المنهل العذب الروي

السخاوي، شمس الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وآله وسلِّم مقدمة المؤلف قال الشيخ الإمام، الحبر الهمام، العالم العلاّمة، البحر الفهامة، حافظ السنة النبوية، وأمين الأخبار المحمدية، شمس الدين أبو الخير محمد السخاوي، الشافعي، رحمه الله تعالى وقدّس روحه، ونوّر ضريحه، آمين: الحمد لله الذي منح رجالاً بسلوكهم المنهاج؛ ذِكْراً به المجالس تُعطّر والقلب يحيى، وفتح بتيسيره لهم أقفالاً زاد بإنفاقهم من كنوزها الابتهاج، فهم في روضة بل في رياض الآخرة والدنيا، وجعل العمدة عليهم في التصحيح والإيضاح، والمفزع في الشدة إليهم في الغدوِّ والرواح، فهم لذلك لا ترخيص عندهم في القيام بالدين، بل قائمون بالتبيان إلى الغاية والتحقيق المتين. أحمده على الإرشاد للاهتمام للسنّة التي فيها بستان العارفين، وأشكره لما اتضح من الأصول والضوابط التي بها قلب كل مسلم ينشرح بيقين، وأستعينه في فهم مجموع المشكلات، وأستهديه سلوك طريق أولي الولايات، وأسأله التوفيق لنشر ما لهم من المكرمات، بالدلائل النيّرات، وأستغفره من الذنوب الخفيات والجليات، وأرجوه في إخلاص الأعمال والنيات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرضين والسماوات، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ذو المعجزات الباهرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم في الحركات والسكنات، صلاة وسلاماً دائمين في الحياة وبعد الممات. فهذا جزء استوفيت فيه أحوال شيخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، قطب الأولياء الكرام، ونادرة الزهاد الوافر في روعة السهام، المجتهد في الصيام والقيام، والقائم بخدمة الملك العلام: محيي الدين النووي رضي الله عنه ورضي عنا به، وبلغ كلامنا في الخير منتهى أربه، التي أفردها خادمه العلامة علاء الدين ابن العطار، مع زيادات جمة ميّزتها بقولي: " قلت: ثم: انتهى "، قصداً للتمييز لا للاستكثار من: نسبه، ونسبته، ومولده ونشأته، وذكر شيوخه، وتصانيفه الدالة على تقدمه ورسوخه، ونبذة من كلام الأئمة فيها، ومن انتدب منهم للتكلم عليها، وما وليه من الوظائف الدينية، ومن علمته أخذ عنه ممن سلكوا الطريق المرضية، وجملة من أوصافه، المصرّحة بولايته وعظيم إنصافه، وكونه من الصادقين، وعموم بركته وانتفاع من يعرفه به في القيامة عند رب العالمين، وزهده وعلمه، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بلسانه وقلمه، وظهور كراماته، وتعظيمه لله ورسوله، وتأدبه مع الصالحين في جميع أوقاته، وخدمته بنفسه لشيوخه ومكاشفاته، وتقدمه في الفقه والحديث واللغة والعلوم، وشدة اجتهاده في المطالعة لمنطوق المعلوم والمفهوم، ومداومة سهره وتهجده، وإخلاصه وتعبّده وعدم مجادلته، ورفع صوته في تقريره ومباحثته، وتمام ورعه وتحرّيه في قبول الهدية، وكون المهدى إليه ممن لا يقرأ عليه ولا له معه قضية، وعدم تعاطيه ما يرطِّب بدنه من ثلج وشبهه، وتركه جميع ملاذ الدنيا من أكل ولبس وحمّام وسائر ما يعتمده المرء في تفكهه وكونه لم يجمع بين آدمين مختلفين إلا في النادر، ومداومته على الصوم وظمأ الهواجر، واقتدائه بالسلف الصالحين، إلى غير ذلك مما قلّ أن يجتمع في غيره من المحققين، وإسناده في الفقه وما وقع في تصانيفه عندنا في السند، وثلاثة أحاديث من طريقه المعتمد، وتعيين وقت وفاته، وما يلتحق بجميع ذلك من تتماته، رجاء شمول بركته، وإظهاراً لما عندي من محبته، والله المسؤول أن ينفعنا بذلك ويرشدنا إلى أحسن المسالك، بمنّه وكرمه. نسبه ونسبته أما نسبه ونسبته، فهو: يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام " بمهملة ثم زاي "، محيي الدين أبو زكريا، ابن الشيخ الزاهد الورع، ولي الله تعالى: أبي يحيى الحزامي، نسبه لجده حزام المذكور. وكان بعض أجداد الشيخ يزعم أنها نسبة لوالد الصحابي حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال الشيخ: وهو غلط. النووي: نسبة لنوى، والنسبة إليها بحذف الألف على الأصل، ويجوز كتبها بالألف على العادة. قلت: وبإثباتها وحذفها قرأته بخط الشيخ، لكن قال الشهاب الهائم: إنه بإثباتها خلاف القياس. قال: وأما الألف التي هي بدل من لام الكلمة فلا يجوز حذفها، بل يجب قلبها في النسبة واو، كما في النسبة إلى فتى ونحوه، فيقال: نووي، كما يقال: فتوي، انتهى.

مولده ونشأته

ونوى: قاعدة الجولان الآن من أرض حوران من أعمال دمشق، فهو الدمشقي أيضاً، خصوصاً وقد أقام الشيخ بدمشق نحواً من ثمان وعشرين سنة، وابن المبارك رحمه الله يقول: ما أقام ببلد أربع سنين نُسب إليها. وكان حزام " جدُّه الأعلى " نزل الجولان بقرية نوى على عادة العرب، فأقام بها، ورزقه الله تعالى ذرية، إلى أن صار منهم عدد كثير. مولده ونشأته وأما مولده ونشأته فكان في العشر الأوسط من المحرّم، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. قلت: وهذا هو المعتمد، لكن قال الجمال الأسنوي: إنه في العشر الأول. قال اللخمي: وصح عنه أنه قال: لا أجعل في حلٍّ من لقّبني محيي الدين. ونشأ " كما صرح به الحافظ الذهبي في " سير النبلاء " في ستر وخير، انتهى. ولما بلغ من العمر سبع سنين، كان نائماً ليلة السابع والعشرين من رمضان بجانب والده " كما ذكره لي والده " قال: فانتبه نحو نصف الليل وأيقظني وقال: يا أبتى ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعاً فلم نرى كلّنا شيئاً. قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر. وذكر لي وليّ الله الشيخ ياسين بن يوسف المرّاكشي قال: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، قال: فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت معلّمه فوصيته به، وقلت له: إنه يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجِّم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك. قال: فذكر المعلّم ذلك لوالده، وحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم. قلت: وما هنا أولى من قول الذهبي: أنه بقي يتعيّش في الدكان لأبيه مده، وإن أباه كان دكّانياً بنوى، مع أنه قد لا ينافيه. وقد ذكر " أعني الذهبي " في " تاريخ الإسلام " ياسين هذا، وأشار لما تقدم، فقال: يا سين بن عبد الله المقرئ، الحجّام، الأسود، الصالح، كان له دكان بظاهر باب الجابية، وكان صاحب كشف وكرامات، وقد حج أكثر من عشرين مرة، وبلغ الثمانين. اتفق أنه سنة نيف وأربعين مرّ بقرية نوى، فرأى الشيخ محيي الدين النووي وهو صبي فتفرّس فيه النجابة، واجتمع بأبيه الحاج شرف ووصاه به وحرضه على حفظ القرآن والعلم، فكان الشيخ فيما بعد يخرج إليه ويتأدب معه ويزوره، ويرجو بركته ويستشيره في أموره، توفي في ثالث ربيع الأول سنة سبع وثمانين وستمائة، ودفن في مقبرة باب شرقي رحمه الله. وقد أخبر بموت النووي وقال: أين تختار أن يموت؟ عندكم أو في دمشق؟ ويقال: أنه قتله بالحال لأمر، ثم ندم، انتهى كلام الذهبي. وفيه أيضاً مخالف لكلام ابن العطار، وإن كان يمكن الجمع بينهما بأن الشيخ ياسين بعد أن أخبر المعلّم شافه بذلك والده أيضاً، وأما قوله: ويقال: إنه قتله بالحال فمنكر، وقد استبعده التقي ابن قاضي شهبة حيث قال: وهذا بعيد جداً أن يقع أن مثل النووي يقع منه ما يوجب أن ولي الله يتغير عليه حتى يصل إلى قتله، وبعيد من الولي أيضاً قتل مثل النووي، قال: وإنما هذه " يعني على تقدير الصحة " نزعة شيطانية نعوذ بالله من ذلك، انتهى. انتقاله إلى دمشق قال الشيخ: فلما كان عمري تسعة عشر سنة قدم بي والدي في سنة تسع وأربعين إلى دمشق، فسكنت المدرسة الرّواحية. قلت: واستمر بها حتى مات، لم ينتقل منها حتى ولا بعد ولايته الأشرفية، كما قال التاج السَّبكي في " الطبقات الوسطى " قال: وبيته فيها بيت لطيف عجيب الحال. قال اليافعي: وسمعت إنما اختار الإقامة بها على غيرها لحلِّها، انتهى. قال: وبقيت نحو سنتين لا أضع جنبي بالأرض، وأتقوّت بجراية المدرسة لا غير. قلت: بل كان يتصدق منها أيضاْ كما قال اللخمي، قال: ثم ترك تعاطيها، انتهى. وحفظتُ " التنبيه " في نحو أربعة أشهر ونصف.

سفره للحج

قلت: وعرضه في سنة خمسين، فقد قرأت بخط العز القاضي أبي عمرو ابن جماعة: وقفت على ورقة بخط الحافظ عفيف الدين أبي السيادة المطري، أنه شاهد على نسخة صاحبه الفقيه الإمام بدر الدين ابن الصائغ الدمشقي الشافعي من كتاب " التنبيه " ما مثاله: الحمد لله كما هو أهله، عرض عليَّ الفقيه أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي من أول كتاب " التنبيه " في الفقه هذا وإلى آخر، مواضع امتحنت بها حفظه دلت على ذلك، وأذنت بتكراره عليَّ جميعه وتحصيله وحرصه على العلم، وفقني الله وإياه له وللعمل به، وذلك في مجلس واحد لسبع مضين من شهر ربيع الأول سنة خمسين وستمائة. كتبه محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، حامداً مسلماً مستغفراً. وابن رزين هذا هو قاضي القضاة تقي الدين أبو عبد الله، كان ممن أخذ عن ابن الصلاح، ودرّس بالشامية الحسامية، وأمَّ بدار الحديث الأشرفية، ثم ولي قضاء مصر، وكان كبير القدر حميد الذكر، مات بعد الشيخ بأربع سنين، في شهر رجب سنة ثمانين، قال شيخنا في " رفع الإصر " في ترجمته: روى عنه الدمياطي والبدر ابن جماعة، ومن قبلهما الشيخ محيي الدين النووي، انتهى كلام شيخنا. وأخص من هذا أن الشيخ نقل عن ابن رزين في " الأصول والضوابط " انتهى. ثم حفظت ربع العبادات من " المذهّب " في باقي السنة. قلت: وأدرج الذهبي في " تاريخ الإسلام " في كلام ابن العطار هنا ما لم أره في النسخة التي وقفت عليها: إنه قال: وبقيت أكثر من شهرين أو أقل، لمّا قرأت في " التنبيه ": يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج، أعتقد أن هذا قرقرة البطن، فكنت أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني، انتهى كلام الذهبي. والظاهر أن الحياء يمنعه السؤال عن ذلك، انتهى. قال: وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الكمال إسحاق المغربي، ولازمته، فأعجب بي لما رأي من ملازمتي للاشتغال وعدم اختلاطي بالناس، وأحبني محبة شديدة، وجعلني معيد الدرس بحلقته لأكثر الجماعة. سفره للحج فلما كانت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، ارتحلنا من أول رجب، فحصلت الإقامة بالمدينة النبوية نحواً من شهر ونصف شهر، وكانت الوقفة تلك السنة يوم الجمعة. وحكى لي والده أنه من حين توجهنا من نوى أخذت الشيخ حمَّى، فلم تفارقه إلى يوم عرفة، وهو صابر لم يتأوه قط. قلت: وكانت هذه حجة الإسلام، وفي كلام كمال الدَّميري " كما سيأتي " أنه حج مرة أخرى، ويستأنس له بقول العماد ابن كثير في تاريخه: أنه حج في مدة إقامته بدمشق، انتهى. فلما تم الحج " يعني حجة الإسلام " ووصلنا إلى نوى ورجع هو إلى دمشق، صبّ الله عليه العلم صبّا. قلت: لاحت عليه " كما قال الذهبي في سير النبلاء " أمارات النجابة والفهم، انتهى كلام الذهبي، وحفظ في النحو مقدمة الجرجاني، وفي الأصول: " المنتخب "، انتهى. اشتغاله بالعلم ولم يزل يشتغل بالعلم ويقتفي آثار شيخه المذكور بالعبادة، من الصلاة وصيام الدهر، والزهد والورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته، لا سيما بعد وفاة شيخه، فإنه زاد في الاشتغال بالعلم والعمل، بحيث ذكر الشيخ لي أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشائخ، شرحاً وتصحيحاً: درسين في " الوسيط "، وثالثاً في " المهذّب "، ودرساً في " الجمع بين الصحيحين "، وخامساً في " صحيح مسلم "، ودرساً في " اللُّمع " لابن جني في النحو، ودرساً في " إصلاح المنطق " لابن السِّكِّيت في اللغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، تارة في " اللَّمع " لأبي إسحاق، وتارة في " المنتخب " للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين. قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مُشكِل وإيضاح عبارة وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي، وأعانني عليه. قال: وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت " القانون "، وعزمت على الاشتغال فيه، فأظلم علي قلبي، وبقيت أياماً لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكرت في أمري من أين دخل عليّ الداخل؟ فألهمني الله أن الاشتغال بالطب سببه، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب، فاستنار قلبي ورجع إليّ حالي، وعدت لما كنت عليه أولاً.

