من غير جنس مال الكتابة لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فإن دفع إليه من جنسه من غير ما أداه إليه ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز في الزكاة أن يدفع من غير المال الذي وجب فيه الزكاة والثاني لا يجوز وهو الصحيح للآية وإن سبق المكاتب وأدى المال لزم المولى أن يدفع إليه لأنه مال وجب للآدمي فلم يسقط من غير أداء ولا إبراء كسائر الديون وإن مات المولى وعليه دين حاص المكاتب أصحاب الديون ومن أصحابنا من قال: يحاص الوصايا لأنه دين ضعيف غير مقدر فسوى بينه وبين الوصايا والصحيح هو الأول لأنه دين واجب فحاص به الغرماء كسائر الديون وبالله التوفيق.

باب الأداء والعجز

باب الأداء والعجز ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه وقد بقي عليه شيء من المال لما روى عمرو بن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم1" ولأنه علق عتقه على دفع مال فلا يعتق شيء منه مع بقاء جزء منه كما لو قال لعبده: إن دفعت لي ألفاً فأنت حر فإن كاتب رجلان عبدا بينهما ثم أعتق أحدهما

_ 1 رواه أبو داود في كتاب العتاق باب 1. الترمذي في كتاب البيوع باب 35. النوطأ في كتاب المكاتب حديث 1،2.

نصيبه أو أبرأه مما عليه من مال الكتابة عتق نصيبه لأنه برئ من جميع ماله عليه فعتق كما لو كاتب عبداً فأبراه فإن كان المعتق موسراً فقد قال أصحابنا: يقوم عليه نصيب شريكه كما لو أعتق شركاً له في عبد وعندي أنه يجب أن يكون على قولين: أحدهما يقوم عليه والثاني لا يقوم كما قلنا في شريكين دبرا عبداً ثم أعتق أحدهما نصيبه أنه على قولين: أحدهما يقوم والثاني لا يقوم فإذا قلنا إنه يقوم عليه ففي وقت التقويم قولان: أحدهما يقوم في الحال كما نقول فيمن أعتق شركاً له في عبد والثاني يؤخر التقويم إلى أن يعجز لأنه قد ثبت للشريك حق العتق والولاء في نصيبه فلا يجوز إبطاله عليه وإن كاتب عبده ومات وخلف اثنين فأبرأه أحدهما عن حصته عتق نصيبه لأنه أبرأه من جميع ما له عليه فإن كان الذي أبرأه موسراً فهل يقوم عليه نصيب شريكه فيه قولان: أحدهما لا يقوم لأن سبب العتق وجد من الأب ولهذا يثبت الولاء له والثاني يقوم عليه وهو الصحيح لأن العتق تعجل بفعله فعلى هذا هل يتعجل التقويم والسراية فيه قولان: أحدهما يتعجل لأنه عتق يوجب السراية فتعجلت به كما لو أعتق شركاً له في عبد والثاني يؤخر إلى أن يعجز لأن حق الأب في عتقه وولائه أسبق فلم يجز إبطاله وإن كاتب رجلان عبداً بما يجوز وأذن أحدهما للآخر في تعجيل حق شريكه من المال وقلنا إنه يصح الإذن عتق نصيبه وهل يقوم عليه نصيب شريكه فيه قولان: أحدهما لايقوم لتقدم سببه الذي اشتركا فيه والثاني يقوم لأنه عتق نصيبه بسبب منه ومتى يقوم فيه قولان: أحدهما يقوم في الحال لأنه تعجل عتقه والثاني يؤخر إلى أن يعجز لأنه قد ثبت لشريكه عقد يستحق به العتق والولاء فلم يجز أن يقوم عليه ذلك فعلى هذا إن أدى عتق باقيه وإن عجز قوم على المعتق وإن مات قبل الأداء والعجز مات ونصفه حر ونصفه مكاتب. فصل: وإن حل عليه نجم وعجز عن أداء المال جاز للمولى أن يفسخ العقد لأنه أسقط حقه بعوض فإذا تعذر العوض ووجد عين ماله جاز له أن يفسخ ويرجع إلى عين ماله كما لو باع سلعة فأفلس المشتري بالثمن ووجد البائع عين ماله وإن كان معه ما يؤذيه فامتنع من أدائه جاز له الفسخ لأنه تعذر العوض بالامتناع كتعذره بالعجز لأنه لا يمكن إجباره على أدائه وإن عجز عن بعضه أو امتنع عن أداء بعضه جاز له أن يفسخ لأنا بينا أن العتق في الكتابة لا يتبعض فكان تعذر البعض كتعذر الجميع ويجوز الفسخ من غير حاكم لأنه فسخ مجمع عليه فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع العيب. فصل: وإن حل عليه نجم ومعه متاع فاستنظر لبيع المتاع وجب إنظاره لأنه قادر على أخذ المال من غير إضرار ولا يلزمه أن ينظر أكثر من ثلاثة أيام لأن الثلاثة قليل فلا ضرر عليه في الانتظار وما زاد كثير وفي الانتظار إضرار وإن طلب الإنظار لمال غائب فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وجب إنظاره لأنه قريب لا ضرر في إنظاره

وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة لم يجب لأنه طويل وفي الانتظار إضرار وإن طلب الإنظار لاقتضاء دين فإن كان حالاً على ملئ وجب إنظاره لأنه كالعين في يد المودع ولهذا تجب فيه الزكاة وإن كان مؤجلاً أو على معسر لم يجب الإنظار لأن عليه إضراراً في الإنظار فإن حل عليه المال وهو غائب ففيه وجهان: أحدهما له أن يفسخ لأنه تعذر المال فجاز له الفسخ والثاني ليس له أن يفسخ بل يرجع إلى الحاكم ليكتب إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليطالبه فإن عجز أو امتنع فسخ لأنه لا يتعذر الأداء إلا بذلك فلا يفسخ قبله وإن حل عليه النجم وهو مجنون فإن كان معه ما يسلم إلى المولى عتق لأنه قبض ما يستحقه فبرئت به ذمته وإن لم يكن معه شيء فعجزه المولى وفسخ ثم ظهر له مال نقض الحكم بالفسخ لأنا حكمنا بالعجز في الظاهر وقد بان خلافه فنقض كما لو حكم الحاكم ثم وجد النص بخلافه وإن كان قد أنفق عليه الفسخ رجع بما أنفق لأنه لم يتبرع بل أنفق على أنه عبده فإن أفاق بعد الفسخ وأقام البينة أنه كان قد أدى المال نقض الحكم بالفسخ ولا يرجع المولى بما أنفق عليه بعد الفسخ لأنه تبرع لأنه أنفق وهو يعلم أنه حر وإن حل النجم فأحضر المال وادعى السيد أنه حرام ولم تكن له بينة فالقول قول المكاتب مع يمينه لأنه في يده والظاهر أنه له فإن حلف خير المولى بين أن يأخذه وبين أن يبرئه منه فإن لم يفعل قبض عنه السلطان لأنه حق يدخله النيابة فإذا امتنع منه قام السلطان مقامه. فصل: وإن قبض المال وعتق ثم وجد به عيباً فله أن يرد ويطالب بالبدل فإن رضي به استقر العتق لأنه برئت ذمة العبد وإن رده ارتفع العتق لأنه يستقر باستقرار الأداء وقد ارتفع الأداء بالرد فارتفع العتق وإن وجد به العيب وقد حدث به عنده عيب ثبت له الأرش فإن دفع الأرش استقر العتق وإن لم يدفع ارتفع العتق لأنه لم يتم براءة الذمة من المال وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار ثم مرض بطلت الكتابة في قدر الخدمة وفي الباقي طريقان أحدهما أنه على قولين والثاني أنه لا يبطل قولاً واحداً بناء على الطريقين فيمن ابتاع عينين ثم تلفت إحداهما قبل القبض. فصل: فإن أدى المال وعتق ثم خرج المال مستحقاً بطل الحكم بعتقه لأن العتق يقع بالأداء وقد بان أنه لم يؤد وإن كان الاستحقاق بعد موت المكاتب كان ما ترك للمولى دون الورثة لأنا قد حكمنا بأنه مات رقيقاً. فصل: فإن باع المولى ما في ذمة المكاتب وقلنا إنه لا يصح فقبضه المشتري فقد قال في موضع يعتق وقال في موضع لا يعتق واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس فيه

قولان: أحدهما يعتق لأنه قبضه بإذنه فأشبه إذا دفعه إلى وكيله والثاني وهو الصحيح أنه لا يعتق لأنه لم يقبضه للمولى وإنما قبضه لنفسه ولم يصح قبضه لنفسه لأنه لم يستحقه فصار كما لو لم يؤخذ وقال أبو إسحاق: هي على اختلاف حالين فالذي قال يعتق إذا أمره المكاتب بالدفع إليه لأنه قبضه بإذنه والذي قال لا يعتق إذا لم يأمره بالدفع إليه لأنه لم يأخذه بإذنه وإنما أخذه بما تضمنه البيع من الإذن والبيع باطل فبطل ما تضمنه. فصل: إذا اجتمع على المكاتب دين الكتابة ودين المعاملة وأرش الجناية وضاق ما في يده عن الجميع قدم دين المعاملة لأنه يختص بما في يده والسيد والمجني عليه يرجعان إلى الرقبة فإن فضل عن الدين شيء قدم حق المجني عليه لأن حقه يقدم على حق المالك في العبد القن فكذلك في المكاتب وإن لم يكن له شيء فأراد صاحب الدين تعجيزه لم يكن له ذلك لأن حقه في الذمة فلا فائدة في تعجيزه بل تركه على الكتابة أنفع له لأنه ربما كسب ما يعطيه وإذا عجزه بقي حقه في الذمة إلى أن يعتق فإن أراد المولى أو المجني عليه تعجيزه كان له ذلك لأن المولى يرجع بالتعجيز إلى رقبته والمجني عليه ببيعه في الجناية فإن عجزه المولى انفسخت الكتابة وسقط دينه وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع في الجناية وبين أن يفديه فإن عجزه المجني عليه نظرت فإن كان الأرش يحيط بالثمن بيع وقضى حقه وإن كان دون الثمن بيع منه ما يقضي منه الأرش وبقي الباقي على الكتابة وإن أدى كتابة باقيه عتق وهل يقوم الباقي عليه إن كان موسراً فيه وجهان: أحدهما لا يقوم لأنه وجد سبب العتق قبل التبعيض والثاني يقوم عليه لأن اختياره للإنظار كابتداء العتق.

باب الكتابة الفاسدة

باب الكتابة الفاسدة إذا كاتب على عوض محرم أو شرط باطل فللسيد أن يرجع فيها لأنه دخل على أن يسلم له ما شرط ولم يسلم فثبت له الرجوع وله أن يفسخ بنفسه لأنه مجمع عليه وإن مات المولى أو جن أو حجر عليه بطل العقد لأنه غير لازم من جهته فبطل بهذه الأشياء كالعقود الجائزة فإن مات العبد بطل لأنه لا يلحقه العتق بعد الموت وإن جن لا تبطل لأنه لازم من جهة العبد فلم تبطل بجنونه كالعتق المعلق على دخول الدار. فصل: وإن أدى ما كاتبه عليه قبل الفسخ عتق لأن الكتابة تشتمل على معاوضة وهو قول كاتبتك على كذا وعلى صفة وهو قوله فإذا أديت فأنت حر فإذا بطلت المعاوضة بقيت الصفة فعتق بها وإن أداه إلى غير من كاتبه لم يعتق لأنه لم توجد الصفة فإذا عتق

تبعه ما فضل في يده من الكسب وإن كانت جارية تبعها الولد لأنه جعل كالكتابة الصحيحة في العتق فكانت كالصحيحة في الكسب والولد. فصل: ويرجع السيد عليه بقيمته لأنه أزال ملكه عنه بشرط ولم يسلم له الشرط وتعذر الرجوع إليه فرجع ببدله كما لو باع سلعة بشرط فاسد فتلفت في يد المشتري ويرجع العبد على المولى بما أداه إليه لأنه دفعه عما عليه فإذا لم يقع عما عليه ثبت له الرجوع فإن كان ما دفع من جنس القيمة وعلى صفتها كالأثمان وغيرها من ذوات الأمثال ففيه أربعة أقوال: أحدها أنهما يتقاصان فسقط أحدهما بالآخر لأنه لا فائدة في أخذه ورده والثاني أنه إذا رضي أحدهما تقاصا وإن لم يرض واحد منهما لم يتقاصا لأنه إذا رضي أحدهما فقد اختار الراضي منهما قضاء ما عليه بالذي له على الآخر ومن عليه حق يجوز أن يقضيه من أي جهة شاء والثالث أنهما إذا تراضيا تقاصا وإن لم يتراضيا لم يتقاصا لأنه إسقاط حق بحق فلم يجز إلا بالتراضي كالحوالة والرابع أنهما لا يتقاصان بحال لأنه بيع دين بدين وإن أخذ من سهم الرقاب في الزكاة فإن لم يكن فيه وفاء استرجع منه وإن كان فيه وفاء فقد قال في الأم: يسترجع ولا يعتق لأنه بالفساد خرج عن أن يكون من الرقاب ومن أصحابنا من قال: لا يسترجع لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب. فصل: فإن كاتب عبداً صغيراً أو مجنوناً فأدى ما كاتبه عليه عتق بوجود الصفة وهل يكون حكمها حكم الكتابة الفاسدة مع البالغ في ملك ما فضل في يده من الكسب وفي التراجع؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا يملك ما فضل في يده من الكسب ولا يثبت التراجع وهو رواية المزني في المجنون لأن العقد مع الصبي ليس بعقد ولهذا لو ابتاع شيئاً وقبضه وتلف في يده لم يلزمه الضمان بخلاف البالغ فإن عقده عقد يقتضي الضمان ولهذا لو اشترى شيئاً ببيع فاسد وتلف عنده لزمه الضمان والثاني وهو قول أبي العباس أنه يملك ما فضل من الكسب ويثبت بينهما التراجع وهو رواية الربيع في المجنون لأنه كتابة فاسدة فأشبهت كتابة البالغ بشرط فاسد. فصل: وإن كاتب بعض عبده وقلنا إنه لا يصح فلم يفسخ حتى أدى المال عتق لوجود الصفة وتراجعا وسرى العتق إلى باقيه لأنه عتق بسبب منه فإن كاتب شريكاً في عبد من غير إذن شريكه نظرت فإن جمع كسبه ودفع نصفه إلى الشريك ونصفه للذي كاتب عتق لوجود الصفة فإن جمع الكسب كله وأداه ففيه وجهان: أحدهما لا يعتق لأن

الأداء يقتضي أداء ما يملك التصرف فيه وما أداه من مال الشريك لا يملك التصرف فيه والثاني يعتق لأن الصفة قد وجدت فإن كاتبه بإذن شريكه فإن قلنا إنه باطل فالحكم فيه كالحكم فيه إذا كاتبه بغير إذنه وإن قلنا إنه صحيح ودفع نصف الكسب إلى الشريك ونصفه إلى الذي كاتبه عتق فإن جمع الكسب كله ودفعه إلى الذي كاتبه قد قال بعض أصحابنا فيه وجهان كالقسم قبله والمذهب أنه لا يعتق لأن الكتابة صحيحة والمغلب فيها حكم المعارضة فإذا دفع فيها مالاً يملكه صار كما لو لم يؤد بخلاف القسم قبله فإنها كتابة فاسدة والمغلب فيها الصفة وإذا حكمنا بالعتق في هذه المسائل في نصيبه فإن كان المعتق موسراً سرى إلى نصيب الشريك وقوم عليه لأنه عتق بسبب منه ولا يلزم العبد ضمان السراية لأنه لم يلتزم ضمان ما سرى إليه. فصل: وإن كاتب عبيداً على مال واحد وقلنا إن الكتابة صحيحة فأدى بعضهم عتق لأنه بريء مما عليه وإن قلنا إن الكتابة فاسدة فأدى بعضهم فالمنصوص أنه يعتق لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الكتابة الصحيحة في الأحكام فكذلك في العتق بالأداء ومن أصحابنا من قال لا يعتق وهو الأظهر لأن العتق في الكتابة الفاسدة بالصفة وذلك لم يوجد بأداء بعضهم.

باب اختلاف المولى والمكاتب

باب اختلاف المولى والمكاتب إذا اختلفا فقال السيد كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور علي فأنكر العبد فإن كان قد عرف له جنون أو حجر فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل بقاؤه على الجنون أو الحجر وإن لم يعرف له ذلك فالقول قول العبد لأن الظاهر عدم الجنون والحجر وإن اختلفا في قدر المال أو في نجومه تحالفا قياساً على المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن أو في الأجل فإن كان ذلك قبل العتق فهل تنفسخ بنفس التحالف أو يفتقر إلى الفسخ فيه وجهان كما ذكرناه في المتبايعين وإن كان التحالف بعد العتق لم يرتفع العتق ويرجع المولى بقيمته ويرجع المكاتب بالفضل كما نقول في البيع الفاسد. فصل: وإن وضع شيئاً عنه من مال الكتابة ثم اختلفا فقال السيد وضعت النجم الأخير وقال المكاتب بل الأول فالقول قول السيد وإن كتبه على ألف درهم فوضع عنه خمسين درهماً لم يصح لأنه أبرأه مما لا يملكه فإن قال أردت ألف درهم بقيمة خمسين ديناراً صح وإن اختلفا فيما عني فادعى المكاتب أنه عني ألف درهم بقيمة خمسين ديناراً وأنكر السيد ذلك فالقول قول السيد لأن الظاهر معه ولأنه أعرف بما عني وإن أدى المكاتب ما عليه فقال له المولى: أنت حر وخرج المال مستحقاً فادعى العبدان عتقه بقوله

أنت حر وقال المولى أردت أنك حر بما أديت وقد بان أنه مستحق فالقول قول السيد لأنه يحتمل الوجهين وهو أعرف بقصده وإن قال السيد استوفيت أو قال العبد أليس أوفيتك فقال بلى فادعى المكاتب أنه وفاه الجميع وقال المولى بلى وفاني البعض فالقول قول السيد لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع. فصل: وإن كان المكاتب جارية وأتت بولدها فاختلفا في ولدها وقلنا إن الولد يتبعها فقالت الجارية ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معي وقال المولى بل ولدته قبل الكتابة فهو لي فالقول قول السيد لأن هذا اختلاف في وقت العقد والسيد يقول العقد بعد الولادة والمكاتبة تقول قبل الولادة والأصل عند العقد وإن كاتب عبداً ثم زوجه أمة له ثم اشترى المكاتب زوجته وأتت بولد فقال السيد: أتت به قبل الشراء فهو لي وقال العبد: بل أتت به بعدما اشتريتها فهو لي فالقول قول العبد لأن هذا الاختلاف في الملك والظاهر مع العبد لأنه في يده بخلاف المسألة قبلها فإن هناك لم يختلفا في الملك وإنما اختلفا في وقت العقد. فصل: وإن كاتب عبدين فأقر أنه استوفى ما على أحدهما أو أبرأ أحدهما واختلف العبدان فادعى كل واحد منهما أنه هو الذي استوفى منه وأبرأه رجع إلى المولى فإن أخبر أنه أحدهما قبل منه لأنه أعرف بمن استوفى منه أو أبرأه فإن طلب الآخر يمينه حلف له وإن ادعى المولى أنه أشكل عليه لم يقرع بينهما لأنه قد يتذكر فإن ادعيا أنه يعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة ومن أصحابنا من قال ترد الدعوى عليهما فإن حلفا أو نكلا بقيا على الكتابة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عتق الحالف وبقي الآخر على الكتابة وإن مات المولى قبل أن يعين ففيه قولان: أحدهما يقرع بينهما لأن الحرية تعينت لأحدهما ولا يمكن التعيين بغير القرعة فوجب تمييزها بالقرعة كما لو قال لعبدين أحدكما حر والثاني أنه لا يقرع لأن الحرية تعينت في أحدهما فإذا أقرع لم يؤمن أن تخرج القرعة على غيره فعلى هذا يرجع إلى الوارث فإن قال لا أعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة على ما ذكرناه في المولى. فصل: وإن كاتب ثلاثة أعبد في قود أو في عقد على مائة وقلنا إنه يصح وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون فأدوا مالاً من أيديهم ثم اختلفوا فقال: من كثرت قيمته النصف لي ولكل واحد منهما الربع وقال الآخران بل المال بيننا أثلاثاً ويبقى عليك تمام النصف ويفضل لكل واحد منا ما زاد على الربع فقد قال في موضع: القول قول من كثرت قيمته وقال في موضع: القول قول من قلت قيمته فمن

أصحابنا من قال هي على قولين: أحدهما أن القول قول من قلت قيمته وأن المؤدي بينهم أثلاثاً لأن يد كل واحد منهم على ثلث المال والثاني أن القول قول من كثرت قيمته لأن الظاهر معه فإن العادة أن الانسان لا يؤدي أكثر مما عليه ومنهم من قال هي على اختلاف حالين فالذي قال القول قول من كثرت قيمته إذا وقع العتق بالأداء لأن الظاهر أنه لا يؤدي أكثر مما عليه والذي قال إن القول قول من قلت قيمته إذا لم يقع العتق بالأداء فيؤدي من قلت قيمته أكثر مما عليه ليكون الفاضل له من النجم الثاني والدليل عليه أنه قال في الأم: إذا كاتبهم على مائة فأدوا ستين فإذا قلنا إنه بينهم على العدد أثلاثاً فأراد العبدان أن يرجعا بما فضل لهما لم يجز لأن الظاهر أنهما تطوعا بالتعجيل فلا يرجعان به ويحتسب لهما من النجم الثاني. فصل: وإن كاتب رجلان عبداً بينهما فادعى المكاتب أنه أدى إليهما مال الكتابة فأقر أحدهما وأنكر الآخر عتق الحصة المقر والقول قول المنكر مع يمينه فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة فله أن يطالب المقر بنصف ما أقر بقبضه وهو الربع لحصول حقه في يده ويطالب المكاتب بالباقي وله أن يطالب المكاتب بالجميع وهو النصف فإن قبض حقه منهما أو من أحدهما عتق المكاتب وليس لأحد من المقر والمكاتب أن يرجع على صاحبه بما أخذه منه لأن كل واحد منهم يدعي أن الذي ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره وإن وجد المكاتب عاجزاً فعجزه أحدهما رق نصفه قال الشافعي رحمه الله: ولا يقوم على المقر لأن التقويم لحق العبد وهو أن يقول أنا حر مسترق ظلماً فلا يقوم ولا تقبل شهادة المصدق على المكذب لأنه يدفع بها ضرراً من استرجاع نصف ما في يده فإن ادعى المكاتب أنه دفع جميع المال إلى أحدهما ليأخذ منه النصف ويدفع إلى شريكه النصف نظرت فإن قال المدعى عليه دفعت إلى كل واحد منا النصف وأنكره الآخر عتق حصة المدعى عليه بإقراره وبقيت حصة المنكر على الكتابة من غير يمين لأنه لا يدعي عليه واحد منهما تسليم المال إليه وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه وله أن يطالب المقر بنصفه والمكاتب بنصفه ولا يرجع واحد منهما بما يؤخذ منه على الآخر لأن كل واحد منهما يدعي أن الذي ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره فإن استوفى المنكر حقه منهما أو من المكاتب عتقت حصته وصار المكاتب حراً وإن عجز المكاتب فاسترقه فقد قال الشافعي رحمه الله: إنه يقوم على المقر ووجهه أنه عتق نصيبه بسبب من جهته وقال في المسألة قلها لا يقوم فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى فجعلهما على قولين ومنهم من قال يقوم ههنا ولا يقوم في المسألة قبلها على ما

نص عليه لأن في المسألة قبلها يقول المكاتب أنا حر فلا أستحق التقويم على أحد وههنا يقول نصفي مملوك فاستحق التقويم وإن قال المدعى عليه قبضت المال وسلمت نصفه إلى شريكي وأمسكت النصف لنفسي وأنكر الشريك القبض عتق حصة المدعى عليه والقول قول المنكر مع يمينه لأن المقر يدعي التسليم إليه فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه بالعقد وله أن يطالب المقر بإقراره بالقبض فإن رجع على المقر لم يرجع المقر على المكاتب لأنه يقول إن شريكي ظلمني وإن رجع على المكاتب رجع المكاتب على المقر صدقه على الدفع أو كذبه لأنه فرط في ترك الإشهاد فإن حصل للمنكر ما له من أحدهما عتق المكاتب وإن عجز المكاتب عن أداء حصة المنكر كان للمنكر أن يستحق نصيبه فإذا رق قوم على المقر لأنه عتق بسبب كان منه وهو الكتابة ويرجع المنكر على المقر بنصف ما أقر بقبضه لأنه بالتعجيز استحق نصف كسبه وإن حصل المال من جهة المكاتب عتق باقيه ورجع المكاتب على المقر بنصف ما أقر بقبضه لأنه كسبه.

كتاب عتق أمهات الأولاد

كتاب عتق أمهات الأولاد مدخل ... كتاب عتق أمهات الأولاد إذا علقت الأمة بولد حر في ملك الواطئ صارت أم ولد له فلا يملك بيعها ولا هبتها ولا الوصية بها لما ذكرناه في البيوع فإن مات السيد عتقت لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولدت منه أمته فهي حرة بعد موته1" وتعتق من رأس المال لأنه ائتلاف حصل بالاستمتاع فاعتبر من رأس المال كالائتلاف بأكل الطيب ولبس الناعم وإن علقت بولد مملوك في غير ملك من زوج أو زنا لم تصر أم ولد له لأن حرمة الاستيلاد إنما تثبت للأم تجربة الولد والدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له مارية القبطية فقاال: "أعتقها ولدها" والولد ههنا مملوك فلا يجوز أن تعتق الأم بسببه وإن علقت بولد حر بشبهة من غير ملك لم تصر أم ولد في الحال فإذا ملكها ففيه قولان: أحدهما لا تصير أم ولد لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبه إذا علقت منه في نكاح فاسد أو زنا والثاني أنها تصير أم ولد لأنه علقت منه بحر فأشبه إذا علقت منه في ملكه وإن علقت بولد مملوك في ملك ناقص وهي جارية المكاتب إذا علقت من مولاها ففيه قولان: أحدهما أنه لا تصير أم ولد لأنها علقت منه بمملوك ن والثاني أنها تصير أم ولد لأنه قد ثبت لهذا الولد حق الحرية ولهذا لا يجوز بيعه فثبت هذا الحق لأمه. فصل: وإن وطئ أمته فاسقطت جنيناً ميتاً كان حكمه حكم الولد الحي في الاستيلاد لأنه ولد وإن أسقطت جزء من الآدمي كالعين والظفر أو مضغة ن فشهد أربع نسوة من أهل المعرفة والعدالة أنه تخطط وتصور ثبت له حكم الولد لأنه قد علم أنه ولد وإن ألقت مضغة لم تتصور ولم تتخطط وشهد أربع من أهل العدالة والمعرفة أنه مبتدأ خلق الآدمي ولو بقي لكان آدمياً فقد قال ههنا ما يدل على أنها لا تصير أم ولد وقال في العدة: تنقضي به العدة فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما لا يثبت له حكم الولد في الاستيلاد ولا في انقضاء العدة لأنه ليس بولد والثاني يثبت له حكم الولد في الجمبع لأنه خلق بشر فأشبه إذا تخطط ومنهم من قال: لا يثبت له حكم الولد في الاستيلاد وتنقضي به العدة لأنه حرمة الاستيلاد تتعلق بوجود

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب العتق باب 2. أحمد في مسنده "1/303".

الولد ولم يوجد الولد والعدة تراد لبراءة الرحم وبراءة الرحم تحصل بذلك. فصل: ويملك استخدام أم الولد وإجارتها ويملك وطأها لأنها باقية على ملكه وإنما ثبت لها حق الحرية بعد الموت وهذه التصرفات لا تمنع العتق فبقيت على ملكه وهل يملك تزويجها فيه ثلاثة أقوال: أحدها يملك لأنه يملك رقبتها ومنفعته فملك تزويجها كالأمة القنة والثاني يملك تزويجها برضاها ولا يملك من غير رضاها لأنها تستحق الحرية بسبب لا يملك المولى إبطاله فملك تزويجها برضاها ويملك بغير رضاها كالمكاتبة والثالث لا يملك تزويجها بحال لأنها ناقصة في نفسها وولاية المولى عليها ناقصة فلم يملك تزويجها كالأخ في تزويج أخته الصغيرة فعلى هذا هل يجوز للحاكم تزويجها بإذنهما فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يملك لأنه قائم مقامهما ويعقد بإذنهما فإذا لم يملك العقد باجتماعهما لم يملك مع من يقوم مقامهما والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري إنه يملك تزويجها لأنه يملك بالحكم ما لا يملك بالولاية وهو تزويج الكافرة. فصل: وإن أتت أم الولد بولد من نكاح أو زنا تبعها في حقها من العتق بموت السيد لأن الاستيلاد كالعتق المنجز ثم الولد يتبع الأم في العتق فكذلك في الاستيلاد فإن ماتت الأم قبل موت السيد لم يبطل الحكم في ولدها لأنه حق استقر له في حياة الأم فلم يسقط بموتها. فصل: وإن جنت أم الولد لزم المولى أن يفديها لأنه منع من بيعها بالإحبال ولم يبلغ بها إلى حال يتعلق الأرش بذمتها فلزمه ضمان جنايتها كالعبد القن إذا جنى وامتنع المولى من بيعه ويفديها بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش الجناية قولاً واحداً لأن في العبد القن إنما فداه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ في أحد القولين لأنه يمكن بيعه فربما رغبت فيه من يشتريه بأكثر من قيمته وأم الولد لا يمكن بيعها فلا يلزمه أن يفديها بأكثر من قيمتها وإن جنت ففداها بجميع القيمة ثم جنت فيه قولان: أحدهما يلزمه أن يفديها لأنه إنما لزمه أن يفديها في الجناية الأولى لأنه منع من بيعها ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها وهذا موجود في الجناية الثانية فوجب أن تفدي كالعبد القن إذا جنى وامتنع من بيعه ثم جنى وامتنع من بيعه والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يلزمه أن يفديها بل يقسم القيمة التي فدى بها الجناية الأولى بين الجنايتين على قدر أرشهما لأنه بالإحبال صار كالمتلف لرقبتها فلم يضمن أكثر من قيمتها وتخالف العبد القن فإنه فداه لأنه امتنع من بيعه والإمتاع يتكرر فتكرر بها وههنا لزمه الفداء للإتلاف بالإحبال وذلك لا يتكرر فلم يتكرر الفداء وإن جنت ففداها ببعض قيمتها ثم جنت فإن بقي من قدر قيمتها ما يفدي الجناية الثانية لزمه أن يفديها وإن بقي به ما يفدي بعض الجناية الثانية فعلى القولين إن قلنا يلزمه أن يفدي الجناية الثانية لزمه أن يفديها وإن قلنا يشارك الثاني الأول في القيمة ضم ما بقي من قيمتها

إلى ما فدى به الجناية الأولى ثم يقسم الجميع بين الجنايتين على قدر أرشهما. فصل: وإن أسلمت أم ولد نصراني تركت على يد امرأة ثقة وأخذ المولى بنفقتها إلى أن تموت فتعتق لأنه لا يمكن بيعها لما فيه من إبطال حقها من العتق المستحق بالاستيلاد ولا يمكن إعتاقها لما فيه من إبطال حق المولى ولا يمكن لإقرارها في يده لما فيه من الصغار على الإسلام فلم يبق إلا ما ذكرناه وإن كاتب كافر عبداً كافراً ثم أسلم العبد بقي على الكتابة لأنه أسلم في حال لا يمكن مطالبة المالك ببيعه أو إعتاقه وهو خارج عن يده وتصرفه على حالته فإن عجز ورق أمر ببيعه.

باب الولاء

باب الولاء إذا أعتق الحر مملوكاً ثبت عليه الولاء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: اشتريت بريرة واشترط أهلها ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقي فإن الولاء لمن أعتق1" وإن عتق عليه بتدبير أو كتابة أو استيلاد أو قرابة أو عتق عنه غيره ثبت له عليه الولاء لأنه عتق عليه فثبت له الولاء كما لو باشر عتقهن وإن باع الرجل عبده من نفسه ففيه وجهان: أحدهما أنه يثبت له عليه الولاء لأنه لم يثبت عليه رق غيره والثاني لا ولاء عليه لأحد لأنه لم يعتق عليه في ملكه ولا يملك العبد الولاء على نفسه فلم يكن عليه ولاء. فصل: وإن أعتق المكاتب عبداً بإذن المولى وصححنا عتقه ففي ولائه قولان: أحدهما أنه للسيد لأن العتق لا ينفك من الولاء والمكاتب ليس من أهله فوجب أن يكون للسيد والثاني أنه موقوف فإن عتق فهو له فإن عجز فهو للسيد لأن المعتق هو المكتب فوقف الولاء عليه فإن مات العبد المعتق قبل عجز المكاتب أو عتقه ففي ماله قولان: أحدهما أنه موقوف على ما يكون من أمر المكاتب كالولاء والثاني أنه للسيد لأن الولاء يجوز أن ينتقل فجاز أن يقف والإرث لا يجوز أن ينتقل فلم يجز أن يقف. فصل: وإن أعتق مسلم نصرانياً أو أعتق نصراني مسلماً ثبت له الولاء لأن الولاء كالنسب والنسب يثبت مع اختلاف الدين فكذلك الولاء وإن أعتق المسلم نصرانياً فلحق بدار الحرب فسبى لم يجز استرقاقه لأن عليه ولاء المسلم فلا يجوز إبطاله وإن أعتق ذمي عبده فلحق بدار الحرب وسبى ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن يسترق لأنه لا يلزمنا حفظ ماله فلم يجز إبطاله ولأنه بالاسترقاق كالمسلم والثاني يجوز لأن معتقه أو لحق بدار الحرب جاز استرقاقه فكذلك عتيقه وإن أعتق حربي عبداً حربياً ثبت له عليه الولاء فإن سبى العبد أو سبى مولاه واسترق

_ 1 رواه البخاري في كتاب المكاتب باب 5. مسلم في كتاب العتق حديث 5، 6، 8. أبو داود في كتاب العتاق باب 2. النسائي في كتاب البيوع باب 78. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 25.أحمد في مسنده "1/181" "2/28".

بطل ولاؤه لأنه لا حرمة له في نفسه ولا ماله وإن أعتق عبد ذمي عبداً ثم لحق بدار الحرب فملكه عبده وأعتقه صار كل واحد منهم مولى للآخر لأن كل واحد منهما عتق الآخر. فصل: وإن اشترك اثنان في عتق عبد اشتركا في الولاء لاشتراكهما في العتق وإن كاتب رجل عبداً ومات وخلف اثنين وأعتق أحدهما نصيبه أو أبرأه مما له عليه فإن قلنا لا يقوم عليه فأدى ما عليه للآخر كان ولاؤه للإثنين لأنه عتق بالكتابة على الأب وقد ثبت له الولاء فنقل إليهما وإن عجز عما عليه للآخر فرق نصيبه ففي ولاء النصف المعتق وجهان: أحدهما أنه بينهما لأنه عتق بحكم الكتابة فثبت الولاء للأب وانتقل إليهما والثاني أنه للمعتق خاصة لأنه هو الذي أعتقه ووقف الآخر عن العتق وإن قلنا إنه يقوم في الحال فقوم عليه ثبت الولاء للمقوم عليه في المقوم لأن بالتقويم انفسخت الكتابة فيه وعتق عليه وأما النصف الآخر فإنه عتق بالكتابة وفي ولائه وجهان: أحدهما أنه بينهما والثاني أنه للمعتق خاصة وإن قلنا يؤخر التقويم فإن أدى عتق بالكتابة وكان الولاء لهما وإن عجز ورق قوم على المعتق وثبت له الولاء على النصف المقوم لأنه عتق عليه والنصف الآخر عتق بالكتابة وفي ولائه وجهان. فصل: ولا يثبت الولاء لغير المعتق فإن أسلم رجل على يد رجل أو التقط لقيطاً لم يثبت له عليه الولاء لحديث عائشة رضي الله عنها: "فإنما الولاء لمن أعتق1" وإنما في اللغة موضوع لإثبات المذكور ونفى ما عداه فدل على إثبات الولاء للمعتق ونفيه عمن عداه ولأن الولاء ثبت بالشرع ولم يرد الشرع في الولاء إلا لمن أعتق وهذا المعنى لا يوجد في غيره فلا يلحق به. فصل: ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته ولأن الولاء كالنسب والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب" والنسب لا يصح بيعه وهبته فكذلك الولاء وإن أعتق عبداً سائبة على أن لا ولاء عليه عتق وثبت له الولاء لقوله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] ولأن هذا في معنى الهبة وقد بينا أنه لا يصح هبته. فصل: وإن مات العبد المعتق وله مال ولا وارث له ورثه المولى لما روى يونس عن الحسن أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقال اشتريته وأعتقته فقال هو مولاك إن شكرك فهو خير له وإن كفرك فهو شر له وخير لك فقال: فما أمر ميراثه؟ فقال: إن ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء وإن كان له عصبة لم يرث للخبر ولأن الولاء فرع

_ 1 المصدر السابق.

للنسب فلا يورث به مع وجوده وإن كان له من يرث الفرض فإن كان ممن يستغرق المال بالفرض لم يرثه لأنه إذا لم ترث العصبات مع من يستغرق المال بالفرض فلأن لا يرث المولى أولى وإن كان ممن لا يستغرق المال ورث ما فضل عن أهل الفرض لما روى عبد الله بن شداد قال: أعتقت ابنة حمزة مولى لها فمات وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة النصف وابنته النصف. فصل: وإن مات العبد والمولى ميت كان الولاء لعصبات المولى دون سائر الورثة لأن الولاء كالنسب لما ذكرناه من الخبر والنسب إلى العصبات دون غيرهم ويقدم الأقرب فالأقرب لما روى سعيد بن المسيب رحمة الله عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المولى أخ في الدين ونعمة يرثه أولى الناس بالمعتق" ولأن في عصبات الميت يقدم الأقرب فالأقرب وكذلك في عصبات المولى فإن كان للمولى ابن وابنة كان الميراث للابن دون البنت لأنا بينا أنه لايرث الولاء غير العصبات والبنت ليست من العصبات ولأن الولاء كالنسب ثم المرأة لا ترث بالقرابة من الميت إذا تباعد نسبها منه وهي بنت الأخ والعمة فلأن لا ترث بنت المولى وهو مؤخر عن النسب أولى وإن كان له أب وابن أو أب وابن ابن فالميراث للابن لأن تعصيب الابن أقوى لأنه يسقط تعصيب الأب فإن لم يكن بنون فالولاء للأب دون الجد والأخ لأنه أقرب منهما وإن ترك جداً وأخاً ففيه قولان: أحدهما أنهما يشتركان كما يشتركان في إرث النسب والثاني يقدم الأخ لأن تعصيبه كتعصيب الابن وتعصيب الجد كتعصيب الأب وإنما لم يقدم في إرث النسب للإجماع وليس في الولاء إجماع فوجب أن يقدم فإن ترك جداً وابن أخ فهو على القولين: إن قلنا إن الجد والأخ يشتركان قدم الجد وإن قلنا إن الأخ يقدم قدم ابنه وإن ترك أبا الجد والعم فعلى القولين إن قلنا أن الجد والأخ يشتركان قدم أبو الجد وإن قلنا إن الأخ يقدم قدم العم وإن اجتمع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب قدم الأخ من الأب والأم كما يقدم في الإرث في النسب ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يقدم لما قلناه والثاني أنهم سواء لأن الأم لا ترث بالولاء فلا يرجح بها من يدلي بها فإن لم يكن للمولى عصبة وله مولى فالولاء لمولاه لأن المولى كالعصبة فإن لم يكن له مولى فلعصبة مولاه فإن لم يكن له مولى ولا عصبة مولى وهناك مولى لعصبة المولى نظرت فإن كان مولى أخيه أو مولى ولده لم يرث لأن إنعامه على أخيه لا يتعدى إليه وإن كان مولى أبيه أو جده ورث لأن إنعامه عليه إنعامه على نسله.

فصل: فإن أعتق عبداً ثم مات وخلف اثنين ثم مات أحدهما وترك ابناً ثم مات العبد وله مال ورثه الكبير من عصبة المولى وهو الابن دون ابن الابن لما روى الشعبي قال: قضى عمر وعلي وزيد رضي الله عنهم أن الولاء للكبر ولأن الولاء يورث به ولا يورث والدليل عليه لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب لايباع ولا يوهب ولا يورث" فإذا ثبت أنه لا يورث ثبت أنه إنما يورث بما ثبت للمولى من الولاء فوجب أن يكون للكبر لأنه أقرب إلى المولى وإن مات المولى وخلف ثلاثة بنين ثم مات أحدهم وخلف ابناً ومات الثاني وخلف أربعة ومات الثالث وخلف خمسة ثم مات العبد المعتق كان ماله بين العشرة بالسوية لتساويهم في القرب ولو ظهر للمولى مال كان بينهم أثلاثاً لابن الابن الثلث وللأربعة الثلث وللخمسة الثلث لأن المال انتقل إلى أولاده أثلاثاً ثم انتقل ما ورث كل واحد منهم إلى أولاده والولاء لم ينتقل إلى أولاده وإنما ورثوا مال العبد لقربهم من المولى الذي ثبت له الولاء وهم في القرب منه سواء فتساووا في الميراث. فصل: إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لرجل فأتت منه بولد ثبت لمولى الأم الولاء على الولد لأنه عتق بإعتاق الأم فكان ولاؤه لمولاها فإن أعتق بعد ذلك مولى العبد عبده انجر ولاء الولد من موالي الأم إلى موالي العبد والدليل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه قال: مر الزبير بموال لرافع بن خديج وأبوهم عبد لفلان فاشترى الزبير أباهم فأعتقهم ثم قال: أنتم موالي فاختصم الزبير ورافع إلى عثمان رضي الله عنه فقضى عثمان للزبير قال هشام: فلما كان معاوية خاصمونا أيضاً فقضى لنا معاوية ولأن الولاء فرع للنسب والنسب معتبر بالإرث وإنما ثبت لمولى الأم لعدم الولاء من جهة الأب كولد الملاعنة نسب إلى الأم لعدم النسب من جهة الأب فإذا ثبت الولاء على الأب عاد الولاء

إلى موضعه كولد الملاعنة إذا اعترف به الزوج وإن أعتق جد الولد دون الأب ففي ولائه ثلاثة أوجه: أحدها ينجر الولاء إلى معتقه لأنه كالأب في الانتساب إليه والولاية فكان كالأب في جر الولاء إلى معتقه والثاني لا ينجر لأن بينه وبين الولد الأب فلا ينجر الولاء إلى معتقه كالأخ والثالث إن كان الأب حياً لم ينجر الولاء إلى معتقه وإن كان ميتاً انجر لأنه مع موته ليس غيره أحق ومع حياته من هو أحق فإن قلنا إنه ينجز الولاء إلى معتقه فانجر ثم أعتق الأب انجر من مولى الجد إلى مولى الأب لأنه أقوى من الجد في النسب وأحكامه. فصل: وإن تزوج عبد رجل بأمة آخر فأتت منه بولد ثم أعتق السيد الأمة وولدها ثبت له عليها الولاء فإن أعتق العبد بعد ذلك لم ينجر ولاء الولد إلى مولى العبد والفرضيون يعبرون عن علة ذلك أنه ولد مسه الرق ثم ناله العتق والعلة في ذلك أن المعتق أنعم على الولد بالعتق فكان أحق بولائه ممن أنعم على أبيه وتخالف ما قبلها فإن أحدهما أنعم على الأم والآخر أنعم على الأب فقدم المنعم على الأب لأن النسب إليه والولاء فرع للنسب وههنا أحدهما أنعم على الولد نفسه والآخر أنعم على أبيه فقدم المنعم عليه على المنعم على أبيه وإن تزوج عبد لرجل بجارية آخر فحبلت منه ثم أعتقت الجارية وهي حامل ثبت الولاء على الجارية وحملها فإن أعتق العبد بعد ذلك لم ينجز الولاء إلى مولاه لما ذكرناه من العلة وإن تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة رجل فأتت منه لم يثبت عليه الولاء لمولى الأم لأن الاستدامة في الأصول أقوى من الابتداء ثم ابتداء الحرية في الأب تسقط استدامة الولاء لمولى الأم فلأن تمنع استدامة الحرية في الأب ابتداء الولاء لمولى الأم أولى وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر وأولدها ولد أثبت الولاء على الولد لموالي الأم فإن اشترى الولد أباه عتق عليه وثبت له الولاء عليه وهل ينجر ولاء نفسه بعتق الأب فيه وجهان: أحدهما لا ينجز لأنه لا يملك ولاء نفسه فعلى هذا يكون ولاؤه باقياً لموالي الأم والثاني أنه ينجز ولاء نفسه بعتق أبيه ولا يملكه على نفسه ولكن يزيل به الولاء عن نفسه ويصير حراً لا ولاء عليه لأن عتق الأب يزيل الولاء من معتق الأم. فصل: إذا مات رجل وخلف اثنين وعبداً فادعى العبد أن المولى كاتبه فصدقه أحدهما وكذبه الآخر فأدى إلى المصدق كتابته عتق نصفه وفي ولائه وجهان: أحدهما أن الولاء بينهما لأنه عتق بسبب كان من أبيهما فكان الولاء بينهما والثاني أن الولاء للمصدق لأن المكذب أسقط حقه بالتكذيب فصار كما لو حلف أحد الأخوين على دين

لأبيهما فأخذ نصفه فإن الآخر لا يشارك في نصفه وإن تزوج المكاتب بحرة فأولدها فإن كان على الحرة ولاء لمعتق كان له ولاء الولد فإن عتق الأب بالأداء جر ولاء ولده من معتق الأم إلى معتقه فإن اختلف مولاه ومولى الأم فقال مولى المكاتب قد عتق المكاتب بالأداء وجر إلى ولاء الولد وقال مولى الأم لم يعتق وولاء الولد لي نظرت فإن كان المكاتب حياً عتق بإقرار سيده وانجر الولاء إلى معتقه ولا يمين عليه ولا على السيد وإن كان قد مات واختلف السيد ومولى الأم فإن كان للسيد المكاتب بينة شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين قضي له لأنها بينة على المال وإن لم تكن له بينة فالقول قول مولى الأم مع يمينه لأنا تيقنا رق المكاتب وثبوت الولاء لمعتق الأم فلا ينتقل عنه من غير بينة وبالله التوفيق.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض مدخل ... كتاب الفرائض الفرائض باب من أبواب العلم وتعلمها فرض من فروض الدين والدليل عليه ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدا من يفصل بينهما1". فصل: وإذا مات الميت بدئ من ماله بكفنه ومؤنة تجهيزه لما روى خباب بن الأرت قال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أحد وليس له إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجله وإذا غطينا رجله خرج رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله من الإذخر" ولأن الميراث إنما انتقل من الورثة لأنه استغنى عنه الميت وفضل عن حاجته والكفن ومؤنة التجهيز لا يستغنى عنه فقدم على الإرث ويعتبر ذلك من رأس المال لأنه حق واجب فاعتبر من رأس المال كالدين. فصل: ثم يقضي دينه لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ولأن الدين تستغرقه حاجته فقدم على الإرث وهل ينتقل ماله إلى الورثة قبل قضاء الدين؟ اختلف أصحابنا فيه فذهب أبو سعيد الاصطخري رحمه الله إلى أنه لا ينتقل بل هو باق على ملكه إلى أن يقضي دينه فإن حدثت منه فوائد ككسب العبد وولد الأمة ونتاج البهيمة تعلق بها حق الغرماء لأنه لو بيع كانت العهدة على الميت دون الورثة فدل على أنه باق على ملكه وذهب سائر أصحابنا إلى أنه ينتقل إلى الورثة فإن حدثت منها فوائد لم يتعلق بها حق الغرماء وهو المذهب لأنه لو كان باقياً على ملك الميت لوجب أن يرثه من أسلم أو أعتق من أقاربه قبل قضاء الدين ولوجب أن لا يرثه من مات من الورثة قبل قضاء الدين وإن كان الدين أكثر من قيمة التركة فقال الوارث أنا أفكها بقيمتها وطالب الغرماء ببيعها ففيه وجهان بناء على القولين فيما يفدي به المولى جناية العبد:

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الفرائض باب 2. ابن ماجة في كتاب الفرائض باب 1. الدارمي في كتاب الفرائض باب 1.

أحدهما لا يجب بيعها لأن الظاهر أنها لا تشتري بأكثر من قيمتها وقد بذل الوارث قيمتها فوجب أن تقبل والثاني يجب بيعها لأنه قد يرغب فيها من يزيد على هذه القيمة فوجب بيعها. فصل: ثم تنفذ وصاياه لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:] ولأن الثلث بقي على حكم ملكه ليصرفه في حاجاته فقدم على الميراث كالدين. فصل: ثم تقسم التركة بين الورثة والأسباب التي يتوارث بها الورثة المعينون ثلاثة رحم وولاء ونكاح لأن الشرع ورد بالإرث بها وأما المؤاخاة في الدين والموالاة في النصرة والإرث فلا يورث بها لأن هذا كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ بقوله عز وجل {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . فصل: والوارثون من الرجال عشرة: الابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى النعمة لأن الشرع ورد بتوريثهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى فأما ذوو الأرحام وهم الذين لا فرض لهم ولا تعصيب فإنهم لايرثون وهم عشرة: ولد البنات وولد الأخوات وبنات الإخوة وبنات الأعمام وولد الإخوة من الأم والعم من الأم والعمة والخال والخالة والجد أبو الأم ومن يدلي بهم والدليل عليه ما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث1" فأخبر أنه أعطى كل ذي حق حقه فدل على ان كل من لم يعطه شيئاً فلا حق له ولأن بنت الأخ لا ترث مع أخيها فلم ترث كبنت المولى ولا يرث العبد المعتق من مولاه لما ذكرناه من حديث أبو أمامة ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الولاء لمن أعتق". فصل: ولا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم أصلياً كان أو مرتداً لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم2" ويرث الذمي من الذمي وإن اختلفت أديانهم كاليهودي من النصراني

_ 1 رواه البخاريفي كتاب الوصايا باب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 6. 2 رواه أحمد في مسنده "201، 202، 209".

والنصراني من المجوسي لأنه حقن دمهم بسبب واحد فورث بعضهم من بعض كالمسلمين ولا يرث الحربي من الذمي ولا الذمي من الحربي لأن الموالاة انقطعت بينهما فلم يرث أحدهما من الآخر كالمسلم والكافر. فصل: ولا يرث الحر من العبد لأن ما معه من المال لا يملكه في أحد القولين وفي الثاني يملكه ملكاً ضعيفاً ولهذا لو باعه إلى مالكه فكذلك إذا مات ولا يرث العبد من الحر لأنه لا يورث بحال فلا يرث كالمرتد ومن نصفه حر ونصفه عبد لا يرث وقال المزني يرث بقدر ما فيه من الحرية ويحجب بقدر ما فيه من الرق والدليل على أنه لا يرث أنه ناقص بالرق في النكاح والطلاق والولاية فلم يرث كالعبد وهل يورث منه ما جمعه بالحرية فيه قولان: قال في الجديد يرثه ورثته لأنه مال ملكه بالحرية فورث عنه كمال الحر وقال في القديم لا يورث لأنه إذا لم يرث بحريته لم يورث بها وما الذي يصنع بماله؟ قال الشافعي رضي الله عنه يكون لسيده وقال أبو سعيد الإصطخري يكون لبيت المال لأنه لا يجوز أن يكون لسيده لأنه جمعه بالحرية فلا يجوز أن يورث لرقه فجعل لبيت المال ليصرف في المصالح كمال لا مالك له. فصل: ومن أسلم ومن أعتق على ميراث لم يقسم لم يرث لأنه لم يكن وارثاً عند الموت فلم يرث كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة وإن دبر رجل أخاه فعتق بموته لم يرثه لأنه صار حراً بعد الموت وإن قال له أنت حر في آخر جزء من أجزاء حياتي المتصل بالموت ثم مات عتق عن ثلثه وهل يرثه فيه وجهان: أحدهما لا يرثه لأن العتق في المرض وصية والإرث والوصية لا يجتمعان والثاني يرثه ولا يكون عتقه لأن الوصية ملك بموت الموصى وهذا لم يملك نفسه بموته وإن قال في مرضه إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر فمات بعد شهر عتق يوم تلفظ وهل يرثه على الوجهين. فصل: واختلف أصحابنا فيمن قتل مورثه فمنهم من قال: إن كان القتل مضموناً لم يرثه لأنه قتل بغير حق وإن لم يكن مضموناً ورثه لأنه قتل بحق فلا يحرم به الإرث ومنهم من قال: إن كان متهماً كالمخطئ أو كان حاكماً فقتله في الزنا بالبينة لم يرثه لأنه متهم في قتله لاستعجال الميراث ومنهم من قال لا يرث القاتل بحال وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئاً" ولأن القاتل حرم الإرث حتى لا يجعل ذريعة إلى استعجال الميراث فوجب أن يحرم بكل حال لحسم الباب.

فصل: واختلف قول الشافعي رحمه الله فيمن بت طلاق امرأته في المرض المخوف واتصل به الموت فقال في أحد القولين إنها ترثه لأنه متهم في قطع إرثها فورثت كالقاتل لما كان متهماً في استعجال الميراث لم يرث والثاني أنها لا ترث وهو الصحيح لأنها بينونة قبل الموت فقطعت الإرث كالطلاق في الصحة فإذا قلنا إنها ترث فإلى أي وقت ترث؟ ففيه ثلاثة أقوال: أحدها إن مات وهي في العدة ورث لأن حكم الزوجية باق وإن مات وقد انقضت العدة لم ترث لأنه لم يبق حكم الزوجية والثاني أنها ترث ما لم تتزوج لأنها إذا تزوجت علمنا أنها اختارت ذلك والثالث أنها ترث أبداً لأن توريثها للفرار وذلك لا يزول بالتزويج فلم يبطل حقها واما إذا طلقها في المرض ومات بسبب آخر لم ترث لأنه بطل حكم المرض وإن سألته الطلاق لم ترث لأنه غير متهم وقال أبو علي بن أبي هريرة لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه ورث تماضر بنت الأصيع من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكانت سألته الطلاق وهذا غير صحيح فإن ابن الزبير خالف عثمان في ذلك وإن علق طلاقها في الصحة على صفة تجوز أن توجد قبل المرض فوجدت الصفة في حال المرض لم ترث لأنه غير متهم في عقد الصفة وإن علق طلاقها في المرض على فعل من جهتها فإن كان فعلاً يمكنها تركه ففعلت لم ترث لأنه غير متهم في ميراثها وإن كان فعلاً لا يمكنها تركه كالصلاة وغيرها فهو على القولين وإن قذفها في الصحة ثم لاعنها في المرض لم ترث لأنه مضطر إلى اللعان لدرء الحد فلا تلحقه التهمة وإن فسخ نكاحها في مرضه بأحد العيوب ففيه وجهان: أحدهما أنه كالطلاق في المرض والثاني أنها لا ترث لأنه يستند إلى معنى من جهتها ولأنه محتاج إلى الفسخ لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب. فصل: وإن طلقها في المرض ثم صح ثم مرض ومات أو طلقها في المرض ثم ارتدت ثم عادت إلى الإسلام ثم مات لم ترثه قولاً واحداً لأنه أتت عليه حالة لو مات سقط إرثها فلم يعد. فصل: وإن مات متوارثان بالغرق أو الهدم فإن عرف موت أحدهما قبل الآخر ونسي وقف الميراث إلى أن يتذكر لأنه يرجى أن يتذكر وإن علم أنهما ماتا معاً ولم يعلم موت أحدهما قبل الآخر أو علم موت أحدهما قبل موت الآخر ولم يعرف بعينه جعل ميراث كل واحد منهما لمن بقي من ورثته ولم يورث أحدهما من الآخر لأنه لا تعلم

حياته عند موت صاحبه فلم يرثه كالجنين إذا خرج ميتاً. فصل: وإن أسر رجل أو فقد ولم يعلم موته لم يقسم ماله حتى يمضي زمان لا يجوز أن يعيش فيه مثله وإن مات له من يرثه دفع إلى كل وارث أقل ما يصيبه ووقف الباقي إلى أن يتبين أمره.

باب ميراث أهل الفرائض

باب ميراث أهل الفرائض وأهل الفرائض هم الذين يرثون الفروض المذكورة في كتاب الله عز وجل وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس وهم عشرة: الزوج والزوجة والأم والجدة والبنت وبنت الابن والأخت وولد الأم والأب مع الابن وابن الابن والجد مع الابن وابن الابن فأما الزوج فله فرضان النصف وهو إذا لم يكن معه ولد أو ولد ابن والربع وهو إذا كان معه ولد أو ولد ابن والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فأما الزوجة فلها أيضاً فرضان: الربع إذا لم يكن معها ولد ولا ولد ابن والثمن إذا كان معها ولد أو ولد ابن والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فنص على فرضها مع وجود الولد وعدم الولد وقسنا ولد الابن في ذلك على ولد الصلب لإجماعهم على أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب فكذلك في حجب الزوجين وللزوجتين والثلاث والأربع ما للواحدة من الربع والثمن لعموم الآية. فصل: وأما الأم فلها ثلاثة فروض: أحدها الثلث وهو إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان فصاعداً من الإخوة والأخوات لقوله عز وجل: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} والفرض الثاني السدس وذلك في حالين: أحدهما أن يكون للميت ولد أو ولد ابن والدليل عليه قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ففرض لها السدس مع الولد وقسنا عليه ولد الابن والثاني أن يكون له اثنان فصاعداً من الإخوة والأخوات والدليل عليه قوله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ففرض لها السدس مع الأخوة وأقلهم ثلاثة وقسنا عليهم الأخوين لأن كل فرض تغير بعدد كان الإثنان فيه كالثلاثة كفرض البنات والفرض الثالث ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين وذلك في مسألتين: في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين والباقي للأب والدليل عليه أن الأب والأم إذا اجتمعا كان

للأب الثلثان وللأم الثلث فإذا زاحمهما ذو فرض قسم الباقي بعد الفرض بينهما على الثلث والثلثين كما لو اجتمعا مع بنت. فصل: وأما الجدة فإن كانت أم الأم أو أم الأب فلها السدس لما روى قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه فسألته عن ميراثها فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ليس لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل عنها فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس فقال أبو بكر رضي الله عنه: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه فقال مثلما قال فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر رضي الله عنه فسألته ميراثها فقال لها مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما فأيكما خلت به فهو لها وإن كانت أم أبي الأم لم ترث لأنها تدلي بغير وارث وإن كانت أم أبي الأب ففيه قولان: أحدهما أنها ترث وهو الصحيح لأنها جدة تدلي بوارث فورثت كأم الأم وأم الأب والثاني أنها لا ترث لأنها جدة تدلي بجد فترث كأم أبي الأم فإن اجتمعت جدتان متحاذيتان كأم الأم وأم الأب فالسدس بينهما لما ذكرناه فإن كانت إحداهما أقرب نظرت فإن كانتا من جهة واحدة ورثت القربى دون البعدى لأن البعدى تدلي بالقربى فلم ترث معها كالجد مع الأب وأم الأم مع الأم وإن كانت القربى من جهة الأب والبعدى من جهة الأم ففيه قولان: أحدهما أن القربى تحجب البعدى لأنهما جدتان ترث كل واحدة منهما إذا انفردت فجحبت القربى منهما البعدى كما لو كانت القربى من جهة الأم والثاني لا تحجبها وهو الصحيح لأن الأب لا تحجب الجدة من جهة الأم فلأن لا تحجبها الجدة التي تدلي به أولى وتخالف القربى من جهة الأم فإن الأم تحجب الجدة من قبل الأب فحجبتها أمها والأب لا يحجب الجدة من قبل الأم فلم تحجبها أمه فإن اجتمعت جدتان إحداهما تدلي بولادتين بأن كانت أم أم أب أو أم أم أم والأخرى تدلي بولادة واحدة كأم أبي أب

ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي العباس أن السدس يقسم بين الجدتين على ثلاثة فتأخد التي تدلي بولادة سهماً وتأخذ التي تدلي بولادتين سهمين والثاني وهو الصحيح أنهما سواء لأنه شخص واحد فلا يأخذ فرضين. فصل: وأما البنت فلها النصف إذا انفردت لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وللاثنتين فصاعداً الثلثان لما روى جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك يوم أحد ولم يدع عمهما لهما مالاً إلا أخذه فما ترى يارسول الله والله لا تنكحان إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقضي الله في ذلك" فنزلت عليه سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي المرأة وصاحبها" فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك فدلت الآية وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] على فرض ما زاد على الاثنتين ودلت السنة على فرض الثنتين. فصل: وأما بنت الابن فلها النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعداً الثلثان لإجماع الأمة على ذلك ولبنت الابن مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين لما روى الهزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى أبي موسى وسلمان بن ربيعة رضي الله عنهما فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت فقالا: للبنت النصف وللأخت النصف وأت عبد الله فإنه سيتابعنا فأتى عبد الله فقال: إني قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين لأقضين بينهما بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت ولأن بنت الابن ترث فرض البنات ولم يبق من فرض البنات إلا السدس وهكذا لو ترك بنتاً وعشر بنات ابن كان للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين لما ذكرناه من المعنى وإن ترك بنتاً وبنت ابن ابن أو بنات ابن ابن أسفل من البنت بدرج كان لهن السدس لأنه بقية فرض البنات ولبنت ابن الابن أو بنات ابن الابن مع بنت الابن من السدس تكملة الثلثين ما لبنت الابن وبنات الابن مع بنت الصلب وعلى هذا أبداً. فصل: وأما الأخت للأب والأم فلها النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعدا الثلثان

لقوله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] وللثلاث فصاعداً ما للاثنتين لأن كل فرض يغير بالعدد كان الثلاث فيه كالاثنتين كالبنات وللأخت من الأب عند عدم الأخت من الأب والأم النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعداً الثلثان لأن ولد الأب مع ولد الأب والأم كولد الابن مع ولد الصلب فكان ميراثهم كميراثهم. فصل: والأخوات من الأب والأم مع البنات عصبة ومع بنات الابن والدليل عليه ما ذكرناه من حديث الهزيل بن شرحبيل وروى إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تركت بنتها وأختها للبنت النصف وللأخت النصف وعن الأسود قال: كان ابن الزبير لا يعطي الأخت مع البنت شيئاً فقلت: إن معاذاً قضى فينا باليمن فأعطى البنت النصف والأخت النصف قال: فأنت رسولي بذلك: فإن لم تكن أخوات من الأب والأم فالأخوات من الأب لأنهن يرثن ما يرث الأخوات من الأب والأم عند عدمهن. فصل: وأما ولد الأم فللواحد السدس وللاثنين فصاعداً الثلث والدليل عليه قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] والمراد به ولد الأم والدليل عليه ما روي أن عبد الله وسعداً كانا يقرآن وله أخ أو أخت من أم وسوى بين الذكر والإناث للآية ولأنه إرث بالرحم المحض فاستوى فيه الذكر والأنثى كميراث الأبوين مع الابن. فصل: وأما الأب فله السدس مع الابن وابن الابن لقوله عز وجل: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ففرض له السدس مع الابن وقيس عليه إذا كان مع ابن الابن لأن ابن الابن كالإبن في الحجب والتعصيب وأما الجد فله السدس مع الابن وابن الابن لإجماع الأمة. فصل: ولا ترث بنت الابن مع الابن ولا الجدة أم الأب مع الأب لأنها تدلي به ومن أدلى بعصبة لم يرث معه كابن الابن مع الابن والجد مع الأب ولا ترث الجدة من الأم مع الأم لأنها تدلي بها ولا الجدة من الأب لأن الأم في درجة الأب والجدة في درجة الجد فلم ترث معه كما لا يرث الجد مع الأب. فصل: ولا يرث ولد الأم مع أربعة مع الولد وولد الابن والأب والجد لقوله عز

وجل: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:] فورثهم في الكلالة والكلالة من سوى الوالد والولد والدليل عليه لما روى جابر رضي الله عنه قال: جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب من وضوئه علي فعقلت فنزلت آية المواريث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} والكلالة هو من ليس له ولد ولا والد وله إخوة ولأن الكلالة مشتق من الإكليل وهو الذي يحتاط بالرأس من الجوانب والذين يحيطون بالميت من الجوانب الإخوة فأما الوالد والولد فليسا من الجوانب بل أحدهما من أعلاه والآخر من أسفله ولهذا قال الشاعر يمدح بني أمية: ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم فصل: ولا يرث ولد الأب والأم مع ثلاثة مع الابن وابن الابن والأب والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فورثهم في الكلالة وقد بينا أن الكلالة ألا تكون والداً ولا ولداً. فصل: وإذا استكمل البنات الثلثين ولم يكن مع من دونهن مع بنات الابن ذكر لم يرثن لما روى الأعمش بن إبراهيم قال: قال زيد رضي الله عنه إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن شيء إلا أن يلحق بهن ذكر فيرد عليهن بقية المالإذا كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كن أسفل منه فليس لهن شيء وبقية المال له دونهن ولأنا لو ورثنا من دونهن من بنات الابن فرضاً مستأنفاً لم يجز لأنه ليس للبنات بالبنوة أكثر من الثلثين وإن شركنا بينهن وبين بنات الابن لم يجز لأنهن أنزل منهن بدرجة فلا يجوز أن يشاركنهن وإن استكمل الأخوات للأب والأم الثلثين ولم يكن مع الأخوات للأب ذكر يعصبهن لم يرثن لما ذكرناه في المعنى في البنات وبنات الابن.

فصل: ومن لا يرث ممن ذكرناه من ذوي الأرحام أو كان عبداً أو قاتلاً أو كافراً لم يحجب غيره من الميراث لأنه ليس بوارث فلم يحجب كالأجنبي. فصل: وإن اجتمع أصحاب فروض ولم يحجب بعضهم بعضاً فرض لكل واحد منهم فرضه فإن زادت سهامهم على سهام المال أعيلت بالسهم الزائد ودخل النقص على كل واحد منهم بقدر فرضه فإن ماتت امرأة وخلفت زوجاً وأماً وأختين من الأم وأختين من الأب والأم فللزوج النصف وللأم السدس وللأختين من الأم الثلث وللأختين من الأب والأم الثلثان وأصل الفريضة من ستة وتعول إلى عشرة وهو أكثر ماتعول إليه الفرائض لأنها عالت بثلثيها وتسمى أم الفروخ لكثرة السهام العائلة وتسمى الشريحية لأنها حدثت في أيام شريح وقضى فيها وإن مات رجل وخلف ثلاث زوجات وجدتين وأربع أخوات من الأم وثماني أخوات من الأب والأم فللزوجات الربع وللجدتين السدس وللأخوات من الأم الثلث وللأخوات من الأب والأم الثلثان وأصلها من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر وهو أكثر ما يعول إليه هذا الأصل وتسمى أم الأرامل وإن مات رجل وخلف زوجة وأبوين وابنتين فللزوجة الثمن وللأبوين السدسان وللابنتين الثلثان وأصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين وتسمى المنبرية لأنه روي أن علياً كرم الله وجهه سئل عن ذلك وهو على المنبر فقال صار ثمنها تسعاً وإن ماتت المرأة وخلفت زوجاً وأماً وأختاً من أب وأم فللزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث وأصلها من ستة وتعود إلى ثمانية وهي أول مسألة أعيلت في خلافة عمر رضي الله عنه وتعرف بالمباهلة فإن ابن عباس رضي الله عنه أنكر العول وقال: هذان النصفان ذهبا بالمال أين موضع الثلث؟ فقيل له والله لئن مت أو متنا فيقسم ميراثنا إلا على ما عليه القوم قال: فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين والدليل على إثبات العول أنها حقوق مقدرة متفقة في الوجوب ضاقت التركة على جمعيعها فقسمت التركة على قدرها كالديون.

فصل: وإن اجتمع في شخص جهتا فرض كالمجوسي إذا تزوج ابنته فأتت منه ببنت فإن الزوجة صارت أم البنت وأختها من الأب والبنت بنت الزوجة وأختها فإن ماتت البنت ورثتها الزوجة بأقوى القرابتين وهي بكونها أماً ولا ترث بكونها أختاً لأنها شخص واحد اجتمع فيه شيئان يورث بكل واحد منهما الفرض فورث بأقواهما ولم ترث بهما كالأخت من الأب والأم وإن ماتت الزوجة ورثتها البنت النصف بكونها بنتاً وهل ترث الباقي بكونها أختاً فيه وجهان: أحدهما لا ترث لما ذكرناه من العلة والثاني ترث لأن إرثها بكونها بنتاً بالفرض وإرثها بكونها أختاً بالتعصيب لأن الأخت مع البنت عصبة فجاز أن ترث بهما كأخ من أم وهو ابن عم.

باب ميراث العصبة

باب ميراث العصبة العصبة كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى وهم الأب والابن ومن يدلي بهما وأولى العصبات الابن والأب لنهما يدليان بأنفسهما وغيرهما يدلي بهما فغن اجتمعا قدم الابن لأن الله عز وجل بدأ به فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] والعرب تبدأ بالأهم فالأهم ولأن الأب إذا اجتمع مع الابن فرض له السدس وجعل الباقي للابن ولأن الابن يعصب أخته والأب لا يعصب أخته ثم ابن الابن وإن سفل لأنه يقوم مقام الابن في الإرث والتعصيب ثم الأب لأن سائر العصبات يدلون به ثم الجد إن لم يكن له أخ لأنه أب الأب ثم أبو الجد وإن علا وإن لم يكن جد فالأخ لأنه ابن الأب ثم ابن الأخ وإن سفل ثم العم لأنه ابن الجد ثم ابن العم وإن سفل ثم عم الأب لأنه ابن أبي الجد وإن سفل وعلى هذا أبداً. فصل: وإن انفرد الواحد منهم أخذ جميع المال والدليل عليه قوله عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فورث الأخ جميع مال الأخت إذا لم يكن لها ولد وغن اجتمع مع ذي فرض أخذ ما بقي لما رويناه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث أخا سعد بن الربيع ما بقي من فرض البنات والزوجة فدل على أن هذا حكم العصبة. فصل: وإن اجتمع اثنان قدم أقربهما في الدرجة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى عصبة ذكر1" وإن اجتمع

_ 1 رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 5، 7، 9. مسلم في كتاب الفرائض حديث 2، 3. الترمذي في كتاب الفرائض باب 8. أحمد في مسنده "1/315".

اثنان في الدرجة وأحدهما يدلي بالأب والأم والآخر يدلي بالأب قدم من يدلي بالأب والأم لأنه أقرب وإن استويا في الدرجة والإدلاء استويا في الميراث لتساويهما. فصل: ولا يعصب أحد منهم أنثى إلا الابن وابن الابن والأخ فإنهم يعصبون أخواتهم فأما الابن فإنه يعصب أخواته للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وأما ابن الابن فإنه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات عمه سواء كان لهن شيء من فرائض البنات أو لم يكن وقال أبو ثور: إذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لابن الابن ولا شيء لبنات الابن لأن البنات لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين فلو عصبنا بنت الابن بابن الابن بعد استكمال البنات الثلثين صار ما تأخذه بالتعصيب زيادة على الثلثين وهذا خطأ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] والولد يطلق على الأولاد وأولاد الأولاد والدليل عليه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 19] وقوله صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه: "يابني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان رامياً1" ولأنه يقال لمن ينتسب إلى تميم وطيء بنو تميم وبنو طيء وقوله إنهن لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين فإنه يمتنع ذلك من جهة الفرض فأما في التعصيب فلا يمتنع كما لو ترك ابناً وعشر بنات فإن للابن السدس وللبنات خمسة أسداس وهو أكثر من الثلثين وأما ابن الابن وإن سفل فإنه يعصب من يحاذيه من أخوته وبنات عمه سواء بقي لهن من فرض البنات شيء أو لم يبق كما يعصب ابن الابن من يحاذيه وأما من فوقه من العمات فينظر فيه فإن كان لهن من فرض البنات من الثلثين أو السدس شيء أخذ الباقي ولم يعصبهن لأنهن يرثن بالفرض ومن يرث بالفرض بقرابة لم يرث بالتعصيب بتلك القرابة وإن لم يكن لهن من فرض البنات شيء عصبهن لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن شيء إلا أن يلحق بهن ذكر فيرد عليهن بقية المال إن كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كن أسفل منه فليس لهن شيء وبقية المال له دونهن ولأنه لا يجوز أن يرث بالبنوة مع البعد ولا يرث عماته مع القرب ولا يعصي من هو أنزل منه من بنات أخيه بل يكون الباقي له لما ذكرناه من قول زيد بن ثابت فإن كن أسفل منه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 78. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده "1/364" "4/50".

فليس لهن شيء وبقية المال له دونهن ولأنه عصبة فلا يرث معه هو دونه كالابن مع بنت الابن وأما الأخ فإنه يعصب أخواته لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . فصل: ولا يشارك أحد من العصبات أهل الفروض في فروضهم إلا ولد الأب والأم فإنهم يشاركون ولد الأم في ثلثهم في المشتركة وهي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وولد الأب والأم واحداً كان أو أكثر فيفرض للزوج النصف وللأم أو الجدة السدس ولولد الأم الثلث يشاركهم ولد الأب والأم في الثلث لأنهم يشاركونهم في الرحم التي ورثوا بها الفرض فلا يجوز أن يرث ولد الأم ويسقط ولد الأب والأم كالأب لما شارك الأم في الرحم بالولادة لم يجز أن ترث الأم ويسقط الأب وتعرف هذه المسألة بالمشتركة لما فيها من التشريك بين ولد الأب والأم وولد الأم في الفرض وتعرف بالحمارية فإنه يحكى فيها عن ولد الأب والأم لأنهم قالوا احسب أن أبانا كان حماراً أليس أمنا وأمهم واحدة؟. فصل: وإن اجتمع في شخص واحد جهة فرض وجهة تعصيب كابن عم وزوج أو ابن عم وأخ من أم ورث بالفرض والتعصيب لأنهم إرثان مختلفان بسببين مختلفين فإن اجتمع ابنا عم أحدهما أخ من أم وورث الأخ من الأم السدس والباقي بينه وبين الآخر وقال أبو ثور: المال كله للذي هو أخ من الأم لأنهما عصبتان يدلي أحدهما بالأبوين والآخر بأحدهما فقدم من يدلي بهما كالأخوين أحدهما من الأب والآخر من الأب والأم وهذا خطأ لأنه استحق الفرض بقرابة الأم فلا يقدم بها في التعصيب كابني عم أحدهما زوج. فصل: وإن لاعن الزوج ونفى نسب الولد انقطع التوارث بينهما لانتفاء السبب بينهما ويبقى التوارث بين الأم والولد لبقاء السبب بينهما وإن مات الولد ولا وارث له غير الأم كان لها الثلث وإن أتت بولدين توأمين فنفاهما الزوج باللعان ثم مات أحدهما وخلف الآخر ففيه وجهان: أحدهما أنه يرث ميراث الأخ من الأم لأنه لا نسب بينهما من جهة الأب فلم يرث بقرابته كالتوأمين من الزنا إذا مات أحدهما وخلف أخاه والثاني أنه يرثه ميراث الأخ من الأب والأم لأن اللعان ثبت في حق الزوجين دون غيرهما ولهذا لو قذفها الزوج لم يحد ولو قذفها غيره حد والصحيح هو الأول لأن النسب قد انتفى بينهما

في حق كل واحد منهما كما انقطع الفراش بينهما في حق كل أحد يجوز لكل أحد أن يتزوجها. فصل: وإن كان الوارث خنثى وهو الذي له فرج الرجال وفرج النساء فإن عرف أنه ذكر ورث ميراث الذكر وإن عرف أنه أنثى ورث ميراث الأنثى وإن لم يعرف فهو الخنثى المشكل وورث ميراث أنثى فإن كان أنثى وحده ورث النصف فإن كان معه ابن ورث الثلث وورث الابن النصف لأنه يقين ووقف السدس لأنه مشكوك فيه وإن كانا خنثيين ورثا الثلثين لأنه يقين ووقف الباقي لأنه مشكوك فيه ويعرف أنه ذكر أو أنثى بالبول فإن كان يبول من الذكر فهو ذكر وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: يورث الخنثى من حيث يبول وروي عنه أنه قال: إن خرج بوله من مبال الذكر فهو ذكر وإن خرج من مبال الأنثى فهو أنثى ولأن الله تعالى جعل بول الذكر من الذكر وبول الأنثى من الفرج فرجع في التمييز إليه وإن كان يبول منهما نظرت فإن كان يبول من أحدهما أكثر فقد روى المزني في الجامع أن الحكم للأكثر وهو قول بعض أصحابنا لأن الأكثر هو الأقوى في الدلالة والثاني أنه لا تعتبر الكثرة لأن اعتبار الكثرة يشق فسقط وإن لم يعرف بالبول سئل عما يميل إليه طبعه فإن قال أميل إلى النساء فهو ذكر وإن قال أميل إلى الرجال فهو أنثى وإن قال أميل إليهما فهو المشكل وقد بيناه ومن أصحابنا من قال إن لم يكن في البول دلالة اعتبر عدد الأضلاع فإن نقص من الجانب الأيسر ضلع فهو ذكر فإن أضلاع الرجل من الجانب الأيسر أنقص فإن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر فمن ذلك نقص من الجانب الأيسر ضلع ولهذا قال الشاعر: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى ... أليس عجيباً ضعفها واقتدارها فصل: وإن مات الرجل وترك حملاً وله وارث غير الحمل نظرت فإن كان له سهم مقدر لا ينقص كالزوجة دفع إليها الفرض ووقف الباقي إلى أن ينكشف وإن لم يكن له سهم مقدر كالابن وقف الجميع لأنه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة والدليل عليه أن الشافعي رحمه الله قال: دخلت إلى شيخ باليمن لأسمع منه الحديث فجاءه خمسة كهول فسلموا عليه وقبلوا رأسه ثم جاءه خمسة شباب فسلموا عليه وقبلوا رأسه ثم جاءه خمسة فتيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه ثم جاءه خمسة صبيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه فقلت من هؤلاء؟ فقال: أولادي كل خمسة منهم في بطن وفي المهد خمسة أطفال. وقال

ابن المرزبان: أسقطت المرأة بالأنبار كيساً فيه اثنا عشر ولداً كل اثنين متقابلان فإذا انفصل الحمل واستهل ورث لما روى سعيد بن المسيب رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن من السنة أن لا يرث المنفوس ولا يورث حتى يستهل صارخاً فإن تحرك حركة حي أو عطس ورث لأنه لم يعرف حياته وإن خرج بعضه وفيه حياة ومات قبل خروج الباقي لأنه لا يثبت له حكم الدنيا قبل انفصال جميعه ولهذا لا ينقضي به العدة ولا يسقط حق الزوج عن الرجعة قبل انفصال جميعه. فصل: وإن مات رجل ولم تكن له عصبة ورثه المولى المعتق كما ترثه العصبة على ما ذكرناه في باب الولاء فإن لم يكن له وارث نظرت فإن كان كافراً صار ماله لمصالح المسلمين وإن كان مسلماً صار ماله ميراثاً للمسلمين لأنهم يعقلونه إذا قتل فانتقل ماله إليهم بالموت ميراثاً كالعصبة فإن كان للمسلمين إمام عادل سلم إليه ليضعه في بيت المال لمصالح المسلمين وإن لم يكن إمام عادل ففيه وجهان: أحدهما أنه يرد على أهل الفرض على قدر فروضهم إلا على الزوجين فإن لم يكن أهل الفرض قسم على ذوي الأرحام على مذهب أهل التنزيل فيقام كل واحد منهم مقام من يدلي به فيجعل ولد البنات والأخوات بمنزلة أمهاتهم وبنات الأخوة والأعمام بمنزلة آبائهم وأبو الأم والخال بمنزلة الأم والعمة والعم من الأم لأن الأمة أجمعت على الإرث بإحدى الجهتين فإذا عدمت إحداهما تعينت الأخرى والثاني وهو المذهب أنه لا يرد على أهل السهام ولا يقسم المال على ذوي الأرحام لأنا دللنا أنه للمسلمين والمسلمون لم يعدموا وإنما عدم من يقبض لهم فلم يسقط حقهم كما لو كان الميراث لصبي وليس له ولي فعلى هذا يصرفه من في يده المال إلى المصالح.

باب الجد والاخوة

باب الجد والأخوة إذا اجتمع الجد وأبو الجد وإن علا مع ولد الأب والأم أو ولد الأب ولم تنقصه المقاسمة من الثلث قاسمهم وعصب إناثهم وقال المزني: يسقطهم ووجهه أن له ولادة وتعصيباً بالرحم فأسقط ولد الأب والأم كالأب وهذا خطأ لأن ولد الأب يدلي بالأب فلم يسقطه الجد كأم الأب ويخالف الأب فإن الأخ يدلي به ومن أدلى بعصبة لم يرث معه

كابن الأخ مع الأخ وأم الأب مع الأب والجد والأخ يدليان بالأب فلم يسقط أحدهما كالأخوين من الأب وأم الأب مع الجد ولأن الأب يحجب الأم من الثلث إلى ثلث الباقي مع الزوجين والجد لا يحجبها. فصل: وإن اجتمع مع الجد ولد الأب والأم وولد الأب عاد ولد الأب والأم الجد بولد الأب لأن من حجب بولد الأب والأم وولد الأب إذا انفرد حجب بهما إذا اجتمعا كالأم فإن كان له جد وأخ من أب وأم وأخ من أب قسم المال على ثلاثة أسهم للجد سهم ولكل واحد من الأخوين سهم ثم يرد الأخ من الأب سهمه على الأخ من الأب والأم لأنه لا يرث معه فلم يشاركه فيما حجبا عنه كما لا يشارك الأخ من الأب الأخ من الأب والأم فيما حجبا عنه الأم وتعرف هذه المسألة بالمعادة لأن الأخ من الأب والأم عاد الجد بالأخ من الأب ثم أخذ منه ما حصل له وإن اجتمع مع الجد أخ من الأب وأخت من الأب والأم قسم المال على خمسة أسهم للجد سهمان وللأخ سهمان وللأخت سهم ثم يرد الأخ على الأخت تمام النصف وهو سهم ونصف ويأخذ ما بقي وهو نصف سهم لأن الأخ من الأب إنما يرث مع الأخت من الأب والأم ما يبقى بعد استكمال الأخت النصف وتصح من عشرة وتسمى عشرية زيد رضي الله عنه وإن اجتمع مع أختين من الأب وأختين من الأب والأم قسم المال بينهم على ستة أسهم للجد سهمان ولكل أخت سهم ثم ترد الأختان من الأب جميع ما حصل لهما على الأختين من الأب والأم لأنهما لا يرثان قبل أن تستكمل من الأب والأم الثلثين. فصل: وإن كانت المقاسمة تنقص الجد من الثلث بأن زاد الإخوة على اثنتين والأخوات على أربع فرض للجد الثلث وقسم الباقي بين الإخوة والأخوات لأنا قد دللنا على أنه يقاسم الواحد ولا خلاف أنهم لا يقاسمونه أبداً فكان التقدير بالاثنين أشبه بالأصول فإن الحجب إذا اختلف فيه الواحد والجماعة وجب التقدير فيه بالاثنين كحجب الأم من الثلث وحجب البنات لبنات الابن وحجب الأخوات للأب والأم للأخوات للأب ولا يعاد ولد الأب والأم الجد بولد الأب في هذا الفصل لأن المعادة تحجب الجد ولا سبيل لحجبه عن الثلث. فصل: وإن اجتمع مع الجد والإخوة من له فرض أخذ صاحب الفرض فرضه وجعل للجد أوفر الأمرين من المقاسمة أو ثلث الباقي ما لم ينقص عن سدس جميع المال لأن الفرض كالمستحق من المال فيصير الباقي كأنه جميع المال وقد بينا أن حكمه في

جميع المال أن يجعل له أوفر الأمرين من المقاسمة أو ثلث المال فكذلك فيما بقي بعد الفرض فإن نقصته المقاسمة أو ثلث الباقي عن السدس فرض له السدس لأن ولد الأب والأم ليس بأكثر من ولد الصلب ولو اجتمع الجد مع ولد الصلب لم ينقص حقه من السدس فلأن لا ينقص مع ولد الأب والأم أولى وإن مات رجل وخلف بنتاً وجداً واختاً فللبنت النصف والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وهي من مربعات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه قال: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت نصفان وتصح من أربعة وإن ماتت امرأة وخلفت زوجاً وأماً وجداً فللزوج النصف وللأم الثلث والباقي للجد وهو السدس وهي من مربعات عبد الله رضي الله عنه لأنه يروى عنه أنه قال: للزوج النصف والباقي بين الجد والأم نصفان وتصح من أربعة وهذا خطأ لأن الجد أبعد من الأم فلم يجز أن يحجبها كجد الأب مع أم الأب وإن مات رجل وخلف زوجة وأماً وأخاً وجداً فللزوجة الربع وللأم الثلث والباقي بين الجد والأخ نصفان وتصح من أربعة وعشرين للزوجة ستة أسهم وللأم ثمانية والباقي بين الجد والأخ لكل واحد منهما خمسة وهي من مربعات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه روي عنه أنه جعل للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي والباقي بين الجد والأخ نصفان وتصح من أربعة للزوجة سهم وللأم سهم وللأخ سهم وللجد سهم وإن مات رجل وخلف امرأة وجداً واختاً فللمرأة الربع والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وتعرف بالمربعة لأن مذهب زيد ما ذكرناه ومذهب أبي بكر وابن عباس رضي الله عنهما للمرأة الربع والباقي للجد ومذهب علي وعبد الله رضي الله عنهما للمرأة الربع وللأخت النصف والباقي للجد واختلفوا فيها على ثلاثة مذاهب واتفقوا على القسمة من أربعة وإن مات رجل وخلف أماً وأختاً فللأم الثلث والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وتسمى الخرقاء لكثرة اختلاف الصحابة فيها فإن زيداً ذهب إلى ما قلناه وذهب أبو بكر وابن عباس رضي الله عنهما إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وذهب عمر إلى أن للأخت النصف وللأم ثلث الباقي وهو السدس والباقي للجد وذهب عثمان رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت نصفان وتصح من ثلاثة وذهب علي عليه السلام إلى أن للأخت النصف وللأم الثلث والباقي للجد وعن ابن مسعود روايتان إحداهما مثل قول عمر رضي الله عنه والثانية للأخت النصف والباقي بين الأم والجد نصفان وتصح من أربعة وتعرف بمثلثة عثمان ومربعة عبد الله رضي الله عن الجميع. فصل: ولا يفرض للأخت مع الجد إلا في مسألة واحدة وهي إذا ماتت امرأة

وخلفت زوجاً وأختاً وجداً فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس وأصلها من ستة وتعول إلى تسعة ويجمع نصف الأخت وسدس الجد ويقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وتصح من سبعة وعشرين للزوج تسعة وللأم ستة وللجد ثمانية وللأخت أربعة لأنه لا بد أن يعطي الزوج النصف لأنه ليس ههنا من يحجبه ولا بد من أن تعطي الأم الثلث لأنه ليس ههنا من يحجبها ولا بد من أن يعطي الجد السدس لأن أقل حقه السدس ولا يمكن إسقاط الأخت لأنه ليس ههنا من يسقطها ولا يمكن أن تعطي النصف كاملاً لأنه لا يمكن تفضيلها على الجد فوجب أن يقسم مالهما بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وتعرف هذه المسألة بالأكدرية لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً اسمه الأكدر فنسبت إليه وقيل سميت أكدرية لأنها كدرت على زيد أصله لأنه لا يعيل مسائل الجد وقد أعال ولا يفرض للأخت مع الجد وقد فرض فإن كان مكان الأخت في الأكدرية أخ لم يرث لأن للزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس ولا يجوز أن يشارك الجد في السدس لأن الجد يأخذ السدس بالفرض والأخ لا يرث بالفرض وإنما يرث بالتعصيب ولم يبق ما يرثه بالتعصيب فسقط وبالله التوفيق.

كتاب النكاح

كتاب النكاح مدخل ... كتاب النكاح النكاح جائز لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ولما روى علقمة عن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء1". فصل: ولا يصح النكاح إلا من جائز التصرف فأما الصبي والمجنون فلا يصح منهما عقد النكاح لأنه عقد معاوضة فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع وأما المحجور عليه لسفه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولي لأنه عقد يستحق به المال فلم يصح منه من غير إذن الولي ويصح منه بإذن الولي لأنه لا يأذن له إلا فيما يرى الحظ فيه وأما العبد فلا يصح نكاخه بغير إذن المولى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل2" ولأنه بالنكاح تنقص قيمته ويستحق بالمهر والنفقة كسبه وفي ذلك إضرار بالمولى فلم يجز من غير إذنه ويصح منه بإذن المولى لأنه لما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه بغير إذنه دل على أنه يصح بإذنه ولأن المنع لحق المولى فزال بإذنه. فصل: ومن جاز له النكاح وتاقت نفسه إليه وقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن يتزوج لحديث عبد الله ولأنه أحصن لفرجه وأسلم لديه ولا يجب ذلك لما روى إبراهيم بن ميسرة رضي الله عنه عن عبيد بن سعد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب فطرتي

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 2، 3. مسلم في كتاب النكاح حديث 1. النسائي في كتاب الصيام باب 46. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. 2 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 16.

فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح1" ولأنه ابتغاء لذة تصبر النفس عنها فلم يجب كلبس الناعم وأكل الطيب ومن لم تتق نفسه إليه فالمستحب له أن يتزوج لأنه تتوجه عليه حقوق هو غني عن التزامها ويحتاج أن يشتغل عن العبادة بسببها وإذا تركه تخلى للعبادة فكان تركه أسلم لدينه. فصل: والمستحب أن لايتزوج إلا ذات دين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك2" ولا يتزوج إلا ذات عقل لأن القصد بالنكاح العشرة وطيب العيش ولا يكون ذلك إلا مع ذات عقل ولا يتزوج إلا من يستحسنها لما روى أبو بكربن محمد بن عمرو بن حزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما النساء لعب فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها". فصل: وإذا أراد نكاح امرأة فله أن ينظر وجهها وكفيها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من نساء الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً" ولا ينظر إلى ماسوى الوجه والكفين لأنه عورة ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه لأنه يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى وجه الآخر عند المعاملة لأنه يحتاج إليه

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. 2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 15. أبو داود في النكاح باب 2. الترمذي في كتاب النكاح باب 4. النسائي في كتاب النكاح باب 10. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 6.

للمطالبة بحقوق العقد والرجوع بالعهدة ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها في التحمل والأداء ويجوز لمن اشترى جارية أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها للحاجة إلى معرفتها ويجوز للطبيب أن ينظر إلى الفرج للمداواة لأنه موضع ضرورة فجاز له النظر إلى الفرج كالنظر في حال الختان وأمامن غير حاجة فلا يجوز للأجنبي أن ينظر إلى الأجنبية ولا للأجنبية أن تنظر إلى الأجنبي لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] وروت أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فاقبل ابن أم مكتوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبن عنه" فقلت: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال: "أفعمياوان أنتما أليس تبصرانه1" وروى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فاستقبلته جارية من خثعم فلوى عنق الفضل فقال أبوه العباس لويت عنق ابن عمك قال: "رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما" ولا يجوز النظر إلى الأمرد من غير حاجة لأنه يخاف الافتتان به كما يخاف الافتتان بالمرأة. فصل: ويجوز لذوي المحارم النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة من ذوات المحارم لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] ويجوز للرجل أن ينظر إلى ذلك من الرجل وللمرأة أن تنظر إلى ذلك من المرأة لأنهم كذوي المحارم في تحريم النكاح على التأبيد فكذلك في جواز النظر واختلف أصحابنا فير مملوك المرأة فمنهم من قال هو محرم لها في جواز النظر والخلوة وهو المنصوص لقوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] فذكره مع ذوي المحارم في إباحة النظر وروى أنس رضي الله عنه

_ 1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 34. أبو داود في كتاب اللباس باب 29.أحمد في مسنده "6/296".

قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة غلاما فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الغلام فتقنعت بثوب إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك" ومنهم من قال ليس بمحرم لأن المحرم من يحرم على التأبيد وهذا لا يحرم على التأبيد فلم يكن محرماً واختلفوا في المراهق مع الأجنبية فمنهم من قال: هو كالبالغ في تحريم النظر لقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فدل على أنه لا يجوز لمن ظهر على عورات النساء ولأنه كالبالغ في الشهوة فكان كالبالغ في تحريم النظر ومن أصحابنا من قال: يجوز له النظر إلى ما ينظر ذو محرم وهو قول أبي عبد الله الزبيري لقوله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] فدل على أنه إذا لم يبلغوا الحلم لم يستأذنوا. فصل: ومن تزوج امرأة أو ملك جارية يملك وطأها فله أن ينظر منها إلى غير الفرج وهل يجوز أن ينظر إلى الفرج؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النظر إلى الفرج يورث الطمس" والثاني يجوز وهو الصحيح لأنه يملك الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ وإن زوج أمته حرم عليه النظر إلى ما بين السرة والركبة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة والركبة1".

_ 1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 34. كتاب الصلاة باب 26.

باب مايصح به النكاح

باب ما يصح به النكاح لا يصح النكاح إلا بولي فإن عقدت المرأة لم يصح وقال أبو ثور: إن عقدت بإذن الولي صح ووجهه أنها من أهل التصرف وإنما منعت من النكاح لحق الولي فإذا أذن زال المنع كالعبد إذا أذن له المولى في النكاح وهذا خطأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه رفعه: "ولا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها" ولأنها غير مأمونة على البضع لنقصان عقلها وسرعة انخداعها فلم يجز تفويضه إليها كالمبذر في المال ويخالف العبد فإنه منع لحق المولى فإنه ينقص قيمته بالنكاح ويستحق كسبه في المهر والنفقة فزال المنع بإذنه فإن عقد النكاح بغير ولي وحكم به الحاكم ففيه وجهان: أحدهما وهو قول

أبو سعيد الاصطخري أنه ينقض حكمه لأنه مخالف لنص الخبر وهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له1" فإن أصابها فلها مهرها بما استحل من فرجها والثاني لا ينقض وهو الصحيح لأنه مختلف فيه فلم ينقض فيه حكم الحاكم كالشفعة للجار وأما الخبر فليس بنص لأنه محتمل للتأويل فهو كالخبر في شفعة الجار فإن وطئها الزوج قبل الحكم بصحته لم يجب الحد وقال أبو بكر الصيرفي: إن كان الزوج شافعياً يعتقد تحريمه وجب عليه الحد كما لو وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية والمذهب الأول لأنه وطء مختلف في إباحته فلم يجب به الحد كالوطء في النكاح بغير شهود ويخالف من وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية لأنه لا شبهة له في وطئها وإن طلقها لم يقع الطلاق وقال أبو إسحاق يقع لأنه نكاح مختلف في صحته فوقع فيه الطلاق كنكاح المرأة في عدة أختها والمذهب الأول لأنه طلاق في غير ملكه فلم يصح كما لو طلق أجنبية. فصل: وإن كانت المنكوحة أمة فوليها مولاها لأنه عقد على منفعتها فكان إلى المولى كالإجارة وإن كانت الأمة لامرأة زوجها من يزوج مولاتها لأنه نكاح في حقها فكان إلى وليها كنكاحها ولا يزوجها الولي إلا بإذنها لأنه تصرف منفعتها فلم يجز من غير إذنها فإن كانت المولاة غير رشيدة نظرت فإن كان وليها غير الأب والجد لم يملك تزويجها لأنه لا يملك التصرف في مالها وإن كان الأب أو الجد ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن فيه تغريراً بمالها ولأنها ربما حبلت وتلفت والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يملك تزويجها لأنها تستفيد به المهر والنفقة واسترقاق ولدها وإن كانت المنكوحة حرة فوليها عصباتها وأولاهم الأب ثم الجد ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم لأن الولاية في النكاح تثبت لدفع العار عن النسب والنسب إلى العصبات فإن لم يكن لها عصبة زوجها المولى المعتق ثم عصبة المولى ثم مولى المولى ثم عصبته لأن الولاء كالنسب في التعصيب فكان كالنسب في التزويج فإن لم يكن فوليها السلطان لقوله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 رواه التنرمذي في كتاب النكاح باب 15. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 15. الدارمي في كتاب النكاح باب 11. أحمد في مسنده "6/47، 66".

"فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له1" ولا أحد من الأولياء وهناك من هو أقرب منه لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث وإن استوى اثنان في الدرجة وأحدهما يدلي بالأبوين والآخر بأحدهما كأخوين أحدهم من الأب والأم والآخر من الأب ففيه قولان: قال في القديم هما سواء لأن الولاية بقرابة الأب وهما في قرابة الأب سواء وقال في الجديد يقدم من يدلي في الأبوين لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بأحدهما كالميراث فإن استويا في الدرجة والإدلاء فالمستحب أن يقدم أسنهما وأعلمهما وأورعهما لأن الأسن أخبر والأعلم أعرف بشروط العقد والأورع أحرص على طلب الحظ فإن زوج الآخر صح لأن ولايته ثابتة وإن تشاحا أقرع بينهما لأنهما تساويا في الحق فقدم بالقرعة كما لو أراد أن يسافر بإحدى المرأتين فإن خرجت القرعة لأحدهما فزوج الآخر ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن خروج القرعة لأحدهما لا يبطل ولاية الآخر والثاني لا يصح لأنه يبطل فائدة القرعة. فصل: ولا يجوز للابن أن يزوج أمه بالبنوة لأن الولاية ثبتت للأولياء لدفع العار عن النسب ولا نسب بين الابن والأم وإن كان للابن تعصيب بأن كان ابن ابن عمها جاز له أن يزوجها لأنهما يشتركان في النسب فإن كان لها ابنا ابن عم أحدهما ابنها فعلى القولين في أخوين أحدهما من الأب والأم والآخر من الأب. فصل: ولا يجوز أن يكون الولي صغيراً ولا مجنوناً ولا عبداً لأنه لا يملك العقد لنفسه فلا يملكه لغيره واختلف أصحابنا في المحجور عليه لسفه فمنهم من قال يجوز أن يكون ولياً لأنه إنما حجر عليه في المال خوفاً من إضاعته وقد أمن ذلك في تزويج ابنته فجاز له أن يعقد كالمحجور عليه للفلس ومنهم من قال: لا يجوز لأنه ممنوع من عقد النكاح لنفسه فلم يجز أن يكون ولياً لغيره ولا يجوز أن يكون فاسقاً على المنصوص لأنها ولاية فلم تثبت مع الفسق كولاية المال ومن أصحابنا من قال: إن كان أباً أو جداً لم يجز وإن كان غيرهما من العصيات جاز لأنه يعقد بالإذن فجاز أن يكون فاسقاً كالوكيل ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما لا يجوز لما ذكرناه والثاني يجوز لأنه حق يستحق بالتعصيب فلم يمنع منه الفسق كالميراث والتقدم في الصلاة على الميت وهل يجوز أن يكون أعمى فيه وجهان: أحدهما يجوز لأن شعيباً عليه السلام كان أعمى

_ 1 المصدر السابق.

وزوج ابنته من موسى صلى الله عليه وسلم والثاني لا يجوز لأنه يحتاج إلى البصر في اختيار الزوج ولا يجوز للمسلم أن يزوج ابنته الكافرة ولا للكافر أن يزوج ابنته المسلمة لأن الموالاة بينهما منقطعة والدليل عليه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولهذا لا يتوارثان ويجوز للسلطان أن يزوج نساء أهل الذمة لأن ولايته تعم المسلمين وأهل الذمة ولا يجوز للكافر أن يزوج أمته المسلمة وهل يجوز للمسلم أن يزوج أمته الكافرة فيه وجهان: أحدهما يجوز وهو قول أبي إسحاق وأبي سعيد الاصطخري وهو المنصوص لأنها ولاية مستفادة بالملك فلم يمنع منها اختلاف الدين كالولاية في البيع والإجارة والثاني لا يجوز وهو قول أبي القاسم الداركي لأنه إذا لم يملك تزويج الكافرة بالنسب فلأن لا يملك بالملك أولى. فصل: وإن خرج الولي عن أن يكون من أهل الولاية بفسق أو جنون انتقلت الولاية إلى من بعده من الأولياء لأنه بطلت ولايته فانتقلت الولاية إلى ممن بعده كما لو مات فإن زال السبب الذي بطلت فيه الولاية عادت الولاية لزوال السبب الذي أبطل الولاية فإن زوجها من انتقلت إليه قبل أن يعلم بعود ولاية الأول ففيه وجهان بناء على القولين في الوكيل إذا باع ما وكل في بيعه قبل أن يعلم بالعزل وإن دعت المنكوحة إلى كفؤ فعضلها الولي زوجها السلطان لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" ولأنه حق توجه عليه تدخله النيابة فإذا امتنع قام السلطان مقامه كما لو كان عليه دين فامتنع عن أدائه وإن غاب الولي إلى مسافة تقصر فيها الصلاة زوجها السلطان ولم يكن لمن بعده من الأولياء أن يزوج لأن ولاية الغائب باقية ولهذا لو زوجها في مكانه صح العقد وإنما تعذر من جهته فقام السلطان مقامه كما لو حضر وامتنع من تزويجها فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز تزويجها إلا بإذنه لأنه كالحاضر والثاني يجوز للسلطان أن يزوجها لأنه تعذر استئذانه فأشبه إذا كان في سفر بعيد ويستحب للحاكم إذا غاب الولي وصار التزويج إليه أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها ويخرج من الخلاف فإن عند أبي حنيفة أن الذي يملك التزويج هو الذي تنتقل الولاية إليه. فصل: ويجوز للأب والجد تزويج البكر من غير رضاها صغيرة كانت أو كبيرة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر

يستأمرها أبوها في نفسها1 " فدل على أن الولي أحق بالبكر وإن كانت بالغة فالمستحب أن يستأذنها للخبر وإذنها صماتها لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها2" ولأنها تستحي أن تأذن لأبيها فجعل صماتها إذناً ولا يجوز لغير الأب والجد تزويجها إلا أن تبلغ وتأذن لما روى نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن ابنتي تكره ذلك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها وقال: "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإن سكتن فهو إذنهن" فتزوجت بعد عبد الله بن المغيرة بن شعبة ولأنه ناقص الشفقة ولهذا لا يملك التصرف في مالها بنفسه ولا يبيع مالها بنفسه فلا يملك التصرف في بضعها بنفسها فإن زوجها بعد البلوغ ففي إذنها وجهان: أحدهما أن إذنها بالنطق لأنه لما افتقر تزويجها إلى إذنها افتقر إلى نطقها بخلاف الأب والجد والثاني وهو المنصوص في الإملاء وهو الصحيح أن إذنها بالسكوت لحديث نافع وأما الثيب فإنها إن ذهبت بكارتها بالوطء فإن كانت بالغة عاقلة لم يجز لأحد تزويجها إلا بإذنها لما روت خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها وإذنها بالنطق لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" فدل على أن إذن الثيب بالنطق وإن كانت صغيرة لم يجز تزويجها حتى تبلغ وتأذن لأن إذنها معتبر في حال الكبر فلا يجوز الإفتيات عليها في حال الصغر وإن كانت مجنونة جاز للأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة لأنه لا يرجى لها حال تستأذن فيها ولا

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 3. أبو داود في كتاب النكاح باب 23 - 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 11. 2 رواه البخاري في كتاب الحيل باب 11. مسلم في كتاب النكاح حديث 66.، 68. أبو داود في كتاب النكاح باب 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. النسائي في كتاب النكاح باب 31.

يجوز لسائر العصبات تزويجها لأن تزويجها إجبار وليس لسائر العصبات غير الأب والجد ولاية الإجبار فأما الحاكم فإنها إن كانت صغيرة لم يملك تزويجها لأنه لا حاجة بها إلى النكاح وإن كانت كبيرة جاز له تزويجها إن رأى ذلك لأنه قد يكون في تزويجها شفاء لها وإن ذهبت بكرتها بغير الوطء ففيه وجهان: أحدهما أنها كالموطوءة لعموم الخبر والثاني وهو المذهب أنها تزوج تزويج الأبكار لأن الثيب إنما اعتبر إذنها لذهاب الحياء بالوطء والحياء لا يذهب بغير الوطء. فصل: وإن كانت المنكوحة أمة فللمولى أن يزوجها بكراً كانت أم ثيباً صغيرة كانت أو كبيرة عاقلة كانت أو مجنونة لأنه عقد يملكه عليها بحكم الملك فكان إلى المولى كالإجارة وإن دعت الأمة المولى إلى النكاح فإن كان يملك وطأها لم يلزمه تزويجها لأنه يبطل عليه حقه من الاستمتاع وإن لم يملك وطأها ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه تزويجها لأنه تنقص قيمتها بالنكاح والثاني يلزمه لأنه لا حق له في وطئها وإن كانت مكاتبة لم يملك السيد تزويجها بغير إذنها لأنه لا حق له في منفعتها فإن دعت السيد إلى تزويجها ففيه وجهان: أحدهما يجبر لأنها تستعين بالمهر والنفقة على الكتابة والثاني لا يجبر لأنها ربما عادت إليه وهي ناقصة بالنكاح. فصل: وإن كان ولي المرأة ممن يجوز له أن يتزوجها كابن عم والمولى المعتق لم يجز أن يزوجها من نفسه فيكون موجباً قابلاً لأنه يملك الإيجاب بالإذن فلم يجز أن يملك شطري العقد كالوكيل في البيع فإن أراد أن يتزوجها فإن كان هناك من يشاركه في الولاية زوجها منه وإن لم يكن هناك من يشاركه في الولاية زوجها الحاكم منه وإن أراد الإمام أن يتزوج امرأة لا ولي لها غيره ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يزوجها من نفسه لأنه إذا فوض إلى غيره كان غيره وكيلاً والوكيل قائم مقامه فكان إيجابه كإيجابه والثاني يرفعه إلى حاكم ليزوجه منها لأن الحاكم يزوج بولاية الحكم فيصير كما لو زوجها منه ولي ويخالف الوكيل لأنه يزوجها بوكالته ولهذا يملك عزله إذا شاء ولا يملك عزل الحاكم من غير سبب وإذا مات انعزل الوكيل ولا ينعزل الحاكم وإن كان لرجل ابن ابن وبنت ابن وهما صغيران فزوج بنت الابن بابن الابن ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو قول أبي العباس ابن القاص لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدان" والثاني وهو قول أبي بكر ابن الحداد المصري أنه يجوز كما يجوز أن يلي شطري العقد في بيع ماله من ابنه فعلى هذا يحتاج أن يقول: زوجت بنت ابني بابن ابني وهل يحتاج إلى القبول فيه وجهان: أحدهما يحتاج

إلى القبول وهو أن يقول بعد الإيجاب وقبلت نكاحها له وهو قول أبي بكر بن الحداد لأنه يتولى ذلك بولايتين فقام فيه مقام الاثنين والثاني لا يحتاج إلى لفظ القبول وهو قول أبي بكر القفال لأنه قام مقام اثنين فقام لفظه مقام لفظين. فصل: وإن وكل الولي رجلاً في التزويج فهل يلزمه أن يعين الزوج فيه قولان: أحدهما لا يلزمه لأنه من ملك التوكيل في عقد لم يلزمه تعيين من يعقد معه كالموكل في البيع والثاني يلزمه لأن الولي إنما جعل إليه اختيار الزوج لكمال شفقته ولا يوجد كمال الشفقة في الوكيل فلم يجعل اختيار الزوج إليه. فصل: ولا يجوز للولي أن يزوج المنكوحة من غير كفء إلا برضاها ورضى سائر الأولياء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم1" ولأن في ذلك إلحاق عار بها وبسائر الأولياء فلم يجز من غير رضاهم. فصل: وإن دعت المنكوحة إلى غير كفء لم يلزم الولي تزويجها لأنه يلحقه العار فإن رضيا جميعاً جاز تزويجها لما روت فاطمة بنت قيس قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أبا الجهم يخطبني ومعاوية فقال: "أما أبو الجهم فأخاف عليك عصاه وأما معاوية فشاب من شباب قريش لا شيء له ولكني أدلك على من هو خير لك منهما" قلت: من يا رسول الله؟ قال: "أسامة" قلت: أسامة؟ قال: "نعم أسامة فتزوجي أبا زيد فبورك لأبي زيد في وبورك لي في أبي زيد" وقال عبد الرحمن بن مهدي: أسامة من الموالي وفاطمة قرشية ولأن المنع من نكاح غير الكفء لحقهما فإن رضيا زال المنع فإن زوجت المرأة من غير كفء من غير رضاها أو من غير رضا سائر الأولياء فقد قال في الأم: النكاح باطل وقال في الإملاء: كان للباقين الرد وهذا يدل على أنه صحيح فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما أنه باطل لأنه عقد في حق غيره من غير إذن فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه والثاني أنه صحيح ويثبت فيه الخيار لأن النقص يوجب الخيار دون البطلان كما لو اشترى شيئاً معيباً ومنهم من قال العقد باق قولاً واحداً لما ذكرناه وتأول قوله في الإملاء على أنه أراد بالرد المنع من العقد ومنهم من قال: إنه عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء بطل العقد كما لو اشترى الوكيل سلعة وهو يعلم بعيبها وإن لم يعلم صح العقد

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 46.

وثبت الخيار كما لو اشترى الوكيل سلعة ولم يعلم بعيبها وحمل القولين على هذين الحالين. فصل: والكفاءة في الدين والنسب والحرية والصنعة فأما الدين فهو معتبر فالفاسق ليس بكفء للعفيف لما روى أبو حاتم المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض1" وأما النسب فهو معتبر فالأعجمي ليس بكفء للعربية لما روي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: لا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم وغير القرشي ليس بكفء للقرشية لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" وهل تكون قريش كلها أكفاء ففيه وجهان: أحدهما أن للجميع أكفاءكما أن الجميع في الخلافة أكفاء والثاني أنهم يتفاضلون فعلى هذا غير الهاشمي والمطلبي ليس بكفء للهاشمية والمطلبية لما روى واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى كنانة من بني اسماعيل واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم2" وأما بنو هاشم وبنو المطلب فهم أكفاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهم في الخمس وقال: "إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد" وأما الحرية فهي معتبرة فالعبد ليس بكفء للحرة لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ} ولأن الحرة يلحقها العار بكونها تحت عبد وأما الصنعة فهي معتبرة فالحائك ليس بكفء للبزاز والحجام ليس بكفء للخراز لأن الحياكة والحجامة

_ 1 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 3. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 46. 2 رواه مسلم في كتاب الفضائل حديث 1. الترمذي. في كتاب المناقب باب 1. أحمد في مسنده "4/107".

يسترذل أصحابها، واختلف أصحابنا في اليسار فمنهم من قال: يعتبر فالفقير ليس بكفء للموسر لما روى سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسب المال والكرم التقوى1" ولأن نفقة الفقير دون نفقة الموسر ومنهم من قال: لا يعتبر لأن المال يروح ويغدو لا يفتخر به ذوو المروءات ولهذا قال الشاعر: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغياً على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر فصل: وإن كان للمرأة وليان وأذنت لكل واحد منهما في تزويجها فزوجها كل واحد منهما من رجل نظرت فإن كان العقدان في وقت واحد أو لم يعلم متى عقدا أو علم أن أحدهما قبل الآخر ولكن لم يعلم عين السابق منهما بطل العقدان لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر وإن علم السابق ثم نسي وقف الأمر لأنه قد يتذكر وإن علم السابق وتعين فالنكاح هو الأول والثاني باطل لما روى سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما2" فإن ادعى كل واحد من الزوجين أنه هو الأول وادعيا علم المرأة به فإن أنكرت العلم فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل عدم العلم وإن أقرت لأحدهما سلمت إليه وهل تحلف للآخر فيه قولان: أحدهما لا تحلف لأن اليمين تعرض على المنكر حتى يقر ولو أقرت للثاني بعدما أقرت للأول لم يقبل فلم يكن في تحليفها له فائدة والثاني تحلف لأنه ربما نكلت وأقرت للثاني فيلزمها المهر فعلى هذا إن حلفت سقط دعوى الثاني وإن أقرت للثاني لم يقبل رجوعها ويجب عليها المهر للثاني وإن نكلت رددنا اليمين على الثاني فإن لم يحلف استقر النكاح للأول وإن حلف حصل مع الأول إقرار ومع الثاني يمين ونكول المدعى

_ 1 رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 49 باب 6. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 14. أحمد في مسنده "15/10". 2 رواه أبود داود في كتاب النكاح باب 21. الترمذي في كتاب النكاح باب 19. النسائي في كتاب البيوع باب 96. الدارمي في كتاب النكاح باب 15.

عليه فإن قلنا إنه كالبينة حكم بالنكاح للثاني لأن البينة تقدم على الإقرار وإن قلنا إنه بمنزلة الإقرار وهو الصحيح ففيه وجهان: أحدهما يحكم ببطلان النكاحين لأن مع الأول إقراراً ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار فصار كما لو أقرت لهما في وقت واحد والثاني أن النكاح للأول لأنه سبق الإقرار له فلم يبطل بإقرار بعده ويجب عليها المهر الثاني كما لو أقرت للأول ثم أقرت للثاني. فصل: ويجوز لولي الصبي أن يزوجه إذا رأى ذلك لما روي أن عمر رضي الله عنه زوج ابناً له صغيراً ولأنه يحتاج إليه إذا بلغ فإن زوجه ألف حفظ الفرج وهل له أن يزوجه بأكثر من امرأة ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن حفظ الفرج يحصل بامرأة والثاني يجوز أن يزوجه بأربع لأنه قد يكون له فيه حفظ وأما المجنون فإنه إن كان له حال إفاقة لم يجز تزويجه بغير إذنه لأنه يمكن استئذانه فلا يجوز الافتيات عليه وإن لم يكن له حال إفاقة ورأى الولي تزويجه للعفة أو الخدمة زوجه لأن له فيه مصلحة وأما المحجور عليه للسفه فإنه رأى الولي تزويجه زوجه لأن ذلك من مصلحته فإن كان كثير الطلاق سراه بجارية لأنه لا يقدر على إعتاقها وإن طلب التزويج وهو محتاج إليه فامتنع الولي فتزوج بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يصح لأنه تزوج بغير إذنه فلم يصح منه كما لو تزوج قبل الطلب والثاني يصح لأنه حق وجب له يجوز أن يستوفيه بإذن من هو عليه فإذا امتنع جاز له أن يستوفيه بنفسه كما لو كان له على رجل دين وامتنع من أدائه وأما العبد فإنه إن كان بالغاً فهل يجوز لمولاه أن يزوجه بغير رضاه فيه قولان: أحدهما له ذلك لأنه مملوك يملك بيعه وإجارته فملك تزويجه من غير رضاه كالأمة والثاني ليس له ذلك لأن النكاح يقصد به الاستمتاع فلم يملك إجباره عليه كالقسم وإن كان صغيراً ففيه طريقان: أحدهما أنه على القولين لأنه تصرف بحق الملك فاستوى فيه الصغير والكبير كالبيع والإجارة والثاني أنه يملك تزويجه قولاً واحداً لأنه ليس من أهل التصرف فجاز تزويجه كالابن الصغير وإن دعا العبد البالغ مولاه إلى النكاح ففيه قولان: أحدهما يلزمه تزويجه لأنه مكلف مولى عليه فإذا طلب التزويج وجب تزويجه كالسفيه والثاني لا يلزمه لأنه يملك بيعه وإجارته فلم يلزمه تزويجه كالأمة وأما المكاتب فلا يملك المولى إجباره على النكاح لأنه سقط حقه من رقبته ومنفعته فإن دعا يجب عليه تزويج العبد ففي المكاتب وجهان: أحدهما لا يجب لأنه مملوك فلم يلزمه تزويجه كالعبد والثاني يجب لأنه لا حق له في كسبه بخلاف العبد فإن كسبه للمولى فإذا زوجه بطل عليه كسبه للمهر والنفقة.

فصل: ولا يصح النكاح إلا بشاهدين وقال أبو ثور: يصح من غير شهادة لأنه عقد فصح من غير شهادة كالبيع وهذا خطأ لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدان" ويخالف البيع فإن القصد منه المال والقصد من النكاح الاستمتاع وطلب الولد ومبناهما على الاحتياط ولا يصح إلا بشاهدين ذكرين فإن عقد برجل وامرأتين لم يصح لحديث عائشة رضي الله عنها ولا يصح إلا بعدلين لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل1" فإن عقد بمجهولي الحال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه لا يصح لأنه ما افتقر ثبوته إلى الشهادة لم يثبت بمجهولين كالإثبات عند الحاكم والثاني يصح وهو المذهب لأنا لو اعتبرنا العدالة الباطنة لم تصح أنكحة العامة إلا بحضرة الحاكم لأنهم لا يعرفون شروط العدالة وفي ذلك مشتقة فاكتفى بالعدالة الظاهرة كما اكتفى في الحوادث في حقهم بالتقليد حين شق عليهم إدراكها بالدليل فإن عقد بمجهولين ثم بان أنهما كانا فاسقين لم يصح لأن حكمنا بصحته في الظاهر إذا بان خلافه حكم بإبطاله كما لو حكم الحاكم باجتهاده ثم وجد النص بخلافه ومن أصحابنا من قال فيه قولان بناء على القولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بان أنهما كانا فاسقين وإن عقد بشهادة أعميين ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح لأن الأعمى يجوز أن يكون شاهداً والثاني لا يصح لأنه لا يعرف العاقد فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ العاقد ويصح بشهادة ابني أحد الزوجين لأنه يجوز أن يثبت النكاح بشهادتهما وهو إذا جحد الزوج الآخر وهل يصح بشهادة ابنيهما أو بشهادة ابن الزوج وابن الزوجة فيه وجهان: أحدهما يصح لأنهما من أهل الشهادة والثاني لا يصح لأنه لا يثبت هذا النكاح بشهادتهما بحال. فصل: وإذا اختلف الزوجان فقالت الزوجة عقدنا بشاهدين فاسقين وقال الزوج عقدنا بعدلين ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الزوج لأن الأصل بقاء العدالة والثاني أن القول قول الزوجة لأن الأصل عدم النكاح وإن تصادقا على أنهما تزاوجا بولي وشاهدين وأنكر الولي والشاهدان لم يلتفت إلا إنكارهم لأن الحق لهما دون الولي والشاهدين. فصل: ولا يصح إلا على زوجين معينين لأن المقصود بالنكاح أعيانهما فوجب

_ 1 رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 11.

تعيينهما فإن كانت المنكوحة حاضرة فقال زوجتك هذه صح وإن قال زوجتك هذه فاطمة واسمها عائشة صح لأن مع التعيين بالإشارة لا حكم للاسم فلم يؤثر الغلط فيه وإن كانت المنكوحة غائبة فقال زوجتك ابنتي وليس له غيرها صح وإن قال زوجتك ابنتي فاطمة وهي عائشة صح لأنه لا حكم للاسم مع التعيين بالنسب فلم يؤثر الخطأ فيه وإن كان له اثنتان فقال زوجتك ابنتي لم يصح حتى يعينها بالاسم أو بالصفة وإن قال زوجتك عائشة وقبل الزوج ونويا ابنته أو قال زوجتك ابنتي وقبل الزوج ونويا الكبيرة صح لأنها تعينت بالنية وإن قال زوجتك ابنتي ونوى الكبيرة وقبل الزوج ونوى الصغيرة لم يصح لأن الإيجاب في امرأة والقبول في أخرى وإن قال زوجتك ابنتي عائشة ونوى الصغيرة وقبل الزوج ونوى الكبيرة صح النكاح في عائشة في الظاهر ولم يصح في الباطن لأن الزوج قبل في غير ما أوجب الولي. فصل: ويستحب أن يخطب قبل العقد لما روي عن عبد الله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله قال عبد الله ثم تصل خطبتك بثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] فإن عقد من غير خطبة جاز لما روى سهل ابن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي خطب الواهبة: "زوجتكها بما معك من القرآن" ولم يذكر الخطبة ويستحب أن يدعو لهما بعد العقد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير". فصل: ولا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح لأن ما سواهما من الألفاظ كالتمليك والهبة لا يأتي على معنى النكاح ولأن الشهادة شرط في النكاح فإذا عقد بلفظ الهبة لم تقع الشهادة على النكاح واختلف أصحابنا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة فمنهم من قال: لا يصح لأن كل لفظ لا ينعقد به نكاح غيره لم ينعقد به نكاحه كلفظ الإحلال ومنهم من قال: يصح لأنه لما خص بهبة البضع من غير بدل خص بلفظها وإن قال زوجني فقال زوجتك صح لأن الذي خطب الواهبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: زوجنيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" وإن قال زوجتك فقال قبلت ففيه قولان: أحدهما يصح لأن القبول يرجع إلى ما أوجبه الولي كما يرجع في البيع إلى ما أوجبه

البائع والثاني لا يصح لأن قوله قبلت ليس بصريح في النكاح فلم يصح به كما لو قال زوجتك فقال: نعم وإن عقد بالعجمية ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يصح لقوله صلى الله عليه وسلم: "استحللتم فروجهن بكلمة الله1" وكلمة الله بالعربية فلا تقوم العجمية مقامها كالقرآن والثاني وهو قول أبي سعيد الاصطخري إنه إن كان يحسن بالعربية لم يصح وإن لم يحسن صح لأن ما اختص بلفظ غير معجز جاز بالعجمية عند العجز عن العربية ولم يجز عند القدرة كتكبير الصلاة والثالث وهو الصحيح أنه يصح سواء أحسن بالعربية أو لم يحسن لأن لفظ النكاح بالعجمية يأتي على ما يأتي عليه لفظه بالعربية فقام مقامه ويخالف القرآن فإن القصد منه النظم المعجز وذلك لا يوجد في غيره والقصد بالتكبيرة العبادة ففرق فيه بين العجز والقدرة كأفعال الصلاة والقصد بالنكاح تمليك ما يقصد بالنكاح والعجمية كالعربية في ذلك فإن فصل بين القبول والإيجاب بخطبة بأن قال الولي زوجتك وقال الزوج بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت نكاحها ففيه وجهان: أحدهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه يصح لأن الخلية مأمور بها للعقد فلم تمنع صحته كالتيمم بين صلاتي الجمع والثاني لا يصح لأنه فصل بين الإيجاب والقبول فلم يصح كما لو فصل بينهما بغير الخطبة ويخالف التيمم فإنه مأمور به بين الصلاتين والخطبة مأمور بها قبل العقد. فصل: وإذا انعقد العقد لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط لأن العادة في النكاح أنه يسأل عما يحتاج إليه قبل العقد فلا حاجة فيه إلى الخيار بعده والله أعلم.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. ابن ماجة في كتاب المتاسك باب 84. أحمد في مسنده "5/73".

باب مايحرم من النكاح ومالا يحرم

باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم من ارتد عن الدين لم يصح نكاحه لأن النكاح يراد للاستمتاع ولا يوجد ذلك في نكاح المرتد ولا يصح نكاح الخنثى المشكل لأنه إذا تزوج امرأة لم يؤمن أن يكون امرأة وإن تزوج رجلاً ولا يصح نكاح المحرم لما بيناه في الحج. فصل: ويحرم على الرجل من جهة النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت لقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ

وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] ومن حرم عليه مما ذكرناه بنسب حرم عليه بذلك النسب كل من يدلي به وإن بعد فتحرم عليه الأم وكل من يدلي بالأمومة من الجدات من الأب والأم وإن علون وتحرم عليه البنت وكل من ينتسب إليه بالبنوة من بنات الأولاد وأولاد الأولاد وإن سفلن وتحرم عليه الأخت من الأب والأخت من الأم والأخت من الأب والأم وتحرم عليه العمة وكل من يدلي إليه بالعمومة من أخوات الآباء والأجداد من الأب والأم أو من الأب أو من الأم وإن علون وتحرم عليه بنت الأخ وكل من ينتسب إليه ببنوة الأخ من بنات أولاده وأولاد أولاده وإن سفلن وتحرم عليه بنت الأخت وكل من ينتسب إليه ببنوة الأخت من أولادها وأولاد أولادها وإن سفلن لأن الاسم يطلق على ما قرب وبعد والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 19] وغيرها وقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وقوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] فأطلق عليهم اسم الآباء مع البعد وقال صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه يرمون: "إرموا فإن أباكم إسماعيل عليه السلام كان رامياً" فسمى إسماعيل أباهم مع البعد ولأن من بعد منهم كمن قرب في الحكم والدليل عليه أن ابن الابن كالابن والجد كالأب في الميراث والولاية والعتق بالملك ورد الشهادة فلأن يكون كالابن والأب في التحريم ومبناه على التغليب أولى. فصل: وتحرم عليه من جهة المصاهرة أم المرأة دخل بها أم لم يدخل لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ويحرم عليه كل من يدلي إلى امرأته بالأمومة من الجدات من الأب والأم لما بيناه في الفصل قبله ويحرم عليه ابنة المرأة بنفس العقد تحريم جمع لأنه إذا حرم عليه الجمع لأنه إذا حرم عليه الجمع بين المرأة وأختها فلأن يحرم عليه الجمع بين المرأة وابنتها أولى فإن بانت الأم قبل الدخول حلت له البنت وإن دخل بالأم حرمت عليه البنت على التأبيد لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وتحرم عليه كل من ينتسب إلى امرأته بالبنوة من بنات أولادها وأولاد أولادها وإن سفلن من وجد منهن ومن لم يوجد كما تحرم البنت وتحرم عليه حليلة الابن لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وتحرم عليه حليلة كل من ينتسب إليه بالنبوة من بني الأولاد وأولاد الأولاد لما بيناه وتحرم عليه حليلة الأب لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وتحرم عليه حليلة كل من يدلي إليه بالأبوة من الأجداد لما ذكرناه. فصل: ومن حرم عليه بنكاحه أو بنكاح أبيه أو ابنه حرم عليه بوطئه أو وطء أبيه أو ابنه في ملك أو شبهة لأن الوطء معنى تصير به المرأة فراشاً فتعلق به تحريم المصاهرة

كالنكاح ولأن الوطء في إيجاب التحريم آكد من العقد بدليل أن الربيبة تحرم بالعقد تحريم جمع وتحرم بالوطء على التأبيد فإذا ثبت تحريم المصاهرة بالعقد فلأن يثبت بالوطء أولى واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة فقال في أحد القولين هو كالوطء في التحريم لأنها مباشرة لا تستباح إلا بملك فتعلق بها تحريم المصاهرة كالوطء والثاني لا يحرم بها ما يحرم بالوطء لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] ولأنه مباشرة لا توجب العدة فلا يتعلق بها التحريم كالمباشرة بغير شهوة وإن تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو وطئها أبوه أو ابنه بشبهة انفسخ النكاح لأنه معنى يوجب تحريماً مؤبداً فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع. فصل: وإن زنى بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة فأرد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: " لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح1" ولا تحرم بالزنا أمها أو ابنتها ولا تحرم هي على ابنه ولا على أبيه للآية والخبر ولأنه معنى تصير به المرأة فراشاً فلم يتعلق به تحريم المصاهرة كالمباشرة بغير شهوة وإن لاط بغلام لم تحرم عليه أمه وابنته للآية والخبر وإن زنى بامرأة فأتت منه ببينة فقد قال الشافعي رحمه الله: أكره أن يتزوجها فإن تزوجها لم أفسخ فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفاً من أن تكون منه فعلى هذا إن علم قطعاً أنها منه بأن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه لم تحل له ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف لأن أبا حنيفة يحرمها فعلى هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم وهو الصحيح لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب فلم يتعلق بها التحريم كالولادة لما دون ستة أشهر من وقت الزنا واختلف أصحابنا في المنفي باللعان فمنهم من قال: يجوز للملاعن نكاحها لأنها منفية عنه فهي كالبنت من الزنا ومنهم من قال: لا يجوز للملا عن نكاحها لأنه غير منفية عنه قطعاً ولهذا لو أقر بها ثبت النسب. فصل: ويحرم عليه أن يجمع بين أختين في النكاح لقوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ولأن الجمع بينهما يؤدي إلى العداوة وقطع الرحم ويحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها2" ولأنهما امرأتان لو كانت

_ 1 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 63. 2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 27. مسلم في كتاب النكاح حديث 37 - 39. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب النكاح باب 30. أحمد في مسنده "1/78" "2/179".

إحداهما ذكراً لم يحل له نكاح الأخرى فلم يجز الجمع بينهما في النكاح كالأختين فإن جمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها في عقد واحد بطل نكاحهما لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى فبطل نكاحهما وإن تزوج إحداهما بعد الأخرى بطل نكاح الثانية لأنها اختصت بالتحريم وإن تزوج إحداهما ثم طلقها فإن كان طلاقاً بائناً حلت له الأخرى لأنه لم يجمع بينهما في الفراش وإن كان رجعياً لم تحل لأنها باقية على الفراش وإن قال أخبرتني بانقضاء العدة وأنكرت المرأة لم يقبل قوله في إسقاط النفقة والسكنى لأنه حق لها ويقبل قوله في جواز نكاح أختها لأن الحق لله تعالى وهو مقلد فيما بينه وبينه فإن نكح وثني وثنية ودخل بها ثم أسلم وتزوج بأختها في عدتها لم يصح قال المزني: النكاح موقوف على إسلامها فإن لم تسلم حتى انقضت العدة صح كما يقف نكاحها على إسلامها وهذا خطأ لأنها جارية إلى بينونة فلم يصح نكاح أختها كالرجعية ويخالف هذا نكاحها فإن الموقوف هناك الحل والنكاح يجوز أن يقف حله ولا يقف عقده ولهذا يقف حل نكاح المرتدة على انقضاء العدة ولا يقف نكاحها على الإسلام ويقف حل نكاح الرجعية على العدة ولا يقف نكاح أختها على العدة. فصل: ومن حرم عليه نكاح امرأة بالنسب له أو بالمصاهرة أو بالجمع حرم عليه وطؤها بملك اليمين لأنه إذا حرم النكاح فلأن يحرم الوطء وهو المقصود أولى وإن ملك أختين فوطئ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى تحرم الموطوءة ببيع أو عتق أو كتابة أو نكاح فإن خالف ووطئها لم يعد إلى وطئها حتى تحرم الأولى والمستحب أن لا يطأ الأولى حتى يستبرئ الثانية حتى لا يكون جامعاً للماء في رحم أختين وإن تزوج امرأة ثم ملك أختها لم تحل له المملوكة لأن أختها على فراشه وإن وطئ مملوكة ثم تزوج أختها حرمت المملوكة وحلت المنكوحة لأن فراش المنكوحة أقوى لأنه يملك به حقوق لا تملك بفراش المملوكة من الطلاق والظهار والإيلاء واللعان فثبت الأقوى وسقط الأضعف كملك اليمين لما ملك به لا يملك بالنكاح من الرقبة والمنفعة إذا طرأ على النكاح ثبت وسقط النكاح. فصل: وما حرم من النكاح والوطء بالقرابة حرم بالرضاع لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فنص على الأم والأخت وقسنا

عليهما من سواهما وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة1". فصل: ومن حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد برضاع أو نكاح أو وطء مباح صار لها محرماً في جواز النظر والخلوة لأنها محرمة عليه على التأبيد بسبب غير محرم فصار محرماً لها كالأم والبنت ومن حرمت عليه بوطء شبهة لم يصر محرماً لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح ولم تلحق بذوات المحارم والأنساب. فصل: ويحرم على المسلم أن يتزوج ممن لا كتاب له من الكفار كعبدة الأوثان ومن ارتد عن الإسلام لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 211] ويحرم عليه أن يطأ إماءهم بملك اليمين لأن كل صنف حرم وطء حرائرهم بعقد النكاح حرم وطء إمائهم بملك اليمين كالأخوات والعمات ويحل له نكاح حرائر أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم قبل التبديل لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ولأن الصحابة رضي الله عنهم تزوجوا من أهل الذمة فتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية وأسلمت عنده وتزوج حذيفة رضي الله عنه بيهودية من أهل المدائن وسئل جابر رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص ويحل له وطء إمائهم بملك اليمين لأن كل جنس حل نكاح حرائرهم حل وطء إمائهم كالمسلمين ويكره أن يتزوج حرائرهم وأن يطأ إماءهم بملك اليمين لأنا لا نأمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدين أو أن يتولى أهل دينها فإن كانت حربية فالكراهية أشد لأنه لا يؤمن ما ذكرناه ولأنه يكثر سواد أهل الحرب ولأنه لا يؤمن أن يسبي ولده منها فيسترق. فصل: وأما غير اليهود والنصارى من أهل الكتاب كمن يؤمن بزبور داود عليه السلام وصحف شيث فلا يحل للمسلم أن ينكح حرائرهم ولا أن يطأ إماءهم بملك اليمين لأنه قيل إن ما معهم ليس من كلام الله عز وجل وإنما هو شيء نزل به جبريل عليه السلام كالأحكام التي نزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن وقيل إن الذي معهم ليس بأحكام وإنما هي مواعظ والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 20، 27. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 9. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 34. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 16.

مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ومن دخل في دين اليهود والنصارى بعد التبديل لا يجوز للمسلم أن ينكح حرائرهم ولا أن يطأ إماءهم بملك اليمين لأنهم دخلوا في دين باطل فهم كمن ارتد من المسلمين ومن دخل فيهم ولا يعلم أنهم دخلوا قبل التبديل أو بعده كنصارى العرب وهم تنوخ وبنو تغلب وبهراء لم يحل نكاح حرائرهم ولا وطء إمائهم بملك اليمين لأن الأصل في الفروج الحظر فلا تستباح مع الشك. فصل: واختلف أصحابنا في السامرة والصابئين فقال أبو إسحاق: السامرة من اليهود والصابئين من النصارى واستفتى القاهر أبا سعيد الاصطخري في الصابئين فأفتى بقتلهم لأنهم يعتقدون أن الكواكب السبعة مدبرة والمذهب أنهم وافقوا اليهود والنصارى في أصول الدين من تصديق الرسل والإيمان بالكتب كانوا منهم وإن خالفوهم في أصول الدين لم يكونوا منهم وكان حكمهم حكم عبدة الأوثان واختلفوا في المجوس فقال أبو ثور: يحل نكاحهم لأنهم يقرون على دينهم بالجزية كاليهود والنصارى وقال أبو إسحاق: إن قلنا أنهم كان لهم كتاب حل نكاح حرائرهم ووطء إمائهم والمذهب أنه لا يحل لأنهم غير متمسكين بكتاب فهم كعبدة الأوثان وأما حقن الدم فلأن لهم شبهة كتاب والشبهة في الدم تقتضي الحقن وفي البضع تقتضي الحظر وأما ما قال أبو إسحاق فلا يصح لأنه لو جاز نكاحهم على هذا القول لجاز قتلهم على القول الآخر. فصل: ويحرم عليه نكاح من ولد بين وثني وكتابية لأن الولد من قبيلة الأب ولهذا ينسب إليه ويشرف بشرفه فكان حكمه في النكاح حكمه ومن ولد بين كتابي ووثنية ففيه قولان: أحدهما أنها لا تحرم عليه لأنها من قبيلة الأب والأب من أهل الكتاب والثاني أنها تحرم لأنه لم تتمحض كتابية فأشبهت المجوسية. فصل: ولا يحل له نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]

ولأنها إن كانت لكافر استرق ولده منها وإن كانت لمسلم لم يؤمن أن يبيعها من كافر فيسترق ولده منها وأما الأمة المسلمة فإنه إن كان الزوج حراً نظرت فإن لم يخش العنت وهو الزنا لم يحل نكاحها لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله عز وجل: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} [النساء: 25] فدل على أنها لا تحل لمن لم يخش العنت وإن خشي العنت ولم تكن عنده حرة ولا يجد طولاً وهو ما يتزوج به حرة ولا ما يشتري به أمة جاز له نكاحها للآية وإن وجد ما يتزوج به حرة مسلمة لم يحل له نكاح الأمة لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فدل على أنه إذا استطاع ما ينكح به محصنة مؤمنة أنه لاينكح الأمة وإن وجد ما يتزوج به حرة كتابية أو يشتري به أمة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذا غير مستطيع أن ينكح المحصنات المؤمنات والثاني لا يجوز لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} وهذا لا يخشى العنت وإن كانت عنده حرة لا يقدر على وطئها لصغر أو لرتق أو لضنى من مرض ففيه وجهان: أحدهما يحل له نكاح الأمة لأنه يخشى العنت والثاني لا يحل له لأن تحته حرة فلا يحل هل نكاح الأمة والصحيح هو الأول فإن لم تكن عنده حرة ولم يقدر على طول حرة وخشي العنت فتزوج أمة ثم تزوج حرة أو وجد طول حرة أو أمن العنت لم يبطل نكاح الأمة وقال المزني: إذا وجد صداق حرة بطل نكاح الأمة لأن شرط الإباحة قد زال وهذا خطأ لأن زوال شرط الإباحة قد زال وهذا خطأ لأن زوال الشرط لا حكم له كما لو أمن العنت بعد العقد وإن كان الزوج عبداً حل له نكاح الأمة وإن وجد صداق حرة ولم يخف العنت لأنها مساوية له فلم يقف نكاحها على خوف العنت وعدم صداق الحرة كالحرة في حق الحر. فصل: ويحرم على العبد نكاح مولاته لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض فإن

المرأة بحكم الملك تطالبه بالسفر إلى المشرق والعبد بحكم النكاح يطالبها بالسفر إلى المغرب والمرأة بحكم النكاح تطالبه بالنفقة والعبد بحكم الملك يطالبها بالنفقة وإن تزوج العبد حرة ثم اشترته انفسخ النكاح لأن ملك اليمين أقوى لأنه يملك به الرقبة والمنفعة فأسقط النكاح ويحرم على المولى أن يتزوج أمته لأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنع منها ملك اليمين فبطل وإن تزوج جارية ثم ملكها انفسخ النكاح لما ذكرناه في العبد إذا تزوج حرة ثم اشترته. فصل: ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه لأن له فيها شبهة تسقط الحد بوطئها فلم يحل له نكاحها كالجارية المشتركة بينه وبين غيره فإن تزوج جارية أجنبي ثم ملكها ابنه ففيه وجهان: أحدهما أنه يبطل النكاح لأن ملك الابن كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد فكان كملكه في إبطال النكاح والثاني لا يبطل لأنه لا يملكها بملك الابن فلم يبطل النكاح. فصل: ولا يجوز نكاح المعتدة من غيره لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ولأن العدة وجبت لحفظ النسب لو جوزنا فيها النكاح اختلط النسب وبطل المقصود ويكره نكاح المرتابة بالحمل بعد انقضاء العدة لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً من غيره فإن تزوجها ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي العباس أن النكاح باطل لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها كما لو حدثت الريبة قبل انقضاء العدة والثاني وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق أنه يصح وهو الصحيح لأنها ريبة حدثت بعد انقضاء العدة فلم تمنع صحة العقد كما لو حدثت بعد النكاح ويجوز نكاح الحامل من الزنا لأن حملها لا يلحق بأحد فكان وجوده كعدمه. فصل: ويحرم على الحر أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خذ منهن أربعاً" ويحرم على العبد أن يجمع بين أكثر من امرأتين وقال أبو ثور: يحل له أن يجمع بين

أربع وهذا خطأ لما روي أن عمر رضي الله عنه خطب وقال: من يعلم ماذا يحل للمملوك من النساء فقال رجل: أنا فقال: كم؟ قال: ثنتان فسكت عمر وروي ذلك عن علي وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. فصل: ولا يجوز نكاح الشغار وهو أن يتزوج الرجل ابنته أو أخته من رجل على أن يزوجه ذلك ابنته أو أخته ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار والشغار أن يزوج الرجل ابنته من رجلين فأما إذا قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك صح النكاحان لأنه لم يحصل التشريك في البضع وإنما حصل الفساد في الطلاق وهو أنه جعل الصداق أن يزوجه ابنته فبطل الصداق وصح النكاح زإن قال زوجتك ابنتي بمائة على أن تزوجني ابنتك بمائة صح النكاحان ووجب مهر المثل لأن الفساد في الصداق وهو شرطه مع المائة تزويج ابنته فأشبه المسألة قبلها وإن قال زوجتك ابنتي بمائة على أن تزوجني ابنتك بمائة ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن الشغار هو الخالي من الصداق وههنا لم يخل من الصداق والثاني لا يصح وهو المذهب لأن المبطل هو التشريك في البضع وقد اشترك في البضع. فصل: ولا يجوز نكاح المتعة وهو أن يقول زوجتك ابنتي يوماً أو شهراً لما روى محمد بن علي رضي الله عنهما انه سمع أباه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد لقي ابن عباس وبلغه أنه يرخص في متعة النساء فقال علي كرم الله وجهه: إنك امرؤ تائه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية لأنه عقد يجوز مطلقاً

فلم يصح مؤقتاً كالبيع ولأنه نكاح لا يتعلق به الطلاق والظهار والإرث وعدة الوفاة فكان باطلاً كسائر الأنكحة الباطلة. فصل: ولا يجوز نكاح المحلل وهو أن ينكحها على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما وأن يتزوجها على أن يحللها للزوج الأول لما روى هزيل بن عبد الله قال: لعن الرسول صلى الله عليه وسلم الواصلة والموصولة والواشمة والموشومة والمحلل والمحلل له وآكل الربا ومطعمه ولأنه نكاح شرط انقطاعه دون غايته فشابه نكاح المتعة وإن تزوجها على أنه إذا وطئها طلقها ففيه قولان: أحدهما أنه باطل لما ذكرناه من العلة والثاني أنه يصح لأن النكاح مطلق وإنما شرط قطعه بالطلاق فبطل الشرط وصح العقد فإن تزوجها واعتقد أنه يطلقها إذا وطئها كره ذلك لما روى أبو مرزوق التجيبي أن رجلاً أتى عثمان رضي الله عنه فقال: إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول فقال له عثمان رضي الله عنه لا تنكحها إلا بنكاح رغبة فإن تزوج على هذه النية صح النكاح لأن العقد إنما يبطل بما شرط لا بما قصد ولهذا لو اشترى عبداً بشرط أن لا يبيعه بطل ولو اشتراه بنية أن لا يبيعه لم يبطل. فصل: وإن تزوج بشرط الخيار بطل العقد لأنه عقد يبطله التوقيت فبطل بالخيار الباطل كالبيع وإن شرط أن لا يتسرى عليها أو لا ينقلها من بلدها بطل الشرط لأنه يخالف مقتضى العقد ولا يبطل العقد لأنه لا يمنع مقصود العقد وهو الاستمتاع فإن شرط أن لا يطأها ليلاً بطل الشرط لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أوحرم حلالاً1" فإن كان الشرط من جهة المرأة بطل العقد وإن كان من جهة الزوج لم يبطل لأن الزوج يملك الوطء ليلاً ونهاراً وله أن يترك فإذا شرط أن لا يطأها فقد شرط ترك ماله تركه والمرأة يستحق عليها الوطء ليلاً ونهاراً فإذا شرطت ان لا يطأها فقد شرطت منع الزوج من حقه وذلك ينافي مقصود العقد فبطل.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 12. الترمذي في كتاب الأحكام باب 17، ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 23.

فصل: ويجوز التعريض بخطبة المعتدة عن الوفاة والطلاق الثلاث لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ولما روت فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن عمرو طلقها ثلاثاً فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقيني بنفسك فزوجها بأسامة رضي الله عنه ويحرم التصريح بالخطبة لأنه لما أباح التعريض دل على أن التصريح محرم ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح فتخبر بانقضاء العدة والتعريض يحتمل غير النكاح فلا يدعوها إلى الإخبار بانقضاء العدة وإن خالعها زوجها فاعتدت لم يحرم على الزوج التصريح بخطبتها لأنه يجوز له نكاحها فهو معها كالأجنبي مع الأجنبية في غير العدة ويحرم على غيره التصريح بخطبتها لأنها محرمة عليه وهل يحرم التعريض فيه قولان: أحدهما يحرم لأن الزوج يملك أن يستبيحها في العدة فلم يجز لغيره التعريض بخطبتها كالرجعية والثاني لا يحرم لأنها معتدة بائن فلم يحرم التعريض بخطبتها كالمطلقة ثلاثاً والمتوفى عنه زوجها والمرأة في الجواب كالرجل في الخطبة فيما يحل وفيما يحرم لأن الخطبة للعقد فلا يجوز أن يختلفا في تحليله وتحريمه والتصريح أن يقول إذا انقضت عدتك تزوجتك أو ما أشبهه والتعريض أن يقول رب راغب فيك وقال الأزهري: أنت جميلة وأنت مرغوب فيك وقال مجاهد: مات رجل وكانت امرأته تتبع الجنازة فقال لها رجل لا تسبقينا بنفسك فقال: قد سبقك غيرك ويكره التعريض بالجماع لقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] وفسر الشافعي رحمه الله السر بالجماع فسماه سراً لأنه يفعل سراً وأنشد فيه قول امرئ القيس: ألا زعمت بسبابة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحس السر أمثالي ولأن ذكر الجماع دناءة وسخف. فصل: ومن خطب امرأة فصرح له بالإجابة حرم على غيره خطبتها إلا أن يأذن فيه الأول لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب الأول أو يأذن له فيخطب وإن لم يصرح له بالإجابة ولم يعرض له لم يحرم على غيره لما روي أن فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن

معاوية وأبا الجهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو الجهم لا يضع العصا عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له" فانكحي أسامة وإن عرض له بالإجابة ففيه قولان: قال في القديم: تحرم خطبتها لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأن فيه إفساد المتقارب بينهما وقال في الجديد: لا تحرم لأنه لم يصرح له بالإجابة فأشبه إذا سكت عنه فإن خطب على خطبة أخيه في الموضع الذي لا يجوز فتزوجها صح النكاح لأن المحرم سبق العقد فلم يفسد به العقد وبالله التوفيق.

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب إذا وجد الرجل امرأته مجنونة أو مجذومة أو برصاء أو رتقاء وهي التي انسد فرجها أو قرناء وهي التي في فرجها لحم يمنع الجماع ثبت له الخيار وإن وجدت المرأة زوجها مجنوناً أو مجذوماً أو أبرص أو مجبوباً أو عنيناً ثبت لها الخيار لما روى زيد بن كعب بن عجرة قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني غفار فرأى بكشحها بياضاً فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "البسي ثيابك والحقي بأهلك" فثبت الرد بالبرص بالخبر وثبت في سائر ما ذكرناه بالقياس على البرص لأنها في معناه منع الاستمتاع إن وجد أحدهما الآخر وله فرج الرجال وفرج النساء ففيه قولان: أحدهما يثبت له الخيار لأن النفس تعاف عن مباشرته فهو كالأبرص والثاني لا خيار له لأنه يمكنه الاستمتاع به وإن وجدت المرأة زوجها خصياً ففيه قولان: أحدهما لها الخيار لأن النفس تعافه والثاني لا خيار لها لأنها تقدر على الاستمتاع به وإن وجد أحدهما بالآخر عيباً وبه مثله بأن وجده أبرص وهو أبرص

ففيه وجهان: أحدهما له الخيار لأن النفس تعاف من عيب غيرها وإن كان بها مثله والثاني لا خيار له لأنهما متساويان في النقص فلم يثبت لهما الخيار كما لو تزوج عبد بأمة وإن حدث بعد العقد عيب يثبت به الخيار فإن كان بالزوج ثبت لها الخيار لأن ما ثبت به الخيار إذا كان موجوداً حال العقد ثبت به الخيار إذا حدث بعد العقد كالإعسار بالمهر والنفقة وإن كان بالزوجة ففيه قولان: أحدهما يثبت به الخيار وهو قوله في الجديد وهو الصحيح لأن ما ثبت به الخيار في ابتداء العقد ثبت به الخيار إذا حدث بعده كالعيب في الزوج والثاني وهو قوله في القديم إنه لا خيار له لأنه يملك أن يطلقها. فصل: والخيار في هذه العيوب على الفور لأنه خيار ثبت بالعيب فكان على الفور كخيار العيب في البيع ولا يجوز الفسخ إلا عند الحاكم لأنه مختلف فيه. فصل: وإن فسخ قبل الدخول سقط المهر لأنه إن كانت المرأة فسخت كانت الفرقة من جهتها فسقط مهرها وإن كان الرجل هو الذي فسخ إلا أنه فسخ لمعنى من جهة المرأة وهو التدنيس بالعيب فصار كأنها اختارت الفسخ وإن كان الفسخ بعد الدخول سقط المسمى ووجب مهر المثل لأنه يستند الفسخ إلى سبب قبل العقد فيصير الوطء كالحاصل في نكاح فاسد فوجب مهر المثل وهل يرجع به على من غره فيه قولان: قال في القديم يرجع لأنه غره حتى دخل في العقد وقال في الجديد: لا يرجع لأنه حصل له في مقابلته الوطء فإن قلنا يرجع فإن كان الرجوع على الولي رجع بجميعه وإن كان على المرأة ففيه وجهان: أحدهما يرجع بجميعه كالولي والثاني يبقى منه شيئا حتى لا يعري الوطء عن بدل وإن طلقها قبل الدخول ثم علم أنه كان بها عيب لم يرجع بالنصف لأنه رضي بإزالة الملك والتزام نصف المهر فلم يرجع به. فصل: ولا يجوز لولي المرأة الحرة ولا لسيد الأمة ولا لولي الطفل تزويج المولى عليه ممن به هذه العيوب لأن في ذلك إضراراً بالمولى عليه فإن خالف وزوج فعلى ما ذكرناه فيمن زوج المرأة من غير كفء وإن دعت المرأة الولي أن يزوجها بمجنون لم يلزمه تزويجها لأن عليه في ذلك عاراً وإن دعت إلى نكاح مجبوب أو عنين لم يكن له أن يمتنع لأنه لا ضرر عليه في ذلك وإن دعت إلى نكاح مجذوم أو أبرص ففيه وجهان:

أحدهما له أن يمتنع لأن عليه في ذلك عاراً والثاني ليس له أن يمتنع لأن الضرر عليها دونه. فصل: وإن حدث العيب بالزوج ورضيت به المرأة لم يجبرها الولي على الفسخ لأن حق الولي في ابتداء العقد دون الاستدامة ولهذا لو دعت المرأة إلى نكاح عبد كان للولي أن يمتنع ولو أعتقت تحت عبد فاختارت المقان معه لم يكن للولي إجبارها على الفسخ. فصل: إذا ادعت المرأة على الزوج أنه عنين وأنكر الزوج فالقول قوله مع يمينه فإن نكل ردت اليمين على المرأة وقال أبو سعيد الاصطخري: يقضي عليه بنكوله ولا تحلف المرأة لأنه أمر لا تعلمه والمذهب الأول لأنه حق نكل فيه المدعى عليه عن اليمين فردت على المدعي كسائر الحقوق وقوله إنها لا تعلمه يبطل باليمين في كتابة الطلاق وكناية القذف فإذا حلفت المرأة أو اعترف الزوج أجله الحاكم سنة لما روى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قضى في العنين أن يؤجل سنة وعن علي عليه السلام وعبد الله والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم نحوه ولأن العجز عن الوطء قد يكون بالتعنين وقد يكون لعارض من حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة فإذا مضت عليه الفصول الأربعة واختلفت عليه الأهوية ولم يزل دل على أنه خلقة ولا تثبت المدة إلا بالحاكم لأنه يختلف فيها بخلاف مدة الإيلاء فإن جامعها في الفرج سقطت المدة وأدناه أن يغيب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به ولا تتعلق بما دونه فإن كان بعض الذكر مقطوعاً لم يخرج من التعنين إلا بتغييب جميع ما بقي من أصحابنا من قال: إذا غيب من الباقي بقدر الحشفة خرج من حكم التعنين لأن الباقي قائم مقام الذكر والمذهب الأول لأنه إذا كان الذكر سليماً فهناك حد يمكن اعتباره وهو الحشفة وإن كان مقطوعاً فليس هناك حد يمكن اعتباره فاعتبر الجميع وإن وطئها في الدبر لم يخرج من حكم التعنين لأنه ليس بمحل للوطء ولهذا لا يحصل به الإحلال للزوج الأول وإن وطئ في الفرج وهي حائض سقطت المدة لأنه محل للوطء وإن ادعى أنه وطئها فإن كانت ثيباً فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يمكن إثباته بالبينة وإن كانت بكراً فالقول قولها لأن الظاهر أنه لم يطأها فإن قال الزوج وطئت ولكن عادت البكارة حلفت لجواز أن يكون قد ذهبت البكارة ثم عادت.

فصل: وإن اختارت المقام معه قبل انقضاء الأجل ففيه وجهان: أحدهما يسقط خيارها لأنها رضيت بالعيب مع العلم والثاني لا يسقط خيارها لأنه إسقاط حق قبل ثبوته فلم يصح كالعفو عن الشفعة قبل البيع وإن اختارت المقام بعد انقضاء الأجل سقط حقها لأنه إسقاط حق بعد ثبوته وإن أرادت بعد ذلك أن ترجع وتطالب بالفسخ لم يكن لها لأنه خيار ثبت بعيب وقد أسقطته فلم يجز أن ترجع فيه فإن لم يجامعها حتى انقضى الأجل وطالبت بالفرقة فرق الحاكم بينهما لأنه مختلف فيه وتكون الفرقة فسخاً لأنه فرقة لا تقف على إيقاع الزوج ولا من ينوب عنه فكانت فسخاً كفرقة الرضاع وإن تزوج امرأة ووطئها ثم عن منها لم تضرب المدة لأن القدرة يقين فلا تترك بالاجتهاد. فصل: وإن وجدت المرأة زوجها مجبوباً ثبت لها الخيار في الحال لأنه عجزه متحقق فإن كان بعضه مجبوباً وبقي ما يمكن الجماع به فقالت المرأة لا يتمكن من الجماع به وقال الزوج أتمكن ففيه وجهان: أحدهما أن القول قوله لأن له ما يمكن الجماع بمثله فقبل قوله كما لو اختلفا وله ذكر قصير والثاني وهو قول أبي إسحاق أن القول قول المرأة لأن الظاهر معها فإن الذكر إذا قطع بعضه ضعف وإن اختلفا في القدر الباقي هل يمكن الجماع به فالقول قول المرأة لأن الأصل عدم الإمكان. فصل: إذا تزوجت المرأة رجلاً على أنه على صفة فخرج بخلافها أو على نسب فخرج بخلافه ففيه وجهان: أحدهما أن العقد باطل لأن الصفة المقصودة كالعين ثم اختلاف العين يبطل العقد فكذلك اختلاف الصفة ولأنها لم ترض بنكاح هذا الزوج فلم يصح كما لو أذنت في نكاح رجل على صفة فزوجت ممن هو على غير تلك الصفة والقول الثاني أنه يصح العقد وهو الصحيح لأنه ما لا يفتقر العقد إلى ذكره إذا ذكره وخرج بخلافه لم يبطل العقد كالمهر فعلى هذا إن خرج أعلى من المشروط لم يثبت الخيار لأن الخيار يثبت للنقصان لا للزيادة فإن خرج دونها فإن كان عليها في ذلك نقص بأن شرط أنه حر فخرج عبداً أو أنه جميل فخرج قبيحاً أو أنه عربي فخرج عجمياً ثبت لها الخيار لأنه نقص لم ترض به وإن لم يكن عليها نقص بأن شرطت أنه عربي فخرج عجمياً وهي عجمية ففيه وجهان: أحدهما لها الخيار لأنها ما رضيت أن يكون مثلها والثاني لا خيار لها لأنها لا نقص عليها في حق ولا كفاءة. فصل: وإن كان الغرر من جهة المرأة نظرت فإن تزوجها على أنها حرة فكانت أمة وهو ممن يحل له نكاح الأمة ففي صحة النكاح قولان: فإن قلنا إنه باطل فوطئها لزمه مهر المثل وهل يرجع به على الغار فيه قولان: أحدهما لا يرجع لأنه حصل له في مقابلته

الوطء والثاني يرجع لأن الغار ألجأه إليه فإن كان الذي غره غير الزوجة رجع عليه وإن كانت هي الزوجة رجع عليها إذا عتقت وإن كان وكيل السيد رجع عليه في الحال وإن أحبلها ضمن قيمة الولد رجع بها على من غره وإن قلنا إنه صحيح فهل يثبت له الخيار فيه قولان: أحدهما لا خيار له لأنه يمكنه أن يطلق والثاني له الخيار وهو الصحيح لأن ما ثبت به الخيار للمرأة ثبت به الخيار للرجل كالجنون وقال أبو إسحاق: إن كان الزوج عبداً فلا خيار له قولاً واحداً لأنه مثلها والصحيح لا فرق بين أن يكون حراً أو عبداً لأن عليه ضرراً لم يرض به وهو استرقاق ولده منها وعدم الاستمتاع بها في النهار فإن فسخ فالحكم فيها كالحكم فيه إذا قلنا إنه باطل وإن قلنا لا خيار له أو له الخيار ولم يفسخ فهو كالنكاح الصحيح فإن وطئها قبل العلم بالرق فالولد حر لأنه لم يرض برقه وإن وطئها بعد العلم بالرق فالولد مملوك لأنه رضي برقه وإن غرته بصفة غير الرق أو بنسب ففي صحة النكاح قولان: فإن قلنا إنه باطل ودخل بها وجب مهر المثل وهل يرجع به على من غره على القولين: فإن قلنا يرجع فإن كان الغرور من غيرها رجع بالجميع وإن كان منها ففيه وجهان: أحدهما يرجع بالجميع كما يرجع على غيرها والثاني يبقى منه شيئا حتى لا يعري الوطء عن بدل وإن قلنا إنه صحيح فإن كان الغرور بنسب فخرجت أعلى منه لم يثبت الخيار وإن خرجت دونه ولكن مثل نسبه أو أعلى منه لم يثبت الخيار وإن كانت دون نسبه ففيه وجهان: أحدهما له الخيار لأنه لم يرض أن تكون دونه والثاني لا خيار له لأنه لا نقص على الزوج بأن تكون المرأة دونه في الكفاءة فإن قلنا إن له الخيار فاختار الفسخ فالحكم فيه كالحكم فيه إذا قلنا إنه باطل وإن اختار المقام فهو كما قلنا إنه صحيح وقد بيناه. فصل: وإن تزوج امرأة من غير شرط يظنها حرة فوجدها أمة فالنكاح صحيح والمنصوص أنه لا خيار له وقال فيمن تزوج حرة يظنها مسلمة فخرجت كتابية أن له الخيار فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما له الخيار لأن الحرة الكتابية أحسن حالاً من الأمة لأن الولد منها حر والاستمتاع بها تام فإذا جعل له الخيار فيها كان في الأمة والولد منها رقيق والاستمتاع بها ناقص أولى والقول الثاني لا خيار له لأن العقد وقع مطلقاً فهو كما لو ابتاع شيئاً يظنه على صفة فخرج بخلافها فإنه لا يثبت له الخيار فكذلك ههنا وإذا لم يجعل له الخيار في الأمة ففي الكتابية أولى ومنهم من حملها على ظاهر النص فقال له الخيار في الكتابية

ولا خيار له في الأمة لأن في الكتابية ليس من جهة الزوج تفريط لأن الظاهر ممن لا غيار عليه أنه ولي مسلمة وإنما التفرط من جهة الولي في ترك الغيار وفي الأمة التفريط من جهة الزوج في ترك السؤال. فصل: إذا أعتقت الأمة وزوجها حر لم يثبت لها الخيار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أعتقت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها وكان عبداً فاختارت نفسها ولو كان حرا ما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنها لا ضرر عليها في كونها حرة تحت حر ولهذا لا يثبت به الخيار في ابتداء النكاح فلا يثبت به الخيار في استدامته وإن أعتقت تحت عبد ثبت لها الخيارلحديث عائشة رضي الله عنها ولأن عليها عاراً وضرراً في كونها تحت عبد ولهذا لو كان ذلك في ابتداء النكاح ثبت لها الخيار فثبت به الخيار في استدامته ولها أن تفسخ بنفسها لأنه خيار ثابت بالنص فلم يفتقر إلى الحاكم وفي وقت الخيار قولان: أحدهما أنه على الفور لأنه خيار لنقص فكان على الفور كخيار العيب في البيع والثاني أنه على التراخي لأنه لو جعلناها على الفور لم نأمن أن تختار المقام أو الفسخ ثم تندم فعلى هذا في وقته قولان: أحدهما يتقدر بثلاثة أيام لأنه جعل حداً لمعرفة الحظ في الخيار في البيع والثاني أن لها الخيار إلى أن تمكنه من وطئها لأنه روي ذلك عن ابن عمر وحفصة بنت عمر رضي الله عنهما وقول الفقهاء السبعة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وخارجة بن يزيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار رضي الله عنهم فإن أعتقت ولم تختر الفسخ حتى وطئها ثم ادعت الجهل بالعتق فإن كان في موضع يجوز أن يخفي عليها العتق فالقول قولها مع يمينها لأن الظاهر أنها لم تعلم وإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليها لم يقبل قولهها لأن ما تدعيه خلاف الظاهر وإن علمت بالعتق ولكن ادعت أنها لم تعلم بأن لها الخيار ففيه قولان: أحدهما لا خيار لها كما لو اشترى سلعة فيها عيب وادعى أنه لم يعلم أن له الخيار والثاني أن لها الخيار لأن الخيار بالعتق لا يعرفه غير أهل العلم وإن أعتقت وهي صغيرة ثبت لها الخيار إذ بلغت وإن كانت مجنونة ثبت لها الخيار إذا عقلت وليس للولي أن يختار لأن هذه طريقة الشهوة فلا ينوب عنها الولي كالطلاق وإن أعتقت فلم تختر حتى عتق الزوج ففيه قولان: أحدهما لا يسقط خيارها لأنه حق ثبت في حال الرق فلم يتغير بالعتق كما لو وجب عليه حد ثم أعتق والثاني يسقط لأن الخيار ثبت للنقص وقد زال فإن أعتقت وهي في العدة من طلاق رجعي فلها أن تترك الفسخ لانتظار البينونة بانقضاء العدة ولها أن تفسخ لأنها

إذا لم تفسخ ربما راجعها إذا قارب انقضاء العدة فإذا فسخت احتاجت أن تستأنف العدة وإن اختارت المقام في العدة لم يسقط خيارها لأنها جارية إلى بينونة فلا يصح منها اختيار المقام مع ما ينافيه وإن أعتقت تحت عبد فطلقها قبل أن تختار الفسخ ففيه قولان: أحدهما أن الطلاق ينفذ لأنه صادف الملك والثاني لا ينفذ لأنه يسقط حقها من الفسخ فعلى هذا إن فسخت لم يقع الطلاق وإن لم تفسخ حكمنا بوقوع الطلاق من حين طلق. فصل: وإن أعتقت وفسخت النكاح فكان قبل الدخول سقط المهر لأن الفرقة من جهتها وإن كان بعد الدخول نظرت فإن كان العتق بعد الدخول استقر المسمى وإن كان قبله ودخل بها ولم تعلم بالعتق سقط المسمى ووجب مهر المثل لأن العتق وجد قبل الدخول فصار كما لو وجد الفسخ قبل الدخول ويجب المهر للمولى لأنه وجب بالعقد في ملكه وإن كانت مفوضة فأعتقت فاختارت الزوج وفرض لها المهر بعد العتق ففي المهر قولان: إن قلنا يجب بالعقد كان للمولى لأنه وجب قبل العتق وإن قلنا يجب بالفرض كان لها لأنه وجب بعد العتق. فصل: وإن تزوج عبد مشرك حرة مشركة ثم أسلما ففيه وجهان: أحدهما لا خيار لها لأنها دخلت في العقد مع علمها برقه والثاني وهو ظاهر النص أن لها أن تفسخ النكاح لأن الرق ليس بنقص في الكفر وإنما هو نقص في الإسلام فيصير كنقص حدث بالزوج فيثبت لها الخيار وإن تزوج العبد المشرك أمة فدخل بها ثم أسلمت وتخلف العبد فأعتقت الأمة وثبت لها الخيار لأنها عتقت تحت عبد وإن أسلم العبد وتخلفت المرأة ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنه لا يثبت لها الخيار وهو ظاهر ما نقله المزني والفرق بينها وبين ما قبلها أن هناك الأمر موقوف على إسلام الزوج فإذا لم تفسخ لم تأمن أن لا يسلم حتى يقارب انقضاء العدة ثم يسلم فتفسخ النكاح فتطول العدة وههنا الأمر موقوف على إسلامها فأي وقت شاءت أسلمت وثبت النكاح فلم يثبت لها الفسخ والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يثبت لها الخيار كالمسألة قبلها وأنكر ما نقله المزني. فصل: إذا ملك مائة دينار وأمة قيمتها مائة دينار وزوجها من عبد بمائة ووصى بعتقها فأعتقت قبل الدخول لم يثبت لها الخيار لأنها إذا فسخت سقط مهرها وإذا سقط المهر عجز الثلث عن عتقها فسقط خيارها فيؤدي إثبات الخيار إلى إسقاطه فسقط. فصل: وإن أعتق عبد وتحته أمة ففيه وجهان: أحدهما يثبت لها الخيار كما يثبت للأمة إذا كان زوجها عبداً والثاني لا يثبت لأن رقها لا يثبت به الخيار في ابتداء النكاح فلا يثبت به الخيار في استدامته.