شيوخه

قلت: فإن قيل: كيف هذا مع ما نُقل " كما روينا " في " مناقب الشافعي " للبيهقي من طريق الربيع بن سليمان سمعت الشافعيُّ رحمه الله يقول: العلم علمان، علم فقه للأديان، وعلم طب للأبدان، ونحوه عن ابن عبد الحكم عن الشافعي، وزاد: وما سوى ذلك فبُلْغة مجلس. ورواه محمد بن يحيى بن حسان عن الشافعي قال: وما سوى ذلك من الشعر ونحوه فهو عناء وتعب؟ فالجواب: إن الذي مدحه الشافعي رحمه الله هو الطب النبوي، أو المجرد عن أصول الفلاسفة التي صرح صاحب " القانون " في أوله بابتناء الطب المورّد في كتابه عليها، وأن الطبيب يتعلم ما يُبنى عليه من العلم الطبيعي، ولذلك اعترى الشيخ رحمه الله بمجرد عزمه على الاشتغال في الكتاب المذكور ما أشار إليه، لما رزقه الله من نور البصيرة، وأبداه له بصلاح السريرة، خصوصاً وإن عنده من الطب المحمود ما يفوق الوصف. على أن أبا بكر بن طاهر سئل عن معنى قول الشافعي، فقال: عند العوامّ أن علم الأديان هو ظاهر الفقه، وعلم الأبدان هو ظاهر الطب، وعند الحكماء أن علم الأديان هو علم مشاهدة القلوب بالمعاملات بصنع الله وتدبيره، وهو الفقه النافع، وعلم الأبدان هو ظاهر أوامر الله تعالى ذكره، ونواهيه في الحلال والحرام، وهو حجة الله على خلقه، وهو الطب النافع، فعلم القلوب هو عين الإسلام وحقائقه، وعلم الأبدان هو آداب الإسلام وشرائعه، وقد قال حرملة بن يحيى: كان الشافعي رحمه الله يتلهف على ما ضيّع المسلمون من الطب، ويقول: ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى، انتهى الإيراد وجوابه. وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهَجْرِه النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التردد إلى الشيوخ، قاله الذهبي في " سير النبلاء "، انتهى. شيوخه " 1 - في الفقه " وأول شيوخه في الفقه " كما قال رحمه الله " الإمام المتفق على علمه وزهده، وورعه وكثرة عبادته، وعِظم فضله وتميّزه على أشكاله: أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، ثم المقدسي. قلت: كان معظم انتفاعه عليه. ثم الأمام العارف الزاهد، العابد الورع، المتقن، مفتي دمشق في وقته: أبو محمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي، ثم الدمشقي. ثم الإمام المتقن المفتي: أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الرَّبعي، الأربلي. قال ابن العطار: وقد أدركته وحضرت بين يديه، وسمعت عليه جزاء أبي الجهم. ثم الإمام العالم المَجْمَع على إمامته وجلالته، وتقديمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي: أبو الحسن سلاّر بن الحسن، الأربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي. قال ابن العطار: وقد أدركته أيضاً وحضرت جنازته مه شيخنا. أخذ الشيخ عنهم الفقه قراءة وتصحيحاً وسماعاً، وشرحاً وتعليقاً. قلت: وقال القطب اليونيني: إن الشيخ أول ما قدم دمشق اجتمع بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، أظنه ابن عبد الملك بن عبد الكافي، الرَّبعي الدمشقي، خطيب الجامع الأموي وإمامه، وعرّفه رحمه الله مقصده، فأخذه وتوجّه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع، الفزاري، عُرف بالفركاح رحمه الله، فقرأ عليه دروساً، وبقي يلازمه مدة، ولم يكن له موضع يأوي إليه، فسأل من التاج موضعاً يسكنه، ولم يكن بيد التاج إذ ذاك من المدارس سوى الصارمية، ولا بيوت لها، فدله على الكمال إسحاق، المغربي بالرَّواحية، فتوجه إليه ولازمه واشتغل عليه، وصار منه ما صار. ونحوه قول التقي ابن قاضي شهبة: ولما قدم النووي من بلده أحضروه ليشتغل عليه " يعني الفزاري " فحمل همه، وبعث به إلى المدرسة الرّواحية ليحصل له بها بيت، ويرتفق بمعلومها. قال: ثم إنه كانت بينهما وحشة كعادة النظراء، قال: وكان النووي أنقل للمذهب، وأكثر محفوظاً منه، انتهى كلام التقي. ولم يذكر " أي التقي " سبب الوحشة التي سبقه الذهبي إلى ذكرها في ترجمة التاج، من " المعجم المختصر "، حيث قال: كان بينه وبين النووي رحمهما الله وحشة كعادة النظراء، انتهى كلام الذهبي.

وقد ذكره القطب اليونيني فقال بعد حكاية ما تقدم قريباً: واتفق أن " الظاهر " عندما فتح الفتوحات المشهورة، وغنم الناس الجواري وتسرُّوا بهن، سئل التاج فرخَّص في ذلك، وصنّف جزءاً في إباحة ذلك من غير تخميس، واستدل بأشياء، منها قَسْمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، " وأنه " أعطى منها من لم يشهدها، وربما فضّل بعض حاضريها على بعض. ثم نقل بعد ذلك في الغنائم أحوالاً مختلفة تُغلَّب على حسب المصلحة. ثم ذكر غزوة حنين وقسم غنائمها، وإنه صلى الله عليه وسلم أكثر لأهل مكة من قريش وغيرهم، حتى أنه يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة، ومعلوم أنه لم يحصل لكل حاضر في هذه الغزاة مثل هذه العدة من الإبل والشياه، ولم يعطي الأنصار شيئاً وكانوا أعظم الكتيبة وجلّ العسكر وأهل النجدة، حتى عتبوا، وهذا حديث صحيح مخرَّج في جميع الأصول المعتمدة في كتب الحديث، وليس في شيء من طرقه: إني إنما نفلت الناس من الخُمس، أو إني قسمت فيكم ما أوجبه قسم الغنيمة وزدت من استألفته من مال المصالح، وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس في قسم، وأعدلهم في بيان حق، وأحقَّهم في إزالة شبهة، فلما اقتصر على مدح الأنصار بما رزقهم الله من السابقة في الإسلام، وما خصهم به من محبته صلى الله عليه وسلم إياهم، وسلوك فجِّهم دون فجّ غيرهم، ورجوعهم إلى منازلهم به عوضاً عما رجع به غيرهم من الأموال والأنعام، عَلِم كلُّ ذي نظر صحيح أنه عليه السلام فعل في هذه الغنائم ما اقتضاه الحال من المصالح، من عطاء وحرمان، وزيادة ونقصان، ثم لم يعلم بعد هذا الحكم ناسخ ولا ناقض، بل فعل الأئمة بعده ما يؤكده، ثم قال: ولولا خشية الإطالة لتقصينا الآثار الواردة في قسم الغنائم، من الأئمة الراشدين ومن بعدهم، حتى إن المتأمل المتّبع، لو أراد أن يبين غنيمة واحدة قسمت على جميع ما يقال من كتب الفقهاء من النَّفل والرَّضخ والسلب، وكيفية إعطاء الفارس والراجل وتعميم كل حاضر، لم يكد يجد ذلك منقولاً من طريق معتمد. واستدل بأشياء كثيرة. قال القطب: فحصل للناس بقوله قول عظيم، لأن الناس لم يزالوا يغنمون ويستولدون الجواري ويبيعوهن، فيحكم الحكام بصحة بيعهم وشرائهم وإجراء جميع ما يتعلق بهم على حكم الصحة، ولو فتحوا باب وجوب تخميس الغنائم لحرم وطء كل جارية تغنم قبل تخميسها، لأن نكاح الجارية المشتركة حرام، فيؤول ذلك إلى مفاسد كثيرة. فلما وقف الشيخ رضي الله عنه على ذلك نقضه كلمة كلمة، وبالغ في الرد عليه، ونسبه إلى أنه خرق الإجماع في ذلك، وأطلق لسانه وقلمه في هذا المعنى. قال القطب ولا شك أن الذي قاله النووي هو مذهب الشافعي وغيره، إلا أنه لم يعمل به في عصر من الأعصار، ولا قيل: إن غنيمة خمِّست في زمن من الأزمان بعد الصحابة والتابعين، ولولا القول بصحة ذلك لكان الناس كلهم بسبب شرائهم الجواري واستيلادهم أياهن في محرمّ، وسائر على الإيناس قاطبة على ما أفتى به التاج، ولم يعمل أحد بما أفتى به الشيخ. قال: وما كان ينبغي له أن يرد عليه هذا الرد، لعلمه أن بعض العلماء ذهب إليه. قال: وحُكي أن الفتاوى كانت إذا جاءت إلى الشيخ وعليها خط التاج، يمتنع من الكتابة فيها. وذكر القطب بعد ذلك كلاماً فيه بعض تحامل، مع ما أسلفه من أنه كانت مقاصده جميلة، وأفعاله لله تعالى، رحمهم الله أجمعين. وكذا كان التاج المذكور لا يطالع كلام النووي، فمن إنصاف ولده أنه قال: كان بين أبي وبين الشيخ منافسة، ولكني أطالع كلامه وأنتفع به. ولما ترجم العثماني قاضي صفد الشهاب أبا شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي، قال: وهو من مشائخ الإمام النووي. وما رأيته الآن في كلام غيره، وليس ببعيد، بل هو في كلام التقي السبكي في الجزء الذي أفرده لِمَا علَّق الشافعيُّ الحكم فيه على صحة الحديث. " 2 - في الطريق " وأفاد السبكي في " الطبقات الكبرى " أن شيخه في الطريق: الشيخ ياسين المراكشي، الماضي، ويشهد له ما أسلفناه عن الذهبي في ترجمته: أن الشيخ كان يخرج إليه ويتأدب معه ويزوره، ويرجو بركته ويستشيره في أمور. " 3 - في القراءات "

ووصفه اللخمي بالعلم بالقراءات السبع، لكن لم يبين عن من أخذها، فيجوز أن يكون عن أبي شامة. مع أني لم أرَ الذَّهبي ولا ابن الجزري، ولا من بينهما، ممن أفرد تراجم القراء، ذكره فيهم، فالله أعلم، انتهى. " 4 - في الحديث " وأخذ فقه الحديث عن الشيخ المقق: أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي، الأندلسي، الشافعي شرح عليه " مسلماً "، ومعظم " البخاري "، وجملة مستكثرة من " الجمع بين الصحيحين " للحميدي. وقرأ على الشيخ الحافظ الزين أبي البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي: " الكمال في أسماء الرجال "، للحافظ عبد الغني المقدسي، وعلق عليه حواشي، وضبط عنه أشياء حسنة. قلت: وكذا رأيته علق فوائد على " الأنساب " لابن الأثير. ووصف الزين خالداً في ضبط الأسماء واللغات التي بآخر تصنيفه " التبيان "، حيث نقل عنه: أنه كان يختار فتح الراء من أحمد بن أبي الحواري، بأنه كان علاّمة وقته في هذا الفن، مع كمال تحقيقه فيه، وناهيك بهذا من مثل النووي، وفيه أيضاً الكسر، وحكاهما النووي في " باب ما يقول في بُلي بالوسوسة من أذكاره " بالوجهين بدون ترجيح. ولازم " كما قال القاضي عبد القادر في طبقات الحنفية "، الإمام المحث الكبير: الضياء ابن تمام الحنفي، في سماع الحديث وما يتعلق به، قال: وعليه تخرّج وبه انتفع، انتهى. وأخذ عن جماعة من أصحاب الحافظ أبي عمرو بن الصلاح " علوم الحديث " له. " 5 - في اللغة والنحو والصرف " وقرأ على الفخر المالكي " اللَّمع " لابن جنّي. وعلى الشيخ أبي العباس أحمد بن سالم المصري، النحوي، اللغوي، التصريفي،: " إصلاح المنطق " لابن السِّكِّيت بحثاً، وكذا كتاباً في التصريف. قال: وكان لي عليه درس، أما في " كتاب سيبويه "، وأما في غيره، الشك مني. وقرأ على شيخنا العلامة الجمال أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني، كتاباً من تصانيفه، وعلق عليه شيئاً. قلت: أظن الكتاب المشار إليه: في النحو، فقد صرح غير واحد أنه أخذ علم النحو عن الجمال بن مالك، وقد ذكر الشيخ الجمال في " شرح المهذّب "، ونقل عنه فيه وفي غيره من تصانيفه، وأثنى عليه ثناء بالغاً، انتهى. " 6 - في أصول الفقه " وقرأ على العلامة القاضي أبي الفتح عمر بن بُندار بن عمر بن علي التفليسي، الشافعي: " المنتخب " للفخر الرازي، وقطعة من " المستصفى " للغزالي. وعلى غيره غيرهما من كتب الفن. قلت: وكذا قرأ أكثر " مختصر ابن الحاجب " الأصلي، على قاضي قضاة دمشق: العز أبي المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن الصائغ " كما نقله المزِّي الحافظ عنه " وعبارته: وسمعت شيخنا النووي يقول: ما ولي قضاء دمشق مثل العزّ أبي المفاخر هذا، وكان منصفاً في بحثه ودروسه، قرأت عليه أكثر " مختصر ابن الحاجب "، وكان إذا أتى موضع لا يعرفه يقول: لا أعرف ما أراد بذلك، وتعدّاه إلى غيره، حتى يكشفه ويفكر فيه، انتهى ما نقله عنه المزّي. على أن العزّ ابن الصائغ لم يكن أسنّ من النووي بكثير، فإن مولده في سنة ثمان وعشرين، بل قد رافقه النووي في الأخذ عن بعض شيوخه، حتى أنه كتب له ثبتاً بسماعه لمسند أحمد على الشرف عبد العزيز الأنصاري في سنة ثمان وخمسين، والعزّ إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، ووصفه فيه بالمولى الجليل، والسيد النبيل، الشيخ الإمام، الحبر الهمام، الفقيه المحقق، والنظّار المدقق، مجموع أنواع المحاسن. وناهيك بذلك كله من مثل النووي، وقد تأخر العز بعده نحو سبع سنين، انتهى. " 7 - في الحديث أيضاً " وسمع الحديث على أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل، الواسطي. وأبي العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي. وأبي محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر، التنوخي. وأبي البقاء خالد النابلسي. والضياء ابن تمام الحنفي " يعني الماضي ذكرهما ". وأبي محمد عبد الرحمن بن سالم بن يحيى، الأنباري. والشمس أبي الفرج عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، وهو أجلّ شيوخه. وشيخ الشيوخ الشرف أبي محمد عبد العزيز بن أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن، الأنصاري. والقاضي عماد الدين أبي الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد بن الحرستاني خطيب دمشق. وأبي الفضل محمد بن محمد بن محمد، البكري، الحافظ. وأبي زكريا يحيى بن أبي الفتح الحرّاني، الصيرفي. وغيرهم.

مسموعاته

قلت: منهم: الرضي أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن نصر، الواسطي، فإنه سمع عليه " صحيح مسلم " كما ذكر الشيخ في أول شرحه له. وأفاد الذهبي أن النجم ابن الخباز أورد عنه أول حديث من " البخاري "، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة الفقيه، أخبرنا أبو عبد الله بن الزُّبيدي بسنده وكأنه سمع جميع الصحيح على ابن أبي عمر، وكذا ستُفيد مما تقدم أنه أخذ " مُسند أحمد " عن شيخ الشيوخ المذكور. ولو سمع رحمه الله " كما قال الذهبي في " سير النبلاء " أول قدومه دمشق " للَحِق الرشيد ابن مسلمة ومكي بن علاّن، والكبار، ولكنه بقي مدة لا يسمع الحديث، انتهى. وسمعت أنا من معظم شيوخه. قلت: والتقي الواسطي روى له غير واحد من شيوخنا عن بعض أصحابه، وكان آخر صحابه: الحسن بن أحمد بن هلال الدقاق، المتوفى في سنة تسع وسبعين وسبعمائة، وحينئذ فيدخل في السابق واللاحق، إذ بين وفاة الشيخ والدقاق، أزيد من مائة بسنتين، انتهى. مسموعاته ومسموعاته: الكتب الستة، والموطأ لمالك، والمسند للشافعي، ولأحمد، والدارمي، وأبي يعلى، وصحيح أبي عوانة، والسنن للدارقطني، وللبيهقي، وشرح السنة للبغوي، ومعالم التنزيل في التفسير له، وعمل اليوم والليلة لابن السني، والجامع لآداب الراوي والسامع للخطيب، والرسالة للقشيري والأنساب للزبير بن بكار، والخطب النُّباتية، وأجزاء كثيرة غير ذلك. قلت: منها " منها ما رايته بخط الشيخ، وهو عندي أتبرك برؤيته كل قليل " كتاب الأربعين للحاكم، على الشيخ خالد النابلسي، وأجزاء من كتاب " المستقصى في فضل المسجد الأقصى "، لأبي محمد القاسم بن علي بن عساكر، على التقي إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر، الماضي، في سنة ست وستين وستمائة، بجامع دمشق، وما علمت: أسَمِعَه تامّاً أم لا؟ انتهى. وذكر لي رحمه الله أنه كان لا يضيِّع له وقتاً في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إنه في ذهابه في الطريق وإيابه يشتغل في تكرار محفوظه، أو مطالعة، وإنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين. قلت: وقال القطب اليونيني: إنه كان كثير التلاوة للقرآن والذكر، معرضاً عن الدنيا، مقبلاً على الآخرة، من حال ترعرعه، انتهى. تصانيفه ومؤلفاته ثم إنه اشتغل بالتصنيف والاشتغال والإفادة، فصنف: شرح مسلم. قلت: وهو عظيم البركة، انتهى. وقطعة من شرح البخاري. قلت: انتهى فيها إلى " كتاب العلم "، سماه " التلخيص "، انتهى. وقطعة من شرح أبي داود. قلت: وصل فيها إلى أثناء الوضوء، سماها: " الإيجاز " وسمعت أن زاهد عصره: الشهاب ابن رسلان، أودعها برُمّتها في أول شرحه الذي كتبه على السنن، وبنى عليها، للتبرك بها، انتهى. وقطعة من الإملاء على حديث: " الأعمال بالنيات ". قلت: وسمى بعضهم في تصانيفه كتاب " الأمالي " في الحديث، في أوراق، وقال: إنه مهمّ نفيس، صنفه قُريب موته، فلا أدري أهو الأول أو غيره؟ ثم تبين لي أنه هو، وكان إملاؤه له في عشية يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وستمائة، بدار الحديث الأشرفية، ورأيته، وهو في دون كراسة، عاجلته المنية عن إكماله، انتهى. وقطعة من الأحكام. قلت: سماها: " الخلاصة في أحاديث الحكام "، وصل فيها إلى أثناء الزكاة، قال ابن الملقّن: رأيتها بخطه، ولو كملت كانت في بابها عديمة النظير. وقال غيره: إنه لا يستغني المحدث عنها، خصوصاً الفقيه، وهذه الخلاصة بخط المؤلف في كتب أوقاف الجمالية، انتهى. والمبهمات. قلت: اختصر فيها كتاب الخطيب أبي بكر البغدادي الحافظ في ذلك، انتهى. ورياض الصالحين. والأذكار. قلت: وهما جليلان لا يُستغنى عنهما، بل قال الشيخ في أثناء النكاح من رواية " الروضة " عن: " الأذكار " ما نصه: وهو الكتاب الذي لا يُستغنى عنه متديِّن، انتهى كلامه. وكان فراغه منه " كما رأيته بنسخة مقروءة عليه " في المحرم سنة سبع وستين وستمائة، قال: سوى أحرف ألحقها. قال: وجزت روايته لجميع المسلمين، انتهى. والأربعين. قلت: في آخرها الإشارة إلى فوائد فيها، وانتهى منها في ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وستين وستمائة، انتهى. والتبيان في آداب حَمَلَة القرآن. قلت: وهو نفيس لا يُستغنى عنه، خصوصاً القارئ والمقرئ، انتهى. ومختصره.

والترخيص في الإكرام والقيام. قلت: لأهل الفضل ونحوهم، انتهى. والإرشاد في علوم الحديث، اختصر فيه كتاب ابن الصلاح. ومختصره: التقريب والتيسير في معرفة سنن البشير النذير. وطبقات الفقهاء. قلت: اختصر فيها كتاب أبي عمرو بن الصلاح أيضاً في ذلك، وزاد عليه أسماء نبه عليها في ذيل كتابه. قال العماد ابن كثير: مع أنهما لم يستوعبا أسماء الأصحاب ولا النصف من ذلك، وهذا هو الذي حدا بي على جمع هذا الديوان " يعني طبقاته "، وفات ابن كثير أيضاً كثير، والعذر عن النووي رحمه الله في ذلك أنه مات عنه مسوّدة، وبيّضه الحافظ الجمال المزّي تلميذه، انتهى. وقطعة كبيرة من تهذيب الأسماء واللغات. قلت: الواقعة في " المختصر " للمزني، والوسيط، والوجيز، والتنبيه، والمذهب، والروضة. مات عنه مسوَّدة، فبيّضه المزي أيضا، انتهى. والتحرير في ألفاظ التنبيه. قلت: قال ابن الملّقن: وما أكثر فوائده، على إعواز بينتُه في جزء، سماه " تذهيب التحرير ". وقال قاضي صفد: وما أكثر فوائده، وما أعم نفعه، لا يستغني طالب علم عنه، انتهى. والروضة، مختصر الشرح للرافعي. قلت: وقد زاد فيها تصحيحات واختيارات حسان، كما صرح به العماد ابن كثير، وكان فراغه من تأليفها " كما قرأته بخطه في آخر نسخته الموقوفة بالمدرسة المحمودية، وهي في أربعة أجزاء " في يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول، سنة تسع وستين وستمائة، وهي كاسمها فيما قاله ابن الملقّن، بل سيأتي ذلك في منام عن سيد المرسلين، عرض فيها أحكام المذهب " كما قاله الأسنوي "، انتهى. والمنهاج، مختصر المحرر للرافعي أيضاً. قلت: وهو عظيم النفع " كما صرح به قاضي صفد " وله فيه أيضاً تصحيحات واختيارات، وكان فراغه من تأليفه " كما رأيته في النسخة التي بخطه في المحمودية أيضاً " يوم الخميس تاسع عشر رمضان من السنة، انتهى. ودقائقه. قلت: وكذا دقائق الروضة، لكنها لم تكمل، وصل فيها إلى أثناء الصلاة، وهي نفيسة، سماها: " الإشارات، لما وقع في الروضة من الأسماء واللغات "، انتهى. والمجموع، في شرح المهذب، وصل فيه إلى المصرّاة. قلت: الموجود منه إلى أثناء باب الربا، بل وقع النقل عن مسوّدة له على المهذب في مسألة نظر العبد لسيده، وكذا في خطبة القطعة الموجودة أنه كان شرع في شرح عليه مبسوط جداً، بحيث بلغ إلى آخر الحيض، في ثلاث مجلدات ضخمات، ثم استطوله، وخشي من عدم تحصيله والسآمة من مطالعته، فأعرض عنه وعدل إلى الموجودة، وإنها طريقة وسطى، انتهى. ودفع لي ورقة بتعيين مواده في تصنيفه، وقال لي: إذا انتقلت بالوفاة إلى رحمة الله تعالى فأتممه منها، فلم يقدّر لي ذلك. قلت: وليته ذكر أسماءها لمن بعده، وإن كان يُعلم تعيُّنها من الشرح، ولكن كان ذلك أسهل وأضبط. وقد سرد السبكي الكتب التي استمد هو منها في تكملته، انتهى. والإيضاح، في المناسك. والإيجاز، فيها أيضاً. ومنسك ثالث، ورابع، وخامس، وسادس. قلت: وأحدها خاص بالنسوان، انتهى. ومسألة تخميس الغنائم. قلت: وكان سبب تصنيفها ما أسلفتها عن القطب اليونيني، انتهى. والفتاوى، وقد رتبتها. وقطعة من شرح التنبيه. قلت: وصل فيها إلى أثناء باب الحيض، سماه " تحفة الطالب النبيه "، وهو غير النبغ الذي رأيته في مجلد، فإنه قد شرح فيه مواضع من جميع الكتاب، وهو من أوائل ما صُنف، انتهى. ومن شرح الوسيط قطعة جيدة. قلت: وقد قال ابن الرفعة في المطلب الذي شرح به " الوسيط " عن نفسه: إنه شرّع فيه من أول ربع البيع، وأنه جعل ذلك تتميماً لمن سبقه، وإنه إذا انتهى من الكتاب استأنف الربع الأول: قال: فإن حصل المطلوب فبفضل الله ومنِّه، وإن عاق عنه عائق، فيغني عنه إن شاء الله ما تقدمت الإشارة إليه من كلام الغير، فإنه قريب منه أو موافق. وكأنه رحمه الله عنا الشيخ نفعنا الله ببركته، وهي في جزءين " كما قال ابن الملقن " وقال: قد رأيتها ببيت المقدس، وبمصر أيضاً.

وسمى ابن الملقِّن في تصانيفه أيضاً: التنقيح في شرح الوسيط، وقال: أنه وصل فيه إلى أثناء " كتاب الصلاة "، حسبما وقف عليه بخطه. ولا أدري أهو الذي قبله أو غيره؟ وذكر بعضهم عن التنقيح: أنه وصل فيه إلى شروط الصلاة، قال: وهو كتاب جليل، من أواخر ما صنف، جعله مشتملاً على أنواع متعلقة بكلام " الوسيط "، ضرورية كافية لمن يريد المسائل الموجودة، والمرور على الفقه كله في زمن قليل، لتصحيح مسائله، وتوضيح أدلته، وذكر أغاليطه، وحلّ إشكاله، وتخريج أحاديثه، وذكر شيء من أحوال الفقهاء المذكورين فيه، إلى غير ذلك من الأنواع التي ألتزمها، ولم يتعرض فيه لفروع غير فروع " الوسيط "، وهي طريقة يتيسر معها تدريس " الوسيط " كل عام مرة، وقد كان بعض الأشياخ يفعل ذلك ولا يتعرض لفرع زائد، ويقول: إنه يقبح لمن يتصدى للإفتاء والتدريس أن لا يكون عهده باب من أبواب الفقه أكثر من عام. وفي كتب العلاَّمة النجم ابن حجي " بورك في حياته " كلامّ له على " الوسيط " في مجلدين بخطه، فيحرّر: هل هو على التوالي كالأول أولا؟ انتهى. والتحقيق، في الفقه، وصل فيه إلى أثناء باب صلاة المسافر. قلت: وهو " كما قال ابن الملقّن " نفيس، قال: وكأنه مختصر " شرح المهذّب " الماضي، قال غيره: إنه ذكر فيه مسائل كثيرة مُحضة، وقواعد وضوابط لم يذكرها في " الروضة ". وقال في مقدمته: حصل عندي نحو مائة مصنف من كتب أصحابنا، انتهى. إلى غير ذلك من المسوّدات. ولقد أمرني مرة ببيع نحو من ألف كرّاس بخطه، وأمرني بالوقوف على غسلها في الورّاقة، فلم أخالف أمره، وفي قلبي منها حسرات. قلت: ومن تصانيفه أيضا كتاب جامع السنّة، شرع في أوائله، وكتب منه دون كراسة. ومختصر صحيح مسلم، وتوقف ابن الملقّن في نسبته له، قال: وكأن مصنِّفه أخذ تراجمه من " شرح صحيح مسلم " له، وركّب عليها متونه وعزاه إليه. ومختصر أسد الغابة في معرفة الصحابة لأبن الأثير، كما نبه عليه في مصنَّفه: " التقريب ". وبستان العارفين، في الزهد والتصوف، بديع جدا. وأجوبة عن أحاديث سئل عنها، في دون كرّاس. ومنقب الشافعي، التي لا يسع طالب العلم أن يجهلها، اختصر فيها كتاب البيهقي الحافل في ذلك، بحذف الأسانيد، وهي في مجلد. وجزء أدعية رأيته بمكة. ومختصر التذنيب للرافعي، سماه: " المنتخب "، وقد أسقط منه من آخر الفصل السادس أوراقاً تزيد على الكراس، فلم يختصرها. ومختصر التنبيه، كتب منه ورقة. ومهمات الأحكام. قال بعضهم: وهو قريب من " التحقيق " في كثرة الأحكام، لكنه لم يذكر فيه خلافاً، وصل فيه إلى أثناء طهارة البدن والثوب. والأصول والضوابط، وهي أوراق لطيفة تشتمل على شيء من قواعد الفقه، وضوابط لذكر العقود اللازمة والجائزة، وما هو تقريب أو تحديد، ونحو ذلك. ومشكلات الوسيط. لكن قال الأسنوي: نسب ابن الرفعة إليه كتاباً في أغاليط الوسيط، يشتمل على خمسين موضعاً، بعضها فقهية وبعضها حديثية، ليست له وإن عزاها إليه صاحب " المطلب " وغيره " يعني الكمال الأدفوي " فإنه سماه في " البدر السافر " من تصانيفه، مع إشكالات على " المهذب "، وقال: إنهما لم يكملا. وزعم غيره أنه كامل، حيث ذكر في تصانيفه: " إيضاح الأغاليط الموجودة في الوسيط "، كامل في كراريس، فالله أعلم. وكذا سمى فيها: " أغاليط المهذب "، وقال: فيه فوائد. وقرأت بخط الولي العراقي ما نصه: الأوهام على المهذب والوسيط للنووي، نحو ثلاث كراريس، سمعها أحمد بن أيبك على رافع السلاّمي، بسماعه من أبي عبد الله محمد بن غالب بن يونس بن سعيد بسماعه من النووي، انتهى ما قرأته بخط الولي. والغاية. في الفقه، قال ابن الملقّن: وعندي إنها ليست له، وإن كانت له فلعلها مما صنفه في أول أمره. وسماها غيره: " النهاية في الاختصار للغاية "، وجزم الأسنوي بأنها ليست له. ويوجد للنهاية شرّح ينسب إليه، يسمى: " الكناية ". ومختصر البسملة لأبي شامة، رأيته بخطه، وهو في شرح " المهذب " بتمامه. ومسألة نية الاغتراف. ومختصر آداب الاستسقاء. ورؤوس المسائل، وتحفة طلاب الفضائل. ذكر فيه من التفسير والحديث والفقه واللغة، وضوابط ومسائل من العربية، وغير ذلك، جدير في معناه. وأفرد في شرح المهذب " أدب المفتي والمستفتي "، وهو نفيس. وقد سبقه لتصنيف هذا أبو عمر ابن الصلاح، ومن قبله أبو القاسم الصيمري.

نبذة من كلام العلماء في كتبه

وفتاوى أخر رتّبها بخطه، مما لم يذكر في فتاويه. فهذه نحو من خمسين تصنيفاً، كل ذلك " كما قال الكمال الأدفوي " في زمن يسير وعمر قصير، انتهى. نبذة من كلام العلماء في كتبه وعمّ النفع بتصانيفه وانتشر في الأقطار ذكرها، وأكبوا على تحصيلها، حتى رأيت من كان يشنؤها في حياته، مجتهداً في تحصيلها والانتفاع بها بعد مماته. قلت: قال اليافعي: وقد بلغني أنه حصلت له نظرة جمالية من نظرات الحق سبحانه وتعالى بعد موته، فظهرت بركتها على كتبه، فحظيت بقبول العباد، والنفع في سائر البلاد. وقال العثماني قاضي صفد في ترجمته من " طبقات الشافعية " له: سمعت الخطيب جمال الدين محمود بن جملة، الخطيب بالجامع الأموي، يقول بحضرة جماعة من مشائخ العصر: إنه سمع من شخص يخاطبه وهو بين النائم واليقظان: إن الله أفاض على النووي في قبره فيضاً، فصرف ذلك الفيض إلى كتبه، فمن ثم شاعت وذاعت، انتهى ما قاله العثماني. وأثنى الشمس الموصلي على جملة منها نظماً فقال: أحيا لنا العلم " يحيى " حين ألّفه ... ب " روضة "، و " رياض "، ثم " أذكار و" شرحه مسلماً "، و " الأربعين "، وفي ... " تقريبه " شرح أنواع الأخبار و" المبهمات " و " تهذيب اللغات "، وكم ... أبدى ل " منهاجه " تنبيه أنوار فالله يجزيه عنا كل صالحة ... وأن يقينا وإياه من النار وقد كانت " كما قرأته بخط الزين العراقي الحافظ بخطبة تخريجه الأكبر للإحياء " عادة المتقدمين السكوت على ما أوردوه من الأحاديث في تصانيفهم، من غير بيان لمن أخرج ذلك الحديث من أئمة الحديث، ومن غير بيان للصحيح من الضعيف، إلا نادراً، وإن كانوا من أئمة الحديث، ولكنهم مشوا على عادة من تقدمهم من الفقهاء، حتى جاء الشيخ محيي الدين النووي، فصار يسلك في تصانيفه الفقهية الكلام على الحديث، وبيان من خرّجه، وبيان صحته من ضعفه، وهذا أمر مهم مفيد. فجزاه الله خيراً. لأنه تحمّل عن ناظر كتابه التطلب لذلك في كتب الحديث، والمتقدمون يحيلون كل علم على كتبه، حتى لا يغفل الناس النظر في كل علم من كتب أهله ومضانه. وهذا الإمام أبو القاسم الرافعي يمشي على طريقة الفقهاء، مع سعة علمه بالحديث، حتى سمعنا شيخنا الحافظ أبا سعيد العلائي يقول: إن الرافعي أعرف بالحديث من الشيخ محيي الدين، فتوقفتُ في ذلك، فقال لي: هذه أماليه تدل على ذلك وعلى معرفته بمصطلحات أهله، وكذلك شرح " مسند الشافعي " له، ولكل من العلماء قصد ونية، على حسب ما وفِّق له وألهم، انتهى. " المنهاج " وحفظ " المنهاج " بعد موته خلائق. وأثنى حجة العرب الجمال ابن مالك على حسن اختصاره وعذوبة ألفاظه، حتى قال لي: والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لحفظته. وامتدحه شيخنا الأديب الفاضل الرشيد أبو حفص عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي، شيخ الأدب في وقته، بأبيات وقف عليها الشيخ بخطه، فقال: اعتَنَى بالفضل " يحيى " فاغتَنى ... عن " بسيط ب " وجيز " نافعِ وتحلَّى " منتقاه " فضله ... فتجلّى بلطيف " جامع " ناصباً أعلام علمٍ، جازما ... بمقالٍ رافعاً لل " رافعي " فكأنّ " ابن صلاحٍ " حاضرٌ ... وكأنْ ما غاب عنا " الشافعي " قلت: وقال فيه الأسنوي أيضاً: يا ناهجاً منهاجَ حَبْر وناسك ... دققت دقائق فكره وحقائقُهْ بادر ل " محيي الدين " فيما رمتَه ... يا حبذا " منهاجُه " و " دقائقُهْ " وقال غيره: إن رمتَ فِقهاً صافياً كالعاج ... فعليك يا ذا الذهن ب " المنهاج " فيه الصحيح مع الفصيح وعمدة ال ... مُفْتين والحكام والحُجّاج من قاسه بسواه مان وذاك من ... غبْنٍ ومن حسدٍ وسوءِ مزاج وللبرهان الجعبري: لله دَرّ إمام زاهدٍ ورع ... أبدى لنا من فتاوى الفقه " منهاجا " ألفاظُه كعقود الدّر ساطعةٌ ... على الرياض تزيد الحسن إبهاجا فاسلكه تَحْظ بأحكام تُنيف على ... علم " المحرَّر " تأويباً وإدلاجا