باب نكاح المشرك

باب نكاح المشرك إذا أسلم الزوجان المشركان على صفة لو لم يكن بينهما نكاح جاز لهما عقد النكاح أقرا على النكاح وإن عقد بغير ولي ولا شهود لأنه أسلم خلق كثير فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم ولم يسألهم عن شروطه وإن أسلما والمرأة ممن لا تحل له كالأم والأخت لم يقرا على النكاح لأنه لا يجوز أن يبتدئ نكاحها فلا يجوز الإقرار على نكاحها وإن أسلم أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين أو أسلمت المرأة والزوج يهودي أو نصراني فإن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة وإن كان بعد الدخول وقفت الفرقة على انقضاء العدة فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح وإن لم يسلم حتى انقضت العدة حكم بالفرقة وقال أبو ثور: إن أسلم الزوج قبل الزوجة وقعت الفرقة وهذا خطأ لما روى عبد الله بن شبرمة أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته وإن أسلم بعد انقضاء العدة فلا نكاح بينهما والفرقة الواقعة باختلاف الدين فسخ لأنها فرقة عريت عن لفظ الطلاق ونيته فكانت فسخاً كسائر الفسوخ. فصل: وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه لزمه أن يختار أربعاً منهن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً ولأن ما زاد على أربع لا يجوز إقرار المسلم عليه فإن امتنع أجبر عليه بالحبس والتعزير لأنه حق توجه عليه لا تدخله النيابة فأجبر عليه فإن أغمي عليه في الحبس خلي إلى أن يفيق لأن خرج على أن يكون من أهل الاختيار فخلي كما يخلى من عليه دين إذا أعسر به فإن أفاق أعيد إلى الحبس والتعزير إلى أن يختار ويؤخذ بنفقة جميعهن إلى أن يختار لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح والاختيار أن يقول اخترت نكاح هؤلاء الأربع فينفسخ نكاح البواقي أو يقول اخترت فراق هؤلاء فيثبت نكاح البواقي وإن طلق واحدة منهن كان ذلك اختياراً لنكاحها لأن الطلاق لا يكون إلا في زوجة وإن ظاهر منها أو آلى لم يكن ذلك اختياراً لأنه قد يخاطب به غير الزوج وإن وطئ واحدة ففيه وجهان: أحدهما أنه الاختيار لأن الوطء لا يجوز إلا في ملك فدل على الاختيار كوطء البائع الجارية المبيعة بشرط الخيار والثاني وهو الصحيح أنه ليس باختيار لأنه اختيار للنكاح فلم يجز بالوطء كالرجعة وإن قال كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها لم يصح لأن الاختيار كالنكاح فلم يجز تعليقه على الصفة ولا في غير معين وإن قالت كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها لم يصح لأن الفسخ

لا يجوز تعليقه على الصفة ولأن الفسخ إنما يستحق فيما زاد على أربع وقد يجوز أن لا يعلم أكثر من أربع فلا يستحق فيها الفسخ وإن قال كلما أسلمت واحدة فهي طالق ففيه وجهان: أحدهما يصح وهو ظاهر النص لأنه قال وإن قال كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها لم يكف شيئاً إلا أن يريد به الطلاق فدل على أنه إذا أراد الطلاق صح ووجهه أن الطلاق يصح تعليقه على الصفات والثاني وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا يصح لأن الطلاق ههنا يتضمن اختيار الزوجية والاختيار لا يجوز تعليقه على الصفة وحمل قول الشافعي رحمه الله على من أسلم وله أربع نسوة في الشرك وأراد بهذا القول الطلاق فإنه يصح لأنه طلاق لا يتضمن اختياراً فجاز تعليقه على الصفة وإن أسلم ثم ارتد لم يصح اختياره لأن الاختيار كالنكاح فلم يصح مع الردة وإن أسلم وأحرم فالمنصوص أنه يصح اختياره فمن أصحابنا من جعلها على قولين: أحدهما لا يصح كما لا يصح نكاحه والثاني يصح كما تصح رجعته ومنهم من قال إن أسلم ثم أحرم ثم أسلمن لم يجز أن يختار قولاً واحداً لأنه لا يجوز أن يبتدئ النكاح وهو محرم فلا يجوز أن يختاره وحمل النص عليه وإذا أسلم ثم أسلمن ثم أحرم فإن له الخيار لأن الإحرام طرأ بعد ثبوت الخيار. فصل: وإن مات قبل أن يختار لم يقم وارث مقامه لأن الاختيار يتعلق بالشهوة فلا يقوم فيه غيره مقامه وتجب على جميعهن العدة لأن كل واحدة منهن يجوز أن تكون من الزوجات فمن كانت حاملاً اعتدت بوضع الحمل ومن كانت من ذوات الشهر اعتدت بأربعة أشهر وعشر ومن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بالأقصى من الأجلين من ثلاثة أقراء أو أربعة أشهر وعشر ليسقط الفرض بيقين ويوقف ميراث أربع نسوة إلى أن يصطلحن لأنا نعلم أن فيهن أربع زوجات وإن كان عددهن ثمانية فجاء أربع يطلبن الميراث لم يدفع إليهن شيء لجواز أن تكون الزوجات غيرهن وإن جاء خمس دفع إليهن ربع الموقوف لأن فيهن زوجة بيقين ولا يدفع إليهن إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق ليمكن صرف الباقي إلى باقي الورثة وإن جاء ست دفع إليهن نصف الموقوف لأن فيهن زوجتين بيقين وعلى هذا القياس وإن كان فيهن أربع كتابيات ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي القاسم الداركي أنه لا يوقف شيء لأنه لا يوقف إلا ما يتحقق استحقاقه ويجهل مستحقه وههنا لا يتحقق الاستحقاق لجواز أن تكون الزوجات الكتابيات فلا يرثن والثاني يوقف لأنه لا يجوز أن يدفع إلى باقي الورثة إلا ما يتحقق أنهم يستحقونه ويجوز أن تكون المسلمات زوجاته فلا يكون الجميع لباقي الورثة.

فصل: وإن أسلم وتحته أختان أو امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه لزمه أن يختار إحداهما لما روي أن ابن الديلمي أسلم وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى" وإن أسلم وتحته أم وبنت وأسلمتا معه لم يخل إما أن لا يكون قد دخل بواحدة منهما أو دخل بهما أو دخل بالأم دون البنت أو بالبنت دون الأم فإن لم يكن دخل بواحدة منهما ففيه قولان: أحدهما يمسك البنت وتحرم الأم وهو اختيار المزني لأن النكاح في الشرك كالنكاح الصحيح بدليل أنه يقر عليه والأم تحرم بالعقد على البنت وقد وجد العقد والبنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم ولم يوجد الدخول والقول الثاني وهو الصحيح أنه يختار من شاء منهما لأن عقد الشرك إنما تثبت له الصحة إذا انضم إليه الاختيار فإذا لم ينضم إليه الاختيار فهو كالمعدوم ولهذا لو أسلم وعنده أختان واختار إحداهما جعل كأنه عقد عليهما ولم يعقد على الأخرى فإذا اختار الأم صار كأنه عقد عليها ولم يعقد على البنت وإذا اختار البنت صار كأنه عقد عليها ولم يعقد على الأم فعلى هذا إذا اختار البنت حرمت الأم على التأبيد لأنها أم امرأته وإن اختار الأم حرمت البنت تحريم جمع لأنها بنت امرأة لم يدخل بها وإن دخل بها حرمت البنت بدخوله بالأم وأما الأم فإن قلنا إنها تحرم بالعقد على البنت حرمت لعلتين بالعقد على البنت وبالدخول بها وإن قلنا إنها لا تحرم بالعقد حرمت بعلة وهي الدخول وإن دخل بالأم دون البنت فإن قلنا إن الأم تحرم بالعقد على البنت حرمت الأم بالعقد على البنت وحرمت البنت بالدخول بالأم وإن قلنا إن الأم لا تحرم بالعقد على البنت حرمت بالبنت بالدخول بالأم وثبت نكاح الأم وإن دخل بالبنت دون الأم ثبت نكاح البنت وانفسخ نكاح الأم وحرمت في أحد القولين بالعقد وبالدخول وفي القول الآخر بالدخول. فصل: وإن أسلم وتحته أربع إماء فأسلمن معه فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة اختار واحدة منهن لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها فجاز له اختيارها كالحرة وإن كن ممن لا يحل له نكاح الأمة لم يجز أن يمسك واحدة منهن وقال أبو ثور: يجوز لأنه ليس بابتداء النكاح فلا يعتبر فيه عدم الطول وخوف العنت كالرجعة وهذا خطأ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها فلا يجوز له اختيارها كالأم والأخت ويخالف الرجعة لأن الرجعة سد ثلمة في النكاح والاختيار إثبات النكاح في المرأة فصار كابتداء العقد وإن أسلم وتحته إماء وهو موسر فلم يسلمن حتى أعسر ثم أسلمن فله أن يختار واحدة منهن لأن وقت الاختيار عند اجتماع إسلامه وإسلامهن وهو في هذا الحال ممن يجوز له نكاح الأمة فكان له اختيارها

وإن أسلم بعضهن وهو موسر وأسلم بعضهن وهو معسر فله أن يختار من اجتمع إسلامه وإسلامها وهو معسر ولا يختار من اجتمع إسلامه وإسلامها وهو موسر اعتباراً بوقت الاختيار. فصل: وإن أسلم وعنده أربع إماء فأسلمت منهن واحدة وهو ممن يجوز له نكاح الإماء فله أن يختار المسلمة وله أن ينتظر إسلام البواقي ليختار من شاء منهن فإن اختار فسخ نكاح المسلمة لم يكن له ذلك لأن الفسخ إنما يكون فيمن فضل عمن يلزم نكاحها وليس ههنا فضل فإن خالف وفسخ ولم يسلم البواقي لزم نكاح المسلمة وبطل الفسخ وإن أسلمن فله أن يختار واحدة فإن اختار نكاح المسلمة التي اختار فسخ نكاحها ففيه وجهان: أحدهما ليس له ذلك لأنا منعنا الفسخ فيها لأنها لم تكن فاضلة عمن يلزم فيها النكاح وبإسلام غيرها صارت فاضلة عمن يلزم نكاحها فثبت فيها الفسخ والثاني وهو المذهب أن له أن يختار نكاحها لأن اختيار الفسخ كان قبل وقته فكان وجوده كعدمه كما لو اختار نكاح مشركة قبل إسلامها. فصل: وإن أسلم وعنده حرة وأمة وأسلمتا معه ثبت نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة لأنه لا يجوز أن يبتدئ نكاح الأمة مع وجود حرة فلا يجوز أن يختارها فإن أسلم وأسلمت الأمة معه وتخلفت الحرة فإن أسلمت قبل انقضاء العدة ثبت نكاحها وبطل نكاح الأمة كما لو أسلمتا معاً وإن انقضت العدة ولم تسلم بانت باختلاف الدين فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة فله أن يمسكها. فصل: وإن أسلم عبد وتحته أربع فأسلمن معه لزمه أن يختار اثنتين فإن أعتق بعد إسلامه وإسلامهن لم تجز له الزيادة على اثنتين لأنه ثبت له الاختيار وهو عبد وإن أسلم وأعتق ثم أسلمن أو أسلمن وأعتق ثم أسلم لزم نكاح الأربع لأنه جاء وقت الاختيار وهو ممن يجوز له أن ينكح أربع نسوة. فصل: وإن تزوج امرأة معتدة من غيره وأسلما فإن كان قبل انقضاء العدة لم يقرا على النكاح لأنه لا يجوز له أن يبتدئ نكاحها فلا يجوز إقراره على نكاحها وإن كان بعد انقضاء العدة أقرا عليه لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها وإن أسلما وبينهما نكاح متعة لم يقرا عليه لأنه إن كان بعد انقضاء المدة لم يبق النكاح وإن كان قبله لم يعتقدا تأبيده

والنكاح عقد مؤبد وإن أسلما على نكاح شرط فيه الخيار لهما أو لأحدهما متى شاء لم يقرا عليه لأنهما لا يعتقدان لزومه والنكاح عقد لازم وإن أسلما على نكاح شرط فيه خيار ثلاثة أيام فإن كان قبل انقضاء المدة لم يقرا عليه لأنهما لا يعتقدان لزومه وإن كان بعد انقضاء المدة أقرا عليه لأنهما يعتقدان لزومه وإن طلق المشرك امرأته ثلاثاً ثم تزوجها قبل زوج ثم أسلما لم يقرا عليه لأنه لا تحل له قبل زوج فلم يقرا عليه كما لو أسلم وعنده ذات رحم محرم وإن قهر حربي حربية ثم أسلما فإن اعتقدا ذلك نكاحاً أقرا عليه لأنه نكاح لهم فيمن يجوز ابتداء نكاحها فأقرا عليه كالنكاح بلا ولي ولا شهود وإن لم يعتقدا ذلك نكاحاً لم يقرا عليه لأنه ليس بنكاح. فصل: إذا ارتد الزوجان أو أحدهما فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة وإن كان بعد الدخول وقعت الفرقة على انقضاء العدة فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة فهما على النكاح وإن لم يجتمعا وقعت الفرقة لأنه انتقال من دين إلى دين يمنع ابتداء النكاح فكان حكمه كما لو أسلم أحد الوثنيين. فصل: وإن انتقل الكتابي إلى دين لا يقر أهله عليه لم يقر عليه لأنه لو كان على هذا الدين في الأصل لم يقر عليه فكذلك إذا انتقل إليه وما الذي يقبل منه فيه ثلاثة أقوال: أحدها يقبل منه الإسلام أو الدين الذي كان عليه أو دين يقر عليه أهله لأن كل واحد من ذلك مما يجوز الإقرار عليه والثاني لا يقبل منه إلا الإسلام لأنه دين حق أو الدين الذي كان عليه لأنا أقررناه عليه والثالث لا يقبل منه إلا الإسلام وهو الصحيح لأنه اعترف ببطلان كل دين سوى دينه ثم بالانتقال عنه اعترف ببطلانه فلم يبق إلا الإسلام وإن انتقل الكتابي إلى دين يقر أهله عليه ففيه قولان: أحدهما يقر عليه لأنه دين يقر أهله عليه فأقر عليه كالإسلام والثاني لا يقر عليه لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فعلى هذا فيما يقبل منه قولان: أحدهما يقبل منه الإسلام أو الدين الذي كان عليه والثاني لا يقبل منه إلا الإسلام لما ذكرناه وكل من انتقل من الكفار إلى دين لا يقر عليه فحكمه في بطلان نكاحه حكم المسلم إذا ارتد. فصل: وإن تزوج كتابي وثنية ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبو سعيد الاصطخري أنه لا يقر عليه لأن كل نكاح لم يقر عليه المسلم لم يقر عليه الذمي كنكاح المرتدة والثاني وهو المذهب أنه يقر عليه لأن كل نكاح أقر عليه بعد الإسلام أقر عليه قبله كنكاح الكتابية. فصل: إذا أسلم الوثنيان قبل الدخول ثم اختلفا فقالت المرأة أسلم أحدنا قبل

صاحبه فانفسخ النكاح وقال الزوج بل أسلمنا معاً فالنكاح على حاله ففيه قولان: أحدهما أن القول قول الزوج وهو اختيار المزني لأن الأصل بقاء النكاح والثاني أن القول قول المرأة لأن الظاهر معها فإن اجتماع إسلامهما حتى لا يسبق أحدهما الآخر متعذر قال في الأم: إذا أقام الزوج بينة أنهما أسلما حين طلعت الشمس أو حين غربت الشمس لم ينفسخ النكاح لاتفاق إسلامهما في وقت واحد وهو عند تكامل الطلوع أو الغروب فإن أقام البينة أنهما أسلما حال طلوع الشمس أو حال غروبها انفسخ نكاحهما لأن حال الطلوع والغروب من حين يبتدئ بالطلوع والغروب إلى أن يتكامل وذلك مجهول وإن أسلم الوثنيان بعد الدخول واختلفا فقال الزوج أسلمت قبل انقضاء عدتك فالنكاح باق وقالت المرأة بل أسلمت بعد اقضاء عدتي فلا نكاح بيننا فقد نص الشافعي رحمه الله تعالى على أن القول قول الزوج ونص في مسألتين على أن القول قول الزوجة: إحداهما إذا قال الزوج للرجعية راجعتك قبل انقضاء العدة فنحن على النكاح وقالت الزوجة بل راجعتني بعد انقضاء العدة فالقول قول الزوجة والثانية إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم فقال: أسلمت قبل انقضاء العدة فالنكاح باق وقالت المرأة بل أسلمت بعد انقضاء العدة فالقول قول المرأة ومن أصحابنا من نقل جواب بعضها إلى بعض وجعل في المسائل كلها قولين أحدهما أن القول قول الزوج لأن الأصل بقاء النكاح والثاني أن القول قول الزوجة لأن الأصل عدم الإسلام والرجعة ومنهم من قال هي على اختلاف حالين فالذي قال إن القول قول الزوج إذا سبق بالدعوى وإذا قال القول قول الزوجة إذا سبقت بالدعوى لأن قول كل واحد منهما مقبول فيما سبق إليه فلا يجوز إبطاله بقول غيره ومنهم من قال هي على اختلاف حالين على وجه آخر فالذي قال القول قول الزوج أراد إذا اتفقا على صدقه في زمان ما ادعاه لنفسه بأن قال: أسلمت وراجعت في رمضان فقالت المرأة صدقت لكن انقضت عدتي في شعبان فالقول قول الزوج باتفاقهما على الإسلام بالرجعة في رمضان واختلافهما في انقضاء العدة والذي قال القول قول المرأة إذا اتفقا على صدقهما في زمان ما ادعته لنفسه بأن قالت انقضت عدتي في شهر رمضان فقال الزوج لكن راجعت أو أسلمت في شعبان فالقول قول المرأة لاتفاقهما على انقضاء العدة في رمضان واختلافهما في الرجعة والإسلام.

كتاب الصداق

كتاب الصداق مدخل ... كتاب الصداق المستحب أن لا يعقد النكاح إلا بصداق لما روى سعد بن سهل رضي الله عنه أن امرأة قالت: قد وهبت نفسي لك يا رسول الله صلى الله عليك قر في رأيك فقال رجل: زوجنيها قال: "أطلب ولو خاتماً من حديد" فذهب فلم يجئ بشيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء" فقال: نعم فزوجه بما معه من القرآن ولأن ذلك أقطع للخصومة ويجوز من غير صداق لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فأثبت الطلاق مع عدم الرفض وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "إني أزوجك فلانة" قال: نعم قال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلاناً؟ " قالت: نعم فزوج أحدهما من صاحبه فدخل عليها ولم يفرض لها به صداق فلما حضرته الوفاة قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً وإني قد أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر فأخذت سهمه فباعته بمائة ألف ولأن القصد بالنكاح الوصلة والاستمتاع دون الصداق فصح من غير صداق. فصل: ويجوز أن يكون الصداق قليلا لقوله صلى الله عليه وسلم: "اطلب ولو خاتماً من حديد" ولأنه بدل منفعتها فكان تقدير العوض إليها كأجرة منافعها ويجوز أن يكون كبيراً لقوله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء: 20] قال معاذ رضي الله عنه: القنطار ألف ومائتا أوقية وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ملء مسك ثور ذهباً والمستحب أن يخفف لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة1" ولأنه إذا كبر أجحف وأضر ودعا إلى المقت والمستحب أن لا يزيد على خمسمائة درهم لما روى روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا أتدرون ما النش نصف أوقية وذلك خمسمائة درهم والمستحق الاقتداء به والتبرك بمتابعته فإن ذكر صداق في السر وصداق في العلانية فالواجب ما عقد به العقد لأن الصداق يجب بالعقد فوجب ما عقد به وإن قال: زوجتك

_ 1 رواه أحمد في مسنده "6/82، 145".

ابنتي بألف وقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة وجب مهر المثل لأن الزوج لم يقبل بألف والوالي لم يوجب بخمسمائة فسقط الجميع ووجب مهر المثل. فصل: ويجوز أن يكون الصداق ديناً وعيناً وحالاً ومؤجلاً لأنه عقد على المنفعة فجاز بما ذكرناه كالإجازة. فصل: ويجوز أن يكون منفعة كالخدمة وتعليم القرآن وغيرهما من المنافع المباحة لقوله عز وجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فجعل الرعي صداقا وزوج النبي صلى الله عليه وسلم الواهبة من الذي خطبها بما معه من القرآن ولا يجوز أن يكون محرماً كالخمر وتعليم التوراة وتعليم القرآن للذمية لا تتعلمه للرغبة في الإسلام ولا ما فيه غرر كالمعدوم والمجهول وما لم يتم ملكه عليه كالمبيع فبل القبض ولا ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والطير الطائر لأنه عوض في عقد فلا يجوز بما ذكرناه كالعوض في البيع والإجارة فإن تزوج على شيء من ذلك لم يبطل النكاح لأن فساده ليس أكثر من عدمه فإذا صح النكاح مع عدمه صح مع فساده ويجب مهر المثل لأنها لم ترضى من غير بدل ولم يسلم لها البدل وتعذر رد المعوض فوجب رد بدله كما لو باع سلعة بمحرم وتلفت بيد المشتري. فصل: فإن تزوج كافر بكافرة على محرم كالخمر والخنزير ثم أسلما أو تحاكما إلينا قبل الإسلام نظرت فإن كان قبل القبض سقط المسمى ووجب مهر المثل لأنه لا يمكن إجباره على تسليم المحرم وإن كان بعد القبض برئت ذمته منه كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا وإن قبض البعض برئت ذمته من المقبوض ووجب بقدر ما بقي من مهر المثل فإن كان الصداق عشرة أزقاق خمر فقبضت منها خمسة ففيه وجهان: أحدهما يعتبر بالعدد فيبرأ من النصف ويجب لها نصف مهر المثل لأنه لا قيمة لها فكان الجميع واحداً فيها فسقط نصف الصداق ويجب نصف مهر المثل والثاني يعتبر بالكيل لأنه أحصر وإن أصدقها عشرة من الخنازير وقبضت منها خمسة ففيه وجهان: أحدهما يعتبر بالعدد فتبرأ من النصف ويجب لها نصف مهر المثل لأنه لا قيمة لها فكان الجميع واحداً والثاني يعتبر بما له قيمة وهو الغنم لو كانت غنماً كم كانت قيمة ما قبض منها فيبرأ منه بقدره ويجب بحصة ما بقي من مهر المثل لأنه لما لم تكن له قيمة اعتبر بما له قيمة كما يعتبر الحر بالعبد فيما ليس له أرش مقدر من الجنايات.

فصل: وإن أعتق رجل على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها وقبلت لم يلزمها أن تتزوج به لأنه سلف في عقد فلم يلزم كما لو قال لامرأة خذي هذا الألف على أن تتزوجي بي وتعتق الأمة لأنه أعتقها على شرط باطل فسقط الشرط وثبت العتق كما لو قال لعبده: إن ضمنت لي خمراً فأنت حر فضمن ويرجع عليها بقيمتها لأنه لم يرض في عتقها إلا بعوض ولم يسلم له فتعذر الرجوع إليها فوجبت قيمتها كما لو باع عبداً بعوض محرم وتلف العبد في يد المشتري وإن تزوجها بعد العتق على قيمتها وهما لا يعلمان قدرها فالمهر فاسد وقال أبو علي بن خيران: يصح كما لو تزوجها على عبد لا يعلمان قيمته وهذا خطأ لأن المهر هناك هو العبد وهو معلوم والمهر ههنا هو القيمة وهي مجهولة فلم يجز وإن أراد حياة يقع بها العتق وتتزوج به ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن خيران أنه يملك ذلك بأن يقول إن كان في معلوم الله تعالى إني إذا أعتقتك تزوجت بي فأنت حرة فإذا تزوجت به علمنا أنه قد وجد شرط العتق وإن لم تتزوج به علمنا أنه لم يوجد شرط العتق والثاني هو قول أكثر أصحابنا أنه لا يصح ذلك ولا يقع العتق ولا يصح النكاح لأنه حال ما تتزوج به نشك أنها حرة أو أمة والنكاح مع الشك لا يصح فإذا لم يصح النكاح لم تعتق لأنه لم يوجد شرط العتق وإن أعتقت امرأة عبداً على أن يتزوج بها وقبل العبد ولا يلزمه أن يتزوج بها لما ذكرناه في الأمة ولا يلزمه قيمته لأن النكاح حق للعبد فيصير كما لو أعتقته بشرط أن تعطيه مع العتق شيئاً آخر ويخاف الأمة فإن نكاحها حق للمولى فإذا لم يسلم له رجع عليها بقيمتها وإن قال رجل لآخر أعتق عبدك عن نفسك على أن أزوجك ابنتي فأعتقه لم يلزمه التزويج لما ذكرناه وهل تلزمه قيمة العبد فيه وجهان بناء على القولين فيمن قال لغيره أعتق عبدك عن نفسك وعلى ألف فأعتقه لم يلزمه التزويج لما ذكرناه وهل تلزمه قيمة العبد فيه وجهان بناء على القولين فيمن قال لغيره أعتق عبدك عن نفسك وعلى ألف فأعتقه أحدهما يلزمه كما لو قال أعتق عبدك عني على ألف والثاني لا يلزمه لأنه بذل العوض على ما لا منفعة له فيه. فصل: ويثبت بالصداق خيار الرد بالعيب لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب فثبت فيه خيار الرد كالعوض في البيع ولا يثبت فيه خيار الشرط ولا خيار المجلس لأنه أحد عوضي النكاح فلم يثبت فيه خيار الشرط وخيار المجلس كالبضع ولأن خيار الشرط وخيار المجلس جعلا لدفع الغبن والصداق لم يبن على المغابنة فإن شرط فيه خيار الشرط فقد قال الشافعي رحمه الله: يبطل النكاح فمن أصحابنا من جعله قولاً لأنه أحد عوضي النكاح فبطل النكاح بشرط الخيار فيه كالبضع ومنهم من قال: لا يبطل وهو

الصحيح كما لا يبطل إذا جعل المهر خمراً أو خنزيراً وما قال الشافعي رحمه الله محمول على ما إذا شرط في المهر والنكاح ويجب مهر المثل لأن شرط الخيار لا يكون إلا بزيادة جزء أو نقصان جزء فإذا سقط الشرط وجب إسقاط ما في مقابلته فيصير الباقي مجهولاً فوجب مهر المثل وإن تزوجها بألف على أن لا يتسرى عليها أو لا يتزوج عليها بطل الصداق لأنه شرط باطل أضيف إلى الصداق فأبطله ويجب مهر المثل لما ذكرناه في شرط الخيار. فصل: وتملك المرأة المسمى بالعقد إن كان صحيحاً ومهر المثل إن كان فاسداً لأنه عقد يملك المعوض فيه بالعقد فملك العوض فيه بالعقد كالبيع وإن كانت المنكوحة صغيرة أو غير رشيدة سلم المهر إلى من ينظر في مالها وإن كانت بالغة رشيدة وجب تسليمه إليها ومن أصحابنا من خرج في البكر البالغة قولاً آخر أنه يجوز أن يدفع إليها أو إلى أبيها وجدها لأنه يجوز إجبارها على النكاح فجاز للولي قبض صداقها بغير إذنها كالصغيرة فإن قال الزوج لا أسلم الصداق حتى تسلم نفسها فقال المرأة لا أسلم نفسي حتى أقبض الصداق ففيه قولان: أحدهما لا يجبر واحد منهما بل يقال: من سلم منكما أجبرنا الآخر والثاني يؤمر الزوج بتسليم الصداق إلى عدل وتؤمر المرأة بتسليم نفسها فإذا سلمت نفسها أمر العدل بدفع الصداق إليها كالقولين فيمن باع سلعة بثمن معين وقد بينا القولين في البيوع فإذا قلنا بالقول الأول لم تجب لها النفقة في حال امتناعها لأنها ممتنعة بغير حق وإن قلنا بالقول الثاني وجبت لها النفقة لأنها ممتنعة بحق وإن تبرعت وسلمت نفسها ووطئها الزوج أجبر على دفع الصداق وسقط حقها من الامتناع لأن الوطء استقر لها جميع البدل فسقط حق المنع كالبائع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن. فصل: فإن كان الصداق عيناً لم تملك التصرف فيه قبل القبض كالمبيع وإن كان ديناً فعلى القولين في الثمن وإن كان عيناً فهلكت قبل القبض هلك من ضمان الزوج كما يهلك المبيع قبل القبض من ضمان البائع وهل ترجع إلى مهر المثل أو إلى بدل العين ففيه قولان قال في القديم ترجع إلى بدل العين لأنه عين يجب تسليمها لا يسقط الحق بتلفها فوجب الرجوع إلى بدلها كالمغصوب فعلى هذا إن كان مما له مثل وجب مثله وإن لم يكن له مثل وجبت قيمته أكثر ما كانت من حين العقد إلى أن تلف كالمغصوب ومن أصحابنا من قال: تجب قيمته يوم التلف لأنه وقت الفوات والصحيح هو الأول لأن هذا يبطل بالمغصوب وقال في الجديد: ترجع إلى مهر المثل لأنه عوض معين تلف قبل

القبض وتعذر الرجوع إلى المعوض فوجب الرجوع إلى بدل المعوض كما لو اشترى ثوباً بعبد فقبض الثوب ولم يسلم العبد وتلف عنده فإنه يجب قيمة الثوب وإن قبضت الصداق ووجدت به عيباً فردته أو خرج مستحقاً رجعت في قوله القديم إلى بدله وفي قوله الجديد إلى مهر المثل وإن كان الصداق تعليم سورة من القرآن فتعلمت من غيره أو لم تتعلم لسوء حفظها فهو كالعين إذا تلفت فترجع في قوله القديم إلى أجرة المثل وفي قوله الجديد إلى مهر المثل. فصل: ويستقر الصداق بالوطء في الفرج لقوله عز وجل: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وفسر الإفضاء بالجماع وهل يستقر بالوطء في الدبر فيه وجهان: أحدهما يستقر لأنه موضعي يجب بالإيلاح فيه الحد فأشبه الفرج والثاني لا يستقر لأن المهر في مقابلة ما يملك بالعقد والوطء في الدبر غير مملوك فلم يستقر به المهر ويستقر بالموت قبل الدخول وقال أبو سعيد الإصطخري: إن كانت أمة لا يستقر بموتها لأنها كالسلعة تباع وتبتاع والسلعة المبيعة إذا تلفت قبل التسليم سقط الثمن فكذلك إذا ماتت الأمة وجب أن يسقط المهر والمذهب أن يستقر لأن النكاح إلى الموات فإذا ماتت انتهى النكاح فاستقر البدل كالإجارة إذا انقضت مدتها واختلف قوله في الخلوة فقال في القديم تقرر المهر لأنه عقد على المنفعة فكان التمكين فيه كالاستيفاء في تقرر البدل كالإجارة وقال في الجديد: لا تقرر لأنها خلوة فلا تقرر المهر كالخلوة في غير النكاح. فصل: وإن وقعت فرقة بعد الدخول لم يسقط من الصداق شيء لأنه استقر فلم يسقط فإن أصدقها سورة من القرآن وطلقها بعد الدخول وقبل أن يعلمها ففيه وجهان: أحدهما يعلمها من وراء حجاب كما يستمع منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني لا يجوز أن يعلمها لأنه لا يؤمن الافتتان بها ويخالف الحديث فإنه ليس له بدل فلو منعناه من سماعه منها أدى إلى إضاعته وفي الصداق لا يؤدي إلى إبطاله لأن في قوله الجديد ترجع إلى مهر المثل وفي قوله القديم ترجع إلى أجرة التعليم وإن وقعت الفرقة قبل الدخول نظرت فإن كانت بسبب من جهة المرأة بأن أسلمت أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ النكاح برضاعه سقط مهرها لأنها أتلفت المعوض قبل التسليم فسقط البد كالبائع إذا أتلف المبيع قبل التسليم وإن كانت بسبب من جهته نظرت فإن كانت بطلاق سقط نصف

المسمى لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وإن بإسلامه أو بردته سقط نصفه لأنه فرق انفرد الزوج بسببها قبل الدخول فتنصف بها المهر كالطلاق وإن كان بسبب منها نظرت فإن بخلع سقط نصفه لأن المغلب في الخلع جهة الزوج بدليل أنه يصح الخلع به دونهما وهو إذا خالع مع أجنبي فسار كما لو انفرد به وإن كان بردة منها ففيه وجهان: أحدهما يسقط نصفه لأن حال الزوج في النكاح أقوى فسقط نسفه كما لو ارتد وحده والثاني يسقط الجميع لأن المغلب في المهر جهة المرأة لأن المهر لها فسقط جميعه كما لو انفردت بالردة فإن اشترت المرأة زوجها قبل الدخول ففيه وجهان: أحدهما يسقط النصف لأنه البيع تم بالزوجة والسيد وهو قائم مقام الزوج فصار كالفرقة الواقعة بالخلع والثاني يسقط جميع المهر لأن البيع تم بها دون الزوج فسقط جميع المهر كما لو أرضعت من يفسخ النكاح برضاعه. فصل: وإن قتلت المرأة نفسها فالمنصوص أنه لا يسقط مهرها وقال في الأمة: إذا قتلت نفسها أو قتلها مولاها أنه يسقط مهرها فنقل أبو العباس جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما يسقط المهر لأنها فرقة حصلت من جهتها قبل الدخول فسقط بها المهر كما لو ارتدت والثاني لا يسقط وهو اختير المزني وهو الصحيح لأنها فرقة حصلت بانقضاء الأجل وانتهاء النكاح فلا يسقط بها المهر كما لو ماتت وقال أبو إسحاق: لا يسقط في الحرة ويسقط في الأمة على ما نص عليه لأن الحرة كالمسلمة نفسها بالعقد ولهذا يملك منعها من السفر والأمة لا تصير كالمسلمة نفسها بالعقد ولهذا لا يملك منعها من السفر مع المولى وإن قتلها الزوج استقر مهرها لأن إتلاف الزوج كالقبض كما أن إتلاف المشتري للمبيع في يد البائع كالقبض في تقرير الثمن. فصل: ومتى ثبت الرجوع في النصف لم يخل إما أن يكون الصداق تالفاً أو باقياً فإن كان تالفاً فإن كان مما له مثل رجع بنصف مثله وإن لم يكن له مثل رجع بقيمة نصفه أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض لأنه إن كانت قيمته يوم العقد أقل ثم زادت كانت الزيادة في ملكها فلم يرجع بنصفها وإن كانت قيمته يوم العقد أكثر ثم نقص كان النقصان مضموناً عليه فلم يرجع بما هو مضمون عليه وإن كان باقياً لم يخل إما أن يكون باقياً على حالته أو زائداً أو ناقصاً أو زائداً من وجه ناقصاً من وجه فإن كان على حالته رجع في نصفه ومتى يملك فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا يملك

إلا باختيار التملك لأن الإنسان لا يملك شيئاً بغير اختياره إلا الميراث فعلى هذا إن حدثت منه زيادة قبل الاختيار كانت لها الثاني وهو المنصوص أنه يملك بنفس الفرقة لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فعلق استحقاق النصف بالطلاق فعلى هذا إن حدثت منه زيادة كانت بينهما وإن طلقها والصداق زائد نظرت فإن كانت زيادة متميزة كالثمرة والنتاج واللبن رجع بنصف الأصل وكانت الزيادة لها لأنها زيادة متميزة حدثت في ملكها فلم تتبع الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب في البيع وإن كانت الزيادة غير متميزة كالسمن وتعليم الصنعة فالمرأة بالخيار بين أن تدفع النصف بزيادته وبين أن تدفع قيمة النصف فإن دفعت النصف أجبر الزوج على أخذه لأنه نصف المفروض مع زيادة لا تتميز وإن دفعت قيمة النصف أجبر على أخذها لأن حقه في نصف المفروض والزائد غير المفروض فوجب أخذ البدل وإن كانت المرأة مفلسة ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يجوز للزوج أن يرجع بنصف العين مع الزيادة لأنه لا يصل إلى حقه من البدل فرجع بالعين مع الزيادة كما يرجع البائع في المبيع مع الزيادة عند إفلاس المشتري والثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يرجع لأنه ليس من جهة المرأة تفريط فلا يؤخذ منها ما زاد في ملكها بغير رضاها ويخالف إذا أفلس المشتري فإن المشتري فرط في حبس الثمن إلى إن أفلس فرجع البائع في العين مع الزيادة فإن كان الصداق نخلاً وعليها طلع غير مؤبر فبذلت المرأة نصفها مع الطلع ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر الزوج على أخذها لأنها هبة فلا يجبر على قبولها والثاني يجبر وهو المنصوص لأنه نماء غير متميز فأجبر على أخذها كالسمن وإن بذلت نصف النخل دون الثمرة لم يجبر الزوج على أخذها وقال المزني يلزمنه أن يرجع فيه وعليه ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ كما يلزم المشتري ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ وهذا خطأ لأنه قد صار حقه في القيمة فلا يجبر على أخذ العين ولأن عليه ضرراً في ترك الثمرة على نخله فلم يجبر ويخالف المشتري فإن دخل في العقد عن تراض فأقرا على ما تراضيا عليه فإن طلب الزوج الرجوع بنصف النخل وترك الثمرة إلى أوان الجذاذ ففيه وجهان: أحدهما لا تجبر المرأة لأنه صار حقه في القيمة والثاني تجبر عليه لأن الضرر زال عنها ورضي الزوج بما يدخل عليه من الضرر وإن طلقا والصداق ناقص بأن كان عبداً فعمي أو مرض فالزوج بالخيار بين أن يرجع بنصفه ناقصاً وبين أن يأخذ قيمة النصف فإن رجع في النصف أجبرت المرأة على دفعه لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن طلب القيمة أجبرت على الدفع لأن الناقص دون حقه وإن طلقها والصداق زائد من

وجه ناقص من وجه بأن كان عبداً فتعلم صنعة ومرض فإن تراضيا على أخذ نصفه جاز لأن الحق لهما وإن امتنع الزوج من أخذه لم يجبر عليه لنقصانه وإن امتنعت المرأة من دفعه لم تجبر عليه لزيادته وإن كان الصداق جارية فحبلت فهي كالعبد إذا تعلم صنعة ومرض لأن الحمل زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر لأنه يخاف منه عليها فكان حكمه حكم العبد وإن كان بهيمة فحملت ففيه وجهان: أحدهما أن المرأة بالخيار بين أن تسلم النصف مع الحمل وبين أن تدفع القيمة لأنه زيادة من غير نقص لأن الحمل لا يخاف منه على البهيمة والثاني وهو ظاهر النص أنه كالجارية لأنه زيادة من وجه ونقصان من وجه فإن ينقص به اللحم فيما يؤكل ويمنع من الحمل عليه فيما يحمل فكان كالجارية وإن باعته ثم رجع إليها ثم طلقها الزوج رجع بنصفه لأنه يمكن الرجوع إلى عين ماله فلم يرجع إلى القيمة وإن وصت به أو وهبته ولم يقبض ثم طلقها رجع بنصفه لأنه باق على ملكها وتصرفها وإن كاتبته أو وهبته وأقبضته ثم طلقها رجع بنصفه لأنه باق على ملكها وتصرفها وإن كاتبته أو وهبته وأقبضته ثم طلقها فقد روى المزني أنه يرجع فمن أصحابنا من قال يرجع لأنه باق على ملكها ومنهم من قال أنه لا يرجع لأنه لا يملك نقض تصرفها ومنهم من قال فيه قولان: إن قلنا أن التدبير وصية فله الرجوع وإن قلنا أنه عتق بصفة رجع بنصف قيمته. فصل: وإن كان الصداق عيناً فوهبته من الزوج ثم طلقها قبل الدخول ففيه قولان: أحدهما لا يرجع عليها وهو اختير المزني لأن النصف تعجل له بالهبة والثاني يرجع وهو الصحيح لأنه عاد إليه بغير الطلاق فلم يسقط حقه من النصف بالطلاق كما لو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه وإن كان ديناً فأبرأته منه ثم طلقها قبل الدخول فإن قلنا أنه لا يرجع في الهبة لم يرجع في الإبراء وإن قلنا يرجع في الهبة ففي الإبراء وجهان: أحدهما يرجع كما يرجع في الهبة والثاني لا يرجع لأن الإبراء إسقاط لا يفتقر إلى القبول والهبة تمليك تفتقر إلى القبول فإن أصدقها عيناً فوهبتها منه ثم ارتدت قبل الدخول فهل يرجع بالجميع فيه قولان لأن الرجوع بالجميع في الردة كالرجوع بالنصف في الطلاق وإن اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن ووهب البائع الثمن منه ثم وجد بالسلعة عيباً ففي ردها والرجوع بالثمن وجهان بناء على القولين فإن وجد به عيباً وحدث به عند عيب آخر فهل يرجع بالأرش فيه وجهان بناء على القولين: وإن اشترى سلعة ووهبها من البائع ثم أفلس المشتري فللبائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن قولاً واحداً لأن حقه في الثمن ولم يرجع إليه الثمن.

فصل: إذا طلقت المرأة قبل الدخول ووجب لها نصف المهر جاز للذي بيده عقدة النكاح أن يعفو عن النصف لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وفيمن بيده عقد النكاح قولان قال في القديم: هو الولي فيعفو عن النصف الذي لها لأن الله تعالى خاطب الأزواج فقال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ولو كان الزوج لقال: إلا أن يعفون أو تعفو لأنه تقدم ذكر الأزواج وخاطبهم بخطاب الحاضر فلما عدل عن خطابهم دل على أن الذي بيده عقدة النكاح غير الزوج فوجب أن يكون هو الولي وقال في الجديد: هو الزوج فيعفو عن النصف الذي وجب له بالطلاق فأما الولي فلا يملك العفو لأنه حق لها فلا يمللك العفو عنه كسائر ديونها وأما الآية فتحتمل أن يكون المراد به هو الأزواج فخاطبهم بخطاب الحاضر ثم خاطبهم بخطاب الغائب كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] فإذا قلنا إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي لم يصح العفو منه إلا بخمسة شروط: أحدهما أن يكون أباً أو جداً لأنهما لا يتهمان فيما يريان من حظ الولد ومن سواهما متهم والثاني أن تكون المنكوحة بكراً فأما الثيب لا يجوز العفو عن مالها لأنه لا يملك الولي تزويجها والثالث أن يكون العفو بعد الطلاق وأما قبله فلا يجوز لأنه لا حظ لها في العفو قبل الطلاق لأن البضع معرض للتلف فإذا عفا ربما دخل بها فتلفت منفعة بضعها من غير بدل والرابع أن يكون قبل الدخول فأما بعد الدخول فقد أتلف بضعها فلم يجز إسقاط بدله والخامس أن تكون صغيرة أو مجنونة فأما البالغة الرشيدة فلا يملك العفو عن مهرها لأنه لا ولاية عليها في المال. فصل: وإن فوضت بضعها بأن تزوجت وسكت عن المهر أو تزوجت على أن لا مهر لها ففيه قولان: أحدهما لا يجب لها مهر بالعقد وهو الصحيح لأنه لو وجب لها المهر بالعقد لتنصف بالطلاق والثاني يجب لأنه لو لم يجب لم استقر بالدخول ولها أن تطالب بالفرض لأن إخلاء العقد عن المهر خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قلنا يجب بالعقد فرض لها مهر المثل لأن البضع كالمستهلك فضمن بقيمته كالسلعة المستهلكة في يد المشتري ببيع فاسد وإن قلنا لا يجب لها المهر بالعقد فرض لها ما يتفقان عليه لأنه ابتداء إيجاب فكان إليهما كالفرض في العقد ومتى فرض لها مهر المثل أو ما يتفقان عليه صار ذلك كالمسمى في الاستقرار بالدخول والموت والتنصف بالطلاق لأنه مهر مفروض

فصار كالمفروض في العقد وإن لم يفرض لها حتى طلقها لم يجب لها شئ من المهر لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [النساء: 238] فدل على أنه إذا لم يفرض يجب النصف وإن لم يفرض لها حتى وطئها استقر لها مهر المثل لأن الوطء في النكاح من غير مهر خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ماتا أو أحدهم قبل الفرض ففيه قولان: أحدهما لا يجب لها المهر لأنه مفوضة فارقت زوجها قبل الفرض والمسيس فلم يجب لها مهر كما لو طلقت والثاني يجب لها المهر لما روى علقمة قال أتى عبد الله في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يكن فرض لها شيئاً ولم يدخل بها فقال أقول فيها برأيي لها صداق نسائها وعليها العدة ولها بمثل ما قضيت ففرج بذلك ولأن الموت معنى يستقر به المسمى فاستقر به مهر المفوضة كالوطء وإن تزوجت على أن لا مهر لها في الحال ولا في الثاني ففيه وجهان: أحدهما أن النكاح باطل لأن النكاح من غير مهر لم يكن إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصير كما لو نكح نكاحاً ليس له والثاني يصح لأنه يلغي قولها لا مهر لي في الثاني لأنه شرط باطل في الصداق فسقط وبقي العقد فعلى هذا يكون حكمه حكم القسم قبله. فصل: ويعتبر مهر المثل بمهر نساء العصبات لحديث علقمة عن عبد الله وتعتبر بالأقرب فالأقرب منهن وأقربهن الأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام فإن لم يكن لها نساء عصبات اعتبر بأقرب النساء إليها من الأمهات والخالات لأنهن أقرب إليها فإن لم يكن لها أقارب اعتبر بنساء بلدها ثم بأقرب النساء شبهاً بها ويعتبر بمهر من هي على صفتها في الحسن والعقل والعفة واليسار لأنه قيمة متلف فاعتبر فيها الصفات التي يختلف بها العوض والمهر يختلف بهذه الصفات ويجب من نقد البلد كقيم المتلفات. فصل: وإذا أعسر الرجل بالمهر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: إن كان بعد الدخول لم يجز الفسخ لأن البضع صار كالمستهلك بالوطء فلم تفسخ بالإفلاس كالبيع بعد هلاك السلعة ومن أصحابنا من قال: إن كان قبل الدخول ثبت الفسخ وإن كان بعد الدخول ففيه قولان: أحدهما لا يثبت لها الفسخ لما ذكرناه والثاني يثبت لها الفسخ وهو الصحيح لأن البضع لا يتلف بوطء واحد فجاز الفسخ والرجوع إليه ولا يجوز الفسخ إلا بالحاكم لأنه مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب.

فصل: إذا زوج الرجل أبنه الصغير وهو معسر ففيه قولان: قال في القديم يجب المهر على الأب لأنه لما زوجه مع العلم بوجوب المهر والإعسار كان ذلك رضا بالتزامه وقال في الجديد يجب على الابن وهو الصحيح لأن البضع له فكان المهر عليه. فصل: وإن تزوج العبد بإذن المولى فإن كان مكتسباً وجب المهر والنفقة في كسبه لأنه لا يمكن إيجاب ذلك على المولى لأنه لم يضمن ولا في رقبة العبد لأنه وجب برضا من له الحق ولا يمكن إيجابه في ذمته لأنه في مقابلة الاستمتاع فلا يجوز تأخيره عنه فلم يبق إلا الكسب فتعلق به ولا يتعلق إلا بالكسب الحادث بعد العقد فإن كان المهر مؤجلاً تعلق بالكسب الحادث بعد حلوله لأن ما كسبه قبله للمولى ويلزم المولى تمكينه من الكسب بالنهار ومن الاستمتاع بالليل لأن إذنه في النكاح يقتضي ذلك فإن لم يكن مكتسباً وكان مأذوناً له بالتجارة فقد قال في الأم: يتعلق بما في يده فمن أصحابنا من حمله على ظاهره لأنه دين لزمه بعقد أذن فيه المولى فقضى مما في يده كدين التجارة ومن أصحابنا من قال: يتعلق بما يحصل من فضل المال لأن ما في يده للمولى فلا يتعلق به كما لا يتعلق بما في يده من الكسب وإنما يتعلق بما يحدث وحمل كلام الشافعي رحمه الله على ذلك وإن لم يكن مكتسباً ولا مأذوناً له بالتجارة ففيه قولان: أحدهما يتعلق بالمهر والنفقة بذمته يتبع به إذا أعتق لأنه دين لزمه برضا من له الحق فتعلق بذمته كدين القرض فعلى هذا للمرأة أن تفسخ إذا أرادت والثاني يجب في ذمة السيد لأنه لما أذن له في النكاح مع العلم بالحال صار ضامناً للمهر والنفقة وإن تزوج بغير إذن المولى ووطئ فقد قال في الجديد: يجب في ذمته يتبع به إذا أعتق لأنه حق وجب برضا من له الحق فتعلق بذمته كدين القرض وقال في القديم يتعلق برقبته لأن الوطء كالجناية وإن أذن له بالنكاح فنكح نكاحاً فاسداً ففيه قولان: أحدهما أن الإذن يتضمن الصحيح والفاسد لأن الفاسد كالصحيح في المهر والعدة والنسب فعلى هذا حكمه حكم الصحيح وقد بيناه والثاني وهو الصحيح أنه لا يتضمن الفاسد لأن الإذن يقتضي عقداً يملك به فعلى هذا حكمه حكم ما لو تزوج بغير إذنه وقد بيناه.

باب اختلاف الزوجين في الصداق

باب اختلاف الزوجين في الصداق إذا اختلف الزوجان في قدر المهر أو في أجله تحالفا لأنه عقد معاوضة فجاز أن يثبت التحالف في قدر عوضه وأجله كالبيع وإذا تحالفا لم ينفسخ النكح لأن التحالف

يوجب الجهل بالعوض والنكاح لا يبطل بجهالة العوض ويجب مهر المثل لأن المسمى سقط وتعذر الرجوع إلى المعوض فوجب بدله كما لو تحالفا في الثمن بعد هلاك المبيع في يد المشتري وقال أبو على بن خيران: إن زاد مهر المثل على ما تدعيه المرأة لم تجب الزيادة لأنها لم تدعيها وقد بينا فساد قوله في البيع وإن ماتا أو أحدهما قام الوارث مقام الميت لما ذكرناه في البيع فإن اختلف الزوج وولى الصغيرة في قدر المهر ففيه وجهان: أحدهما يحلف الزوج ويوقف يمين المنكوحة إلى أن تبلغ ولا يحلف الولي لأن الإنسان لا يحلف لإثبات الحق لغيره والثاني أنه يحلف وهو الصحيح لأنه باشر العقد فحلف كالوكيل في البيع فإن بلغت المنكوحة قبل التحالف لم يحلف الولي لأنه لا يقبل إقراره عليها فلم يحلف وهذا فيه نظر لأن الوكيل يحلف وإن لم يقبل إقراره وإن ادعت المرأة أنها تزوجت به يوم السبت بعشرين ويوم الأحد بثلاثين وأنكر الزوج أحد العقدين وأقامت المرأة البينة على العقدين وادعت المهرين قضى لها لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم السبت ثم خالعها ثم تزوجها يوم الأحد فلزمه المهران. فصل: وإن اختلفا في قبض المهر فادعاه الزوج وأنكرت المرأة فالقول قولها لأن الأصل عدم القبض وبقاء المهر وإن كان الصداق تعليم سورة فادعى الزوج أنه علمها وأنكرت المرأة فإن كانت لا تحفظ السورة فالقول قولها لأن الأصل عدم التعليم وإن كانت تحفظها ففيه وجهان: أحدهما أن القول قولها لأن الأصل أنه لم يعلمها والثاني أن القول قوله لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره وإن دفع لها شيئاً وادعى أنه دفعه عن الصداق وادعت المرأة أنه هدية فإن اتفقا على أنه لم يتلفظ بشيء فالقول قوله من غير يمين لأن الهدية لم تصح بغير قول وإن اختلفا في اللفظ فادعى الزوج أنه قال هذا عن صداقك وادعت المرأة أنه قال هو هدية فالقول قول الزوج لأن الملك له فإذا اختلفا في انتقاله كان القول في الانتقال قوله كما لو دفع إلى رجل ثوباً فادعى أنه باعه وادعى القابض أنه وهبه له. فصل: وإن اختلفا في الوطء فادعته المرأة وأنكر الزوج فالقول قوله لأن الأصل عدم الوطء فإن أتت بولد يلحقه نسبه ففي المهر قولان: أحدهما يجب لأن إلحاق النسب يقتضي وجود الوطء والثاني لا يجب لأن الولد يلحق بالإمكان والمهر لا يجب إلا بالوطء والأصل عدم الوطء. فصل: وإن أسلم الزوجان قبل الدخول فادعت المرأة أنه سبقها بالإسلام فعليه نصف المهر وادعى الزوج أنها سبقته فلا مهر لها فالقول قول المرأة لأن الأصل بقاء

المهر وإن اتفقا على أن أحدهما سبق ولا يعلم عين السابق منهما فإن كان المهر في يد الزوج لم يجز للمرأة أن تأخذ منه شيئاً لأنها تشك في الاستحقاق وإن كان في يد الزوجة رجع الزوج بنصفه لأنه يتيقن استحقاقه ولا يأخذ من النصف الآخر شيئاً لأنه شك في استحقاقه. فصل: وإن أصدقها عيناً ثم طلقها قبل الدخول وقد حدث بالصداق عيب فقال الزوج حدث بعد ما إلي فعليك أرشه وقالت المرأة بل حدث قبل عوده إليك فلا يلزمني أرشه فالقول قول المرأة لأن الزوج يدعي وقوع الطلاق قبل النقص والأصل عدم الطلاق والمرأة تدعي حدوث النقص قبل الطلاق والأصل عدم النقص فتقابل الأمران فسقطا والأصل براءة ذمتها. فصل: وإذا وطئ امرأة بشبهة أو في نكاح فاسد لزمه المهر لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل" فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن أكرهها على الزنا وجب عليه المهر لأنه وطء سقط فيه الحد عن الموطوءة بشبه والواطئ من أهل الضمان في حقها فوجب عليه المهر كما لو وطئها في نكاح فاسد فإن طاوعته على الزنا نظرت فإن كانت حرة لم يجب لها المهر لما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن وإن كانت أمة لم يجب لها المهر على المنصوص للخبر ومن أصحابنا من قال: يجب لأن المهر حق للسيد فلم يسقط بإذنها كأرش الجناية. فصل: وإن وطئ المرأة وادعت المرأة أنه استكرهها وادعى الواطئ أنها طاوعته ففيه قولان: أحدهما القول قول الواطيء لأن الأصل براءة ذمته والثاني قول الموطوءة لأن الواطئ متلف ويشبه أن يكون القولان مثبتين على القولين في اختلاف رب الدابة وراكبها ورب الأرض وزارعها. فصل: وإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وهو جاهل بالتحريم ففيه قولان: أحدهما لا يجب المهر لأن البضع للسيد وقد أذن له ائتلافه فسقط بدله كما لو أذن له في قطع عضو منها والثاني يجب لأنه وطء سقط عنه الحد للشبه فوجب عليه المهر كما لو وطئ في نكاح فاسد فإن أتت منه بولد ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالمهر لأنه متولد من مأذون فيه فإذا كان في بدل المأذون فيه قولان كذلك

وجب أن يكون في بدل ما تولد منه قولان وقال أبو إسحاق: تجب قيمة الولد يوم سقط قولاً واحداً لأنها تجب بالإحبال ولم يوجد الإذن في الإحبال والطريق الأول أظهر لأنه وإن لم يأذن في الإحبال إلا أنه أذن في سببه إذا طلقت المرأة لم يخل إما أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان قبل الدخول نظرت فإن لم يفرض لها مهر وجب لها المتعة لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] ولأنه لحقها بالنكاح ابتذال وقلت الرغبة فيها بالطلاق فوجب لها المتعة وإن فرض لها المهر لم تجب لها المتعة لأنه لما أوجب بالآية لمن لم يفرض لها دل على أنه لا يجب لمن فرض لها ولأنه حصل لها في مقابلة الابتذال نصف المسمى فقام ذلك مقام المتعة وإن كان بعد الدخول ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب لها المتعة لأنها مطلقة من نكاح لم يخل من عوض فلم تجب لها المتعة كالمسمى لها قبل الدخول وقال في الجديد: تجب لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وكان ذلك في نساء دخل بهن ولأن ما حصل من المهر لها بدل عن الوطء وبقي الابتذال بغير بدل فوجب لها المتعة كالمفوضة قبل الدخول وإن وقعت الفرقة بغير الطلاق نظرت فإن كانت بالموت لم تجب لها المتعة لأن النكاح قد تم بالموت وبلغ منها فلم تجب لها متعة وإن كانت بسبب من جهة أجنبي كالرضاع فحكمه حكم الطلاق في الأقسام الثلاثة لأنه بمنزلة الطلاق في تصنيف المهر فكانت كالطلاق في المتعة وإن كانت بسبب من جهة الزوج كالإسلام والردة والعيان فحكمه حكم الطلاق في الأقسام الثلاثة لأنها فرقة حصلت من جهته فأشبهت الطلاق وإن كانت بسبب من جهة الزوجة كالإسلام والردة والرضاع والفسخ بالإعسار والعيب بالزوجين جميعاً لم تجب لها المتعة لأن المتعة وجت لها لما يلحقها من الابتذال بالعقد وقلة الرغبة فيها بالطلاق وقد حصل ذلك بسبب من جهتها فلم تجب وإن كانت بسبب منها نظرت فإن كانت بخلع أو جعل الطلاق إليها فطلقت كان حكمها حكم المطلقة في الأقسام الثلاثة لأن المغلب فيها جهة الزوج لأنه يمكنه أن يخالعها مع غيرها ويجعل الطلاق إلى غيرها فجعل كالمفرد به وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج فقد قال في موضع لا

متعة لها وقال في موضع لها المتعة فمن أصحابنا من قال هي على قولين: أحدهما لا متعة لها لأن المغلب جهة السيد لأنه يمكنه أن يبيعها من غيره فكان حكمه في سقوط المتعة حكم الزوج في الخلع في وجوب المتعة ولأنه يملك بيعها من غير الزوج فصار اختياره للزوج اختياراً للفرقة والثاني أن لها المتعة لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في العقد فسقط حكمها كما لو وقعت الفرقة من جهة الأجنبي وقال أبو إسحاق: وإن كان مولاها طلب البيع لم تجب لأنه هو الذي اختار الفرقة وإن كان الزوج طلب وجبت لأنه هو الذي اختار الفرقة وحمل القولين على هذه الحالين. فصل: والمستحب أن تكون المتعة خادماً أو مقنعة أو ثلاثين درهماً لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: يستحب أن يمتعها بخادم فإن لم يفعل فبثياب وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: يمتعها بثلاثين درهماً وروي عنه أنه قال: يمتعها بجارية وفي الوجوب وجهان: أحدهما ما يقع عليه اسم المال والثاني وهو المذهب أنه يقدرها الحاكم لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وهل يعتبر بالزوج أو الزوجة فيه وجهان: أحدهما يعتبر بحال الزوج للآية والثاني يعتبر بحالها لأنه بدل عن المهر فاعتبر بها.

باب الوليمة والنثر

باب الوليمة والنثر الطعام الذي يدعى إليه الناس ستة: الوليمة للعرس والخرس للولادة والإعذار للختان والوكيرة للبناء والنقيعة لقدوم المسافر والمأدبة لغير سبب ويستحب ما سوى الوليمة لما فيها من إظهار لنعم الله والشكر عليها واكتساب الأجر والمحبة ولا تجب لأن الإيجاب بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابه وأما وليمة العرس فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال هي واجبة وهو المنصوص لما روى أنس رضي الله عنه قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة1" ومنهم من

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 7، 54. مسلم في كتاب النكاح حديث 79، 80. أبو داود في كتاب النكاح 29. الترمذي في كتاب النكاح باب 10. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 24. الموطأ في كتاب النكاح حديث 47. أحمد في مسنده "3/165".

قال هي مستحبة لأنه طعام لحادث سرور فلم تجب كسائر الولائم ويكره النثر لأن التقاطه دناءة وسخف ولأنه يأخذ قوم دون قوم ويأخذه من غيره أحب. فصل: ومن دعي إلى وليمة وجب عليه الإجابة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها1" ومن أصحابنا من قال هي فرض على الكفاية لأن القصد إظهارها وذلك يحصل بحضور البعض وإن دعي مسلم إلى وليمة ذمي ففيه وجهان: أحدهما تجب الإجابة للخبر والثاني لا تجب لأن الإجابة للتواصل واختلاف الدين يمنع التواصل وإن كانت الوليمة ثلاثة أيام أجاب في اليوم الأول والثاني ويكره الإجابة في اليوم الثالث لما روي أن سعيد بن المسيب رحمه الله دعي مرتين فأجاب ثم دعي الثالثة فحصب الرسول وعن الحسن رحمه الله أنه قال: الدعوى أول يوم حسن والثاني حسن والثالث رياء وسمعة وإن دعاه اثنان ولا يمكنه الجمع بينهما أجاب أسبقها لحق السبق فإن استويا في السبق أجاب أقربهما رحما فإن

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 71. مسلم في كتتتاب النكاح حديث 96 - 98. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 1. الموطأ في كتاب النكاح حديث 49.

استويا في الرحم أجاب أقربهما داراً لأنه من أبواب البر فكان التقديم فيه على ما ذكرناه كصدقة التطوع فإن استويا في ذلك أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فقدم بالقرعة. فصل: وإن دعي موضع فيه دف أجاب لأن الدف يجوز في الوليمة لما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصل بين الحلال والحرام الدف1" فإن دعي إلى موضع فيه منكر من زمر أو خمر فإن قدر على إزالته لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة ولإزالة المنكر وإن لم يقدر على إزالته لم يحضر لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلس على مائدة تدار فيها الخمر وروى نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسمع زمارة راع فوضع إصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول يا نافع أتسمع حتى قلت لا فأخرج أصبعيه من أذنيه ثم رجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع وإن حضر في موضع فيه تماثيل فإن كانت كالشجر جلس وإن كانت على صورة حيوان فإن كانت على بساط يداس أو مخدة يتكأ عليها جلس وإن كانت على حائط أو ستر معلق لم يجلس لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام فقال أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل2" وكان في البيت قرام فيه تمثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التماثيل التي كانت البيت يقطع فتصير كهيئة الشجر ومر بالستر فليقطع منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولأن ما كان كالشجرة فهو كالكتابة والنقوش وما كان على صورة الحيوان على حائط أو ستر فهو كالصنم وما يوطأ فليس كالصنم لأنه غير معظم.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 6. النسائي في كتاب النكاح باب 72. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 20. 2 رواه مسلم في كتاب اللنكاح حديث 106. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 1. أحمد في مسنده "2/507".

فصل: ومن حضر الطعام فإن كان مفطراً ففيه وجهان: أحدهما يلزمه أن يأكل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليأكل وأن كان صائماً فليصل1" والثاني لا يجب لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك2" وإن دعي وهو صائم لم تسقط عنه الإجابة للخبر ولأن القصد التكثير والتبرك بحضوره وذلك يحصل مع الصوم فإن كان الصوم فرضاً لم يفطر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن كان صائماً فليصل" وإن كان تطوعاً فالمستحب أن يفطر لأنه يدخل السرور على من دعاه وإن لم يفطر جاز لأنه قربة فلم يلمه تركها والمستحب لمن فرغ من الطعام أن يدعو لصاحب الطعام لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: "أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وأكل طعامكم الأبرار3".

_ 1 رواه مسلم في كتاب النكاح حديث 150، 106. أبو داود في كتاب الطعمة باب 1. ابن ماجة في كتاب الصيام باب 47. 2 رواه أبو داود في كتاب الأطعمة باب 54. أحمد في مسنده"3/138". 3 رواه البخاري في كتاب الإستعراض باب 12. مسلم في كتاب المساقاة حديث 33. الموطأ في كتاب البيوع حديث 84. ابن ماجة في كتاب الصدقات باب 8.

باب عشرة النساء والقسم

باب عشرة النساء والقسم إذا تزوج امرأة فإن كانت ممن يجامع مثلها وجب تسليمها بالعقد إذا طلب ويجب عليه تسليمها إذا عرضت عليه فإن طالب بها الزوج فسألت الإنظار أنظرت ثلاثة أيام لأنه قريب ولا تنظر أكثر منه لأنه كثير وإن كانت لا يجامع مثلها لصغر أو مرض يرجى زواله لم يجب التسليم إذا طلب الزوج ولا التسلم إذا عرضت عليه لأنها لا تصلح للاستمتاع وإن كانت لا يجامع مثلها لمعنى لا يرجى زواله بأن كانت نضوة الخلق أو بها مرض لا

يرجى زواله وجب التسليم إذا طلب والتسلم إذا عرضت عليه لأن المقصود من مثلها الاستمتاع بها في غير جماع. فصل: وإن كانت الزوجة حرة وجب تسليمها ليلاً ونهاراً لأنه لا حق لغيرها عليها وللزوج أن يسافر بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بنسائه ولا يجوز لها أن تسافر بغير إذن الزوج لأن الاستمتاع مستحق له فلا يجوز تفويته عليه وإن كانت أمة وجب تسليمها بالليل دون النهار لأنها مملوكة عقد على إحدى منفعتيها فلم يجب التسليم في وقتها كما لو لأجرها لخدمة النهار وقال أبو إسحاق لو كان بيدها صنعة كالغزل والنسج وجب تسليمها بالليل والنهار لأنه يمكنها العمل في بيت الزوج والمذهب الأول لأنه قد يحتاج إليه في خدمة غير الصنعة ويجوز للمولى أن يبيعها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لذن لعائشة رضي الله عنها في شراء بريرة وكان لها زوج ويجوز له أن يسافر بها لأنه يملك بيعها فملك السفر بها كغير الزوجة. فصل: ويجوز للزوج أن يجبر امرأته على الغسل من الحيض والنفاس لأن الوطء يقف عليه في غسل الجنابة قولان: أحدهما له أن يجبرها عليه لأن كمال الاستمتاع يقف عليه لأن النفس تعاف من وطء الجنب الثاني ليس له أن يجبرها لأن الوطء لا يقف عليه وفي التنظيف والاستحداد وجهان: أحدهما يملك إجبارها عليه لأن كمال الاستمتاع يقف عليه والثاني لا يملك إجبارها عليه لأن الوطء لا يقف عليه وهل له أن يمنعها من أكل ما يتأذى برائحته ففيه وجهان: أحدهما له منعها لأنه يمنع كمال الاستمتاع والثاني ليس له منعها لأنه لا يمنع الوطء فإن كانت ذمية فله منعها من السكر لأنه يمنع الاستمتاع لأنها تصير كالزق المنفوخ ولأنه لا يأمن أن تجني عليه وهل له أن يمنعها من أكل لحم الخنزير وشرب القليل من الخمر فيه ثلاثة أوجه: أحدها يجوز له منعها لأنه يمنع كمال الاستمتاع والثاني ليس له منعها لأنه لا يمنع الوطء والثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه ليس له منعها من لحم الخنزير لأنه لا يمنع الوطء وله منعها من قليل الخمر لأن السكر يمنع الاستمتاع ولا يمكن التمييز بين ما يسكر وبين ما لا يسكر مع اختلاف الطباع فمنع من الجميع. فصل: وللزوج منع الزوجة من الخروج إلى المساجد وغيرها لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: "حقه عليها أن لا تخرج من بيتها إلى بإذنه فإن فعلت لعنها الله وملائكة الرحمن وملائكة الغضب حتى تئوب أو ترجع" قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالماً

قال: "وإن كان لها ظالماً" ولأن حق الزوج واجب فلا يجوز تركه بما ليس بواجب ويكره منعها من عيادة أبيها إذا أثقل وحضور مواراته إذا مات لأن منعها من ذلك يؤدي إلى النفور ويغريها بالعقوق. فصل: ويجب على الزوج معاشرتها بالمعروف مع كف الأذى لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ويجب عليه بذل ما يجب من حقها من غير مطل لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومن العشرة بالمعروف بذل الحق من غير مطل ولقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" ولا يجب عليه الاستمتاع لأنه حق له فجاز تركه كسكنى الدار المستأجرة ولأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة فلا يمكن إيجابه والمستحب أن لا يعطلها لما روى عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتصوم النهار؟ " قلت: نعم وقال: "تقوم الليل" قلت: نعم قال: "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني1" ولأنه إذا عطلها لا يأمن الفساد ووقوع الشقاق ولا يجمع بين امرأتين في مسكن إلا برضاهما لأن ذلك ليس من العشرة بالمعروف ولأنه يؤدي إلى الخصومة ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى لأنه دناءة وسوء عشرة ولا يستمتع بها إلا بالمعروف فإن كانت نضو الخلق ولم تحتمل الوطء لم يجز وطؤها لما فيه من الأضرار. فصل: ولا يجوز وطؤها في الدبر لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها2" ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الإليتين لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، ِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5] ويجوز وطؤها في الفرج مدبرة لما روى جابر رضي الله عنه قال: قالت اليهود: إذا جامع الرجل امرأته من ورائها جاء ولدها أحول فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 323] قال: يقول يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج.

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 1. مسلم في كتاب النكاح حديث 5. النسائي في كتاب النكاح باب 4. أحمد في مسنده "2/158". 2 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 45. أحمد في مسنده "2/444"

فصل: ويكره العزل لما روت جذامه بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي" {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} فإن كان ذلك في وطء أمته لم يحرم لأن الاستمتاع بها حق له لا حق لها فيه وإن كان في وطء زوجته فإن كانت مملوكة لم يحرم لأنه يلحقه العار باسترقاق ولده منها وإن كانت حرة فإن كان بإذنها جاز لأن الحق لهما وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال والثاني يحرم لنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه. فصل: وتجب على المرأة معاشرة الزوج بالمعروف من كف الأذى كما يجب عليه معاشرتها ويجب عليها بذل ما يجب له من غير مطل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فأبت فبات وهو علها ساخط لعنتها الملائكة حتى تصبح1". فصل: ولا يجب عليها خدمته في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها من الخدم لأن المعقود عليها من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه. فصل: وإن كان له امرأتان أو أكثر فله أن يقسم لهن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لنسائه ولا يجب عليه ذلك لأن القسم لحقه فجاز له تركه وإذا أراد أن يقسم لم يجز أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضى البواقي إلى بقرعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط2" ولأن البداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور وإذا قسم الواحدة بالقرعة أو من غير قرعة لزمه القضاء للبواقي لأنه إذا لم يقضي مال فدخل في الوعيد. فصل: ويقسم المريض والمجبوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم في مرضه لأن القسم يراد للأنس وذلك يحصل مع المرض والجب وإذا كان مجبوباً لا يخاف منه طاف به الولي على نسائه لأنه يحصل لها به الأنس ويقسم للحائض والمريضة والنفساء والمحرمة والمظاهر منها والمولى منها لأن القصد من القسم الإيواء والأنس وذلك يحصل مع هؤلاء وإن كانت مجنونة لا يخاف منها قسم لها لأنه يحصل لها الأنس وإن كان يخاف منها لم يقسم لها لأنها لا تصلح للأنس.

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 85. مسلم في كتاب النكاح حديث 121. أبو داود في كتاب النكاح باب 40.أحمد في مسنده "2/439". 2 رواه النسائي في كتاب عشرة النساء باب 2. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 47. أحمد في مسنده "2/295، 347".

فصل: وإن سافرت المرأة بغير إذن الزوج سقط حقها من القسم والنفقة لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر وإن سافرت بإذنه ففيه قولان: أحدهما لا يسقط لأنها سافرت بإذنه فأشبه إذا سافرت معه والثاني لا يسقط لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد عدم الجميع فسقط ما تعلق به كالثمن لما وجب في مقابلة المبيع سقط بعدمه. فصل: وإن اجتمع عنده وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من نكح حرة على أمة فللحرة ليلتان وللأمة ليلة والحق في قسم الأمة لها دون المولى لأنه يراد لحظها فلم يكن للمولى فيه حق فإن قسم للحرة ليلتين ثم أعتق الأمة فإن كان بعدها أوفاها حقها استأنف القسم لها لأنهما تساويا بعد انقضاء القسم وإن كان قبل أن يوفيها حقها أقام عندها ليلتين لأنه لم يوفها حقها حتى صارت مساوية للحرة فوجب التسوي بينهما وإن قسم للأمة ثم أعتقت فإن كان بعدما أوفى للحرة حقها سوى بينهما وإن كان قبل أن يوفي الحرة حقها لم يزد على ليلة لأنهما تساويا فوجب التسوية بينهما. فصل: وعماد القسم الليل لقوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ: 10] قيل في التفسير الإيواء إلى المساكن ولأن النهار للمعيشة والليل للسكون ولهذا قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل: 86] فإن كانت معيشته بالليل فعماد قسمه النهار لأن نهاره كليل غيره والأولى أن يقسم ليله ليله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق فإن قسم ليلتين أو ثلاثة جاز لأنه في حد القليل وإن زاد على الثلاث لا يجوز من غير رضاهن لأن فيه تغريراً بحقوقهن فإن فعل ذلك لزمه القضاء للبواقي لأنه إذا قضى ما قسم بحق فلأن يقضي ما قسم بغير حق أولى وإذا قسم لها ليلة كان لها الليلة وما يليها من النهار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لكل امرأة يومها وليلتها غير أن سودة وهبت ليلتها لعائشة تبتغي بذلك رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وجمع الله بين ريقي وريقه. فصل: والأولى أن يطوف إلى نسائه في منازلهن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك أحسن في العشرة وأصون لهن وله أن يقيم في موضع ويستدعي واحدة واحدة لأن

المرأة تابعة للزوج في المكان ولهذا يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء وإن كان محبوساً في موضع فإن أمكن حضورها فيه لم يسقط حقها من القسم لأنه يصلح للقسم فصار كالمنزل وإن لم يمكن حضورها فيه سقط القسم لأنه تعذر الاجتماع لعذر وإن كانت له امرأتان في بلدين فأقام في بلد إحداهما فإن لم يقم معها في منزل لم يلزمه القضاء بالمقام في بلد الأخرى لأن المقام في البلد معها ليس بقسم وإن أقام معها في منزلها لزمه القضاء للأخرى لأن القسم لا يسقط باختلاف البلاد كما لا يسقط باختلاف المحال. فصل: ويستحب لمن قسم أن يسوي بينهن في الاستمتاع لأنه أكمل في العدل فإن لم يفعل جاز لأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة ويمكن التسوية بينهن في ذلك ولهذا قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قال ابن عباس رضي الله عنه: تعني في الحب والجماع وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملكه ولا أملكه". فصل: ولا يجوز أن يخرج في ليلتها من عندها فإن مرض غيرها من النساء وخاف أن يموت وأكرهه السلطان جاز أن يخرج لأنه موضع ضرورة وعليه القضاء كما يترك الصلاة إذا أكره إلى تركها وعليه القضاء والأولى أن يقضيها في الوقت الذي خرج لأنه أعدل وإن خرج في آخر الليل وقضاه في أوله جاز لأن الجميع مقصود في القسم فإن دخل على غيرها بالليل فوطئها ثم عاد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يلزمه القضاء بليلة لأن الجماع معظم المقصود والثاني يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها لأنه أقرب إلى التسوية والثالث أنه لا يقضيها بشيء لأن الوطء غير مستحق في القسم وقدره من الزمان لا ينضبط فسقط ويجوز أن يخرج في نهارها للمعيشة ويدخل إلى غيرها ليأخذ شيئاً أو يترك شيئاً ولا يطيل فإن أطال لزمه القضاء لأنه ترك الإيواء المقصود وإن دخل إلى غيرها في حاجه فقبلها جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان يوم أو أقل يوم إلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعاً ويقبل ويلمس فإذا جاء إلى التي هو يومها أقام عندها ولا يجوز أن يطأها لأنه معظم المقصود فلا يجوز في قسم غيرها فإن وطئها وانصرف ففيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه أن يخرج في نهار الموطوءة ويطأها لأنه هو العدل والثاني لا يلزمه شيء لأن الوطء غير مستحق وقدره من الزمان لا ينضبط فسقط وإن كان عنده امرأتان فقسم لإحداهما مدة ثم طلق الأخرى قبل أن يقضيها ثم تزوجها لزمه قضاء حقه لأنه حق تأخر القضاء لعذر وقد زال فوجب كما لو كان عليه دين فأعسر ثم أيسر.

فصل: وإن تزوج امرأة وعنده امرأتان أو ثلاث قطع الدور للجديدة فإن كانت بكراً أقام عندها سبعاً لما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة أن يقيم عند البكر مع الثيب سبعاً قال أنس: ولو شئت أن أرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفعت وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً أو سبعا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة رضي الله عنها وقال: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت" فإن أقام عند البكر سبعاً لم يقض للباقيات شيئاً وإن أقام عند الثيب ثلاثاً لم يقض فإن أقام سبعاً ففيه وجهان: أحدهما يقضي السبع لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن" والثاني يقضي ما زاد على الثلاث لأن الثلاث مستحقة لها فلا يلزمه قضاؤها وإن تزوج العبد أمة وعنده امرأة قضى للجديدة حق العقد وفي قدره وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: هي على النصف كما قلنا في القسم الدائم وقال أبو إسحاق هي كالحرة لأن قسم العقد للزوج فلم يختلف برقها وحريتها بخلاف القسم الدائم لأنه حق لها فاختلف برقها وحريتها وإن تزوج رجل امرأتين وزفتا إليه في وقت واحد أقرع بينهما لتقديم حق العقد كما يقرع للتقديم في القسم الدائم. فصل: وإن أراد السفر بامرأة أو امرأتين أو ثلاث أقرع بينهن فمن خرجت عليها القرعة سافر بها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه فصارت القرعة على عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها فخرجتا معه جميعاً ولا يجوز أن يسافر بواحدة من غير قرعه لأن ذلك ميل وترك للعدل وإن سافر بامرأتين بالقرعة سوى بينهما في القسم كما يسوي بينهما في الحضر فإن كان في سفر طويل لم يلزمه القضاء للمقيمات لأن عائشة رضي الله عنها لم تذكر القضاء ولأن المسافرة اختصت بمشاقة السفر فاختصت بالقسم وإن كان في سفر قصير ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في السفر الطويل والثاني يلزمه لأنه في حكم الحضر وإن سافر ببعضهن بغير قرعة لزمه القضاء للمقيمات لأنه قسم بغير قرعة فلزمه القضاء كما لو سافر ببعضهن بغير قرعة لزمه القضاء للمقيمات لأنه قسم بغير قرعة فلزمه القضاء كما لو قسم لها في الحضر وإن سافر بامرأة بقرعة إلى بلد ثم عن له سفر إلى بلد أبعد يلزمه القضاء لأنه سفر واحدة وقد أقرع له وإن سافر بامرأة بالقرعة وانقضى سفره ثم أقام معها مدة لزمه أن يقضي المدة التي أقام معها بعد انقضاء السفر لأن القرعة إنما تسقط القضاء في قسم السفر وإن كان عنده امرأتان ثم تزوج بامرأتين وزفتا إليه في وقت واحد لزمه أن يقسم لهما حق العقد ولا يقدم إحداهما بغير القرعة فإن أراد السفر قبل أن يقسم لهما أقرع بين الجميع فإن خرجت القرعة لإحدى القديمتين سافر بها فإذا قدم قضى حق العقد للجديدتين وإن خرجت القرعة لإحدى الجديدتين سافر بها ويدخل حق العقد في

قسم السفر لأن القصد من قسم العقد الألفة والاستمتاع وقد حصل ذلك وهل يلزمه أن يقضي للجديدة الأخرى حق العقد فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه كما لا يلزمه في القسم الدائم والثاني وهو قول أبي إسحاق لأنه سافر بها بعد ما استحقت الأخرى حق العقد فلزمه القضاء كما لو كان عنده أربع نسوة فقسم للثلاث ثم سافر بغير الرابعة بالقرعة قبل قضاء حق الرابعة. فصل: ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها لما روت عائشة رضي الله عنها أن سودة وهبت يومها وليلتها لعائشة رضي الله عنها تبتغي بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك إلا برضا الزوج لأن حقه ثابت في استمتاعها فلا تملك نقله إلى غيرها من غير رضاه ويجوز من غير رضى الموهوب لأنه زيادة في حقها ومتى تقسم لها الليلة الموهوبة وجهان: أحدهما تضم إلى ليلتها لأنه اجتمع لها ليلتان فلم يفرق بينهما والثاني تقسم لها في الليلة التي كانت للواهبة لأنها قائمة مقامها فقسم لها في ليلتها ويجوز أن تهب ليلتها للزوج لأن الحق بينهما فإن تركت حقها صار للزوج ثم يجعلها الزوج لمن شاء من نسائه ويجوز أن تهب ليليها لجميع ضرائرها فإن كن ثلاث صار القسم أثلاثاً بين الثلاث وإن وهبت ليلتها ثم رجعت لا يصح الرجوع فيما مضى لأنه هبة اتصل بها القبض ويصح في المستقبل لأنها هبه لم يتصل بها القبض. فصل: وإن كان له إماء لم يكن لهن حق القسم فإن بات عند بعضهن لم يلمه أن يقضي للباقيات لأنه لا حق لهن في استمتاع السيد ولهذا يجوز لهن مطالبته بالفيئة إذا حلف ألا يطأهن ولا خيار له بحبه وتعنينه والمستحب أن لا يعطلهن لأنه إذا عطلهن لم يأمن أن يفجرن وإن كان عنده زوجات وإماء فأقام عند الإماء لم يلزمه القضاء للزوجات لأن القضاء يجب بقسم مستحق وقسم الإماء غير مستحق فلم يجب قضاؤه كما لو بات عند صديق له.

باب النشوز

باب النشوز إذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز وعظها لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} ولا يضربها لأنه يجوز أن يكون ما ظهر منه لضيق صدر من غير جهة الزوج وإن تكرر منها النشوز فله أن يضربها لقوله عز وجل: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]

وإن نشزت مرة فيه قولان: أحدهما أنه يهجرها ولا يضربها لأن العقوبات تختلف باختلاف الجرائم ولهذا ما يستحق بالنشوز لا يستحق بخوف النشوز فكذلك ما يستحق بتكرر النشوز لا يستحق بنشوز مرة والثاني وهو صحيح أن يهجرها وبضربها لأنه يجوز أن يهجرها للنشوز فجاز أن يضربها كما لو تكرر منها فأما الوعظ فهو أن يخوفها بالله عز وجل وبما يلحقها من الضرر بسقوط نفقتها وأما الهجران فهو أن يهجرها في الفراش لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قال لا تضاجعها في فراشك وأما الهجران بالكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام1" وأما الضرب فهو أن يضربها ضرباً غير مبرح ويتجنب المواضع المخوفة والمواضع المستحسنة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بكتاب الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرب غير مبرح2" ولأن القصد التأديب دون الإتلاف والتشويه. فصل: وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز لقوله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} [النساء: 128] وقالت عائشة رضي الله عنها: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتعجل يومها لامرأة أخرى فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 57، 62. مسلم في كتاب البر حديث 23، 25. الترمذي في كتاب البر باب 21، 24. أحمد في مسنده "1/176، 183". 2 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 84. أحمد في مسنده "5/73".

حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] واختلف قوله في الحكمين فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلى بإذنهما وقال في القول الآخر هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض لقوله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين ولم يعتبر رضا الزوجين وروى عبيدة أن علياً رضي الله عنه بعث رجلين فقال لهما: أتريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقال الرجل: أما هذا فلا فقال: كذبت لا والله ولا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي ولأنه وقع الشقاق وأشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا والمستحب أن يكون حكماً من أهله وحكماً من أهله للآية ولأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية فبعث عثمان رضي الله عنه حكماً من أهله وهو ابن عباس رضي الله عنه وحكماً من أهلها وهو معاوية رضي الله عنه ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال وإن كان من غير أهلهما جاز لأنهما في أحد القولين وكيلان وفي الآخر حاكمان وفي الجميع يجوز أن يكونا من غير أهلهما ويجب أن يكونا ذكرين عدلين لأنهما في أحد القولين حاكمان وفي الآخر وكيلان إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق ولا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان فإن قلنا إنهما حاكمان لا يجوز أن يكونا إلا فقيهين وإن قلنا إنهما وكيلين جاز أن يكونا من العامة وإن غاب الزوجان فقلنا إنهما وكيلان نفذ تصرفهما كما ينفذ تصرف الوكيل مع غيبة الموكل وإن قلنا أنهما حاكمان لم ينفذ حكمهما لأن الحكم للغائب لا يجوز وإن جنا لم ينفذ حكم الحكمين لأنهما في أحد القولين وكيلان والوكالة تبطل بجنون الموكل وفي القول الآخر حاكمان إلا أنهما يحكمان للشقاق وبالجنون زال الشقاق.

كتاب الخلع

كتاب الخلع إذا كرهت المرأة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة وخافت أن لا تؤدي حقه جاز أن تخالعه على عوض لقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وروي أن جميلة بنت سهل كانت تحث ثابت بن قيس بن الشماس وكان يضربها فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: لا أنا ولا ثابت وما أعطاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها فأخذ منها فقعدت في بيتها" وإن لم تكره منه شيئاً وتراضيا على الخلع من غير سبب جاز لقوله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] ولأنه رفع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فجاز من غير ضرر كالإقالة في البيع وإن ضربها أو منعها حقها طمعاً في أن تخالعه على شيء من مالها لم يجز لقوله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 29] فإن طلقها في هذه الحال على عوض لم يستحق العوض لأنه عقد معاوضة أكرهت عليه بغير حق فلم يستحق فيه العوض كالبيع فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لأن الرجعة إنما تسقط بالعوض وقد سقط العوض فتثبت الرجعة فيه فإذا زنت لقوله عز وجل: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] فدل على أنها إذا أتت بفاحشة جاز عضلها ليأخذ شيء من مالها والثاني أنه لا يجوز ولا يستحق فيه العوض لأنه خلع أكرهت عليه بمنع الحق فأشبه إذا منعها حقها لتخالعه من غير زنا فأما الآية فقد قيل إنها منسوخة بآية الإمساك في البيوت وهي قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ثم نسخ ذلك بالجلد والرجم ولأنه روي عن قتاده أنه فسر الفاحشة بالنشوز فعلى هذا إذا كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه. فصل: ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة الابن الأصغر بعوض وغير عوض لما روي

عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنما الطلاق بيد الذي يحل له الفرج ولأنه طريق الشهوة فلم يدخل في الولاية ولا يجوز أن يخلع البنت الصغيرة من الزوج بشيء من مالها لأنه يسقط بذلك حقها من المهر والنفقة والاستمتاع فإن خالعها بشيء من مالها لم يستحق ذلك وإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه ومن أصحابنا من قال إذا قلنا إن الذي بيده عقد النكاح هو الولي فله أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها وهذا خطأ لأنه إنما يملك الإبراء على هذا القول بعد الطلاق وهذا الإبراء قبل الطلاق. فصل: ولا يجوز للسفيهة أن تخالع بشيء من مالها لأنها ليست من أهل التصرف في مالها فإن طلقها على شيء من مالها لم يستحق ذلك كما لا يستحق ثمن ما باع منها فإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه ويجوز للأمة أن تخالع زوجها على عوض في ذمتها ويجب دفع العوض من حيث يجب دفع المهر في نكاح العبد لأن العوض في الخلع كالمهر في النكاح فوجب من حيث وجب المهر. فصل: ويصح الخلع مع غير الزوجة وهو أن يقول رجل طلق امرأتك بألف علي وقال أبو ثور: لا يصح لأن بذل العوض في مقابلة ما يحصل لغيره سفه وذلك لا يجوز أن يقول لغيره بع عبدك من فلان بألف علي وهذا خطأ لأنه قد يكون له غرض وهو أن يعلم أنهما على نكاح فاسد أو تخاصم دائم فيبذل العوض ليخلصهما طلباً للثواب كما يبذل العوض لاستنقاذ أسير أو حر في يد من يسترقه بغير حق ويخالف البيع فأنه تمليك يفتقر إلى رضا المشتري فلم يصح بالأجنبي والطلاق إسقاط حق لا يفتقر إلى رضا المرأة فصح بالمالك والأجنبي كالعتق بالمال فإن قال طلق امرأتك على مهرها وأنا ضامن فطلقها بانت ورجع الزوج على الضامن بمهر المثل في قوله الجديد وببدل مهرها في قوله القديم لأنه أزال الملك عن البضع بمال ولم يسلم له وتعذر الرجوع إلى البضع فكان فيما يرجع إليه قولان كما قلنا فيمن يضمن أصدق امرأته مالاً فتلف قبل القبض. فصل: ويجوز الخلع في الحيض لأن المنع من الطلاق في الحيض للضرر الذي يلحقها بتطويل العدة والخلع جعل للضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والتقصير في حق الزوج والضرر بذلك أعظم من الضرر بتطويل العدة فجاز دفع أعظم الضررين بأخفها ويجوز الخلع من غير حاكم لأنه قطع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فلم يفتقر إلى الحاكم كالإقامة في البيع. فصل: ويصح الخلع بلفظ الخلع والطلاق فإن خالعها بصريح الطلاق أو الكناية مع النية فهو طلاق لأنه لا يحتمل غير الطلاق وإن خالعها بصريح الخلع نظرت لأنه لم

ينوبه الطلاق ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع به فرقة وهو قوله في الأم لأنه كناية في الطلاق من غير نية فلم يقع بها فرقة كما لو عريت عن العوض والثاني أنه فسخ وهو قوله في القديم لأنه جعل للفرقة فلا يجوز أن يكون طلاقاً لأن الطلاق لا يقع إلا بصريح أو كناية مع النية والخلع ليس بصريح في الطلاق ولا معه نية الطلاق فوجب أن يكون فسخاً والثالث أنه طلاق وهو قوله في الإملاء وهو اختيار المزني لأنها إنما بذلت العوض للفرقة والفرقة التي يملك إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ فوجب أن يكون طلاقاً فإن قلنا إنه فسخ بصريحه وصريحه الخلع والمفاداة لأن المفاداة ورد بها القرآن والخلع ثبت له العرف فإذا خالعها بأحد هذين اللفظين انفسخ النكاح من غير نية وهل يصح الفسخ بالكناية كالمباراة والتحريم والتحريم وسائر كنايات الطلاق فيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الفسخ لا يصح تعليقة على الصفحات فلم يصح بالكناية كالنكاح والثاني يصح لأنه أحد نوعي الفرقة فأنقسم لفظها إلى الصريح والكناية كالطلاق فعلى هذا إذا خالفها بشيء من الكنايات لم ينفسخ النكاح حتى ينويا واختلف أصحابنا في لفظ الفسخ فمنهم من قال هو كناية لأنه لم يثبت له عرف في فرقة النكاح ومنهم من قال هو صريح لأنه أبلغ في معنى الفسخ من لفظ الخلع وإن خالع بصريح الخلع ونوى به الطلاق فإن قلنا بقوله في الإملاء فهو طلاق لأنه إذا كان طلاقاً من غير نية الطلاق فمع النية أولى وإن قلنا بقوله في القديم ففيه وجهان: أحدهما أنه طلاق لأنه يحتمل الطلاق وقد اقترنت به نية الطلاق والثاني أنه فسخ لأنه على هذا القول صريح في فسخ النكاح فلا يجوز أن يكون كناية في حكم آخر من النكاح كالطلاق لما كان صريحاً في فرقة النكاح لم يجز أن يكون كناية في الظهار. فصل: ويصح الخلع منجزاً بلفظ المعاوضة لما فيه من المعاوضة ويصح معلقاً على شرط لما فيه من الطلاق فأما المنجز بلفظ المعاوضة فهو أن يوقع الفرقة بعوض وذلك مثل أن يقول طلقتك وأنت طالق بألف وتقول المرأة قبلت كما تقول في البيع بعتك هذا بألف ويقول المشتري قبلت أو تقول المرأة طلقني بألف فيقول الزوج طلقتك كما يقول المشتري بعني هذا بألف ويقول البائع بعتك ولا يحتاج أن يعيد في الجواب ذكر الألف لأن الإطلاق يرجع إليه كما يرجع في البيع ولا يصلح الجواب في هذا إلا على الفور كما نقول في البيع ويجوز للزوج أن يرجع في الإيجاب قبل القبول وللمرأة أن ترجع في الاستدعاء قبل الطلاق كما يجوز في البيع وأما غير المنجز فهو أن يعلق الطلاق على

ضمان مال أو دفع مال فإن كان بحرف "إن" بأن قال إن ضمنت لي ألفاً فأنت طالق لم يصح الضمان إلا على الفور لأنه لفظ شرط تحتمل الفور والتراخي إلا أنه لما ذكر العوض صار تمليكاً بعوض فاقتضى الجواب على الفور كالتمليك في المعاوضات وإن قال إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق لم تصح العطية إلى على الفور بحيث يصلح أن تكون جواباً لكلامه لأن العطية ههنا هي القبول ويكفي أن تحضر المال وتأذن في قبضه أخذ أو لم يأخذ لأن اسم العطية يقع عليه وإن لم يأخذ ولهذا يقال أعطيت فلاناً مالاً فلم يأخذه وإن قالت طلقني بألف فقال أنت طالق بألف إن شئت لم يقع الطلاق حتى توجد المشيئة لأنه أضاف إلى ما التزمت المشيئة فلم يقع إلى بها ولا تصح المشيئة إلا بالقول وهو أن تقول على الفور شئت لأن المشيئة وإن كانت بالقلب فإنها لا تعرف إلا بالقول فصار تقديره أنت طالق إن قلت شئت ويصح الرجوع قبل الضمان وقبل العطية وقبل المشيئة كما يجوز فيما عقد بلفظ المعاوضة وإن كان بحرف (متى) و (أي وقت) بأن يقول متى ضمنت لي أو أي وقت ضمنت لأي ألفاً فأنت طالق جاز أن يوجد الضمان على الفور وعلى التراخي والفرق بينه وبين قوله إن ضمنت لي ألفاً أن اللفظ هناك عام في الزمانين ولهذا لو قال إن ضمنت لي الساعة أو إن ضمنت لي غداً جاز فلما اقترن به ذكر العوض جعلناه على الفور قياساً على المعاوضات والعموم يجوز تخصيصه بالقياس وليس كذلك قوله (متى) و (أي وقت) لأنه نص في كل واحد من الزمانين صريح في المنع من التعيين في أحد الزمانين ولهذا لو قال أي وقت أعطيتني الساعة كان محالاً وما يقتضيه الصريح لا يترك بالقياس وإن رجع الزوج في هذا قبل القبول لم يصح لأن حكمه حكم الطلاق المعلق الصفات دون المعاوضات وإن كان بحرف (إذا) بأن قال إذا ضمنت لي ألفاً فأنت طالق فقد ذكر جماعة من أصحابنا أحكمه حكم قوله إن ضمنت لي في القضاء الجواب على الفور وفي جواز الرجوع فيه قبل القبول وعندي أن حكمه حكم (متى) و (أي وقت) لأنه يفيد ما يفيده متى وأي وقت ولهذا إذا قال متى ألقاك جاز أن يقول إذا شئت كما يجوز أن يقول متى شئت وأي وقت شئت بخلاف إن فإنه لو قال متى ألقاك لم يجز أن يقول إن شئت. فصل: ويجوز الخلع بالقليل والكثير والدين والعين والمال والمنفعة لأنه عقد على منفعة لبضع فجاز بما ذكرناه كالنكاح فإن خالعها على أن تكفل ولده عشر سنين وبين مدة الرضاع وقدر النفقة وصفتها فالمنصوص أن يصح فمن أصحابنا من قال فيه قولان

لأنها صفقة جمعت بيعاً وإجارة ومنهم من قال يصح قولاً واحداً لأن الحاجة تدعو إلى الجمع بينهما لأنه إذا أفرد أحدهما لم يمكنه أن يخالع على الآخر وفي غير الخلع يمكنه أن يفرد أحدهما ثم يعقد على الآخر وإن مات الولد بعد الرضاع ففي النفقة وجهان: أحدهما أنها تحل لأنها تأجلت لأجله وقد مات والثاني أنها لا تحل لأن الدين إنما يحل بمن عليه دون من له. فصل: وإن خالعها خلعاً منجزاً على عوض ملك العوض على العقد وضمن بالقبض كالصداق فإن كان عيناً فهلكت قبل القبض أو خرج مستحقاً أو على عبد فخرج حراً أو على خل فخرج خمراً رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل المسمى في قوله القديم كما قلنا في الصداق وإن خالعها على أن ترضع ولده فمات فهو كالعين إذا هلكت قبل القبض وإن مات الولد ففيه قولان: أحدهما يسقط الرضاع ولا يقوم غير الولد مقامه لأنه عقد في قوله الجديد وإلى أجرة الرضاع في قوله القديم والقول الثاني أنه لا يسقط الرضاع بل يأتيها بولد آخر لترضعه لأن المنفعة باقية وإن مات المستوفي قام غيره مقامه كما لو اكترى ظهراً ومات فإن الوارث يقوم مقامه فعلى هذا إن لم يأت بولد آخر حتى مضت المدة ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع عليها لأنها مكنته من الاستيفاء فأشبه إذا أجرته داراً وسلمتها إليه ولم يسكنها والثاني يرجع عليها لأن المعقود عليه تحت يدها فتلف من ضمانها كما لو باعت منه شيئاً وتلف قبل أن يسلم فعلى هذا يرجع بمهر المثل في قوله الجديد وبأجرة الرضاع في قوله القديم وإن خالعه على خياطة ثوب فتلف الثوب فهل تسقط الخياطة أو يأتيها بثوب آخر لتخيطه فيه وجهان بناء على القولين في الرضاع. فصل: ويجوز رد العوض فيه بالعيب لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب فثبت فيه الرد بالعيب كالبيع والصداق فإن كان العقد على عين بأن طلقها على ثوب أو قال إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق فأعطته ووجد به عيباً فرده رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل العين سليماً في قوله القديم كما ذكرناه في الصداق وإن كان الخلع منجزاً على عوض موصوف في الذمة فأعطته ووجده معيباً فرده طالب بمثله سليماً كما قلنا فيمن أسلم في ثوب وقبضه ووجده معيباً فرده وإن قال إن دفعت إلي عبداً من صفته كذا وكذا فأنت طالق فدفعت إليه عبداً على تلك الصفة طلقت فإن وجده معيباً فرده رجع في قوله الجديد إلى مهر المثل وإلى بدل العبد في قوله القديم لأنه تعين بالطلاق فصار كما لو خالعها على عين فردها بالعيب ويخالف إذا كان موصوفاً في الذمة

في خلع منجز فقبضه ووجد فيه عيباً فرده لأنه لم يتعين بالعقد ولا بالطلاق فرجع إلى ما في الذمة وإن خالعها على عين على أنها على صفة فخرجت على دون تلك الصفة ثبت له الرد كما قلنا في البيع فإذا رده رجع إلى مهر المثل في أحد القولين وإلى بدل المشروط في القول الآخر كما قلنا فيما رده بالعيب. فصل: ولا يجوز الخلع على محرم ولا على ما فيه غرر كالمجهول ولا ما لم يتم ملكه عليه ولا ما لا يقدر على تسليمه لأنه عقد معاوضة فلم يجز على ما ذكرناه كالبيع والنكاح فإن طلقها على شيء من ذلك وقع الطلاق لأن الطلاق يصح مع عدم العوض فصح مع فساده كالنكاح ويرجع عليها بمهر المثل لأنه تعذر رد البضع فوجب رد بدله كما قلنا فيمن تزوج على خمر أو خنزير فإن خالعها بشرط فاسد بأن قالت طلقني بألف بشرط أن تطلق ضرتي فطلقها وقع الطلاق ويرجع عليها بمهر المثل لأن الشرط فاسد فإذا سقط وجب إسقاط ما زيد في البدل لأجله وهو مجهول فصار العوض فيه مجهولاً فوجب مهر المثل فإن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق على ألف ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه تعليق طلاق بشرط والثاني لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع فعلى هذا إذا وجد الشرط وقع الطلاق ورجع عليها بمهر المثل. فصل: فإذا خالع امرأته لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق لأنه لا يملك بضعها فلم يلحقها طلاقه كالأجنبية ولا يملك رجعتها في العدة وقال أبو ثور: إن كان بلفظ الطلاق فله أن يراجعها لأن الرجعة من مقتضى الطلاق بل يسقط بالعوض كالولاء في العتق وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا وهب بعوض فإن الرجوع من مقتضى الهبة وقد سقط بالعوض ويخالف الولاء فإن إثباته لا يملك ما اعتاض عليه من الرق وبإثبات الرجعة يملك من اعتاض عليه من البضع. فصل: وإن طلقها بدينار على أن له الرجعة سقط الدينار وثبتت له الرجعة وقال المزني يسقط الدينار والرجعة ويجب مهر المثل كما قال الشافعي فيمن خالع امرأة على عوض وشرطت المرأة أنها متى شاءت استرجعت العوض وثبتت الرجعة أن العوض يسقط ولا تثبت الرجعة وهذا خطأ لأن الدينار والرجعة شرطان متعارضان فسقطا وبقي طلاق مجرد فثبتت معه الرجعة فأما المسألة التي ذكرها الشافعي رحمه الله فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين ومنهم من قال لا تثبت الرجعة هناك لأنه قطع الرجعة في الحال وإنما شرطت أن تعود فلم تعد وههنا لم يقطع الرجعة فثبتت.

فصل: وإن وكلت المرأة في الخلع ولم تقدر العوض فخالع الوكيل بأكثر من المثل لم يلزمها إلا مهر المثل لأن المسمى عوض فاسد بمقتضى الوكالة فسقط ولزم مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد فإن قدر العوض بمائه فخالع عنها على أكثر منها ففيه قولان: أحدهما يلزمها مهر المثل لما ذكرناه والثاني يلزمها أكثر الأمرين من مهر المثل أو المائة فإن كان مهر المثل أكثر وجب لأن المسمى سقط لفساده ووجب مهر المثل وإن كانت المائة أكثر وجبت لأنها رضيت بها وأما الوكيل فإنه إن ضمن العوض في ذمته رجع الزوج عليه بالزيادة لأنه ضمنها بالعقد وإن لم يضمن بأن أضاف إلى مال الزوجة لم يرجع عليه بشيء فإن خالع على خمر أو خنزير وجب مهر المثل لأن المسمى سقط فوجب مهر المثل فإن وكل الزوج في الخلع ولم يقدر العوض فخالع الوكيل بأقل من مهر المثل فقد نص فيه على قولين: قال في الإملاء يقع ويرجع عليه بمهر المثل وقال في الأم الزوج بالخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائناً وبين أن يرده ويكون الطلاق رجعياً وقال فيمن وكل وقدر العوض فخالع على أقل منه أن الطلاق لا يقع فمن أصحابنا من نقل القولين في الوكالة المطلقة إلى الوكالة التي قدر فيها العوض والقول في الوكالة التي قدر فيها العوض إلى الوكالة المطلقة وهو الصحيح عندي لأن الوكالة المطلقة تقتضي المنع من النقصان عن المقدر فيكون في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع الطلاق لأنه طلاق أوقعه على غير الوجه المأذون فيه فلم يقع كما لو وكله في الطلاق في يوم فأوقعه في يوم آخر والثاني أنه يقع الطلاق بائناً ويجب مهر المثل لأن الطلاق مأذون فيه فإذا وقع لم يرد والمسمى فاسد فوجب مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد والثالث أن الطلاق يقع لأنه مأذون فيه وإنما قصر في البدل فثبت له الخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائناً وبين أن يرد ويكون الطلاق رجعياً لأنه لا يمكن إجبار الزوج على المسمى لأنه دون المأذون فيه ولا يمكن إجبارها على مهر المثل فيما أطلق ولا على الذي نص عليه من المقدر لأنها لم ترض به فخير بين الأمرين ليزول الضرر عنهما ومن أصحابنا من قال فيما قدر العوض فيه لا يقع الطلاق لأنه خالف نصه وفيما أطلق يقع الطلاق لأنه لم يخالف نصه وإنما خالفه من جهة الاجتهاد وهذا يبطل بالوكيل في البيع فأنه لا فرق بين أن يقدر له الثمن فباع بأقل منه وبين أن يطلق فباع بما دون ثمن المثل وإذا خالعها على خمر أو خنزير لم يقع الطلاق لأنه طلاق غير مأذون فيه فيخالف وكيل المرأة فأنه لا ويقع الطلاق وإنما يقبله فإذا كان العوض فاسداً سقط ورجع إلى مهر المثل.

فصل: وإذا خالع امرأة في مرضه ومات لم يعتبر البدل من الثلث سواء حابى أو لم يحاب لأنه لا حق للورثة في بضع المرأة ولهذا لو طلق من غير عوض لم تعتبر قيمة البضع من الثلث فإن خالعت المرأة زوجها في مرضها وماتت فإن لم يزد العوض على مهر المثل اعتبر من رأس المال لأن الذي بذلت بقيمة ما ملكته فأشبه إذا اشترت متاعاً بثمن المثل وإن زاد على مهر المثل اعتبرت الزيادة من الثلث لأنه لا يقابلها بدل فاعتبرت من الثلث كالهبة فإن خالعت على عبد قيمته مائة ومهر مثلها خمسون فقد حابت بنصفه فلم يخرج النصف من الثلث بأن كان عليها ديون تستغرق قيمة العبد فالزوج بالخيار بين أن يقر العقد في العبد فيستحق نصفه وبين أن يفسخ العقد فيه ويستحق مهر المثل ويضرب به مع الغرماء لأن الصفقة تبعضت عليه وإن خرج النصف من الثلث أخذ جميع العبد نصفه بمهر المثل ونصفه بالمحاباة ومن أصحابنا من قال هو بالخيار بين أن يقر العقد في العقد بين أن يفسخ العقد فيه ويستحق مهر المثل لأنه تبعضت عليه الصفقة من طريق الحكم لأنه دخل على أن يكون جميع العبد له عوضاً وقد صار نصفه عوضاً ونصفه وصية والمذهب الأول لأن الخيار إنما يثبت بتبعيض الصفة لما يلحقه من الضرر لسوء المشاركة ولا ضرر عليها ههنا لأنه صار جميع العبد له فلم يثبت له الخيار.

ألفاً فأنت طالق ثلاثاً فأعطته بعض الألف لم يقع شئ لأن ما كان من جهته طريقه الصفات ولم توجد الصفة فلم يقع وما كان من جهتها طريقه الأعواض فقسم على عدد الطلاق وإن بقيت له على امرأته طلقة فقالت له طلقني ثلاثاً ولك علي ألف فطلقها واحدة فالمنصوص أنه يستحق الألف واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس وأبو إسحاق المسألة مفروضة في امرأة علمت أنه لم يبق له لا طلقة فيكون معنى قولها طلقني ثلاثاً أي كمل لي الثلاث كرجل أعطى رجل نصف درهم فقال له أعطني درهماً أي كمل لي درهماً وأما إذا ظنت أن لها الثلاث لم يجب أكثر من ثلث الألف لأنها بذلت الألف في مقابلة الثلاث فوجب أن يكون لكل طلقة ثلث الألف ومن أصحابنا من قال يستحق الألف بكل حال لأن القصد من الثلاث تحريمها إلى أن تنكح زوجاً غيره وذلك يحصل بهذه السلفة فاستحق بها الجميع وقال المزني رحمه الله: لا يستحق إلا ثلث الألف علمت أو لم تعلم لأن التحريم يتعلق بها وبطلقتين قبلها كما إذا شرب ثلاث أقداح فسكر كان السكر بثلاث وإذا فقأ عين الأعور كان العمى بفقء الباقية وبالمفقوءة قبلها وهذا خطأ لأن لكل قدح تأثيراً في السكر ولذهاب العين الأولى تأثيراً في العمى ولا تأثير للأولى والثانية في التحريم لأنه لو كان لهما تأثير في التحريم لكمل لأنه لا يتبعض وإن ملك عليها ثلاث تطليقات فقالت له طلقني بألف فطلقها ثلاثاً استحق الألف لأنه فعل ما طلبته وزيادة فصار كما لو قال من رد عبدي فلاناً فله دينار فرده مع عبدين آخرين فإن قالت طلقني عشراً بألف فطلقها واحدة ففيه وجهان: أحدهما يجب عشر الألف لأنها جعلت لكل طلقه عشر الألف والثاني يجب له ثلث الألف لأنه ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم وإن طلقها ثلاثاً فله على الوجه الأول ثلاثة أعشار الألف وعلى الوجه الثاني له جميع الألف وإن بقيت له طلقة فقالت له: طلقني ثلاثاً على ألف طلقة أحرم بها عليك وطلقتين في نكاح آخر إذا نكحتني فطلقها لثلاث وقعت طلقة ولا يصح ما زاد لأنه سلف في الطلاق ولأنه طلاق قبل النكاح فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق فقال المسمى ووجب مهر المثل وإن قلنا نفرق الصفقة ففيما يستحق قولان: أحدهما ثلث الألف والثاني جميع الألف كما قلنا في البيع. فصل: وإن قالت أنت طالق على ألف وطالق وطالق لم تقع الثانية والثالثة لأنها بانت بالأولى وإن قالت أنت طالق وطالق وطالق على الألف وقال أردت الأولى بالألف لم يقع ما بعدها لأنها بانت بالأولى وإن قال أردت الثانية بالألف فإن قلنا يصح خلع الرجعية وقعت الأولى رجعية وبانت بالثانية ولم تقع الثالثة وإن قلنا لا يصح خلع الرجعية وقعت

الأولى رجعية أو الثانية رجعية وبانت الثالثة وإذا قال أردت الثالثة بالألف فقد ذكر بعض أصحابنا أنه يصح ويستحق الألف قولاً واحداً لأنه يحصل بالثالثة من التحريم ما لا يحصل بغيرها وعندي أنه لا يستحق الألف على القول الذي يقول أنه لا يصح خلع الرجعية لأن الخلع يصادف رجعية وإن قال أردت الثلاث بالألف لم تقع الثانية والثالثة لأن الأولى وقعت بثلث الألف وبانت بها فلم يقع ما بعدها. فصل: وإن قال أنت طالق وعليك ألف طلقت ولا يستحق عليها شيئاً لأنه أوقع الطلاق من غير عوض ثم استأنف إيجاب العوض من غير طلاق فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجع لأنه طلق من غير عوض وإن قال أنت طالق على أن عليك ألفاً فقبلت صح الخلع ووجب المال لأن تقديره أنت طالق على ألف فإذا قبلت وقع الطلاق ووجب المال. فصل: إذا قالت إن دفعت لي ألف درهم فأنت طالق فإن نويا صنفاً من الدراهم صح الخلع وحمل الألف على ما نويا لأنه عوض معلوم وإن لم ينويا صنفاً نظرت فإن كان في موضع فيه نقد غالب حمل العقد عليه لأن إطلاق العوض يقتضي نقد البلد كما تقول في البيع وإن لم يكن فيه نقد غالب فدفعت إليه ألف درهم بالعدد دون الوزن لم تطلق لأن الدراهم في عرف الشرع بالوزن وإن دفعت إليه ألف درهم نقرة لم تطلق لأنه لا يطلق اسم الدراهم على النقرة وإن دفعت إليه ألف درهم فضة طلقت لوجود الصفة ويجب ردها لأن العقد وقع على عوض مجهول ويرجع بمهر المثل لأنه تعذر الرجوع إلى المعوض فوجب بدله وإن دفعت إليه دراهم مغشوشة فإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم طلقت لوجود الصفة وإن كانت الفضة فيها ألف درهم لم تطلق لأن الدراهم لم تطلق إلا على الفضة. فصل: وإن قال أعطيتني عبداً فأنت طالق فأعطته عبداً تملكه طلقت سليماً كان أم معيباً قناً أو مدبراً لأن اسم العبد يقع عليه ويجب رده والرجوع بمهر المثل لأنه عقد وقع على مجهول وإن دفعت إليه مكاتباً أو مغصوباً لم تطلق لأنها لا تملك العقد عليه وإن قال إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق فأعطته وهو مغصوب ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها لا تطلق كما لو خالعها على عبد غير معين فأعطته عبداً مغصوباً والثاني وهو المذهب أنها تطلق لأنها أعطته ما عينه ويخالف إذا خالعها على عبد غير معين لأن هناك أطلق العقد فحمل على ما يقتضيه العقد والعقد يقتضي دفع عبد تملكه.

فصل: وإن اختلف الزوجان فقال الزوج طلقتك على مال وأنكرت المرأة بانت بإقراره ولم يلزمها المال لأن الأصل عدمه وإن قال طلقتك بعوض فقالت طلقني بعوض بعد مضي الخيار بانت بإقراره والقول في العوض قولها لأن الأصل براءة ذمتها وإن اختلفا في قدر العوض أو في عينة أو صفته أو في تعجيله أو تأجيله تحالفا لأنه عوض في عقد معاوضة فتحالفا فيه على ما ذكرناه كالبيع فإذا تحالفا لم يرتفع الطلاق وسقط المسمى ووجب مهر المثل كما لو اختلفا في ثمن السلعة بعدما تلفت في يد المشتري وإن خالعها على ألف درهم واختلفا فيما نويا فادعى أحدهما صنفاً وادعى الأخر صنفاً آخر تحالفا ومن أصحابنا من قال لا يصح للاختلاف في النية لأن ضمائر القلوب لا تعلم والأول هو المذهب لأنه لما جاز أن تكون النية كاللفظ في صحة العقد عند الاتفاق وجب أن تكون كالفظ عند الاختلاف ولأنه قد يكون بينهما أمارات يعرف بها ما في القلوب ولهذا يصح الاختلاف في كنايات القذف والطلاق وإن قال أحدهما خالعت على ألف درهم وقال الآخر خالعت على ألف مطلق تحالفا لأن أحدهما يدعي الدراهم والأخر يدعي مهر المثل وإن بقيت له طلقة فقالت له طلقني ثلاثاً على ألف فطلقها قلنا أنها إن علمت ما بقي استحق الألف وإن لم تعلم لم يستحق إلا ثلث الألف وإن اختلفا فقالت المرأة نعم أعلم وقال الزوج: بل علمت تحالفا ورجع الزوج إلى مهر المثل لأنه اختلاف في عوض الطلقة وهي تقول بذلت ثلث الألف في مقابلتها وهو يقول بذلت الألف. فصل: وإن قال خالعتك على ألف وقالت بل خالعت غيري بانت المرأة لاتفاقهما على الخلع والقول في العوض قولها لأنه يدعي عليها حقاً والأصل عدمه وإن قالت خالعتك على ألف وقالت خالعتني على ألف ضمنها عني زيد لزمها الألف لأنها أقرت به ولا شيء على زيد إلا أن يقر به وإن قال خالعتك على ألف في ذمتك فقالت بل خالعتني على ألف لي في ذمة زيد تحالفا لأن الزوج يدعي عوضاً في ذمتها وهي تدعي عوضاً في ذمة غيرها وصار كما لو ادعى أحدهما أن العوض عنده وادعى أخر أنه عند الآخر.

المجلد الثالث

المجلد الثالث كتاب الطلاق مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطلاق يصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار فأما غير الزوج فلا يصح طلاقه وإن قال إذا تزوجت امرأة فهي طالق لم يصح لما روى المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك1". وأما الصبي فلا يصح طلاقه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق2". فأما من لا يعقل فإنه لم يعقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمجنون والمريض ومن شرب دواء للتداوي فزال عقله أو أكره على شرب الخمر حتى سكر لم يقع طلاقه لأنه نص في الخبر على النائم والمجنون وقسنا عليهما الباقين وإن لم يعقل بسبب لا يعذر فيه كمن شرب الخمر لغير عذر فسكر أو شرب دواء لغير حاجة فزال عقله فالمنصوص في السكران أنه يصح طلاقه وروى المزني أنه قال في القديم: لا يصح ظهاره والطلاق والظهار واحد فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يصح وهو اختيار المزني وأبي ثور لأنه زائل العقل فأشبه النائم أو مفقود الإرادة فأشبه بالمكره والثاني: أنه يصح وهو الصحيح لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن وطلحة والزبير رضي الله عنهم فقلت: إن خالداً يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فقال عمرهم هؤلاء عندك

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 7، الترمذي في كتاب الطلاق باب 6، ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 17، أحمد في مسنده 2/190. 2 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 17، أحمد في مسنده 1/116.

فاسألهم فقال علي عليه السلام: "تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة". فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال فجعلوه كالصاحي ومنهم من قال يصح طلاقه قولا واحدا ولعل ما رواه المزني حكاه الشافعي رحمه الله عن غيره وفي علته ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس إن سكره لا يعلم إلا منه وهو متهم في دعوى السكر لفسقه فعلى هذا يقع الطلاق في الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل والثاني: أنه يقع طلاقه تغليظاً عليه لمعصيته فعلى هذا يصح ما فيه تغليظ كالطلاق والعتق والردة وما يوجب الحد ولا يصح ما فيه تخفيف كالنكاح والرجعة وقبول الهبات والثالث أنه لما كان سكره بمعصية أسقط حكمه فجعل كالصاحي فعلى هذا يصح منه الجميع وهذا هو الصحيح لأن الشافعي رحمه الله نص على صحة رجعته. فصل: وأما المكره فإنه ينظر فإن كان إكراهه بحق كالمولى إذا أكرهه الحاكم على الطلاق وقع طلاقه لأنه قول حمل عليه بحق فصح كالحربي إذا أكره على الإسلام وإن كان بغير حق لم يصح لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه1". ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح كالمسلم إذا أكره على كلمة الكفر ولا يصير مكرهاً إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون المكره قاهراً له لا يقدر على دفعه والثاني: أن يغلب على ظنه أن الذي يخافه من جهته يقع به والثالث: أن يكون به ما يهدده به مما يلحقه ضرر به كالقتل والقطع والضرب المبرح والحبس الطويل والاستحقاق بمن يغض منه ذلك من ذوي الأقدار لأنه يصير مكرها بذلك وأما الضرب القليل في حق من لا يبالي به والاستخفاف بمن لا يغض منه أو أخذ القليل من المال ممن لا يتبين عليه أو الحبس القليل فليس بإكراه وأما النفي فإن كان فيه تفريق بينه وبين الأهل فهو إكراه وإن لم يكن فيه تفريق بينه وبين الأهل ففيه وجهان: أحدهما: أنه إكراه لأنه جعل النفي عقوبة كالحد

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب 16.

ولأنه تلحقه الوحشة بمفارقة الوطن والثاني: ليس بإكراه لتساوي البلاد في حقه وإذا أكره على الطلاق فنوى الإيقاع ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع لأن اللفظ يسقط حكمه بالإكراه وبقيت النية من غير لفظ فلم يقع بها الطلاق والثاني: أنه يقع لأنه صار بالنية مختاراً. فصل: وإن قال الأعمى لامرأته أنت طالق وهولا يعرف معناه ولا نوى موجبه لم يقع الطلاق كما لو تكلم بكلمة الكفر وهولا يعرف معناه ولم يرد موجبه وإن أراد موجبه بالعربية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الماوردي البصري أنه يقع لأنه قصد موجبه فلزمه حكمه والثاني: وهو قول الشيخ أبي أحمد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يصح كما لا يصير كافراً إذا تكلم بالكفر وأراد موجبه بالعربية. فصل: ويملك الحر ثلاث تطليقات لما روى أبو رزين الأسدي قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فأين الثلاث؟ قال: تسريح بإحسان الثالثة ويملك العبد طلقتين لما روى الشافعي رحمه الله أن مكاتبا لأم سليمة طلق امرأته وهي حرة تطليقتين وأراد أن يراجعها فأمره أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان رضي الله عنه فيسأله فذهب إليه فوجده آخذاً بيد زيد بن ثابت فسألهما عن ذلك فابتدراه وقالا حرمت عليك حرمت عليك. فصل: ويقع الطلاق على أربعة أوجه: واجب ومستحب ومحرم ومكروه فأما الواجب فهو في حالتين: أحدهما: إذا وقع الشقاق ورأى الحكمان الطلاق وقد بيناه في النشوز والثاني: إذا آلى منهما ولم يفئ إليهما ونذكره في الإيلاء إن شاء الله تعالى وأما المستحب فهو في حالتين: إحداهما إن كان يقصر في حقها في العشرة أوفي غيرها فالمستحب أن يطلقها لقوله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ولأنه إذا لم يطلقها في هذه الحال لم يؤمن أن يفضي إلى الشقاق أو إلى الفساد والثاني: أن لا تكون المرأة عفيفة فالمستحب أن يطلقها لما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن إمرأتي لا ترد يد لامس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلقها". ولأنه لا يأمن أن تفسد عليه الفراش وتلحق به نسبا ليس منه.

فصل: وأما المحرم فهو طلاق البدعة وهو إثنان: أحدهما: طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل والثاني: طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل والدليل عليه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي حائض فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده مرة أخرى ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده أخرى ثم يمسكها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء ولأنه إذا طلقها في الحيض أضر بها في تطويل العدة وإذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل لم يأمن أن تكون حاملاً فيندم على مفارقتها مع الولد لأنه لا يعلم هل علقت بالوطء فتكون عدتها بالحمل أولم تعلق فتكون عدتها بالإقراء وأما طلاق غير المدخول بها في الحيض فليس بطلاق بدعة لأنه لا يوجد تطويل العدة فأما طلاقها في الحيض وهي حامل على القول الذي يقول إن الحامل تحيض فليس ببدعة وقال أبو إسحاق هو بدعة لأنه طلاق في الحيض والمذهب الأول لما روى سالم أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل" ولأن الحامل تعتد بالحمل فلا يؤثر الحيض في تطويل عدتها وأما طلاق من لا تحمل في الطهر المجامع فيه وهي الصغيرة الآيسة من الحيض فليس ببدعة لأن تحريم الطلاق للندم على الولد أو للريبة بما تعتد به من الحمل والأقراء وهذا لا يوجد في حق الصغيرة والآيسة وأما طلاقها بعدما استبان حملها فليس ببدعة لأن المنع للندم على الولد وقد علم بالولد أو للإرتياب بما تعدت به وقد زال ذلك بالحمل وإن طلقها في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه وقع الطلاق لأن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها فدل على أن الطلاق وقع والمستحب أن يراجعها لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه بالرجعة يزول المعنى الذي لأجله حرم الطلاق وإن لم يراجعها جاز لأن الرجعة إما أن تكون كابتداء النكاح أو كبقاء على النكاح ولا يجب واحد منهما. فصل: وأما المكروه من الطلاق من غير سنة ولا بدعة والدليل عليه ما روى محارب ابن دثار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق1". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 3، ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 1.

طريقة فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها". فصل: وإذا أراد الطلاق فالمستحب أن يطلقها طلقة واحدة لأنه يمكنه تلافيها وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف فإن عند أبي حنيفة لا يجوز جمعها ولأنه يسلم من الندم وإن جمعها في طهر واحد جاز لما روي أن عويمر العجلاني قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن امرأته كذبت عليها إن أمسكتها فهي طالق ثلاثاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها". ولو كان جمع الثلاث محرماً لأنكر عليه فإن جمع الثلاث أو أكثر بكلمة واحدة وقع الثلاث لما روى الشافعي رحمه الله أن ركانة ابن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة" فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلولم يقع الثلاث إذا أراده بهذا اللفظ لم يكن لاستحلافه معنى وروي أن رجلاً قال لعثمان رضي الله عنه إني طلقت امرأتي مائة فقال ثلاث يحرمنها وسبعة وتسعون عدوان وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل طلق امرأته ألفاً فقال ثلاث منهن يحرمن عليه وما بقي فعليه وزره. فصل: ويجوز أن يفوض الطلاق إلى امرأته لما روت عائشة رضي الله عنها قالت:

لما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير بنسائه بدأ بي فقال: "إني مخبرك خبرا وما أحب أن تصنعي شيئا حتى تستأمري أبويك " ثم قال: إن الله تعالى قا ل: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} إلى قوله: {مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28 - 29] فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلته وإذا فوض الطلاق إليها فالمنصوص أن لها أن تطلق ما لم يتفرقا عن المجلس أو يحدث ما يقطع ذلك وهو قول أبي العباس ابن القاص وقال أبو إسحاق لا تطلق إلا على الفور لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فكان القبول فيه على الفور كالبيع وحمل قول الشافعي رحمه الله أنه أراد مجلس الخيار لا مجلس القعود وله أن يرجع فيه قبل أن تطلق وقال أبوعلي ابن خيران ليس له أن يرجع لأنه طلاق معلق بصفة فلم يجز الرجوع فيه كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق وهذا خطأ لأنه ليس بطلاق معلق بصفة وإنما هو تمليك يفتقر إلى القبول يصح الرجوع فيه قبل القبول كالبيع وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت واحدة وقعت لأن من ملك إيقاع ثلاث طلقات ملك إيقاع طلقة كالزوج إذا بقيت له طلقة طلق ثلاثا وإن قال لوكيله طلق امرأتي جاز أن يطلق متى شاء لأنه توكيل مطلق فلم يقتض التصرف على الفور كما لو وكله في بيع وإن قال له طلق امرأتي ثلاثاً فطلقها طلقة أو قال طلق امرأتي واحدة فطلقها ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالزوجة في المسألتين والثاني: لا يقع لأنه فعل غير ما وكل فيه. فصل: وتصح إضافة الطلاق إلى جزء من المرأة كالثلث والربع واليد والشعر لأنه لا يتبعض وكان إضافته إلى الجزء كالإضافة إلى الجميع كالعفو عن القصاص وفي كيفية وقوعه وجهان: أحدهما: يقع على الجميع اللفظ لأنه لما لم يتبعض كان تسمية البعض كتسمية الجميع والثاني: أنه يقع على الجزء المسمى ثم يسري لأن الذي سماه هو البعض ولا يجوز إضافته إلى الريق والحمل لأنه ليس بجزء منها وإنما هو مجاور لها وإن قال بياضك طالق أو سوادك طالق أو لونك طالق ففيه وجهان: أحدهما: يقع لأنه من جملة الذات التي لا ينفصل عنها فهو كالأعضاء والثاني: لا يقع لأنها أعراض تحل في الذات. فصل: ويجوز إضافة الطلاق إلى الزوج بأن يقول لها أنا منك طالق أو يجعل الطلاق إليها فتقول أنت طالق لأنه أحد الزوجين فجاز إضافة الطلاق إليه كالزوجة واختلف أصحابنا في إضافة العتق إلى المولى فمنهم من قال يصح وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنه إزالة ملك يجوز بالصريح والكناية فجاز إضافته إلى المالك كالطلاق وقال

أكثر أصحبنا لا يصح والفرق بينه وبين الطلاق أن الطلاق يحل النكاح وهما مشتركان في النكاح والعتق يحل الرق والرق يختص به العبد. والله أعلم.

باب ما يقع به الطلاق وما لا يقع

باب ما يقع به الطلاق وما لا يقع لا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية مع النية فإن نوى الطلاق من غير صريح ولا كناية لم يقع الطلاق لأن التحريم في الشرع علق على الطلاق ونية الطلاق ليست بطلاق ولأن إيقاع الطلاق بالنية لا يثبت إلا بأصل أو بالقياس على ما ثبت بأصل وليس ههنا أصل ولا قياس على ما ثبت بأصل فلم يثبت. فصل: والصريح ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح لأن الطلاق ثبت له عرف الشرع واللغة والسراح والفراق ثبت لهما عرف الشرع فإنهما ورد بهما القرآن فإذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك أو أنت مطلقة أو سرحتك أو أنت مسرحة أو فارقتك أو أنت مفارقة وقع الطلاق من غير نية فإن خاطبها بأحد هذه الألفاظ ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها لم يقبل لأنه يدعي خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق وقال أردت طلاقاً من وثاق أو قال سرحتك وقال أردت تسريحا من اليد أو قال فارقتك وقال أردت فراقاً بالجسم لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه فإن علمت المرأة صدقه فيما دين فيه الزوج جاز لها أن تقيم معه وإن رآهما الحاكم على الاجتماع ففيه وجهان: أحدهما: يفرق بينهما بحكم الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر". والثاني: لا يفرق بينهما لأنهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع وإن قال أنت طالق من وثاق أو سرحتك من اليد أو فارقتك بجسمي لم تطلق لأنه اتصل بالكلام ما يصرف اللفظ عن حقيقته ولهذا إذ قال لفلان علي عشرة إلا خمسة لم يلزمه عشرة وإذا قال: لا إله إلا الله لم يجعل كافرا بابتداء كلامه وإن قال: أنت طالق ثم قال قلته هازلاً وقع الطلاق ولم يدن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة"1.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 9، الترمذي في كتاب الطلاق باب 9، ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 13.

فصل: قال في الإملاء: لو قال له رجل طلقت امرأتك فقال نعم طلقت عليه في الحال لأن الجواب يرجع إلى السؤال فيصير كما لو قال طلقت ولهذا لو كان هذا جواباً عن دعوى لكان صريحا في الإقرار وإن قال أردت به في نكاح قبله فإن كان لما قاله أصل قبل منه لأن اللفظ يحتمله وإن لم يكن له أصل لم يقبل لأنه يسقط حكم اللفظ وإن قال له أطلقت امرأتك فقال له قد كان بعض ذلك وقال أردت أني كنت علقت طلاقها بصفة قبل منه لأنه يحتمله اللفظ وإن قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك لم تطلق لأن قوله أنت طالق لولا أبوك ليس بإيقاع طلاق وإنما هو يمين بالطلاق وأنه لولا أبوها لطلقها فتصير كما لو قال والله لولا أبوك لطلقتك. فصل: وأما الكناية فهي كثيرة وهي الألفاظ التي تشبه الطلاق وتدل على الفراق وذلك مثل قوله: أنت بائن وخلية وبرية وبتة وبتلة وحرة وواحدة وبيني وابتدعي واغربي واذهبي واستفلحي والحقي بأهلك وحبلك على غاربك واستتري وتقنعي واعتدي وتزوجي وذوقي وتجرعي وما أشبه ذلك فإن خاطبها بشيء من ذلك ونوى به الطلاق وقع وإن لم ينولم يقع لأنه يحتمل الطلاق وغيره فإذا نوى به الطلاق صار طلاقا وإذا لم ينوبه الطلاق لم يصر طلاقاً كالإمساك عن الطعام والشراب لما احتمل الصوم وغيره إذا نوى به الصوم صار صوما وإذا لم ينوبه الصوم لم يصر صوما وإن قال أنا منك طالق أو جعل الطلاق إليها فقالت طلقتك أو أنت طالق فهو كناية يقع به الطلاق مع النية ولا يقع من غير

نية لأن استعمال هذا اللفظ في الزوج غير متعارف وإنما يقع به الطلاق مع النية من جهة المعنى فلم يقع به من غير نية كسائر الكنايات وإن قال له رجل ألك زوجة فقال لا فإن لم ينوبه الطلاق لم تطلق لأنه ليس بصريح وإن نوى به الطلاق وقع لأنه يحتمل الطلاق. فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه النية في الكنايات فمنهم من قال إذا قارنت النية بعض اللفظ من أوله أومن آخره وقع الطلاق كما أن في الصلاة إذا قارنت النية جزءاً منها صحت الصلاة ومنهم من قال لا تصح حتى تقارن إليه جميعها وهو أن ينوي ويطلق عقيبها وهو ظاهر النص لأن بعض اللفظ لا يصلح للطلاق فلم تعمل النية معه فأما الصلاة فلا تصح حتى تقارن النية جميعها بأن ينوي الصلاة ويكبر عقيبها ومتى خلا جزء من التكبير عن النية لم تصلح صلاته. فصل: وأما ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق من الألفاظ كقوله اقعدي واقربي واطعمي واسقيني وما أحسنك وبارك الله فيك وما أشبه ذلك فإنه لا يقع به الطلاق وإن نوى لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو أوقعنا الطلاق لأوقعناه بمجرد النية وقد بينا أن الطلاق لا يقع بمجرد النية. فصل: واختلف أصحابنا في قوله أنت الطلاق فمنهم من قال هو كناية فإن نوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق وأقام المصدر مقام الفاعل كقوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أراد غائرا. وإن لم ينولم يقع لأن قوله أنت الطلاق لا يقتضي وقوع الطلاق ومنهم من قال هو صريح ويقع به الطلاق من غير نية لأن لفظ الطلاق يستعمل في معنى طالق والدليل عليه قول الشاعر: أنوهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاما فعاما فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما وقال آخر: فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق آلم فأنت الطلاق والطلاق عزيمة ... ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم فبيني بها إن كنت غير رفيقة ... فما لامرئ بعد الثلاثة مقدم فصل: واختلفوا فيمن قال لامرأته كلي واشربي ونوى الطلاق فمنهم من قال لا يقع

وهو قول أبي اسحق لأنه لا يدل على الطلاق فلم يقع به الطلاق كما لو قال أطعميني واسقيني ومنهم من قال يقع وهو الصحيح لأنه يحتمل معنى الطلاق وهو أن يريد كلي ألم الفراق واشربي كأس الفراق فوقع به الطلاق مع النية كقوله ذوقي وتجرعي. فصل: إذا قال لامرأته اختاري أو أمرك بيدك فقالت اخترت لم يقع الطلاق حتى ينويا لأنه كناية لأنها تحتمل الطلاق وغيره فلم يقع به الطلاق حتى يتفقا على نية الطلاق وإن قال اختاري ونوى اختيار الطلاق أو قال أمرك بيدي ونوى تمليك أمر الطلاق فقالت اخترت الزوج لم يقع الطلاق لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم تجعل ذلك طلاقا ولأن اختيار الزوج اختيار النكاح لا يحتمل غيره فلم يقع به الطلاق فإن قالت اخترت نفسي لم يقع الطلاق حتى تنوي الطلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه اخترت نفسي للنكاح ويحتمل اخترت نفسي للطلاق ولهذا لو صرحت به جاز فلم يقع به الطلاق من غير نية وإن قالت اخترت الأزواج ونوت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقع لأن الزوج من الأزواج والثاني: يقع وهو الأظهر عندي لأنها لا تحل للأزواج إلا بمفارقته كما لو قال لها الزوج تزوجي ونوى به الطلاق وإن قالت اخترت أبوي ونوت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق لأن اختيار الأبوين لا يقتضي فراق الزوج والثاني: أنه يقع لأنه يتضمن العود إليهما بالطلاق فصار كقوله الحقي بأهلك وإن قال لها أمرك بيدك ونوى به إيقاع الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق لأنه صريح في تمليك الطلاق وتعليقه على قبولها فلم يجز صرفه إلى الإيقاع والثاني: أنه يقع لأن اللفظ يحتمل الإيقاع فهو كقوله حبلك على غاربك. فصل: إذا قال لامرأته أنت علي حرام ونوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل التحريم بالطلاق وإن نوى به الظهار فهو ظهار لأنه يحتمل التحريم بالظهار ولا يكون ظهارا ولا طلاقاً من غير نية لأنه ليس بصريح في واحد منهما وإن نوى تحريم عينها لم تحرم لما روى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} إلى آخر الآية ويجب عليه بذلك كفارة يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية القبطية أم إبراهيم

ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] فوجبت الكفارة في الأمة بالآية وقسنا الحرة عليها لأنها في معناها في تحليل البضع وتحريمه وإن قال أنت علي حرام ولم ينو شيئاً ففيه قولان: أحدهما: تجب عليه الكفارة فعلى هذا يكون هذا اللفظ صريحاً في إيجاب الكفارة لأن كل كفارة وجبت بالكناية مع النية كان لوجوبها صريح ككفارة الظهار والثاني: لا يجب فعلى هذا لا يكون هذا اللفظ صريحاً في شيء لأن ما كان كناية في جنس لا يكون صريحاً في ذلك الجنس ككنايات الطلاق وإن قال لأمته أنت علي حرام فإن نوى به العتق كان عتقاً لأنه يحتمل أنه أراد تحريمها بالعتق وإن نوى الظهار لم يكن ظهاراً لأن الظهار لا يصح من الأمة وإن نوى تحريم عينها لم تحرم ووجب عليه كفارة يمين لما ذكرناه وإن لم يكن له نية ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يجب عليه الكفارة قولاً واحدا لعموم الآية ومنهم من قال فيه قولان كالقولين في الزوجة لما ذكرناه وإن كان له نسوة أو إماء فقال أنتن علي حرام ففي الكفارة قولان: أحدهما: يجب لكل واحدة كفارة والثاني: يجب كفارة واحدة كالقولين فيمن ظاهر من نسوة وإن قال لامرأته أنت علي كالميتة والدم فإن نوى به الطلاق فهو طلاق وإن نوى به الظهار فهو ظهار وإن نوى به تحريمها لم تحرم وعليه كفارة يمين لما ذكرناه في لفظ التحريم وإن لم ينو شيئاً فإن قلنا إن لفظ التحريم صريح في إيجاب الكفارة لزمته الكفارة لأن ذلك كناية عنه وإن قلنا إنه كناية لم يلزم شيء لأن الكناية لا يكون لها كناية. فصل: إذا كتب طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينولم يقع الطلاق لأن الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط فلم يقع الطلاق بمجردها وإن نوى به الطلاق ففيه قولان: قال في الإملاء لا يقع به الطلاق لأنه فعل ممن يقدر على القول فلم يقع به الطلاق كالإشارة وقال في الأم هو طلاق وهو صحيح لأنها حروف يفهم منها الطلاق فجاز أن يقع بها الطلاق كالنطق فإذا قلنا بهذا فهل يقع بها الطلاق من الحاضر والغائب فيه وجهان: أحدهما: أنه يقع بها إلا في حق الغائب لأنه جعل في العرف لإفهام الغائب كما جعلت الإشارة لإفهام الأخرس ثم لا يقع الطلاق بالإشارة إلا في حق الأخرس وكذلك لا يقع الطلاق بالكتابة إلا في حق الغائب والثاني: أنه يقع بها من الجميع لأنها كناية فاستوى فيها الحاضر والغائب كسائر الكنايات. فصل: فإن أشار إلى الطلاق فإن كان لا يقدر على الكلام كالأخرس صح طلاقه

بالإشارة وتكون إشارته صريحاً لأنه لا طريق له إلى الطلاق إلا بالإشارة وحاجته إلى الطلاق كحاجته غيره فقامت الإشارة مقام العبارة وإن كان قادراً على الكلام لم يصح طلاقه بالإشارة لأن الإشارة إلى الطلاق ليست بطلاق إنما قامت مقام العبارة في حق الأخرس لموضع الضرورة ولا ضرورة ههنا فلم تقم مقام العبارة.

باب عدد الطلاق والاستثناء فيه

باب عدد الطلاق والاستثناء فيه إذا خاطب امرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق كقوله أنت طالق أو بائن أو بتة أو ما أشبهها ونوى طلقتين أو ثلاثاً وقع لما روي أن ركانة ابن عبد يزيد قال: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فدل على أنه لو أراد ما زاد على واحدة لوقع ولأن اللفظ يحتمل العدد بدليل أنه يجوز أن يفسره به وهو أن يقول أنت طالق طلقتين أو ثلاثاً أو بائن بطلقتين وثلاث وما احتمله اللفظ إذا نواه وقع به الطلاق كالكناية وإن قال أنت واحدة ونوى طلقتين أو ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: يقع لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق واحدة مع واحدة أو مع اثنتين والثاني: لا يقع ما زاد على واحدة لأنه صريح في واحدة ولا يحتمل ما زاد فلو أوقعنا ما زاد لكان إيقاع طلاق بالنية من غير لفظ وذلك لا يجوز وإن قال لها اختاري وقالت المرأة اخترت اتفقا على عدد ونوياه وقع ما نوياه وإن اختلفا فنوى أحدهما: طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع ما زاد على طلقة لأن الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وإيقاع المرأة وإذا نوى أحدهما: طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع لأنه لم يوجد الإذن والإيقاع إلا في طلقة فلم يقع ما زاد. فصل: وإن قال أنت وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق الثلاث لم يقع شيء لأن قوله أنت ليس من ألفاظ الطلاق فلو أوقعنا الطلاق لكان بالنية في بيان العدد وإن قال أردت بعدد الإصبعين المقبوضتين قبل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق وأشار بالأصابع ولم يقل هكذا وقال أردت واحدة ولم أرد العدد قبل لأنه يحتمل ما يدعيه. فصل: وإن قال أنت طالق واحدة في اثنتين نظرت فإن نوى طلقة واحدة مع اثنتين وقعت ثلاث لأن في تستعمل بمعنى مع والدليل عليه قوله عز وجل: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29 - 30] والمراد مع عبادي فإن لم يكن له نية نظرت فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب طلقت طلقة واحدة بقوله أنت طالق

ولا يقع بقوله في اثنتين شيء لأنه لا يعرف مقتضاه فلم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهولا يعرف معناه وإن نوى مقتضاه في الحساب ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبو بكر الصيرفي أنه يقع طلقتان لأنه أراد موجبه في الحساب وموجبه في الحساب طلقتان والثاني: وهو المذهب أنه لا يقع إلا طلقة واحدة لأنه إذا لم يعلم مقتضاه لم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهولا يعلم وقال أردت مقتضاه في العربية فإن كان عالماً في الحساب نظرت فإن نوى موجبه في الحساب طلقت طلقتين لأن موجبه في الحساب طلقتان وإن قال أردت واحدة في اثنتين باقيتين طلقت واحدة لأنه يحتمل ما يدعيه كقوله له عندي ثوب في منديل وأراد في منديل وإن لم يكن له نية فالمنصوص أنها تطلق طلقة لأن هذا اللفظ غير متعارف عند الناس ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين ويحتمل طلقة في طلقتين باقيتين فلا أن يوقع بالشك وقال أبو إسحاق يحتمل أن تطلق طلقتين لأنه عالم بالحساب ويعلم أن الواحدة في اثنتين طلقتان في الحساب. فصل: وإن قال أنت طالق طلقة بل طلقتان ففيه وجهان: أحدهما: يقع طلقتان كما إذا قال له علي درهم بل درهمان لزمه درهمان والثاني: يقع الثلاث والفرق بينه وبين الإقرار أن الإقرار إخبار يحتمل التكرار فجاز أن يدخل الدرهم في الخبرين والطلاق إيقاع فلا يجوز أن يوقع الطلاق الواحد مرتين فحمل على طلاق مستأنف ولهذا لو أقر بدرهم في يوم ثم أقر بدرهم في يوم آخر لم يلزمه إلا درهم ولو طلقها في يوم ثم طلقها في يوم آخر كانتا طلقتين. فصل: وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثاً وقع الثلاث لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجمع كما لو قيل ذلك للمدخول بها وإن قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم يكن له نية وقعت الأولى دون الثانية والثالثة وحكي عن الشافعي رحمه الله في القديم أنه قال يقع الثلاث فمن أصحابنا من جعل ذلك قولاً واحداً وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأن الكلام إذ لم ينقطع ارتبط بعضه ببعض فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثا وقال أكثر أصحابنا لا يقع أكثر من طلقة وما حكي عن القديم إنما هو حكاية عن مالك رحمه الله ليس بمذهب له لأنه تقدمت الأولى فبانت بها فلم يقع ما بعدها. فصل: وإن قال للمدخول بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق نظرت فإن كان أراد به التأكيد لم يقع أكثر من طلقة لأن التكرار يحتمل التأكيد وإن أراد الإستئناف وقع بكل لفظة طلقة لأنه يحمل الاستئناف وإن أراد بالثاني التأكيد وبالثالث الاستئناف وقع

طلقتان وإن لم يكن له نية ففيه قولان: قال في الإملاء: يقع طلقة لأنه يحتمل التكرار والاستئناف فلا يقع ما زاد على طلقة بالشك وقال في الأم: يقع الثلاث لأن اللفظ الثاني والثالث كاللفظ الأول فإذا وقع بالأول طلاق وجب أن يقع بالثاني والثالث مثله وأما إذا غاير بينها في الحروف بأن قال أنت طالق وطالق ثم طالق ولم يكن له نية وقع بكل لفظة طلقة لأن المغايرة بينها في اللفظ تسقط حكم التأكيد فإن ادعى أنه أراد التأكيد لم يقبل في الحكم لأنه يخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق وطالق وطالق وقع بالأول طلقة وبالثاني طلقة لتغاير اللفظين ويرجع في الثالث إليه لأنه لم يغاير بينه وبين الثاني فهو كقوله أنت طالق أنت طالق وإن غاير بين الألفاظ ولم يغاير بالحروف بأن قال أنت طالق أنت مسرحة أنت مفارقة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم المغايرة في الحروف لأنه إذا تغير الحكم بالمغايرة بالحروف فلأن يتغير بالمغايرة في لفظ الطلاق أولى والثاني: أن حكمه حكم اللفظ الواحد لأن الحروف هي العاملة في اللفظ وبها يعرف الاستئناف ولم توجد المغايرة في الحروف. فصل: وإن قال أنت طالق بعض طلقة وقعت طلقة لأن ما يتبعض من الطلاق كان تسمية بعضه كتسمية جميعه كما لو قال بعضك طالق وإن قال أنت طالق نصفي طلقة وقعت طلقة لأن نصفي طلقة هي طلقة وإن قال أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقع طلقتان لأن ثلاثة أنصاف طلقة طلقة ونصف فكمل النصف فصار طلقتين والثاني: تطلق طلقة لأنه أضاف الأنصاف الثلاثة إلى طلقة وليس للطلقة إلا نصفان فألغى النصف الثالث وإن قال أنت طالق نصفي طلقتين وقعت طلقتان لأنه يقع من كل طلقة نصفها ثم يسري فيصير طلقتين وإن قال أنت طالق نصف طلقتين ففيه وجهان: أحدهما: تقع طلقة واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة والثاني: أنه تقع طلقتان لأنه يقتضي النصف من كل واحدة منهما ثم يكمل النصفان فيصير الجميع طلقتين وإن قال أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة طلقت طلقة واحدة لأنها أجزاء الطلقة وإن قال أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة وقع ثلاث طلقات لأن بدخول حروف العطف وقع بكل جزء طلقة وسرى إلى الباقي وإن قال أنت نصف طالق طلقت كما لو قال نصفك طالق وإن قال أنت نصف طلقة ففيه وجهان: أحدهما: أنه كناية فلا يقع بإطلاق من غير نية والثاني: أنه صريح فيقع به طلقة بناء على الوجهين فيمن قال لامرأته أنت الطلاق. فصل: وإن كان له أربع نسوة فقال أوقعت عليكن أو بينكن طلقة طلقت كل واحدة

منهن طلقة لأنه يخص كل واحدة منهن ربع طلقة وتكمل بالسراية وإذا قال أوقعت عليكن أو بينكن طلقتين أو ثلاثاً أو أربعاً وقع على كل واحدة طلقة لأنه إذا قسم بينهن لم يزد نصيب كل واحدة منهن على طلقة وإن قال أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين وقع على كل واحدة طلقتان وإن قال أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات وقع على كل واحدة ثلاث طلقات لأنه مقر على نفسه بما فيه تغليظ واللفظ محتمل له وإن قال أوقعت عليكن خمساً وقع على كل واحدة طلقتان لأنه يصيب كل واحدة طلقة وربع وكذلك إن قال أوقعت عليكن ستاً أو سبعاً أو ثمانيا وإن قال أوقعت عليكن تسعاً طلقت كل واحدة ثلاثا وإن قال أوقعت بينكن نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة طلقت كل واحدة ثلاثاً لأنه لما عطف وجب أن يقسم كل جزء من ذلك بينهن ثم يكمل. فصل: وإن قال أنت طالق ملء الدنيا أو أنت طالق أطول الطلاق أو أعرضه وقعت طلقة لأن شيئاً من ذلك لا يقتضي العدد وقد تتصف الطلقة الواحدة بذلك كله. فصل: وإن قال أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه وقعت طلقة لأنه قد تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه لتعجلها أو لحبه لها أو لحبها له فلم يقع ما زاد بالشك وإن قال أنت طالق كل الطلاق أو أكثره وقع الثلاث لأنه كل الطلاق وأكثره. فصل: وإن قال للمدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقة طلقت طلقتين لأن الجميع يصادف الزوجية وإن قال أردت بعدها طلقة أوقعها لم يقبل في الحكم لأن الظاهر أنه طلاق ناجز ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقعت طلقتان وفي كيفية وقوع ما قبلها وجهان: قال أبوعلي ابن أبي هريرة: يقع مع التي أوقعها لأن إيقاعها فيما قبلها إيقاع طلاق في زمان ماض فلم يعتبر كما لو قال أنت طالق أمس وقال أبو إسحاق يقع قبلها اعتباراً بموجب لفظه كما لو قال أنت طالق قبل موتي بشهر ثم مات بعد شهر ويخالف قوله أنت طالق أمس لأنا لو أوقعناه في أمس تقدم الوقوع على الإيقاع وههنا يقع الطلاقان بعد الإيقاع وإن قال أردت بقولي قبلها طلقة في نكاح قبله فإن كان لما قاله أصل قبل منه لأنه يحتمل ما يدعيه وإن لم يكن له أصل لم يقبل منه لأنه لا يحتمل ما يدعيه. فصل: وإن قال لها أنت طالق طلقة قبلها طلقة وبعدها طلقة طلقت ثلاثا على ما ذكرناه وإن قال لها أنت طالق طلقة وبعدها طلقة طلقت ثلاثاً لأنه يقع بقوله أنت طالق طلقة ويقع قبلها نصف طلقة وبعدها نصف طلقة ثم يكمل النصفان فيصير الجميع ثلاثا.

فصل: وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقة لم تقع الثانية لأنها بائن بالأولى فلم تقع الثانية وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق لأن وقوع طلقة عليها يوجب وقوع طلقة قبلها ووقوع ما قبلها يمنع وقوعها فيما نعا بالدور وسقطا والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تطلق ليس شيء لأن وقوع طلقة قبلها ما قبلها يوجب إسقاطها وإسقاط ما قبلها فوجب إثباتها وإسقاط ما قبلها وإن قال أنت طالق طلقة معها طلقة ففيه وجهان: أحدهما: أنها تطلق واحدة وهو قول المزني لأنه أفردها فجاز كما لو قال أنت طالق واحدة بعدها واحدة والوجه الثاني أنها تطلق طلقتين لأنهما يجتمعان في الوقوع فلا تتقدم إحداهما على الأخرى فهو كما لو قال أنت طالق طلقتين وإن قال أنت طالق طلقتين ونصفا طلقت طلقتين لأنه جمع بين الطلقتين في الإيقاع فبانت بهما ثم أوقع النصف بعدما بانت فلم يقع. فصل: إذا قال لامرأته أنت طالق طلقة لا تقع عليك طلقت لأنه أوقع الطلاق ثم أراد رفعه والطلاق إذا وقع لم يرتفع وإن قال أنت طالق أولا لم تطلق لأنه ليس بإيقاع. فصل: ويصح الاستثناء في الطلاق لأنه لغة العرب ونزل به القرآن وحروفه إلا وغير وخلا وسوى وعدا وحاشى فإذا قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وقعت طلقتان وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين وقعت طلقة وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً طلقت ثلاثاً لأن الاستثناء يرفع المستثنى منه فيسقط وبقي الثلاث وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين وطلقة ففيه وجهان: أحدهما: يقع الثلاث لأنه استثنى ثلاثا من ثلاث والثاني: تقع طلقة لأن الاستثناء الثاني هو الباطل فسقط وبقي الاستثناء الأول وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة طلقت ثلاثا لأنه يبقى طلقتان ونصف ثم يسري النصف إلى الباقي فيصير ثلاثاً وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة واحدة وقعت طلقة لأن المعطوف على الاستثناء مضموم إلى الاستثناء ولهذا إذا قال له علي مائة إلا خمسة وعشرين ضمت الخمسة إلى العشرين في الاستثناء ولزمه ما بقي وإن قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ففيه وجهان: أحدهما: تطلق طلقة لأن الواو في الإسمين المنفردين كالتثنية فيصير كما لو قال أنت طالق طلقتين إلا طلقة والثاني: وهو المنصوص أنها تطلق طلقتين لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلقة واستثناء طلقة من طلقة باطل فسقط وبقي طلقتان وإن قدم الاستثناء على المستثنى منه بأن قال أنت إلا واحدة طالق ثلاثاً فقد قال بعض أصحابنا أنه لا يصح الاستثناء فيقع الثلاث لأن الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم من كلامه ويحتمل عندي أنه يصح الاستثناء فيقع طلقتان لأن التقديم والتأخير في ذلك لغة العرب قال الفرزدق يمدح

هشام بن إبراهيم بن المغيرة خال هشام بن عبد الملك: وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه تقديره وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبو الممدوح. فصل: ويصح الاستثناء من الاستثناء لقوله عز وجل: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 58 - 60] فاستثنى آل لوط من المجرمين واستثنى من آل لوط امرأته وإذ قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين إلا طلقة طلقت طلقتين لأن تقديره أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين فلا يقعان إلا طلقة فتقع وإن قال أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: أنها تطلق ثلاثاً لأنه لا يقع من الخمس إلا ثلاث فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً والثاني: أنها تطلق طلقتين لأنه لما وصل بالاستثناء علم أنه قصد الحساب وإن قلت أنت طالق خمساً إلا اثنتين طلقت على الوجه الأول طلقة وعلى الوجه الثاني تطلق ثلاثا وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقع الثلاث لأن الاستثناء الأول يرفع المستثنى منه فيبطل والاستثناء الثاني فرع عليه فسقط وبقي الثلاث والثاني: تطلق طلقتين لأنه لما وصله بالاستثناء صار كأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا ثم أثبت اثنتين والثالث تقع طلقة لأن الاستثناء الأول لا يصح فسقط وبقي الاستثناء الثاني فيصير كما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين. فصل: وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدة وقال أبوها شئت واحدة لم تطلق لأن الاستثناء من الإثبات نفي فيصير تقديره أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدة فلا يقع طلاق. فصل: وإن قال امرأتي طالق أو عبدي حر أو لله علي كذا أو والله لأفعلن كذا إن شاء الله أو بمشيئة الله أو ما لم يشأ الله لم يصح شيء من ذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ثم قال إن شاء الله كان له ثنيا1 ". وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث2". ولأنه علق هذه الأشياء على مشيئة الله تعالى ومشيئته لا تعلم فلم يلزم بالشك شيء وإن قال أنت طالق إلا أن يشاء الله ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق لأنه مقيد بمشيئة الله تعالى فأشب

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 6. 2 رواه البخاري في كتاب الكفارات باب 9، مسلم في كتاب الأيمان حديث، 23. الترمذي في كتاب النذور باب 7. النسائي في كتاب الأيمان باب 43. الموطأ في كتاب النذور حديث 10.

الطلاق وعلق رفعه بمشيئة الله تعالى ومشيئة الله لا تعلم فسقط حكم رفعه وبقي حكم ثبوته ويخالف إذا قال أنت طالق إن شاء الله فإنه علق الوقوع على مشيئة الله تعالى. فصل: ولا يصح الاستثناء في جميع ما ذكرناه إلا أن يكون متصلاً بالكلام فإن انفصل عن الكلام من غير عذر لم يصح لأن العرف في الاستثناء أن يتصل بالكلام فإن انفصل لضيق النفس صح الاستثناء لأنه كالمتصل في العرف ولا يصح إلا أن يقصد إليه فأما إذا كانت عادته في كلامه أن يقول إن شاء الله فقال إن شاء الله على عادته لم يكن استثناء لأنه لم يقصده واختلف أصحابنا في وقت نية الاستثناء فمنهم من قال لا يصح إلا أن يكون ينوي ذلك من ابتداء الكلام ومنهم من قال إذا نوى قبل الفراغ من الكلام جاز. فصل: إذا قال يا زانية أنت طالق إن شاء الله أو أنت طالق يا زانية إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الطلاق ولا يرجع إلى قوله يا زانية لأن الطلاق إيقاع فجاز تعليقه بالمشيئة وقوله يا زانية صفة فلا يصح تعليقها بالمشيئة ولهذا يصح أن يقول أنت طالق إن شاء الله ولا يصح إن يقول أنت زانية إن شاء الله وإن كانت له امرأتان حفصة وعمرة فقال حفصة وعمرة طالقان إن شاء الله لم تطلق واحدة منهما وإن قال حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله فقد قال بعض أصحابنا تطلق حفصة ولا تطلق عمرة لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلاق عمرة ويحتمل عندي أن لا تطلق واحدة منهما لأن المجموع بالواو كالجملة الواحدة. فصل: وإن طلق بلسانه واستثنى بقلبه نظرت فإن قال أنت طالق ونوى بقلبه إن شاء الله لم يصح الاستثناء ولم يقبل في الحكم ولا يدين فيه لأن اللفظ أقوى من النية لأن اللفظ يقع به الطلاق من غير نية والنية لا يقع بها الطلاق من غير لفظ فلو أعملنا النية لرفعنا القوي بالضعيف وذلك لا يجوز كنسخ الكتاب بالسنة وترك النص بالقياس وإن قال نسائي طوالق واستثنى بالنية بعضهم دين فيه لأنه لا يسقط اللفظ بل يستعمله في بعض ما يقتضيه بعمومه وذلك يحتمل فديه فيه ولا يقبل في الحكم وقال أبو حفص الباب بشامي: يقبل في الحكم لأن اللفظ يحتمل العموم والخصوص وهذا غير صحيح لأنه وإن احتمل الخصوص إلا أن الظاهر العموم فلا يقبل في الحكم دعوى الخصوص فإن قال امرأتي طالق ثلاثا واستثنى بقلبه إلا طلقة أو طلقتين لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ وهل يدين فيه وجهان: أحدهما: يدين لأنه لا يسقط حكم اللفظ وإنما يخرج بعض ما يقتضيه فدين فيه كما لو قال نسائي طوالق واستثنى بالنية بعضهن والثاني: لا يدين وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه يسقط ما يقتضيه

اللفظ بصريحه بما دونه من النية وإن قال لأربع نسوة أربعكن طالق واستثنى بعضهم بالنية لم يقبل في الحكم وهل يدين فيه وجهان: أحدهما: يدين والثاني: لا يدين ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها.

باب الشرط في الطلاق

باب الشرط في الطلاق إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر تعلق به فإذا وجد الشرط وقع وإذا لم يوجد لم يقع لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون عند شروطهم". ولأن الطلاق كالعتق لأن كل واحد منهما قوة وسراية ثم العتق إذا علق على شرط وقع بوجوده ولم يقع قبل وجوده فكذلك الطلاق فإن علق الطلاق على شرط ثم قال عجلت ما كنت علقت على الشرط لم تطلق في الحال لأنه تعلق بالشرط ولا يتغير وإذا وجد الشرط طلقت وإن قال أنت طالق ثم قال أردت إذا دخلت الدار أو إذا جاء رأس الشهر لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ بظاهره ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يدعي صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله فدين فيه كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد طلاقاً من وثاق فإن قال أنت طالق إن دخلت الدار وقال أردت الطلاق في الحال ولكن سبق لساني إلى الشرط لزمه الطلاق في الحال لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تهمة. فصل: والألفاظ التي تستعمل في الشرط في الطلاق من وإن وإذا ومتى وأي وقت وكلما وليس في هذه الألفاظ ما يقتضي التكرار إلا قوله كلما فإنه يقتضي التكرار فإذا قال من دخلت الدار فهي طالق أو قال لامرأته إن دخلت الدار أو إذا دخلت الدار أو متى دخلت الدار أوفي أي وقت دخلت الدار فأنت طالق فوجد الدخول وقع الطلاق وإن تكرر الدخول لم يتكرر الطلاق لأن اللفظ لا يقتضي التكرار وإن قال كلما دخلت الدار فأنت طالق فدخلت طلقت وإن تكرر الدخول تكرر الطلاق لأن اللفظ يقتضي التكرار. فصل: وإن كانت له امرأة لا سنة في طلاقها ولا بدعة وهي الصغيرة التي لم تحض أو الكبيرة التي يئست من الحيض أو الحامل أو التي لم يدخل بها فقال لها أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت لوجود الصفة وإن قال أنت طالق للسنة أو للبدعة أو أنت طالق للسنة والبدعة طلقت لأنه وصفها بصفة لا تتصف بها فلغت الصفة وبقي الطلاق فوقع فإن قال للصغيرة أو الحامل أو التي لم يدخل بها أنت طالق للسنة أو أنت طالق للبدعة وقال أردت به إذا صارت من أهل سنة الطلاق أو بدعته طلقت في الحال ولم يقبل ما

يدعيه في الحكم لأن اللفظ يقتضي طلاقاً ناجزا ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن كانت له امرأة لها سنة وبدعة في الطلاق وهي المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء فقال لها: أنت طالق للسنة فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه لم تطلق في الحال لفقد الصفة فإذا جامعها أو حاضت طلقت لوجود الصفة وإن قال أنت طالق للسنة إن كنت في هذه الحالة ممن يقع عليها طلاق السنة فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه طلقت لوجود الصفة وإن كانت حائضا أوفي طهر جامعها فيه لم تطلق في الحال لعدم الصفة وإن صارت في طهر لم تجامع فيه لم تطلق أيضاً لأنه شرط أن تكون للسنة وأن تكون في تلك الحال وذلك لا يوجد بعد انقضاء الحال وإن قال لها أنت طالق للسنة وللبدعة أو أنت طالق طلقة حسنة قبيحة طلقت في الحال طلقة لأنه لا يمكن إيقاع طلقة على هاتين الصفتين فسقطت الصفتان وبقي الطلاق فوقع وإن قال أنت طالق طلقتين طلقة للسنة وطلقة للبدعة طلقت في الحال طلقة فإذا صارت في الحالة الثانية طلقت طلقة وإن قال أنت طالق طلقتين للسنة وللبدعة ففيه وجهان: أحدهما: يقع طلقة في حال السنة وطلقة في حال البدعة لأنه يمكن إيقاعها على الصفتين فلم يجز إسقاطهما والثاني: يقع في الحال طلقتان لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة من الطلقتين وإيقاع كل واحدة منهما على الصفتين لا يمكن فلغت الصفتان ووقعت الطلقتان وإن قال أنت طالق ثلاثاً للسنة وقع الثلاث في طهر لم يجامعها فيه لأن ذلك طلاق للسنة وإن قال أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة وقع في الحال طلقتان لأن إضافة الطلاق إليهما يقتضي التسوية فيقع في الحال طلقة ونصف ثم يكمل فيصير طلقتين ويقع الباقي في الحالة الأخرى وإن قال أردت بالبعض طلقة في هذه الحال وطلقتين في الحالة الأخرى ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة إنه لا يقبل قوله في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق فصار كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد إذا دخلت الدار والثاني: وهو المذهب أنه يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأن البعض يقع على القليل والكثير حقيقة ويخالف دعوى دخول الدار فإن الظاهر إنجاز الطلاق فلم تقبل في الحكم دعوى التأخير. فصل: وإن قال إن قدم فلان فأنت طالق فقدم وهي في طهر لم يجامع فيه وقع طلاق سنة وإن قدم وهي حائض أوفي طهر جامعها فيه وقع طلاق بدعة إلا أنه لا يأثم لأنه لم يقصد كما إذا رمى صيداً فأصاب آدميا فقتله فإن القتل صادف محرماً لكنه لم يأثم لعدم القصد وإن قال إن أقدم فلان فأنت طالق للسنة فقدم وهي في حال السنة

طلقت وإن قدم وهي في حال البدعة لم تطلق حتى تصير إلى حال السنة لأنه علقه بعد القدم بالسنة. فصل: وإن قال أنت طالق أحسن الطلاق وأكمله وأعدله وما أشبهها من الصفات الحميدة طلقت للسنة لأنه أحسن الطلاق وأكمله وأعدله وإن قال أردت به طلاق البدعة واعتقدت أن الأعدل والأكمل في حقها لسوء عشرتها أن تطلق للبدعة نظرت فإن كان ما يدعيه من ذلك أغلظ عليه بأن تكون في الحال حائضا أوفي طهر جامعها فيه وقع طلاق بدعة لأن ما ادعاه أغلظ عليه واللفظ يحتمله فقبل منه وإن كان أخف عليه بأن كانت في طهر لم يجامع فيه دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه مخالف للظاهر فإن قال أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وما أشبههما من صفات الذم طلقت في حال البدعة لأنه أقبح الطلاق وأسمجه وإن قال أردت طلاق السنة واعتقدت أن طلاقها أقبح الطلاق وأسمجه لحسن دينها وعشرتها فإن كان ذلك أغلظ عليه لما فيه من تعجيل الطلاق قبل منه لأنه أغلظ عليه واللفظ يحتمله وإن كان أخف عليه لما فيه من تأخير الطلاق دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ولا يقبل في الحكم لأنه مخالف للظاهر وإن قال أنت طالق طلاق الحرج طلقت للبدعة لأن الحرج فيما خالف السنة وأثم به. فصل: وإن قال لها وهي حائض إذا طهرت فأنت طالق طلقت بانقطاع الدم لوجود الصفة وإن قال لها ذلك وهي طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر لأن إذا اسم للزمان المستقبل فاقتضى فعلاً مستأنفا ولهذا لو قال لرجل حاضر إذا جئتني فلك دينار لم يستحق بهذا الحضور حتى يغيب ثم يجيئه وإن قال لها وهي طاهر إن حضت فأنت طالق طلقت برؤية الدم وإن قال لها ذلك وهي حائض لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لما ذكرناه في الطهر فإن قال لها وهي حائض إن طهرت طهراً فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لأنه لا يوجد طهر كامل إلا أن تطعن في الحيض الثاني وإن قال لها ذلك وهي طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض لأن الطهر الكامل لا يوجد إلا بما ذكرناه وإن قال إن حضت حيضة فأنت طالق فإن كانت طاهراً لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر وإن كانت حائضاً لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر لما ذكرناه في الطهر. فصل: وإن قال أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة نظرت فإن كانت لها سنة وبدعة في طلاقها نظرت فإن كانت طاهراً طلقت طلقة لأن ما بقي من الطهر قرء وإن كانت

حائضاً لم تطلق حتى تطهر ثم يقع في كل طهر طلقة وإن لم يكن لها سنة ولا بدعة نظرت فإن كانت حاملاً طلقت في الحال طلقة لأن الحمل قرء يعتد به وإن كانت تحيض على الحمل لم تطلق في أطهارها لأنها ليست بأقراء ولهذا لا يعتد بها فإن راجعها قبل الوضع وطهرت في النفاس وقعت طلقة أخرى فإذا حاضت وطهرت وقعت الثالثة وإن كانت غير مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت فإن كانت صغيرة مدخولاً بها طلقت في الحال طلقة فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت وإن راجعها لم تطلق في الطهر بعد الرجعة لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق. فصل: وإن قال إن حضت فأنت طالق فقالت حضت فصدقها طلقت وإن كذبها فالقول قولها مع يمينها لأنه لا يعرف الحيض إلا من جهتها وإن قال لها قد حضت فأنكرت طلقت بإقراره وإن قال لها إن حضت فضرتك طالق فقالت حضت فإن صدقها طلقت ضرتها وإن كذبها لم تطلق لأن قولها يقبل على الزوج في حقها ولا يقبل على غيرها إلا بتصديق الزوج كالمودع يقبل قوله في رد الوديعة على المودع ولا يقبل في الرد على غيره وإن قال إذا حضت فأنت وضرتك طالقان فقالت حضت فإن صدقها طلقتا وإن كذبها وحلفت طلقت هي ولم تطلق ضرتها وإن صدقتها الضرة على حيضها لم يؤثر تصديقها ولكن لها أن تحلف الزوج على تكذيبها وإن قال إذا حضتما فأنتما طالقتان فإن قالتا حضنا فصدقهما طلقتا وإن كذبهما لم تطلق واحدة منهما لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على شرطين حيضها وحيض صاحبتها ولا يقبل قول كل واحدة منهما إلا في حيضها أوفي حقها نفسها دون صاحبتها ولم يوجد الشرطان وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى طلقت المكذبة لأنها غير مقبولة القول على صاحبتها ومقبولة القول في حق نفسها وقد صدق الزوج صاحبتها فوجد الشرطان في طلاقها فطلقت والمصدقة مقبولة القول في الحيض في حق نفسها وقد صدقها الزوج وقول صاحبتها غير مقبول في حيضها في طلاقها ولم يوجد الشرطان في حقها فلم تطلق. فصل: وإن قال لامرأتين إن حضتما حيضة فأنتما طالقان ففيه وجهان: أحدهما: أن هذه الصفة لا تنعقد لأنه يستحيل اجتماعهما في حيضة فبطل والثاني: أنهما إذا حاضتا وقع الطلاق لأن الذي يستحيل هو قوله حيضة فيلغي لاستحالتها ويبقى قوله إن حضتما فيصير كما لو قال إن حضتما فأنتما طالقتان وقد بينا حكمه. فصل: وإن قال لأربع نسوة إن حضتن فأنتن طوالق فقد علق طالق كل واحدة منهن

بأربع شرائط وهي حيض الأربع فإن قلن حضنا وصدقهن طلقن لأنه وجد حيض الأربع وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يثبت حيض الأربع لأن قول كل واحدة منهن لا يقبل إلا في حقها وإن صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يوجد الشرط وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة لأن قولها مقبول في حيضها في حق نفسها وقد صدق الزوج صواحبها فوجد حيض الأربع في حقها فطلقت ولا تطلق المصدقات لأن قول كل واحدة منهن مقبول في حيضها في حقها غير مقبول في حق صواحبها وقد بقيت واحدة منهن مكذبة فلم تطلق لأجلها. فصل: وإن قال لهن كلما حاضت واحدة منكن فصواحبها طوالق فقد جعل حيض كل واحدة منهن صفة لطلاق البواقي فإن قلن حضنا فصدقهن طلقت كل واحدة منهن ثلاثاً لأن لكل واحدة منهن ثلاث صواحب تطلق بحيض كل صاحبة طلقة فطلقت كل واحدة منهن ثلاثا وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لأن كل واحدة منهن وإن قبل قولها في حقها إلا أنه لا يقبل في حق غيرها وإن صدق واحدة منهن وقع على كل واحدة منهن طلقة لأن لكل واحدة منهن صاحبة ثبت حيضها ولا يقع على المصدقة طلاق لأنه ليس لها صاحبة ثبت حيضها وإن صدق اثنتين وقع على كل واحدة منهما طلقة لأن لكل واحدة منهما صاحبة ثبت حيضها ويقع على كل واحدة من المكذبتين طلقتان لأن لكل واحدة منهما صاحبتين ثبت حيضهما فإن صدق ثلاثاً وقع على كل واحدة منهن طلقتان لأن لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما ووقع على المكذبة ثلاث تطليقات لأن لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن. فصل: وإن قال لامرأته إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق لم يجز وطؤها قبل الاستبراء لأن الأصل عدم الحمل ووقوع الطلاق فإن لم يكن بها حمل طلقت وإن وضعت حملاً لأقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق لم تطلق لأنا تيقنا من أنها كانت حاملا عند العقد وإن وضعته لأكثر من أربع سنين طلقت طلقة لأنا تيقنا أنها لم تكن حاملاً عند العقد وإن وضعته لما بين ستة أشهر وأربع سنين نظرت فإن لم يطأها الزوج في هذه المدة لم يقع الطلاق لأنا حكمنا بأنها كانت حاملا عند العقد وإن كان وطئها نظرت فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من وقت العقد لم يقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وضعته لأكثر من ستة

أشهر من وقت العقد والوطء جميعا ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنها تطلق لأنه يجوز أن يكون قبل الوطء ويجوز أن يكون حدث من الوطء والظاهر أنه حدث من الوطء لأن الأصل فيما قبل الوطء العدم والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنها لم تطلق لأنه يحتمل أن يكون موجودا عند العقد ويحتمل أن يكون حادثا من الوطء بعده والأصل بقاء النكاح وإن قال لها إن كنت حاملاً فأنت طالق فهل يحرم وطؤها قبل الاستبراء فيه وجهان: أحدهما: لا يحرم لأن الأصل عدم الحمل وثبوت الإباحة والثاني: يحرم لأنه يجوز أن تكون حاملاً فيحرم وطؤها ويجوز أن لا تكون حاملاً فيحل وطؤها فغلب التحريم فإن استبرأها ولم يظهر الحمل فهي على الزوجية وإن ظهر الحمل نظر فإن وضعت لأقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق حكم بوقوع الطلاق لأنا تيقنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت العقد لم تطلق لأنا علمنا أنها لم تكن حاملا وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر ودون أربع سنين نظرت فإن كان الزوج لم يطأها طلقت لأنا حكمنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وطئها نظرت فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطء وقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملا وقت العقد وإن وطئها نظرت فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطء وقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وضعته بعد ستة أشهر من بعد وطئه لم يقع الطلاق وجهاً واحداً لأنه يجوز أن يكون موجودا وقت العقد ويجوز أن يكون حدث بعده فلا يجوز أن يوقع الطلاق بالشك واختلف أصحابنا في صفة الاستبراء ووقته وقدره وذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايني رحمه الله في الاستبراء في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها ثلاثة أقراء وهي أطهار لأنه استبراء حرة فكان بثلاثة أطهار والثاني: بطهر لأن القصد براءة الرحم فلا يزاد على قرء واستبراء الحرة لا يجوز إلا بالطهر فوجب أن يكون طهرا والثالث أنه بحيضه لأن القصد من هذا الاستبراء معرفة براءة الرحم والذي يعرف به براءة الرحم الحيض وهل يعتد بالاستبراء قبل عقد الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتد لأن الاستبراء لا يجوز أن يتقدم على سببه والثاني: يعتد به لأن القصد معرفة براءة الرحم وذلك يحصل وإن تقدم ومن أصحابنا من قال في المسألة الثانية: الاستبراء على ما ذكرناه لأن الاستبراء لاستباحة الوطء فأما في المسألة الأولى فلا يجوز الاستبراء بدون ثلاثة أطهار ولا يعتد بما وجد منه قبل الطلاق لأنه استبراء حرة للطلاق فلا يجوز بما دون ثلاثة أطهار ولا بما تقدم على الطلاق كالاستبراء في سائر المطلقات. فصل: إذا قال لامرأته إن ولدت ولداً فأنت طالق فولدت ولداً طلقت حياً كان أو

ميتاً لأن اسم الولد يقع على الجميع فإن ولدت آخر لم تطلق لأن اللفظ لا يقتضي التكرار وإن قال كلما ولدت ولداً فأنت طالق فولدت ولدين من حمل واحداً بعد واحد طلقت بالأول ولم تطلق بالثاني وإن ولدت ثلاثة أولاد واحداً بعد واحد طلقت بالأول طلقة وبالثاني طلقة ولا يقع بالثالث شيء وحكى أبوعلي بن خيران عن الإملاء قولاً آخر أنه يقع بالثالث طلقة أخرى والصحيح هو الأول لأن العدة انقضت بالولد الأخير فوجدت الصفة وهي بائن فلم يقع بها طلاق كما لو قال إذا مت فأنت طالق وإن ولدت ثلاثة دفعة واحدة طلقت ثلاثاً لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة فوقع كما لو قال إن كلمت زيدا فأنت طالق وإن كلمت عمرا فأنت طالق وإن كلمت بكرا فأنت طالق فلمتهم دفعة واحدة طلقت ثلاثا وإن قال إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة واحدة وإن قال إن ولدت أنثى فأنت طالق طللقتين فوضعت ذكرا وأنثى دفعة واحدة طلقت ثلاثا وإن وضعت أحدهما: بعد الآخر وقع بالأول ما علق عليه ولم يقع بالثاني شيء لبينونتها بانقضاء العدة وهذا ظاهر وإن لم تعلم كيف وضعتهما طلقت طلقة لأنها يقين والورع أن يلتزم الثلاث وإن قال يا حفصة إن كان أول ما تلدين ذكرا فعمرة طالق وإن كان أنثى فأنت طالق فولدت ذكرا وأنثى دفعة واحدة لم تطلق واحدة منهما لأنه ليس فيهما أول وإن قال إن كان في بطنك ذكر فأنت طالق طلقة وإن كان في بطنك أنثى فأنت طالق طلقتين فوضعت ذكرا وأنثى طلقت ثلاثا لاجتماع الصفتين وإن قال إن كان حملك أو ما في بطنك ذكرا فأنت طالق فوضعت ذكرا وأنثى لم تطلق لأن الصفة أن يكون جميع ما في البطن ذكرا ولم يوجد ذلك. فصل: وإذا قال للمدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقعت طلقتان: إحداهما بقوله أنت طالق والأخرى بوجود الصفة وإن قال لم أرد بقولي إذا طلقتك فأنت طالق عقد الطلاق بالصفة وإنما أردت أني إذا طلقتك تطلقين بما أوقع علىك من الطلاق لم يقبل قوله في الحكم لأن الظاهر أنه عقد طلاقاً على صفة ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال إن طلقتك فأنت طالق ثم قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار وقعت طلقتان إحداهما بدخول الدار والأخرى بوجود الصفة لأن الصفة أن يطلقها وإن علق طلاقها بدخول الدار فدخلت فقد طلقها وإن قال لها مبتدئاً إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال إذا طلقتك فأنت طالق فدخلت الدار وقعت طلقة بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا طلقتك فأنت طالق لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع ما بعد عقد الصفة وما وقع بدخول الدار ليس بابتداء إيقاع بعد عقد الصفة وإنما هو

وقوع بالصفة السابقة لعقد الطلاق فإن قال إن طلقك فأنت طالق ثم وكل من يطلقها فطلقها وقعت الطلقة التي أوقعها الوكيل ولا يقع ما عقده على الصفة لأن الصفة أن يطلقها بنفسه وإن قال إذا أوقعت إليك الطلاق فأنت طالق ثم قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت فقد قال بعض أصحابنا أنها تطلق صفة بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا أوقعت عليك لأن قوله إذا أوقعت عليك يقتضي طلاقاً يباشر إيقاعه وما يقع بدخول الدار يقع حكماً قال الشيخ الإمام: وعندي أنه يقع طلقتان إحداهما بدخول الدار والأخرى بالصفة كما قلنا فيمن قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار وإن قال كلما طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق طلقت طلقتين إحداهما بقوله أنت طالق والأخرى بوجود الصفة ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية لأن الصفة إيقاع الطلاق والصفة لم تتكرر فلم يتكرر الطلاق. فصل: وإن قال إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقعت طلقتان طلقة بقوله أنت طالق وطلقة بوجود الصفة وإن قال لها بعد هذا العقد أو قبله إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار طلقت طلقتين طلقة بدخول الدار وطلقة بوجود الصفة وإن كان وكيلاً بعد هذا العقد في طلاقها فطلقها ففيه وجهان: أحدهما: يقع ما أوقعه الوكيل ولا يقع ما علقه بالصفة كما قلنا فيمن قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم وكل من يطلق والثاني: أنه يقع طلقتان طلقة بإيقاع الوكيل وطلقة بالصفة لأن الصفة وقوع طلاق الزوج وما وقع بإيقاع الوكيل هو طلاق الزوج وإن قال إذا طلقتك فأنت طالق وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقع الثلاث طلقة بقوله أنت طالق وطلقتان بالصفتين وإن قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم أوقع عليها طلقة بالمباشرة أو نصفه عقدها قبل هذا العقد أو بعده طلقت ثلاثاً واحدة بعد واحدة لأن بالطلقة الأولى توجد صفة الطلقة الثانية وبالثانية توجد صفة الطلقة الثالثة. فصل: وإن قال لغير المدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق أو إذا وقع عليك طلاقي

فأنت طالق أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوقعت عليها طلقة بالمباشرة أو بالصفة لم يقع غيرها لأنها تبين بها فلم يلحقها ما بعدها. فصل: وإن قال متى لم أطلقك أو إي وقت لم أطلقك فأنت طالق فهو على الفور فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فيه وقع الطلاق وإن قال لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على التراخي ولا يقع به الطلاق إلا عند فوات الطلاق وهو عند موت أحدهما: وإن قال إذا لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على الفور فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فلم يطلق وقع الطلاق فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فجعلهما على قولين ومنهم من حملهما على ظاهرهما فجعل قوله إن لم أطلقك على التراخي وجعل قوله إذا لم أطلقك على الفور وهو الصحيح لأن قوله إذا اسم لزمان مستقبل ومعناه أي وقت ولهذا يجاب به عن السؤال عن الوقت فيقال متى ألقاك فتقول إذا شئت كما تقول أي وقت شئت فكان على الفور كما لو قال أي وقت لم أطلقك فأنت طالق وليس كذلك إن فإنه لا يستعمل في الزمان ولهذا لا يجوز أن يقال متى ألقاك فتقول إن شئت وإنما يستعمل في الفعل ويجاب بها عن السؤال عن الفعل فيقال هل ألقاك فتقول إن شئت فيصير معناه إن فاتني أن أطلقك فأنت طالق والفوات يكون في آخر العمر وإن قال لها كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى ثلاثة أوقات لم تطلق فيها وقع عليها ثلاث طلقات واحدة بعد واحدة لأن معناه كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق وقد سكت ثلاث سكتات. فصل: وإن قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها إن خرجت أو إن لم تخرجي أو إن لم يكن هذا كما قلت فأنت طالق طلقت لأنه حلف بطلاقها وإن قال إن طلعت الشمس أو إن جاء الحاج فأنت طالق لم يقع الطلاق حتى تطلع الشمس أو يجيء الحاج لأن اليمين ما قصد بها المنع من فعل أو الحث على فعل أو التصديق على فعل وليس في طلوع الشمس ومجيء الحاج منع ولا حث ولا تصديق وإنما هو صفة للطلاق فإذا وجدت وقع الطلاق بوجود الصفة وإن قال لها إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا القول وقعت طلقة لأنه حلف بطلاقها فإن أعاد ثالثاً وقعت طلقة ثانية وإن أعاد رابعاً وقعت طلقة ثالثة لأن كل مرة توجد صفة طلاق وتنعقد صفة أخرى وإن أعادها خامساً لم يقع طلاق لأنه لم يبق له طلاق ولا ينعقد به يمين في طلاق غيرها لأن اليمين بطلاق من لا يملكها لا ينعقد وإن كانت له امرأتان إحداهما مدخول بها والأخرى غير مدخول بها فقال إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان ثم أعاد هذا القول طلقت المدخول

بها طلقة رجعية وتطلق غير المدخول بها طلقة بائنة فإن أعاد لم تطلق واحدة منهما لأن غير المدخول بها بائن والمدخول بها لا يوجد شرط طلاقها لأن شرط طلاقها أن يحلف بطلاقهما ولم يحلف بطلاقهما لأن غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها. فصل: وإذا كان له أربعة نسوة وعبيد فقال: كلما طلقت امرأة من نسائي فعبد من عبيدي حر وكلما طلقت امرأتين فعبدان حران وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أعبد أحرار وكلما طلقت أربعاً فأربعة أعبد أحرار ثم طلقهن فالمذهب أنه يعتق خمسة عشر عبداً لأن بطلاق الأولى يعتق عبد بوجود صفة الواحدة وبطلاق الثانية يعتق ثلاثة أعبد لأنه اجتمع صفتان طلاق الواحدة وطلاق اثنتين وبطلاق الثالثة يعتق أربعة أعبد لأنه اجتمع صفتان طلاق الواحدة وطلاق الثلاث وبطلاق الرابعة يعتق سبعة أعبد لأنه اجتمع ثلاث صفات طلاق الواحدة وطلاق اثنتين وطلاق أربع ومن أصحابنا من قال يعتق سبعة عشر عبداً لأن في طلاق الثالثة ثلاث صفات طلاق واحدة وطلاق اثنتين بعد الواحدة وطلاق الثلاث ومنهم من قال يعتق عشرون عبداً فجعل في الثلاث ثلاث صفات وجعل في الأربع أربع صفات طلاق واحدة وطلاق اثنتين وطلاق ثلاث بعد الواحدة وطلاق أربع والجميع خطأ لأنهم عدوا الثانية مع ما قبلها من الاثنتين وعدوا الثالثة مع ما قبلها من الثلاث ثم عدوهما مع ما بعدهما من الاثنتين والثلاث وهذا لا يجوز لأن ما عد مرة في عدد لا يعد في ذلك العدد مرة أخرى والدليل عليه أنه لو قال كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر ثم أكل رمانة عتق عبدان لأن الرمانة نصفان ثم لا يقال إنه يعتق ثلاثة لأنه إذا أكل نصف رمانة عتق عبد فإذا أكل الربع الثالث عتق عبد لأنه مع الربع الثاني نصف وإذا أكل الربع الرابع عتق عبد لأنه مع الربع الثالث نصف فكذلك ههنا وقال أبو الحسن بن القطان يعتق عشرة لأن الواحدة والاثنتين والثلاث والأربع عشر وهذا خطأ أيضاً لأن قوله كلما طلقت يقتضي التكرار وقد وجد طلاق الواحدة أربع مرات وطلاق المرأتين مرتين وطلاق الثلاث مرة وطلاق الأربع مرة فأسقط ابن القطان اعتبار ما يقتضيه اللفظ من التكرار في المرأة والمرأتين وهذا لا يجوز. فصل: إذا كان له أربع نسوة فقال: أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طوالق ثم طلق واحدة منهن طلقن ثلاثاً ثلاثاً لأن طلاق الواحدة يوقع على كل واحدة منهن طلقة واحدة ووقوع هذه الطلقة على كل واحدة منهن يوقع الطلاق على صواحبها وهن ثلاث فطلقت كل واحد منهن ثلاثاً. فصل: وإن كان له امرأتان فقال لإحداهما أنت طالق طلقة بل هذه ثلاثاً وقع على

الأول طلقة وعلى الثانية ثلاث لأنه إذا وقع على الأولى طلقة ثم أراد رفعها فلم يرتفع وأوقع على الثانية ثلاثا فوقعت وإن قال للمدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثلاثاً إن دخلت الدار فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو بكر بن الحداد المصري تطلق واحدة في الحال ويقع بدخول الدار إتمام الثلاث لأنه نجز واحدة فوقعت وعلق ثلاثاً على الشرط فوقع ما بقي منها عند وجود الشرط ومن أصحابنا من قال: يرجع الشرط إلى الجميع ولا تطلق حتى تدخل الدار لأن الشرط يغلب الإيقاعين فرجع إليهما. فصل: وإن قال لها أنت طالق إلى شهر ولم يكن له نية وقع الطلاق بعد الشهر لأن إلى تستعمل في انتهاء الفعل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وتستعمل أيضاً في ابتداء الفعل كقولهم فلان خارج إلى شهر فلا يقع الطلاق في الحال مع الاحتمال كما لا يقع بالكنايات من غير نية. فصل: وإن قال أنت طالق في شهر رمضان طلقت برؤية الهلال أول الشهر وقال أبو ثور: لا تطلق إلا في آخر الشهر لتستوعب الصفة التي علق الطلاق عليها وهذا خطأ لأن الطلاق إذا علق على شيء وقع بأول جزء منه كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق لأنها تطلق بالدخول إلى أول جزء من الدار فإن قال أردت في آخر الشهر دين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه يؤخر الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه وإن قال أنت طالق في أول الشهر وقع الطلاق في أول ليلة يرى فيها الهلال وإن قال أنت طالق في غرة الشهر طلقت في أوله فإن قال أردت اليوم الثاني أو الثالث دين لأن الثالث من أول الشهر تسمى غررا ولا يقبل في الحكم لأنه يؤخر الطلاق عن أول وقت يقتضيه وإن قال أنت طالق في آخر الشهر طلقت في آخر يوم منه تاماً كان الشهر أو ناقصا وإن قال أنت طالق في أول آخر رمضان ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر لأن آخر الشهر هو النصف الثاني وأوله أول ليلة السادس عشر والثاني: أنها تطلق في أول اليوم الأخير من آخر الشهر لأن آخر الشهر هو اليوم الأخير فوجب أن تطلق في أوله وإن قال: أنت طالق في آخر أول الشهر طلقت على الوجه الأول في آخر اليوم الخامس عشر وعلى الوجه الثاني تطلق في آخر اليوم الأول،

وإن قال أنت طالق في آخر أول آخر رمضان طلقت على الوجه الأول عند طلوع الفجر من اليوم السادس عشر لأن أول آخر الشهر ليلة السادس عشر وآخرها عند طلوع الفجر من يومها وعلى الوجه الثاني تطلق بغروب الشمس من آخر يوم منه لأن أول آخره إذا طلع الفجر من آخر يوم منه فكان آخره عند غروب الشمس وإن قال: أنت طالق في أول آخر أول الشهر طلقت على الوجه الأول بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر لأن آخر أوله عند غروب الشمس من اليوم الخامس عشر فكان أول طلوع فجره وعلى الوجه الآخر تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر لأن آخر أول الشهر غروب الشمس من أول يوم منه فكان أوله طلوع الفجر. فصل: وإن قال أنت طالق اليوم طلقت في الحال لأنه من اليوم وإن قال أنت طالق في غد طلقت بطلوع فجره وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد لم تطلق لأنه لا يجوز أن تطلق اليوم لأنه لم يوجد شرطه وهو مجيء الغد ولا يجوز أن تطلق إذا جاء غد لأنه إيقاع طلاق في يوم قبله وإن قال أنت طالق اليوم غداً طلقت اليوم طلقة ولا تطلق غداً طلقة أخرى لأن طلاق اليوم تعين وقوله غداً يحتمل أن تكون طالقة بطلاقها اليوم فلا نوقع طلاقا بالشك وإن قال أردت طلقة في اليوم وطلقة في غد طلقت طلقتين لأن اللفظ يحتمل ما يدعيه وهو غير متهم فيه لما فيه عليه من التغليظ وإن قال أردت نصف طلقة اليوم ونصف طلقة غدا طلقت طلقتين طلقة بالإيقاع وطلقة بالسراية وإن قال أردت نصف طلقة اليوم والنصف الباقي في غد ففيه وجهان: أحدهما: تطلق اليوم طلقة ولا تطلق غداً لأن النصف الباقي قد وقع في اليوم فلم يبق ما يقع غداً والثاني: أنه يقع في اليوم الثاني طلقة أخرى لأن الذي وقع في اليوم بالسراية وبقي النصف الثاني فوقع في الغد فسرى وإن قال أنت طالق اليوم أوغدا ففيه وجهان: أحدهما: تطلق غداً لأنه يقين والثاني: أنها تطلق اليوم لأنه جعل كل واحدة منهما محلاً للطلاق فتعلق بأولهما. فصل: إذا قال إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق فرآه غيره طلقت لأن رؤية الهلال في عرف الشرع رؤية الناس والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"1. ويجب الصوم والفطر برؤية غيره وإن قال أردت رؤيتي لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف الظاهر ويدين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه فإن رآه بالنهار لم تطلق لأن رؤية هلال

_ 1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 11، الترمذي في كتاب الصوم باب 3، 5، النسائي في كتاب الصيام باب 9، 12، ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7، أحمد في مسند 1/226.

الشهر ما يراه في الشهر وهو بعد الغروب ولهذا لا يتعلق الصوم والفطر إلا بما نراه بعد الغروب وإن غم عليهم الهلال فعدوا شعبان ثلاثين يوماً طلقت لأنه قد ثبتت الرؤية بالشرع فصار كما لو ثبتت بالشهادة وإن أراد رؤيته بعينه فلم يره حتى صار قمراً لم تطلق لأنه ليس بهلال حقيقة واختلف الناس فيما يصير به قمراً فقال بعضهم يصير قمرا إذا استدار وقال بعضهم إذا بهر ضوءه. فصل: إذا قال إذا مضت سنة فأنت طالق اعتبر مضي السنة بالأهلة لأنها هي السنة المعهودة في الشرع فإن كان العقد أول الشهر مضى اثنا عشر شهراً بالأهلة طلقت فإن كان في أثناء الشهر حسب ما بقي من الشهر الهلالي فإن بقي خمسة أيام عد بعدها أحد عشر شهراً بالأهلة ثم عد خمسة وعشرين يوماً من الشهر الثاني عشر لأنه تعذر اعتبار الهلال في شهر فعد شهراً بالعدد كما نقول في الشهر الذي غم عليهم الهلال في الصوم فإن قال: أردت سنة بالعدد وهي ثلاثمائة وستون يوما أو سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً لم يقبل في الحكم لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه لأن السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس يوم وسدس يوم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال إذا مضت السنة فأنت طالق طلقت إذا مضت بقية سنة التاريخ وهو انسلاخ ذي الحجة قلت البقية أو كثرت لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك فإن قال أردت سنة كاملة دين لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه فإن قال أنت طالق في كل سنة طلقة حسبت السنة من حين العقد كما إذا حلف لا يكلم فلاناً سنة جعل ابتداء السنة من حين اليمين وكما إذا باع بثمن مؤجل اعتبر ابتداء الأجل من حين العقد فإذا مضى من السنة بعد العقد أدنى جزء طلقت طلقة لأنه جعل السنة محلا لطلاق وقد دخل فيها فوقع كما لو قال أنت طالق في شهر رمضان فدخل الشهر. فصل: وإن قال أنت طالق في الشهر الماضي فالمنصوص أنها تطلق في الحال وقال الربيع فيه قول آخر أنها لا تطلق وقال فيمن قال لامرأته إن طرت أو صعدت السماء فأنت طالق إنها لا تطلق واختلف أصحابنا فيه فنقل أبوعلي بن خيران جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: تطلق لأنه علق الطلاق على صفة مستحيلة فألغيت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال لمن لا سنة له ولا بدعة

في طلاقها أنت طالق للسنة أو للبدعة والثاني: لا تطلق لأنه علق الطلاق على شرط لم يوجد فلم يقع وقال أكثر أصحابنا إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي طلقت وإن قال إن طرت أو صعدت في السماء فأنت طالق لم تطلق قولاً واحداً وما قاله الربيع من تخريجه والفرق بينهما أن الطيران وصعود السماء لا يستحيل في قدرة الله عز وجل وقد جعل لجعفر بن أبي طالب جناحان يطير بهما وقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاع الطلاق في زمان ماض مستحيل. فصل: وإن قال إن قدم زيد فأنت طالق قبله بشهر فقدم زيد بعد شهر طلقت قبل قدومه بشهر لأنه إيقاع طلاق بعد عقده وإن قدم قبل شهر ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالمسألة قبلها وهو إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي لأنه إيقاع طلاق قبل عقده والثاني: وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يقع الطلاق ههنا قولاً واحداً لأنه علق الطلاق على صفة وقد كان وجودها ممكنا فوجب اعتباره وإيقاع الطلاق في زمان ماض غير ممكن فسقط اعتباره. فصل: وإن قال أنت طالق قبل موتي بشهر فمات قبل مضي شهر لم تطلق لتقدم الشرط على العقد وإن مضى شهر ثم مات عقيبه لم تطلق لأن وقوع الطلاق مع اللفظ وإن مضى شهر وجزء ثم مات طلقت في ذلك الجزء وإن قال أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر ثم خالعها بعد يومين أو ثلاثة وقدم زيد بعد هذا القول بأكثر من شهر لم يصح الخلع لأنها بانت بالطلاق فلم يصح الخلع بعده وإن قدم بعد الخلع بأكثر من شهر صح الخلع لأنه صادف الملك فلم يقع الطلاق بالصفة. فصل: وإن قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد فقدم ليلاً لم تطلق لأنه لم يوجد الشرط وإن قال أردت باليوم الوقت قبل منه لأنه قد يستعمل اليوم في الوقت كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وهو غير متهم فيه فقبل منه وإن ماتت المرأة في أول اليوم الذي قدم زيد في آخره فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو بكر بن الحداد المصري يقع الطلاق لأنه إذا قال أنت طالق في يوم السبت طلقت بطلوع الفجر فإذا قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد فقدم وجب أن يقع بعد طلوع الفجر في اليوم الذي يقدم فيه زيد وقد قدم وكانت باقية بعد طلوع الفجر فوجب أن يقع الطلاق ومن أصحابنا من قال لا يقع لأنه جعل الشرط في وقوع الطلاق قدوم زيد وقدوم زيد وجد بعد موت المرأة فلا يجوز أن يقع الطلاق ويخالف قوله أنت طالق يوم السبت فإنه علق الطلاق على شرط واحد وهو اليوم وههنا علق على شرطين اليوم وقدوم زيد وقدوم زيد وجد وقد ماتت المرأة فلم يلحقها الطلاق.

فصل: وإن قال إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم فمضى اليوم ولم يطلقها ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق لأن مضي اليوم شرط في وقوع الطلاق في اليوم ولا يوجد شرط الطلاق إلا بعد مضي محل الطلاق فلم يقع والثاني: يقع وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لآن قوله إن لم أطلقك اليوم معناه إن فاتني طلاقك اليوم فإذا بقي من اليوم ما لا يمكنه أن يقول فيه أنت طالق فقد فاته فوقع الطلاق في بقيته وإن قال لعبده إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق فأعتقه طلقت المرأة لأن معناه إن فاتني بيعك وقد فاته بيعه بالعتق. فصل: إذا تزوج بجارية أبيه ثم قال إذا مات أبي فأنت طالق فمات أبوه ففيه وجهان: وهو قول أبي العباس بن سريح أنها لا تطلق لإنه إذا مات الأب ملكها فانفسخ النكاح ويكون الفسخ في زمان الطلاق فوقع الفسخ وانفسخ الطلاق كما لو قال رجل لزوجته إن مت فأنت طالق ثم مات والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنها تطلق ولا يقع الفسخ لأن صفة الطلاق توجد عقيب الموت وهو زمان الملك والفسخ يقع بعد الملك فيكون زمان الطلاق سابقاً لزمان الفسخ فوقع الطلاق ولم يقع الفسخ وإن قال الأب لجاريته أنت حرة بعد موتي وقال الإبن أنت طالق بعد موت أبي فمات الأب وقع العتق والطلاق لأن العتق يمنع من الدخول في ملك الابن فوقع العتق والطلاق معاً. فصل: إذا كتب إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق ونوى الطلاق فضاع الكتاب لم يقع الطلاق لأنه لم يأتها الكتاب وإن وصل وقد ذهبت الحواشي وبقي موضع الكتابة وقع الطلاق لأن الكتاب هو المكتوب وإن أتاها وقد أمحى الكتاب لم تطلق أيضاً لأنه لم يأتها الكتاب وإن انطمس حتى لا يفهم منه شيء لم تطلق لأنه ليس بكتاب فهو كما لو جاءها كتاب فيه صورة وإن جاء وقد أمحى بعضه فإن كان الذي أمحى موضع الطلاق لم يقع لأن المقصود لم يأتها وإن بقي موضع الطلاق وذهب الباقي فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: يقع لأن المقصود من الكتاب قد أتاها ومن أصحابنا من قال لا يقع لأنه قال إذا جاءك كتابي هذا وذلك يقتضي جميعه وإذا قال إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب وقد أمحى الجميع إلا موضع الطلاق فقد وقع الطلاق لأنه أتاها كتابه وإن قال أتاك طلاقي فأنت طالق وكتب إذا أتاك كتابي فأنت طالق ونوى الطلاق وأتاها الكتاب طلقت طلقتين طلقة بمجيء الكتاب وطلقة بمجيء الطلاق. فصل: وإن قال إن قدم فلان فأنت طالق فقدم به ميتاً أو حمل مكرهاً لم تطلق لأنه

ما قدم وإنما قدم به وإن أكره حتى قدم بنفسه ففيه قولان كالقولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم وإن قدم مختارا وهو غير عالم باليمين فإن كان ممن لا يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه كالسلطان طلقت لأنه طلاق معلق على صفة وقد وجدت الصفة وإن كان ممن يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه فعلى القولين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا. فصل: وإن قال إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق فخرجت بالإذن انحلت اليمين فإن خرجت بعد ذلك بغير الأذن لم تطلق لأن قوله إن خرجت لا يقتضي التكرار والدليل عليه أنه لو قال لها إن خرجت فأنت طالق فخرجت مرة طلقت ولو خرجت مرة أخرى لم تطلق فصار كما لو قال إن خرجت مرة إلا بإذني فأنت طالق وإن قال كلما خرجت إلا بإذني فأنت طالق ثم خرجت بغير الإذن طلقت طلقة وإن خرجت مرة ثانية بغير الإذن وقعت طلقة أخرى وإن خرجت مرة ثالثة وقعت طلقة أخرى لأن اللفظ يقتضي التكرار وإن قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إل غير الحمام لم يحنث لأن الخروج كان إلى الحمام وإن خرجت إلى غير الحمام ثم عدلت إلى الحمام حنث بخروجها إلى غير الحمام بغير الإذن وإن خرجت إلى الحمام وإلى غيره وجمعت بينهما في القصد عند الخروج ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأن الحنث علقه على الخروج إلى غير الحمام وهذا الخروج مشترك بين الحمام وغيره والثاني: يحنث لأنه وجد الخروج إلى غير الحمام بغير الإذن وانضم إليه غيره فوجب أن يحنث كما لو قال إن كلمت زيداً فأنت طالق ثم كلمت زيدا وعمرا وإن قال إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق فأذن لها ولم تعلم بالإذن ثم خرجت لم تطلق لأنه علق الخلاص من الحنث بمعنى من جهته يختص به وهو الإذن وقد وجد الإذن والدليل عليه أنه يجوز لمن عرفه أن يخبر به المرأة فلم يعتبر علمها فيه كما لو قال إن خرجت قبل أن أقوم فأنت طالق ثم قام ولم تعلم به. فصل: وإن قال لها إن خالفت أمري فأنت طالق ثم قال لها لا تكلمي أباك فكلمته لم تطلق لأنها لم تخالف أمره وإنما خالفت نهيه وإن قال إن بدأتك بالكلام فأنت طالق وقالت المرأة إن بدأتك بالكلام فعبدي حر فكلمها لم تطلق المرأة ولم يعتق العبد لأن يمينه انحلت بيمينها بالعتق ويمينها انحلت بكلامه وإن قال أنت طالق إن كلمتك وأنت طالق إن دخلت الدار طلقت لأنه كلمها باليمين الثانية وإن قال أنت طالق إن كلمتك ثم أعاد ذلك طلقت لأنه كلمها بالإعادة وإن قال إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي بذلك طلقت لأنه كلمها بقوله فاعلمي ذلك،

طلقت لأنه كلمها بقول فاعلمي ذلك ومن أصحابنا من قال إن وصل الكلام باليمين لم تطلق لأنه من صلة الأول. فصل: إذا قال لامرأته إذا كلمت رجلاً فأنت طالق وإن كلمت فقيها فأنت طالق وإن كلمت طويلاً فأنت طالق فكلمت رجلاً طويلاً فقيها طلقت ثلاثاً لأنه اجتمع صفات الثلاثة فوقع بكل صفة طلقة. فصل: وإن قال إن رأيت فلاناً فأنت طالق فرآه ميتا أو نائما طلقت لأنه رآه وإن رآه في مرآة أو رأى ظله في الماء لم تطلق لأنه ما رآه وإنما رأى مثاله وإن رآه من وراء زجاج شفاف طلقت لأنه رآه حقيقة. فصل: وإن كانت في ماء جار فقال لها إن خرجت منه فأنت طالق وإن وقفت فيه فأنت طالق لم تطلق خرجت أو وقفت لأن الذي كانت فيه من الماء مضى بجريانه لم تخرج منه ولم تقف فيه وإن كان في فيها تمرة فقال إن أكلتها فأنت طالق وإن رميتها فأنت طالق وإن أمسكتها فأنت طالق فأكلت نصفها لم تطلق لأنها ما أكلتها ولا رمتها ولا أمسكتها وإن كانت معه تمرة فقال إن أكلتها فأنت طالق فرماها إلى تمر كثير فأكل جميعه وبقي تمرة لا يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها لم تطلق لجواز أن تكون هي المحلوف عليها فلم تطلق بالشك وإن أكل تمراً كثيراً فقال لها إن لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق فعدت من واحد إلى عدد يعلم أن المأكول دخل فيه لم تطلق لأنها أخبرته بعدد ما أكل وإن أكلا تمرا واختلط النوى فقال إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت فأنت طالق فأفردت كل نواة لم تطلق لأنها ميزت وإن اتهمها بسرقة شيء فقال أنت طالق إن لم تصدقيني أنك سرقت أم لا فقالت سرقت وما سرقت لم تطلق لأنها صدقته في أحد الخبرين وإن قال إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق وسلم إليها كيساً فأخذت منه شيئاً لم تطلق لأن ذلك ليس بسرقة وإنما هو خيانة. فصل: وإن قال من بشرتني بقدوم زيد فهي طالق فأخبرته امرأته بقدوم زيد وهي صادقة طلقت لأنها بشرته وإن كانت كاذبة لم تطلق لأن البشارة ما بشر به الإنسان ولا سرور في الكذب وإن أخبرتاه بقدومه واحدة بعد واحدة وهما صادقتان طلقت الأولى دون الثانية لأن المبشرة هي الأولى وإن أخبرتاه معا طلقتا لاشتراكهما في البشارة وإن قال من أخبرتني بقدوم زيد فهي طالق فأخبرته امرأته بقدوم زيد طلقت صادقة كانت أو كاذبة لأن الخبر يوجد مع الصدق والكذب فإن أخبرته إحداهما بعد الأخرى أو أخبرتاه معاً طلقتا لأن الخبر وجد منهما.

فصل: وإن قال أنت طالق إن شئت فقالت في الحال شئت طلقت وإن قالت شئت إن شئت فقال شئت لم تطلق لأنه علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها مشيئة الطلاق وإنما وجد منها تعليق مشيئتها بمشيئته فلم يقع الطلاق كما لو قالت شئت إذا طلعت الشمس وإن قال أنت طالق إن شاء زيد فقال زيد شئت طلقت وإن لم يشأ زيد لم تطلق وإن شاء وهو مجنون لم تطلق لأنه لا مشيئة له وإن شاء وهو سكران فعلى ما ذكرناه من طلاقه وإن شاء وهو صبي ففيه وجهان: أحدهما: تطلق لأن له مشيئة ولهذا يرجع إلى مشيئة في اختيار أحد الأبوين في الحضانة والثاني: لا تطلق معه لأنه لا حكم لمشيئته في التصرفات وإن كان أخرس فأشار إلى المشيئة وقع الطلاق كما يقع طلاقه إذا أشار إلى الطلاق وإن كان ناطقاً فخرس فأشار ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع وهو اختيار الشيخ أبي حامد الأسفرايني رحمه الله لأن مشيئته عند الطلاق كانت بالنطق والثاني: أنه يقع وهو الصحيح لأنه في حال بيان المشيئة من أهل الإشارة والاعتبار بحال البيان لا بما تقدم ولهذا لو كان عند الطلاق أخرس ثم صار ناطقا كانت مشيئته بالنطق وإن قال أنت طالق إن شاء الحمار فهو كما لو قال أنت طالق إن طرت أو صعدت إلى السماء وقد بيناه وإن قال أنت طالق لفلان أو لرضى فلان طلقت في الحال لأن معناه أنت طالق ليرضى فلان كما يقول لعبده أنت حر لوجه الله أو لمرضاة الله وإن قال أنت طالق لرضى فلان ثم قال أردت إن رضي فلان على سبيل الشرط دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وهل يقبل في الحكم فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل لأن ظاهر اللفظ يقتضي إنجاز الطلاق فلم يقبل قوله في تأخيره كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد إن دخلت الدار والثاني: أنه يقبل لأن اللفظ يصلح للتعليل والشرط فقبل قوله في الجميع. فصل: وإن قال إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق طلقت بكل واحدة من الصفتين وإن قال إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق لم تطلق إلا بوجودهما سواء قدم الكلام أو الدخول لأن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب وإن قال إن كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق لم تطلق إلا بوجود الكلام والدخول والتقديم للكلام على الدخول لأن الفاء في العطف للترتيب فيصير كما لو قال إن كلمتك ثم دخلت دارك فأنت طالق وإن قال إن كلمتك وإن دخلت دارك فأنت طالق طلقت بوجود كل واحدة منها طلقة لأنه كرر حرف الشرط فوجب لكل واحدة منهما جزاء وإن قال لزوجتين إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان فدخلت إحداهما أحد الدارين ودخلت الثانية الدار الأخرى ففيه وجهان: أحدهما: تطلقان لأن دخول الدارين وجد منهما والثاني: لا تطلقان وهو الصحيح لأنه علق

طلاقه بدخول الدارين فلا تطلق واحدة منهما بدخول إحدى الدارين كما لو قال علق طلاق كل واحدة منهما بدخول الدارين بلفظ مفرد وإن قال إن أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان فأكلت كل واحدة منهما رغيفاً فعلى الوجهين. فصل: وإن قال أنت طالق إن ركبت إن لبست لم تطلق إلا باللبس والركوب ويسميه أهل النحو اعتراض الشرط على الشرط فإن لبست ثم ركبت طلقت وإن ركبت ثم لبست لم تطلق لأنه جعل اللبس شرطا في الركوب فوجب تقديمه وإن قال أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى يوجد القيام والقعود ويتقدم القعود على القيام لأنه جعل القعود شرطاً في القيام وإن قال إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني فأنت طالق لم تطلق حتى يوجد السؤال ثم الوعد ثم العطية لأنه شرط في العطية الوعد وشرط في الوعد السؤال وكأن معناه إن سألتني شيئا فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق وإن قال إن سألتني إن أعطيتك إن وعدتك فأنت طالق لم تطلق حتى تسأل ثم يعدها لأن معناه إن سألتني فأعطيتك إن وعدتك فأنت طالق. فصل: وإن قال أنت طالق إن دخلت الدار بفتح الألف أو أنت طالق إن شاء الله بفتح الألف وهو ممن يعرف النحو طلقت في الحال لأن معناه أنت طالق لدخولك الدار أو لمشيئة الله عز وجل طلاقك وإن قال أنت طالق إذ دخلت الدار وهو ممن يعرف النحو طلقت في الحال لأن إذا لما مضى. فصل: وإن قال إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء لم تطلق حتى تدخل الدار لأن الشرط ثبت بقوله إن دخلت الدار ولهذا لو قال أنت طالق إن دخلت الدار ثبت الشرط وإن لم يأت بالفاء وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق وقال أردت إيقاع الطلاق في الحال قبل من غير يمين لأنه إقرار على نفسه وإن قال أردت أن أجعل دخولها للدار وطلاقها شرطين لعتق أو لطلاق آخر ثم سكت عن الجزاء قبل قوله مع اليمين لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أردت الشرط والجزاء وأقمت الواو مقام الفاء قبل قوله مع اليمين لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق وقال أردت به الطلاق في الحال قبل قوله من غير يمين لأنه قرار بالطلاق وإن قال أردت تعليق الطلاق بدخول الدار قبل قوله مع يمينه لأنه يحتمل ما يدعيه. فصل: إذا قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق ثم قال أردت به الأجنبية قبل قوله مع اليمين وإن كانت له زوجة اسمها زينب وجارة اسمها زينب فقال زينب طالق وقال أردت بها الجارة لم يقبل والفرق بينهما أن قوله إحداكما طالق صريح فيهما وإنما يحمل على

زوجته بدليل وهو أنه لا يطلق غير زوجته فإذا صرفه إلى الأجنبية فقد صرفه إلى ما لا يقتضيه تصريحه فقبل منه وليس كذلك قوله زينب طالق لأنه ليس بصريح في واحدة منهما وإنما يتناولها من جهة الدليل وهو الاشتراك في الاسم ثم يقابل هذا الدليل دليل آخر وهو أنه لا يطلق غير زوجته فصار اللفظ في زوجته أظهر فلم يقبل خلافه. فصل: وإن كانت له زوجتان اسم إحداهما حفصة واسم الأخرى عمرة فقال يا حفصة فأجابته عمرة فقال لها أنت طالق ثم قال أردت طلاق حفصة وقع الطلاق على عمرة بالمخاطبة وعلى حفصة باعترافه بأنه أراد طلاقها وإن قال ظننتها حفصة فقلت أنت طالق طلقت عمرة ولم تطلق حفصة لأنه لم يخاطبها ولم يعترف بطلاقها وإن رأى امرأة اسمها حفصة فقال حفصة طالق ولم يشر إلى التي رآها وقع الطلاق على زوجته حفصة ولم يقبل قوله لم أردها لأن الظاهر أنه أراد طلاق زوجته ولم يعارض هذا الظاهر غيره. فصل: إذا قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً ثم قال لها أنت طالق فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يقع عليها طلقة بقوله أنت طالق ولا يقع من الثلاث قبلها شيء كما إذا قال لها إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم ارتدت انفسخ نكاحها ولم يقع من الثلاث شيء ومنهم من قال: يقع بقوله أنت طالق طلقة وطلقتان من الثلاث وهو قول أبي عبد الله الختن لأنه يقع بقوله أنت طالق طلقة ويقع ما بقي بالشرط وهو طلقتان ومنهم من قال لا يقع عليها بعد هذا القول طلاق وهو قول أبي العباس بن سريح وأبي بكر بن الحداد المصري والشيخ أبي حامد الاسفرايني والقاضي أبي الطيب الطبري وهو الصحيح عندي والدليل عليه أن إيقاع الطلاق يؤدي إلى إسقاطه لأنا إذا أوقعنا عليها طلقة لزمنا أن نوقف عليها قبلها ثلاثا بحكم الشرط وإذا وقع قبلها الثلاث لم تقع الطلقة وما أدى ثبوته إلى نفيه سقط ولهذا قال الشافعي رحمه الله فيمن زوج عبده بحرة بألف درهم وضمن صداقها ثم باع العبد منها بتلك الألف قبل الدخول أن البيع لا يصح لأن صحته تؤدي إلى إبطاله فإنه إذا صح البيع انفسخ النكاح بملك الزوج وإذا انفسخ النكاح سقط المهر لأن الفسخ من جهتها وإذا سقط المهر سقط الثمن لأن الثمن هو المهر وإذا سقط الثمن بطل البيع فأبطل البيع حين أدى تصيحه إلى إبطاله فكذلك ههنا ويخالف الفسخ بالردة فإن الفسخ لا يقع بإيقاعه وإنما تقع الردة والفسخ من موجباتها والطلاق الثلاث لا ينافي الردة فصحت الردة وثبت موجبها وهو الفسخ والطلاق يقع بإيقاعه والثلاث قبله تنافيه فمنع صحته فعلى هذا إن حلف على امرأته بالطلاق الثلاث

أنه لا يفعل شيئا وأراد أن يفعله ولا يحنث فقال إذا وقع على امرأتي طلاقي فهي طالق قبله ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث فقال إذا فعل المحلوف عليه لأن عقد اليمين صح فلا يملك رفعه والثاني: لا يحنث لأنه يجوز أن يعلن الطلاق على صفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى والدليل عليه أنه إذا قال إذا حل رأس الشهر فأنت طالق ثلاثاً صحت هذه الصفة ثم يملك إسقاطها بأن يقول أنت طالق قبل انقضاء الشهر بيوم. فصل: إذا علق طلاق امرأته على صفة من يمين أو غيرها ثم بانت منه ثم تزوجها قبل وجود الصفة ففيه ثلاثة أقوال: أحدها لا يعود حكم الصفة في النكاح الثاني وهو اختيار المزني لأنها صفة علق عليها الطلاق قبل النكاح فلم يقع بها الطلاق كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها ودخلت الدار والثاني: أنها تعود ويقع بها الطلاق وهو الصحيح لأن العقد والصفة وجدا في عقد النكاح فأشبه إذا لم يتخللهما بينونة والثالث أنها إن بانت بما دون الثلاث عاد حكم الصفة وإن بانت بالثلاث لم تعد لأن بالثلاث انقطعت علائق الملك وبما دون الثلاث لم تنقطع علائق الملك ولهذا بنى أحد العقدين على الآخر في عدد الطلاق فيما دون الثلاث ولا يبنى بعد الثلاث وإن علق عتق عبده على صفة ثم باعه ثم اشتراه قبل وجود الصفة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون الثلاث لأنه يمكنه أن يشتريه بعد البيع كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث والثاني: أنه كالبائن بالثلاث لأن علائق الملك قد زالت بالبيع كما زالت في البائن بالثلاث. فصل: وإن علق الطلاق على صفة ثم أبانها ووجدت الصفة في حالة البينونة انحلت الصفة وإن تزوجها لم يعد حكم الصفة وكذلك إذا علق عتق عبده على صفة ثم باعه ووجدت الصفة قبل أن يشتريه انحلت الصفة فإن اشتراه لم يعد حكم الصفة وقال أبو سعيد الأصطخري رحمه الله لا تنحل الصفة لأن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق مقدر بالزوجة وقوله إن دخلت الدار فأنت حر مقدر بالملك لأن الطلاق لا يصح في غير الزوجية والعتق لا يصح في غير ملك فيصير كما لو قال إن دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق وإن دخلت الدار وأنت مملوكي فأنت حر والمذهب الأول لأن اليمين إذا علقت على عين تعلقت بها ولا نقدر فيها الملك والدليل عليه أنه لو قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق والدار في ملكه فباعها ثم دخلها وقع الطلاق ولا يجعل كما لو قال إن دخلت هذه الدار وهي في ملكي فأنت طالق فكذلك ههنا. والله أعلم.

باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه

باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه إذا شك الرجل هل طلق امرأته أم لا لم تطلق لأن النكاح يقين واليقين لا يزال بالشك والدليل عليه ما روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"1. والورع أن يلتزم الطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2. فإن كان بعد الدخول راجعها وإن كان قبل الدخول جدد نكاحها وإن لم يكن له رغبة طلقها لتحل لغيره بيقين وإن شك في عدده بنى الأمر على الأقل لما روى عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرأ واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة وإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليبن على اثنتين وإن لم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليبن على ثلاث ويسجد سجدتين قبل أن يسلم"3. فرد إلى الأقل ولأن الأقل يقين والزيادة مشكوك فيها فلا يزال اليقين بالشك والورع أن يتم الأكثر فإن كان الشك الثلاث وما دونها طلقها ثلاثاً حتى تحل لغيره بيقين. فصل: وإن كانت له امرأتان فطلق إحداهما بعينها ثم نسيها أو خفيت عليه عينها بأن طلقها في ظلمة أومن وراء حجاب رجع إليه في تعيينها لأنه هو المطلق ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين لأنهما محبوستان عليه فإن عين الطلاق في إحداهما فكذبتاه حلف للأخرى لأن المعينة لو رجع في طلاقها لم يقبل وإن قال طلقت هذه لا بل هذه طلقتا في الحكم لأنه أقر بطلاق الأولى ثم رجع إلى الثانية فقبلنا إقراره بالثانية ولم يقبل رجوعه في الأولى وإن كن ثلاثاً فقال طلقت هذه لا بل هذه لا بل هذه طلقن جميعا وإن قال طلقت هذه أو هذه لا بل هذه طلقت الثالثة وواحدة من الأوليين وأخذ بتعيينه لأنه أقر أنه طلق إحدى الأوليين ثم رجع إلى أن المطلقة هي الثالثة فلزمه ما رجع إليه ولم يقبل رجوعه عما أقر به وإن قال طلقت هذه لا بل هذه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 4، 34. مسلم في كتاب الحيض حديث 98، 99. أبو داود في كتاب الصلاة باب 192. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 74. 2 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 3. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده 3/153. 3 رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب 174.

أو هذه طلقت الأولى وواحدة من الأخريين وإن قال طلقت هذه أو هذه وهذه أخذ ببيان الطلاق في الأولى والأخريين فإن عين في الأولى بقيت الأخريان على النكاح وإن قال لم أطلق الأولى طلقت الأخريان لأن الشك في الأولى والأخريين فهو كما لو قال طلقت هذه أو هاتين ولا يجوز له أن يعين بالوطء فإن وطئ إحداهما لم يكن ذلك تعييناً للطلاق في الأخرى فيطالب بالتعيين بالقول فأن عين الطلاق في الموطوءة لزمه مهر المثل وإذا عين وجبت العدة من حين الطلاق. فصل: وإن طلق إحدى المرأتين بغير عينها أخذ بتعيينها ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين وله أن يعين الطلاق فيمن شاء منهما فإن قال هذه لا بل هذه طلقت الأولى ولم تطلق الأخرى لأن تعيين الطلاق إلى اختياره وليس له أن يختار إلا واحدة فإذا اختار إحداهما لم يبق له اختيار وهل له أن يعين الطلاق بالوطء ففيه وجهان: أحدهما: لا يعين بالوطء وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأن إحداهما محرمة بالطلاق فلم تتعين بالوطء كما لو طلق إحداهما بعينها ثم أشكلت فعلى هذا يؤخذ بعد الوطء بالتعيين بالقول فإن عين الطلاق في الموطوءة لزمه المهر والثاني: يتعين وهو قول أبي إسحاق واختيار المزني وهو الصحيح لأنه اختيار شهوة والوطء قد دل على الشهوة وفي وقت العدة وجهان: أحدهما: من حين يلفظ بالطلاق لأنه وقت وقوع الطلاق والثاني: من حين التعيين وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة رحمه الله لأنه وقت تعيين الطلاق. فصل: وإن ماتت الزوجات قبل التعيين وبقي الزوج وقف من مال كل واحدة منهما نصف الزوج فإن كان قد طلق إحداهما بعينها فعين الطلاق في إحداهما أخذ من تركة الأخرى ما يخصه وإن كذبه ورثتها فالقول قوله مع يمينه وإن كان قد طلق إحداهما بغير عينها فعين الطلاق في إحداهما دفع إليه من مال الأخرى ما يخصه وإن كذبه ورثتها فالقول قوله من غير يمين لأن هذا اختيار شهوة وقد اختار ما اشتهى وإن مات الزوج بقيت الزوجتان وقف لهما من ماله نصيب زوجة إلى أن يصطلحا لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين وليست إحداهما بأولى من الأخرى فوجب أن يوقف إلى أن يصطلحا لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين فإن قال وارث الزوج أنا أعرف الزوجة منهما ففيه قولان: أحدهما: يرجع إليه لأنه لما قام مقامه في استلحاق النسب قام مقامه في تعيين الزوجة والثاني: لا يرجع إليه لأن كل واحدة منهما زوجة في الظاهر وفي الجوع إلى بيانه إسقاط وارث مشارك والوارث لا يملك إسقاط من يشاركه في الميراث واختلف أصحابنا في

موضع القولين فقال أبو إسحاق القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت وفيمن طلق إحداهما من غير تعيين ومنهم من قال القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت لأنه إخبار فجاز أن يخبر الوارث عن الموروث وأما إذا طلق إحداهما من غير تعيين فإنه لا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً لأنه اختيار شهوة فلم يقم الوارث فيه مقام الموروث كما لو أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة ومات قبل أن يختا أربعا منهن. فصل: وإن طلق إحدى زوجتيه ثم ماتت إحداهما ثم مات الزوج قبل البيان عزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج لجواز أن تكون هي الزوجة ويعزل من تركة الزوج ميراث زوجة لجواز أن تكون الباقية زوجة فإن قال ورث الزوج الميتة قبله مطلقة فلا ميراث لي منها والباقية زوجة فلها الميراث معي قبل لأنه إقرار على نفسه بما يضره فإن قال الميتة هي الزوجة فلي الميراث من تركتها والباقية هي المطلقة فلا ميراث لها معي فإن صدق على ذلك حمل الأمر على ما قال فإن كذب بأن قال وارث الميتة إنها هي المطلقة فلا ميراث لك منها وقالت الباقية أنا الزوجة فلي معك الميراث ففيه قولان: أحدهما: يرجع إلى بيان الوارث فيحلف لورثة الميتة أنه لا يعلم أنه طلقها ويستحق من تركتها ميراث الزوج ويحلف للباقية أنه طلقها ويسقط ميراثها من الزوج والثاني: لا يرجع إلى بيان الوارث فيجعل ما عزل من ميراث الميتة موقوفاً حتى يصطلح عليه وارث الزوج ووارث الزوجة وما عزل من ميراث الزوج موقوفاً حتى تصطلح عليه الباقية ووارث الزوج. فصل: وإن كانت له زوجتان حفصة وعمرة فقال يا حفصة إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق وإن كان أنثى فأنت طالق فولدت ذكرا وأنثى واحدا بعد واحد وأشكل المتقدم منهما طلقت إحداهما بعينها وحكمها حكم من طلق إحدى امرأتين بعينها ثم أشكلت عليه وقد بيناه. فصل: وإن رأى طائراً فقال إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق وإن كان حماما فإمائي حرائر ولم يعرف لم تطلق النساء ولم تعتق الإماء لجواز أن يكون الطائر غيرهما والأصل بقاء الملك والزوجية فلا يزل بالشك وإن قال إن كان هذا غراباً فنسائي طوالق وإن كان غير غراب فإمائي حرائر ولم يعرف منع من التصرف في الإماء والنساء لأنه تحقق زوال الملك في أحدهما: فصار كما لو طلق إحدى المرأتين ثم أشكلت ويؤخذ بنفقة الجميع إلى أن يعين لأن الجمع في حبسه ويرجع في البيان إليه لأنه يرجع إليه في أصل الطلاق والعتق فكذلك في تعيينه فإن امتنع من التعيين مع العلم به حبس حتى يعين،

وإن لم يعلم لم يحبس ووقف الأمر إلى أن يتبين وإن مات قبل البيان فهل يرجع إلى الورثة ففيه وجهان: أحدهما: يرجع إليهم لأنهم قائمون مقامه والثاني: لا يرجع لأنهم لا يملكون الطلاق فلم يرجع إليهم في البيان ومتى تعذر في البيان أقرع بين النساء والإماء فإن خرجت القرعة على الإماء عتقن وبقي النساء على الزوجية وإن خرجت القرعة على النساء رق الإماء ولم تطلق النساء وقال أبو ثور: تطلق النساء بالقرعة كما تعتق الإماء وهذا خطأ لأن القرعة لها مدخل في العتق دون الطلاق ولهذا لو طلق إحدى نسائه لم تطلق بالقرعة ولو أعتق أحد عبيده بالقرعة فدخلت القرعة في العتق دون الطلاق كما يدخل المشاهد والمرأتان في السرقة لإثبات المال دون القطع ويثبت للنساء الميراث لأنه لم يثبت بالقرعة ما يسقط الإرث. فصل: وإن طار طائر فقال رجل إن كان هذا الطائر غراباً فعبدي حر وقال الآخر إن لم يكن غرابا فعبدي حر ولم يعرف الطائر لم يعتق واحد من العبدين لأنا نشك في عتق كل واحد منهما ولا يزال يقين الملك بالشك وإن اشترى أحد الرجلين عبد الآخر علق عليه لأن إمساكه للعبد إقرار بحرية عبد الآخر فإذا ملكه عتق عليه كما لو شهد بعتق عبد ثم اشتراه. فصل: إذا اختلف الزوجان فادعت المرأة على الزوج أنه طلقها وأنكر الزوج فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق وإن اختلفا في عدده فادعت المرأة أنه طلقها ثلاثا وقال الزوج طلقتها طلقة فالقول قول الزوج مع يمينه لأن الأصل عدم ما زاد على طلقة. فصل: وإن خيرها ثم اختلفا فقالت المرأة اخترت وقال الزوج ما اخترت فالقول قول الزوج مع يمينه لأن الأصل عدم الاختيار وبقاء النكاح وإن اختلفا في النية فقال الزوج ما نويت وقالت المرأة نويت ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أن القول قول الزوج لأن الأصل عدم النية وبقاء النكاح فصار كما لو اختلفا في الاختيار والثاني: وهو الصحيح أن القول قول المرأة والفرق بينه وبين الاختلاف في الاختيار أن الاختيار يمكن إقامة البينة عليه فكان القول فيه قوله كما لو علق طلاقه بدخول الدار فادعت أنها أنكرت وأنكر الزوج والنية لا يمكن إقامة البينة عليها فكان القول قولها كما لو علق الطلاق على حيضها فادعت أنها حاضت وأنكر. فصل: وإن قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق وادعى أنه أراد التأكيد وادعت المرأة أنه أراد الاستئناف فالقول قوله مع يمينه لأنه اعترف بنيته وإن قال الزوج أردت

الاستئناف وقالت المرأة أردت التأكيد فالقول قول الزوج لما ذكرناه ولا يمين عليه لأن اليمين تعرض ليخاف فيرجع ولو رجع لم يقبل رجوعه فلم يكن لعرض اليمين معنى. فصل: وإن قال أنت طالق في الشهر الماضي وادعى أنه أراد من زوج غيره في نكاح قبله وأنكرت المرأة أن يكون قبله نكاح أو طلاق لم يقبل قول الزوج في الحكم حتى يقيم البينة على النكاح والطلاق فإن صدقته المرأة على ذلك لكنها أنكرت أنه أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه فإن قال أردت أنها طالق في الشهر الماضي بطلاق كنت طلقتها في هذا النكاح وكذبته المرأة فالقول قوله مع يمينه والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك يريد أن يرفع الطلاق وههنا لا يرفع الطلاق وإنما ينقله من حال إلى حال. فصل: وإن قال إن كان هذا الطائر غراباً فنسائي طوالق وإن لم يكن غراباً فإمائي حرائر ثم قال كان هذا الطائر غراباً طلقت النساء فإن كذبه الإماء حلف لهن فإن حلف ثبت رقهن وإن نكل ردت اليمين عليهن فإن حلفن ثبت طلاق النساء بإقراره وعتق الإماء بنكوله ويمينهن فإن صدقنه ولم يطلبن إحلافه ففيه وجهان: أحدهما: يحلف لما في العتق من حق لله عز وجل والثاني: لا يحلف لأنه لما أسقط العتق بتصديقهن سقط اليمين بترك مطالبتهن وإن قال كان هذا الطائر غير غراب عتق الإماء فإن كذبته النساء حلف لهن وإن نكل عن اليمين ردت عليهن فإن حلفن ثبت عتق الإماء بإقراره وطلاق النساء بيمينهن ونكوله.

باب الرجعة

باب الرجعة إذا طلق الحر امرأته طلقة أو طلقتين أو طلق العبد امرأته بعد الدخول طلقة فله أن يراجعها قبل انتهاء العدة لقوله عز وجل: {وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] والمراد به إذا قاربن أجلهن وروى ابن عباس رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة وراجعها وروى ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "مر ابنك فليراجعها فإن انقضت العدة لم يملك رجعها". لقوله عز وجل: {وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] فلو ملك رجعتها لما نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح فإن طلقها قبل الدخول لم يملك الرجعة لقوله عز وجل: {وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فدلت الرجعة على الأجل فدل على أنها لا تجوز من غير أجل والمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ

مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . فصل: ويجوز أن يطلق الرجعية ويلاعنها ويولي منها ويظاهر منها لأن الزوجية باقية وهل له أن يخالعها ففيه قولان: قال في الأم: يجوز لبقاء النكاح وقال في الإملاء لا يجوز لأن الخلع للتحريم وهي محرمة فإن مات أحدهما: ورثه الآخر لبقاء الزوجية إلى الموت ولا يجوز أن يستمتع بها لأنها معتدة فلا يجوز وطؤها كالمختلعة فإن وطئها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها لزمه المهر لأنه وطء في ملك قد تشعث فصار كوطء الشبهة وإن راجعها بعد الوطء فقد قال في الرجعة عليه المهر وقال في المرتد: إذا وطئ امرإته في العدة ثم أسلم أنه لا مهر عليه واختلف أصحابنا فيه فنقل أبو سعيد الإصطخري الجواب في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين أحدهما: يجب المهر لأنه وطء في نكاح قد تشعث والثاني: لا يجب لأن بالرجعة والإسلام قد زال التشعث فصار كما لو لم تطلق ولم يرتد وحمل أبو عباس وأبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقالا في الرجعة: يجب المهر وفي المرتد لا يجب لأن بالإسلام صار كأن لم يرتد وبالرجعة لا يصير كأن لم تطلق لأن ما وقع من الطلاق لم يرتفع ولأن أمر المرتد مراعى فإذا رجع إلى الإسلام تبينا أن النكاح بحاله ولهذا لوطلق وقف طلاقه فإن أسلم حكم بوقوعه وإن لم يسلم لم يحكم بوقوعه فاختلف أمرها في المهر بين أن يرجع إلى الإسلام وبين أن لا يرجع وأمر الرجعية غير مراعى ولهذا لو طلق لم يقف طلاقه على الرجعة فلم يختلف أمرها في المهر بين أن يراجع وبين أن لا يراجع فإذا وطئها وجب عليها العدة لأنه كوطء الشبهة ويدخل فيه بقية العدة الأولى لأنهما من واحد. فصل: وتصح الرجعة من غير رضاها لقوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ولا تصح الرجعة إلا بالقول فإن وطئها لم تكن ذلك رجعة لاستباحة بضع مقصود يصح بالقول فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح وإن قال راجعتك أو ارتجعتك صح لأنه وردت به السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "مر ابنك فليراجعها". فإن قال رددتك صح لأنه ورد به القرآن وهو قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وإن قال أمسكتك ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يصح لأنه ورد به القرآن وهو قوله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} والثاني: أنه لا يصح لأنه إذا صح به النكاح وهو ابتداء الإباحة فلأن تصح به الرجعة وهو إصلاح لما تشعث منه

أولى والثاني: لا يصح لأنه صريح في النكاح ولا يجوز أن يكون صريحاً في حكم آخر من النكاح كالطلاق لما كان صريحاً في الطلاق لم يجز أن يكون صريحاً في الظهار وإن قال راجعتك للمحبة وقال أردت به مراجعتك لمحبتي لك صح وإن قال راجعتك لهوانك وقال أردت به أني راجعتك لأهينك بالرجعة صح لأنه أتى بلفظ الرجعة وبين سبب الرجعة وإن قال لم أرد الرجعة وإنما أردت أني كنت أحبك قبل النكاح أو كنت أهينك قبل النكاح فرددتك بالرجعة إلى المحبة التي كانت قبل النكاح أو الإهانة التي كانت قبل النكاح قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه. فصل: وهل يجب الإشهاد عليها فيه قولان: أحدهما: يجب لقوله عز وجل: {أَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولأنه استباحة بضع مقصود فلم يصح من غير إشهاد كالنكاح والثاني: أنه مستحب لأنه لا يفتقر إلى الولي فلم يفتقر إلى الإشهاد كالبيع. فصل: ولا يجوز تعليقها على شرط فإن قال راجعتك إن شئت فقالت شئت لم يصح لأنه استباحة بضع فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح ولا يصح في حال الردة وقال المزني إنه موقوف فإن أسلمت صح كما يقف الطلاق والنكاح على الإسلام وهذا خطأ لأنه استباحة بضع فلم يصح مع الردة كالنكاح ويخالف الطلاق فإنه يجوز تعليقه على الشرط والرجعة لا يصح تعليقها على الشرط وأما النكاح فإنه يقف فسخه على الإسلام وأما عقده فلا يقف والرجعة كالعقد فيجب أن لا تقف على الإسلام. فصل: وإن اختلف الزوجان فقال الزوج راجعتك وأنكرت المرأة فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة فالقول قول الزوج لأنه يملك الرجعة فقبل إقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق وإن كان بعد انقضاء العدة فالقول قولها لأن الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة وإن اختلفا في الإصابة فقال الزوج أصبتك فلي الرجعة وأنكرت المرأة فالقول قولها لأن الأصل عدم الإصابة ووقوع الفرقة. فصل: فإن طلقها طلقة رجعية وغاب الزوج وانقضت العدة وتزوجت ثم قدم الزوج وادعى أنه راجعها قبل انقضاء العدة فله أن يخاصم الزوج الثاني وله أن يخاصم الزوجة فإن بدأ بالزوج نظرت فإن صدقه سقط حقه من النكاح ولا تسلم المرأة إليه لأن إقراره يقبل على نفسه دونها وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الرجعة فإن حلف سقط دعوى الأول وإن نكل ردت اليمين عليه فإن حلف وقلنا إن يمينه مع نكول المدعى عليه كالبينة حكمنا بأنه لم يكن بينهما نكاح فإن كان قبل الدخول لم يلزمه

شيء وإن كان بعد الدخول لزمه مهر المثل وإن قلنا إنه كالإقرار لم يقبل إقراره في إسقاط حقها فإن دخل بها لزمه المسمى وإن لم يدخل بها لزمه نصف المسمى ولا تسلم المرأة إلى الزوج الأول على القولين لأنا جعلناه كالبينة أو كالإقرار في حقه ومن حقها وإن بدأ بخصومة الزوجة فصدقته لم تسلم إليه لأنه لا يقبل إقرارها على الثاني كما لا يقبل إقراره عليها ويلزمها المهر لأنها أقرت أنها حالت بينه وبين بضعها فإن زال حق الثاني بطلاق أو فسخ أو وفاة ردت إلى الأول لأن المنع لحق الثاني وقد زال وإن كذبته فالقول قولها وهل تحلف على ذلك ففيه وجهان: أحدهما: لا تحلف لأن اليمين تعرض عليها لتخاف فتقر وأقرت لم يقبل إقراره فلم يكن في تحليفها فائدة والثاني: تحلف لأن في تحليفها فائدة وهو أنها ربما أقرت فيلزمها المهر وإن حلفت سقط دعواه وإن نكلت ردت اليمين عليه فإذا حلف حكم له بالمهر. فصل: إذا تزوجت الرجعية في عدتها وحبلت من الزوج ووضعت وشرعت في إتمام العدة من الأول وراجعها صحت الرجعة لأنه راجعها في عدته فإن راجعها قبل الوضع ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لأنها في عدة من غيره فلم يملك بضعها والثاني: يصح بما بقي عليها من عدته لأن حكم الزوجية باق وإنما حرمت لعارض فصار كما لو أحرمت. فصل: إذا طلق الحر امرأته ثلاثاً أو طلق العبد امرأته طلقتين حرمت عليه ولا يحل له نكاحها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها والدليل قوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وروت عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته بت طلاقها فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني كنت عند رفاعة وطلقني ثلاث تطليقات فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا والله حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 1. ولا تحل إلا بالوطء في الفرج فإن وطئها فيما دون الفرج أو وطئها في الموضع المكروه لم تحل لأن

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 49. النسائي في كتاب الطلاق باب 9. الموطأ في كتاب النكاح حديث 17، 18. أحمد في مسنده 1/214.

النبي صلى الله عليه وسلم علق على ذوق العسيلة وذلك لا يحصل إلا بالوطء في الفرج وأدنى الوطء أن يغيب الحشف في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به ولا تتعلق بما دونه فإن أولج الحشفة في الفرج من غير انتشار لم تحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بذوق العسيلة وذلك لا يحصل من غير انتشار وإن كان بعض الذكر مقطوعاً فعلى ما ذكرناه في الرد بالعيب في النكاح وإن كان مسلولاً أحل بوطئه لأنه في الوطء كالفحل وأقوى منه ولم يفقد إلا الإنزال وذلك غير معتبر في الإحلال وإن كان مراهقاً أحل لأنه كالبالغ في الوطء وإن وطئت وهي نائمة أو مجنونة أو استدخلت هي ذكر الزوج وهو نائم أو مجنون أو وجدها على فراشه فظنها غيرها فوطئها حلت لأنه وطء صادف النكاح. فصل: فإن رآها رجل أجنبي فظنها زوجته فوطئها أو كانت أمة فوطئها مولاها لم تحل لقوله عز وجل: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وإن وطئها للزوج في نكاح فاسد كالنكاح بلا ولي ولا شهود أوفي نكاح شرط فيه أنه إذا أحلها للزوج الأول فلا نكاح بينهما ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يحلها لأنه وطء في نكاح غير صحيح فلم تحل كوطء الشبهة والثاني: أنه يحلها لما روى عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" 1. فسماه محللا ولأنه وطء في نكاح فأشبه الوطء في النكاح الصحيح. فصل: وإن كانت المطلقة أمة فملكها الزوج قبل أن ينكحها زوجاً غيره فالمذهب أنها لا تحل لقوله عز وجل: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ولأن الفرج لا يجوز أن يكون محرماً عليه من وجه مباحا من وجه ومن أصحابنا من قال يحل وطؤها لأن الطلاق يختص بالزوجية فآثر التحريم في الزوجية. فصل: وإن طلق امرأته ثلاثا وتفرقا ثم ادعت المرأة أنها تزوجت بزوج أحلها جاز له أن يتزوجها لآنها مؤتمنة فيما تدعيه من الإباحة فإن وقع في نفسه أنها كاذبة فالأولى أن لا يتزوجها احتياطاً. فصل: وإن تزوجت المطلقة ثلاثا بزوج وادعت عليه أنه أصابها وأنكر الزوج لم يقبل قولها على الزوج الثاني في الإصابة ويقبل قولها في الإباحة للزوج الأول لأنها تدعي على الزوج الثاني حقا وهو استقرار المهر ولا تدعي على الأول شيئا وإنما تخبره عن أمر هي فيه مؤتمنة فقبل وإن كذبها الزوج الأول فيما تدعيه على الثاني من الإصابة ثم رجع

_ 1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 15. الترمذي في كتاب النكاح باب 28. النسائي في كتاب الطلاق باب 13. أحمد في مسنده 1/448.

فصدقها جاز له أن يتزوجها لأنه قد لا يعلم أنه أصابها ثم يعلم بعد ذلك وإن ادعت على الثاني أنه طلقها وأنكر الثاني لم يجز للأول نكاحها لأنه إذا لم يثبت الطلاق فهي باقية على نكاح الثاني فلا يحل للأول نكاحها ويخالف إذا اختلفا في الإصابة بعد الطلاق لأنه ليس لأحد حق في بضعها فقبل قولها. فصل: إذا عادت المطلقة ثلاثاً إلى الأول بشروط إباحة ملك عليها ثلاث تطليقات لأنه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث فوجب أن يستأنف الثلاث فإن طلقها طلقة أو طلقتين فتزوجت بزوج آخر فوطئها ثم أبانها رجعت إلى الأول بما بقي من عدد الطلاق لأنها عادت قبل استيفاء العدد فرجعت بما بقي كما لو رجعت قبل أن تنكح زوجاً غيره.

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء يصح الإيلاء من كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وأما الصبي والمجنون فلا يصح الإيلاء منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". لأنه قول يختص بالزوجية فلم يصح من الصبي والمجنون كالطلاق وأما من لا يقدر على الوطء فأن كان بسبب يزول كالمريض والمحبوس صح إيلاؤه وإن كان بسبب لا يزول كالمجبوب والأشل ففيه وجهان: أحدهما: يصح إيلاؤه لأن من صح إيلاؤه إذا كان قادراً على الوطء صح إيلاؤه إذا لم يقدر كالمريض والمحبوس والثاني: قاله في الأم لا يصح إيلاؤه لأنه يمين على ترك ما لا يقدر عليه بحال فلم يصح كما لو حلف لا يصعد للسماء ولأن القصد بالإيلاء أن يمنع نفسه من الجماع باليمين وذلك لا يصح ممن لا يقدر عليه لأنه ممنوع من غير يمين ويخالف المريض والمحبوس لأنهما يقدران عليه إذا زال المرض والحبس فصح منهما المنع باليمين والمجبوب والأشل لا يقدران بحال. فصل: ولا يصح الإيلاء إلا بالله عز وجل وهل يصح بالطلاق والعتاق والصوم والصلاة وصدقة المال فيه قولان: قال في القديم: لا يصح لأنه يمين بغير الله عز وجل فلم يصح به الإيلاء كاليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم والكعبة وقال في الجديد: يصح وهو الصحيح لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق فصح به الإيلاء كاليمين بالله عز وجل فإذا قلنا بهذا فقال إن وطئتك فعبدي حر فهو مول وإن قال إن وطئتك فلله علي أن أعتق رقبة فهو مول وإن قال إن وطئتك فأنت طالق أو امرأتي الأخرى طالق فهو مول وإن قال إن وطئتك فعلي أن أطلقك أو أطلق امرأتي الأخرى لم يكن مولياً لأنه لا يلزمه بالوطء شيء وإن قال إن وطئتك فأنت زانية لم يكن مولياً لأنه لا يلزمه بالوطء حق لأنه لا يصير بوطئها قاذفاً لأن القذف لا يتعلق بالشرط لأنه لا يجوز أن تصير زانية بوطء الزوج كما لا تصير زانية بطلوع الشمس وإذا لم يصر قاذفاً لم يلزمه بالوطء حق فلم يجز أن يكون موليا وإن قال إن وطئتك فلله علي صوم هذا الشهر لم يكن مولياً لأن المولي هو الذي يلزمه بالوطء بعد أربعة أشهر حق أو يلحقه ضرر وهذا يقدر على وطئها بعد أربعة أشهر

من غير ضرر يلحقه ولا حق يلزمه لأن صوم شهر مضى لا يلزمه كما لو قال إن وطئتك فعلي صوم أمس وإن قال إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري وهو مظاهر فهو مول وقال المزني لا يصير مولياً لأن ما وجب عليه لا يتعين بالنذر كما لو قال: إن وطئتك فعلي أن أصوم اليوم الذي علي من قضاء رمضان في يوم الاثنين وهذا خطأ لأنه يلزمه بالوطء حق وهو إعتاق هذا العبد وأما الصوم فقد حكى أبو علي ابن أبي هريرة فيه وجهاً آخر أنه يتعين بالنذر كالعتق والذي عليه أكثر أصحابنا وهو المنصوص في الأم أنه لا يتعين والفرق بينهما أن الصوم الواجب لا تتفاضل فيه الأيام والرقاب كتفاضل أثمانها وإن قال إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت لم يكن مولياً في الحال لأنه يمكنه أن يطأها في الحال ولا يلزمه شيء لأنه يقف العتق بعد الوطء على شرط آخر فهو كما لو قال إن وطئتك ودخلت الدار فعبدي حر وإن ظاهر منها قبل الوطء صار مولياً لأنه لا يمكنه أن يطأها في مدة الإيلاء إلا بحق يلزمه فصار كما لو قال إن وطئتك فعبدي حر. فصل: ولا يصح الإيلاء إلا على ترك الوطء في الفرج فإن قال والله لا وطئتك في الدبر لم يكن مولياً لأن الإيلاء هو اليمين التي يمتنع بها نفسه من الجماع والوطء في الدبر ممنوع منه من غير يمين ولأن الإيلاء هو اليمين التي يقصد بها الإضرار بترك الوطء والوطء الذي يلحق الضرر بتركه هو الوطء في الفرج وإن قال والله لا وطئتك فيما دون الفرج لم يكن مولياً لأنه لا ضرر في ترك الوطء فيما دون الفرج. فصل: وإن قال والله لا أنيكك في الفرج أو والله لا أغيب ذكري في فرجك أو والله لا أقتضك بذكري وهي بكر فهو مول في الظاهر والباطن لأنه صريح في الوطء في الفرج وإن قال والله لا جامعتك أولا وطئتك فهو مول في الحكم لأن إطلاقه في العرف يقتضي الوطء في الفرج وإن قال أردت بالوطء وطء القدم وبالجماع الاجتماع بالجسم دين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال والله لا أقتضك ولم يقل بذكري ففيه وجهان: أحدهما: أنه صريح كالقسم الأول والثاني: أنه صريح في الحكم كالقسم الثاني لآنه يحتمل الاقتضاض بغير ذكره وإن قال والله لا دخلت عليك أولا يجتمع رأسي ورأسك أولا جمعني وإياك بيت فهو كناية فإن نوى به الوطء في الفرج فهو مول وإن لم تكن له نية فليس بمول لأنه يحتمل الجماع وغيره فلم يحمل على الجماع من غير نية كالكنايات في الطلاق وإن قال والله لا باشرتك أو لامستك أولا أفضي إليك ففيه قولان: قال في

القديم هو مول لأنه ورد القرآن بهذه الألفاظ والمراد بها الوطء فإن نوى به غير الوطء دين لأنه يحتمل ما يدعيه وقال في الجديد: لا يكون مولياً إلا بالنية لأنه مشترك بين الوطء وغيره فلم يحمل على الوطء من غير نية كقوله لا أجتمع رأسي ورأسك واختلف أصحابنا في قوله لا أصيبك أولا لمستك أولا غشيتك أولا باضعتك فمنهم من قال هو كقوله لا باشرتك أولا مسستك فيكون على قولين ومنهم من قال هو كقوله لا أجتمع رأسي ورأسك فإن نوى به الوطء في الفرج فهو مول وإن لم يكن له نية فليس بمول وإن قال والله لا غيبت الحشفة في الفرج فهو مول لأن تغييب ما دون الحشفة ليس بجماع ولا يتعلق به أحكام الجماع فصار كما لو قال والله لا وطئتك وإن قال والله لا جامعتك إلا جماع سوء فإذا أراد به لا جامعتك إلا في الدبر أو فيما دون الفرج فهو مول لأنه منع نفسه من الجماع في الفرج في مدة الإيلاء وإن أراد به لا جامعتك إلا جماعاً ضعيفاً لم يكن مولياً لأن الجماع الضعيف كالقوي في الحكم فكذلك في الإيلاء. فصل: ولا يصح الإيلاء إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر حراً كان الزوج أو عبداً حرة كانت الزوجة أو أمة فإن آلى على ما دون أربعة أشهر لم يكن موليا لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فدل على أنه لا يصير بما دونه موليا ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر والدليل عليه ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي حليل ألاعبه والله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه سأل عمر رضي الله عنه النساء كم تصبر المرأة عن الزوج فقلن شهرين وفي

الثالث يقل الصبر وفي الرابع يفقد الصبر فكتب عمر إلى امرأة الأجناد أن لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر وإن آلى على أربعة أشهر لم يكن مولياً لأن المطالبة بالفيئة أو الطلاق بعد أربعة أشهر فإذا آلى على أربعة أشهر لم يبق بعدها إيلاء فلا تصح المطالبة من غير إيلاء. فصل: وإن قال والله لا وطئتك فهو مول لأنه يقتضي التأبيد وإن قال والله لا وطئتك مدة أو والله ليطولن عهدك بجماعي فإن أراد مدة تزيد على أربعة أشهر فهو مول وإن لم يكن له نية لم يكن مولياً لأنه يقع على القليل والكثير فلا يجعل موليا من غير نية وإن قال والله لا وطئتك خمسة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك سنة فهما إيلان في زمانين لا يدخل أحدهما: في الآخر فيكون مولياً في كل واحد منهما لا يتعلق أحدهما: بالآخر في حكم من أحكام الإيلاء وإذا تقضى حكم أحدهما: بقي حكم الآخر لأنه أقر كل واحد منهما في زمان فانقرد كل واحد منهما عن الآخر في الحكم وإن قال والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال والله لا وطئتك سنة دخلت المدة الأولى في الثانية كما إذا قال له علي مائة ثم قال له علي ألف دخلت المائة في الألف فيكون إيلاء واحداً إلى سنة بيمين فيضرب لهما مدة يوم واحدة ويوقف لهما وقفاً واحداً فإن وطئ بعد الخمسة الأشهر حنث في يمين واحد فيجب عليه كفارة واحدة وإن وطئ في الخمسة الأشهر حنث في يمينين فيجب عليه في أحد القولين كفارة وفي الثاني كفارتان وإن قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإن مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ففيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه ليس بمول لأن كل واحد من الزمانين أقل من مدة الإيلاء والثاني: أنه مول لأنه منع نفسه من وطئها ثمانية أشهر فصار كما لو جمعها في يمين واحدة. فصل: وإن قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك ففيه قولان: قال في القديم يكون مولياً في الحال لأن المولى هو الذي يمتنع من الوطء خوف الضرر وهذا يمتنع من الوطء خوفاً من أن يطأها فيصير مولياً فعلى هذا إذا وطئها صار موليا وذلك ضرر وقال في الجديد: لا يكون مولياً في الحال لأنه يمكنه أن يطأها في غير ضرر يلحقه في الحال فلم يكن مولياً فعلى هذا إذا وطئها صار مولياً لأنه يبقى يمين يمنع الوطء على التأبيد وإن قال والله لا وطئتك في السنة إلا مرة صار موليا في قوله القديم ولا يكون مولياً في الحال في قوله الجديد فإن وطئها نظرت فإن لم يبق من السنة أكثر من أربعة أشهر لم يكن موليا وإن بقي أكثر من أربعة أشهر صار مولياً. فصل: وإن علق الإيلاء على شرط يستحيل وجوده بأن يقول والله لا وطئتك حتى

تصعدي إلى السماء أو تصافحي الثريا فهو مول لأن معناه لا وطئتك أبدا وإن علق على ما لا يتيقن أنه لا يوجد إلا بعد أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك إلى يوم القيامة أو إلى أن أخرج من بغداد إلى الصين وأعود فهو مول لأن القيامة لا تقوم إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر لأن شرائطها تتقدمها ويتيقن أنه لا يقدر أن يخرج من بغداد إلى الصين ويخرج إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر وإن علق على شرط الغالب على الظن أنه لا يوجد إلا في الزيادة على أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يخرج الدجال أو حتى يجيء زيد من خراسان ومن عادة زيد أن لا يجيء إلا مع الحاج وقد بقي على وقت عادته زيادة عن أربعة أشهر فهو مول لأن الظاهر أنه لا يوجد شيء من ذلك إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر وإن علق على أمر يتيقن وجوده قبل أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يذبل هذا البقل أو يجف هذا الثوب فليس بمول لأنا نتيقن أن ذلك يوجد قبل أربعة أشهر وإن علقه على الأمر الغالب على الظن أنه يوجد قبل أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يجيء زيد من القرية وعادته أنه يجيء في كل جمعة لصلاة الجمعة أو لحمل الحطب لم يكن مولياً لأن الظاهر أنه يوجد قبل مدة الإيلاء وإن جاز أن يتأخر لعارض وإن قال والله لا وطئتك حتى أموت أو تموتي فهو مول لأن الظاهر بقاؤهما وإن قال والله لا وطئتك حتى يموت فلان فهو مول ومن أصحابنا من قال ليس بمول والصحيح هو الأول لأن الظاهر بقاؤه ولأنه لو قال إن وطئتك فعبدي حر كان موليا على قوله الجديد وإن جاز أن يموت العبد قبل أربعة أشهر. فصل: وإن قال والله لا وطئتك في هذا البيت لم يكن مولياً لأنه يمكنه أن يطأها من غير حنث ولأنه لا ضرر عليها في ترك الوطء في بيت يعينه وإن قال والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن مولياً لما ذكرناه من التعليلين وإن قال والله لا وطئتك إن شئت فقالت في الحال شئت كان موليا وإن أخرت الجواب لم يكن مولياً على ما ذكرناه في الطلاق. فصل: وإن قال لأربع نسوة والله لا وطئتكن لم يصر مولياً حتى يطأ ثلاثاً منهن لأنه يمكنه أن يطأ ثلاثاً منهن من غير حنث فلم يكن مولياً وإن وطئ ثلاثاً منهن صار مولياً من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بحنث ويكون ابتداء المدة من الوقت الذي تعين فيه الإيلاء وإن طلق ثلاثاً منهن كان الإيلاء موقوفاً في الرابعة لا يتعين فيها لأنه يقدر على

وطئها من غير حنث ولا يسقط منها لأنه قد يطأ الثلاث المطلقات بنكاح أو سفاح فيتعين الإيلاء في الرابعة لأنه يحنث بوطئها والوطء المحظور كالمباح في الحنث ولهذا قال في الأم: ولو قال والله لا وطئتك وفلانة الأجنبية لم يكن مولياً من امرأته حتى يطأ الأجنبية وإن ماتت من الأربع واحدة سقط الإيلاء في الباقيات لأنه قد فات الحنث في الباقيات لأن الوطء في الميتة قد فات ولأن الإيلاء على الوطء وإطلاق الوطء لا يدخل فيه وطء الميتة ويدخل فيه الوطء المحرم وإن قال لأربع نسوة والله لا وطئت واحدة منكن وهو يريد كلهن صار مولياً في الحال لأنه يحنث بوطء كل واحدة منهن ويكون ابتداء المدة من حين اليمين فأيتهن طالبت وقف لها فإن طلقها وجاءت الثانية وقف لها فإن طلقها وجاءت الثالثة وقف لها فإن طلقها وجاءت الرابعة وقف لها فإن طالبت الأولى فوطئها حنث وسقط الإيلاء فيمن بقي لأنه لا يحنث بوطئهن بعد حنثه بوطء الأولى وإن طلق الأولى ووطئ الثانية سقط الإيلاء في الثالثة والرابعة وإن طلق الأولى والثانية: ووطئ الثالثة سقط الإيلاء في الرابعة وحدها وإن قال والله لا وطئت واحدة منكن وأراد واحدة بعينها تعين الإيلاء فيها دون ما سواها ويرجع في التعيين إلى بيانه لأنه لا يعرف إلا من جهته فإن عين واحدة وصدقته الباقيات تعين فيها وإن كذبه الباقيات حلف لهن فإن نكل حلفن وثبت فيهن حكم الإيلاء بنكوله وإيمانهن وإن قال والله لا وطئت واحدة منكن وهو يريد واحدة لا بعينها فله أن يعين فيمن شاء ويؤخذ بالتعيين إذا طلبن ذلك فإذا عين في واحدة منهن لم يكن للباقيات مطالبة وفي ابتداء المدة وجهان: أحدهما: من وقت اليمين والآخر من وقت التعيين كما قلنا في العدة في الطلاق إذا أوقعه في إحداهن لا بعينها ثم عينه في واحدة منهن وإن قال والله لا أصبت كل واحدة منكن فهو مول من كل واحدة منهن وابتداء المدة من حين اليمين فإن وطئ واحدة منهن حنث ولم يسقط الإيلاء في الباقيات لأنه يحنث بوطء كل واحدة منهن. فصل: وإن كانت له امرأتان فقال لإحداهما: والله لا أصبتك ثم قال للأخرى أشركتك معها لم يصر مولياً من الثانية لأن اليمين بالله عز وجل لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم أوصفة والتشريك بينهما كناية فلم يصح بها اليمين بالله عز وجل وإن قال لإحداهما إن أصبتك فأنت طالق ثم قال للأخرى أشركتك معها ونوى صار مولياً لأن الطلاق يصح بالكناية. فصل: وإذا صح الإيلاء لم يطالب بشيء قبل أربعة أشهر لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وابتداء المدة من حين اليمين لأنها ثبتت بالنص

والإجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كمدة العقد فإن آلى منها وهناك عذر يمنع من الوطء نظرت فإن كان لمعنى في الزوجة بأن كانت صغيرة أو مريضة أو ناشزة أو مجنونة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو معتكفة عن فرض لم تحسب المدة وإن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة انقطعت المدة لأن المدة إنما نظرت لامتناع الزوج من الوطء وليس في هذه الأحوال من جهته امتناع فإن زالت هذه الأعذار استؤنفت المدة لأن من شأن هذه المدة أن تكون متوالية فإذا انقطعت استؤنفت كصوم الشهرين المتتابعين فإن كانت حائضاً حسبت المدة فإن طرأ الحيض في أثنائها لم تنقطع لأن الحيض عذر معتاد لا ينفك منه فلو قلنا إنه يمنع الاحتساب اتصل الضرر وسقط حكم الإيلاء ولهذا لا يقلع التتابع في صوم الشهرين المتتابعين وإن كانت نفساء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحتسب المدة لأنه كالحيض في الأحكام فكذلك في الإيلاء والثاني: لا يحتسب وإذا طرأ قطع لأنه عذر نادر فهو كسائر الأعذار وإن كان العذر لمعنى في الزوج بأن كان مريضاً أو مجنوناً أو غائباً أو مجبوباً أو محرماً أو صائماً عن فرض أو معتكفاً عن فرض حسبت المدة فأن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة لم تنقطع لأن الامتناع من جهته والزوجية باقية فحسبت المدة عليه وإن آلى في حال الردة أوفي عدة الرجعية لم تحتسب المدة وإن طرأت الردة أو الطلاق الرجعي في أثناء المدة انقطعت لأن النكاح قد تشعث بالطلاق والردة فلم يكن للامتناع حكم وإن أسلم بعد الردة أو راجع بعد الطلاق وبقيت مدة التربص استؤنفت لمدة لما ذكرناه. فصل: إذا طلقها في مدة التربص انقطعت المدة ولم يسقط الإيلاء فإن راجعها وقد بقيت مدة التربص استؤنفت المدة فإن وطئها حنث في اليمين وسقط الإيلاء لأنه أزال الضرر وإن وطئها وهي نائمة أو مجنونة حنث في يمينه وسقط الإيلاء وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث في يمينه لارتفاع القلم عنه وهل يسقط حقها؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط لأنها وصلت إلى حقها والثاني: لا يسقط لأن حقها في فعله لا في فعلها وإن وطئها وهو مجنون لم يحنث لارتفاع القلم عنه وهل يسقط حقها ففيه وجهان: أحدهما: يسقط وهو الظاهر من المذهب لأنها قد وصلت منه إلى حقها وإن لم يقصد فسقط حقها كما لو وطئها وهو يظن أنها امرأة أخرى والثاني: وهو قول المزني أنه لا يسقط حقها لأنه لا يحنث به فلم يسقط به الإيلاء. فصل: وإن وطئها وهناك مانع من إحرام أو صوم أو حيض سقط به حقها من الإيلاء لأنها وصلت منه إلى حقها وإن كان بمحرم.

فصل: وإن لم يطلقها ولم يطأها حتى انقضت المدة نظرت فإن لم يكن عذر يمنع الوطء ثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] وإن كانت الزوجة أمة لم يجز للمولى المطالبة وإن كانت مجنونة لم يكن ثوابها المطالبة لأن المطالبة بالطلاق أو الفيئة طريقها الشهوة فلا يقوم الولي فيه مقامها والمستحب أن يقول له في المجنونة اتق الله في حقها فإما أن تفيء إليها أو تطلقها وإن ثبت لها المطالبة فعفت عنها الزوجة جاز لها أن ترجع وتطالب لأنها إنما ثبت لها المطالبة لدفع الضرر بترك الوطء وذلك يتجدد مع الأحوال فجاز لها الرجوع كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ وإن طولب بالفيئة فقال أمهلوني ففيه قولان: أحدهما: يمهل ثلاثة أيام لأنه قريب والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 64 - 65] ولهذا قدر به الخيار في البيع والثاني: يمهل قدر ما يحتاج إليه للتأهب للوطء فإن كان ناعساً أمهل إلى أن ينام وإن كان جائعا أمهل إلى أن يأكل وإن كان شبعانا أمهل إلى أن يخف وإن كان صائماً أمهل إلى أن يفطر لأنه حق حمل عليه وهو قادر على أدائه فلم يمهل أكثر من قدر الحاجة كالين الحال. فصل: وإن وطئها في الفرج فقد أوفاها حقها ويسقط الإيلاء وأدناه أن تغيب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به وإن وطئها في الموضع المكروه أو وطئها فيما دون الفرج لم يعتد به لأن الضرر لا يزول إلا بالوطء في الفرج فإن وطئها في الفرج فإن كانت اليمين بالله تعالى فهل تلزمه الكفارة فيه قولان: قال في القديم: لا تلزمه لقوله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} فعلق المغفرة بالفيئة فدل على أنه استغنى عن الكفارة وقال في الجديد: تلزمه الكفارة وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" 1. ولأنه حلف بالله تعالى وحنث فلزمته الكفارة كما لو حلف على ترك صلاة فصلاها واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان فيمن جامع وقت المطالبة فأما إذا وطئ في مدة

_ 1 رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 11، 13. الترمذي في كتاب النذور باب 6. النسائي في كتاب الأيمان باب 15، 16. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 7. الموطأ في كتاب النذور حديث 11. أحمد في مسنده 4/256.

التربص فإنه يجب عليه الكفارة قولاً واحداً لأن بعد المطالبة الفيئة واجبة فلا يجب بها كفارة كالحلق عند التحلل ومنهم من قال القولان في الحالين ويخالف كفارة الحج فإنها تجب بالمحظور والحلق المحظور وهو الحلق في حال الإحرام وأما الحلق عند التحلل فهو نسك وليس كذلك كفارة اليمين فإنها تجب بالحنث والحنث الواجب كالحنث المحظور في إيجاب الكفارة وإن كان الإيلاء على عتق وقع بنفس الوطء لأنه عتق معلق على شرط فوقع وجوده وإن كان على نذر عتق أو نذر صوم أو صلاة أو التصدق بمال فهو بالخيار بين أن يفي بما نذر وبين أن يكفر كفارة يمين لأنه نذر نذراً على وجه اللجاج والغضب فيخير فيه بين الكفارة وبين الوفاء بما نذر وإن كان الإيلاء على الطلاق الثلاث طلقت ثلاثاً لأنه طلاق معلق على شرط فوقع بوجوده وهل يمنع من الوطء أم لا ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن خيران أنه يمنع من وطئها لأنها تطلق قبل أن ينزع فمنع منه كما يمنع في شهر رمضان أن يجامع وهو يخشى أن يطلع الفجر قبل أن ينزع والثاني: وهو المذهب أنه لا يمنع لأن الإيلاج صادف النكاح والذي يصادف غير النكاح هو النزع وذلك ترك الوطء وما تعلق التحريم بفعله لا يتعلق بتركه ولهذا لو قال لرجل ادخل داري ولا تقم فيها جاز أن يدخل ثم يخرج وإن كان الخروج في حالة الحظر وأما مسألة الصوم فقد ذكر بعض أصحابنا أنها على وجهين: أحدهما: أنه لا يمنع فلا فرق بينها وبين مسألتنا فعلى هذا لا يزيد على تغييب الحشفة في الفرج ثم ينزع فإذا زاد على ذلك أو استدام لم يجب عليه الحد لأنه وطء اجتمع فيه التحليل والتحريم فلم يجب به الحد وهل يجب به المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب كما تجب الكفارة على الصائم إذا أولج قبل الفجر واستدام بعد طلوعه والثاني: لا يجب لأن ابتداء الوطء يتعلق به المهر الواجب بالنكاح لأن المهر في مقابلة كل وطء يوجد في النكاح وقد تكون مفوضة فيجب عليه المهر بتغييب الحشفة فلو أوجبنا بالاستدامة مهراً أدى إلى إيجاب مهرين بإيلاج واحد وليس كذلك الكفارة فإنها لا تتعلق بابتداء الجماع فلا يؤدي إيجابها في الاستدامة إلى إيجاب كفارتين بإيلاج واحد وإن نزع ثم أولج نظرت فإن كانا جاهلين بالتحريم بأن اعتقدا أن الطلاق لا يقع إلا باستكمال الوطء لم يجب عليهما الحد للشبهة فلهذا يجب المهر وإن كانا عالمين بالتحريم ففي الحد وجهان: أحدهما: أنه يجب لأنه إيلاج مستأنف محرم من غير شبهة فوجب به الحد كالإيلاج في الأجنبية فعلى هذا لا يجب المهر لأنها

زانية والثاني: لا يجب الحد لأن الإيلاجات وطء واحد فإذا لم يجب في أوله لم يجب في إتمامه فعلى هذا يجب لها المهر وإن علم الزوج بالتحريم وجهلت الزوجة أو علمت ولم تقدر على دفعه لم يجب عليها الحد ويجب لها المهر وفي وجوب الحد على الزوج وجهان وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم وهي عالمة ففي وجوب الحد عليها وجهان: أحدهما: يجب فعلى هذا لا يجب لها المهر والثاني: لا يجب فعلى هذا يجب لها المهر. فصل: وإن طلق فقد سقط حكم الإيلاء وبقيت اليمين فإن امتنع ولم يف ولم يطلق ففيه قولان: قال في القديم: لا يطلق عليه الحاكم لقوله صلي الله عليه وسلم: "الطلاق لمن أخذ بالساق" 1. ولأن ما خير فيه الزوج بين أمرين لم يقم الحاكم فيه مقامه في الاختيار كما لو أسلم وتحته أختان فعلى هذا يحبس حتى يطلق أو يفيء كما يحبس إذا امتنع من اختيار إحدى الأختين وقال في الجديد: يطلق الحاكم عليه لأن ما دخلت النيابة فيه وتعين مستحقه وامتنع من هو عليه قام الحاكم فيه مقامه كقضاء الدين فعلى هذا يطلق عليه طلقة وتكون رجعية وقال أبو ثور: تقع طلقة بائنة لأنها فرقة لدفع الضرر لفقد الوطء فكانت بائنة كفرقة العنين وهذا خطأ لأنه طلاق صادف مدخولاً بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعياً كالطلاق من غير إيلاء ويخالف فرقة العنين فإن تلك الفرقى فسخ وهذا طلاق فإذا وقع الطلاق ولم يراجع حتى بانت ثم تزوجها والمدة باقية فهل يعود الإيلاء على ما ذكرناه في عود اليمين في النكاح الثاني؟ فإن قلنا يعود فإن كانت المدة باقية استؤنفت مدة الإيلاء ثم طولب بعد انقضائها بالفيئة أو الطلاق فإن راجعها والمدة باقية استؤنفت المدة وطولب بالفيئة أو الطلاق وعلى هذا إلى أن يستوفي الثلاث فإن عادت إليه بعد استيفاء الثلاث والمدة باقية فهل يعود الإيلاء على قولين. فصل: وإن انقضت المدة وهناك عذر يمنع الوطء نظرت فإن كان لمعنى فيها كالمرض والجنون الذي لا يخاف منه أو الإغماء الذي لا تمييز معه أو الحبس في موضع لا يصل إليه أو الإحرام أو الصوم الواجب أو الحيض أو النفاس لم يطالب لأن المطالبة تكون مع الاستحقاق وهي لا تستحق الوطء في هذه الأحوال فلم تجز المطالبة فيه وإن كان العذر من جهته نظرت فإن كان مغلوباً على عقله لم يطالب لأنه لا يصلح للخطاب ولا يصلح منه جواب فإن كان مريضاً مرضاً يمنع الوطء أو حبس بغير حق حبساً يمنع الوصول إليه طولب أن يفيء فيئة المعذور بلسانه وهو أن يقول لست أقدر على الوطء ولو

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 31.

قدرت لفعلت فإذا قدرت فعلت وقال أبو ثور: لا يلزمه الفيئة باللسان لأن الضرر بترك الوطء لا يزول بالفيئة باللسان وهذا خطأ لأن القصد بالفيئة ترك ما قصد إليه من الأضرار وقد ترك القصد إلى الإضرار بما أتى به من الاعتذار ولأن القول مع العذر يقوم مقام الفعل عند القدرة ولهذا نقول إن إشهاد الشفيع على طلب الشفعة في حال الغيبة يقوم مقام الطلب في حال الحضور في إثبات الشفعة وإذا فاء باللسان ثم قدر طولب بالوطء لأنه تأخر بعذر فإذا زال العذر طولب به. فصل: وإن انقضت المدة وهو غائب فإن كان الطريق آمنا فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها أو بحملها إليه أو بالطلاق وإن كان الطريق غير آمن فاء فيئة معذور إلى أن يقدر فإن لم يفعل أخذ بالطلاق. فصل: وإن انقضت المدة وهو محرم قيل له إن وطئت فسد إحرامك وإن لم تطأ أخذت بالطلاق فإن طلقها سقط حكم الإيلاء وإن وطئها فقد أوفاها حقها وفسد نسكه وإن لم يطأ ولم يطلق ففيه وجهان: أحدهما: يقتنع منه بفيئة معذور إلى أن يتحلل لأنه غير قادر على الوطء فأشبه بالمريض والمحبوس والثاني: لا يقتنع منه وهو ظاهر النص لأنه امتنع من الوطء بسبب من جهته. فصل: وإن انقضت المدة وهو مظاهر قيل له إن وطئت قبل التفكير أثمت للظهار وإن لم تطأ أخذت بالطلاق فإن فقال أمهلوني حتى أشتري رقبة أكفر بها أمهل ثلاثة أيام وإن قال أمهلوني حتى أكفر بالصيام لم يمهل لأن مدة الصيام تطول وإن أراد أن يطأها قبل أن يكفر وقالت المرأة لا أمكنك من الوطء لأني محرمة عليك فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله أنه ليس لها أن تمتنع فإن امتنعت سقط حقها من المطالبة كما نقول فيمن له دين على رجل فأحضر مالا فامتنع صاحب الحق من أخذه وقال لا آخذه لأنه مغصوب أن يلزمه أن يأخذه أو يبرئه من الدين وعندي أن لها أن تمتنع لأنه وطء محرم فجاز لها أن تمتنع منه كوطء الرجعية ويخالف صاحب الدين فإنه يدعي أنه مغصوب والذي عليه الدين يدعي أنه ماله والظاهر معه فإن اليد تدل على الملك وليس كذلك وطء المظاهر منها فإنهما متفقان على تحريمه فنظيره من المال أن يتفقا على أنه مغصوب فلا يجبر صاحب الدين على أخذه. فصل: وإن انقضت المدة فادعى أنه عاجز ولم يكن قد عرف حاله أنه عنين وقادر ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر النص أنه يقبل قوله لأن التعنين من العيوب التي لا يقف

عليها غيره فقبل قوله فيه مع اليمين فإن حلف طولب بفيئة معذور أو يطلق والوجه الثاني أنه لا يقبل قوله لأنه متهم فعلى هذا يؤخذ بالطلاق. فصل: وإن آلى المجبوب وقلنا أنه يصح إيلاؤه أو الى وهو صحيح الذكر وانقضت المدة وهو مجبوب فاء فيئة معذور وهو أن يقول لو قدرت فعلت فإن لم يفيء أخذ بالطلاق. فصل: وإن اختلف الزوجان في انقضاء المدة فادعت المرأة انقضاءها وأنكر الزوج فالقول قول الزوج لأن الأصل أنها لم تنقض ولأن هذا اختلاف في وقت الإيلاء فكان القول فيه قوله وإن اختلفا في الإصابة فادعى الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة فعلى ما ذكرناه في العنين.

كتاب الظهار

كتاب الظهار مدخل ... كتاب الظهار الظهار محرم لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] ويصح ذلك من كل زوج مكلف لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] ولأنه قول يختص به النكاح فصح من كل زوج مكلف كالطلاق ولا يصح من السيد في أمته لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فخص به الأزواج ولأن الظهار كان طلاقاً في النساء في الجاهلية فنسخ حكمه وبقي محله. فصل: وإن قالت أنت علي كظهر أمي فهو ظهار وإن قال أنت علي كظهر جدتي فهو ظهار لأن الجدة من الأمهات ولأنها كالأم في التحريم وإن قال أنت علي كظهر أبي لم يكن ظهاراً لأنه ليس بمحل الاستمتاع فلم يصر بالتشبيه به مظاهرا كالبهيمة وإن قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي ففيه قولان: قال في القديم: ليس بظهار لأن الله تعالى نص على الأمهات وهن الأصل في التحريم وغيرهن فرع لهن ودونهن فلم يلحقن بهن في الظهار وقال في الجديد: هو ظهار وهو الصحيح لأنها محرمة بالقرابة على التأبيد فأشبهت الأم وإن شبهها بمحرم من غير ذوات المحارم نظرت فإن كانت امرأة حلت له ثم حرمت عليه كالملاعنة والأم من الرضاع وحليلة الأب بعد ولادته أو محرمة تحل له في الثاني كأخت زوجته وخالتها وعمتها لم يكن ظهاراً لأنهن دون الأم في التحريم وإن لم تحل له قط ولا تحل له في الثاني كحليلة الأب قبل ولادته فعلى القولين في ذوات المحارم. فصل: وإن قال أنت عندي أو أنت مني أو أنت معي كظهر أمي فهو ظهار لأنه يفيد ما يفيد قوله أنت علي كظهر أمي وإن شبهها بعضو من أعضاء الأم غير الظهر بأن قال

أنت علي كفرج أمي أو كيدها أو كرأسها فالمنصوص أنه ظهار ومن أصحابنا من جعلها علي قولين قياساً على من شبهها بذات رحم محرم منه غير الأم والصحيح أنه ظهار قولاً واحداً لأن غير الظهر كالظهر في التحريم وغير الأم دون الأم في التحريم وإن قال أنت علي كبدن أمي فهو ظهار لأنه يدخل الظهر فيه وإن قال أنت علي كروح أمي ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه ظهار لأنه يعبر به عن الجملة والثاني: أنه كناية لأنه يحتمل أنها كالروح في الكرامة فلم يكن ظهاراً من غير نية والثالث وهو قول علي ابن أبي هريرة أنه ليس بصريح ولا كناية لأن الروح ليس من الأعيان التي يقع بها التشبيه وإن شبه عضواً من زوجته بظهر أمه بأن قال رأسك أو يدك علي كظهر أمي فهو ظهار لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه علي يدها ورأسها كالطلاق وعلى قول ذلك القائل يجب أن يكون ههنا قول آخر أنه ليس بظهار. فصل: وإن قال أنت علي كأمي أو مثل أمي لم يكن ظهاراً إلا بالنية لأنه يحتمل أنها كالأم في التحريم أوفي الكرامة فلم يجعل ظهاراً من غير نية كالكنايات في الطلاق. فصل: وإن قال أنت طالق ونوى به الظهار لم يكن ظهارا وإن قال أنت علي كظهر أمي ونوى به الطلاق لم يكن طلاقاً لأن كل واحد منهما صريح في موجبه في الزوجية فلا ينصرف عن موجبه بالنية وإن قال أنت طالق كظهر أمي ولم ينو شيئاً وقع الطلاق بقوله أنت طالق ويلغى قوله كظهر أمي لأنه ليس معه ما يصير به ظهارا وهو قوله أنت علي أو مني أو معي أو عندي فيصير كما لو قال ابتداء كظهر أمي وإن قال أردت أنت طالق طلاقاً يحرم كما يحرم الظهار وقع الطلاق وكان قوله كظهر أمي تأكيدا وإن قال أردت أنت طالق وأنت علي كظهر أمي فإن كان الطلاق رجعياً صار مطلقا ومظاهرا وإن كان بائنا وقع الطلاق ولم يصح الظهار لأن الظهار يلحق الرجعية ولا يلحق البائن وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي ولم ينو شيئاً فهو ظهار لأنه أتى بصريحه وأكده بلفظ التحريم وإن نوى به الطلاق فقد أكد الربيع أنه طلاق وروى في بعض نسخ المزني أنه ظهار وبه قال بعض أصحابنا لأن ذكر الظهار قرينة ظاهرة ونية الطلاق قرينة خفية فقدمت القرينة الظاهرة على القرينة الخفية والصحيح أنه طلاق وأما الظهار فهو غلط وقع في بعض النسخ لأن التحريم كناية في الطلاق والكناية مع النية كالصريح فصار كما لو قال أنت طالق كظهر أمي وإن أردت الطلاق والظهار فإن كان الطلاق رجعياً صار مطلقا ومظاهرا وإن كان الطلاق بائنا صح الطلاق ولم يصح الظهار لما ذكرناه فيما تقدم وعلى مذهب ذلك القائل هو مظاهر لأن القرينة الظاهرة مقدمة وإن قال أردت تحريم عينها وجبت كفارة يمين وعلى قول ذلك القائل هو مظاهر.

فصل: ويصح الظهار مؤقتا وهو أن يقول أنت علي كظهر أمي يوماً أو شهرا نص عليه في الأم وقال في اختلاف العراقيين لا يصير مظاهراً لأنه لو شبهها بمن تحرم إلى وقت لم يصر مظاهراً فكذلك إذا شبهها بأمه إلى وقت والصحيح هو الأول لما روى سلمة بن صخر قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتتابع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان فبينما هي تحدثني ذات ليلة وتكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "حرر رقبة". ولأن الحكم إنما تعلق بالظهار لقوله المنكر والزور وذلك موجود في المؤقت. فصل: ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار ومشيئة زيد لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه بالشرط كالطلاق وإن قال إن تظاهرت من فلانة فأنت علي كظهر أمي فتزوج فلانة وتظاهر منها صار مظاهراً من الزوجة لأنه قد وجد شرط ظهارها وإن قال إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم تزوج فلانة وظاهر منها ففيه وجهان: أحدهما: لا يصير مظاهراً من الزوجة لأنه شرط أن يظاهر من الأجنبية والشرط لم يوجد فصار كما لو قال إن تظاهرت من ثلاثة وهي أجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها وظاهر منها والثاني: يصير مظاهرا لأنه علق ظهارها بعينها ووصفها بصفة والحكم إذا تعلق بعين على صفة كانت الصفة تعريفا لا شرطا كما لو قال والله لا دخلت دار زيد هذه فباعها زيد ثم دخلها فإنه يحنث وإن لم تكن ملك زيد. فصل: وإن قالت الزوجة لزوجها أنت علي كظهر أبي أو أنا عليك كظهر أمك لم يلزمها شيء لأنه قول يوجب تحريماً في الزوجية يملك الزوج رفعه فاختص به الرجل كالطلاق. فصل: وإذا صح الظهار ووجد العود وجبت الكفارة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] والعود هو أن

يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فلم يفعل وإن ماتت المرأة عقيب الظهار أو طلقها عقيب الظهار لم تجب الكفارة والدليل على أن العود ما ذكرناه هو أن تشبيهها بالأم يقتضي أن لا يمسكها فإذا أمسكها عاد فيما قال فإذا ماتت أو طلقها عقيب الظهار لو يوجد العود فيما قال. فصل: وإن تظاهر من رجعية لم يصر عائداً قبل الرجعة لأنه لا يوجد الإمساك وهي تجري إلى البينونة فإن راجعها فهل تكون الرجعة عوداً أم لا فيه قولان: قال في الإملاء: لا تكون عوداً حتى يمسكها بعد الرجعة لأن العود استدامة الإمساك والرجعة ابتداء استباحة فلم تكن عودا وقال في الأم: هو عود لأن العود هو الإمساك وقد سمى الله عز وجل الرجعة إمساكاً فقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ولأنه إذا حصل العود باستدامة الإمساك فلأن يحصل بابتداء الاستباحة أولى وإن بانت منه ثم تزوجها فهل يعود الظهار أم لا على الأقوال التي مضت في الطلاق فإذا قلنا أنه يعود فهل يكون النكاح عوداً فيه وجهان: الصحيح لا بناء عن القولين في الرجعة وإن ظاهر الكافر من امرأته وأسلمت المرأة عقيب الظهار فإن كان قبل الدخول لم تجب الكفارة لأنه لم يوجد العود وإن كان بعد الدخول لو يصر عائداً ما دامت في العدة لأنها تجري إلى البينونة وإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة ففيه وجهان: أحدهما: لا يصير عائداً لأن العود هو الإمساك على النكاح وذلك لا يوجد إلا بعد الإسلام والثاني: يصير عائداً لأن قطع البينونة بالإسلام أبلغ من الإمساك فكان العود به أولى. فصل: وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج عقيب الظهار ففيه وجهان: أحدهما: أن الملك عود لأن العود أن يمسكها على الاستباحة وذلك قد وجد والثاني: وهو قول أبي إسحاق أن ذلك ليس بعود لأن العود هو الإمساك على الزوجية والشروع في الشراء تسبب لفسخ النكاح فلم يجز أن يكون عودا وإن قذفها وأتى من اللعان بلفظ الشهادة وبقي لفظ اللعان فظاهر منهما ثم أتى بلفظ اللعن عقيب الظهار لم يكن ذلك عوداً لأنه يقع به الفرقة فلم يكن عوداً كما لو طلقها وإن قذفها ثم ظاهر منها ثم أتى بلفظ اللعان ففيه وجهان: أحدهما: أنه صار عائداً لأنه أمسكها زماناً أمكنه أن يطلقها فيه فلم يطلق والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يكون عائداً لأنه اشتغل بما يوجب الفرقة فصار كما لو ظاهر منها ثم طلق وأطال لفظ الطلاق. فصل: وإن كان الظهار مؤقتاً ففي عوده وجهان: أحدهما: وهو قول المزني أن العود فيه أن يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه كما قلنا في الظهار المطلق، والثاني:

وهو المنصوص أنه لا يحصل العود فيه إلا بالوطء لأن إمساكه يجوز أن يكون لوقت الظهار ويجوز أن يكون لما بعد مدة الظهار فلا يتحقق العود إلا بالوطء فإن لم يطأها حتى مضت المدة سقط الظهار ولم تجب الكفارة لأنه لم يوجد العود. فصل: وإن تظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات وأمسكهن لزمه لكل واحدة كفارة وإن تظاهر منهن بكلمة واحدة بأن قال أنتن علي كظهر أمي وأمسكهن ففيه قولان: قال في القديم تلزمه كفارة واحدة لما روى ابن عباس عن سعيد بن المسيب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سئل عن رجل تظاهر من أربع نسوة فقال يجزيه كفارة واحدة وقال في الجديد يلزمه أربع كفارات لأنه وجد الظهار والعود في حق كل واحدة منهن فلزمه أربع كفارات كما لو أفردهن بكلمات وإن تظاهر من امرأة ثم ظاهر منها قبل أن يكفر عن الأول نظرت فإن قصد التأكيد لزمه كفارة واحدة وإن قصد الاستئناف ففيه قولان: قال في القديم تلزمه كفارة واحدة لأن الثاني لو يؤثر في التحريم وقال في الجديد يلزمه كفارتان لأنه قول يؤثر في تحريم الزوجة كرره على وجه الاستئناف فتعلق بكل مرة حكم الطلاق وإن أطلق ولم ينو شيئاً فقدر قال بعض أصحابنا حكمه حكم ما لو قصد التأكيد ومنهم من قال حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف كما قلنا فيمن كرر الطلاق وإن كانت له امرأتان وقال لإحداهما إن تظاهرت منك فالأخرى علي كظهر أمي ثم تظاهر من الأولى وأمسكها لزمه كفارتان قولاً واحداً لأنه أفرد كل واحدة منهما بظهار. فصل: وإذا وجبت الكفارة حرم وطؤها إلى أن يكفر لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 3 - 4] فشرط في العتق والصوم أن يكونا قبل المسيس وقسنا عليهما الإطعام وروى عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "ما حملك على ما صنعت"؟ قال: رأيت بياض ساقها في القمر قال: "فاعتزلها حتى تكفر عن يمينك". واختلف قوله: في المباشرة فيما دون الفرج فقال في القديم تحرم لأنه قول يؤثر في تحريم الوطء فحرم به ما دونه من المباشرة كالطلاق وقال في الجديد لا تحرم لأنه وطء لا يتعلق بتحريمه مال فلم يجاوزه التحريم كوطء الحائض. والله أعلم.

باب كفارة الظهار

باب كفارة الظهار وكفارته عتق رقبة لمن وجد وصيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرقبة وإطعام ستين مسكينا لمن لا يجد الرقبة ولا يطيق الصوم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ

يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} وروت خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول: "اتق الله فإنه ابن عمك" فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله} الآية فقال: "يعتق رقبة" فقلت: لا يجد قال: "فليصم شهرين متتابعين" قلت: يا رسول الله شيخ كبير ما به صيام قال: " فليطعم ستين مسكيناً" قلت: يا رسول الله ما عنده شيء يتصدق به قال: "فأتى بعرق من تمر" قلت: يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر قال: "قد أحسنت فاذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك". فإن كان له مال يشتري به رقبة فاضلاً عما يحتاج إليه لقوته ولكسوته ومسكنه وبضاعة لا بد له منها وجب عليه العتق وإن كان له رقبة لا يستغني عن خدمتها بأن كان كبيراً أو مريضاً أو ممن لا يخدم نفسه لم يلزمه صرفها في الكفارة لأن ما يستغرقه حاجته كالمعدوم في جواز الإنتقال إلى البدل كما نقول فيمن معه ماء يحتاج إليه للعطش وإن كان ممن يخدم نفسه ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه العتق لأنه مستغن عنه والثاني: لا يلزمه لأن ما من أحد إلا ويحتاج إلى الترفه والخدمة وإن وجبت عليه كفارة وله مال غائب إن كان لا ضرر عليه في تأخير الكفارة ككفارة القتل وكفارة الوطء في رمضان لم يجز أن ينتقل إلى الصوم لأنه قادر على العتق من غير ضرر فلا يكفر بالصوم كما لو حضر المال وإن كان عليه ضرر في تأخير الكفارة ككفارة الظهار ففيه وجهان: أحدهما: لا يكفر بالصوم لأن له مالاً فاضلاً عن كفايته يمكنه أن يشتري به رقبة فلا يكفر بالصوم كما نقول في كفارة القتل والثاني: له أن يكفر بالصوم لأن عليه ضرراً في تحريم الوطء إلى أن يحضر المال فجاز له أن يكفر بالصوم. فصل: وإن اختلف حاله من حين وجبت الكفارة إلى حين الأداء ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أن يعتبر حال الأداء لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها فاعتبر فيها حال الأداء كالوضوء والثاني: يعتبر حال الوجوب لأنه حق يجب على وجه التطهير فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد والثالث يعتبر أغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين الأداء فأي وقت قدر على العتق لزمه لأنه حق يجب في الذمة بوجود المال فاعتبر فيه أغلظ الأحوال كالحجج. فصل: ولا يجزئ في شيء من الكفارات إلا رقبة مؤمنة لقوله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فنص في كفارة القتل على رقبة مؤمنة وقسنا عليها سائر الكفارات.

فصل: ولا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب التي تضر بالعمل ضرراً بينا لأن المقصود تمليك العبد منفعته وتمكينه من التصرف وذلك لا يحصل مع العيب الذي يضر بالعمل ضرراً بيناً فإن أعتق أعمى لم يجز لأن العمى يضر بالعمل الضرر البين وإن أعتق أعور أجزأه لأن العور لا يضر بالعمل ضرراً بيناً لأنه يدرك ما يدرك البصير بالعينين ولا تجزئ مقطوع اليد أو الرجل لأن ذلك يضر بالعمل ضررا بينا ولا يجزئ مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى لأن منفعة اليد تبطل بقطع كل واحد منهما ويجزئ مقطوع الخنصر أو البنصر لأنه لا تبطل منفعة اليد بقطع إحداهما إن قطعتا جميعاً فإن كانتا من كف واحدة لم تجزه لأنه تبطل منفعة اليد بقطعهما وإن كانتا من كفين أجزأه لأنه لا تبطل منفعة كل واحد من الكفين وإن قطع منه أنملتان فإن كانتا من الخنصر أو البنصر أجزأه لأن ذهاب كل واحدة منهما لا يمنع الإجزاء فلأن لا يمنع ذهاب أنملتين أولى وإن كانتا من الوسط أو السبابة لم يجزه لأنه تبطل به منفعة الأصبع وإن قطعت منه أنملة فإن كانت من غير الإبهام أجزأه لأنه لا تبطل به منفعة الأصبع وإن كانت من الإبهام لم يجزه لأنه تبطل به منفعة الإبهام. فصل: وإن كان أعرج نظرت فإن كان عرجاً قليلاً أجزأه لأنه لا يضر بالعمل ضرراً بيناً وإن كان كثيراً لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا ويجزئ الأصم لأن الصمم لا يضر بالعمل بل يزيد في العمل لأنه لا يسمع ما يشغله وأما الأخرس فقد قال في موضع يجزئه وقال في موضع لا يجزئه فمن أصحابنا من قال إن كان مع الخرس صمم لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا وإن لم يكن معه صمم أجزأه لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان يعقل الإشارة أجزأه لأنه يبلغ بالإشارة ما بلغ بالنطق وإن كان لا يعقل لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا وحمل القولين على هذين الحالين وإن كان مجنوناً جنوناً مطبقاً يمنع العمل لم يجزه لأنه لا يصلح للعمل وإن كان يجن ويفيق نظرت فإن كان زمان المجنون أكثر لم يجزه لأنه يضر به ضررا بينا وإن كان زمان الإفاقة أكثر أجزأه لأنه لا يضر به ضررا بينا ويجزئ الأحمق وهو الذي يفعل الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه. فصل: ويجزئ الأجدع لأنه كغيره في العمل ويجزئ مقطوع الأذن لأن قطع الأذن لا يؤثر في العمل وغيره أولى منه ليخرج من الخلاف فإن عند مالك لا يجزئه ويجزئ ولد الزنا لأنه كغيره في العمل وغيره أولى منه لأن الزهري والأوزاعي لا يجيزان ذلك،

ويجزئ المجبوب والخصي لأن الجب والخصي لا يضران بالعمل ضررا بينا ويجزئ الصغير لأنه يرجى من منافعه وتصرفه أكثر مما يرجى من الكبير ولا يجزئ عتق الحمل لأنه لم يثبت له حكم الأحياء ولهذا لا يجب عنه زكاة الفطر ويجزئ المريض الذي يرجى برؤه ولا يجزئ من لا يرجى برؤه لأنه لا عمل فيه ويجزئ نضو الخلق إذا لم يعجز عن العمل ولا يجزئ إذا عجز عن العمل وإن أعتق مرهونا أو جانيا وجوزنا عتقه أجزأه لأنه كغيره في العمل. فصل: ولا يجزئ عبد مغصوب لأنه ممنوع من التصرف في نفسه فهو كالزمن وإن أعتق غائباً لا يعرف خبره فظاهر ما قاله هاهنا أنه لا يجزئه وقال في زكاة الفطر إن عليه فطرته فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يجزئه عن الكفارة وتجب زكاة الفطر عنه لأنه على يقين من حياته وعلى شك من موته واليقين لا يزال بالشك والثاني: لا يجزئ في الكفارة ولا تجب زكاة فطرته لأن الأصل في الكفارة وجوبها فلا تسقط بالشك والأصل في الزكاة هو براءة ذمته منها فلا تجب بالشك ومنهم من قال لا يجزئه في الكفارة وتجب زكاة الفطر لأن الأصل ارتهان ذمته بالكفارة بالظهار المتحقق وارتهانها بالزكاة بالملك المتحقق فلم تسقط الكفارة بالحياة المشكوك فيها ولا الزكاة بالموت المشكوك فيه. فصل: ولا يجزئ عتق أم الولد ولا المكاتب لأنهما يستحقان العتق بغير الكفارة بدليل أنه لا يجوز إبطاله بالبيع فلا يسقط بعتقهما فرض الكفارة كما لو باع من فقير طعاماً ثم دفعه إليه عن الكفارة ويجزئ المدبر والمعتق بصفة لأن عتقهما غير مستحق بدليل أنه يجوز إبطاله بالبيع. فصل: وإن اشترى من يعتق عليه من الأقارب ونوى عتقه عن الكفارة ولم يجزه لأن عتقه مستحق بالقرابة فلا يجوز أن يصرفه إلى الكفارة كما لو استحق عليه الطعام في النفقة في القرابة فدفعه إليه عن الكفارة وإن اشترى عبداً بشرط أن يعتقه فأعتقه عن الكفارة لم يجزه لأنه مستحق العتق بغير الكفارة فلا يجوز صرفه إلى الكفارة وإن كان مظاهرا وله عبد فقال لامرأته إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي عن كفارة الظهار فوطئها ثم أعتق العبد عن الظهار ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي الطبري إنه لا يجزئه لأنه عتق مستحق بالحنث في الإيلاء والثاني: وهو قول أبي إسحاق إنه يجزئه وهو المذهب لأنه لا يتعين عليه عتقه لأنه مخير بين أن يعتقه وبين أن يكفر كفارة يمين.

فصل: وإن كان بينه وبين آخر عبد وهو موسر فأعتق نصيبه ونوى عتق الجميع عن الكفارة أجزأه لأنه عتق العبد بالمباشرة والسراية وحكم السراية حكم المباشرة ولهذا إذا جرحه وسرى إلى نفسه جعل كما لو باشر قتله وإن كان معسرا عتق نصيبه وإن ملك نصيب الآخر وأعتقه عن الكفارة أجزأه لأنه أعتق جميعه عن الكفارة وإن كان في وقتين فأجزأه كما لو أطعم المساكين في وقتين وإن أعتق نصف عبدين عن كفارة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجزئه لأن المأمور به عتق رقبة ولم يعتق رقبة والثاني: يجزئه لأن أبعاض الجملة كالجملة في زكاة الفطر وزكاة المال فكذلك في الكفارة والثالث أنه إن كان باقيهما حراً أجزأه لأنه يحصل تكميل الأحكام والتمكين من التصرف في منافعه على التمام وإن كان مملوكاً لم يجزه لأنه لا يحصل له تكميل الأحكام والتمكين التام. فصل: إذا قال لغيره أعتق عبدك عني فأعتقه عنه دخل العبد في ملكه وعتق عليه سواء كان بعوض أو بغير عوض واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتق عليه فقال أبو إسحاق يقع الملك والعتق في حالة واحدة ومن أصحابنا من قال يدخل في ملكه ثم يعتق عليه وهو الصحيح لأن العتق لا يقع عنه في ملك غيره فوجب أن يتقدم الملك ثم يقع العتق إن قال أعتق عبدك عن كفارتي فأعتقه عن كفارته أجزأه لأنه وقع العتق عنه فصار كما لو اشتراه ثم أعتقه. فصل: وإن لم يجد رقبة وقدر على الصوم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين لقوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] فإن دخل فيه في أول الشهر صام شهرين بالأهلة لأن الأشهر في الشرع بالأهلة والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فإن دخل فيه وقد مضى من الشهر خمسة أيام صام ما بقي فصام الشهر الذي بعده ثم يصوم من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوماً لأنه تعذر اعتبار الهلال في شهر فاعتبر بالعدد كما يعتبر العدد في الشهر الذي غم عليهم الهلال في صوم رمضان وإن أفطر في يوم منه من غير عذر لزمه أن يستأنف وإن جامع بالليل قبل أن يكفر أثم لأنه جامع قبل التفكير ولا يبطل التتابع لأن جماعه لم يؤثر في الصوم فلم يقطع التتابع كالأكل بالليل وإن كان الفطر لعذر نظرت فإن كانت امرأة فحاضت في صوم كفارة القتل أو الوطء في كفارة رمضان لم ينقطع التتابع لأنه لا صنع لها في الفطر ولأنه لا يمكن حفظ الشهرين من الحيض إلا بالتأخير إلى أن تيأس من الحيض وفي ذلك تغرير بالكفارة لأنها ربما ماتت قبل الإياس فتفوت وإن كان الفطر بمرض ففيه وجهان: أحدهما: يبطل التتابع لأنه أفطر باختياره فبطل التتابع

كما لو أجهده الصوم فأفطر والثاني: لا يبطل لأن الفطر بسبب من غير جهته فلم يقطع التتابع كالفطر بالحيض وإن كان بالسفر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالفطر بالمرض لأن السفر كالمرض في إباحة الفطر فكان كالمرض في قطع التتابع والثاني: أنه يقطع التتابع قولاً واحداً لأن سببه من جهته وإن انقطع الصوم بالإغماء فهو كما لو أفطر بالمرض وإن أفطرت الحامل أو المرضع في كفارة القتل أو الجماع في رمضان خوفاً على ولديهما ففيه وجهان: أحدهما: أنه على قولين لأنه فطر لعذر فهو كالفطر بالمرض والثاني: أنه ينقطع التتابع قولاً واحداً لأن فطرهما لعذر في غيرهما فلم يلحقا بالمريض ولهذا يجب عليهما الفدية مع القضاء في يوم رمضان ولا يجب على المريض وإن دخل في الصوم فقطعه بصوم رمضان أو يوم النحر لزمه أن يستأنف لأنه ترك التتابع بسبب لا عذر فيه. فصل: وإن دخل في الصوم ثم وجد الرقبة لم يبطل صومه وقال المزني يبطل كما قال في المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة وقد دللنا عليه في الطهارة والمستحب أن يخرج من الصوم ويعتق لأن العتق أفضل من الصوم لما فيه من نفع الآدمي ولأنه يخرج من الخلاف. فصل: وإن لم يقدر على الصوم لكبر لا يطيق معه الصوم أو لمرض لا يرجى برؤه منه لزمه أن يطعم ستين مسكيناً للآية والواجب أن يدفع إلى كل مسكين مداً من الطعام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث الجماع في شهر رمضان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أطعم ستين مسكيناً" قال: لا أجد قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا فقال: "خذه وتصدق به". وإذا ثبت هذا بالجماع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه. فصل: ويجب ذلك من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة لأن الأبدان بها تقوم ويجب من غالب قوت بلده قال القاضي أبو عبيد ابن حربويه يجب من غالب قوته لأن في الزكاة الاعتبار بماله فكذلك ههنا والمذهب الأول لقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] والأوسط الأعدل وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد ويخالف الزكاة فإنها تجب من المال والكفارة تجب في الذمة فإن عدل إلى قوت بلد أخرى فإن كان أجود من غالب قوت بلده الذي هو فيه جاز لأنه زاد خيراً فإن لم يكن أجود فإن كان مما يجب فيه زكاة ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه لأنه قوت تجب فيه الزكاة فأشبه قوت البلد والثاني: لا يجزئه وهو الصحيح لأنه دون قوت البلد،

فإن كان في موضع قوتهم الأقط ففيه قولان: أحدهما: يجزئه لأنه مكيل مقتات فأشبه قوت البلد والثاني: لا يجزئه لأنه يجب فيه الزكاة فلم يجزئه كاللحم وإن كان لحماً أو سمكاً أو جراداً ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالأقط ومنهم من قال لا يجزئه قولا واحدا ويخالف الأقط لأنه يدخله الصاع وإن كان في موضع لا قوت فيه وجب من غالب قوت أقرب البلاد إليه. فصل: ولا يجوز الدقيق والسويق والخبز ومن أصحابنا من قال يجزئه لأنه مهيأ للاقتيات مستغنى عن مؤنته وهذا فاسد لأنه إن كان قد هيأه لمنفعة فقد فوت فيه وجوها من المنافع ولا يجوز إخراج القيمة لأنه أخذ ما يكفر به فلم يجز فيه القيمة كالعتق. فصل: ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا للآية والخبر فإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم لما عليه من الطعام لم يجزه لأن ما وجب للفقراء بالشرع وجب فيه التمليك كالزكاة ولأنهم يختلفون في الأكل ولا يتحقق أن كل واحد منهم يتناول قدر حقه وإن قال لهم ملكتكم هذا بينكم بالسوية ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه وهو قول أبي سعيد الإصطخري لأنه يلزمهم مؤنة في قسمته فلم يجزه كما لو سلم إليهم الطعام في السنابل والثاني: أنه يجزئه وهو الأظهر لأنه سلم إلى كل واحد منهم قدر حقه والمؤنة في قسمته قليلة فلا يمنع الإجزاء. فصل: ولا يجوز أن يدفع إلى مكاتب لأنها تجب لأهل الحاجة والمكاتب مستغن بكسبه إن كان له كسب أوبأن يفسخ الكتابة ويرجع إلى مولاه إن لم يكن له كسب ولا يجوز أن يدفع إلى كافر لأنها كفارة فلا يجوز صرفها إلى كافر كالعتق ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من زوجة أو والد أو ولد لأنه مستغن بالنفقة فإن دفع بعض ما عليه من الطعام ثم قدر على الصيام لم يلزمه الإنتقال إلى الصوم كما لا يلزمه الإنتقال إلى العتق إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم والأفضل أن ينتقل إليه لأنه أصل. فصل: ولا يجوز أن يكفر عن الظهار قبل أن يظاهر لأنه حق يتعلق بسببين فلا يجوز تقديمه عليهما كالزكاة قبل أن يملك النصاب ويجوز أن يكفر بالمال بعد الظهار وقبل العود لأنه حق مال يتعلق بسببين فإذا وجد أحدهما: جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول وكفارة اليمين قبل الحنث. فصل: ولا يجوز شيء من الكفارات إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

ولكل امرئ ما نوى" 1. ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة فافتقر إلى النية كالزكاة ولا يلزمه في النية تعيين سبب الكفارة كما لا يلزمه في الزكاة تعيين المال الذي يزكيه فإن كفر بالصوم لزمه أن ينوي كل ليلة أنه صائم غداً عن الكفارة وهل يلزمه نية التتابع فيه ثلاثة أوجه: أحدها يلزمه أن ينوي كل ليلة لأن التتابع واجب فلزمه نيته كالصوم والثاني: يلزمه أن ينوي ذلك في أوله لأنه يتميز بذلك عن غيره والثالث وهو الصحيح أنه لا تلزمه نية التتابع لأن العبادة هي الصوم والتتابع شرط في العبادة فلم تجب نيته في أداء العبادة كالطهارة وستر العورة لا يلزمه نيتهما في الصلاة. فصل: وإن كان المظاهر كافراً كفر بالعتق أو الطعام لأنه يصح منه العتق والإطعام في غير الكفارة فصح منه في الكفارة ولا يكفر بالصوم لأنه لا يصح منه الصوم في غير الكفارة فلا يصح منه في الكفارة فإن كان المظاهر عبداً فقد ذكرناه في باب المأذون فأغنى عن الإعادة وبالله التوفيق.

_ 1 رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1. مسلم في كتاب الإمارة حديث 155. أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. النسائي في كتاب الطهارة باب 59. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 26.

كتاب اللعان

كتاب اللعان مدخل ... كتاب اللعان إذا علم الزوج أن امرأته زنت فإن رآها بعينه وهي تزني ولم يكن نسب يلحقه فله أن يقذفها وله أن يسكت لما روى علقمة عن عبد الله أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن رجل وجد مع امرأته رجلاً إن تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم افتح". وجعل يدعوا فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ولا سكوته وإن أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض أن رجلاً يزني بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله أن يقذفها وله أن يسكت لأن الظاهر أنها زنت فجاز له القذف والسكوت وأما إذا رأى رجلا يخرج من عندها ولم يستفض أنه يزني بها لم يجز أن يقذفها لأنه يجوز أن يكون قد دخل إليها هارباً أو سارقاً أو دخل ليراودها عن نفسها ولم تمكنه فلا يجوز قذفها بالشك وإن استفاض أن رجلا يزني بها ولم يجده عندها ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز قذفها لأنه يحتمل أن يكون عدو قد أشاع ذلك عليهما والثاني: يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة ولأن الاستفاضة تثبت القسامة في القتل فثبت بها جواز القذف. فصل: ومن قذف امرأته بزنا يوجب الحد أو تعزير القذف فطولب بالحد أو بالتعزير فله أن يسقط ذلك بالبينة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا

بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فدل على أنه إذا أتى بأربعة شهداء لم يجلد ويجوز أن يسقط باللعان لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو الحد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله عز وجل في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولأن الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفي العار والنسب الفاسد ويتعذر عليه إقامة البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا" قال هلال قد كنت أرجوا ذلك من ربي عز وجل فإن قدر على البينة ولاعن جاز لأنهما بينتان في إثبات حق فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى كالرجلين والرجل والمرأتين في المال وإن كان هناك نسب يحتاج إلى نفيه لم ينتف بالبينة ولا ينتفي إلا باللعان لأن الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بنفي النسب وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة ثم يلاعن لنفي النسب جاز وإن أراد أن يلاعن ويثبت الزنا وينفي النسب باللعان جاز فصل: وإن عفت الزوجة عن الحد أو التعزير ولم يكن نسب لم يلاعن ومن أصحابنا من قال له أن يلاعن لقطع الفراش والمذهب الأول لأن المقصود باللعان درء العقوبة الواجبة بالقذف ونفي النسب لما يلحقه من الضرر بكل واحدة منهما وليس ههنا واحد منهما وأما قطع الفراش فإنه غير مقصود ويحصل له ذلك بالطلاق فلا يلاعن لأجله وإن لم تعف الزوجة عن الحد أو التعزير ولم تطالب به فقد روى المزني أنه ليس عليه أن يلاعن حتى تطلب المقذوفة وحدها وروى فيمن قذف امرأته ثم جنت أنه إذا التعن سقط الحد فمن أصحابنا من قال لا يلاعن لأنه لا حاجة به إلى اللعان قبل الطلب وقال أبو إسحاق له أن يلاعن لأن الحد قد وجب عليه فجاز أن يسقط من غير طلب كما يجوز أن يقضي الدين المؤجل قبل الطلب وقوله ليس عليه أن يلتعن لا يمنع الجواز وإنما يمنع الوجوب. فصل: وإن كانت الزوجة أمة أو ذمية أو صغيرة يوطأ مثلها فقذفها عزر وله أن يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير قذف وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فقذفها عزر ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه ليس بتعزير قذف وإنما هو تعزير على الكذب لحق الله تعالى،

وإن قذف زوجته ولم يلاعن فحد في قذفها ثم قذفها بالزنا الذي رماها به عزر ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير لدفع الأذى لأنا قد حددناه للقذف فإن ثبت بالبينة أو بالإقرار أنها زانية ثم قذفها فقد روى المزني أنه لا يلاعن لدرء التعزير وروى الربيع أنه يلاعن لدرء التعزير واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال أبو إسحاق المذهب ما رواه المزني وما رواه الربيع من تخريجه لأن اللعان جعل لتحقيق الزنا وقد تحقق زناها بالإقرار أو البينة ولأن القصد باللعان إسقاط ما يجب بالقذف والتعزير ههنا على الشتم لحق الله تعالى لا على القذف لأنه بالقذف لم يلحقها معرة وقال أبو الحسن ابن القطان وأبو القاسم الداركي هي على قولين: أحدهما: لا يلاعن لما ذكرناه والثاني: يلاعن لأنه إنما جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها فلأن يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.

باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز

باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز إذا تزوج امرأة وهوممن يولد لمثله وأمكن اجتماعهما على الوطء وأتت بولد لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" 1. ولأن مع وجود هذه الشروط يمكن أن يكون الولد منه وليس ههنا ما يعارضه ولا ما يسقطه فوجب أن يلحق به. فصل: وإن كان الزوج صغيراً لا يولد لمثله لم يلحقه لأنه لا يمكن أن يكون منه أن ينتفي عنه من غير لعان لأن اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون فيتحقق باليمين أحد الجائزين وههنا لا يجوز أن يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان واختلف أصحابنا في السن التي يجوز أن يولد له فمنهم من قال يجوز أن يولد له بعد عشر سنين ولا يجوز أن يولد له قبل ذلك وهو ظاهر النص

_ 1 رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 6. كتاب الحدود باب 33. مسلم في كتاب الرضاع حديث 37. داود في كتاب الطلاق باب 34. الترمذي في كتاب الرضاع باب 8. النسائي في كتاب الطلاق باب 48. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 20. أحمد في مسنده 1/25، 59.

والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" 1. ومنهم من قال يجوز أن يولد له بعد تسع سنين ولا يجوز أن يولد له قبله لأن المرأة تحيض لتسع سنين فجاز أن يحتلم الغلام لتسع وما قاله الشافعي رحمه الله أراد على سبيل التقريب لأنه لا بد أن يمضي بعد التسع إمكان الوطء وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر وذلك قريب من العشرة وإن كان الزوج مجبوباً فقد روى المزني أن له أن يلاعن وروى الربيع أنه ينتفي من غير لعان واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق إن كان مقطوع الذكر والأنثيين انتفى من غير لعان لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما وإن قطع أحدهما: لحقه ولا ينتفي إلا بلعان لأنه إذا بقي الذكر أولج وأنزل وإن بقي الأنثيان ساحق وأنزل وحمل الروايتين على هذين الحالين وقال القاضي أبو حامد في أصل الذكر ثقبان أحدهما: للبول والآخر للمني فإذا انسدت ثقبة المني انتفى الولد من غير لعان لأنه يستحيل الإنزال وإن لم تنسد لم ينتف إلا باللعان لأنه يمكنه الإنزال وحمل الروايتين على هذين الحالين. فصل: وإن لم يكن اجتماعهما على الوطء بأن تزوجها وطلقها عقيب العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه. فصل: وإن أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت العقد انتفى عنه من غير لعان لأنا نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش وإن دخل بها ثم طلقها وهي حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة أشهر لم يلحقه وانتفى عنه من غير لعان لأنا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد زوال الفراش وإن طلقها وهي غير حامل واعتدت بالأقراء ثم وضعت ولداً قبل أن تتزوج بغيره لدون ستة أشهر لحقه لأنا تيقنا أن عدته لم تنقض وإن أتت به لستة أشهر أو أربع سنين أو ما بينهما لحقه وقال أبو عباس بن سريج لا يلحقه لأنا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها للأزواج وما حكم به يجوز نقضه لأمر محتمل وهذا خطأ لأنه يمكن أن يكون منه والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة أشهر لحقه وإن كان الأصل عدم الوطء وبراءة الرحم فإن وضعته لأكثر من أربعة سنين نظرت فإن كان الطلاق بائناً انتفى عنه بغير لعان لأن العلوق حادث بعد زوال الفراش وإن كان رجعيا ففيه قولان: أحدهما:

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 26. أحمد في مسنده 2/180، 187.

ينتفي عنه بغير لعان لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة فصار كما لو طلقها طلاقا بائنا والقول الثاني يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقه ولدها فيه وجهان: قال أبو إسحاق يلحقه أبداً لأن العدة يجوز أن تمتد لأن أكثر الطهر لا حد له ومن أصحابنا من قال: يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء العدة وهو الصحيح لأن العدة إذا انقضت بانت وصارت كالمبتوتة. فصل: وإن كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بالشبهة وادعى الزوج أن الولد من الواطئ عرض معهما على القافة ولا يلاعن لنفيه لأنه يمكن نفيه بغير لعان وهو القافة فلا يجوز نفيه باللعان فإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك حتى تبلغ السن الذي ينسب فيه إلى أحدهما: فإن بلغ وانتسب إلى الواطئ بشبهة انتفى عن الزوج بغير لعان وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان لأنه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان وإن قال زنى بك فلان وأنت مكرهة والولد منه ففيه قولان: أحدهما: لا يلاعن لنفيه لأن أحدهما: ليس بزان فلم يلاعن لنفي الولد كما لو وطئها رجل بشبهة وهي زانية والثاني: أن له أن يلاعن وهو الصحيح لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كما لوكانا زانيين. فصل: وإن أتت امرأته بولد فادعى الزوج أنه من زوج قبله وكان لها زوج قبله نظرت فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولدون ستة أشهر من عقد الزوج الثاني فهو للأول لأنه يمكن أن يكون منه وينتفي عن الزوج بغير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول ولأقل من ستة أشهر من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما لأنه لا يمكن أن يكون من واحد منهما وإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولستة أشهر فصاعداً من عقد الزوج الثاني عرض على القافة لأنه يمكن أن يكون من كل واحد منهما فإن ألحقته بالأول لحق به وانتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج لحق به ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب فإن انتسب إلى الأول انتفى عن الزوج بغير لعان وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت نكاح الزوج فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه لأن الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان لأنه لم يثبت ولادته على فراشه لأن الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان لأنه لم يثبت ولادته على فراشه، وإن نكل

رددنا اليمين عليها وإن حلفت لحق النسب بالزوج ولا ينتفي إلا باللعان لأنه ثبتت ولادته على فراشه وإن نكلت فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويثبت نسبه فيه وجهان بناء على القولين في رد اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن وادعى أن المرتهن أذن له في وطئها وأنكر المرتهن ونكلا جميعاً عن اليمين: أحدهما: لا ترد اليمين لأن اليمين حق للزوجة وقد أسقطته بالنكول فلم يثبت لغيرها والثاني: ترد لأنه يتعلق بيمينها حقها وحق الولد فإذا أسقطت حقها لم يسقط حق الولد. فصل: وإن جاءت امرأة ومعها ولد وادعت أنه ولدها منه وقال الزوج ليس هذا مني ولا هو منك بل هو لقيط أو مستعار لم يقبل قولها أنه منها من غير بينة لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم يقبل قولها من غير بينة فإن قلنا إن الولد يعرض مع الأم على القافة في أحد الوجهين عرض على القافة فإن لحقته بالأم لحق بها وثبت نسبه من الزوج لأنها أتت به على فراشه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن قلنا إن الولد لا يعرض مع الأم على القافة أولم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه فإذا حلف انتفى النسب من غير لعان لأنه لم تثبت ولادته على فراشه وإن نكل رددنا اليمين عليها فإن حلفت لحقه نسبه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن نكلت فهل توقف اليمين على بلوغ الولد ليحلف على ما ذكرناه من الوجهين في الفصل قبله. فصل: إذا تزوج امرأة وهي وهو ممن يولد له ووطئها ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة ولا غيرها وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه ولا يحل له نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة: "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه الله على رؤوس الأولين والآخرين"1. وإن أتت امرأته بولد يلحقه في الظاهر بحكم الإمكان وهو يعلم أنه لم يصبها وجب عليه نفيه باللعان لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته" 2. فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم دل على أن الرجل مثلها ولأنه إذا لم ينفه

_ 1 رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 42. أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. النسائي في كتاب الطلاق باب 47. 2 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. الدارمي في كتاب النكاح باب 42.

جعل الأجنبي مناسبا له ومحرما له ولأولاده ومزاحما لهم في حقوقهم وهذا لا يجوز ولا يجوز أن يقذفها لجواز أن يكون من وطء شبهة أومن زوج قبله. فصل: وإن وطئ زوجته ثم استبرأها لحيضة وطهرت ولم يطأها وزنت وأتت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الزنا لزمه قذفها ونفي النسب لما ذكرناه وإن وطئها في الطهر الذي زنت فيه فأتت بولد وغلب على ظنه أنه ليس منه بأن علم أنه كان يعزل منها أو رأى فيه شبها بالزاني لزمه نفيه باللعان وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس منه لم ينفه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر ". فصل: وإن أتت امرأته بولد أسود وهما أبيضان أو بولد أبيض وهما أسودان ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن ينفيه لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال ابن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو للذي رميت به". فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". فجعل الشبه دليلاً على أنه ليس منه. والثاني: أنه لا يجوز نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بني فزارة فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود ونحن أبيضان؟ فقال: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم قال: "ما ألوانها"؟ قال: حمر قال: " هل فيها من أوراق"؟ قال: إن فيها لورقاً قال: "فأنى ترى ذلك"؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" 1.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحدود باب 41. مسلم في كتاب اللعان حديث 18، 20. أبو داود في كتاب الطلاق باب 38. النسائي في كتاب الطلاق باب 46. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 58. أحمد في مسنده 2/234.

فصل: وإن أتت امرأته بولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنا نصيب السبايا ونحب الأثمان أفنعزل عنهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل إذا قضى خلق نسمة خلقها". ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق به وإن أتت بولد وكان يجامعها فيما دون الفرج ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له النفي لأنه قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به والثاني: أن له نفيه لأن الولد من أحكام الوطء فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام وإن أتت بولد وكان يطؤها في الدبر ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له نفيه لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما تعلق به والثاني: له نفيه لأنه وضع لا يبتغي منه الولد. فصل: إذا قذف زوجته وانتفى عن الولد فإن كان حملاً فله أن يلاعن وينفي الولد لأن هلال بن أمية لاعن على نفي الحمل وله أن يؤخره إلى أن تضع لأنه يجوز أن يكون ريحاً أو غلظاً فيؤخر ليلاعن على يقين وإن كان الولد منفصلاً ففي وقت نفيه قولان: أحدهما: أنه الخيار في نفيه ثلاثة أيام لأنه قد يحتاج إلى الفكر والنظر فيما يقدم عليه من النفي فجعل الثلاث حدا لأنه قريب ولهذا قال الله عز وجل: {يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثم فسر القريب بالثلاث فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} والثاني: وهو المنصوص في عامة الكتب أنه على الفور لأنه خيار غير مؤد لدفع الضرر فكان على الفور كخيار الرد بالعيب فإن حضرت الصلاة فبدأ بها أو كان جائعاً فبدأ بالأكل أوله مال غير محرز واشتغل بإحرازه أو كان عادته الركوب واشتغل بإسراج المركوب فهو على حقه من النفي لأنه تأخير لعذر وإن كان محبوساً أو مريضاً أو قيماً على مريض أو غائباً لا يقدر على المسير وأشهد على النفي فهو على حقه وإن لم يشهد مع القدرة على الإشهاد سقط حقه لأنه لما تعذر عليه الحضور للنفي أقيم الإشهاد مقامه إلى أن يقدر كما أقيمت الفيئة باللسان مقام الوطء في حق المولى إذا عجز عن الوطء إلى أن يقدر. فصل: وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة فإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليه ذلك من طريق العادة بأن كان معها في دار أو محله صغيرة لم يقبل لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليه كالبلد الكبير فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه ظاهر وإن قال علمت بالولادة إلا أني لم أعلم أن لي النفي فإن كان ممن يخالط أهل العلم لم يقبل قوله لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ

في موضع بعيد من أهل العلم قبل قوله لأن الظاهر أنه صادق فيما يدعيه وإن كان في بلد فيه أهل العلم إلا أنه من العامة ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل كما لا يقبل قوله إذا ادعى الجهل برد المبيع بالعيب والثاني: يقبل لأن هذا لا يعرفه إلا الخواص من الناس بخلاف رد المبيع بالعيب فإن ذلك يعرفه الخاص والعام. فصل: وإن هنأه رجل بالولد فقال بارك الله لك في مولودك وجعله الله لك خلفا مباركا وأمن على دعائه أو قال استجاب الله دعاءك سقط حقه من النفي لأن ذلك يتضمن الإقرار به وإن قال أسن الله براءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لم يسقط حقه من النفي لأنه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل التحية بالتحية. فصل: وإن كان الولد حملاً فقد أخرت النفي حتى ينفصل ثم ألاعن على يقين فالقول قوله مع يمينه لأنه تأخير لعذر يحتمله الحال وإن قال أخرت لأني قلت لعله يموت فلا أحتاج إلى اللعان سقط حقه من النفي لأنه ترك النفي من غير عذر. فصل: إذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما: وأقر بالآخر أوترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه أحدهما: دون الآخر وجعلنا ما انتفى منه تابعاً لما أقر به ولم نجعل ما أقر به تابعاً لما انتفى منه لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لنفيه ولهذا إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطاً لإثباته ولم ننفه احتياطا لنفيه وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لأقل من ستة أشهر من ولادة الأول لم ينتف الثاني من غير اللعان لأن اللعان يتناول الأول فإن نفاه باللعان انتفى وإن أقر به أوترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل واحد وجعلنا لما نفاه تابعا لما لحقه ولم نجعل مل لحقه تابعاً لما نفاه لما ذكرناه في التوأمين وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الأول انتفى بغير لعان لأنها علقت به بعد زوال الفراش. فصل: وإن لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر لم يلحقه واحد منهما لأنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر انتفى الأول باللعان وانتفى الثاني بغير لعان لأنا تيقنا بوضع الأول براء رحمها منه وأنها علقت بالثاني بعد زوال الفراش. فصل: وإن قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قابل النكاح فإن لم يكن نسب لم يلاعن

لإسقاط الحد لأنه قذف غير محتاج إليه فلم نجز الحقيقة باللعان كقذف الأجنبية وإن كان هناك نسب يلحقه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يلاعن لأنه قذف غير محتاج إليه لأنه كان يمكنه أن يطلق ولا يضيفه إلى ما قبل العقد والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن له أن يلاعن لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا ينتفي بغير لعان فجاز له نفيه باللعان. فصل: وإن أبانها ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال النكاح فإن لم يكن نسب لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه وإن كان هناك نسب فإن كان ولداً منفصلاً فله أن يلاعن لنفيه لأنه يحتاج إلى نفيه باللعان وإن كان حملاً فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه وروى في الجامع أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق لا يلاعن قولا واحدا وما رواه المزني في المختصر أراد إذا انفصل وقد بين في الأم فإنه قال لا يلاعن حتى ينفصل ووجهه أن الحمل غير متحقق لجواز أن يكون ريحا فينفش ويخالف إذا قذفها في حال الزوجية لأن هناك يلاعن لدرء الحد فتبعه نفي الحمل وههنا ينفرد الحمل باللعان فلم يجز قبل أن يتحقق ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يلاعن حتى ينفصل لما ذكرناه والثاني: يلاعن وهو الصحيح لأن الحمل موجود في الظاهر ومحكوم بوجوده ولهذا أمر بأخذ الحامل في الديات ومنع من أخذها في الزكاة ومنعت الحامل إذا طلقت أن تتزوج حتى تضع وهذه الطريقة هي الصحيحة لأن الشافعي رحمه الله نص في مثلها على قولين وهي في نفقة المطلقة الحامل فقال فيها قولان: أحدهما: تجب لها النفقة يوما بيوم والثاني: لا تجب حتى تنفصل. فصل: وإن قذف امرأته وانتفى عن حملها وأقام على الزنا بينة سقط عنه الحد بالبينة وهل له أن يلاعن لنفي الحمل قبل أن ينفصل على ما ذكرناه من الطريقين في الفصل قبله. فصل: وإن قذف امرأته في نكاح فاسد فإن لم يكن نسب لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه وإن كان هناك نسب فإن كان ولداً منفصلاً فله أن يلاعن لنفيه لأنه ولد يلحقه بغير رضاه لا ينتفي عنه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كالولد في النكاح الصحيح وإن كان حملاً فعلى ما ذكرناه من الطريقين. فصل: وإن ملك أمة لم تصر فراشاً بنفس الملك لأنه قد يقصد بملكها الوطء وقد يقصد به التمول والخدمة والتجمل لم تصر فراشاً فإن وطئها صارت فراشاً له فإن أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطء لحقه لأن سعداً نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة

فقال عبد هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هولك الولد للفراش وللعاهر الحجر". وروى ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال: ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعزلونهم! لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا وإن قذفها وانتفى عن ولدها فقد قال أحمد: أما تعجبون من أبي عبد الله يقول بنفي ولد الأمة باللعان فجعل أبو العباس هذا قولاً ووجهه أنه كالنكاح في لحوق النسب فكان كالنكاح في النفي باللعان ومن أصحابنا من قال لا يلاعن لنفيه قولاً واحدا لأنه يمكنه نفيه بغير اللعان وهو أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه فلم يجز نفيه باللعان بخلاف النكاح فإنه لا يمكنه نفي الولد فيه بغير لعان ولعل أحمد أراد بأبي عبد الله غير الشافعي رحمة الله عليهما. فصل: إذا قذف امرأته بزناءين وأراد اللعان كفاه لهما لعان واحد لأنه في أحد القولين يجب حد واحد فكفاه في إسقاطه لعان واحد وفي القول الثاني يجب حدان إلا أنهما حقان لواحد فاكتفى فيهما بلعان واحد كما يكتفي في حقين لواحد بيمين واحد وإن قذف أربع نسوة أفرد كل واحد منهن بلعان لأنها أيمان فلم تتداخل فيها حقوق الجماعة كالأيمان في المال وإن قذفهن بكلمات بدأ بلعان من بدأ بقذفها لأن حقها أسبق وإن قذفهن بكلمة واحدة وتشاححن في البداية أقرع بينهن فمن خرجت لها القرعة بدأ بلعانها وإن بدأ بلعان إحداهن من غير قرعة جاز لأن الباقيات يصلن إلى حقوقهن من اللعان من غير نقصان.

باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام

باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل مختار مسلماً كان أو كافراً حراً كان أو عبداً لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] ولأن اللعان لدرء العقوبة الواجبة بالقذف ونفي النسب والكافر كالمسلم والعبد كالحر في ذلك فأما الصبي والمجنون فلا يصح لعانهما لأنه قول يوجب الفرقة فلم يصح من الصبي والمجنون كالطلاق وأما الأخرس فإنه إن لم يكن له إشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح لعانه لأنه في معنى المجنون وإن كانت له إشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح لعانه لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه فكان كالناطق في لعانه وأما من اعتقل لسانه فإنه إن كان مأيوساً منه صح لعانه بالإشارة كالأخرس وإن لم يكن مأيوساً منه ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لعانه لأنه غير مأيوس

من نطقه فلم يصح لعانه بالإشارة كالساكت والثاني: يصح لأن أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها أصمتت فقيل لها: ألفلان كذا ولفلان كذا فأشارت أي نعم فرفع ذلك فرؤيت أنها وصية ولأنه عاجز عن النطق يصح لعانه بالإشارة كالأخرس. فصل: وإن كان أعجمياً فإن كان يحسن بالعربية ففيه وجهان: أحدهما: يصح لعانه بلسانه لأنه يمين فصح بالعجمية مع القدرة على العربية كسائر الأيمان والثاني: لا يصح لأن الشرع ورد فيه بالعربية فلم يصح بغيرها مع القدرة كأذكار الصلاة فإن لم يحسن بالعربية لاعن بلسانه لأنه ليس بأكثر من أذكار الصلاة وأذكار الصلاة تجوز بلسانه إذا لم يحسن بالعربية فكذلك اللعان وإن كان الحاكم لا يعرف لسانه أحضر من يترجم عنه وفي عدده وجهان بناء على القولين في الشهادة على الإقرار بالزنا أحدهما: يحتاج إلى أربعة، والثاني: يكفيه اثنان. فصل: ولا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم لأنه يمين في دعوى فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوي فإن كان الزوجان مملوكين جاز للسيد أن يلاعن بينهما لأنه يجوز أن يقيم عليهما الحد فجاز أن يلاعن بينهما كالحاكم. فصل: واللعان هو أن يقول الزوج أربع مرات أشهد بالله إني لمن الصادقين ثم يقول وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين وتقول المرأة أربع مرات أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تقول وعلي غضب الله إن كان من الصادقين والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فإن أخل أحدهما: بأحد هذه الألفاظ الخمسة لم يعتد به لأن الله عز وجل علق الحكم على هذه الألفاظ فدل على أنه لا يتعلق بما دونها ولأنه بينة يتحقق بها الزنا فلم يجز النقصان عن عددها كالشهادة وإن أبدل لفظ الشهادة بلفظ من ألفاظ اليمين بأن قال أحلف أو أقسم أو أولى ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين والثاني: أنه لا يجوز لأنه أخل باللفظ المنصوص عليه وإن أبدل لفظ اللعنة بالإبعاد أو لفظ الغضب بالسخط ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن معنى الجميع واحد والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب بلفظ اللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا خصت المرأة به لأن المعرة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا

أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الغضب أغلظ والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه وإن قدم الرجل لفظ اللعنة على لفظ الشهادة أو قدمت المرأة لفظ الغضب على لفظ الشهادة ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه. فصل: والمستحب أن يكون اللعان بحضرة جماعة لأن ابن عباس وابن عمر وسهل ابن سعد رضي الله عنهم حضروا اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم على حداثة سنهم والصبيان لا يحضرون المجالس إلا تابعين للرجال فدل على أنه قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان ولأن اللعان بني على التغليظ للردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في الردع والمستحب أن يكونوا أربعة لأن اللعان سبب للحد ولا يثبت الحد إلا بأربعة فيستحب أن يحضر ذلك العدد ويستحب أن يكون بعد العصر لأن اليمين فيه أغلظ والدليل عليه قوله عز وجل: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِالله} [المائدة: 206] قيل هو بعد العصر وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف يميناً على مال مسلم فاقتطعه ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر لقد أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل الماء فإن الله عز وجل يقول: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ماء لم تعمله يداك" 1. ويستحب أن يتلاعنا من قيام لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال بن أمية فأرسل إليهما فجاآ فقام هلال فشهد ثم قامت فشهدت ولأن فعله من قيام أبلغ في الردع واختلف قوله في التغليظ بالمكان فقال في أحد القولين إنه يجب لأنه تغليظ ورد به الشرع فأشبه التغليظ بتكرار اللفظ وقال في الآخر يستحب كالتغليظ في الجماعة والزمان والتغليظ بالمكان أن يلاعن بينهما في أشرف موضع من البلد الذي فيه اللعان فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام لأن اليمين فيه أغلظ والدليل عليه ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رأى قوماً يحلفون بين الركن والمقام فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الشرب باب 10. كتاب التوحيد باب 24.