وانهلْ من " الروضة " الغنّاء زاهرةً ... بحراً من الفقه عذبَ الورد ثجّاجا أحيَ لنا الدين " محبيه " فألبسه ... بما تنوّع من تصنيفه تاجا يا ربِّ حيِّ ثرى " يحيى " ونَمِّ له ... نوراً يسير به في العَرْض فجّاجا بوِّئه قربَك في الفردوس منزلةً ... مع الذي نال في مسراه معراجا وللعلاء المقدسي تلميذه: ما صنف العلماء ك " المنهاج " ... في شرعة سلفٌ ولا مِنهاج فاجهد على تحصيله وكن آمنا ... بالحق في تفصيله من هاجٍ وله أيضاً: يا طالباً علم الإمام الشافعي ... هو في اختصار " محرَّر " للرافعي فاجهد على تحصيله وانسخ سوا ... هـ بلفظه العذب البديع النافع وقال شاعر العصر الشمس النواجي: يمِّمْ حمى النووي ولُذْ بعلومه ... وأنِخْ ب " روضته " تفز بحقائقِهْ واصرف لها ساعاتِ وقتك تريقِ ... درجاً إلى " منهاجه " و " دقائقه " قال التقي السبكي في أول القطعة التي شرحها منه ما نصه: هذا الكتاب في هذا الوقت هو عمدة الطلبة وكثير من الفقهاء، في معرفة المذهب، انتهى كلام السبكي. وممن علمته شرحه من الأئمة: البهاء أبو العباس محمد بن أبي بكر بن عرّام السكندري، والد التقي محمد ففي ترجمته أنه علق على " المنهاج ". والكمال بن المعالي محمد بن علي بن عبد الواحد، بن الزمْلَكاني الدمشقي. والبرهان إبراهيم بن التاج بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن الفركاح. علق كل منهما تعليقا - كما رأيته في ترجمتيهما، وأن أولهما سمى شرحه " السراج الوهاج في إيضاح المنهاج "، وقطعته جيدة، وفي أوقاف الكتب الباسطية لأبن الفركاح عليه نكت صغيره الحجم، سماها: " بعضُ غرض المحتاج ". وشرحه المجد أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني، نحو شرحه على " التنبيه " في الحجم، لكن ذاك أحسن من هذا. وكذا شرحه الشيخ نور الدين فرج بن أحمد بن محمد الأردبيلي، كتب من ست مجلدات، وهي بالمدرسة المحمودية. الشيخ تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي سماه " الابتهاج " لكنه لم يكمل، وقال في خطبته: وقد كنت في سنة ثمان وسبعمائة شرعت في شرح عليه كبير جداً في غاية النفاسة، سميته " العبير المذهب في تحرير المذهب "، عملت منه قطعة لطيفة من أول الصلاة، ولم يتفق الاستمرار عليه. وقد انتهت كتابته في " الابتهاج " إلى الطلاق، في ثمانية أجزاء. وشرع ولده البهاء أبو حامد أحمد في إكماله، فمات قبل أن يتم أيضاً. وكذا كمّل على السبكي من المتأخرين: الشيخ نور الدين محمود بن أحمد بن محمد الحموي، عرف بابن خطيب الدهيشة، وما أعرف هل تمّ أو لا؟ وكتب عليه شيئاً محمد بن عيسى بن عبد الله السكسكي المصري، ثم الدمشقي. والعماد محمد الأسنوي أخو الجمال الآتي شرحاً رأيت منه إلى البيع في مجلد لطيف، عند النجم بن حجي. وكذا كتب عليه الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن لؤلؤ بن النقيب، شرحاً لم يكمل ولا اشتهر ونكتاً كملت وانتفع بها، وهي كثيرة الفائدة. والشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم ابن الحسن الأسنوي، وما أحسنه وأتقنه.! لكنه لم يكمل، وصل فيه إلى المسافات، فكمّل عليه الشيخ بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، ثم استأنف وصار شرحه مستقلاً، لكن التكملة أكثر تداولاً. وللبدر عليه أيضاً " الديباج "، في مجلد. وكذا كمل على الأسنوي تلميذه: الشيخ زين الدين أبو بكر بن الحسين المراغي، ثم استأنف " فيما أظن " فصار شرحه أيضاً مستقلاً. والقاضي عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة، تكلم على مواضع فيه. قال الولي العراقي: إنه صنف عليه شرحاً لم يكمله. والعماد أبو الفداء إسماعيل بن خليفة الحسباني، له شرح في عشرة مجلدات، فيه نقول كثيرة وأبحاث نفيسة، لكنه " كما قال ابن قاضي شهبة " لم يشتهر، لأن ولده لم يمكّن أحداً من كتابته، فاحترق غالبه في الفتنة، قال: ورأيت منه مجلداً بخط الأذرعي، وكأنه كتب لنفسه منه نسخة، وهو ينقل أغلب ما فيه من النقول والبحوث في " القوت ". والجمال محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الشَّريشي، في أربعة أجزاء، اختصره من شرح الرافعي الصغير.

والتقي أبو بكر بن محمد بن الحصني، شرحه في عشرة أجزاء، وكأنه بعد سنة ست وسبعين، والشيخ شهاب الدين أحمد بن حمدان الأذرعي. له " غنية المحتاج "، و " قوت المحتاج "، وحجمهما متقارب، وفي كل منهما ما ليس في الآخر، إلا أنه كان في الأصل وضع أحدهما لحل ألفاظ الكتاب فقط فما انضبط له ذلك، بل انتشر جداً. وشرح قطعة منه القاضي برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم بن البدر ابن جماعة، في مجلد رأيته بخطه. وشرحه الشرف أبو الروح عيسى بن عثمان العزِّي، مصنف " أدب القضاء "، في " كبير " نحو عشر مجلدات، و " صغير " في مجلدين، لخصه من كلام الأذرعي، مع فوائد كبيرة من " الأنوار ". وله شرح ثالث متوسط بينهما. والشيخ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن الملقِّن، في " كبير " عُدِم، وسماه " كما قال قاضي صفد فيما أرسل به إليه " " جامع الجوامع "، وإنه نحو ثلاثين جزءاً و " متوسط " سماه: " العمدة ". و " مختصر " سماه: " العجالة "، وله أيضاً: " نهاية المحتاج لتوجيه المنهاج "، قَدْر المتن، وخرّج أحاديثه وضبط لغاته وغير ذلك. والشيخ سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان البلقيني كتب على ربع الجراح كتابة أطال فيها النفس، في خمس مجلدات وكذا كتب منه قطعاً غير ذلك، من ذلك من النكاح نحو مجلّد. والشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن العماد الأقفهسي، في " مطول " لم يوجد منه الآن سوى قطعة يسيرة تنتهي إلى صلاة الجماعة، في ثلاثة مجلدات. و " مختصر " في مجلدين. والشيخ كمال الدين محمد بن موسى الدميري، في أربعة مجلدات، ضمّنه فوائد كثيرة خارجة عن الفقه. قال في خطبته: وأول من شرحه الشيخ الإمام العلامة تقي الدين السبكي، فسبك إبريزه، ثم شيخنا الشيخ جمال الدين، لخّصه بعبارته الوجيزة، ثم العلامة شيخنا الشيخ سراج الدين بن أبي الحسن، فبيّن من أدلته الصحيح والغريب والحسن، ونقى شرحه ولغاته عن الطرف الوسن، ثم شرحه العلامة الأذرعي فسكّت وبكّت، ثم النّقاب ابن النقيب، نقّب عليه ونكّت، فكان كالجدول من البحر المحيط، والخلاصة من " البسيط " و " الوسيط "، ثم علق عليه أئمة من علماء العصر، كتبوا فأحسنوا ما صنعوا، وقوم أطنبوا، وقوم تمّموا فتعبوا وأتعبوا، وكل منهم عادت عليه بركة علاّمة نوى، فبلغ قصده، ولكل امرئ ما نوى: وقلَّ من جدَّ في أمر يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر انتهى كلام الدميري. وقد ظهر بما قلناه إن السبكي ليس أول من شرحه، نعم: إن كان بالنظر إلى الوفاء بالمقصود فالأولية صحيحة. ثم أن في تقديمه لابن الملقّن على الأذرعي مع الإتيان بثم: إشارة إلى أنه وإن تأخرت وفاته عن الأذرعي، فإنه صنف شرحه قديماً في أيام شيخه الأسنوي، حتى إن الأذرعي وقف عليه واستفاد منه، واعترض عليه في مواضع. وأما تعيين من أبهمه فيمكن أن يكون أشار إلى البدر الزركشي، والمراغي، أو أحدهما، والله أعلم. وفي ترجمة القاضي فخر الدين أبي اليمن محمد بن محمد بن محمد بن أسعد القاياتي، جدِّ شيختنا أم هانئ الهورنية لأمها والدة العلامة سيف الدين الحنفي، رحمهما الله من معجم شيخنا: أنه حفظ " المنهاج " وكتبه بخطه. وكتب عليه " مع قلة بضاعته " وشرحه أيضاً: الشيخ شمس الدين محمد ابن محمد بن الخضر العيزري، في شرحين، أحدهما: " كنز المحتاج إلى إيضاح المنهاج "، والآخر: " السراج الوهاج في حل المنهاج ". وشرح فرائضه الجمال يوسف بن الحسن بن محمد الحموي، خطيب المنصورية، وهو في مجلد عند العلامة النجم بن حجي، بورك في حياته. وشرحه الجمال عبد الله بن محمد بن طيمان، الطَّيماني، اختصره من شرح الشرف الغزّي. وكذا كتب عليه ملخِّصاً من الأذرعي وغيره شيئاً لم يشتهر، بغلاقة لفظه واختصاره. وكتب على خطبته شرحاً مطوَّلاً: الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن محمد بن عماد، عرف بابن الهائم، الفرضي. وللشيخ عز الدين محمد بن أبي بكر بن جماعة عليه: " زاد المحتاج في نكت المنهاج "، و " منهج المحتاج في نكت المنهاج "، و " بغية المحتاج إلى نكت المنهاج "، و " القصد الوهاج في حواشي المنهاج "، و " المنهج الوهاج في شرح المنهاج "، و " سائل الابتهاج في شرح المنهاج "، و " منبع الابتهاج في شرح فرائض المنهاج "، و " السبيل الوهاج في شرح فرائض المنهاج "، وغير ذلك مما وجد منه شرح الخطبة وأماكن مفرّقة عند أبي حجي المذكور.

وشرحه الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن بدر بن مفرج الغزّي، في ثلاثة أسفار، ورأيت في طبقات ابن قاضي شهبة أنه " أي الغزِّي " كتب عليه قطعة مطولة في مجلدين، إلى الصلاة، فأظنه غير الأول. وعمل عليه نكتاً القاضي جلال الدين البلقيني، لكنها لم تكمل، وصل إلى الجراح. وشرحه الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عيسى، بن خطيب عذراء في أجزاء، غالبه مأخوذ من الرافعي، فيه فوائد غريبة. والتقي أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن الحصني، في خمسة مجلدات. والنجم أبو الفتوح عمر بن حجي الدمشقي، لكن على مواضع منه. وفقيه الشام التقي أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة. وبعد مدة شرحه ولده البدر في شرحين. وكتب على خطبته، وإلى التيمم: الشيخ العلامة القاضي شمس الدين محمد بن علي القاياتي، وعلى مناسكه مواضع منه: شيخنا شيخ الإسلام وأبو الفضل بن حجر رحمه الله. وعلى جميع الكتاب: شيخه الشرف أبو الفتح محمد بن أبي بكر المراغي، ولده الماضي. والشيخ المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي. وهو مختصر في مجلد في غاية التحرير. وشرع فقيه المذهب: الشرف المناوي، في شرح مطوّل عليه، فكتب منه قطعة. وكتب عليه صاحبنا الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون تصحيحاً مطوّلاً سماه: " مغني الراغبين "، ومتوسطاً سماه: " هادي الراغبين "، ومختصراً. وآخرون هم الآن في قيد الحياة بمصر والشام، كثّر الله منهم، وأبقاهم ليؤخذ العلم عنهم، وكذا بلغني أن لابن صَوْراء، ونور الدين البكري، عليه شرحان لم يكملا، فتحرّرْ أمرهما. ويقال: إن الذي لابن صَوْراء إنما هو الجمع بينه وبين " الحاوي "، سماه: " الابتهاج ". ونظمه الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم رن رضوان الموصلي، والقاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان الزرعي المقدسي، عُرف بابن قرموز. والعلامة الشهاب أحمد بن ناصر الباعوني، قاضي دمشق. ووالد قاضيها: جمال الدين يوسف، رحمهما الله. ونظم فرائضه فقط ناصر الدين محمد بن محمد بن يوسف المنزلي، عرف بابن سويدان، سماه " وجهة المحتاج ونزهة المنهاج ". واختصره الشيخ أثير الدين أبو حيان الأندلسي، وسماه: " الوهاج ". وكتب عليه مضموناً مع " التنبيه ": الشيخ تاج الدين أبو نصر السبكي في " التوشيح ". وكذا الشيخ وليّ الدين أبو زرعة العراقي، وأضاف إليهما " الحاوي ". ومن فور جلالته وجلالة مؤلفه انتساب جماعة ممن حفظه إليه، فيقال له: المنهاجي، وهذه خصوصية لا أعلمها الآن لغيره من الكتب. وحكى لي صاحبنا الزين عبد الرحمن بن أحمد الهمامي، الدمشقي، الحنفي: إن أخاه الشمس محمد المقدسي حصل له توعك في صغره أدى إلى خرسه، حتى بلغ السنة السادسة، وإن والدهما توجه به إلى الشيخ عبد الله العجلوني، أحد جماعة التقي الحصني، وأمام جامع ابن منجك بالقبيبات، ملتمساً بركته ودعائه، فدعا له وبشره بالعافية، وألزمه بأن يجعله شافعياً، ويقرئه " المنهاج " بقصد بركة مؤلفه، مع كون سلفه وإخوته كلهم حنفية، فامتثل ذلك فعوفي عن قرب، فحفظ القرآن و " المنهاج " في أربع سنين، وهو الآن عين الدماشقة في كتابة المصاحف. " شرح المهذب " وكتابه " شرح المهذب " لم يصنف في المذهب على مثل أسلوبه. قال الأسنوي وابن الملقِّن: ليته أكمله، وانخرمت باقي كتبه، وبه عُرف مقداره. وقال الذهبي: إنه في غاية الحسن والجودة. وقال العماد ابن كثير في تاريخه: إنه لو كمل لم يكن له نظير في بابه، فإنه أبدع فيه وأجاد، وأفاد وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه في المذهب وغيره، والحديث على ما ينبغي، واللغة والعربية، وأشياء مهمة، لا أعرف في كتب الفقه أحسن منه. قال: على أنه يحتاج إلى أشياء كثيرة تزداد عليه، وتضاف إليه. وقال في " طبقات الشافعية ": سلك فيه طريقة وسطى حسنة، مهذبة سهلة، جامعة لأشتات الفضائل، وعيون المسائل، وجامع الأوائل، ومذاهب العلماء، ومفردات الفقهاء، وتحرير الألفاظ، ومسالك الأئمة الحفاظ، وبيان صحة الحديث من سقمه، ومشهوره من مكتتمه، وبالجملة فهو كتاب ما رأيت على منواله من أحد من المتقدمين، ولا حذا على مثاله متأخر من المصنفين.