قال أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا فقال: لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام وإن كان في المدينة لاعن في المسجد لأنه أشرف البقاع بها وهل يكون على المنبر أو عند المنبر اختلفت الرواية فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف عند منبري على يمين آثمة ولو على سواك من رطب وجبت له النار". وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار". فقال أبو إسحاق: إن كان الخلق كثيراً لاعن على المنبر ليسمع الناس وإن كان الخلق قليلاً لاعن عند المنبر مما يلي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبوعلي ابن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر لأن ذلك علو وشرف والملاعن ليس في موضع العلو والشرف وحمل قوله على منبري أي عند منبري لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض وإن كان بيت المقدس لاعن عند الصخرة لأنها أشرف البقاع به وإن كان في غيرها من البلاد لاعن في الجامع وإن كانت المرأة حائضاً لاعنت على باب المسجد لأنه أقرب إلى الموضع الشريف وإن كان يهوديا لاعن في الكنيسة وإن كان نصرانيا لاعن في البيعة وإن كان مجوسياً لاعن في بيت النار لأن هذه المواضع عندهم كالمساجد عندنا. فصل: وإذا أراد اللعان فالمستحب للحاكم أن يعظهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله لقد صدقت عليها فقالت كذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعنوا بينهما". وإن كانت المرأة غير برزة بعث إليها الحاكم من يستوفي عليها اللعان ويستحب أن يبعث معه أربعة. فصل: ويبدأ بالزوج ويأمره أن يشهد لأن الله تعالى بدأ به وبدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في

لعان هلال بن أمية ولأن لعانه بينة لإثبات الحق ولعان المرأة بينة الإنكار فقدمت بينة الإثبات فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد بها لأن لعانها إسقاط الحد والحد لا يجب بلعان الزوج فلم يصح لعانها قبله والمستحب إذا بلغ الزوج إلى كلمة اللعنة والمرأة إلى كلمة الغضب أن يعظهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال لما كان في الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ويستحب أن يأمر من يضع يده على فيه في الخامسة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول إنها موجبة. فصل: وإن لاعن وهي غائبة لحيض أو موت قال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة ويرفع في نسبها حتى تتميز وإن كانت حاضرة ففيه وجهان: أحدهما: يجمع بين الإشارة والاسم لأن مبنى اللعان على التأكيد ولهذا تكرر فيه لفظ الشهادة وإن حصل المقصود بمرة والثاني: أنه تكفيه الإشارة لأنها تتميز بالإشارة كما تتميز في النكاح والطلاق. فصل: وإن كان القذف بالزنا كرره في الألفاظ الخمسة فإن قذفها بزناءين ذكرهما في الألفاظ الخمسة لأنه يكون صادقاً في أحدهما: دون الآخر فإن سمى الزاني بها ذكره في اللعان في كل مرة لأنه ألحق به المعرة في إفساد الفراش فكرره في اللعان كالمرأة فإن قذفها بالزنا وانتفى من الولد قال في كل مرة وإن هذا الولد من زنا وليس مني فإن قال هذا الولد ليس مني ولم يقل من زنا لم ينتف لأنه يحتمل أن يريد أنه ليس مني في الخلق أو الخلق وإن قال هذا الولد من زنا ولم يقل وليس مني ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامد المروزي أنه ينتفي منه لأن ولد الزنا لا يلحق به والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه لا ينتفى لأنه قد يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا على قول أبي بكر الصيرفي فوجب أن يذكر أنه ليس مني لينتفي الاحتمال. فصل: وإذا لاعن الزوج سقط عنه ما وجب بقذفه من الحد أو التعزير والدليل عليه

ما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة أوحد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " فقال هلال: قد كنت أرجوا ذلك من ربي عز وجل وإن قذفها برجل فسماه في اللعان سقط عنه حده لأنه سماه في اللعان فسقط حده كالمرأة فإن لم يسمه في اللعان ففيه وجهان: أحدهما: يسقط حده لأنه أحد الزانيين فسقط حده باللعان كالزوجة والثاني: لا يسقط حده لأنه لم يسمه في اللعان فلم يسقط حده كالزوجة إذا لم يسمها فعلى هذا إذا أراد إسقاط حده استأنف اللعان وذكره وأعاد ذكر الزوجة. فصل: وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى عن ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة فإن لم يذكر النسب في اللعان أعاد اللعان لأنه لم ينتف باللعان الأول. فصل: ويجب على المرأة حد الزنا لأنه بينة حقق بها الزنا عليها فلزمها الحد كالشهادة ولا يجب على الرجل الذي رماها به حد الزنا لأنه لا يصح منه درء الحد باللعان فلم يجب عليه الحد باللعان فصل: وإن كان اللعان في نكاح صحيح وقعت الفرقة لحديث ابن عمر رضي الله عنه وحرمت عليه على التأبيد لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً فإن كان اللعان في نكاح فاسد أو كان اللعان بعد البينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية فهل تحرم المرأة على التأبيد ففيه وجهان: أحدهما: تحرم وهو الصحيح لأن ما وجب تحريماً مؤبداً إذا كان في نكاح أوجبه وإن لم يكن في نكاح كالرضاع والثاني: لا يحرم لأن التحريم تابع للفرقة ولم يقع بهذا اللعان فرقة فلم يثبت به تحريم. فصل: وللمرأة أن تدرأ حد الزنا عنها باللعان لقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ

أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] ولا تذكر المرأة للنسب في اللعان لأنه لا مدخل لها في إثبات النسب ولا في نفيه فصل: إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه وجب عليه حد القذف إن كان المرأة محصنة أو التعزير إن لم تكن محصنة ولحقه النسب لأن ذلك حق عليه فعاد بتكذيبه ولا يعود الفراش ولا يرتفع التحريم لأنه حق له فلا يعود بتكذيبه نفسه وإن لاعنت المرأة ثم أكذبت نفسها وجب عليها حد الزنا لأنه لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوط حق الزنا وهو حق عليها فعاد بإكذابها. فصل: وإن مات الزوج قبل اللعان وقعت الفرقة بالموت وورثته الزوجة لأن الزوجية بقيت إلى الموت فإن كان هناك ولد ورثه لأنه مات قبل نفيه وما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها يسقط بموته لأنه اختص ببدنه وقد فات وإن ماتت الزوجة قبل لعان الزوج وقعت الفرقة بالموت وورثها الزوج لأن الزوجية بقيت إلى الموت وإن كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه لأن الحاجة داعية إلى نفيه فإن طالبه ورثتها بحد القذف لاعن لإسقاطه ولا يسقط من الحد لولم يلاعن شيء لحقه من الإرث كما يسقط ما لها عليه من القصاص لأن القصاص ثبت مشتركاً بين الورثة فإذا سقط ما يخصه بالإرث سقط الباقي وحد القذف يثبت جميعه لكل واحد من الورثة ولهذا لو عفا بعضهم عن حقه كان للباقين أن يستوفوا الجميع فإن مات الولد قبل أن ينفيه باللعان جاز له نفيه باللعان لأنه يلحقه نسبه بعد الموت فجاز له نفيه وإذا نفاه لم يرثه لأنا تبينا باللعان أنه لم يكن ابنه. فصل: إذا قذف امرأته وامتنع من اللعان فضرب بعض الحد ثم قال أنا ألاعن سمع اللعان وسقط ما بقي من الحد وكذلك إذا نكلت المرأة عن اللعان فضربت بعض الحد ثم قالت أنا ألاعن سمع اللعان وسقط بقية الحد لأن ما أسقط جميع الحد أسقط بعضه كالبينة. فصل: إذا قذفها ثم تلاعنا ثم قذفها نظرت فإن كان بالزنا الذي تلاعنا عليه لم يجب حد لأن اللعان في حقه كالبينة ولو أقام البينة على القذف ثم أعاد القذف لم يجب الحد فكذلك إذا لاعن وإن قذفها بزنا آخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب الحد لأن اللعان في حقه كالبينة ثم بالبينة يبطل إحصانها فكذلك في اللعان والثاني: يجب عليه الحد لأن اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى قذف الزوجة وقد زالت الزوجية باللعان فزالت الحاجة إلى القذف فلزمه الحد وإن تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد لأن اللعان حجة يختص بها الزوج فلا يسقط به الحد عن الأجنبي فإذا قذفها ولاعنها

ونكلت عن اللعان فحدت فقد اختلف أصحابنا فيها فقال أبو العباس لا يرتفع إحصانها إلا في حق الزوج فإن قذفها أجنبي وجب عليه الحد لأن اللعان حجة اختص بها الزوج فلا يبطل به الإحصان إلا في حقه وقال أبو إسحاق يرتفع إحصانها في حق الزوج والأجنبي فلا يجب على واحد منهما الحد بقذفها لأنها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها كما لوحدت بالإقرار أو البينة.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان مدخل ... كتاب الأيمان تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وأما غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه قول يتعلق به وجوب حق فلا يصح من غير مكلف كالبيع وفيمن زال عقله بالسكر طريقان على ما ذكرناه في الطلاق وأما المكره فلا تصح يمينه لما روى واثلة بن الأسقع وأبو أمامة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على مقهور يمين". ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح كما لو أكره على كلمة الكفر وأما من لا يقصد اليمين وهو الذي يسبق لسانه إلى اليمين أو أراد اليمين على شيء فسبق لسانه إلى غيره فلا تصح يمينه لقوله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا هو قول الرجل لا والله وبلى والله ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر. فصل: ويصح اليمين على الماضي والمستقبل فإن حلف على ماض وهو صادق فلا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه ولا يجوز أن يجعل اليمين عليه إلا وهو صادق فدل على أنه يجوز أن يحلف على ما هو صادق فيه وروى محمد ابن كعب القرظي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر وفي يده عصا: يا أيها الناس لا يمنعكم اليمين عن أخذ حقوقكم فو الذي نفسي بيده إن في يدي عصا وإن كان كاذبا وهو أن يحلف على أمر أنه كان ولم يكن أو على امرأته لم وكان أثم بذلك وهو اليمين الغموس والدليل عليه ما روي عن الشعبي رضي الله عنه عن عبد الله

ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الشرك بالله" قال ثم ماذا؟ قال: "عقوق الوالدين" قال ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس" 1. قيل للشعبي ما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ وهو فيها كاذب. وروى عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو علي غضبان" 2. وإن كان على مستقبل نظرت فإن كان على أمر مباح ففيه وجهان: أحدهما: الأولى أن لا يحنث لقوله عز وجل: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] والثاني: أن الأولى أن يحنث لقوله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] فإن حلف على فعل مكروه أوترك مستحب فالأولى أن يحنث لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير". فصل: وتكره اليمين بغير الله عز وجل فإن حلف بغيره كالنبي والكعبة والآباء والأجداد لم تنعقد يمينه لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله تعالى" 3. وروي عن عمر رضي الله عنه قال: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: "إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" فقال عمر رضي الله عنه: والله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا وإن قال: إن فعلت كذا وكذا فأنا يهودي أو نصراني أو أنا بريء من الله أومن الإسلام لم ينعقد يمينه لما روى بريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فقد قال وإن كان صادقاً فلم يرجع إلى الإسلام سالماً". لأنه يمين بمحدث فلم ينعقد كاليمين بالمخلوقات. فصل: وتجوز اليمين بأسماء الله وصفاته فإن حلف من أسمائه بالله انعقدت يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله". وإن حلف بالرحمن أو بالإله أو بخالق

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب 6. النسائي في كتاب التحريم باب 3. أحمد في مسنده 2/201. 2 رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 4. مسلم في كتاب الإيمان حديث 22. أبو داود في كتاب الأيمان باب 1. الترمذي في كتاب البيوع باب 42. أحمد في مسنده 1/377. 3 رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 13. أبو داود في كتاب الأيمان باب 4. الترمذي في كتاب النذور باب 9. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 2. الموطأ في كتاب النذور حديث 14.

الخلق أو ببارئ النسمة أو بالحي القيوم أو بالحي الذي لا يموت أو برب السموات والأرضين أو بمالك يوم الدين أو برب العالمين وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا يشاركه فيها أحد انعقدت يمينه لأنه لا يسمى بها غيره ولا يوصف بها سواه فصار كما لو قال والله فإن حلف بالرحيم والرب القادر والقاهر والملك والجبار والخالق والمتكبر ولم ينوبه غير الله عز وجل انعقدت به يمينه لأنه لا تطلق هذه الأسماء إلا عليه وإن نوى به غيره لم ينعقد لأنه قد تستعمل في غيره مع التقييد لأنه يقال فلان رحيم القلب ورب الدار وقادر على المشي وقاهر للعدو وخالق للكذب ومالك البلد وجبار متكبر فجاز أن تصرف إليه بالنية فإن قال والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم لم تنعقد يمينه إلا أن ينوي به الله تعالى لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين الخلق مستعملة في الجميع استعمالاً واحداً فلم تنصرف إلى الله تعالى من غير نية كالكنايات في الطلاق وإن حلف بصفة من صفاته نظرت فإن حلف بعظمة الله أو بعزته أو بكبريائه أو بجلاله أو ببقائه أو بكلامه انعقدت يمينه لأن هذه الصفات للذات لم يزل موصوفاً بها ولا يجوز وصفه بضدها فصار كاليمين بأسمائه وإن قال وعلم الله ولم ينوبه المعلوم أو بقدرة الله ولم ينوبه المقدور انعقدت يمينه لأن العلم والقدرة من صفات الذات لم يزل موصوفاً بهما ولا يجوز وصفه بضدهما فصارا كالصفات الستة فإن نوى بالعلم المعلوم أو بالقدرة المقدور لم ينعقد يمينه لأنه قد يستعمل العلم في المعلوم

والقدرة في المقدور ألا ترى أنك تقول اغفر لنا علمك فينا وتريد المعلوم وتقول انظروا إلى قدرة الله وتريد به المقدور فانصرف إليه بالنية فإن قال وحق الله وأراد به العبادات لم ينعقد يمينه لأنه يمين بمحدث وإن لم ينو العبادات انعقدت يمينه لأن الحق يستعمل فيما يستحق من العبادات ويستعمل فيما يستحقه الباري من الصفات وذلك من صفات الذات وقد انضم إليه العرف في الحلف به فانعقدت به اليمين من غير نية. فصل: وإن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته فإن أراد به ما أخذ علينا من العهد في العبادات فليس بيمين لأنه يمين بمحدث وإن أراد بالعهد استحقاقه ما تعبدنا به فهو يمين لأنه صفة قديمة وإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأن العادة الحلف بها والتغليظ بصفاته كالطالب الغالب وترك المهلك والثاني: ليس بيمين لأنه يحتمل العبادات ويحتمل ما ذكرناه من استحقاقه ولم يقترن بذلك عرف عام وإنما يحلف به بعض الناس وأكثرهم لا يعرفونه فلم يجعل يمينا. فصل: وإن قال بالله لأفعلن كذا بالباء المعجمة من تحت فإن أراد بالله إني أستعين بالله أو أثق بالله في الفعل الذي أشار إليه لم يكن يميناً لأن ما نواه ليس بيمين واللفظ يحتمله فلم يجعل يمينا وإن لم يكن له نية كان يميناً لأن الباء من حروف القسم فحمل إطلاق اللفظ عليه وإن قال تالله لأفعلن كذا بالتاء المعجمة من فوق فالمنصوص في الأيمان والإيلاء أنه يمين وروى المزني في القسامة أنه ليس بيمين واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال المذهب ما نص عليه في الأيمان والإيلاء لأن التاء من حروف القسم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] وقوله تعالى: {لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فصار كما لو قال والله وبالله وما رواه المزني صحف فيه والذي قال المزني في القسامة بالباء المجمعة من تحت وتعليله يدل عليه فإنه قال لأنه دعاء وتالله ليس بدعاء ومن أصحابنا من قال إن كان في الأيمان والإيلاء فهو يمين لأنه يلزمه حق وإن كان في القسامة لم يكن يميناً لأنه يستحق به المال فلم يجعل يمينا وإن قال الله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه قد تحذف حروف القسم ولهذا روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل أبا جهل فقال: "آلله إنك قتلته". قال الله إني قتلته وإن لم يكن له نية لم

يكن يميناً لأنه لم يأت بلفظ القسم وإن قال لاها الله ونوى به اليمين فهويمين لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق". وإن لم ينو اليمين لم يكن يميناً لأنه غير متعارف في اليمين فلم يجعل يميناً من غير نية وإن قال وأيم الله ونوى به اليمين فهو يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسامة بن زيد: "وأيم الله إنه لخليق بالإمارة". فإن لم يكن له فيه لم يكن يميناً لأنه لم يقترن به عرف ولا نية. فصل: وإن قال لعمر الله ونوى به اليمين فهو يمين لأنه قد قيل معناه بقاء الله وقيل حق الله وقيل علم الله والجميع من الصفات التي تنعقد بها اليمين فإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأن الشرع ورد به في اليمين وهو قول الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} والثاني: أنه ليس بيمين وهو ظاهر النص لأنه غير متعارف في اليمين.

فصل: وإن قال أقسمت بالله أو أقسم بالله لأفعلن كذا ولم ينو شيئاً فهو يمين لأنه ثبت له عرف الشرع وعرف العادة فالشرع قوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] وقوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53] وعرف العادة أن الناس يحلفون بها كثيرا وإن قال أردت بقولي أقسمت بالله الخبر عن يمين متقدمة وبقولي أقسم بالله الخبر عن يمين مستأنفة قبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ فأما في الحكم فالمنصوص في الأيمان أنه يقبل وقال في الإيلاء إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك وقال أردت به في زمان متقدم أنه لا يقبل فمن أصحابنا من قال لا يقبل قولا واحدا وما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة وقوله في الأيمان أنه يقبل إرادته فيما بينه وبين الله عز وجل ومنهم من قال لا يقبل في الإيلاء ويقبل في غيره من الأيمان لأن الإيلاء يتعلق به حق المرأة فلم يقبل منه خلاف الظاهر والحق في سائر الأيمان لله عز وجل فقبل قوله ومنهم من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يقبل لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ والثاني: لا يقبل لأن ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة فإن قال شهدت بالله أو أشهد بالله لأفعلن كذا فإن نوى به اليمين فهو يمين لأنه قد يراد بالشهادة اليمين وإن نوى بالشهادة بالله الأيمان بها فليس بيمين لأنه قد يراد به ذلك وإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأنه ورد به القرآن والمراد به اليمين وهو قوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] والثاني: أنه ليس بيمين لأنه ليس في اليمين بها عرف من جهة العادة وأما في الشرع فقد ورد والمراد به اليمين وورد والمراد به الشهادة فلم يجعل يميناً من غير نية وإن قال أعزم بالله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه يحتمل أن أقول أعزم ثم يبتدئ اليمين بقوله بالله لأفعلن كذا وإن أراد إني أعزم بالله أي بمعونته وقدرته لم يكن يمينا وإن لم ينو شيئاً لم يكن يميناً لأنه يحتمل اليمين ويحتمل العزم على الفعل بمعونة الله فلم يجعل يمينا من غير نية ولا عرف وإن قال أقسم أو اشهد أو اعزم ولم يذكر اسم الله تعالى لم يكن يميناً نوى به اليمين أولم ينو لأن اليمين لا ينعقد إلا باسم معظم أوصفة معظمة ليتحقق المحلوف عليه وذلك لم يوجد. فصل: وإن قال أسألك بالله أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا فإن أراد به الشفاعة بالله عز وجل في الفعل لم يكن يمينا وإن أراد أن يحلف عليه ليفعلن ذلك صار حالفا

لأنه يحتمل اليمين وهو أن يبتدئ بقوله بالله لتفعلن كذا وإن أراد أن يعقد للمسؤول بذلك يميناً لم ينعقد لواحد منهما لأن السائل صرف اليمين عن نفسه والمسؤول لم يحلف. فصل: إذا قال والله لأفعلن كذا إن شاء زيد أن أفعله فقال زيد قد شئت أن يفعله انعقدت يمينه لأنه علق عقد اليمين على مشيئته وقد وجدت ثم يقف البر والحنث على فعل الشيء وتركه وإن قال زيد لست أشاء أن يفعله لم تنعقد اليمين لأنه لم يوجد شرط عقدها وإن فقدت مشيئته بالجنون أو الغيبة أو الموت لم ينعقد اليمين لأنه لم يتحقق شرط الانعقاد ولا ينعقد اليمين به. والله أعلم.

باب جامع الايمان

باب جامع الايمان إذا حلف لا يسكن دارا وهو فيها فخرج في الحال بنية التحويل وترك رحله فيها لم يحنث لأن اليمين على سكناه وقد ترك السكنى فلم يحنث بترك الرحل كما لو حلف لا يسكن في بلد فخرج وترك رحله فيه وإن تردد إلى الدار لنقل الرحل لم يحنث لأن ذلك ليس بسكنى وإن حلف لا يسكنها وهو فيها أولا يلبس هذا الثوب وهو لابسه أولا يركب هذه الدابة وهو راكبها فاستدام حنث لأن الاسم يطلق على حال الاستدامة ولهذا تقول سكنت الدار شهرا ولبست الثوب شهرا وركبت الدابة شهرا وإن حلف لا يتزوج وهو متزوج أولا يتطهر وهو متطهر أولا يتطيب وهو متطيب فاستدام لم يحنث لأنه لا يطلق الاسم عليه في حال الاستدامة ولهذا تقول تزوجت من شهر وتطهرت من شهر وتطيبت من شهر ولا تقول تزوجت شهرا وتطهرت شهرا وتطيبت شهرا وإن حلف لا يدخل الدار وهو فيها فاستدام ففيه قولان: قال في الأم: يحنث لأن استدامة الدخول كالإبتداء في التحريم في ملك الغير فكذلك في الحنث في اليمين كاللبس والركوب وقال في حرملة: لا يحنث وهو الصحيح لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ولهذا نقول دخلت الدار من شهر ولا تقول دخلتها شهراً فلم يحنث بالاستدامة كما لو حلف لا يتطهر أولا يتزوج فاستدام فإن حلف لا يسافر وهو في السفر فأخذ في العود لم يحنث لأنه أخذ في ترك السفر وإن استدام السفر حنث لأنه مسافر.

فصل: وإن حلف لا يساكن فلانا وهما في مسكن واحد ففارق أحدهما: الآخر في الحال وبقي الآخر لم يحنث لأنه زالت المساكنة وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان أو دار كبيرة وانفرد كل واحد منهما بباب وغلق لم يحنث لأنه ما ساكنه فإن حلف لا يدخل داراً فأدخل إحدى الرجلين أو ادخل رأسه إليها لم يحنث وإن حلف لا يخرج من دار فأخرج إحدى الرجلين أو أخرج رأسه منها لم يحنث لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا وكان يدخل رأسه إلى عائشة لترجله ولأن كمال الدخول والخروج لا يحصل بذلك. فصل: وإن حلف لا يدخل داراً فحصل في سطحها وهو غير محجر لم يحنث وقال أبو ثور: يحنث لأن السطح من الدار وهذا خطأ لأنه حاجز بين داخل الدار وخارجها فلم يصر بحصوله فيه داخلاً فيها كما لو حصل على حائط الدار وإن كان محجراً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه يحيط به سور الدار والثاني: لا يحنث وهو ظاهر النص لأنه لم يحصل في داخل الدار وإن كان في الدار نهر فطرح نفسه في الماء حتى حمله إلى داخل الدار حنث لأنه دخل الدار وإن كان في الدار شجرة منتشرة الأغصان فتعلق بغصن منها ونزل فيها حتى أحاط به حائط الدار حنث وإن نزل فيه حتى حاذى السطح فإن كان غير محجر لم يحنث وإن كان محجرا فعلى الوجهين. فصل: وإن حلف لا يدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها حنث لأن اليمين على وجه عين مضافة إلى مالك فلم يسقط الحنث فيه بزوال الملك كما لو حلف لا يكلم زوجة فلان هذه فطلقها ثم كلمها وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل داراً لزيد وعمرو ولم يحنث لأن اليمين معقودة على دار جميعها لزيد وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل داراً يسكنها زيد بإعارة أو إجارة أو غصب فإن أراد مسكنه حنث لأنه يحتمل ما نوى وإن لم يكن له نية لم يحنث وقال أبو ثور: يحنث لأن الدار تضاف إلى الساكن والدليل عليه قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فأضاف بيوت أزواجهن إليهن بالسكنى وهذا خطأ لأن حقيقة الإضافة تقتضي ملك العين ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد جعل ذلك إقرارا له بملكها. فصل: وإن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت وصارت ساحة أو جعلت حانوتاً أو بستاناً فدخلها لم يحنث لأنه زال عنها اسم الدار وإن أعيدت بغير تلك الآلة لم يحنث

بدخولها لأنها غير تلك الدار وإن أعيدت بتلك الآلة ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنها غير تلك الدار والثاني: أنه يحنث لأنها عادت كما كانت. فصل: وإن حلف لا يدخل هذه الدار من هذا الباب فقلع الباب ونصبه في مكان آخر وبقي الممر الذي كان عليه الباب فدخلها من الممر حنث وإن دخلها من الموضع الذي نصب فيه الباب لم يحنث ومن أصحابنا من قال إن دخل من الممر الذي كان فيه الباب لم يحنث لأنه لم يدخل من ذلك الباب لأن الباب نقل وهذا خطأ لأن الباب هو الممر الذي يدخل ويخرج منه دون المصراع المنصوب والممر الأول باق فتعلق به الحنث وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها أولاً يدخل من باب هذه الدار فسد الباب وجعل الباب في مكان آخر فدخلها منه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحنث وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة وهو المنصوص في الأم لأن اليمين انعقدت على باب موجود مضاف إلى الدار وذلك هو الباب الأول فلا يحنث بالثاني كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره ثم دخلها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يحنث وهو الأظهر لأن اليمين معقودة على بابها وبابها الآن هو الثاني فتعلق الحنث به كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره واشترى أخرى فإن الحنث يتعلق بالدار الثانية دون الأولى. فصل: وإن حلف لا يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو بيتاً في الحمام لم يحنث لأن المسجد وبيت الحمام لا يدخلان إطلاق اسم البيت ولأن البيت اسم لما جعل للإيواء والسكنى والمسجد وبيت الحمام لم يجعل لذلك فإن دخل بيتاً من شعر أو أدم نظرت فإن كان الحالف ممن يسكن بيوت الشعر والأدم حنث وإن كان ممن لا يسكنها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا يحنث لأن اليمين تحمل على العرف ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حل على ما يتعارف أكله منفردا وبيت الشعر والأدم غير متعارف للقروي فلم يحنث به والثاني: وهو قول أبي إسحاق وغيره أنه يحنث لأنه بيت جعل للإيواء والسكنى فأشبه بيوت المدر وقولهم إنه غير متعارف في حق أهل القرى يبطل بالبيت من المدر فإنه غير متعارف في حق أهل البادية ثم يحنث به وخبز الأرز غير متعارف في حق غير الطبري ثم يحنث بأكله إذا حلف لا يأخذ الخبز.

فصل: وإن حلف لا يأكل هذه الحنطة فجعلها دقيقاً أولا يأكل هذا الدقيق فجعله عجينا أولا يأكل هذا العجين فجعله خبزاً لم يحنث بأكله وقال أبو العباس: يحنث لأن اليمين تعلقت بعينه فتعلق الحنث بها وإن زال الاسم كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله والمذهب الأول لأنه علق اليمين على العين والاسم ثم لا يحنث بغير العين فكذلك لا يحنث بغير الاسم ويخالف الحمل لأنه لا يمكن أكله حيا والحنطة يمكن أكلها حباً أو لأن الحمل ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين فلم يدخل في اليمين والحنطة غير ممنوع من أكلها فتعلق بها اليمين وإن حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله وهو تمر أولا يأكل هذا الحمل فأكله وهو كبش أولا يكلم هذا الصبي فكلمه وهو شيخ ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا يحنث كما لا يحنث في الحنطة إذا صارت دقيقاً فأكله والثاني: أنه يحنث لأن الانتقال حدث فيه من غير صنعة وفي الحنطة الانتقال حدث فيها بصنعة وهذا لا يصح لأنه يبطل به إذا حلف لا يأكل هذا البيض فصار فرخا أولا يأكل هذا الحب فصار زرعاً فإنه لا يحنث وإن كان الانتقال حدث فيه من غير صنعة وإن حلف لا يشرب هذا العصير فصار خمراً أولا يشرب هذا الخمر فصار خلاً فشربه لم يحنث كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا وإن حلف لا يلبس هذا الغزل فنسج منه ثوباً حنث بلبسه لأن الغزل لا يلبس إلا منسوجاً فصار كما لو حلف لا يأكل هذا الحيوان فذبحه وأكله. فصل: وإن حلف لا يشرب هذا السويق فاستفه أولا يأكل هذا الخبز فدقه وشربه أو ابتلعه من غير مضغ لم يحنث لأن الأفعال أجناس مختلفة كالأعيان ثم لو حلف على جنس من الأعيان لم يحنث بجنس آخر فكذلك إذا حلف على جنس من الأفعال لم يحنث بجنس آخر وإن حلف لا يذوق هذا الطعام فذاقه ولفظه ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يوجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده ولهذا لا يبطل به الصوم والثاني: أنه لا يحنث الذوق معرفة الطعم وذلك يحصل من غير ازدراد وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاق وزاد عليه وإن حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه لم يحنث لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق وإن قال والله لا طعمت هذا الطعام فأوجر في حلقه حنث لأن معناه لا جعلته لي طعاماً وقد جعله طعاما له.

فصل: وإن حلف لا يأكل اللحم حنث بأكل لحم كل ما يؤكل لحمه من النعم والوحش والطير لأن اسم اللحم يطلق على الجميع ولا يحنث بأكل السوك لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم وهل يحنث بأكل لحم ما لا يؤكل لحمه ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه يطلق عليه اسم اللحم وإن لم يحل كما أطلق على اللحم المغصوب وإن لم يحل والثاني: لا يحنث لأن القصد باليمين أن يمنع نفسه مما يستبيحه ولحم ما لا يؤكل لحمه ممنوع من أكله من غير يمين فلم يدخل في اليمين وإن حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم لم يحنث وإن حلف لا يأكل الشحم فأكل اللحم لم يحنث لأنهما جنسان مختلفان في الاسم والصفة وإن حلف على اللحم فأكل سمين الظهر والجنب وما يعلو اللحم ويتخلله من البياض حنث لأنه لحم سمين وإن حلف على الشحم فأكل ذلك لم يحنث لأنه ليس بشحم وإن حلف على اللحم أو الشحم فأكل الكبد أو الطحال أو الرئة أو الكرش أو المخ لم يحنث لأنه مخالف للحم والشحم في الاسم والصفة وإن حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه لحم والثاني: لا يحنث لأن اللحم لا يطلق إلا على لحم البدن واختلف أصحابنا في الألية فمنهم من قال: هو شحم يحنث به في اليمين على الشحم ولا يحنث به في اليمين على اللحم لأنه يشبه الشحم في بياضه ويذوب كما يذوب الشحم ومنهم من قال: هو لحم فيحنث به في اليمين على اللحم ولا يحنث به في اليمين على الشحم لأنه نابت في اللحم ويشبهه في الصلابة ومنهم من قال: ليس بلحم ولا شحم ولا يحنث به في اليمين على واحد منهما لأنه مخالف للجميع في الاسم والصفة فصار كالكبد والطحال وإن حلف على اللحم فأكل شحم العين لم يحنث لأنه مخالف للحم في الاسم والصفة وإن حلف على الشحم فأكله ففيه وجهان: أحدهما: يحنث به بدخوله في اسم الشحم والثاني: لا يحنث به لأنه لا يدخل في إطلاق اسمه كما لا يدخل لحم السمك في إطلاق اليمين على اللحم ولا التمر الهندي في إطلاق اليمين على التمر. فصل: وإن حلف لا يأكل الرؤوس ولم يكن له نية حنث برؤوس الإبل والبقر والغنم لأنها تباع مفردة وتؤكل مفردة عن الأبدان ولا يحنث برؤوس الطير فإنها لا تباع مفردة ولا تؤكل مفردة فإن كان في بلد يباع فيه رؤوس الصيد ورؤوس السمك مفردة حنث بأكلها لأنها تباع مفردة فهي كرؤوس الإبل والبقر والغنم وهل يحنث بأكلها في سائر البلاد فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يطلق عليها اسم الرؤوس إلا في البلد الذي يباع فيه ويعتاد أكله والثاني: يحنث بها لأن ما ثبت له العرف في مكان وقع الحنث به في كل مكان كخبز الأرز.

فصل: وإن حلف لا يأكل البيض حنث بأكل كل بيض يزايل بائضه في الحياة كبيض الدجاجة والحمامة والنعامة لأنه يؤكل مفردا ويباع منفردا فيدخل في مطلق اليمين ولا يحنث بما لا يزايل بائضه كبيض السمك والجراد لأنه لا يباع منفردا ولا يؤكل منفرداً فلم يدخل في مطلق اليمين. فصل: وإن حلف لا يأكل اللبن حنث بأكل لبن الأنعام ولبن الصيد لأن اسم اللبن يطلق على الجميع وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره كما يحنث في اليمين على اللحم بأكل لحم الجميع وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره ويحنث بالحليب والرائب وما جمد منه لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن واللوز واللبا والزبد والسمن والمصل والأقط وقال أبوعلي ابن هريرة إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه لأنه من اللبن والمذهب الأول لأنه لا يطلق عليه اسم اللبن فلم يحنث به وإن كان منه كما لو حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر أولا يأكل السمسم فأكل الشيرج فإنه لا يحنث وإن كان التمر من الرطب والشيرج من السمسم. فصل: وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة وهو ظاهر فيها حنث وإن حلف لا يأكل اللبن فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه أو حلف لا يأكل الخل فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه حنث وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا أكله مع غيره لم يحنث لأنه لم يفرده بالأكل فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو والمذهب الأول لأنه فعل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على جماعة وهو فيهم. فصل: وإن حلف لا يأكل أدماً فأكل اللحم حنث لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الإدام اللحم" 1. ولأنه يؤتدم به في العادة فحنث به كالخل والمري فإن أكل التمر ففيه

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب 27. بلفظ: "سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم".

وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يؤتدم به في العادة وإنم يؤكل قوتا أو حلاوة والثاني: أنه يحنث به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سائلا خبزا وتمرا وقال: "هذا أدم هذا". فصل: وإن حلف لا يأكل الفاكهة فأكل الرطب أو العنب أو الرمان أو الإترنج أو التوت أو النبق حنث لأنها ثمار أشجار فحنث بها كالتفاح والسفرجل وإن أكل البطيخ أو الموز حنث لأنه يتفكه به كما يتفكه بثمار الأشجار وإن أكل الخيار أو القثاء لم يحنث لأنهما من الخضروات. فصل: وإن حلف لا يأكل بسرا ولا رطباً فأكل منصفاً حنث في اليمين لأنه أكل البسر والرطب وإن حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفاً لم يحنث لأنه لم يأكل بسرة ولا رطبة. فصل: وإن حلف لا يأكل قوتاً فأكل التمر أو الزبيب أو اللحم وهو ممن يقتات ذلك حنث وهل يحنث به غيره على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد. فصل: وإن حلف لا يأكل طعاماً حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة وحلاوة لأن اسم الطعام يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وهل يحنث بأكل الدواء ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام والثاني: يحنث لأنه يطعم في حال الاختيار ولهذا يحرم فيه الربا.

فصل: وإن حلف لا يشرب الماء فشرب ماء البحر احتمل عندي وجهين: أحدهما: يحنث لأنه يدخل في اسم الماء المطلق ولهذا تجوز به الطهارة والثاني: لا يحنث لأنه لا يشرب وإن حلف لا يشرب ماء فراتاً فشرب ماء دجلة أو غيره من المياه العذبة حنث لأن الفرات هو الماء العذب والدليل عليه قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] وأراد به العذب وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة لم يحنث لأن الفرات إذا عرف بالألف واللام فهو النهر الذي بين العراق والشام. فصل: وإن حلف لا يشم الريحان فشم الضميران وهو الريحان الفارسي حنث وإن شم ما سواه كالورد والبنفسج والياسمين والزعفران لم يحنث لأنه لا يطلق اسم الريحان إلا على الضميران وما سواه لا يسمى إلا بأسمائها وإن حلف لا يشم المشموم حنث بالجميع لأن الجميع مشموم وإن شم الكافور أو المسك أو العود أو الصندل لم يحنث لأنه لا يطلب عليه اسم المشموم وإن حلف لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما لم يحنث لأنه لم يشم الورد والبنفسج وإن جف الورد والبنفسج فشمهما ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث كما لا يحنث إذا حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر والثاني: يحنث لبقاء اسم الورد والبنفسج. فصل: وإن حلف لا يلبس شيئاً فلبس درعاً أو جوشناً أو خفاً أو فعلاً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه ليس شيئا والثاني: لا يحنث لأن إطلاق اللبس لا ينصرف إلى غير الثياب. فصل: وإن كان معه رداء فقال والله لا لبست هذا الثوب وهو رداء فأرتدي به أو تعمم به أو اتزر به حنث لأنه لبسه وهو رداء فإن جعله قميصاً أو سراويل ولبسه لم يحنث لأنه لم يلبسه وهو رداء فإن قال والله لا لبست هذا الثوب ولم يقل وهو رداء فأرتدي به أو تعمم به أو اتزر به أو جعله قميصاً أو سراويل حنث ومن أصحابنا من قال: لا يحنث لأنه حلف على لبسه وهو على صفة فلم يحنث بلبسه على غير تلك الصفة والصحيح هو الأول لأنه حلف على لبسه ثوباً فحمل على العموم كما لو قال: والله لا لبست ثوبا. فصل: وإن حلف لا يلبس حلياً فلبس خاتماً من ذهب أو فضة أو مخنقة من لؤلؤ

أو غيره من الجواهر لأن الجميع حلي والدليل عليه قوله عز وجل: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] وإن لبس شيئاً من الخرز أو السبج فإن كان ممن عادته التحلي بها كأهل السواد حنث لأنهم يسمونه حليا وهل يحنث به غيرهم على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد وإن تقلد سيفاً محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلى وإن لبس منطقة محلاة ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه من حلي الرجال والثاني: لا يحنث لأنه ليس من الآلات المحلاة فلم يحنث به كالسيف وإن حلف لا يلبس خاتماً فلبسها في غير الخنصر أو حلف لا يلبس قميصاً فارتدى به أولا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث لأن اليمين يقتضي لبسا متعارفا وهذا غير متعارف. فصل: وإن من عليه رجل فحلف لا يشرب له ماء من عطش فأكل له خبزاً أو لبس له ثوباً أو شرب له ماء من غير عطش لم يحنث لأن الحنث لا يقع إلا على ما عقد عليه اليمين والذي عقد عليه اليمين شرب الماء من عطش فلو حنثناه على ما سواه لحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عليه وإن حلف لا يلبس له ثوباً فوهب له ثوباً فلبسه لم يحنث لأنه لم يلبس ثوبه. فصل: وإن حلف لا يضرب امرأته فضربها ضرباً غير مؤلم حنث لأنه يقع عليه اسم الضرب وإن عضها أو خنقها أو نتف شعرها لم يحنث لأن ذلك ليس بضرب وإن لكمها أو لطمها أو رفسها ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه ضربها والثاني: لا يحنث لأن الضرب المتعارف ما كان يؤلم وإن حلف ليضرب عبده مائة سوط فشد مائة سوط فضربه بها ضربة واحدة فإن تيقن أنه أصابه لماءة بر في يمينه لأنه ضربه مائة سوط وإن تيقن أنه لم يصبه بالمائة لم يبر لأنه ضربه دون المائة وإن شك هل أصابه بالجميع أولم يصبه بالجميع فالمنصوص أنه يبر وقال المزني: لا يبر كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف ليفعلن كذا في وقت إلا أن يشاء فلان فمات فلان حنث وإذا لم نجعله باراً للشك في المشيئة وجب أن لا نجعله باراً للشك في الإصابة والمذهب الأول لأن أيوب عليه السلام حلف ليضربن امرأته عددا فقال عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}

[ص: 44] ويخالف ما قاله الشافعي رحمه الله في المشيئة لأنه ليس الظاهر وجود المشيئة فإذا لم تكن مشيئة حنث بالمخالفة والظاهر إصابته بالجميع فبر وإن حلف ليضربنه مائة مرة فضربه بالمائة المشدودة لم يبر لأنه لم يضربه إلا مرة فإن حلف ليضربنه مائة ضربة فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة فأصابه الجميع ففيه وجهان: أحدهما: لا يبر لأنه ما ضربه إلا ضربة ولهذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة إلى الجمرة لم يحتسب له سبعا والثاني: أنه يبر لأنه حصل بكل سوط ضربة ولهذا لو ضرب به في حد الزنا حسب بكل سوط جلدة. فصل: وإن حلف لا يهب له فأعمره أو أرقبه أو تصدق عليه حنث لأن الهبة تمليك العين بغير عوض وإن كان لكل نوع منها اسم وإن وقف عليه وقلنا إن الملك ينتقل إليه حنث لأنه ملكه العين من غير عوض وإن باعه وحاباه لم يحنث لأنه ملكه بعوض وإن وصى به لم يحنث لأن التمليك بعد الموت والميت لا يحنث. فصل: وإن حلف لا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث لأن الكلام لا يطلق في العرف إلا على كلام الآدمي وإن حلف لا يكلم فلاناً فسلم عليه حنث لأن السلام من كلام الآدميين ولهذا تبطل به الصلاة فإن كلمه وهو نائم أو ميت أوفي موضع لا يسمع كلامه لم يحنث لأنه لا يقال في العرف كلمه وإن كلمه في موضع يسمع إلا أنه لم يسمع لاشتغاله بغيره حنث لأنه كلمه ولهذا يقال كلمه فلم يسمع وإن كلمه وهو أصم فلم يسمع الصمم ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه كلمه وإن لم يسمع فحنث كما لو كلمه فلم يسمع لاشتغاله بغيره والثاني: لا يحنث وهو الصحيح لأنه كلمه وهولا يسمع فأشبه إذا كلمه وهو غائب وإن كاتبه أو راسله ففيه قولان: قال في القديم يحنث وقال في الجديد لا يحنث وأضاف إليه أصحابنا إذا أشار إليه فجعلوا الجميع على قولين: أحدهما: يحنث والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً} [الشورى: 51] فاستثنى الوحي وهو الرسالة من الكلام فدل على أنها منه وقوله عز وجل: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران: 41] فاستثنى الرمز وهو الإشارة من الكلام فدل على أنها منه ولأنه وضع لإفهام الآدميين فأشبه الكلام والقول الثاني أنه لا يحنث لقوله عز وجل: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ

صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] ثم قال: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: 28 - 29] فلو كانت الإشارة كلاما لم تفعله وقد نذرت أن لا تكلم ولأن حقيقة الكلام ما كان باللسان ولهذا يصح نفيه عما سواه بأن تقول ما كلمته وإنما كاتبته أو راسلته أو أشرت إليه ويحرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام لقوله عليه السلام: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام والسابق أسبقهما إلى الجنة" 1. وإن كاتبه أو راسله ففيه وجهان: أحدهما: لا يخرج من مأثم الهجران لأن الهجران ترك الكلام فلا يزول إلا بالكلام والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يخرج من مأثم الهجران لأن القصد بالكلام إزالة ما بينهما من الوحشة وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة. فصل: وإن حلف لا يسلم على فلان فسلم على قوم هو فيهم ونوى السلام على جميعهم حنث لأنه سلم عليه وإن استثناه بقلبه لم يحنث لأن اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه يحتمل التخصيص فجاز تخصيصه بالنية وإن أطلق السلام من غير نية ففيه قولان: أحدهما: أنه يحنث لأن سلم عليهم فدخل كل واحد منهم فيه والثاني: أنه لا يحنث لأن اليمين يحمل على المتعارف ولا يقال في العرف لمن سلم على الجماعة وفيهم فلان إنه كلم فلانا وسلم على فلان وإن حلف لا يدخل على فلان في بيت فدخل على جماعة في بيت هو فيهم ولم يستثنه بقلبه حنث بدخوله عليهم وإن استثنى بقلبه عليهم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحنث كما لو حلف لا يسلم عليه فسلم عليهم واستثناه بقلبه والثاني: أنه يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالاستثناء والسلام قول فجاز تخصيصه بالاستثناء ولهذا لو قال سلام عليكم إلا على فلان صح وإن قال دخلت عليكم إلا على فلان لم يصح. فصل: وإن حلف لا يصوم أولا يصلي فدخل فيهما حنث لأنه بالدخول فيهما يسمى صائما ومصليا وإن حلف لا يبيع أولا يتزوج أولا يهب لم يحنث إلا بالإيجاب والقبول ومن أصحابنا من قال: يحنث في الهبة بالإيجاب من غير قبول لأنه يقال وهب له ولم يقبل والصحيح هو الأول لأن الهبة عقد تمليك فلم يحنث فيه من غير إيجاب

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 57، 57. مسلم في كتاب البر حديث 23، 25. الترمذي في كتاب البر باب 21، 24. أحمد في مسنده 1/176، 183.

وقبول كالبيع والنكاح ولا يحنث إلا بالصحيح فأما إذا باع بيعاً فاسداً أو وهب هبة فاسدة لم يحنث لأن هذه العقود لا تطلق في العرف والشرع إلا على الصحيح. فصل: وإن قال والله لا تسريت ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن يحنث بوطء الجارية لأنه قد قيل إن التسري مشتق من السراة وهو الظهر فيصير كأنه حلف لا يتخذها ظهراً والجارية لا يتخذها ظهرا إلا بالوطء وقد قيل إنه مشتق من السر وهو الوطء فصار كما لو حلف لا يطؤها والثاني: أنه لا يحنث إلا بالتحصين عن العيون والوطء لأنه مشتق من السر فكأنه حلف لا يتخذها أسرى الجواري وهذا لا يحصل إلا بالتحصين والوطء والثالث أنه لا يحنث إلا بالتحصين والوطء والإنزال لأن التسري في العرف اتخاذ الجارية لابتغاء الولد ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه. فصل: وإن حلف أنه لا مال له وله دين حال حنث لأن الدين الحال مال بدليل أنه تجب فيه الزكاة ويملك أخذه إذا شاء فهو كالعين في يد المودع وإن كان له دين مؤجل ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يستحق قبضه في الحال والثاني: أن يحنث لأنه يملك الحوالة به والإبراء عنه وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه على ملكه وتصرفه وإن كان له مال ضال ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأن الأصل بقاؤه والثاني: لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه فلا يحنث بالشك. فصل: وإن حلف أنه لا يملك عبدا وله مكاتب فالمنصوص أنه لا يحنث وقال في الأم: ولو ذهب ذاهب إلى أنه عبد ما بقي عليه درهم إنما يعني أنه عبد في حال دون حال لأنه لو كان عبداً له لكان مسلطا على بيعه وأخذ كسبه فمن أصحابنا من جعل ذلك قولاً آخر وقال أبوعلي الطبري رحمه الله إنه لا يحنث قولاً واحدا وإنما ألزم الشافعي رحمه الله نفسه شيئا وانفصل عنه فلا يجعل ذلك قولاً له. فصل: وإن حلف لا يرفع منكراً إلى فلان القاضي أو إلى هذا القاضي ولم ينو أنه لا يرفعه إليه وهو قاض فرفعه إليه بعد العزل ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحنث لأنه شرط أن يكون قاضياً فلم يحنث بعد العزل كما لو حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكلها بعد ما صارت دقيقا والثاني: أنه يحنث لأنه علق اليمين على عينه فكان ذكر القضاء تعريفاً لا

شرطاً كما لو حلف لا يدخل دار زيد هذه فدخلها بعد ما باعها زيد وإن حلف لا يرفع منكراً إلى قاض حنث بالرفع إلى كل قاض لعموم اللفظ وإن حلف لا يرفع منكراً إلى القاضي لم يحنث إلا بالرفع إلى قاضي البلد لأن التعريف بالألف واللام يرجع إليه فإن كان في البلد قاض عند اليمين فعزل وولي غيره فرفع إليه حنث. فصل: وإن حلف لا يكلم فلاناً حيناً أو دهراً أو حقباً أو زماناً بر بأدنى زمان لأنه اسم للوقت ويقع على القليل والكثير وإن حلف لا يكلمه مدة قريبة أو مدة بعيدة بر بأدنى مدة لأنه ما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها بالإضافة إلى ما هو أقرب منها. فصل: وإن حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يحنث لأنه حلف على فعله وهو طلب الخدمة ولم يوجد ذلك منه وإن حلف لا يتزوج أولا يطلق فأمر غيره حتى تزوج له أو طلق عنه لم يحنث لأنه حلف على فعله نفسه ولم يفعل وإن حلف لا يبيع أولا يضرب فأمر غيره ففعل فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث لما ذكرناه وإن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان فالمنصوص أنه لا يحنث وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يحنث ووجهه أن العرف في حقه أن يفعل ذلك عنه بأمره واليمين يحمل على العرف ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حملت على رؤوس الأنعام والصحيح هو الأول لأن اليمين على فعله والحقيقة لا تنتقل بعادة الحالف ولهذا لو حلف السلطان أنه لا يأكل الخبز أولا يلبس الثوب فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث وإن لم يكن ذلك من عادته وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كالبيع والضرب في حق من يتولاه بنفسه والثاني: أنه يحنث قولاً واحداً لأن العرف في الحلق في حق كل أحد أن يفعله غيره بأمره ثم يضاف الفعل إلى المحلوق. فصل: وإن حلف لا يدخل دارين فدخل أحدهما: أولا يأكل رغيفين فأكل أحدهما: أولا يأكل رغيفا فأكله إلا لقمة أولا يأكل رمانة فأكلها إلا حبة أولا يشرب ماء حب فشربه إلا جرعة لم يحنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإن حلف لا يشرب ماء هذا النهر أو ماء هذه البئر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنه يحنث بشرب بعضه لأنه يستحيل شرب جميعه فانعقدت اليمين على ما لا يستحيل وهو شرب البعض والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحنث بشرب بعضه لأنه حلف على شرب جميعه فلم يحنث بشرب بعضه كما لو حلف على شرب ماء في الحب.

فصل: وإن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمر ولم يحنث لأن ليس فيه شيء يمكن أن يشار إليه إن اشتراه زيد دون عمر فلم يحنث وإن اشترى كل واحد منهما طعاماً ثم خلطاه فأكل منه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يحنث لأن ليس فيه شيء يمكن أن يقال هذا الطعام اشتراه زيد دون عمرو فلم يحنث كما لو اشترياه في صفقة واحدة والثاني: أنه إن أكل النصف فما دونه لم يحنث وإن أكل أكثر من النصف حنث لأن النصف فما دونه يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو فلم يحنث بالشك وفيما زاد يتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد والثالث: وهو قول أبي إسحاق أنه أكل الحبة والعشرين حبة لم يحنث لجواز أن يكون مما اشتراه عمرو وإن أكل الكف والكفين حنث لأنه يستحيل فيما يختلط أن يتميز في الكف والكفين ما اشتراه زيد عما اشتراه عمرو. فصل: وإن حلف لا يدخل دار زيد فحمله غيره باختياره فدخل به حنث لأن الدخول ينسب إليه كما ينسب إذا دخلها راكباً على البهيمة أو دخلها برجله فإن دخلها ناسياً لليمين أو جاهلاً بالدار أو أكره حتى دخلها ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه فعل ما حلف عليه فحنث والثاني: لا يحنث وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن حال النسيان والجهل والإكراه لا يدخل في اليمين كما لا يدخل في الأمر والنهي في خطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يدخل في اليمين لم يحنث به وإن حمله غيره مكرهاً حتى دخل به ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كما لو أكره حتى دخلها بنفسه لأنه لما كان في حال الاختيار دخوله بنفسه ودخوله محمولاً واحداً لوجب أن يكون في حال الإكراه دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا ومنهم من قال: لا يحنث قولاً واحداً لأن الفعل إنما ينسب إليه إما بفعله حقيقة أو بفعل غيره بأمره مجازا وههنا لم يوجد واحد منهما فلم يحنث. فصل: وإن حلف ليأكلن هذا الرغيف غداً فأكله من الغد بر في يمينه لأنه فعل ما حلف على فعله وإن ترك أكله في الغد حتى انقضى حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره وإن أكل نصفه في الغد حنث لأنه قدر على أكل الجميع ولم يفعل وإن أكله في يومه حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره فحنث كما لوترك أكله حتى انقضى الغد وإن تلف الرغيف في يومه أوفي الغد قبل أن يتمكن من أكله ففيه قولان كالمكره،

وإن تلف من الغد بعدما تمكن من أكله ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يحنث قولا واحدا لأنه فوته باختياره ومنهم من قال فيه قولان لأن جميع الغد وقت للأكل فلم يكن تفويته بفعله فإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الشهر مع رأس الشهر فقضاه قبل رؤية الهلال حنث لأنه فوت القضاء باختياره وإن رأى الهلال ومضى زمان أمكنه فيه القضاء فلم يقضه حنث لأنه فوت القضاء باختياره وإن أخذ عند رؤية الهلال في كيله وتأخر الفراغ منه لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وإن أخر عن أول ليلة الشك ثم بان أنه كان من الشهر ففيه قولان كالناسي والجاهل وإن قال والله لأقضين حقه إلى شهر رمضان فلم يقضه حتى دخل الشهر حنث لأنه ترك ما حلف على فعله من غير ضرر وإن قال والله لأفين حقه إلى أول الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم قال حكمها حكم ما لو قال والله لأقضين حقه عند رأس الشهر وهو ظاهر النص وإن قضاه قبل رؤية الهلال حنث وإن رأى الهلال ومضى وقت يمكن فيه القضاء ثم قضاه حنث لأن إلى فد تكون للغاية كقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فلما احتمل أن تكون للغاية واحتمل أن تكون للمقارنة لم يجز أن نحنثه بالشك ويخالف قوله والله لأقضين حقه إلى رمضان لأنه لا يحتمل أن تكون للمقارنة لأنه لا يمكن أن يقارن القضاء في جميع شهر رمضان فجعلناه للغاية. فصل: وإن كان له على رجل حق فقال له والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي ففر منه الغريم لم يحنث الحالف وقال أبوعلي ابن أبي هريرة فيه قولان كالقولين في المكره وهذا خطأ لأنه حلف على فعل نفسه ولم يوجد ذلك منه ولو قال والله لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك ففارقه الغريم مختارا ذاكرا لليمين حنث الحالف وإن فارقه مكرهاً أو ناسياً ففيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين في المكره والناسي ومنهم من قال يحنث الحالف قولاً واحداً لأن الاختيار والقصد يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره والصحيح هو الأول وأن يعتبر في فعل من حلف على فعله وإن كانت اليمين على فعل الحالف اعتبر الاختيار والقصد في فعله وإن كانت على فعل غيره اعتبر الاختيار والقصد في فعله وإن فارقه الحالف لم يحنث لأن اليمين على فعل الغريم ولم يوجد منه فعل وإن حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه ثم أفلس وفارقه لما يعلم من وجوب إنظار المعسر حنث لأنه فعل المحلوف عليه مختاراً ذاكراً لليمين فحنث،

وإن وجب الفعل بالشرع كما لو حلف لأرددت عليك المغصوب فرده حنث وإن وجب الرد بالشرع فإن ألزمه الحاكم مفارقته فعلى قولين. فصل: وإن حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه منه فأحاله على غيره أو أبرأه من الدين أو دفع إليه عوضاً عن حقه حنث في اليمين لأنه لم يستوف حقه وإن كان حقه دنانير فدفع إليه شيئاً على أنه دنانير فخرج نحاساً فعلى القولين في الجاهل وإن قال من عليه الحق والله لا فارقتك حتى أدفع إليك مالك وكان الحق عيناً فوهبها منه فقبلت حنث لأنه فوت الدفع بقبوله وإن كان دينا فأبرأه منه وقلنا إنه لا يحتاج الإبراء إلى القبول على الصحيح من المذهب فعلى الطريقين فيمن حلف لا يدخل الدار فحمل إليه مكرهاً.

باب كفارة اليمين

باب كفارة اليمين إذا حلف بالله تعالى ثم حنث وجبت عليه الكفارة لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك من أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وإن حلف على فعل مرتين بأن قال والله لا دخلت الدار والله لا دخلت الدار نظرت فإن نوى بالثاني التأكيد لم يلزمه إلا كفارة واحدة وإن نوى الاستئناف ففيه قولان: أحدهما: يلزمه كفارتان لأنهما يمينان بالله عز وجل فتعلق بالحنث فيهما كفارتين كما لو كانت على فعلين والثاني: تجب كفارة واحدة وهو الصحيح لأن الثانية لا تفيد إلا ما أفادت الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد بها التأكيد وإن لم يكن له نية فإن قلنا إنه إذا نوى الاستئناف لزمه كفارة واحدة فههنا أولى وإن قلنا هناك تجب كفارتان ففي هذا قولان بناء على القولين فيه من كرر لفظ الطلاق ولم ينو. فصل: والكفارة إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهو مخير بين الثلاثة والدليل عليه قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] فإن لم يقدر على الثلاثة لزمه صيام ثلاثة أيام لقوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] فإن كان يكفر بالمال فالمستحب أن لا يكفر قبل الحنث ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة لا يجيز تقديم الكفارة على الحنث،

وإن أراد أن يكفر بالمال قبل الحنث نظرت فإن كان الحنث بغير معصية جاز تقديم الكفارة لأنه حق مال يتعلق بسببين يختصانه فإذا وجد أحدهما: جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول وإن كان الحنث بمعصية والثاني: يجوز لما ذكرناه والثاني: لا يجوز لأنه يتوصل به إلى معصية واختلف أصحابنا في كفارة الظهار قبل العود وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الموت فمنهم من قال فيه وجهان كما قلنا في اليمين على معصية ومنهم من قال يجوز لأنه ليس فيه توصل إلى معصية وإن كان يكفر بالصوم لم يجز قبل الحنث لأنها عبادة تتعلق بالبدن لا حاجة به إلى تقديمها فلم يجز تقديمها على الوجوب كصوم رمضان. فصل: وإن أراد أن يكفر بالعتق لم يجز إلا بما يجوز في الظهار وقد بيناه وإن أراد أن يكفر بالإطعام أطعم كل مسكين مدا كما يطعم في الظهار وقد بيناه. فصل: وإن أراد أن يكفر بالكسوة كسا كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو رداء أم مقنعة أو خمار لأن الشرع ورد به مطلقا ولم يقدر فحمل على ما يسمى كسوة في العرف وهل يجزئ فيه القلنسوة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه لأنه لا يطلق عليه اسم الكسوة والثاني: أنه يجزئه وهو قول أبي إسحاق المروزي لما روي أن رجلاً سأل عمران بن الحصين عن قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] قال لو أن وفداً قدموا على أميركم هذا فكساهم قلنسوة قلنسوة قلتم قد كسوا ولا يجزئ الخف والنعل والمنطقة والتكة لأنه لا يقع عليه اسم الكسوة ويجزئ الكساء والطيلسان لأنه من الكسوات ويجوز ما اتخذ من القطن والكتان والشعر والصوف والخز وأما الحرير فإنه إن أعطاه للمرأة أجزأه وهل يجوز أن يعطي رجلاً ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئ لأنه يحرم عليه لبسه والثاني: يجزئه وهو الصحيح لأنه يجوز أن يعطي الرجال كسوة النساء والنساء كسوة الرجال ويجوز فيه الخام والمقصور والبياض والمصبوغ فأما الملبوس فإنه إن ذهبت قوته لم يجزه وإن لم تذهب قوته أجزأه كما تجزئه الرقبة إذا لم تبطل منفعتها ولا تجزئه إذا بطلت منفعتها. فصل: وإن أراد أن يكفر بالصيام ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز إلا متتابعاً لأنه كفارة جعل الصوم فيها بدلاً عن العتق فشرط في صومها التتابع ككفارة الظهار والقتل والثاني: أنه يجوز متتابعا ومتفرقا لأنه صوم نزل به القرآن مطلقاً فجاز متفرقا ومتتابعا كالصوم في فدية الأذى.

فصل: وإن كان الحالف عبدا فكفارته الصوم وإن كان الصوم يضر به لشدة الحر وطول النهار نظرت فإن حلف بإذن المولى وحنث بإذنه جاز له أن يصوم من غير إذنه لأنه لزمه بإذنه وإن حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه لم يجز أن يصوم إلا بإذنه لأنه لزمه بغير إذنه وإن حلف بغير إذنه وحنث بإذنه جاز أن يصوم بغير إذنه لأنه لزمه بإذنه وإن حلف بإذنه وحنث بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه وجد أحد السببين بإذنه فصار كما لو حلف بغير إذنه وحنث بإذنه والثاني: لا يجوز أن يصوم إذا كان الصوم لا يضر به كالصوم في الشتاء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه لا ضرر عليه والثاني: أنه كصوم الذي يضرب به على ما ذكرناه لأنه ينقص من نشاطه في خدمته فإن صام في المواضع التي منعناه من الصوم فيها أجزأه لأنه من أهل الصيام وإنما منع منه لحق المولى فإذا فعل بغير إذنه صح كصلاة الجمعة فإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وله مال لم يكفر بالعتق لأنه ليس من أهل الولاء ويلزمه أن يكفر بالطعام أو الكسوة ومن أصحابنا من قال فرضه الصوم وهو قول المزني لأنه ناقص بالرق وهو كالعبد والمذهب الأول لأنه يملك المال بنصف الحر ملكاً تاما فأشبه الحر.

كتاب العدة

كتاب العدة مدخل ... كتاب العدة إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول والخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ولأن العدة تجب لبراءة الرحم وقد تيقنا براءة رحمها وإن طلقها بعد الدخول وجبت العدة لأنه لما أسقط العدة في الآية قبل الدخول دل على وجوبها بعد الدخول ولأن بعد الدخول يشتغل الرحم بالماء فوجبت العدة لبراءة الرحم وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول ففيه قولان: أحدهما: لا تجب العدة لما ذكرناه من الآية والمعنى والثاني: تجب لأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كالاستيفاء ولهذا تستقر به الأجرة في الإجارة كما تستقر بالاستيفاء فجعل كالاستيفاء في إيجاب العدة فصل: وإن وجبت العدة على المطلقة لم تخل إما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة نظرت فإن كانت حاملاً من الزوج اعتدت بالحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضع الحمل فإن كان الحمل ولداً واحداً لم تنقض العدة حتى ينفصل جميعه وإن كان ولدين أو أكثر لم تنقض حتى ينفصل الجميع لأن الحمل هو الجميع ولأن براءة الرحم لا تحصل إلا بوضع الجميع وإن وضعت ما بان فيه خلق آدمي انقضت به العدة وإن وضعت مضغة لم يظهر فيه خلق آدمي وشهد أربع نسوة من أهل المعرفة أنه خلق آدمي ففيه طريقان: من أصحابنا من قال تنقضي به العدة قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في عتق أم الولد وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روي أنه أتي عثمان رضي الله عنه بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها فقال ابن عباس رضي الله عنه: أنزل الله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فالفصال في العامين والحمل في ستة أشهر وذكر القتيبي في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر وأكثره أربع سنين لما روى الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن أنس حدثت جميلة بنت سعد عن عائشة رضي الله عنها لا تزيد المرأة على اثنتين في الحمل قال مالك: سبحان الله من يقول هذا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد وقلما تنقضي به عدة الحامل أن تضع

بعد ثمانين يوماً من بعد إمكان الوطء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم ليخلق في بطن أمه نطفة أربعين يوماً ثم يكون علقة أربعين يوماً ثم يكون مضغة أربعين يوما" 1. ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين. فصل: فإن كانت المعتدة غير حامل فإن كانت ممن تحيض اعتدت بثلاثة أقراء لقوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والأقراء هي الأطهار والدليل عليه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] والمراد به في وقت عدتهن كما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} والمراد به في يوم القيامة والطلاق المأمور به في الطهر فدل على أنه وقت العدة وإن كان الطلاق في وقت الحيض كان أول الأقراء الطهر الذي بعده فإن كان في حال الطهر نظرت فإن بقيت في الطهر بعد الطلاق لحظة ثم حاضت احتسبت تلك اللحظة قرءاً لأن الطلاق إنما جعل في الطهر ولم يجعل في الحيض حتى لا يؤدي إلى الإضرار بها في تطويل العدة فلولم تحسب بقية الطهر قرءاً كان الطلاق في الطهر أضر بها من الطلاق في الحيض لأنه أطول للعدة فإن لم يبق بعد الطلاق جزء من الطهر بأن وافق آخر لفظ الطلاق آخر الطهر أو قال لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك كان أول الأقراء الطهر الذي بعد الحيض وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه يجعل الزمان الذي صادفه الطلاق من الطهر قرءا وهذا لا يصح لأن العدد لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق فلم يجز الاعتداد بما قبله وأما آخر العدة فقد روى المزني والربيع أنها إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم وروى البويطي وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضي من الحيض يوم وليلة فمن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما: تنقضي العدة برؤية الدم لأن الظاهر أن ذلك حيض والثاني: لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة لجواز أن يكون دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين فالذي رواه المزني والربيع فيمن رأت الدم لعادتها فيعلم بالعادة أن ذلك حيض والذي رواه البويطي وحرملة فيمن رأت الدم لغير عادة لأنه لا يعلم أنه حيض قبل يوم وليلة وهل يكون ما رأته من الحيض من العدة ففيه قولان: أحدهما: أنه من العدة لأنه لا بد من اعتباره فعلى هذا إذا راجعها فيه صحت الرجعة وإن

_ 1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 6. مسلم في كتاب القدر حديث 1. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 4.

تزوجت فيه لم يصح النكاح والثاني: ليس من العدة لأنا لو جعلناه من العدة لزادت العدة على ثلاثة أقراء فعلى هذا إذا راجعها لم تصح الرجعة فإن تزوجت فيه صح النكاح. فصل: وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما وساعة وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى في الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون تلك الساعة قرءاً ثم تحيض يوماً ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثاني ثم تحيض يوماً ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثالث فإذا طعنت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها. فصل: وإن كانت من ذوات الأقراء فارتفع حيضها فإن كان لعارض معروف كالمرض والرضاع تربصت إلى أن يعود الدم فتعتد بالأقراء لأن ارتفاع الدم بسبب يزول فانتظر زواله فإن ارتفع بغير سبب معروف ففيه قولان: قال في القديم تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها ثم تعتد عدة الآيسة لأن العدة تراد لبراءة الرحم وقال في الجديد تمكث إلى أن تيأس من الحيض ثم تعتد عدة الآيسة لأن الاعتداد بالشهور جعل بعد الإياس فلم يجز قبله فإن قلنا بالقول القديم ففي القدر التي تمكث فيه قولان: أحدهما: تسعة أشهر لأنه غالب عادة الحمل ويعلم به براءة الرحم في الظاهر والثاني: تمكث أربع سنين لأنه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في الظاهر لجاز الاقتصار على حيضة واحدة لأنه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر فوجب أن يعتبر أكثر مدة الحمل ليعلم براءة الرحم بيقين فإذا علمت براءة الرحم بتسعة أشهر أو بأربع سنين اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر لما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المرأة إذا طلقت فارتفعت حيضتها أن عدتها تسعة أشهر لحملها وثلاثة أشهر لعدتها ولأن تربصها فيما تقدم ليس بعدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء فإذا علمت اعتدت بعدة الآيسات فإن حاضت قبل العلم ببراءة رحمها أو قبل انقضاء العدة بالشهور لزمها الاعتداد بالأقراء لأنا تبينا أنها من ذوات الأقراء فإن اعتدت

وتزوجت ثم حاضت لم يؤثر ذلك في العدة لأنها انقضت العدة وتعلق بها حق الزوج فلم يبطل فإن حاضت بعد العدة قبل النكاح ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمها الاعتداد بالأقراء لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلم يبطل بما حدث معه والثاني: يلزمها لأنها صارت من ذوات الأقراء قبل تعلق حق الزوج بها فلزمها الاعتداد بالأقراء فإن قلنا بقوله الجديد إنها تقعد إلى الإياس ففي الإياس قولان: أحدهما: يعتبر إياس أقاربها لأنها أقرب إليهن والثاني: يعتبر إياس نساء العالم وهو أن تبلغ اثنتين وستين سنة لأنه لا يتحقق الإياس فيما دونها فإذا تربصت قدر الإياس اعتدت بعد ذلك بالأشهر لأن ما قبلها لم يكن عدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء. فصل: وإن كانت ممن لا تحيض ولا يحيض مثلها كالصغيرة والكبيرة الآيسة اعتدت بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة لأن الأشهر في الشرع بالأهلة والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وإن كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت بشهرين بالأهلة ثم تنظر عدد ما اعتدت من الشهر الأول وتضيف إليه من الشهر الرابع ما يتم به ثلاثون يوما وقال أبو محمد عبد الرحمن ابن بنت الشافعي رحمه الله: إذا طلقت المرأة في أثناء الشهر اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد كاملة لأنها إذا فاتها الهلال في الشهر الأول فاتها في كل شهر فاعتبر العدد في الجميع وهذا خطأ لأنه لم يتعذر اعتبار الهلال إلا في الشهر الأول فلم يسقط اعتباره فيما سواه. فصل: وإن كانت ممن لا تحيض ولكنها في سن تحيض فيه النساء اعتدت بالشهور لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بعادة النساء والدليل عليه أنها لو بلغت سناً لا تحيض فيه النساء وهي تحيض كانت عدتها بالأقراء اعتباراً بحالها فكذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن تعتد بالأشهر اعتباراً بحالها وإن ولدت ولم تر حيضا قبله ولا نفاسا بعده ففي عدتها وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنها تعتد بالشهور للآية والثاني: أنها لا تعتد بالشهور بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الأقراء لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال ولا تكون من ذوات الأقراء. فصل: وإذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم حاضت لزمها الانتقال إلى

الأقراء لأن الشهور بدل عن الأقراء فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها وهل يحسب ما مضى من الأشهر قرءاً ففيه قولان: أحدهما: يحتسب به وهو قول أبي العباس لأنه طهر بعده حيض فاعتدت به قرءاً كما لو تقدمه حيض والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحتسب به كما إذا اعتدت بقرئين ثم أيست لزمها الاستئناف ثلاثة أشهر ولم يحتسب ما مضى من زمان الأقراء شهراً وإن انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت لم يلزمها الاستئناف للعدة بالأقراء لأن هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة وإن شرعت في العدة بالأقراء ثم ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم الأقراء إذا قلنا إن الحامل تحيض لأن الأقراء دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على براءة الرحم من جهة القطع والظاهر إذا عارضه قطع سقطت دلالته كالقياس إذا عارض نصه وإن اعتدت بالأقراء ثم ظهر حمل من الزوج لزمها الاعتداد بالحمل ويخالف إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت لأن ما رأت من الحيض لم يكن موجوداً في حال العدة وإنما حدث بعدها والحمل من الزوج كان موجوداً في حال العدة بالأقراء فسقط معه حكم الإقراء. فصل: وإن كانت المطلقة أمة نظرت فإن كانت حاملاً اعتدت بالحمل لما ذكرناه في الحرة وإن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بقرءين لما روى جابر عن عمر رضي الله عنه أنه جعل عدة الأمة حيضتين ولأن القياس اقتضى أن تكون قرءا ونصفا كما كان حدها على النصف إلا أن القرء لا يتبعض فكمل فصارت قرءين ولهذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لواستطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت وإن كانت من ذوات الشهور ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها تعتد بشهرين لأن الشهور بدل من الأقراء فكانت بعددها كالشهور في عدة الحرة والثاني: أنها تعتد بثلاثة أشهر لأن براءة الرحم لا تحصل إلا بثلاثة أشهر لأن الحمل يمكث أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوماً علقة ثم أربعين يوماً مضغة ثم يتحرك ويعلو جوف المرأة فيه وهو الحمل والثالث أنها تعتد بشهر ونصف لأن القياس يقتضي أن تكون على النصف من الحرة كما قلنا في الحد ولأن القرء لا يتبعض فكمل والشهور تتبعض فتبعضت كما نقول في المحرم إذا وجب عليه نصف مد في جزاء الصيد وأراد أن يكفر بالصوم صام يوماً لأنه لا يتبعض وإن أراد أن يكفر بالإطعام أخرج نصف مد. فصل: وإن أعتقت الأمة قبل الطلاق اعتدت بثلاثة أقراء لأنه وجبت عليها العدة وهي حرة وإن انقضت عدتها بقرءين ثم اعتقت لم يلزمها زيادة لأنها اعتدت على حسب حالها فلم يلزمها زيادة كما لو اعتدت من لم تحض بالشهور ثم حاضت أو اعتدت ذات

الأقراء بالأقراء ثم صارت آيسة فإن أعتقت في أثناء العدة ففيه ثلاثة أقوال أحدها: تتم عدة أمة لأنه عدد محصور يختلف بالرق والحرية فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد والثاني: أن ها إن كانت رجعية أتمت عدة حرة وإن كانت بائناً أتمت عدة أمة كما نقول فيمن مات عنها زوجها أنها إن كانت رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة وإن كانت بائنا لم تنتقل والثالث: وهو الصحيح أنه يلزمها أن تتمم عدة حرة لأن الاعتبار في العدة بالانتهاء ولهذا لو شرعت في الاعتداد بالشهور ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء. فصل: وإن وطئت امرأة بشبهة وجبت عليها العدة لأن وطء الشبهة كالوطء في النكاح في النسب فكان كالوطء في النكاح في إيجاب العدة فإن زنى بامرأة لم تجب عليها العدة لأن العدة لحفظ النسب والزاني لا يلحقه نسب. فصل: ومن مات عنها زوجها وجبت عليها العدة دخل بها أولم يدخل لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإن كانت حائلا وهي حرة اعتدت بأربعة أشهر وعشر للآية وإن كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال لأنا دللنا على أن عدتها بالأقراء على النصف إلا أنه لما لم يتبعض جعلناه قرءين والشهور تتبعض فوجب عليها نصف ما يجب على الحرة وإن كانت حاملاً بولد يلحق بالزوج اعتدت بوضعه لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد حللت فانكحي". وإن كنت حاملاً بولد لا يلحق الزوج كامرأة الطفل لم تعتد بالحمل منه لأنه لا يمكن أن يكون منه فلم تعتد به منه كامرأة الكبير إذا طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد فإن كان الحمل لاحقاً برجل وطئها بشبهة اعتدت به منه وإذا وضعت اعتدت عن الطفل بالشهور لأنه لا يجوز أن تعتد عن شخصين في وقت واحد وإن كان عن زنا احتسبت بما مضى من الشهور في حال الحمل عن عدة وفاة الطفل لأن الحمل عن الزنا لا حكم له فلا يمنع من الاعتداد بالشهور وإن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعدة الوفاة لأنه توفي عنها وهي زوجته. فصل: وإن طلق إحدى امرأتيه بعينها ثلاثا ومات قبل أن يبين نظرت فإن لم يدخل بهما اعتدت كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا لأن كل واحدة منهما يجوز أن تكون

هي الزوجة فوجبت العدة عليهما ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها وإن دخل بهما فإن كانتا حاملتين اعتدتا بوضع الحمل لأن عدة الطلاق والوفاة في الحمل واحدة وإن كانتا من ذوات الشهور اعتدتا بأربعة شهور وعشر لأنها تجمع عدة الطلاق والوفاة وإن كانتا من ذوات الأقراء اعتدتا بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر أو ثلاثة أقراء وابتداء الأشهر من موت الزوج وابتداء الأقراء من وقت الطلاق ليسقط الفرد بيقين وإن اختلفت صفتهما في العدة كان حكم كل واحدة منهما على الانفراد كحكمها إذا اتفقت صفتهما وقد بيناه وإن طلق إحداهما لا بعينها ومات قبل أن يعين فالحكم فيه على ما ذكرناه فإن كانت المطلقة معينة ومات قبل أن يبين إلا في شيء واحد وهو أنا متى أمرناها بالاعتداد بالشهور أو الأقراء فإن ابتداء الأشهر من حين الموت فأما الأقراء فإن قلنا على أحد الوجهين أن ابتداء العدة من حين يلفظ بالطلاق كان ابتداء الأقراء من حين الطلاق وإن قلنا بالوجه الآخر أن ابتداء العدة من حين التعيين كان ابتداء الأقراء من حين الموت لأن بالموت وقع الأياس من بيانه وقبل الموت لم ييأس من بيانه. فصل: إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع عنها خبره ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم أن لها أن تفسخ النكاح ثم تتزوج لما روى عمر بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلاً استهوته الجن فغاب عن امرأته فأتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن تمكث أربع سنين ثم أمرها أن تعتد ثم تتزوج ولأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالتعنين وتعذر النفقة بالإعسار فلأن يجوز ههنا وقد تعذر الجميع أولى والثاني: وهو قوله في الجديد وهو الصحيح أنه ليس لها الفسخ لأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته وقول عمر رضي الله عنه يعارضه قول علي عليه السلام تصبر حتى يعلم موته ويخالف فرقة التعنين والإعسار بالنفقة لأن هناك ثبت سبب الفرقة بالتعنين وههنا لم يثبت سبب الفرقة وهو الموت فإن قلنا بقوله القديم قعدت أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج لما رويناه عن عمر رضي الله عنه ولأن يمضي أربع سنين يتحقق براءة رحمها ثم تعتد لأن الظاهر أنه مات فوجب عليها عدة الوفاة قال أبو إسحاق يعتبر ابتداء المدة من حين أمرها الحاكم بالتربص ومن أصحابنا من قال يعتبر

من حين انقطع خبره والأول أظهر لأن هذه المدة تثبت بالإجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة التعنين وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى الحكم بالفرقة فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يفتقر لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها والثاني: أنه يفتقر إلى الحكم لأنه فرقة مجتهد فيها فافتقرت إلى الحاكم كفرقة التعنين وهل تقع الفرقة ظاهرا وباطنا ففيه قولان: أحدهما: تقع ظاهرا وباطنا فإن قدم الزوج وقد تزوجت لم يجز أن ينتزعها من الزوج لأنه فسخ مختلف فيه فنفذ فيه الحكم ظاهرا وباطنا كفرقة التعنين والثاني: ينفذ في الظاهر دون الباطن لأن عمر رضي الله عنه جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ زوجته وإن قلنا بالقول الجديد أنها باقية على نكاح الزوج فإن تزوجت بعد مدة التربص وانقضاء العدة فالنكاح باطل فإن قضى لها حاكم بالفرقة فهل يجوز نقضه على قوله الجديد ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد والثاني: أنه يجوز لأنه حكم مخالف لقياس جلي وهو أن يكون حياً في ماله ميتاً في نكاح زوجته. فصل: وإن رجع المفقود فإن قلنا بقوله الجديد سلمت الزوجة إليه وإن قلنا بقوله القديم وقلنا إن حكم الحاكم لا ينفذ في الباطن سلمت إليه وإن قلنا إنه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه وإن فرق الحاكم بينهما وتزوجت ثم بان أن المفقود كان قد مات وقت الحكم بالفرقة فإن قلنا بقوله القديم صح النكاح سواء قلنا إن الحاكم ينفذ الظاهر دون الباطن أو قلنا إنه ينفذ في الباطن دون الظاهر لأن الحكم أباح لها النكاح وقد بان أن الباطن كالظاهر وإن قلنا بقوله الجديد ففي صحة النكاح الثاني وجهان بناء على القولين فيمن وصى بمكاتبه ثم تبين أن الكتابة كانت فاسدة.

باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه

باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه إذا طلقت المرأة فإن كان الطلاق رجعياً كان سكناها حيث يختار الزوج من المواضع التي تصلح لسكنى مثلها لأنها تجب لحق الزوجية وإن كان الطلاق بائناً نظرت فإن كان في بيت يملك الزوج سكناه بملك أو إجارة أو إعارة فإن كان الموضع يصلح لسكنى مثلها لزمها أن تعتد فيه لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فأوجب أن تسكن في الموضع الذي كان يسكن الزوج فيه فإن كان الموضع يضيق عليهما انتقل الزوج وترك السكنى لها لأن سكناها تختص بالموضع

الذي طلقها فيه وإن اتسع الموضع لهما وأراد أن يسكن معها نظرت فإن كان في الدار موضع منفرد يصلح لسكنى مثلها كالحجرة أو علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق فسكنت فيه وسكن الزوج في الثاني جاز لأنهما كالدارين المتجاورتين فإن لم يكن بينهما باب مغلق فإن كان لها موضع تستتر فيه ومعها محرم لها تتحفظ به كره لأنه لا يؤمن من النظر ولا يحرم لأن مع المحرم يؤمن بالفساد وإن لم يكن محرم لم يجز لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان" 1. فصل: وإن أراد الزوج بيع الدار التي تعتد فيها نظرت فإن كانت مدة العدة غير معلومة كالعدة بالحمل أو بالأقراء فالبيع باطل لأن المنافع في مدة العدة مستثناة فيصير كما لو باع الدار واستثنى منفعة مجهولة فإن كانت مدة العدة معلومة كالعدة بالشهور ففيه وجهان: أحدهما: إنها على قولين كبيع الدار المستأجرة والثاني: أنه يبطل قولا واحدا والفرق بينهما أن منفعة الدار تنتقل إلى المستأجر ولهذا إذا مات انتقل إلى وارثه فلا يكون في معنى من باع الدار واستثنى بعض المنفعة والمرأة لا تنتقل المنفعة إليها في مدة العدة ولهذا إذا ماتت رجعت منافع الدار إلى الزوج فيكون في معنى من باع الدار واستثنى منفعتها لنفسه. فصل: وإن حجر على الزوج بعد الطلاق لديون عليه لم يبع المسكن حتى تنقضي العدة لأن حقها يختص بالعين فقدمت كما يقدم المرتهن على سائر الغرماء وإن حجر عليه ثم طلق ضاربت المرأة الغرماء بحقها إن بيعت الدار استؤجر لها بحقها مسكن تسكن فيه لأن حقها وإن ثبت بعد حقوق الغرباء إلا أنه يستند إلى سبب متقدم وهو الوطء في النكاح فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضاربت بالسكنى في تلك المدة فإن انقضت العدة فيما دون ذلك ردت الفاضل على الغرماء فإن زادت مدة العدة على العادة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها ترجع على الغرماء بما بقي لها كما ردت الفاضل إذا ألقت عدتها فيما دون العادة والثاني: لا ترجع عليهم لأن الذي استحقت الضرب به قدر عادتها والثالث: إن كانت عدتها بالإقراء لم ترجع لأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها وهي متهمة وإن كانت بوضع الحمل أقامت البينة على وضع الحمل ورجعت عليهم لأنه لا يلحقها فيه تهمة فإن لم يكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضربت معهم بأجرة أقل مدة

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 111، 112. مسلم في كتاب الحج حديث 424. الترمذي في كتاب الرضاع باب 16. أحمد في مسنده 1/222. بدون لفظ: "فإن ثالثهما الشيطان".

تنقضي بها العدة لأنه يقين فلا يجب ما زاد بالشك فإن زادت العدة على أقل ما تنقضي به العدة كان الحكم في الرجوع بالزيادة على ما ذكرناه إذا زادت على العادة. فصل: وإن طلقت وهي في مسكن لها لزمها أن تعتد به لأنه مسكن وجبت فيه العدة ولها أن تطالب الزوج بأجرة المسكن لأن سكناها عليه في العدة. فصل: وإن مات الزوج وهي في العدة قدمت على الورثة في السكنى لأنها استحقتها في حال الحياة فلم تسقط بالموت كما لو أجر داره ثم مات فإن أراد الورثة قسمة الدار لم يكن لهم ذلك لأن إضراراً بها في التضييق عليها وإن أرادوا التمييز بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض ولا بناء فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين جاز لأنه لا ضرر عليها وإن قلنا إنها بيع فعلى ما بيناه. فصل: وإن توفي عنها زوجها وقلنا إنها تستحق السكنى فإن كانت في مسكن الزوج لزمها أن تعتد فيه لما روت فريعة بنت مالك أن زوجها قتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله". وإن لم تكن في مسكن الزوج وجب من تركته أجرة مسكنها مقدمة على الميراث الوصية لأنه دين مستحق فقدم وإن زاحمها الغرماء ضاربتهم بقدر حقها فإن لم يكن له مسكن فعلى السلطان سكناها لما في عدتها من حق الله تعالى وإن قلنا لا تجب لها السكنى اعتدت حيث شاءت فإن تطوع الورثة بالسكنى من مالهم وجب عليها الاعتداد فيه. فصل: وإن أمر الزوج امرأته بالانتقال إلى دار أخرى فخرجت بنية الانتقال ثم مات أو طلقها وهي بين الدارين ففيه وجهان: أحدهما: أنها تخير بين الدارين في الاعتداد لأن الأولى خرجت عن أن تكون مسكناً لها بالخروج منها والثانية: لم تصر مسكنا لها والثاني: وهو الصحيح أنه يلزمها الاعتداد في الثانية لأنها مأمورة بالمقام فيها ممنوعة من الأولى. فصل: وإن أذن لها في السفر فخرجت من البيت بنية السفر ثم وجبت العدة قبل أن تفارق البنيان ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن لها أن تعود ولها أن تمضي في سفرها لأن العدة وجبت بعد الانتقال من موضع العدة فصار كما لو فارقت البنيان والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يلزمها أن تعود وتعتد لأنه لم يثبت لها حكم السفر فإن وجبت العدة وقد فارقت البنيان فإن كان في سفر انتقال ففيه وجهان كما قلنا فيمن طلقت وهي بين الدار التي كانت فيها وبين الدار التي أمرت الانتقال إليها فإن كانت في سفر حاجة فلها أن تمضي في سفرها ولها أن تعود لأن في قطعها عن السفر مشقة وإن وجبت العدة وقد وصلت إلى المقصد فإن كان للبقاء لها أن تقيم وتعتد لأنه

الإجارة أو طلب أكثر من أجرة المثل انتقلت إلى موضع آخر لأنه حال عذر ولا ننتقل في هذه المواضع إلا إلى أقرب موضع من الموضع الذي وجبت فيه العدة لأنه أقرب إلى موضع الوجوب كما قلنا فيمن وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان أنه ينقل الزكاة إلى أقرب موضع منه وإن وجب عليها حق لا يمكن الاستيفاء إلا بها كاليمين في دعوى أوحد فإن كانت ذات خدر بعث إليها السلطان من يستوفي الحق منها وإن كانت برزة جاز إحضارها لأنه موضع حاجة فإذا قضت ما عليها رجعت إلى مكانها وإن احتاجت إلى الخروج لحاجة كشراء القطن وبيع الغزل لم يجز أن تخرج لذلك بالليل لما روى مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فتأيم نساؤهم فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن يا رسول الله إنا نستوحش بالليل ونبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا درنا إلى بيوتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحدثن عند إحداكن ما بدا لكن حتى إذا أردتم النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها". ولأن الليل مظنة للفساد فلا يجوز لها الخروج من غير ضرورة وإن أرادت الخروج لذلك بالنهار نظرت فإن كانت في عدة الوفاة جاز لحديث مجاهد وإن كانت في عدة المبتوتة ففيه قولان: قال في القديم لا يجوز لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] وقال في الجديد: يجوز وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال لها: "اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا". ولأنها بائن فجاز لها أن تخرج بالنهار لقضاء الحاجة كالمتوفى عنها زوجها.

باب الإحداد

باب الإحداد الإحداد ترك الزينة وما يدعوا إلى المباشرة ويجب ذلك في عدة الوفاة لما روت أم

سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل" 1. ولا يجب ذلك على المعتدة الرجعية لأنها باقية على الزوجية ولا يجب على أم الولد إذا توفي عنها مولاها ولا على الموطوءة بشبهة لما روت أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". واختلف قوله في المعتدة المبتوتة فقال في القديم يجب عليها الإحداد لأنها معتدة بائن فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها وقال في الجديد لا يجب عليها الإحداد لأنها معتدة من طلاق فلم يلزمها الإحداد كالرجعية. فصل: ومن لزمها الإحداد حرم عليها أن تكتحل بالإثمد والصبر وقال أبو الحسن الماسرجسي: إن كانت سوداء لم يحرم عليها والمذهب أنه يحرم لما ذكرناه من حديث أم سلمة ولأنه يحسن الوجه ويجوز أن تكتحل بالأبيض كالتوتيا لأنه لا يحسن بل يزيد العين مرهاً فإن احتاجت إلى الاكتحال بالصبر والإثمد اكتحلت بالليل وغسلته بالنهار ولما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال: "ما هذا يا أم سلمة قلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب فقال إنه يشب الوجه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار".

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 46، النسائي في كتاب الطلاق باب 64. أحمد في مسنده 6/302.

فصل: ويحرم عليها أن تختضب لحديث أم سلمة ولأنه يدعوا إلى المباشرة ويحرم عليها أن تحمر وجهها بالدمام وهو الكلكون وأن تبيضه باسفيذاج العرائس لأن ذلك أبلغ في الزينة من الخضاب فهو بالتحريم أولى ويحرم عليها ترجيل الشعر لأنه يحسنها ويدعوا إلى مباشرتها. فصل: ويحرم عليها أن تطيب لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيباً إلا عند طهرها من حيضها نبذة من قسط أو أظفار" 1. ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعوا إلى المباشرة ولا تأكل شيئا فيه طيب ظاهر ولا تستعمل الأدهان المطيبة كالبان ودهن الورد ودهن البنفسج لأنه طيب ولا تستعمل الزيت والشيرج في الرأس لأنه يرجل الشعر ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "امتشطي" فقلت بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: "بالسدر تغلفين به رأسك". ولأن ذلك تنظيف لا تزيين فلم يمنع منه ويجوز أن تقلم الأظفار وتحلق العانة لأنه يراد للتنظيف لا للزينة. فصل: ويحرم عليها لبس الحلي لحديث أم سلمة ولأنه يزيد في حسنها ولهذا قال الشاعر:

_ 1 رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 46، 49.مسلم في كتاب الرضاع حديث 125، 126. أبو داود في كتاب الطلاق باب 43، 46. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 101، 102. أحمد في مسنده 6/37، 148.

وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا فأما إذا كان الجمال موفراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا فصل: ويحرم عليها لبس ما صبغ من الثياب للزينة كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي والأخضر الصافي لحديث أم عطية: ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب وأما ما صبغ غزله ثم نسج فقد قال أبو إسحاق: إنه لا يحرم لحديث أم عطية: "ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب"، والعصب ما صبغ غزله ثم نسج والمذهب أنه يحرم لأن الشافعي رحمه الله نص على تحريم الوشي والديباج وهذا كله صبغ غزله ثم نسج ولأنه ما صبغ غزله ثم نسج أرفع وأحسن مما صبغ بعد النسج وأما ما صبغ لغير الزينة كالثوب المصبوغ بالسواد للمصيبة وما صبغ للوسخ كالأزرق المشبع والأخضر المشبع فإنه لا يحرم لأنه لا زينة فيه ولا يحرم ما عمل من غزله من غير صبغ كالمعمول من القطن والكتان والإبريسم والصوف والوبر لأنها وإن كانت حسنة إلا أن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة أدخلت عليها وإن عمل على البياض طرز فإن كانت كباراً حرم عليها لبسه لأنه زينة ظاهرة أدخلت عليه وإن كانت صغاراً ففيه وجهان: أحدهما: يحرم كما يحرم قليل الحلي وكثيره. والثاني: لا يحرم لقلتها وخفائها.

باب اجتماع العدتين

باب اجتماع العدتين إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلاً بتحريمها وجب عليها إتمام عدة الأول واستئناف عدة الثاني ولا تدخل عدة أحدهما: في عدة الآخر لما روى سعيد بن المسيب وسيمان بن بشار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها بمخفقة ضربات ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت عليه بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولم

ينكحها أبدا ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فإن كانت حائلاً انقطعت عدة الأول بوطء الثاني إلى أن يفرق بينهما لأنها صارت فراشاً للثاني فإذا فرق بينهما أتمت ما بقي من عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني لأنهما عدتان من جنس واحد فقدمت السابقة منهما وإن كانت حاملاً نظرت فإن كان الحمل من الأول انقطعت عدتها منه بوضعه ثم استأنفت العدة من الثاني بالأقراء بعد الطهر من النفاس وإن كان الحمل من الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا على عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد به من الأول وإن أمكن أن يكون من كل واحد منهما عرض على القافة فإن ألحقته بالأول انقضت به عدته وإن ألحقته بالثاني انقضت به عدته وإن ألحقته بهما أو نفته عنهما أولم تعلم أولم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء لأنه إن كان من الأول لزمها للثاني ثلاثة أقراء وإن كان من الثاني لزمها إكمال العدة من الأول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين وإن لم يمكن أن يكون من واحد منهما ففيه قولان: أحدهما: لا تعتد به عن أحدهما: لأنه غير لاخق بواحد منهما فعلى هذا إذا وضعت أكملت عدة الأول ثم تعتد من الثاني بثلاثة أقراء والثاني: تعتد به عن أحدهما: لا يعينه لأنه يمكن أن يكون من أحدهما: ولهذا لو أقر به لحقه فانقضت به العدة كالمنفي باللعان فعلى هذا يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء بعد الطهر من النفاس. فصل: إذا تزوج رجل امرأة في عدة غيره ووطئها فيه قولان: قال في القديم تحرم عليه على التأبيد لما رويناه عن عمر رضي الله عنه أنه قال ثم لا ينكحها أبدا وقال في الجديد لا تحرم عليه على التأبيد كالوطء في النكاح بلا ولي وما روي عن عمر رضي الله عنه فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب فخطب عمر رضي الله عنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة فرجع إلى قول علي كرم الله وجهه. فصل: إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم وطئها في العدة وجب عليها عدة بالوطء لأنه وطء في نكاح قد تشعث فهو كالوطء الشبهة فإن كانت من ذوات الأقراء أومن ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة الطلاق لأنهما من واحد وله أن يراجعها في البقية لأنها من عدة الطلاق فإذا مضت البقية لم يجز أن يراجعها

لأنها في عدة وطء شبهة وإن حملت من الوطء صارت في عدة الوطء حتى تضع وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق ففيه قولان: أحدهما: تدخل لأنهما لواحد فدخلت إحداهما في الأخرى كما لو كانتا بالأقراء والثاني: لا يدخل لأنهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الأخرى فإن قلنا يتداخلان كان في العدتين إلى أن تضع لأن الحمل لا يتبعض وله أن يراجعها إلى أن تضع لأنها في عدة الطلاق وإن قلنا لا يتداخلان فإن لم تر دماً على الحمل وقلنا إنه ليس بحيض فهي معتدة بالحمل عن وطء الشبهة إلى أن تضع فإذا وضعت أتمت عدة الطلاق وله أن يراجعها في هذه البقية لأنها في عدة الطلاق وهل له أن يراجعها قبل الوضع فيه وجهان: أحدهما: ليس له أن يراجعها لأنها في عدة وطء الشبهة والثاني: له أن يراجعها لأنها لم تكمل عدة الطلاق فإذا رأت الدم على الحمل وقلنا إنه حيض كانت عدتها من الوطء بالحمل وعدتها من الطلاق بالإقرار التي على الحمل لأن عليها عدتين إحداهما بالأقراء والأخرى بالحمل فجاز أن تجتمعا فإذا أمضت ثلاثة أقراء قبل وضع الحمل فقد انقضت عدة الطلاق وإن وضعت قبل انقضاء الأقراء فقد انقضت عدة الوطء وعليها إتمام عدة الطلاق فإذا راجعها في بقية عدة الطلاق صحت الرجعة وإن راجعها قبل الوضع ففي صحة الرجعة وجهان على ما ذكرناه فأما إذا كانت قد حبلت من الوطء قبل الطلاق كانت عدة الطلاق بالحمل وعدة الوطء بالأقرار فإن قلنا إن عدة الأقراء تدخل في عدة الحمل كانت عدتها من الطلاق والوطء بالحمل فإذا أوضعت انقضت العدتان جميعا وإن قلنا لا ندخل عدة الأقراء في الحمل فإن كانت لا ترى الدم على الحمل أوتراه وقلنا إنه ليس بحيض فإن عدتها من الطلاق تنقضي بوضع الحمل وعليها استئناف عدة الوطء بالأقراء وإن كانت ترى الدم وقلنا إنه حيض فإن سبق الوضع انقضت العدة الأولى وعليها إتمام العدة الثانية فإن سبق انقضاء الأقراء انقضت عدة الوطء ولا تنقضي العدة الأولى إلا بالوضع. فصل: إذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة وقال المزني: لا يجوز كما لا يجوز لغيره وهذا خطأ لأن نكاح غيره يؤدي إلى اختلاط الأنساب ولا يوجد ذلك في نكاحه وإن تزوجها انقطعت العدة وقال أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبي قبل أن يطأها وهذا خطأ لأن المرأة تصير فراشا بالعقد ولا يجوز أن تبقى مع الفراش عدة ولأنه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه ويخالف الأجنبي فإن نكاحه في العدة فاسد فلم تصر فراشاً إلا بالوطء فإن وطئها ثم طلقها لزمها عدة مستأنفة وتدخل فيها بقية الأولى وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها

استئناف عدة لأنها مطلقة في نكاح قبل المسيس فلم تلزمها عدة كما لو تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول وعليها أن تتمم ما بقي عليها من العدة الأولى لأنا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب لأنه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطؤها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد عشرون وتختلط المياه وتفسد الأنساب. فصل: إذا طلق امرأته بعد الدخول طلقة ثم راجعها نظرت فإن وطئها بعد الرجعة ثم طلقها لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى فإن راجعها ثم طلقها ثم راجعها قبل أن يطأها ففيه قولان: أحدهما: ترجع إلى العدة الأولى وتبنى عليها كما لو خالعها ثم تزوجها في العدة ثم طلقها قبل أن يطأها والثاني: أنها تستأنف العدة وهو اختيار المزني وهو الصحيح لأنه طلاق في نكاح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة كما لولم يتقدمه طلاق ولا رجعية وتخالف المختلفة لأن هناك عادت إليه بنكاح جديد ثم طلقها من غير وطء وههنا عادت إلى النكاح الذي طلقها فيه فإذا طلقها استأنفت العدة كما لو ارتدت بعد الدخول ثم أسلمت ثم طلقها وإن طلقها ثم مضى عليها قرء أو قرءان ثم طلقها من غير رجعية ففيه طريقان: قال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن خيران رحمهما الله: هي كالمسألة قبلها فتكون على قولين وللشافعي رحمه الله ما يدل عليه فإنه قال في تلك المسألة: ويلزم أن نقول ارتجع أولم يرتجع سواء والدليل عليه أن الطلاق معنى لو طرأ على الزوجية أوجب عدة فإذا طرأ على الرجعية أوجب عدة كالوفاة في إيجاب عدة الوفاة وقال أبو إسحاق تبنى على عدتها قولاً واحداً لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد. فصل: وإن تزوج عبد أمة ودخل بها ثم طلقها طلاقاً رجعياً ثم أعتقت الأمة وفسخت النكاح ففيه قولان: أحدهما: أنها على قولين: أحدهما: تستأنف العدة من حين الفسخ والثاني: لا تستأنف والطريق الثاني أنها تستأنف العدة من الفسخ قولاً واحدا لأن إحدى العدتين من طلاق والأخرى من فسخ فلا تبنى إحداهما على الأخرى. فصل: وإذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الإصابة فادعاه أحدهما: وأنكر الآخر ففيه قولان: قال في الجديد قول المنكر لأن الأصل عدم الإصابة وقال في القديم القول قول المدعي لأن الخلوة تدل على الإصابة. فصل: وإن اختلفا في انقضاء العدة بالأقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج فالقول قولها وإن اختلفا في وضع ما تنقضي به العدة فادعت

المرأة أنها وضعت ما تنقضي به العدة وأنكر الزوج فالقول قولها لقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة 228] فحرج النساء على كتمان ما في الأرحام كما حرج على كتمان الشهادة فقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ثم يجب قبول شهادة قول الشهود فوجب قبول قول النساء ولأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها فوجب قبول قولها فيه كما يجب على التابعي قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلا من جهته وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله لأن ذلك اختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله. فصل: وإن طلقها فقالت المرأة وقد بقي من الطهر ما يعتد به قرء أو قال الزوج طلقك ولم يبق شيء من الطهر فالقول قول المرأة لأن ذلك اختلاف في وقت الحيض وقد بينا أن القول في الحيض قولها. فصل: وإن طلقها وولدت واتفقا على وقت الولادة واختلفا في وقت الطلاق فقال الزوج طلقتك بعد الولادة على الرجعة وقالت المرأة طلقتني قبل الولادة فلا رجعة لك فالقول قول الزوج لأنهما لو اختلفا في أصل الطلاق كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في وقته ولأن هذا اختلاف في قوله وهو أعلم به فرجع إليه وإن اتفقنا في وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج ولدت قبل الطلاق فلي الرجعة وقالت المرأة بل ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لك فالقول قولها لأنهما لو اختلفا في أصل الولادة كان القول قولها فكذلك إذا اختلفا في وقتها وإن جهلا وقت الطلاق ووقت الولادة وتداعيا السبق فقال الرجل تأخر الطلاق وقالت المرأة تأخرت الولادة فالقول قول الزوج لأن الأصل وجوب العدة وبقاء الرجعة فإن جهلا وقتهما أو جهل السابق منهما لم يحكم بينهما لأنهما لا يدعيان حقاً وإن ادعت المرأة السبق وقال الزوج لا أعرف السابق قال له الحاكم ليس هذا بجواب فإما أن تجيب جواباً صحيحاً أو نجعلك ناكلاً فإن استفتى أفتيناه بما ذكرناه في المسألة قبلها وأن للزوج الرجعة لأن الأصل وجوب العدة وبقاء الرجعة والورع أن لا يراجعها. فصل: فإن أذن لها في الخروج إلى بلد آخر ثم طلقها واختلفا فقالت المرأة نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد وقال الزوج بل أذنت لك في الخروج لحاجة فعليك أن ترجعي فالقول قول الزوج لأنه أعلم بقصده وإن مات واختلفت الزوجة والوارث فالقول قولها

لأنهما استويا في الجهل بقصد الزوج ومع الزوجة ظاهر فإن الأمر بالخروج يقتضي خروجاً من غير عود.

باب استبراء الأمة وأم الولد

باب استبراء الأمة وأم الولد من ملك أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو غيرها من الأسباب لزمه أن يستبرئها لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام أو طاس أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة فإن كانت حاملاً استبرأها بوضع الحمل لحديث أبي سعيد الخدري وإن كانت حائلاً نظرت فإن كانت ممن تحيض استبرأها بقرء وفي القرء قولان: أحدهما: أنه طهر لأنه استبراء فكان القرء فيه الطهر كالعدة والثاني: أن القرء حيض وهو الصحيح لحديث أبي سعيد ولأن براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض فإن قلنا إن القرء هو الطهر فإن كانت عند وجوب الإستبراء طاهراً كانت بقية الطهر قرءاً فإن طعنت في الحيض لم تحل حتى تحيض حيضة كاملة ليعلم براءة رحمها فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضاً لم تشرع في القرء حتى تطهر فإذا طعنت في الحيض الثاني حلت وإن قلنا إن القرء هو الحيض فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهراً لم تشرع في القرء حتى تحيض فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضاً لم تشرع في القرء إلا في الحيضة الثانية لن بقية الحيض لا تعد قرءاً فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض فارتفعت حيضتها كان حكمها في الانتظار حكم المطلقة إذا ارتفع حيضها وإن وجب الاستبراء وهي ممن لا تحيض لصغر أوكبر ففيه قولان: أحدهما: تستبرأ بشهر لأن كل شهر في مقابلة قرء والثاني: تستبرأ بثلاثة أشهر وهو الصحيح لأن ما دونها لم يجعل دليلا على براءة الرحم. فصل: وإن ملكها وهي مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال لأن الإستبراء يراد للاستباحة ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال وإن اشتراها فوضعت في مدة الخيار أو حاضت في مدة الخيار فإن قلنا إنها لا تملك قبل انقضاء الخيار لم يعتد بذلك عن الاستبراء لأنه اشتراها قبل الملك وإن قلنا إنها تملك ففيه وجهان: أحدهما: لايعتد به لأن الملك غير تام لأنه معرض للفسخ والثاني: يعتد به لأنه استبراء بعد الملك وجواز الفسخ لا يمنع الاستبراء كما لو استبرأها وبها عيب لم يعلم به وإن ملكها بالبيع أو الوصية فوضعت أو حاضت قبل القبض ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتد به لأن الملك غير تام والثاني: يعتد به لأنه استبراء بعد الملك وللشافعي رحمه الله ما

يدل على كل واحد من الوجهين وإن ملكها بالإرث صح الاستبراء وإن لم تقبض لأن المورث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف. فصل: وإن مللك أمة وهي زوجته لم يجب الاستبراء لأن الاستبراء لبراءة الرحم من ماء غيره والمستحب أن يستبرئها لأن الولد من النكاح مملوك ومن ملك اليمين حر فاستحب أن يميز بينهما. فصل: وإن كانت أمته ثم رجعت إليه بالفسخ أو باعها ثم رجعت إليه بالإقالة لزمه أن يستبرئها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالعقد وعاد بالفسخ فصار كما لو باعها ثم استبرأها فإن رهنها ثم فكها لم يجب الاستبراء لأن بالرهن لم يزل ملكه عن استمتاعها لأن له أن يقبلها وينظر إليها بالشهوة وإنما منع من وطئها لحق المرتهن وقد زال حقه بالفكاك فحلت له وإن ارتد المولى ثم أسلم أو ارتدت الأمة ثم أسلمت وجب استبراؤها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالردة وعاد بالإسلام وإن زوجها ثم طلقت فإن كان قبل الدخول لم تحل له حتى يستبرئها لأنه تجدد له الملك على استمتاعها فوجب استبراؤها كما لوباعها ثم اشتراها والثاني: تحل له وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم وقد حصل ذلك العدة. فصل: ومن وجب استبراؤها حرم وطؤها وهل يحرم التلذذ بها بالنظر والقبلة ينظر فيه فإن ملكها ممن له حرمة لم يحل له لأنه لا يؤمن أن تكون أم ولد لمن ملكها من جهته وإن ملكها ممن لا حرمة له كالمسبية ففيه وجهان: أحدهما: لا تحل له لأن من حرم وطؤها بحكم الاستبراء حرم التلذذ بها كما لو ملكها ممن له حرمة والثاني: أنها تحل لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال خرجت في سهمي يوم حلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأن المسبية يملكها حاملاً كانت أو حائلاً فلا يكون التلذذ بها إلا في ملكه وإنما منع من وطئها حتى لا يختلط ماؤه بماء مشرك ولا يوجد هذا في التلذذ بالنظر والقبلة وإن وطئت زوجته بشبهة لم يحل له وطؤها قبل إنقضاء العدة لأنه يؤدي إلى إختلاط المياه وإفساد النسب وهل له التلذذ بها في غير الوطء على ما ذكرناه من الوجهين في المسبية لأنها زوجته حاملا كانت أو حائلا. فصل: ومن ملك أمة جاز له بيعها قبل الاستبراء لأنا قد دللنا على أنه يجب على

المشتري الاستبراء فلم يجب على البائع لأن براءة الرحم تحصل باستبراء المشتري وإن أراد تزويجها نظرت فإن لم يكن وطئها جاز تزويجها من غير استبراء لأنها لم تصر فراشا له وإن وطئها لم يجز تزويجها قبل الاستبراء لأنها صارت بالوطء فراشاً له. فصل: وإن أعتق أم ولده في حياته أو أعتقت بموته لزمها الاستبراء لأنها صارت بالوطء فراشاً له وتستبرأ كما تستبرأ المسبية لأنه استبراء بحكم اليمين فصار كاستبراء المسبية وإن أعتقها أومات عنها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء لأنه زال فراشه قبل وجوب الاستبراء فلم يلزمها الاستبراء كما لوطلق أمرأته قبل الدخول ثم مات ولأنها صارت فراشأ لغيره فلا يلزمها لأجله استبراء وإن زوجها ثم مات ومات الزوج ولم يعلم السابق منهما لم يخل إما أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون أو أكثر أولا يعلم مقدار ما بينهما فإن كان بينهما شهران وخمسة أيام فما دون لم يلزمها الاستبراء عن المولى لأنه إن كان المولى مات أولاً فقد مات وهي زوجة فلا يجب عليها الاستبراء وإن مات الزوج أولاً فقد مات المولى بعده وهي معتدة من الزوج فلا يلزمها الاستبراء وعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت أحدهما: لأنه يجوز أن يكون قد مات المولى أولاً فعتقت ثم مات الزوج فيلزمها عدة حرة وإن كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال لزمها أن تعتد من بعد آخرهما موتا بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر أو حيضة لأنه إن مات الزوج أولاً فقد اعتدت عنه بشهرين وخمسة أيام وعادت فراشأ للمولى فإذا مات لزمها أن تستبرئ منه بحيضة وإن مات المولى أولاً لم يلزمها استبراء فإذا مات الزوج لزمتها عدة حرة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين وإن لم يعلم قدر ما بين المدتين من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة ليسقط الفرض بيقن كما يلزم من نسي صلاة من صلاتين قضاء الصلاتين ليسقط الفرض بيقين ولا يوقف لها شيء من تركة الزوج لأن الأصل فيه الرق فلم تورث مع الشك. فصل: وإن كانت بين رجلين جارية فوطئها ففيها وجهان: أحدهما: يجب استبراءان لأنه يجب لحقهما فلم يدخل أحدهما: في الأخر كالعدتين والثاني: يجب استبراء واحد لأن القصد من الاستبراء معرفة براءة الرحم ولهذا لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة وبراءة الرحم منهما تحصل باستبراء واحد.

فصل: إذا أستبرأ أمته ثم ظهر بها حمل فقال البائع هو مني وصدقه المشتري لحقه الولد والجارية أم ولد له والبيع باطل وإن كذبه المشتري نظرت فإن لم يكن أقر بالوطء حال البيع لم يقبل قوله لأن الملك انتقل الى المشتري في الظاهر فلم يقبل إقراره بما يبطل حقه كما لو باعه عبداً ثم أقر أنه كان غصبه أو اعتقه وهل يلحقه نسب الولد فيه قولان: قال في القديم والإملاء يلحقه لأنه يجوز أن يكون إبناً لواحد ومملوكا لغيره وقال في البويطي لا يلحقه لأن فيه إضراراً بالمشتري لأنه قد يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا كان ابناً لغيره لم يرثه فإن كان قد أقر بوطئها عند البيع فإن كان قد إستبرأها ثم باعها نظرت فإن أتت بولد لدون ستة أشهر لحقه نسبه وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا وإن ولدته لستة أشهر فصاعداً لم يلحقه الولد لأنه لو استبرأها ثم أتت بولد وهي في ملكه لم يلحقه فلأن لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى فإن لم يكن المشتري قد وطئها كانت الجارية والولد مملوكين وإن كان قد وطئها فإن أتت بولد لدون ستة أشهر من حين الوطء فهو كما لولم يطأها لأنه لا يجوز أن يكون منه وتكون الجارية والولد مملوكين له وإن أتت بولد لستة أشهر من وقت البيع لحق البائع وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا وإن ولدته لستة أشهر نظرت فإن لم يكن قد وطئها المشتري فهو كالقسم قبله لأنه لم تصر فراشا له وإن وطئها فولدت لستة أشهر من وطئه عرض الولد على القافة فإن ألحقته بالبائع لحق به وإن ألحقته بالمشتري لحقته وقد بينا حكم الجميع.

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع إذا ثار للمرأة لبن على ولد فارتضع منها طفل له دون الحولين خمس رضعات متفرقات صار الطفل ولداً لها في حكمين: في تحريم النكاح وفي جواز الخلوة وأولاده أولادها وصارت المرأة أماً له وأمهاتها جداته وآباؤها أجداده وأولادها إخوته وأخواته وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته وإن كان الولد ثابت النسب من رجل صار الطفل ولداً له وأولاده أولاده وصار الرجل أباً له وآباؤه أجداده وأمهاته جداته وأولاده إخوته وإخوته وأخواته أعمامه وعماته والدليل عليه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فنص على الأمهات والأخوات فدل على ما سواه وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة بن عبد المطلب فقال: " إنها ابنة أخي من الرضاعة وإنه يحرم من الرضاع مثل ما يحرم من النسب". وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" 1. وروت عائشة رضي الله عنها أن أفلح أخا أبي القعيس أستأذن عليها فأبت أن تأذن له فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أفلا أذنت لعمك" فقالت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال: "فأذني له فإنه عمك". وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ولأن اللبن حدث للولد والولد ولدها فكان المرضع باللبن ولدهما. فصل: وتنتشر حرمة الرضاع من الولد إلى أولاده وأولاد أولاده ذكوراً أو إناثاً ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه وإخوته وأخواته ولا يحرم على المرضعة أن تتزوج بأبي الطفل ولا بأخيه ولا يحرم على زوج المرضعة الذي ثار اللبن على ولده أن يتزوج بأم الطفل ولا بأخته لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وحرمة النسب في الولد تنتشر إلى أولاده ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه ولا إلى إخوته وأخواته فكذلك الرضاع.

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 20، 27. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 9. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 34. الموطأ في كتاب الرضاع حديث، 1، 2، 16.

فصل: ولا يثبت تحريم الرضاع فيما يرتضع بعد الحولين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} البقرة: 233] فجعل تمام الرضاع في الحولين فدل على أنه لا حكم للرضاع بعد الحولين وروى يحيى بن سعيد أن رجلاً قال لأبي موسى الأشعري إني مصصت من ثدي امرأتي لبناً فذهب في بطني قال أبو موسى لا أراه إلا قد حرمت عليك فقال عبد الله بن مسعود: انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال عبد الله: لا إرضاع إلا ما كان في الحولين قال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لا رضاع إلا ما كان في الحولين. فصل: ولا يثبت تحريم الرضاع بما دون خمس رضعات وقال أبو ثور يثبت بثلاث رضعات لما روت أم الفضل رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الإملاجه ولا الإملاجتان". فدل على أن الثلاث يحرمن والدليل على أنه لا يحرم ما دون خمس الرضعات ما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن وحديث أم الفضل يدل على أن الثلاث يحرمن من جهة دليل الخطاب والنص يقدم على دليل الخطاب وهو ما رويناه ولا يثبت إلا بخمس رضعات متفرقات لأن الشرع ورد بها مطلقاً فحمل على العرف والعرف في الرضعات أن يرتضع ثم يقطعه باختياره من غير عارض ثم يعود إليه بعد زمان ثم يرتضع ثم يقطعه وعلى هذا إلى أن يستوفي العدد. كما

أن العادة في الأكلات أن تكون متفرقة في أوقات فأما إذا قطع الرضاع لضيق نفس أو لشيء يلهيه ثم رجع إليه أو انتقل من ثدي إلى ثدي كان الجميع رضعة كما أن الأكل إذا قطعه لضيق نفس أو شرب ماء أو الانتقال من لون إلى لون كان الجميع أكلة فإن قطعت المرضعة عليه ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك ليس برضعة لأنه قطع عليه بغير اختياره والثاني: أنه رضعة لأن الرضاع يصح بكل واحد منهما ولهذا أو جرته وهو نائم ثبت التحريم كما يثبت إذا ارتضع منها وهي نائمة فإذا تمت الرضعة بقطعه وجب أن تتم بقطعها فإن أرضعته امرأة أربع رضعات ثم أرضعته امرأة أخرى أربع رضعات ثم عاد إلى الأولى فارتضع منها وقطع وعاد إلى الأخرى في الحال فارتضع منها ففيه وجهان: أحدهما: لا يتم عدد الخمس من واحدة منهما لأنه انتقل من أحدهما: إلى الأخرى قبل تمام الرضعة فلم تكن كل واحدة منهما رضعة كما لو انتقل من ثدي إلى ثدي والثاني: يتم العدد من كل واحدة منهما لأن الرضعة أن يرتضع القليل والكثير ثم يقطع ولا يعود إلا بعد زمان طويل وقد وجد ذلك. فصل: وإن شكت المرضعة هل أرضعته أم لا أو هل أرضعته خمس رضعات أو أربع رضعات لم يثبت التحريم كما لو شك الزوج هل طلق امرأته أم لا وهل طلق ثلاثاً أو طلقتين. فصل: ويثبت التحريم بالوجور لأنه يصل اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وانتشار العظم ما يحصل بالرضاع ويثبت بالسعوط لأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلاً لتحريم الرضاع كالفم وهل يثبت بالحقنة فيه قولان: أحدهما: يثبت لما ذكرناه في السعوط والثاني: لا يثبت لأن الرضاع جعل لإنبات اللحم وانتشار العظم والحقنة جعلت للإسهال فإن ارتضع مرتين وأوجر مرة وأسعط مرة وحقن مرة وقلنا إن الحقنة تحرم يثبت التحريم لأنا جعلنا الجميع كالرضاع في التحريم وكذلك في إتمام العدد. فصل: وإن حلبت لبناً كثيراً في دفعة واحدة وسقته في خمسة أوقات فالمنصوص أنه رضعة وقال الربيع فيه قول آخر أنه خمس رضعات فمن أصحابنا من قال هو من تخريج الربيع ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه خمس رضعات لأنه يحصل به ما يحصل بخمس رضعات والثاني: أنه رضعة وهو الصحيح لأن الوجور فرع للرضاع ثم العدد في الرضاع لا يحصل إلا بما ينفصل خمس مرات فكذلك في الوجور. وإن حلبت

خمس مرات وسقته دفعة واحدة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو على قولين كالمسألة قبلها ومنهم من قال هو رضعة قولاً واحداً لأنه لم يشرب إلا مرة وفي المسألة قبلها شرب خمس مرات وإن حلبت خمس مرات وجعلتها في إناء ثم فرقته وسقته خمس مرات ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يثبت التحريم قولاً واحداً لأنه تفرق في الحلب والسقي ومنهم من قال هو على قولين لأن التفريق الذي حصل من جهة المرضعة قد بطل حكمه بالجمع في إناء. فصل: وإن جبن اللبن وأطعم الصبي حرم لأنه يحصل به ما يحصل باللبن من إنبات اللحم وانتشار العظم. فصل: فإن خلط اللبن بمائع أو جامد أو طعم الصبي حرم وحكى عن المزني أنه قال: إن كان اللبن غالباً حرم وإن كان مغلوباً لم يحرم لأن مع غلبة المخالطة يزول الاسم والمعنى الذي يراد به وهذا خطأ لأن ما تعلق به التحريم إذا كان غالباً تعلق به إذا كان مغلوباً كالنجاسة في الماء القليل. فصل: فإن شرب لبن امرأة ميتة لم يحرم لأنه معنى يوجب تحريماً مؤبداً فبطل بالموت كالوطء. فصل: ولا يثبت التحريم بلبن البهيمة فإن شرب طفلان من لبن شاة لم يثبت بينهما حرمة الرضاع لأن التحريم بالشرع ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية والبهيمة دون الآدمية في الحرمة ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن فلم يلحق به في التحريم ولأن الأخوة فرع على الأمومة فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة فلأن لا يثبت به الأخوة أولى ولا يثبت التحريم بلبن الرجل وقال الكرابيسي: يثبت كما ثبت بلبن المرأة وهذا خطأ لأن لبنه لم يجعل غذاء للمولود فلم يثبت به التحريم كلبن البهيمة وإن ثار للخنثى لبن فارتضع منه صبي فإن علم أنه رجل لم يحرم وإن علم أنه امرأة حرم فإن أشكل فقد قال أبو إسحاق إن قال النساء إن هذا اللبن لا يكون على غزارته إلا لامرأة حكم بأنه امرأة وأن لبنه يحرم ومن أصحابنا من قال لا يجعل اللبن دليلاً لأنه قد يثور اللبن للرجل بينه فعلى هذا يوقف أمر من يرضع بلبنه كما يوقف أمره. فصل: فإن ثار للبكر لبن أو لثيب لا زوج لها فأرضعت به طفلاً ثبت بينهما حرمة الرضاع لأن لبن النساء غذاء للأطفال فإن ثار لبن للمرأة على ولد من الزنا فأرضعت به طفلاً ثبت بينهما حرمة الرضاع لأن الرضاع تابع للنسب ثم النسب يثبت ولا يثبت بينه وبين الزاني فكذلك حرمة الرضاع.

فصل: إذا ثار لها لبن على ولد من زوج فطلقها وتزوجت بآخر فاللبن للأول إلى أن تحبل من الثاني وينتهي إلى حال ينزل اللبن على الحبل فإن أرضعت طفلا كان ابنا للأول زاد اللبن أولم يزد انقطع ثم عاد أولم ينقطع لأنه لم يوجد سبب يوجب حدوث اللبن غير الأول فإن بلغ الحمل من الثاني إلى حال ينزل فيه اللبن نظرت فإن لم يزد اللبن فهو للأول فإن أرضعت به طفلاً كان ولداً للأول لأنه لم يتغير اللبن فإن زاد فارتضع به طفل ففيه قولان: قال في القديم هو ابنهما لأن الظاهر أن الزيادة لأجل الحبل والمرضع به لبنهما فكان ابنهما وقال في الجديد: هو ابن الأول لأن اللبن للأول يقين ويجوز أن تكون الزيادة لفضل الغذاء ويجوز أن تكون للحمل فلا يزال اليقين بالشك فإن انقطع اللبن ثم عاد في الوقت الذي ينزل اللبن على الحبل فأرضعت به طفلاً ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه ابن للأول لأن اللبن خلق غذاء للولد دون الحمل والولد للأول فكان المرضع به ابنه والثاني: أنه من الثاني لأن لبن الأول انقطع فالظاهر أنه حدث للحمل والحمل للثاني فكان المرضع باللبن ابنه والثالث أنه ابنهما لأن لكل واحد منهما أمارة تدل على أن اللبن له فجعل المرضع باللبن ابنهما فإن رضعت الحمل وأرضعت طفلاً كان ابناً للثاني في الأحوال كلها زاد اللبن أولم يزد اتصل أو انقطع ثم عاد لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع أن يكون اللبن لغيره. فصل: وإن وطئ رجلان امرأة وطئاً يلحق به النسب فأتت بولد وأرضعت بلبنه طفلاً كان الطفل ابناً لمن يلحقه نسب الولد لأن اللبن تابع للولد فإن مات الولد ولم يثبت نسبه بالقافة ولا بالانتساب إلى أحدهما: فإن كان له ولد قام مقامه في الانتساب فإذا انتسب إلى أحدهما: صار المرضع ولد من انتسب إليه وإن لم يكن له ولد ففي المرضع بلبنه قولان: أحدهما: أنه ابنهما لأن اللبن قد يكون من الوطء وقد يكون من الولد والقول الثاني أنه لا يكون ابنهما لأن المرضع تابع للمناسب ولا يجوز أن يكون المناسب ابناً لاثنين فكذلك المرضع فعلى هذا هل يخير المرضع في الانتساب إلى أحدهما: فيه قولان: أحدهما: لا يخير لأنه لا يعرض على القافة فلا يخير بالانتساب والثاني: يخير لأن الولد قد يأخذ الشبه بالرضاع في الأخلاق ويميل طبعه إلى من ارتضع بلبنه ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أفصح العرب ولا فخر بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد وارتضعت في بني زهرة". ولهذا يقال يحسن خلق الولد إذا حسن خلق المرضعة ويسوء خلقه إذا ساء خلقها فإذا قلنا أنه يخير فانتسب إلى أحدهما: كان ابنه من الرضاعة فإذا قلنا لا يخير فهل له أن يتزوج بنتيهما فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو الأصح أنه لا يحل له نكاح

بنت واحد منهما لأنا وإن جهلنا عين الأب منهما إلا أنا نتحقق أن بنت أحدهما: أخته وبنت الآخر أجنبية فلم يجز له نكاح واحدة منهما كما لو اختلطت أخته بأجنبية والثاني: أنه يجوز أن يتزوج بنت من شاء منهما فإذا تزوجها حرمت عليه الأخرى لأن الأصل في بنت كل واحد منهما الإباحة وهو يشك في تحريمها واليقين لا يزال بالشك فإذا تزوج إحداهما تعينت الأخوة في الأخرى فحرم نكاحها على التأبيد كما لو اشتبه ماء طاهر وماء نجس فتوضأ بأحدهما: بالاجتهاد فإن النجاسة تتعين في الآخر ولا يجوز أن يتوضأ به والثالث: أنه يجوز أن يتزوج بنت كل واحد منهما ثم يطلقها ثم يتزوج الأخرى لأن الحظر لا يتعين في واحدة منهما كما يجوز أن يصلي بالاجتهاد إلى جهة ثم يصلي بالاجتهاد إلى جهة أخرى ويحرم أن يجمع بينهما لأن الحظر يتعين في الجميع فصار كرجلين رأيا طائراً فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غراباً فعبدي حر وقال الآخر إن لم يكن غراباً فعبدي حر فطار ولم يعلم أنه غراب ولا غيره فإنه لا يعتق على واحد منهما لانفراده بملك مشكوك فيه وإن اجتمع العبدان لواحد عتق أحدهما: لاجتماعهما في ملكه. فصل: وإن أتت امرأته بولد ونفاه باللعان فأرضعت بلبنه طفلاً كان الطفل ابناً للمرأة ولا يكون ابناً للزوج لأن الطفل تابع للولد والولد ثابت النسب من المرأة دون الزوج فكذلك الطفل فإن أقر بالولد صار الطفل ابناً له لأنه تابع للولد. فصل: وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد فثار لهن منه لبن فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي القاسم الأنماطي وأبي بكر بن الحداد المصري أنه لا يصير المولى أباً للصبي لأنه رضاع لم يثبت به الأمومة فلم تثبت به الأبوة والثاني: وهو قول أبي إسحاق وأبي العباس ابن القاص أنه يصير المولى أباً للصبي وهو الصحيح لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات فصار ابناً له وإن كان لرجل خمس أخوات فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة فهل يصير خالاً له على الوجهين. فصل: وإن كان لرجل زوجة صغيرة فشربت من لبن أمه خمس رضعات انفسخ بينهما النكاح لأنها صارت أخته وإن كانت له زوجة كبيرة وزوجة صغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات انفسخ نكاحهما لأنه لايجوز أن يكون عنده امرأة وابنتها فإن كان له زوجتان صغيرتان فجاءت امرأة فأرضعت إحداهما خمس رضعات ثم أرضعت الأخرى خمس رضعات ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ نكاحهما وهو اختيار المزني لأنهما

صارتا أختين فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما في وقت واحد والثاني: أنه ينفسخ نكاح الثانية لأن سبب الفسخ حصل بالثانية فاختص نكاحهما بالبطلان كما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى. فصل: ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع فالمنصوص أنه يلزمه نصف مهر المثل ونص في الشاهدين بالطلاق إذا رجعا على قولين: أحدهما: يلزمهما مهر المثل والثاني: لزمهما نصف مهر المثل واختلف أصحابنا فيه فنقل أبو سعيد الإصطخري جوابه من إحدى المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يجب مهر المثل لأنه أتلف البضع فوجب ضمان جميعه والثاني: يجب نصف مهر المثل لأنه لم يغرم للصغير إلا نصف بدل البضع فلم يجب له أكثر من نصف بدله وقال أبو إسحاق يجب في الرضاع نصف المهر وفي الشهادة يجب الجميع والفرق بينهما أن في الرضاع وقعت الفرقة ظاهراً وباطناً وتلف البضع عليه وقد رجع إليه بدل النصف فوجب له بدل النصف وفي الشهادة لم يتلف البضع في الحقيقة وإنما حيل بينه وبين ملكه فوجب ضمان جميعه والصحيح طريقة أبي إسحاق وعليها التفريع وإن كان لرجل زوجة صغيرة فجاء خمسة أنفس وأرضع كل واحد منهم الصغيرة من لبن أم الزوج أو أخته رضعة وجب على كل واحد منهم خمس نصف المهر لتساويهم في الإتلاف وإن كانوا ثلاثة فأرضعها أحدهم رضعة وأرضعها كل واحد من الآخرين رضعتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب على كل واحد منهم ثلث النصف لأن كل واحد منهم وجد منه سبب الإتلاف فتساووا في الضمان كما لو طرح رجل في خل قدر دانق من نجاسة وآخر قدر درهم والثاني: يقسط على عدد الرضعات فيجب على من أرضع رضعة الخمس من نصف المهر وعلى كل واحد من الآخرين الخمسان لأن الفسخ حصل بعدد الرضعات فيقسط الضمان عليه. فصل: إذا ارتضعت الصغيرة من أم زوجها خمس رضعات والأم نائمة سقط مهرها لأن الفرقة قد حصلت بفعلها فسقط مهرها ولا يرجع الزوج عليها بمهر مثلها ولا بنصفه لأن الإتلاف من جهة العاقد قبل التسليم لا يوجب غير المسمى فإن ارتضعت من أم الزوج رضعتين والأم نائمة وأرضعتها الأم تمام الخمس والزوجة نائمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسقط من نصف المسمى نصفه وهو الربع ويجب الربع والثاني: يقسط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى خمسان ويجب ثلاثة أخماسه ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها وبالله التوفيق.

كتاب النفقات

كتاب النفقات باب نفقة الزوجة إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها وتمكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح وجبت نفقتها لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". وإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أوفي منزل دون منزل أوفي بلد دون بلد لم تجب النفقة لأنه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع أو سلم في موضع دون موضع فإن عرضت عليه وبذلت له التمكين التام والنقل حيث يريد وهو حاضر وجبت عليه النفقة لأنه وجد التمكين التام وإن عرضت عليه وهو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله أو يمضي زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها لأنه لا يوجد التمكين التام إلا بذلك وإن تسلم إليه ولم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا من حين دخلت عليه ولم يلتزم نفقتها لما مضى ولأنه لم يوجد التمكين التام فيما مضى فلم يجب بدله كما لا يجب بدل ما تلف من البيع في يد البائع قبل التسليم. فصل: وإن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه وهي صغيرة لا يجامع مثلها ففيه قولان: أحدهما: تجب النفقة لأنها سلمت من غير منع والثاني: لا يجب وهو الصحيح لأنه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع وإن كانت كبيرة والزوج صغير ففيه قولان: أحدهما: لا تجب لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع والثاني: تجب وهو الصحيح لأن التمكين وجد من جهتها وإن تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة كما لو سلمت إلى الزوج وهو كبير فهرب منها وإن سلمت وهي مريضة أو رتقاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو الزوج مريض أو محجوب أو حسيم لا يقدر على الوطء وجبت النفقة لأنه وجد التمكين من الاستمتاع وما تعذر فهو بسبب لا تنسب فيه التفريط. فصل: وإن سلمت إليه ومكن من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب النفقة لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح ولا يستحق ما في مقابلته.

فصل: وإن انتقلت المرأة من منزل الزوج إلى منزل آخر بغير إذنه أو سافرت بغير إذنه سقطت نفقتها حاضراً كان الزوج أو غائباً لأنها خرجت عن قبضته وطاعته فسقطت نفقته كالناشزة وإن سافرت بإذنه فإن كان معها وجبت النفقة لأنها ما خرجت عن قبضته ولا طاعته وإن لم يكن معها ففيه قولان ذكرناهما في القسم. فصل: وإن أحرمت بالحج بغير إذنه سقطت نفقتها لأنه إن كان تطوعاً فقد منعت حق الزوج وهو واجب بما ليس واجب وإن كان واجباً فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي وإن أحرمت بإذنه فإن خرجت معه لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن طاعته وقبضته وإن خرجت وحدها فعلى القولين في سفرها بإذنه. فصل: وإن منعت نفسها باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لما ذكرناه في الحج وإن كان نذر معين أذن فيه الزوج لم تسقط نفقتها لأن الزوج أذن فيه وأسقط حقه فلا يسقط حقها وإن كان عن نذر لم يأذن فيه فإن بعد عقد النكاح سقطت نفقتها لأنها منعت حق الزوج بعد وجوبه وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط نفقتها لأن ما استحق قبل النكاح لا حق للزوج في زمانه كما لو أجرت نفسها ثم تزوجت وإن اعتكفت بإذنه وهو معها لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته وطاعته وإن لم يكن معها فعلى القولين في الحج. فصل: وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان: أحدهما: لا تسقط نفقتها لأنها في قبضته والثاني: وهو الصحيح أنها تسقط لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها لأن ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لأنها منعت حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور وإن كان بنذر معين فإن كان النذر بإذن الزوج لم تسقط نفقتها لأنه لزمها برضاه وإن كان بغير إذنه فإن كان بنذر بعد النكاح سقطت نفقتها وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط لما ذكرناه في الاعتكاف. فصل: وإن منعت نفسها بالصلاة فإن كانت بالصلوات الخمس أو السنن الراتبة لم تسقط نفقتها لأن ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه وإن كان بقضاء فوائت فإن قلنا إنها على الفور لم تسقط نفقتها وإن قلنا إنها على التراخي سقطت نفقتها لما قلنا في قضاء رمضان وإن كانت بالصلوات المنذورة فعلى ما ذكرناه في الاعتكاف والصوم. فصل: وإن كان الزوجان كافرين وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج لم

تسقط نفقتها لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهته هو قادر على إزالته فلم تسقط نفقتها كالمسلم إذا غاب عن زوجته وقال أبوعلي ابن خيران فيه قول آخر أنها تسقط لأنه امتنع الاستمتاع لمعنى من جهتها فسقطت نفقتها كما لو أحرمت المسلمة من غير إذن الزوج والصحيح هو الأول لأن الحج فرض موسع الوقت والإسلام فرض مضيق الوقت فلا تسقط النفقة كصوم رمضان وإن أسلم الزوج بعد الدخول وهي مجوسية أو وثنية وتخلفت في الشرك سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة وإن أسلمت قبل إنقضاء العدة فهل تستحق النفقة للمدة التي تخلفت في الشرك فيه قولان: أحدهما: تستحق لأن بالإسلام زال ما تشعث من النكاح فصار كأن لم يكن والقول الثاني أنها لا تستحق لأنه تعذر التمكين من الاستمتاع فيما مضى فلم تستحق النفقة كالناشزة إذا رجعت عن الطاعة وإن ارتد الزوج بعد دخول الإسلام لم تسقط نفقتها لأن امتناع الوطء بسبب وهو قادر على إزالته فلم تسقط النفقة وإن ارتدت المرأة سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة فإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فهل تجب نفقة ما مضى من الردة؟ فيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالكافرة إذا تخلفت في الشرك ثم أسلمت ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا والفرق بينها وبين الكافرة أن الكافرة لم يحدث من جهتها منع بل أقامت على دينها والمرتدة أحدثت منعاً بالردة فغلظ عليها وإن ارتدت الزوجة وعادت إلى الإسلام والزوج غائب استحقت النفقة من حين عادت إلى الإسلام وإن نشزت الزوجة وعادت إلى الطاعة والزوج غائب لم تستحق النفقة حتى يمضي زمان لو سافر فيه لقدر على استمتاعها والفرق بينهما أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة وقد زالت بالإسلام والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين وذلك لا يزول بالعود إلى الطاعة. فصل: إن كانت الزوجة أمة فسلمها المولى بالليل والنهار وجبت لها النفقة لوجود التمكين التام وإن سلمها بالليل دون النهار ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يجب لها نصف النفقة اعتباراً بما سلمت والثاني: وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنه تجب لأنه لم يوجد التمكين التام فلم يجب لها شيء من النفقة كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار. والله أعلم.

باب قدر النفقة

باب قدر النفقة إذا كان الزوج موسراً وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه لزمه في كل يوم مدان وإن كان معسرا وهولا يقدر على النفقة ولا كسب لزمه في كل يوم مد لقوله عز وجل {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله}

[الطلاق: 7] ففرق بين الموسر والمعسر وأوجب على كل واحد منهما على قدر حاله ولم يبين المقدار فوجب تقديره بالاجتهاد وأشبه ما تقاس النفقة الطعام في الكفارة لأنه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الأذى وأقل ما يجب مد وهو في كفارة الجماع في رمضان فإن كان متوسطاً لزم مد ونصف لأنه لا يمكن إلحاقه بالموسر وهو دونه ولا بالمعسر وهو فوقه فجعل عليه مد ونصف وإن كان الزوج عبداً أو مكاتباً وجب عليه مد لأنه ليس بأحسن حالاً من الحر المعسر فلا يجب عليه أكثر من مد وإن كان نصفه حراً ونصفه عبداً وجب عليه نقفة المعسر قال المزني: إن كان موسراً بما فيه من الحرية وجب عليه مد ونصف لأنه اجتمع فيه الرق والحرية فوجب عليه نصف نفقة الموسر وهو مد ونصف نفقة المعسر وهو نصف مد وهذا خطأ لأنه ناقص بالرق فلزمه نفقة المعسر كالعبد. فصل: وتجب النفقة عليه من قوت البلد لقوله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: [233] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". والمعروف ما يقتاته الناس في البلد ويجب لها الحب فإن دفع إليها سوقياً أو دقيقاً أو خبزاً لم يلزمها قبوله لأنه طعام وجب بالشرع فكان الواجب فيه هو الحب كالطعام في الكفارة وإن اتفقا على دفع العوض ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وجب في الذمة بالشرع فلم يجز أخذ العوض فيه كالطعام في الكفارة والثاني: يجوز وهو الصحيح لأنه طعام يستقر في الذمة للآدمي فجاز أخذ العوض فيه كالطعام في القرض ويخالف الطعام في الكفارة فإن ذلك يجب لحق الله تعالى ولم يأذن في أخذ العوض عنه والنفقة تجب لحقها وقد رضيت بأخذ العوض. فصل: ويجب لها الأدم بقدر ما يحتاج إليه من أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن واللحم لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من أو اسط ما تطعمون أهليكم الخبز والزيت وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: الخبز والزيت والخبز والسمن والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم ولأن ذلك من النفقة بالمعروف. فصل: ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والسدر والدهن للرأس وأجرة الحمام إن كان عادتها دخول الحمام لأن ذلك يراد للتنظيف فوجب عليه كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها وأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج لم يلزمه وإن طلبه منها لزمه ثمنه لأنه للزينة وأما الأدوية وأجرة الطبيب والحجام فلا تجب عليه لأنه ليس من النفقة الثابتة وإنما يحتاج إليه لعارض وأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر

إصلاح ما انهدم من الدار وأما الطبيب فإنه إن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لأنه يراد للتنظيف وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجبر عليه. فصل: ويجب لها الكسوة لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ولحديث جابر: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". ولأنه يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام فلزمه كالنفقة ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد من القطن والكتان والخز والإبريسم ولامرأة المعسر من غليظ القطن والكتان ولامرأة المتوسط ما بينهما وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة ومداس للرجل وإن كان في الشتاء أضاف إليه جبة لأن ذلك من الكسوة بالمعروف. فصل: ويجب لها ملحفة أو كساء ووسادة ومضربة محشوة للنوم وزلية أو لبد أو حصير للنهار ويكون ذلك لامرأة الموسر من المرتفع ولامرأة المعسر من غير المرتفع ولامرأة المتوسط ما بينهما لأن ذلك من المعروف فصل: ويجب لها مسكن لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون والتصرف والاستمتاع ويكون المسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه كما قلنا في النفقة. فصل: وإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو ذا رحم محرم وهل يجوز أن يكون من اليهود والنصارى فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنهم يصلحون للخدمة والثاني: لا يجوز لأن النفس تعاف من استخدامهم وإن قالت المرأة أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لأن القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه وذلك لا يحصل بخدمتها وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يلزمها الرضا به لأنه تقع الكفاية بخدمته والثاني: لا يلزمها الرضا به لأنها تحتشمه ولا تستوفي حقها من الخدمة. فصل: وإن كان الخادم مملوكاً لها واتفقا على خدمته لزمه نفقته فإن كان موسراً لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد وإن كان متوسطاً أو معسراً لزمه مد لأنه لا تقع

الكفاية بما دونه وفي أدمه وجهان: أحدهما: أنه يجب من نوع أدمها كما يجب الطعام من جنس طعامها والثاني: أنه يجب من دون أدمها وهو المنصوص لأن العرف في الأدم أن يكون من دون أدمها وفي الطعام العرف أن يكون من جنس طعامها ويجب لخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار دون ما يجب للزوجة ولا يجب له السراويل ولا يجب له المشط والسدر والدهن للرأس لأن ذلك يراد للزينة والخادم لا يراد للزينة وإن كانت خادمة تخرج للحاجات وجب لها خف لحاجتها إلى الخروج. فصل: ويجب أن يدفع إليها نفقة كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت الحاجة ويجب أن يدفع إليها الكسوة في كل ستة أشهر لأن العرف في الكسوة أن تبدل في هذه المدة فإن دفع إليها الكسوة فبليت في أقل من هذا القدر لم يجب عليه بدلها كما لا يجب عليه بدل طعام اليوم إذا نفد قبل انقضاء اليوم وإذا انقضت المدة والكسوة باقية ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه تجديدها لأن الكسوة مقدرة بالكفاية وهي مكفية والثاني: يلزمه تجديدها وهو الصحيح كما يلزمه الطعام في كل يوم وإن بقي عندها طعام اليوم الذي قبله ولأن الاعتبار بالمدة لا بالكفاية بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمه تجديدها والمدة قد انقضت فوجب التجديد وأما ما يبقى سنة فأكثر كالبسط والفرش وجبة الخز والإبريسم فلا يجب تجديدها في كل فصل لأن العادة أن لا تجدد في كل فصل. فصل: وإن دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه لم يرجع بما بقي لأنه دفع ما يستحق دفعه وإن سلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها فله أن يرجع في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه لأنه غير مستحق وإن دفع إليها كسوة الشتاء أو الصيف فبانت قبل انقضائه ففيه وجهان أحدهما: له أن يرجع لأنه دفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها والثاني: لا يرجع لأنه دفع ما يستحق دفعه فلم يرجع به كما لو دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه. فصل: وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه وقال أبو بكر بن الحداد المصري لا يجوز وقال أبو الحسن الموردي البصري إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز لأن للزوج حظاً في جمالها وعليه ضرراً في نقصان جمالها والأول أظهر لأنه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه كالمهر وإن قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه ومن أصحابنا من قال إن أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر في الاستمتاع بمرضها والمذهب الأول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الأكل لا يتحقق فلا يجوز المنع منه.

باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها

باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما". ولأنه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطء والضرر ففيه أقل فلأن يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر من الأولى وإذا أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دون المد وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ لأن ما زاد غير مستحق مع الإعسار وإن أعسر بالأدم لم يثبت لها الفسخ لأن البدن يقوم بالطعام من غير أدم وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة كما لا يقوم بغير القوت وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان: أحدهما: يثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم المسكن والثاني: لا يثبت لأنها لا تعدم موضع تسكن فيه. فصل: وإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ لأنه لا يلزمه في كل يوم أكثر من نفقة يوم وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها ففيه وجهان: أحدهما: لها الفسخ لأن نفقة اليوم لا تتبعض والثاني: ليس لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها وإن كان يجد يوماً قدر الكفاية ولا يجد يوماً ثبت لها الفسخ لأنه لا يحصل لها في كل يوم إلا بعض النفقة وإن كان نساجاً ينسج في كل أسبوع ثوباً تكفيه أجرته الأسبوع أو صانعاً يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لأنه يقدر أن يستقرض لهذه المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة وإن كانت نفقته في عمل فعجز عن العمل بمرض نظرت فإن كان مرضه يرجى زواله في اليومين أو الثلاثة لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكنها أن تستقرض ما تنفقه ثم تقتضيه وإن كان مرضاً مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم النفقة وإن كان له مال غائب فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ وإن كان في مسافة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكراه في المرض وإن كان له دين على موسر لم يثبت لها الفسخ وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ لأن يسار الغريم كيساره وإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها. فصل: وإن كان الزوج موسراً وامتنع من الإنفاق لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكن الاستيفاء بالحاكم وإن غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ لأن الفسخ يثبت بالعيب بالإعسار ولم يثبت الإعسار ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهاً آخر أنه يثبت لها الفسخ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار. فصل: إذا ثبت لها الفسخ بالإعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب

على المعسر من الطعام والأدم والكسوة ونفقة الخادم فإذا أيسر طولب بها لأنها حقوق واجبة عجز عن أدائها فإذا قدر طولب بها كسائر الديون ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر لأنه غير مستحق. فصل: وإن اختارت المقام بعد الإعسار لم يلزمها التمكين من الاستمتاع ولها أن تخرج من منزله لأن التمكين في مقابلة النفقة فلا يجب مع عدمها وإن اختارت المقام معه على الإعسار ثم عن لها أن تفسخ فلها أن تفسخ لأن النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فيتجدد حق الفسخ وإن تزوجت بفقير مع العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تفسخ لأن حق الفسخ يتجدد بالإعسار بتجدد النفقة. فصل: وإن اختارت الفسخ لم يجز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كالفسخ بالتعنين وفي وقت الفسخ قولان: أحدهما: أن لها الفسخ في الحال لأنه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن والثاني: أن يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد ولا يمكن إمهاله أبداً لأنه يؤدي إلى الإضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب إمهاله وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الأيام من منزل الزوج لأنها لا يلزمها التمكين من غير نفقة. فصل: إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت النفقة ديناً في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان لأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد المعاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والأجرة والمهر ويصح ضمان ما استقر منها بمضي الزمان كما يصح ضمان سائر الديون وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان فيه قولان بناء على القول في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين فيه قولان: قال في الجديد تجب بالتمكين وهو الصحيح لأنها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والأجرة وعلى هذا لا يصح ضمانها لأنه ضمان ما لم يجب وقال في القديم تجب بالعقد لأنها في مقابلة الاستمتاع والاستمتاع يجب بالعقد فكذلك النفقة وعلى هذا يصح أن يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة. فصل: وإذا اختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمينها لقوله عليه السلام: "اليمين على المدعى عليه" 1. ولأن

_ 1 رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 1، مسلم في كتاب الأقضية حديث 1، 2. أبو داود في كتاب الأقضية باب 23. الترمذي في كتاب الأحكام باب 12. أحمد في مسنده 1/253، 342.

الأصل عدم القبض وإن مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسراً فيلزمه نفقة الموسر وادعى الزوج أنه كان معسراً فلا يلزمه إلا نفقة المعسر نظرت فإن عرف له مال فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه وإن لم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله لأن الأصل عدم المال وإن اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة وإن طلق زوجته طلقة رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة لك علي وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك علي الرجعة ولي عليك النفقة فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لي عليك لأنه حق له فقيل إقراره فيه والقول قول المرأة في وجوب العدة لأنه حق عليها فكان القول قولها والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة لأن الأصل بقاؤها. والله أعلم.

باب نفقة المعتدة

باب نفقة المعتدة إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقاً رجعياً وجب لها السكنى والنفقة في العدة لأن الزوجة باقية والتمكين من الاستمتاع موجود فإن طلقها طلاقاً بائناً وجب لها السكنى في العدة حائلاً كانت أو حاملا لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب وإن كانت حاملاً وجبت لقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأوجب النفقة مع الحمل فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل وهل تجب النفقة للحمل أو الحامل بسبب الحمل فيه قولان: قال في القديم تجب للحمل لأنها تجب بوجوبه وتسقط بعدمه وقال في الأم تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح لأنها لو وجبت للحمل لتقدرت بكفايته وذلك يحصل بما دون المد فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلا على من تجب عليه نفقة الولد فإن كانت الزوجة أمة والزوج حراً وجبت نفقتها على مولاها لأن الولد مملوك له وإن قلنا تجب النفقة للحامل وجبت على الزوج لأن نفقتها تجب عليه وإن كان الزوج عبداً وقلنا إن النفقة للحامل وجبت عليه وإن قلنا تجب للحامل لم تجب لأن العبد يلزمه نفقة ولده. فصل: وإذا وجبت النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل ففي وجوب الدفع قولان: أحدهما: لا يوجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحاً فانفش فلا يجب الدفع مع الشك والثاني: يجب الدفع يوماً بيوم لأن الظاهر وجود الحمل ولأنه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في

الدية فجعل كالمتحقق في دفع النفقة فإن دفع إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل فإن قلنا تجب يوماً بيوم فله أن يرجع عليها لأنه دفعها على أنها واجبة وقد بان أنها لم تجب فثبت له الرجوع وإن قلنا إنها لا تجب إلا بالوضع فإن دفعها بأمر الحاكم فله أن يرجع لأنه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع وإن دفع من غير أمره فإن شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملاً فله أن يرجع لأنه دفع عما يجب وقد بان أنه لم يجب وإن لم يشرط لم يرجع لأن الظاهر أنه متبرع. فصل: فإن تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب وجب لها السكنى في العدة وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب وإن كانت حاملاً وجبت لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فكان حكمها في النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة وإن لاعنها بعد الدخول فإن لم ينف الحمل وجبت النفقة وإن نفى الحمل لم تجب النفقة لأن النفقة تجب في أحد القولين للحمل والثاني: تجب لها بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة وأما السكنى ففيها وجهان: أحدهما: تجب لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فوجب لها السكنى كالمطلقة والثاني: لا تجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى ألا تثبت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها ولأنها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها. فصل: وإن نكح امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها وفرق بينهما فلم تجب لها السكنى لأنها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح فلأن لا تجب مع زوال الفراش والافتراق أولى وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب لأنها إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلأن لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى وإن كانت حاملاً فعلى القولين إن قلنا إن النفقة للحامل لم تجب لأن حرمتها في النكاح الفاسد غير كاملة وإن قلنا أنها تجب للحمل وجبت لأن الحمل في النكاح الفاسد كالحمل في النكاح الصحيح. فصل: وإن كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة لأن النفقة إنما تجب للمتمكن من الاستمتاع وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل والميت مستحق عليه حق لأجل الولد وهل تجب لها السكنى فيه قولان: أحدهما: لا تجب وهو اختيار المزني لأنه حق يجب يوماً بيوم فلم تجب في عدة الوفاة كالنفقة والثاني: تجب لما روت فريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا". ولأنها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة.

فصل: إذا حسبت زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لأنها محبوسة عليه في بيته فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما فإن قلنا بقوله القديم إن التفريق صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها لأنها معتدة عن وفاة فلا تجب لها النفقة وفي السكنى قولان: فإن رجع الزوج فإن قلنا تسلم إليه عادت إلى نفقته في المستقبل وإن قلنا لا تسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة فإن قلنا بقوله الجديد وأن التفريق باطل فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأنها محبوسة عليه في بيته وإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها صارت كالناشزة وإن لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه فإن قلنا بقوله القديم لم تعد النفقة وإن قلنا بقوله الجديد فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت فيه وجهان: أحدهما: تعود لأنها سقطت بنشوزها فعادت بعودها والثاني: لا تعود لأن التسليم الأول قد بطل فلا تعود إلا بتسليم مستأنف كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الأمانة ومن أصحابنا من قال إن كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالاعتداد واعتدت وفارقت البيت ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لأن التسليم الأول قد بطل لحكم الحاكم وإن كانت تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت إليه عادت النفقة لأن التسليم الأول لم يبطل من غير حكم الحاكم. والله أعلم.

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم والقرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا وقرابة الأولاد وإن سفلوا فتجب على الولد نفقة الأب والأم والدليل عليه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] ومن الإحسان أن ينفق عليهما وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه"1. ويجب عليه نفقة الأجداد والجدات لأن اسم الوالدين يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فسمى الله تعالى إبراهيم أباً وهو جد ولأن الجد كالأب والجدة كالأم في أحكام الولادة من رد الشهادة وغيرها وكذلك في إيجاب النفقة ويجب على الأب نفقة الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عندي دينار فقال: "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر فقال: "أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر فقال: "أنفقه على أهلك" قال: عندي

_ 1 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده 6/31، 42.

آخر قال: "أنفقه على خادمك" قال: عندي آخر قال: "أنت أعلم به". ويجب عليه نفقة ولد الوالد وإن سفل لأن اسم الولد يقع عليه والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ} وتجب على الأم نفقة الولد لقوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] ولأنه إذا وجبت على الأب وولادته من جهة الظاهر فلأن تجب على الأم وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد لما ذكرناه في الأب ولا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولدين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهما لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولدين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة فلم يلحق بهم في وجوب النفقة. فصل: ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن حاجته ما ينفق على قريبه وأما من لا يفضل عن نفقته شيء فلا تجب عليه لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن كان فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته" 1. فإن لم يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب لحديث جابر رضي الله عنه ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض فقدمت على المواساة ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه. فصل: ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة فإن كان موسراً لم يستحق لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة وإن كان معسراً عاجزاً عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة استحق النفقة على قريبه لأنه محتاج لعدم المال وعدم الكسب وإن كان قادراً على الكسب بالصحة والقوة فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: يستحق لأنه محتاج فاستحق النفقة على القريب كالزمن والثاني: لا يستحق لأن القوة كاليسار ولهذا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي" 2. وإن كان من المولدين ففيه طريقان:

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 41. النسائي في كتاب الزكاة باب 60. 2 رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 22، 23. النسائي في كتاب الزكاة باب 80. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 26. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 29.

من أصحابنا من قال فيه قولان كالوالدين ومنهم من قال لا يستحق قولاً واحداً لأن حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة. فصل: فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أوجد وأبو جد وهما موسران كانت النفقة على الأقرب منهما لأنه أحق بالمواساة من الأبعد وإن كان له أب وابن موسران ففيه وجهان: أحدهما: أن النفقة على الأب لأن وجوب النفقة عليه منصوص عليه وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ووجوبها على الولد ثبت بالاجتهاد والثاني: أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية وإن كان له أب وأم موسران كانت النفقة على الأب لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6 [فجعل أجرة الرضاع على الأب وروت عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا وهولا يعلم فهل علي في ذلك من شيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". ولأن الأب ساوى الأم في الولادة وانفرد بالتعصيب فقدم وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيباً فقدم على الأم كالأب وإن كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان: أحدهما: أن النفقة على البنت لأنها أقرب والثاني: أنها على ابن البنت لأنه أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية وإن كانت له بنت وابن ابن فالنفقة على ابن الابن لأن له ولادة وتعصيباً فقدم كما قدم الجد على الأم وإن كان له أم وبنت كانت النفقة على البنت لأن للبنت تعصيباً وليس للأم تعصيب وإن كان له أم أم وأبو أم فهما سواء لأنهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء لتساويهما في الدرجة والثاني: أن النفقة على أم الأب لأنها تدلي بالعصبة. فصل: وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأم أحق لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك". ولأنها تساوي الأب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية. والثاني: أن الأب أحق لأنه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب ولأنهما لوكانا موسرين والابن معسراً قدم الأب في وجوب النفقة عليها فقدم في النفقة له. والثالث: أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة لا بالتعصيب وهما في القرابة سواء وإن كان له أب وابن ففيه وجهان: أحدهما: أن الابن أحق لأن نفقته ثبتت بنص الكتاب والثاني: أن الأب أحق لأن حرمته

آكد ولهذا لا يقاد بالابن ويقاد به الابن وإن كان له ابن وابن ابن أو أب وجد ففيه وجهان: أحدهما: أن الابن أحق من ابن الابن والأب أحق من الجد لأنهما أقرب ولأنهما لوكانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما فكذلك في نفقته عليهما والثاني: أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة ولهذا لا يسقط أحدهما: بالآخر إذا قدر على نفقتهما. فصل: ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة وجبت نفقته على قدر الكفاية لأنها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه وإن كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته لأن ذلك من تمام الكفاية وإن مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الأقارب لم يصر ديناً عليه لأنها وجبت عليه لتزجية الوقت ودفع الحاجة وقد زالت الحاجة لما مضى فسقطت. فصل: وإن كان له أب فقير مجنون أو فقير زمن واحتاج إلى الإعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص وخرج أبوعلي بن خيران قولاً آخر أنه لا يجب لأنه قريب يستحق النفقة فلا يستحق الإعفاف كالابن والمذهب الأول لأنه معنى يحتاج الأب إليه ويلحقه الضرر بفقده فوجب كالنفقة وإن كان صحيحاً قوياً وقلنا إنه تجب نفقته وجب إعفافه وإن قلنا لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان: أحدهما: لا يجب لأنه لا تجب نفقته فلا يجب إعفافه والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب إعفافه لأن نفقته إن لم تجب على القريب أنفق عليه من بيت المال والإعفاف لا يجب في بيت المال فوجب على القريب ومن وجب عليه الإعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين أن يسريه بجارية ولا يجوز أن يزوجه بأمة لأنه بالإعفاف يستغنى عن نكاح الأمة ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة لأن الأصل من العفة هو الاستمتاع ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبيحة فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم استغنى لم يلزمه مفارقة الحرة ولا رد الجارية لأن ما استحق للحاجة لم يجب رده بزوال الحاجة كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر وإن أعفه بحرة فطلقها أو سرا بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها لأن ذلك مواساة لدفع الضرر فلو أوجبنا البدل خرج من حد المواساة وأدى إلى الضرر والضرر لا يزال بالضرر وإن ماتت عنده ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب البدل لأنه يخرج عن حد المواساة والثاني: يجب لأنه زال ملكه عنها بغير تفريط فوجب بدله كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه. فصل: وإن احتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب إرضاعه لأن الرضاع في

حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولا يجب إلا في حولين كاملين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فإن كان الولد من زوجته وامتنعت من الإرضاع لم تجبر وقال أبو ثور تجبر لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وهذا خطأ لأنها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب لم تجبر على الرضاع وإن أرادت إرضاعه كره للزوج منعها لأن لبنها أوفق له وإن أراد منعها منه كان له ذلك لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت إلا في وقت العبادة فلا يجوز لها تفويته عليه بالرضاع وإن رضيا بإرضاعه فهل تلزمه زيادة على نفقتها فيه وجهان: أحدهما: تلزمه وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق لأنها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره والثاني: لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة لأن نفقتها مقدرة فلا تجب الزيادة لحاجتها كما لا تجب الزيادة في نفقة الأكولة لحاجتها وإن أرادت إرضاعه بأجرة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه لأن أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز أن تأخذ بدلاً آخر والثاني: أنه يجوز لأنه عمل يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة كالنسج وإن بانت لم يملك إجبارها على إرضاعه كما لا يملك قبل البينونة فإن طلبت أجرة المثل على الرضاع ولم يكن للأب من يرضع بدون الأجرة كانت الأم أحق به لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وإن طلبت أكثر من أجرة المثل جاز انتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأن ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم ولهذا لو وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالمعدوم في الانتقال إلى التيمم فكذلك ههنا وإن طلبت أجرة المثل وللأب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل ففيه قولان: أحدهما: أن الأم أحق بأجرة المثل لأن الرضاع لحق الولد ولأن لبن الأم أصلح له وأنفع وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق والثاني: أن الأب أحق لأن الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولو وجد الكبير من يتبرع بإرضاعه لم يستحق على الأب أجرة الرضاع وإن ادعت المرأة أن الأب لا يجد غيرها فالقول قول الأب لأنها تدعي استحقاق أجرة المثل والأصل عدمه. فصل: ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". ويجب عليه نفقته من قوت البلد لأنه هو المتعارف فإن تولى طعامه استحب أن يطعمه منه لما

روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعام فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين فإنه تولى علاجه وحره " 1. فإن كانت له جارية للتسري استحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة لأن العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة. فصل: ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق" 2. ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها لأن في ذلك إضراراً بولدها وإن كان لعبده زوجة أذن له في الاستمتاع بالليل لأن إذنه بالنكاح يتضمن الإذن في الاستمتاع بالليل وإن مرض العبد أو الأمة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما لأن نفقتهما بالملك ولهذا تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة ولا يجوز أن يجبر عبده على المخارجة لأنه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة وإن طلب العبد ذلك لم يجبر المولى كما لا يجبر إذا طلب الكتابة فإن اتفقا عليها وله كسب جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره وسأل مواليه أن يخففوا من خراجه وإن لم يكن له كسب لم يجز لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة تحل فلم يجز. فصل: ومن ملك بهيمة لزمه القيامة بعلفها لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار فقيل لها ـ والله أعلم ـ لا أنت أطعمتها وسقيتها حين حبستها ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً" 3. ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 41. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 40. أحمد في مسنده 2/247. 2 رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 55. مسلم في كتاب الأيمان حديث 43. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 50. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 33. 3 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 16. مسلم في كتاب البر حديث 133، 135. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 152. أحمد في مسنده 2/159، 188.

فصل: وإن امتنع من الإنفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يجبر على نفقة زوجته وإن لم يكن له مال أكرى عليه إن أمكن إكراؤه فإن لم يمكن بيع عليه كما يزال الملك عنه في امرأته إذا أعسر بنفقتهما. والله أعلم.