وقرأت في تاريخه من نصه: رأيت في ليلة الاثنين، الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة، الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله، فقلت له: يا سيدي الشيخ، لم لا أدخلت في شرحك " المهذّب " شيئاً من مصنفات ابن حزم؟ فقال ما معناه: إنه لا يحبه، فقلت له: أنت معذور فيه، فإنه جمع بين طرفي النقيض في فروعه وفي أصوله، أما هو في الفروع فظاهري جامد يابس، وهو في الأصول مؤول مئع، قرمط القرامطة، وهرمسة الهرامسة. ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم، ثم أشرت إلى أرض خضراء تشبه النجيل، بل هي أردأ شكلاً منه، لا ينتفع بها في استغلال ولا رعي، فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها، انظر، هل ترى فيها شجراً مثمراً، أو شيئاً يُنتفع به؟ ثم قلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر. هذا حاصل ما رأيته، ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضراً عندما أشرت للشيخ محيي الدين إلى الأرض المنسوبة إلى ابن حزم، وهو ساكت لا يتكلم. وقال العثماني قاضي صفد: إنه " يعني شرح المهذب " لا نظير له، لم يصنّف مثله، ولكنه ما أكمله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذ لو أكمله ما احتيج إلى غيره، وبه عُرف قدره، واشتهر فضله. وقال التقي السبكي في أول التكملة التي عملها تلوه " وقد وصف المؤلف بالشيخ الإمام العلامة، علم الزهاد، قدوة العبّاد، أوحد عصرة، وفريد دهره، محيي علوم الأولين، وممهِّد سنن الصالحين ": إن بعضهم طالت " يعني في تكملة شرح المهذب " رغبته إليّ وكثّر إلحاحه عليّ، وأنا في ذلك أقدّم رجلاً وأواخر أخرى، واستهول الخطب، وأراه شيئاً أمراً، وهو في ذلك لا يقبل عذراً، وأقول: قد يكون تعرّضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشارح إساءة إليه، وجناية مني عليه، وأني " لي أن " أنهض بما نهض به وقد أُسعِف بالتأييد، وساعدته المقادير فقرّبت منه كل بعيد؟ ولا شك أن ذلك يحتاج بعد الأهلية إلى ثلاثة أشياء: أحدها: فراغ البال واتساع الزمان، وكان رحمه الله قد أوتي من ذلك الحظّ الأوفى، بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من تعيُّش ولا أهل. والثاني: جمع الكتب التي يُستعان بها على النظر والاطلاع على كلام العلماء، وكان رحمه الله تعالى قد حصل له من ذلك حظ وافر، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت. والثالث: حسن النية وكثرة الورع والزهد، والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها، وكان رحمه الله تعالى قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى. فمن تكون قد اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث، أنَّى يضاهيه أو يدانيه من ليست فيه واحدة منها؟ إلى أن قال: وقد استخرت الله تعالى وقلت في نفسي: لعل ببركة صاحبه ونيته يعينني الله تعالى عليه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فإن كنّ الله بإكماله فلا شك في ذلك من فضل الله تعالى وبركة صاحبه ونيته، إذ كان مقصوده النفع للناس ممن كان، انتهى كلام السبكي. وانتهت كتابته " كما رأيته بخطه في أربعة مجلدات " إلى التفليس. ولم يتهيأ إكماله لأحد ممن انتدب لذلك، لا العماد إسماعيل الحُسباني، ولا التاج السبكي، ولا الشهاب ابن النقيب، ولا السراج البلقيني؛ وسماه " الينبوع في تكملة المجموع "، كتب منه مجلداً من النكاح، ولا الزين العراقي، ولا ولده، رحمة الله عليهم أجمعين، وعُدّ ذلك من كرامات مؤلفه. وكتب الكمال جعفر الأدفوي على مقدمة " شرح المهذب " أشياء حسنة، وزاد أموراً مهمة. وشرع شيخنا في نكت عليه، فكتب يسيراً من أوائلها. " حول الروضة " وأما " الروضة " فقد انتدب لاختصارها القطب محمد بن عبد الصمد عبد القادر السنباطي، لكنه لم يُكمل. والشمسان: محمد بن عبد المنعم المنفلوطي، ومحمد بن أحمد بن عبد المؤمن بن اللبان لكنه لم يشتهر، لغلاقة لفظه. والشمس محمد بن أبي بكر بن عبد الله الأنصاري الفُوي السكندري، المتوفي سنة أربعين وسبعمائة. والعز محمد بن محمد بن محمود بن محمد بن بندار، التبريزي الأصل، المقدسي، البعلي. والنجم عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني. والجمال محمد بن أحمد بن محمد الشريشي. وفتح الدين محمد بن علي بن إسماعيل العشائشي، قاضي المرتاحية، في مجلدين لطيفين، وكان حيا في سنة أربع وتسعين وسبعمائة. والشرف أبو الروح عيسى بن عثمان الغزّي، مصنف " أدب القضاء "، اختصرها مع زيادات كثيرة أخذها من " المنتقى " وغيره.

والزين أبو العباس احمد بن ناصر الدين محمد بن أحمد بن محمد البكري، جد الشيخ جلال الدين دام النفع به، وهو بمدرسة الجمالي ناظر الخواص " كما ذكره لي حفيده "، وأنه سماه: " عمدة المفيد وتذكرة المستفيد "، قال: واختصرها من قبلة والده، لكنه لم يكمل. وكذا اختصرها الشمس محمد بن علي بن جعفر البلالي. ومحيي الدين أحمد بن النحاس، نزيل دمياط، لكنه لم يكمل أيضا. والشرف ابن المقرئ اليماني، في الروض، وقد كثر تداوله في هذا التاريخ وشرح واختصر أيضا. والشهاب ابن رسلان المقدسي، وهو عند صاحبنا الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون. والشمس محمد بن محمد بن احمد الحجازي، مع زيادات ضمها إليه من " المهمات " وغيرها. ووصف الشيخ في أولها بالإمام الأجل، الفاضل الكامل الورع، المتقي، مفتي الشام، علامة عصره: محيي الدين أبي زكريا، نوَّر الله ضريحه، وجعل من الرحيق المختوم غُبُوقه وصُبُوحه. وأفرد المجد الزنكلوني زوائدها. وكتب عليها نُكتاً في قدر " المنهاج ": الكمال النشّاي، وهي في كتب النجم ابن حجي. وكتب عليها الشيخ سراج الدين البلقيني حواشي، جرّدها البدر الزركشي قديماً، ورأيته بخطه، واستدرك شيخنا عليه بخطه ما تجرّد بعد تجريده من الحواشي. وجرّدها أيضا الوليّ العراقي. وكذا لولده القاضي جلال الدين عليها حواشٍ أيضاً جردها أخوه شيخنا القاضي علم الدين وجمع بينهما وبين حواشي والدهما، رحمة الله عليهم. وشرح قطعا منها شيخنا العسقلاني، في آخرين ممن كتب عليها مضمومة مع " الشرح الكبير " " أصلها " كالإسنوي، والأذرعي، وسيأتي كلام كل منهما فيها، والزركشي. وكذا من المتأخرين: فقيه طرابلس الشمس محمد بن يحيى بن أحمد بن زهرة. وكان للزين أبي حفص عمر بن أبي الحرم الكتّاني على نسخته ب " الروضة " حواش، لأنه ولع في آخر عمره بمناقشاته، وقد جرد هذه الحواشي بعض أصحابه من غير علمه، وليس فيها كبير قائل، بل في غالبها تعنّت. وقد وقف التقيّ السبكي على بعضها وأجاب عن كلامه. وأثنى على " الروضة " الأئمة، فقال الأذرعي في أول " الوسيط " هي عمدة أتباع المذهب في هذه الأمصار، بل سار ذكرها في النواحي والأقطار، فصارت كتاب المذهب المطوّل، وإليها المفزع في النقل وعليها المعوّل، فإليها يلجأ الطالب النبيه، وعليه يعتمد الحاكم في أحكامه، والمفتي في فتاويه، وما ذاك إلا لحسن النية، وإخلاص الطوية، غير إنه " رحمه الله " اختصرها من كتاب الإمام الرافعي " رحمه الله "، من نُسخ فيها سُقْم، فجاء في مواضع منها خلل، فإنه اعتمد في اختصاره على نسخة الإمام البادرائي التي بخزانة مدرسته بدمشق المحروسة، وفيها سُقْم، واستعان عليها بنحوها، فحل بذلك نقص وخلل يخفى على المبتدئ، ويُشكل على المنتهي، وكان مع ذلك " رحمه الله تعالى " كالسائق المجد، حتى قيل: إن تصنيفه بلغ في كل يوم كراستين أو أكثر، فهو كما قال القائل: وطويلُ باعِي الهمِّ قد قعدتْ له ... عزماتُه رُصْداً بكل طريق فإذا ونَى أَذكرْنه قِصَر المَدى ... ورضَى السَّبُوق وخَجلةَ المَسبوق إلى أن قال: واعلم وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يتقيه حق تقاته، أني لم أقصد بما أشرت إليه الاعتراض على الشيخ، ولا التعقّب لكلامه بالتوهمّ والإزواء، معاذ الله، وإنما أردت النصيحة له وللمسلمين، وإفادة المتعلمين، فلقد كان من أحرص الناس على ذلك وبذل وسعه فيه، وإنما سبب ما اتفق له من ذلك ما أشرت إليه، ودللتك عليه، هذا مع استغراقه أكثر الأوقات بالطاعات، والأوراد والأعمال الزاكيّات، ولو تأمل ذلك بعض التأمل لوضح لديه، وبرهن عليه، ولكنه كان كالجواد المسرع عنه في ميدانه. ولقد حكي عنه أنه كان يكتب حتى تكل يده وتعجز، فيضع القلم ثم ينشد: لئن كان هذا الدمع يجري صبابةٌ ... على غير سُعدَى فهو دمع مُضيّعُ وهذا منه رضي الله عنه من باب قوله سبحانه وتعالى: (والذين يؤتون ما أوتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) ، قال الحسن رحمه الله: كانوا يعملون أعمال البر ويخشون أن لا تُتَقَبل منهم.

ولقد حُكي عنه رحمه الله: أنه همّ قبل وفاته بقليل بغسل " الروضة " كما غسل نحو ألف كراسة من تعليقاته، فقيل له: قد سارت بها الركبان، فقال: في نفسي منها أشياء، أو كما قال. ولم يتفق له مراجعتها وتحريرها، بل هجمت عليه المنية قبل إدراك الخمسين، فرضي الله عنه وعن جميع عباده الصالحين، فإنه من أمّن الأصحاب عليه في سلوك المذهب، فمن كتبه تفقهت، وبكلامه تبصرت، وفي منهاجه سلكت، وبدعائه انتفعت، وذلك أنه كان قد حصل لي فترة عن الطلب في حدود الثلاثين وسبعمائة، مدة مديدة، فرأيت كأني أسير على غير جادة، ثم حانت مني التفاتة إلى جهة القبلة، فإذا خلق كثير مشاة، عليهم ثياب بيض نقية، فوقع لي أنه الشيخ وأتباعه، فنزلت من دابتي ومشيت معهم على الجادة نحو دمشق، فما هو إلا ونحن بميدان الحصى، وإذ بشخص من أقاربي قد تلقاني فسلّم عليّ، وأطال وقوفه معي، فالتفتّ فلم أرى منهم أحداً، فلمته، وجعلت أقفو آثارهم، وأسال عن سبيلهم فأرشد إليه، حتى صرت بين البساتين التي بين المدينة والصالحية، وإذا بكثير من ذلك الجمع منقطعين في الطرقات، فمن جالس مسند ظهره إلى جدار، ومن ماد ساقيه من الإعياء، ومن مضطجع ومستلق يئن كالمريض، فجعلت أدوس ثياب بعضهم أو شيء من بدنهم من شدة الإسراع، إلى أن بلغت المدرسة الشِّبلية الحنفية المشهورة، وإذا بالشيخ ومعه رجلان فقط فلما قربت منهم التفت فرآني، فالتمست منه الدعاء وأقسمت عليه، فتبسم وسعى وحده نحوي خطوات، ثم أخذ في الدعاء لي، فالتفت فإذا والدي رحمه الله واقف يؤمِّن على دعائه، ثم انصرف إلى صاحبيه ومضوا، فاستيقظت مسروراً وراجعت طلب المذهب، ثم ظهر لي أثر الرؤيا صبيحتها كفلق الصبح، وذلك أن القريب الذي أوقفني عنهم تقرّب إليّ بعد الرؤيا بأيام، واجتهد في صحبتي وملازمتي، بحيث لا يفارقني في أغلب الأوقات، ويحول بيني وبين الطلب، إلى أن درج إلى رحمة الله فتماثل الحال، وكانت تلك الوقفة معه في المنام ما ذكرته، فرحمه الله وإيانا، ثم إني أكببت على تحصيل مؤلفات الشيخ والنظر فيها، فرأيت من قضاء حقه أن أنبِّئ على ما يتفق لي العثور عليه في " روضته " وغيرها. وكذا أثنى على " الروضة "، بل وعلى سائر تصانيفه، التاج السبكي، حيث قال فيه " طبقاته الكبرى " ما نصه: " لا يخفى على ذي بصيرة أن الله تعالى بالنووي عناية وبمصنفاته "، واستدل على ذلك بما يقع في ضمنه من فوائد، حتى لا تخلو ترجمته عن فوائد. فأقول: ربما غيَّر لفظ من ألفاظ الرافعي، إذا تأمله المتأمِّل استدركه عليه وقال: لم يف بالاختصار ولا جاء بالمراد، ثم يجده عند التنقيب قد وافق الصواب، ونطق بفصل الخطاب وما يكون من ذلك عن قصد منه لا يعجب منه، فإن المختصر ربما غيّر الكلام من يختصر كلامه من مثل ذلك، وإنما العجب من مغيَّر يشهد العقل بأنه لم يقصد إليه، ثم وقع منه على الصواب، وله أمثلة منها: قال الرافعي في " كتاب الشهادات " في " فصل التوبة عن المعاصي الفعلية " في التائب: إنه يختبر مدة يغلب على الظن فيها إنه أصلح عمله وسريرته، وأنه صادق في توبته، وهل تتقدّر تلك المدة؟ قال قائلون: لا، إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقة، ويختلف الأمر فيه بالأشخاص وأمارات الصدق، هذا ما اختاره الإمام والعبادي، وإليه أشار صاحب الكتاب بقوله: حتى يستبرئ مدة فيعلم.. إلى آخره، وذهب آخرون إلى تقديرها، وفيه وجهان، قال أكثرهم: يستبرئ سنة، انتهى بلفظه. فإذا تأملت قوله: قال أكثرهم، وجدت الضمير في مستحق العود على الآخرين الذاهبين إلى تقديرها، لا إلى مطلق الأصحاب، فلا يلزم أن يكون أكثر الأصحاب على التقدير، فضلاً عن التقدير سنة، بل المقدّر بعضهم، واختلف المقدّرون في المدة وأكثرهم على أنها سنة، فهذا ما يعطيه لفظ الرافعي في " الشرح الكبير ". وصرح النووي في " الروضة " بأن الأكثرين على تقدير المدة سنة. فمن عارض بينها وبين الرافعي متأملاً قضي بمخالفتها له، لأن عبارة " الشرح " لا تقتضي أن أكثر الأصحاب على التقدير وأنه سنة، بل أن أكثر المقدرين الذين هم من الأصحاب على ذلك ثم يتأيد هذا القاضي بالمخالفة بأن عبارة الشافعي رضي الله عنه ليس فيها قدير بسنة ولا بستة أشهر، وإنما قال: أشهراً، وطلق الأشهر رضي الله عنه إطلاقاً.