باب الحضانة

باب الحضانة إذا افترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لأنه مستغن عن الحضانة والكفالة والمستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما وإن كانت جارية كره لها أن تنفرد لأنها إذا انفردت لم يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز وهو الذي له دون سبع سنين وجبت حضانته لأنه إن ترك حضانته ضاع وهلك. فصل: ولا تثبت الحضانة لرقيق لأنه لا يقدر على القيام بالحضانة مع خدمة المولى ولا تثبت لمعتوه لأنه لا يكمل للحضانة ولا تثبت لفاسق لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولأن الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد في حضانة الفاسق لأنه ينشأ على طريقه ولا تثبت لكافر على مسلم وقال أبو سعيد الإصطخري تثبت للكافر على المسلم لما روى عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أنه قال: أسلم أبي وأبت أمي أن تسلمني وأنا غلام فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام اذهب إلى أيهما شئت إن شئت إلى أبيك وإن شئت إلى أمك" فتوجهت إلى أمي فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "اللهم اهده فملت إلى أبي فقعدت في حجره". والمذهب الأول لأن الحضانة جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر لأنه يفتنه من دينه وذلك من أعظم الضرر والحديث منسوخ لأن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر ولا حضانة للمرأة إذا تزوجت لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي ". ولأنها إذا تزوجت اشتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه وعدل الفاسق وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة لأنها زالت لعلة فعادت بزوال العلة وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة وقال المزني إن كان الطلاق رجعياً لم يعد لأن النكاح باق وهذا خطأ لأنه إنما

سقط حقها بالنكاح لاشتغالها باستمتاع الزوج والطلاق الرجعي يحرم الاستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن فعادت الحضانة. فصل: ولا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم ابن البنت وابن الأخت وابن الأخ من الأم وأبو الأم والخال والعم من الأم لأن الحضانة إنما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أولمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور والإناث لأنه إذا لم يثبت لهم لضعف قرابتهم فلأن لا يثبت لمن يدلي بهم أولى. فصل: وإن اجتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالأم أحق من غيرها لما روى عب الله بن عمرو العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت أحق ما لم تنكحي". ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ثم تنتقل إلى من يرث من أمهاتها لمشاركتهن الأم في الولادة والإرث ويقدم الأقرب فالأقرب ويقدمن على أمهات الأب وإن قربن لتحقق ولادتهن ولأنهن أقوى في الميراث من أمهات الأب لأنهن لا يسقطن بالأب وتسقط أمهات الأب بالأم فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم ففيه قولان: قال في القديم: تنقل إلى الأخت والخالة ويقدمان على أم الأب لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت حمزة لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولأن الخالة تدلي بالأم وأم الأب تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها عل من يدلي به ولأن الأخت ركضت مع الولد في الرحم ولم تركض أم الأب معه في الرحم فقدمت عليها فعلى هذا تكون الحضانة للأخت من الأب والأم ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم لأم الأب ثم للأخت من الأب ثم للعمة وقال في الجديد: إذا عدمت أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى أم الأب وهو الصحيح لأنها جدة وارثة فقدمت على الأخت والخالة كأم الأم فعلى هذا تكون الحضانة لأم الأب ثم لأمهاتها وإن علون الأقرب فالأقرب ويقدمن على أم الجد كما يقدم الأب على الجد فإن عدمت أمهات الأب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهاتها وإن علون ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد فإذا عدم أمهات الأبوين انتقلت إلى الأخوات ويقدمن على الخالات والعمات لأنهن راكضن الولد في الرحم وشاركنا في النسب وتقدم الأخت من الأب والأم ثم الأخت للأب ثم الأخت للأم وقال أبو العباس بن سريج: تقدم الأخت للأم على الأخت للأب لأن إحداهما تدلي بالأم والأخرى تدلي بالأب فقدم المدلي بالأم على المدلي بالأب كما قدمت الأم على الأب وهذا خطأ لأن الأخت من الأب أقوى من الأخت من الأم في الميراث والتعصيب مع البنات ولأن

الأخت من الأب تقوم مقام الأخت من الأب والأم في الميراث فقامت مقامها في الحضانة فإن عدمت الأخوات انتقلت إلى الخالات ويقدمن على العمات لأن الخالة تساوي العمة في الدرجة وعدم الإرث وتدلي بالأم والعمة تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها وتقدم الخالة من الأب والأم على الخالة من الأب ثم الخالة من الأب ثم الخالة من الأم ثم تنتقل إلى العمات لأنهن يدلين بالأب وتقدم العمة من الأب والأم ثم العمة من الأب ثم العمة من الأم وعلى قياس قول المزني وابن العباس تقدم الخالة والعمة من الأم على الخالة والعمة من الأب. فصل: وإن اجتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم الأب لأن له ولادة وفضل شفقة ثم تنتقل إلى آبائها الأقرب فالأقرب لمشاركتهم الأب في الولادة والتعصيب فإن عدم الجداد انتقلت إلى من بعدهم من العصبات ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والأجداد من العصبات لأنه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالأجانب والمنصوص هو الأول والدليل عليه ما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اختصم في بنت حمزة علي وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي بنت عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها عندي وقال زيد: بنت أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولولم يكن ابن العم من أهل الحضانة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر وعلى علي رضي الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة ولأن له تعصيباً بالقرابة فثبتت له الحضانة كالأب والجد فعلى هذا تنتقل إلى الأخ من الأب والأم ثم إلى الأخ من الأب ثم إلى ابن الأخ من الأب والأم ثم إلى ابن الأخ من الأب ثم إلى العم من الأب والأم ثم إلى العم من الأب ثم إلى ابن العم من الأب والأم ثم إلى ابن العم من الأب لأن الحضانة تثبت لهم بقوة قرابتهم بالإرث فقدم من تقدم في الإرث. فصل: وإن اجتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت فإن اجتمع الأب مع الأم كانت الحضانة للأم لأن ولادتها متحققة وولادة الأب مظنونة ولأن لها فضلاً بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على الأب فإن اجتمع مع أم الأم وإن علت كانت الحضانة لأم الأم لأنها كالأم في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة وإن اجتمع مع أم نفسه أو مع الأخت من الأب أو مع العمة قدم عليهن لأنهن يدلين به فقدم عليهن وإن اجتمع الأب مع الأخت من الأم أو الخالة ففيه وجهان: أحدهما: أن الأب أحق وهو ظاهر النص لأن الأب له ولادة وإرث فقدم على الأخت

والخالة كالأم والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يقدم الأخت والخالة على الأب لأنهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالأم فقدمتا على الأب كأمهات الأم إن اجتمع الأب وأم الأب والأخت من الأم أو الخالة بنينا على القولين في الأخت من الأم والخالة إذا اجتمعا مع أم الأب فإن قلنا بقوله القديم إن الأخت والخالة يقدمان على أم الأب قدمت الأخت والخالة على الأب وأم الأب وإن قلنا بقوله الجديد إن أم الأب تقدم على الأخت والخالة بنينا على الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت من الأم أو الخالة فإن قلنا بظاهر النص إن الأب يقدم عليهما كانت الحضانة للأب لأنه يسقط الأخت والخالة وأم نفسه فانفرد بالحضانة وإن قلنا بالوجه الآخر إن الحضانة للأخت والخالة ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أن الحضانة للأخت والخالة لأن أم الأب تسقط بالأب والأب يسقط بالأخت والخالة والثاني: أن الحضانة للأب وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله عليه لأن الأخت والخالة يسقطان بأم الأب ثم تسقط أم الأب بالأب فتصير الحضانة للأب ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع منه غيره كالأخوين مع الأبوين فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل لهما ما منعناه بل يصير الجميع للأب وإن اجتمع الجد أب الأب مع الأم أو مع أم الأم وإن علت قدمت عليه كما تقدم على الأب وإن اجتمع مع أم الأب قدمت عليه لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الأم على الأب وإن اجتمع مع الخالة أو مع الأخت من الأم ففيه وجهان كما لو اجتمعتا مع الأب وإن اجتمع مع الأخت من الأب ففيه وجهان: أحدهما: أن الجد أحق لأنه كالأب في الولادة والتعصيب فكذلك في التقدم على الأخت والثاني: أن الأخت أحق لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة. فصل: وإن عدم الأمهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن النساء أحق بالحضانة من العصبات فتكون الأخوات والخالات ومن أدلى بهن من البنات أحق من الأخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم لاختصاصهن بمعرفة الحضانة والتربية والثاني: أن العصبات أحق من الأخوات والخالات والعمات ومن يدلي بهن لاختصاصهم بالنسب والقيام بتأديب الولد والثالث: أنه إن كان العصبات أقرب قدموا وإن كان النساء أقرب قدمن وإن استويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية وإن استوى اثنان في القرابة والإدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة، وإن عدم أهل الحضانة من العصبات

والنساء وله أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم ففيه وجهان: أحدهما: أنهم أحق من السلطان لأن لهم رحماً فكانوا أحق من السلطان كالعصبات والثاني: أن السلطان أحق بالحضانة لأنه لا حق لهم مع وجود غيرهم فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث وإن كان للطفل أبوان فثبتت الحضانة للأم فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الأصطخري فيه وجهين: أحدهما: أن الحضانة تنتقل إلى أم الأم كما تنتقل إليها بموت الأم أو جنونها أو فسقها أو كفرها والثاني: أنها تكون للأب لأن الأم لم يبطل حقها من الحضانة لأنها لو طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلي بها. فصل: وإن افترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت". فأخذ بيد أمه فانطلقت به فإن اختارهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على كفالته ولا مزية لأحدهما: على الآخر فوجب التقديم بالقرعة وإن لم يختر واحداً منهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لأنه يضيع ولا مزية لأحدهما: على الآخر فوجبت القرعة وإن اختار أحدهما: نظرت فإن كان ابناً فاختار الأم كان عندها بالليل ويأخذه الأب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لأن القصد حظ الولد وحظ الولد فيما ذكرناه وإن اختار الأب كان عنده بالليل والنهار ولا يمنعه من زيارة أمه لأن المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم فإن مرض كانت الأم أحق بتمريضه لأنه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الأم أحق به وإن كانت جارية فاختارت أحدهما: كانت عنده بالليل والنهار ولا يمنع الآخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط لأن الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما: في دار الآخر وإن مرضت كانت الأم أحق بتمريضها في بيتها وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه وإن اختار أحدهما: فسلم إليه ثم اختار الآخر حول إليه وإن عاد فاختار الأول أعيد إليه

لأن الاختيار إلى شهوته وقد يشتهي المقام عند أحدهما: في وقت وعند الآخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما لأن الجد كالأب في الحضانة في حق الصغير فكان كالأب في التخيير في الكفالة فإن لم يكن له أب ولا جد فإن قلنا إنه لا حق لغير الآب والجد في الحضانة ترك مع الأم إلى أن يبلغ وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة فإن كانت العصبة محرماً كالعم والأخ وابن الأخ خير بينهم وبين الأم لما روى عامر بن عبد الله قال: خاصم عمي أمي وأراد أن يأخذني فاختصما إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخيرني على ثلاث مرات فاخترت أمي فدفعني إليها فإن كان العصبة ابن عم فإن كان الولد ابناً خير بينه وبين الأم وإن كانت بنتاً كانت عند الأم إلى أن تبلغ ولا تخير بينهما لأن ابن العم ليس بمحرم لها ولا يجوز أن تسلم إليه. فصل: وإن افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما: أن يسافر بالولد فإن كان السفر مخوفاً أبو البلد الذي يسافر إليه مخوفاً فالمقيم أحق به فإن كان مميزاً لم يخبر بينهما لأن في السفر تغريراً بالولد وإن كان السفر لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما لأنهما يستويان في انتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح فصارا كالمقيمين في محلتين في بلد واحد وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد لأنه لا حظ للولد في حمله ورده وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة من غير خوف فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المسافر لأن في الكون مع الأم حضانة وفي الكون مع الأب حفظ النسب والتأديب وفي الحضانة يقوم غير الأم مقامها وفي حفظ النسب لا يقوم غير الأب مقامه فكان الأب أحق وإن كان المسافر هو الأب فقالت الأم يسافر لحاجة فأنا أحق وقال الأب أسافر للنقلة فأنا أحق فالقول قول الأب لأنه أعرف بنيته. وبالله التوفيق.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه القتل بغير حق حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا"1. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل إلا أن لا يشاء ذلك" 2. فصل: ويجب القصاص بجناية العبد وهو أن يقصد الإصابة بما يقتل غالباً فيقتله والدليل عليه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 179 [الآية وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وروى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الزاني المحصن والمرتد عن دينه وقاتل النفس" 3. ولأنه لولم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس ولا يجب بجناية الخطأ وهو أن يقصد غيره فيصيبه فيقتله لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلا يستحق مع الخطأ ولا يجب في عمد الخطأ وهو أن يقصد الإصابة بما لا يقتل غالباً فيموت منه لأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل كما لا يجب حد الزنا في الوطء الشبهة حيث لم يقصد الزنا. فصل: ولا يجب القصاص على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة

_ 1 رواه النسائي في كتاب التحريم باب 2. 2 رواه الترمذي في كتاب الديات باب 8. 3 رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. البخاري في كتاب الديات باب 66. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. أحمد في مسنده 1/382.

عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود والقتل بالكفر وفي السكران طريقان من أصحابنا من قال يجب عليه القصاص قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في كتاب الطلاق. فصل: ويقتل المسلم بالمسلم والذمي بالذمي والحر بالحر والعبد بالعبد والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والأنثى بالذكر لأنه إذا قتل كل واحد منهم بمن هو مثله فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى ويقتل الذكر بالأنثى لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن أن الرجل يقتل بالمرأة ولأن المرأة كالرجل في حد القذف فكانت كالرجل في القصاص. فصل: ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر ولا على الحر بقتل العبد لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ومن السنة أن لا يقتل حر بعبد فإن جرح ذمي ذمياً ثم أسلم الجاني أو جرح عبد عبداً ثم أعتق الجاني اقتص منه لأنهما متكافئان منه حال الوجوب والاعتبار بحال الوجوب لأن القصاص كالحد والحد يعتبر بحال الوجوب بدليل أنه إذا زنى وهو بكر ثم أحصن أقيم عليه حد البكر ولو زنى وهو عبد ثم أعتق عليه حد العبد فوجب أن يعتبر القصاص أيضاً بحال الوجوب وإن قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم ثم مات أو قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم مات لم يجب القصاص لأن التكافؤ معدوم عند وجود الجناية فإن جرح مسلم مسلماً ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات فإن أقام في الردة زمانا يسري

الجرح في مثله لم يجب القصاص لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص والسراية في الردة تسقط القصاص فغلب الإسقاط كما لو جرح جرحاً عمداً وجرحاً خطأ فإن لم يقم قي الردة زماناً يسري في الجرح ففيه قولان: أحدهما: لا يجب فيه القصاص لأنه أتى عليه زمان لو مات فيه لم يجب القصاص فسقط والثاني: يجب القصاص وهو الصحيح لأن الجناية والموت وجدا في حال الإسلام وزمان الردة لم يسر فيه الجرح فكان وجوده كعدمه وإن قطع يده ثم ارتد ثم مات ففيه قولان: أحدهما: يسقط القصاص في الطرف لأنه تابع للنفس فإذا لم يجب القصاص في النفس لم يجب في الطرف والثاني: وهو الصحيح أنه يجب لأن القصاص في الطرف يجب مستقراً فلا يسقط بسقوطه في النفس والدليل عليه أنه لو قطع طرف إنسان ثم قتله من لا قصاص عليه لم يسقط القصاص في الطرف وإن سقط في النفس. فصل: وإن قتل مرتد ذمياً ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب القصاص وهو اختيار المزني لأنهما كافران فجرى القصاص بينهما كالذميين والثاني: لا يجب لأن حرمة الإسلام باقية في المرتد بدليل أنه يجب عليه قضاء العبادات ويحرم استرقاقه وإن كانت امرأة لم يجز للذمي نكاحها فلا يجوز قتله بالذمي وإن جرح مسلم ذمياً ثم ارتد الجاني ثم مات المجني عليه لم يجب القصاص قولاً واحداً لأنه عدم التكافؤ في حال الجناية فلم يجب القصاص وإن وجد التكافؤ بعد ذلك كما لو جرح حر عبداً ثم أعتق العبد وإن قتل ذمي مرتداً فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يجب عليه القصاص إن كان القتل عمداً والدية إن كان خطأ لأن الذمي لا يقتل المرتد تديناً وإنما يقتله عناداً فأشبه إذا قتل مسلماً وقال أبو إسحاق: لا يلزمه قصاص ولا دية وهو الصحيح لأنه مباح الدم فلم يضمن بالقتل كما لو قتله مسلم وقال أبو سعيد الاصطخري إن قتله عمداً وجب القصاص لأنه قتله عناداً وإن قتله خطأ لم تلزمه الدية لأنه لا حرمة له. فصل: وإن حبس السلطان مرتداً فأسلم وخلاه فقتله مسلم لم يعلم بإسلامه ففيه قولان: أحدهما: لا قصاص عليه لأنه لم يقصد قتل من يكافئه والثاني: يجب عليه القصاص لأن المرتد لا يخلى إلا بعد الإسلام فالظاهر أنه مسلم فوجب القصاص بقتله وإن قتل المسلم الزاني المحصن ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القصاص لأن قتله لغيره فوجب عليه القصاص بقتله كما لو قتل رجل رجلاً فقتله غير ولي الدم والثاني: لا يجب وهو المنصوص لأنه مباح الدم فلا يجب القصاص بقتله كالمرتد. فصل: ولا يجب القصاص على الأب بقتل ولده ولا على الأم بقتل ولدها لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقاد الأب من ابنه" 1. فإذا ثبت هذا في الأب ثبت في الأم لأنها كالأب في الولادة ولا يجب على الجد وإن علا ولا

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الديات باب 9. الدارمي في كتاب الديات باب 6. أحمد في مسنده 1/16.

على الجدة وإن علت بقتل ولد الولد وإن سفل لمشاركتهم الأب والأم في الولادة وأحكامها وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبه بأحدهما: لم يجب القصاص لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الأب وإن رجعا في الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق وجب عليهما فلا يقبل رجوعهما فيه بعد الإقرار وإن رجع أحدهما: وجب عليه القصاص لأنه ثبتت الأبوة للآخر ولقطع نسبه من الراجع وإن اشترك رجلان في وطء امرأة وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما وقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما: لم يجب القصاص وإن أنكر أحدهما: النسب لم يقبل إنكاره ولم يجب عليه القصاص لأن بإنكاره لا ينقطع النسب عنه ولا يلحق بالآخر بخلاف المسألة قبلها فإن هناك لحق النسب الآخر وانقطع عن الراجع وإن قتل زوجته وله منها ابن لم يجب عليه القصاص لأنه إذا لم يجب له عليه بجنايته عليه فلا يجب له عليه بجنايته على أمه وإن كان لهما ابنان أحدهما: منه والآخر من غيره لم يجب عليه القصاص لأن القصاص لا تبعض فإذا سقط نصيب ابنه سقط نصيب الآخر كما لو وجب لرجلين على رجل قصاص فعفا أحدهما: عن حقه وإن اشترى المكاتب أباه وعنده عبد فقتل أبوه العبد لم يجز للمكاتب أن يقتص منه لأنه إذا لم يجب له القصاص عليه بجنايته عليه لم يجب بجنايته على عبده. فصل: ويقتل الابن بالأب لأنه إذا قتل بمن يساويه فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى وإن جنى المكاتب على أبيه وهو في ملكه ففيه وجهان: أحدهما: لا يقتص منه لأن المولى لا يقتص منه لعبده والثاني: يقتص منه وإليه أومأ الشافعي رحمه الله في بعض كتبه لأن المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة وأبوه ثبت له حق الحرية بالابن ولهذا لا يملك بيعه فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر. فصل: وإن قتل مسلم ذمياً أو قتل حر عبداً أو قتل الأب ابنه في المحاربة ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص لما ذكرناه من الأخبار ولأن من لا يقتل بغيره إذا قتله في غير المحاربة لم يقتل به إذا قتله في المحاربة كالمخطئ والثاني: أنه يجب لأن القتل في المحاربة تأكد لحق الله تعالى حتى لا يجوز فيه عفو الولي فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنا. فصل: وتقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله وهو أن يجني كل واحد منهم جناية لو انفرد بها ومات أضيف القتل إليه ووجب القصاص عليه والدليل عليه ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة أنفس من أهل صنعاء قتلوا رجلاً وقال: لو تمالأ فيه أهل صنعاء لقتلتهم ولأنا لولم نوجب القصاص عليهم جعل

الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء فإن اشترك جماعة في القتل وجناية بعضهم عمداً وجناية البعض خطأ لم يجب القصاص على واحد منهم لأنه لم يتمحض قتل العمد فلم يجب القصاص وإن اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن وجب القصاص على الأجنبي لأن مشاركة الأب لم تغير صفة العمد في القتل فلم يسقط القود عن شريكه كمشاركة غير الأب وإن اشترك صبي وبالغ في القتل فإن قلنا عمد الصبي خطأ لم يجب القصاص على البالغ لأن شريكه مخطئ وإن قلنا إن عمده عمد وجب لأن شريكه عامد فهو كشريك الأب وإن جرح رجل نفسه وجرحه آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر ومات ففيه قولان: أحدهما: يجب القصاص على الجارح لأنه شاركه في القتل عامداً فوجب عليه القصاص كشريك الأب والثاني: لا يجب لأنه إذا لم يجب على شريك المخطئ وجنايته مضمونة فلأن لا يجب على شريك الجارح نفسه والسبع وجنايتهما غير مضمونة أولى وإن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر مائة جراحة وجب القصاص عليهما لأن الجرح له سراية في البدن وقد يموت من جرح واحد ولا يموت من جراحات فلم تمكن إضافة القتل إلى واحد بعينه ولا يمكن إسقاط القصاص فوجب على الجميع وإن قطع أحدهما: يده وجز الآخر رقبته أو قطع حلقومه ومريئه أو شق بطنه فأخرج حشوته فالأول قاطع يجب عليه ما يجب على القاطع والثاني: قاتل لأن الثاني قطع سراية القطع فصار كما لو اندمل الجرح ثم قتله الآخر وإن قطع أحدهما: حلقومه ومريئه أو شق بطنه وأخرج حشوته ثم حز الآخر رقبته فالقاتل هو الأول لأنه لا تبقى بعد جنايته حياة مستقرة وإنما يتحرك حركة مذبوح ولهذا يسقط حكم كلامه في الإقرار والوصية والإسلام والتوبة وإن أجافه جائفة يتحقق الموت منها إلا أن الحياة فيه مستقرة ثم قتله الآخر كان القاتل هو الثاني لأن حكم الحياة باق ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعد ما سقى اللبن وخرج من الجرح ووقع الأياس منه فعمل بوصيته فجرى مجرى المريض الميؤوس منه إذا قتل وإن جرحه رجل فداوى جرحه بسم غير موح إلا أنه يقتل في الغالب أو خاط جرحه في لحم حي أو خاف التآكل فقطعه فمات ففي وجوب القتل على الجاني طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القتل والثاني: لا يجب لأنه شاركه في

القتل من لا ضمان عليه فكان في قتله قولان كالجارح إذا شاركه المجروح أو السبع في الجرح ومنهم من قال: لا يجب عليه القتل قولاً واحداً لأن المجروح هاهنا لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة فكان فعله عمد خطأ فلم يجب القتل على شريكه والمجروح هناك والسبع قصدا الجناية فوجب القتل على شريكهما وإن كان على رأس مولى عليه سلعة فقطعها وليه أو جرحه رجل فداواه الولي بسم غير موح أو خاط جرحه في لحم حي ومات ففيه قولان: أحدهما: يجب على الولي القصاص لأنه جرح جرحاً مخوفاً فوجب عليه القصاص كما لو فعله غير الولي والثاني: لا قصاص عليه لأنه لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة وله نظر في مداواته فلم يجب عليه القصاص فإن قلنا يجب عليه القصاص وجب على الجارح لأنهما شريكان في القتل وإن قلنا لا قصاص عليه لم يجب على الجارح لأنه شارك من فعله عمد خطأ.

باب ما يجب به القصاص من الجنايات

باب ما يجب به القصاص من الجنايات إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان أو بما حدد من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بما له مور وبعد غور كالمسلة والنشاب وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً وإن غرز فيه إبرة فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول الأذن فمات منه وجب عليه القود لأن الإصابة بها في المقتل كالإصابة بالسكين والمسلة في الخوف عليه وإن كان في غير مقتل كالإلية والفخذ نظرت فإن بقي منه ضمناً إلى أن مات وجب عليه القود لأن الظاهر أنه مات منه وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب

عليه القود لأنه له غور وسراية في البدن وفي البدن مقاتل خفية والثاني: وهو قول أبي العباس وأبي سعيد الأصطخري أنه يجب لأنه لا يقتل في الغالب فلا يجب به القود كما لو ضربه بمثقل صغير ولأن في المثقل فرقاً بين الصغير والكبير فكذلك في المحدد. فصل: وإن ضربه بمثقل نظرت فإن كان كبيراً من حديد أو خشب أو حجر فمات منه وجب عليه القود لما روى أنس رضي الله عنه أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ولأنه يقتل غالبا فلولم يجب فيه القود جعل طريقاً إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء وإن قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود ولا الدية لأنا نعلم أنه لم يمت من ذلك وإن كان بمثقل قد يموت منه وقد لا يموت كالعصا فإن كان في مقتل وفي مريض أوفي صغير أوفي حر شديد أوفي برد شديد أو والى عليه الضرب فمات وجب القود لأن ذلك يقتل غالباً فوجب القود فيه وإن رماه من شاهق أو رمى عليه حائطاً فمات وجب القود فيه لأن ذلك يقتل في الغالب وإن خنقه خنقاً شديداً أو عصر خصيتيه عصراً شديداً أو غمه بمخدة أو وضع يده على فيه ومنعه التنفس إلى أن مات وجب القود لأن ذلك يقتل في الغالب وإن خنقه ثم خلاه وبقي منه متألماً إلى أن مات وجب القود لأنه مات من سراية جنايته فهو كما لو جرحه وتألم منه إلى أن مات إن تنفس وصح ثم مات لم يجب القود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فلم يجب القود كما لو جرحه واندمل الجرح ثم مات. فصل: وإن طرحه في نار أو ماء ولا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو النار أو لعجزه عن التخلص بالضعف أوبأن كتفه وألقاه فيه ومات وجب القود لأنه يقتل غالباً وإن ألقاه في ماء يمكنه التخلص منه فالتقمه حوت لم يجب القود لأن الذي فعله لا يقتل غالباً وإن كان في لجة لا يتخلص منها فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء ففيه قولان: أحدهما: يجب القود لأنه ألقاه في مهلكة فهلك والثاني: لا يجب لأن هلاكه لم يكن بفعله. فصل: وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام ولا شراب فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالباً وإن أمسكه على رجل ليقتله فقتله وجب القود على القاتل دون الممسك لما روى أبو شريح الخز اعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أعتي

الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله أوطلب بدم الجاهلية في الإسلام أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليقتل القاتل ويصبر الصابر". ولأنه سبب غير ملجئ ضمانه مباشرة فتعلق الضمان دون السبب كما لو حفر بئراً فدفع فيها آخر رجلا فمات. فصل: وإن كتف رجلا وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع فقتله لم يجب القود لأنه سبب غير ملجئ فصار كمن أمسكه على من يقتله فقتله وإن جمع بينه وبين السبع في زريبة أو بيت صغير ضيق فقتله وجب عليه القود لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق وإن كتفه وتركه في موضع فيه حيات فنهسته فمات لم يجب القود ضيقاً كان المكان أو واسعاً لأن الحية تهرب من الآدمي فلم يكن تركه معها ملجئاً إلى قتله وإن أنهشه سبعاً أو حية يقتل مثلها غالباً فمات وجب عليه القود لأنه ألجأه إلى قتله وإن كانت حية لا يقتل مثلها غالباً ففيه قولان: أحدهما: يجب القود لأن خنس الحيات يقتل غالباً والثاني: لا يجب لأن الذي ألسعه لا يقتل غالباً. فصل: وإن سقاه سماً مكرهاً فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالباً فهو كما لو جرحه جرحا يقتل غالبا وإن خلطه بطعام وتركه في بيته فدخل فأكله ومات لم يجب عليه القود كما لو حفر بئراً في داره فدخل رجل بغير إذنه فوقع فيها ومات وإن قدمه إليه أو خلطه بطعام فأكله فمات ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود لأنه أكله باختياره فصار كما لو قتل نفسه بسكين والثاني: يجب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة فأهدت إليه يهودية بخيبر شاة

مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال: "ارفعوا أيديكم فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة". فأرسل إلى اليهودية فقال: "ما حملك على ما صنعت". قالت: قلت إن تكن نبياً لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك فأكل منها بشر بن البراءة بن معرور فمات فأرسل عليها فقتلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أو أن انقطاع أبهري". ولأنه سبب يفضي إلى القتل غالباً فصار كالقتل بالسلاح وإن سقاه سماً وادعى أنه لم يعلم أنه قاتل ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القود لأن السم يقتل غالباً والثاني: لا يجب لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وذلك شبهة فسقط بها القود. فصل: وإن قتله بسحر يقتل غالباً وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه إذا قتله بسكين وإن كان مما يقتل ولا يقتل لم يجب القود لأنه عمد خطأ فهو كما لو ضربه بعصاً فمات. فصل: وإن أكره رجل على قتل رجل بغير حق فقتله وجب القود على المكره لأنه تسبب إلى قتله بمعنى يفضي إلى القتل غالباً فأشبه إذا رماه بسهم فقتله وأما المكره ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود لأنه قتله للدفع عن نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصده رجل ليقتله فقتله للدفع عن نفسه والثاني: أنه يجب عليه القود وهو الصحيح لأنه قتله ظلماً لاستبقاء نفسه فأشبه إذا اضطر إلى الأكل فقتله ليأكله وإن أمر الإمام بقتل رجل بغير حق فإن كان المأمور لا يعلم أن قتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص والدية على الإمام لأن المأمور معذور في قتله لأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق وإن كان يعلم أنه يقتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص أو الدية على المأمور لأنه لا يجوز طاعته فيما لا يحل والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1. وقد روى الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه" 2. فصار كما لو قتله بغير أمره وإن أمره بعض الرعية بالقتل فقتل وجب على المأمور القود علم أنه يقتله بغير حق أولم

_ 1 رواه أحمد في مسنده 5/66. 2 رواه ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 40. أحمد في مسنده 3/67.

يعلم لأنه لا تلزمه طاعته فليس الظاهر أنه يأمره بحق فلم يكن له عذر في قتله فوجب عليه القود وإن أمر بالقتل صبياً لا يميز أو أعجمياً لا يعلم أن طاعته لا تجوز في القتل بغير حق فقتل وجب القصاص على الآمر لأن المأمور هاهنا كالآلة للآمر ولو أمره بسرقة مال فسرقه لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا بالمباشرة والقصاص يجب بالتسبب والمباشرة. فصل: وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن شهادتهما وجب القود على الشهود لما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيدكما وأغرمهما دية يده ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً فوجب عليهما القود كما لو جرحاه فمات.

باب القصاص في الجروح والأعضاء

باب القصاص في الجروح والأعضاء يجب القصاص فيما دون النفس من الجروح والأعضاء والدليل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وروى أنس رضي الله عنه أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله أتكسر ثنية الربيعة والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص". قال: فعفا القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه". ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوب القصاص. فصل: ومن لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دون النفس ومن اقتيد بغيره في النفس اقتيد به فيما دون النفس لأنه لما كان ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص كان كالنفس فيما ذكرناه. فصل: وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة وجب عليهم القصاص لأنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على واحد كالقصاص في النفس وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع واحد بعض العضو وأبانه الآخر لم يجب القصاص على واحد منهما لأن جناية كل واحد منهما في بعض العضو فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو.

فصل: والقصاص فيما دون النفس شيئين في الجروح وفي الأطراف فأما الجروح فينظر فيها فإن كانت لا تنتهي إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد والمأمومة والمنقلة لم يجب فيها القصاص لأنه لا تمكن المماثلة فيه ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط فإن كانت الجناية تنتهي إلى عظم فإن كانت موضحة في الرأس أو للوجه وجب فيها القصاص لأنه تمكن المماثلة فيه ويؤمن أن يستوفى أكثر من حقه وإن كانت فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ وجب فيها القصاص ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأنه لما خالف موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش فخالفهما في وجوب القصاص والمنصوص هو الأول لأنه يمكن استيفاء القصاص فيها من غير حيف لانتهائها إلى العظم فوجب فيها القصاص كالموضحة في الرأس والوجه. فصل: وإن كانت الجناية موضحة وجب القصاص بقدرها طولاً وعرضاً لقوله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص هو المماثلة ولا تمكن المماثلة في الموضحة إلا بالمساحة في الطول والعرض فإن كانت في الرأس حلق موضعها من رأس الجاني وعلم على القدر المستحق بسواد أو غيره ويقتص منه فإن كانت الموضحة في مقدم الرأس أوفي مؤخره أوفي قزعته وأمكن أن يستوفي قدرها في موضعها من رأس الجاني لم يستوف في غيرها وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الجاني استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله لأن الجميع رأس وإن كان قدرها يزيد على رأس الجاني لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص في غير العضو الذي جنى عليه ويجب فيما بقي الأرش لأنه تعذر فيه القصاص فوجب البدل فإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني لأن الجميع محل للجناية وإن أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره فقد قال بعض أصحابنا: أنه لا يجوز لأنه يأخذ موضحتين بموضحة قال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه يجوز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع لذلك وإن كانت الموضحة في غير الوجه والرأس وقلنا بالمنصوص أنه يجب فيها القصاص اقتص فيها على ما ذكرناه في الرأس فإن كانت في الساعد فزاد قدرها على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كانت في الساق فزادت على

قدر ساق الجاني لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا. فصل: وإن كانت الجناية هاشمة أو منقلة أو مأمومة فله أن يقتص في الموضحة لأنها داخلة في الجناية ويمكن القصاص فيها ويأخذ الأرش في الباقي لأنه تعذر فيه القصاص فانتقل إلى البدل. فصل: وأما الأطراف فيجب فيها القصاص في كل ما ينتهي منها إلى مفصل فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه يمكن المماثلة فيها لانتهائها إلى مفصل فوجب فيها القصاص ولا يجوز أن يأخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لأنه يأخذ دون حقه وإن أوضح رأسه فذهب ضوء عينه فالمنصوص أنه يجب فيه القصاص وقال فيمن قطع إصبع رجل فتأكل كفه أنه لا قصاص في الكف فنقل أبو إسحاق قوله في الكف إلى العين ولم ينقل قوله في العين إلى الكف فقال في ضوء العين قولان: أحدهما: لا يجب فيه القصاص لأنه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه القصاص كما لو قطع إصبعه فتأكل الكف والثاني: يجب لأنه لا يمكن إتلافه إلا بالمباشرة فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال يجب القصاص في الضوء قولاً واحداً ولا يجب في الكف لأن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب القصاص فيه بالسراية بخلاف الضوء. فصل: ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير بجفن البصير لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره. فصل: ويؤخذ الأنف بالأنف لقوله تعالى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} ولا يجب القصاص إلا في المارن لأنه ينتهي إلى مفصل ويؤخذ الشام بالأخشم والأخشم بالشام لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم الشم نقص في غيره ويؤخذ البعض بالبعض

وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجاني ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأنه ربما يكون أنف الجاني صغيراً وأنف المجني عليه كبيراً فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة قطعنا جميع المارن بالبعض وهذا لا يجوز ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز بين المنخرين بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بجذام أو انخرام لأنه يأخذ أكثر من حقه فإن قطع من سقط بعض مارنه صحيحاً فللمجني عليه أن يأخذ الموجود فينتقل بالباقي إلى البدل لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض فأخذ الموجود وانتقل في الباقي إلى البدل وإن قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه وينتقل في الباقي إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فيه فانتقل فيه إلى البدل. فصل: وتؤخذ الأذن بالأذن لقوله عز وجل: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} ولا يمكن استيفاء القصاص فيه لانتهائه إلى حد فاصل تأخذ أذن السميع بأذن الأصم وأذن الأصم بأذن السميع لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم السمع نقص في غيره ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح لأن الثقب ليس بنقص وإنما تثقب للزينة ويؤخذ البعض بالبعض على ما ذكرناه في الأنف ولا يؤخذ صحيح بمخروم لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المخروم بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما سقط منه لما ذكرناه في الأنف ولا يؤخذ غير المستحشف بالمستحشف وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يؤخذ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء والثاني: يؤخذ لأنهما متساويان في المنفعة بخلاف اليد الشلاء فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة فإن قطع بعض أذنه وألصقه المقطوع فالتصق لم يجب القصاص لأنه لم يمكن المماثلة فيما قطع منه وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة على خده وجب القصاص لأن المماثلة فيه ممكنة بأن يقطع أذنه حتى تصير معلقة على خده وإن أبان أذنه فأخذه المقطوع وألصقه فالتصق لم يسقط القصاص لأن القصاص يجب بالإبانة وما حصل من الالصاق لا حكم له لأنه يجب إزالته ولا تجوز الصلاة معه وإن قطع أذنه فاقتص منه وأخذ الجاني أذنه فألصقه فالتصق لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بقطعه لأنه اقتص منه بالإبانة وما فعله من الإلصاق لا حكم له لأنه يستحق إزالته للصلاة وذلك إلى السلطان وإن قطع أذنه فقطع المجني عليه ببعض أذن الجاني

فألصقه الجاني فالتصق فللمجني عليه أن يعود فيقطعه لأنه يستحق الإبانة ولم يوجد ذلك وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو على أنفه فذهب شمه أو على أذنه فذهب سمعه لم يجب القصاص في العقل والشم والسمع لأن هذه المعاني في غير محل الجناية فلم يمكن القصاص فيها. فصل: وتؤخذ الشفة بالشفة وهو ما بين جلد الذقن والخدين علواً وسفلاً ومن أصحابنا من قال لا يجب فيه القصاص لأنه قطع لحم لا ينتهي إلى عظم فلم يجب فيه القصاص كالباضعة والمتلاحمة والصحيح هو الأول لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه ينتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص. فصل: ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ولما رويناه في أول الباب في حديث الربيع بنت النضر بن أنس ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المكسور بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما انكسر منه لما ذكرناه في الأنف والأذن ويؤخذ الزائد إذا اتفق محلهما لأنهما متساويان وإن قلع سناً زائدة وليس للجاني مثلها وجبت على الحكومة لأنه تعذر المثل فوجب البدل وإن كان له مثلها في غير موضع المقلوع لم يؤخذ كما لا يؤخذ سن أصلي بسن أخرى وإن كسر نصف سنه وأمكن أن يقتص منه نصف سنه اقتص منه فإن لم يمكن وجب بقدره من دية السن وإن وجب له القصاص في السن فاقتص ثم نبت له مكانه سن آخر ففيه قولان: أحدهما: أن النابت هو المقلوع من جهة الحكم لأنه مثله في محله فصار كما لو قلع سن صغير ثم نبت فعلى هذا يجب على المجني عليه دية سن الجاني لأنه قلع سنه بغير سن والقول الثاني أن النابت هبة مجددة لأن الغالب أنه لا يستخلف فعلى هذا وقع القصاص موقعه ولا يجب عليه شيء للجاني وإن قلع سن رجل فاقتص منه ثم نبت للجاني سن في مكان السن الذي اقتص منه فإن قلنا إن النابت هبة مجددة لم يكن للمجني عليه قلعه لأنه استوفى ما كان له وإن قلنا إن النابت هو المقلوع من جهة الحكم فهل يجوز للمجني عليه قلعه فيه وجهان: أحدهما: أن له أن يقلعه ولو نبت ألف مرة لأنه أعدمه السن فاستحق أن يعدم سنه والثاني: ليس له قلعه لأنه يجوز أن يكون هبة مجددة ويجوز أن يكون هو المقلوع فلم يجز قلعه مع الشك.

فصل: ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حداً ينتهي إليه فاقتص فيه فلا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه وإن قطع نصف لسانه أو ثلثه اقتص من لسان الجاني في نصفه أو ثلثه وقال أبو إسحاق: لا يقتص منه لأنه لا يأمن أن يجاوز القدر المستحق والمذهب أنه يقتص منه للآية ولأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه. فصل: وتأخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب فيها القصاص وإن قطع يده من الكوع اقتص منه لأنه مفصل وإن قطع من نصف الساعد فله أن يقتص من الكوع لأنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الحكومة في الباقي لأنه كسر عظم لا تمكن المماثلة فيه فانتقل فيه إلى البدل وإن قطع من المرفق فله أن يقتص مثله لأنه مفصل وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لم يكن له ذلك لأنه يمكنه أن يستوفي جميع حقه بالقصاص في محل الجناية فلا يجوز أن يأخذ القصاص في غيره وإن قطع يده من نصف العضد فله أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لأن الجميع مفصل داخل في الجناية ويخالف إذا قطعها من المرفق وأراد أن يقتص من الكوع لأن هناك يمكنه أن يقتص في الجميع في محل الجناية وهاهنا لا يمكنه أن يقتص في موضع الجناية وإن قطع يده من الكتف وقال أهل الخبرة إنه يمكنه أن يقتص منه من غير جائفة اقتص منه لأنه مفصل يمكن القصاص فيه من غير حيف وإن أراد أن يقتص من المرفق أو الكوع لم يجز لأنه يمكنه أن يقتص من محل الجناية فلا يجوز أن يقتص في غيره وإن قال أهل الخبرة إنه يخاف أن يحصل به جائفة لم يجز أن يقتص فيه لأنه لا يأمن أن يأخذ زيادة على حقه وله أن يقتص في المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لما ذكرناه وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك وما يجب فيما بينهما من الحكومات حكم اليد وقد بيناه. فصل: ولا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأنه يأخذ

فوق حقه وإن أراد المجني عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة نظرت فإن قال أهل الخبرة إنه إن قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن وخيف عليه لم يجز أن يقتص منه لأنه يأخذ نفساً بطرف وإن قالوا لا يخاف عليه فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه فإن طلب مع القصاص الأرش لنقص الشلل لم يكن له لأن الأشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما تنقص عنها في الصفة فلم يؤخذ الأرش للنقص مع القصاص كما لا يأخذ ولي المسلم من الذي مع القصاص أرشاً لنقص الكفر وفي أخذ الأشل بالأشل وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنهما متساويان والثاني: لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما. فصل: ولا تؤخذ يد كاملة بيد ناقصة الأصابع فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع لم يكن للمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان: أحدهما: أن يدخل كما يدخل في ديتها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدخل بل يأخذ من القصاص الحكومة ما تحتها ولهذا لو قطع أصابعه والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص ولهذا لو قطع أصابعه وتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويأخذ الحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمسة أصابع أو قطع من له خمسة أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان: أحدهما: يدخل كما يدخل في ديتها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدخل بل يأخذ مع القصاص الحكومة ما تحتها والفرق بين القصاص والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص ولهذا لو قطع أصابعه وتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويأخذ الحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص من الكف ويأخذ دية الأصابع الخامسة أو الحكومة في الأصبع السادسة لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض،

فأخذ الموجود وانتقل في المعدوم إلى البدل كما لو قطع عضوين ووجد أحدهما:. فصل: ولا يؤخذ أصلي بزائد فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائد لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يقتص من الأصابع الأصلية لأنها داخلة في الجناية ويأخذ الحكومة في الأصبع الزائدة وما تحت الزائدة من الكف يدخل في حكومتها وهل يدخل ما تحت الأصابع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين ويجوز أن يأخذ الزائد بالأصلي فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فللمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه دون حقه ولا شيء له لنقصان الإصبع الزائدة لأن الزائدة كالأصلية في الخلقة وإن كان لكل واحد منهما إصبع زائدة نظرت فإن لم يختلف محلهما أخذ أحدهما: بالأخرى لأنهما متساويان وإن اختلف محلهما لم تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما مختلفان في أصل الخلقة. فصل: وإن قطع من له يد صحيحة كف رجل له إصبعان شلا وإن لم يقتص منه في الكف لأنه يأخذ كاملاً بناقص ويجوز أن يقتص في الأصابع الثلاث الصحيحة لأنها مساوية لأصابعه ويأخذ الحكومة في الشلاوين لأنه لا يجد ما يأخذ به ويدخل في حكومة الشلاوين أرش ما تحتهما من الكف وهل يدخل أرش ما تحت الثلاثة في قصاصها على الوجهين. فصل: ولا تؤخذ يد ذات أظفار بيد لا أظفار لها لأن اليد بلا أظفار ناقصة فلا تؤخذ بها يد كاملة وتؤخذ يد لا أظفار لها بيد لها أظفار لأنه يأخذ بعض حقه. فصل: فإن قطع أصبع رجل فتأكل منه الكف وجب القصاص في الإصبع لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب في الكف لأنه لم يتلفه بجناية عمد لأن العمد فيه أن يباشره بالإتلاف ولم يوجد ذلك ويجب عليه دية كل إصبع من الأصابع لأنها تلفت بسبب جنايته ويدخل في دية كل إصبع أرش ما تحته من الكف لأن الكف تابع للأصابع في الدية وهل يدخل ما تحت الأصبع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين. فصل: وتؤخذ الأليتان وهما الناتئتان بين الظهر والفخذ وقال بعض أصحابنا: لا تؤخذ وهو قول المزني رحمة الله عليه لأنه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ والمذهب الأول لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كالدين. فصل: ويقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى حد

فاصل يمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص ويؤخذ بعضه ببعضه وقال أبو إسحاق لا يؤخذ بعضه ببعض كما قال في اللسان والمذهب الأول لأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي لأنه كذكر الفحل في الجماع وعدم الإنزال لمعنى في غيره ويقطع الأغلف بالمختون لأنه يزيد على المختون بجلدة يستحق إزالتها بالختان ولا يؤخذ صحيح بأشل لأن الأشل ناقص الشلل فلا يؤخذ بكامله. فصل: ويقطع الأنثيان بالأنثيين لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص فإن قطع إحدى الأنثيين وقال أهل الخبرة إنه أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه وإن قالوا إنه يؤدي قطعها إلى إتلاف الأخرى لم يقتص منه لأنه يقتص من أنثيين بواحدة. فصل: واختلف أصحابنا في الشفريين فمنهم من قال لا قصاص فيهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه لحم وليس له مفصل ينتهي إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ ومنهم من قال: يجب فيه القصاص وهو المنصوص في الأم لأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما فوجب فيهما القصاص. فصل: وإن قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه وطلب حقه قبل أن يتبين حاله أنه ذكر أو أنثى نظرت فإن طلب القصاص لم يكن له لجواز أن يكون امرأة فلا يجب لها عليه في شيء من ذلك القصاص وإن طلب المال نظرت فإن عفا عن القصاص أعطى أقل حقيه وهو حق امرأة فيعطي دية عن الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين فإن بان أنه امرأة فقد استوفت حقها وإن بان أنه رجل تمم له الباقي من دية الذكر والأنثيين وحكومة عن الشفرين فإن لم يعف عن القصاص وقف القصاص إلى أن يتبين لأنه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه القصاص أما المال ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يعطى لأن دفع المال لا يجب مع القود وهو مطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال والوجه الثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يعطي أقل ما يستحق مع القود لأنه يستحق القود في عضو والمال في غيره فلم يكن دفع المال عفواً عن القود فيعطي حكومة في الشفرين ويوقف القود في الذكر والأنثيين وقال القاضي أبو حامد المروروذي في جامعه يعطي دية الشفرين وهذا خطأ لأنه ربما بان أنه رجل فيجب القود في الذكر والأنثيين والحكومة في الشفرين.

فصل: وما وجب فيه القصاص من الأعضاء وجب فيه القصاص وإن اختلف العضوان في الصغر والكبر والطول والقصر والصحة والمرض لأنا لو اعتبرنا المساواة في هذه المعاني سقط القصاص في الأعضاء لأنه لا يكاد أن يتفق العضوان في هذه الصفات فسقط اعتبارها. فصل: وما انقسم من الأعضاء إلى يمين ويسار كالعين واليد وغيرهما لم تؤخذ اليمين فيه باليسار ولا اليسار باليمين وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالشفة والجفن لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى ولا تؤخذ سن بسن غيرها ولا أصبع بأصبع غيرها ولا أنملة بأنملة غيرها لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض كالعين بالأنف واليد بالرجل وما لا يؤخذ بعضه ببعض مما ذكرناه لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه وكذلك ما لا يؤخذ من الأعضاء الكاملة بالأعضاء الناقصة كالعين الصحيحة بالقائمة واليد الصحيحة بالشلاء لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه بأخذها لأن الدماء لا تستباح بالإباحة. فصل: وإن جنى على رجل جناية يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل. فصل: وإن قتل واحد جماعة أو قطع عضواً من جماعة لم تتداخل حقوقهم لأنها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون فإن قتل أو قطع واحداً بعد واحد اقتص منه الأول لأن له مزية بالسبق وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثاني وإن سقط حق الثاني اقتص للثالث وعلى هذا وإذا اقتص منه لواحد بعينه تعين حق الباقين في الدية لأنه فاتهم القود بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل أو زال طرفه وإن قتلهم أو قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن خرجت القرعة لواحد فعفا عن حقه أعيدت القرعة للباقين لتساويهم وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبدر غيره واقتص صار مستوفياً لحقه وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه كما قلنا قيمن قتل مرتداً بغير إذن الإمام أنه يصير مستوفياً لقتل الردة وإن أساء في الافتيات على الإمام وإن قتل رجل جماعة في المحاربة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو قتله في غير المحاربة والثاني: أنه يقتل بالجميع لأن قتل المحاربة لحق الله تعالى ولهذا لا يسقط بالعفو فتداخل كحدود الله تعالى. فصل: وإن قطع يد رجل وقتل آخر قطع للمقطوع ثم قتل للمقتول تقدم القطع أو

تأخر لأنا إذا قدمنا القتل سقط حق المقطوع وإن قدمنا القطع لم يسقط حق المقتول وإذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما: ويخالف إذا قتل اثنين لأنه لا يمكن إبقاء الحقين فقدم السبق وإن قطع إصبعاً من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الإصبع للأول ثم قطعت اليد للثاني ويدفع إليه أرش الأصبع ويخالف إذا قطع ثم قتل حيث قلنا إنه يقطع للأول ويقتل للثاني ولا يلزمه لنقصان اليد شيء لأن النفس لا تنقص لنقصان اليد ولهذا يقتل صحيح بمقطوع اليد واليد تنقص بنقصان الأصبع ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بيد ناقصة الأصابع وإن قطع يمين رجل ثم قطع إصبعاً من يد رجل آخر قطعت يمينه للأول لأن حقه سابق ويخالف إذا قتل رجلاً ثم قطع يد آخر حيث أخرنا القتل وإذا كان سابقاً لأن هناك يمكن إبقاء الحقين من غير نقص يدخل على ولي المقتول بقطع اليد وهاهنا يدخل النقص على صاحب اليد بنقصان الإصبع. فصل: وإن قتل رجلاً وارتد أو قطع يمين رجل وسرق قدم حق الآدمي من القتل والقطع وسقط حق الله تعالى لأن حق الآدمي مبني على التشديد فقدم على حق الله تعالى.

باب استيفاء القصاص

باب استيفاء القصاص من ورث المال ورث الدية لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر رضي الله عنه يقول: لا ترث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع عمر رضي الله عنه عن ذلك ويقضي من الدية دينه وينفذ منها وصيته وقال أبو ثور: لا يقضي منها الدين ولا ينفذ منها الوصية لأنها تجب بعد الموت والمذهب الأول لأنه مال يملكه الوارث من جهة فقضى منه دينه ونفذت منه وصيته كسائر أمواله ومن ورث المال ورث القصاص والدليل عليه ما روى أبو شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقل فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". وإن قطع مسلم طرف مسلم ثم ارتد ومات في الردة وقلنا بأصح القولين أنه يجب القصاص في طرفه فقد نقل المزني أنه قال: يقتص وليه المسلم وقال المزني رحمه الله لا يقتص غير الإمام لأن المسلم لا يرثه فمن أصحابنا من قال: لا

يقتص غير الإمام كما قال المزني وحمل قول الشافعي رحمة الله عليه على الإمام وقال عامة أصحابنا: يقتص المناسب لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ والذي يتشفى هو المناسب ويجوز أن يثبت القصاص لمن لا يرث شيئاً كما لو قتل من له وارث وعليه دين محيط بالتركة فإن القصاص للوارث وإن لم يرث شيئاً وإن كان الوارث صغيراً أو مجنوناً لم يستوف له الولي لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل باستيفاء الولي ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير أو يعقل المجنون لأن فيه حظاً للقاتل بأن لا يقتل وفيه حظاً للمولى عليه ليحصل له التشفي فإن أقام القاتل كفيلاً ليخلي لم يجز تخليته لأن فيه تغريراً بحق المولى عليه بأن يهرب فيضيع الحق وإن ركب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان: أحدهما: أن يصير مستوفياً لحقه كما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها والثاني: لا يصير مستوفياً لحقه وهو الصحيح لأنه ليس من أهل استيفاء الحقوق ويخالف الوديعة فإنها لو تلفت من غير فعل برئ منها المودع ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية وإن كان القصاص بين صغير وكبير لم يجز للكبير أن يستوفي وإن كان بين عاقل ومجنون لم يجز للعاقل أن يستوفي لأنه مشترك بينهما فلا يجوز لأحدهما: أن ينفرد به فإن قتل من لا وارث له كان القصاص للمسلمين واستيفاؤه إلى السلطان وإن كان له من يرث منه بعض القصاص كان استيفاؤه إلى الوارث والسلطان ولا يجوز لأحدهما: أن ينفرد به لما ذكرناه. فصل: وإن قتل رجل وله اثنان من أهل الاستيفاء فبدر أحدهما: وقتل القاتل من غير إذن أخيه ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص وهو الصحيح لأن له في قتله حقاً فلا يجب عليه القصاص بقتله كما لا يجب الحد على أحد الشريكين في وطء الجارية المشتركة والثاني: يجب عليه القصاص لأنه اقتص في أكثر من حقه فوجب عليه القصاص كما لو وجب له القصاص في طرفه فقتله ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة ولهذا يجب على كل واحد من الشريكين في القتل وإن كان قاتلاً لبعض النفس والنفس والنصف الذي لأخيه لا شبهة فيه فوجب القصاص عليه بقتله وإن عفا أحدهما: عن حقه من القصاص ثم قتله الآخر بعد العلم بالعفو نظرت فإن كان بعد حكم الحاكم بسقوط القود عنه وجب عليه القصاص لأنه لم يبق له شبهة وإن كان قبل حكم الحاكم بسقوط القود عنه فإن قلنا يجب عليه القود إذا قتله قبل العفو فلأن يجب عليه إذا قتله بعد العفو أولى وإن قلنا لا يجب عليه قبل العفو ففيما بعد العفو قولان:

أحدهما: يجب عليه لأنه لا حق له في قتله فصار كما لو عفوا ثم قتله أحدهما: والثاني: لا يجب لأن على مذهب مالك رحمة الله عليه يجب له القود بعد عفو الشريك فيصير ذلك شبهة في سقوط القود فإذا قلنا إنه يجب القصاص على الابن القاتل وجب دية الأب في تركة قاتله نصفها للأخ الذي لم يقتل ونصفها للأخ القاتل ولورثته بعده وإذا قلنا لا يجب القصاص على الابن القاتل وجب عليه نصف دية المقتول لأنه قتله وهو يستحق نصف النفس وللأخ الذي لم يقتل نصف الدية وفيمن يجب عليه قولان: أحدهما: يجب على الابن القاتل لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما فإذا أتلفها أحدهما: لزمه ضمان حق الآخر كما لو كانت لهما وديعة عند رجل فأتلفها أحدهما: فعلى هذا إن أبرأ لابن الذي لم يقتل ورثة قاتل أبيه من نصفه لم يصح إبراؤه لأنه أبرأ من لا حق له عليه وإن أبرأ أخاه صح إبراؤه لأنه أبرأ من عليه الحق والقول الآخر أنه يجب ذلك في تركة قاتل أبيه لأنه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي ويخالف الوديعة فإنه لو أتلفها أجنبي وجب حقه عليه والقاتل لو قتله أجنبي لم يجب حقه عليه فعلى هذا لو أبرأ أخاه لم يصح إبراؤه وإن أبرأ ورثة قاتل أبيه صح إبراؤه ولورثة قاتل الأب مطالبة الابن القاتل بنصف الدية لأن ذلك حق لهم عليه فلا يسقط ببراءتهم عن الابن الآخر. فصل: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان عزره على ذلك ومن أصحابنا من قال: لا يعزر لأنه استوفى حقه والمنصوص أنه يعزر لأنه افتيات على السلطان والمستحب أن يكون بحضرة شاهدين حتى لا ينكر المجني عليه الاستيفاء وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص فإن كانت كالة منع من الاستيفاء بها لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" 1. وإن كانت مسمومة منع من الاستيفاء بها لأنه يفسد البدن ويمنع من

_ 1 رواه مسلم في كتاب الصيد 57. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 11. الترمذي في كتاب الديات باب 14. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3.

غسله فإن عجل واستوفى بآلة كالة أو بآلة مسمومة عزر فإن طلب من له القصاص أن يستوفي بنفسه فإن كان في الطرف لم يمكن منه لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وإن كان في النفس فإن كان يكمل للاستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" 1. لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ فمكن منه وإن لم يكمل للاستيفاء أمر بالتوكيل فإن يكن من يستوفي بغير عوض استؤجر من خمس المصالح من يستوفي لأن ذلك من المصالح وإن لم يكن خمس أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه وجبت الأجرة على الجاني لأن الحق عليه فكانت أجرة الاستيفاء عليه كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن قال الجاني أقتص لك بنفسي ولا أؤدي الأجرة لم يجب تمكينه لأن القصاص أن يؤخذ منه مثل ما أخذ ولأن من لزمه إيفاء حق لغيره لم يجز أن يكون هو المستوفي كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن كان القصاص لجماعة وهم من أهل الاستيفاء وتشاحوا أقرع بينهم لأنه لا يجوز اجتماعهم على القصاص لأن في ذلك تعذيباً للجاني ولا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة. فصل: وإن كان القصاص على امرأة حامل لم يقتص منها حتى تضع لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وفي قتل الحامل إسراف في القتل لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إنها زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال له: "أحسن إليها فإذا وضعت فجيء بها". فلما أن وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأنه لا يعيش إلا به وإن لم يكن من يرضعه لم يجز قتلها حتى ترضعه حولين كاملين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعامرية: "اذهبي حتى ترضعيه". ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه وهو مولود أولى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز أن يقتص لأنه يستغني بها عن الأم وإن وجد مرضعات غير رواتب أو وجدت بهيمة يسقي من لبنها فالمستحب

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الديات باب 4. أحمد في مسنده 6/385.

لولي الدم أن لا يقتصر حتى ترضعه لأن اختلاف اللبن عليه والتربية بلبن البهيمة يفسد طبعه فإن لم يصبر اقتص منها لأن الولد يعيش بالألبان المختلفة وبلبن البهيمة وإن ادعت الحمل قال الشافعي رحمه الله تحبس حتى يتبين أمرها واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه لا تحبس حتى يشهد أربع نسوة بالحمل لأن القصاص وجب فلا يؤخر بقولها وقال أكثر أصحابنا تحبس بقولها لأن الحمل وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه. فصل: وإن كان القصاص في الطرف فالمستحب أن لا يستوفي إلا بعد استقرار الجناية بالاندمال أو بالسراية إلى النفس لما روى عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة قال: طعن رجل رجلاً بقرن في رجله فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني فقال: "دعه حتى يبرأ" فأعادها عليه مرتين أو ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حتى يبرأ". فأبى فأقاده منه ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: برئ صاحبي وعرت رجلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حق لك". فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه فإن استوفى قبل الاندمال جاز للخبر وهل يجوز أخذ الأرش قبل الاندمال فيه قولان: أحدهما: يجوز كما يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال والثاني: لا يجوز لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال لأنه قد يسري إلى النفس ويدخل في دية النفس وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص بخلاف القصاص فإنه لا يسقط بالسراية ولا تؤثر فيه المشاركة فإذا قلنا يجوز ففي القدر الذي يجوز أخذه وجهان: أحدهما: يجوز أخذه بالغاً ما بلغ لأنه قد وجب في الظاهر فجاز أخذه والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ أقل الأمرين من أرش الجناية أودية النفس لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره لأنه ربما سقط فعلى هذا إن قطع يديه ورجليه وجب في الظاهر ديتان وربما سرت الجناية إلى النفس فرجع إلى دية فيأخذ دية فإن سرت الجناية إلى النفس فقد أخذ حقه وإن اندملت أخذ دية أخرى. فصل: وإن قلع سن صغير لم يثغر أوسن كبير قد أثغر وقال أهل الخبرة أنه يرجى أن ينبت إلى مدة لم يقتص منه قبل الإياس من نباته لأنه لا يتحقق الإتلاف فيه قبل الإياس كما لا يتحقق إتلاف الشعر قبل الإياس من نباته فإن مات قبل الإياس لم يجب القصاص لأنه لم يتحقق الإتلاف فلم يقتص مع الشك.

فصل: إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن السيف أرجى الآلات فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه في القتل وقد قتل وعذب فإن أحرقه أو أغرقه أورماه بحجر أورماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه ومنعه من الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ولما روى البراءة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه". ولأن القصاص موضوع على الماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفي بها القصاص وله أن يقتص منه بالسيف لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه فجاز فإن قتله بالسحر قتل بالسيف لأن عمل السحر محرم فسقط وبقي القتل فقتل بالسيف وإن قتله باللواط أو بسقي الخمر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه إن قتله بسقي الخمر قتله بقيء الماء وإن قتله باللواط فعل به مثل ما فعله بخشبه لأنه تعذر مثله حقيقة ففعل به ما هو أشبه بفعله والثاني: أنه يقتله بالسيف لأنه قتله بما هو محرم في نفسه فاقتص بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن ضرب رجلاً بالسيف فمات فضرب بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأن قتله مستحق وليس هاهنا ما هو أرجى من السيف فقتل به وإن قتله بمثقل أورماه من شاهق أو منعه من الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ذلك فلم يمت ففيه قولان: أحدهما: يكرر عليه ذلك إلى أن يموت كما قلنا في السيف والثاني: أنه يقتل بالسيف لأنه فعل به مثل ما فعل وبقي إزهاق الروح فوجب بالسيف وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه أو أوضح رأسه فمات فللولي أن يستوفي القصاص بما جنى فيقطع كفه ويوضح رأسه لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة45] فإن مات به فقد استوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضواً آخر ولا أن يوضع في موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحتين بموضحة وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه ففيه

قولان: أحدهما: يقتل بالسيف ولا يقتص منه في الجائفة ولا في قطع اليد من الساعد لأنه جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفي بها القصاص كاللواط والثاني: يقتص منه في الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها في غير القصاص فجاز القتل بها في القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة إن اقتص بالجائفة أو قطع اليد من الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضو آخر فتصير جائفتان وقطع عضوين بعضو. فصل: وإن أوضح رأسه بالسيف اقتص منه بحديدة ماضية كالموسى ونحوه ولا يقتص منه بالسيف لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم. فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب منها ضوء عينيه نظرت فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص كالهاشمة عولج بما يزيل ضوء العين من كافور يطرح في العين أو حديدة حامية تقرب منها لأنه تعذر استيفاء القصاص فيه بالهاشمة ولا يقلع الحدقة لأنه قصاص في غير محل الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كما قلنا في القتل باللواط وإن كانت جناية يمكن فيها القصاص كالموضحة اقتص منه فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة وإن لطمه فذهب الضوء فقد قال بعض أصحابنا إنه يلطم كما لطم فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه وإن لم يذهب عولج على ما ذكرناه وقال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه لا يقتص منه باللطمة بل يعالج بما يذهب الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة والدليل عليه ما روى يحيى بن جعده أن أعرابياً قدم بجلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه فأبى فرفعهما إلى علي فدعا علي رضي الله عنه بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه ولأن اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه ولهذا فهو انفراد من إذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص فلا يستوفي به القصاص في الضوء كالهاشمة وإن قلع عين رجل بالأصبع فأراد المجني عليه أن يقتص بالإصبع ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه يأتي على ما تأتي عليه الحديدة مع المماثلة والثاني: لا يجوز لأن الحديد أرجى فلا يجوز بغيره.

فصل: وإن وجب له القصاص بالسيف فضربه فأصاب غير الموضع وادعى أنه أخطأ فإن كان يجوز في مثله الخطأ فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه محتمل وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم يقبل قوله ولا يسمع فيه يمينه لأنه يتحمل ما يدعيه وإن أراد أن يعود ويقتص فقد قال في موضع: لا يمكن وقال في موضع يمكن ومن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما: لا يمكن لأنه لا يؤمن في الثاني والثاني: أنه يمكن لأن الحق له والظاهر أنه لا يعود إلى مثله ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله وإن لم يحسن لم يمكن لأنه لا يؤمن أن يعود إلى مثله وحمل القولين على هذين الحالين وإن وجب له القصاص في موضحة فاستوفى أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أنملة فقطع أنملتين فإن كان عامداً وجب عليه القود في الزيادة وإن كان خطأ وجب عليه الأرش كما لو فعل ذلك في غير القصاص وإن استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزمه شيء لأنه حصل بفعله فهدر. فصل: وإن اقتص من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب عليه القصاص لأنه تلف من جائز وغير جائز ويجب نصف الدية لأنه هلك من مضمون وغير مضمون فسقط النصف ووجب النصف. فصل: وإن وجب له القصاص في يمينه فقال أخرج يمينك فأخرج اليسار من كم اليمين فإن قال: تعمدت إخراج اليسار وعلمت أنه لا يجوز قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان لأنه قطعهما ببذله ورضاه وإن قال ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفى فإن جهل أنها اليسار لم يجب عليه القصاص لأنه موضع شبهة وهل يجب عليه الدية فيه وجهان: أحدهما: لا تجب عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها والثاني: يجب وهو المذهب لأنه بذل على أن يكون عوضاً عن اليمين فإذا لم يصح العوض وتلف المعوض وجب له بدله كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد وتلفت عنده فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه وفيما يضمن وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حفص بن الوكيل أنه يضمن بالقود لأنه تعمد قطع يد محرمة والثاني: وهو المذهب أنه لا يجب القود لأنه قطعها ببذل الجاني ورضاه وتلزمه الدية لأنه قطع يداً لا يستحقها مع العلم به فإن وجب له القود في اليمين فصالحه على اليسار لم يصح الصلح لأن الدماء لا تستباح بالعوض وهل يسقط القصاص في اليمين فيه وجهان: أحدهما: يسقط لأن عدوله إلى اليسار رضاً بترك القصاص في اليمين والثاني: أنه لا يسقط لأنه أخذ اليسار على أن يكون بدلاً عن اليمين ولم يسلم البدل فبقي حقه في المبدل فإذا قلنا لا

يسقط القصاص فله على المقتص دية اليسار وللمقتص عليه القصاص في اليمين وإن قلنا إنه يسقط القصاص فله دية اليمين وعليه دية اليسار وإن كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها وجب عليه القصاص إن كان عالماً أو الدية إن كان جاهلاً لأن بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه. فصل: إذا اقتص في الطرف فسرى إلى نفس الجاني فمات لم يجب ضمان السراية لما روي أن عمراً وعلياً رضي الله عنهما قالا في الذي يموت من القصاص: لا دية له وإن جنى على طرف رجل فاقتص منه ثم سرت الجناية إلى نفس الجاني قصاصاً عن سراية الجناية إلى نفس المجني عليه لأنه لما كانت السراية كالمباشرة في إيجاب القصاص كانت كالمباشرة في استيفاء القصاص وإن سرى القصاص إلى نفس الجاني ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه ففيه وجهان: أحدهما: أن السراية قصاص لأنها سراية قصاص فوقعت عن القصاص كما لو سرت الجناية ثم سرى القصاص والثاني: وهو الصحيح أن السراية هدر ولا تكون قصاصاً لأنها سبقت القصاص فلا يجوز أن تكون قصاصاً عما وجب بعدها فعلى هذا يجب تركة الجاني نصف الدية لأنه قد أخذ منه بقدر نصف الدية وبقية النصف. فصل: من وجب عليه قتل بكفر أوردة أوزنا أو قصاص فالتجأ إلى الحرم قتل ولم يمنع الحرم من قتله والدليل عليه قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] ولأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع منه كقتل الحية والعقرب. فصل: ومن وجب عليه القصاص في النفس فمات عن مال أو وجب عليه قصاص في الطرف فزال الطرف وله مال ثبت حق المجني عليه في الدية لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما: ثبت الآخر كذوات الأمثال.

باب العفو عن القصاص

باب العفوعن القصاص ومن وجب عليه القصاص وهو جائز التصرف فله أن يقتص وله أن يعفو على المال لما روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". فإن عفا مطلقاً بنينا على ما يجب بقتل العمد وفيه قولان: أحدهما: أن موجب قتل العبد القصاص وحده ولا تجب الدية إلا بالاختيار والدليل عليه قوله عز وجل:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ولأن ما ضمن بالبدل في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال والقول الثاني: أن موجبه أحد الأمرين من القصاص أو الدية والدليل عليه أن له أن يختار ما شاء منهما فكان الواجب أحدهما: كالهدي والطعام في جزاء الصيد فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقاً سقط القصاص ولم تجب الدية لأنه لا يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو وإن قلنا إنه يجب أحد الأمرين فعفا عن القصاص وجبت الدية لأن الواجب أحدهما: فإذا ترك أحدهما: وجب الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وثبت المال ولم يكن له أن يرجع إلى القصاص وإن قال اخترت القصاص فهل له أن يرجع إلى الدية فيه وجهان: أحدهما: له أن يرجع لأن القصاص أعلى فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى والثاني: ليس له أن يرجع إلى الدية لأنه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص فإن جنى عمد على رجل جناية توجب القصاص فاشتراه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال وهل يصح الشراء ينظر فيه فإن كانا لا يعرفان عدد الإبل وأسنانها لم يصح الشراء لأنه بيع مجهول فإن كانا يعرفان العدد والأسنان ففيه قولان: أحدهما: لا يصح الشراء لأن الجهل بالصفة كالجهل بالعدد والسن كما قلنا في السلم والثاني: أنه يصح لأنه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به فجاز البيع به كالعوض في القرض. فصل: فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولي أن يعفو عنه على غير مال لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه فلا يملكه الولي كهبة ماله وإن أراد أن يعفو على مال فإن كان له مال أوله من ينفق عليه لم يجز العفو لأنه يفوت عليه القصاص من غير حاجة وإن لم يكن له مال ولا من ينفق عليه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته والثاني: لا يجوز وهو المنصوص لأنه يستحق النفقة في بيت المال ولا حاجة به إلى العفو عن القصاص وإن كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الأمر إلى السلطان فإن رأى القصاص اقتص وإن رأى العفو على مال عفا لأن الحق للمسلمين فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز لأنه تصرف لا حظ فيه للمسلمين فلم يملكه. فصل: وإن كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتي برجل قتل رجلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت أخت المقتول وهي امرأة القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر رضي الله عنه عتق من القتل وروى قتادة رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قتل

رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم فقال عمر لابن مسعود رضي الله عنهما وهو إلى جنبه ما تقول فقال: إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملئ علماً ولأن القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض ومبناه على الإسقاط فإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق في نصيب أحد الشريكين وينتقل حق الباقين إلى الدية لما روى زيد بن وهب قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها قد تصدقت بحقي فقضى لسائرهم بالدية ولأنه سقط حق من لم يعف عن القصاص بغير رضاه فثبت له البدل مع وجود المال كما يسقط حق من لم يعتق من الشريكين إلى القيمة. فصل: وإن وكل من له القصاص من يستوفي له ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو ففيه قولان: أحدهما: لا يصح العفو لأنه عفا في حال لا يقدر الوكيل على تلافي ما وكل فيه فلم يصح العفو كما لو عفا بعد ما رمى الحربة إلى الجاني والثاني: يصح لأنه حق له فلا يفتقر عفوه عنه إلى علم غيره كالإبراء من الدين ولا يجب القصاص على الوكيل لأن قتله وهو جاهل بتحريم القتل وأما الدية فعلى القولين: إن قلنا إن العفو لا يصح لم تجب الدية كما لا تجب إذا عفا عنه بعد القتل وإن قلنا يصح العفو وجبت الدية على الوكيل لأنه قتل محقون الدم ولا يرجع بما غرمه من الدية على الموكل وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه يرجع عليه لأنه غره حين لم يعلمه بالعفو كما قلنا فيمن وطئ أمة غر بحريتها في النكاح وقلنا إن النكاح باطل أنه يلزمه المهر ثم يرجع به على من غره في أحد القولين وهذا خطأ لأن الذي غره في النكاح مسيء مفرط فرجع عليه والموكل ههنا محسن في العفو غير مفرط. فصل: فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى النفس فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم لم يجب القصاص في النفس لأن القصاص لا يتبعض فإذا سقط في بالبعض سقط في الجميع وإن كانت الجناية مما لا قصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب القصاص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يعمل فيه العفو. فصل: وإن قطع أصبع رجل عمداً فعفا المجني عليه عن القصاص والدية ثم

اندملت سقط القصاص والدية وقال المزني رحمه الله يسقط القصاص ولا تسقط الدية لأنه عفا عن القصاص بعد وجوبه فسقط وعفا عن الدية قبل وجوبها لأن الدية لا تجب إلا بالاندمال والعفو وجد قبله فلم تسقط وهذا خطأ لأن الدية تجب بالجناية والدليل عليه أنه لو جنى على طرف عبده ثم باعه ثم اندمل كان أرش الطرف له دون المشتري فدل على أنه وجب بالجناية وإنما تأخرت المطالبة إلى ما بعد الإندمال فصار كما لو عفا عن دين مؤجل فإن سرت الجناية إلى الكف واندملت سقط القصاص في الأصبع بالعفو ولم يجب في الكف لأنه تلف بالسراية والقصاص فيما دون النفس لا يجب بالسراية وسقطت دية الأصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب ولا يسقط أرش ما تسري إليه لأنه عفا عنه قبل الوجوب وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت فإن قال عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها سقط القود في الأصبع والنفس لأنه سقط في الأصبع بالعفو بعد الوجوب وسقط في النفس لأنها لا تتبعض وأما الدية فإنه إن كان العفو بلفظ الوصية فهو وصية للقاتل وفيها قولان: فإن قلنا لا تصح وجبت دية النفس وإن قلنا تصح وخرجت من الثلث سقطت وإن خرج بعضها سقط ما خرج منها من الثلث ووجب الباقي وإن كان بغير لفظ الوصية فهل هو وصية في الحكم أم لا فيه قولان: أحدهما: أنه وصية لأنه يعتبر من الثلث والثاني: أنه ليس بوصية لأن الوصية ما تكون بعد الموت وهذا إسقاط في حال الحياة فإذا قلنا إنه وصية فعلى ما ذكرناه من القولين في الوصية للقاتل وإن قلنا إنه ليس بوصية صح العفوعن دية الأصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب ولا يصح عما زاد لأنه عفا قبل الوجوب فيجب عليه دية النفس إلا أرش أصبع وأما إذا قال عفوت عن هذه الجناية قودها وعقلها ولم يقل وما يحدث منها سقط القود في الجميع لما ذكرناه ولا تسقط دية النفس لأنه أبرأ منها قبل الوجوب وأما دية الأصبع فإنه إن كان عفا عنها بلفظ الوصية أو بلفظ العفو وقلنا إنه وصية للقاتل وفيها قولان وإن كان بلفظ العفو وقلنا إنه ليس بوصية فإن خرج من الثلث سقط وإن خرج بعضه سقط منه ما خرج ووجب الباقي لأنه إبراء عما وجب. فصل: فإن جنى جناية يجب فيها القصاص كقطع اليد فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية ثم عاد فقتله فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه إلى أنه يلزمه القصاص في النفس أو الدية الكاملة إن عفى عن القصاص لأن القتل منفرد عن الجناية فلم يدخل حكمه في وجوب لأجله القصاص أو الدية، ومن

أصحابنا من قال لا يجب القصاص ويجب نصف الدية لأن الجناية والقتل كالجناية الواحدة فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها ويجب نصف الدية لأنه وجب كمال الدية وقد أخذ نصفها وبقي له النصف ومنهم من قال يجب له القصاص في النفس وهو الصحيح لأن القتل انفرد عن الجناية فعفوه عن الجناية لا يوجب سقوط ما لزمه بالقتل ويجب له نصف الدية لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة ما لو سرت إلى النفس ولو سرت وجب فيها الدية وقد أخذ النصف وبقي النصف. فصل: إذا قطع يد رجل فسرى القطع إلى النفس فاقتص في اليد ثم عفى عن النفس على غير مال لم يضمن اليد لأنه قطعها في حال لا يضمنها فأشبه إذا قطع يد مرتد فأسلم ولأن العفو يرجع إلى ما بقي دون ما استوفى كما لو قبض من ديته بعضه ثم أبرأه وإن عفى على مال وجب له نصف الدية لأنه بالعفو صار حقه في الدية وقد أخذ ما يساوي نصف الدية فوجب له النصف فإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يدي الجاني ثم عفا عن النفس لم يجب له مال لأنه لم يجب له أكثر من دية وقد أخذ ما يساوي دية فلم يجب له شيء وإن قطع نصراني يد مسلم فاقتص منه في الطرف ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللوالي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفساً وإن اختار أن يعفو على الدية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عشرة آلاف درهم لأن دية المسلم اثنا عشر ألفاً وقد أخذ ما يساوي ألفي درهم فوجب الباقي والثاني: أنه يجب له نصف ديته وهو ستة آلاف درهم لأنه رضي أن يأخذ يداً ناقصة بيد كاملة ديتها ستة آلاف درهم فوجب الباقي وإن قطع يديه فاقتص منه ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللوالي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفساً فإن عفى على الدية أخذ على الوجه الأول ثمانية آلاف درهم لأنه أخذ ما يساوي أربعة آلاف درهم وبقي له ثمانية آلاف درهم وعلى الوجه الثاني لا شيء له لأنه رضي أن يأخذ نفسه بنفسه فيصير كما لو استوفى ديته وإن قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها ثم سرى القطع إلى نفس الرجل فلوليه أن يقتلها لما ذكرناه فإن عفا على مال وجب على الوجه الأول تسعة آلاف درهم لأن الذي أخذ يساوي ثلاثة آلاف درهم وبقي تسعة آلاف درهم وعلى الوجه الثاني يجب ستة آلاف لأنه رضي أن يأخذ يدها بيده وذلك بقدر نصف ديته وبقي الصف.

كتاب الديات

كتاب الديات باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات تجب الدية بقتل المسلم لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وتجب بقتل الذمي والمستأمن ومن بيننا وبينهم هدنة لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لأنه محقون الدم مع كونه من أهل القتال فكان مضموناً بالقتل كالذمي. فصل: وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا إنه لا يجب القصاص في طرفه أو قلنا يجب فعفى عن القصاص على مال ففيه قولان: أحدهما: لا تجب دية الطرف لأنه تابع للنفس في الدية فإذا لم تجب دية النفس لم تجب دية الطرف والثاني: أنه تجب وهو الصحيح لأنه الجناية أوجبت دية الطرف والردة قطعت سراية الجريح فلا تسقط ما تقدم وجوبه كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه فإن جرح مسلماً ثم ارتد ثم أسلم ومات فإن أقام في الردة زماناً تسري فيه الجناية ففيه قولان: أحدهما: تجب دية كاملة لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه واندملت وجبت له ديتان ولو سرت إلى النفس وجبت دية وهذا مسلم في حال استقرار الجناية فوجب فيه دية مسلم والثاني: يجب نصف الدية لأن الجناية في حال الإسلام توجب والسراية في حال الردة تسقط فوجب النصف كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات وإن لم يقم في الردة زماناً تسري فيه الجناية وجبت دية مسلم لأنه مسلم في حال الجناية وفي حال استقرار الجناية ولا تأثير لما مضى في حال الردة فلم يكن له حكم. فصل: وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن ومن أصحابنا من قال: تجب فيه دية مسلم لأنه مسلم في حال استقرار الجناية فوجبت ديته والمذهب الأول لأنها سراية قطع غير مضمون فلم يضمن كسراية القصاص وقطع السرقة. فصل: وإن أرسل سهماً على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت فيه دية مسلم وقال أبو جعفر الترمذي لا يلزمه شيء لأنه وجد السبب من جهته في حال هو مأمور بقتله ولا يمكنه تلافي فعله عند الإسلام فلا يجب ضمانه كما لو جرحه ثم أسلم ومات والمذهب الأول لأن الاعتبار بحال الإصابة دون الارسال لأن الارسال سبب والإصابة جناية والاعتبار بحال الجناية لا بحال السبب والدليل عليه أنه لو حفر بئراً في

الطريق وهناك حربي فأسلم ووقع فيها ومات ضمنه وإن كان عند السبب حربياً ويخالف إذا جرحه ثم أسلم ومات لأن الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون وإن أرسل سهماً على مسلم فوقع به وهو مرتد فمات لم يضمن لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه كما لو أرسله على حي فوقع به وهو ميت. فصل: وإن قتل مسلماً تترس به الكفار لم يجب القصاص لأنه لا يجوز أن يجب القصاص مع جواز الرمي وأما الدية فقد قال في موضع تجب وقال في موضع إن علمه مسلماً وجبت فمن أصحابنا من قال هو على قولين: أحدهما: أنها تجب لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بين الكفار فلم يسقط ضمانه والثاني: أنه لا تجب لأن القاتل مضطر إلى رميه ومنهم من قال: إن علم أنه مسلم لزمه ضمانه وإن لم يعلم لم يلزمه ضمانه لأن مع العلم بإسلامه يلزمه أن يتوقاه ومع الجهل بإسلامه لا يلزمه أن يتوقاه وحمل القولين على هذين الحالين وقال أبو إسحاق إن عنيه بالرمي ضمنه وإن لم يعنه لم يضمنه وحمل القولين على هذين الحالين. فصل: وتجب الدية بقتل الخطأ لقوله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 492] وتجب بقتل العمد في أحد القولين وبالعفو على الدية في القول الآخر وقد بيناه في الجنايات وتجب بشبه العمد لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خافة في بطونها أولادها" 1. فإن غرز إبرة في غير مقتل فمات وقلنا إنه لا يجب عليه القصاص ففي الدية وجهان: أحدهما: أنها تجب لأنه قد يفضي إلى القتل والثاني: لا تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمي بالحصاة لم تجب بأقل المحدد. فصل: وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال فإن اشترك في القتل اثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما: ويأخذ من الآخر نصف الدية وإن كان أحدهما: من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية.

_ 1 رواه النسائي في كتاب القسامة باب 33، 34. ابن ماجه في كتاب الديات باب 5، 22. أحمد في مسنده 2/11،36.

فصل: وتجب الدية بالإشهاد فإن شهد اثنان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين لما روي أن شاهدين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وأغرمهما دية يده. فصل: وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الآخر لأنهما كالشريكين في القتل إذا كانا من أهل القود وإن قلنا لا يجب القود إلا على المكره الآمر دون المكره فللولي أن يقتل المكره ويأخذ من الآخر نصف الدية لأنهما كالشريكين غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه والدية لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها. فصل: وإن طرح رجلاً في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات ففيه قولان: أحدهما: أنه تجب الدية لأن ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات والقول الثاني: أنها لا تجب وهو الصحيح لأن طرحه في النار لا يحصل به التلف وإنما يحصل ببقائه فيها باختياره فسقط ضمانه كما لو جرحه جرحاً يسيراً لا يخاف منه فوسعه حتى مات وإن طرحه في ماء يمكنه الخروج منه فلم يخرج حتى مات ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالنار ومنهم من قال لا تجب قولاً واحداً لأن الطرح في الماء ليس بسبب الهلاك لأن الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها وإنما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار. فصل: وإن شد يده ورجليه وطرحه في الساحل فزاد الماء وهلك فيه نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود كالمد بالبصرة فهو عمد محض ويجب به القصاص لأنه قصد تغريقه وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ وتجب به الدية المغلظة فإن كان في موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه فهو خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة وإن شد يديه ورجليه وطرحه في أرض مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطأ وتجب فيه دية

مغلظة وإن كان في أرض غير مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة. فصل: وإن سلم صبياً إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح لأنه سلمه إليه ليحتاط في حفظه فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم إذا ضرب الصبي فمات وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه لأنه في يد نفس فلا ينسب إلى التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه. فصل: وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمنه لأن الصياح سبب لوقوعه وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ وإن كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فخر ميتاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالصبي لأن البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي والثاني: لا يضمن لأن معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة. فصل: وإن بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت جنيناً ميتاً وجب ضمانه لما روي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها مالها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي رضي الله عنه فأقبل عليه فقال ما تقول يا أبا الحسن فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أنت أفزعتها فألقت وإن فزعت المرأة فماتت لم تضمن لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة. فصل: وإن طلب رجل بصيراً بالسيف فوقع في بئر أو ألقى نفسه من شاهق فمات لم يضمن لأن الطلب سبب والالقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة ولأن الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لأنه لو أدركه جاز أن لا يجني عليه فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه وإن طلب ضريراً فوقع في بئر أومن شاهق ومات فإن كان عالماً بالشاهق أو بالبئر لم يضمن لأنه كالبصير وإن لم يعلم وجب ضمانه لأنه ألجأه إليه فتعلق به الضمان كالشهود إذا شهدوا بالقتل ثم رجعوا وإن كان المطلوب صبياً أو مجنوناً ففيه وجهان بناء على القولين في عمدهما هل هو عمد أو خطأ فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية وإن قلنا إنه خطأ ضمن وإن طلب رجل رجلاً فافترسه سبع في طريقه نظرت فإن ألجأه الطالب إلى موضع السبع ضمنه كما لو ألقاه

عليه وإن لم يلجئه إليه لم يضمنه لأنه لم يلجئه إليه وإن انخسف من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن كما لا يضمن إذا افترسه سبع والثاني: يضمن لأنه ألجأه إلى ما لا يمكنه الاحتراز منه. فصل: وإن رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت فإن كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه وجب الضمان على القاطع لأن الرامي كالجارح والقاطع كالذابح وإن كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب الضمان عليهما لأن كل واحد منهما سبب للاتلاف فصار كما لو جرحاه والثاني: أن الضمان على القاطع لأن الرامي إنما يكون سبباً للتلف إذا وقع المرمي على الأرض وههنا لم يقع على الأرض وصار الرامي صاحب سبب والقاطع مباشراً فوجب الضمان على القاطع. فصل: إذا زنى بامرأة وهي مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه ديتها لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها والثاني: لا يجب لأن السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه. فصل: وإن حفر بئراً في طريق الناس أو وضع فيه حجراً أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لأنه تعدى به فضمن من هلك به كما لو جنى عليه وإن حفر بئراً في الطريق ووضع آخر حجراً فعثر رجل بالحجر ووقع في البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر لأنه هو الذي ألقاه في البئر فصار كما لو ألقاه فيها بيده وإن وضع رجل حجراً في الطريق فدفعه رجل على هذا الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لأن الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب سبب فوجب الضمان على المباشر وإن وضع رجل حجراً في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه فعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات وجب الضمان على واضع الحجر وقال أبو الفياض البصري إن كانت الحديدة سكيناً قاطعة وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر والأول هو الصحيح لأن الواضع هو المباشر وإن حفر بئراً في طريق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه كان حكمه حكم الطريق الذي يستضر الناس بحفر البئر فيه لأنه لا يجوز أن يختص بشيء من طريق المسلمين وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الإمام فهلك به إنسان لم يضمن لأن ما فعله بإذن الإمام للمصلحة جائز فلا يتعلق به الضمان وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يضمن لأنه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار كما لو حفرها بإذن الإمام والثاني: أنه يضمن لأن ما تعلق

بمصلحة المسلمين يختص به الإمام فمن افتات عليه فيه كان متعدياً فضمن من هلك به وإن بنى مسجدا في موضع لا ضرر فيه أو علق قنديلاً في مسجد أو فرش فيه حصراً من غير إذن الإمام فهلك به إنسان فهو كالبئر التي حفرها للمسلمين وإن حفر بئراً في موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها لأنه غير متعد في حفرها وإن كان في داره بئر قد غطى رأسها وكلب عقور فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع في البئر فمات ففي ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاماً مسموماً إلى رجل فأكله فمات وإن قدم صبياً إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه لأن الرامي كالحافر للبئر والذي قدمه كالملقي فيها فكان الضمان عليه وإن ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على إنسان فمات لم يضمنه لأنه وضعها في ملكه ووقعت من غير فعله وإن بنى حائطاً في ملكه فمال الحائط إلى الطريق ووقع على إنسان فقتله ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول إسحاق أنه يضمن لأنه لما مال إلى الطريق لزمه أزالته فإذا لم يزله صار متعدياً بتركه فضمن من هلك به كما لو أوقع حائطاً مائلاً إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به إنسان والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يضمن وهو المذهب لأنه بناه في ملكه ووقع من غير فعله فأشبه إذا وقع من غير ميل. فصل: وإن أخرج جناحاً إلى الطريق فوقع على إنسان ومات ضمن نصف ديته لأن بعضه في ملكه وبعضه خارج ملكه فسقط نصف الدية لما في ملكه وضمن نصفها للخارج عن ملكه وإن انكسرت خشبة من الخارج فوقعت على إنسان فمات ضمن جميع الدية لأنه هلك بالخارج من ملكه وإن نصب ميزاناً فوقع على إنسان فمات به ففيه قولان: قال في القديم لا يضمن لأنه غير مضطر إليه ولا يجد بداً منه بخلاف الجناح وقال في الجديد يضمن لأنه غير مضطر إليه لأنه كان يمكنه أن يحفر في ملكه بئراً يجري الماء إليها فكان كالجناح. فصل: وإن كان معه دابة فأتلفت إنساناً أو مالاً بيدها أو رجلها أو نابها أو بالت في الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه لأنها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته. فصل: وإن اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر وقال المزني إن استلقى أحدهما: فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب

دية المستلقي وهدر دمه لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول وهذا خطأ لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه ووجه قول المزني لا يصح لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة فوقع مستلقياً من شدة صدمته وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما واصطدما وماتا وجب على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما حكم الرجلين فأما الحمل فأنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما. فصل: وإن وقف رجل في ملكه أوفي طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم لأنه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم لأنه قتله بصدمة هو متعد فيها وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر لأن الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه في الطريق الضيق وإن قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم والمصدوم وقد بيناه. فصل: فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصر في آلتهما أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا أو سيراً في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف وإن كانتا لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها لما بيناه في الفارسين فإن كان في السفن رجال فهلكوا ضمن عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان أحدهما: يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين والثاني: لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما

فأشبه إذا تلفت بصاعقة واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها فإما إذا سارت ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولاً واحداً لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين وقال أبو إسحاق وأبو سعيد القولان في الحالين وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام والقيم لا يمكنه ضبط السفينة فإذا قلنا إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرطا إلا في القصاص فإنه لا يجب مع عدم التفريط وإن قلنا إنه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن لأن الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها يحمل بأجرة لم يجب ضمان السفن لأنها أمانة وأما المال فهو مال في اليد أجير مشترك فإن كان معه صاحبه لم يضمن ولم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير المشترك وأن كان أحدهما: مفرطاً والآخر غير مفرط كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين. فصل: إذا كان في السفينة متاع لرجل فثقلت السفينة فقال رجل لصاحب المتاع ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه فألقاه وجب عليه الضمان وقال أبو ثور لا يجب لأنه ضمان ما لم يجب وهذا خطأ لأن ذلك ليس بضمان لأن الضمان يفتقر إلى مضمون عنه وليس ههنا مضمون عنه وإنما هو استدعاء إتلاف بعوض صحيح فإن قال ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ألف فألقاه لزمه بحصته فإن كانوا عشرة لزمه مائة وإن كانوا خمسة لزمه مائتان لأنه جعل الألف على الجميع فلم يلزمه أكثر من الحصة فإن قال أنا أقيه على أني وهم ضمناء فألقاه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الحصة لما ذكرناه والثاني: يجب عليه ضمان الجميع لأنه باشر الإتلاف. فصل: فإن رمي عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق فرجع الحجر وقتل أحدهم سقط من ديته العشر ووجب تسعة أعشار الدية على الباقين لأنه مات من فعله وفعلهم فهدر بفعله العشر ووجب الباقي على التسعة. فصل: وإذا وقع رجل في بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فإن مات الأول وجبت ديته على الثاني لما روى علي بن رباح اللخمي أن بصيراً كان يقود أعمى

فوقعا في بشر فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم: يا أيها الناس لقيت منكرا ... يعقل الأعمى الصحيح المبصرا ... خرا معاً كلاهما تكسراً ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه فوجبت ديته عليه وإن مات الثاني هدرت ديته لأنه لا صنع لغيره في هلاكه وإن ماتا جميعاً وجبت دية الأول على الثاني وهدرت دية الثاني لما ذكرناه فإن جذب الأول الثاني ومات الأول هدرت ديته لأنه مات بفعل نفسه وإن مات الثاني وجبت ديته على الأول لأنه بجذبه وإن وقع الأول ثم وقع الثاني ثم وقع الثالث فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع وجبت دية الأول على الثاني والثالث لأنه مات بوقوعهما عليه وتجب دية الثاني على الثالث لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته وتهدر دية الثالث لأنه مات من وقوعه فإن جذب بعضهم بعضاً بأن وقع الأول وجذب الثاني وجذب الثاني الثالث وماتوا وجب للأول نصف دية على الثاني لأنه مات من فعله بجذب الثاني ومن فعل الثاني بجذب الثالث فهدر النصف بفعله ووجب النصف ويجب للثاني نصف الدية على الأول لأنه جذبه ويسقط نصفها لأنه جذب الثالث ويجب للثالث الدية لأنه لا فعل له في هلاك نفسه وعلى من تجب فيه وجهان: أحدهما: أنها تجب على الثاني لأنه هو الذي جذبه والوجه الثاني أنها تجب على الأول والثاني: نصفين لأن الثاني جذبه والأول جذب الثاني فاضطره إلى جذب الثالث وكان كل واحد منهما سبباً في هلاكه فوجبت الدية عليهما. فصل: وإن تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه قصد قتله فجرحه دفعا عن نفسه فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه أنه ما قصد قتل صاحبه فإذا حلفا وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه لأن الجرح قد وجد وما يدعيه كل واحد منهما من قصد الدفع عن نفسه لم يثبت فوجب الضمان.

باب الديات

باب الديات دية الحر المسلم مائة من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وقريء على أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل فإن كانت الدية في عمد أو شبه عمد وجبت مائة مغلظة أثلاثاً ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وقال أبو

ثور: دية شبه العمد أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لأنه لما كانت كدية الخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة كانت كدية الخطأ في التخميس وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها". وروى مجاهد عن عمر رضي الله عنه أن دية شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة ويخالف الخطأ فإنه لم يقصد القتل ولا الجناية فخفف من كل وجه وفي شبه العمد لم يقصد القتل فجعل كالخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة وقصد الجناية فجعل كالعمد في التغليظ بالأسنان وهل يعتبر في الخلفات السن مع الحمل فيه قولان: أحدهما: لا يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" ولم يفرق والثاني: يعتبر أن تكون ثنيات فما فوقها لأنه أحد أقسام أعداد إبل الدية فاختص بسن كالثلاثين وإن كانت في قتل الخطأ والقتل في غير الحرم وفي غير الأشهر الحرم والمقتول غير ذي رحم محرم للقاتل وجبت دية مخففة أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة لما روى أبو عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في الخطأ عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض وعن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون دية الخطأ مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وإن كان القتل في الحرم أوفي أشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل وجبت دية مغلظة لما روى مجاهد أن عمر رضي الله عنه قضى فيمن قتل في الحرم أوفي الأشهر الحرم أو محرماً بالدية وثلث الدية وروى أبو النجيح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في امرأة قتلت في الحرم فجعل الدية ثمانية آلاف ستة آلاف الدية وألفين للحرم وروى نافع بن جبير أن رجلاً قتل في البلد الحرام في شهر حرام فقال ابن عباس رضي الله عنه اثنا عشر ألفاً وللشهر الحرام أربعة ألاف وللبلد الحرام أربعة آلاف فكملها عشرين ألفاً فإن كان القتل في المدينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يغلظ لأنها كالحرام في تحرم الصيد فكذلك في تغليظ الدية والثاني: لا تغلظ لأنها لا مزية لها على غيرها في تحريم القتل بخلاف الحرم واختلف قوله في عمد الصبي والمجنون فقال في أحد القولين عمدهما خطأ لأنه لو كان عمداً لأوجب القصاص فعلى هذا يجب بعمدهما دية مخففة والثاني: أن عمدهما عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل فعلى هذا يجب بعمدهما دية مغلظة وما يجب فيه

كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة لأنه كالنفس في وجوب القصاص والدية فكان كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة. فصل: وتجب الدية من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الدية من القاتل أو العاقلة كما تجب الزكاة من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الزكاة وإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي وعند البعض من العراب أخذ من كل واحد منهم من الصنف الذي عنده وإن اجتمع في ملك كل واحد منهم صنفان ففيه وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ من الصنف الأكثر فإن استويا دفع مما شاء منهما والثاني: يؤخذ من كل صنف بقسطه بناء على القولين فيمن وجبت عليه الزكاة وما له أصناف وإن لم يكن عند من تجب عليه الدية إبل وجب من غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب أقرب البلاد إليه كما قلنا في زكاة الفطر وإن كانت إبل من تجب عليه الدية مراضاً أو عجافاً كلف أن يشتري إبلاً صحاحاً من النصف الذي عنده لأنه بدل متلف من غير جنسه فلا يؤخذ فيها معيب كقيمة الثوب المتلف وإن أراد الجاني دفع العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الولي على قبوله وإن أراد الولي أخذ العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الجاني على دفعه لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل لم يجز الإجبار فيه على دفع العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الأمثال وإن تراضيا على العوض جاز لأنه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضي كالبدل في سائر المتلفات. فصل: وإن أعوزت الإبل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ففيه قولان: قال في القديم يجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في النفس مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً فعلى هذا إن كان في قتل يوجب التغليظ غلظ بثلث الدية لما رويناه عن عمر وعثمان وابن عباس في تغليظ الدية للحرم وقال في الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة ديناراً وثمانية آلاف درهم وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام عمر خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة ولأن ما ضمن بنوع من المال وتعذر وجبت قيمته كذوات الأمثال.

فصل: ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم لما روى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم وأما الوثني إذا دخل بأمان وعقدت له هدنة فديته ثلثا عشر دية المسلم لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل ديته وإن لم يعرف وجبت فيه دية المجوسي لأنه متحقق وما زاد مشكوك فيه فلم يجب وقال أبو إسحاق إن كان متمسكاً بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين وإن كان متمسكاً بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم لأنه مولود على الفطرة ولم يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم والمذهب الأول لأنه كافر فلم تكمل ديته كالذمي وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية وهو في حال الاستقرار مسلم وإن جرح مسلم مرتداً فأسلم ومات من الجرح لم يضمن وقال الربيع فيه قول آخر أنه يضمن لأن الجرح استقر وهو مسلم قال أصحابنا هذا من كيس الربيع والمذهب الأول لأن الجرح وجد فيما استحق إتلافه فلم يضمن سرايته كما لو قطع الإمام يد السارق فمات منه. فصل: ودية المرأة نصف دية الرجل لأنه روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. فصل: ودية الجنين الحر غرة عبد أو أمة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنيتها غرة عبد أو أمة فقال حمل بن النابغة الهذلي كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه" 1. وإن ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاخ أو

_ 1 رواه البخاري في كتاب الطب باب 46. مسلم في كتاب القسامة حديث 36. أبو داود في كتاب الديات باب 19. النسائي في كتاب القسامة باب 39. أحمد في مسنده 2/274.

بطن امراة تجد حركة في بطنها فسكنت الحركة لم يجب عليه شيء لأنه يمكن أن يكون ريحاً فانفشت فلم يجب الضمان مع الشك وإن ضرب بطن امرأة فألقت مضغة لم تظهر فيها صورة الآدمي فشهد أربع نسوة أن فيها صورة الآدمي وجبت فيها الغرة لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهن وإن ألقت مضغة لم تتصور فشهد أربع نسوة أنه خلق آدمي ولو بقي لتصور فعلى ما بيناه في كتاب عتق أم الولد وإن ضرب بطن امرأة فألقت يداً أو رجلاً أو غيرهما من أجزاء الآدمي وجبت عليه الغرة لأنا تيقنا أنه من جنين والظاهر أنه تلف من جناية فوجب ضمانه وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأنه يجوز أن يكون جنيناً برأسين أو أربعة أيد فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك وإن ضرب بطنها فألقت جنيناً فاستهل أو تنفس أو شرب اللبن ومات في الحال أو بقي متألماً إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة وقال المزني إن ألقته لدون ستة أشهر ومات ضمنه بالغرة ولا يلزمه كاملة لأنه لم يتم له حياة وهذا خطأ لأننا تيقنا حياته والظاهر أنه تلف من جنايته فوجب عليه الدية كاملة وإن ألقته حياً وجاء آخر وقتله فإن كان فيه حياة مستقرة كان الثاني هو القاتل في وجوب القصاص والدية الكاملة والأول ضارب في وجوب التعزير وإن قتله وليس فيه حياة مستقرة فالقاتل هو الأول وتلزمه الدية والثاني: ضارب وليس بقاتل لأن جنايته لم تصادف حياة مستقرة وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً وبقي زماناً سالماً غير متألم ثم مات لم يضمنه لأن الظاهر أنه لم يمت من الضرب ولا يلزمه ضمانه وإن ضربها فألقت جنيناً فاختلج ثم سكن وجبت فيه الغرة دون الدية لأنه يجوز أن يكون اختلاجه للحياة ويجوز أن يكون بخروجه من مضيق لأن اللحم الطري إذا حصل في مضيق القبض فإذا خرج منه اختلج فلا تجب الدية الكاملة بالشك. فصل: ولا يقبل في الغرة ما له دون سبع سنين لأن الغرة هي الخيار ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار بل يحتاج إلى من يكفله ولا يقبل الغلام بعد خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا الجارية بعد عشرين سنة لأنها تتغير وتنقص قيمتها فلم تكن من الخيار ومن أصحابنا من قال: يقتل ما لم يطعن في السن عبداً كان أو أمة ولا يقبل إذا طعن في

السن لأنه يستغني بنفسه قبل أن يطعن في السن ولا يستغني إذا طعن في السن ولا يقبل فيه خصي وإن كثرت قيمته ولا معيب وإن قل عيبه لأنه ليس من الخيار ولا يقبل إلا ما يساوي نصف عشر الدية لأنه روي ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لأنه لم يكمل بالحياة ولا يمكن إسقاط ضمانه لأنه خلق بشر فضمن بأقل ما قدر به الأرش وهو نصف عشر الدية لأنه قدر به أرش الموضحة ودية السن ولا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها كما لا يقبل في دية النفس غير الإبل مع وجودها فإن أعوزت الغرة وجب خمس من الإبل لأن الإبل هي أصل في الدية فإن أعوزت وجبت قيمتها في أحد القولين أو خمسون ديناراً أو ستمائة درهم في القول الآخر فإن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة وإن كانت عمداً أو عمد خطأ وجبت دية مغلظة كما قلنا في الدية الكاملة وإن كان أحد أبويه نصرانياً والآخر مجوسياً وجب فيه نصف عشر دية نصراني لأن في الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب في الآخر ما يسقط غلب الإيجاب ولهذا لو قتل المحرم صيداً متولداً بين مأكول وغير مأكول وجب عليه الجزاء وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني ثم أسلمت ثم ألقت جنيناً ميتاً وجب فيه نصف عشر دية مسلم لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين مسلم عند استقرار الجناية فوجب فيه عشر دية مسلم وما يجب في الجنين يرثه ورثته لأنه بدل حر فورث عنه كدية غيره.

باب أروش الجنايات

باب أروش الجنايات والجنايات التي توجب الأورش ضربان: جروح وأعضاء فأما الجروح فضربان شجاج في الرأس والوجه وجروح فيما سواهما من البدن فأما الشجاج فهي عشر: الخارصة وهي التي تكشط الجلد والدامية وهي التي يخرج منها الدم والباضعة وهي التي تشق اللحم والمتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم والسمحاق وهي التي تسميها أهل البلد الملطاط وهي التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم والموضحة وهي التي تكشف عن العظم والهاشمية وهي التي تهشم العظم والمنقلة وتسمى أيضاً المنقولة وهي التي تنقل العظم من مكان إلى مكان والمأمومة وتسمى أيضاً الآمة وهي التي تصل إلى أم الرأس وهي جلدة رقيقة تحيط بالدماغ والدامغة وهي التي تصل إلى الدماغ. فصل: والذي يجب فيه أرش مقدر من هذه الشجاج أربع وهي: الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة فأما الموضحة فالواجب فيها خمس من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن

بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وفي الموضحة خمس من الإبل ويجب ذلك في الصغيرة والكبيرة وفي البارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يقع على الجميع وإن أوضح موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين لأنهما موضحتان وإن أزال الحاجز بينهما وجب أرش موضحة لأنه صار الجميع بفعله موضحة واحدة فصار كما لو أوضح الجميع من غير حاجز وإن تأكل ما بينهما وجب أرش موضحة واحدة لأن سراية فعلهه كفعله وإن أزال المجني عليه الحاجز وجب على الجاني أرش الموضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره وإن جاء آخر فأزال الحاجز وجب على الأول أرش الموضحتين وعلى الآخر أرش موضحة لأن فعل أحدهما: لا يبنى على الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن وترك الجلد الذي فوقهما ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر والثاني: يلزمه أرش موضحة لاتصالهما في الباطن وإن شج رأسه شجة واحدة بعضها موضحة وبعضها باضعة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة فلأن لا يلزمه والإيضاح في البعض أولى وإن أوضح جميع رأسه وقدره عشرون إصبعاً ورأس الجاني خمس عشرة أصبعاً اقتص في جميع رأسه وأخذ عن الربع الباقي ربع أرش موضحة وخرج أبوعلي بن أبي هريرة وجهاً آخر أنه يأخذ عن الباقي أرش موضحة لأن هذا القدر لو انفرد لوجب فيه أرش موضحة وهذا خطأ لأنه إذا انفرد كان موضحة فوجب أرشها وههنا هو بعض موضحة فلم يجب فيه إلا فيه إلا ما يخصه. فصل: ويجب في الهاشمة عشر من الإبل لما روى قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت أنه قال في الهاشمة عشر من الإبل وإن ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه تجب فيه الحكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح فأوجب الحكومة ككسر عظم الساق والثاني: وهو قول أبي إسحاق إنه يجب فيه خمس من الإبل وهو الصحيح لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عليه عشر من الإبل فدل على أن الخمس الزائدة لأجل الهاشمة وقد وجدت الهاشمة فوجب فيها الخمس وإن هشم هاشمتين بينهما حاجز وجب عليه أرش هاشمتين كما قلنا في الموضحتين. فصل: ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في المنقلة خمس عشرة من الإبل وإن أوضح رأسه موضحة

ونزل فيها إلى الوجه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه أرش موضحتين لأنه أوضح في عضوين فوجب أرش موضحتين كما لو فصل بينهما والثاني: يجب أرش موضحة لأنها موضحة واحدة فأشبه إذا أوضح في الهامة موضحة ونزل فيها إلى الناصية وإن أوضح في الرأس موضحة ونزل فيها إلى القفا وجب عليه أرش الموضحة في الرأس ويجب عليه حكومة في الجراحة في القفا لأنه ليس بمحل للموضحة فانفرد الجرح فيه بالضمان. فصل: ويجب في المأمومة ثلث الدية لما روى عكرمة بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المأمومة بثلث الدية وأما الدامغة فقد قال بعض أصحابنا يجب فيها ما يجب في المأمومة وقال قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي البصري يجب عليه أرش المأمومة وحكومة لأن خرق الجلد جناية بعد المأمومة فوجب لأجلها حكومة. فصل: وإن شج رأس رجل موضحة فجاء آخر فجعلها هاشمة وجاء آخر فجعلها منقلة وجاء آخر فجعلها مأمومة وجب على الأول خمس من الإبل وعلى الثاني خمس وعلى الثالث خمس وعلى الرابع ثمان عشر بعيراً وثلث لأن ذلك جناية كل واحد منهم. فصل: وأما الشجاج التي قبل الموضحة وهي خمسة الخارصة والدامية والباضعة والمتلاحقة والسمحاق فينظر فيها فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كانت في الرأس موضحة فشج رجل بجنبها باضعة أو متلاحمة وعرف قدر عمقها ومقدارها من الموضحة من نصف أو ثلث أو ربع وجب عليه قدر ذلك من أرش الموضحة لأنه يمكنه تقدير أرشها بنفسها فلم تقدر بغيرها وإن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة وجبت فيها الحكومة لأن تقدير الأرش بالشرع ولم يرد الشرع بتقدير الأرش فيما دون الموضحة وتعذر معرفة قدرها من الموضحة فوجبت فيها الحكومة. فصل: وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه فضربان: جائفة وغير جائفة فأما غير الجائفة فهي الجراحات التي لا تصل إلى جوف الواجب فيها الحكومة فإن أوضح عظماً في غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التي في الرأس والوجه في الاسم ولا تساويها في الشين والخوف عليه منها فلم تساوها في تقدير الأرش وأما الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف من البطن أو الظهار أو الورك أو الصدر أو ثغرة النحر فالواجب فيها ثلث الدية لما روي في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في الجائفة ثلث الدية فإن أجاف جائفتين بينهما حاجز وجب في كل واحدة منهما ثلث الدية وإن أجاف جائفة فجاء آخر ووسعها في الظاهر والباطن وجب على الثاني ثلث الدية لأن هذا القدر لو انفرد لكان

جائفة فوجب فيه أرش الجائفة فإن وسعها في الظاهر دون الباطن أوفي الباطن دون الظاهر وجب عليه حكومة لأن جنايته لم تبلغ الجائفة وإن جرح فخذه وجر السكين حتى بلغ الورك وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه وجب عليه أرش الجائفة وحكومة في الجراحة لأن الجراحة في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما قلنا فيمن نزل في موضحة الرأس إلى القفا وإن طعن بطنه بسنان فأخرجه من ظهره أو طعن ظهره فأخرجه من بطنه وجب عليه في الداخل إلى جوف أرش الجائفة لأنها جائفة وفي الخارج منه إلى الظاهر وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه جائفة ويجب فيها أرش جائفة أخرى لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت من الجوف جائفتان ولأنها جراحة نافذة إلى الجوف فوجب فيها أرش جائفة كالداخلة إلى الجوف والثاني: ليس بجائفة ويجب فيها حكومة لأن الجائفة ما تصل من الظاهر إلى الجوف وهذه خرجت من الجوف إلى الظاهر فوجب فيها حكومة. فصل: وإن طعن وجنته فهشم العظم ووصلت إلى الفم ففيه قولان: أحدهما: أنها جائفة ويجب فيها ثلث الدية لأنها جراحة من ظاهر إلى جوف فأشبهت الجراحة الواصلة إلى الباطن والثاني: أنه ليس بجائفة لأنه لا تشارك الجائفة في إطلاق الاسم ولا تساويها في الخوف عليه فلم تساوها في أرشها فعلى هذا يجب عليه دية هاشمة لأنه هشم العظم ويجب عليه حكومة لما زاد على الهاشمة. فصل: وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت فإن كان قبل الإلتحام لم يلزمه أرش لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة لأنه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في أرش الجائفة وإن كان بعد التحام بعضها لزمه الحكومة لجنايته على ما التحم وتلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في الحكومة. فصل: وإن أدخل خشبة أو حديدة في دبر إنسان فخرق حاجزاً في الباطن ففيه وجهان بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن: أحدهما: يلزمه أرش جائفة لأنه خرق إلى الجوف والثاني: تلزمه حكومة لبقاء الحاجز الظاهر. فصل: وإن أذهب بكارة امرأة بخشبة أو نحوها لزمته حكومة لأنه إتلاف حاجز وليس فيه أرش مقدر فوجبت فيه الحكومة وإن أذهبها بالوطء لم يلزمه أرش لأنها إن طاوعته فقد أذنت فيه وإن أكرهها دخل أرشها في المهر لأنا نوجب عليه مهر بكر.

فصل: وأما الأعضاء فيجب الرش في إتلاف كل عضو فيه منفعة أو جمال فيجب في إتلاف العينين الدية وفي أحدهما: نصفها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب كتبه لعمرو بن حزم: "هذا كتاب الجروح في النفس مائة من الإبل وفي العين خمسون من الإبل". فأوجب في كل عين خمسين من الإبل فدل على أنه يجب في العينين مائة ولأنها من أعظم الجوارح جمالاً ومنفعة ويجب في عين الأعور نصف الدية للخبر ولأن ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع فقد نظيره كاليد وإن جنى على عينيه أو رأسه أو غيرهما فذهب ضوء العينين وجبت الدية لأنه أتلف المنفعة المقصودة بالعضو فوجبت ديته كما لو جنى على يده فشلت وإن ذهب الضوء من إحداهما وجب نصف الدية لأن ما أوجب الدية في إتلافهما أوجب نصف الدية في إتلاف إحداهما كاليدين وإن أزال الضوء فأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنه لما عاد علمنا أنه لم يذهب لأن الضوء إذا ذهب لم يعد وإن زال الضوء فشهد عدلان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده فإن لم يقدرا لعوده مدة معلومة لم ينتظر لأن الانتظار إلى غير مدة معلومة يؤدي إلى إسقاط موجب الجناية وإن قدرا مدة معلومة انتظر وإن عاد الضوء لم يجب شيء وإن لم يعد أحذ الجاني بموجب الجناية من القصاص أو الدية وإن مات قبل انقضاء المدة لم يجب القصاص لأنه موضع شبهة لأنه يجوز أن لا يكون بطل الضوء ولعله لو عاش لعاد والقصاص يسقط بالشبهة وأما الدية فقد قال فيمن قلع سناً وقال أهل الخبرة يرجى عده إلى مدة فمات قبل انقضائها إن في الدية قولين: أحدهما: تجب لأنه أتلف ولم يعد والثاني: لا تجب لأنه لم يتحقق الإتلاف ولعله لو بقي لعاد فمن أصحابنا من جعل في دية الضوء قولين ومنهم من قال تجب دية الضوء قولاً واحداً لأن عود الضوء غير معهود بخلاف السن فإن عودها معهود. فصل: فإن جنى على عينيه فنقض الضوء منهما فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه وإن لم يعرف قدر النقصان بأن ساء إدراكه وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة وإن نقص الضوء في إحدى العينين عصبت العليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص في موضع يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول لا أراه ويمسح قدر المسافة ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص إلى أن يراه ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية بقسطها.

فصل: وإن جنى على عين صبي أو مجنون فذهب ضوء عينه وقال أهل الخبرة قد زال الضوء ولا يعود ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب عليه في الحال شيء حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويدعي زوال الضوء لجواز أن لا يكون الضوء زائلاً والقول الثاني أنه يجب القصاص أو الدية لأن الجناية قد وجدت فتعلق بها موجبها. فصل: وإن جنى على عين فشخصت أو أحولت وجبت عليه حكومة لأنه نقصان جمال من غير منفعة فضمن بالحكومة وإن أتلف عيناً قائمة وجبت عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيها الحكومة. فصل: ويجب في الجفون الدية لأن فيها جمالاً كاملاً ومنفعة كاملة لأنها تقي العين من كل ما يؤذيها ويجب في كل واحد منها ربع الدية لأنه محدود لأنه ذو عدد تجب الدية في جميعها فوجب في كل واحد منها ما يخصها من الدية كالأصابع وإن قلع الأجفان والعينين وجب عله ديتان لأنهما جنسان جب بإتلاف كل واحد منهما الدية فوجب بإتلافهما ديتان كاليدين والرجلين فإن أتلف الأهداب وجبت عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فضمن بحكومة وإن قلع الأجفان وعليها الأهداب ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب للأهداب حكومة لأنه شعر نابت في العضو المتلف فلا يفرد بالضمان كشعر الذراع والثاني: يجب للأهداب حكومة لأن فيها جمالاً ظاهراً فأفردت عن العضو بالضمان. فصل: ويجب في الأذنين الدية وفي أحدهما: نصفها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم في الأذن خمسون من الإبل فأوجب في الأذن خمسين من الإبل فدل على أنه يجب في الأذنين مائة ولأن فيها جمالاً ظاهراً ومنفعة مقصودة وهو أنها تجمع الصوت وتوصله إلى الدماغ فوجب فيها الدية كالعين وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه من الدية بقسطه لأن ما وجبت الدية فيه وجبت في بعضه بقسطه كالأصابع وإن ضرب أذنه فاستحشفت ففيه قولان: أحدهما: تجب عليه الدية كما لو ضرب يده فشلت والثاني: تجب عليه الحكومة لأن منفعة الأذن جمع الصوت وذلك لا يزول بالاستحشاف بخلاف اليد فإن منفعتها بالبطش وذلك يزول بالشلل وإن قطع إذناً مستحشفة فإن قلنا إنه إذا ضربها فاستحشفت وجبت عليه الدية وجب في المستحشفة الحكومة كما لو قطع يداً شلاء وإن قلنا إنه تجب عليه الحكومة وجب في المستحشفة

الدية كما لو قطع يداً مجروحة فإن قطع أذن الأصم وجبت عليه الدية لأن عدم السمع نقص في غير الأذن فلا يؤثر في دية الأذن. فصل: ويجب في السمع الدية لما روى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بمنفعة فأشبهت حاسة البصر وإن أذهب السمع في أحد الأذنين وجب نصف الدية لأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما: كالأذنين وإن قطع الأذنين وذهب السمع وجب عليه ديتان لأن السمع في غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما: في الآخر وإن جنى عليه فزال السمع وأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنه لم يذهب السمع لأنه لو ذهب لما عاد وإن ذهب السمع فشهد شاهدان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده إلى مدة فالحكم فيه كالحكم في العين إذا ذهب ضوءها فشهد شاهدان أنه يرجى عوده قد بيناه وإن نقص السمع وجب أرش ما نقص فإن عرف القدر الذي نقص بأن كان يسمع الصوت من مسافة فصار لا يسمع إلا من بعضها وجب فيه من الدية بقسطه وإن لم يعرف القدر بأن ثقلت أذنه وساء سمعه وجبت الحكومة وإن نقص السمع في أحد الأذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحة ويؤمر رجل حتى يصيح من موضع يسمعه ثم لا يزال يبعد ويصيح إلى أن يقول لا أسمع ثم تمسح المسافة ثم تطلق العليلة وتسد الصحيحة ثم يصيح الرجل ثم لا يزال يقرب ويصيح إلى أن يسمعه وينظر ما بين المسافتين ويجب من الدية بقسطه. فصل: ويجب في مارن الأنف الدية لما روى طاوس قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا أو عب مارنه جدعاً الدية ولأنه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة ولأنه يجمع الشم ويمنع من وصول التراب إلى الدماغ والأخشم كالأشم في وجوب الدية لأن عدم الشم نقص في غير الأنف فلا يؤثر في دية الأنف ويخالف العين القائمة فإن عدم البصر نقص في العين فمنع من وجوب الدية في العين وإن قطع جزءاً من المارن كالنصف والثلث وجب فيه من الدية بقدره لأن ما ضمن بالدية يضمن بعضه بقدره من الدية كالأصابع وإن قطع أحد المنخرين ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أن عليه نصف الدية لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة والثاني: يجب عليه ثلث الدية لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء المنخرين والحاجز فوجب في كل واحد من المنخرين ثلث الدية وإن قطع أحد المنخرين والحاجز وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية للحاجز وعلى الوجه الثاني يجب عليه ثلثا الدية ثلث للحاجز وثلث

للمنخر وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة وإن قطع المارن وقصبة الأنف وجب عليه الدية في المارن والحكومة في القصبة لأن القصبة تابعة فوجب فيها الحكومة كالذراع مع الكف وإن جنى على المارن فاستحشف ففيه قولان كالقولين فيمن جنى على الأذن حتى استحشف: أحدهما: تجب عليه الدية والثاني: تجب عليه الحكومة وقد مضى وجههما في الأذن. فصل: وتجب بإتلاف الشم الدية لأنها حاسة تختص بمنفعة مقصودة فوجب بإتلافها الدية كالسمع والبصر وإن ذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب في إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنين وإن جنى عليه فنقص الشم وجب عليه أرش ما نقص وإن أمكن أن يعرف قدر ما نقص وجب فيه من الدية بقدره وإن لم يمكن معرفة قدره وجبت فيه الحكومة لما بيناه في نقصان السمع وإن ذهب الشم وأخذت فيه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنا تبينا أنه لم يذهب وإنما حال دونه حائل لأنه لو ذهب لم يعد. فصل: وإن جنى على رجل جناية لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضرب رأسه بحجر فزال عقله وجب عليه الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم وفي العقل الدية ولأن العقل أشرف من الحواس لأن به يتميز الإنسان من البهيمة وبه يعرف حقائق المعلومات ويدخل في التكليف فكان بإيجاب الدية أحق وإن نقص عقله فإن كان يعرف قدر ما نقص بأن يجن يوماً ويفيق يوماً وجب عليه من الدية بقدره لأن ما وجبت فيه الدية وجب بعضها في بعضه كالأصابع وإن لم يعرف قدره بأن صار إذا سمع صيحة زال عقله ثم يعود وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر إيجاب جزء مقدر من الدية فعدل إلى الحكومة فإن كانت الجناية لها أرش مقدر نظرت فإن بلغ الأرش قدر الدية أو أكثر لم يدخل في دية العقل ولم تدخل فيه دية العقل لما روى أبو المهلب عم أبي قلابة أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب عقله وسمعه ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات وهو حي وإن كان الأرش دون الدية كأرش الموضحة ونحوه ففيه قولان: قال في القديم يدخل في دية العقل لأنه معنى يزول التكليف بزواله فدخل أرش الطرف في ديته كالنفس وقال في الجديد: لا يدخل وهو الصحيح لأنه لو دخل في ديته ما دون الدية لدخلت فيها الدية كالنفس ولأن العقل في محل والجناية في محل آخر فلا يدخل أرشها في ديتها كما لو أوضح رأسه فذهب بصره وإن شهر سيفاً على صبي أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة عظيمة فزال عقله وجبت عليه الدية لأن ذلك سبب لزوال عقله وإن شهر سيفاً على بالغ متيقظ أو صاح عليه فزال عقله لم تجب

عليه الدية لأن ذلك ليس بسبب لزوال عقله. فصل: ويجب في الشفتين الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم في الشفتين الدية ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ومنافع كثيرة لأنهما يقيان الفم من كل ما يؤذيه ويردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام ويجب في إحداهما نصف الدية لأن كل شيئين وجب فيهما الدية وجب في أحدهما: نصف الدية كالعينين والأذنين وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره كما قلنا في الأذن والمارن وإن جنى عليهما فيبستا وجبت عليه الدية لأنه أتلف منافعهما فوجبت عليه الدية كما لو جنى على يدين فشلتا فإن تقلصنا وجبت عليه الحكومة لأن منافعهما لم تبطل وإنما حدث بهما نقص. فصل: ويجب في اللسان الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم وفي اللسان الدية ولأن فيه جمالاً ظاهراً ومنافع فأما الجمال فإنه من أحسن ما يتجمل به الإنسان والدليل عليه ما روى محمد بن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "أعجبني جمالك يا عم النبي" فقال يا رسول الله وما الجمال في الرجل قال: "اللسان". ويقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وأما المنافع فإنه يبلغ به الأغراض ويقضى به الحاجات وبه تتم العبادات في القراءة والأذكار وبه يعرف ذوق الطعام والشراب ويستعين به في مضغ الطعام وإن جنى عليه فخرس وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه المنفعة المقصودة فأشبه إذا جنى على اليد فشلت أو على العين فعميت وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدره لأن ما ضمن جميعه بالدية ضمن بعضه ببعضها كالأصابع وبقسم على حروف كلامه لأن حروف اللغات مختلفة الإعداد فإن في بعض اللغات ما عدد حروف كلامها أحد وعشرون حرفاً ومنها ما عدد حروفها ستة وعشرون وحروف لغة العرب ثمانية وعشرون حرفاً فإن كان المجني عليه يتكلم بالعربية قسمت ديته على ثمانية وعشرين حرفاً وقال أبو سعيد الأصطخري: يقسم على حروف اللسان وهي ثمانية عشر حرفاً ويسقط حروف الحلق وهي ستة الهمزة والهاء والحاء والعين والغين ويسقط حروف الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو والمذهب الأول لأن هذه الحروف وإن كان مخرجها الحلق والشفة إلا أن الذي ينطق بها هو اللسان ولهذا لا ينطق بها الأخرس وإن ذهب حرف من

كلامه وعجز به عن كلمة وجب عليه أرش الحرف لأن الضمان يجب لما تلف وإن جنى على لسانه فصار ألثغ وجب عليه دية الحرف الذي ذهب لأن ما بدل به لا يقوم مقام الذاهب وإن جنى عليه فحصل في لسانه ثقل لم يكن أو عجلة لم تكن أو تمتمة لم تجب عليه دية لأن المنفعة باقية وتجب عليه حكومة لما حصل من النقص والشين. فصل: وإن قطع ربع لسانه فذهب ربع كلامه وجب عليه ربع الدية وإن قطع نصف لسانه وذهب نصف كلامه وجب عليه نصف الدية لأن الذي فات من العضو والكلام سواء في القدر فوجب من الدية بقدر ذلك فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب عليه نصف الدية وإن قطع نصف اللسان وذهب ربع الكلام وجب عليه نصف الدية واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال العلة فيه أن ما يتلف من اللسان مضمون وما يذهب من الكلام مضمون وقد اجتمعا فوجب أكثرهما وقال أبو إسحاق الاعتبار باللسان إلا أنه إذا قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام دل ذهاب نصف الكلام على شلل ربع آخر من اللسان فوجب عليه نصف الدية ربعها بالقطع وربعها بالشلل فإن قطع ربع اللسان وذهب نصف الكلام وقطع آخر ما بقي من اللسان وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتباراً بما بقي من اللسان ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية وحكومة لأنه قطع من اللسان نصفاً صحيحاً وربعاً أشل وإن قطع واحد نصف لسانه وذهب ربع الكلام وجاء الثاني وقطع الباقي وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتباراً بما ذهب من الكلام ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية اعتباراً بما قطع من اللسان وإن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فاقتص منه فذهب نصف كلامه فقد استوفى المجني عليه حقه وإن ذهب ربع كلامه أخذ المجني عليه مع القصاص ربع الدية حقه فإن ذهب بالقصاص ثلاثة أرباع كلامه لم يضمن الزيادة لأنه ذهب بقود مستحق. فصل: وإن كان لرجل لسان له طرفان فقطع رجل أحد الطرفين فذهب كلامه وجبت عليه الدية وإن ذهب ربعه وجب عليه ربع الدية وإن لم يذهب من الكلام شيء نظرت فإن كانا متساويين في الخلقة فهما كاللسان المشقوق ويجب بقطعهما الدية وبقطع أحدهما: نصف الدية وإن كان أحدهما: تام الخلقة والآخر ناقص الخلقة فالتام هو اللسان الأصلي والآخر خلقة زائدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه دية وحكومة وإن قطع التام وجبت عليه دية وإن قطع الناقص وجبت عليه حكومة.

فصل: وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشيء من المذاق وهي خمسة الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه حاسة لمنفعة مقصودة فوجبت عليه الدية كما لو أتلف عليه السمع أو البصر وإن نقص بعض الذوق نظرت فإن كان النقصان لا يتقدر بأن كان يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كما لها وجبت عليه الحكومة لأنه نقص لا يمكن تقدير الأرش فيه فوجبت فيه حكومة وإن كان نقصاً يتقدر بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس ويدرك الباقي وجب عليه خمس الدية وإن لم يدرك اثنين وجب عليه خمسان لأنه يتقدر المتلف فيقدر الأرش. فصل: وإن قطع لسان أخرس فإن كان بقي بعد القطع ذوقه وجبت عليه الحكومة لأنه عضو بطلت منفعته فضمن بالحكومة كالعين القائمة واليد الشلاء وإن ذهب ذوقه بالقطع وجبت عليه دية كاملة لاتلاف حاسة الذوق وإن قطع لسان طفل فإن كان قد تحرك بالبكاء أو بما يعبر عنه اللسان كقوله بابا وماما وجبت عليه الدية لأنه لسان ناطق وإن لم يكن تحرك بالبكاء ولا بما يعبر عنه اللسان فإن كان بلغ حداً يتحرك اللسان فيه بالبكاء والكلام وجبت الحكومة لأن الظاهر أنه لم يكن ناطقاً لأنه لو كان ناطقاً لتحرك بما يدل عليه وإن قطعه قبل أن يمضي عليه زمان يتحرك فيه اللسان وجبت عليه الدية لأن الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه وإن لم يظهر فيها بطش. فصل: وإن قطع لسان رجل فقضى عليه بالدية ثم نبت لسانه فقد قال فيمن قلع سن من ثغر ثم نبت سنه أنه على قولين: أحدهما: يرد الدية والثاني: لا يرد فمن أصحابنا من جعل اللسان أيضاً على قولين وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا كان في السن التي لا تنبت في العادة إذا نبتت قولان وجب أن يكون في اللسان أيضاً قولان ومنهم من قال لا يرد الدية في اللسان قولاً واحداً وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة والفرق بينه وبين السن أن في جنس السن ما يعود وليس في جنس اللسان ما يعود فوجب أن يكون ما عاد هبة مجددة فلم يسقط به بدل ما أتلف عليه وإن جنى على لسانه فذهب كلامه وقضى عليه بالدية ثم عاد الكلام وجب رد الدية قولاً واحداً لأن الكلام إذا ذهب لم يعد فلما عاد علمنا أنه لم يذهب وإنما امتنع لعارض. فصل: ويجب في كل سن خمس من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وفي السن خمس من الإبل والأنياب والأضراس والثنايا والرباعيات في ذلك سواء للخبر ولأنه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كالأصابع وإن قلع ما ظهر وخرج من لحم اللثة وبقي السنخ لزمه دية السن لأن المنفعة

والجمال فيما ظهر فكملت ديته كما لو قطع الأصابع دون الكف فإن عاد هو أو غيره وقلع السنخ المغيب وجبت عليه حكومة لأنه تابع لما ظهر فوجبت فيه الحكومة كما لو قطع الكف بعدما قطع الأصابع وإن قلع السن من أصلها مع السنخ لم يلزمه لما تحتها من السنخ حكومة لأن السنخ تابع لما ظهر فدخل في ديته كالكف إذا قطع مع الأصابع وإن كسر بعض السن طولاً أو عرضاً وجب عليه من دية السن بقدر ما كسر منها من النصف أو الثلث أو الربع لأن ما وجب في جميعه الدية وجب في بعضه من الدية بقدره كالأصابع ويعتبر القدر من الظاهر دون السنخ المغيب لأن الدية تكمل بقطع الظاهر فاعتبر المكسور منه فإن ظهر السنخ المغيب بعلة اعتبر القدر المكسور بما كان ظاهراً قبل العلة لا بما ظهر بالعلة لأن الدية تجب فيما كان ظاهراً فاعتبر القدر المكسور منه. فصل: وإن قلع سناً فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها وجبت فيها دية السن كاليد المريضة وإن ذهب من أجزائها شيء سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقي فإن كانت إحدى ثنيتيه العلياوين أو السفلاوين أقصر من الأخرى فقلع القصير نقص من ديتها بقدر ما نقص منها لأنهما لا يختلفان في العادة فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فلم تكمل ديتها وإن قلع سناً مضطربة نظرت فإن كانت منافعها باقية مع حركتها من المضغ وحفظ الطعام والريق وجبت فيها الدية لبقاء المنفعة والجمال وإن ذهبت منافعها وجبت فيها الحكومة لأنه لم يبق غير الجمال فلم يجب غير الحكومة كاليد الشلاء وإن نقصت منافعها فذهب بعضها وبقي البعض ففيه قولان: أحدهما: يجب فيها الدية لأن الجمال تام والمنفعة باقية وإن كانت ضعيفة فكملت ديتها كما لو كانت ضعيفة من أصل الخلقة والثاني: يجب فيها الحكومة لأن المنفعة قد نقصت ويجهل قدر الناقص فوجب فيها الحكومة وإن ضرب سنه فاصفرت أو احمرت وجبت فيها الحكومة لأن منافعها باقية وإنما نقص بعض جمالها فوجب فيها الحكومة فإن ضربها فاسودت فقد قال في موضع تجب فيها الحكومة وقال في موضع: تجب الدية وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالذي قال تجب فيها الدية إذا ذهبت المنفعة والذي قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة وذكر المزني أنها على قولين واختار أنه يجب فيها الحكومة والصحيح هو الطريق الأول. فصل: وإذا قلع أسنان رجل كلها نظرت فإن قلع واحدة بعد واحدة لكل سن خمس من الإبل فيجب في أسنانه وهي اثنان وثلاثون سناً مائة وستون بعيراً وإن قلعها في دفعة واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه أكثر من دية لأنه جنس ذو

عدد فلم يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين والثاني: أنه يجب في كل سن خمس من الإبل وهو المذهب لحديث عمرو بن حزم ولأن ما ضمن ديته بالجناية إذا انفرد لم تنقص ديته بانضمام غيره إليه كالموضحة. فصل: إذا لمع سن صغير لم يثغر لم يلزمه شيء في الحال لأن العادة في سنه أن يعود وينبت فلم يلزمه شيء في الحال كما لو نتف شعره فإن نبت له مثلها في مكانها لم يلزمه ديتها وهل تلزمه حكومة فيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه كما لو نتف شعره فنبت مثله والثاني: تلزمه حكومة الجرح الذي حصل بالقلع وإن لم تنبت له ووقع الإياس من نباتها وجبت ديتها لأنا تحققنا إتلاف السن وإن مات قبل الإياس من نباتها ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه دية السن لأنه قلع سناً لم تعد والثاني: لا يجب لأن الظاهر أنها تعود وإنما مات بموته وإن نبتت له سن خارجة عن صف الأسنان فإن كانت بحيث ينتفع بها وجبت ديتها وإن كانت بحيث لا ينتفع بها وجبت الحكومة للشين الحاصل بخروجها عن سمت الأسنان فإن نبتت أقصر من نظيرتها وجب عليه من ديتها بقدر ما نقص لأنه نقص بجنايته فصار كما لو كسر بعض سن وإن نبت أطول منها فقد قال بعض أصحابنا لا يلزمه شيء وإن حصل بها شين لأن الزيادة لا تكون من الجناية قال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه تلزمه الحكومة للشين الحاصل بطولها كما تلزمه في الشين الحاصل بقصرها لأن الظاهر أن الجميع حصل بسبب قلع السن وإن نبتت له سن صفراء أوسن خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال فإن قلع سناً من أثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر أنه لا ينبت له مثلها فإن أخذ الدية ثم نبت له مثلها في مكانها ففيه قولان: أحدهما: يجب رد الدية لأنه عاد له مثلها فلم يستحق بدلها كالذي لم يثغر والثاني: أنه لا يجب رد الدية لأن العادة جرت في سن من ثغر أنه لا يعود فإذا عادت كان ذلك هبة مجددة فلا يسقط به ضمان ما أتلف عليه. فصل: ويجب في اللحيين الدية لأن فيهما جمالاً وكمالاً ومنفعة كاملة فوجبت فيهما الدية كالشفتين وإن قلع أحدهما: وتماسك الآخر وجب عليه نصف الدية لأنهما عضوان تجب الدية فيهما فوجب نصف الدية في أحدهما: كالشفتين واليدين وإن قلع اللحيين مع الأسنان وجب عليه دية اللحيين ودية الأسنان ولا تدخل دية أحدهما: في الآخر لأنهما جنسان مختلفان فيجب في كل واحد منهما دية مقدرة فلم تدخل دية إحداهما في دية الأخرى كالشفتين مع الأسنان وتخالف الكف مع الأصابع فإن الكف

تابع للأصابع في المنفعة واللحيان أصلان في الجمال والمنفعة فهما كالشفتين مع الأسنان. فصل: ويجب في اليدين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في اليدين دية". ويجب في إحداهما نصف الدية لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب عمرو بن حزم حين أمره على نجران في اليد خمسون من الإبل واليد التي تجب فيها الدية هي الكف فإن قطع الكف وجبت الدية وإن قطع من نصف الذراع أومن المرفق أومن العضد أومن المنكب وجبت الدية في الكف ووجب فيما زاد الحكومة وقال أبو عبيد بن حرب: الذي تجب فيه الدية هو اليد من المنكب لأن اليد اسم للجميع والمذهب الأول لأن اسم اليد يطلق على الكف والدليل عليه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والمراد به الكف ولأن المنفعة المقصودة من اليد هو البطش والأخذ والدفع وهو بالكف وما زاد تابع للكف فوجبت الدية في الكف والحكومة فيما زاد ويجب في كل أصبع عشر الدية لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل ولا يفضل إصبع على إصبع لما ذكرناه من الخبر ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسنداً: "الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل". ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كاليدين ويجب في كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الأصبع وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع وجب أن يقسم دية الأصبع على عدد الأنامل. فصل: وإن جنى على يد فشلت أو على أصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب عليه ما يجب في قطعها لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعتها ما وجب في إتلافها وإن قطع يد شلاء أو إصبعاً شلاء أو أنملة شلاء وجب عليها الحكومة لأن إتلاف جمال من غير منفعة. فصل: ويجب في الرجلين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجلين: "ويجب في إحداهما نصف الدية". لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الرجل نصف دية". والرجل التي يجب في قطعها نصف الدية فإن قطع من الساق أومن الركبة أومن بعض الفخذ أومن أصل الفخذ وجبت الدية في القدم ووجبت الحكومة فيما زاد لما ذكرناه في اليد ويجب في كل أصبع من أصابع الرجل عشر الدية لما ذكرناه في اليد من حديث عمرو بن حزم ويجب في كل أنملة من غير

الإبهام ثلث دية الأصبع وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لما ذكرناه في اليد فصل: ويجب في قدم الأعرج ويد الأعسم إذا كانتا سليمتين الدية لأن العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص في القدم والعسم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس بنقص في الكف فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف كذكر الخصي وأذن الأصم وأنف الأخشم. فصل: إذا كسر الساعد فجبره مجبر أو خلع كفه فاعوجت ثم جبرها فجبرت وعادت مستقيمة وجبت الحكومة لأنه حصل به نقص وإن لم تعد إلى ما كانت الحكومة أكثر لأن النقص أكثر فإن قال الجاني أنا أعيد خلعها وأعيدها مستقيمة منع من ذلك لأنه استئناف جناية أخرى فإن كابر وخلعه فعاد مستقيماً وجب عليه بهذا الخلع حكومة ولا يسقط ما وجب من الحكومة الأولى لأنها حكومة استقرت بالجناية وما حصل من الاستقامة حصل بمعنى آخر فلم يسقط ما وجب ويخالف إذا جنى على العين فذهب الضوء ثم عاد لأنا نتيقن أن الضوء لم يذهب. فصل: وإن كان لرجل كفان من ذراع فإن كان ليبطش بواحد منهما لم يجب فيهما قود ولا دية لأن منافعهما قد بطلت فصارا كاليد الشلاء ويجب فيهما حكومة لأن فيهما جمالاً وإن كان أحدهما: يبطش دون الآخر فالذي يبطش به هو الأصل فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن كان أحدهما: أكثر بطشاً كان الأصلي هو أكثرهما بطشاً سواء كان الباطش على مستوى الذراع أو منحرفاً عنه لأن الله تعالى جعل البطش في الأصلي فوجب أن يرجع في الاستدلال عليه إليه كما يرجع في الخنثى إلى قوله وإن استويا في البطش فإن كان أحدهما: على مستوى الذراع والآخر منحرفاً عن مستوى الذراع فالأصلي هو الذي على مستوى الذراع فيجب فيه القود أو الدية ويجب في الآخر الحكومة فإن استويا في ذلك فإن كان أحدهما: تام الأصابع والآخر ناقص الأصابع فالأصلي هو التام الأصابع فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن استويا في تمام الأصابع إلا أن في أحدهما: زيادة أصبع لم ترجح الزيادة ولأنه قد يكون الأصبع الزائدة في غير اليد الأصلية فإذا استويا في الدلائل فهما يد واحدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه القود أو الدية ووجب عليه للزيادة

حكومة فإن قطع إحداهما لم يجب القود لعدم المماثلة وعليه نصف دية يد وزيادة حكومة لأنها نصف يد زائدة وإن قطع أصبعاً من إحداهما فعليه نصف دية أصبع وزيادة حكومة لأنها نصف أصبع زائدة وإن قطع أنملة أصبع من إحداهما وجب عليه نصف دية أنملة وزيادة حكومة لأنها نصف أنملة زائدة. فصل: ويجب في الأليتين الدية لأن فيهم جمالاً كاملاً ومنفعة كاملة فوجب فيهما الدية كاليدين ويجب في إحدهما: نصف الدية لأن ما وجبت الدية في اثنين منه وجب نصفها في أحدهما: كاليدين وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره وإن جهل قدره وجبت فيه الحكومة. فصل: وإن كسر صلبه انتظر فإن جبر وعاد إلى حالته لزمته حكومة الكسر وإن احدودب لزمه حكومة للشين الذي حصل به وإن ضعف مشيه أو احتاج إلى عصا لزمته حكومة لنقصان مشيه وإن عجز عن المشي وجبت عليه الدية لما روى الزهري عن سعيد ابن المسيب أنه قال: مضت السنة أن في الصلب الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية وفي الأثنيين الدية ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة فوجبت عليه الدية وإن كسر صلبه وعجز عن الوطء وجبت عليه الدية لأنه أبطل عليه منفعة مقصودة وإن ذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه إلا دية واحدة لأنهما منفعتا عضو واحد والثاني: يلزمه ديتان وهو ظاهر النص لأنه يجب في كل واحد منهما الدية عند الانفراد فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع كما لو قطع أذنيه فذهب سمعه أو قطع أنفه فذهب شمه. فصل: ويجب في الذكر الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب مع عمرو بن حزم إلى اليمن وفي الذكر الدية ويجب ذلك في ذكر الشيخ والطفل والخصي والعنين لأن العضو في نفسه سليم ولا تجب في ذكر أشل لأنه بطلب منفعته فلم تكمل ديته ويجب فيه الحكومة لأنه أتلف عليه جماله وإن جنى على ذكره فشل وجبت ديته لأن المقصود بالعضو هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعته ما وجب في إتلافه وإن قطع الحشفة وجبت الدية لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع فكملت الدية بقطعها وإن قطع الحشفة وجاء آخر فقطع الباقي وجبت فيه حكومة كما لو قطع الأصابع وجاء آخر وقطع الكف وإن قطع بعض الحشفة وجب عليه من الدية بقسطها وهل

تتقسط على الحشفة وحدها أو على جميع الذكر فيه قولان: أحدهما: تقسط على الحشفة لأن الدية تكمل بقطعها فقسطت عليها كدية الأصابع والثاني: يقسط على الجميع لأن الذكر هو الجميع فقسطت الدية على الجميع. فصل: ويجب في الأثنيين الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم وفي الأنثيين الدية ويجب في أحدهما: نصف الدية لأن ما وجب في اثنين منه الدية وجبت في أحدهما: نصفها كاليد. فصل: وما اشترك فيه الرجل والمرأة من الجروح والأعضاء ففيه قولان: قال في القديم تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت على ذلك كانت المرأة على النصف من الرجل لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال: تستوي دية الرجل والمرأة إلى ثلث الدية ويختلفان فيما سوى ذلك وقال في الجديد هي على النصف من الرجل في جميع الأروش وهو الصحيح لأنهما شخصان مختلفان في الدية النفس فاختلفا في أروش الجنايات كالمسام والكافر ولأنه جناية يجب فيها أرش مقدر فكانت المرأة على النصف من الرجل في أرشها كقطع اليد والرجل وقول ابن عمر يعارضه قول علي كرم الله وجهه في جراحات الرجال والنساء سواء على النصف فيما قل أو كثر. فصل: ويجب في ثديي المرأة الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة فوجب فيهما الدية كاليدين والرجلين ويجب في إحداهما نصف الدية لما ذكرناه في الأثنيين وإن جنى عليهما فشلتا وجبت عليه الدية لأن المقصود بالعضو هو المنفعة فكان إتلاف منفعته كإتلافه وإن كانتا ناهدين فاسترسلتا وجبت الحكومة لأنه نقص جمالهما وإن كان لها لبن فجنى عليهما فانقطع لبنها وجبت عليه الحكومة لأنه قطع اللبن بجنايته وإن جنى عليهما قبل أن ينزل لها لبن فولدت ولم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا لا ينقطع إلا بالجناية وجبت الحكومة وإن قالوا قد ينقطع من غير جناية لم تجب الحكومة لجواز أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا تجب الحكومة بالشك وتجب الدية في حلمتيهما وهو رأس الثدي لأن منفعة الثديين بالحلمتين لأن الصبي بها يمص اللبن وبذهابهما تتعطل منفعة الثديين فوجب فيهما ما يجب في الثديين كما يجب في الأصابع ما يجب في الكف وأما حلمتا الرجل فقد قال في موضع يجب فيه حكومة وقال في موضع قد قيل إن فيهما الدية فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: تجب فيهما الدية لأن ما وجبت فيه الدية من المرأة وجبت فيه الدية من الرجل كاليدين والثاني: وهو الصحيح أنه يجب فيهما الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة ومنهم من قال

يجب فيه الحكومة قولاً واحداً وقوله قد قيل إن فيهما الدية حكاية عن غيره. فصل: ويجب في اسكتي المرأة وهما الشفران المحيطان بالفرج الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة في المباشرة ويجب في أحدهما: نصف الدية لأن كل ما وجب في اثنين منه الدية وجب في أحدهما: نصفها كاليدين. فصل: قال الشافعي رحمه الله: إذا وطئ امرأة فأفضاها وجبت عليه الدية واختلف أصحابنا في الإفضاء فقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج وثقبة البول وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه وقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج والدبر وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة وشيخنا أبي الطيب الطبري لأن الدية لا تجب إلا بإتلاف منفعة كاملة ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول فلا تتلف بها المنفعة وإنما تنقص بها المنفعة فلا يجوز أن يجب بها دية كاملة وإن أفضاها واسترسل البول وجب مع دية الإفضاء حكومة للنقص الحاصل باسترسال البول وإن أفضاها والتأم الجرح وجبت الحكومة دون الدية وإن أجاف جائفة والتأمت لم يسقط أرشها والفرق بينهما أن أرش الجائفة وجب باسمها فلم يسقط بالإلتئام ودية الإفضاء وجبت بإزالة الحاجز وقد عاد الحاجز فلم تجب الدية. فصل: ولا يجب في إتلاف الشعور غير الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير المنفعة فلم تجب فيه غير الحكومة كإتلاف العين القائمة واليد الشلاء. فصل: ويجب في تعويج الرقبة وتصغير الوجه الحكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة فإن كسر الترقوة أو كسر ضلعاً فقد قال في موضع آخر يجب فيه جمل وقال في موضع تجب فيه الحكومة واختلف فيه أصحابنا فقال أبو إسحاق وأبو علي ابن أبي هريرة تجب فيه الحكومة قولاً واحداً والذي قال فيه جمل أراد على سبيل الحكومة لأن تقدير الأرش لا يجوز إلا بنص أو قياس على أصل وليس في هذا نص ولا له أصل يقاس عليه وقال المزني وغيره هو على قولين وهو الصحيح أحدهما: أنه يجب

فيه جمل لما روى أسلم مولى عمر رضي الله عنه أنه قضى في الترقوة بجمل وفي الضلع بجمل وقول الصحابي في قوله القديم حجة تقدم على القياس والقول الثاني: وهو الصحيح أنه يجب فيه الحكومة لأنه كسر عظم في غير الرأس والوجه فلم يجب فيه أرش مقدر ككسر عظم الساق وما روي عن عمر يحتمل أنه قضى به على سبيل الحكومة ولأن قول الصحابي ليس بحجة في قوله الجديد. فصل: وإن لطم رجلاً أو لكمه أو ضربه بمثقل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لأنه لم يحصل به نقص في جمال ولا منفعة فلم يلزمه أرش وإن حصل به شين بأن اسود أو اخضر وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشين فإن قضى في بالحكومة ثم زال الشين سقطت الحكومة كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض وإن فزع إنسان فأحدث في الثياب لم يلزمه ضمان مال لأن المال إنما يجب في الجناية إذا أحدثت نقصاً في جمال أو منفعة ولم يوجد شيء من ذلك. فصل: إذا جنى على حر جناية ليس فيها أرش مقدر نظرت فإن كان حصل بها نقص في منفعة أو جمال وجبت فيها حكومة وهو أن يقوم المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم بعد اندمال الجناية فإن نقص العشر من قيمته وجب العشر من ديته وإن نقص الخمس من قيمته وجب الخمس من ديته لأنه ليس في أرشه نص فوجب التقدير بالاجتهاد ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم وهذا كما قلنا في المحرم إذا قتل صيداً وليس في جزائه نص أنه يرجع إلى ذوي عدل في معرفة مثله إن كان له مثل من النعم أو إلى قيمته إذا لم يكن له مثل ويجب القدر الذي نقص من قيمته من الدية لأن النفس مضمونة بالدية فوجب القدر الناقص منها كما يقوم المبيع عند الرجوع بأرش العيب ثم يؤخذ القدر الناقص من الثمن حيث كان المبيع مضموناً بالثمن وقال أصحابنا يعتبر نقص الجناية من دية العضو المجني عليه لا من دية النفس فإن كان الذي نقص هو العشر والجناية على اليد وجب عشر دية وإن كانت على أصبع وجب عشر دية الأصبع وإن كانت على الرأس فيما دون الموضحة وجب عشر أرش الموضحة وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة وجب عشر أرش الجائفة لأنا لو اعتبرناه من دية النفس لم نأمن أن تزيد الحكومة في عضو على دية العضو والمذهب

الأول وعليه التفريغ لأنه لما وجب تقويم النفس وجب أن يعتبر النقص من دية النفس ولأن اعتبار النقص من دية العضو يؤدي إلى أن يتقارب الجنايتان ويتباعد الأرشان بأن تكون الحكومة في السمحاق فتوجب فيه عشر أرش الموضحة فيتباعد ما بينها وبين أرش الموضحة مع قربها منها فإن كانت الجناية على أصبع فبلغت الحكومة فيها أرش الأصبع أو على الرأس فبلغت الحكومة فيها أرش الموضحة نقص الحاكم من أرش الأصبع ومن أرش الموضحة شيئا على قدر ما يؤدي إليه الاجتهاد لأنه لا يجوز أن يكون فيما دون الأصبع الموضحة ما يجب فيها وإن كانت الجناية في الكف فبلغت الحكومة أرش الأصابع نقص شيئا من أرش الأصابع لأن الكف تابع للأصابع في الجمال والمنفعة فلا يجوز أن يجب فيه ما يجب في الأصابع. فصل: وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا منفعة بأن قطع أصبعاً زائدة أو قلع سناً زائدة أو أتلف لحية امرأة واندمل الموضع من غير نقص ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا شيء عليه لأنه جناية لم يحصل بها نقص فلم يجب بها أرش كما لو لطم وجهه فلم يؤثر والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب فيه الحكومة لأنه إتلاف جزء من مضمون فلا يجوز أن يعري من أرش فعلى هذا إن كان قد قطع أصبعاً زائدة قوم المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال ثم يجب ما بينهما من الدية لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد الاندمال قوم في أقرب الأحوال إليه وهذا كما قلنا في ولد المغرور بها لما تعذر تقويمه حال العلوق قوم في أقرب حال يمكن فيه التقويم بعد العلوق وهو عند الوضع فإن قوم ولم ينقص قوم قبيل الجناية ثم يقوم والدم جار لأنه لا بد أن تنقص قيمته لما يخاف عليه فيجب بقدر ما بينهما من الدية وإن قلع سناً زائدة ولم تنقص قيمته قوم وليس له خلف الزائدة سن أصلية ثم يقوم وليس له سن أصلية ولا زائدة ويجب بقدر ما بينهما من الدية وإن أتلف لحية امرأة قوم لو كان رجلاً وله لحية ثم يقوم ولا لحية له ويجب بقدر ما بينهما من الدية. فصل: وإن جنى على رجل جناية لها أرش مقدر ثم قتله قبل الاندمال دخل أرش الجناية في دية النفس وقال أبو سعيد الإصطخري لا يدخل لأن الجناية انقطعت سرايتها بالقتل فلم يسقط ضمانها كما لو اندملت ثم قتله والمذهب الأول لأنه مات بفعله قبل استقرار الأرش فدخل في ديته كما لو مات من سراية الجناية ويخالف إذا اندملت فإن هناك استقر الأرش فلم تسقط. فصل: ويجب في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق

الآدمي بغير جنسه فضمنه بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال وما ضمن مما دون النفس من الجزء بالدية كالأنف واللسان والذكر والأنثيين والعينين واليدين والرجلين ضمن من العبد بقيمته وما ضمن من الحر بجزء من الدية كاليد والأصبع والأنملة والموضحة والجائفة ضمن من العبد بمثله من القيمة لأنهما متساويان في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة فتساويا في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس كالرجل والمرأة والمسلم والكافر. فصل: وإن قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات من سراية القطع وجبت عليه دية حر لأن الجناية استقرت في حال الحرية ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من أرش الجناية وهو نصف القيمة أو كمال الدية فإن كان نصف القيمة أقل لم يستحق أكثر منه لأنه هو الذي وجب في ملكه والزيادة حصلت في حال لا حق له فيها وإن كانت الدية أقل لم يستحق أكبر منها لأن ما نقص من نصف القيمة بسبب من جهته وهو العتق. فصل: وإن فقأ عيني عبد أو قطع يديه وقيمته ألفا دينار ثم أعتق ومات بعد اندمال الجناية وجب على الجاني أرش الجناية وهو قيمة العبد سواء كان الاندمال قبل العتق أو بعده لأن الجرح إذا اندمل استقر حكمه ويكون ذلك لمولاه لأنه أرش جناية كانت في ملكه وإن لم يندمل وسرى إلى نفسه وجب على الجانب دية حر وقال المزني يجب الأرش وهو ألفا دينار لأن السيد ملك هذا القدر بالجناية فلا ينقص وهذا خطأ لأن الاعتبار في الأرش بحال الاستقرار ولهذا لو قطع يدي رجل ورجليه وجب عليه ديتان فإذا سرت الجناية إلى النفس وجب دية اعتباراً بحال الاستقرار وفي حال الاستقرار هو حر فوجبت فيه الدية ودليل قول المزني يبطل بمن قطع يدي رجل ورجلين ثم مات فإنه وجبت ديتان ثم نقصت بالموت. فصل: وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع حر آخر يده الأخرى ومات لم يجب على الأول قصاص لعدم التكافؤ في حال الجناية وعليه نصف الدية لأن المجني عليه حر في وقت استقرار الجناية وأما الثاني ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنه يجب عليه القصاص في الطرف ولا يجب في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين: وأحدهما: يوجب القود والآخر لا يوجب فسقط كحرين قتلاً من نصفه حر ونصفه عبد والثاني: وهو المذهب أنه يجب عليه القصاص في الطرف والنفس لأنهما متكافئان في حال الجناية وقد خرجت الروح عن عمد محض مضمون وإنما سقط القود عن أحدهما: لمعنى في نفسه فلم يسقط عن الآخر كما لو اشترك حر وعبد في قتل عبد ويخالف الحرين اذا قتلا من نصفه حر ونصفه عبد لأن كل واحد منهما غير مكافئ له حال

الجناية فان عفى على مال كان عليه نصف الديه لأنهما شريكان في القتل وللمولى الأقل من نصف قيمته يوم الجناية الأولى أو نصف الدية فإن كان نصف القيمة أقل أو مثله كان له ذلك وإن كان أكثر فله نصف الدية لأن الحرية نقصت ما زاد عليه والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن الجناية هناك من واحد وجميع الدية عليه فقوبل بين أرش الجناية وبين الدية والجناية ههنا من اثنين والدية عليهما والثاني: جنى عليه في حال الحرية فقوبل بين أرش الجناية وبين النصف المأخوذ من الجاني على ملكه وكان الفاضل لورثته. فصل: وإن قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم قطع يده الأخرى نظرت فإن اندمل الجرحان لم يجب في اليد الأولى قصاص لأنه جنى عليه وهو غير مكافئ له ويجب فيها نصف ديته ويكون للمولى ويجب في اليد الأخرى القصاص لأنه قطعها وهو مكافئ له وإن عفى على المال وجب عليه نصف الدية وإن مات من الجراحتين قبل الاندمال وجب القصاص في اليد الأخرى التي قطعت بعد عتقه ولم يجب القصاص في النفس لأنه مات من جنايتين إحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب فإن اقتص منه في اليد وجب عليه نصف الدية لأنه مات بجنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية وإن عفى عن القصاص على مال وجب كمال الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية ولورثته الباقي لأن الجناية الثانية في حال الحرية. فصل: وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ثم قطع ثالث رجله ومات لم يجب على الأول القصاص في النفس ولا في الطرف لعدم التكافؤ ويجب عليه ثلث الدية ويجب على الآخرين القصاص في الطرف وفي النفس على المذهب فإن عفى عنهما كان عليهما ثلثا الدية وفيما يستحق المولى قولان: أحدهما: أقل الأمرين من أرش الجناية أو ما يجب على هذا الجاني في ملكه وهو ثلث الدية لأن الواجب بالجناية هو الأرش فإذا أعتق انقلب وصار ثلث الدية فيجب أن يكون له أقل الأمرين فإن كان الأرش أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي وجب بالجناية في ملكه وما زاد بالسراية في حال الحرية لا حق له فيه وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي يجب على الجاني في ملكه ونقص الأرش بسبب من جهته وهو العتق فلم يستحق أكثر منه والقول الثاني يجب له أقل الأمرين من ثلث الدية أو ثلث القيمة لأن الجاني على ملكه هو الأول والآخر لا حق له في جنايتهما فيجب أن يكون له أقل الأمرين من ثلث

الدية أو ثلث القيمة فإن كان ثلث القيمة أقل لم يكن له أكثر منه لأنه لما كان عبداً كان له هذا القدر وما زاد وجب في حال الحرية فلم يكن له فيها حق وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأن ثلث القيمة نقص وعاد إلى ثلث الدية بفعله فلم يستحق أكثر منه. فصل: إذا ضرب بطن مملوكة حامل بمملوك فألقت جنيناً ميتاً وجب فيه عشر قيمة الأم لأن جنين آدمية سقط ميتاً بجنايته فضمن بعشر بدل الأم كجنين الحرة واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الأم فقال المزني وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الإسقاط لأنه حال استقرار الجناية والاعتبار في قدر الضمان بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يد نصراني ثم أسلم ومات وجب فيه دية مسلم وقال أبو إسحاق تعتبر قيمتها يوم الجناية وهو المنصوص لأن المجني عليه لم يتغير حاله فكان أولى الأحوال باعتبار قيمتها يوم الجناية لأنه حال الوجوب ولهذا لو قطع يد عبد ومات على الرق وجبت قيمته يوم الجناية لأنه حال الوجوب وإن ضرب بطن أمة ثم أعتقت وألقت جنيناً ميتاً وجب فيه دية جنين حر لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين حر عند استقرار الجناية فضمن بالدية.

باب العاقلة وما تحمله من الديات

باب العاقلة وما تحمله من الديات إذا قتل الحر حراً عمد خطأ وله عاقلة وجب جميع الدية على عاقتله لما روى المغيرة بن شعبة قال: ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عصبة القاتلة وإن قتله خطأ وجبت الدية على عاقلته لأنه إذا تحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفاً عنه مع قصده إلى الجناية فلأن يحمل عن قاتل الخطأ ولم يقصد الجناية أولى ولأن الخطأ وعمد الخطأ يكثر فلو أوجبنا ديتهما في مال الجاني أجحفنا به وإن قطع أطرافه خطأ أو عمد خطأ ففيه قولان قال في القديم: لا تحمل العاقلة ديتهما لأنه لا يضمن بالكفارة ولا تثبت فيه القسامة فلم تحمل العاقلة بدله كالمال وقال في الجديد: تحمل العاقلة ديتها لأن ما ضمن بالقصاص والدية وخففت الدية فيه بالخطأ حملت العاقلة بدله كالنفس فعلى هذا تحمل ما قل منه وكثر كما تحمل ما قل وكثر من

دية النفس وإن قتل عمداً أو جنى على طرفه عمداً لم تحمل العاقلة ديته لأن الخبر ورد في الحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفاً عنه لأنه لم يقصد القتل والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف وإن وجب له القصاص في الطرف فاقتص بحديدية مسمومة فمات فعليه نصف الدية وهل تحمل العاقلة ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: تحمله لأنها حكمنا بأنه ليس بعمد محض والثاني: لا تحمله لأنه قصد القتل بغير حق فلم تحمل العاقلة عنه وإن وكل من يقتص له في النفس ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو وقلنا إن العفو يصح ووجبت الدية على الوكيل فهل تحملها العاقلة فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا تحملها العاقلة وهو صحيح لأنه تعمد القتل فلم تحمل العاقلة عنه كما لو قتله بعد العلم بالعفو والثاني: وهو قول أبي علي بن أي هريرة أنه تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية. فصل: وإن قتل عبداً خطأ أو عمد خطأ ففيه قيمته قولان: أحدهما: أنها تحملها العاقلة لأنه يجب القصاص والكفارة بقتله فحملت العاقلة بدله كالحر والثاني: أنه لا تحمله العاقلة لأنه مال فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الأموال. فصل: ومن قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته لما روي أن عوف بن مالك الأشجعي ضرب مشركاً بالسيف فرجع السيف عليه فقتله فأمتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل مات مجاهداً". ولو وجبت الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فصل: وما يجب بخطأ الإمام من الدية بالقتل ففيه قولان: أحدهما: يجب على عاقلته لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه في جنين المرأة التي بعث إليها عزمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك والثاني: يجب في بيت المال لأن الخطأ يكثر منه في أحكامه واجتهاده فلو أوجبنا ما يجب بخطئه على عاقلته أجحفنا بهم فإذا قلنا أنه يجب على عاقلته وجبت الكفارة في ماله كغير الإمام وإذا قلنا إنها تجب في بيت المال ففي الكفارة وجهان: أحدهما: أنها تجب في ماله لأنها لا تتحمل والثاني: أنها تجب في بيت المال لأنه يكثر خطؤه فلو أوجبنا في ماله أجحفنا به. فصل: وما يجب بجناية العمد يجب حالاً لأنه بدل متلف لا تتحمله العاقلة بحال فوجب حالاً كغرامة المتلفات وما يجب بجناية الخطأ وشبه العمد من الدية يجب مؤجلاً فإن كانت دية كاملة وجبت في ثلاث سنين لأنه روي ذلك عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ويجب في كل سنة ثلثها فإن كان دية نفس كان ابتداء الأجل من وقت

القتل لأنه حق المؤجل فاعتبر الأجل من حين وجود السبب كالدين المؤجل وإن كان دية الطرف فإن لم تسر واعتبرت المدة من وقت الجناية لأنه وقت الوجوب وإن سرت إلى عضو آخر اعتبرت المدة من وقت الاندمال لأن الجناية لم تقف فاعتبرت المدة من وقت الاستقرار وإن كان الواجب أقل من دية نظرت فإن كان ثلث الدية أو دونه لم تجب إلا في سنة لأنه لا يجب على العاقلة شيء في أقل من سنة فإن كان أكثر من الثلث ولم يزد على الثلثين وجب في السنة الأولى الثلث ووجب الباقي في السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين ولم يزد على الدية وجب في السنة الأولى الثلث وفي الثانية الثلث والثالثة الباقي وإن وجب بجنايته ديتان فإن كانتا لاثنتين بأن قتل اثنين وجب في كل سنة لكل واحد منهما ثلث الدية لأنهما يجبان لمستحقين فلا ينقص حق كل واحد منهما في كل سنة من الثلث فإن كانتا لواحد بأن قطع اليدين والرجلين من رجل وجب الكل في ست سنين في كل سنة ثلث دية لأنها جناية على واحد فلا يجب له على العاقلة في كل سنة أكثر من ثلث دية وإن وجب بجناية الخطأ أو عمد الخطأ دية ناقصة كدية الجنين والمرأة ودية أهل الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها لأنها دية نفس فوجب في كل سنة ثلثها كالدية الكاملة والثاني: أنه كأرش الطرف إذا نقص عن الدية لأنه دون الدية الكاملة فعلى هذا إن كان ثلث دية وهو كدية اليهودي والنصراني أو أقل من الثلث وهو دية المجوسي ودية الجنين وجب الكل في سنة واحدة وإن كان أكثر من الثلث وهو دية المرأة وجب في السنة الأولى ثلث دية كاملة ويجب ما زاد في السنة الثانية كما قولنا في الطرف وإن كان قيمة عبد وقولنا أنها على العاقلة ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم في ثلاث سنين وأن زاد حصة كل سنة على ثلث الدية لأنها دية نفس والثانية: تؤدى في كل سنة ثلث دية الحر. فصل: والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب أو الولاء غير الأب والجد والابن وابن الابن والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة العاقلة وأما الأب والجد والابن وابن الابن فلا يعقلون لما روى جابر رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها وإذا ثبت هذا في الولد ثبت في الأب لتساويهما في العصبة ولأن الدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل حتى لا يكثر عليه فيجحف به فلو جعلناه على الأب والابن أجحفنا به لأن مالهما كماله ولهذا لا نقبل شهادته لهما كما لا تقبل لنفسه ويستغنى عن المسألة بمالهما

كما يستغنى بمال نفسه وإن كان في بني عمها ابن لها لم يحمل معهم لما ذكرناه وإن لم يكن له عصبة نظرت فإن كان مسلماً حملت عنه من بيت المال لأن مال بيت المال للمسلمين وهم يرثونه كما ترث العصبات وإن كان ذمياً لم يحمل عنه في بيت المال لأن مال بيت المال للمسلمين وهم لا يرثونه وإنما ينقل ماله إلى بيت المال فيئاً واختلف قوله في المولى من أسفل فقال في أحد القولين: لا يعقل عنه وهو الصحيح لأنه لا يرثه فلم يعقله وقال في الآخر: يعقله لأنه يعقله المولى فعقل عنه المولى كالأخوين فعلى هذا يقدم على بيت المال لأنه من خواص العاقلة فقدم على بيت المال كالمولى من أعلى وإن لم يكن له عاقلة ولا بيت مال فهل يجب على القاتل فيه وجهان بناء على أن الدية هل تجب على القاتل تتحمل عنه العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء وفيه قولان: أحدهما: تجب على القاتل ثم تنتقل إلى العاقلة لأنه هو الجاني فوجبت الدية عليه فعلى هذا تجب الدية في ماله والقول الثاني تجب على العاقلة ابتداء لأنه لا يطالب غيرهم فعلى هذا لا تجب عليه وقال أبوعلي الطبري: إذا قلنا إنها تجب على القاتل عند عدم بيت المال حمل الأب والابن ويبدأ بهما قبل القاتل لأنا لم نحمل عليهما إبقاء على القاتل وإذا حمل على القاتل كانا بالحمل أولى قال الشيخ الإمام حرس الله مدته: ويحتمل عندي أنه لا يجب عليهما لأنا إنما أوجبنا على القاتل على هذا القول لأنه وجب عليه في الأصل فإذا لم يجد من يتحمل بقي الوجوب في محله والأب والابن لم يجب عليهما في الأصل ولا حملا مع العاقل فلم يجب الحمل عليهما. فصل: ولا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم ولا ذمي عن حربي ولا حربي عن ذمي لأنه لا يرث بعضهم من بعض فإن رمى نصراني سهماً إلى الصيد ثم أسلم ثم أصاب السهم إنساناً وقتله وجبت الدية في ماله لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى لأنه وجد القتل وهو مسلم ولا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لأنه رمى وهو نصراني فإن قطع نصراني يد رجل ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصباته من النصارى دون المسلمين لأن الجناية وجدت منه وهو نصراني ولهذا يجب بها القصاص ولا يسقط عنه بالإسلام وإن رمى مسلم سهماً إلى صيد ثم ارتد ثم أصاب السهم إنساناً فقتله وجبت الدية في ذمته لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لأنه وجد القتل وهو مرتد ولا يمكن إيجابها على الكفار لأنه ليس له منهم عاقلة يرثونه فوجبت في ذمته وإن جرح مسلم إنساناً ثم ارتد الجارح وبقي في الردة زمناً يسري في مثله الجرح ثم أسلم ومات المجروح وجبت الدية وعلى من تجب فيه قولان: أحدهما:

تجب على عاقلته لأن الجناية في حال الإسلام وخروح الروح في حال الإسلام والعاقلة تحمل ما يجب بالجنايتين في حال الإسلام فوجبت ديته عليها والقول الثاني: أنه يجب على العاقلة نصف الدية ويجب في مال الجاني النصف لأنه وجد سراية في حال الإسلام وسراية في حال الردة فحملت ما سرى في حال الإسلام ولم تحمل ما سرى في الردة. فصل: ولا يعقل صبي ولا معتوه ولا امرأة لأن حمل الدية على سبيل النصرة بدلاً عما كان في الجاهلية من النصرة بالسيف ولا نصرة في الصبي والمعتوه والمرأة ويعقل المريض والشيخ الكبير إذا لم يبلغ المريض حد الزمانة والشيخ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة بالتدبير وقد قاتل عمار في محفة وأما إذا بلغ الشيخ حد الهرم والمريض حد الزمانة ففيه وجهان بناء على القولين في قتلهما في الأسر فإن قلنا إنهما يقتلان في الأسر عقلا وإن قلنا لا يقتلان في الأسر لم يعقلا. فصل: ولا يعقل فقير لأن حمل الدية على العاقل مواساة الفقير ليس من أهل المواساة ولهذا لا تجب عليه الزكاة ولا نفقة الأقارب ولأن العاقلة تتحمل لدفع الضرر عن القاتل والضرر لا يزال بالضرر ويجب على المتوسط ربع دينار لأن المواساة لا تحصل بأقل قليل ولا يمكن إيجاد الكثير لأن فيه إضراراً بالعاقلة فقدر أقل ما يؤخذ بربع دينار لأنه ليس في حد التافه والدليل عليه أنه تقطع فيه يد السارق وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه ويجب على الغني نصف دينار لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغني والمتوسط واحداً فقدر بنصف دينار لأنه أقل قدر يؤخذ من الغني في الزكاة التي قصد فيها المواساة فيقدر ما يؤخذ من الغني في الدية بذلك لأن في معناه ويجب هذا القدر في كل سنة لأنه حق يتعلق بالحال على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الحول كالزكاة ومن أصحابنا من قال يجب ذلك القدر في الثلاث سنين لأنا لو أوجدنا هذا القدر في كل سنة أجحف به ويعتبر حاله في الفقر والغنى والتوسط عند حلول النجم لأنه حق مال يتعلق بالحلول على سبيل المواساة فاعتبر فيه حاله عند حلول الحول كالزكاة إذا مات قبل حلول الحول لم تجب كما لا تجب الزكاة إذا مات قبل الحول وإن مات بعد الحول لم يسقط ما وجب كما لا يسقط ما وجب من الزكاة قبل الموت. فصل: وإذا أراد الحاكم قسمة على العاقلة قدم الأقرب فالأقرب من العصبات على ترتيبهم في الميراث لأنه حق يتعلق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث،

وإن كان فيهم من يدلي بالأبوين وفيهم من يدلي بالأب ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء لتساويهما في قرابة الأب لأن الأم لا مدخل لها في النصرة وحمل الدية فلا يقدم بها والثاني: يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب كالميراث فإن أمكن أن يقسم ما يجب على الأقربين منهم لم يحمل على من بعدهم وإن لم يمكن أن يقسم على الأقربين لقلة عددهم قسم ما فضل على من بعدهم على الترتيب فإن كان القاتل من بني هاشم قسم عليهم فإن عجزوا دخل معهم بنو عبد مناف فإن عجزوا دخل معهم بنو قصي ثم كذلك حتى تستوعب قريش ولا يدخل معهم غير قريش لأن غيرهم لا ينسب إليهم وإن غاب الأقربون في النسب وحضر الأبعدون ففيه قولان: أحدهما: يقدم الأقربون في النسب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقربون في النسب كالميراث والثاني: يقدم الأقربون في الحضور على الأقربين في النسب لأن تحمل العاقلة على سبيل النصرة والحاضرون أحق بالنصرة من الغيب فعلى هذا إن كان القاتل بمكة وبعض العاقلة بالمدينة وبعضهم بالشام قدم من بالمدينة على من بالشام لأنهم أقرب إلى القاتل وإن استوت جماعة في النسب وبعضهم حضور وبعضهم غيب ففيه قولان: أحدهما: يقدم الحضور لأنهم أقرب إلى النصرة والثاني: يسوي بين الجميع كما يسوي في الميراث وإن كثرت العاقلة وقل المال المستحق بالجناية بحيث إذا قسم عليهم خص المتوسط دون ربع دينار والغني دون نصف دينار ففيه قولان: أحدهما: أن الحاكم يقسمه على من يرى منهم لأن في تقسيط القليل على الجميع مشقة والثاني: هو الصحيح أنه يقس على الجميع لأنه حق يستحق بالتعصيب فقسم قليله وكثيره بين الجميع كالميراث. فصل: وإن جنى عبد على حر أو عبد جناية توجب المال تعلق المال برقبته لأنه لا يجوز إيجابه على المولى لأنه لم يوجد منه جناية ولا يجوز تأخيره إلى أن يعتق لأنه يؤدي إلى إهدار الدماء فتعلق برقبته والمولى بالخيار بين أن يبيعه ويقضي حق الجناية من ثمنه وبين أن يفديه ولا يجب عليه تسليم العبد إلى المجني عليه لأنه ليس من جنس حقه وإن اختار بيعه فباعه فإن كان الثمن بقدر مال الجناية صرفه فيه وإن كان أكثر قضى ما عليه والباقي للمولى وإن كان أقل لم يلزم المولى ما بقي لأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة فإن اختار أن يفديه ففيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة العبد لأنه لا يلزمه ما زاد على واحد منهما والقول الثاني: يلزمه أرش الجناية بالغاً أو يسلمه للبيع لأنه قد يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من

قيمته فإذا امتنع من البيع لزمه الأرش بالغاً ما بلغ وإن قتل عشرة أعبد لرجل عبد الآخر عمداً فاقتص مولى المقتول من خمسة وعفا عن خمسة على المال تعلق برقبتهم نصف القيمة في رقبة كل واحد منهم عشرها لأنه قتل خمسة بنصف عبده وعفا عن خمسة على المال وبقي له النصف.

باب اختلاف الجاني وولي الدم

باب اختلاف الجاني وولي الدم إذا قتل رجلاً ثم ادعى أن المقتول كان عبداً وقال الولي بل حراً فالمنصوص أن القول قول الولي مع يمينه وقال فيمن قذف امرأة ثم ادعى أنها أمة أن القول قول القاذف فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أن القول قول الجاني والقاذف لأن ما يدعيان محتمل لأن الدار تجمع الأحرار والعبيد والأصل فيه حمى للظهر وحقن الدم والثاني: أن القول قول ولي المجني عليه والمقذوف لأن الظاهر من الدار الحرية ولهذا لو وجد في الدار لقيط حكم بحريته ومن أصحابنا من قال القول في الجناية قول الولي والقول في القذف قول القاذف والفرق بينهما أنا إذا جعلنا القول قول القاذف أسقطنا حد القذف وأوجبنا التعزير فيحصل به الردع وإذا جعلنا القول قول الجاني سقط القصاص ولم يبق ما يقع به الردع. فصل: إذا وجب له القصاص في موضحة فاقتص في أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أصبع فاقتص في أصبعين وادعى أن أخطأ في ذلك وادعى المستقاد منه أنه تعمد فالقول قول المقتص مع يمينه لأنه أعرف بفعله وقصده وما يدعيه يجوز الخطأ في مثله فقبل قوله فيه وإن قال المقتص منه أن هذه زيادة حصلت باضطرابه وأنكره المستقاد منه ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول المقتص لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة والثاني: أن القول قول المستقاد منه لأنه الأصل عدم الاضطراب. فصل: إذا اشترك ثلاثة في جرح رجل ومات المجروح ثم ادعى أحدهم أن جراحته اندملت وأنكر الآخران وصدق الوالي المدعي نظرت فإن أراد القصاص قبل تصديقه ولم يجب على المدعي إلا ضمان الجراحة لأنه لا ضرر على الآخرين لأن القصاص يجب عليهما في الحالين وإن أراد أن يأخذ الدية لم يقبل تصديقه لأنه يدخل الضرر على الآخرين لأنه إذا حصل القتل من الثلاثة وجب على كل واحد منهم ثلث الدية وإذا حصل من جراحهما وجب على كل واحد منهما نصف الدية والأصل براءة ذمتهما مما زاد على الثلث. فصل: إذا قد رجلاً ملفوفاً في كساء ثم ادعى أنه قده وهو ميت وقال الوالي بل كان

حياً ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأن ما يدعيه محتمل والأصل براءة ذمته والثاني: أن القول قول الوالي لأن الأصل حياته وكونه مضموناً فصار كما لو قتل مسلماً وادعى أنه كان مرتداً. فصل: وإن جنى على عضو ثم اختلفا في سلامته فادعى الجاني أنه جنى عليه وهو أشل وادعى المجني عليه أنه جنى عليه وهو سليم فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة ذمته والثاني: أن القول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة العضو ومنهم من قال القول في الأعضاء الظاهرة قول الجاني وفي الأعضاء الباطنة القول قول المجني عليه لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على السلامة في الأعضاء الظاهرة فكان القول قول الجاني ويتعذر عليه إقامة البينة على الأعضاء الباطنة والأصل السلامة فكان القول قول المجني عليه ولهذا لم علق طلاق امرأته على ولادتها فقالت ولدت لم يقبل قولها لأنه يمكن إقامة البينة على الولادة ولو علق طلاقها على حيضها فقالت حضت قبل قولها لأنه يتعذر إقامة البينة على حيضها فإن اتفقا على سلامة العضو الظاهر وادعى الجاني أنه طرأ عليه الشلل وأنكر المجني عليه ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأنه يتعذر إقامة البينة على سلامته والثاني: أن القول قول المجني عليه لأنه قد ثبتت سلامته فلا يزال عنه حتى يثبت الشلل. فصل: إذا أوضح رأس رجل موضحتين بينهما حاجز ثم زال الحاجز فقال الجاني تأكل ما بينهما بسراية فعلي فلا يلزمني مني إلا أرش موضحة وقال المجني عليه أنا خرقت ما بينهما فعليك أرش موضحتين فالقول قول المجني عليه لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل بقاء الموضحتين ووجوب الأرشين وإن أوضح رأسه فقال الجاني أوضحته موضحة واحدة وقال المجني عليه أو ضحتني موضحتين وأنا خرقت ما بينهما فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة. فصل: وإن قطع رجل يدي رجل ورجليه ومات واختلف الجاني والولي فقال الجاني مات من سراية الجنايتين فعلي دية واحدة وقال الولي بل اندملت الجنايتين ثم مات فعليك ديتان فإن كان قد مضى زمان يمكن فيه اندمال الجراحتين فالقول قول الولي لأن الأصل وجوب الديتين وإن لم يمض زمن يمكن فيه الاندمال فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه الولي غير محتمل وإن اختلفا في المدة فقال الولي مضت مدة يمكن فيها الاندمال وقال الجاني لم يمض فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم المدة.

فصل: وإن قطع يد رجل ومات فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك الدية وقال الجاني اندملت جنايتي ومات بسبب آخر فعلي نصف الدية نظرت فإن لم تمض مدة يمكن فيها الاندمال فالقول قول الولي لأن الظاهر أنه مات من سراية الجناية ويحلف على ذلك لجواز أن يكون قتله آخر أو شرب سماً فمات منه وإن مضت مدة يمكن فيها الاندمال ثم مات فإن كان مع الولي بينة أنه لم يزل متألماً ضمناً إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر أنه مات من الجناية وإن لم يكن معه بينة على ذلك فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما ممكن والأصل براءة ذمة الجاني مما زاد على نصف الدية. فصل: وإن قطع يد رجل ومات ثم اختلف الولي والجاني فقال الجاني شرب سماً أو جنى عليه آخر بعد جنايتي فلا يجب علي إلا نصف الدية وقال الولي مات من سراية جنايتك فعليك الدية فليس فيها نص ويحتمل أن يكون القول قول الولي لأن الأصل حصول جنايته وعدم غيرها ويحتمل أن يكون القول قول الجاني لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة ذمته. فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين وقال أهل الخبرة يرجى عود البصر فمات واختلف الولي والجاني فقال الجاني عاد الضوء ثم مات وقال الولي لم يعد فالقول قول الولي مع يمينه لأن الأصل ذهاب الضوء وعدم العود وإن جنى على عينه فذهب الضوء ثم جاء آخر فقلع العين واختلف الجانيان فقال الأول عاد الضوء ثم قلعت أنت فعليك الدية وقال الثاني قلعت ولم يعد الضوء فعلي حكومة وعليك الدية فالقول قول الثاني لأن الأصل عدم العود فإن صدق المجني عليه الأول قبل قوله في براءة الأول لأنه يسقط عنه حقاً له ولا يقبل قوله على الثاني لأنه يوجب عليه حقاً له والأصل عدمه. فصل: إذا جنى على رجل جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد مرة فإن ظهر منه إمارات السماع فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ولا يقبل قوله من غير يمين لأنه يحتمل أن يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقاً وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه لأن الظاهر معه ولا يقبل قوله في ذلك من غير يمين لجواز ما ظهر من عدم السماع لجودة تحفظه وإن ادعى نقصان السمع فالقول قوله مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف ذلك إلا من جهته وما يدعيه محتمل فقبل قوله مع يمينه كما يقبل قول المرأة في الحيض وإن ادعى ذهاب السمع من إحدى الأذنين سد التي لم يذهب السمع منها ثم

يمتحن بالصياح في أوقات غفلاته فإن ظهر منه أمارة السمع فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه. فصل: وإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه وأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلته بالروائح الطيبة والروائح المنتنة فإن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة ولا تظهر منه كراهية الروائح النتنة فالقول قوله لأن الظاهر معه ويحلف عليه لجواز أن يكون قد تصنع لذلك وإن ارتاح إلى الروائح الطيبة ظهرت منه الكراهية للروائح المنتنة فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ويحلف على ذلك لجواز أن يكون ما ظهر من المجني عليه من الارتياح والتكره اتفاقا وإن حلف المجني عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجاني أنه غطاه ببقاء شمه وادعى المجني عليه أنه غطاه لحاجة أو لعادة فالقول قول المجني عليه لأنه يحتمل ما يدعيه. فصل: وإن كسر صلب رجل فادعى المجني عليه أنه ذهب جماعة فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه محتمل ولا يعرف ذلك إلا من جهته فقبل قوله مع يمينه كالمرأة في دعوى الحيض. فصل: وإن اصطدمت سفينتان فتلفتا وادعى صاحب السفينة على القيم أنه فرط في ضبطها وأنكر القيم ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وبراءة الذمة. فصل: إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً ثم اختلفا فقال الضارب ما أسقطت من ضربي وقالت المرأة أسقطت من ضربك نظرت فإن كان الإسقاط عقيب الضربة فالقول قولها لأن الظاهر معها وإن كان الإسقاط بعد مدة نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لأن الظاهر معها وإن لم تكن متألمة فالقول قوله لأنه يحتمل ما يدعيه كل واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن اختلفا في التألم فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم التألم وإن ضربها فأسقطت جنيناً حياً ومات واختلفا فقالت المرأة مات من ضربك وقال الضارب مات بسبب آخر فإن مات عقب الإسقاط فالقول قولها لأن الظاهر معها وأنه مات من الجناية وإن مات بعد مدة ولم تقم البينة أنه بقي متألماً إلى أن مات فالقول قول الضارب مع يمينه لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة الذمة وإن أقامت بينة أنه بقي متألماً إلى أن مات فالقول قولها مع اليمين لأن الظاهر أنه مات من جنايته. فصل: وإن اختلفا فقالت المرأة استهل ثم مات وأنكر الضارب فالقول قوله لأن الأصل عدم الاستهلال وإن ألقت جنيناً حياً ومات ثم اختلفا فقال الضارب كان أنثى

وقالت المرأة أنه كان ذكراً فالقول قول الضارب لأن الأصل براءة الذمة مما زاد على دية الأنثى. فصل: وإن ادعى رجل على رجل قتلاً تجب فيها الدية على العاقل صدقه المدعى عليه وأنكرت العاقلة وجبت الدية على الجاني بإقراره ولا تجب على العاقلة من غير بينة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن إن لم يواطىء في كل وقت من يقوله بقتل الخطأ فيودي إلى الإضرار بالعاقلة وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً فقال الجاني كان ميتاً وقالت المرأة كان حياً فالقول قول الجاني لأنه يحتمل ما يدعيه لك واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن صدق الجاني المرأة وأنكرت العاقلة وجب على العاقلة قدر الغرة لأنها لم تعترف بأكثر منها ووجبت الزيادة في ذمة الجاني لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة. فصل: إذا سلم من عليه الدية الإبل في قتل العمد ثم اختلفا فقال الولي لم يكن فيها خلفات وقال من عليه الدية كانت فيها خلفات فإن لم يرجع في حال الدفع إلى أهل الخبرة فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل فإن رجع في الدفع إلى قول أهل الخبرة ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الولي لما ذكرناه والثاني: أن القول قول من عليه الدية لأن حكمنا بأنها خلفات بقول أهل الخبرة فلم يقبل فيه قول الولي.

باب كفارة القتل

باب كفارة القتل من قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان وجبت عليه الكفارة لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فإن قتله عمداً أو شبه عمد وجبت عليه الكفارة لأنها إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن تجب في العمد وشبه العمد وقد تغلظ بالإثم أولى وإن توصل إلى قتله بسبب يضمن فيه النفس كحفر بئر وشهادة الزور والإكراه وجبت عليه الكفارة لأن السبب كالمباشرة في إيجاب الضمان فكان كالمباشرة في إيجاب الكفارة فإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً وجبت عليه الكفارة لأنه آدمي محقون الدم لحرمته فضمن بالكفارة كغيره وإن قتل نفسه أو قتل عبده وجبت عليه الكفارة لأن الكفارة تجب لحق الله تعالى،

كتاب قتال أهل البغي

كتاب قتال أهل البغي مدخل ... كتاب قتال أهل البغي لا يجوز الخروج عن الإمام لمل روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نزع يده من طاعة إمامه فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية"1. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا" 2. فصل: إذا خرجت على الإمام طائفة من المسلمين ورامت خلعه بتأويل أو منعت حقاً توجب عليها بتأويل وخرجت عن قبضة الإمام وامتنعت بمنعة قاتلها الإمام لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وقاتل علي كرم الله وجهه أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين وقاتل الخوارج بالنهروان ولا يبدأ القتال حتى يسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ذكروا علة يمكن إزاحتها أزاحها وإن ذكروا شبهة كشفها لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وفيما ذكرناه إصلاح وروى عبد الله بن شداد أن علي كرم الله وجهه لما كتب معاوية وحكم وعتب عليه ثمانية آلاف ونزلوا بأرض يقال لهل حروراء فقالوا: انسلخت من قميص ألبسك الله وحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله فقال علي: بيني وبينكم كتاب الله يقول الله تعالى في رجل

_ 1 رواه البخاري في كتاب الفتن باب 2. مسلم في كتاب الإمارة حديث 35، 56. النسائي في كتاب تحريم الدم باب 28. الدارمي في كتاب السير باب 75. 2 رواه البخاري في كتاب الفتن باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 161، 163. الترمذي في كتاب الحدود باب 26. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 11.

وامرأة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ونقموا أني كاتبت معاوية من علي بن أبي طالب وجاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكتب من محمد رسول الله". فقالوا لو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نخالفك فقال أكتب فكتب: "هذا ما قاضى محمد عليه قريشاً". يقوا الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] وبعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوا عبد الله كتاب الله تعالى ثلاثة أيام ورجع منهم أربعة آلاف فإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال فإن أبوا قاتلهم فإن طلبوا الأنظار نظرت فإن كان يومين أو ثلاثة أنظرهم لأن ذلك مدة قريبة ولعلهم يرجعون إلى الطاعة فإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عنه الإمام فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة أمهلهم وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم لما في الأنظار من الأضرار وإن أعطوا على الأنظار رهائن لم يقبل منهم لأنه لا يؤمن أن يكون هذا مكراً وطريقة إلى قهر أهل العدل وإن بذلوا عليه مالاً لم يقبل لما ذكرناه ولأن فيه إجزاء صغاراً على طائفة من المسلمين فلم يجز كأخذ الجزية منهم. فصل: ولا يتبع في القتال مدبرهم ولا يذفف على جريحهم لما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي" فقلت الله ورسوله أعلم فقال: "لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيؤهم": عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لا تجيزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا ولأن قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة دون القتل فلا يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان: أحدهما: لا يقصد بالقتل لأن القصد من قتالهم كفهم وهذا قد كف نفسه فلم يقصدوا الثاني والثاني: يقتل لأن علياً كرم

الله وجهه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال إياكم وقتل صاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول: وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الذي فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلاحم قبل التقدم ولم ينكر علي كرم الله وجهه قتله ولأنه صار ردءا لهم ولا تقتل النساء والصبيان كما لا يقتلون في حرب الكفار فإن قاتلوا جاز قتلهم كما يجوز قتلهم إذا قصدوا قتله في غير القتال ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم كما يكره في قتال الكفار فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله في غير القتال.

فصل: ولا يقتل أسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود: "ولا يقتل أسيرهم". فإن قتله ضمنه بالدية لأنه بالأسر صار محقون الدم فصار كما لو رجع إلى الطاعة وهل يضمنه بالقصاص فيه وجهان: أحدهما: يضمنه لما ذكرناه والثاني: لا يضمنه لأن أبا حنيفة رحمه الله يجيز قتله فصار ذلك شبهة في إسقاط القود فإن كان الأسير حراً بالغاً فدخل في الطاعة أطلقه وإن لم يدخل في الطاعة حبسه إلى أن تنقضي الحرب ليكف شره ثم يطلقه ويشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن كان عبداً أو صبياً لم يحبسه لأنه ليس من أهل البيعة ومن أصحابنا من قال يحبسه لأن في حبسه كسرا لقلوبهم. فصل: ولا يجوز قتالهم بالنار والرمي عن المنجنيق من غير ضرورة لأنه لا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل والقتل بالنار أو المنجنيق يعم من يقاتل ومن لا يقاتل وإن دعت إليه الضرورة جاز كما يجوز أن يقتل من لا يقاتل إذا قصد قتله للدفع ولا يستعين في قتالهم بالكفار ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لأن القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على منعهم من إتباع المدبرين جاز وإن لم يقدر لم يجز. فصل: وإن اقتتل فريقان من أهل البغي فإن قدر الإمام على قهرهما لم يعاون واحداً منهما لأن الفريقين على خطأ وإن لم يقدر على قهرهما ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق فإن استويا في ذلك اجتهد في رأيه في ضم أحدهما: إلى نفسه ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر بل يقصد الاستعانة به على الآخر فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الذي ضمه إلى نفسه حتى يدعوه إلى الطاعة لأنه حصل بالاستعانة به في أمانة. فصل: ولا يجوز أخذ مالهم لحديث ابن مسعود وحديث أبي أمامة في صفين ولأن الإسلام عصم دمهم ومالهم وإنما أبيح قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة وبقي حكم المال على ما كان فلم يجز أخذه كمال قطاع الطريق ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم من غير إذنهم من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" 1.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 11، مسلم في كتاب الزكاة حديث 96. الترمذي في كتاب الزكاة باب 34. أحمد في مسنده 4/10.

لا يجوز أخذ ماله محمد لم يجز الانتفاع بماله من غير إذنه ومن غير ضرورة كغيرهم وإن اضطر إليه جاز كما يجوز أكل مال غيره عند الضرورة. فصل: وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفساً أو مالاً في غير القتال وجب عليه الضمان لأن تحريم نفس كل واحد منهما وماله كتحريمهما قبل البغي فكان ضمانهما كضمانهما قبل البغي إن أتلف أهل العدل على أهل البغي نفساً أو مالاً في حال الحرب بحكم القتال لم يجب عليه الضمان لأنه مأمور بإتلافه فلا يلزمه ضمانه كما لو قتل من يقصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق وإذا أتلف أهل البغي على أهل العدل ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه الضمان لأنه أتلف عليه بعدوان فوجب عليه الضمان كما لو أتلف عليه في غير القتال والزنى لا يجب عليه الضمان وهو الصحيح لما روي عن الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ولا يقتل رجل سفك دماً حراً بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل فلم تضمن ما تتلف على الأخرى بحكم الحرب كأهل العدل ومن أصحابنا من قال القولان في غير القصاص فأما القصاص فلا يجب قولاً واحداً لأنه يسقط الشبهة ولهم في القتل شبهة. فصل: وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب في القتال وعقدوا لهم أماناً أو ذمة بشرط المعاونة لم ينعقد لأن من شرط الذمة والأمان أن لا يقتلوا المسلمين فلم ينعقد على شرط القتال فإن عاونوهم جاز لأهل العدل قتلهم مدبرين وجاز أن يذفف على جريحهم إن أسروا جاز قتلهم واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة لهم لأنه لا عهد لهم ولا ذمة فصاروا كما جاؤوا منفردين عن أهل البغي ولا يجوز شيء من ذلك لمن عاونهم من أهل البغي لأنهم بذلوا لهم الذمة والأمان فلزمهم الوفاء به وإن استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم نظرت فإن قالوا كنا مكرهين أو ظننا أنه يجوز أن نعاونهم عليكم كما يجوز أن نعاونكم عليهم لم تنتقض الذمة لأن ما ادعوه محتمل فلا يجوز نقض العقد مع الشبهة وإن قاتلوا معهم عالمين من غير إكراه فإن كان قد شرط عليهم ترك المعاونة في عقد الذمة انتقض العهد لأنه زال شرط الذمة إن لم يشترط ذلك ففيه قولان: أحدهما: ينتقض كما لو انفردوا بالقتال لأهل العدل والثاني: لا ينتقض لأنهم قاتلوا تابعين لأهل البغي فإذا قلنا لا ينتقض عهدهم كانوا في القتال كأهل البغي لا يتبع مدبرهم ولا يدفف على جريحهم وإن أتلفوا نفساً أو مالاً في الحرب لزمهم الضمان قولا واحدا والفرق بينهم وبين أهل البغي أن في تضمين أهل البغي تنفيراً عن الرجوع إلى الطاعة فسقط عنهم الضمان في أحد

القولين ولا يخاف تنفير أهل الذمة لأنا قد أمناهم على هذا القول وإن استعانوا بمن له أمان إلى مدة فعاونوهم انتقض أمانهم فإن ادعوا أنهم كانوا مكرهين ولم تكن لهم بينة على الإكراه انتقض الأمان والفرق بينهم وبين أهل الذمة في أحد القولين أن الأمان المؤقت ينتقض بالخوف من الخيانة فانتقض بالمعاونة وعقد الذمة لا ينتقض بالخوف من الخيانة فلم ينتقض بالمعاونة. فصل: وإن ولوا فيما استولوا عليه قاضياً نظرت فإن كان ممن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لهم ينفذ حكمه لأنه من شرط القضاء العدالة والاجتهاد وهذا ليس بعدل ولا مجتهد وإن كان ممن لا يستبيح دماءهم ولا أموالهم نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي أهل العدل ورد من حكمه ما يرد من حكم قاضي أهل العدل لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد فلم ينقض من حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد وإن كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل استحب أن لا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا لقلوبهم فإن قبله جاز لأنه ينفذ حكمه فجاز الحكم بكتابه كقاضي أهل العدل. فصل: وإن استولوا على بلد وأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية اعتد به لأن علياً كرم الله وجهه قاتل أهل البصرة ولم يلغ ما فعلوه وأخذوه ولأن ما فعلوه وأخذوه بتأويل سائغ فوجب إمضاؤه كالحاكم إذا حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد فإن عاد البلد إلى أهل العدل فادعى من عليه الزكاة أنه دفعها إلى أهل البغي قبل قوله وهل يحلف عليه مستحباً أو واجباً فيه وجهان: ذكرناهما في الزكاة وإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله لأنها عوض فلم يقبل قوله في الدفع كالمستأجر إذا ادعى دفع الأجرة وإن ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله لأنه مسلم فقبل قوله في الدفع كما قلنا فيمن عليه الزكاة والثاني: لا يقبل لأن الخراج ثمن أو أجرة فلم يقبل قوله في الدفع كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة. فصل: وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الإمام لم يتعرض لهم لأن علياً كرم الله وجهه سمع رجلاً من الخوارج يقول لا حكم إلا لله تعريضاً له في التحكيم في صفين فقال كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة فلأن لا نتعرض لأهل البغي وهم من المسلمين أولى وحكمها في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل لأن ابن ملجم جرح عليا كرم الله وجهه فقال: أطعموه واسقوه واحبسوه

فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به فإن قتل فهل يتحتم قتله فيه وجهان: أحدهما: يتحتم لأنه قتل بشهر السلاح فانحتم قتله كقاطع الطريق والثاني: لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي كرم الله وجهه أعفوا إن شئت وإن شئت استقدت وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فوجب فيه التعزيز وإن عرضوا بالسب ففيه وجهان: أحدهما: يعزرون لأنهم إذا لم يعزروا على التعريض وصرحوا وخرقوا الهيبة والثاني: لا يعزرون لما روى أبو يحيى قال: صلى بنا علي رضي الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فأجابه علي رضوان الله عليه وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الزمر: 65] ولم يعزره. فصل: وإن خرجت على الإمام طائفة لا منعة لها أو أظهرت رأي الخوارج كان حكمهم في ضمان النفس والمال والحدود حكم أهل العدل لأنه لا يخاف نفورهم لقلتهم وقدرة الإمام عليهم فكان حكمهم فيما ذكرناه حكم الجماعة كما لو كانوا في قبضته. فصل: وإن خرجت طائفة من المسلمين عن طاعة الإمام بغير تأويل واستولت على البلاد ومنعت ما عليها وأخذت ما لا يجوز أخذه قصدهم الإمام وطالبهم بما منعوا ورد ما أخذوا وغرمهم ما أتلفوه بغير حق وأقام عليهم حدود ما ارتكبوا لأنه لا تأويل لهم فكلن حكمهم ما ذكرناه كقطاع الطريق.

باب قتل المرتد

باب قتل المرتد تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا تصح ردتهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون

حتى يفيق". وأما السكران ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: تصح ردته قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بينا ذلك في الطلاق فأما المكره فلا تصح ردته لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 16] وإن تلفظ بكلمة الكفر وهو أسير لم يحكم بردته لأنه مكره وإن تلفظ بها في دار الحرب في غير الأسر حكم بردته لأن كونه في دار الحرب لا يدل على الإكراه وإن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لم يحكم بردته لأنه قد يأكل ويشرب من غير اعتقاد ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل أن لا يأتي بها لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها" 1. وروى حباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فتوضع على رأسه ويشق باثنتين فلا يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دينه" 2. ومن أصحابنا من قال: إن كان ممن يرجو النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع فالأفضل له أن يدفع القتل عن نفسه ويتلفظ بكلمة الكفر لما في لقائه من صلاح المسلمين وإن كان لا يرجوا ذلك اختار القتل. فصل: إذا ارتد الرجل وجب قتله لما روى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير نفس" 3. فإن ارتدت امرأة وجب قتلها،

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 9. مسلم في كتاب الإيمان حديث 66. الترمذي في كتاب الإيمان باب 10. النسائي في كتاب الإيمان باب 3. 2 رواه البخاري في كتاب المناقب باب 25. مسلم في كتاب البر حديث 53. أبو داود في كتاب الجهاد باب 97. أحمد في مسنده 5/109. 3 رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15.

لما روى جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لهل أم رومان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وهل يجب أن يستتاب أو يستحب فبه قولان أحدهما: لا يجب لأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمنه القاتل ولو وجبت الاستتابة لضمنه والثاني: أنها تجب لما روي أنه لمل ورد على عمر رضي الله عنه فتح تستر فسألهم هل كان من مغربة خبر؟ قالوا: نعم رجل ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فأخذناه وقتلناه قال: فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ولو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم فإن قلنا أنه تجب الاستتابة أو تستحب ففي مدتها وجهان: أحدهما: أنها ثلاثة أيام لحديث عمر رضي الله عنه ولأن الردة لا تكون إلا عن شبهة وقد لا يزول ذلك بالاستتابة في الحال فإن تاب وإلا قتل لحديث أم رومان ولأنه استتابة من الكفر فلم تتقدر بثلاث كاستتابة الحربي وإن كان سكراناً فقد قال الشافعي رحمه الله تؤخر الاستتابة ومن أصحابنا من قال تصح الاستتابة والتأخير مستحب لأنه تصح ردته فصحت استتابته ومنهم من قال لا تصح استتابته ويجب التأخير لأن ردته لا تكون إلا عن شبهة ولا يمكن بيان الشبهة ولا إزالتها مع السكر إن ارتد ثم جن لم يقتل حتى يفيق ويعرض عليه الإسلام لأن القتل يجب بالردة والإصرار عليها والمجنون لا يوصف بأنه مصر على الردة. فصل: وإذا تاب المرتد قبلت توبته سواء كانت ردته إلى كفر ظاهر به أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" 1. فإذا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 27، 28. مسلم في كتاب الإيمان حديث 32، 36. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88.

شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين لما أظهروا من الإسلام مع ما كانوا يبطنون من خلافه فوجب أن يكف عن المعطل والزنديق لمل يظهرونه من الإسلام فإن كان المرتد ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حكم بإسلامه لحديث أنس رضي الله عنه فإن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه وإن صلى في دار الإسلام لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أن تكون صلاته في دار الإسلام للمراآة والتقية وفي دار الحرب لا يحتمل ذلك فدل على إسلامه وإن كان ممن يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمدا نبي يبعث وهو غير الذي بعث لم يصح إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خلاف الإسلام لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده وإن ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله وكذب رسوله بما اعتقده في خبره فلا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين وإن ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم وتكرر منه ذلك قبل إسلامه ويعزر على تهاونه بالدين وقال أبو إسحاق: لا يقبل إسلامه إذا تكررت ردته وهذا خطأ لقوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولأنه أتى بالشهادتين بعد الردة فحكم بإسلامه كما لو ارتد مرة ثم أسلم. فصل: وإن ارتد ثم أقام على الردة فإن كان حراً كان قتله إلى الإمام لأنه قتل يجب لحق الله تعالى فكان إلى الإمام كقتل الزاني فإن قتله غيره بغير إذنه عزر لأنه أفتات على الإمام فإن كان عبداً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز للمولى قتله لأنه عقوبة تجب لحق الله تعالى فجاز للمولى إقامتها كحد الزنى والثاني: لا يجوز للمولى قتله لأنه حق الله عز وجل لا يتصل بحق المولى فلم يكن للمولى فيه حق بخلاف حد الزنا فإنه يتصل بحقه في إصلاح ملكه.

فصل: إذا ارتد وله مال ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يزول ملكه عن ماله وهو اختيار المزني رحمه الله لأنه لم يوجد أكثر من سبب يبيح الدم وهذا لا يوجب زوال الملك عن ماله كما لو قتل أو زنى والقول الثاني: أنه يزول ملكه عن ماله وهو الصحيح لما روى طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا ولأنه عصم بالإسلام دمه وماله ثم ملك المسلمين دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله بالردة والقول الثالث: أنه مراعي فإن أسلم حكمنا بأنه لم يزل ملكه وإن قتل أو مات على الردة حكمنا بأنه زال ملكه لأن ماله معتبر بدمه ثم استباحة دمه موقوفة على توبته فوجب أن يكون زوال ملكه عن المال موقوفا وعلى هذا في ابتداء ملكه بالاصطياد والابتياع وغيرهما الأقوال الثلاثة: أحدهما: يملك والثاني: لا يملك والثالث: أنه مراعى فإن قلنا أن ملكه قد زال بالردة صار المال فيئا للمسلمين وأخذ إلى بيت المال وإن قلنا أنه لا يزول أو مرعى حجر عليه ومنع من التصرف فيه لأنه تعلق به حق المسلمين وهو متهم في إضاعته فحفظ كما يحفظ مال السفيه وأما تصرفه في المال فإنه إن كان بعد الحجر لم يصح لأنه حجر ثبت بالحاكم فمنع صحة التصرف فيه كالحجر على السفيه وإن كان قبل الحجر ففيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال في بقاء ملكه أحدها أنه يصح والثاني: أنه لا يصح والثالث: أنه موقوف. فصل: وإن ارتد وعليه دين قضى من ماله لأنه ليس بأكثر من موته ولو مات قضيت ديونه فكذلك إذا ارتد. فصل: ولا يجوز استرقاقه لأنه لا يجوز إقراره على الكفر فإن ارتد وله ولد أو حمل كان محكوماً بإسلامه فإذا بلغ ووصف الكفر قتل وقال أبو العباس: فيه قول آخر أنه لا يقتل لأن الشافعي رحمه الله قال: ولو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الإسلام لم يجب عليه القود والمذهب الأول لأنه محكوم بإسلامه إنما أسقط الشافعي رحمه الله القود بعد البلوغ للشبهة وهو أنه بلغ ولم يصف الإسلام ولهذا لو قتل قبل البلوغ وجب القود وإن ولد له ولد بعد الردة من ذمية فهو كافر لأنه ولد بين كافرين وهل يجوز استقراره؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأنه لا يسترق أبواه فلم يسترق والثاني: لأنه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين فإن قلنا لا يجوز استرقاقه استتيب بعد البلوغ فإن تاب وإلا قتل وإن قلنا يجوز استرقاقه فوقع في الأسر فللإمام أن يمن عليه وله أن يفادي به وله أن يسترقه كولد الحربيين غير أنه إذا استرقه لم يجز إقراره على الكفر لأنه دخل في الكفر بعد نزول القرآن.

فصل: وإن ارتدت طائفة وامتنعت بمنعة وجب على الإمام قتالها لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل المرتدة ويتبع في الحرب مدبرهم ويذفف على جريحهم لأنه إذل وجب ذلك في قتال أهل الحرب فلأن يجب ذلك في قتال المرتدة وكفرهم أغلظ أولى وإن أخذ منهم أسير استتيب فإن تاب وإلا قتل لأنه لا يجوز إقراره على الكفر. فصل: ومن أتلف منهم نفساً أو مالاً على مسلم فإن كان ذلك في غير القتال وجب عليه ضمانه لأنه التزم ذلك بالإقرار بالإسلام فلم يسقط عنه بالجحود كما لا يسقط عنه ما التزمه بالإقرار عند الحاكم بالحجود فإن أتلف ذلك في حال القتال ففيه طريقان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني وغيره من البغداديين أنه على قولين كما قلنا في أهل البغي والثاني: وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي وغيره من البصريين أنه يجب عليه الضمان قولاً واحداً لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم فكان حكمهم في الضمان حكم قاطع الطريق ولأول وهو الصحيح أنه على قولين أصحهما أنه لا يجب الضمان لما روى طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فقال: تدون قتلانا وقتلاكم في النار فقال عمر: إن قتلانا قتلوا على أملا الله ليس لهم ديات فتفرق الناس على رأي عمر رضي الله عنه. فصل: وللسحر حقيقة وله تأثير في إيلام الجسم وإتلافه وقال أبو جعفر الإستراباذي من أصحابنا من قال لا حقيقة ولا تأثير له والمذهب الأول لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] والنفاثات السواحر ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة من شره وروت عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه ليخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله ويحرم فعله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من سحر أو سحر له وليس منا من تكهن أو تكهن له وليس منل من تطير أو تطير له". ويحرم تعلمه لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ

النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] فذمهم على تعليمه ولأن تعلمه يدعوا إلى فعله وفعله محرم فحرم ما يدعوا إليه فإن علم أم تعلم واعتقد تحريمه لم يكفر لأنه إذا لم يكفر بتعلم الكفر فلأن لا يكفر بتعلم السحر أولى وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر لأنه كذب الله تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتد.

باب صول الفحل

باب صول الفحل من قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق فله أن يدفعه لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاتل دون أهله أو ماله فقتل فهو شهيد" 1. وهل يجب عليه الدفع ينظر فيه فإن كان في المال لم يجب لأن المال يجوز إباحته وإن كان في أهله وجب عليه الدفع لأنه لا يجوز إباحته وإن كان في النفس ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الدفع لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والثاني: أنه لا يجب لأن عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه ولأنه ينال به الشهادة إذا قتل فجاز له ترك الدفع لذلك. فصل: وإذا أمكنه الدفع بالصياح والاستغاثة لم يدفع باليد وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد فإذا لم يندفع دفعه بالعصا فإن لم يندفع بالعصا دفعه بالسلاح فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف العضو فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل وإن عض يده ولم يمكنه تخليصها إلا بفك لحييه وإن لم يندفع إلا بأن

_ 1 رواه أبو داود في كتاب السنة باب 29. الترمذي في كتاب الديات باب 21. النسائي في كتاب التحريم باب 23، 24.

يبعج جوفه بعج جوفه ولا يجب عليه في شيء من ذلك ضمان لما روى عمران بن الحصين قال: قاتل يعلى بن أمية رجلاً فعض أحدهما: يد صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثتيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له". ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف فلم يضمنه كما لو رمى حجراً فرجع الحجر عليه فأتلفه وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضواً أو قدر على دفعه بالقطع فقتله وجب عليه الضمان لأنه جناية لغير حق فأشبه إذا جنى عليه من غير دفع وإن قصده ثم انصرف عنه لم يتعرض له وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه مرة أخرى لأن القصد كف أذاه فإن قصده فقطع يده فولى عنه فقطع يده الأخرى وهو مول لم يضمن الأولى لأنه قطع بحق ويضمن الثانية لأنه قطع بغير حق وإن مات منهما لم يجب عليه القصاص في النفس لأنه مات من مباح ومحظور ولولي المقتول الخيار في أن يقتص من اليد الثانية وبين أن يأخذ نصف دية النفس. فصل: وإن وجد رجلا يزني بامرأته ولم يمكنه المنع إلا بالقتل فقتله لم يجب عليه شيء فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه قتله بحق فإن ادعى أنه قتله لذلك وأنكر الولي ولم يكن بينة لم يقبل قوله فإذا حلف الولي حكم عليه بالقود لما روى أبو هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال: "نعم" فدل على أنه لا يقبل قوله من غير بينة وروى سعيد بن المسيب قال: أرسل معاوية أبا موسى إلى علي كرم الله وجهه يسأله عن رجل وجد على امرأته رجلاً فقتله فقال علي كرم الله وجهه لتخبرني لم تسأل عن هذا فقال إن معاوية كتب إلي فقال علي أنا أبو الحسن إن جاء بأربعة شهداء يشهدون على الزنا وإلا أعطى برمته يقول يقتل. فصل: وإن صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلا بالقتل فقتلها لم يضمن لأنه إتلاف بدفع جائز فلم يضمن كما لو قصده آدم فقتله للدفع. فصل: فإن أطلع رجل أجنبي في بيته على أهله فله أن يفقأ عينه لما روى سهل بن سعد قال: أطلع رجل من جحر في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرا يحك به

رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أنك تنظر لطعنت به عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". وهل له أن يصيبه قبل أن ينهاه بالكلام فيه وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي والشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه يجوز للخبر والثاني: أنه لا يجوز كما لا تجوز إصابة من يقصد نفسه بالقتل إذا اندفع بالقول ولا يجوز أن يصيبه إلا بشيء خفيف لأن المستحق بهذه الجناية فقء العين وذلك يحصل بسبب خفيف فلم تجز الزيادة عليه وإن فقأ عينه فمات منه لم يضمن لأنه سراية من مباح فلم يضمن كسرية القصاص فإن رماه بشيء يقتل فمات منه ضمنه لأنه قتله بغير حق وإن رماه فلم يرجع استغاث عليه فإن لم يكن من يغيثه فمن المستحب أن يخوفه بالله تعالى فإن لم يقبل فله أن يصيبه بما يدفعه فإن أتى على نفسه لم يضمن لأنه تلف بدفع جائز فإن اطلع أعمى لم يجز له رميه لأته لا ينظر إلى محرم وإن اطلع ذو رحم محرم لأهله لم يجز رميه لأنه غير ممنوع النظر وإن كانت زوجته متجردة فقصد النظر إليها جاز له رميه لأنه محرم عليه النظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة منها كما يحرم على الأجنبي وإن اطلع عليه من باب مفتوح أو كوة واسعة فإن نظر وهو على اجتيازه لم يجز رميه لأنه المفرط صاحب الدار بفتح الباب وتوسعة الكوة وإن وقف وأطال النظر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز له رميه لأنه مفرط في الإطلاع فأشبه إذا اطلع من ثقب والثاني: أنه لا يجوز له رميه وهو قول القاضي أبي القاسم العمري لأن صاحب الدار مفرط في فتح الباب وتوسعة الكوة. فصل: وإذا دخل رجل داره بغير إذنه أمره بالخروج فإن لم يقبل فله أن يدفعه بما يدفع به من قصد ماله أو نفسه فإن قتله فادعى أنه قتله للدفع عن داره وأنكر الولي لم يقبل قول القاتل من غير بينة لأن القتل متحقق وما يدعيه خلاف الظاهر فإن أقام بينة أنه دخل داره مقبلاً عليه بسلاح شاهر لم يضمن لأن الظاهر أنه قصد قتله وإن أقام الولي بينة أنه دخل داره بسلاح غير شاهر ضمنه بالقود أو بالدية لأن القتل متحقق وليس ههنا ما يدفعه. فصل: إذا أفسدت ماشيته زرعا لغيره ولم بكن معها فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن وإن كان بالليل ضمن لما روى حزام ابن سعد بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت زرعاً فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم

بالنهار وعلى أهل المواشي ما أصابت مواشيهم بالليل وإن كانت له هرة تأكل الطيور فأكلت طيراً لغيره أوله كلب عقور فأتلف إنساناً وجب عليه الضمان لأنه مفرط في ترك حفظه. فصل: وإن مرت بهيمة له بجوهرة لآخر فابتلعتها نظرت فإن كان معها ضمن الجوهرة لأن فعلها منسوب إليه وقال أبوعلي بن أبي هريرة إن كانت شاة لم يضمن وإن كان بعيراً ضمن لأن العادة في البعير أنه يضبط وفي الشاة أن ترسل وهذا فاسد لأنه يبطل بإفساد الزرع لأنه لا فرق فيه بين الجميع فإن لم يكن معها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة فإنه إن كان ذلك نهارا لم يضمن وإن كان ليلا ضمن كالزرع والثاني: وهو قول القاضي أبي الحسن الماوردي البصري أنه يضمنها ليلا ونهارا والفرق بينه وبين الزرع أن رعي الزرع مألوف صاحبه فلزم صاحبه حفظه منها وابتلاع الجوهرة غير مألوف فلم يلزم صاحبها حفظه منها فغلى هذا إن طلب صاحب الجوهرة ذبح البهيمة لأجل الجوهرة لم تذبح يغرم قيمة الجوهرة فإن دفع القيمة ثم ماتت البهيمة ثم أخرجت الجوهرة من جوفها وجب ردها إلى صاحبها لأنها عين ماله واسترجعت القيمة فإن نقصت قيمة الجوهرة بالابتلاع ضمن صاحب البهيمة ما نقص وإن كانت البهيمة مأكولة ففي ذبحها وجهان بناء على القولين فيمن غصب خيطاً وخاط به جرح حيوان مأكول.

كتاب السير

كتاب السير مدخل ... كتاب السير من أسلم في دار الحرب ولم يقدر على إظهار دينه وقدر على الهجرة وجبت عليه الهجرة لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك". فإن لم يقدر على الهجرة لم يجب عليه لقوله عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98- 99] وإن قدر على إظهار الدين ولم يخف الفتنة في الدين لم تجب عليه الهجرة لأنه لما أوجب على المستضعفين دل على أنه لا تجب على غيرهم ويستحب له أن يهاجر لقوله عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ولأنه إذا أقام في دار الشرك كثر سوادهم ولأنه لا يؤمن أن يميل إليهم ولأنه ربما ملك الدار فاسترق ولده. فصل: والجهاد فرض والدليل عليه قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقوله تعالى: {جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] وهو فرض إلى الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ الله الْحُسْنَى} [النساء: 95] ولو كان فرضاً على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك ولأنه وعد الجميع بالحسنى يدل على أنه ليس بفرض على الجميع وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان وقال: "ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال

للقاعدين: " أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل أجر نصف الخارج". ولأنه لو جعل فرضاً على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلاك الخلق. فصل: ويستحب الإكثار منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال: "الإيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيل الله". وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وجبت له الجنة" فقال: أعدها يا رسول الله ففعل ثم قال: "وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده وددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل" 1 كان أبو هريرة يقول ثلاثاً أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزوة وبعث خمسا وثلاثين سرية. فصل: وأقل مل يجزئ في كل سنة مرة لأن الجزية تجب في كل سنة مرة وهي بدل عن القتل فكذلك القتل ولأن في تعطيله في أكثر من سنة ما يطمع العدو في المسلمين فإن دعت الحاجة في السنة إلى أكثر من مرة وجب لأنه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه فإن دعت الحاجة الى تأخيره لضعف المسلمين أو قلة ما يحتاج إليه من قتالهم من المدة وللطمع في إسلامهم ونحو ذلك من الأعذار جاز تأخيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قتال قريش بالهدنة وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة ولأن ما يجري من النفع بتأخيره أكثر مما يجرى من النفع بتقديمه فوجب تأخيره. فصل: ولا يجاهد أحد عن أحد بعوض وبغير عوض لأنه إذا حضر تعين عليه الفرض في حق نفسه فلا يؤديه عن غيره كما لا يحج عن غيره وعليه فرضه.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 26. مسلم في كتاب الإمارة حديث 107. النسائي في كتاب الجهاد باب 18. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 27.

فصل: ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضي الله عنه قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال: "جهادكن الحج أو حسبكن الحج". ولأن الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن ولهذا رأى عمر بن أبي ربيعة امرأة مقتولة فقال: إن من أكبر الكبائر عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول ولا يجب على الخنثى المشكل لأنه يجوز أن بكون امرأة فلا يجب عليه بالشك ولا يجب على العبد لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] والعبد لا يجد ما ينفق وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أسلم عنده رجل لا يعرفه قال: "أحر هو أم مملوك" فإن قال: أنا حر بايعه على الإسلام والجهاد وإن قال: أنا مملوك بايعه على الإسلام ولم يبايعه على الجهاد ولأنه عبادة متعلقة بقطع مسافة بعيدة فلا يجب على العبد كالحج. فصل: ولا يجب على الصبي والمجنون لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". وروى عروة بن الزبير قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر نفراً من أصحابه استصغرهم منهم عبد الله بن عمر وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وعرابة بن أوس ورجل من بني حارثة فجعلهم حرسا للذراري والنساء ولأنه عبادة على البدن فلا يجب على الصبي والمجنون كالصوم والصلاة والحج. فصل: ولا يجب على الأعمى لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى

الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [النور: 61] ولا يختلف أهل التفسير أنها في سورة الفتح أنزلت في الجهاد ولأنه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه وإن كان في بصره شيء فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح وجب عليه لأنه يقدر على القتال وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال ويجب على الأعور والأعشى وهو الذي يبصر بالنهار دون الليل لأنه كالبصير في القتال ولا يجب على الأعرج الذي يعجز عن الركوب والمشي للآية ولأنه لا يقدر على القتال ويجب عليه إذا قدر على الركوب والمشي لأنه يقدر على القتال ولا يجب على الأقطع والأشل لأنه يحتاج في القتال إلى يد يضرب بها ويد يتقي بها وإن قطع أكثر أصابعه لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال وإن قطع الأقل وجب عليه لأنه يقدر على القتال ولا يجب على المريض الثقيل للآية ولأنه لا يقدر على القتال ويجب على من به حمى خفيفة أو صداع قليل لأنه يقدر على الفتال. فصل: ولا يجب على الفقير الذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلاً عن نفقة عياله لقوله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] فإن كان القتل على باب البلد أو حواليه وجب عليه لأنه لا يحتاج إلى نفقة الطريق وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة ولم يقدر على مركوب يحمله لم يجب عليه قوله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلم تجب من غير مركوب كالحج وإن بذل له الإمام ما يحتاج اليه من مركوب وجب عليه أن يقبل ويجاهد لأن ما يعطيه الإمام حق له وإن بذل له غيره لم يلزمه قبوله لأنه اكتساب مال لتجب به العبادة فلم يجب كاكتساب المال للحج والزكاة. فصل: ولا يجب على من عليه دين حال من أن يجاهد من غير إذن غريمه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر خطاياك إلا الدين كذلك قال لي جبريل" 1 ولأن فرض الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه فإن استناب من يقضيه من مال

_ 1 رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 32. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 31. الدارمي في كتاب الجهاد باب 20. أحمد في مسنده 2/308.

حاضر جاز لأن الغريم يصل إلى حقه وإن كان من مال غائب لم يجز لأنه قد يتلف فيضيع حق الغريم وإن كان الدين مؤجلاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد والثاني: أنه لا يجوز لأنه يتعرض للقتل طلباً للشهادة فلا يؤمن أن يقتل فيضيع دينه. فصل: وإن كان أحد أبويه مسلماً لم يجز أن يجاهد بغير إذنه لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك" قال: نعم فقال: "ففيهما فجاهد"1. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لميقاتها" قلت ثم ماذا؟ فقال: "بر الوالدين" قلت: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" 2. فدل على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد ولأن الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره وبر الوالدين فرض يتعين عليه لأنه لا ينوب عنه فيه غيره ولهذا قال رجل لابن عباس رضي الله عنه إني نذرت أن أغزو الروم وإن أبوي منعاني فقال: أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك وإن لم يكن له أبوان وله جد أو جدة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما كالأبوين في البر وإن كان له أب وجد أو أم وجدة فهل يلزمه استئذان الأب مع الحد أو استئذان الجدة مع الأم فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأن الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة والثاني: يلزمه وهو الصحيح عندي لأن وجود الأبوين لا يسقط بر الجدين ولا ينقص شفقتهما عليه وإن كان الأبوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما متهمان في الدين وإن كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا أنه يجاهد من غير إذنهما لأنه لا إذن لهما في أنفسهما فلم يعتبر إذنهما لغيرهما قال الشيخ الإمام: وعندي أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بإذنهما لأن المملوك كالحر في البر والشفقة فكان كالحر في اعتبار الإذن وان أراد الولد أن يسافر في تجارة أوفي طلب علم جاز من غير إذن الأبوين لأن الغالب في سفره السلامة. فصل: وإن أذن الغريم لغريمه أو الوالد لولده ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بالإذن وان كان بعد التقاء الزحفين ففيه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 138. مسلم في كتاب البر حديث 5. أبو داود في كتاب الجهاد باب 31. النسائي في كتاب الجهاد باب 5. 2 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 1. أحمد في مسنده 2/32.

قولان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بالإذن لأنه عذر يمنع وجوب الجهاد فإذا طرأ منع من الوجوب كالعمى والمرض والثاني: أنه يجاهد من غير إذن لأنه اجتمع حقان متعينان وتعين الجهاد سابق فقدم وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير إذن الغريم ومن غير إذن الأبوين لأن ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدي إلى الهلاك فقدم على حق الغريم والأبوين. فصل: ويكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير من قبله لأن الغز وعلى حسب حال الحاجة والإمام والأمير أعرف بذلك ولا يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد. فصل: ويجب على الإمام أن يشحن ما يلي الكفار من بلاد المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ويستعمل عليهم أمراء ثقات من أهل الإسلام مدبرين لأنه إذا لم يفعل ذلك لم يؤمن أنه إذا توجه في جهة الغز وأن يدخل العدو من جهة أخرى فيملك بلاد الإسلام وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق وقال البراء بن عازب: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعره وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة وهو يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

وإذا أراد الغز وبدأ بالأهم فالأهم لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فاذا استوت الجهاد في الخوف اجتهد وبدأ بأهمها عنده. فصل: وإذا أراد الخروج عرض الجيش ولا يأذن لمخذل ولا لمن يعاون الكفار بالمكاتبة لقوله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] قيل في التفسير لأوقعوا بينكم الاختلاف وقيل وشرعوا في تفريق جمعكم ولأن في حضورهم إضرارا بالمسلمين ولا نستعين بالكفار من غير حاجة الله لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له: "تؤمن بالله ورسوله قال: لا قال: فارجع فلن أستعين بمشرك" 1. فان احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن من يستعين به حسن الرأي في المسلمين لم نستعن به لأن ما يخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من المنفعة وإن كان حسن الرأي في المسلمين جاز أن نستعين بهم لأن صفوان بن أمية شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركه حرب هوازن وسمع رجلا يقول غلبت هوازن وقتل محمد فقال بفيك الحجر لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازن وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز لأنه لا يقع الجهاد له وفي القدر الذي يستأجر به وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن تبلغ الأجرة سهم راجل لأنه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ حقه سهم راجل كالصبي والمرأة والثاني: وهو المذهب أنه يجوز لأنه عوض في الإجارة فجاز أن يبلغ قدر سهم الراجل كالأجرة في سائر الإجارات ويجوز أن يأذن للنساء لما روت الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخدم القوم ونسقيهم الماء ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة ويجوز أن يأذن لمن اشتد

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 142. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 27. الدارمي في كتاب السير باب 53. أحمد في مسنده 6/68.

من الصبيان لأن فيهم معاونة ولا يأذن المجنون لأنه يعرضه للهلاك من غير منفعة وينبغي أن يتعاهد الخيل فلا يدخل حطبا وهو الكسير ولا فحماً وهو الكبير ولا ضرعاً وهو الصغير ولا أعجف وهو الهزيل لأنه ربما كان سببا للهزيمة ولأنه يزاحم به الغانمين في سهمهم ويأخذ البيعة على الجيش أن لا يفروا لما روى جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألف رجل وأربعمائة فبايعناه تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت يعني النبي صلى الله عليه وسلم ويوجه الطلائع ومن يتجسس أخبار الكفار لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا فقال: "إن لكل نبي حوارياً وحواريي الزبير" 1. والمستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس ويستحب أن يعقد الرايات ويجعل تحت كل راية طائفة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس أحبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها" قال العباس: فحبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها حتى مر به

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 40، 41. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 48. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده 1/89.

رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال: "من هؤلاء يا عباس" قال: قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال: "ما لأحد بهؤلاء من قبل والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما" والمستحب أن يدخل إلى دار الحرب بتعية الحرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فجعل خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو. فصل: وإن كان العدو ممن لم تبلغهم لدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم الى الإسلام لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولا يجوز قتالهم على ما يلزمهم وإن بلغتهم الدعوة فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام لما روى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: "إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لأن يهدي لله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 1. وإن قاتلهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام جاز لما روى نافع قال: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وقيل وهم غافلون.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 29. مسلم في كتاب فضائل القرآن حديث 32، 34. أبو داود في كتاب الوتر باب 1. الترمذي في كتاب الوتر باب 1. الموطأ في كتاب السفر حديث 43.

فصل: فان كانوا ممن لا يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم الى أن يسلموا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 1 وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم الى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية والدليل عليه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وروى بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على جيش أو سرية قال: إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم الى إحدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم الى الدخول في الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم الى دار الهجرة فان فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن دخلوا في الإسلام وأبوا أن يتحولوا الى دار الهجرة فأخبرهم أنهم كأعراب المؤمنين الذين يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء حتى يجاهدوا مع المؤمنين فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم ثم قاتلهم ويستحب الاستنصار بالضعفاء لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ائتوني بضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" 2. ويستحب أن يدعوا عند التقاء الصفين لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي وأنت ناصري وبك أقاتل". وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف أمراً قال: "اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 17. مسلم في كتاب الإيمان حديث 34. الترمذي في كتاب الإيمان باب 1. الترمذي في كتا ب الوتر باب 1. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1. أحمد في مسنده 1/11، 19. 2 رواه الترمذي في كتاب الجهاد باب 24. أحمد في مسنده 5/198.

شرورهم". ويستحب أن يحرض الجيش على القتال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار هذه أوباش قريش قد جمعت لكم إذا لقيتموهم غداً فاحصدوهم حصدا". وروى سعد رضي الله عنه قال: نقل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: "ارم فداك أبي وأمي". ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما رأى القرية قال: "الله أكبر خربت خيبر فإذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". قالها ثلاثا ولا يرفع الصوت بالتكبير لما روى أبو موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأشرفوا على واد فجعل الناس يكبرون ويهللون الله أكبر الله أكبر يرفعون أصواتهم فقال: "يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون قريباً سميعاً إنه معكم". فصل: وإذا التقى الزحفان ولم يزدد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل: {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] وهذا أمر بلفظ الخبر لأنه لوكان خبراً لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين وأمر الألف بمصابرة الألفين ولا يجوز لمن تعين عليه أن يولي إلا متحرفا لقتال وهو أن ينتقل من مكان الى مكان أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة وهو أن ينضم الى قوم ليعود معهم الى قتال والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ َمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله} [الأنفال: 15 - 16] وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص فلما برزنا قلت كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون فقال: "لا بل أنتم العكارون" فدنونا فقبلنا يده فقال إنا فئة المسلمين وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنا فئة كل مسلم وهو بالمدينة وجيوشه في الآفاق إن ولى غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة أثم وارتكب كبيرة والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر سبع أولهن الشرك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا وفرار يوم الزحف ورمي المحصنات وانقلاب الى الأعراب" 1. فإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان: أحدهما: أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والثاني: أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل: {إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ولأن المجاهد إنما يقاتل ليقتل أو يقتل وإن زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا لأنه لما أوجب الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر وإن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون وان غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان أحدهما: أنه يلزمهم أن

_ 1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 144. البخاري في كتاب الوصايا باب 23.

ينصرفوا لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والثاني: أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولي عنهما لأنه غير نتأهب للقتال وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان أحدهما: أن له أن يولي عنهما لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد والثاني: أنه يحرم عليه أن يولي عنهما لأنه مجاهد لهما فلم يول عنهما كمل لو كان مع جماعة. فصل: ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر رضي الله عنه من قتل ابنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم بسوء لم يكره أن يقتله لأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يسبك ولم ينكر عليه. فصل: ولا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان ولا يجوز قتل الخنثى المشكل لأنه يجوز أن يكون رجلا ويجوز أن يكون امرأة فلم يقتل مع الشك وان قاتلوا جاز قتلهم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت الى سيفي أو إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال النساء". ما شأن قتل النساء ولو حرم ذلك لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا جاز قتلهن إذا قصدن القتل وهن مسلمات فلأن يجوز قتلهن وهن كافرات أولى. فصل: وأما الشيخ الذي لا قتال فيه فإن كان له رأي في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأي فإنه أشار على هوازن يوم حنين ألا يخرجوا معهم بالذراري فخالفه مالك بن عوف فخرج بهم فهزموا فقال دريد في ذلك: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد وقتل ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال لأنه هو الأصل وعنه يصدر القتال ولهذا قال المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان

ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان وإن لم يكن له رأي ففيه وفي الراهب قولان: أحدهما: أنه يقتل لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولأنه ذكر مكلف حربي فجاز قتله بالكفر كالشاب والثاني: أنه لا يقتل لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال ليزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم الى الشام لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم ولأنه لا نكاية له في المسلمين فلم يقتل بالكفر الأصلي كالمرأة. فصل: ولا يقتل رسولهم لما روى أبو وائل قال: لما قتل عبد الله بن مسعود بن النواحة قال: إن هذا وابن أثال قد كانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدان أني رسول الله" قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت أعناقكم". فجرت سنة أن لا تقتل الرسل. فصل: فإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم فإن كان في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى الأطفال والنساء لأنا لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقاً إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين وإن كان في غير حال الحرب ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز رميهم لأن ترك قتالهم يؤدي إلى تعطيل الجهاد والثاني: أنه لا يجوز رميهم لأنه يؤدي إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة وإن تترسوا بمن معهم من أسارى المسلمين فإن كان ذلك في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى المسلم لما ذكرناه وإن كان في غير التحام الحرب لم يجوز رميهم قولا واحدا والفرق بينهم وبين أطفالهم ونسائهم أن المسلم محقون الدم لحرمة الدين فلم يجز قتله من غير ضرورة والأطفال والنساء حقن دمهم لأنهم غنيمة للمسلمين فجاز قتلهم من غير ضرورة وإن تترسوا بأهل الذمة أو بمن بيننا وبينهم أمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا تترسوا بالمسلمين لأنه يحرم قتلهم كما يحرم قتل المسلمين. فصل: وإن نصب عليهم منجنيقا أو بيتهم ليلا وفيهم النساء والأطفال جاز لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وإن كانت لا تخلو من النساء والأطفال وروى الصعب بن جثامة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من

المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" ولأن الكفار لا يخلون من النساء والأطفال فلو تركنا رميهم لأجل النساء والأطفال بطل الجهاد وإن كان فيهم أسارى من المسلمين نظرت فإن خيف منهم أنهم إذا تركوا قاتلوا وظفروا بالمسلمين جاز رميهم لأن حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم وإن لم يخف منهم نظرت فإن كان الأسرى قليلاً جاز رميهم لأن الظاهر أنه لا يصيبهم والأولى أن لا نرميهم لأنه ربما أصاب المسلمين وإن كانوا كثيراً لم يجز رميهم لأن الظاهر أنه يصيب المسلمين وذلك لا يجوز من غير ضرورة. فصل: ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من الدواب لما روي أن حنظلة بن الراهب عقر بأبي سفيان فرسه فسقط عنه فجلس على صدره فجاء ابن شعوب فقال: لأحمين صاحبي ونفسي ... بطعنة مثل شعاع الشمس فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة ولأن بقتل الفرس يتوصل إلى قتل الفارس. فصل: وان احتيج إلى تخريب منازلهم وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز ذلك وإن لم يحتج إليه نظرت فإن لم يغلب على الظن أنها تملك عليهم جاز فعله وتركه وإن غلب على الظن أنها تملك عليهم ففيه وجهان أحدهما: لا يجوز لأنها تصير غنيمة فلا يجوز إتلافها والثاني: أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل جاز لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق على بني النضير وقطع البويرة فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} . فصل: ويجوز للمسلم أن يأمن من الكفار آحاداً لا يتعطل بأمانهم الجهاد في ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما عندي شيء إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذمة المسلمين واحدة فمن

أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرت من أجرت يا أم هانئ". ويجوز ذلك للعبد لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجير على المسلمين أدناهم" 1. وروى فضل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً كنت فيه فحصرنا قرية من قرى رام هرمز فكتب عبد منا أمانا في صحيفة وشدها مع سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا بأمانة فكتب بذلك الى عمر رضي الله عنه فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته منهم ولا يصح ذلك من صبي ولا مجنون ولا مكره لأنه عقد فلم يصح منهم كسائر العقود فإن دخل مشرك على أمان واحد منهم فإن عرف أن أمانه لا يصح حل قتله لأنه حربي ولا أمان له وإن لم يعرف أن أمانه لا يصح فلا يحل قتله إلى أن يرجع الى مأمنه لأنه دخل على أمان ويصح الأمان بالقول وهو أن يقول أمنتك أو أجرتك أو أنت آمن أو مجار أولا بأس عليك أولا خوف عليك أولا تخف أو مترس بالفارسية وما أشبه ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقال لأم هانئ: "قد أجرت من أجرت" وقال أنس لعمر رضي الله عنه في قصة هرمز أن ليس لك إلا قتله من سبيل قلت له تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر وروى زر عن عبد الله أنه قال: إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا وقال مترس فقد أمنه ويصح الأمان بالإشارة لما روى أبو سلمة قال: قال عمر رضي الله عنه: والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته فإن أشار إليه الأمان ثم قال لم أرد الأمان قبل قوله لأنه أعرف بمل أراده وبعرف المشرك أنه لا أمان له ولا يتعرض له إلى أن يرجع الى مأمنه لأنه دخل على أنه آمن وإن أمن مشركاً فرد الأمان لم يصح الأمان لأنه إيجاب حق لغيره بعقد فلم يصح مع الرد كالإيجاب في البيع والهبة وإن أمن أسيراً لم يصح الأمان لأنه يبطل ما ثبت الإمام فيه من الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قال كنت أمنته قبل الأسر لم يقبل قوله لأنه لا يملك عقد الأمان في هذه الحال فلم يقبل إقراره به. فصل: وإن أسر امرأة حرة أو صبياً حراً رق بالأسر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سبي بني

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أبو داود في كتاب الديات باب 11. الدارمي في كتاب السير باب 58. أحمد في مسنده 2/365.

المصطلق واصطفى صفية من سبي خيبر وقسم سبي هوازن ثم استنزلته هوازن فنزل واستنزا الناس فنزلوا وإن أسر حر بالغ من أهل القتال فللإمام أن يختار ما يرى من القتل أو الاسترقاق والمن والفداء فإن رأى القتل قتل لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من المشركين من قريش مطعم بن عدي والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي وقتل يوم الفتح ابن خطل وإن رأى المن عليه جاز لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي عزة الجمحي ومن على ثمامة الحنفي ومن على أبي العاص ابن الربيع وإن رأى أن يفادي بمال أو بمن أسرى من المسلمين فادى به لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسيراً من عقيل برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف وإن رأى أن يسترقه فإن كان من غير العرب نظرت فإن كان ممن له كتاب أوشبه كتاب استرقه لما روي عن ابن عباس أنه قال في قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وذلك يوم بدر والمسلمين يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أمر الله عز وجل في الأسارى فإما منا بعد وإما فداء فجعل الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم فإن كان من عبدة الأوثان ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجوز استرقاقهم لأنه لا يجوز إقراره على الكفر بالجزية فلم يجز الاسترقاق كالمرتد والثاني: أنه يجوز لما رويناه عن ابن عباس ولأن من جاز المن عليه في الأسر جاز استرقاقه كأهل الكتاب وإن كان من العرب ففيه قولان قال في الجديد يجوز استرقاقه والمفاداة به وهو الصحيح لأن من جاز المن عليه والمفاداة به من الأسارى جاز استرقاقه كغير الغرب وقال في القديم لا يجوز استرقاقه لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لو كان استرقاق ثابتاً على العرب لكان اليوم وإنما هو أسر وفداء فإن تزوج عربي بأمة فأتت منه بولد فعلى القول الجديد الولد مملوك وعلى القديم الولد حر ولا ولاء عليه لأنه حر من الأصل. فصل: ولا يختار الإمام في الأسير من القتل والاسترقاق والمن والفداء إلا ما فيه

الحظ للإسلام والمسلمين لأنه ينظر لهما فلا يفعل إلا ما فيه الحظ لهما فان بذل الأسير الجزية وطلب أن تعقد له الذمة وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب قبولها كما يجب إذا بذل وهو في غير الأسر وهو ممن يجوز أن تعقد لمثله الذمة والثاني: أنه لا يجب لأنه يسقط بذلك ما ثبت من اختيار القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قتله مسلم قبل أن يختار الإمام ما يراه عزر القاتل لا فتياته على الإمام ولا ضمان عليه لأنه حربي لا أمان له وإن أسلم حقن دمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالكم إلا بحقها". وهل يرق الإسلام أو يبقى الخيار فيه بين الاسترقاق والمن والفداء فيه قولان: أحدهما: أنه يرق بنفس الإسلام ويسقط الخيار في الباقي لأنه أسير لا يقتل فرق الصبي والمرأة والثاني: أنه لا يرق بل يبق الخيار في الباقي لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن الأسير العقيلي قال: يا محمد إني مسلم ثم فاداه برجلين ولأن ما ثبت الخيار فيه بين أشياء إذا سقط أحدهما: لم يسقط الخيار في الباقي ككفارة اليمين إذا عجز فيها عن العتق فعلى هذا اذا اختار الفداء لم يجز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن معهم على دينه ونفسه وإن أسر شيخ لا قتال فيه ولا رأي له في الحرب فإن قلنا أنه يجوز قتله فهو كغيره في الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قلنا لا يجوز قتله فهو كغيره إذا أسلم في الأسر وقد بيناه. فصل: وإن رأى الإمام القتل ضرب عنقه لقوله عز وجل: {فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ولا يمثل به لما روى بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية قال: "اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلوا". ويكره حمل رأس من قتل من الكفار الى بلاد المسلمين لما روى عقبة بن عامر أن شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص بعثا بريداً إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس بناق البطريق فقال أتحملون الجيف الى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون بنا هكذا قال لا تحملوا منهم إلينا شيئا وإن اختار استرقاقه كان للغانمين وإن فاداه بمال كان للغانمين وإن أراد أن يسقط منهم شيئاً من المال لم يجز الا برضا الغانمين لما روى عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه وفد هوازن مسلمين فقال: "إن أخوانكم هؤلاء جاؤونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل" فقال: الناس قد طيبنا لك يا رسول الله قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ستة آلاف سبي من سبي هوازن من النساء والصبيان والرجال إلى هوازن حين أسلموا وإن أسر عبد فرأى الإمام أن يمن عليه لم يجز إلا برضا الغانمين وإن رأى قتله لشره وقوته قتله وضمن قيمته للغانمين لأنه مال لهم. فصل: وإن دعا مشرك الى المبارزة فالمستحب أن يبرز إليه مسلم لما روي أن عتبة وشيبة ابني ريبعة والوليد بن عتبة دعوا الى المبارزة فبرز إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث ولأنه إذا لم يبرز إليه أحد ضعفت قلوب المسلمين وقويت قلوب المشركين فإن بدأ المسلم ودعا إلى المبارزة لم يكره وقال أبوعلي بن أبي هريرة يكره لأنه ربما قتل وانكسرت قلوب المسلمين والصحيح أنه لا يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المبارزة بين الصفين فقال: "لا بأس". ويستحب أن لا يبارز الأقوى في الحرب لأنه إذا بارز ضعيف لم يأمن أن يقتل فيضعف قلوب المسلمين وإن بارز ضعيف جاز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن القصد من المبارزة إظهار القوة وذلك لا يحصل من مبارزة الضعيف والصحيح هو الأول لأن التغرير بالنفس يجوز في الجهاد ولهذا يجوز للضعيف أن يجاهد كما يجوز للقوي والمستحب أن لا يبارز إلا بإذن الأمير ليكون ردءاً له إذا احتاج فإن بارز بغير إذنه جاز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه لا يؤمن أن يتم عليه ما ينكسر به الجيش والصحيح أنه يجوز لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز وإن بارز مشرك مسلماً نظرت فإن بارز من غير شرط جاز لكل أحد أن يرميه لأنه حربي لا أمان له وإن شرط أن لا يقابله غير من برز إليه لم يجز رميهم وفاء بشرطه فإن ولى عنه مختاراً أو مثخناً أو ولى عنه المسلم مختاراً أو مثخناً جاز لكل أحد رميه لأنه شرط الأمان في حال القتال وقد انقضى

القتال فزال الأمان وإن استنجد المشرك أصحابه في حال القتال فانجدوه أو بدأ المشركون بمعاونته فلم يمنعهم جاز لكل أحد رميه لأنه نقض الأمان وإن أعانوه فمنعهم فلم يقبلوا منه فهو على أمانه لأنه لم ينقض الأمان ولا انقضى القتال وإن لم يشترط ولكن العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من يبرز إليه فقد قال بعض أصحابنا أنه يستحب أن لا يرميه غيره وعندي أنه لا يجوز لغيره رميه وهو ظاهر النص لأن العادة كالشرط فإن شرط أن لا يقاتله غيره ولا يتعرض له إذا انقضى القتال حتى يرجع الى موضعه وفى له بالشرط فان ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز لكل أحد أن يرميه لأنه نقض الشرط فسقط أمانه. فصل: وإن غرر بنفسه من له سهم في قتل كافر مقبل على الحرب فقتله استحق سلبه لما روى أبو قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" فقصصت عليه فقال رجل صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فأرضه فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه". فأعطاني إياه فبعث الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام فإن كان ممن لا حق له في الغنيمة كالمخذل والكافر إذا حضر من غير إذن لم يستحق لأنه لا حق له في السهم الراتب فلأن لا يستحق السلب وهو غير راتب أولى فإن

كان ممن يرضخ له كالصبي والمرأة والكافر إذا حضر بالإذن ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يستحق لما ذكرناه والثاني: أنه يستحق لأن له حقاً في الغنيمة فأشبه من له سهم وإن لم يغرر بنفسه في قتله بأن رماه من وراء الصف فقتله لم يستحق سلبه وإن قتله وهو غير مقبل على الحرب كالأسير والمثخن والمنهزم لم يستحق سلبه وقال أبو ثور: كل مسلم قتل مشركاً استحق سلبه لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل كافرا فله سلبه" 1. ولم يفصل وهذا لا يصح لأن ابن مسعود رضي الله عنه قتل أبا جهل وكان قد أثخنه غلامان من الأنصار فلم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم سلبه إلى ابن مسعود وإن قتله وهو مول ليكر استحق السلب لأن الحرب كر وفر وإن اشترك اثنان في القتل اشتركا في السلب لاشتراكهما في القتل وإن قطع أحدهما: يديه أو رجليه وقتله الآخر ففيه قولان: أحدهما: أن السلب للأول لأنه عطله والثاني: أن السلب للثاني لأنه هو الذي كف شره دون الأول لأن بعد قطع اليدين يمكنه أن يعدو أو يجلب وبعد قطع الرجلين يمكنه أن يقاتل إذا ركب وإن غرر من له سهم فأسر رجلاً مقبلاً على الحرب وسلمه الى الإمام حياً ففيه قولان: أحدهما: لا يستحق سلبه لأنه لم يكف شره بالقتل والثاني: أنه يستحق لأن تغريره بنفسه في أسره ومنعه من القتال أبلغ من القتل وإن من عليه الإمام أو قتله استحق الذي أسره سلبه وإن استرقه أو فاداه بمال بمال ففي رقبته وفي المال المفادي به قولان: أحدهما: أنه للذي أسره والثاني: أنه لا يكون له لأنه مال حصل بسبب تغريره فكان فيه قولان كالسلب. فصل: والسلب ما كان يده عليه من جنة الحرب كالثياب التي يقاتل فيها والسلاح الذي يقاتل فيه والمركوب الذي يقاتل عليه فأما ما لا بد له عليه كخيمته وما في رجله من السلاح والكراع فلا يستحب سلبه لأنه ليس من السلب وأما ما في يده مما لا يقاتل به كالطوق والمنطقة والسوار والخاتم وما في وسطه من النفقة ففيه قولان: أحدهما: أنه ليس من السلب لأنه ليس من جنة الحرب والثاني: أنه من السلب لأن يده عليه فهو كجنة الحرب ولا يخمس السلب لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 136. الدارمي في كتاب السير باب 43. أحمد في مسنده 3/114.

فصل: وإن حاصر قلعة ونزل أهلها على حكم حاكم جاز لأن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة" 1. ويجب أن يكون الحاكم حراً مسلماً ذكراً بالغاً عاقلاً عدلاً عالماً لأنه ولاية حكم فشرط فيها هذه الصفات كولاية القضاء ويجوز أن يكون أعمى لأن الذي يقتضي الحكم هو الذي يشتهر من حالهم والذي يدرك بالسماع فصح من الأعمى كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم لميله إليهم ويجوز حكمه لأنه عدل في الدين وإن نزلوا على حكم حاكم يختاره الإمام جاز لأنه لا يختار الإمام إلا من يجوز حكمه وإن نزلوا على حكم من يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون الحاكم على الصفات التي ذكرناها وإن نزلوا على حكم اثنين جاز لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فجاز أن يجعل إلى اثنين كالتحكيم في اختيار الإمام وإن نزلوا على حكم مثلاً يجوز أن يكون حاكماً أو على حكم من يجوز أن يكون حاكماً فمات أو على حكم اثنين فماتا أو مات أحدهما: وجب ردهم إلى القلعة لأنهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم إلا برضاهم ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه مصلحة المسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن حكم بعقد الذمة وأخذ الجزية ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز إلا برضاهم لأنه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم والثاني: يجوز لأنهم نزلوا على حكمه وإن حكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز وإن حكم بذلك ثم أراد أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لأنه لم ينزل على هذا الشرط وإن حكم عليهم بالقتل ثم رأى هو أو الإمام أن يمن عليهم جاز لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم بقتل رجال بني قريظة فسأل ثابت الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل فإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضا الغانمين لأنهم صاروا مالاً لهم. فصل: ومن أسلم من الكفار قبل الأسر عصم دمه وماله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فإن كانت له منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها كالمال وإن كانت له زوجة جاز استرقاقها على المنصوص ومن أصحابنا من قال: لا يجوز كما

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 168. مسلم في كتاب الجهاد حديث 65. أحمد في مسنده 3/22، 6/142.

لا يجوز أن يملك ماله ومنفعته وهذا خطأ لأن منفعة البضع ليست بمال ولا تجري مجرى المال ولهذا لا يضمن بالغصب بخلاف المال والمنفعة وإن كان له ولد صغير لم يجز استرقاقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا شعية فأحرزا بإسلامهما أموالهما وأولادهما ولأنه مسلم فلم يجز استرقاقه كالأب وإن كان حمل من حربية لم يجز استرقاقه لأنه محكوم بإسلامه فلم يسترق كالولد وهل يجوز استرقاق الحامل فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه إذا لم يسترق الحمل لم يسترق الحامل ألا ترى أنه لما لم يجز بيع الحر لم يجز بيع الحامل به والثاني: أنه يجوز لأنها حربية لا أمان لها. فصل: وإن أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد في الإسلام لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وإن أسلمت امرأة ولها ولد صغير تبعها في الإسلام لأنها أحد لأبوين فتبعها الولد في الإسلام كالأب وإن أسلم أحدهما: والولد حمل تبعه في الإسلام لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع المسلم منهما كالولد وإن أسلم أحد الأبوين دون الآخر تبع الولد المسلم منهما لأن الإسلام أعلى فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أن ينصرانه أو يمجسانه" 1. فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه في الإسلام لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع الأبوين في الإسلام كالطفل وإن بلغ عاقلاً ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يتبعه لأنه زال حكم الإتباع ببلوغه عاقلاً فلا يعود إليه والثاني: أنه يتبعه وهو المذهب لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع أبويه في الإسلام كالطفل. فصل: وإن سبى المسلم صبياً فإن كان معه أحد أبويه كان كافراً لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإن سبى وحده ففيه وجهان: أحدهما: إنه باق على حكم كفره ولا يتبع السابي في الإسلام وهو ظاهر المذهب لأن يد السابي يد ملك فلا توجب إسلامه كيد المشتري والثاني: أنه يتبعه لأنه لا يصح إسلامه بنفسه ولا معه من يتبعه في كفره فجعل تابعاً للسابي لأنه كالأب في حضانته وكفالته فتبعه في الإسلام.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 79. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 25. الترمذي في كتاب القدر باب 5. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 53.

فصل: وإن وصف الإسلام صبي عاقل من أولاد الكفار لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون - المغلوب على عقله - حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم". ولأنه غير مكلف فلم يصح إسلامه بنفسه كالمجنون فعلى هذا يحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ لأنه إذا ترك معهم خدعوه وزهدوه في الإسلام فإن بلغ ووصف الإسلام حكم بإسلامه وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالإسلام وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار ومن أصحابنا من قال يصح إسلامه لأنه يصح صومه وصلاته فصح إسلامه كالبالغ. فصل: وإن سبيت امرأة ومعها ولد صغير لم يجز التفريق بينهما وقد بيناه في البيع وإن سبى رجل ومعه ولد صغير ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز التفريق بينهما لأنه أحد الأبوين فلم يفرق بينه وبين الولد الصغير كالأم والثاني: أنه يجوز أن يفرق بينهما لأن الأب لا بد أن يفارقه في الحضانة لأنه لا يتولى حضانته بنفسه وإنما يتولاها غيره فلم يحرم التفريق بينهما بخلاق الأم فإنها لا تفارقه في الحضانة فإنه إذا فرق بينهما ولهت بمفارقته فحرم التفريق بينهما. فصل: وإن سبى الزوجان أو أحدهما: انفسخ النكاح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا نساء يوم أو طاس فكرهوا أن يقعوا عليهن فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فاستحللناهن قال الشافعي رحمه الله: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو طاس وبني المصطلق وقسم الفيء وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وإن كان الزوجان مملوكين فسبيا أو أحدهما فلا نص فيه والذي يقتضيه قياس المذهب أن لا ينفسخ النكاح لأنه لم يحدث بالسبي رق وإنما حدث انتقال الملك فلم ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لأنه ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لأنه حدث سبي يوجب الاسترقاق وإن صادف رقاً كما أن الزنى يوجب الحد وإن صادق حداً. فصل: إذا دخل الجيش دار الحرب فأصابوا ما يؤكل من طعام أو فاكهة أو حلاوة واحتاجوا إليه جاز لهم أكله من غير ضمان لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نصيب من المغازي العسل والفاكهة فنأكله ولا نرفعه وسئل ابن أبي أوفى عن طعام خيبر فقال كان الرجل يأخذ منه قدر حاجته ولأن الحاجة تدعوا إلى ما يؤكل ولا يوجد من يشتري منه مع قيام الحرب فجاز لهم الأكل وهل يجوز لهم الأكل من غير حاجة فيه

وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة فإنه لا يجوز كما لا يجوز في غير دار الحرب أكل مال الغير بغير إذنه من غير حاجة والثاني: أنه يجوز وهو ظاهر المذهب وهو قول أكثر أصحابنا لما روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: دلي جراب من شحم يوم خيبر فأتيته فالتزمته ثم قلت لا أعطي من هذا أحداً اليوم شيئاً فالتقت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلي ولو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة لنهاه عن منع ما زاد على الحاجة ويخالف طعام الغير بأن ذلك لا يجوز أكله من غير ضرورة وهذا يجوز أكله من غير ضرورة قطعاً وطعام الغير يأكله بعوض وهذا يأكله بغير عوض فجاز أكله من غير حاجة ولا يجوز لأحد منهم أن يبيع شيئاً منه لأن حاجته إلى الأكل دون البيع وإن باع شيئاً منه نظرت فإن باعه من بعض الغانمين وسمله إليه صار المشتري أحق به لأنه من الغانمين وقد حصل في يده ما يجوز له أخذه للأكل فكان أحق به فإن رده إلى البائع صار البائع أحق به لما ذكرناه في المشتري وإن باعه من غير الغانمين وسلمه إليه وجب على المشتري رده إلى الغنيمة لأنه ابتاعه لمن لا يملك بيعه وليس هو من الغانمين فيمسكه لحقه فوجب رده إلى الغنيمة. فصل: ويجوز أن يعلف منه المركوب وما يحمل عليه رحله من البهائم لأن حاجته إليه كحاجته ولا يدهن منه شعره ولا شعر البهائم لأنه لا حاجة به إليه ولا يعلف منه ما معه من الجوارح كالصقر والفهد لأنه لا حاجة به إليه وإن خرج إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه ردها في المغنم لأنه مال اختص به من الغنيمة فلا يجب رده فيها كالسلب والثاني: أنه يجب ردها لأنه إنما أجيز أخذه في دار الحرب للحاجة ولا حاجة إليه في دار الإسلام ومن قال إن كان كثيراً وجب رده قولاً واحداً وإن كان قليلاً فعلى القولين والصحيح هو الأول ولا يجوز تناول ما يصاب من الأدوية من غير حاجة وإن دعت الحاجة إليه جاز تناوله ويجب ضمانه لأنه ليس من الأطعمة التي يحتاج إليها في العادة ولا يجوز له لبس ما يصاب من الثياب لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" 1. ولأنه لا يحتاج إليه في العادة فإن لبسها لزمته أجرته لأنه كالغاصب.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 44. الدارمي في كتاب السير باب 46. أحمد في مسنده 4/108، 109.

فصل: ويجوز ذبح ما يؤكل للأكل ومن أصحابنا من قال لا يجوز والمذهب الأول لأنه مما يؤكل في العادة فهو كسائر الطعام ولا يجوز أن يعمل من أهبها حذاء ولا سقاء ولا دلاء ولا فراء فإن اتخذ منه شيئاً من ذلك وجب رده في المغنم وإن زادت بالصنعة قيمته لم يكن له في الزيادة حق وإن نقص لزمه أرش ما نقص لأنه كالغاصب. فصل ك وإن أصابوا كتباً فيها كفر لم يجز تركها على حالها لأن قراءتها والنظر فيها معصية وإن أصابوا كتباً والإنجيل لم يجز تركها على حالها أنه لا حرمة لها لأنها مبدلة فإن أمكن الانتفاع بما كتب عليه إذا غسل كالجلود غسل وقسم مع الغنيمة وإن لم يمكن الانتفاع به إذا غسل كالورق مزق ولا يحرق لأنه إذا حرق لم يكن له قيمة فإذا مزق كانت له قيمة فلا يجوز إتلافه على الغانمين. فصل: وإذا أصابوا خمراً وجب إراقتها كما يجب إذا أصيبت في يد مسلم فإن أصابوا خنزيراً فقد نقل في سير الواقدي أنه يقتل إن كان به عدو فمن أصحابنا من قال إن كان فيه عدو قتل لما فيه من الضرر وإن لم يكن فيه عدو لم يقتل لأنه لا ضرر فيه ومنهم من قال: يجب قتله بكل حال لأنه يحرم الانتفاع به فوجب إتلافه كالخمر وإن أصابوا كلباً فإن كان عقوراً قتل لما فيه من الضرر وإن كان فيه منعة دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أومن أهل الخمس وإن لم يكن فيهم من يحتاج إليه خلي لأن اقتناءه لغير حاجة محرم وقد بيناه في البيوع. فصل: وإن أصابوا مباحاً لم يمكله الكفار كالصيد والحجر والحشيش والشجر فهو لمن أخذه كما لو وجده في دار الإسلام وإن وجد ما يمكن أن يكون للمسلمين ويمكن أن يكون للكفار كالسيف والقوس عرف سنة فإن لم يوجد صاحبه فهو غنيمة. فصل: وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات فإن لم يمنع الكفار عنها فهو لمن أحياه كموات دار الإسلام وإن منعوا عنها كان للغانمين لأنه يثبت لهم بالمنع عنها حق التملك فانتقل ذلك الحق إلى الغانمين كما لو تحجروا مواتاً للإحياء ثم صارت الدار للمسلمين وإن فتحت صلحاً على أن تكون الأرض لهم لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتاً بالإحياء لأن الدار لهم فلم يملك المسلم فيها بالإحياء. فصل: وما أصاب المسلمين من مال الكفار وخيف أن يرجع إليهم ينظر فيه فإن كان غير الحيوان أتلف حتى لا ينتفعوا به ويتقووا به على المسلمين وإن كان حيواناً لم يجز إتلافه من غير ضرورة لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها سأله الله تعالى عن قتلها قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها" 1 وإن دعت إلى قتله ضرورة بأن كان الكفار لا خيل لهم وما أصابه المسلمون خيل وخيف أن يأخذوه ويقاتلونا علي جاز قتله لأنه إذا لم يقتل أخذه الكفار وقاتلوا به المسلمين. فصل: إذا سرق بعض الغانمين نصاباً من الغنيمة فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لمعنيين أحدهما: أن له حقاً في خمسها والثاني: أن له حقاً في أربعة أخماسها وإن سرق بعد إخراج الخمس نظرت فإن سرق من الخمس لم يقطع لأن له حقاً فيه وإن سرق من أربعة أخماسها نظرت فإن سرق قدر حقه أو دونه لم يقطع لأن له في ذلك القدر شبهة وإن كان أكثر من حقه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه لا شبهة له في سرقة النصاب والثاني: أنه لا يقطع لأن حقه شائع في الجميع فلم يقطع فيه وإن كان السارق من غير الغانمين نظرت فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له حقاً في خمسها وإن كان بعد أخراج الخمس فإن سرق من الخمس لم يقطع لأن فيه حقاً وإن سرق ذلك من أربعة أخماسها فإن كان في الغانمين من للسارق شبهة في ماله كالأب والابن لم يقطع لأن له شبهة فيما سرق وإن لم يكن له فيهم من له شبهة في ماله قطع لأنه لا شبهة له فيما سرق. فصل: وإن وطئ بعض الغانمين جارية من الغنيمة لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: يجب وهذا خطأ لأن له فيها شبهة وهو حق التملك ويجب عليه المهر لأنه وطء يسقط فيه الحد على الموطوءة للشبهة فوجب المهر على الواطئ كالوطء في النكاح الفاسد وإن أحبلها ثبت النسب للولد وينقد الولد حراً للشبهة وهل تقسم الجارية في الغنيمة أو تقوم على الواطئ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: إن قلنا إنه إذا ملكها صارت أم ولد قومت عليه وإن قلنا إنها لا تصير أم ولد له لم تقوم عليه وقال أبو إسحاق تقوم على القولين لأنه لا يجوز قمستها كما لا يجوز بيعها ولا يجوز تأخير القسمة لأن فيه إضراراً بالغانمين فوجب أن تقوم وإن وضعت فهل تلزمه قيمة الولد ينظر فيه فإن كان قد قومت عليه لم تلزمه لأنها تضع في ملكه وإن لم تكن قومت عليه لزمه قيمة الولد لأنها وضعته في غير ملكه.

_ 1 رواه النسائي في كتاب الضحايا باب 42. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 16. أحمد في مسنده 3/166، 197.

فصل: ومن قتل في دار الحرب قتلاً يوجب القصاص أو أتى بمعصية توجب الحد وجب عليه ما يجب في دار الإسلام لأنه لا تختلف الدارن في تحريم الفعل فلم تختلفا فيما يجب به من العقوبة. فصل: وإن تجسس رجل من المسلمين للكفار لم يقتل لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى أناس بمكة يخبرهم ببعش أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب ما هذا" قال: يا رسول الله لا تعجل علي إنما كنت امرأ ملصقاً فأحببت أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعل ذلك ارتداداً عن ديني ولا أرضى الكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدق" فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: "إنه قد شهد بدراً" فقال سفيان بن عيينة فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] وقرأ سفيان إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .

فصل: إذا أخذ المشركون مال المسلمين بالقهر لم يملكوه وإذا استرجع منهم وجب رده إلى صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه". وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: أغار المشركون على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا به وذهبوا بالعضباء واسروا امرأة من المسلمين فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها فقدمت المدينة وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله عز وجل ولا فيما لا يملكه ابن آدم" 1. فإن لم يعمل به حتى قسم دفع إلى من وقع في مهمه العوض من خمس الخمس ورد إلى صاحبه لأنه يضق نقض القمسة. فصل: وإن أسر مسلماً وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم في النفس والمال لأنهم كفار لا أمان لهم وإن أطلقوه على أنه في أمان ولم يستأمنوه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا أمان لهم لأنهم لم يستأمنوه والثاني: وهو ظاهر المذهب أنهم في أمانه لأنهم جعلوه في أمان فوجب أن يكونوا منه في أمان وإن كان محبوساً فأطلقوه واستحلفوه أنه لا يرجع إلى دار الإسلام لم يلزمه حكم اليمين ولا كفارة عليه إذا حلف لأن ظاهره الإكراه فإن ابتدأ وحلف أنه إن أطلق لم يخرج إلى دار الإسلام ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين إكراه فإن خرج لم تلزمه كفارة لأنه لم يقدر

_ 1 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 8. أبو داود في كتاب الأيمان باب 21. النسائي في كتاب الأيمان باب 31. الدارمي في كتاب السير باب 62.

على الخروج إلا باليمين فأشبه إذا حلفوه على ذلك والثاني: أنه يمين اختيار فإن خرج لزمته الكفارة لأنه بدأ بها من غير إكراه وإن أطلق ليخرج إلى دار الإسلام وشرط عليه أن يعود إليهم أو يحمل مالاً لم يلزمه العود لأن مقامه في دار الحرب لا يجوز ولا يلزمه بالشرط ما ضمن من المال لأنه ضمان من مال بغير حق والمستحب أن يحمل لهم ما ضمن ليكون ذلك طريقاً إلى إطلاق الأسرى.

باب الأنفال

باب الأنفال يجوز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلاً يفضي الى الظفر بالعدو كالتجسيس والدلالة على طريق أو قلعة أو التقدم بالدخول الى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها لما روى عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث وتقدير النفل الى رأي أمير الجيش لأنه بذل لمصلحة الحرب فكان تقديره الى رأي الأمير ويكون ذلك على قدر العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع وفي القفول الثلث لان التغرير في القفول أعظم لأنه يدخل إلى دار الحرب والعدو منه على حذر وفي البدأة يدخل والعدو منه على غير حذر ويجوز شرط النفل من بيت مال المسلمين ويجوز شرطه من المال الذي يؤخذ من المشركين فإن جعل في بيت مال المسلمين كان ذلك من خمس الخمس لما روى سعيد بن المسيب قال: كان

الناس يعطون النفل من الخمس ولأنه مال يصرف في مصلحة فكان من خمس الخمس ولا يجوز أن يكون مجهولاً لأنه عوض في عقد لا تدعوا الحاجة فيه الى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولاً لأنه عوض في عقد لا تدعوا الحاجة فيه الى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولاً كالجهل في رد الآبق وإن كان النفل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع وفي القفول الثلث وذلك جزء من غنيمة مجهولة. فصل: وإن قال الأمير من دلني على القلعة الفلانية فله منها جارية فدله عليها رجل نظرت فإن لم تفتح القلعة لم يجب الدليل شيء ومن أصحابنا من قال: يرضخ له لدلالته والمذهب الأول لأنه لما جعل له الجارية من القلعة صار تقديره من دلني على القلعة وفتحت كانت له منها جارية لانه لا يقدر على تسليم الجارية إلا بالفتح فلم يستحق من غير الفتح شيئا وإن فتحت عنوة ولم تكن فيها جارية لم يستحق شيئاً لأنه شرط معدوم وإن كانت فيها جارية سلمت إليه ولا حق فيها للغانمين ولا لأهل الخمس لأنه استحقها بسبب سابق للفتح وإن أسلمت الجارية قبل القدرة عليها لم يستحقها لأن إسلامها يمنع من استرقاقها ويجب له قيمتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاء من المسلمات فمنعه الله عز وجل من ردهن وأمره أن يرد مهورهن وإن أسلمت بعد القدرة عليها فإن كان الدليل مسلما سلمت إليه وإن كان كافراً فإن قلنا إن الكافر يملك العبد المسلم بالشراء استحقها ثم أجبر على إزالة الملك عنها وإن قلنا إنه لا يملك دفع إليه قيمتها وإن أسلم الدليل بعد ذلك لم يستحقها لأنه أسلم بعدما انتقل حقه إلى قيمتها وإن فتحت والجارية قد ماتت ففيه قولان: أحدهما: أن له قيمتها لأنه تعذر تسليمها فوجب قيمته كما لو أسلمت والثاني: أنه لا يجب له قيمتها لأنه غير مقدور عليها فلم يجب قيمتها كما لولم تكن فيها جارية وفتحت صلحاً نظرت فإن لم تدخل الجارية في الصلح كان الحكم فيها كالحكم إذا فتحت عنوة فإن دخلت في الصلح ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي إسحاق إن الجارية للدليل وشرطها في الصلح لا يصح كما لو زوجت امرأة من رجل ثم زوجت من آخر والثاني: أن شرطها في الصلح صحيح لأن الدليل لو عفا عنها أمضينا الصلح فيها ولو كان فاسداً لم يمض إلا بعقد مجدد فعلى هذا إن رضي الدليل بغيرها من جواري القلعة أو رضي بقيمتها أمضينا الصلح، وإن لم

يرض ورضي أهل القلعة بتسليمها فكذلك وإن امتنع أهل القلعة من دفع الجارية وامتنع الدليل من الانتقال الى البدل ردوا إلى القلعة وقد زال الصلح لأنه اجتمع أمران متنافيان وتعذر الجمع بينهما وحق الدليل سابق ففسخ الصلح ولصاحب القلعة أن يحصن القلعة كما كانت من غير زيادة وإن فتحت بعد ذلك عنوة كانت الجارية للدليل وإن لم تفتح لم يكن له شيء. فصل: إذا قال الأمير قبل الحرب من أخذ شيئا فهوله فقد أومأ فيه الى قولين: أحدهما: أن الشرط صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: من أخذ شيئا فهوله والثاني: وهو الصحيح أنه لا يصح الشرط لأنه جزء من الغنيمة شرطه لمن لا يستحقها من غير شرط فلا يستحقه بالشرط كما لو شرطه لغير الغانمين والخبر ورد في غنائم بدر وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء.

باب قسم الغنيمة

باب قسم الغنيمة والغنيمة ما أخذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب فإن كان فيها سلب للقاتل أو مال لمسلم سلم إليه لأنه استحقه قبل الاغتنام ثم يدفع منها أجرة النقال والحافظ لأنه لمصلحة الغنيمة فقدم ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس خمس لأهل الخمس ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لأهل الخمس فدل على أن الباقي للغانمين والمستحب أن يقسم ذلك في دار الحرب ويكره تأخيرها الى دار الإسلام من غير عذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر وقسم غنائم بني المصطلق على مياههم وقسم غنائم حنين بأو طاس وهو واد من أودية حنين فإن كان الجيش رجالة سوى بينهم وإن كانوا فرساناً سوى بينهم وإن كان بعضهم فرساناً وبعضهم رجالة جعل للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل لأن من لم يقاتل كالمقاتل في إرهاب العدو ولأنه أرصد نفسه للقتال ولا يسهم لمركوب غير الخيل لأنه لا يلحق بالخيل في التأثير في الحرب من الكر والفر،

فلم يلحق بها في السهم ويسهم للفرس العتيق وهو الذي أبواه عربيان وللبرذون وهو الذي أبواه عجميان وللمقرف وهو الذي أمه عربية وأبوه عجمي وللهجين وهو الذي أبوه عربي وأمه عجمية لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 1 ولأنه حيوان يسهم له فلم يختلف سهمه باختلاف أبويه كالرجل وإن حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف فقد قال في الأم: قيل لا يسهم له وقيل يسهم له فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يسهم له لأنه لا يغني غناء الخيل فلم يسهم له كالبغل والثاني: يسهم له لأن ضعفه لا يسقط سهمه كضعف الرجل وقال أبو إسحاق إن أمكن القتال عليه أسهم له وإن لم يمكن القتال عليه لم يسهم له لأن الفرس يراد للقتال عليه وهذا أقيس والأول أشبه بالنص ولا يسهم للرجل لأكثر من فرس لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس فلم يسهم له النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد ولأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد فلا يسهم لأكثر منه وإن حضر بفرس والقتال في الماء أو على حصن استحق سهمه لأنه أرهب بفرسه فاستحق سهمه كما لو حضر به القتال ولم يقاتل ولأنه قد يحتاج إليه إذا خرجوا من الماء والحصن. فصل: فإن غصب فرسا وحضر به الحرب استحق للفرس سهمين لأنه حصل به الإرهاب وفي مستحقه وجهان: أحدهما: أنه له والثاني: أنه لصاحب الفرس بناء على القولين في ربح الدراهم المغصوبة: أحدهما: أنه للغاصب والثاني: أنه للمغصوب منه وإن استعار فرساً أو استأجره للقتال فحضر به الحرب استحق به السهم لأنه ملك القتال عليه وإن حضر دار الحرب بفرس وانقضت الحرب ولا فرس معه بأن نفق أو باعه أو أجره أو أعاره أو غصب منه لم يسهم له وإن دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرساً أو استعاره وحضر به الحرب استحق السهم لأن استحقاق المقاتل بالحضور فكذلك

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 43. مسلم في كتاب الزكاة حديث 25. أبو داود في كتاب الجهاد باب 41. الترمذي في كتاب الجهاد باب 19.

الاستحقاق بالفرس وإن حضر بفرس وعار الفرس إلى أن انقضت الحرب لم يسهم له ومن أصحابنا من قال: يسهم له لأنه خرج من يده بغير اختياره والمذهب الأول لأن خروجه من يده يسقط السهم وإن كان بغير اختياره كما يسقط سهم الراجل إذا ضل عن الوقعة وإن كان بغير اختياره. فصل: ومن حضر الحرب ومرض فإن كان مريضاً يقدر معه على القتال كالسعال ونفور الطحال والحمى الخفيفة أسهم له لأنه من أهل القتال ولأن الإنسان لا يخلو من مثله فلا يسقط سهمه لأجله وإن كان لا يقدر على القتال لم يسهم له لأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالمجنون والطفل. فصل: ولا حق في الغنيمة لمخذل ولا لمن يرجف بالمسلمين ولا لكافر حضر بغير إذن لأنه لا مصلحة للمسلمين في حضورهم ويرضخ للصبي والمرأة والعبد والمشرك إذا حضر بالإذن ولم يقسم لهم لما روى عمير قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عبد مملوك فلما فتح الله على نبيه خيبر قلت يا رسول الله سهمي فلم يضرب لي بسهم وأعطاني سيفا فتقلدته وكنت أخط بنعله في الأرض وأمر لي من خرثي المتاع وروى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب الى ابن عباس يسأله هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن سهم؟ فكتب إليه ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن بسهم. فصل: وتقدير الرضخ إلى اجتهاد أمير الجيش ولا يبلغ به سهم راجل لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو ومن أين يرضخ لهم فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يرضخ لهم من أصل الغنيمة لأنهم أعوان المجاهدين فجعل حقهم من

أصل الغنيمة كالنقال والحافظ والثاني: أنه من أربعة أخماس الغنيمة لأنهم من المجاهدين فكان حقهم من أربعة أخماس الغنيمة والثالث أنه من خمس الخمس لأنهم من أهل المصالح فكان حقهم من سهم الصالح. فصل: وإن حضر أجير في أجارة مقدرة بالزمان ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يرضخ له مع الأجرة لأن منفعته مستحقة لغيره فرضخ له كالعبد والثاني: أنه يسهم له مع الأجرة لأن الأجرة تجب بالتمكين والسهم بالحضور وقد وجد الجميع والثالث أنه يخير بين السهم والأجرة فإن اختار الأجرة رضخ له مع الأجرة وإن اختار السهم أسهم له وسقطت الأجرة لأن المنفعة واحدة لا يستحق بها حقان واختلف قوله في تجار الجيش فقال في أحد القولين: يسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة والثاني: أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يحضروا للقتال واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا وأما إذا حضروا فقاتلوا فإنه يسهم لهم قولا واحدا ومنهم من قال القولان إذا قاتلوا فأما إذا لم يقاتلوا فإنه لا يسهم لهم قولاً واحدا. فصل: وإذا لحق بالجيش مدد أو افلت أسير ولحق بهم نظرت فإن كان قبل انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة أسهم لهم لقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لأنهم حضروا بعدما صارت الغنيمة للغانمين وإن كان بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة الغنيمة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يشهدوا الوقعة والثاني: أنه يسهم لهم لأنهم حضروا قبل أن يملك الغانمون. فصل: وإن خرج أمير في جيش وأنفذ سرية من الجيش إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها فغنمت السرية شاركهم الجيش وإن غنم الجيش شاركتهم السرية لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية وغنمت فقسم غنائمهم بين الجميع وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وترد سراياهم على قاعدهم" 1. ولأن الجميع جيش واحد فلم يختص بعضهم بالغنيمة وإن أنفذ سريتين إلى جهة واحدة من

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 147. النسائي في كتاب القسامة باب 9. ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أحمد في مسنده 1/122.

طريق أو طريقين اشترك الجيش والسريتان فيما يغنم كل واحد منهم لأن الجميع جيش واحد وإن أنفذ سريتين إلى جهتين شارك السريتان الجيش فيما يغنمه وشارك الجيش السريتين فيما يغنمان وهل تشارك كل واحدة من السريتين السرية الأخرى فيما تغنمه فيه وجهان: أحدهما: أنها لا تشارك لأن الجيش أصل السريتين وليست إحدى السريتين أصلا للأخرى والثاني: وهو الصحيح أنها تشارك لأنهما من جيش واحد وإن أنفذ الأمير سرية من الجيش وأقام هو مع الجيش فغنمت السرية لم يشاركها الجيش المقيم مع الأمير لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة فيما غنموا ولأن الغنيمة للمجاهدين والجيش مقيم مع الأمير ما جاهدوا فلم يشارك السرية فيما غنمت. والله أعلم.

باب قسم الخمس

باب قسم الخمس ويقسم الخمس على خمس أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل والدليل عليه قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصرف في مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من خيبر تناول بيده نبذة من الأرض أو وبرة من بعيره وقال: "والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس والخمس مردود عليكم". فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميع المسلمين إلا بأن يصرف في مصالحهم وأهم المصالح سد الثغور لأنه يحفظ به الإسلام والمسلمين ثم الأهم فالأهم.

فصل: وأما سهم ذوي القربى فهو لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب جئت أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وإياهم منك بمنزلة واحدة قال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" ثم شبك بين أصابعه ويسوي فيه بين الأغنياء والفقراء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى منه العباس وكان موسراً يقول عامة بني عبد المطلب ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الغني والفقير كالميراث ويشترك فيه الرجال والنساء لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لأم الزبير في ذوي القربي ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الذكر والأنثى كالميراث ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وقال المزني وأبو ثور يسوي بين الذكر والأنثى لأنه مال يستحق باسم القرابة فلا يفضل الذكر فيه على الأنثى كالمال المستحق بالوصية للقرابة وهذا خطأ لأنه مال خطأ لأنه مال يستحق بقرابة الأب بالشرع ففضل الذكر فيه على الأنثى كميراث ولد الأب ويدفع ذلك إلى القاصي منهم والداني وقال أبو إسحاق يدفع ما في كل إقليم إلى من فيه منهم لأنه يشق نقله من إقليم إلى إقليم والمذهب الأول لقوله عز وجل: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ولم يخص ولأنه حق مستحق بالقرابة فاستوى فيه القاصي والداني كالميراث. فصل: وأما سهم اليتامى فهو لكل صغير فقير لا أب له فأما من له أب فلا حق له فيه لأن اليتيم هو الذي لا أب له وليس لبالغ فيه حق لأنه لا يسمى بعد البلوغ يتيماً والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد الحلم" 1 وليس للغني فيه حق ومن أصحابنا من قال للغني فيه حق لأن اليتيم هو الذي لا أب له غنياً كان أو فقيراً والمذهب الأول لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب فإذا لم يكن لمن له أب فيه حق فلأن لا يكون لمن له مال أولى. فصل: وأما سهم المساكين فهو لكل محتاج من الفقراء والمساكين لأنه إذا أفرد المساكين تناول الفريقين. فصل: وأما سهم ابن السبيل فهو لكل مسافر أو مريد السفر في غير معصية وهو محتاج على ما ذكرناه في الزكاة.

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.

فصل: ولا يدفع شيء من الخمس إلى كافر لأنه عطية من الله تعالى فلم يكن للكافر فيها حق كالزكاة ولأنه مال مستحق على الكافر بكفره فلم يجز أن يستحقه الكافر. وبالله التوفيق.

باب قسم الفيء

باب قسم الفيء الفيء هو المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال وهو ضربان: أحدهما: ما انجلوا عنه خوفاً من المسلمين أو بذلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] والثاني: ما أخذ من غير خوف كالجزية وعشور تجاراتهم ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له ففي تخميسه قولان: قال في القديم: لا يخمس لأنه مال أخذ من غير خوف فلم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء وقال في الجديد: يخمس وهو الصحيح للآية ولأنه مال مأخوذ من الكفار بحق الكفر لا يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذي انجلوا عنه وأما أربعة أخماسه فقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 47] ولا ينتقل ما ملكه إلى ورثته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فإنه صدقه" 1 وروى مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أنشدكم بالله أيها الرهط هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة إن الأنبياء لا تورث" 2 فقال القوم بلى قد سمعناه ثم أقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما بالله هل سمعتما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركناه صدقة إن الأنبياء لا تورث" فقالا: نعم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما يحصل من مال

_ 1 رواه البخاري في كتاب الكلام حديث 28. أحمد في مسنده 2/642. 2 رواه البخاري في كتاب الخمس باب 1. مسلم في كتاب الجهاد حديث 49، 52. الترمذي في كتاب السير باب 44. الموطأ في كتاب الكلام حديث 27.

الفيء بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في أحد القولين: يصرف في المصالح لأنه مال راتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف بعد موته في المصالح كخمس الخمس فعلى هذا يبدأ بالأهم وهو سد الثغور وأرزاق المقاتلة ثم الأهم فالأهم وقال في القول الثاني هو للمقاتلة لأن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان فيه من حفظ الإسلام والمسلمين ولما كان له في قلوب الكفار من الرعب وقد صار ذلك بعد موته في المقاتلة فوجب أن يصرف إليهم. فصل: وينبغي للإمام أن يضع ديواناً يثبت فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم فلما صلى الصبح اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا علي بمن أبدأ منهم فقالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال: لا ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب إليه فوضع الديوان على ذلك ويستحب أن يجعل على كل طائفة عريفاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً ولأن في ذلك مصلحة وهو أن يقوم التعريف بأمورهم ويجمعهم في وقت العطاء وفي وقت الغزو ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في كل شهر ولا في كل أسبوع لأن ذلك يشغلهم عن الجهاد. فصل: ويستحب أن يبدأ بقريش لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فإنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة واختلف الناس في قريش فمنهم من قال: كل من ينتسب إلى فهر بن مالك فهو من قريش ومنهم من قال: كل من ينتسب إلى النضر بن كنانة فهو من قريش ويقدم من قريش بني هاشم لأنهم أقرب قبائل قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضم إليهم بنو المطلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". وشبك بين أصابعه وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم فإذا كان السن في الهاشمي قدمه على المطلبي وإذا كان في المطلبي قدمه على الهاشمي ثم يعطي بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد مناف ويقدم بني عبد شمس على بني نوفل لأن عبد شمس أقرب إليه لأنه أخو هاشم من أبيه وأمه ونوفل أخوف من أبيه وأنشد آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز:

يا أمين الله إني قائل ... قول ذي بر ودين وحسب عبد شمس لا تهنها إنما ... عبد شمس عم عبد المطلب عبد شمس كان يتلو هاشماً ... وهما بعد الأم والأب ثم يعطي بني عبد العزى وبني عبد الدار ويقدم عبد العزى على عبد الدار لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة بنت خويلد منهم ولأن فيهم من حلف المطيبين وحلف الفضول وهما حلفان كانا من قوم من قريش اجتمعوا فيهما على نصر المظلوم ومنع الظالم وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شهدت حلف الفضول ولو دعيت إليه لأجبت". وعلى هذا يعطي الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش فإن استوى اثنان في القرب قدم أسنهما لما رويناه من حديث عمر في بني هاشم وبني المطلب فإن استويا في السن قدم أقدمهما هجرة وسابقة فإذا انقضت قريش قدم الأنصاري على سائر العرب لما لهم من السابقة والآثار الحميدة في الإسلام ثم يقسم على سائر العرب ثم يعطي العجم ولا يقدم بعضهم على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب. فصل: ويقسم بينهم على قدر كفايتهم لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فوجب أن يكفوا أمر النفقة ويتعاهد الإمام في وقت العطاء عدد عيالهم لأنه قد يزيد وينقص ويتعرف الأسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لأنه قد يغلو ويرخص ليكون عطيتهم على قدر حاجتهم ولا يفضل من سبق إلى الإسلام أو إلى الهجرة على غيره لأن الاستحقاق بالجهاد قد تساووا في الجهاد فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين في الغنيمة. فصل: ولا يعطي من الفيء صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال لأن الفيء للمجاهدين وليس هؤلاء من أهل الجهاد وإن مرض مجاهد فإن كان مرضاً يرجى زواله أعطي لأن الناس لا يخلون من عارض مرض وإن كان مرضاً لا يرجى زواله سقط حقه من الفيء لأنه خرج عن أن يكون من المجاهدين وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يعطي ولده ولا زوجته من الفيء شيئاً لأن ما كان يصل إليهما على سبيل التبع لمن يعولهما وقد زال الأصل وانقطع التبع والثاني: أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج ولأن في ذلك مصلحة فإن المجاهد إذا علم أنه يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد وإذا علم أنه لا

يعطى اشتغل بالكسب لعياله وتعطل الجهاد فإذا قلنا بهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالأعمى والزمن أعطي الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له وإن لم يرد الجهاد لم يكن له في الفيء حق لأنه صار من أهل الكسب وإن تزوجت الزوجة سقط حقها من الفيء لأنها استغنت بالزوج وإن دخل وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى الوارث. فصل: وإن كان في الفيء أراض كان خمسها لأهل الخمس فأما أربعة أخماسها فقد قال الشافعي رحمه الله تكون وقفاً فمن أصحابنا من قال هذا على القول الذي يقول إنه للمصالح فإن المصلحة في الأراضي أن تكون وقفاً لأنها تبقى فتصرف غلتها في المصالح وأما إذا قلنا إنها للمقاتلة فإنه يجب قسمتها بين أهل الفيء لأنها صارت لهم فوجبت قمستها بينهم كأربعة أخماس الغنيمة ومن أصحابنا من قال تكون وقفاً على القولين فإن قلنا إنها للمصالح صرفت غلتها في المصالح وإن قلنا إنها للمقاتلة صرفت غلتها في مصالحهم لأن الاجتهاد في مال الفيء إلى الإمام ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض ويخالف الغنيمة فإنه ليس للإمام فيها الاجتهاد ولهذا لا يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض. وبالله التوفيق.

باب الجزية

باب الجزية لا يجوز أخذ الجزية ممن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان لقوله عز

وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] تخص أهل الكتاب بالجزية فدل على أنهم لا تؤخذ من غيرهم ويجوز أخذها من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى للآية ويجوز أخذها ممن بدل منهم دينه لأنه وإن لم تكن لهم حرمة بأنفسهم فلهم حرمة بآبائهم ويجوز أخذها من المجوس لما روى عبد الرحمن ابن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وروى أيضاً عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر واختلف قول الشافعي رحمه الله هل كان لهم كتاب أم لا؟ فقال فيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن لهم كتاب والدليل عليه قوله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنفال: 155 - 156] والثاني: أنه كان لهم كتاب والدليل عليه ما روي عن علي كرم الله وجه أنه قال كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فجاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع فرفع الكتاب من بين أظهرهم وذهب العلم من صدورهم. فصل: وإن دخل وثني في دين أهل الكتاب نظرت فإن دخل قبل التبديل أخذت منه الجزية وعقدت له الذمة لأنه دخل في دين حق وإن دخل بعد التبديل نظرت فإن دخل في دين من بدل لم تؤخذ منه الجزية لم تعقد له الذمة لأنه دخل في دين باطل وإن دخل في دين من لم يبدل فإن كان ذلك قبل النسخ بشريعة بعده أخذت منه الجزية لأنه دخل في حق وإن كان بعد النسخ بشريعة بعده لم تؤخذ منه الجزية وقال المزني رحمه الله تؤخذ منه ووجهه أنه دخل في دين يقر عليه أهله وهذا خطأ لأنه دخل في دين باطل فلم تؤخذ منه الجزية كالمسلم إذا ارتد وإن دخل في دينهم ولم يعلم أنه دخل في دين من بدل أوفي دين من لم يبدل كنصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب أخذت منهم الجزية لأن عمر رضي الله عنه أخذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنه أشكل أمره

فحقن دمه بالجزية احتياطاً للدم وأما من تمسك بالكتب التي أنزلت على شيث وإبراهيم وداود ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنهم يقرون ببذل الجزية لأنهم أهل كتاب فأقروا ببذل الجزية كاليهود والنصارى والثاني: لا يقرون لأن هذه الصحف كالأحكام التي تنزل بها الوحي وأما السامرة والصابئون ففيهم وجهان: أحدهما: أنه تؤخذ منهم الجزية والثاني: لا تؤخذ وقد بيناهما في كتاب النكاح وأما من كان أحد أبويه وثنياً والآخر كتابياً فعلى ما ذكرناه في النكاح وإن دخل وثني في دين أهل الكتاب وله ابن صغير فجاء الإسلام وبلغ الابن واختار المقام على الدين الذي انتقل إليه أبوه أخذت منه الجزية لأنه تبعه في الدين فأخذت منه الجزية وإن غزا المسلمون قوماً من الكفار لا يعرفون دينهم فادعوا أنهم من أهل الكتاب أخذت منهم الجزية لأنه لا يمكن معرفة دينهم إلا من جهتهم فقبل قولهم وإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب نبذ إليهم عهدهم لأنه بان بطلان دعواهم. فصل: وأقل الجزية دينار لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً وإن التزم أكثر من دينار عقدت له الذمة أخذ بأدائه لأنه عوض في عقد منع الشرع فيه من النقصان عن دينار وبقي الأمر فيما زاد على ما يقع عليه التراضي كما لو وكل وكيلاً في بيع سلعة وقال لا تبع بما دون ينار فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية وقالوا نؤدي باسم الصدقة ورأى الإمام أن يأخذ باسم الصدقة جاز لأن نصارى العرب قالوا لعمر رضي الله عنه لا نؤدي ما تؤدي العجم ولكن خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب فأبى عمر رضي الله عنه وقال: لا أقركم إلا بالجزية فقالوا خذ منا ضعف ما تأخذ من المسلمين فأبى عليهم فأرادوا اللحاق بدار الحرب فقال زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة لعمر إن بنى تغلب عرب وفيهم قوة فخذ منهم ما قد بذلوا ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة وإن كان ما يؤخذ منهم باسم الصدقة لا يبلغ الدينار وجب إتمام الدينار لأن الجزية لا تكون أقل من دينار وإن أضعف عليهم الصدقة فبلغت دينارين فقالوا أسقط عنا ديناراً وخذ منا ديناراً باسم الجزية وجب أخذ الدينار لأن الزيادة وجبت لتغيير الاسم فإذا رضوا بالاسم وجب إسقاط الزيادة. فصل: والمستحب أن يجعل الجزية على ثلاث طبقات فيجعل على الفقير المعتمل ديناراً وعلى المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير لأن عمر رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر ولأن بذلك يخرج من الخلاف لأن أبا حنيفة لا يجيز إلا كذلك.

فصل: ويجوز أن يضرب الجزية على مواشيهم وعلى ما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع فإن كان لا يبلغ ما يضرب على الماشية وما يخرج من الأرض ديناراً لم يجز لأن الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار وإن شرط أنه إن نقص عن دينار تمم الدينار جاز لأنه يتحقق حصول الدينار وإن غلب على الظن أنه يبلغ الدينار ولم يشترط أنه لو نقص الدينار تمم الدينار ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه قد ينقص عن الدينار والثاني: أنه يجوز لأن الغالب في الثمار أنها لا تختلف وإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض فبلغ الأرض من مسلم صح البيع لأنه مال له وينتقل ما ضرب عليها إلى الرقبة لأنه لا يمكن أخذ ما ضرب عليها من المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج". ولأنه جزية فلا يجوز أخذها من المسلم ولا يجوز إقرار الكافر على الكفر من غير جزية فانتقل إلى الرقبة. فصل: وتجب الجزية في آخر الحول لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من كل حالم في كل سنة دينار وروى أبو مجلز أن عثمان بن حنيف وضع على الرؤوس على كل رجل أربعة وعشرين في كل سنة فإن مات أو أسلم بعد الحول لم يسقط ما وجب لأنه عوض عن الحقن والمساكنة وقد استوفى ذلك فاستقر عليه العوض كالأجرة بعد استيفاء المنفعة فإن مات أو أسلم في أثناء الحول ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه شيء لأنه مال يتعلق وجوبه بالحول فسقط بموته في أثناء الحول كالزكاة والثاني: وهو الصحيح أنه يلزمه من الجزية بحصة ما مضى لأنها تجب عوضاً عن الحقن والمساكنة وقد استوفى البعض فوجب عليه بحصته كما لو استأجر عيناً مدة واستوفى المنفعة في بعضها ثم هلكت العين. فصل: ويجوز أن يشترط عليها في الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة من نصارى أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين وروى عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ومن نصارى مدينة كدى إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وشرطنا لكم أن ننزل من يمر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا يشترط ذلك عليهم إلا برضاهم لأنه ليس من الجزية ويشترط عليهم الضيافة بعد الدينار لحديث أكيدر دومة لأنه إذا جعل الضيافة من الدينار لم

يؤمن أن لا يحصل من بعد الضيافة مقدرا الدينار ولا تشترط الضيافة إلا على غني أو متوسط وأما الفقير فلا تشترط عليه وإن وجبت عليه الجزية لأن الضيافة تتكرر فلا يمكنه القيام بها ويجب أن تكون أيام الضيافة من السنة معلومة وعدد من يضاف من الفرسان والرجالة وقدر الطعام والأدم العلوفة معلوماً ولأنه من الجزية فلم يجز مع الجهل بها ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم فقال: أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك ويقسط ذلك على قدر جزيتهم ولا تزاد أيام الضيافة على ثلاثة أيام لما روي أن الني صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاثة أيام". وعليهم أن يسكنوهم في فضول مساكنهم وكنائسهم لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتب على نصارى الشام وشرطنا أن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين من ليل ونهار وأن توسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل فإن كثروا وضاق المكان قدم من سبق فإذا جاءوا في وقت واحد أقرع بينهم لتساويهم وإن لم تسعهم هذه المواضع نزلوا في فضول بيوت الفقراء من غير ضيافة. فصل: ولا تؤخذ الجزية من صبي لحديث معاذ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً ولأن الجزية تجب لحقن الدم والصبي محقون الدم وإن بلغ صبي من أولاد أهل الذمة فهو في أمان لأنه كان في الأمان فلا يخرج منه من غير عناد فإن اختار أن يكون في الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستأنف له عقد الذمة لأن العقد الأول كان للأب دونه فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضي والثاني: لا يحتاج إلى استئناف عقد لأنه تبع الأب في الأمان فتبعه في الذمة فعلى هذا يلزمه جزية أبيه وجده من الأب ولا يلزمه جزية جده من الأم لأنه لا جزية على الأم فلا يلزمه جزية أبيها. فصل: ولا تؤخذ الجزية من مجنون لأنه محقون الدم فلا تؤخذ منه الجزية كالصبي وإن كان يجن يوماً ويفيق يوماً لفق أيام الإفاقة فإذا بلغ قدر سنة أخذت منه الجزية لأنه ليس تغليب أحد الأمرين بأولى من الآخر فوجب التلفيق وإن كان عاقلاً في أول الحول ثم جن في أثنائه وأطبق الجنون ففي جزية ما مضى من أول الحول قولان كما قلنا فيمن مات أو أسلم في أثناء الحول.

فصل: ولا تؤخذ الجزية من امرأة لما روى أسلم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الجزية أن لا تضربوا الجزية على النساء ولا تضربوا إلى على من جرت عليه الموسى ولأنها محقونة الدم فلا تؤخذ منها الجزية كالصبي ولا تؤخذ من الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة وإن طلبت امرأة من دار الحرب أن تعقد لها الذمة وتقيم في دار الإسلام من غير جزية جاز لأنه لا جزية عليها ولكن يشترط عليها أن تجري عليها أحكام الإسلام وإن نزل المسلمون على حصن فيه نساء بلا رجال فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يعقد لهن لأن دماءهن محقونة فعلى هذا يقيمون حتى يفتحوا الحصن ويستبقوهن والثاني: أنه يجوز أن يعقد لهن الذمة وتجري عليهن أحكام المسلمين كما قلنا في الحربية إذا طلبت عقد الذمة فعلى هذا لا يجوز سبيهن وما بذلن من الجزية كالهدية وإن دفعن أخذ منهن وإن امتنعن لم يخرجن من الذمة. فصل: ولا يؤخذ من العبد ولا من السيد بسببه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا جزية على مملوك لأنه لا يقتل بالكفر فلم تؤخذ منه الجزية كالصبي والمرأة ولا تؤخذ ممن نصفه حر ونصفه عبد لأنه محقون الدم فلم تؤخذ منه الجزية كالعبد ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يؤخذ منه بقدر ما فيه من الجزية لأنه يملك المال بقدر ما فيه من الحرية وإن أعتق العبد نظرت فإن كان المعتق مسلماً عقدت له الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية وإن كان ذمياً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستأنف له عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية لأن عقد المولى كان له دون العبد والثاني: يلزمه جزية المولى لأنه تبعه في الأمان فلزمه جزيته. فصل: وفي الراهب والشيخ الفاني قولان بناء على القولين في قتلهما فإن قلنا يجوز قتلهما أخذت منهما الجزية ليحقن بها دمهما وإن قلنا إنه لا يجوز قتلهما لم تؤخذ منهما لأن دمهما محقون فلم تؤخذ منهما الجزية كالصبي والمرأة وفي الفقير الذي لا كسب له قولان: أحدهما: أنه لا تجب عليه الجزية لأن عمر رضي الله عنه جعل أهل الجزية طبقات وجعل أدناهم الفقير المعتمل فدل على أنها لا تجب على غير المعتمل ولأنه إذا لم يجب خراج الأرض في أرض لا نبات لها لم يجب خراج الرقاب في رقبة لا

كسب لها فعلى هذا يكون مع الأغنياء في عقد الذمة فإذا أيسر استؤنف الحول والثاني: أنها تجب عليه لأنها تجب على سبيل العوض فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل كالثمن والأجرة ولأن المعتمل وغير المعتمل يستويان في القتل بالكفر فاستويا في الجزية فعلى هذا ينظر إلى الميسرة فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى ومن أصحابنا من قال لا ينظر لأنه يقدر على حقن الدم بالإسلام فلم ينظر كما لا ينظر من وجبت عليه كفارة ولا يجد رقبة وهو يقدر على الصوم فعلى هذا يقول له إن توصلت إلى أداء الجزية خليناك وإن لم تفعل نبذنا إليك العهد. فصل: ويثبت الإمام عدد أهل الذمة أسماءهم ويحليهم بالصفات التي لا تتغير بالأيام فيقول طويل أو قصير أو ربعة أو أبيض أو أسود أو أسمر أو أشقر أو أدعج العينين أو مقرون الحاجبين أو أقنى الأنف ويكتب ما يؤخذ من كل واحد منهم ويجعل على كل طائفة عريفاً ليجمعهم عند أخذ الجزية ويكتب من يدخل معهم في الجزية بالبلوغ ومن يخرج منهم بالموت والإسلام وتؤخذ منهم الجارية برفق كما تؤخذ سائر الديون ولا يؤذيهم في أخذها بقول ولا فعل لأنه عوض في عقد فلم يؤذهم في أخذه بقول ولا فعل كأجرة الدار ومن قبض منه جزيته كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها. فصل: وإن مات الإمام أو عزل وولى غيره ولم يعرف مقدار ما عليهم من الجزية رجع إليهم في ذلك لأنه لا تمكن معرفته مع تعذر البنية إلا من جهتهم ويحلفهم استظهاراً ولا يجب لأن ما يدعونه لا يخالف الظاهر فإن قال بعضهم هو دينار وقال بعضهم هو ديناران أخذ من كل واحد منهم ما أقر به لأن إقرارهم مقبول ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض لأن شهادتهم لا تقبل وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة أن الجزية كانت أكثر استوفى منهم فإن قالوا كنا ندفع دينارين ديناراً عن الجزية وديناراً هدية فالقول قولهم مع يمينهم واليمين واجبة لأن دعواهم تخالف الظاهر وإن غاب منهم رجل سنين ثم قدم وهو مسلم وادعى أنه أسلم في أول ما غاب ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله

ويطالب بجزية ما مضى من غيبته في حال الكفر لأن الأصل بقاؤه على الكفر والثاني: أنه يقبل لأن الأصل براءة الذمة من الجزية.

باب عقد الذمة

باب عقد الذمة لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فكان إلى الإمام ومن طلب عقد الذمة وهو ممن يجوز إقراره على الكفر بالجزية وجب العقد له لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ} [التوبة: 29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية وجب الكف عنهم وروى بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميراً على جيش قال: إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام المسلمين في حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح العقد والدليل عليه قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] والصغار هو أن تجري عليهم أحكام المسلمين ولا فرق بين الخيابرة وغيرهم في الجزية والذي يدعيه الخيابرة أن معهم كتاباً من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالبراءة من الجزية لا أصل له ولم يذكره أحد من علماء الإسلام وأخبار أهل الذمة لا تقبل وشهادتهم لا تسمع. فصل: وإن كان أهل الذمة في دار الإسلام أخذوا بلبس الغيار وشد الزنار والغيار أن يكون فيما يظهر من ثيابهم ثوب يخالف لونه لون ثيابهم كالأزرق والأصفر ونحوهما والزنار أن يشدوا في أوساطهم خيطاً غليظاً فوق الثياب وإن لبسوا القلانس جعلوا فيها خرقاً ليتميزوا عن قلانس المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح نصارى الشام فشرط أن لا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وأن نشد الزنانير في أوساطنا ولأن الله عز وجل أعز الإسلام وأهله وندب إلى أعزاز أهله وأذل الشرك وأهله ونذب إلى إذلال أهله،

والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله ولا يشرك به شيء وجعل الصغار والذل على من خالف أمري". فوجب أن يتميزوا عن المسلمين لنستعمل مع كل واحد منهم ما ندبنا إليه وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما وإن شرط أحدهما: أخذوا به لأن التمييز يحصل بأحدهما: ويجعل في أعناقهما خاتم ليتميزوا به عن المسلمين في الحمام وفي الأحوال التي يتجردون فيها عن الثياب ويكون ذلك من حديد أو رصاص أو نحوهما ولا يكون من ذهب أو فضة لأن في ذلك إعظاماً لهم وإن كان لهم شعر أمروا بجز النواصي ومنعوا من إرساله كما تصنع الأشراف والأخيار من المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام وشرطنا أن نجز مقادم رؤوسنا ولا يمنعون من لبس العمائم والطيلسان لأن التمييز يحصل بالغيار والزنار وهل يمنعون من لبس الديباج؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم يمنعون لما فيه من التجبر والتفخيم والتعظيم والثاني: أنهم لا يمنعون كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان وتؤخذ نساؤهم بالغيار والزنار لما روى أن عمر كتب إلى أهل الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن وتكون زنانيرهن تحت الإزار لأنه إذا كان فوق الإزار انكشفت رؤوسهن واتصفت أبدانهن ويجعلن في أعناقهن خاتم حديد ليتميزن به عن المسلمات في الحمام كما قلنا في الرجال وإن لبسن الخفاف جعلن الخفين من لونين ليتميزن عن النساء المسلمات ويمنعون من ركوب الخيل لما روي في حديث عبد الرحمن بن غنم شرطنا أن لا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم وإن ركبوا الحمير والبغال ركبوها على الأكف دون السروج ولا يتقلدون السيوف ولا يحملون السلاح لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر ولا نركب بالسروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ويركبون عرضاً من جانب واحد لما روى ابن عمر أن عمر كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم وأن يركبوا الدواب عرضاً على شق. فصل: ولا يبدؤون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها" 1. ولا يصدرون في المجالس لما روى عبد الرحمن بن غنم في

_ 1 رواه أحمد في مسنده 2/263، 346.

كتاب عمر وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولأن في تصديرهم في المجالس إعزازاً لهم وتسوية بينهم وبين المسلمين في الإكرام فلم يجز ذلك. فصل: ويمنعون من إحداث بناء بعلو بناء جيرانهم من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى" 1. وهل يمنعون مساراتهم في البناء؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن أن يشرف المشرك على المسلم والثاني: أنهم يمنعون لأن القصد أن يعلو الإسلام ولا يحصل ذلك مع المساواة وإن ملكوا داراً عالية أقروا عليها وإن كانت أعلى من دور جيرانهم لأنه ملكها على هذه الصفة وهل يمنعون من الاستعلاء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن مع العبد أن يعلوا على المسلمين والثاني: أنهم يمنعون في جميع البلاد لأنهم يتطاولون على المسلمين. فصل: ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير وضرب النواقيس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار الصليب وإظهار أعيادهم ورفع الصوت على موتاهم لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر رضي الله عنه على نصارى الشام شرطنا أن لا نبيع الخمور ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا إلا ضرباً خفياً ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا على موتانا. فصل: ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع والصوامع في بلاد المسلمين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام إنكم لما قدمتم علينا شرطنا لم على أنفسنا أن لا يحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا

_ 1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 79.

كنيسة ولا صومعة راهب وهل يجوز إقرارهم على ما كان منها قبل الفتح ينظر فيه فإن كان في بلد فتح صلحاً واستثنى فيه الكنائس والبيع جاز إقرارهما لأنه إذا جاز أن يصالحوا على أن لنا النصف ولهم النصف جاز أن يصالحوا على أن لنا البلد إلا الكنائس والبيع وإن كان في بلد فتح عنوة أو فتح صلحاً ولم تستثن الكنائس والبيع ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إقرار ما أحدثوا بعد الفتح والثاني: أنه يجوز لأنه لما جاز إقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر جاز إقرارهم على ما يبنى للكفر وما جاز تركه من ذلك في دار الإسلام إذا انهدم فهل يجوز إعادته؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يجوز لما روى كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبنى الكنيسة في دار الإسلام ولا يجدد ما خرب منها". وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر بن الخطاب على نصارى الشام ولا يجدد ما خرب منها ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنع منه كما لو بناها في موضع آخر والثاني: أنه يجوز لأنه لما جاز تشييد ما تشعب منها جاز إعادة ما انهدم وإن عقدت الذمة في بلد لهم ينفردون به لم يمنعوا من إحداث الكنائس والبيع والصوامع ولا من إعادة ما خرب منها ولا يمنعون من إظهار الخمر والخنزير والصليب وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار ما لهم من الأعياد ولا يؤخذون بلبس الغيار وشد الزنانير لأنهم في دار لهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم فيه. فصل: ويجب على الإمام الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم سواء كانوا مع المسلمين أو كانوا منفردين عنهم في بلد لهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم فإن لم يدفع حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم لأن الجزية للحفظ وذلك لم يوجد فيه يجب ما في مقابلته كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكين من المنفعة وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه يحرم فلا يجوز اقتناؤه في الشرع فلم تجب المطالبة به. فصل: وإن عقدت الذمة بشرط أن يمنع عنهم أهل الحرب نظرت فإن كانوا مع المسلمين أوفي موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان طريقهم على المسلمين لم يصح العقد لأنه عقد على تمكين الكفار من المسلمين فلم يصح وإن كانوا منفردين عن

المسلمين في موضع ليس لأهل الحرب طريق على المسلمين صح العقد لأنه ليس فيه تمكين الكفار من المسلمين وهل يكره هذا الشرط؟ قال الشافعي رضي الله عنه في موضع يكره وقال في موضع لا يكره وليست المسألة على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي قال يكره إذا طلب الإمام الشرط لأن فيه إظهار ضعف المسلمين والموضع الذي قال لا يكره إذا طلب أهل الذمة الشرط لأنه ليس فيه إظهار ضعف المسلمين وإن أغار أهل الحرب على أهل الذمة وأخذوا أموالهم ثم ظفر الإمام بهم واسترجع ما أخذوه من أهل الذمة وجب على الإمام رجه عليهم وإن أتلفوا أموالهم أو قتلوا منهم لم يضمنوا لأنهم لم يلتزموا أحكام المسلمين وإن أغار من بيننا وبينهم هدنة على أهل الذمة وأخذوا أموالهم وظهر بها الإمام واسترجع ما أخذوه وجب رده على أهل الذمة وإن أتلفوا أموالهم وقتلوا منهم وجب عليهم الضمان لأنهم التزموا بالهدنة حقوق الآدميين وإن نقضوا العهد وامتنعوا في ناحية ثم أغاروا على أهل الذمة وأتلفوا عليهم أموالهم وقتلوا منهم ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليهم الضمان والثاني: لا يجب كالقولين فيما يتلف أهل الرد إذا امتنعوا وأتلفوا على المسلمين أموالهم أو قتلوا منهم. فصل: وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كانا معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لقوله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو اعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا الحاكم أحدهما: ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور وإن كانا ذميين نظرت فإن كان على دين واحد ففيه قولان: أحدهما: أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لأنهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا أحدهما: ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور والقول الثاني أنه يلزمه الحكم بينهما وهو اختيار المزني لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 48] ولأنه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين وإن حكم بينهما لزمهما حكمه وإن دعا أحدهما: ليحكم بينهما لزمه الحضور وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كالقسم قبله لأنهما كافران قصارا كما لوكانا على دين واحد والثاني: قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأنهما إذا كانا على دين واحد فلم يحكم بينهما تحاكما إلى

رئيسهما فيحكم بينهما وإذا كانا على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الآخر فيضيع الحق واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وفي حقوق الله تعالى ومنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأن الحقوق الآدميين من يطالب بها ويتوصل إلى استيفائها فلا تضيع بترك الحكم بينهما وليس لحقوق الله تعالى من يطالب بها فإذا لم يحكم بينهما ضاعت ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى فأما في حقوق الآدميين فإنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأنه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الآدميين ضاع حقه واستضر ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى فإن تحاكم إليه ذمي ومعاهد ففيه قولان كالذميين وإن تحاكم إليه مسلم وذمي أو مسلم ومعاهد لزمه الحكم بينهما قولاً واحداً لأنه يلزمه دفع كل واحد منهما عن ظلم الآخر فلزمه الحكم بينهما ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 48] ولقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] وإن تحاكم إليه رجل وامرأة في نكاح فإن كانا على نكاح لو أسلما عليه لم يجز إقرارهما عليه كنكاح ذوات المحارم حكم بإبطاله وإن كانا على نكاح لو أسلما عليه جاز إقرارهما عليه حكم بصحته لأن أنكحة الكفار محكوم بصحتها والدليل عليه قوله تعالى {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} فأضاف إلى فرعون زوجته وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 5] فأضاف إلى أبي لهب زوجته ولأنه أسلم خلق كثير على أنكحة في الكفر فأقروا على أنكحتهم فإن طلقها أو آلى منها وظاهر منها حكم في الجميع بحكم الإسلام. فصل: وإن تزوجها على مهر فاسد وسلم إليها بحكم حاكمهم ثم ترافعا إلينا ففيه قولان: أحدهما: يقرون عليه لأنه مهر مقبوض فأقرا عليه كما لو أقبضهما من غير حكم والثاني: أنه يجب لها مهر المثل لأنها قبضت على إكراه بغير حق فصار كما لولم تقبض. فصل: ومن أتى من أهل الذمة محرماً يوجب عقوبة نظرت فإن كان ذلك محرماً في دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب عليه ما يجب على المسلم والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن يهوياً قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الإسلام بعقد الذمة فوجب عليه ما يجب على المسلم وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يجب عليه الحد لأنه لا يعتقد تحريمه فلم يحب عليه عقوبة كالكفر فإن تظاهر به عزر لأنه إظهار منكر في دار الإسلام فعزر عليه.

فصل: إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين اتنقض عهده لأن عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما فلم يبق دونهما وإن قاتل المسلمين انتقض عهده سواء شرط عليه تركه في العقد أولم يشرط لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين والقتال ينافي الأمان فانتقض به العهد وإن فعل ما سوى ذلك نظرت فإن كان مما فيه إضرار بالمسلمين فقد ذكر الشافعي رحمه الله تعال ستة أشياء وهو أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم النكاح أو يفتن مسلماً عن دينه أو يقطع عليه الطريق أو يؤوي عيناً لهم أو يدل على عوراتهم وأضاف إليهم أصحابنا أن يقتل مسلماً فإن لم يشرط الكف عن ذلك في العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يقتضي العقد من التزام أداء الجزية والتزام أحكام المسلمين والكف عن قتالهم وإن شرط عليهم الكف عن ذلك في العقد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا ينتقض به العقد لأنه لا ينتقض به العهد ومن غير شرط فلا ينتقض به مع الشرط كإظهار الخمر والخنزير وترك الغيار والثاني: أنه ينتقض به العهد لما روي أن نصرانياً استكره امرأة مسلمة على الزنا فرفع إلى أبي عبيدة ابن الجراح فقال ما على هذا صالحناكم وضرب عنقه ولأن عقوبة هذه الأفعال تستوفي عليه من غير شرط فوجب أن يكون لشرطها تأثير ولا تأثير إلا ما ذكرنا من نقض العهد فإن ذكر الله عز وجل أو كناية أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دينه بما لا ينبغي فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق في حكمه حكم الثلاثة الأولى وهي الامتناع من التزام الجزية والتزام أحكام المسلمين والاجتماع على قتالهم وقال عامة أصحابنا حكمه حكم ما فيه ضرر بالمسلمين وهي الأشياء السبعة إن لم يشترط في العقد الكف عنه لم ينقض العهد وإن شرط الكف عنه فعلى الوجهين لأن في ذلك إضراراً بالمسلمين لما يدخل عليهم من العار فألحق بما ذكرناه مما فيه إضرار بالمسلمين ومن أصحابنا من قال من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله لما روي أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر سمعت راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعطه الأمان على هذا وإن أظهر من منكر دينهم ما لا ضرر فيه على المسلمين كالخمر والخنزير وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وترك الغيار لم ينتقض العهد شرط أولم يشرط واختلف أصحابنا في تعليله فمنهم من قال: لا ينتقض العهد لأنه إظهار ما لا ضرر فيه على المسلمين ومنهم من قال ينتقض لأنه إظهار ما يتدينون به وإذا فعل ما ينتقض به العهد ففيه قولان: أحدهما: أنه يرد إلى مأمنه لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله قبل الرد إلى مأمنه كما لو دخل دار الإسلام بأمان صبي والثاني: وهو الصحيح أنه لا يجب رده إلى مأمنه كالأسير ويخالف من دخل

بأمان الصبي لأن ذلك غير مفرط لأنه اعتقد صحة عقد الأمان فرد إلى مأمنه وهذا مفرط لأنه نقض العهد فلم يرد إلى مأمنه فعلى هذا يختار الإمام ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء كما قلنا في الأسر. فصل: ولا يمكن مشرك من الإقامة في الحجاز قال الشافعي رحمه الله هي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها قال الأصمعي سمي حجازاً لأنه حاجز بين تهامة ونجد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". وأراد الحجاز والدليل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز ويم ينقل أن أحداً من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب فإن جزيرة العرب في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام في العرض وفي قول أبي عبيدة ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول وما بين النهرين إلى المساواة في العرض قال يعقوب: حفر أبي موسى على منازل من البصرة من طريق مكة على خمسة أو ستة منازل وأما نجران فليست من الحجاز ولكن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة لأن عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجراً في مقام ثلاثة أيام ولا يمكنون من الدخول بغير إذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام فإن استأذن في الدخول فإن كان للمسلمين فيه منفعة بدخوله لحمل ميرة أو أداء رسالة أو عقد ذمة أو عقد هدنة أذن فيه لأن فيه مصلحة للمسلمين فإن كان في تجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارتهم شيئاً لأن عمر رضي الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر ليكون أكثر للحمل وتقدير ذلك إلى رأي الإمام لأن أخذه باجتهاده فكان تقديره إلى رأيه فإن دخل للتجارة فله أن يقيم ثلاثة أيام ولا يقيم أكثر منها لحديث عمر رضي الله عنه، ولأنه

لا يصير مقيماً بالثلاثة ويصير مقيماً بما زاد وإن أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى موضع آخر وأقام ثلاثة أيام ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع ويقيم في كل موضع ثلاثة أيام جاز لأنه لم يصر مقيماً في موضع ولا يمنع من ركوب بحر الحجاز لأنه ليس بموضع للإقامة ويمنع من المقام في سواحله والجزائر المكونة فيه لأنه من بلاد الحجاز وإن دخل لتجارة فمرض فيه ولم يمكنه الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة وإن مات فيه وأمكن نقله من غير تغير لم يدفن فيه لأن الدفن إقامة على التأبيد وإن خيف عليه التغير في النقل عنه لبعد المسافة دفن فيه لأنه موضع ضرورة. فصل: ولا يمكن مشرك من دخول الحرم لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والمسجد الحرام عبارة عن الحرم والدليل عليه قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] وأراد به مكة لأنه أسرى به من منزل خديجة وروى عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل مشرك المسجد الحرام" فإن جاء رسولاً خرج إليه من يسمع رسالته وإن جاء لحمل مبرة خرج إليه من يشتري منه وإن جاء ليسلم خرج إليه من يسمع كلامه وإن دخل ومرض فيه لم يترك فيه وإن مات لم يدفن فيه وإن دفن فيه نبش وأخرج منه للآية ولأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فلأن لا يجوز دفن جيفته فيه أولى وإن تقطع ترك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بنقل من مات فيه منهم ودفن قبل الفتح وإن دخل بغير إذن فإن كان عالماً بتحريمه عزر وإن كان جاهلاً أعلم فإن عاد عزر وإن أذن له في الدخول بمال لم يجز فإن فعل استحق عليه المسمى لأنه حصل له المعوض ولا يستحق عوض المثل وإن كان فاسداً لأنه لا أجرة لمثله والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على تسعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على عرفة على سبعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال. فصل: وأما دخول ما سوى المسجد الحرام من المساجد فإنه يمنع منه من غير إذن لما روى عياض الأشعري أن أبا موسى وفد إلى عمر ومعه نصراني فأعجب عمر خطه فقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتاباً فقال أنه لا يدخل المسجد فقال لم؟ أجنب هو؟ قال لا هو نصراني قال: فانتهره عمر فإن دخل من غير إذن عزر لما روت أم غراب قالت:

رأيت علياً كرم الله وجهه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة فإن استأذن في الدخول فإن كان لنوم أو أكل لم يأذن له لأنه يرى ابتذاله تديناً فلا يحميه من أقذاره وإن كان لسماع قرآن أو علم فإن كان ممن يرجى إسلامه أذن له لقوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله} [التوبة: 6] لأنه ربما كان سبباً لإسلامه وقد روي أن عمر رضي الله عنه سمع أخته تقرأ طه فأسلم وإن كان جنباً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمنع من المقام فيه لأنه إذا منع المسلم إذا كان جنباً فلأن يمنع المشرك أولى والثاني: أنه لا يمنع لأن المسلم يعتقد تعظيمه فمنع والمشرك لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع وإن وفد قوم من الكفار ولم يكن للإمام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم في المسجد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة والنضير في مسجد المدينة وربط ثمامة بن أثال في المسجد. فصل: ولا يمكن حربي من دخول دار الإسلام من غير حاجة لأنه لا يؤمن كيده ولعله يدخل للتجسيس أو شارء سلاح فإن استأذن في الدخول لأداء رسالة أو عقد ذمة أو خدنة أو حمل ميرة وللمسلمين إليها حاجة جاز الإذن له من غير عوض لأن في ذلك مصلحة للمسلمين وإذا انقضت حاجته لم يمكن من المقام فإن دخل من غير ذمة ولا أما فللإمام أن يختار ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء والدليل عليه ما روى ابن عباس في فتح مكة ومجيء أبي سفيان مع العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر دخل وقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته ولأنه حربي لا أمان له فكان حكمه ما ذكرناه كالأسير وإن دخل وادعى أنه دخل لرسالة قبل قوله لأنه يتعذر إقامة البينة على الرسالة وإن ادعى أنه دخل بأمان مسلم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله لأنه لا يتعذر إقامة البينة على الأمان والثاني: أنه يقبل قوله وهو ظاهر المذهب لأن الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان وإن أراد الدخول لتجارة ولا حاجة للمسلمين إليها لم يؤذن له إلا بمال يؤخذ من تجارته لأن عمر رضي الله عنه أخذ العشر من أهل الحرب ويستحب أن لا ينقص عن ذلك اقتداء بعمر رضي الله عنه فإن نقص باجتهاده جاز لأن أخذه باجتهاده فكان تقديره إليه ولا يؤخذ ما يشترط على الذمي في دخول الحجاز في السنة إلا مرة كما لا

تؤخذ الجزية منا في السنة إلا مرة وما يؤخذ من الحربي في دخول دار الإسلام فيه وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ منه في كل سنة مرة كأهل الذمة في الحجاز والثاني: أنه يؤخذ منه في كل مرة يدخل لأن الذمي تحت يد الإمام ولا يفوت ما شرط عليه بالتأخير والحربي يرجع إلى دار الحرب فإذا لم يؤخذ منه فات ما شرط عليه وإن شرط أن يؤخذ من تجارته أخذ منه باع أولم يبع وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته فكسد المتاع ولم يبع لم يؤخذ منه لأنه لم يحصل الثمن وإن دخل الذمي الحجاز أو الحربي دار الإسلام ولم يشرط عليه في دخوله مال لم يؤخذ منه شيء ومن أصحابنا من قال: يؤخذ من تجارة الذمي نصف العشر ومن تجارة الحربي العشر لأنه قد تقرر هذا في الشرع بفعل عمر رضي الله عنه فحمل مطلق العقد عليه والمذهب الأول لأنه أمان من غير شرط المال فلم يستحق به مال كالهدنة.

باب الهدنة

باب الهدنة لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقع عظيم إلا للإمام أولمن فوض إليه الإمام لأنه لو جعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة في قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للإمام أو للنائب عنه فإن كان الإمام مستظهراً نظرت فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ} [محمد: 35] وإن كان فيها مصلحة بأن يرجوا إسلامهم أو بذل الجزية أو معاونتهم على قتال غيرهم جاز أن يهادن أربعة أشهر لقوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1 - 2] ولا يجوز أن يهادنهم سنة فما زاد لأنها مدة يجب فيها الجزية فلا يجوز إقرارهم فيها من غير جزية وهل يجوز فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة فيه

قولان: أحدهما: أنه لا يجوز لأن الله تعالى بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] وأمر بقتال عبدة الأوثان إلى أن يؤمنوا لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ثم أذن في الهدنة في أربعة أشهر وبقي ما زاد على ظاهر الآيتين والقول الثاني أنه يجوز لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية فجاز فيها عقد الهدنة كأربعة أشهر وإن كان الإمام غير مستظهر بأن كان في المسلمين ضعف وقلة وفي المشركين قوة وكثرة أو كان الإمام مستظهراً لكن العدو على بعد ويحتاج في قصدهم إلى مؤنة مجحفة جاز عقد الهدنة إلى مدة تدعوا إليها الحاجة وأكثرها عشر سنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً في الحديبية عشر سنين ولا يجوز فيما زاد على ذلك لأن الأصل وجوب الجهاد إلا فيما وردت فيه الرخصة وهو عشر سنين وبقي ما زاد على الأصل وإن عقد على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد على العشر وفي العشر قولان بناء على تفريق الصفقة في البيع وإن دعت الحاجة إلى خمس سنين لم تجز الزيادة عليها فإن عقد على ما زاد على الخمس سنين بطل العقد فيما زاد وفي الخمس قولان: فإن عقد الهدنة مطلقاً من غير مدة لم يصح لأن إطلاقه يقتضي التأبيد وذلك لا يجوز وإن هادن على أن له أن ينقض إذا شاء جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال: "أقركم ما أقركم الله". وإن قال غير النبي صلى الله عليه وسلم هادنتكم إلى أن يشاء الله تعالى أو أقررتكم ما أقركم الله تعالى لم يجز لأنه لا طرق له إلى معرفة ما عند الله تعالى ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعلم ما عند الله تعالى بالوحي وإن هادنهم ما شاء فلان وهو رجل مسلم أمين عالم له رأي جاز فإن شاء فلان أن ينقض نقض وإن قال هادنتكم ما شيئم لم يصح لأنه جعل الكفار محكمين على المسلمين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى". ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم لأن في ذلك مصلحة للمسلمين ولا يجوز بمال يؤدي إليهم من غير ضرورة لأن في ذلك إلحاق صغار بالإسلام فلم يجز من غير ضرورة فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام أو أسروا رجلاً من المسلمين وخيف تعذيبه جاز بذل المال لاستنقاذه منهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الحرث بن عمر والغطفاني رئيس غطفان قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأتها عليك خيلاً ورجلاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أشاور السعديين". يعني سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة فقالوا: إن كان هذا

بأمر من السماء فتسليم لأمر الله عز وجل وإن كان برأيك فرأينا تبع لرأيك وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية تمرة إلا شراء أو قراء وكيف وقد أعزنا الله بك فلم يعطهم شيئا فلولم يجز عند الضرورة لما رجع إلى الأنصار ليدفعوه إن رأوا ذلك ولأن ما يخاف من الاصطلام وتعذيب الأسير أعظم في الضرورة من بذل المال فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما وهل يجب بذل المال؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه وقد بيناه في الصول فإذا بذل لهم على ذلك مال لم يملكوه لأنه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه كالمأخوذ بالقهر. فصل: ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح الحديبية فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة فجاء أخوها فطالباها فأنزل الله عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى منع من الصلح في النساء" ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك فيصيبها ولا يؤمن أن تفتن في دينها لنقصان عقلها ولا يجوز عقدها على رد من لا عشيرة له من الرجال تمنع عنه لأنه لا يأمن على نفسه في إظهار دينه فيما بينهم ويجوز عقدها على رد من له عشيرة تمنع عنه لأنه يأمن على نفسه في إظهار دينه ولا يجوز عقدها مطلقاً على رد من جاء من الرجال مسلما لأنه يدخل فيه من يجوز رده ومن لا يجوز. فصل: وإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز مما ذكرناه أو عقدت الذمة على ما لا يجوز من النقصان عن دينار في الجزية أو المقام في الحجاز أو الدخول إلى الحرم أو بناء كنيسة في دار الإسلام أوترك الغيار أو إظهار الخمر والخنزير في دار الإسلام وجب نقضه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال: ردوا الجهالات إلى السنة ولأنه عقد على محرم فلم يجز الإقرار عليه كالبيع بشرط باطل أو عوض محرم. فصل: وإن عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى أن تنقضي المدة ما أقاموا على العهد لقوله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ولقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ

_ 1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 20. مسلم في كتاب الأقضية حديث 17. أبو داود في كتاب السنة باب 5. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 2. أحمد في مسنده 2/146.

كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 3 - 4] ولقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] وروى سليمان ابن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم هدنة فسار معاوية في أرضهم كأنهم يريد أن يغير عليهم فقال له عمرو ابن عبسة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقده ولا يشدها حتى يمضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء". قال: فانصرف معاوية ذلك العام ولأن الهدنة عقدت لمصلحة المسلمين فإذا لم يف لهم عند قدرتنا عليهم لم يفوا لنا عند قدرتهم علينا فيؤدي ذلك إلى الإضرار بالمسلمين وإن مات الإمام الذي عقد الهدنة ولي غيره لزمه إمضاؤه لما روي أن نصارى نجران أتوا علياً كرم الله وجهه وقالوا: إن الكتاب كان بيديك والشفاعة إليك وإن عمر أجلانا من أرضنا فردنا إليها فقال علي: إن عمر كان رشيداً في أمره وإني لا أغير أمراً فعله عمر رضي الله عنه. فصل: ويجب على الإمام منع من يقصدهم من المسلمين ومن معهم من أهل الذمة لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم ولا يجب عليه منع من قصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم وإنما عقدت على تركهم بخلاف أهل الذمة فإن أهل الذمة عقدت على حفظهم فوجب منع كل من يقصدهم ويجب على المسلمين ومن معهم من أهل الذمة ضمان أنفسهم وأموالهم والتعزير بقذفهم لأن الهدنة تقتضي الكف عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فوجب ضمان ما يجب في ذلك. فصل: إذا جاءت منعم حرة بالغة عاقلة مسلمة مهاجرة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه ولها زوج مقيم على الشرك وقد دخل بها وسلم إليها مهراً حلالاً فجاء زوجها في طلبها فهل يجب رد ما سلم إليها من المهر؟ فيه قولان: أحدهما: يجب لقوله تعالى عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ولأن البضع مقوم حيل بينه وبين مالكه فوجب رد بدله كما لو أخذ منهم مالاً وتعذر رده والقول الثاني وهو الصحيح وهو اختيار المزني أنه لا يجب لأن البضع ليس بمال والأمان لا يدخل فيه إلا المال ولهذا لو أمن مشركاً لم تدخل امرأته في الأمان ولأنه لو ضمن البضع الحيلولة لضمن بمهر المثل كما يضمن المال عند تعذر الرد

بالمثل بقيمته ولا خلاف أنه لا يضمن البضع بمهر المثل فلم يضمن بالمسمى وأما الآية فإنها نزلت في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية قبل تحريم رد النساء وقد منع الله تعالى من ذلك بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فسقط ضمان المهر فإن قلنا لا يجب رد المهر فلا تفريع وإن قلنا إنه يجب وعليه التفريع وجب ذلك في خمس الخمس لأنه مال يجب على سبيل المصلحة فوجب في خمس الخمس وإن لم يكن قد دفع إليها المهر لم يجب له المهر لقوله تعالى: {وآتوهم ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] وهذا لم ينفق وإن دفع إليها مهراً حراماً كالخمر والخنزير لم يجب له شيء لأنه لا قيمة لما دفع إليها فصار كما لولم يدفع إليها شيئاً فإن دفع إليها بعض مهرها لم يجب له أكثر منه لأن الوجوب يتعلق بالمدفوع فلم يجب إلا ما دفع وإن جاءت إلى بلد ليس فيها إمام ولا نائب عنه لم يجب رد المهر لأنه يجب في سهم المصالح وذلك إلى الإمام أو النائب عنه فلم يطالب به غيره. فصل: وإن جاءت مسلمة عاقلة ثم جنت وجب رد المهر لأن الحيلولة حصلت بالإسلام وإن جاءت مجنونة ووصفت الإسلام ولم يعلم هل وصفته في حال عقلها أوفي حال جنونها لم ترد إليه لجواز أن يكون وصفته في حال عقلها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام فلم يجز ردها احتياطاً للإسلام وإن أفاقت ووصفت الكفر وقالت: إنها لم تزل كافرة ردت إلى زوجها وإن وصفت الإسلام لم ترد فإذا جاء الزوج في طلبها دفع إليها مهرها لأنه حيل بينهما بالإسلام وإن طلب مهرها قبل الإفاقة لم يدفع إليه لأن المهر يجب بالحيلولة وذلك لا يتحقق قبل الإفاقة لجواز أن تفيق وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب مع الشك. فصل: فإن جاءت صبية ووصفت الإسلام لم ترد إليهم وإن لم يحكم بإسلامها لأنا نرجوا إسلامها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها فإن وصفت الإسلام دفع إلى زوجها المهر لأنه تحقق المنع بالإسلام فإن جاء يطالب مهرها قبل البلوغ ففيه وجهان: أحدهما: أنه يدفع إليه مهرها لأنها منعت منه بوصف الإسلام فهي كالبالغة والثاني: أنه لا يدفع لأن الحيلولة لا تتحقق قبل البلوغ لجواز أن تبلغ وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب المهر كما قلنا في المجنونة.

فصل: وإن جاءت مسلمة ثم ارتدت لم ترد إليهم لأنه يجب قتلها وإن جاء زوجها يطلب مهرها فإن كان بعد القتل لم يجب دفع المهر لأن الحيلولة حصلت بالقتل وإن كان قبل القتل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب لأن المنع وجب بحكم الإسلام والثاني: لا يجب لأن المنع وجب لإقامة الحد لا بالإسلام. فصل: وإن جاءت مسلمة ثم جاء زوجها ومات أحدهما: فإن كان الموت بعد المطالبة بها وجب المهر لأن الحيلولة حصلت بالإسلام وإن كان قبل المطالبة لم يجب لأن الحيلولة حصلت بالموت. فصل: فإن أسلمت ثم طلقها زوجها فإن كان الطلاق بائناً فهو كالموت وقد بيناه وإن كان رجعياً لم يجب دفع المهر لأنه تركها برضاه وإن راجعها ثم طالب بها وجب دفع المهر لأنه حيل بينهما بالإسلام وإن جاءت مسلمة ثم أسلم الزوج فإن أسلم قبل انقضاء العدة لم يجب المهر لاجتماعهما على النكاح وإن أسلم بعد انقضاء العدة فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة وجب المهر لأنه وجب قبل البينونة وإن طالب بعد انقضاء العدة لم يجب لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين. فصل: وإن هاجرت منهم أمة وجاءت إلى بلد فيه الإمام نظرت فإن فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت صارت حرة لأنا يبنا أن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد عليه لأنها أجنبية منه لا حق له في رقبتها ولأنها مسلمة فلا يجوز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله فيها قولين كالحرة إذا هاجرت وجاء زوج يطلب مهرها والصحيح أنه لا تجب قيمتها قولاً واحداً وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله لأن الحيلولة حصلت بالقهر قبل الإسلام وإن أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت لم تصر حرة لأنهم في أمان منا وأموالهم محظورة علينا فلم يزل الملك فيها بالهجرة فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد لأنها مسلمة فلم يجز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها وجب دفعها إليه كما لو غصب منها مال وتلف وإن كانت الأمة مزوجة من حر فجاء زوجها في طلبها لم ترد إليه وإن طلب مهرها فعلى القولين في الحرة وإن كانت مزوجة من عبد فعلى القولين أيضاً إلا أنه لا يجب دفع المهر إلا أن يحضر الزوج فيطالب بها لأن البضع له فلا يملك المولى المطالبة به ويحضر المولى ويطالب بالمهر لأن المهر له فلا يملك الزوج المطالبة به.