إلا أن هذا إذا عاود كتب المنهج وجد الصواب ما فعل النووي، فقد عزى التقدير وأن مقدارها سنة، إلى أصحابها قاطبة، فضلاً عن أكثرهم " ومنهم ": الشيخ أبو حامد الأسفرائيني في " تعليقه "، وهذه عبارته: قال الشافعي: ويختبر مدة أشهر ينتقل فيها من السيئة إلى الحسنة ويعفّ عن المعاصي، وقال أصحابنا: ويختبر سنة. وكذلك قال القاضي حسين في " تعليقه "، ولفظه: قال الشافعي: مدة من المدد، قال أصحابنا: سنة، انتهى. وكذلك الماوردي، ولفظه: وصلاح عمله معتبر بزمان اختلف الفقهاء في حده، فاعتبره بعضهم بستة أشهر، واعتبرها أصحابنا بسنة، انتهى. وكذلك الشيخ أبو حامد، فإنه قال في " المهذب ": وقدّر أصحابنا المدة بسنة. وكذلك البغوي في " التهذيب "، وجماعات، كلُّهم عزوا التقدير بسنة إلى الأصحاب فضلاً عن أكثرهم، ولم يقل بعض الأصحاب: إلا القاضي أبو الطيب، والإمام، ومن تبعهما، فإنهم قالوا: قال بعض أصحابنا: يقدر بسنة. قال بعضهم: زاد الإمام إن المحققين على عدم التقدير. ومن تأمل ما نقلناه أيقن بأن الأكثرين على التقدير بسنة، وبه صرح الرافعي في " المحرر "، ولوّح إليه تلويحاً في " الشرح الصغير ". وظهر حسن صنيع النووي وإن لم يقصده، عناية من الله تعالى به، انتهى كلام التاج. وكان الحامل له على جزمه بكونه لم يقصده عدم تصريحه بأنه من زياداته، وذلك غير لازم، والله أعلم. وقال قاضي صفد العثماني: هي خلاصة مذهب الشافعي، وهي عمدة المفتين والحكام بعصرنا. أخبرنا الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن خفاجة الصفدي، وكان من العلماء العاملين، قال: رأيت رسول الله صلى اله عليه وسلم بمنامي، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في النووي، قال: نعم الرجل النووي. فقلت: صنّف كتاباً وسماه " الروضة " فما تقول فيها؟ قال: هي الروضة كما سماها. وأول من أدخلها قوص: نور الدين علي بن الشهاب هبة الأسنائي، الشافعي، كتبها بخطه وأدخلها قوص. " حول شرح مسلم " وقال ابن كثير في وصف " شرح مسلم ": إنه جمع فيه شروحات من تقدّم من المغاربة وغيرهم، وزاد فيه ونقص، انتهى كلامه. وقد اختصره الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف بن الياس، القونوي، الحنفي، صاحب " درر البحار "، وتعقب عليه فيه مواضع، وقال مرة: هو أزهد مني، لكني ... وذكر شيئاَ لا أثبته. وكذا انتفى منه الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي، واستدرك عليه في كثير منه، فالتقط شيخنا من كلامه الاستدراك خاصة في كراسة. وكذا استدرك شيخنا على الشيخ مواضع كان عزمه إفرادها من هوامش نسخته، فما اتفق، مع أنه كان شديد الدب معه، حتى سمعته مراراً يقول: لا أعلم نظيره في قبول مقالة عند سائر أرباب الطوائف، قال: وفي التعقبات لابن العماد على الجمال الأسنوي بركة ظاهرة للشيخين، وقال: أخبرني الجمال محمد بن أبي بكر المصري بزُبَيْد، أنه شاهد الجمال أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر الرَّيْمي اليماني، القاضي الشافعي، عند موته وقد اندلع لسانه واسودّ فكانوا يرون أن ذلك بسبب اعتراضه وكثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي. ونحوه فيما بلغني ما اتفق لشخص كرماني من اليمن في عصر ابن المقرئ وغيره، وكان ينازع في إطلاق النووي تحريم النظر للأمرد، كأنه لكونه كان منتمياً لابن عربي، ويطلق لسانه فيه بسبب ذلك وشبهه، فإنه لم يمت حتى سقط لسانه، رحمه الله ونفعنا ببركته. وكتب شيخنا على فُتيا تتعلق بمسألة إفراد الصلاة عن السلام، بعد مخالفته له في إطلاق الكراهة؛ ولعله " يعني الشيخ " أطلع لذلك على دليل خاص، وأنشد: إذا قالت حذام فصدِّقوها ... فإن القول ما قالت حذام ثم وقفت على كراسه من أول نكت شيخنا على " شرح مسلم " قال فيها: قصد بجمعها بركة الشارح، إذ كان ذلك أمراً متفقاً عليه. ولقد حكى لي العلامة الرباني الكمال إمام الكاملية وشيخها " بورك في حياته ": أنه رآه في النوم وعليه ثوب " طرح مدقوق غسيل "، قال: فقبلت يده وسلمت عليه، ودعا لي كثيراً، وقلت له: إنه يشق عليّ من يعترض عليك، فقال: إنهم يعملون وجه الحسنة سيئة، انتهى المنام. ولم يزل أهل التحقيق ممن أدركناهم وأخذنا عنهم، لا ينفكون عن الاعتناء بكلامه، والجواب عما لعل فيه بعض الإيهام، رحمة الله عليهم. " حول كتابيه: التحقيق، والتحرير "

الوظائف التي تولاها

وشرح الشهاب ابن النقيب في تكملة كتاب " التحقيق "، فكتب منه يسيراً. وأفرد ابن الملقّن ما في " طبقات الشافعية " له من أقوال في جزء. وكذا كتب على " التحرير " جزءاً كما تقدم. " حول الأربعين " وشرح الأربعين له جماعة، أول من علمته منهم: الشهاب أبو العباس أحمد بن فَرْح الأشبيلي، الشافعي. والنجم سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي. والتاج عمر بن علي بن سالم الفاكهاني المالكي، وسماه: " المنهج المبين في شرح الأربعين ". والشهاب أحمد بن موسى بن خفاجا الشافعي، في مجلد ضخم. وأبو عبد الله محمد الزركشي، والحافظ الزين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، وهو نفيس. والسيد نور الدين أبو عبد الله محمد بن الجلال بن عبد الله بن المعين محمد بن القطب محمد الأيجي، والد شيخنا السيد عفيف الدين محمد. والسراج أبو حفص بن الملقّن، وسماه: " المعين على تفهّم الأربعين ". والعز يوسف بن الحسن بن محمود الحَلْواني. والعز محمد بن أبي بكر بن جماعة، وسماه: " التبيين في شرح الأربعين ". والتقي أبو بكر بن محمد الحصني. والخُجندي المدني، أظنه البرهان إبراهيم بن العلامة جلال الدين أبي طاهر أحمد الحنفي، المتوفى سنة إحدى وخمسين وثمنمائة، ووالده. وآخرون، منهم ممن في قيد الحياة شيخ الكاملية وأمامها. وخرّج أحاديثه محمد بن أحمد بن محمد المصري السعودي، عُرف بابن شيخ البئر، بل كتب عليها شرحاً جمع فيه بين الثلاثة الأولين. وأملى الحافظ الزين أبو الفضل العراقي تخريج أحاديثها. وكذا خرّج أحاديثها شيخنا، واقتفيت أثره في ذلك. " حول الأذكار " وأملى " يعني شيخه ابن حجر " نحو النصف من تخريج " الأذكار " له، وقد شرعت في تكملته، فأمليت منه إلى هذا اليوم أزيد من سبعين مجلساً. ثم بلغت إلى مائتين وثمانين، يسّر الله إتمامه في خير بلا محنة، وقد فعل، فانتهى في جمادى الثانية سنة إحدى وثمانين " وثمنمائة ". ولوالد شيخنا " رحمهما الله " على " الأذكار " بعض حواشٍ. " حول الغاية " وشرح " الغاية " المنسوبه له الجمال الأسنوي، والكمال النشّاي، والتقيّ الحصني، والشمس محمد بن أحمد بن موسى العجلوني. انتهى. الوظائف التي تولاها وولي " رحمه الله " من الوظائف الدينية مشيخة دار الحديث الأشرفية. قال الذهبي: مع صغر سنّه ونزول روايته، في حياة مشائخه، بعد الإمام أبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان، سنة خمس وستين " وستمائة "، إلى أن مات، انتهى كلام الذهبي. وفي رسالة لابن النجار، ما يشعر بكونه لم يوافق على توليتها إلا بعد جهد، فإنه قال فيها مجيباً له عن تهديده بعزله عنها ما نصه كما سيأتي: أو ما علمت لو أنصفت كيف كان ابتداء أمرها؟ أو ما كنت محاضراً مشاهداً أخذي لها؟ إلى آخر كلامه. ونشر " كما قال القطب اليونيني " بها علماً جمّاً، وأفاد الطلبة، قال: والذي أظهره وقدمه على أقرانه ومن هو أفقه منه: كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته وورعه، وليس فيمن اشتغل عليه من يلتحق به، انتهى كلام القطب. ووهِم من قال: إنه أقام في الأشرفية نحو عشرين سنة، وقد استقر فيها بعده الشيخ الزين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله الفارقي ومن يلها من زمن الواقف أورع من الشيخ كما صرح به التاج السبكي، مع ادعائه ما أظن أن والده الذي صرح في أول نسخة " شرح المهذب " بما سبق، وكان يمرغ وجهه رجاء أن يمس مكاناً مسّه قدمه، وينشد ذاك الشعر حسبما يأتي لا يوافقه عليه، حيث قال التاج في ترجمة أبيه: وولي بعد وفاة المزّي مشيخة دار الحديث الأشرفية، فالذي نراه أنه ما دخلها أعلم منه، ولا أحفظ من المزي، ولا أروع من النووي وابن الصلاح، انتهى كلامه. ووقع في مقدمة " المهمات " في الفصل الأول، في الكلام على احتمالات الإمام: أتكون أوجُها أم لا؟ وحكى كلام الغزالي ثم الرافعي ثم النووي في ذلك، وأن كلا منهم عدّها أوجها، وأن كلاّ منهم أجلُّ ممن جاء بعده. ثم نقل عن ابن الرفعة التصريح بخلافه، وتعقبه بقوله: والذي ذكره مردود بما سبق من نقل جماعة كلٌّ منهم أجلُّ منه.

تلاميذه

وبالجملة فالكف عن الخوض في هذا أقرب إلى السلامة من العطب، لا سيما وينشأ منه أن من لم يلحق مرتبة القائل ولا له نسبة بآحاد أتباع أتباعه، بل ولا له كبير وجاهة في علم: يجعله ذريعة لمقاصده الفاسدة. ولقد سألت شيخنا " وناهيك به نقداً للرجال " عن التفضيل، بين الشيخ والرافعي في الحديث بخصوصه، فما سمح لي بالجواب إلا بتكلف، مع كونه لم يزد على أن قال: وُجد للرافعي على طريقة أهل الفن عدة تصانيف: تاريخ قزوين، والأمالي، وشرح المسند. ولكن الأدب عدم التعرّض لهذا أو نحوه. فانظر كيف لم يسمح بذلك مع الرافعي، مع كون شيخ شيخه الحافظ أبي سعيد العلائي قد جزم به، " كما أسلفه في آخر سرد تصانيفه " فكيف بمن دونه؟ فالأولى الوقف، لا سيما والحاجة غير داعية إليه. ولقد اضطر شيخنا مع مزيد تواضعه وأدبه مع الشيخ " كما سبق " إلى الخوض في تصانيفه، وكونه مسبوقاً بها، واختصاص " شرح المهذب " منها بمزيد التعب والطريقة المبتكرة، ولذلك لم يكمل. فقدِّرْ بعد وفاة شيخنا زَعَم شخص ممن لا نسبة له بآحاد جماعته، أن تصانيفه كلها قد سُبق إليها، فعارَضْته ب " تغليق التعليق " و " فتح الباري "، وغيرهما، مما لم يُسبق إليه، أو سُبق به وكان هو اللاحق بوضعه، وهو مصمّم على العناد، وأعرضت عنه وتوهمت أن ذلك ببركة الشيخ، لكون السكوت كان عنه أولى، رحمهما الله ونفعنا ببركتهما. وقال القطب اليونيني: إن الشيخ باشر أيضاً تدريس الإقبالية، والفلكية، والرُّكنية، للشافعية، نيابة عن قاضي القضاة: الشمس أحمد بن خَلِّكان، في ولايته الأولى، انتهى. وحدّث بالصحيحين بدار الحديث الأشرفية سماعاً وبحثاً، وبقطعة من سنن أبي داود، وبالرسالة للقشيري، و " صفوة التصوف "، و " الحجة على تارك المحجة " لنصر المقدسي، كلها سماعاً وبحثاً، و " شرح معاني الآثار " للطحاوي. قلت: ووجد بحاشية نسخة من " الروضة " أنه وُجد بخطه من الشعر. وأنت الذي أرجوه في الأمر كلِّه ... عليك اعتمادي في جميع النوائب وأنت الذي أدعوه سرّاً وجهرة ... أجرني بلطفٍ من جميع المصائب وبخط تلميذه العلاء بن العطار: أنه وجد بخطه أيضاً: أموت ويبقى كلُّ ما قد كتبتُه ... فيا ليت من يقرأ كتابي دعا ليا لعل إلهي أن يمن بلطفه ... ويرحم تقصيري وسوء فعاليا وكذا وجد بخطه: جرى قلمُ القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويُرزَق في غشاوته الجنين ويشبه أن يكون ذلك ما تمثل به وليس من نظمه، ثم ظهر ذلك وأنهما للماوردي كما عزاهما إليه ابن كثير في ترجمته. وقيل إنه سُمع من الشيخ قرب وفاته، ووُجد في موضع آخر نسبتُها إلى نظمه وأنه ليس له نظم غيرها: بشائر قلبي في قدومي عليهمُ ... ويَا لسُروري يوم سيري إليهمُ ولا في رحلتي يصفو مقامي وحبذا ... مقامٌ به حطُّ الرحال لديهمُ ولا زادَ لي إلا يقيني بأنهمْ ... لهم كرَمٌ يغني الوفود عليهمُ ووجدتُ بخط الشرف القدسي رواية عن العز بن جماعة، عن أبيه البدر: أن الشيخ أنشده لنفسه بالمدرسة الرّواحية: خَرِس اللسانُ وكَلَّ عن أوصافكم ... ماذا أقول وأنتمُ ما أنتمُ الذنبُ والتقصير مني دائماً ... والعفوُ والإحسانُ يُعرَفُ منكمُ انتهى. تلاميذه وسمع منه خلق من العلماء والحفّاظ، والصدور والرؤساء، وتخرّج به خلق كثير من الآفاق، وسار علمه وفتاويه في البلدان. قلت: وروى الأئمة " حتى من تقدمت وفاته عليه " كلامه في تصانيفهم، كالمحب الطبري، فإنه نقل عنه في كتابه " القِرى " أشياء، وكذا اتفق أن كلاّ من ابن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، كان من المستفيدين من إمامنا الشافعي، المفتخرين به، ومات قبل الشافعي بسنتين، انتهى.