فصل: وإن هاجر منهم رجل مسلم فإن كان له عشيرة تمنع عنه جاز له العود إليهم والأفضل أن لا يعود وقد بينا ذلك في أول السير فإن عقد الهدنة على رده واختار العود لم يمنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأبي جندل وأبي بصير في العود وإن اختار المقام في دار الإسلام لم يمنع لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الانتقال إلى دار الشرك وإن جاء من يطلبه قلنا للمطالب إن قدرت على رده لم نمنعك منه وإن لم تقدر لم نعنك عليه ونقول للمطلوب في السر إن رجعت إليهم ثم قدرت أن تهرب منهم وترجع إلى دار الإسلام كان أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد أبا بصير فهرب منهم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد وفيت لهم ونجاني الله منهم. فصل: ومن أتلف منهم على مسلم مالاً وجب عليه ضمانه وإن قتله وجب عليه القصاص وإن فدفه وجب عليه الحد لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم الخمر أوزنى لم يجب عليه الحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزم بالهدنة حقوق الله تعالى فإن سرق مالاً لمسلم ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب عليه القطع لأنه حد خالص لله تعالى فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا والثاني: أنه يجب عليه لأنه حد يجب لصيانة حق الآدمي فوجب عليه كحد القذف. فصل: إذا نقض أهل الهدنة عهدهم بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقضت الهدنة لقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} فدل على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم لقوله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] فدل على أنهم إن ظاهروا عليكم أحداً لم تتم إليهم عهدهم ولأن الهدنة تقتضي الكف عنا فانتقضت بتركة ولا يفتقر نقضها إلى حكم الإمام بنقضها لأن الحكم إنما يحتاج إليه في أمر محتمل وما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض العهد وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم ينكروا ما فعل الناقض انتقضت الهدنة في حق الجميع والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العيزار بن سالف وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به فقال الله عز وجل: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 14] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني قريظة وأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وقيل: إن الذي أعان منهم حيي بن أخطب وأخوه

وآخر معهم فنقض النبي صلى الله عليه وسلم عهدهم وغزاهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا بالحديبية وكان بنو بكر حلفاء قريش وخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاربت بنو بكر خزاعة وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة وأمسك سائر قريش فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضاً لعهدهم وسار إليهم حتى فتح مكة ولأنه لما كان عقد بعضهم الهدنة أماناً لمن عق ولمن أمسك وجب أن يكون نقض بعضهم نقضاً لمن نقض ولمن أمسك وإن نقض بعضهم العهد وأنكر الباقون أو اعتزلوهم أو راسلوا إلى الإمام بذلك انتقض عهد من نقض وصار حرباً لنا بنقضه ولم ينتقض عهد من لم يرض لأنه لم ينقض العهد ولا رضي مع من نقض فإن كان من لم ينقض مختلطاً بمن نقض أمر من لم ينقض بتسليم من نقض إن قدروا أو بالتميز عنهم فإن لم يفعلوا أحد هذين مع القدرة عليه انتقضت هدنتهم لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب وإن لم يقدروا على ذلك كان حكمهم حكم من أسره الكفار من المسلمين وقد بيناه في أول السير وإن أسر الإمام قوماً منهم وادعوا أنهم ممن لم ينقض العهد وأشكل عليه حالهم قبل قولهم لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم. فصل: وإن ظهر منهم من يخاف معه الخيانة جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ولا تنتقض الهدنة إلا أن يحكم الإمام بنقضها لقولها عز وجل: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} ولأن نقضها لخوف الخيانة وذلك يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم وإن خاف من أهل الذمة خيانة لم ينبذ عليهم والفرق بينهم وبين عقد أهل الهدنة أن النظر في عقد الذمة وجب لهم ولهذا إذا طلبوا عقد الذمة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة والنظر في عقد الهدنة لنا ولهذا لو طلبوا الهدنة كان النظر فيها إلى الإمام وإن رأى عقدها عقد وإن لم ير عقدها لم يعقد فكان النظر إليه في نقضها عند الخوف ولأن أهل الذمة في قبضته فإذا ظهرت منهم خيانة أمكن استدراكها وأهل الهدنة خارجون عن قبضته فإذا ظهرت خيانتهم لم يمكن استدراكها فجاز نقضها بالخوف وإن لم يظهر منهم ما يخاف معهم الخيانة لم يجز نقضها لأن الله تعالى أمر بنبذ العهد عند الخوف فدل على أنه لا يجوز مع عدم الخوف ولأن نقض الهدنة من غير سبب يبطل مقصود الهدنة ويمنع الكفار من الدخول فيها والسكون إليها وإذا نقض الهدنة عند خوف الخيانة

ولم يكن عليهم حق ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا على أمان فوجب ردهم إلى المأمن وإن كان عليهم حق استوفاه منهم ثم ردهم إلى مأمنهم. فصل: إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له الأمان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس والمال وما يجب عليه من الضمان والحدود حكم المهادن لأنه مثله في الأمان فكان مثله فيما ذكرناه وإن عقد الأمان ثم عاد إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة فهو على الأمان في النفس والمال كالذمي إذا خرج إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة وإن رجع إلى دار الحرب بنية المقام وترك ماله في دار الإسلام انتقض الأمان في نفسه ولم ينتقض في ماله فإن قتل أو مات انتقل المال إلى وارثه وهل يغنم أم لا؟ فيه قولان: قال في سير الواقدي ونقله المزني أنه يغنم ماله وينتقل إلى بيت المال فيئاً وقال في المكاتب يرد إلى ورثته فذهب أكثر أصحابنا إلى أنها على قولين: أحدهما: أنه يرد إلى ورثته وهو اختيار المزني والدليل عليه أن المال لوارثه ومن ورث مالاً ورثه بحقوقه وهذا الأمان من حقوق المال فوجب أن يورث والقول الثاني أنه يغنم وينتقل إلى بيت المال فيئاً ووجهه أنه لما مات انتقل ماله إلى وارثه وهو كافر لا أمان له في نفسه ولا في ماله فكان غنيمة وقال أبوعلي بن خيران: المسألة على اختلاف حالين فالذي قال يغنم إذا عقد الأمان مطلقاً ولم يشرط لوارثه والذي قال لا يغنم إذا عقد الأمان لنفسه ولوارثه وليس للشافعي رحمه الله ما يدل على هذه الطريقة وأما إذا مات في دار الإسلام فقد قال في سير الواقدي أنه يرد إلى ورثته واختلف أصحابنا فيه فيمنهم من قال هو أيضا على قولين كالتي قبلها والشافعي نص على أحد القولين ومنهم من قال يرد إلى وارثه قولاً واحداً والفرق بين المسألتين أنه إذا مات في دار الإسلام مات على أمانه فكان ماله على الأمان وإذا مات في دار الحرب فقد مات بعد زواله أمانه فبطل في أحد القولين أمان ماله فإن استرق زال ملكه عن المال بالاسترقاق وهل يغنم؟ فيه قولان: أحدهما: يغنم فيئاً لبيت المال والقول الثاني أنه موقوف لأنه لا يمكن نقله إلى الوارث لأنه حي ولا إلى مسترقه لأنه مال له أمان فإن عتق دفع المال إليه بملكه القديم وإن مات عبداً ففي ماله قولان حكاهما أبوعلي بن أبي هريرة: أحدهما: أنه يغنم فيئاً ولا يكون موروثاً لأن العبد لا يورث والثاني: أنه لوارثه لأنه ملكه في حريته. فصل: فإن اقترض حربي من حربي مالاً ثم دخل إلينا بأمان أو أسلم فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فلزمه البدل كما لو

تزوج حربية ثم أسلم قال: ويحتمل أنه لا يلزمه البدل فإن الشافعي رحمه الله قال في النكاح: إذا تزوج حربي حربية ودخل بها وماتت ثم أسلم الزوج أو دخل إلينا بأمان فجاء وارثها يطلب ميراثه من صداقها أنه لا شيء له لأنه مال فائت في حال الكفر قال: والأول أصح ويكون تأويل المسألة أن الحربي تزوجها على غير مهر فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالاً أو اقترض منهم مالاً وعاد إلى دار الإسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان وجب على المسلم رد ما سرق أو اقترض لأن الأمان يوجب ضمان المال في الجانبين فوجب رده.

باب خراج السواد

باب خراج السواد سواد العراق ما بين عبادان إلى الموصل طولاً ومن القادسية إلى حلوان عرضاً قال الساجي: هو اثنان وثلاثون ألف ألف جريب وقال أبو عبيد: هو ستة وثلاثون ألف ألف جريب وفتحها عمر رضي الله عنه وقسمها بين الغانمين ثم سألهم أن يردوا ففعلوا والدليل عليه ما روى قيس بن أبي حازم البجلي قال: كنا ربع الناس في القادسية فأعطانا عمر رضي الله عنه ربع السواد وأخذناها ثلاث سنين ثم وفد جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر رضي الله عنه بعد ذلك فقال أما والله لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما قسم لكم وأرى أن تردوا على المسلمين ففعلوا ولا تدخل في ذلك البصرة وإن كانت داخلة في حد السواد لأنها كانت أرضاً سبخة فأحياها عمرو بن العاص الثقفي وعتبة بن غزوان بعد الفتح إلا مواضع من شرقي دخلتها تسميها أهل البصرة الفرات ومن غربي دخلتها نهر يعرف بنهر المرة واختلف أصحابنا فيما فعل عمر رضي الله عنه فيما قتح من أرض السواد فقال أبو العباس وأبو إسحاق: باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن والدليل عليه أن من لدن عمر إلى يومنا هذا تباع وتبتاع من غير إنكار وقال أبو سعيد الإصطخري وقفها عمر رضي الله عنه على المسلمين فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا

هبتها ولا رهنها وإنما تنقل من يد إلى يد وما يؤخذ من الخراج فهو أجرة وعليه نص في سير الواقدي والدليل عليه ما روى بكير بن عام عن عامر قال: اشترى عقبة بن فرقد أرضاً من أرض الخراج فأتى عمر فأخبره فقال: ممن اشتريتها قال: من أهلها قال: فهؤلاء أهلها المسلمون أبعتموه شيئاً قالوا: لا قال: فاذهب فاطلب مالك فإذا قلنا إنه وقف فهل تدخل المنازل في الوقف فيه وجهان: أحدهما: أن الجميع وقف والثاني: أنه لا يدخل في الوقف غير المزارع لأنا لو قلنا إن المنازل دخلت في الوقف أدى إلى خرابها وأما الثمار فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى الساجي في كتابه عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة ويحمل إليهم الثمر من الفرات فيؤتى به ويطرح على حافة الشط ويلقى عليه الحشيش ولا يطير ولا يشتري منه إلا أعرابي أومن يشتريه فينبذه وما كان الناس يقدمون على شرائه والوجه الثاني أنه يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها لأن الحاجة تدعوا إليه فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول. فصل: ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم ومن كل جريب شجر وقصب وهو الرطبة ستة دراهم واختلف أصحابنا في خراج النخل والكرم فمنهم من قال: يؤخذ من كل جريب نخل عشرة دراهم ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم لما روى مجاهد عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فجعل على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشجر والقضب ستة دراهم وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثني عشر ومنهم من قال: يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب الزيتون اثنا عشر ومنهم من قال: يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية لما روى أبوقتادة عن لاحق بن حميد يعني أيا مجلز قال: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عثمان بن حنيف وفرض على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب البر أربعة وعلى جريب

الشعير درهمين وعلى جريب القضب ستة وكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه ورضي به وروى عباد بن كثير عن قحزم قال جبى عمر رضي الله عنه العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزيز مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف وما يؤخذ من ذلك يصرف في مصالح المسلمين الأهم فالأهم لأنه للمسلمين فصرف في مصالحهم. والله أعلم.

كتاب الحدود

كتاب الحدود باب حد الزنا الزنا حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] وروى عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله عز وجل قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت إن ذلك لعظيم قال: قلت: ثم أي قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك" قال: قلت: ثم أي قال: "أن تزاني حليلة جارك" 1. فصل: إذا وطئ رجل من أهل دار الإسلام امرأة محرمة عليه من غير عقد ولا شبهة عقد وغير ملك ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم وجب عليه الحد فإن كان محصناً وجب عليه الرجم لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال عمر لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائلهم ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلون ويتركون فريضة أنزلها الله ألا إن الرجم إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الإعتراف وقد قرأتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ولا يجلد المحصن مع الرجم لما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 20. مسلم في كتاب الإيمان حديث 141. أبو داود في كتاب الطلاق باب 50. النسائي في كتاب الإيمان باب 6.

الله عنهما قالا: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رجل فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فقال صلى الله عليه وسلم: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت فرجمها ولو وجب الجلد مع الرجم لأمر به فصل: والمحصن الذي يرجم هو أن يكون بالغاً عاقلاً حراً وطئ في نكاح صحيح فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يرجم لأنهما ليسا من أهل الحد وإن كان مملوكاً لم يرجم وقال أبو ثور: إذا أحصن بالزوجية رجم لأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والعبد كالقطع في السرقة وهذا خطأ لقوله عز وجل: {فَإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فأوجب مع الإحصان خمسين جلدة وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد" 1. ولأن الرجم أعلى من جلد مائة فإذا لم يجب على المملوك جلد مائة فلأن لا يجب الرجم أولى ويخالف القطع في السرقة فإنه ليس في السرقة حد غير القطع فلو أسقطناه القطع سقط الحد وفي ذلك فساد وليس كذلك في الزنا فإن فيه حداً غير الرجم فإذا أسقطناه لم يسقط الحد وأما من لم يطأ في النكاح الصحيح فليس بمحصن وإذا زنى لم يرجم لما روى مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" 2. ولا خلاف أن المراد بالثيب الذي وطئ في نكاح صحيح واختلف أصحابنا هل يكون من شرطه أن يكون الوطء بعد كماله بالبلوغ والعقل والحرية أم لا؟ فمنهم من قال ليس من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فلو وطئ وهو صغير

_ 1 رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود حديث 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14. 2 رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب1. الترمذي في كتاب الديات باب 10. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده 1/382.

أو مجنون أو مملوك ثم كمل فزنى رجم لأنه وطء أبيح للزوج الأول فثبت به الإحصان كما لو وطئ بعد الكمال ولأن النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء ومنهم من قال: من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فإن وطئ في حال الصغر أو الجنون أو الرق ثم كمل وزنى لم يرجم وهو ظاهر النص والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 1. فلو جاز أن يحصن الوطء في حال النقصان لما علق الرجم بالزنا ولأن الإحصان كمال فشرط أن يكون وطؤه في حال الكمال فعلى هذا إذا وطئ في نكاح صحيح فإن كانا حرين بالغين عاقلين صارا محصنين وإذا كانا مملوكين أو صغيرين أو مجنونين لم يصيرا محصنين وإن كان أحدهما: حراً بالغاً عاقلاً والآخر مملوكاً أو صغيراً أو مجنوناً ففيه قولان: أحدهما: أن الكامل منهما محصن والناقص منهما غير محصن وهو الصحيح لأنه لما جاز أن يجب بالوطء الواحد الرجم على أحدهما: دون الآخر جاز أن يصير أحدهما: بالوطء الواحد محصناً دون الآخر والقول الثاني: أنه لا يصير واحد منهما محصناً لأنه وطء لا يصير به أحدهما: محصناً فلم يصر الآخر به محصناً كوطء الشبهة ولا يشترط في إحصان الرجم أن يكون مسلماً لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين زنيا فأمر برجمهما. فصل: وإن كان غير محصن نظرت فإن كان حراً جلد مائة جلدة وغرب سنة لقوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وإن كان مملوكاً جلد خمسين عبداً كان أو أمة لقوله عز وجل: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فجعل ما على الأمة نصف ما على الحرة لنقصانها بالرق والدليل عليه أنها لو أعتقت كمل حدها والعبد كالأمة في الرق فوجب عليه نصف ما على الحر وهل يغرب العبد بعد الجلد؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يغرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها

_ 1 رواه مسلم في كتاب الحدود حديث 12، 13. أبو داود في كتاب الحدود باب 23. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 7.

الحد". ولم يذكر النفي ولأن القصد بالتغريب تعذيبه بالإخراج عن الأهل والمملوك لا أهل له والقول الثاني: أنه يغرب وهو الصحيح لقوله عز وجل: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولأنه حد يتبعض فوجب على العبد كالجلد فإن قلنا إنه يغرب ففي قدره قولان: أحدهما: أنه يغرب سنة لأنها مدة مقدرة بالشرع فاستوى فيها الحر والعبد كمدة العنين والثاني: أنه يغرب نصف سنة للآية ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كالجلد. فصل: وإن زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن وزنى ففيه وجهان: أحدهما: أنه يرجم ويدخل فيها الجلد والتغريب لأنهما حدان يجبان بالزنا فتداخلا كما لو وجب حدان وهو بكر والثاني: أنه لا يدخل فيه لأنهما حدان مختلفان فلم يدخل أحدهما: في الآخر كحد السرقة والشرب فعلى هذا يجلد ثم يرجم ولا يغرب لأن التغريب يحصل بالرجم. فصل: والوطء الذي يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه وما يجب بالوطء في الفرج من الحد يجب بالوطء في الدبر لأنه فرج مقصود فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل ولأنه إذا وجب بالوطء في القبل وهو مما يستباح فلأن يجب بالوطء في الدبر وهو مما لا يستباح أولى. فصل: ولا يجب على الصبي والمجنون حد الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه إذا سقط عنه التكليف في العبادات والمآثم في المعاصي فلأن يسقط الحد ومبناه على الدرء والإسقاط أولى وفي السكران قولان وقد بيناهما في الطلاق. فصل: ولا يجب على المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأنها مسلوبة الإختيار فلم يجب عليها الحد كالنائمة وهل يجب على الرجل إذا أكره على الزنا فيه وجهان ك أحدهما: وهو المذهب أنه لا يجب عليه لما ذكرناه في المرأة والثاني: أنه يجب لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحاث عن الشهوة والاختيار. فصل: ولا يجب على من لا يعلم تحريم الزنا لما روى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام فقال رجل: زنيت البارحة فقالوا ما تقول قال: ما علمت أن الله عز وجل حرمه فكتب يعني عمر إن كان يعلم أن الله حرمه فخذوه وإن لم يكن قد علم فأعلموه فإن عاد فارجموه وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات وقال: أي لكاع زنيت؟ فقالت: من غوش بدرهمين تخبر

بصاحبها الذي زنى بها ومهرها الذي أعطاها فقال عمر رضي الله عنه ما ترون وعنده علي وعثمان عبد الرحمن بن عوف فقال علي رضي الله عنه أرى أن ترجمها وقال عبد الرحمن أرى مثل ما رأى أخوك فقال لعثمان ما تقول: قال أراها تستهل بالذي صنعت لا ترى به بأساً وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل فقال صدقت فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه فإن كان نشأ فيما بين المسلمين لم يقبل قوله لأنا نعلم كذبه وإن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة أو كان مجنوناً فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه فلم يجب الحد وإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وادعى أنه جهل تحريمه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ في موضع بعيد من المسلمين كما لا يقبل دعوى الجهل إذا وطئها من غير إذن الراهن والثاني: أنه يقبل قوله لأن معرفة ذلك تحتاج إلى فقه. فصل: وإن وجد امرأة في فراشه فظنها أمته أو زوجته فوطئها لم يلزمه الحد لأنه يحتمل ما يدعيه من الشبهة. فصل: وإن كان أحد الشريكين في الوطء صغيراً والآخر بالغاً أو أحدهما: مستيقظاً والآخر نائماً أو أحدهما: مختاراً والآخر مستكرهاً أو أحدهما: مسلماً والآخر مستأمناً وجب الحد على من هو من أهل الحد ولم يجب على الآخر لأن أحدهما: انفرد بما يوجب الحد وانفرد الآخر بما يسقط الحد فوجب الحد على أحدهما: وسقط عن الآخر وإن كان أحدهما: محصناً والآخر غير محصن وجب على المحصن الرجم وعلى غير المحصن الجلد والتغريب لأن أحدهما: انفرد بسبب الرجم والآخر انفرد بسبب الجلد والتغريب وإن أقر أحدهما: بالزنا وأنكر الآخر وجب على المقر الحد لما روى سهل بن الساعدي أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها فجحدت فحد الرجل وروى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". فأوجب الحد على الرجل وعلق الرجم على اعتراف المرأة.

فصل: وإن استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها أو تزوج ذات رحم فوطئها وهو يعتقد تحريمها وجب عليه الحد لأنه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها فكان وجوده كعدمه وإن ملك ذات رحم محرم ووطئها ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه الحد لأن ملكه لا يبيح وطأها بحال فلم يسقط الحد والثاني: أنه لا يجب عليه الحد وهو الصحيح لأنه وطء في ملك فلم يجب به الحد كوطء أمته الحائض ولأنه وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: إن علم بتحريمها وجب عليه الحد لأن ملك البعض لا يبيح الوطء فلم يسقط الحد كملك ذات رحم محرم وهذا خطأ لأنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد وما يسقط فغلب الإسقاط لأن مبنى الحد على الدرء والإسقاط وإن وطئ جارية ابنه لم يجب عليه الحد لأن له فيها شبهة ويلحقه نسب ولدها فلم يلزمه الحد بوطئها. فصل: واللواط محرم لقوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] فسماه فاحشة وقد قال عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] ولأن الله عز وجل عذب بها قوم لوط بما لم يعذب به أحداً فدل على تحريمه ومن فعل ذلك وهو ممن يجب عليه حد الزنا وجب عليه الحد وفي حده قولان: أحدهما: وهو المشهور من مذهبه أنه يجب فيه ما يجب في الزنا فإن كان غير محصن وجب الجلد والتغريب وإن كان محصناً وجب عليه الرجم لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". ولأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثاني أنه يجب قتل الفاعل والمفعول به لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 1. ولأن تحريمه أغلظ فكان حده أغلظ وكيف يقتل فيه وجهان: أحدهما: أنه يقتل بالسيف لأنه أطلق القتل في الخبر في الخبر فينصرف إطلاقه إلى القتل بالسيف والثاني: أنه يرجم لأنه قتل يجب بالوطء فكان بالرجم كقتل الزنا. فصل: ومن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت مباشرته فيما

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 12.

دون الفرج بشهوة والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان". فإذا حرمت الخلوة بها فلأن تحرم المباشرة أولى لانها أدعى إلى الحرام فإن فعل ذلك لم يجب عليه الحد لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخذت امرأة في البستان وأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها فاعمل بي ما شئت فقرأ عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ويعزر عليه لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فشرع فيها التعزير. فصل: ويحرم إتيان المرأة المرأة لما روى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". ويجب فيه التعزير دون الحد لأنها مباشرة من غير إيلاج فوجب بها التعزير دون الحد كمباشرة الرجل المرأة فيما دون الفرج. فصل: ويحرم إتيان البهيمة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإن أتى البهيمة وهو ممن يجب عليه حد الزنا ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجب عليه القتل لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" 1. وكيف يقتل على الوجهين في اللواط والقول الثاني: أنه كالزنا فإن غير محصن جلد وغرب وإن كان محصناً رجم لأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثالث أنه يجب فيه التعزير لأن الحد يجب للردع عما يشتهي وتميل إليه النفس ولهذا وجب في شرب الخمر ولم يجب في شرب البول وفرج البهيمة لا يشتهى فلم يجب فيه الحد وأما البهيمة فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال يجب قتلها لحديث ابن عباس وأبي هريرة ولأنها ربما أتت بولد مشوه الخلق ولأنها إذا بقيت كثر تعيير الفاعل بها ومنهم من قال: لا يجب قتلها لأن البهيمة لا تذبح لغير مأكلة وحديث ابن عباس يرويه عمرو بن عمرو وهو ضعيف وحديث أبي هريرة يرويه علي بن مسهر وقال أحمد رحمه الله إن كان روى هذا الحديث غير علي وإلا فليس بشيء ومنهم من قال: إن كانت البهيمة

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 23، 24. أبو داود في كتاب الحدود باب 108. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 13. أحمد في مسنده 1/217.

مما تؤكل ذبحت وإن كانت مما لا تؤكل لم تذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة فإن قلنا إنه يجب قتلها وهي ما يؤكل ففي أكلها وجهان: أحدهما: أنه يحرم لأن ما أمر بقتله لم يؤكل كالسبع والثاني: أنه يحل أكلها لأنه حيوان مأكول ذبحه وهو من أهل الذكاة وإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل وضمان ما نقص بالذبح إذا قلنا أنها تؤكل لأنه هو السبب في إتلافها وذبحها. فصل: وإن وطئ امرأة ميتة وهو من أهل الحد ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الحد لأنه إيلاج في فرج محرم ولا شبهة له فيه فأشبه إذا كانت حية والثني أنه لا يجب لأنه لا يقصد فلا يجب فيه الحد. فصل: ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ولأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل فحرم كاللواط فإن فعل عزر ولم يحد لأنها مباشرة محرمة من غير إيلاج فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج. وبالله التوفيق.

باب إقامة الحدود

باب إقامة الحدود لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أومن فوض لأنه لم يقم حد على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الإجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام ولا يلزم الإمام أن يحضر إقامة الحد ولا أن يبتدئ بالرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم جماعة ولم ينقل أنه حضر بنفسه ولا أنه رماهم بنفسه فإن ثبت الحد على عبد بإقراره ومولاه حر مكلف عدل فله أن يجلده في الزنا والقذف والشرب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" 1. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت وهل له أن يغربه فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يغرب إلا الإمام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 33. أحمد في مسنده 1/145.

فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر" 1. فأمر بالجلد دون النفي والثاني: وهو المذهب أن له من يغرب لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك ولأن من ملك الجلد ملك النفي كالإمام وإن ثبت عليه الحد بالبينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يقيم عليه الحد وهو المذهب لأنا قد جعلناه في حقه كالإمام وكذلك في إقامة الحد عليه بالبينة والثاني: أنه لا يجوز لأنه يحتاج إلى تزكية الشهود وذلك إلى الحاكم فعلى هذا إذا ثبت عند الحاكم بالبينة جاز للسيد أن يقيم الحد من غير إذنه وهل له أن يقطعه في السرقة؟ فيه وجهان: أحدهما: أحدهما: أنه لا يملك لأنه لا يملك من جنس القطع ويملك من الجلد وهو التعزير والثاني: أنه يملك وهو المنصوص في البويطي لحديث علي كرم الله وجهه لأن ابن عمر قطع عبداً له سرق وقطعت عائشة رضي الله عنها أمة لها سرقت ولأنه حد فملك السيد إقامته على مملوكه كالجلد وله أن يقتله بالردة على قول من ملك إقامة الحد على العبد وعلى قول من منع من القطع يجب أن لا يجوز له القتل والصحيح أن له أن يقتله لأن حفصة رضي الله عنها قتلت أمة لها سحرتها والقتل بالسحر لا يكون إلا في كفر ولأنه حد فملك المولى إقامته على المملوك كسائر الحدود وإن كان المولى فاسقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يملك إقامة الحد لأنه ولاية تثبت بالملك فلم يمنع الفسق منها كتزويج الأمة والثاني: أنه لا يملكه لأنه ولاية في إقامة الحد فمنع الفسق منها كولاية الحاكم وإن كانت امرأة فالمذهب أنه يجوز لها إقامة الحد لأن الشافعي بأن فاطمة رضي الله عنها جلدت أمة لها زنت وقال أبوعلي بن أبي هريرة لا يجوز لها لأنها ولاية على الغير فلا تملكها المرأة كولاية التزويج فعلى هذا فيمن يقيم وجهان: أحدهما: أنه يقيمه وليها في النكاح قياساً على تزويج أمتها والثاني: أنه يقيمه عليها الإمام لأن الأصل في إقامة الحد هو الإمام فإذا سقطت ولاية المولى ثبت الأصل وإن كان للمولى مكاتب ففيه وجهان ذكرناهما في الكتابة. فصل: المستحب أن يحضر إقامة الحد جماعة لقوله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] والمستحب أن يكونوا أربعة لأن الحد يثبت بشهادتهم فإن كان الحد هو الجلد وكان صحيحاً قوياً والزمان معتدل أقام الحد ولا يجوز تأخيره فإن القرض لا يجوز تأخيره من غير عذر ولا يجرد ولا يمد لما روي عن عبد الله بن

_ 1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 66. في كتاب الحدود حديث 30. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 13.

مسعود أنه قال: ليس في الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد ويفرق الضرب على الأعضاء ويتوقى الوجه المواضع المخوفة لما روى هنيدة بن خالد الكندي أنه شهد علياً كرم الله وجهه أقام على رجل حداً وقال للجلاد: اضربه وأعط كل عضو منه حقه واتق وجهه ومذاكيره وعن عمر أنه أتى بجارية قد فجرت فقال اذهبا بها واضرباها ولا تخرقا لها جلداً ولأن القصد الردع دون القتل وإن كان الحر شديداً أو البرد شديداً أو كان مريضاً مرضاً يرجى برؤه أو كان مقطوعاً أو أقيم عليه حد آخر ترك إلى أن يعتدل الزمان ويبرأ من المرض أو القطع ويسكن ألم الحد لأنه إذا أقيم عليه الحد في هذه الأحوال أعان على قتله وإن كان نضو الخلق لا يطيق الضرب أو مريضاً لا يرجى برؤه جمع مائة شمراخ فضرب به دفعة واحدة لما روى سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه ذكر لهم ذلك وقال استفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك يا رسول الله لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط لأنه يتلف به ولا يمكن تركه لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد قال الشافعي رحمه الله: ولأنه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك أولى وإن وجب الحد على امرأة حامل لم يقم عليها الحد حتى تضع وقد بيناه في القصاص. فصل: وإن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز فيها اقامته فهلك منه لم يضمن لان الحق قتله وإن أقيم في الحال التي لا تجوز إقامته فان كانت حاملاً فتلف منه الجنين وجب الضمان لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره وإن تلف المحدود فقد قال: إذا أقيم الحد في شدة حر أو برد فهلك لا ضمان عليه وقال في الأم: إذا ختن في شدة حر أو برد فتلف وجبت على عاقلته الدية فمن أصحابنا: من نقل جواب كل واحدة من

المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: لا يجب لأنه مفرط ومنهم من قال لا يجب الضمان في الحد لأنه منصوص عليه ويجب في الختان لأنه ثبت بالاجتهاد وإن قلنا إنه يضمن ففي القدر الذي يضمن وجهان: أحدهما: أنه يضمن جميع الدية لانه مفرط والثاني: انه يضمن نصف الدية لأنه مات من واجب ومحظور فسقط النصف ووجب النصف. فصل: وإن وجب التغريب نفي إلى مسافة يقصر فيها الصلاة لأن ما دون ذلك في حكم الموضع الذي كان فيه من المنع من القصر والفطر والمسح على الخف ثلاثة أيام فإن رجع قبل انقضاء المدة رد إلى الموضع الذي نفي إليه فإن انقضت المدة فهو بالخيار بين الإقامة وبين العودة إلى موضعه وإن رأى الإمام أن ينفيه الى أبعد من المسافة التي يقصر فيها الصلاة كان له ذلك لأن عمر رضي الله عنه غرب إلى الشام وغرب عثمان رضي الله عنه الى مصر وإن رأى أن يزيد على سنة لم يجز لأن السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد فيها وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: يغرب الى حيث ينطلق عليه اسم الغربة وإن كان دون ما تقصر إليه الصلاة لأن القصد تعذيبه بالغربة وذلك يحصل بدون ما تقصر إليه الصلاة ولا تغرب المرأة إلا في صحبة ذي رحم محرم أو امرأة ثقة في صحبة مأمونة وإن لم تجد ذا رحم محرم ولا امرأة ثقة يتطوع بالخروج معها استؤجر من يخرج معها ومن أين يستأجر فيه وجهان من أصحابنا من قال: يستأجر من مالها لأنه حق عليها فكانت مؤنته عليها وإن لم يكن لها مال استؤجرت من بيت المال ومن أصحابنا من قال: يستأجر من بيت المال لأنه حق لله عز وجل فكانت مؤنته من بيت المال فإن لم يكن في بيت المال ما يستأجر به استؤجر من مالها. فصل: وإن كان الحد رجماً وكان صحيحاً والزمان معتدل رجم لأن الحد لا يجوز تأخيره من غير عذر وإن كان مريضاً مرضاً يرجى زواله أو الزمان مسرف الحر أو البرد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يؤجل رجمه لان القصد قتله فلا يمنع الحر والبرد والمرض منه والثاني: أنه يؤخر لأنه ربما رجع في خلال الرجم وقد أثر في جسمه الرجم فيعين الحر والبرد والمرض على قتله وإن كان امرأة حاملاً لم ترجم حتى تضع لأنه يتلف الجنين. فصل: فان كان المرجوم رجلاً لم يحفر له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز ولأنه ليس بعورة وإن كان امرأة حفر لها لما روى بريدة قال: جاءت امرأة من غامد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا فأمر فحفر لها حفرة الى صدرها ثم أمر برجمها لأن ذلك أستر لها.

فصل: وإن هرب المرجوم من الرجم فإن كان الحد ثبت بالبينة اتبع ورجم لأنه لا سبيل الى تركه وإن ثبت بالإقرار لم يتبع لما روى أبو سعيد الخدري قال: جاء ماعز الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الأخر زنى وذكر إلى أن قال اذهبوا بهذا فارجموه فأتينا به مكاناً قليل الحجارة فلما رمينا اشتد من بين أيدينا يسعى فتبعناه فأتى بناحرة كثيرة الحجارة فقام ونصب نفسه فرميناه حتى قتلناه ثم اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله فهلا خليتم عنه حين سعى من بين أيديكم". وإن وقف وأقام الإقرار رجم وإن رجع عن الإقرار لم يرجم لأن رجوعه مقبول. وبالله التوفيق.

باب حد القذف

باب حد القذف القذف محرم والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله عز وجل والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات". فصل: إذا قذف بالغ عاقل مختار مسلم أو كافر التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد محصناً ليس بولد له بوطء يوجب الحد وجب عليه الحد فإن كان حراً جلد ثمانين جلدة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان مملوكاً جلد أربعين لما روى يحيى بن سعيد الانصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكاً افترى على حر ثمانين جلدة فبلغ ذلك عبد الله بن عامر بن ربيعة فقال: ادركت الناس من زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم فما رأيت أحداً ضرب المملوك المفتري على الحر ثمانين

قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وروى خلاس أن علياً كرم الله وجهه قال في عبد قذف حراً نصف الحد ولأنه حد يتبعض فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا. فصل: وإن قذف غير محصن لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يجلد والمحصن الذي يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والإسلام والحرية والعفة عن الزنا فإن قذف صغيراً أو مجنوناً لم يجب به عليه الحد لأن ما يرمي به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد فلم يجب الحد على القاذف كما لو قذف بالغاً عاقلاً بما دون الوطء وإن قذف كافراً لم يجب عليه الحد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". وإن قذف مملوكاً لم يجب عليه الحد لأن نقص الرق يمنع كمال الحد فيمنع وجوب الحد على قاذفه وإن قذف زانياً لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فأسقط الحد عنه إذا ثبت أنه زنى فدل أنه إذا قذفه وهو زان لم يجب عليه الحد وإن قذف من وطئ في غير ملك وطئاً محرماً لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ في نكاح مختلف في صحته ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه الحد لأنه وطء محرم لم يصادف ملكاً فسقط به الإحصان كالزنا والثاني: أنه وطء لا يجب به الحد فلم يسقط به الإحصان كما لو وطئ زوجته وهي حائض. فصل: وان قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: يجب عليه الحد لعموم الآية والمذهب الأول لأنه عقوبة تجب لحق الآدمي فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص وإن قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد لأنه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له عليه بالإرث عن أمه وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له لأن حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد. فصل: وإن رفع القاذف إلى الحاكم وجب عليه السؤال عن إحصان المقذوف لأنه شرط في الحكم فيجب السؤال عنه كعدالة الشهود ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأن البلوغ والعقل معلوم بالنظر غليه والظاهر الحرية والإسلام والعفة وإن قال القاذف: أمهلني لأقيم البينة على الزنا أمهل ثلاثة أيام لأنه قريب لقوله تعالى: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثم قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] .

فصل: وإن قذف محصنا ثم زنى المقذوف أو وطئ وطئاً زال به الإحصان سقط الحد عن القاذف وقال المزني وأبو ثور: لا يسقط لأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقط ما وجب من الحد كردة المقذوف وثيوبة الزاني وحريته وهذا خطأ لان ما ظهر من الزنا يوقع شبهة في حال القذف ولهذا روي أن رجلاً زنى بامرأة في زمان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال: والله ما زنيت إلا هذه المرة فقال له عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة والحد يسقط بالشبهة وأما ردة المقذوف ففيها وجهان: أحدهما: أنها تسقط الحد والثاني: أنها لا تسقط لأن الردة تدين والعادة فيها الإظهار وليس كذلك الزنا فإنه يكتم فإذا ظهر دل على تقدم أمثاله وأما ثيوبة الزاني وحريته فإنها لا تورث شبهة في بكارته ورقه في حال الزنا. فصل: ولا يجب الحد إلا بصريح القذف أو بالكناية مع النية فالصريح مثل ان يقول زنيت أويا زاني والكناية كقوله يا فاجر أويا خبيث أويا حلال بن الحلال فإن نوى به القذف وجب به الحد لأن ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق وإن لم ينوبه القذف لم يجب به الحد سواء كان ذلك في حال الخصومة او غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفاً من غير نية كالكناية في الطلاق والعتاق. فصل: وإن قال لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذف لأنه قذفه بوطء يوجب الحد فأشبه بالزنا وإن قال يا لوطي وأراد به أنه على دين قوم لوط لم يجب الحد لأنه يحتمل ذلك وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد وإن قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت لم يكن قولها قذفاً له من غير نية لأنه يجوز أن تكون زانية ولا يكون هو زانياً بأن وطئها وهو يظن أنها زوجته وهي تعلم أنه أجنبي ولأنه يجوز أن تكون قد قصدت نفي الزنا كما يقول الرجل لغيره سرقت فيقول معك سرقت ويريد أني لم أسرق كما لم تسرق ويجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك فإن كان ذلك زنا فقد زنيت وإن قال لها يا زانية فقالت أنت أزنى مني لم يكن قولها قذفاً له من غير نية لأنه يجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك فإن كان ذلك زنا فأنت أزنى مني لأن المغلب في الجماع فعل الرجل وإن قال لغيره أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس لم يكن قذفاً من غير نية لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا في امر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما: فيه بمزية وما ثبت أن فلاناً زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم وإن قال فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه.

فصل: وإن قال لامرأته يا زاني فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليها وأسقط الهاء للترخيم كقولهم في مالك يا مال وفي حارث يا حار وإن قال لرجل يا زانية فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليه وزاد الهاء للمبالغة كقولهم علامة ونسابة وشتامة ونوامة فإن قال: زنأت في الجبل فليس بقذف من غير نية لأن الزنء هو الصعود في الجبل والدليل عليه قول الشاعر: وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل وإن قال زنأت ولم يذكر الجبل ففيه وجهان: احدهما: أنه قذف لأنه لم يقرن به ما يدل على الصعود والثاني: وهو قول أبي الطيب ابن سلمة رحمه الله أنه إن كان من أهل اللغة فليس بقذف وإن كان من العامة فهو قذف لأن العامة لا يفرقون بين زنيت وزنأت. فصل: وإن قال زنى فرجك او دبرك أو ذكرك فهو قذف لأن الزنا يقع بذلك وإن قال زنت عينك او يدك أو رجلك فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو قذف وهو ظاهر ما نقله المزني رحمه الله لأنه أضاف الزنا الى عضو منه فأشبه إذا أضاف إلى الفرج ومنهم من قال: ليس بقذف من غير نية وخطأ المزني في النقل لأن الزنا لا يوجد من هذه الأعضاء حقيقة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه" 1. فإن قال زنى بدنك ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بقذف من غير نية لان الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة فلم يكن صريحاً في القذف والثاني: أنه قذف لأنه أضاف إلى جميع البدن والفرج داخل فيه وإن قال لا ترد يد لامس لم يكن قاذفاً لما روى أن رجلاً من بني فزارة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن امرأتي لا ترد يد لامس ولم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم قاذفاً. وإن قال زنى بك فلان وهو صبي لا يجامع مثله لم يكن قاذفاً لأنه لا يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليه وإن كان صبياً يجامع مثله فهو قذف لانه يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليها وإن قال لامرأته زنيت بفلانة أوزنت بك فلانة لم يجب به الحد لان ما رماها به لا يوجب الحد. فصل: وإن اتت امرأته بولد فقال ليس مني لم يكن قاذفاً من غير نية لجواز أن يكون معناه ليس مني خلقاً أو خلقا أومن زوج غيري أومن وطء شبهة او مستعار وإن نفى نسب ولده باللعان فقال رجل لهذا الولد لست بابن فلان لم يكن قذفاً لأنه صادق في الظاهر أنه ليس منه لأنه منفي عنه قال الشافعي رحمه الله: إذا اقر بنسب ولد فقال له

_ 1 رواه أحمد في مسنده 2/343، 344.

رجل لست بابن فلان فهو قذف وقال في الزوج إذا قال للولد الذي أقر به لست بابني أنه ليس بقذف واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن أراد القذف فهو قذف في المسألتين وإن لم يرد القذف فليس بقذف في المسألتين وحمل جوابه في المسألتين على هذين الحالين ومن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما: أنه ليس بقذف فيها لجواز أن يكون معناه لست بابن فلان او لست بابني خلقاً او خلقاً والثاني: أنه قذف لأن الظاهر منه النفي والقذف ومن أصحابنا من قال: ليس بقذف من الزوج وهو قذف من الأجنبي لأن الأب يحتاج إلى تأديب ولده فيقول: لست بابني مبالغة في تأديبه والاجنبي غير محتاج إلى تأديبه فجعل قذفا منه. فصل: وإن قال لعربي يا نبطي فإن أراد نبطي اللسان أو نبطي الدار لم يكن قذفاً وإن أراد نفي نسبه من العرب ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بقذف لأن الله تعالى علق الحد على الزنا فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وشهادة الأربعة يحتاج إليها في إثبات الزنا والثاني: أنه يجب به الحد لما روى الأشعث بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا حد إلا في اثنين قذف محصنة ونفي رجل من أبيه. فصل: ومن لا يجب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف من غير نية عزر لأنه آذى من لا يجوز أذاه وإن قال لامرأته استكرهت على الزنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه يعزر لأنه يلحقها بذلك عار عند الناس والثاني: أنه لا يعزر لأنه لا عار عليها في الشريعة بما فعل بها مستكرهة. فصل: وما يجب بالقذف من الحد أو التعزير بالأذى فهو حق للمقذوف يستوفي إذا طالب به ويسقط إذا عفى عنه والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول تصدقت بعرضي". والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له ولأنه لا خلاف أنه لا يستوفي إلا بمطالبته فكان له العفو كالقصاص وإن قال لغيره اقذفني فقذفه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حد عليه لأنه حق له فسقط بإذنه

كالقصاص والثاني: أنه يجب عليه الحد لأن العار يلحق بالعشيرة فلا يملك إلا بإذن فيه وإذا أسقط الإذن وجب الحد ومن وجب له الحد أو التعزير لم يجز أن يستوفي إلا بحضرة السلطان لأنه يحتاج الى الاجتهاد ويدخله التخفيف فلو فرض الى المقذوف لم يؤمن أن يحيف للتشفي. فصل: وإن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث وفيمن يرثه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يرثه جميع الورثة لأنه موروث فكان لجميع الورثة كالمال والثاني: أنه لجميع الورثة إلا لمن يرث بالزوجية لأن الحد يجب لدفع العار ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لأنه لا تبقى زوجية والثالث أنه يرثه العصبات دون غيرهم لأنه حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح وإن كان له وارثان فعفى احدهما: ثبت للآخر جميع الحد لأنه جعل للردع ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله عز وجل للردع وإن لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه السلطان. فصل: وإن جن من له الحد او التعزير لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه لأنه حق يجب للتشفي ودرك الغيظ فأخر الى الإفاقة كالقصاص وإن قذف مملوكاً كانت المطالبة بالتعزير للمملوك دون السيد لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال فلم يكن للسيد فيه حق كفسخ النكاح إذا عتت الأمة تحت عبد وغن مات المملوك ففي التعزير ثلاثة أوجه: أحدها أنه يسقط لأنه لا يستحق عنه بالإرث فلا يستحق المولى لانه لو ملك بحق الملك لملك في حياة والثاني: أنه للمولى لأنه حق ثبت للمملوك فكان المولى احق به بعد الموت كمال المكاتب والثالث أنه ينتقل الى عصباته لانه حق ثبت لنفي العار فكان عصباته احق به. فصل: وإن قذف جماعة نظرت فإن كانوا جماعة فلا يجوز أن يكونوا كلهم زناة كأهل بغداد لم يجب الحد لأن الحد يجب لنفي العار ولا عار على المقذوف لأنا نقطع

بكذبه ويعزر للكذب وإن كانت جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة نظرت فإن كان قد قذف كل واحد منهم على الانفراد وجب لكل واحد منهم حد وإن قذفهم بكلمة واحدة ففيه قولان: قال في القديم: يجب حد واحد لأن كلمة نقذف واحدة فوجب حد واحد كما لو قذف امرأة واحدة وقال: في الجديد: يجب لكل واحد منهم حد وهو الصحيح لأنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف فإن قذف زوجته برجل ولم يلاعن ففيه طريقان من أصحابنا من قال: هي على قولين كما لو قذف رجلين أو امرأتين ومنهم من قال: يجب حد واحد قولاً واحداً لأن القذف ههنا بزنا واحد والقذف هناك بزناءين فإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لأحدهما: قبل الآخر وتشاحا قدم السابق منهما لأن حقه أسبق وإن وجب عليه لهما في حالة واحدة بأن قذفهما معاً وتشاحا أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما: على الآخر فقدم بالقرعة وإن قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية وهما محصنتان لزمه حدان ومن حضر منهما وطلبت بحدها حد لها وإن حضرتا وطالبتا بحدهما ففيه وجهان: أحدهما: أنه يبدأ بحد البنت لأنه بدأ بقذفها والثاني: هو المذهب أنه يبدأ بحد الأم لأن حدها مجمع عليه وحد البنت مختلف فيه لأن عند أبي حنيفة لا يجب على الزوج بقذف زوجته حد ولأن حد الأم آكد لأنه لا يسقط إلا بالبينة وحد البنت يسقط بالبينة وباللعان فقدم آكدهما. فصل: وإن وجل حدان على حر لاثنين فحد لأحدهما: لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الأول لأن الموالاة بينهما تؤدي إلى التلف وإن كان الحدان على عبد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز الموالاة بينهما كما لوكانا على حر والثاني: أنه يجوز لأن الحدين على العبد كالحد الواحد. فصل: وإن قذف أجنبيا بالزنا فحد ثم قذفه ثانياً بذلك الزنا عزر للأذى ولم يحد لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضي الله عنه ثم أعاد القذف وأراد أن يجلده فقال له علي كرم الله وجهه: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك فترك عمر رضي الله عنه جلده ولأنه قد حصل التكذيب بالحد وإن قذفه بزنا ثم قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه حدان لأنه من حقوق الآدميين فلم تتداخل كالديون والثاني: يلزمه حد واحد وهو الصحيح لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فتداخلا كما لو زنى ثم زنى وإن قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا أضافة إلى ما قبل اللعان ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه الحد لأن اللعان في حق الزوج كالبينة ولو أقام عليها البينة ثم قذفها لم يلزمه الحد فكذلك إذا لاعنها والثاني: أنه

يجب عليه الحد لأن اللعان إنما يسقط إحصانها في الحالة التي يوجد فيها وما بعدها وما يسقط فيما تقدم فوجب الحد بما رماها به وإن قذف زوجته وتلاعنا ثم قذفها أجنبي وجب الحد لأن اللعان يسقط الإحصان في حق الزوج لأنه بينة يختص بها فأما في حق الأجنبي فهي باقية على إحصانها فوجب عليه الحد بقذفها وإن قذفها الزوج ولاعنها ولم تلاعن فحدت ثم قذفها الاجنبي بذلك الزنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حد عليه لأنه قذفها بزنا حدت فيه فلم يجب كما لو أقيم عليها الحد بالبينة والثاني: أنه يجب لأن اللعان يختص به الزوج فزال به الإحصان في حقه وبقي في حق الأجنبي. فصل: إذا سمع السلطان رجلاً يقول زنى رجل لم يقم عليه الحد لأن المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لقوله عز وجل: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ولأن الحد يدرأ بالشبهة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا سترته بثوبك يا هزال" وإن قال سمعت رجلاً يقول إن فلاناً زنى لم يحد لأنه ليس بقاذف وإنما هو حاك ولا يسأله عن القاذف لأن الحد يدرأ بالشبهة وإن قال زنى فلان فهل يلزم السلطان أن يسأل المقذوف فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه قد ثبت له حق لا يعلم به فلزم الإمام إعلامه كما لوثبت له عنده مال لا يعلم به فعلى هذا إن سأل المقذوف فأكذبه وطالب بالحد حد وإن صدقه حد المقذوف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". والوجه الثاني أنه لا يلزم الإمام إعلامه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحد بالشبهات". فصل: إذا قذف محصناً وقال قذفته وأنا ذاهب العقل فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المقذوف مع يمينه أنه لا يعلم أنه مجنون لأن الأصل عدم الجنون وإن علم له حال جنون ففيه قولان بناء على القولين في المقذوف إذا قده ثم اختلفا في حياته: أحدهما: أن القول قول المقذوف لأن الأصل الصحة والثاني: أن القول قول القاذف لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل حمى الظهر ولأن الحد يسقط بالشبهة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات وادرءوا الحدود ما استطعت ولأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" 1. فصل: وإن عرض بالقذف أنه أراد قذفه وأنكر القاذف فالقول قوله لأن ما يدعيه محتمل والاصل براءة ذمته.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 2.

فصل: وإن قال لمحصنة زنيت في الوقت الذي كنت نصرانية أو أمة فإن عرف أنها كانت نصرانية أو أمة لم يجب الحد لأنه أضاف القذف إلى حال هي فيها غير محصنة وإن قال لها زنيت ثم قال أردت في الوقت الذي كنت فيه نصرانية أو أمة وقالت المقذوفة بل أردت قذفي في هذا الحال وجب الحد لأن الظاهر أنه أراد قذفها في الحال فإن قذف امرأة وادعى أنها مشركة أو أمة وادعت أنها أسلمت أو أعتقت فالقول قول القاذف لأن الأصل بقاء الشرك والرق وإن قذف امرأة وأقر أنها كانت مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت المرأة ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤها على الإسلام وإن قذف مجهولة وادعى أنها أمة أو نصرانية وأنكرت المرأة ففيه طريقتان ذكرناهما في الجنايات. فصل: وإن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر فشهد شاهدان أنه قذفها جاز أن يلاعن لأن إنكاره للقذف لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا لأنه يقول إنما أنكرت القذف وهو الرمي بالكذب وما كذبت عليها لأني صادق أنها زنت فجاز أن يلاعن كما لو ادعى على رجل أنه أودعه مالاً فقال المدعى عليه مالك عندي شيء فشهد شاهدان أنه أودعه فإن له أن يحلف لأن إنكاره لا يمنع الإيداع لأنه قد يودعه ثم يتلف فلا يلزمه شيء.

باب حد السرقة

باب حد السرقة ومن سرق وهو بالغ عاقل مختار التزم حكم الإسلام نصاباً من المال الذي يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه وجب عليه القطع والدليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ولأن السارق يأخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه ولولم يجب القطع عليه لأدى ذلك إلى هلاك الناس بسرقة أموالهم ولا يجب القطع على المنتهب ولا على المختلس لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس قطع ومن انتهب نهنة مشهورة فليس منا" 1. ولأن المنتهب والمختلس يأخذان المال على وجه يمكن انتزاعه منه

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 14. الترمذي في كتاب النكاح باب 29. النسائي في كتاب النكاح باب 60. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 3.

بالاستعانة بالناس وبالسلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع ولا يجب على من جحد امانة أو عارية لأنه يمكن أخذ المال منه بالحكم فلم يحتج إلى القطع. فصل: ولا يجب على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها وهل يجب على السكران فيه قولان ذكرناهما في الطلاق ولا يجب على مكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن ما أوجب عقوبة الله عز وجل على المختار لم يوجب على المكره ككلمة الكفر ولا تجب على الحربي لأنه لم يلتزم حكم الإسلام وهل يجب على المستأمن فيه قولان ذكرناهما في السير. فصل: ولا يجب فيما دون النصاب والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً فإن سرق غير الذهب قوم بالذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بالذهب فوجب أن يقوم غيره به وإن سرق ربع مثقال من الجلاص وقيمته دون ربع دينار ففيه قولان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يقطع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ربع دينار وهذا قيمته دون ربع دينار والثاني: وهو قول عامة أصحابنا أنه يقطع لأن الخلاص يقع عليه اسم الدينار وإن لم يصرف لأنه يقال دينار خلاص كما يقال دينار قراضة وإن نقب اثنان حرزاً وسرقا نصابين قطعا لأن كل واحد منهما سرق نصاباً وإن أخرج أحدهما: نصابين ولم يخرج الآخر شيئاً قطع الذي أخرج دون الآخر لأنه هو الذي انفرد بالسرقة فإن اشتركا في سرقة نصاب لم يقطع واحد منهما وقال أبو ثور يجب القطع عليهما كما لو اشترك رجلان في القتل وجب القصاص عليهما وهذا خطأ لأن كل واحد منهما لم يسرق نصاباً ويخالف القصاص فإنا لولم نوجب على الشريكين جعل الاشتراك جعل الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص وليس كذلك السرقة فإنا إذا لم نوجب القطع على الشريكين في سرقة النصاب لم يصر الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القطع لأنهما لا يقصدان إلى سرقة نصاب واحد لقلة ما يصيب كل واحد منهما فإذا اشتركا في نصابين أوجبنا القطع وإذا نقب حرزاً وسرق منه ثمن دينار ثم عاد وسرق ثمناً آخر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس أنه يجب القطع لأنه سرق نصاباً من حرز مثله فوجب

عليه القطع كما لو سرقه في دفعة واحدة والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجب القطع لأنه سرق تمام النصاب من حرز مهتوك والثالث وهو قول أبي علي بن خيران أنه إن عاد وسرق الثمن الثاني بعد ما اشتهر هتك الحرز لم يقطع لأنه سرق من حرز اشتهر خرابه وإن سرق قبل أن يشتهر خرابه قطع لأنه سرق من قبل ظهور خرابه. فصل: ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلاً من مزينة قال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال ليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح وليس في الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما اخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع فأسقط القطع في الماشية غلا ما أواه المراح وفي الثمر المعلق إلا ما أواه الجرين فدل على أن الحرز شرط في إيجاب القطع ويرجع في الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزاً فما عرفوه حرزاً قطع بالسرقة منه وما لا يعرفونه حرزاً لم يقطع بالسرقة منه لأن الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد من جهة الشرع فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالقبض والتفرق في البيع وإحياء الموات فإن سرق مالاً مثمناً كالذهب والفضة والخز من البيوت أو الخانات الحريزة والدور المنيعة في العمران ودونها اغلاق وجب القطع لأن ذلك حرز مثله وإن لم يكن دونها أغلاق فإن كان في الموضع حافظ مستيقظ وجب القطع لأنه محرز به وإن

لم يكن حافظ أو كان فيه حافظ نائم لم يجب القطع لأنه غير محرز فإن سرق من بيوت في غير العمران كالرباطات التي في البرية والجواسق التي في البساتين فإن لم يكن فيها حافظ لم تقطع مغلقاً كان الباب أو مفتوحاً لأن المال لا يحرز فيه من غير حافظ وإن كان فيها حافظ فإن كان مستيقظاً قطع السارق مغلقاً كان الباب أو مفتوحاً لأنه محرز به وإن كان نائماً فإن كان مغلقاً قطع لأنه محرز وإن كان مفتوحاً لم يقطع لأنه غير محرز وإن سرق متاع الصيادلة والبقالين من الدكاكين في الأسواق ودونها أغلاق أو درابات وعليها قفل أو سرق أواني الخزف ودونها شرايح القصب فإن كان الأمن ظاهراً قطع السارق لأن ذلك حرز مثله وإن قل الأمن فإن كان في السوق حارس قطع لأنه محرز به وإن لم يكن حارس لم يقطع لأنه غير محرز وإن سرق باب دار أو دكان قطع لأن حرزه بالنصب وإن سرق حلقة الباب وهي مسمرة فيه قطع لأنها حرزة بالتسمير في الباب وإن سرق آجر الحائط قطع لأنه محرز بالتشريج في البناء وإن سرق الطعام أو الدقيق في غرائر شد بعضها إلى بعض في موضع البيع قطع على المنصوص فمن أصحابنا من قال: إن كان في موضع مأمون في وقت الأمن فيه ظاهر ولم يمكن أخذ شيء منه إلا بحل رباطه أو فتق طرفه قطع لأن العادة تركها في موضع البيع ومن أصحابنا من قال: لا يقطع إلا أن يكون في بيت دونه باب مغلق والذي نص عليه الشافعي رحمه الله في غير المغلق وإن سرق حطباً شد بعضه إلى بعض بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه قطع لأنه محرز بالشد وإن كان متفرقاً لم يقطع لأنه غير محرز ومن أصحابنا من قال: لا يقطع إلا أن يكون في بيت دنه باب مغلق مجتمعاً كان أو متفرقاً وإن سرق أجزاعاً ثقالاً مطروحة على أبواب المساكن قطع لأن العادة فيها تركها على الأبواب. فصل: وإن نبش قبراً وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع لأنه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن في البرية للضرورة وإن كان في مقبرة تلي العمران قطع لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه". ولأن القبر حرز للكفن وإن كان الكفن أكثر من خمسة أثواب فسرق ما زاد على

الخمسة لم يقطع لأن ما زاد على الخمسة ليس بمشروع في الكفن فلم يجعل القبر حرزاً له كالكيس المدفون معه وإن أكل السبع الميت وبقي الكفن ففيه وجهان: أحدهما: أنه ملك للورثة يقسم عليهم وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي علي الطبري لأن ذلك المال ينتقل اليهم بالإرث وإنما اختص الميت بالكفن للحاجة وقد زالت الحاجة فرجع إليهم والثاني: أنه لبيت المال لأنهم لم يورثوه عند الموت فلم يرثوه بعده. فصل: وإن نام رجل على ثوب فسرقه سارق قطع لما روى صفوان بن أمية أنه قدم المدينة فنام في المسجد متوسداً رداءه فجاءه سارق فأخذ الرداء من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده فقال صفوان إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به". ولأنه محرز به وإن زحف عنه في النوم فسرق لم يقطع لأنه زال الحرز فيه وإن ضرب فسطاطاً وترك فيه مالاً فسرق وهو فيه أو على بابه نائم أو مستيقظ قطع لأن عادة الناس إحراز المتاع في الخيم على هذه الصفة وإن لم يكن صاحبه معه لم يقطع السارق لأنه لا يترك الفسطاط بلا حافظ. فصل: وإن كان ماله بين يديه وهو ينظر إليه فتغفله رجل وسرق ماله قطع لأنه سرق من حرزه وإن نام أو اشتغل عنه أو جعله خلغه بحيث يناله اليد فسرق لم يقطع لأنه سرقه من غير حرز وإن علق الثياب في الحمام ولم يأمر الحمامي بحفظها فسرقت لم يضمن الحمامي لأنه لا يلزمه حفظها ولا يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز لأن الحمام مستطرق وإن أمر الحمامي بحفظها فسرقت فإن كان الحمامي مراعياً له لم يضمن لأنه لم يفرط ويقطع السارق لأنه سرق من حرز وإن نام الحمامي أو تشاغل عن الثياب فسرقت ضمن الحمامي لأنه فرط في الحفظ ولم يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز. فصل: فإن سرق ماشية من الرعي نظرت فإن كان الراعي ينظر إليها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع السارق لأنها في حرز وإن سرق والراعي نائم أو سرق منها ما غاب عن عينه بحائل لم يقطع لأن الحرز بالحفظ وما لا يراه غير محفوظ وإن سرق مالاً يبلغها صوته لم يقطع لأنها تجتمع وتفترق بصوته وإذا لم يبلغها صوته لم تكن في حفظه فلم يجب القطع بسرقته وإن سرق ماشية سائرة أو جمالاً مقطرة فإن كان خلفها سائق ينظر

إليها جميعها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع لأنها محرزة به وإن سرق ما غاب عن عينه أو ما لم يبلغه صوته لبعده لم يقطع لما ذكرناه في الراعية وإن كان مع الجمال قائد إذا التفت نظر إلى جميعها وبلغها صوته إذا زجرها وأكثر الإلتفات إليها قطع لأنها محرزة بالقائد وإن سرق مالاً ينظر إليه إذا التفت أولا يبلغه صوته أولم يكثر الإلتفات إليها لم يقطع لأنه سرق من غير حرز وإن كانت الجمال باركة فإن كان صاحبها ينظر إليها قطع السارق لأنها محرزة بحفظه وإن سرق وصاحبها نائم فإن كانت غير معقلة لم يقطع لأنها غير محرزة وإن كانت معقلة قطع لأن عادة الجمال إذا نام أن يعقلها وإن كان على الجمال أحمال كان حرزها كحرز الجمال لأن العادة ترك الأحمال على الجمال. فصل: ولا يجب القطع إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله فإن دخل الحرز ورمى المال إلى خارج الحرز أو نقب الحرز وأدخل يده أو محجنا معه فأخرج المال قطع وإن دخل الحرز وأخذ المال ودفعه إلى آخر خارج الحرز قطع لأنه هو الذي أخرجه فإن أخرجه ولم يأخذه منه الآخر فرده إلى الحرز لم يسقط القطع لأنه وجب القطع بالإخراج فلم يسقط بالرد وإن بط جيبه أو كمه فوقع منه المال أو نقب حرزاً فيه طعام فانثال قطع لأنه خرج بفعله وإن كان في الحرز ماء جار فترك فيه المال حتى خرج إلى خارج الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله وإن تركه في ماء راكد فحركه حتى خرج المال قطع لما ذكرناه وإن حركه غيره لم يقطع لأنه لم يخرج بفعله وإن تفجر الماء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه سبب لخروجه والثاني: أنه لا يقطع لأن خروجه بالانفجار الحادث من غير فعله وإن وضع المال في النقب في وقت هبوب الريح فأطارته الريح إلى خارج الحرز قطع كما لو تركه في ماء جار وإن وضعه ولا ريح ثم هبت ريح فأخرجته ففيه وجهان كما قلنا فيما لو تركه في ماء راكد فتفجر الماء فخرج به فإن وضع المال على حمار ثم قاده أو ساقه حتى خرج من الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله وإن خرج الجمار من غير سوق ولا قود ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأن عادة البهائم إذا أثقلها الحمل أن تسير والثاني: أنه لا يقطع لأنه سار باختياره وإن ثقب الحرز وأمر صغيراً لا يميز بإخراج المال من الحرز فأخرجه قطع لأن الصغير كالآلة وإن دخل الحرز وأخذ جوهرة فابتلعها وخرج ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأنه استهلكها في الحرز ولهذا يجب عليه قيمتها فلم يقطع كما لو اخذ طعاماً فأكله والثاني: أنه يقطع لأنه أخرجه من الحرز في وعاء فأشبه إذا جعلها في جيبه ثم خرج وإن أخذ طيباً فتطيب به ثم خرج فإن لم يمكن أن يجتمع منه قدر النصاب لم يقطع لأنه استهلكه في الحرز

فصار كما لو كان طعاماً فأكله وإن أمكن أن يجتمع منه النصاب ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن استعمال الطيب إتلاف له فصار كالطعام إذا أكله في الحرز والثاني: أنه يقطع لأن عينه باقية ولهذا يجوز لصاحبه أن يطالبه برده. فصل: ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز فإن سرق جذعاً أو عمامة فأخذ قبل أن ينفصل الجميع من الحرز لم يقطع لأنه لا ينفرد بعضه عن بعض ولهذا لو كان في طرف منه نجاسة لم تصح صلاته فيه فإذا لم يجب القطع فيما بقي من الحرز لم يجب فيما خرج منه وإن ثقب رجلان حرزاً فأخذ أحدهما: المال ووضعه على باب الثقب وأخذه الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليهما القطع لأنا لولم نوجب القطع عليهما صار هذا طريقاً إلى إسقاط القطع والثاني: أنه لا يقطع واحد منهما وهو الصحيح لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز وإن نقب أحدهما: الحرز ودخل الآخر وأخرج المال ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالمسألة قبلها ومنهم من قال لا يجب القطع قولاً واحداً لأن أحدهما: نقب ولم يخرج المال والآخر أخرج المال من غير حرزه. فصل: وإن فتح مراحاً فيه غنم فحلب من ألبانها قدر النصاب وأخرجه قطع لأن الغنم مع اللبن في حرز واحد فصار كما لو سرق نصاباً من حرزين في بيت واحد. فصل: فإن دخل السارق إلى دار فيها سكان ينفرد كل واحد منهم ببيت مقفل فيه مال ففتح بيتاً وأخرج المال إلى صحن الدار قطع لأنه أخرج المال من حرزه وإن كانت الدار لواحد وفيها بيت فيه مال فأخرج السارق المال من البيت إلى الصحن فإن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاً لم يقطع لأن ما في البيت محرز بباب الدار وإن كان باب الدار مفتوحاً وباب البيت مغلقاً قطع لأن المال محرز بالبيت دون الدار وإن كان باب الدار مفتوحاً وباب البيت مفتوحاً لم يقطع لأن المال غير محرز وإن كان باب البيت مغلقاً وباب الدار مغلقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأن البيت حرز لما فيه فقط كما لوكان باب الدار مفتوحاً والثاني: أنه لا يقطع لأن البيت المغلق في دار مغلقة حرز في حرز فلم يقطع بالإخراج من أحدهما: كما لو كان في بيت مقفل في صندوق مقفل فأخرج المال من الصندوق ولم يخرجه من البيت. فصل: وإن سرق الضيف من مال المضيف نظرت فإن سرقه من مال لم يحرزه عنه لم يقطع لما روى أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلاً فأنزله في مشربة له

فوجد متاعاً له قد اختانه فيه فأتى به أبا بكر رضي الله عنه فقال: خل عنه فليس بسارق وإنما هي أمانة اختانها ولأنه غير محرز عنه فلم يقطع فيه وإن سرقه من بيت مقفل قطع لما روى محمد بن حاطب أو الحارث أن رجلاً قدم المدينة فكان يكثر الصلاة في المسجد وهو أقطع اليد والرجل فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما ليلك بليل سارق فلبثوا ما شاء الله ففقدوا حليا لهم فجعل الرجل يدعوا على من سرق أهل هذا البيت الصالح فمر رجل بصائغ فرأى عنده حلياً فقال: ما أشبه هذه الحلي بحلي آل أبي بكر فقال للصائغ: ممن اشتريته فقال: من ضيف أبي بكر فأخذ فأقر فجعل أبو بكر رضي الله عنه يبكي فقالوا: ما يبكيك من رجل سرق فقال أبكي لغرته بالله تعالى فأمر به فقطعت يده ولأن البيت المغلق حرز لما فيه فقطع بالسرقة منه. فصل: ولا يجب القطع بسرقة ما ليس بمال كالكلب والخنزير والخمر والسرجين سواء سرقه من مسلم أومن ذمي لأن القطع جعل لصيانة الأموال وهذه ليست الأشياء ليست بمال فإن سرق إناء يساوي نصاباً فيه خمر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن ما فيه تجب إراقته ولا يجوز إقراره فيه والثاني: أنه يقطع لأن سقوط القطع فيما فيه لا يوجب سقوط القطع فيه كما لو سرق إناء فيه بول. فصل: وإن سرق صنماً أو بربطاً أو مزماراً فإن كان إذا فصل لم يصلح لغير معصية لم يقع لأنه لا قيمة لما فيه من التأليف وإن كان إذا فصل يصلح لمنفعة مباحة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقطع لأنه مال يقوم على متلفه والثاني: أنه لا يقطع لأنه آلة معصية فلم يقطع بسرقته كالخمر والثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة رحمه الله أنه إن أخرجه مفصلاً قطع لزوال المعصية وإن أخرجه غير مفصل لم يقطع لبقاء المعصية وإن سرق أواني الذهب والفضة قطع لأنها تتخذ للزينة لا للمعصية. فصل: وإن سرق حراً صغيراً لم يقطع لأنه ليس بمال وإن سرقه وعليه حلي بقدر النصاب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه قصد سرقة ما عليه من المال والثاني: أنه لا يقطع لأن يده ثابتة على ما عليه ولهذا لو وجد لقيط ومعه مال كان المال له فلم يقطع كما لو سرق جملاً وعليه صاحبه وإن سرق أم ولد نائمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنها تضمن باليد فقطع بسرقتها كسائر الأموال والثاني: أنه لا يقطع لأن معنى المال فيها

ناقص لأنه لا يمكن نقل الملك فيها وإن سرق عيناً موقوفة على غيره ففيه وجهان كالوجهين في أم الولد وإن سرق من غلة وقف على غيره قطع لأنه مال يباع ويبتاع وإن سرق الماء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه يباع ويبتاع والثاني: أنه لا يقطع لأنه لا يقصد إلى سرقته لكثرته. فصل: ولا يقطع فيما له فيه شبهة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". فإن سرق مسلم من مال بيت المال لم يقطع لما روي أن عاملاً لعمر رضي الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال قال: لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق وروى الشعبي أن رجلاً سرق من بيت المال فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال إن له فيه سهماً ولم يقطعه وإن سرق ذمي من بيت المال قطع لأنه لا حق له فيه وإن كفن ميت بثوب من بيت المال فسرقه سارق قطع لأن بالتكفين به انقطع عنه حق سائر المسلمين وإن سرق من غلة وقف على المسلمين لم يقطع لأن له فيه حقاً وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء لم يقطع لأن له فيه حقاً وإن سرق منها غني قطع لأنه لا حق له فيها. فصل: وإن سرق رتاج الكعبة أو باب المسجد أو تأزيره قطع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قطع سارقاً سرق قبطية من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه مال محرز بحرز مثله لا شبهة له فيه وإن سرق مسلم من قناديل المسجد أومن حصره لم يقطع لأنه جعل ذلك لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق وإن سرقه ذمي قطع لأنه لا حق له فيها. فصل: ومن سرق من ولده أو ولد ولده وإن سفل أومن أبيه أوجده وإن علا لم يقطع وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فعم ولم يخص وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الأب لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه والآية تخصها بما ذكرناه ومن سرق ممن سواهما من الأقارب قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا يقطع العبد بسرقة مال مولاه وقال أبو ثور: يقطع لعموم الآية وهذا خطأ لما روى السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي فقال: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق فقال مرآة امرأتي فقال له أرسله خادمكم أخذ متاعكم ولكن لو سرق من غيركم قطع ولأن يده كيد المولى بدليل أنه لوكان بيده مال فادعاه رجل كان القول فيه قول المولى فيصير كما لو نقل ماله من زاوية داره إلى زاوية أخرى ولأن له في ماله

شبهة في استحقاق النفقة فلم يقطع كالأب والابن وإن سرق من غيره قطع لقول عمر رضي الله عنه ولأنه لا شبهة له في مال غيره وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقطع لأن النكاح عقد على المنفعة فلا يسقط القطع بالسرقة كالإجارة والثاني: أنه لا يقطع لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء فصار ذلك شبهة والثالث أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج لأن للزوجة حقاً في مال الزوج بالنفقة وليس للزوج حق في مالها ومن لا يقطع من الزوجين بسرقة مال الآخر لا يقطع عبده بسرقة ماله لقول عمر رضي الله عنه في سرقة غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته أرسله فلا قطع عليه خادمكم أخد متاعكم ولأن يد عبده كيده فكانت سرقته من ماله كسرقته. فصل: وإن كان له على رجل دين فسرق من ماله فإن كان جاحداً له أو مماطلاً له لم يقطع لأن له أن يتوصل إلى أخذه بدينه وإن كان مقراً ملياً قطع لأنه لا شبهة له في سرقته وإن غصب مالاً فأحرزه في بيت فنقب المغصوب منه البيت وسرق مع ماله نصاباً من مال الغاصب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يقطع لأنه هتك حرزاً كان له هتكه لأخذ ماله والثاني: أنه يقطع لأنه لما سرق مال الغاصب علم أنه قصد سرقة مال الغاصب والثالث أنه إن كان ما سرقه متميزاً عن ماله قطع لأنه لا شبهة له في سرقته وإن كان مختلطاً بماله لم يقطع لأنه لا يتميز ما يجب فيه القطع مما لا يجب فيه فلم يقطع وإن سرق الطعام عام المجاعة نظرت إن كان الطعام موجوداً قطع لأنه غير محتاج إلى سرقته وإن كان معدوماً لم يقطع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قطع في عام المجاعة أو السنة ولأن له أن يأخذه فلم يقطع فيه. فصل: وإن نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق منها مالاً للمستأجر قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا في هتك حرزه وإن نقب المعير الدار المستعارة وسرق منها مالاً للمستعير ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن له أن يرجع في العارية فجعل النقب رجوعاً والثاني: وهو المنصوص أنه يقطع لأنه أحرز ماله بحرز بحق فأشبه إذا نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق مال المستأجر وإن غصب رجل مالاً أو سرقه وأحرزه

فجاء سارق فسرقه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأنه حرز لم يرضه مالكه والثاني: أنه يقطع لأنه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله. فصل: وإن وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق بعد ما رفع إلى السلطان لم يسقط القطع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده فقال صفوان: إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به". ولأن ما حدث بعد وجوب الحد ولم يوجب شبهة في الوجوب فلم يؤثر في الحد كما لو زنى وهو عبد فصار حراً قبل أن يحد أو زنى وهو بكر فصار ثيباً قبل أن يحد وإن سرق عيناً قيمتها ربع دينار فنقصت قيمتها قبل أن يقطع لم يسقط القطع لما ذكرناه وإن ثبتت السرقة بالبينة فأقر المسروق منه بالملك للسارق أو قال كنت أبحته له سقط القطع لأنه يحتمل أن يكون صادقاً في إقراره وذلك شبهة فلم يجب معها الحد وإن ثبتت السرقة بالبينة فادعى السارق أن المسروق ماله وهبه منه أو أباحه له وأنكر المسروق منه ولم يكن للسارق بينة لم يقبل دعواه في حق المسروق منه لأنه خلاف الظاهر بل يجب تسليم المال إليه وأما القطع فالمنصوص أنه لا يجب لأنه يجوز أن يكون صادقاً وذلك شبهة فمنعت وجوب الحد وذكر أبو إسحاق وجهاً آخر أنه يقطع لأنا لو أسقطنا القطع بدعواه أفضى إلى أن لا يقطع سارق وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا ثبت عليه الزنى بامرأة وادعى زوجيتها فإنه يسقط الحد وإن أفضى ذلك إلى إسقاط حد الزنا وإن ثبتت السرقة بالبينة والمسروق منه غائب فالمنصوص في السرقة أنه لا يقطع حتى يحضر فيدعي وقال فيمن قامت البينة عليه أنه زنى بأمة ومولاها غائب أنه يحد ولا ينتظر حضور المولى فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو قول أبي العباس بن سريج رحمه الله أنه لا يقام عليه الحد في المسألتين حتى يحضر وما روي في حد الزنى سهو من الناقل ووجهه أنه يجوز أن يكون عند الغائب شبهة تسقط الحد بأن يقول المسروق منه كنت أبحته له ويقول مولى الأمة كنت وقفتها عليه والحد يدرأ بالشبهة فلا يقام عليه قبل الحضور والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فيكون في المسألتين قولان: أحدهما: أنه لا يحد لجواز أن يكون عند الغائب شبهة والثاني: أن يحد لأنه وجب الحد في الظاهر فلا يؤخر والثالث وهو قول أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل أنه يحد الزاني ولا يقطع السارق على ما نص عليه لأن حد الزنا لا تمنع الإباحة من وجوبه والقطع في السرقة تمنع الإباحة من وجوبه وإن ثبتت السرقة والزنا بالإقرار فهو كما لو ثبتت بالبينة فيكون على ما تقدم من المذاهب ومن أصحابنا

من قال فيه وجه آخر أنه يقطع السارق ويحد الزاني في الإقرار وجهاً واحداً والصحيح أنه كالبينة وإذا قلنا أنه ينتظر قدوم الغائب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحبس لأنه قد وجب الحد وبقي الاستيفاء فحبس كما يحبس من عليه القصاص إلى أن يبلغ الصبي ويقدم الغائب والثاني: أنه إن كان السفر قريباً حبس إلى أن يقدم الغائب وإن كان السفر بعيداً لم يحبس لأن في حبسه إضراراً به والحق لله عز وجل فلم يحبس لأجله. فصل: وإذا ثبت الحد عند السلطان لم يجز العفو عنه ولا تجوز الشفاعة فيه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق قد سرق فأمر به فقطع فقيل يا رسول الله ما كنا نراك تبلغ به هذا قال: لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد وروى عروة قال: شفع الزبير في سارق فقيل حتى يأتي السلطان قال: إذا بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الحد لله فلا يجوز فيه العفو والشفاعة. فصل: وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" 1. وإن سرق خامساً لم يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث أبي هريرة ما يجب عليه في أربع مرات فلو وجب في الخامسة قتل لبين ويعزر لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فعزر فيها. فصل: وتقطع اليد من مفصل الكف لما روي عن أبي بكر رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق فاقطعوا يمينه من الكوع ولأن البطش بالكف وما زاد من الذراع تابع ولهذا تجب الدية فيه ويجب فيما زاد الحكومة وتقطع الرجل من مفصل القدم وقال أبو ثور: تقطع الرجل من شطر القدم لما روى الشعبي قال: كان علي كرم الله وجهه يقطع الرجل من شطر القدم ويترك له عقباً ويقول أدع له ما يعتمد عليه والمذهب ما ذكرناه والدليل عليه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقطع القدم من مفصلها ولأن البطش بالقدم ويجب فيها الدية فوجب قطعه. فصل: وإن سرق ولا يمين له قطعت الرجل اليسرى فإن كانت له يمين عند السرقة فذهبت بآكلة أو جناية سقط الحد ولم ينتقل الحد إلى الرجل والفرق بين

_ 1 رواه النسائي في كتاب السارق باب 14.

المسألتين أنه سرق ولا يمين له تعلق الحد بالعضو الذي يقطع بعدها وإذا سرق وله يمين تعلق القطع بها فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط وإن سرق وله يد ناقصة الأصابع قطعت لأن اسم اليد يقع عليها وإن لم يبق غير الرحة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع وينتقل الحد إلى الرجل لأنه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها ولهذا لا يضمن بأرش مقدر فصار كما لولم يبق منها شيء والثاني: أنه يقطع ما بقي لأنه بقي جزء من العضو الذي تعلق به القطع فوجب قطعه كما لو بقيت أنملة إن سرق وله يد شلاء فإن قال أهل الخبرة إنها إذا قطعت انسدت عروقها قطعت وإن قالوا لا تنسد عروقها لم تقطع لأن قطعها يؤدي إلى أن يهلك. فصل: وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة لما روى فضالة بن عبيد قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فأمر به فقطعت يده ثم أمر فعلقت في رقبته ولأن في ذلك ردعاً للناس ويحسم موضع القطع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني" فقطع فأتى به فقال: "تب إلى الله تعالى" فقال تبت إلى الله تعالى فقال: "تاب الله عليك" والحسم هو أن يغلي الزيت غلياً جيداً ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق وينقطع الدم فإن ترك الحسم جاز لأنها مداواة فجاز تركها وأما ثمن الزيت وأجرة القاطع فهو في بيت المال لأنه من المصالح فإن قال أنا أقطع بنفسي ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يمكن كما في القصاص والثاني: أنه يمكن لأن الحق لله تعالى والقصد به التنكيل وذلك قد يحصل بفعله بخلاف القصاص فإنه يجب للآدمي للتشفي فكان الاستيفاء إليه. فصل: وإن وجب عليه قطع يمينه فأخرج يساره فاعتقد أنها يمينه أو اعتقد أن قطعها يجزئ عن اليمين فقطعها القاطع ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه يجزئه عن اليمين لأن الحق لله تعالى ومبناه على المساهلة فقامت اليسار فيه مقام اليمين والثاني: أنه لا يجزئه لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع فعلى هذا إن كان القاطع تعمد قطع اليسار وجب عليه القصاص في يساره وإن قطعها وهو يعتقد أنها يمينه أو قطعها وهو يعتقد أن قطعها يجزئه عن اليمين وجب عليه نصف الدية. فصل: إذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع ولا يمنع أحدهما: الآخر لأن الضمان يجب لحف الآدمي والقطع يجب لله تعالى فلا يمنع أحدهما: الآخر كالدية والكفارة.

باب حد قاطع الطريق

باب حد قاطع الطريق من شهر السلاح وأخاف السبيل في مصر أوبرية وجب على الإمام طلبه لأنه إذا ترك قويت شوكته وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الأموال فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل النفس عزر وحبس على حسب ما يراه السلطان لأنه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر كالمتعرض للسرقة بالنقب والمتعرض للزنا بالقبلة وإن أخذ نصاباً محرزاً بحرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله وجب عليه قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لما روى الشافعي عن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا وتقام عليهم الحدود لأنه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه بإخافة السبيل بشهر السلاح فغلظ بقطع الرجل فإن لم يكن له اليد اليمنى ولا الرجل اليسرى انتقل القطع إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى لأن ما يبدأ به معدوم فتعلق الحد بما بعده وإن أخذ دون النصاب لم يقطع وخرج أبوعلي بن خيران قولاً آخر أنه لا يعتبر النصاب كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين وهذا خطأ لأنه قطع يجب بأخذ المال فشرط فيه النصاب كالقطع في السرقة فإن أخذ المال من غير حرز بأن انفرد عن القافلة أو أخذ من جمال مقطرة ترك القائد تعاهدها لم يقطع لأنه قطع يتعلق بأخذ المال فشرط فيه الحرز كقطع السرقة. فصل: وإن قتل ولم يأخذ المال انحتم قتله ولم يجز لولي الدم العفو عنه لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: نزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل ولم يأخذ المال قتل والحد لا يكون إلا حتماً ولأن ما أوجب عقوبة في غير المحاربة تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة كأخذ المال يغلظ بقطع الرجل وإن جرح جراحة توجب القود فهل يتحتم القوم فيه قولان: أحدهما: أنه يتحتم لأن ما أوجب القود في غير المحاربة انحتم القود فيه في المحاربة كالقتل والثاني: أنه لا يتحتم لأنه تغليظ لا يتبعض في النفس فلم يجب فيما دون النفس كالكفارة.

فصل: وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أصحابنا من قال: يصلب حياً ويمنع الطعام والشراب حتى يموت وحكى أبو العباس ابن القاص في التخليص عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال يصلب ثلاثاً قبل القتل ولا يعرف هذا للشافعي والدليل على أنه يصلب بعد القتل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" 1. وإن كان الزمان بارداً أو معتدلاً صلب بعد القتل ثلاثاً وإن كان الحر شديداً وخيف عليه التغير قبل الثلاث حنط وغسل وكفن وصلي عليه وقال أبوعلي بن أبي هريرة رحمه الله: يصلب إلى أن يسيل صديده وهذا خطأ لأن في ذلك تعطيل أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن وإن مات فهل يصلب فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يصلب لأن الصلب تابع للقتل وصفة له وقد سقط القتل فسقط الصلب والثاني: وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله أنه يصلب لأنهما حقان فإذا تعذر أحدهما: لم يسقط الآخر. فصل: وإن وجب عليه الحد ولم يقع في يد الإمام طلب إلى أن يقع فيقام عليه الحد لقوله عز وجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى وجدوا فتقام عليهم الحدود. فصل: ولا يجب ما ذكرناه من الحد إلا على من باشر القتل أو أخذ المال فأما من حضر ردءاً لهم أوعينا فلا يلزمه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" 2. ويعزر لأنه أعان على معصية فعزر وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال وجب على من قتل القتل وعلى من أخذ المال القطع لأن كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده. فصل: إذا قطع قاطع الطريق اليد اليسرى من رجل وأخذ المال قدم قطع القصاص سواء تقدم على أخذ المال أو تأخر لأن حق الآدمي آكد فإذا اندمل موضع القصاص قطع

_ 1 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 57. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 11.الترمذي في كتاب الديات باب 14. النسائي في كتاب الضحايا باب 22. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3. 2 رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11.

اليد اليمنى والرجل اليسرى لأخذ المال ولا يوالي بينهما لأنهما عقوبتان مختلفتان فلا تجوز الموالاة بينهما وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال وقلنا إن القصاص يتحتم نظرت فإن تقدم أخذ المال سقط القطع الواج بسببه لأنه يجب تقديم القصاص عليه لتأكد حق الآدمي وإذا قطع للآدمي زال ما تعلق الوجوب به لأخذ المال فسقط وإن تقدمت الجناية لم يسقط الحد لأخذ المال فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى لأنه استحق بالجناية فيصير كمن أخذ المال وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى فتعلق باليد اليسرى والرجل اليمنى. فصل: وإن تاب قاطع الطريق بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حد المحاربة لقوله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فشرط في العفو عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم فدل على أنهم إذا تابوا بعد القدرة لم يسقط عنهم وإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما يختص بالمحاربة وهو انحتام القتل والصلب وقطع الرجل للآية وهل يسقط قطع اليد فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يسقط لأنه قطع عضو وجب بأخذ المال في المحاربة فسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع الرجل والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يسقط لأنه قطع يد لأخذ المال فلم يسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع السرقة. فصل: فأما الحد الذي لا يختص بالمحاربة ينظر فيه فإن كان للآدمي وهو حد القذف لم يسقط بالتوبة لأنه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالقصاص وإن كان لله عز وجل وهو حد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يسقط بالتوبة لأنه حد لا يختص بالمحاربة فلم يسقط بالتوبة كحد القذف والثاني: أنه يسقط وهو الصحيح والدليل علي قوله عز وجل في الزنا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 16] وقوله تعالى في السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وقوله صلى الله عليه وسلم: "التوبة تجب

ما قبلها" 1. ولأنه حد خالص لله تعالى فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق فإن قلنا إنها تسقط نظرت فإن كانت وجبت في غير المحاربة لم تسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق بتوبته لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} ولقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} فعلق العفو بالتوبة والإصلاح ولأنه قد يظهر التوبة للتقية فلا يعلم صحتها حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق فيه بتوبته وإن وجبت عليه الحدود في المحاربة سقطت بإظهار التوبة والدخول في الطاعة لأنه خارج من يد الإمام ممتنع عليه فإذا أظهر التوبة لم تحمل توبته على التقية.

_ 1 رواه أحمد في مسنده 4/199، 204. بلفظ "الإسلام" بدل "التوبة".

باب حد الخمر

باب حد الخمر كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:

90] واسم الخمر يقع على كل مسكر والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" 1. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من التمر لخمراً وإن من البر لخمراً وإن من الشعير لخمراً وإن من العسل خمراً" 2. وروى سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" 3. وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" 4. فصل: ومن شرب مسكراً وهو مسلم بالغ عاقل مختار وجب عليه الحد فإن كان حراً جلد لما روى أبو ساسان قال: لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلي عليه السلام دونك ابن عمك فاجلده قال: قم يا حسن فاجلده قال: فيم أنت وذاك ول هذا غيري قال: ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت فقال: قم يا عبد الله بن

_ 1 رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث 73. أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 9. 2 رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 4. 3 رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الدارمي في كتاب الأشربة باب 8. أحمد في مسنده 2/91، 167. 4 رواه أحمد في مسنده 6/71، 72.

جعفر فاجلده فجلده وعلي كرم الله وجهه يعد ذلك فعد أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وإن كان عبداً جلد عشرين لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا فإن رأى الإمام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم فقلت: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه قال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم فقال علي كرم الله وجهه: تراه إذا سكر هذى وإذا هذ افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر بلغ صاحبك ما قال فجلد خالد ثمانين وإذا أتى بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين فإن جلده أربعين ومات لم يضمن لأن الحق قتله وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية لأن نصفه حد ونصفه تعزير وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات والثاني: أنه يضمن جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من الدية ووجب النصف بالتعزير وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات والثاني: أنه يضمن جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من الدية لأن الأسواط متماثلة فقسطت الدية على عددها وتخالف الجراحات فإنها لا تتماثل وقد يموت من جراحة ولا يموت من جراحات ولا يجوز أن يموت من سوط ويعيش من أسواط وإن أمر الإمام الجلاد أن يضرب في الخمر ثمانين فجلده إحدى وثمانين ومات المضروب فإن قلنا إن الدية تقسط على عدد الضرب سقط منها أربعون جزءاً لأجل الحد ووجب على الإمام أربعون جزءاً لأجل العزير ووجب على الجلاد جزء وإن قلنا أنه يقسط على عدد الجناية ففيه وجهان: أحدهما: يسقط نصفها لأجل الحد ويبقى النصف على الإمام نصفه وعلى الجلاد نصفه لأن الضرب نوعان مضمون وغير مضمون فسقط النصف بما ليس بمضمون ووجب النصف بما هو مضمون والثاني: أنه تقسط الدية أثلاثاً فسقط ثلثها بالحد وثلثها على الإمام وثلثها على الجلاد لأن الحد ثلاثة أنواع فجعل لكل نوع الثلث.

فصل: ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب على ظاهر النص لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضربوه" قال فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض الناس أخزال الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا ولا يعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا رحمك الله" 1. ولأنه لما كان أخف من غيره في العدد وجب أن يكون أخف من غيره في الصفة وقال أبو العباس وأبو إسحاق يضرب بالسوط ووجهه ما روي أن علياً رضي الله عنه لما أقام الحد على الوليد بن عقبة قال لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد قال: فأخذ السوط فجعله حتى انتهى إلى أربعين سوطاً فقال له: أمسك وإن قلنا إنه يضرب بغير السوط فضرب بالسوط أربعين سوطاً فمات ضمن لأنه تعدى بالضرب بالسوط وكم يضمن فيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه تعدى بالضرب بالسوط وكم يضمن فيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه على ألم النعال والثاني: أنه يضمن جميع الدية لأنه عدل من جنس إلى غيره فأشبه إذا ضربه بما يجرح فمات منه. فصل: والسوط الذي يضرب به سوط بين سوطين ولا يمد ولا يجرد ولا يشد يده لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد. فصل: ولا يقام الحد في المسجد لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحد في المسجد ولأنه لا يؤمن أن يشق الجلد بالضرب فيسيل منه الدم أو يحدث من شدة الضرب فيتنجس المسجد وإن أقيم الحد في المسجد سقط التمرض لأن النهي لمعنى يرجع إلى المسجد لا إلى الحد فلم يمنع صحته كالصلاة في الأرض المغصوبة. فصل: إذا زنى دفعات حد للجميع حداً واحداً وكذلك إن سرق دفعات أو شرب الخمر دفعات حد للجميع حداً واحداً لأن سببها واحد فتداخلت وإن اجتمعت عليه

_ 1 رواه البخاري في كتاب الحدود باب 4، 5. أبو داود في كتاب الحدود باب 35. أحمد في مسنده 2/300.

حدود بأسباب بأن زنى وسرق وشرب الخمر وقذف لم تتداخل لأنها حدود وجبت بأسباب فلم تتداخل وإن اجتمع عليه الجلد في حد الزنا والقطع في السرقة أوفي قطع الطريق قدم حد الزنا أو تأخر لأنه أخف من القطع فإذا تقدم أمكن استيفاء القطع بعده وإذا قدم القطع لم يؤمن أن يموت منه فيبطل حد الزنا وإن اجتمع عليه مع ذلك حد الشرب أوحد القذف قدم حد الشرب وحد القذف على تحد الزنا لأنهما أخف منه وأمكن للاستيفاء وإن اجتمع حد الشرب وحد القذف ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقدم حد القذف لأنه للآدمي والثاني: أنه يقدم حد الشرب وهو الصحيح لأنه أخف من حد القذف فإذا أقيم عليه حد لم يقم عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول لأنه إذا توالى عليه حدان لم يؤمن أن يتلف وإن اجتمع عليه حد السرقة والقطع في قطع الطريق قطعت يمينه للسرقة وقطع الطريق ثم تقطع رجله لقطع الطريق وهل تجوز الموالاة بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه تجوز لأن قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز الموالاة بينهما والثاني: أنه لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد لأن قطع الرجل لقطع الطريق وقطع اليد للسرقة وهما سببان مختلفان فلا يوالي بين حديهما والأول أصح لأن اليد تقطع لقطع الطريق أيضاً فأشبه إذا قطع الطريق ولم يسرق وإن كان مع هذه الحدود قتل فإن كان في غير المحاربة أقيمت الحدود على ما ذكرناه من الترتيب والتفريق بينهما فإذا فرغ من الحدود قتل وإن كان القتل في المحاربة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يوالي بين الجميع والفرق بينه وبين القتل في غير المحاربة أن القتل في غير المحاربة غير متحتم وربما عفى عنه فتسلم نفسه والقتل في المحاربة متحتم فلا معنى لترك الموالاة والوجه الثاني أنه لا يوالي بينهما لأنه لا يؤمن إذا والى بين الحدين أن يموت في الثاني فيسقط ما بقي من الحدود.

باب التعزير

باب التعزير من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة كمباشرة الأجنبية فما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز أو القذف بغير الزنا أو الجناية التي لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصي عزر على حسب ما يراه السلطان لما روى عبد الملك بن عمير قال: سأل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث قال: هن فواحش فيهن التعزير وليس فيهن حد وروي عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة

استخلف أبا الأسود الديلي فأتى بلص نقب حرزاً على قوم فوجدوه في النقب فقال: مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه فضربه خمسة وعشرين سوطاً وخلى عنه ولا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود فإن كان على حر لم يبلغ به أربعين وإن كان على عبد لم يبلغ به عشرين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغ بما ليس بحد حداً فهو من المعتدين". وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً وروي عنه ثلاثين سوطاً وروي عنه ما بين الثلاثين إلى الأربعين سوطاً ولأن هذه العاصي دون ما يجب فيه الحد فلا تحلق بما يجب فيه الحد من العقوبة وإن رأى السلطان ترك التعزير جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمي لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود" 1. وروى عبد الله بن الزبير أن رجلاً خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة الذي يسقون به النخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق أرضك الماء ثم أرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله وأن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا زبير اسق أرضك الماء ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر". فقال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الأية نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولولم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال. فصل: وإن عزر الإمام رجلاً فمات وجب ضمانه لما روى عمرو بن سعيد عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما من رجل أقمت عليه حداً فمات فأجد في نفسي أنه لا دية له

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 5. أحمد في مسنده 6/181.

إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه ولا يجوز أن يكون المراد به إذا مات من الحد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر فثبت أنه أراد من الزيادة على الأربعين ولأنه ضرب جعل إلى اجتهاده فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته. فصل: وإن كان على رأس بالغ عاقل سلعة لم يجز قطعها بغير إذنه فإن قطعها قاطع بإذنه فمات لم يضمن لأنه قطع إذنه وإن قطعها بغير إذنه فمات وجب عليه القصاص لأنه تعدى بالقطع وإن كان على رأس صبي أو مجنون لم يجز قطعها لأنه جرح لا يؤمن معه الهلاك فإن قطعت فمات منه نظرت فإن كان القاطع لا ولاية له عليه وجب عليه القود لأنها جناية يعدي بها وإن كان أباً أوجدا وجبت عليه الدية وإن كان ولياً غيرهما ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القود لأنه قطع منه ما لا يجوز قطعه والثاني: أنه لا يجب القود لأنه لم يقصد القتل وإنما قصد المصلحة فعلى هذا يجب عليه دية مغلظة لأنها عمد خطأ. وبالله التوفيق.

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية باب ولاية القضاء وأدب القاضي القضاء فرض على الكفاية والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26] وقوله عز وجل: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 49] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس وبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس وبعث عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً ولأن الظلم في الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه وإذا امتنع أجبر عليه لأن الكفاية لا تحصل إلا به فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت فإن كان خاملاً وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة بنشر العلم وإن كان مشهوراً فإن كانت له كفاية كره له الدخول فيه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين" 1. ولأنه يلزمه بالقضاء حفظ

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الأحكام باب 1. أبو داود في كتاب الأقضية باب 1. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 1. أحمد في مسنده 2/230.

الأمانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه وإن كان فقيرا يرجوا بالقضاء كفاية من بيت المال لم يكره له الدخول فيه لأنه يكتسب كفاية بسبب مباح وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الإمام أفضلهم وأورعهم وقلده فإن اختار غيره جاز لأنه تحصل به الكفاية وإن امتنعوا من الدخول فيه أثموا لأنه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهل يجوز للإمام أن يجبر واحداً منهم على الدخول فيه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه ليس له إجباره لأنه فرض على الكفاية فلو أجبرناه عليه تعين عليه والثاني: أن له إجباره لأنه إذا لم يجبر بقي الناس بلا قاض وضاعت الحقوق وذلك لا يجوز. فصل: ومن تعين عليه القضاء وهو في كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقاً لأنه فرض تغين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه مالاً من غير ضرورة فإن لم يكن له كفاية فله أن يأخذ الرزق عليه لأن القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها فجاز أن يأخذ عليه الرزق فإن لم يتعين عليه فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ عليه الرزق لأنه قربة فكره أخذ الرزق عليها من غير حاجة فإن أخذ جاز لأنه لم يتعين عليه وإن لم يكن له كفاية لم يكره أن يأخذ عليه الرزق لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي خرج برزمة إلى السوق فقيل ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي فأجروا له كل يوم درهمين وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم ومن كان غيناً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف وبعث عمر رضي الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً وعبد الله بن مسعود قاضياً وعثمان بن حنيف ماسحاً وفرض لهم كل يوم شاة نصفها وأطرافها لعمار والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان ولأنه لما جاز للعامل على الصدقات أن يأخذ مالاً على العمامة جاز للقاضي أن يأخذ على القضاء ويدفع إليه مع رزقه شيء للقرطاس لأنه يحتاج إليه لكتب المحاضر ويعطى لمن على بابه من الأجر لأنه يحتاج إليهم لإحضار الخصوم كما يعطى من يحتاج إليه العامل على الصدقات من العرفاء ويكون ذلك من سهم المصالح لأنه من المصالح. فصل: ولا يجوز أن يكون القاضي كافراً ولا فاسقاً ولا عبداً ولا صغيراً ولا معتوهاً لأنه إذا لم يجز أن يكون واحد من هؤلاء شاهداً فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً

أولى ولا يجوز أن يكون امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة" 1. ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال لما يخاف عليهم من الإفتتان بها ولا يجوز أن يكون أعمى لأنه لا يعرف الخصوم والشهود وفي الأخرس الذي يفهم الإشارة وجهان كالوجهين في شهادته ولا يجوز أن يكون جاهلاً بطرق الأحكام لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فحكم به فهو في الجنة وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في حكه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" 2. ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس وهولا يلزمهم الحكم فلأن لا يجوز أن لا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى ويكره أن يكون القاضي جباراً عسوفاً وأن يكون ضعيفاً مهيناً لأن الجبار يهابه الخصم فلا يتمكن من استيفاء حجته والضعيف يطمع فيه الخصم وينشط عليه ولهذا قال بعض السلف وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة من غير عنف ولين من غير ضعف. فصل: ولا يجوز ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فلا يجوز إلا من جهة الإمام فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكماً ليحكم بينهما جاز لأنه تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم واختلف قوله في الذي يلزم به حكمه فقال في أحد القولين لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم وهو قول المزني رحمه الله تعالى لأنا لو ألزمناهما حكمه كان ذلك عزلاً للقضاة وافتياتاً على الإمام ولأنه لما اعتبر تراضيهما في الحكم اعتبر رضاهما في لزوم الحكم والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم لأن من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي الذي ولاه الإمام واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه

_ 1 رواه أحمد في مسنده 5/50. 2 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 2. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3.

التحكيم فمنهم من قال يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الإمام ومنهم من قال: يجوز في الأموال فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف فلا يجوز فيها التحكيم لأنها حقوق بنيت على الاحتياط فلم يجز فيها التحكيم. فصل: ويجوز أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين وأكثر على أن يحكم كل واحد منهم في موضع ويجوز أن يجعل إلى أحدهما: القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر وإلى أحدهما: في زمان وإلى الآخر في زمان آخر لأنه نيابة عن الإمام فكان على حسب الاستنابة وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد في حق واحد وزمان واحد فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنه نيابة فجاز أن يجعل إلى اثنين كالوكالة والثاني: أنه لا يجوز لأنهما قد يختلفان في الحكم فتقف الحكومة ولا تنقطع الخصومة. فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} والحق ما دل عليه الدليل وذلك لا يتعين في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية لأنه علقها على شرط وقد بطل الشرط فبطلت التولية. فصل: وإذا ولى القضاء على بلد كتب له العهد بما ولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس حين بعثه إلى البحرين كتاباً وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة أما بعد فإني بعثت إليكم عماراً أميراً وعبد الله قاضياً ووزيراً فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً أشهد له على التولية

شاهدين ليثبت بهما التولية وإن كان قريباً بحيث يتصل به الخبر في التولية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب الإشهاد لأنه عقد فلا يثبت بالاستفاضة كالبيع والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجب الإشهاد لأنه يثبت بالاستفاضة فلا يفتقر إلى الإشهاد والمستحب للقاضي أن يسأل عن أمناء البلد ومن فيه من العلماء لأنه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم والمستحب أن يدخل البلد يوم الإثنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الإثنين والمستحب أن ينزل وسط البلد ليتساوى الناس كلهم في القرب منه ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد ليعلموا التولية وما فوض إليه. فصل: فإذا أذن له من ولاء أن يستخلف فله أن يستخلف وإن نهاه عن الاستخلاف لم يجز له أن يستخلف لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه وإن لم يأذن له ولم ينهه نظرت فإن كان ما تقلده يقدر أن يقضي فيه بنفسه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه يجوز أن يستخلف لأنه ينظر في المصالح فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره والثاني: وهو المذهب أنه لا يجوز لأن الذي ولاه لم يرض بنظر غيره وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضي فيه بنفسه لكثرته جاز أن يستخلف فيما لا يقدر عليه لأن تقليده لا يقدر عليه بنفسه أذن في الاستخلاف فيما لا يقدر عليه كما أن توكيل الوكيل فيما لا يقدر عليه بنفسه أذن له في استنابة غيره وهل له أن يستخلف فيما يقدر عليه أن يقضي فيه بنفسه فيه وجهان: أحدهما: أن له ذلك لأن ما جاز له أن يستخلف في البعض جاز أن يستخلف في الجميع كالإمام والثاني: أنه لا يجوز لأنه إنما أجيز له أن يستخلف فيما لا يقدر علي للعجز فوجب أن يكون مقصوراً على ما عجز عنه. فصل: ولا يجوز أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله فإن فعل شيئاً من ذلك في غير عمله لم يعتد به لأنه لا ولاية له في غير عمله فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الرعية. فصل: ولا يحكم لنفسه وإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى خليفة له لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان رضي الله عنه مع طلحة إلى جبير بن مطعم وتحاكم علي كرم الله وجهه مع يهودي في درع إلى شريح ولأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لنفسه فلا يجوز أن يكون حاكماً لنفسه ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل وقال أبو ثور: يجوز وهذا خطأ لأنه متهم في الحكم لهما كما يتهم في الحكم لنفسه وإن تحاكم إليه والده

مع ولده فحكم لأحدهما: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبي والثاني: أنه يجوز لأنهما استويا في التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل وإن أراد أن يستخلف في أعماله والده وولده جاز لأنهما يجريان مجرى نفسه ثم يجوز أن يحكم في أعماله فجاز أن يستخلفهما للحكم في أعماله وأما إذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضياً لم يجز أن يختار والده أو ولده لأنه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده. فصل: ولا يجوز أن يرتشي على الحكم لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم". ولأنه أخذ مال على حرام فكان حراماً كمهر البغي ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدي إليه قبل الولاية لما روى أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منهما شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته" 1. فدل على أن ما أهدي إليه بعد الولاية لا يجوز قبوله وأما من كانت له عادة بأن يهدى إليه قبل الولاية برحم أو مودة فإنه إن كانت له في الحال حكومة لم يجز قبولها منه لأنه لا يأخذ في حال يتهم فيه وإن لم يكن له حكومة فإن كان أكثر مما كان يهدى إليه أو أرفع منه لم يجز له قبولها لأن الزيادة حدث بالولاية وإن لم يكن أكثر ولا أرفع مما كان يهد إليه جاز قبولها لخروجها عن تسبب الولاية والأولى أن لا يقبل لجواز أن يكون قد أهدي إليه لحكومة منتظرة. فصل: ويجوز أن يحضر الولائم لأن الإجابة إلى وليمة غير العرس مستحبة وفي وليمة العرس وجهان: أحدهما: أنها فرض على الأعيان والثاني: أنها فرض على الكفاية ولا يخص في الإجابة قوماً دون قوم لأن في تخصيص بعضهم ميلاً وتركاً للعدل فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم ترك الحضور في حق الجميع لأن الإجابة إلى الوليمة إما أن تكون سنة أو فرضاً على الكفاية أو فرضاً على الأعيان إلا أنه لا يستضر بتركها جميع المسلمين والقضاء فرض عليه ويستضر بتركه جميع المسلمين فوجب تقديم القضاء

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 24. مسلم في كتاب الإمارة حديث 26. أبو داود في كتاب الإمارة باب 11. أحمد في مسنده 5/423.

فصل: ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي مقدم الغائب لقوله صلى الله عليه وسلم: "عائد المريض في مخوف من مخارف الجنة حتى يرجع" 1. وعاد النبي صلى الله عليه وسلم سعداً وجابراً وعاد غلاماً يهودياً في جواره وعرض عليه السلام فأجاب وكان يصلي على الجنائر فإن كثرت عليه أتى من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم والفرق بينه وبين حضور الولائم حيث قلنا إنها إذا كثرت عليه ترك الجميع أن الحضور في الولائم لحق أصحابنا فإذا حضر عند بعضهم كان ذلك للميل إلى من يحضره والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب لنفسه فلم يترك ما قدر عليه. فصل: ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا". وقال شريح: شرط علي غضبان ولأنه إذا باشر ذلك بنفسه لم يؤمن أن يحابى فيميل إلى من حاباه فإن احتاج إلى البيع والشراء وكل من ينوب عنه ولا يكون معروفاً به فإن عرف أنه وكيله استبدل بمن لا يعرف به حتى لا يحابى فتعود المحاباة إليه فإن لم يجد من ينوب عنه تولى بنفسه لأنه لا بد له منه فإذا وقعت لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه لأنه إذا تولى الحكم بنفسه لم يؤمن أن يميل إليه. فصل: ولا يقضي في حال الغضب ولا في حال الجوع والعطش ولا في حال الحزن والفرح ولا يقضي والنعاس يغلبه ولا يقضي والمرض يقلقه ولا يقضي وهو يدافع الأخبثين ولا يقضي وهو في حر مزعج ولا في برد مؤلم لما روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي للقاضي أن يقضي بين اثنين وهو غضبان" 2. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان

_ 1 رواه مسلم في كتاب البر الحديث 39. أحمد في مسنده 5/276. 2 رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 13. مسلم في كتاب الأقضية حديث 16. أبو داود في كتاب الأقضية باب 9. الترمذي في كتاب الأحكام باب 7.

ريان". ولأن في هذه الأحوال يشتغل قلبه فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وإن حكم في هذه الأحوال صح حكمه لأن الزبير ورجلاً من الأنصار اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: وأن كان ابن عمتك يا رسول الله فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه ثم قال للزبير: "اسق زرعك واحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله إلى جارك". فحكم في حال الغضب. فصل: والمستحب أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد ولا يحتجب من غير عذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره". والمستحب أن يكون المجلس فيسحاً حتى لا يتأذى بضيقه الخصوم ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز وأن يكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر أو برد أو دخان أو رائحة منتنة لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وإياك والقلق والضجر وهذه الأشياء تفضي إلى الشجر وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة فإن حكم مع هذه الأحوال صح الحكم كما يصح في حال الغضب ويكره أن يجلس للقضاء في المسجد لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسل سيوفكم وشراءكم وبيعكم" 1. ولأن الخصومة يحضرها اللغط والسفه فينزه المسجد عن ذلك ولأنه قد يكون الخصم جنباً أو حائضاً فلا يمكنه المقام في المسجد للخصومة فإن جلس في المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره أن يحكم بينهما لما روى الحسن البصري قال: دخلت المسجد فرأيت عثمان رضي الله عنه قد ألقى رداءه ونام فأتاه سقاء بقربة ومعه خصم فجلس عثمان وقضى بينهما وإن جلس في البيت لغير الكم فحضره خصمان لم يكره أن يحم بينهما لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: اختصم إلى

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب المساجد باب 5.

رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في بيتي. فصل: وإن احتاج إلى أجرياء لإحضار الخصوم اتخذ أجرياء أمناء ويوصيهم بالرفق بالخصوم ويكره أن يتخذ حاجباً لأنه لا يؤمن أن يمنع من له ظلامة أو يقدم خصماً على خصم فإن دعت الحاجة إلى ذلك اتخذ أميناً بعيداً من الطم ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق من الخصوم ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً لأن يرفأ كان حاجب عمر والحسن البصري كان حاجب عثمان وقنبر كان حاجب علي كرم الله وجهه ولأن الإمام ينظر في جميع المصالح فتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتاً لا يدخل فيه كل أحد. فصل: ويستحب أن يكون له حبس لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجناً واتخذ علي كرم الله وجهه سجناً وحبس عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر فقال: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر فخلاه وحبس عمر آخر فقال: يا عمر الفاروق طال حبسي ... ومل مني إخواتي وعرسي في حدث لم تقترنه نفسي ... والأمر أضوأ من شعاع الشمس ولأنه يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق من المماطل بالدين ويستحب أن يكون له درة للتأديب لأن عمر رضي الله عنه كانت له درة يؤدب بها الناس. فصل: وإن احتاج إلى كاتب اتخذ كاتباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب منهم علي بن

أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ومن شرطه أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لأنه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله وهل من شرطه أن يكون مسلماً عدلاً؟ فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك شرط فلا يجوز أن يكون كافراً لأن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر رضي الله عنه وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله ولأن الكافر عدو للمسلمين فلا يؤمن أن يكتب ما بطل به حقوقهم ولا يجوز أن يكون فاسقاً لأنه لا يؤمن أن يخون والوجه الثاني أن ذلك يستحب لأن ما يكتبه لا بد أن يقف عليه القاضي ثم يمضيه فيؤمن فيه من الخيانة. فصل: ولا يتخذ شهوداً معينين لا تقبل شهادة غيرهم لأن في ذلك تضييقاً على الناس وإضراراً بهم في حفظ حقوقهم ولأن شروط الشهادة لا تختص بالعينين فلم يجز تخصيصهم بالقبول. فصل: ويتخذ قوماً من أصحاب المسائل ليتعرف بهم أحوال من جهلت عدالته من الشهود وينبغي أن يكونوا عدولاً برآء من الشحناء بينهم وبين الناس بعداء من العصبية في نسب أو مذهب حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية غير عدل وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا بوفور عقولهم إلى المطلوب ولا يسترسلوا فيسألوا عدواً أو صديقاً لأن العدو يظهر القبيح ويخفي الجميل والصديق يظهر الجميل ويخفي القبيح وإن شهد عنده شاهد نظرت فإن علم عدالته قبل شهادته وإن علم فسقه لم يقبل شهادته ويعمل في العدالة والفسق بعلمه وإن جهل إسلامه لم يحكم حتى يسألة عن إسلامه ولا يعمل

في إسلامه بظاهر الدار كما يعمل في إسلام اللقيط بظاهر الدار لأن أعرابياً شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأل عن إسلامه ولأنه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره فلا يعمل فيه بظاهر الدار ويرجع في إسلامه إلى قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الأعرابي وإذا جهل حريته ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر النص أنها تثبت بقوله لأن الظاهر من الدار حرية أهلها كما أن الظاهر من الدار إسلام أهلها ثم يثبت الإسلام بقوله فكذلك الحرية والثاني: وهو الأظهر أنها لا تثبت بقوله والفرق بينها وبين الإسلام أنه يملك الإسلام إذا كان كافراً فقبل إقراره به ولا يملك الحرية إذا كان عبداً فلم يقبل إقراراه بها وإن جهل عدالته لم يحكم حتى ثبتت عدالته لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ولا يعلم أنه مرضي قبل السؤال وروى سليمان عن حريث قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر رضي الله عنه: إني لست أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال بأي شيء تعرفه قال: بالعدالة قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه قال: لا قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع قال: لا قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل له على مكارم الأخلاق قال: لا قال: لست تعرفه ثم قال للرجل ائتني بمن يعرفك ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقاً فلا يحكم بشهادته وإن أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وحليته وصنعته وسوقه ومسكنه حتى لا يشتبه بغيره ويذكر من يشهد له حتى لا يكون ممن لا تقبل شهادته ولومن والد أو ولد ويذكر من يشهد عليه حتى لا يكون عدواً لا يقبل شهادته عليه ويذكر قدر ما يشهد به لأنه قد يكون ممن يقبل قوله في قليل ولا يقبل قوله في كثير ويبعث ما يكتبه مع أصحاب المسائل ويجتهد أن لا يكون أصحاب المسائل معروفين عند الشهود ولا عند الشهود حتى لا يحتالوا في تعديل أنفسهم ولا عند المسؤولين عن الشهود حتى لا يحتال لهم الأعداء في الجرح ولا الأصدقاء في التعديل ويجتهد أن لا يعلم أصحاب المسائل بعضهم ببعض فيجمعهم الهوى على التواطؤ على الجرح والتعديل قال الشافعي رحمه الله: ولا يثبت الجرح والتعديل إلا باثنين ووجهه أنه شهادة فاعتبر فيها العدد واختلف أصحابنا هل

يحكم القاضي في الجرح والتعديل بأصحاب المسائل أو بمن عدل أو جرح من الجيران فقال أبو إسحاق: يحكم بشهادة الجيران لأنهم يشهدون بالجرح والتعديل فعلى هذا يجوز أن يقتصر على قول الواحد من أصحاب المسائل ويجوز بلفظ الخبر ويسمى للحاكم من عدل أو جرح ثم يسمع الشهادة بالتعديل والجرح من الجيران على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة وحمل قول الشافعي رحمه الله في العدد على الجيران وقال أبو سعيد الإصطخري يحكم بشهادة أصحاب المسائل وهو ظاهر النص لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فحكم بشهادة أصحاب المسائل فعلى هذا لا يجوز أن يكون أصحاب المسائل أقل من اثنين ويجوز أن يكون من يخبرهم من الجيران واحداً إذا وقع في نفوسهم صدقه ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة وحمل قول الشافعي رحمه الله تعالى في العدد على أصحاب المسائل وإن بعث اثنين فعادا بالجرح حكم بالجرح وإن عادا بالتعديل حكم بالتعديل وإن عاد أحدهما: بالتعديل وعاد الآخر بالجرح لم يحكم بقول واحد منهما في جرح ولا تعديل ويبعث ثالثاً فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح وإن عاد بالتعديل كملت بينة التعديل وإن شهد اثنان بالجرح واثنان بالتعديل حكم بالجرح لأن شاهدي الجرح يخبران عن أمر باطن وشاهدي العدالة يخبران عن أمر ظاهر فقدم من يخبر بالباطن كما لو شهد اثنان بالإسلام وشهد آخران بالردة وإن شهد اثنان بالجرح وشهد ثلاثة بالعدالة قدمت بينة الجرح لأن بينة الجرح كملت فقدمت على بينة التعديل ولا يقبل الجرح إلا مفسراً وهو أن يذكر السبب الذي به جرح ولأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان ولعل من شهد بفسقه شهد على اعتقاده والحاكم لا يعتقد أن ذلك فسق والجرح والتعديل إلى رأي الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه ولا يشهد بالجرح من يشهد من الجيران وأهل الخبرة إلا أن يعلم الجرح بالمشاهدة في الأفعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع في الأقوال كالشتم والقذف والكذب وإظهار ما يعتقده من البدع أو استفاض عنه ذلك بالخبر لأنه شهادة على علم فأما إذا قال بلغني أو قيل لي أنه يفعل أو يقول أو يعتقد لم يجز أن يشهد به لقوله تعال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قال الشافعي رحمه الله: ولا تقبل الشهادة بالتعديل حتى يقول هو عدل على ولي فمن أصحابنا من قال يكفي أن يقول هو عدل وهو قول أبي سعيد الإصطخري لأن قوله عدل يقتضي أنه عدل عليه وله وما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ذكره على سبيل الاستحباب ومنهم من قال لا يقبل حتى يقول عدل لي وعلي وهو قول

أبي إسحاق لأن قوله عدل لا يقتضي العدالة على الإطلاق لأنه قد يكون عدلاً في شيء دون شيء وإذا قال عدل على ولي دل على العدالة على الإطلاق. فصل: ولا يقبل التعديل إلا ممن تقدمت معرفته وطالت خبرته بالشاهد لأن المقصود معرفة العدالة في الباطن ولا يعمل ذلك ممن لم يتقدم به معرفته ويقبل الجرح ممن تقدمت معرفته به وممن لم يتقدم معرفته لأنه لا يشهد في الجرح إلا بما شاهد أو سمع أو استفاض عنه وبذلك يعلم فسقه. فصل: وإن شهد مجهول العدالة فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته لأن البحث عن العدالة لحق المشهود عليه وهو قد شهد له بالعدالة والثاني: أنه لا يحكم لأن حكمه شهادته حكم بتعديله وذلك لا يجوز بقول الواحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته. فصل: وإن ثبت عدالة الشاهد ومضى على ذلك زمان ثم شهد عند الحاكم بحق نظرت فإن كان بعد زمان قريب يحكم بشهادته ولم يسألة عن عدالته وإن كان بعد زمان طويل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بشهادته لأن الأصل بقاء العدالة والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحكم بشهادته حتى يعيد السؤال عن عدالته لأنه مع طول الزمان يتغير الحال. فصل: وإن شهد عنده شهود وارتاب بهم فالمستحب أن يسألهم عن تحمل الشهادة ويفرقهم ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل ومكانه وزمانه لما روي أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا عند دانيال ففرقهم وسألهم فاختلفوا فدعا عليهم فنزلت عليهم نار من السماء فأحرقتهم وإن فرقهم فاختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال: كنت جالساً عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاءه رجل فادعى على رجل حقاً فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السموات والأرض لقد كذا علي في الشهادة وكان محارب ابن دثار متكئاً فاستوى جالساً وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الطير لتخفق بأجنحتها وتمي بما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور

لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار". فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا على رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا. فصل: والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنياً ولكن أراد الله تعالى أن يستسن بذلك الحكام ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شاور في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء وأشر عمر رضي الله عنه بالقتل وروى عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالاً من المهاجرين ورجالاً من الأنصار ودعا عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولي عمر رضي الله عنه وكان يدعوا هؤلاء النفر فإن اتفق ولا يقلد غيره لأنه مجتهد فلا يقلد وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت وخاف الفوت بأن يكون الحكم بين مسافرين وهم على الخروج قلد غيره وحكم كما قال في القبلة إذا خاف فوت الصلاة وقد بينا ذلك في كتاب الصلاة وإن اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فحكم به ثم بان له أنه أخطأ فإن كان ذلك بدليل مقطوع به كالنص والإجماع والقياس الجلي نقض الحكم لقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبي موسى لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل ولأنه مفرط في حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه. فصل: وإن ولي قضاء بلد وكان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها أصاب فيها أو أخطأ لأنه حكم ممن لا يجوز له القضاء فوجب نقضه كالحكم من بعض الرعية وإن كان يصلح للقضاء لم يجب عليه أن يتتبع أحكامه لأن الظاهر أنها صحيحة فإن أراد أن يتتبعها من غير متظلم فهل يجوز له ذلك أم لا فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه يجوز لأن فيه احتياطاً والثاني: أنه لا يجوز لأنه

يشتغل بماض لا يلزمه عن مستقبل يلزمه وإن تظلم منه متظلم فإن سأل إحضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما لأنه ربما قصد أن يبتذ له ليحلف من غير حق وإن قال لي عليه مال من معاملة أو غصب أو إتلاف أو رشوة أخذها منه على حكم أحضره وإن قال حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحضره كما يحضره إذا ادعى عليه مالاً والثاني: أنه لا يحضره حتى يقيم بينة بما يدعيه لأنه لا تتعذر إقامة البينة على الحكم فإن حضر وقال ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين فالقول قوله لأنه أمين وهل يحلف فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يخلف لأنه عدل والظاهر أنه صادق والثاني: أنه يحلف لأنه أمين ادعى عليه خيانة فلم يقبل قوله من غير يمين كالمودع إذا ادعى عليه خيانة وأنكرها وإن قال جار علي في الحكم نظرت فإن كان ما حكم به مما لا يسوغ فيه الاجتهاد نقضه كما ينقض على نفسه إذا حكم بما لا يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان ما أتلف على الذمي من الخمر لم ينقضه كما لا ينقض على نفسه ما حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد لأنها لو نقضنا ما يسوغ فيه الاجتهاد لم يستقر لأحد حق ولا ملك لأنه كلما ولى حاكم نقض ما حكم به من قبله فلا يستقر لأحد حق ولا ملك. فصل: وإذا خرج إلى مجلس الحكم فالمستحب له أن يدعوا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: "اللهم أعوذ بك من أن أزل أو أزل أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي" 1 والمستحب أن يجلس مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير المجالس ما استقبل به

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 103. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 18. أحمد في مسنده 6/322.

القبلة" ولأنه قربة فكانت جهة القبلة فيها أولى كالأذان والمستحب أن يقعد وعليه السكينة والوقار من غير جبرية ولا استكبار لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وهو متكئ على يساره فقال: هذه جلسة المغضوب عليهم ويترك بين يديه القمطر مختوماً ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب بقربه ليشاهد ما يكتبه فإن غلط في شيء رده عليه. فصل: والمستحب أن يبدأ في نظرت بالمحبسين لأن الحبس عقوبة وعذاب وربما كان فيهم من تجب تخليته فاستحب البداية بهم ويكتب أسماء المحبسين وينادي في البلدان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في يوم كذا فليحضر من له محبوس فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم فإن وجب إطلاقه أطلقه وإن وجب حبسه أعاده إلى الحبس فإن قال المحبوس حبست على دين وأنا معسر فإن ثبت إعساره أطلق وإن لم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس فإن ادعى صاحب الدين أن له داراً وأقام على ذلك البينة فقال المحبوس هي لزيد سئل زيد فإن أكذبه بيعت الدار وقضى الدين لأن إقراره يسقط بإكذابه وإن صدقه زيد نظرت فإن أقام زيد بينة أن الدار له حكم له بالدار ولم تبع في الدين لأن له بينة ويداً بإقرار المحبوس ولصاحب الدين بينة من غير يد فقدمت بينة زيد وإن لم يكن لزيد بينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بها لزيد ولا تباع في الدين لأن بينة صاحب الدين بطلت بإكذاب المحبوس وبقي إقرار المحبوس بالدار لزيد والثاني: أنه لا يحكم بها لزيد وتباع في الدين لأن بينة صاحب الدين شهدت للمحبوس بالملك وله بقضاء الدين من ثمنها فإذا أكذبها المحبوس سقطت البينة في حقه ولم تسقط في حق صاحب الدين. فصل: ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله وهم الأطفال فإذا ادعى رجل أنه وصي للميت لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم الوصية فإن أقام على ذلك بينة فإن كان عدلاً قوياً أقر على الوصية وإن كان فاسقاً لم يقر على الوصية لأن الوصية ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية وإن كان عدلاً ضعيفاً ضم إليه غيره ليتقوى به وإن أقام يبنة أن الحاكم الذي كان قبله أنقذ الوصية إليه أقره ولم يسأله عن عدالته لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو عدل فإن كان

وصياً في تفرقة ثلثه فإن لم يفرقه فالحكم في إقراره على الوصية على ما ذكرناه وإن كان قد فرقه فإن كان عدلاً لم يلزمه شيء وإن كان فاسقاً فإن كانت الوصية لمعينين لم يلزمه شيء لأنه دفع الموصي به إلى مستحقه وإن كانت الوصية لغير معينين ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يغرم لأنه دفع الماس إلى مستحقه فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين والثاني: أنه يغرم ما فرق لأنه فرق ما لم يكن له تفرقته فغرمه كما لو فرق ما جعل تفرقته إلى غيره. فصل: ثم ينظر في اللقطة والضوال وأمر الأوقاف العامة وغيرها من المصالح ويقدم الأهم فالأهم لأنه ليس لها مستحق معين فتعين على الحاكم النظر فيها.

باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود

باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود إذا حضر الخصوم واحداً بعد واحد قدم الأول فالأول لأن الأول سبق إلى حق له فقدم على من بعده كما لو سبق إلى موضع مباح وإن حضروا في وقت واحد أو سبق بعضهم واشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب القديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن ثبت السبق لأحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز لأن الحق له فجاز أن يؤثر به غيره كما لو سبق إلى منزل مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة لأنا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس بدعاويه وأضر بالباقين وإن حضر مسافرون ومقيمون في وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون قليلاً وهم على الخروج قدموا لأن عليهم ضرراً في المقام ولا ضرر على المقيمين وحكى بعض أصحابنا فيه وجهاً آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم في الحضور وظاهر النص هو الأول وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثرلم يجز تقديمهم من غير رضى المقيمين لأن في تقديمهم إضراراً بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر وإن تقدم إلى الحاكم اثنان فادعى أحدهما: على الآخر حقاً فقال المدعي قدم السابق بالدعوى لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق بالدعوى حق السبق فقدم. فصل: وعلى الحاكم أن يسوي بين الخصمين في الدخول والإقبال عليهما والاستماع منهما لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء

بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده" وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ولأنه إذا قدم أحدهما: على الآخر في شيء من ذلك انكسر الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين القاضي ولأن ذلك أمكن لخطابهما وإن كان أحدهما: مسلماً والآخر ذمياً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في الدخول والإقبال عليهما والإسماع منهما والثاني: أنه يرفع المسلم على الذمي في المجلس وأجلس علياً كرم الله وجهه فيه فقال علي كرم الله وجهه لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسووا بينهم في المجالس" لجلست معه بين يديك ولا يضيف أحدهما: دون الآخر لما روي أن رجلاً نزل بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال له: ألك خصم قال: نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يضيفن أحد الخصمين إلا ومعه خصمه" ولأن في إضافة أحدهم إظهار الميل وترك العدل ولا يسار أحدهما: ولا يلقنه حجة لما ذكرناه ولا يأمر أحدهما: بإقرار لأن فيه إضراراً به ولا بإنكار لأن فيه إضراراً بخصمه وإن ادعى أحدهما: دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعي فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه والثاني: أنه لا يجوز لأنه ينكسر قلب الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته وله أن يزن عن أحدهما: ما عليه لأن في ذلك نفعاً لهما وله أن يشفع لأحدهما: لأن الإجابة إلى المشفوع إليه إن شاء

شفعه وإن شاء لم يشفعه وإن مال قلبه إلى أحدهما: أو أحب أن يفلح أحدهما: على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا فعل جاز لأنه لا يمكن التسوية بينهما في المحبة والميل بالقلب ولهذا قلنا يلزمه التسوية بين النساء في القسم ولا يلزمه التسوية بينهن في المحبة والميل بالقلب. فصل: ولا ينتهر خصماً لأن ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة وإن ظهر من أحدهما: لدد أو سوء أدب نهاه فإن عاد زبره وإن عاد عزره ولا يزجر شاهداً ولا يتعنته لأن ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفي ذلك تضييع للحقوق. فصل: فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما: صاحبه إلى مجلس الحكم وجبت عليه إجابته لقوله تعال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب عليه أن يعديه لأنه إذا لم يعده أدى ذلك إلى إبطال الحقوق فإن استدعاه الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره وإن كان بينه وبين غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب في موضع فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن حاكم وهناك من يتوس بينهم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضي به ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعي دعواه لأنه لا مشقة عليه في الحضور فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلي بقيس بن

مكشوح في وثاق فأحلفه خمسين يوماً على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قتل دادويه ولأنا لولم نلزمه الحضور جعل البعد طريقاً إلى إبطال الحقوق فإن استعداه على امرأة فإن كانت برزة فهي كالجل لأنها كالرجل في الخروج للحاجات وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها وإن توجهت عليها يمين بعض إليها من يحلفها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع إقرارها ولم يكلفها الحضور.

باب صفة القضاء

باب صفة القضاء إذا حضر عند القاضي خصمان وادعى أحدهما: على الآخر حقاً يصح فيه دعواه وسأل القاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه طالبه وإن لم يسأله مطالبة الخصم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للقاضي مطالبته لأن ذلك حق للمدعي فلا يجوز استيفاؤه من غير إذنه والثاني: وهو المذهب أنه يجوز له مطالبته لأن شاهد الحال يدل على الإذن في المطالبة فإن طولب لم يخل إما أن يقرأ أو ينكر أولا يقر ولا ينكر فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي لأن الحكم حق فلا يستوفيه من غير إذنه فإن طالبه بالحكم حكم له عليه وإن أنكر فإن كان المدعي لا يعلم أن له إقامة البينة قال له القاضي ألك بينة وإن كان يعمل فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن لم تكن له بينة وكانت الدعوى في غير دم فله أن يحلف المدعى عليه ولا يجوز للقاضي إحلافه إلا بمطالبة المدعي لأنه حق له فلا يستوفيه من غير إذنه وإن أحلفه قبل المطالبة لم يعتد بها لأنها يمين قبل وقتها وللمدعي أن يطالب بإعادتها لأن اليمين الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعى عليه ثم أراد أن يحلفه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه من اليمين وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة أيتا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي وقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو

يمينه" قال إنه لا يتورع عن شيء فقال: "ليس له إلا ذلك" فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه فإن ابتدأ وقال امتنعت لأنظر في الحساب أمهل ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة ولا يمهل أكثر منها لأنها مدة كثيرة فإن لم يذكر عذراً لامتناعه جعله ناكلاً ولا يقضى عليه بالحق بنكوله لأن الحق إنما يثبت بالإقرار أو البينة والنكول ليس بإقرار ولا بينة فإن بذلك اليمين بعد النكول لم يسمع لأن بنكوله ثبت للمدعي حق وهو اليمين فلم يجز إبطاله عليه فإن لم يعلم المدعي أن اليمين صارت إليه قال له القاضي أتحلف وتستحق وإن كان يعمل فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن قال أحلف ردت اليمين عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق وروي أن المقداد استقرض من عثمان مالاً فتحاكما إلى عمر فقال المقداد هو أربعة آلاف وقال عثمان سبعة آلاف فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف فقال عمر: إنه أنصفك فلم يحلف عثمان فلما ولى المقداد قال عثمان: والله لقد أقرضته سبعة آلاف فقال عمر: لم لم تحلف فقال: خشيت أن يرافق ذلك به قدر بلاء فيقال بيمينه واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى في نكول المدعي عليه مع يمين المدعي فقال في أحد القولين هما بمنزلة البينة لأنه حجة من جهة المدعي وقال في القول الآخر هما بمنزلة الإقرار وهو الصحيح لأن النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين ترتب عليه وله فصار كإقراره فإن نكل المدعي عن اليمين سئل عن سبب نكوله والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث لم يسأل عن سبب نكوله أن بنكول المدعى عليه وجب للمدعي حق في رد اليمين والقضاء له فلم يجز سؤال المدعى عليه وبنكول المدعي لم يجب لغيره حق فيسقط بسؤاله فإن سئل فذكر أنه امتنع من اليمين لأن له بينة يقيمها وحساباً ينظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في المدة ويترك ما ترك المدعى عليه يتأخر حق المدعي في الحكم له وبترك المدعي لا يتأخر إلا حقه وإن قال امتنعت لأني لا أختار أن أحلف كم بنكوله فإن بذل اليمين بعد النكول لم يقبل في هذه الدعوى لأنه أسقط حقه منها فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه وطلب يمينه حلف فإن حلف ترك وإن نكل ردت اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له لأنها يمين في غير

الدعوى التي حكم فيها بنكوله فإن كان له شاهد واختار أن يحلف المدعى عليه جاز وتنتقل اليمين إلى جنبة المدعى عليه فإن أراد أن يحلف مع شاهده لم يكن له في هذا المجلس لأن اليمين انتقلت عنه إلى جنبة غيره فلم تعد إليه فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى جاز أن يقيم الشاهد ويحلف معه لأن حكم الدعوى الأولى قد سقط وإن حلف المدعى عليه في الدعوى الأولى سقطت عنه المطالبة وإن نكل عن اليمين لم يقض عليه بنكوله وشاهد المدعي لأن للشاهد معنى تقوى به جنبة المدعي فلم يقض به مع النكول من غير يمين كاللوث في القسامة وهل ترد اليمين على المدعي ليحلف مع الشاهد فيه قولان: أحدهما: أنه لا ترد لأنها كانت في جنبته وقد أسقطت وصارت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت إلى المدعي فنكل فإنها لا ترد على المدعى عليه والقول الثاني: وهو الصحيح أنها ترد لأن هذه اليمين غير الأول لأن سبب الأولى قوت جنبة المدعي بالشاهد وسبب الثانية قوة جنبته بنكول المدعى عليه واليمين الأولى لا يحكم بها إلا في المال وما يقصد به المال والثانية: يقضي بها في جميع الحقوق التي تسمع فيها الدعوى فلم يكن سقوط إحداهما موجباً لسقوط الأخرى فإن قلنا إنها لا ترد حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأنه تعين عليه ذلك وإن قلنا إنها ترد حلف مع الشاهد واستحق. فصل: وإن كانت الدعوى في موضع لا يمكن رد اليمين على المدعى بأن ادعى على رجل ديناً ومات المدعي ولا وارث له غير المسلمين وأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ففيه وجهان ذكرهما أبو سعيد الإصطخري: أحدهما: أنه يقضي بنكوله لأنه لا يمكن رد اليمين على الحاكم لأنه لا يجوز أن يحلف عن المسلمين لأن اليمين لا تدخلها النيابة ولا يمكن ردها على المسلمين لأنهم لا يتعينون فقضى بالنكول لموضع الضرورة والثاني: وهو المذهب أنه يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأن الرد لا يمكن لما ذكرناه والقضاء بالنكول لا يجوز لما قدمناه لأنه إما أن يكون صادقاً في إنكاره فلا ضرر عليه في اليمين أو كاذباً فيلزمه الإقرار وإن ادعى وصي ديناً لطفل في حجره على رجل وأنكر الرجل ونكل عن اليمين وقف إلى أن يبلغ الطفل فيحلف لأنه لا يمكن

رد اليمين على الوصي لأن اليمين لا تدخلها النيابة ولا على الطفل في الحال لأنه لا يصح يمينه فوجب التوقف إلى أن يبلغ. فصل: وإن كان للمدعي بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه لأنها حجة لا تهمة فيها لأنها من جهة غيره واليمين حجة يتهم فيها لأنها من جهته ولا يجوز سماع البينة ولا الحكم بها إلا بمسألة المدعي لأنه حق له فلا يستوفي إلى بإذنه فإن قال المدعى عليه أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعناً في البينة العادلة وإن قال أبراني منه فحلفوه أنه لم يبرئني منه أو قضيته فحلفوه إني لم أقضه حلف لأنه ليس في ذلك قدح في البينة وما يدعيه محتمل فحلف عليه وإن كانت البينة غير عادلة قال له القاضي زدني في شهودك وإن قال المدعي لي بينة غائبة وطلب يمين المدعى عليه أحلف لأن الغائبة كالمعدومة لتعذر إقامتها فإن حلف المدعى عليه ثم حضرت البينة وطلب سماعها والحكم بها وجب سماعها والحكم بها لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ولأن البينة كالإقرار ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين فكذلك بالبينة وإن قال لي بينة حاضرة ولكني أريد أن أحلفه حلف لأنه قد يكون له غرض في إحلافه بأن يتورع عن اليمين فيقر وإثبات الحق بالإقرار أقوى وأسهل من إثباته بالبينة وإن قال ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة أو قال كل بينة تشهد لي فهي كاذبة وطلب إحلافه فحلف ثم أقام البينة على الحق ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنها لا تسمع لأنه كذبه بقوله والثاني: أنه إن كان هو الذي استوثق بالبينة لم تسمع لأنه كذبها وإن كان غيره المستوثق بالبينة سمعت لأنه لم يعلم بالبينة فرجع قوله لا بينة لي إلى ما عنده والثالث أنها تسمع بكل حال وهو الصحيح لأنه يجوز أن يكون ما علم وإن علم فلعله نسي فرجع قوله لا بينة لي إلى ما يعتقده. فصل: وإن قال المدعي لي بينة بالحق لم يجز له ملازمة الخصم قبل حضورها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". وإن شهد له شاهدان عدلان عند الحاكم وهولا يعلم أن له دفع البينة بالجرح قال له قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي وقد أطردتك جرحهما وإن كان يعلم فله أن يقول وله أن يسكت فإن

قال المشهود عليه لي بينة بجرحهما نظر فإن لم يأت بها حكم عليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له حقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى ولا ينظر أكثر من ثلاثة أيام لأنه كثير وفيه إضرار بالمدعي وإن قال لي بينة بالقضاء أو الإبراء أمهل ثلاثة أيام فإن لم يأت بها حلف المدعي أنه لم يقضه ولم يبرئه ثم يقضي له لما ذكرناه وله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بالجرح أو القضاء لأن الحق قد ثبت له في الظاهر وإن شهد له شاهدان ولم تثبت عدالتهما في الباطن فسأل المدعي أن يحبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وهو ظاهر المذهب أنه يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم الفسق والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يحبس لأن الأصل براءة ذمته وإن شهد له شاهد واحد وسأل أن يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ففيه قولان: أحدهما: أنه يحبس كما يحبس إذا جهل عدالة الشهود والثاني: أنه لا يحبس وهو الصحيح لأنه لم يأت بتمام البينة ويخالف إذا جهل عدالتهم لأن البينة تم عددها والظاهر عدالتها وقال أبو إسحاق: إن كان الحق مما يقضي فيه بالشاهد واليمين حبس قولاً واحداً لأن الشاهد الواحد حجة فيه لأنه يحلف معه. فصل: وإذا علم القاضي عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعمله في قبوله ورده وإن علم حال المحكوم فيه نظرت فإن كان ذلك في حق الآدمي ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام للحضرمي: "شاهداك أو يمينه ليس له إلا ذلك" ولأنه لو كان علمه كشهادة اثنين لانعقد النكاح به وحده والثاني: وهو الصحيح وهو اختيار المزني رحمه الله أنه يجوز أن يحكم بعلمه لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو

سمعه" 1 ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى وإن كان ذلك في حق الله تعالى ففيه طريقان: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة أنها على قولين كحقوق الآدميين والثاني: وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه قولاً واحداً لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره ودرئه والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "هلا سترته بثوبك يا هزال". فلم يجز الحكم فيه بعلمه. فصل: وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر قال له الحاكم إن أجبت وإلا جعلتك ناكلاً والمستحب أن يقول له ذلك ثلاثاً فإن لم يجب جعله ناكلاً وحلف المدعي وقضى له لأنه لا يخلوا إذا أجاب أن يقر أو ينكر فإن أقر فقد قضى عليه بما يجب على المقر وإن أنكر فقد وصل إنكاره بالنكول عن اليمين فقضينا عليه بما يجب على المنكر إذا نكل عن اليمين. فصل: وإذا تحاكم إلى الحاكم أعجمي لا يعرف لسانة لم يقبل في الترجمة إلا عدلين لأنه إثبات قول يقف الحكم عليه فلم يقبل إلا من عدلين كالإقرار وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد والمرأتين قبل ذلك في الترجمة وإن كان مما لا يقبل فيه إلا ذكرين لم يقبل في الترجمة إلا ذكرين فإن كان إقراراً بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنه يثبت بشاهدين والثاني: أنه لا يثبت إلا بأربعة. فصل: وإن حضر رجل عند القاضي وادعى على غائب عن البلد أو على حاضر فهرب أو على حاضر في البلد استتر وتعذر إحضاره فإن لم يكن بينة لم يسمع دعواه لأن استماعها لا يفيه وإن كانت معه بينة سمع دعواه وسمعت بينته لأنا لولم نسمع جعلت الغيبة والاستتار طريقاً إلى إسقاط الحقوق التي نصب الحاكم لحفظها ولا يحكم عليه إلا أن يحلف المدعي أنه لم يبرئ من الحق لأنه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة إقراء أو قضاء أو حوالة ولهذا لو حضر من عليه الحق وادعى البراء بشيء من ذلك

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 26. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 20. أحمد في مسنده 3/5، 19.

سمعت دعواه وحلف عليه المدعي فإذا تعذر حضوره وجب على الحاكم أن يحتاط له ويحلف عليه المدعي وإن ادعى على حاضر في البلد يمكن إحضاره ففيه وجهان: أحدهما: أنه تسمع الدعوى والبينة ويقضى بها بعد ما يحلف المدعي لأنه غائب عن مجلس الحكم فجاز القضاء عليه كالغائب عن البلد المستتر في البلد والثاني: أنه لا يجوز سماع البينة عليه ولا الحكم وهو المذهب لأنه يمكن سؤاله فيه يجوز القضاء عليه قبل السؤال كالحاضر في مجلس الحكم وإن ادعى على ميت سمعت البينة وقضى عليه فإن كان له واره كان إحلاف المدعي إليه وإن لم يكن له وارث فعلى الحاكم أن يحلفه ثم يقضي له وإن كان على صبي سمعت البينة وقضى عليه بعدما يحلف المدعي لأنه تعذر الرجوع إلى جوابه فقضى عليه مع يمين المدعي كالغائب والمستتر وإن حكم على الغائب ثم قدم أو على الصبي ثم بلغ كان على حجته في المدح في البينة والمعارضة بينة يقيمها على لا قضاء أو الإبراء. فصل: ويجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به ويجوز أن يكتب إليه فيما حكم به لينفذه لما روى الضحاك ابن قيس قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ولأن الحاجة تدعوا إلى كتاب القاضي إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به وفيما حكم به لينفذه فإن كان الكتاب فيما حكم به جاز قبول ذلك في المسافة القريبة والبعيدة لأن ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز قبوله إذا كان بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة ن لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود الكتاب كشاهد الأصل والشهود الذين يشهدون بما في الكتاب كشهود الفرع وشاهد الفرع لا يقبل مع قرب شاهد الأصل. فصل: ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان وقال أبو ثور يقبل من غير شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله وهذا خطأ لأن الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم فلا يؤمن أن يزور على الخط والختم وإذا أراد إنفاذ الكتاب أحضر شاهدين ويقرأ الكتاب عليهما أو يقرأ غيره وهو يسمعه والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحذف منه شيء وإن لم ينظرا جاز لأنهما يؤديان ما سمعا وإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا تشهدان هذا الكتاب

كتاب فلان إليك وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه وإن لم يقرآ الكتاب ولكنهما سلماه إليه وقالا نشهد أنه كتب إليك بهذا لم يجز لأنه ربما زور الكتاب عليهما وإن انكسر ختم الكتاب لم يضر لأن المعول على ما فيه وإن محى بعضه فإن كانا يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وإن لم يحفظاه ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لأنهما لا يعلمان ما امحى منه. فصل: وإن مات القاضي الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب والعمل به لأنه إن كان الكتاب بما حكم به وجب على كل من بلغه أن ينفذه في كل حال وإن كان الكتاب بما ثبت عنده فالكاتب كشاهد الأصل وشهود الكتاب كشاهد الفرع وموت شاهد الأصل لا يمنع من قبول شهادة شهود الفرع إن فسق الكاتب ثم وصل كتابه فإن كان ذلك فيما حكم به لم يؤثر فسقه لأن الحكم لا يبطل بالفسق الحارث بعده وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز الحكم به لأنه كشاهد الأصل وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم بشهادة شاهد الفرع وإن مات القاضي المكتوب إليه أو عزل أوولي غيره قبل الكتاب لأن المعول على ما حفظه شهود الكتاب وتحملوه ومن تحمل شهادة وجب على كل قاض أن يحكم بشهادته. فصل: فإن وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فحضر الخصم وقال لست فلان ابن فلان فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل أنه لا مطالبة عليه فإن أقام المدعي بينة أنه فلان ابن فلان فقال أنا فلان بن فلان إلا أني غير المحكوم عليه لم يقبل قوله إلا أن يقيم البينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به لأن الأصل عدم من يشاركه فلم يقبل قوله من غير بينة وإن أقام بينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به توقف عن الحكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما وإذا حكم المكتوب إليه على المدعى عليه بالحق فقال المحكوم عليه اكتب إلى الحاكم الكاتب إنك حكمت علي حتى لا يدعي علي ثانياً ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يلزمه لأنه لا يأمن أن يدعي ثانياً ويقيم عليه البينة فيقضي عليه ثانياً والثاني: أنه لا يلزمه لأن الحاكم إنما يكتب ما حكم به أوثبت عنده والكاتب هو الذي حكم أوثبت عنده دون المكتوب إليه.

فصل: إذا ثبت عند القاضي حق بالإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار لزمه ذلك لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر فلزمه الإشهاد ليكون حجة له إذا أنكر وإن ثبت عنده الحق بيمين المدعي غير الإشهاد وإن ثبت عنده الحق بالبينة فسأله المدعي الإشهاد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب لأن له بالحق بينة فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى والثاني: أنه يلزمه لأن في إشهاده على نفسه تعديلاً لبينته وإثباتاً لحقه وإلزاماً لخصمه فإن ادعى عليه حقاً فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى وإن سأله أن يكتب له محضراً في هذه المسائل كلها وهو أن يكتب ما جرى وما ثبت به الحق فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأته المحكوم له بقرطاس لم يلزمه أن يكتب لأن عليه أن يكتب وليس عليه أن يغرم وإن كان عنده قرطاس من بيت المال أو أتاه صاحب الحق بقرطاس فهل يلزمه أن يكتب المحضر فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه وثيقة بالحق فلزمه كالإشهاد على نفسه والثاني: أنه لا يلزمه لأن الحق يثبت باليمين أو بالبينة دون المحضر وإن سأله أن يسجل له وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر ويشهد على إنفاذه ويسجل له فهل يلزم ذلك أم لا على ما ذكرناه في كتب المحضر وما يكتب من المحاضر والسجلات يكتب في نسختين إحداهما تسلم إلى المحكوم له والأخرى تكون في ديوان الحكم فإن حضر عند القاضي رجلان لا يعرفهما وحكم بينهما ثم سأل المحكوم له كتب محضر أو سجل كتب حضر إلي رجلان قال أحدهما: أنا فلان بن فلان وقال الآخر: أنا فلان بن فلان ويحليهما ويذكر ما جرى بينهما ويشهد على ذلك. فصل: وإن اجتمعت عنده محاضر وسجلات كتب على كل محضر اسم المتداعيين ويضم ما اجتمع منها في كل شهر أوفي كل سنة على قدر قلتها وكثرتها وضم بعضها إلى بعض ويكتب عليها محاضر شهر كذا وكذا من سنة كذا ليسهل عليه طلبته إذا احتاج إليه وإن حضر رجلان عند القاضي فادعى أحدهما: أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه فوجدها فإن كان حكماً حكم به غيره لم يشمل به إلا أن يشهد به شاهدان أن هذا حكم به فلان القاضي ولا يرجع في ذلك إلى الخط والختم فإنه يحتمل التزوير في الخط والختم وإن كان حكماً حكم هو به فإن كان ذاكراً للحكم به عالماً به عمل به وألزم الخصم حكمه وإن كان غير ذاكر لم يعمل به لأنه يجوز أن يكون قد زور على

خطه وختمه وإن شهد اثنان عليه أنه حكم به لم يرجع إلى شهادتهما لأنه يشك في فعله فلا يرجع فيه إلى قول غيره ما لو شك في فرض من فروض صلاته فإن شهد الشاهدان على حكمه عند حاكم آخر أنفذ ما شهدا به فإن شهد شاهدان أن الأول توقف في شهادتهما لم يجز للثاني أن ينفذ الحكم الذي شهدا به لأن الشهود فرع للحاكم الأول فإذا توقف الأصل لم يجز الحكم بشهادة الفرع كما لو شهد شاهدان على شهادة شاهد الأصل ثم شهد شاهدان أن شاهد الأصل توقف في الشهادة. فصل: إذا اتضح الحكم للقاضي بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح فإن لم يفعلا لم يجز تردادهما لأن الحكم لازم فلا يجوز تأخيره من غير رضا من له الحكم. فصل: إذا قال القاضي حكمت لفلان بكذا قبل قوله لأنه يملك الحكم فقبل الإقرار به كالزوج لما ملك الطلاق قبل إقراره به وإن عزل ثم قال حكمت لفلان بكذا لم يقبل إقراره لأنه لا يملك الحكم فلم يملك الإقرار به وهل يكون شاهداً في ذلك فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يكون شاهداً لأنه ليس فيه أكثر من أنه يشهد على فعل نفسه وذلك لا يوجب رد شهادته كما لو قالت امرأة أرضعت هذا الصبي والثاني: وهو المذهب أنه لا يكون شاهداً لأن شهادته بالحكم تثبت لنفسه العدالة لأن الحكم لا يكون إلا من عدل فتلحقه التهمة في هذه الهادة فلم تقبل وخالف المرضعة لأن شهادتها بالرضاع لا تثبت عدالة لنفسها لأن الرضاع يصح من غير عدل ولأن المغلب في الرضاع فعل المرتضع ولهذا يصح به دونها والمغلب في الحكم فعل الحاكم فيكون شهادته على فعله فلم يقبل. وبالله التوفيق.

باب القسمة

باب القسمة تجوز قسمة الأموال المشتركة لقوله عز وجل: {وَإذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [النساء: 8] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب يقال له الصفراء وقسم غنائم خيبر على ثمانية عشر بينهم وقسم غنائم حنين بأوطاس وقيل بالجعرانة ولأن الشرطاء حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في ماله على الكمال ويتخلص من كثرة الأيدي وسوء المشاركة. فصل: ويجوز لهم أن يتقاسموا بأنفسهم ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم ويجوز أن يرفعوا إلى الحاكم لينصب من أنفسهم بينهم ويجب أن يكون القاسم عالماً بالقسمة

ليوصل كل واحد منهم إلى حقه كما يجب إن كان الحاكم عالماً ليحكم بينهم بالحق فإن كان القاسم من جهة الحاكم لم يجز أن يكون فاسقاً ولا عبداً لأنه نصيبه لألزام الحكم فلم يجز أن يكون فاسقاً ولا عبداً كالحاكم فإن لم يكن فيها تقويم جاز قاسم واحد وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من اثنين لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين وإن كان فيها خرص ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون الخارص واحداً والثاني: أنه يجب أن يكون الخرص اثنين. فصل: فإن كان القاسم نصبه الحاكم كانت أجرته من سهم المصالح لما روي أن علياً رضي الله عنه أعطى القاسم من بيت المال ولأنه من المصالح فكانت أجرته من سهم المصالح فإن لم يكن في بيت المال شيء وجبت على الشركاء على قدر أملاكهم لأنه مؤنة تجب لمال مشترك فكانت على قدر الملك كنفقة العبيد والبهائم المشتركة وإن كان القاسم نصبه الشركاء جاز أن يكون فاسقاً وعبداً لأنه وكيل لهم وتجب أجرته عليهم على ما شرطوا لأنه أجير لهم. فصل: وإن كان في القسمة رد فهو بيع لأن صاحب الرد بذل المال في مقابلة ما حصل له من حق شريكه عوضاً وإن لم يكن فيها رد ففيه قولان: أحدهما: أنها بيع لأن كل جزء من المال مشترك بينهما فإذا أخذ نصف الجميع فقد باع حقه بما حصل له من حق صاحبه والقول الثاني أنها فرز النصيبين وتمييز الحقين لأنها لو كانت بيعاً لم يجز تعليقه على ما تخرجه القرعة ولأنها لو كانت بيعاً لافتقرت إلى لفظ التمليك ولثبتت فيها الشفعة ولما تقدر بقدر حقه كسائر البيوع فإن قلنا إنها بيع لم يجز فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار وإن قلنا إنها فرز النصيبين جاز وإن قسم الحبوب والأدهان فإن قلنا إنها بيع لم يجز أن يتفرقا من غير قبض ولم يجز قسمتها إلا بالكيل كما لا يجوز في البيع وإن قلنا إنها فرز النصيبين لم يحرم التفرق فيها قبل التقابض ويجوز قسمتها بالكيل والوزن وإن كانت بينهما ثمرة على شجرة فإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز قسمتها خرصاً كما لا يجوز بيع بعضها ببعض خرصاً وإن قلنا إنها تمييز الحقين فإن كانت ثمرة غير الكرم والنخل لم تجز قسمتها لأنها لا يصح فيها الخرص وإن كانت ثمرة النخل والكرم جاز لأنه يجوز خرصها للفقراء في الزكاة فجاز للشركاء.

فصل: وإن وقف على قوم نصف أرض وأراد أهل الوقف أن يقاسموا صاحب الطلق فإن قلنا إن القسمة بيع لم يصح وإن قلنا إنها تمييز الحقين نظرت فإن لم يكن فيها رد صحت وإن كان فيها رد فإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم يتنازعون الطلق وإن كان من أصحاب الطلق لم يجز لأنهم يتنازعون الوقف. فصل: وإن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت فإن لم يكن على واحد منهم ضرر في القسمة كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة وما تساوت أجزاؤه من الأرض والدور أجبر الممتنع لأن الطالب يريد أن ينتفع بماله على الكمال وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأخذ فوجبت إجابته إلى ما طلب وإن كان عليهما ضرر كالجواهر والثياب المرتفعة التي تنقص قيمتها بالقطع والرحى الواحدة والبشر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" 1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه وإن كان على أحدهما: ضرر دون الآخر نظرت فإن كان الضرر على الممتنع أجبر عليها وقال أبو ثور رحمه الله: لا يجبر لأنها قسمة فيها ضرر فلم يجبر عليها كما لو دخل الضرر عليهما وهذا خطأ لأنه يطلب حقاً له فيه منفعة فوجبت الإجابة إليه وإن كان على المطلوب منه ضرر كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقضي به دينه وإن كان الضرر على الطالب دون الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجبر لأنه قسمة لا ضرر فيها على أحدهما: فأجبر الممتنع كما لو كان الضرر على الممتنع دون الطالب والثاني: أنه لا يجبر وهو الصحيح لأنه يطلب مالا يستضر به فلم يجبر الممتنع ويخالف إذا لم يكن على الطالب ضرر لأنه يطلب ما ينتفع به وهذا يطلب ما يستضر به وذلك سفه فلم يجبر الممتنع. فصل: وإن كان بينهما دور أو أراض مختلفة في بعضها نخل وفي بعضها شجر،

_ 1 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 17. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 31. أحمد في مسنده 5/327.

أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقي بالناضح وطلب أحدهما: أن يقسم بينهما أعياناً بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين قسم كل عين لأن كل واحد منهما له حق في الجميع فجاز له أن يطالب بحقه في الجميع وإن كان بينهما عضائد متلاصقة وأراد أحدهما: أن يقسم أعياناً وطلب الآخر أن يقسم كل واحد منهما على الإنفراد ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم أعياناً كالدار الواحدة إذا كان فيها بيوت والثاني: أنه يقسم كل واحدة منهما لأن كل واحدة على الإنفراد فقسم كل واحد منهما كالدور المتفرقة. فصل: فإن كان بينهما دار وطلب أحدهما: أن تقسم فيجعل العلو لأحدهما: والسفل للآخر وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع لأن العلو تابع للعرصة في القسمة ولهذا لو كان بينهما عرصة وطلب أحدهما: القسمة وجبت القسمة ولو كان بينهما غرفة فطلب أحدهما: القسمة لم يجب ولا يجوز أن يجعل التابع في القسمة متبوعاً فصل: وإن كان بين ملكهما عرصة حائط فأراد أن تقسم طولاً فيجعل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن طلب أحدهما: ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها لأنه لا ضرر فيها وإن أرادا قسمتها عرضاً في كمال الطول واتفقا عليه جاز وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجبر لأنه لا تدخله القرعة لأنه إذا أقرع بينهما ربما صار بهما مال كل واحد منهما إلى ناحية ملك الآخر ولا ينتفع به وكل قسمة لا تدخلها القرعة لا يجبر عليها كالقسمة التي فيها رد والثاني: وهو الصحيح أنه لا يجبر عليها لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد من الشريكين أن ينتفع بحصته إذا قسم فأجبر على القسمة كما لو أرادا أن يقسماها طولاً فإن كان بينهما حائط فأراد قسمته نظرت فإن أراد قسمته طولاً في كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن أراد ذلك واحد وامتنع الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجبر لأنه لا بد من قطع الحائط وفي ذلك إتلاف والثاني: أنه يجبر وهو الصحيح لأنه تمكن قسمته على وجه ينتفعان به فأجبرا عليها كالعرصة فإن أرادا قسمته عرضاً في كمال الطول واتفقا عليها جاز وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر لأن ذلك إتلاف وإفساد. فصل: وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها قوي وبعضها ضعيف أو بعضها شجر أو بناء وبعضها بياض أو بعضها يسقي بالسيح

وبعضها بالناضح نظرت فإن أمكن التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فإذا قسمت بينهما نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد والرديء مثل ما صار إلى الآخر من الجيد والرديء فطلب أحدهما: هذه القسمة أجبر الآخر عليها لأنها كالأرض المتساوية الأجزاء في إمكان التسوية بينهما فيها وإن لم تمكن التسوية بينهما في الجيد والرديء بأن كانت العمارة أو الشجر أو البناء في أحد النصفين دون الآخر نظرت فإذا أمكن أن يقسم قسمة تعديل بالقيمة بأن تكون الأرض ثلاثين جريباً وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريباً من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع جيدها بقيمة عشرين جريباً من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع لتعذر التساوي في الزرع وتوقف القسمة إلى أن يتراضيا والقول الثاني: أنه يجبر لوجود التساوي بالتعديل فعلى هذا في أجرة القسام وجهان: أحدهما: أنه يجب على كل واحد منهما نصف الأجرة لأنهما يتسايان في أصل الملك والثاني: أنه يجب على صاحب العشرة ثلث الأجرة وعلى صاحب العشرين ثلثاها لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة وإن أمكن قسمته بالتعديل وقسمة الرد فدعا أحدهما: إلى قسمة التعديل ودعا الأخ إلى قسمة الرد فإن قلنا إن قسمة التعديل يجبر عليها فالقول قول من دعا إليها لأن ذلك مستحق وإن قلنا لا يجبر وقف إلى أن يتراضيا على إحداهما. فصل: وإن كانت بينهما أرض مزروعة وطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع وجبت القسمة لأن الزرع لا يمنع القسمة في الأرض فلم يمنع وجوبها كالقماش في الدار وإن طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع لم يجبر لأن الزرع لا يمكن تعديله فإن تراضيا على ذلك فإن كان بذراً لم يجز قسمته لأنه مجهول وإن كان مما لا ربا فيه كالقصل والقطن جاز لأنه معلوم مشاهد وإن كان قد انعقد فيه الحب لم يجز لأنا إن قلنا إن القسمة بيع لم يجز لأنه بيع أرض وطعام بأرض وطعام ولأنه قسمة مجهول ومعلوم وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين لم يجز لأنه قسمة مجهول ومعلوم. فصل: وإن كان بينهما عبيد أو ماشية أو أخشاب أو ثياب فطلب أحدهما قسمتها أعياناً وامتنع الآخر فإن كانت متفاضلة لم يجبر الممتنع وإن كانت متماثلة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق وأبي سعيد الإصطخري أنه يجبر الممتنع وهو

ظاهر المذهب لأنها متماثلة والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يجبر الممتنع لأنها أعيان مختلفة فلم يجبر على قسمتها أعياناً كالدور المتفرقة. فصل: وإن كان بينهما منافع فأرادا قسمتها مهايأة وهو أن تكون العين في يد أحدهما: مدة ثم في يد الآخر مثل تلك المدة جاز لأن المنافع كالأعيان فجاز قسمتها كالأعيان وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع ومن أصحابنا من حكى فيه وجهاً آخر أنه يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان والصحيح أنه لا يجبر لأن حق كل واحد منهما تعجل فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة ويخالف الأعيان فإنه لا يتأخر بالقسمة حق كل واحد فإذا عقدا على مدة اختص كل واحد منهما بمنفعة تلك المدة وإن كان يحتاج إلى النفقة كالعبد والبهيمة كانت نفقته على من يستوفي منفعته وإن كسب العبد كسباً معتاداً في مدة أحدهما: كان لمن هو في مدته وهل تدخل فيها الأكساب النادرة كاللقطة والركاز والهبة والوصية فيه قولان: أحدهما: أنها تدخل فيها لأنه كسب فأشبه المعتاد والثاني: أنها لا تدخل فيها لأن المهايأة بيع لأنه يبيع حقه من الكسب في أحد اليومين بحقه في اليوم الآخر والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه في العادة والنادر لا يقدر على تسليمه في العادة فلم يدخل فيه فعلى هذا يكون بينهما. فصل: وينبغي للقاسم أن يحصي عدد أهل السهام ويعدل السهام بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد فإن تساوى عددهم وسهامهم كثلاثة بينهم أرض أثلاثاً فله أن يكتب الأسماء ويخرج على السهام وله أن يكتب السهام ويخرج على الأسماء فإن كتب الأسماء كتبها في ثلاث رقاع في كل رقعة اسم واحد من الشركاء ثم يأمر من لم يحضر كتب الرقاع والبندقة أن يخرج رقعة على السهم الأول فمن خرج اسمه أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فمن خرج اسمه أخذه وتعين السهم الثالث للشريك الثالث فإن كتب السهام كتب في ثلاث رقاع في رقعة السهم الأول وفي رقعة السهم الثاني وفي رقعة السهم الثالث ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم أحد الشركاء أي سهم خرج أخذه ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم آخر فأي سهم خرج أخذه الثاني ثم يتعين السهم الباقي للشريك الثالث وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها

أسداساً وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها أسداساً ويكتب الأسماء ويخرج على السهام فيأمر أن يخرج على السهم الأول فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والذي يليه لأن له سهمين وتعين الباقي لصاحب النصف وإن خرجت الرقعة الأولى على اسم صاحب النصف أخذ السهم الأول واللذين يليانه وهو الثاني والثالث ثم يخرج على السهم الرابع فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه والسهم الذي يليه وهو الخامس وتعين السهم السادس لصاحب السدس وإنما قلنا إنه يأخذ مع الذي يليه لينتفع بما يأخذه ولا يستضر به ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء لأنا لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران بل نأخذه وسهمين بعده فيؤدي إلى الخلاف والخصومة. فصل: وإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم وسألاه أن ينصب من يقسم بينهما فقسم قسمة إجبار لم يعتبر تراضي الشركاء لأنه لما لم يعتبر التراضي في ابتداء القسمة لم يعتبر بعد خروج القرعة فإن نصب الشريكان قاسماً فقسم بينهما فالمنصوص أنه يعتبر التراضي في ابتداء القسمة وبعد خروج القرعة وقال في رجلين حكما رجلاً ليحكم بينهما ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزم الحكم ولا يعتبر رضاهما والثاني: أنه لا يلزم الحكم إلا برضاهما والقاسم ههنا بمنزلة هذا الحاكم لأنه نصبه الشريكان فيكون على قولين: أحدهما: وهو المنصوص أنه يعتبر الرضى بعد خروج القرعة لأنه لما اعتبر الرضى في الإبتداء اعتبر بعد خروج القرعة والثاني: أنه لا يعتبر لأن القاسم مجتهد في تعديل السهام والإقراع فلم يعتبر الرضى بعد حكمه كالحاكم وإن كان في القسمة رد وخرجت القرعة لم تلزم إلا بالتراضي وقال أبو سعيد الإصطخري: تلزم من غير تراض كقسمة الإجبار وهذا خطأ لأن في قسمته الإجبار لا يعتبر الرضى في الإبتداء وههنا يعتبر فاعتبر بعد القرعة. فصل: إذا تقاسما أرضاً ثم ادعى أحدهما: غلطاً فإن كان في قسمة إجبار لم يقبل قوله من غير بينة لأن القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من غير بينة كالحاكم فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة وإن كان في قسمة اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضي دون حقه ناقصاً وإن قسم بينهما قاسم نصباه فإن قلنا إنه يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة لم تقبل دعواه لأنه رضي بأخذ الحق ناقصاً وإن قلنا إنه لا يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة فهو كقسمة الإجبار فلا يقبل قوله إلا

ببينة فإن كان في القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب وعلى قول أبي سعيد الإصطخري هو كقسمة الإجبار فلم يقبل قوله إلا ببينة. فصل: وإن تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في دار اقتسماها فادعى كل واحد منهما أنه في سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا في المتبايعين وإن وجد أحدهما: بما صار إليه عيناً فله الفسخ كما قلنا في البيع. فصل: إذا اقتسما أرضاً ثم استحق مما صار لأحدهما: شيء بعينه نظرت فإن استحق مثله من نصيب الآخر أمضيت القسمة وإن لم يستحق من حصة الآخر مثله بطلت القسمة لأن لمن استحق جزء مشاع بطلت القسمة في المستحق وهل تبطل في الباقي فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يبني على تفريق الصفقة فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق بطلت القسمة في الجميع وإن قلنا إنها تفرق صحت في الباقي والثاني: وهو قول أبي إسحاق أن القسمة تبطل في الباقي قولاً واحداً لأن القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لأن المستحق صار شريكاً لكل واحد منهما فبطلت القسمة. فصل: وإذا قسم الوارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبني على بيع التركة قبل قضاء الدين وفيه وجهان ذكرناهما في التفليس فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين لم تنقض القسمة وإن قلنا إنها بيع ففي نقضها وجهان. والله أعلم.

باب الدعوى والبينات

باب الدعوى والبينات لا تصح دعوى مجهول في غير الوصية لأن القصد بالحكم فصل الحكومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول فإن كان المدعي ديناً ذكر الجنس والنوع والصفة وإن ذكر قيمتها كان أحوط وإن كانت العين تالفة فإن كان لها مثل ذكر صفتها وإن ذكر القيمة كان أحوط وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها وإن كان المدعى سيفاً محلى أو لجاماً محلى فإن كان بفضة قومه بالذهب وإن كان بالذهب قومه بالفضة وإن محلى بالذهب والفضة قومه بما شاء منهما وإن كان المدعى مالاً عن وصية جاز أن يدعي مجهولاً لأن بالوصية يملك المجهول ولا يلزم في دعوى المال ذكر السبب الذي

ملك به لأن أسبابه كثيرة فيشق معرفة سبب كل درهم فيه وإن كان المدعى قتلاً لزمه ذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره ويذكر صفة العمد لأن القتل لا يمكن تلافيه فإذا لم يبين لم تؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص وإن كان المدعى نكاحاً فقد قال الشافعي رحمه الله لا يسمع حتى يقول نكحتها بولي وشاهدين ورضاها فمن أصحابنا من قال: لا يشترط لأنه دعوى ملك فلا يشترط فيه ذكر السبب كدعوى المال وما قال الشافعي رحمه الله ذكره على سبيل الاستحباب كما قال في امتحان الشهود إذا ارتاب بهم ومنهم من قال: إن ذلك شرط لأنه مبني على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه فشرط في دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل ومنهم من قال إن كان يدعي ابتداء النكاح لزمه ذكره لأنه شرط في الابتداء وإن كان يدعي استدامة النكاح لم يشترط لأنه ليس بشرط في الاستدامة وإن ادعت امرأة على رجل نكاحاً فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة سمعت دعواها وإن لم تدع حقاً سواه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج على المرأة فإذا ادعت المرأة كان ذلك إقراراً والإقرار لا يقبل مع إنكار المقر له كما لو أقرت له بدار والثاني: أنه تسمع لأن النكاح يتضمن حقوقاً لها فصح دعواها فيه وإن كان المدعى بيعاً أو إجارة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه ن لأن المقصود به المال فلم يفتقر إلى ذكر شروطه كدعوى المال والثاني: أنه يفتقر لأنه لا يقصد به غير المال وإن كان في جارية افتقر لأنه يملك به الوطء فأشبه النكاح وما لزم ذكره في الدعوى ولم يذكره سأله الحاكم عنه ليذكره فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها. فصل: وإن ادعى عليه مالاً مضافاً إلى سببه فإن ادعى عليه ألفاً اقترضه أو أتلف عليه فقال: ما أقرضني أو ما أتلفت عليه صح الجواب لأنه أجاب عما ادعى عليه وإن لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق علي شيئاً صح الجواب ولا يكلف إنكار ما ادعى عليه من القرض أو الإتلاف لأنه يجوز أن يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه فإن أنكره كان كاذباً في إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله أنه قضاه أو أبرأه منه فيستضر به وإن أنكر الاستحقاق كان صادقاً ولم يكن عليه ضرر. فصل: وإن ادعى على رجل ديناً في ذمته فأنكره ولم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى

ناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه" 1 ولأن الأصل براءة ذمته فجعل القول قوله وإن ادعى عيناً في يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه". ولأن الظاهر من اليد الملك فقبل قوله وإن تداعيا عيناً في يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما نصفين لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما: بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ولأن يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول فيه قوله كما لو كانت العين في يد أحدهما. فصل: وإن تداعيا عيناً ولأحدهما: بينة وهي في يدهما أوفي يد أحدهما: أوفي غيرهما حكم لمن له البينة لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه". فبدأ بالحكم بالشهادة ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما: قضى لمن له اليد من غير يمين ومن أصحابنا من قال: لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها والحجتان إذا تعارضتا ومع إحداهما ترجيح قضى بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما: قياس وإن كانت العين في يد أحدهما: فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين إليه ثم قام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه لأنا حكمنا للآخر ظناً منا أنه لا بينة له فإذا أتى بالبينة بان أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر. فصل: وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين في يدهما أوفي يد غيرهما أولا يد لأحدهما: عليها تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان وهو الصحيح لأنهما حجتان تعارضتا ولا مزية لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالنصين في الحادثة فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما والثاني: أنهما يستعملان

_ 1 رواه البخاري في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 3. مسلم في كتاب الأقضية حديث 1. النسائي في كتاب القضاة باب 36. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 7. أحمد في مسنده 1/343.

وفي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال أحدها: أنه يوقف الأمر إلى أن ينكشف أو يصطلحا لأن إحداهما صادقة والأخرى كاذبة ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما: بعد الآخر ونسي السابق منهما والثاني: أنه يقسم بينهما لأن البينة حجة كاليد ولو استويا في اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا في البينة والثالث: أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما. فصل: وإن كانت بينة أحدهما: شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما متعارضتان وفيهما القولان لأن الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم ما زاد سواء وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الأخرى فهما متعارضتان وفيهما القولان ولأنهما متساويتان في إثبات الحق وإن كانت بينة أحدهما: شاهدين وبينة الآخر شاهداً وامرأتين فهما متعارضتان وفيهما القولان لأنهما يتساويان في إثبات المال والقول الثاني أنه يقضى لمن له الشاهدان لأن بينته مجمع عليها وبينة الآخر مختلف فيها. فصل: وإن كانت العين في يد غيرهما فشهد بينة أحدهما: بأنه ملكه من سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان: قال في البويطي: هما سواء لأن القصد إثبات الملك في الحال وعما متساويتان في إثبات الملك في الحال والقول الثاني أن التي شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزني هو الصحيح لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة الأخرى وأما إذا كان الشيء في يد أحدهما: فإن كان في يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له وإن كان في يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس رحمه الله يبنى على القولين في المسألة قبلها إن قلنا إنهما يتساويان حكم لصاحب اليد وإن قلنا إن التي شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضاً لأن الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح باليد ومن أصحابنا من قال: يحكم به لمن هو في يده قولاً واحداً لأن اليد الموجودة أولى من الشهادة بالملك المتقدم وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما: بينة أنها ملكه نتجت في ملكه وأقام الآخر أنها دابته ولم يذكر المتقدم وفيها قولان لأن الشهادة بالنتاج كشهادته بالملك المتقدم وقال أبو إسحاق يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولاً واحداً لأن بينة النتاج تنفي أن يكون الملك لغيره والبينة بالملك المتقدم لا تنفي أن يكون الملك قبل ذلك لغير المشهود له.

فصل: إذا ادعى رجل داراً في يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت في يده أوفي ملكه أمس فقد نقل المزني والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة وحكى البويطي أنه يحكم بها فقال أبو العباس فيها قولان: أحدهما: أنه يحكم بذلك لأنه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك والقول الثاني أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لأنه ادعى ملك الدار في الحال وشهدت له البينة بما لم يدعه فلم يحكم بها كما لو ادعى داراً فشهدت له البينة بدار أخرى وقال أبو إسحاق: لا يحكم بها قولاً واحداً وما ذكره البويطي من تخريجه. فصل: وإن ادعى رجل على رجل داراً في يده وأقر بها لغيره نظرت فإن صدقه المقر له حكم له لأنه مصدق فيما في يده وقد صدقه المقر له فحكم له وتنتقل الخصومة إلى المقر له فإن طلب المدعي يمين المقر أنه لا يعلم أنها له ففيه قولان بناء على من أقر بشيء في يده لغيره ثم أقر به لآخر وفيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يغرم للثاني والثاني: لا يلزمه فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لأنه ربما خاف أن يحلف فيقر للثاني فيغرم له وإن قلنا لا يلزمه لم يحلف لأنه إن خاف من اليمين فأقر للثاني لم يلزمه شيء فلا فائدة في تحليفه وإن كذبه المقر له ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد صاحبها لأن الذي في يده لا يدعيها والمقر له أسقط إقراره بالتكذيب وليس للمدعي بينة فلم يبق إلا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يسلم إلى الدعي لأنه ليس ههنا من يدعيه غيره وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى وإن أقر بها لغائب ولا بينة وقف الأمر إلى أن يقدم الغائب لأن الذي في يده لا يدعيها ولا بينة تقضي بها فوجب التوقف فإن طلب المدعي يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى ما ذكرناه من القولين وإن كان للمدعي بينة قضي له وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لأنا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها ملك للغائب ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحتاج أن يحلف لأنه قضاء على الحاضر وهو المدعى عليه وإن كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص أنه يحكم ببينة المدعي وتسلم إليه ولا يحكم ببينة المدعى عليه وإن كان معها يد لأن بينة صاحب اليد إنما يقضي بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم بنينته وحكى أبو إسحاق رحمه الله عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان المقر للغائب يدعي أن الدار في يده وديعة أو عارية لم تسمع

بينته وإن كان يدعي أنها في يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها لأنه يدعي لنفسه حقاً فسمعت بينته فيصح الملك للغائب ويستوفي بها حقه من المنفعة وهذا خطأ لأنه إذا لم تسمع البينة في إثبات الملك وهو الأصل فلأن لا تسمع لإثبات الإجارة وهي فرع على الملك أولى وإن أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان: وأحدهما: أنه يقال له إقرارك لمجهول لا يصح فإما أن تقر بها لمعروف أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلاً ويحلف المدعي ويقضي له والثاني: أن يقال له إما أن تقربها لمعروف أو نجعلك ناكلاً ولا يقبل دعواه لنفسه لأنه بإقراره لغيره نفي أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد. فصل: إذا ادعى جارية وشهدت البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لأنها قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها في ملك غيره ثم يملك الأمة دونها فتكون ابنة أمته ولا تكون له وإن شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها في ملكه فقد قال الشافعي رحمه الله: حكمت بذلك وذكر في الشهادة بالملك المتقدم قولين فنقل أبو العباس جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين وقال سائر أصحابنا: يحكم بها ههنا قولاً واحداً وهناك على قولين والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك فلم تقبل حتى يثبت في الحال والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث في ملكه فلم يفتقر إلى إثبات الملك في الحال وإن ادعى غزلاً أو طيراً أو آجراً وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير من بيضه والآجر من طينه قضي له لأن الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته. فصل: إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منذ سنتين وأقام على ذلك بينة قضى ببينة الابتياع لأن بينة الملك شهدت بالملك على الأصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفي على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل. فصل: وإن كان في يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لأنه ابتاعها من مالكها وإن شهدت له البينة أنه ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الاشهادة ولم تؤخذ الدار ممن هي في يده لأنه قد يبيع الإنسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد. فصل: وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده وأقام الذي في يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا يد له لأن الدار المستأجرة في مالك المؤجر وبيده وليس للمستأجر إلا الانتفاع فتصير كما لو كانت في يده

وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه. فصل: وإن تداعى رجلان داراً في يد ثالث فشهد لأحدهما: شاهدان أن الذي في يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى للمغصوب منه لأنه ثبت بالبينة أنه غاصب وإقرار الغاصب لا يقبل فحكم بها للمغصوب منه. فصل: إذا ادعى رجل أنه ابتاع داراً من فلان ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ أحدهما: في رمضان وتاريخ الآخر في شوال قضى لمن ابتاعها في رمضان لأنه ابتاعها وهي في ملكه والذي ابتاعها في شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها وإن كان تاريخهما واحداً أو كان تاريخهما مطلقاً أو تاريخ أحدهما: مطلقاً وتاريخ الآخر مؤرخاً فإن كانت الدار في يد أحدهما: قضى له لأن معه بينة ويداً وإن كانت في يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا أنهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد منهما يميناً عل الانفراد وقضى له وإن أقر لأحدهما: سلمت إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعلت لهما نصفين وهل يحلف كل واحد منهما للآخر على النصف الآخر على القولين وإن قلنا أنهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما: ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لأن الدار في يده فإذا أقر لأحدهما: فقد نقل يده إلي فتصير له يد وبينة وقال أكثر أصحابنا: لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لأن البينتين اتفقتا على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم بينهما في الثاني فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف. فصل: وإن ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة فإن كانت في يد أجنبي أوفي يد أحد البائعين وقلنا على المذهب الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا أنهما يسقطان رجع إلى من هو في يده فإن ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما وإن أقر لأحدهما: سلم إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه وهل يحلف للآخر على النصف الآخر على

القولين وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم بينهما في القول الثاني فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاعه ولا يجيء الوقف لأن العقود لا توقف. فصل: وإن كان في يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة فإن كانت البينتان بتاريخ واحد تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: إنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإذا قلنا أنهما يسقطان رجع إلى قول من هي في يده فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له وإن أقر لأحدهما: لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولاً واحداً لأنه لو أقر له بعد إقراره للأول لزمه له الألف لأنه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف قولاً واحداً وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم في القول الثاني ولا يجيء الوقف لأن العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين مختلفين بأن شهدت بينة أحدهما: بعقد في رمضان وبينة أحدهما: في شوال لزمه الثمنان لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه في رمضان من أحدهما: ثم باعه واشتراه من الآخر في شوال وإن كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه الثمنان لأنه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه في وقتين مختلفين والثاني: أنهما يتعارضان فيكون على القولين لأنه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان ويحتمل أن يكونا في وقت واحد والأصل براءة الذمة. فصل: وإن ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق لأن بينة الملك شهدت بالأصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفي على بينة الملك فقدمت على بينة الملك وإن كان في يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة وادعى العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى بأسبق التصرفين لأن السابق منهما يمنع صحة الثاني فقدم عليه وإن لم يعرف السابق منهما تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان ويرجع إلى من في يده العبد وإن كان كذبهما حلف لكل واحد منهما يميناً على الانفراد وإن صدق أحدهما: قضى لمن صدقه والقول الثاني أنهما يستعملان فيقرع بينهما في أحد الأقوال فمن خرجت له القرعة قضى له ويقسم في القول الثاني: فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف. فصل: قال في الأم: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر فأقام العبد بينة أنه قتل وأقام الورثة بينة أنه مات ففيه قولان: أحدهما: أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبد

لأن بينة القتل تثبت القتل وتنفي الموت وبينة الموت تثبت الموت وتنفي القتل فتسقطان ويبقى العبد على الرق والثاني: أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لأن بينة الورثة تشهد بالموت وبينة العبد تشهد بالقتل لأن المقتول ميت ومعها زيادة صفة وهي القتل فقدمت وإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لغانم: إن مت في رمضان فأنت حر وإن قال لسالم: إن مت في شوال فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة أنه مات في رمضان وأقام سالم بينة بالموت في شوال ففيه قولان: أحدهما: أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان لأن الموت في رمضان ينفي الموت في شوال والموت في شوال ينفي الموت في رمضان فيسقطان وبقي العبدان على الرق والقول الثاني أنه تقدم بينة الموت في رمضان لأنه يجوز أن يكون قد علمت البينة بالموت في رمضان وخفي ذلك على البينة الأخرى إلى شوال فقدمت بينة رمضان لما معها من زيادة العلم وإن قال لغانم إن مت من مرضي فأنت حر وقال لسالم: إن برئت من مرضي فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه وأقام سالم بينة بأنه بريء من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان لأن بينة أحدهما: أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والأخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقي العبدان على الرق. فصل: وإن اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أوفي مدة الإجارة فإن لم يكن بينة فالحكم في التحالف والفسخ على ما ذكرناه في الفسخ في البيع وإن كان لأحدهما: بينة قضي له وإن كان لكل واحد منهما يبنة نظرت فإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالأول منهما لأن العقد الأول يمنع صحة العقد الثاني وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخاً واحداً أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فهما متعارضتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضي له ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف ولا يجيء القول بالقسمة لأنهما يتنازعان في عقد والعقد لا يمكن قسمته وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه إذا كان الاختلاف في قدر المدة أوفي قدر الأجرة قضي بالبينة التي توجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه ألفاً وشهدت بينة أن له عليه ألفين وهذا خطأ لأن الشهادة بالألف لا تنفي الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة الأخرى تعارض وههنا أحد البينتين ينفي ما شهدت به البينة الأخرى لأنه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد بالعوض الآخر فتعارضتا.

فصل: إذا ادعى رجلان داراً في رجل وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما كالإرث عن ميت والابتياع في صفقة فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما: شاركه الآخر لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منهما ولهذا لو كان طعاماً فهلك بعضه كان هالكاً منهما وكان الباقي بينهما فإذا جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما وإن ادعيا ولم يعزيا إلى سبب فأقر لأحدهما: بنصفها لم يشاركه الآخر لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء منه. فصل: وإن ادعى رجلان داراً في يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر الذي هي في يده بجميعها لأحدهما: نظرت فإن كان قد سمع من المقر له الإقرار للمدعي الآخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لأنه أقر بذلك فإذا صار إليه لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجل بعين ثم صارت العين في يده وإن لم يسمع منه إقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع لأنه يجوز أن يكون لجميع له ودعواه للنصف صحيح لأن من له الجميع فله النصف ويجوز أن يكون قد خص النصف بالدعوى لأن على النصف بينة أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنتقل الخصومة إليه مع المدعي الآخر في النصف وإن قال الذي في يده الدار نصفها لي والنصف الآخر لا أعلم لمن هو ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يترك النصف في يده لأنه أقر لمن لا يدعيه فبطل الإقرار وبقي على ملكه والثاني: أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لأن الذي في يده لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال والثالث أنه يدفع إلى المدعي الآخر لأنه يدعيه وليس له مستحق آخر وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى. فصل: إذا مات رجل وخلف ابناً مسلماً وابناً نصرانياً وادعى كل واحد منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة فإن عرف أنه كان نصرانياً نظرت فإن كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الإسلام لأن من شهد بالنصرانية شهد بالأصل والذي شهد بالإسلام شهد بأمر حادث خفي على من شهد بالنصرانية فقدمت شهادته كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل فإن شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الإسلام وشهدت الأخرى بأنه مات وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصراني لأن الظاهر معه والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له

القرعة ورث وإن قلنا بالوقف وقف وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم كما يقسم في غير الميراث والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه إذا قسم بينهما تيقن الخطأ في توريثهما وفي غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركاً بينهما فقسم وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين وفيها قولان: أحدهما: أنهما تسقطان فإن كان المال في يد غيرهما فالقول قول من في يده المال وإن كان في يديهما كان بينهما وإن قلنا أنهما يستعملان فإن قلنا يقرع أقرع بينهما وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف وإن قلنا يقسم قسم وقال أبو إسحاق لا يقسم لأنه يتيقن الخطأ في توريثهما والمنصوص أنه يقسم وما قاله أبو إسحاق خطأ لأنه يجوز أن يموت وهو نصراني فورثه ابناه وهما نصرانيان: ثم أسلم أحدهما: وادعى أن أباه مات مسلماً ليأخذ الجميع ويغسل الميت ويصلي عليه في المسائل كلها ويدفن في مقابر المسلمين وينوي بالصلاة عليه وإن كان مسلماً كما قلنا في موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار. فصل: وإن مات رجل وخلف ابنين واتفق الابنان أن أباهما مات مسلماً وأن أحد الابنين أسلم قبل موت الأب واختلفا في الآخر فقال: أسلمت أنا أيضاً قبل موت أبي فالميراث بيننا وأنكر الآخر فالقول قول المتفق على إسلامه لأن الأصل بقاؤه على الكفر ولو اتفقا على إسلامهما واختلفا في وقت موت الأب فقال أحدهما: مات أبي قبل إسلامك فالميراث لي وقال الآخر: بل مات بعد إسلامي أيضاً فالقول قول الثاني لأن الأصل حياة الأب وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال الأبوان مات كافراً وقال الابنان: مات مسلماً فقد قال أبو العباس يحتمل قولين: أحدهما: أن القول قول الأبوين لأنه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد محكوماً بكفره إلى أن يعلم الإسلام والثاني: أن الميراث بوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الأمر لأن الولد إنما يتبع الأبوين في الكفر قبل البلوغ فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه ويحتمل أنه كان مسلماً ويحتمل أنه كان كافراً فوقف الأمر إلى أن ينكشف. فصل: وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار في يد رجل فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل الخبرة بأنه مات وأنه لا وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هي في يده ويسلم إلى الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب وإن كان له دين في الذمة قبض الحاضر نصفه وفي نصيب الغائب وجهان: أحدهما: أنه يأخذه الحاكم ويحفظ عليه كالعين والثاني: أنه لا يأخذه لأن كونه

في الذمة أحفظ له لا يطالب الحاضر فيما يدفع إليه بضمين لأن في ذلك قدحاً في البينة وإن لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثاً سواه لم يدفع إليه شيء حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها فيسأل هل له وارث آخر؟ فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه قال الشافعي رحمه الله: يأخذ منه ضميناً وقال في الأم: وأحب أن يأخذ منه ضميناً فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه يجب أخذ الضمين لأنه ربما ظهر وارث آخر والثاني: أنه يستحب ولا يجب لأن الظاهر أنه لا وارث له غيره ومنهم من قال: إن كان الوارث ممن يحجب كالأخ والعم وجب وإن كان ممن لا يحجب كالابن استحب لأن من لا يحجب يتيقن أنه وارث ويشك فيمن يزاحمه فلم يترك اليقين بالشك ومن يحجب يشك في إرثه وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان الوارث غير مأمون وجب لأنه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر وإن كان مأموناً لم يجب لأنه لا يضيع حق من يظهر وحمل القولين على هذين الحالين وإن كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين فإن شهد الشهود أنه لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل الفرضين ولا يؤخذ منه ضمين وإن لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من أهل الخبر دفع إليه أنقص الفرضين فإن كان زوجاً دفع إليه ربع المال عائلاً وإن كان زوجة دفع إليها ربع الثمن عائلاً ويوقف الباقي فإن لم يظهر وارث آخر دفع إليه الباقي. فصل وإن ماتت امرأة وابنها فقال زوجها: ماتت فورثها الابن ثم مات الابن فورثته وقال أخوها: بل مات الابن أولاً فورثته الأم ثم ماتت فورثتها لم يورث ميت من ميت بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج والأخ لأنه لا يرث إلا من تيقن حياته عند موت مورثه وههنا لا تعرف حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما: من الآخر كالغرقى. فصل: وإن مات رجل وله دار وخلف ابناً وزوجة فادعى الابن أنه تركها ميراثاً وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار وأقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الزوجة على بينة الإرث لأن بينة الإرث تشهد بظاهر الملك المتقدم وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث. فصل: وإن تداعى رجلان حائطاً بين داريهما فإن كان مبنياً على تربيع إحداهما مساوياً لها في السم والحد ولم يكن بناؤه مخالفاً لبناء الدار الأخرى ولم تكن بينة لأحدهما: فالقول قول من بنى على تربيع داره لأن الظاهر أنه بني لداره وإن كان لأحدهما

أزج فالقول قوله لأن الظاهر أنه بني للأزج وإن كان مطلقاً وهو الذي لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل بينهما لأنه متصل بالملكين اتصالاً واحداً وإن كان لأحدهما: عليه جذوح ولم يقدم على الآخر بذلك لأنهما لو تنازعا فيه قبل وضع الجدوع كان بينهما ووضع الجدوع يجوز أن يكون بإذن من الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجدوع على حائط الجار بغير رضاه يلزم ما تيقناه بأمر محتمل كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار في يد أجنبي. فصل: وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف كل واحد منهما وجعل بينهما لأنه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط بين الدارين فإن تنازعا في الدرجة فإن كان تحتها مسكن فهي بينهما لأنهما متساويان في الانتفاع بها وإن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان ويجعل بينهما لأنهما يرتفقان بها والثاني: أنه يحلف صاحب العلو ويقضي له لأن المقصود بها منفعة صاحب العلو وإن تداعيا سلماً منصوباً حلف صاحب العلو وقضي له لأنه يختص بالانتفاع به في الصعود وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة في الدهليز ففيه وجهان: أحدهما: أنها بينهما لأن لكل واحد منهما يداً ولهذا لو تنازعا في أصل الدار كانت بينهما والثاني: أنه لصاحب السفل لأنها في يده ولهذا يجوز أن تمنع صاحب العلو من الاستطراق فيها. فصل: وإن تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما: وأرض الآخر حلفا وجعل بينهما لأن فيها منفعة لصاحب النهر لأنها تجمع الماء في النهر ولصاحب الأرض منها منفعة لأنها تمنع الماء من أرضه. فصل: وإن تداعى رجلان دابة وأحدهما: راكبها والآخر آخذ بلجامها حلف الراكب

وقضى له وقال أبو إسحاق رحمه الله هي بينهما لأن كل واحد منهما لو انفرد لكانت له والصحيح هو الأول لأن الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضي له وإن تداعيا عمامة وفي يد أحدهما: منها ذراع وفي يد الآخر الباقي حلفا وجعلت بينهما لأن يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة وإن تداعيا عبداً ولأحدهما: عليه ثياب حلف وجعل بينهما ولا يقدم صاحب الثياب لأن منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب. فصل: وإن كان في يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده فإن صدقه حكم له بالملك وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر الحرية وإن كان طفلاً لا يميز فالقول قول المدعي لأنه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة وإن بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله لأنا حكمنا له بالملك فلا يسقط بإنكاره وإن جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسبه بمجرد دعواه لأن فيه إضراراً بصاحب الملك لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا ثبت نسب لمن يدعي النسب سقط حق ولائه وإن كان مراهقاً وادعى أنه مملوكه مع إنكاره كالبالغ والثاني: أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لأنه لا حكم لقوله. فصل: وإن تداعى الزوجان متاع البيت الذي يسكنانه ولا بينة حلفا وجعل الجميع بينهما نصفين لأنه في يدهما فجعل بينهما كما لو تداعيا الدار التي يسكنان فيها وإن تداعى المكري والمكتري المتاع الذي في الدار المكراة فالقول قول المكتري لأن يده ثابتة على ما في الدار وإن تداعيا سلماً غير مسمر فهو للمكتري لأنها متصلة بالدار فصارت كأجزائها وإن كانت غير مسمرة فقد قال الشافعي رحمه الله بأنهما يتحالفان وتجعل بينهما لأن الرفوف قد تترك في العادة وقد تنقل عنها فيجوز أن تكون للمكتري ويجوز أن تكون للمكري فجعل بينهما. فصل: ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفعه لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير إذنه لأن الخيار فيما يقضي به الدين إلى من عليه الدين ولا يجوز أن يأخذ إلا ما يعطيه وإن أخذ بغير إذنه لزمه رده فإن تلف ضمنه لأنه أخذ مال غيره بغير حق وإن كان ممتنعاً من أدائه فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم، فله

أن يأخذ من ماله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" وفي منعه من أخذ ماله في هذا الحال إضرار به وإن كان يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يأخذه لأنه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن يأخذه بنفسه والثاني: وهو المذهب أنه يجوز لأن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما آخذه سراً فقال عليه السلام: "وخذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فأذن لها في الأخذ مع القدرة على الأخذ بالحاكم ولأن عليه في المحاكمة مشقة فجاز له أخذه فإن كان الذي قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز أن يتملكه لأنه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه ولكن يبيعه ويصرف ثمنه في حقه وفي كيفية البيع وجهان: أحدهما: أنه يواطئ رجلاً ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم المال عليه والثاني: وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لأنه يتعذر عليه أن يثبت الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه فإن تلفت العين قبل البيع ففيه وجهان: أحدهما: أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لأنها محبوسة لاستيفاء حقه منها فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن والوجه الثاني أنها تتلف من ضمان صاحب الحق لأنه أخذها بغير إذن المالك فتلفت من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه.

باب اليمين في الدعاوي

باب اليمين في الدعاوي إذا ادعى رجل على رجل حقاً فأنكره ولم يكن للمدعي بينة فإن كان ذلك في غير الدم تحلف المدعى عليه فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي وقد بينا ذلك في باب الدعاوي وإن كانت الدعوى في دم ولم يكن للمدعي بينة فإن كان في قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعي خمسين يميناً وقضى له بالدية والدليل عليه ما روى سهل بن أبي جثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح في فقير أوعين ماء فأتى يهوداً، فقال

أنتم والله قتلتموه قالوا: والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكبر الكبر" فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب من الله ورسوله". فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: "أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم" فقالوا: لا قال: "أيحلف لكم يهود" قالوا: لا ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء ولأن باللوث تقوى جنبة المدعي ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعي إذا شهد له عدل وحلف معه وإن كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان: قال في القديم يجب القود بأيمان المدعي لأنها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة وقال في الجديد: لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله" فذكر الدية ولم يذكر القصاص ولأنه حجة لا يثبت بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين فإن قلنا بقوله القديم وكانت الدعوى على جماعة وجب القود عليهم وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا يقتل إلا واحد يختاره والقسامة على هذا القول كالبينة في إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة. فصل: وإن كان المدعي جماعة ففيه قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً لأن ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوي والقول الثاني أنه يقسط عليهم الخمسون يميناً على قدر مواريثهم لأنه لما قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الأيمان أيضاً على قدر مواريثهم وإن دخلها كسر جبر الكسر لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فكملت فإن نكل المدعي عن اليمين ردت اليمين على المدعى عليه فيحلف خمسين يميناً لقوله عليه الصلاة والسلام: "يبرئكم يهود متهم بخمسين يمينا". ولأن

التغليظ بالعدد لحرمة النفس وذلك يوجد في يمين المدعي والمدعى عليه وإن كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والثاني: أن الخمسين تقسط على عددهم والصحيح من القولين ههنا أن يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والصحيح من القولين في المدعين أنهم يحلفون خمسين يميناً والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفي عن نفسه ما ينفيه لو انفرد وليس كذلك المدعون فإن كان واحد منهم لا يثبت لنفسه ما يثبته إذا انفرد. فصل: فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه". ولأن اليمين إنما جعلت في جنبة المدعي عند اللوث لقوة جنبته باللوث فإذا عدم اللوث حصلت القوة في جنبة المدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته وعدم القتد فعادت اليمين إليه وهل تغلظ بالعدد فيه قولان: أحدهما: أنها لا تغلظ بل يحلف يميناً واحدة وهو اختيار المزني لأنها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما في سائر الدعاوي والثاني: أنها تغلظ فيحلف خمسين يميناً وهو الصحيح لأن التغليظ بالعدد لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يميناً واحدة فإن نكلوا ردت اليمين على المدعي فإن كان واحداً حلف يميناً واحدة وإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم يميناً واحدة وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحداً حلف خمسين يميناً وإن كانوا جماعة فعلى القولين: أحدهما: أنه يحلف كل واحد خمسين يميناً والثاني: أنه يقسط على عدد رؤوسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعي فإن كان واحداً حلف خمسين يميناً وإن كانوا جماعة فعلى القولين: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والثاني: أنه يقسط عليهم خمسون يميناً على قدر مواريثهم من الدية وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعي وقضي له فإن كان في قتل يوجب المال قضي له بالدية وإن كان في قتل يوجب القصاص وجب القصاص قولاً واحداً لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين وكالإقرار في القول الآخر والقصاص يجب بكل واحد منهما. فصل: وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما: لوث دون الآخر حلف المدعي على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذي لا لوث عليه لعدم اللوث وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لأنها دعوى محال، وإن

ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعي خمسين يميناً فإن حضر الثاني وأنكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحلف عليه خمسين يميناً لأنهما لو حضرا ذكر كل واحد منهما في يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره والوجه الثاني أنه يحلف خمساً وعشرين يميناً لأنهما لو حضرا حلف عليهما خمسين يميناً فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين فإن حضر الثالث وأنكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحلف عليه خمسين يميناً والثاني: أنه يحلف عليه ثلث خمسين يميناً ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يميناً وإن قال قتله هذا عمداً ولا أعلم كيف قتله الآخران أقسم على الحاضر وقف الأمر إلى أن يحضر الآخران فإن حضرا وأقرا بالعمد ففي القود قولان وإن أقرا بالخطأ وجب على الأول ثلث الدية مغلظة وعلى كل واحد من الآخرين ثلث الدية مخففة وإن أنكر القتل ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحلف لأنه لا يعلم ما يحلف عليه ولا يعلم الحاكم ما يحكم به والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يحلف لأن جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل فإذا حلف حبسا حتى يصفا القتل وإن قال قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم فإن قلنا إنه لا يجب القود لم يقسم على الحاضر لأنه لا يعلم ما يخصه وإن قلنا إنه يجب القود ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم لأن الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه ربما عفا عن القود على الدية ولا يعلم ما يخصه منها فصل: واللوث الذي يثبت لأجله اليمين في جنبة المدعي هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي فإن وجد القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم كان ذلك لوثاً فيحلف المدعي لأن قتيل الأنصار وجد في خيبر وأهلها أعداء للأنصار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين فصار هذا أصلاً لكل من يغلب معه على الظن صدق المدعي فيجعل القول قول المدعي مع يمينه وإن كان يخالطهم غيرهم لم يكن لوثاً لجواز أن يكون قتله غيرهم وإن تفرقت جماعة عن قتيل في دار أو بستان وادعى الولي أنهم قتلوه فهو لوث فيحلف المدعي أنهم قتلوه لأن الظاهر أنهم قتلوه وإن وجد قتيل في زحمة فهو لوث فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له وإن وجد قتيل في أرض وهناك رجل معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث فإن ادعى الولي عليه القتل حلف عليه لأن الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم يثبت اللوث على صاحب السيف لأنه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولي وإن

تقابلت طائفتان فوجد قتيل من إحدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة الأخرى فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية لأن الظاهر أنه لم تقتله طائفة وإن شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت فإن جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا لأنه يجوز أن يكونوا قد تواطئوا على الشهادة وإن جاءوا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت اللوث ويحلف الولي معهم وإن شهد صبيان أو فساق أو كفار على ترجل بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثاً لأنه جوز أن يكونوا قد تواطئوا على الشهادة فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك لوث لأن اتفاقهم على شيء واحد من غير تواطؤ يدل على صدقهم والثاني: أنه ليس بلوث لأنه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقلوهم لوثاً لجعلنا لخبرهم حكماً وإن قال المجروح قتلني فلان ثم مات لم يكن قوله لوثاً لأنه دعوى ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثاً فإن شهد عدل على رجل بالقتل فإن كانت الدعوى في قبل يوجب المال حلف المدعي يميناً وقضى له بالدية لأن المال يثبت بالشاهد واليمين وإن كانت في قتل يوجب القصاص حلف خمسين يميناً ويجب القصاص في قوله القديم والدية في قوله الجديد. فصل: وإن شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا لم يثبت القتل بشهادتهما لأنه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد وهل يكون ذلك لوثاً يوجب القسامة في جانب المدعي؟ قال في موضع يوجب القسامة وقال في موضع لا يوجب القسامة واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق: هو لوث يوجب القسامة قولاً واحداً لأنهما اتفقا على إثبات القتل وإنما اختفا في صفته وجعل القول الآخر غلطاً من الناقل وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل: إن ذلك ليس بلوث ولا يوجب القسامة قولاً واحداً لأن كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن صدق ما يدعيه والقول الآخر غلظ من الناقل ومنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما: أنه لوث يوجب القسامة والثاني: ليس بلوث ووجههما ما ذكرناه وإن شهد واحد أنه قتله فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما لأن أحدهما: شهد بالقتل والآخر شهد بالإقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فإن هناك كل واحد منهما يكذب الآخر وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر بل كل واحد منهما يقوب الآخر فيحلف المدعي مع من شاء منهما فإن كان القتل خطأ حلف يميناً واحدة وثبتت الدية فإن حلف مع من شهد بالقتل وجبت الدية على العاقلة لأنها تثبت بالبينة وإن حلف مع من شهد بالإقرار وجبت الدية في ماله لأنها تثبت بالإقرار وإن كان القتل

موجباً للقصاص حلف المدعي خمسين يميناً ووجب له القصاص في أحد القولين والدية في الآخر وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمداً ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم يكن ذلك لوثاً لأنه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث. فصل: وإن شهد شاهدان أن فلاناً قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا ثبت اللوث فيحلف الولي على من يدعي القتل عليه لأنه قد ثبت أن المقتول قتله أحدهما: فصار كما لو وجد بينهما مقتول فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث لأن اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعي ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق واحد من الوليين فلم يثبت في حقه لوث وإن ادعى أحد الوارثين قتل مورثه على رجل في موضع اللوث وكذبه الآخر سقط حق المكذب من القسامة وهل يسقط اللوث في حق المدعي فيه قولان: أحدهما: أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية وهو اختيار المزني لأن القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يقسم مع اللوث والقول الثاني: أنه يسقط لأن اللوث يدل على صدق المعي من جهة الظن وتكذيب المكر يدل على كذب المدعي من جهة الظن فتعارضا وسقطا وبقي القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه وإن قال أحد الابنين قتل أبي زيد ورجل آخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد على من عينه ويستحق عليه ربع الدية لأن كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الآخر هو الذي ادعى عليه أخوه فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو الذي ادعى عليه أخي أقسم كل واحد منهما على الذي ادعى عليه أخوه ويستحق عليه ربع الدية وإن قال كل واحد منهما علمت أن الآخر غير الذي اادعى عليه أخي صار كل واحد منهما مكذباً للآخر فإن قلنا إن تكذيب أحدهما: لا يسقط اللوث أقسم كل واحد منهما على الذي عينه ثانياً واستحق عليه ربع الدية وإن قلنا إن التكذيب يسقط اللوث بثلث القسامة فإن أخذ شيئاً رده ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعي من القسامة بإقراره وإقراره على نفسه لا يقبل لأن صاحب الدم لا يدعيه وهل للمدعي أن يرجع ويطالب المقر بالدية؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس له مطالبته لأن دعواه

على الأول إبراء لكل من سواه والثاني: أن له أن يطالب لأن دعواه على الأول باللوث من جهة الظن والإقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين وإن ادعى على رجل قتل العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزني أنه لا يقسم وروى الربيع أنه يقسم فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقسم لأن بقوله قتله عمداً أبرأ العاقلة وبتفسيره أبرأ القاتل والقول الثاني: أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة لأن المعول على التفسير وقد فسر بشبه العمد ومنهم من قال: يقسم قولاً واحداً لما بينا وقوله لا يقسم معناه لا يقسم على ما ادعاه. فصل: وإن كانت الدعوى في الجناية على الطرف ولم تكن شهادة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن اللوث قضى به في النفس بحرمة النفس فلا يقضي به في الطرف كالكفارة وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد؟ فيه قولان: أحدهما: لا تغلظ لأنه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد والثاني: أنه تغلظ بالعدد لأنه يجب فيه القصاص والدية المغلظة فوجب فيه تغليظ اليمين فإن قلنا لا نغلظ حلف المدعى عليه يميناً واحدة وإن قلنا تغلظ فإن كان في جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يميناً وإن كان فيما لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففي قدر التغليظ قولان: أحدهما: أنه يغلظ بخمسين يميناً لأن التغليظ لحرمة الدم وذلك موجود في اليد الواحدة والثاني: أنه تغلظ بحصته من الدية لأن ديته دون النفس فلم تغلظ بما تغلظ به في النفس. فصل: فإن كانت الدعوى في قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان: أحدهما: أنه يبني ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية؟ فإن قلنا تحمل العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد وإن قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة والثاني: وهو قول أبي العباس أن للسيد القسامة قولاً واحداً لأن القسامة لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم المكاتب في قتل عبده فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى وإن قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لأم ولده ولم يقسم السيد حتى مات ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد فيه قولان: أحدهما: تقسم والثاني: لا تقسم كما قلنا في غرماء الميت إذا كان له دين وله شاهد ولم تحلف الورثة أن الغرماء يقسمون في أحد القولين ولا يقسمون في الآخر وقد بينا ذلك في التفليس. فصل: وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعي لم يقسم لأنه إذا أقدم على الردة وهي من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة فإن أقسم صحت القسامة وقال المزني رحمه الله لا تصح لأنه كافر فلا يصح يمينه بالله وهذا خطأ لأن القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب فإذا أقسم وجب

القصاص لوارثه أو الدية فإن رجع إلى الإسلام كان له وإن مات على الردة كان ذلك لبيت المال فيئا وقال أبوعلي بن خيران وأبو حفص بن الوكيل: يبني وجوب الدية بقسامته على حكم ملكه فإن قلنا إن ملكه لا يزول بالردة أو قلنا أنه موقوف فعاد إلى الإسلام ثبتت الدية وإن قلنا إن ملكه يزول بالردة أو قلنا أنه موقوف فلم يسلم حتى مات لم تثبت الدية وهذا غلط لأن اكتسابه للمال يصح على الأقوال كلها وهذا اكتساب. فصل: ومن توجهت عليه يمين في م غلظ عليه في اليمين لما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام فقال أعلى دم؟ قيل لا قال: أفعلى عظيم من المال؟ قيل: لا قال: لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام وإن كانت اليمين في نكاح أو طلاق أوحد قذف أو غيرها مما ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال فغلظ اليمين فيه كالدم وإن كانت اليمين في مال أو ما يقصد به المال فإن كان يبلغ عشرين مثقالاً غلظ وإن لم يبلغ ذلك لم يغلظ لأن عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم وبين ما دونه فإن كانت اليمين في دعوى عتق فإن كان السيد هو الذي يحلف فإن كات قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالاً غلظ اليمين وإن لم تبلغ عشرين مثقالاً لم يغلظ لأن المولى يحلف لإثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش الجنايات فإن كان الذي يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لأنه يحلف إثبات العتق والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى القصاص ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الأرش أوفي طرف كثير الأرش. فصل: والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفي اللفظ فأما التغليظ بالمكان ففيه قولان: أحدهما: أنه يستحب والثاني: أنه واجب وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله أنه يستحب وقد بينا ذلك في اللعان وقال أكثر أصحابنا إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان وفيه قولان وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب وهو أن يقول والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلف رجلاً فقال: "قل والله الذي لا إله إلا هو". لأن القصد باليمين الزجر عن الكذب وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر وأمنع من الإقدام على الكذب وإن اقتصر على قوله والله أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في إحلاف ركانة على قوله والله وإن اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله: وعزة الله أجرأه لأنها بمنزلة قوله والله في الحنث في اليمين وإيجاب الكفارة وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن

فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف قال: ورأيت مطرفاً بصنعاء يحلف على المصحف قال الشافعي وهو حسن ولأن القرآن من صفات الذات ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة وإن كان الحالف يهودياً أحلفه الله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق وإن كان نصرانياً أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان مجوسياً أو وثنياً أحلفه بالله الذي خلقه وصوره. فصل: ولا يصح اليمين في الدعوى إلا أن يستحلفه القاضي لأن ركانة بن عبد يزيد قال لرسول الله: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيبة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة". قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة ولأن الاعتبار بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى ما لا يحنث به فيجعل ذلك طريقاً إلى إبطال الحقوق وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطاً أو وصله بكلام لم يفهمه أعاد عليه اليمين من أولها وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف الأمر إلى أن يفهم إشارته فإن طلب المدعي أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه لأن رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه ولا يوجد النكول فإن كان الذي عليه اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة فإن كان التغليظ غير مستحق لم يلزمه أن يحلف يميناً مغلظة وإن امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلاً. فصل: وإن حلف على فعل نفسه في نفي أو إثبات حلف على القطع لأن علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل وإن حلف على فعل غيره فإن كان في إثبات حلف على القطع لأن له طريقاً إلى العلم بما فعل غيره وإن كان على نفي حلف على نفي العلم فيقول والله لا أعلم أن أبي أخذ منك مالاً ولا أعلم أن أبي أبرأك من دينه لأنه لا طريق له إلى القطع بالنفي فلم يكف اليمين عليه. فصل: وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق عليه شيء ولم يتعرض للبيع والقرض لم يحلف إلا على ما أجاب ولا يكلف أن يحلف على نفي البيع والقرض لأنه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع ثم قضاه أو أبرأه منه فإذا حلف على نفي البيع والقرض حلف كاذباً وإن أجاب بأنه ما باعني ولا أقرضني ففي الإحلاف وجهان: أحدهما: أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شيء ولا يكلف أن يحلف على نفي البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل والثاني: أنه يحلف على نفي البيع

والقرض لأنه نفى ذلك في الجواب فلزمه أن يحلف على النفي فإن ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئاً منه فإن حلف أنه لا يستحق عليه الألف لم يجزه لأن يمينه على نفي الألف لا يمنع وجوب بعضها. فصل: وإن كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلاً في استحلافه لم يجز أن يحلف لهم يميناً واحدة لأن لكل واحد منهم عليه يميناً فلم تتداخل فإن رضوا بأن يحلف لهم يميناً واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة والثاني: وهو المذهب أنه لا يجوز لأن القصد من اليمين الزجر وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز وإن رضوا كما لو رضيت المرأة أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات مدخل ... كتاب الشهادات تحمل الشهادة وأداؤها فرض لقوله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 28] قال ابن عباس رضي الله عنه: من الكبائر كتمان الشهادة، فإن قام بها من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لأن المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم، وإن كان في موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه لأنه لا يحصل المقصود إلا به فتعين عليه ويجب الإشهاد على عقد النكاح وقد بيناه في النكاح، وهل يجب على الرجعة فيه قولان، وقد بيناهما في الرجعة وأما ما سوى ذلك من العقود كالبيع والإجارة وغيرهما، فالمستحب أن يشهد عليه لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ولا يجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسا فجحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يشهد لي" فقال خزيمة بن ثابت الأنصاري: أنا أشهد لك، قال: "لم تشهد ولم تحضر" فقال نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك علا أخبار الأرض، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم ذات الشهادتين. فصل: ومن كانت عنده شهادة في حد الله تعالى فالمستحب أن لا يشهد به لأنه مندوب إلى ستره ومأمور بدرئه، فإن شهد به جاز لأنه شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره من الصحابة عليهم ذلك، ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بذلك لم يشهد قبل أن يسأل لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

يلونهم، ثم يقشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" 1. وإن كان صاحبها لا يعلم شهد قبل أن يسأل لما روى زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" 2. فصل: ولا يجوز لمن تعين عليه فرض الشهادة أن يأخذ عليها أجرة لأنه فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفرائض، ومن لم يتعين عليه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز له أخذ الأجرة لأنه لا يتعين عليه فجاز أن يأخذ عليه أجرة كما يجوز على كتب الوثيقة. والثاني: أنه لا يجوز لأنه تلحقه التهمة بأخذ العوض.

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 7. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 27. أحمد في مسنده 1/18. 2 رواه مسلم في كتاب الأقضية حديث 19. أبو داود في كتاب الأقضية باب 13. الترمذي في كتاب الشهادات باب 1. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 28. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 3.

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل لا تقبل شهادة الصبي لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] والصبي ليس من الرجال ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلأن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى ولا تقبل شهادة المجنون للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا تقبل شهادة المغفل الذي يكثر منه الغلط لأنه لا يؤمن أن يغلط في شهادته وتقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط لأن أحداً لا ينفك من الغلط واختلف أصحابنا في شهادة الأخرس فمنهم من قال: تقبل لأن إشارته كعبارة الناطق في نكاحه وطلاقه فكذلك في الشهادة ومنهم من قال: لا تقبل لأن إشارته أقيمت مقام العبارة في موضع الضرورة وهو في النكاح والطلاق لأنها لا تستفاد إلا من جهته ولا ضرورة بنا إلى شهادته لأنها تصح من غيره بالنطق فلا تجوز بإشارته.

فصل: ولا تقبل شهادة العبد لأنها أمر لا يتبعض بني على التفاضل فلم يكن للعبد فيه مدخل كالميراث والرحم ولا تقبل شهادة الكافر لما روى معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة أهل دين على أهل دين آخر إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم". ولأنه إذا لم تقبل شهادة من يشهد بالزور على الآدمي فلأن لا تقبل شهادة من شهد بالزور على الله تعالى أولى ولا تقبل شهادة فاسق لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] فإن ارتكب كبيرة كالغصب والسرقة والقذف وشرب الخمر فسق وردت شهادته سواء فعل ذلك مرة أو تكرر منه والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه" 1. فورد النص في القذف والزنا وقسنا عليهم سائر الكبائر ولأن من ارتكب كبيرة ولم يبال شهد بالزور ولم يبال وإن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر فإن كان ذلك نادراً من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته وإن كان ذلك غالباً في أفعاله فسق وردت شهادته لأنه لا يمكن رد شهادته بالقليل من الصغائر لأنه لا يوجد من يمحض الطاعة ولا يخلطها بمعصية ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منا إلا من عصى أو عم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا". ولهذا قال الشاعر: من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض ولا يمكن قبول الشهادة مع الكثير من الصغائر لأن من استجاز الإكثار من الصغائر

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 16. الترمذي في كتاب الشهادات باب 2. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 30. أحمد في مسنده 2/204.

استجاز أن يشهد بالزور فعلقنا الحكم على الغالب من أفعاله لأن الحكم للغائب والنادر لا حكم له ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 103] . فصل: ولا تقبل شهادة من لا مروءة له كالقوال والرقاص ومن يأكل في الأسواق ويمشي مكشوف الرأس في موضع لا عادة له في كشف الرأس فيه لأن المروءة هي الإنسانية وهي مشتقة من المرء ومن ترك الإنسانية لم يؤمن أن يشهد بالزور ولأن من لا يستحيي من الناس في ترك المروءة لم يبال بما يصنع والدليل عليه ما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" 1. واختلف أصحابنا في أصحاب الصنائع الدنيئة إذا حسنت طريقتهم في الدين كالكناس والدباغ والزبال والنخال والحجام والقيم الحمام فمنهم من قال لا تقبل شهادتهم لدناءتهم ونقصان مروءتهم ومنهم من قال: تقبل شهادتهم لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأن هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة فلم ترد بها الشهادة. فصل: ويكره اللعب بالشطرنج لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين ولا حاجة تدعوا إليه فكان تركه أولى ولا يحرم لأنه روي اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير وأبي هريرة وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب به استدباراً ومن لعب به من غير عوض ولم يترك فرضاً ولا مروءة لم ترد شهادته وإن لعب به عوض نظرت فإن أخرج كل واحد منهما مالاً على أن من غلب منهما أخذ المالين فهو قمار تسقط به العدالة وترد به الشهادة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ

_ 1 رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 54. أبو داود في كتاب الأدب باب 6. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 17. الموطأ في كتاب السفر حديث 46.

وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] والميسر القمار وإن أخرج أحدهما: مالاً على أنه إن غلب أخذ ماله وإن غلبه صاحبه أخذ المال لم يصح العقد لأنه ليس من آلات الحرب فلا يصح بذل العوض فيه ولا ترد به الشهادة لأنه ليس بقمار لأن القمار أن لا يخلوا أحد من أن يغتم أو يغرم وههنا أحدهما: يغنم ولا يغرم وإن اشتغل به عن الصلاة في وقتها مع العلم فإن لم يكثر ذلك منه لم ترد شهادته وإن كثر منه ردت شهادته لأنه من الصغائر ففرق بين قليلها وكثيرها فإن ترك فيه المروءة بأن يلعب به على طريق أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام أو اشتغل بالليل والنهار ودت شهادته لترك المروءة. فصل: ويحرم اللعب بالنرد وترد به الشهادة وقال أبو إسحاق رحمه الله: هو كالشطرنج وهذا خطأ لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" 1. وروى بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه" 2. ولأن المعول فيه على ما يخرجه الكعبان فشابه الأزلام ويخالف الشطرنج فإن المعول فيه على رأيه ويحرم اللعب بالأربعة عشر لأن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان فحرم كالنرد. فصل: ويجوز اتخاذ الحمام لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال: اتخذ زوجاً من حمام ولأن فيه منفعة لأنه يأخذ بيضه وفرخه ويكره اللعب به لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسعى بحمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج وقد بيناه. فصل: ومن شرب قليلاً من النبيذ لم يفسق ولم ترد شهادته ومن أصحابنا من قال إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته والمذهب الأول لأن استحلال الشيء أعظم من فعله بدليل أن من استحل الزنا كفر ولو فعله لم يكفر فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلأن لا يرد شربه أولى ويجب عليه الحد وقال المزني رحمه الله: لا

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 56. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 43. الموطأ في كتاب الرؤيا حديث 6. 2 رواه مسلم في كتاب الشعر حديث 10. أبو داود في كتاب الأدب باب 56. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 43. أحمد في مسنده 5/352.

يجب كما لا ترد شهادته وهذا خطأ لأن الحد للردع والنبيذ كالخمر في الحاجة إلى الردع لأنه يشتهى كما يشتهى الخمر ورد الشهادة لارتكاب كبيرة لأنه إذا أقدم على كبيرة أقدم على شهادة الزور وشرب النبيذ ليس بكبيرة لأنه مختلف في تحريمه وليس من أقدم على مختلف فيه أقدم على شهادة الزور وهي من الكبائر. فصل: ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل". ولا يحرم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية لحسان بن ثابت وهي تقول: هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حرج إن شاء الله". وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهما فإنها أيام عيد" 1. فإن غنى لنفسه أو سمع غناء جاريته ولم يكثر منه لم ترد شهادته لأن عمر رضي الله عنه كان إذا دهل في داره يرنم بالبيت والبيتين واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يترنم فقال أسمعتني يا عبد الرحمن قال نعم قال: إنا إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول

_ 1 رواه مسلم في كتاب العيدين حديث 16. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 21.

الناس وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه وهو من زهاد الصحابة وفقهائها أنه قال: إني لأجم قلبي شيئاً من الباطل لأستعين به على الحق فأما إذا أكثر من الغناء أو اتخذه صنعة يغشاه الناس للسماع أو يدعى إلى المواضع ليغني ردت شهادته لأنه سفه وترك للمروءة وإن اتخذ جارية ليجمع الناس لسماعها ردت شهادته لأنه سفه وترك مروءة ودناءة. فصل: ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله} قال ابن عباس: إنها الملاهي وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين" 1. فالكوبة

_ 1 رواه أحمد في مسنده 2/165، 167.

الطبل والقنين البربط وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمسخ أمة من أمتي بشربهم الخمر وضربهم بالكوبة والمعازف" 1. ولأنها تطرب وتدعوا إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإلى إتلاف المال فحرم كالخمر ويجوز ضرب الدف في العرس والختان دون غيرهما لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف" 2. ويكره القضيب الذي يزيد الغناء طرباً ولا يطرب إذا انفرد لأنه تابع للغناء فكان حكمه حمك الغناء وأما رد الشهادة فما حكمنا بتحريمه من ذلك فهو من الصغائر فلا ترد الشهادة بما قل منه وترد بما كثر منه كما قلنا في الصغائر وما حكمنا بكراهيته وإباحته فهو كالشطرنج في رد الشهادة وقد بيناه. فصل: وأما الحداء فهو مباح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نام بالوادي حاديان وروت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة "حرك بالقوم". فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير" 3. ويجوز

_ 1 رواه أبو ماجه في كتاب الأشربة باب 5، 7. أحمد في مسنده 1/274. 2 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 20. أحمد في مسنده 4/5. 3 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90، 95. مسلم في كتاب الفضائل حديث 70. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 65. أحمد في مسنده 3/107

استماع نشيد الأعرابي لما روى عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ثم قال: "أمعك شيء من شعر أمية بن أبي الصلت" فقلت: نعم فأنشدته بيتاً فقال: "هيه". فأنشدته بيتاً آخر فقال هيه فأنشدته إلى أن بلغ مائة بيت. فصل: ويستحب تحسين الصوت بالقرآن لما روى الشافعي رحمه الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن" 1. وروي حسن الصوت بالقرآن وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم" 2 وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" 3. وحمله

_ 1 رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 19. مسلم في كتاب المسافرين حديث 232، 234. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 17. النسائي في كتاب الافتتاح باب 83. 2 رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 34. 3 رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 44. أبو داود في كتاب الوتر باب 20. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 34.

الشافعي على تحسين الصوت وقال: لو كان المراد به الاستغناء بالقرآن لقال من لم يتغان بالقرآن وأما القراءة بالألحان فقد قال في موضع: أكرهه وقال في موضع آخر لا أكرهه وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالذي قال أكرهه أراد إذا جاوز الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض والذي قال لا أكرهه إذا لم يجاوز الحد. فصل: ويجوز قول الشعر لأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان بن ثابت وكعب ابن مالك وعبد الله بن رواحة ولأنه وفد عليه الشعراء ومدحوه وجاءه كعب بن زهير وأنشده: بانت سعاد فقلبي اليوم متنبول ... متيم عندها لم يفد مكبول فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم وحكمه حكم الكلام في حظره وإباحته وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام". فصل: ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته لأنها من الكبائر والدليل عليه ما روى خريم بن فاتك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ولما انصرف قام قائماً ثم قال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" 1. ثلاث مرات ثم تلا قوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [النحل: 30] وروى محارب بن دثار عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار" 2. ويثبت أنه شاهد زور من ثلاثة أوجه: أحدها أن يقر أنه شاهد زور والثاني: أن تقوم البينة أنه شاهد زور والثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه بأن شهد على رجل أنه

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الشهادات باب 3. أبو داود في كتاب الأقضية باب 15. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 32. أحمد في مسنده 4/178. 2 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 32.

قتل أو زنى في وقت معين في موضع معين والمشهود عليه في ذلك الوقت كان في بلد آخر وأما إذا شهد بشيء أخطأ فيه فلم يكن شاهد زور لأنه لم يفسد الكذب وإن شهد لرجل بشيء وشهد به آخر أنه لغيره لم يكن شاهد زور لأنه ليس تكذيب أحدهما: بأولى من تكذيب الآخر فلم يقدح ذلك في عدالته وإذا ثبت أنه شاهد زور ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر فعل وإن رأى أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته وينادي عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس". ولأن في ذلك زجراً له ولغيره عن فعل مثله وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: إن كان من أهل الصيانة لم يناد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهن". وهذا غير صحيح لأن بشهادة الزور يخرج عن أن يكون من أهل الصيانة. فصل: ولا تقبل شهادة جار إلى نفسه نفعاً ولا دافع عن نسه ضرراً لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة" 1. والظنين المتهم والجار إلى نفسه نفعاً والدافع عنها ضرراً متهمان فإن شهد المولى لمكاتبه بمال لم تقبل شهادته لأن يثبت لنفسه حقاً لأن مال المكاتب يتعلق به حق المولى وإن شهد الوصي لليتيم والوكيل للموكل فيما فوض النظر فيه إليه لم تقبل لأنهما يثبتان لأنفسها حق المطالبة والتصرف وإن وكله في شيء ثم عزله لم يشهد فيما كان النظر فيه إليه فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل شهادته وإن لم يكن قد خاصم فيه ففيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأنه لا يحلقه تهمة والثاني: أنه لا تقبل لأنه بعقد الوكالة يملك الخصومة فيه وإن شهد الغريم لمن له عليه دين وهو محجور عليه بالفلس لم تقبل

_ 1 رواه الترمذي في كتاب الشهادات باب 2.

شهادته لأنه يتعلق حقه بما يثبت له بشهادته وإن شهد لمن له عليه دين وهو موسر قبلت شهادته لأنه لا يتعين حقه فيما شهد به وإن شهد له وهو معسر قبل الحجر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه يثبت له حق المطالبة والثاني: أنه يقبل لأنه لا يتعلق بما يشهد به له حق. فصل: وإن شهد رجلان على رجل أنه جرح أخاهما وهما وارثاه قبل الاندمال لم تقبل لأنه يسري إلى نفسه فيجب الدم به لهما وإن شهدا له بمال وهو مريض ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا تقبل لأنهما متهمان لأنه قد يموت فيكون المال لهما فلم تقبل كما لو شهدا بالجراحة والثاني: وهو قول أبي الطيب ابن سلمة أنه تقبل لأن الحق يثبت للمريض ثم ينتقل بالموت إليهما وفي الجناية إذا وجبت الدية وجبت لهما لأنهما تجب بموته فلم تقبل وإن شهدا له بالجراحة وهناك ابن قبلت شهادتهما لأنهما غير متهمين وإن مات الابن وصار الأخوان وارثين نظرت فإن مات الابن بعد الحكم بشهادتهما لم تسقط الشهادة لأنه حكم بها وإن مات قبل الحكم بشهادتهما سقطت الشهادة كما لو فسقا قبل الحكم وإن شهد المولى على غريم مكاتبه والوصي على غريم الصبي أو الوكيل على غريم الموكل بالإبراء من الدين أو بفسق شهود الدين لم تقبل الشهادة لأنه دفع بالشهادة عن نفسه ضرراً وهو حق المطالبة وإن شهد شاهدان من عاقلة القاتل بفسق شهود القتل فإن كانا موسرين لم تقبل شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما ضرراً وهو الدية وإن كانا فقيرين فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ردت شهادتهما وقال في موضع آخر إذا كانا من أباعد العصبات بحيث لا يصل العقل إليهما حتى يموت من قبلهما قبلت شهادتهما فمن أصحابنا من نقل جواب إحداهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أنه تقبل لأنهما في الحال لا يحملان العقل والثاني: أنه لا تقبل لأنه قد يموت القريب قبل الحول ويوسر الفقير فيصيران من العاقلة ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال تقبل شهادة الأباعد ولا تقبل شهادة القريب الفقير لأن القريب معدود في العاقلة واليسار يعتبر عند الحول وربما يصير موسراً عند الحول والبعيد غير معدود في العاقلة وإنما يصير من العاقلة إذا مات الأقرب. فصل: ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا وقال المزني رحمه الله وأبو ثور: تقبل ووجهه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فعم ولم يخص ولأنهم كغيرهم في العدالة فكانوا كغيرهم في الشهادة وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا

تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة". والظنين المتهم وهذا متهم لأنه يميل إليه ميل الطبع ولأن الوالد بضعة من الوالد ولهذا قال عليه السلام: "يا عائشة إن فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها" 1. ولأن نفسه كنفسه وماله كماله ولهذا قال عليه السلام لأبي معشر الدارمي: "أنت ومالك لأبيك" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" 3. ولهذا يعتق عليه إذا ملكه ويستحق عليه النفقة إذا احتاج والأية نخصها بما ذكرناه والاستدلال بأنهم كغيرهم في العدالة يبطل بنفسه فإنه كغيره في العدالة ثم لا تقبل شهادته لنفسه وتقبل شهادة أحدهما: على الآخر في جميع الحقوق ومن أصحابنا من قال لا تقبل شهادة الولد على الوالد في إيجاب القصاص وحد القذف لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الأول لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الأول لأنه إنما ردت شهادته له للتهمة ولا تهمة في شهادته عليه ومن عد الوالدين والأولاد من الأقارب كالأخ والعم وغيرهما تقبل شهادة بعضهم لبعض لأنه لم يجعل نفس أحدهما: كنفس الآخر في العتق ولا ماله كماله في النفقة وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذف ضرة أمهما ففيه قولان: قال في القديم: لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعاً لأنه يجب عليه بقذفها الحد فيحتاج أن يلاعن وتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمها وقال في الجديد: تقبل وهو الصحيح لأن حق أمهما لا يزيد بمفارقة الضرة وإن شهد أنه طلق ضرة أمهما ففيه قولان: أحدهما: أنه تقبل والثاني: أنه لا تقبل وتعليلهما ما ذكرناه. فصل: وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لأن النكاح سبب لا يعتق به أحدهما: على الآخر بالملك فلم يمنع من شهادة أحدهما: للآخر كقرابة ابن العم ولا تقبل شهادة الزوج على الزوجة في الزنا لأن شهادته دعوى خيانة في حقه فلم تقبل كشهادة المودع على المودع بالخيانة في الوديعة ولأنه خصم لها فيما يشهد به فلم تقبل كما لو شهد عليها أنه جنت عليه.

_ 1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 109. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب المناقب باب 60. أحمد في مسنده 4/328. 2 رواه ابن ماجه في كتاب التجارات باب 64. أحمد في مسنده 2/179، 204. 3 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده 6/31.

فصل: ولا تقبل شهادة العدو على عدوه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة". وذو الإحنة هو العدو ولأنه متهم في شهادته بسبب منهي عنه فلم تقبل شهادته. فصل: ومن جمع في الشهادة بين أمرين فردت شهادته في أحدهما: نظرت فإن ردت للعداوة بينه وبين المشهود عليه مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبياً ردت شهادته في حقه وفي حق الأجنبي لأن هذه الشهادة تضمنت الإجبار عن عداوة بينهما وشهادة العدو على عدوه لا تقبل فإن ردت شهادته في أحدهما: لتهمة غير العداوة بأن شهد على رجل أنه اقترض من أبيه ومن أجنبي مالاً ردت شهادته في حق أبيه وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان: أحدهما: أنها ترد كما لو شهد أنه قذفه وأجنبياً والثاني: أنها لا ترد لأنها ردت في حق أبيه للتهمة ولا تهمة في حق الأجنبي فقبلت. فصل: ومن ردت شهادته بمعصية فتاب قبلت شهادته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4] التوبة توبتان توبة في الباطن وتوبة في الظاهر فأما التوبة في الباطن فهي ما بينه وبين الله عز وجل فينظر في المعصية فإن لم يتعلق بها مظلمة لآدمي ولا حد لله تعالى كالاستمتاع بالأجنبية فيما دون الفرج فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها والدليل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135] وإن تعلق بها حق آدمي فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها وأن يبرأ من حق الآدمي إما أن يؤديه أو يسأله حتى يبرئه منه لما روى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل: والله لئن كنت أحسنت فقد ظلمتني وإن كنت أسأت فما علمتني،

فقال عمر اقتص قال لا أقتص قال فاعف قال لا أعفوا فافترقا على ذلك ثم لقيه عمر من الغد فتغير لون عمر فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك قال: أجل قال: فاشهد إني قد عفوت عنك وإن لم يقدر على صاحب الحق نوى أنه إن قدر أوفاه حقه وإن تعلق بالمعصية حد لله تعالى كحد الزنا والشرب فإن لم يظهر ذلك فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه السلام: "من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله" 1. وإن أظهره لم يأثم لأن ماعزاً والغامدية اعترفا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا فرجمهما ولم ينكر عليهما وأما التوبة في الظاهر وهي التي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشهادة فينظر في المعصية فإن كانت فعلاً كالزنا والسرقة لم يحكم بصحة التوبة حتى يصلح عمله مدة لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وقدر أصحابنا المدة بسنة لأنه لا تظهر صحة التوبة في مدة قريبة فكانت أولى المدد بالتقدير سنة لأنه تمر فيها الفصول الأربعة التي تهيج فيها الطبائع وتغير فيها الأحوال وإن كانت المعصية بالقول فإن كانت ردة فالتوبة منها أن يظهر الشهادتين وإن كانت قذفا فقد قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله: هو أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ووجهه ما روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توبة القاذف إكذابه نفسه" وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة هو أن يقول: قذفي له كان باطلاً ولا يقول إني كنت كاذباً لجواز أن يكون صادقاً فيصير بتكذيبه نفسه عاصياً كما كان بقذفه عاصياً ولا تصح التوبة منه إلا بإصلاح العمل على ما ذكرناه في الزنا والسرقة فأما إذا شهد عليه بالزنا ولم يتم العدد فإن قلنا إنه لا يجب عليه الحد فهو على عدالته ولا يحتاج إلى التوبة وإن قلنا إنه يجب عليه الحد وجبت التوبة وهو أن يقول ندمت على ما فعلت ولا أعود إلى ما أتهم به فإذا قال هذا عادت عدالته ولا يشترط فيه إصلاح العمل لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك وإن لم يتب لم تقبل شهادته ويقبل خبره لأن أبا بكرة ردت شهادته وقبلت أخباره وإن

_ 1 رواه مالك في الموطأ في كتاب الحدود حديث 12.

كانت معصية بشهادة زور فالتوبة منها أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ويشترط في صحة توبته إصلاح العمل على ما ذكرناه. فصل: وإن شهد صبي أو عبد أو كافر لم تقبل شهادته فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد أو أسلم الكافر وأعاد تلك الشهادة قبلت وإن شهد فاسق فردت شهادته ثم تاب وأعاد تلك الشهادة لم تقبل وقال المزني وأبو ثور رحمهما الله تقبل كما تقبل من الصبي إذا بلغ والعبد إذا أعتق والكافر إذا أسلم وهذا خطأ لأن هؤلاء لا عار عليهم فيرد شهادتهم فلا يحلقهم تهمة في إعادة الشهادة بعد الكمال والفاسق عليه عار في رد شهادته فلا يؤمن أن يظهر التوبة لإزالة العار فلا تنفك شهادته من التهمة وإن شهد المولى لمكاتبه بمال فردت شهادته ثم أدى المكاتب مال الكتابة وعتق وأعاد المولى الشهادة له بالمال فقد قال أبو العباس فيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأن شهادته لم ترد بمعرة وإنما ردت لأنه ينسب لنفسه حقاً بشهادته وقد زال هذا المعنى بالعتق والثاني: أنها لا تقبل وهو الصحيح لأنه ردت شهادته للتهمة فلم تقبل إذا أعادها كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد رجل على رجل أنه قذفه وزوجته فردت شهادته ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما ثم أعاد الشهادة للزوجة لم تقبل شهادته لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل وإن زالت التهمة كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثان له فردت شهادتهما ثم اندملت الجراحة فأعاد الشهادة ففيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأنها ردت للتهمة وقد زالت التهمة والثاني: وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنها لا تقبل لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد.

باب عدد الشهود

باب عدد الشهود لا يقبل في الشهادة على الزنا أقل من أربعة أنفس ذكور لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] الآية وروي أن سعد ابن عبادة قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال: "نعم" وشهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد وقال زياد: رأيت استاً ونفساً يعلو ورجلان كأنهما أذنا حمار لا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر

رضي الله عنه الثلاثة ولم يجلد المغيرة ولا يقبل في اللواط إلا أربعة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة فأما إتيان البهيمة فإنا إن قلنا إنه يجب فيه الحد فهو كالزنا في الشهادة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة وإن قلنا إنه يجب فيه التعزير ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن خيران واختيار المزني رحمه الله أنه يثبت بشاهدين لأنه لا يلحق بالزنا في الحد فلم يحلق به في الشهادة والثاني: وهو الصحيح أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه فرج حيوان يجب بالإيلاج فيه العقوبة فاعتبر في الشهادة عليه أربعة كالزنا ونقصانه عن الزنا في العقوبة لا يوجب نقصانه عنه في الشهادة كزنا الأمة ينقص عن زنا الحرة في الحد ولا ينقص عنه في الشهادة واختلف قوله في الإقرار بالزنا فقال في أحد القولين: يثبت بشاهدين لأنه إقرار فثبت بشاهدين كالإقرار في غيره والثاني: أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه سبب يثبت به فعل الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة على القتل وإن كان المقر أعجمياً ففي الترجمة وجهان: أحدهما: أنه يثبت باثنين كالترجمة في غيره والثاني: أنه كالإقرار فيكون على قولين كالإقرار. فصل: وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنهم قذفوه ويحدون وهو أشهر القولين لأن عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وقال الرابع: رأيتهما في ثوب واحد فإن كان هذا زنا فهو ذلك فجلد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثلاثة وعزر الرجل والمرأة ولأنا لولم نوجب الحد جعل القذف بلفظ الشهادة طريقاً إلى القذف والقول الثاني أنهم لا يحدون لأن الشهادة على الزنا أمر جائز فلا يوجب الحد كسائر الجائزات ولأن إيجاب الحد عليهم يؤدي إلى أن لا يشهد أحد بالزنا خوفاً من أن يقف الرابع عن الشهادة فيحدون فتبطل الشهادة على الزنا وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وظاهر النص أنه يحد الزوج قولاً واحداً لأنه لا تجوز شهادته عليها بالزنا فجعل قاذفاً وفي الثلاثة قولان والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الزوج كالثلاثة لأنه أتى بلفظ الشهادة فيكون على القولين. فصل: فإن شهد أربعة على رجل بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم فإن كان بسبب ظاهر بأن كان عبداً أو كافراً أو متظاهرا بالفسق كان كما لولم يتم العدد لأن وجوده

كعدمه وإن كان بسبب خفي كالفسق الباطن ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو قص بالعدد لأن عدم العدالة كعدم العدد والثاني: أنهم لا يحدون قولاً واحداً لأنه إذا كان الرد بسبب في الباطن لم يكن من جهتهم تفريط في الشهادة لأنهم معذورون فلم يجدوا وإذا كان بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب عليهم الحد وإن شهد أربعة بالزنا ورجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف لأنه اعترف بالقذف ومن أصحابنا من قال في حده قولان لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة وليس بشيء وأما الثلاثة فالمنصوص أنه لا حد عليهم قولاً واحداً لأنه ليس من جهتهم تفريط لأنهم شهدوا والعدد تام ورجوع من رجعوا كلهم قالوا تعدمنا الشهادة وجب عليهم الحد ومن أصحابنا من قال فيه قولان وليس بشيء وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد أربعة نسوة أنها بكر لم يجب عليها الحد لأنه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل ويحتمل أن تكون عائدة لأن البكارة تعود إذا لم يبالغ في الجماع فلا يجب الحد مع الاحتمال ولا يجب الحد على الشهود لأنا إذا درأنا الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية وهم كاذبون وجب أن ندرأ الحد عنهم لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون. فصل: ويثبت المال وما يصد به كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والضمان بشاهد وامرأتين لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فنص على ذلك في السلم وقسنا عليه المال وكل ما يقصد به المال. فصل: وما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والوكالة والوصية إليه وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لقوله عز وجل في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وعن الزهري أنه قال: جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة للنساء في الحدود فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا في الصداق ثبت الصداق بالشاهد والمرأتين لأنه إثبات مال وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج لم يثبت إلا بشهادة رجلين وإن ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة ثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأن بينة المرأة لإثبات الطلاق وبينة الرجل لإثبات المال وإن شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت المال دون القطع وإن شهد رجل وامرأتان بقتل العمد لم يثبت القصاص ولا الدية والفرق بين القتل والسرقة أن قتل العمل في أحد القولين

يوجب القصاص والدية بدل عنه تجب العفو عن القصاص لم يثبت بدله وفي القول الثاني يوجب أحد البدلين لا بعينه وإنما يتعين بالاختيار فلو أوجبنا الدية دون القصاص أوجبنا معيناً وهذا خلاف موجب القتل وليس كذلك السرقة فإنها توجب القطع والمال على سبيل الجمع وليس أحدهما: بدلاً عن الآخر فجاز أن يوجب أحدهما: دون الآخر. فصل: ولا يقبل في موضحة العمد إلا شاهدان ذكران لأنا جناية توجب القصاص وفي الهاشمة والمنقلة قولان: أحدهما: أنه لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لأنها جناية تتضمن القصاص والثاني: أنها تثبت بالشاهد والمرأتين لأن الهاشمة والمنقلة لا قصاص فيهما وإنما القصاص في ضمنهما فثبت بالشاهد والمرأتين فعلى هذا يجب أرش الهاشمة والمنقلة ولا يثبت القصاص في الموضحة وإن اختلف السيد والمكاتب في قدر المال أوصفته أو أدائه قضي فيه بالشاهد والمرأتين لأن الشهادة على المال وإن أفضى إلى العتق الذي لا يثبت بشهادة الرجل والمرأتين كما تثبت الولادة بشهادة النساء وإن أفضى إلى النسب الذي لا يثبت بشهادتهن. فصل: وإن كان في يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أنها أم ولده وولدها منه وأقام على ذلك شاهداً وامرأتين قضى له بالجارية لأنها مملوكة فقضي فيها بشاهد وامرأتين وإذا مات عتقت بإقراره وهل يثبت نسب الولد وحريته؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يثبت لأن النسب والحرية لا تثبت بشاهد وامرأتين فيكون الوالد باقياً على ملك المدعى عليه والقول الثاني أنه يثبت لأن الولد نماء الجارية وقد حكم له بالجارية فحكم له بالولد فعلى هذا يحكم بنسب الولد وحريته لأنه أقر بذلك وإن ادعى رجل أن العبد الذي في يد فلان كان له وأنه أعتقه وشهد له شاهد وامرأتان فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يحكم بهذه البينة لأنها تشهد له بملك متقدم فلم يحكم بها كما لو ادعى على رجل عبداً وشهد له شاهد وامرأتان أنه كان له والثاني: أنه يحكم بها لأنه ادعى ملكاً متقدماً وشهدت له البينة فيما ادعاه ومن أصحابنا من قال يحكم بها قولاً واحداً والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك لا يدعي ملك الولد وهو يقر أنه حر الأصل فلم يحكم ببينته في أحد القولين وههنا ادعى ملك العبد وأنه أعتقه فحكم ببنته. فصل: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والرضاع والعيوب التي تحت

الثياب شهادة النساء مفردات لأن الرجال لا يطلعون عليها في العادة فلولم تقبل فيها شهادة النساء منفردات بطلب عند التجاحد ولا يثبت شيء من ذلك إلا بعدد لأنها شهادة فاعتبر فيها العدد ولا يقبل أقل من أربع نسوة لأن أقل الشهادات رجلان وشهادة امرأتين بشهادة رجل والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فأقام المرأتين مقام الرجل وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب على ذي لب منكن" قالت امرأة يا رسول الله ما ناقصات العقل والدين قال: "أما ناقصات العقل فشهادة امرأتين كشاهدة رجل فهذا نقصان العقل والدين قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين كشهادة رجل فهذا نقصان العقل وأما نقصان الدين فإن إحداكن تمكث الليالي لا تصلي وتفطر في شهر رمضان فهذا من نقصان الدين" 1. فقبل فيها شهادة الرجلين وشهادة الرجل والمرأتين لأنه إذا أجيز شهادة النساء منفردات لتعذر الرجال فلأن تقبل شهادة الرجال والرجال والنساء أولى وتقبل في الرضاع شهادة المرضعة لما روى عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه عنها ولأنها لا تجر بهذه الشهادة نفعاً إلى نفسها ولا تدفع عنها ضرراً ولا تقبل شهادة المرأة على ولادتها لأنا تثبت لنفسها بذلك حقاً وهو النفقة وتقبل شهادة النساء منفردات على استهلال الولد وإنه بقي متألماً إلى أن مات وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين والصحيح هو الأول لأن الغالب أنه لا يحضرها الرجال. فصل: وما يثبت بالشاهد والمرأتين يثبت بالشاهد واليمين لما روى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد قال عمرو: ذلك في الأموال واختلف أصحابنا في الوقف فقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا يبنى على القولين فإن قلنا إن الملك للموقوف عليه قضي فيه بالشاهد واليمين لأنه نقل ملك فقضى فيه بالشاهد واليمين كالبيع إن قلنا إنه ينتقل إلى الله عز وجل لم يقض فيه بالشاهد واليمين لأنه إزالة ملك إلى غير الآدمي فلم يقض فيه بالشاهد واليمين كالعتق وقال أبو العباس رحمه الله يقضي فيه بالشاهد واليمين على القولين جميعاً لأن القصد بالوقف تمليك المنفعة فقضي فيه بالشاهد واليمين كالإجارة.

_ 1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 132. أبو داود في كتاب السنة باب 15. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 19. أحمد في مسنده 2/67.

باب تحمل الشهادة وأدائها

باب تحمل الشهادة وأدائها لا يجوز تحمل الشهادة وأداؤها إلا عن علم والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فأمر الله تعالى أن يشهد عن علم وقوله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف: 19] وهذا الوعيد يوجب التحفظ في الشهادة وأن لا يشهد إلا عن علم وروى طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "هل ترى الشمس"؟ قال: نعم قال: "فعلى مثلها فاشهد أودع". وإن كانت الشهادة على فعل كالجناية والغصب والزنا والسرقة والرضاع والولادة وغيرها بما يدرك بالعين لم تجز الشهادة به إلا عن مشاهدة لأنها لا تعلم إلا بها وإن كانت الشهادة على عورة ووقع بصره عليها من غير قصد جاز أن يشهد بما شاهد وإن أراد أن يقصد النظر ليشهد فالمنصوص أنه يجوز وهو قول أبي إسحاق المروزي لأن أبا بكر ونافعاً وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره نظرهم وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز أن يقصد النظر لأنه في الزنا مندوب إلى الستر وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة بالرجال إلى النظر للشهادة ومن أصحابنا من قال يجوز في الزنا دون غيره لأن الزاني هتك حرمة الله تعالى بالزنا فجاز أن تهتك حركته بالنظر إلى عورته وفي غير الزنا لم يوجد من المشهود عليه هتك حركته ومنهم من قال يجوز في غير الزنا ولا يجوز في الزنا لأن حد الزنا يبنى على الدرء والإسقاط فلا يجوز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر وغيره لم يبن على الدرء والإسقاط فجاز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر. فصل: وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والإقرار لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول ومشاهدة القائل لأنه لا يحصل العلم بذلك إلا بالسماع والمشاهدة وإن كانت الشهادة على ما لا يعلم إلا بالخبر وهو ثلاثة النسب والملك والموت جاز أن يشه فيه بالاستفاضة فإن استفاض في الناس أن فلاناً ابن فلان وأن فلاناً هاشمي أو أموي جاز أن يشهد به لأن سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة وإن استفاض في الناس أن هذه الدار وهذا العبد لفلان جاز أن يشهد به لأن أسباب الملك لا

تضبط فجاز أن يشهد فيه بالاستفاضة وإن استفاض أن فلاناً مات جاز أن يشهد به لأن أسباب الموت كثيرة منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها وفي عدد الاستفاضة وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لأن ذلك بينة والثاني: وهو قول أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي رحمه الله أنه لا يثبت إلا بعدد يقع العلم بخبرهم لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من جهتهم فإن سمع إنساناً يقر بنسب أب أو ابن فإن صدقه المقر له جاز له أن يشهد به لأنه شهادة على إقرار وإن كذبه لم يجز أن يشهد به لأنه لم يثبت النسب وإن سكت فله أن يشهد به لأن السكوت في النسب رضى بدليل أنه إذا بشر بولد فسكت عن نفسه لحقه نسبه ومن أصحابنا من قال لا يشهد حتى يتكرر الإقرار به مع السكوت وإن رأى شيئاً في يد إنسان مدة يسيرة جاز أن يشهد له باليد ولا يشهد له بالملك وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه جاز أن يشهد له باليد وهل يجوز أن يشهد له بالملك فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يجوز لأن اليد والتصرف يدلان على الملك والثاني: وهو قول أبي إسحاق رحمه الله أنه لا يجوز أن يشهد له بالملك لأنه قد تكون اليد والتصرف عن ملك وقد تكون عن إجارة أو وكالة أو غصب فلا يجوز أن يشهد له بالملك مع الاحتمال واختلف أصحابنا في النكاح والعتق والوقف والولاء فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله يجوز أن يشهد فيها بالاستفاضة لأنه يعرف بالاستفاضة أن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نافعاً مولى ابن عمر رضي الله عنه كما يعرف أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا يجوز لأنه عقد فلا يجوز أن يشهد فيه بالاستفاضة كالبيع. فصل: ويجوز أن يكون الأعمى شاهداً فيما يثبت بالاستفاضة لأن طريق العلم به السماع والأعمى كالبصير في السماع ويجوز أن يكون شاهداً في الترجمة لأنه يفسر ما سمعه يحضره الحاكم وسماعه كسماع البصير ولا يجوز أن يكون شاهداً على الأفعال كالقتل والغصب والزنا لأن طريق العلم بها البصر ولا يجوز أن يكون شاهداً على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجاً عن يده وحكي عن المزني رحمه الله أنه قال يجوز أن يكون شاهداً فيها إذا عرف الصوت ووجهه أنه إذا جاز أن يروي الحديث إذا عرف المحدث بالصوت ويستمتع بالزوجة إذا عرفها بالصوت جاز أن يشهد إذا عرف المشهود عليه بالصوت وهذا خطأ لأن من شرط الشهادة العلم وبالصوت لا يحصل له العلم بالمتكلم لأن الصوت يشبه الصوت ويخالف رواية الحديث

والاستمتاع بالزوجة لأن ذلك يجوز بالظن وهو خبر الواحد وأما إذا جاء رجل وترك فمه على أذنه وطلق أو أعتق أو أقر ويد الأعمر على رأس الرجل فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم فشهد علي بما سمعه منه قبلت شهادته لأنه شهد عن علم وإن تحمل الشهادة على فعل أو قول وهو يبصر ثم عمر نظرت فإن كان لا يعرف المشهود عليه إلا بالعين وهو خارج عن يده لم تقبل شهادته عليه لأنه لا علم له بمن يشهد عليه وإن تحمل الشهادة ويده في يده وهو بصير ثم عمي ولم تفارق يده يده حتى حضر إلى الحاكم وشهد عليه قبلت شهادته لأنه يشهد عليه عن علم وإن تحمل الشهادة على رجل يعرفه بالاسم والنسب وهو بصير ثم عمر قبلت شهادته لأنه يشهد على من يعلمه. فصل: ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فوجب ذكرها في الشهادة وإن رهن رجل عبداً عند رجل بألف ثم زاده ألفاً آخر وجعل العين رهناً بهما وأشهد الشهود على نفسه أن العين رهن بألفين وعلم الشهود حال الرهن في الباطن فإن كانوا يعقدون أنه لا يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن لم يجز أن يشهدوا إلا بما جرى الأمر عليه في الباطن وإن كانوا يعتقدون أنه يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يشهدوا بأن العين رهن بألفين لأنهم يعتقدون أنهم صادقون في ذلك والثاني: أنه لا يجوز أن يشهدوا إلا بذكر ما جرى الأمر عليه في الباطن لأن الاعتبار في الحكم باجتهاد الحاكم دون الشهود. فصل: ومن شهد بالرضاع وصف الرضاع وأنه ارتضع الصبي من ثديها أومن لبن حلب منها خمس رضعات متفرقات في حولين لاختلاف الناس في شروط الرضاع فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم تقبل لأن الناس يختلفون فيما يصير به ابناً من الرضاع وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها وأرضعته لم يجز أن يشهد بالرضاع لأنه يجوز أن يكون قد أعدت شيئاً فيه لبن من غيرها على هيئة الثدي فرأى الصبي يمص فظة ثدياً فصل: ومن شهد بالجناية ذكر صفاتها فإن قال ضربه بالسيف فمات أو قال ضربه بالسيف فوجدته ميتاً لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه وإن قال ضربه بالسيف فمات منه أو ضربه لقتله ثبت القتل بشهادته وإن قال ضربه بالسيف فأنهر دمه فمات مكانه ثبت القتل لشهادته على المنصوص لأنه إذا أنهر دمه فمات علم أنه مات من ضربه فإن قال ضربه فاتضح أو قال ضربه بالسيف فوجدته موضحا لم تثبت الموضحة بشهادته

لأنه أضاف الموضحة إليه وإن قال ضربه فسال دمه لم تثبت الدامية بالشهادة لجواز أن يكون سيلان الدم من غير الضرب وإن قال ضربه فتسال دمه ومات قبلت شهادته في الدامية لأنه أضافها إليه ولا تقبل في الموت لأنه يحتمل أن يكون الموت من غيره وإن قال ضربه بالسيف فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتيه لم يجز القصاص لأنا لا نعلم على أي الموضحتين شهد ويجب أرش موضحة لأن الجهل بعينها ليس بجهل لأنه قد أوضحه. فصل: وإن شهد بالنا ذكر الزاني ومن زنى به لأنه قد يراه على بهيمة فيعتقد أن ذلك زنا والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا أو يراه على زوجته أو جارية ابنه فيظن أنه زنى ويذكر صفة الزنا فإن لم يذكر أنه أولج أو رأى ذكره في فرجها لك يحكم له لأن زياداً لما شهد على المغيرة عند عمر رضي الله عنه ولم يذكر ذلك لم يقم الحد على المغيرة فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الإمام عنه فإن شهد ثلاثة بالزنا ووصفوا الزنا وشهد الرابع ولم يذكر الزنا لم يجب الحد على المشهور عليه لأن البينة لم تكمل ولم يحد الرابع عليه لأنه لم يشهد بالزنا وهل يجب الحد على الثلاثة فيه قولان وإن شهد أربعة بالزنا وفسر ثلاثة منهم الزنا وفسر الرابع بما ليس بزنا لم يحد المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة ويجب الحد على الرابع قولاً واحداً لأنه قذفه بالزنا ثم ذكر ما ليس بزنا وهل يحد الثلاثة على القولين فإن شهد أربعة بالزنا ومات واحد منهم قبل أن يفسر وفسر الباقون بالزنا لم يجب الحد على المشهود عليه لجواز أن يكون ما شهد به الرابع ليس بزنا ولا يجب على الشهود الباقين الحد لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنا فلا يجب الحد مع الاحتيال. فصل: ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسروق منه والحرز والنصاب وصفة السرقة لأن الحم يختلف باختلافها فوجب ذكرها ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتداً فلم يجز الحكم قبل البيان كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في الشهادة في حدود الله تعالى فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه فيه قدحاً في الشهود والثاني: أنه يجوز لأن عمر رضي الله عنه عرض لزياد في شهادته على المغيرة فروي أنه قال أرجوا أن لا يفضح الله تعالى علي يديك أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه يجوز أن يعرض للمقر بالتوقف فجاز أن يعرض للشاهد.

باب الشهادة على الشهادة

باب الشهادة على الشهادة وتجوز الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت والمرض والغيبة وفي حدود الله تعالى وهو حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر قولان: أحدهما: أنه يجوز لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين والثاني: أنه لا يجوز لأن الشهادة على الشهادة تراد لتأكيد الوثيقة ليتوصل بها إلى إثبات الحق وحدود الله تعالى مبنية على الدواء والإسقاط فلم يجز تأكيدها وتوثيقها بالشهادة على الشهادة وما يثبت الشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي الكتاتب فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة. فصل: ولا يجوز الحكم بالشهادة على الشهادة إلا عند تعذر حضور شهود الأصل بالموت أو المرض أو الغيبة لأن شهادة الأصل أقوى لأنها تثبت نفس الحق والشهادة على الشهادة لا تثبت نفس الحق فلم تقبل مع القدرة على شهود الأصل والغيبة التي يجوز بها الحكم بالشهادة على الشهادة أن يكون شاهد الأصل من موضع الحكم على مسافة إذا حضر لم يقدر أن يرجع بالليل إلى منزله فإنه تلحقه المشقة في ذلك وأما إذا كان في موضع إذا حضر أمكنه أن يرع إلى بيته بالليل لم يجز الحكم بشهادة شهود الفرع لأنه يقدر على شهادة شهود الأصل من غير مشقة. فصل: ولا يقبل في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة النساء لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال فلم يقبل فيه شهادة النساء كالنكاح. فصل: ولا يقبل إلا من عدد لأنه شهادة فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات وإن كان شهود الأصل اثنين فشهد على أحدهما: شاهدان وعلى الآخر شاهدان جاز لأنه يثبت قول كل واحد منهما بشاهدين وإن شهد واحد على شهادة أحدهما: وشهد الآخر على شهادة الثاني لم يجز لأنه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة على إقرار نفسين والثاني: أنه لا يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله تعالى لأنهما قاما في التحمل مقام شاهد واحد في حق واحد فإذا شهدا فيه على الشاهد الآخر صارا كالشاهد إذا شهد بالحق مرتين وإذا كان شهود الأصل رجلاً وامرأتين قبل في أحد القولين شهادة اثنين على شهادة كل واحد منهم ولا يقبل في الآخر إلا ستة يشهد كل اثنين على شهادة واحد منهم،

وإن كان شهود الأصل أربع نسوة وهو في الولادة والرضاع قبل في أحد القولين شهادة رجلين على كل واحدة منهن ولا يقبل في الآخر إلا شهادة ثمانية يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن وإن كان شهود الأصل أربعة من الرجال وهو في الزنا وقلنا إنه تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود فإن قلنا يقبل شاهدان على شاهدي الأصل في غير الزنا ففي حد الزنا قولان: أحدهما: أنه يكفي شاهدان في إثبات شهادة الأربعة كما يكفي شاهدان في إثبات شهادة اثنين والثاني: أنه يحتاج إلى أربعة لأن فيما يثبت باثنين تحتاج شهادة كل واحد منهما إلى العدد الذي يثبت به أصل الحق وهو اثنان وأصل الحق ههنا لا يثبت إلى بأربعة فلم تثبت شهادتهم إلا بأربعة إن قلنا إنه لا يقبل فيما يثبت بشاهدين إلى الأربعة ففي حد الزنا قولان: أحدهما: أنه يحتاج إلى ثمانية ليثبت بشهاد كل شاهدين شهادة واحد والثاني: أنه يحتاج إلى ستة عشر لأن ما يثبت بشاهدين لا يثبت كل شاهد إلا بما يثبت به أصل الحق وأصل الحق لا يثبت إلا بأربعة فلا تثبت شهادة كل واحد منهم إلا بأربعة فيصير الجميع ستة عشر. فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة حتى يسمى شاهد الفرع شاهد الأصل بما يعرف به لأن عدالته شرط فإذا لم تعرف لمتعلم عدالته فإن سماهم شهود الفرع وعدلوهم حكم بشهادتهم لأنهم غير متهمين في تعديلهم وإن قالوا نشهد على شهادة عدلين ولم يسموا لم يحكم بشهادتهم لأنه يجوز أن يكونوا عدولاً عندهم غير عدول عند الحاكم. فصل: ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة إلا من ثلاثة أوجه: أحدها أن يسمع رجلاً يقول أشهد أن لفلان على فلان كذل مضافاً إلى سبب يوجب المال من ثمن مبيع أو مهر لأنه لا يحتمل مع ذكر السبب إلا الوجوب والثاني: أن يسمعه يشهد عند الحاكم على رجل بحق لأنه لا يشهد عند الحاكم إلا بما يلزم الحكم به والثالث أن يسترعيه رجل بأن يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا فاشهدوا على شهادتي بذلك لأنه لا يسترعيه إلا على واجب لأن الاسترعاء وثيقة والوثيقة لا تكون على واجب وأما إذا سمع رجلاً في دكانه أو طريقه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل فاشهد على شاهدتي لم يحكم به لأنه يحتمل أنه أراد أن له عليه ألفاً من وعد وعده بها فلم يجز تحمل الشهادة عليه مع الاحتمال وإن سمع رجلاً يقول لفلان على ألف درهم فهل يجوز أن يشهد عليه

بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجوز أن يشهد عليه كما لا يجوز أن يتحمل الشهادة عليه والثاني: وهو المنصوص أنه يجوز أن يشهد عليه والفرق بينه وبين التحمل أن المقر يوجب الحق على نفسه فجاز من غير استرعاء والشاهد يوجب الحق على غيره فاعتبر فيه الاسترعاء ولأن الشهادة آكد لأنه يعتبر فيها العدالة ولا يعتبر ذلك ف الإقرار. فصل: وإذا أراد شاهد الفرع أن يؤدي الشهادة أداها على الصفة التي تحملها فإن سمعه يشهد بحق مضاف إلى سبب يوجب الحق ذكره وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره وإن أشهده شاهد الأصل على شهادته أو استرعاه قال أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته. فصل: وإن رجع شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع بطلت شهادة الفلاع لأنه بطل الأصل فبطل الفرع وإن شهد شهود الفرع ثم حضر شهود الأصل قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه قدر على الأصل فلا يجوز الحكم بالبدل. والله أعلم.

باب اختلاف الشهود في الشهادة

باب اختلاف الشهود في الشهادة إذا ادعى رجل على رجل ألفين وشهد له شاهد أنه أقر له بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين ثبت له ألف بشهادتهما لأنهما اتفقا على إثباتها وله أن يحلف مع شاهد الألفين ويثبت له الألف الأخرى لأنه شهد له بها شاهد وإن ادعى ألفاً فشهد له شاهد بألف وشهد آخر بألفين ففي وجهان: أحدهما: أنه يحلف مع الذي شهد له بالألف ويقضي له وتسقط شهادة من شهد له بالألفين لأنه صار مكذباً له فسقطت شهادته له في الجميع والثاني: أنه يثبت له الألف بشهادتهما ويحلف ويستحق الألف الأخرى ولا يصير مكذباً بالشهادة لأنه يجوز أن يكون له حق ويدعي بعضه ويجوز أنه لم يعلم أن له من يشهد له بالألفين. فصل: وإن شهد شاهد على رجل أنه زنى بامرأة في زاوية من بيت وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثانية وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثالثة وشهد آخر أنه زنى بها في زانية رابعة لم يجب الحد على المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة على فعل واحد وهل يجب حد القذف على الشهود على القولين وإن شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة وشهد اثنان أنه زنى بها وهي مكرهة لم يجب الحد عليها لأنه لم تكمل بينة الحد في ناها وأما الرجل فالمذهب أنه لا يجب عليه الحد وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه

يجب عليه الحد لأنهم اتفقوا على أنه زنى وهذا خطأ لأن زناه بها وهي مطاوعة غير زناه بها وهي مكرهة فصار كما لو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى. فصل: وإن شهد شاهد أنه قذف رجلاً بالعربية وشهد آخر أنه قذفه بالعجمية أو شهد أحدهما: أنه قذفه يوم الخميس وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة لم يجب الحد لأنه لم تكمل البينة على قذف واحد وإن شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه قذفه وشهد آخر أنه أقر بالعجمية أنه قذفه أو شهد أحدهما: أنه أقر بالقذف يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر بالقذف يوم الجمعة وجب الحد لأن المقربة واحد وإن اختلفت العبارة فيه. فصل: وإن شهد شاهد أنه سرق من رجل كبشاً أبيض غدوة وشهد آخر أنه سرق ذلك الكبش بعينه عشية لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد على سرقة واحدة وللمسروق منه أن يحلف ويقضي له بالغرم لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين فإن شهد شاهدان أنه سرق كبشاً أبيض غدوة وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه عشية تعارضت البينتان ولم يحكم بواحدة منهما وتخالف المسألة قبلها فإن كل واحد من الشاهدين ليس بينة والتعارض لا يكون في غير بينة وههنا كل واحد منهما بينة فتعارضتا وسقطتا وإن شهد شاهد أنه سرق منه كبشاً غدوة وشهد آخر أنه سرق منه كبشاً عشية ولم يعينا الكبش لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد وله أن يحلف مع أيهما شاء ويحكم له فإن ادعى الكبشين حف مع كل واحد منهما يميناً وحكم له بهما لأنه لا تعارض بينها وإن شهد شاهدان أنه سرق كبشاً غدوة وشهد آخران أنه سرق منه كبشاً عشية وجب القطع والغرم فيهما لأنه كملت بينة الحد والغرم وإن شهد شاهد أنه سرق ثوباً وقيمته ثمن دينار وشهد آخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار لم يجب القطع لأنه لم تكمل بينة الحد ووجب له الثمن لأنه اتفق عليه الشاهدان وله أن يحلف على الثمن الآخر ويحكم له لأنه انفرد به شاهد فقضى به مع اليمين وإن أتلف عليه ثوباً فشهد شاهدان أن قيمته عشرة وشهد آخران أن قيمته عشرون قضي بالعشرة لأن البينتين اتفقتا على العشرة وتعارضتا في الزيادة لأن إحداهما تثبتها والأخرى تنفيها فسقطت. فصل: وإن شهد شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلاناً وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه فإن صدق الولي الأولين حكم بشهادتهما ويقتل الآخران لأن

الأولين غير متهمين فيما شهدا به والآخران متهمان لأنهما يدفعان عن أنفسهما القتل وإن كذب الولي الأولين وصدق الآخرين بطلت شهادة الجميع لأن الأولين كذبهما الولي والآخران يدفعان عن أنفسهما القتل. فصل: وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل مورثه عمداً فقال المدعى عليه قتلته خطأ فأقام المدعي ساهدين فشهد أحدهما: أنه أقر بقتله عمداً وشهد الآخر عن إقراره بالقتل خطأ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن صفة القتل لا تثبت بشاهد واحد فإذا حلف ثبتت دية الخطأ فإن نكل حلف المدعي أنه قتله عمدا ويجب القصاص أودية مغلظة. فصل: وإن قتل رجل عمداً وله ابنان أو أخوان فشهد أحدهما: على أخيه أن عفا عن القود والمال سقط القود عن القاتل عدلاً كان أو فاسقاً لأن شهادته على أخيه تضمنت الإقرار بسقوط القود فأما الدية فإن نصيب الشاهد يثبت لأنه ما عفا عنه وأما نصيب المشهود عليه فإنه إن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته حلف المشهود عليه أنه ما عفا ويستحق نصف الدية وإن كان ممن تقبل شهادته حلف القاتل معه ويسقط عنه حقه من الدية لأن ما طريقه المال يثبت بالشاهد واليمين وفي كيفية اليمين وجهان أحدهما: أنه يحلف أنه قد عفا عن المال والثاني: أنه يحلف أنه قد عفا عن القود والمال وهو ظاهر النص لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها وهو إذا قلنا إن قتل العمد لا يوجب غير القود فإذا عفا عن الدية كان ذلك كلا عفو فوجب أن يحلف أنه ما عفا عن القود والدية. فصل: وإن شهد شاهد أنه قال وكلتك وشهد آخر أنه قال أديت لك أو أنت جريي لم تثبت الوكالة لأن شهادتهما لم تتفق على قول واحد وإن شهد أحدهما: أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف أو أنه سلطه على التصرف ثبتت الوكالة لأن أحدهما: ذكر اللفظ والآخر ذكر المعنى ولم يخالفه الآخر إلى في اللفظ. فصل: وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق في مرضه عبده سالماً وقيمته ثلث ماله وشهد آخر أنه أعتق غانماً وقيمته ثلث ماله فإن علم السابق منهما عتق ورق الآخر ولإن لم يعلم ذلك ففيه قولان: أحدهما: أنه يقرع بينهما لأنه لا يمكن الجمع بينهما لأن الثلث لا يحتملهما وليس أحدهما: بأولى من الآخر فأقرع بينهما كما لو أعتق عبدين وعجز الثلث عنهما والقول الثاني أنه يعتق من كل واحد منهما النصف لأن السابق حر والثاني: عبد فإذا أقرع بينهما لم يؤمن أن يخرج سهم الرق على السابق وهو حر فيسترق وسهم العتق على الثاني فيعتق وهو عبد فوجب أن يعتق من كل واحد منهما النصف لتساويهما كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالثلث ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث

فإن الثلث يقسم عليهما وإن شهد شاهداً على رجل أنه أوصى لرجل بثلث ماله وشهد آخران أنه رجع عن الوصية وأوصى لآخر بالثلث بطلت الوصية الأولى وصحت الوصية للثاني وإن ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما عنده بدين له عليهما فصدقه كل واحد منهما في حق شريكه وكذبه في حق نفسه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تقبل شهادتهما لأن يدعي أن كل واحد منهما كاذب والثاني: تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهناً عنده لأنه يجوز أن يكون قد نسي فلا يكون كذبه معلوماً.

باب الرجوع عن الشهادة

باب الرجوع عن الشهادة إذا شهد الشهود بحث ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم وحكي عن أبي ثور أنه قال يحكم وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع ويجوز أن يكونوا صادقين في الرجوع كاذبين في الشهادة ولم يحكم مع الشك كما لو جهل عدالة الشهود فإن رجعوا بعد لا حكم وقبل الاستيفاء فإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن هذا الحقوق تسقط بالشبهة والرجوع شبهة ظاهرة فلم يجز الاستيفاء بالشبهة معها وإن كان مالاً أو عقداً فالمنصوص أنه يجوز الاستيفاء ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن الحكم غير مستقر قبل الاستيفاء وهذا خطأ لأن الحكم نفذ والشبهة لا تؤثر فيه فجاز الاستيفاء وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما أخذه لأنه يجوز أن يكونوا صادقين ويجوز أن يكونوا كاذبين وقد اقترن بأخذ الجائزين الحكم والاستيفاء فلا ينقض برجوع محتمل. فصل: وإن شهدوا بما يوجب القتل ثم رجعوا نظرت فإن قالوا: تعمدنا ليقتل بشهادتنا وجب علهم القود لما روى الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم أتياه برجل آخر فقالا: إنا أخطأنا بالأول وهذا السارق فأبطل شهادتهما على الآخر وضمنهما دية يد الأول وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولأنهما ألجآه إلى قتله بغير حق فلزمهما القود كما لو أكرهاه على قتله وإن قالوا: تعمدنا الشهادة ولم تعمل أنه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم دية مغلظة لما فيه من العمد ومؤجله لما فيه من الخطأ فإن قالوا: أخطأنا وجبت دية مخففة لأنه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنها وجبت باعترافهم فإن اتفقوا أن بعضهم تعمد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة وعلى المتعمد قسطه من الدية المغلظة ولا يجب

عليه القود لمشاركة المخطئ وإن اختلفوا فقال بعضهم: تعمدنا كلنا وقال بعضهم: أخطأنا كلنا وجب على المقر بعمد الجميع القود وعلى المقر بخطأ الجميع قسطه من الدية المخففة وإن كانوا أربعة شهدوا بالرجم فقال اثنان منهم: تعمدنا وأخطأ هذان وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الأولان ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب القود على الجميع لأن كل واحد منهما أقر بالعمد وأضاف الخطأ إلى من أقر بالعمد فصاروا كما لو أقر جميعهم بالعمد والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يؤخذ كل واحد منهم إلا بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقرار غيره بالعمد وإن قال اثنان تعمدنا كلنا وقال الآخران: تعمدنا وأخطأ الأولان فعلى الأولين القود وفي الآخرين القولان: أحدهما: يجب عليهما القود والثاني: وهو الصحيح أنه يجب عليهما قسطهما من الدية المغلظة وقد مضى توجيههما وإن قال بعضهم تعمدت ولا أعلم حال الباقين فإن قال الباقون: تعمدنا وجب القود على الجميع وإن قالوا: أخطأنا سقط القود عن الجميع. فصل: فإن رجع بعضهم نظرت فإن لم يزد عددهم على عدد البينة بأن شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجع واحد منهم وقال أخطأت ضمن ربع الدية وإن رجع اثنان ضمنا نصف الدية وإن زاد عددهم على عدد البينة بأن شهد خمسة على رجل بالزنا فرجم ورجع واحد منهم لم يجب القود على الراجع لبقاء وجوب القتل على المشهور عليه وهل يجب عليه من الدية شيء؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه لا يجب لبقاء وجوب القتل والثاني: أنه يجب عليه خمس الدية لأن الرجم حصل بشهادتهم فقسمت الدية على عددهم فإن رجع اثنان وقالا تعمدنا كلنا وجب عليهما القود وإن قالا أخطأنا كلنا ففي الدية وجهان: أحدهما: أنهما يضمنان الخمس من الدية اعتباراً بعددهم والثاني: يضمنان ربع الدية لأنه بقي ثلاثة أرباع البينة. فصل: وإن شهد أربعة بالزنا على رجل وشهد اثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة فهل يجب على شهود الإحصان ضمان فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجب لأنهم لم يشهدوا بما يوجب القتل والثاني: أنه يجب على الجميع لأن الرجم لم يستوف إلا بهم والثالث أنهما إن شهدا بالإحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنا لأنهما لم يثبتا إلا صفة وإن شهدا بعد ثبوت الزنا ضمنا لأن الرجم لم يستوف إلا بهما وفي قدر ما يضمنان من الدية وجهان: أحدهما: أنهما يضمنان نصف الدية لأنه رجم بنوعين من

البينة الإحصان والزنا فقسمت الدية عليهما والثاني: أنه يجب عليهما ثلث الدية لأنه رجم بشهادة ستة فوجب على الاثنين ثلث الدية وإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان قبلت شهادتهما لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنهما ضرراً فإن شهدوا فرجم المشهود عليه ثم رجعوا عن الشهادة فإن قلنا لا يجب الضمان على شهود الإحصان وجبت الدية عليهم أرباعاً على كل واحد منهم ربعها وإن قلنا إنه يجب الضمان على شهود الإحصان ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أنه لا يجب لأجل الشهادة بالإحصان شيء بل يجب على من شهد بالإحصان نصف الدية كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين وجنى اثنان أربعة جنايات والوجه الثاني أنه يجب الضمان لأجل الشهادة بالإحصان فإن قلنا يجب على شاهدي الإحصان نصف الدية وعلى شهود الزنا النصف وجب ههنا على الشاهدين بشهادتهما باللإحصان نصف الدية وقسم النصف بينهم نصفين على شاهدي الإحصان النصف وعلى الآخرين النصف فيصير على شاهدي الإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الآخرين ربعها وإذا قلنا إنه يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية وجب ههنا عليهما الثلث بشهادتهما بالإحصان ويبقى الثلثان بينهم النصف على من شهد بالإحصان والنصف على الآخرين فيصير على من شهد بالإحصان ثلثا الدية وعلى من انفرد بشهادة الزنا ثلثها. فصل: وإن شهد على رجل أربعة بالزنا وشهد اثنان بتزكيتهم فرجم ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أوكفارا وجب الضمان على المزكيين لأن المرجوم قتل بغير حق ولا شيء على شهود الزنا لأنهم يقولون إنا شهدنا بالحق ولولي الدم أن يطالب من شاء من الإمام أو المزكيين لأن الإمام رجم المزكيين ألجآ فإن طالب الإمام رجع على المزكيين لأنه رجمه بشهادتهما وإن طالب المزكيين لم يرجعا على الإمام لأنه كالآلة لهما. فصل: وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا عن الشهادة وجب عليهما قيمة العبد لأنهما ألفاه عليه فلزمهما ضمانه كما لو قتلاه وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فإن كان بعد الدخول وجب عليهما مهر المثل لأنهما أتلفا عليه مقوماً فلزمهما ضمانه كما لو أتلفا عليه ماله وإن كان قبل الدخول ففيه طريقان ذكرناهما في الرضاع.

فصل: وإن شهدا عليه بمال وحكم عليه ثم رجعا عن الشهادة فالمنصوص أنه لا يرجع على المشهود وقال فيمن في يده دار فأقر أنه غصبها من فلان ثم أقر أنه غصبها من آخر أنها تسلم إلى الأموال بإقراره السابق وهل يجب عليه أن يغرم قيمتها للثاني فيه قولان ورجوع الشهود كرجوع المقر فمن أصحابنا من قال: هو على قولين وهو قول أبي العباس: أحدهما: أنه يرجع على المشهود بالغرم لأنهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان وهو الشهادة فلزمهم الضمان والثاني: أنه لا يرجع عليهم لأن العين لا تضمن إلا باليد أو بالإتلاف ولم يوجد من الشهود واحد منهما ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على الشهود قولاً واحداً والفرق بينهما وبين الغاصب أن الغاصب ثبتت يده على المال بعدوان والشهود لم تثبت أيديهم على المال والصحيح أن المسألة على قولين والصحيح من القولين أنه يجب عليهم الضمان فإن شهد رجل وامرأتان بالمال ثم رجعوا وجب على الرجل النصف وعلى كل امرأة الربع لأن كل امرأتين كالرجل وإن شهد ثلاثة رجال ثم رجعوا وجب على كل واحد منهم الثلث فإن رجع واحد وبقي اثنان ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه ضمان الثلث لأن المال يثبت بشهادة الجميع والثاني: وهو المذهب أنه لا شيء عليه لأنه بقيت بينة يثبت بها المال فإن رجع آخر وجب عليه وعلى الأول ضمان النصف لأنه انحل نصف البينة وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا عن الشهادة وجب على الرجل ضمان السدس وعلى كل امرأة ضمان نصف السدس وقال أبو العباس: يجب على الرجل ضمان النصف والصحيح هو الأول لأن الرجل في المال بمنزلة امرأتين وكل امرأتين بمنزلة رجل فصاروا كستة رجال شهدوا ثم رجعوا فيكون حصة الرجل السدس وحصة كل امرأتين السدس وإن رجع ثماني نسوة لم يجب على الصحيح من المذهب عليهن شيء لأنه بقيت بينة ثبت بها الحق فإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى الثماني ضمان الربع وإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى التسع النصف. فصل: وإن شهد شاهد بحق ثم مات أو جن أو أغمي عليه قبل الحكم لم تبطل شهادته لأن ما حدث لا يوقع شبهة في الشهادة فلم يمنع الحكم لها وإن شهد ثم فسق قبل الحكم لم يجز الحكم بشهادته لأن الفسق يوقع شكاً في عدالته عند الشهادة فمنع الحكم بها وإن شهد على رجل ثم صار عدواً له بأن قذفه المشهود عليه لم تبطل شهادته لأن هذه عداوة حدثت بعد الشهادة فلم تمنع من الحكم بها وإن شهد وحكم الحاكم بشهادته ثم فسق فإن كان في مال أو عقد لم يؤثر على الحكم لأنه يجوز أن يكون

حادثاً ويجوز أن يكون موجوداً عند الشهادة فلا ينقض حكم نفذ بأمر محتمل وإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن ذلك يوقع شبهة في الشهادة والحد والقصاص مما يسقطان بالشبهة فلم يجز استيفاؤه مع الشبهة. فصل: وإن حكم بشهادة شاهد ثم بان أنه عبد أو كافر نقض الحكم لأنه تيقن الخطأ في حكمه فوجب نقضه كما لوحكم بالاجتهاد ثم وجد النص بخلافه وإن حكم بشهادة شاهد ثم قامت البينة أنه فاسق فإن لم تسند الفسق إلى حال الحكم لم ينقض الحكم لجواز أن يكون الفسق حدث بعد الحكم فلم ينقض الحكم مع الاحتمال وإن قامت البينة أنه كان فاسقاً عند الحكم فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق رحمه الله: ينقض الحكم قولاً واحداً لأنه إذا نقض بشهادة العبد ولا نص في رد شهادته ولا إجماع فلأن ينقض بشهادة الفاسق وقد ثبت رد شهادته بالنص والإجماع أولى وقال أبو العباس رحمه الله: فيه قولان: أحدهما: أنه ينقض لما ذكرناه والثاني: أنه لا ينقض لأن فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر فلا ينقض حكم نفذ في الظاهر والصحيح هو الأول لأن هذا يبطل به إذا حكم بالاجتهاد فيه ثم وجد النص بخلافه فإن النص ثبت من جهة لا ظاهر وهو خبر الواحد ثم ينقض به الحكم. فصل: وإذا نقض الحكم نظرت فإن كان المحكوم به قطعاً أو قتلاً وجب على الحاكم ضمانه لأنه لا يمكن إيجابه على الشهود وهم يقولون شهدنا بالحق ولا يمكن إيجابه على المشهود له لأنه يقول استوفيت حقي فوجب على الحاكم الذي حكم بالإتلاف ولم يبحث عن الشهادة وفي الموضع الذي يضمن قولان: أحدهما: في بيت المال والثاني: على عاقلته وقد بيناه في الديات وإن كان المحكوم به مالاً فإن كان باقياً في يد المحكوم له وجب عليه رد وإن كان تالفاً وجب عليه ضمانه لأنه حصل في يده بغير حق ويخالف ضمان القطع والقتل حيث لم يوجب على المحكوم له لأن الجناية لا تضمن إلا أن تكون محرمة ويحرم الحاكم خرج عن أن يكون محرماً فوجب على الحاكم دونه. فصل: ومن حكم له الحاكم بمال أو بضع أو غيرهما بيمين فاجرة أو شهادة زور لم يحل له ما حكم له به لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع وأظنه صادقاً فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار

فليأخذها أو ليدعها" 1. ولأنه يقطع بتحريم ما حكم له به فلم يحل له بحكمه كما لوحكم له بما يخالف النص والإجماع.

_ 1 رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 27. مسلم في كتاب الأقضية حديث 4. أبو داود في كتاب الأقضية باب 7. الترمذي في كتاب الأحكام باب 11. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 5. الموطأ في كتاب الأقضية باب 1.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار مدخل ... كتاب الإقرار الحكم بالإقرار واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية بإقرارهما ولأنه إذا وجب الحكم بالشهادة فلأن يجب بالإقرار وهو من الريبة أبعد وأولى. فصل: وإن كان المقر به حقاً لآدمي أو حقاً لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه الإقرار به لقوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ولقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] والإملال هو الإقرار فإن كان حقاً لله تعالى يسقط بالشبهة فقد بيناه في كتاب الشهادة. فصل: ولا يصح الإقرار إلا من بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا يصح إقرارهما لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه التزام حق بالقول فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ فالقول قوله وعلى المقر له أن يقيم البينة على بلوغه ولا يحلف المقر لأنا حكمنا بأنه غير بالغ وأما السكران فإن كان سكره بسبب مباح فهو كالمجنون وإن كان بمعصية الله فعلى ما ذكرنا في الطلاق وأما المكره فلا يصح إقراره لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع ويصح إقرار السفيه والمفلس بالحد والقصاص لأنه غير متهم وأما إقراره بالمال فقد بيناه في الحجر والتفليس. فصل: ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص لأن الحق عليه دون مولاه ولا يقبل إقرار المولى عليه في ذلك لأن المولى لا يملك من العبد إلا المال وإن جنى رجل على

عبد جناية توجب القصاص أو قذفه قذفاً يوجب التعزير ثبت القصاص والتعزير له وله المطالبة به والعفو عنه وليس للمولى المطالبة به ولا العفو عنه لأنه حق غير مال فكان له دون المولى ولا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ لأنه إيجاب مال في رقبته ويقبل إقرار المولى عليه لأنه إيجاب حق في ماله ويقبل إقرار العبد المأذون في دين المعاملة ويجب قضاؤه من المال الذي في يده لأن المولى سلطه عليه ولا يقبل إقرار غير المأذون في دين معاملة في الحال ويتبع به إذا عتق لأنه لا يمكن أخذه من رقبته لأنه لزمه برضى من له الحق وإن أقر بسرقة مال لا يجب فيه القطع كمال دون النصاب وما سرق من غير حرز وصدقه المولى وجب التسليم إن كان باقياً وتعلق برقبته إن كان تالفاً لأنه لزمه بغير رضى صاحبه وإن كذبه المولى كان في ذمته يتبع به إذا عتق وإن وجب فيه القطع قطع لأنه غير متهم في إيجاب القطع وفي المال قولان واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاثة طرق: أحدها وهو قول أبي إسحاق أنه كان المال في يده ففيه قولان أحدهما: أنه يسلم إليه لأنه انتفت التهمة عنه في إيجاب القطع على نفسه والثاني: أنه لا يسلم لأن يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه كما لو كان المال في يد المولى وإن كان المال تالفاً لم يقبل إقراره ولا يتعلق برقبته قولاً واحداً لأن للغرم محلاً يثبت برقبته وإن كان باقياً لم يقبل إقراره قولاً واحداً لأن يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه كما لو أقر بسرقة مال في يد المولى والطريق الثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن القولين في الحالين سواء كان المال باقياً أو تالفاً لأن العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى فإن قبل في أحدهما: قبل في الآخر وإن رد في أحدهما: رد في الآخر فلا معنى للفرق بينهما. فصل: وإن باع السيد عبده من نفسه فقد نص في الأم أنه يجوز وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يجوز واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة يجوز قولاً واحداً وذهب القاضي أو حامد المروروذي والشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمهما الله إلى أنها على قولين: أحدهما: أنه يجوز لأنه إذا جازت كتابته فلأن يجوز بيعه وهو أثبت والعتق فيه أسرع أولى والثاني: أنه لا يجوز لأنه لا يجوز بيعه بما في يده لأنه للمولى ولا يجوز بمال في ذمته لأن المولى لا يثبت له مال في ذمة عبده فإذا قلنا إنه يجوز وهو الصحيح فأقر المولى أنه باعه من نفسه وأنكر العبد عتق بإقراره وحلف العبد أنه لم يشتر نفسه ولا يجب عليه الثمن.

فصل: ويقبل إقرار المريض بالحد والقصاص لأنه غير متهم ويقبل إقراره بالمال لغير وارث لأنه غير متهم في حقه وإن أقر لرجل بدين في الصحة وأقر لآخر بدين في المرض وضاق المال عنهما قسم بينهما على قدر الدينين لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يقدم أحدهما: على الآخر كما لو أقر لهما في حال الصحة واختلف أصحابنا في إقراره للوارث فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه إثبات مال للوارث بقوله من غير رضى الورثة فلم يصح من غير رضى سائر الورثة كالوصية والثاني: أنه يقبل وهو الصحيح لأن من صح إقراره له في الصحة صح إقراره في المرض كالأجنبي ومن أصحابنا من قال يقبل إقراره قولاً واحداً والقول الآخر حكاه عن غيره وإن كان وارثه أخاً فأقر له بمال فلم يمت المقر حتى حدث له ابن صح إقراره للأخ قولاً واحداً لأنه خرج عن أن يكون وارثاً وإن أقر لأخيه وله ابن فلم يمت حتى مات الابن صار الإقرار للوارث فيكون على ما ذكرناه من الطريقين في الإقرار للوارث وإن ملك رجل أخاه ثم أقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته بعد عتقه هل يرث أم لا؟ إن قلنا إن الإقرار للوارث لا يصح لم يرث لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فثبتت الحرية وسقط الإرث وإن قلنا إن الإقرار للوارث يصح نفذ العتق بإقراره وثبت الإرث بنسبه. فصل: ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه السيد أو كذبه لأن الحق له دون المولى فإن أقر له بمال فإن قلنا إنه يملك المال صح الإقرار وإن قلنا إنه لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده. فصل: وإن أقر لحمل بمال فإن عزاه إلى إرث أو وصية صح الإقرار فإن أطلق ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يصح لأنه لا يثبت له الحق من جهة المعاملة ولا من جهة الجناية والثاني: أنه يصح وهو الصحيح لأنه يجوز أن يملكه بوجه صحيح وهو الإرث والوصية فصح الإقرار له مطلقاً كالطفل ولا يصح الإقرار إلا لحمل يتيقن وجوده عند الإقرار كما بيناه في كتاب الوصية وإن أقر لمسجد أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه صح الإقرار فإن أطلق ففيه وجهان بناء على القولين في الإقرار للحمل.

فصل: وإن أقر بحق لآدمي أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاط بغير رضاه وإن أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت فإن كان حد الزنا أوحد الشرب قبل رجوعه وقال أبو ثور رحمه الله: لا يقبل لأنه حق ثبت بالإقرار فل يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف وهذا خطأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الأخر زنى فأعرض عنه قال: أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الأخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض عنه فقال: يا رسول الله إن الأخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى له الرابعة فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل بك جنون" فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه". وكان قد أحصن فلولم يسقط بالرجوع لما عرض له ويخالف القصاص وحد القذف فإن ذلك يجب لحق الآدمي وهذا يجب لحق الله تعالى وقد ندب فيه إلى الستر وإن كان حد السرقة أو قطع الطريق ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل فيه الرجوع لأنه حق يجب لصيانة حق الآدمي فلم يقبل فيه الرجوع عن الإقرار كحد القذف والثاني: وهو الصحيح أنه يقبل لما روى أبو أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت". فقال له مرتين أو ثلاثة ثم أمر بقطعه فلولم يقبل فيه رجوعه لما عرض له ولأنه حق لله تعالى يقبل فيه الرجوع عن الإقرار كحد الزنا والشرب.

فصل: وما قبل فيه الرجوع عن الإقرار إذا أقر به فالمستحب للإمام أن يعرضه للرجوع لما رويناه من حديث أبي هريرة وحديث أبي أمية المخزومي فإن أقر فأقيم عليه بعض الحد ثم رجع عن الإقرار قبل لأنه إذا سقط بالرجوع جميع الحد سقط بعضه وإن وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى لأنه ربما رجع عن الإقرار فيسقط عنه الحد وإن اتبع وأقيم عليه تمام الحد جاز لما روى الزهري قال: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال كنت فيمن رجم ماعزاً فرجمناه في المصلى بالمدينة فلما أذلقته الحجارة تجمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات فلولم يجز ذلك لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمنهم ولأن الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به الحد. فصل: ومن أقر لرجل بمال في يده فكذبه المقر له بطل الإقرار لأنه رده وفي المال وجهان أحدهما: أنه يؤخذ منه ويحفظ لأنه لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فوجب على الإمام حفظه كالمال الضائع والثاني: أنه لا يؤخذ منه لأنه محكوم له بملكه فإذا رد المقر له بقي على ملكه. فصل: فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل قوله في فسخ النكاح لأنه إقرار في حق نفسه ولا يقبل إقراره في إسقاط مهرها لأن قوله لا يقبل في حق غيره وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع وأنكر الزوج لم يقبل قولها في فسخ النكاح لأنه إقرار في حق غيرها وقبل قولها في إسقاط المهر لأنه إقرار ف حق نفسها. فصل: وإن قال لرجل لي عندك ألف فقال لا أنكر لم يكن إقراراً لأنه يحتمل أن يريد أني لا انكر أنه مبطل في دعواه وإن قال أقر لكم لم يكن إقرار لأنه وعد بالإقرار وإن قال لا أنكر أن تكون محقاً لم يكن إقراراً لأنه يحتمل أنه يريد أني لا أنكر أن تكون محقاً في اعتقاده وإن قال لا أنكر أن تكون محقاً في دعواك كان إقراراً لأنه يحتمل غير الإقرار وإن قال أنا مقر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يكون إقراراً لأنه يحتمل غير الإقرار وإن قال أنا مقر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يكون إقراراً لأنه يحتمل أنه يريد أني مقر ببطلان دعواك والوجه الثاني: أن يكون إقراراً لأنه جواب عن الدعوى

فانصرف الإقرار إلى ما ادعى عليه وإن قال لي عليك ألف فقال نعم أو أجل أو صدق أو لعمري كان مقراً لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق وإن قال لعل أو عسى لم يكن إقراراً لأنها ألفاظ تستعمل في الشك وإن قال له علي في علمي كان إقراراً لأنما عليه في علمه لا يحتمل إلا الوجوب وإن قال اقض الألف التي لي عليك فقال نعم كان إقراراً لأنه تصديق لما ادعاه وإن قال اشتر عبدي هذا فقال: نعم أو أعطني عبدي هذا فقال: نعم كان إقراراً بالعبد لما ذكرناه وإن ادعى عليه ألفاً فقال: خذ أو اتزن لم يكن إقراراً لأنه يحتمل أنه أراد خذ الجواب مني أو اتزن إن كان ذلك على غيري وإن قال خذها أو اتزنها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي عبد الله الزبيري رحمه الله أنه يكون إقراراً لأن هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى والثاني: وهو قول عامة أصحابنا أنه لا يكون إقراراً لأن هاء الصفات ترجع إلى المدعي به ولم يقر أنه واجب وإن قال وهي صحاح فقد قال أبو عبد الله الزبيري إنه إقرار لأنها صفة للمدعي والإقرار بالصفة إقرار بالموصوف وقال عامة أصحابنا: لا يكون إقراراً لأن الصفة ترجع إلى المدعي ولا تقتضي الوجوب عليه وإن قال له علي ألف إن شاء الله لم يلزمه شيء لأن ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته وإن قال له علي ألف إن شاء زيد أوله علي ألف إن قدم فلان لم يلزمه شيء لأن ما لا يلزمه لا يصير واجباً عليه بوجود الشرط وإن قال إن شهد لك فلان وفلان بدينار فهما صادقان ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بإقرار لأنه إقرار معلق على شرط فلم يصح كما لو قال إن شهد فلان على صدقته أووزنت ولأن الشافعي رحمه الله تعالى قال: إذا قال لفلان علي ألف إن شهد بها على فلان وفلان لم يكن إقراراً فإن شهدا عليه وهما عدلان لزمه بالشهود دون الإقرار والثاني: وهو قول أبي العباس بن القاص أنه إقرار وإن لم يشهدا به وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله لأنه أخبر أنه إن شهدا به فهما صادقان ولا يجوز أن يكونا صادقين إلا والدينار واجب عليه لأنه لولم يكن واجباً عليه لكان الشاهد به كاذباً فإذا قال يكون صادقاً دل على أن المشهود به ثابت فصار كما لو شهد عليه رجل بدينار فقال صدق الشاهد ويخالف قوله إن شهد فلان صدقته أووزنت لك لأنه قد يصدق الإنسان من ليس

يصادق وقد يزن بقوله ما لا يلزمه ويخالف ما قال الشافعي رحمه الله لفلان علي ألف إن شهد به فلان وفلان لأن وجوب الألف لا يجوز أن يتعلق بشهادة من يشهد عليه فإذا علق بشهادته دل على أنه غير واجب وههنا لم يعلق وجوب الدينار بالشهادة وإنما أخبر أن يكون صادقاً وهذا تصريح بوجوب الدينار عليه في الحال وإن كان قال له علي ألف ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه أقر بالوجوب والأصل بقاؤه والثاني: أنه لا يلزمه لأنه أقر به في زمان مضى فلا يلزمه في الحال شيء وإن أقر أعجمي بالعربية أو عربي بالعجمية ثم ادعى أنه لم يعلم بما قال فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر ما يدعيه.

باب جامع الإقرار

باب جامع الاقرار إذا قال لفلان علي شيء طولب بالتفسير فإن امتنع عن التفسير جعل ناكلاً ورد اليمين على المدعي وقضى له لأنه كالساكت عن جواب المدعي ومن أصحابنا من حكى فيه قولين: أحدهما: ما ذكرناه والثاني: أنه يحبس حتى يفسر لأنه قد أقر بالحق وامتنع من أدائه فحبس وإن شهد شاهدان على رجل بمال مجهول ففيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت بالحق كما يثبت الإقرار ثم يطالب المشهود عليه كما يطالب المقر والثاني: أنه لا يثبت الحق لأن البينة ما أبانت عن الحق وهذه ما أبانت عن الحق وإن أقر بشيء وفسره بما قل أو كثر من المال قبل لأن اسم الشيء يقع عليه وإن فسره بالخمر والخنزير أو الكلب أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقبل لأنه يقع عليه اسم الشيء والثاني: أنه لا يقبل لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذه الأشياء لا يجب ضمانها والثالث أنه إن فسره بالخمر والخنزير لم يقبل لأنه لا يجب تسليمه وإن فسره بالكلب والسرجين وجلد الميتة قبل الدباغ قبل لأنه يجب تسليمه وإن قال غصبتك شيئاً ثم قال عصبته نفسه لم يقبل لأن الإقرار يقتضي غصب شيء منه ويطالب بتفسير الشيء. فصل: وإن قال له علي مال ففسره بما قل أو كثر قبل لأن اسم المال يقع عليه وإن قال له علي مال عظيم أو كثير قبل في تفسيره القليل والكثير لأن ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه ولأنه يحتمل أنه أراد به أنه عظيم أو كثير عنده لقلة ماله أو لفقر نفسه فإن قال له علي أكثر من مال فلان قبل في بيانه القليل والكثير لأنه يحتمل أنه يريد أنه أكثر من مال فلان لكونه من الحلال أو أكثر بقاء لكونه في ذمته. فصل: وإن قال له علي درهم لزمه درهم من دراهم الإسلام وهو ستة دوانق وزن

كل عشرة سبعة مثاقيل فإن فسره بدرهم طبر كطبرية الشام وهو الذي فيه أربعة دوانق فإن كان ذلك متصلاً بالإقرار قبل منه كما لو قال له علي درهم إلا دانقين وإن كان منفصلاً نظرت فإن كان الإقرار في غير الموضع الذي يتعامل فيه بالدراهم الطبرية لم يقبل كما لا يقبل الاستثناء المنفصل عن الجملة وإن كان في الموضع الذي يتعامل فيه بالدراهم الطبرية ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه يقبل لأن إطلاق الدراهم يحمل على دراهم الإسلام لأنه إخبار عن وجوب سابق بخلاف البيع فإنه إيجاب في الحال فحمل على دراهم الموضع الذي يجب فيه وإن قال له علي درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه درهم كبير في العرف فإن فسره بما هو أكبر منه وهو الدرهم البغلي قبل منه لأنه يحتمل ذلك وهو غير متهم فيه وإن قال له علي درهم صغير أوله علي درهم لزمه درهم وازن لأنه هو المعروف فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها قبل لأنه محتمل اللفظ وإن قال له عل مائة درهم عدداً لزمه مائة وازنة عددها مائة لأن الدراهم تقتضي الوازفة وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما. فصل: وإن قال له علي دراهم ففسرها بدراهم مزيفة لا فضة فيها لم يقبل لأن الدراهم لا تتناول ما لا فضة فيه وإن فسرها بدراهم مغشوشة فالحكم فيها كالحكم فيمن أقر بدراهم وفسرها بالدراهم الطبرية وقد بيناه وإن قال له علي دراهم وفسرها بسكة دون سكة دراهم البلد الذي اقر فيه ولا تنقص عنها في الوزن فالمنصوص أنه يقبل منه وقال المزني: لا يقبل منه لأن إطلاق الدراهم يقتضي سكة البلد كما يقتضي ذلك في البيع وهذا خطأ لأن البيع إيجاب في الحال فاعتبر الموضع الذي يجب فيه والإقرار إخبار عن وجوب سابق وذلك يختلف فرجع إليه. فصل: وإن أقر بدرهم في وقت ثم أقر بدرهم في وقت آخر لزمه درهم واحد لأنه

إخبار فيجوز أن يكون ذلك خبراً عما أخبر به في الأول ولهذا لو قال رأيت زيداً ثم قال رأيت زيداً لم يقتض أن يكون الثاني إخباراً عن رؤية ثانية وإن قال له علي درهم من ثمن ثوب ثم قال له علي درهم من ثمن عبد لزمه درهمان لأنه لا يحتمل أن يكون الثاني هو الأول وإن قال له علي درهم ودرهم لزمه درهمان لأن الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه وإن قال له علي درهم ودرهمان لزمه ثلاثة دراهم لما ذكرناه وإن قال له علي درهم فدرهم لزمه درهم واحد وإن قال لامرأته أنت طالق فطالق وقعت طلقتان واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبوعلي بن خيران رحمه الله: لا فرق بين المسألتين فجعلهما على قولين ومنهم من قال يلزمه في الإقرار درهم وفي الطلاق طلقتان والفرق بينهما أن الطلاق لا يدخله التفصيل والدراهم يدخلها التفصيل فيجوز أن يريد له علي درهم فدرهم خير منه وإن قال له علي درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة دراهم وإن قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو شيئاً فيه قولان: أحدهما: أنه يقع طلقتان والثاني: أنه يقع ثلاث طلقات فنقل أبوعلي بن خيران جوابه في الطلاق إلى الإقرار وجعلهما على قولين ومن أصحابنا من قال يقع طلقتان في أحد القولين وفي الإقرار يلزمه ثلاثة دراهم قولاً واحداً لأن الطلاق يدخله التأكيد فحمل التكرار على التأكيد والإقرار لا يدخله التأكيد فحمل التكرار على العدد وإن قال له علي درهم فوق درهم أودرهم تحت درهم لزمه درهم واحد لأنه يحمل أن يكون فوق درهم أو تحت درهم في الجودة ويحتمل فوق درهم أو تحت درهم لي فل يلزمه زيادة مع الاحتمال وإن قال له علي درهم مع درهم لزمه درهم لأنه يحتمل مع درهم لي فلم يلزمه ما زاد مع الاحتمال وإن قال له علي درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان لأن قبل وبعد تستعمل في التقديم والتأخير في الوجوب وإن قال له علي درهم في عشرة فإن أراد الحساب لزمه عشرة لأن ضرب الواحد في عشرة عشرة وإن لم يرد الحساب لزمه درهم لأنه يحتمل أن له علي درهماً مختلطاً بعشرة لي وإن قال له علي درهم بل درهم لزمه درهم لأنه لم يقر بأكثر من درهم وإن قال له علي درهم بل درهمان لزمه درهمان وإن قال له علي درهم بل دينار لزمه الدرهم والدينار والفرق بينهما أن قوله بل درهمان ليس برجوع عن الدرهم لأن الدرهم داخل في الدرهمين وإنما قصد إلحاق الزيادة به وقوله بل دينار رجوع عن الدرهم وإقرار بالدينار فلم يقبل رجوعه عن الدرهم فلزمه وقبل إقراره بالدينار فلزمه وإن قال له علي درهم أو دينار لزمه أحدهما: وأخذ بتعيينه لأنه أقر بأحدهما: وإن قال له علي درهم في دينار لزمه الدرهم ولا يلزمه الدينار لأنه يجوز أن يكون أراد في دينار لي.

فصل: وإن قال له علي دراهم لزمه ثلاثة دراهم لأنه جمع وأقل الجمع ثلاثة وإن قال دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لأنه يحتمل أنه أراد بها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها أو أراد أنها كثيرة في نفسه وإن قال له علي ما بين درهم إلى عشرة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه ثمانية لأن الأول والعاشر حدان فلم يدخلا في الإقرار فلزمه ما بينهما والثاني: أنه يلزمه تسعة لأن الواحد أول العدد وإذا قال من واحد كان ذلك إقراراً بالواحد وما بعده فلزمه والعاشر حد فلم يدخل فيه. فصل: وإن قال له علي كذا رجع في التفسير إليه لأنه أقر بمبهم فصار كما لو قال له علي شيء وإن قال له علي كذا درهم لزمه درهم لأنه فسر المبهم بالدرهم وإن قال له علي كذا وكذا رجع في التفسير إليه لأنه أقر بمبهم وأكده بالتكرار فربع إليه كما لو قال له علي كذا وإن قال له علي كذا كذا درهماً لزمه درهم لأنه فسر المبهم به وإن قال له علي كذا وكذا رجع في التفسير إليه لأنه اقر بمبهمين لأن العطف بالواو يقتضي أن يكون الثاني غير الأول فصار كما لو قال له علي شيء وشيء وإن قال له علي كذا وكذا درهم فقد روى المزني فيه قولين: أحدهما: أنه يلزمه درهم والثاني: يلزمه درهمان فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه درهمان لأنه ذكر مبهمين ثم فسر المبهمين بالدرهم فرجع إلى كل واحد منهما والثاني: أنه يلزمه درهم أنه يجوز أن يكون فسر المبهمين بالدرهم لكل واحد منهما نصفاً فلا يلزمه ما زاد مع الاحتمال وقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا إذا قال كذا وكذا درهماً بالنصب لزمه درهمان لأنه جعل الدرهم تفسيراً فرجع إلى كل واحد منهما وإن قال كذا وكذا هل هذين الحالين وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في الإقرار والمواهب. فصل: وإن قال له علي ألف رجع في البيان إليه وبأي جنس من المال فسره قبل منه وإن فسره بأجناس قبل منه لأنه يحتمل الجميع وإن قال له علي ألف درهم لزمه درهم ورجع في تفسير الألف إليه وقال أبو ثور يكون الجمعي دراهم وهذا خطأ لأن العطف لا يقتضي أن يكون المعطوف من جنس المعطوف عليه لأنه قد يعطف الشيء على غير جنسه كما يعطف على جنسه ألا ترى أنه ترى أنه يجوز أن يقول رأيت رجلاً وخمسون درهماً أوله علي ألف وعشرة دراهم ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه خمسون درهماً وعشرة دراهم ويرجع في

تفسير المائة والألف إليه كما قلنا في قوله ألف ودرهم والثاني: أنه يلزمه مائة درهم وخمسون درهماً أو ألف درهم وعشرة دراهم والفرق بينها وبين قوله ألف ودرهم أن الدرهم المعطوف على الألف لم يذكره للتفسير وإنما ذكره لإيجاب ولهذا يجب به زيادة على الألف والدراهم المذكورة بعد الخمسين والألف ذكرها للتفسير ولهذا لا يجب به زيادة على الخمسين والألف فجعل تفسيرا لما تقدم. فصل وإذا قال لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما لزمه تسعة لأن الاستثناء لغة للعرب وعادة أهل اللسان وإن قال علي عشرة إلا تسعة لزمه ما بقي لأن استثناء الأكبر من الجملة لغة العرب والدليل عليه قوله عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82] ثم قال عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] فاستثنى الغاوين من العباد وإن كانوا أكثر وإن قال له علي عشرة إلا عشرة لزمه عشرة لأن ما يرفع الجملة لا يعرف في الاستثناء فسقط وبقي المستثنى منه وإن قال له علي مائة درهم إلا ثوباً وقيمة الثوب دون المائة لزمه الباقي لأن الاستثناء من غير جنس المستثني منه لغة العرب والدليل عليه قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [ص: 73] فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير والعيس من الأنيس وإن لم يكن منهم وإن قال له علي ألف إلا درهماً ثم فسر الألف بجنس قيمته أكثر من درهم سقط الدرهم ولزمه الباقي وإن فسره بجنس قيمته درهم أو أقل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه الجنس الذي فسر به الألف ويسقط الاستثناء لأنه استثناء يرفع جميع ما أقر به فسقط وبقي المقر به كما لو قال له علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم والثاني: أنه يطالب بتفسير الألف بجنس قيمته أكثر من درهم لأنه فسر إقرار المبهم بتفسير باطل فسقط التفسير لبطلانه وبقي الإقرار بالمبهم فلزمه تفسيره. فصل: وإن قال هؤلاء العبيد لفلان إلا واحداً طولب بالتعيين لأنه ثبت بقوله فرجع

في بيانه إليه فإنه ماتوا إلا واحداً منهم فقال الذي بقي هو المستثنى ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه يرفع به الإقرار فلم يقبل كما لو استثنى الجميع بقوله والثاني: وهو المذهب أنه يقبل لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه رفع المقر به بقوله وههنا لم يرفع بالاستثناء إلا واحداً وإنما سقط في الباقي بالموت فصار كما لو أعتق واحداً منهم ثم ماتوا إلا واحداً وإن قتل الجميع إلا واحداً فقال الذي بقي هو المستثنى قبل وجها واحداً لأنه لا يسقط حكم الإقرار لأن المقر له بهم يستحق قيمتهم بالموت. فصل: وإن قال هذه الدار لفلان إلا هذا البيت لم يدخل البيت في الإقرار لأنه استثناه وإن قال هذه الدار لفلان وهذا البيت لي قبل لأنه أخرج بعض ما دخل في الإقرار بلفظ متصل وصار كما لو استثناه بلفظ الاستثناء. فصل: وإن قال له هذه الدار هبة سكنى أو هبة عارية لم يكن إقراراً بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله وبقي البعض فصار كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها وله أن يمنعه من سكناها لأنها هبة منافع لم يتصل بها القبض فجاز له الرجوع فيها فصل: وإن أقر لرجل بمال في ظرف بأن قال له عندي زيت في جرة أوتين في غرارة أو سيف في عمد أو فص في خاتم لزمه المال دون الظرف لأن الإقرار لم يتناول الظرف ويجوز أن يكون المال في ظرف للمقر وإن قال له عندي جرة فيها زيت أو غرارة فيها تبن أو غمد فيه سيف أو خاتم عليه فص لزمه الظرف دون ما فيه لأنه لم يقر إلا بالظرف ويجوز أن يكون ما فيه للمقر وإن قال له عندي خاتم لزمه الخاتم والفص لأن اسم الخاتم بجمعهما وإن قال له عندي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه ومن

أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركباً على الثوب بعد النسج ففيه وجهان: أحدهما: ما ذكرناه والثاني: أنه لا يدخل فيه لأنه متميز عنه وإن قال له في يدي دار مفروشة لزمه الدار دون الفرش لأنه يجوز أن تكون مفروشة بفرش للمقر وإن قال له عندي فرس عليه سرج لزمه الفرس دون السرج وإن قال له عندي عبد وعليه ثوب لزمه تسليم العبد والثوب والفرق بينهما أن العبد له يد على الثوب وما في يد العبد لمولاه والفرس لا يد له على السرج. فصل: وإن قال لفلان علي الف درهم ثم أحضر ألفاً وقال هي التي أقررت بها وهي وديعة فقال المقر له هذه وديعة لي عندي والألف التي أقر بها دين لي عليه غير الوديعة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله لأن قوله على إخبار عن حق واجب عليه فإذا فسر بالوديعة فقد فسر بما لا يجب عليه فلم يقبل والثاني: أنه يقبل لأن الوديعة علي ردها وقد يجب عليه ضمانها إذا تلفت وإن قال له علي ألف في ذمتي ثم فسر ذلك بالألف التي هي وديعة عنده وقال المقر له بل هي دين لي في ذمته غير الوديعة فإن قلنا في التي قبلها أنه لا يقبل قوله فيها فههنا أولى أن لا يقبل وإن قلنا يقبل هناك قوله ففي هذه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل وهو الصحيح لأن الألف التي أقر بها في الذمة والعين لا تثبت في الذمة والثاني: أنه يقبل لأنه يحتمل أنها في ذمتي لأني تعديت فيها فيجب ضمانها في ذمتي وإن قال له علي ألف ثم قال هي وديعة كانت عندي وظننت أنها باقية وقد هلكت لم يقبل قوله لأن الإقرار يقتضي وجوب ردها أو ضمانها والهالكة لا يجب ردها ولا ضمانها فلم يصح تفسير الإقرار بها. فصل: وإن قال له علي ألف درهم وديعة ديناً لزمه الألف لأن الوديعة قد يتعدى فيها فتصير ديناً وإن قال له علي ألف درهم عارية لزمه ضمانها لأن إعارة الدراهم تصح في أحد الوجهين فيجب ضمانها وفي الوجه الثاني لا تصح إعارتها فيجب ضمانها لأن ما وجب ضمانه في العقد الصحيح وجب ضمانه في العقد الفاسد. فصل: وإن قال له في هذا العبد ألف درهم أوله من هذا العبد ألف درهم ثم قال أردت أنه وزن في ثمنه ألف درهم ووزنت أنا ألف درهم في صفقة واحدة كان ذلك إقراراً بنصفه وإن قال اشتري ثلثه أو ربعه بألف في عقد واشتريت أنا الباقي بألف في عقد آخر قبل قوله لأن إقراراه مبهم وما فسر به محتمل والعبد في يده فقبل قوله فيه، وإن قال

جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم قبل قوله وله أن يبيع العبد ويدفع إليه الأرش وله أن يفديه وإن قال وصى له من ثمنه بألف درهم بيع ودفع إليه من ثمنه ألف درهم فإن أراد أن يدفع إليه ألفاً من ماله لم يجز لأن بالوصية يتعين حقه في ثمنه وإن قال العبد مرهون عنده بألف ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة لا في العين والثاني: وهو الصحيح أنه يقبل لأن المرتهن متعلق حقه بالذمة والعين. فصل: وإن قال له ميراث أبي ألف درهم لزمه تسليم ألف إليه وإن قال له في ميراثي من أبي ألف درهم ثم قال أردت هبة قبل منه لأنه أضاف الميراث إلى نفسه فلا ينتقل ماله إلى غيره لا من جهته وإن قال له في هذا المال ألف درهم لزمه وإن قال له في مالي هذا ألف درهم لم يلزمه لأن ماله لا يصير لغيره بإقراره. فصل: وإذا أقر بحق وصله بما يسقطه بأن أقر بأنه تكفل بنفس أو مال على أنه بالخيار أو أقر أن عليه لفلان ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير أو لفلان عليه الف درهم قضاها ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه ما أقر به ولا يقبل ما وصله به لأنه يسقط ما أقر به فلم يقبل كما لو قال له علي عشرة إلا عشرة والثاني: أنه لا يلزمه الحق لأنه يحتمل ما قاله فصار كما لو قال له علي ألف إلا خمسمائة وإن قال له علي ألف درهم مؤجلة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: هي على القولين لأن التأجيل كالقضاء ومنهم من قال يقبل قولاً واحداً لأن التأجيل لا يسقط الحق وإنما يؤخره فهو كاستثناء بعض الجملة بخلاف القضاء فإنه يسقطه. فصل: وإن قال هذه الدار لزيد بل لعمرو أو قال غصبتها من زيد لا بل من عمرو حكم بها لزيد لأنه أقر له بها ولا يقبل قوله لعمر ولأنه رجوع عن الإقرار لزيد وهل يلزمه أن يغرم قيمتها لعمر وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه لأن العين قائمة فلا يستحق قيمتها والثاني: أنه يلزمه وهو الصحيح لأنه حال بينه وبين ماله فلزمه ضمانه كما لو أخذ ماله ورمى به في البحر فإن قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين طولب بالتعيين فإن عين أحدهما: فإن قلنا إنه إذا أقر به لأحدهما: بعد الآخر غرم للثاني حلف لأنه إذا نكل غرم له وإن قلنا إنه لا يغرم للثاني لم يحلف لأنه لا فائدة في تحليفه لأنه إذا نكل لم

ينقض عليه بشيء وإن كان في يده دار فقال غصبتها من زيد وملكها لعمرو حكم بها لزيد لأنها في يده فقبل إقراره بها ولا يقبل قوله إن ملكها لعمرو لأنه إقرار في حق غيره ولا يغرم لعمرو شيئاً لأنه لم يكن منه تفريط لأنه يجوز أن يكون ملكها لعمرو وهي في يد زيد بإجارة أورهن أو غصبها منه فأقر بها على ما هي عليه فأما إذا قال هذه الدار ملكها لعمرو وغصبها من زيد ففيه وجهان: أحدهما: أنها كالمسألة قبلها إذ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك وبين أن يقدم ذكر الغصب والثاني: أنها تسلم إلى زيد وهل يغرم لعمرو على قولين كما لو قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو. فصل: وإن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه فإن كان المقر به صغيراً أو مجنوناً ثبت نسبه لأنه أقر له بحث فثبت كما لو أقر له بمال فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط النسب لأنه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده وإن كان المقر به بالغاً عاقلاً لم يثبت إلا بتصديقه لأن له قولاً صحيحاً فاعتبر تصديقه في الإقرار كما لو أقر له بمال وإن كان المقر به ميتاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً ثبت نسبه لأنه يقبل إقراره به إذا كان حياً فقبل إذا كان ميتاً وإن كان عاقلاً بالغاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يثبت لأن نسب البالغ لا يثبت إلا بتصديقه وذلك معدوم بعد الموت والثاني: أنه يثبت وهو الصحيح لأنه ليس له قول فثبت نسبه بالإقرار كالصبي والمجنون وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الإقرار وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسقط النسب وهو قول أبي علي الطبري رحمه الله كما لو أقر له بمال ثم رجع في الإقرار وصدقه المقر له في الرجوع والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يسقط لأن النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه كالنسب الثابت بالفراش. فصل: وإن مات رجل وخلف ابناً فأقر على أبيه بنسب فإن كان لا يرثه بأن كان عبداً أو قاتلاً أو كافراً والأب مسلم لم يقبل إقراره لأنه لا يقبل إقراره عليه بالمال فر يقبل إقراره عليه في النسب كالأجنبي وإن كان يرثه فأقر عليه بنسب لو أقر به الأب لحقه فإن كان قد نفاه الأب لم يثبت لأنه يحمل عليه نسباً حكم ببطلانه وإن لم ينفه الأب ثبت النسب بإقراره لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعيد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة فقال سعد بن أبي وقاص: أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه وقال عبد بن زمعة أخي

وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وإن مات وله ابنان فأقر أحدهما: بنسب ابن وأنكر الآخر لم يثبت لأن النسب لا يتبعض فإذا لم يثبت في حق أحدهما: لم يثبت في حق الآخر ولا يشاركهما في الميراث لأن الميراث فرع على النسب والنسب لم يثبت فلم يثبت الإرث وإن أقر أحد الابنين بزوجة لأبيه وأنكر الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تشارك بحصتها من حق المقر كما لا يشارك الابن إذا اختلف الوارثان في نسبه والثاني: أنها تشارك بحصتها من حق المقر لأن المقر به حقها من الإرث لأن الزوجية زالت بالموت وإن مات وخلف بنتاً فأقرت بنسب أخ لم يثبت النسب لأنها لا ترث جميع المال فإن أقر معها الإمام ففيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت لأن الإمام نافذ الإقرار في مال بيت المال والثاني: أنه لا يثبت لأنه لا يملك المال بالإرث وإنما يملكه المسلمون وهم لا يتعينون فلم يثبت النسب إن مات رجل وخلف ابنين عاقلاً ومجنوناً فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم يثبت النسب لأنه لم يوجد الإقرار من جميع الورثة فإن مات المجنون قبل الإفاقة فإن كان له وارث غير الأخ المقر قام وارثه مقامه في الإقرار وإن لم يكن له وارث غيره ثبت النسب لأنه صار جميع الورثة فإن خلف الميت ابنين فأقر أحدهما: بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهو يثبت النسب فيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت نسبه لأن المقر صار جميع الورثة والثاني: أنه لا يثبت نسبه لأن تكذيب شريطه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب كما لو أنكر الأب نسبه

في حياته ثم أقر به الوارث وإن مات رجل وخلف ابناً وارثاً فأقر بابن آخر بالغ عاقل وصدقه المقر له ثم أقرا معاً بابن ثالث ثبت نسب الثالث فإن قال الثالث إن الثاني ليس بأخ لنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يسقط نسب الثاني لأن الثالث ثبت نسبه بإقرار الأول والثاني: فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع والثاني: أنه يسقط نسبه وهو الأظهر لأن الثالث صار ابناً فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني وإن أقر الابن الوارث بأخوين في وقت واحد فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما وإن كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحد منهما وإن صدق أحدهما: صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما وإن أقر بهما وكذب أحدهما: الآخر لم يؤثر التكذيب في نسبهما لأنهما لا يفترقان في النسب. فصل: وإن كان بين المقر وبين المقر به واحد وهو حي لم يثبت النسب إلا بتصديقه وإن كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النسب إلا بتصديق من بينهما لأن النسب يتصل بالمقر من جهتهم فلا يثبت إلا بتصديقهم. فصل: وإن كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث ورث معه ما يرثه كما إذا أقر به الموروث وإن كان يحجب المقر مثل أن يموت الرجل ويخلف أخاً فيقر الأخ بابن للميت أو يخلف الميت أخاً من أب فيقر بأخ من الأب والأم ثبت له النسب ولم يرث لأنا لو أثبتنا له الإرث أدى ذلك إلى إسقاط إرثه لأن توريثه يخرج المقر عن أن يكون وارثاً وإذا خرج عن أن يكون وارثاً بطل إقراره وسقط نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الإرث وقال أبو العباس: يث المقر به يحجب المقر لأنه لو كان حجبه يسقط إقراره لأنه إقرار عن غير وارث لوجب أن لا يقبل إقرار ابن بابن آخر لأنه إقرار من بعض الورثة والنسب لا يثبت بإقرار بعض الورثة وهذا خطأ لأنه إنما يقبل إذا صدقه المقر به فيصير الإقرار من جميع الورثة. فصل: وإن وصى للمريض بأبيه فقبله ومات عتق ولم يرث لأن توريثه يؤدي إلى إسقاط ميراثه وعتقه لأن عتقه في المرض وصية وتوريثه يمنع من الوصية والمنع من الوصية يوجب بطلان عتقه وإرثه فثبت العتق وسقط الإرث وإن أعتق موسر جارية في مرضه وتزوجها ومات من مرضه لم ترثه لأن توريثها يبطل عتقها وميراثها لأن العتق في المرض وصية والوصية للوارث لا تصح وإذا بطل العتق بطل النكاح وإذا بطل النكاح سقط الإرث فثبت العتق وسقط الإرث وإن أعتق عبدين وصارا عدلين وادعى رجل على المعتق أن العبدين له وشهد العبدان بذلك فقبل شهادتهما لأن قبول شهادتهما يؤدي إلى

إبطال الشهادة لأنه يبطل بها العتق فإذا بطل العتق بطلت الشهادة. فصل: وإن مات رجل وخلف أخاف فقدم رجل مجهول النسب وقال أنا ابن الميت فالقول قول الأخ مع يمينه لأن الأصل عدم النسب فإن نكل وحلف المدعي فإن قلنا أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالإقرار لم يرث كما لا يرث إن أقر به وإن قلنا إنه كالبينة ورث كما يرث إذا أقام البينة. فصل: وإذا مات رجل ولا يعلم له وارث فجاء رجل وادعى أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به ولا يقبل قوله حتى يشهد له شاهدان من أهل الخبرة بحاله ويشهدان أنه وارثه ولا نعلم له وارثاً سواه ويبينان سبب الإرث كما يبين المدعي فإذا شهدا على ما ذكرناه حكم به لأن الظاهر مع هذه الشهادة أنه لا وارث له غيره وإن لم يكونا من أهل الخبرة أو كانا من أهل الخبرة ولكنهما لم يقولا ولا نعلم له وارثاً سواه نظرت فإن كان المشهود له ممن له فرض لا ينقص أعطى ليقين فيعطي الزوج ربعاً عائلاً والزوجة ثمناً عائلاً ويعطى الأبوان كل واحد منهما سدساً عائلاً ن وإن كان ممن ليس له فرض وهو من عدا الزوجين والأبوين بعث الحاكم إلى البلاد التي دخلها الميت فإن لم يجدوا وارثا توقف حتى تمضي مدة لوكان له وارث ظهر وإن لم يظهر غيره فإن كان الوارث ممن لا يحجب بحال كالأب والابن دفعت التركة كلها إليه لأن البحث مع هذه الشهادة بمنزلة شهادة أهل الخبرة ويستحب أنه يؤخذ منه كفيل بما يدفع إليه وإن كان المشهود له ممن يحجب كالجد والأخ والعم ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدفع إليه إلا نصيبه لأنه يجوز أن يكون له وارث يحجبه فلم يدفع إليه أكثر منه والثاني: وهو المذهب أنه يدفع إليه الجميع لأن البحث مع هذه البينة بمنزلة شهادة أهل الخبرة وهل يستحب أخذ الكفيل أو يجب فيه وجهان: أحدهما: أنه يستحب والثاني: أنه واجب. فصل: وإن كان لرجل أمتان ولكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة منهما ولا أقر المولى بوطء واحدة منهما فقال أحد هذين الولدين ابني من أمتي طولب بالبيان فإن عين أحدهما: لحقه نسبه وحكم بحريته ثم يسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر لا ولاء عليه لأنه لم يمسه رق وأمه أم ولد وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق وأمه مملوكة لأنها علقت منه بمملوك وترق الأمة الأخرى وولدها وإن ادعت أنها هي التي استولدها فالقول قول المولى مع يمينه لأن الأصل عدم الاستيلاد وإن مات قبل البيان وله وارث يجوز ميراثه قام مقامه في البيان،

لأنه يقوم مقامه في إلحاق النسب وغيره فإن لم يعلم الوارث جهة الاستيلاد ففيه وجهان: أحدهما: أن الأمة لا تصير أم ولد لأن الأصل الرق فلا يزال بالاحتمال والثاني: وهو المنصوص أنها تكون أم ولد لأن الظاهر من ولده منها أنه استولدها في ملكه وإن لم يكن له وارث أو كان له وارث ولكنه لم يعين الولد عرض الولدان على القافة فإن ألحقت به أحد الولدين ثبت نسبه ويكون الحكم فيه كالحكم فيه إذا عينه الوارث وإن لم تكن قافة أو كانت ولم تعرف أو ألحقت الولدين به سقط حكم النسب لتعذر معرفته وأقرع بينهما لتمييز العتق لأن القرعة لها مدخل في تمييز العتق فإن خرجت القرعة على أحدهما: عتق ولا يحكم لواحد منهما بالإرث لأنه لم يتعين وهل يوقف ميراث ابن فيه وجهان: أحدهما: أنه يوقف وهو قول المزني رحمه الله لأنا نتيقن أن أحدهما: ابن وارث والثاني: أنه لا يوقف لأن الشيء إنما يوقف إذا رجي انكشافه وههنا لا يرجى انكشافه. فصل: وإن كان له أمة ولها ثلاثة أولاد ولا زوج لها ولا أقر المولى بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدي أخذ بالبيان فإن عين الأصغر ثبت نسبه وحريته ثم يسال عن جهة الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر لا ولاء عليه والجارية أم ولد والولد الأكبر والأوسط مملوكان وإن قال استولدتها في نكاح ثم ملكها فقد عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق وأمه أمة قن والأكبر والأوسط مملوكان وإن عين الأوسط تعين نسبه وحريته ويسأل عن استيلاده فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر الأصل وأمه أم ولد وأما الأصغر فهو ابن أم ولد وثبت لها حرمة الاستيلاد وهل يعتق بموته كأمه فيه وجهان: أحدهما: أنه يعتق لأنه ولد أم ولده والثاني: أنه عبد قن لا يعتق بعتق أمه لجواز أن يكون عبداً قناً بأن أحبل أمه وهي مرهونة فثبت لها حرمة الاستيلاد فتباع على أحد القولين وإذا ملكها بعد ذلك صارت أم ولده وولده الذي اشتراه معها عبد قن فلا يعتق مع الاحتمال وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق وأمه أمة قن والولدان الآخران مملوكان وإن عين الأكبر تعين نسبه وحريته ويسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكي فهو حر الأصل وأمه أم ولد والأوسط والأصغر مملوكان وإن مات قبل البيان وخلف ابناً يجوز الميراث قام مقامه في التعيين فإن عين كان الحكم فيه على ما ذكرناه في الموروث إذا عين وإن لم يكن له ابن أو كان له ولم يعين عرض على القافة فإن عينت القافة كان الحكم على ما ذكرناه وإن لم تكن قافة أو أنت وأشكل عليها أقرع بينهم لتمييز الحرية لأنها تتميز بالقرعة، فإن

خرجت على أحدهما: حكم بحريته ولا يثبت النسب لأن القرعة لا يتميز بها النسب وأما الأمة فإنه يبحث عن جهة استيلادها فإن كانت في ملكه فهي أم ولده وإن كان في نكاح فهي أمة قن وإن لم يعرق فعلى ما ذكرناه من الوجهين فلا يرث الابن الذي لم يتعين نسبه وهل يوقف له نصيب ابن أو يعطى الابن المعروف النسب حقه فيه وجهان: أحدهما: يوقف له ميراث ابن وهو قول المزني رحمه الله والثاني: وهو المذهب أنه لا يوقف له شيء بل تدفع التركة إلى المعروف النسب وقد بينا ذلك فيما تقدم. فصل: وإن مات رجل وخلف ابنين فأقر أحدهما: على أبيه بدين وأنكر الآخر نظرت فإن كان المقر عدلاً جاز أن يقضي بشهادته مع شاهد آخر أو مع امرأتين أو مع يمين المدعي وإن لم يكن عدلاً حلف المنكر ولم يلزمه شيء وأما المقر ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه جميع الدين في حصته لأن الدين قد يتعلق ببعض التركة إذا هلك بعضها كما يتعلق بجميعها فوجب قضاؤه من حصة المقر والقول الثاني: وهو الصحيح أنه لا يلزمه من الدين إلا بقدر حصته لأنه لو لزمه بالإقرار جميع الدين لم تقبل شهادته بالدين لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضرراً. والله أعلم. بحمد الله حسن توفيقه تم طبع المهذب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي

§1/1