وكنت مدة صحبتي له مقتصراً عليه دون غيره، من أول سنة سبعين وقبلها بيسير، إلى حين وفاته. وقرأت عليه الفقه تصحيحاً عرضاً، وشرحاً، وضبطاً خاصاً وعاماً، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه ضبطاً وإتقاناً، وأذِن لي في إصلاح ما يقع في تصانيفه، فأصلحت بحضرته أشياء أقرني عليها وكتبها بخطه، وكان رفيقاً بي شفيقاً عليّ، لا يمكن أحداً من خدمته غيري، على جهد مني في طلب ذلك منه، مع وراقبته لي في حركاتي وسكناتي، ولطفه بي في جميع ذلك وتواضعه معي في جميع الحالات، وتأديبه لي في كل شيء حتى الخطرات، وأعجز عن حصر ذلك. وممن أخذ عن الشيخ أيضاً: الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب، قرأ عليه قطعة من " المنهاج "، واستنسخ " الروضة " له، وقابل ابن العطار له بعضها مع الشيخ، وأصلح بخطه مواضع فيها بإملاء الشيخ، رحمهم الله. والمحدث أبو العباس أحمد بن فرْح الإشبيلي، كان له ميعاد عليه يوم الثلاثاء والسبت، يشرح في حدهما البخاري، وفي الآخر صحيح مسلم. والرشيد إسماعيل بن عثمان بن عبد الكريم بن المعلم الحنفي، قرأ عليه في " شرح معاني الآثار " للطحاوي. وأبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الحنبلي. قلت: وكذا أخذ عنه الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عباس بن جعوان. والفقيه المقرئ أبو العباس أحمد الضرير، الواسطي، الملقب بالخلال. والنجم إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الخباز. والشيخ الناسك جبريل الكردي، قال اليافعي: وعليه سمعت الأربعين. والجمال رافع الصميدي والد الحافظ تقي الدين محمد بن رافع، وحضر حلقته. والأمين سالم بن أبي الدر. والفقيه الأديب سلطان، إمام الرواحية. والقاضي جمال الدين سليمان بن عمرو بن سالم الزُّرْعي. والقاضي صدر الدين أبو الفضل سليمان بن هلال بن شبل الجعفري الحوراني، الدمشقي، الشافعي، خطيب داريا، وأثنى عليه الشيخ. وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسي. وعبد الرحيم بن محمد بن يوسف السمنّودي، الخطيب الأديب. والمجد أبو حامد عبد المحمود بن عبد السلام بن حاتم بن أبي محمد بن علي البعلي، ممن تفقه على الشيخ. والعلاء علي بن أيوب بن منصور المقدسي، الذي نسخ " المنهاج " بخطه، وحرره ضبطاً وإتقاناً، وهو بخطه في المحمودية. والضياء أبو الحسن علي بن سليم بن ربيعة الأنصاري الأذرعي، الشافعي، ناظم " التنبيه ". وعلاء الدين علي بن عثمان بن حسان بن محاسن، الدمشقي، الشاغوري ابن الخراط. وأبو الحسن علي بن محمد بن موفق بن منصور، اليمني، الشافعي. ومما قرأ عليه: " الأربعون " له، في مجلسين، ثانيهما يوم الأربعاء رابع عشر شعبان سنة أربع وسبعين وستمائة بدمشق، وقال الشيخ فيما كتبه له بخطه: سمع علي هذا الجزء صاحبه الفقيه الصالح، المعتني: فلان أدام الله توفيقه، ولطف به في جميع أموره، وبارك الله في أحواله، فسمعه بقراءته وأنا ممسك أصلي لمقابلته. والبدر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، المشار إليه في أثناء أول ما ذكرته. ويقال: إن فتواه عرضت على الشيخ، فاستحسن كتابته عليها. والشمس محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن النقيب، وهو آخر من كان من أعيان أصحابه.

الوظائف التي تولاها

والشهاب محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مُزْهِر الأنصاري، الدمشقي المقرئ، وتأخرت وفاته، حتى مات في سنة تسعين وستمائة، قرأ عليه وسمع جميع " الأذكار "، ووصف قراءته في بعض البلاغات، بالمتقنة المهذّبة، ودعا له في البلاغات بدعوات جمة، منها: أدام الله نعمه عليه، وأدام الله ألطافه به، وأدام الله سعادته، وأدام الله له الخيرات، ورضي الله عنه. وكتب له بآخر النسخة: قابلت جميع هذا الكتاب بأصلي مع صاحبه: كاتبه الشيخ الإمام العالم، الفاضل العامل، الصدر شهاب الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مُزْهِر، الأنصاري، الشافعي، الدمشقي، أدام الله له الخيرات، وضاعف له الحسنات، وأمده في طاعته بالمعونات، وتولاه بالحسنى، وجمع له بين خيرات الآخرة والأولى، وجمعني وإياه وسائر أحبابنا في دار كرامته بفضله ورحمته. فسمعه الشيخ الإمام شهاب الدين المذكور سماعاً متقناً، وقابلت معه نسخته هذه مقابلة مُرضية بأصلي، في مجالس آخرها يوم الاثنين، الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وأجزتُ له كل ما يجوز لي تسميعه. كتبه يحيى بن شرف بن مِرَيْ بن حسن النواوي عفا الله عنه، انتهى. ونقلت جميع ذلك من خطه على نسخة ب " الأذكار ". وأبو عبد الله محمد بن غالب بن يونس بن شعبة سمع عليه " أوهام المهذّب والوسيط " من تصنيفه " كما تقدم في أسماء تصانيفه ". والإمام الأوحد ناصر الدين أبو الفتح منصور بن نجم بن زبّان " بمعجمة ثم تحتانية مشددة " بن حسان بن سليمان، الليثي، القرتاوي، وكان يوصف بالانتماء إليه، وبالديانة، ومما سمع عليه: كتاب " الأربعين " بإشارتها، وقد حدّث بها، سمعها منه البدر محمود بن علي بن هلال العجلوني، شيخ ناصر الدين محمد بن حسن القاموسي في ذلك بالسماع. والشرف هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن البارزي. وحدّث يحيى بن محمد المغراوي التونسي، عن النووي، ب " الأربعين " له، سماعاً منه " كما ذكره ابن مرزوق في نمشيخته، وغيره ". وقرأ عليه الشرف أبو يوسف يعقوب بن أحمد بن يعقوب الحلبي الشافعي. وممن كان يذكر أنه قرأ عليه يوسف بن حرب الحسني، المكي الأصل، المارديني، الغزّي. وكذا أخ عنه الحافظ الجمال أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن ابن يوسف المزِّي. والمحدّث الفاضل الأديب الكاتب: أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله المصري، ثم الدمشقي، وهو كان قارئ دار الحديث الأشرفية. وآخرون. قال قاضي صفد العثماني: وأدركت جماعة من أصحابه، كشيخنا شمس الدين ابن النقيب، مدرس الشامية " يعني المذكور "، والقاضي ناصر الدين القرَّتي " ولعله الماضي "، والقاضي ضياء الدين علي بن سليم " الماضي " وشمس الدين ابن البيطار، المعمَّر، انتهى كلام العثماني. والمحدّث الشهاب أحمد بن أبي بكر بن طيء بن حاتم بن جيش بن بكار الزبيري، المصري، المقرئ. ولأبي نعيم أحمد بن التقي عُبَيد الأسعردي، وأبي العباس أحمد بن كشتغدي، المُعِزِّي، وإسحاق بن إبراهيم بن إسحاق الوزيري، وأبي بكر ابن قاسم بن أبي بكر الرحبي، والسيف أبي بكر بن محمد بن يحيى بن سنقر المعالي، والجمال داود بن إبراهيم بن العطار، أخي تلميذه العلاء علي، والشمس أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن حيدرة بن القماح، وأبي عبد الله محمد بن النجم إسماعيل بن الخباز " الماضي أبوه " وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي البركات النعماني، وناصر الدين محمد بن كشتغدي " أخي الماضي "، والصدر أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم، الميدومي، وغيرهم: إجازة منه. ورأيت فيمن يروي عن النووي " رحمه الله ": المسند تاج الدين عبد الوهاب بن داود القوصي، المصري، روى عنه ولده أحمد شيخ، لقيه السيد صفي الدين عبد الرحمن الأيجي، ومن خط ابن أخيه السيد علاء الدين، لخّصت. وكذا رأيت في شيوخ الشرف عبد الرحيم الجِرْهي: الشمس محمد ابن ناصر الدين أوليا بن الفخر أبي بكر المَهْرَنجاني، نزيل مكة، وأنه يروي عن النووي. الوظائف التي تولاها وولي " رحمه الله " من الوظائف الدينية مشيخة دار الحديث الأشرفية. قال الذهبي: مع صغر سنّه ونزول روايته، في حياة مشائخه، بعد الإمام أبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان، سنة خمس وستين " وستمائة "، إلى أن مات، انتهى كلام الذهبي.

من شعره

وفي رسالة لابن النجار، ما يشعر بكونه لم يوافق على توليتها إلا بعد جهد، فإنه قال فيها مجيباً له عن تهديده بعزله عنها ما نصه كما سيأتي: أو ما علمت لو أنصفت كيف كان ابتداء أمرها؟ أو ما كنت محاضراً مشاهداً أخذي لها؟ إلى آخر كلامه. ونشر " كما قال القطب اليونيني " بها علماً جمّاً، وأفاد الطلبة، قال: والذي أظهره وقدمه على أقرانه ومن هو أفقه منه: كثرة زهده في الدنيا، وعظم ديانته وورعه، وليس فيمن اشتغل عليه من يلتحق به، انتهى كلام القطب. ووهِم من قال: إنه أقام في الأشرفية نحو عشرين سنة، وقد استقر فيها بعده الشيخ الزين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله الفارقي ومن يلها من زمن الواقف أورع من الشيخ كما صرح به التاج السبكي، مع ادعائه ما أظن أن والده الذي صرح في أول نسخة " شرح المهذب " بما سبق، وكان يمرغ وجهه رجاء أن يمس مكاناً مسّه قدمه، وينشد ذاك الشعر حسبما يأتي لا يوافقه عليه، حيث قال التاج في ترجمة أبيه: وولي بعد وفاة المزّي مشيخة دار الحديث الأشرفية، فالذي نراه أنه ما دخلها أعلم منه، ولا أحفظ من المزي، ولا أروع من النووي وابن الصلاح، انتهى كلامه. ووقع في مقدمة " المهمات " في الفصل الأول، في الكلام على احتمالات الإمام: أتكون أوجُها أم لا؟ وحكى كلام الغزالي ثم الرافعي ثم النووي في ذلك، وأن كلا منهم عدّها أوجها، وأن كلاّ منهم أجلُّ ممن جاء بعده. ثم نقل عن ابن الرفعة التصريح بخلافه، وتعقبه بقوله: والذي ذكره مردود بما سبق من نقل جماعة كلٌّ منهم أجلُّ منه. وبالجملة فالكف عن الخوض في هذا أقرب إلى السلامة من العطب، لا سيما وينشأ منه أن من لم يلحق مرتبة القائل ولا له نسبة بآحاد أتباع أتباعه، بل ولا له كبير وجاهة في علم: يجعله ذريعة لمقاصده الفاسدة. ولقد سألت شيخنا " وناهيك به نقداً للرجال " عن التفضيل، بين الشيخ والرافعي في الحديث بخصوصه، فما سمح لي بالجواب إلا بتكلف، مع كونه لم يزد على أن قال: وُجد للرافعي على طريقة أهل الفن عدة تصانيف: تاريخ قزوين، والأمالي، وشرح المسند. ولكن الأدب عدم التعرّض لهذا أو نحوه. فانظر كيف لم يسمح بذلك مع الرافعي، مع كون شيخ شيخه الحافظ أبي سعيد العلائي قد جزم به، " كما أسلفه في آخر سرد تصانيفه " فكيف بمن دونه؟ فالأولى الوقف، لا سيما والحاجة غير داعية إليه. ولقد اضطر شيخنا مع مزيد تواضعه وأدبه مع الشيخ " كما سبق " إلى الخوض في تصانيفه، وكونه مسبوقاً بها، واختصاص " شرح المهذب " منها بمزيد التعب والطريقة المبتكرة، ولذلك لم يكمل. فقدِّرْ بعد وفاة شيخنا زَعَم شخص ممن لا نسبة له بآحاد جماعته، أن تصانيفه كلها قد سُبق إليها، فعارَضْته ب " تغليق التعليق " و " فتح الباري "، وغيرهما، مما لم يُسبق إليه، أو سُبق به وكان هو اللاحق بوضعه، وهو مصمّم على العناد، وأعرضت عنه وتوهمت أن ذلك ببركة الشيخ، لكون السكوت كان عنه أولى، رحمهما الله ونفعنا ببركتهما. وقال القطب اليونيني: إن الشيخ باشر أيضاً تدريس الإقبالية، والفلكية، والرُّكنية، للشافعية، نيابة عن قاضي القضاة: الشمس أحمد بن خَلِّكان، في ولايته الأولى، انتهى. وحدّث بالصحيحين بدار الحديث الأشرفية سماعاً وبحثاً، وبقطعة من سنن أبي داوود، وبالرسالة للقشيري، و " صفوة التصوف "، و " الحجة على تارك المحجة " لنصر المقدسي، كلها سماعاً وبحثاً، و " شرح معاني الآثار " للطحاوي. من شعره قلت: ووجد بحاشية نسخة من " الروضة " أنه وُجد بخطه من الشعر. وأنت الذي أدعوه سرّاً وجهرة ... أجرني بلطفٍ من جميع المصائب وبخط تلميذه العلاء بن العطار: أنه وجد بخطه أيضاً: أموت ويبقى كلُّ ما قد كتبتُه ... فيا ليت من يقرأ كتابي دعا ليا لعل إلهي أن يمن بلطفه ... ويرحم تقصيري وسوء فعاليا وكذا وجد بخطه: جرى قلمُ القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويُرزَق في غشاوته الجنين ويشبه أن يكون ذلك ما تمثل به وليس من نظمه، ثم ظهر ذلك وأنهما للماوردي كما عزاهما إليه ابن كثير في ترجمته. وقيل إنه سُمع من الشيخ قرب وفاته، ووُجد في موضع آخر نسبتُها إلى نظمه وأنه ليس له نظم غيرها:

تلاميذه

بشائر قلبي في قدومي عليهمُ ... ويَا لسُروري يوم سيري إليهمُ ولا في رحلتي يصفو مقامي وحبذا ... مقامٌ به حطُّ الرحال لديهمُ ولا زادَ لي إلا يقيني بأنهمْ ... لهم كرَمٌ يغني الوفود عليهمُ ووجدتُ بخط الشرف القدسي رواية عن العز بن جماعة، عن أبيه البدر: أن الشيخ أنشده لنفسه بالمدرسة الرّواحية: خَرِس اللسانُ وكَلَّ عن أوصافكم ... ماذا أقول وأنتمُ ما أنتمُ الذنبُ والتقصير مني دائماً ... والعفوُ والإحسانُ يُعرَفُ منكمُ انتهى. تلاميذه وسمع منه خلق من العلماء والحفّاظ، والصدور والرؤساء، وتخرّج به خلق كثير من الآفاق، وسار علمه وفتاويه في البلدان. قلت: وروى الأئمة " حتى من تقدمت وفاته عليه " كلامه في تصانيفهم، كالمحب الطبري، فإنه نقل عنه في كتابه " القِرى " أشياء، وكذا اتفق أن كلاّ من ابن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، كان من المستفيدين من إمامنا الشافعي، المفتخرين به، ومات قبل الشافعي بسنتين، انتهى. وكنت مدة صحبتي له مقتصراً عليه دون غيره، من أول سنة سبعين وقبلها بيسير، إلى حين وفاته. وقرأت عليه الفقه تصحيحاً عرضاً، وشرحاً، وضبطاً خاصاً وعاماً، وقرأت عليه كثيراً من تصانيفه ضبطاً وإتقاناً، وأذِن لي في إصلاح ما يقع في تصانيفه، فأصلحت بحضرته أشياء أقرني عليها وكتبها بخطه، وكان رفيقاً بي شفيقاً عليّ، لا يمكن أحداً من خدمته غيري، على جهد مني في طلب ذلك منه، مع وراقبته لي في حركاتي وسكناتي، ولطفه بي في جميع ذلك وتواضعه معي في جميع الحالات، وتأديبه لي في كل شيء حتى الخطرات، وأعجز عن حصر ذلك. وممن أخذ عن الشيخ أيضاً: الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب، قرأ عليه قطعة من " المنهاج "، واستنسخ " الروضة " له، وقابل ابن العطار له بعضها مع الشيخ، وأصلح بخطه مواضع فيها بإملاء الشيخ، رحمهم الله. والمحدث أبو العباس أحمد بن فرْح الإشبيلي، كان له ميعاد عليه يوم الثلاثاء والسبت، يشرح في حدهما البخاري، وفي الآخر صحيح مسلم. والرشيد إسماعيل بن عثمان بن عبد الكريم بن المعلم الحنفي، قرأ عليه في " شرح معاني الآثار " للطحاوي. وأبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الحنبلي. قلت: وكذا أخذ عنه الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عباس بن جعوان. والفقيه المقرئ أبو العباس أحمد الضرير، الواسطي، الملقب بالخلال. والنجم إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الخباز. والشيخ الناسك جبريل الكردي، قال اليافعي: وعليه سمعت الأربعين. والجمال رافع الصميدي والد الحافظ تقي الدين محمد بن رافع، وحضر حلقته. والأمين سالم بن أبي الدر. والفقيه الأديب سلطان، إمام الرواحية. والقاضي جمال الدين سليمان بن عمرو بن سالم الزُّرْعي. والقاضي صدر الدين أبو الفضل سليمان بن هلال بن شبل الجعفري الحوراني، الدمشقي، الشافعي، خطيب داريا، وأثنى عليه الشيخ. وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسي. وعبد الرحيم بن محمد بن يوسف السمنّودي، الخطيب الأديب. والمجد أبو حامد عبد المحمود بن عبد السلام بن حاتم بن أبي محمد بن علي البعلي، ممن تفقه على الشيخ. والعلاء علي بن أيوب بن منصور المقدسي، الذي نسخ " المنهاج " بخطه، وحرره ضبطاً وإتقاناً، وهو بخطه في المحمودية. والضياء أبو الحسن علي بن سليم بن ربيعة الأنصاري الأذرعي، الشافعي، ناظم " التنبيه ". وعلاء الدين علي بن عثمان بن حسان بن محاسن، الدمشقي، الشاغوري ابن الخراط. وأبو الحسن علي بن محمد بن موفق بن منصور، اليمني، الشافعي. ومما قرأ عليه: " الأربعون " له، في مجلسين، ثانيهما يوم الأربعاء رابع عشر شعبان سنة أربع وسبعين وستمائة بدمشق، وقال الشيخ فيما كتبه له بخطه: سمع علي هذا الجزء صاحبه الفقيه الصالح، المعتني: فلان أدام الله توفيقه، ولطف به في جميع أموره، وبارك الله في أحواله، فسمعه بقراءته وأنا ممسك أصلي لمقابلته. والبدر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، المشار إليه في أثناء أول ما ذكرته. ويقال: إن فتواه عرضت على الشيخ، فاستحسن كتابته عليها.

والشمس محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن النقيب، وهو آخر من كان من أعيان أصحابه. والشهاب محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مُزْهِر الأنصاري، الدمشقي المقرئ، وتأخرت وفاته، حتى مات في سنة تسعين وستمائة، قرأ عليه وسمع جميع " الأذكار "، ووصف قراءته في بعض البلاغات، بالمتقنة المهذّبة، ودعا له في البلاغات بدعوات جمة، منها: أدام الله نعمه عليه، وأدام الله ألطافه به، وأدام الله سعادته، وأدام الله له الخيرات، ورضي الله عنه. وكتب له بآخر النسخة: قابلت جميع هذا الكتاب بأصلي مع صاحبه: كاتبه الشيخ الإمام العالم، الفاضل العامل، الصدر شهاب الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مُزْهِر، الأنصاري، الشافعي، الدمشقي، أدام الله له الخيرات، وضاعف له الحسنات، وأمده في طاعته بالمعونات، وتولاه بالحسنى، وجمع له بين خيرات الآخرة والأولى، وجمعني وإياه وسائر أحبابنا في دار كرامته بفضله ورحمته. فسمعه الشيخ الإمام شهاب الدين المذكور سماعاً متقناً، وقابلت معه نسخته هذه مقابلة مُرضية بأصلي، في مجالس آخرها يوم الاثنين، الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وأجزتُ له كل ما يجوز لي تسميعه. كتبه يحيى بن شرف بن مِرَيْ بن حسن النواوي عفا الله عنه، انتهى. ونقلت جميع ذلك من خطه على نسخة ب " الأذكار ". وأبو عبد الله محمد بن غالب بن يونس بن شعبة سمع عليه " أوهام المهذّب والوسيط " من تصنيفه " كما تقدم في أسماء تصانيفه ". والإمام الأوحد ناصر الدين أبو الفتح منصور بن نجم بن زبّان " بمعجمة ثم تحتانية مشددة " بن حسان بن سليمان، الليثي، القرتاوي، وكان يوصف بالانتماء إليه، وبالديانة، ومما سمع عليه: كتاب " الأربعين " بإشارتها، وقد حدّث بها، سمعها منه البدر محمود بن علي بن هلال العجلوني، شيخ ناصر الدين محمد بن حسن القاموسي في ذلك بالسماع. والشرف هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن البارزي. وحدّث يحيى بن محمد المغراوي التونسي، عن النووي، ب " الأربعين " له، سماعاً منه " كما ذكره ابن مرزوق في نمشيخته، وغيره ". وقرأ عليه الشرف أبو يوسف يعقوب بن أحمد بن يعقوب الحلبي الشافعي. وممن كان يذكر أنه قرأ عليه يوسف بن حرب الحسني، المكي الأصل، المارديني، الغزّي. وكذا أخ عنه الحافظ الجمال أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن ابن يوسف المزِّي. والمحدّث الفاضل الأديب الكاتب: أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله المصري، ثم الدمشقي، وهو كان قارئ دار الحديث الأشرفية. وآخرون. قال قاضي صفد العثماني: وأدركت جماعة من أصحابه، كشيخنا شمس الدين ابن النقيب، مدرس الشامية " يعني المذكور "، والقاضي ناصر الدين القرَّتي " ولعله الماضي "، والقاضي ضياء الدين علي بن سليم " الماضي " وشمس الدين ابن البيطار، المعمَّر، انتهى كلام العثماني. والمحدّث الشهاب أحمد بن أبي بكر بن طيء بن حاتم بن جيش بن بكار الزبيري، المصري، المقرئ. ولأبي نعيم أحمد بن التقي عُبَيد الأسعردي، وأبي العباس أحمد بن كشتغدي، المُعِزِّي، وإسحاق بن إبراهيم بن إسحاق الوزيري، وأبي بكر ابن قاسم بن أبي بكر الرحبي، والسيف أبي بكر بن محمد بن يحيى بن سنقر المعالي، والجمال داود بن إبراهيم بن العطار، أخي تلميذه العلاء علي، والشمس أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن حيدرة بن القماح، وأبي عبد الله محمد بن النجم إسماعيل بن الخباز " الماضي أبوه " وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي البركات النعماني، وناصر الدين محمد بن كشتغدي " أخي الماضي "، والصدر أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم، الميدومي، وغيرهم: إجازة منه. ورأيت فيمن يروي عن النووي " رحمه الله ": المسند تاج الدين عبد الوهاب بن داود القوصي، المصري، روى عنه ولده أحمد شيخ، لقيه السيد صفي الدين عبد الرحمن الأيجي، ومن خط ابن أخيه السيد علاء الدين، لخّصت. وكذا رأيت في شيوخ الشرف عبد الرحيم الجِرْهي: الشمس محمد ابن ناصر الدين أوليا بن الفخر أبي بكر المَهْرَنجاني، نزيل مكة، وأنه يروي عن النووي. وفي ترجمة عيسى بن أحمد بن عيسى العجلوني أنه يروي عن جماعة من أصحاب النووي، منهم: الشيخ مسعود الحجار، والشيخ مُعَمَّر بن الصَّمْعَا، العجلونيان. ويحتاج كل ذلك لتحقيق.

صفاته ومناقبه

ورأيت أيضاً في أسانيد المجد اللغوي صاحب القاموس: أنه قرأ " الأربعين " للشيخ، على محيي الدين أبي زكريا يحيى بن أبي الحسن علي بن طاهر بن بركات، الدمشقي، عُرف بابن الحداد، بمنزله على مقربة من جامع دمشق، بسماعه لها بقراءة والده، على مؤلفها، لكن قال شيخنا في " درره " في يحيى المذكور بعد أن نسبه بأنه يحيى بن علي بن أبي الحسن علي بن أبي الفرج محمد بن طاهر بن محمد بن الحداد، الصالحي، الحنفي، ما نصه: إنه كان يذكر أن والده أحضره إلى النووي وهو أمرد فاعتذر إليه وقال: أنا أرى أن النظر إلى الأمرد حرام، فاذهب به إلى الشيخ تاج الدين، ثم عقبه شيخنا بقوله: قال شيخنا العراقي: لم نقف على كلامه، انتهى كلامه. على أن الحافظ شمس الدين الحسني قال في " وفياته " التي ذيل بها على " العِبَر ": إن المعمر الفاضل محيي الدين بن الحداد المذكور كان خاتمة أصحاب النووي، وأنه مات سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وروى الولي العراقي عن الشرف محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الجذامي، السكندري، أخي التاج ابن عطاء الله الشهير، وأبي عبد الله محمد بن عبد الكريم بن أبي عبد الله المخيلي، كلاهما ممن " أجازه " النووي إجازة عامة، ولست تبعاً لشيخي أحب العمل بها، وفيما تحملناه " ولله الحمد " غنية عن التوسع بها. وحكى لي العلامة الفقيه الشرف أبو زكريا المناوي " رحمه الله " عن الولي أبي زرعة العراقي أيضاً مذاكرة، أنه بلغه أن الجان كانت تقرأ عليه، وأن بعض طلبته بينما هو عنده في خلوته إذ دخل عليه ثعبان، ففزع الطالب، فأخذ الشيخ في تسكين روعه، وعرّفه بأنه من طلبة العلم من الجان وأنه قال له أما نهيتك عن التزيي بهذا وأنه آخى بينهما وعندما أراد " الجنِّي التوجه لمحله ببغداد أو العراق " الشك مني " سأل الطالب الشيخ الإذن له في التوجه معه للتفرج ببلاده، وأن الشيخ أذن له في ذلك ووصاه به، وأنه تزيّا في صورة بعير، وأمر الإنسي أن يركبه وقال له: إذا أحسست بالبرد الشديد فاغمزني، وأنه علا به في الجو حتى أحس بالبرد، فغمزه فهبط لذلك المكان المقصود، وأنه أقام عندهم يسيراً، ثم رجعا مستصحبين معهما ما كان الشيخ أوصاهما به من فاكهة ذلك المكان. وهذه الحكاية منقطعة، ولا استبعاد لصحتها، ففي ترجمة القاضي الخِلَعي أن الجان كانت تقرأ عليه، وكذا ذُكر عن الفخر إمام الجامع الأزهر، وغيره، ممن الشيخ أعظم حالاً ومقاماً ومقالاً منهم، رحمة الله عليهم أجمعين. وكذا اشتهر أن الخضر كان يجتمع به، وقد قال الشيخ في ترجمته من " تهذيبه ": والأكثرون من العلماء قالوا: هو حيّ موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: هو حيّ عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، انتهى ما في " التهذيب ". قال شيخنا: والذي تميل إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام من استمرار حياته، لكن ربما عرضت شبهة من جهة كثرة الناقلين للأخبار الدالة على استمراره، فيقال: هب ن أسانيدها واهية، إذ كل طريق منها لا تسلم عن سب يقتضي تضعيفاً، فماذا يُصنع في المجموع؟ فإنه على هذه الصورة قد يلحق بالتواتر المعنوي الذي مثلوا له بجود حاتم، مع احتمال التأويل في أدلة القائلين بعدم بقاءه، كآية: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) ، وكحديث: " رأس مائة سنة "، وغير ذلك مما تقدم بيانه " يعني في كلامه ". وأقوى الأدلة على عدم بقاءه عدم مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفراده بالتعمير، من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي، انتهى. صفاته ومناقبه

وذكر لي صاحب الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم بن الحسن الشافعي غير مرة، قال: ذكر لي الشيخ الصالح الصدوق المعمَّر أبو القاسم ابن عمير المزّي " وكان من الأخيار " إنه رأى فيما يرى النائم رايات كثيرة، قال وسمعت نوبة تضرب، فعجبت من ذلك فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: الليلة قطِّب يحيى النووي رحمه الله، فاستيقضت من منامي ولم أكن أعرف الشيخ ولا سمعت به قبل ذلك، واتفق إني دخلت المدينة " يعني في حاجة " فذكرت ذلك الشخص، فقال: هو شيخ دار الحديث الأشرفية، وهو الآن جالس فيها بميعادها، فاستدللت عليها ودخلتها، فوجدته جالساً فيها وحوله جماعة، فوقع بصره علي، فنهض إلى جهتي وترك الجماعة، ومشى إلى طرف أبواب إيوانها ولم يتركني أكلمه، وقال: اكتم ما معك ولا تحدث به أحداً، ثم رجع إلى موضعه ولم يزد على ذلك، ولم أكن رأيته قبلها ولم أجتمع به بعدها. قلت: ونحوه قول العثماني قاضي صفد في " طبقاته ": وأهل الكشف يقولون: إنه لم يمت حتى قُطِّب. وكذا قال التقي الحسني " كما سيأتي ": وناهيك به أنه قطب الوقت، انتهى. وقال لي شيخنا القاضي محمد بن عبد القادر الأنصاري: لو أدرك القشيريُّ صاحب " الرسالة " شيخكم وشيخه " يعني أبا عثمان المغربي " لما قدّم عليهما في ذكره لمشائخه " يعني الرسالة " أحداً، لما جمع فيهما من العلم والعمل، والزهد والورع، والنطق بالحكمة، وغير ذلك. قلت: ولشدة ورعه كان يشبّه به من يرام الغاية في وصفه، ففي ترجمة الشرف محمود بن محمد بن أحمد بن صالح الصرخدي: إنه اشتهر بالورع حتى كان يشبّة بالنووي، انتهى. وقال لي الشيخ العارف المحقق المكاشف: أبو عبد الرحيم محمد الأخميمي " قدس الله روحه ": كان الشيخ سالكاً منهاج الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا أعلم أحداً في عصره سالكاً على منهاجهم غيره. قلت: ونقل التاج السبكي في " التوشيح " عن والده: أنه قال: ما اجتمع بعد التابعين الجموع الذي اجتمع بالنووي، ولا التيسير الذي يسّر له. وحكى الإمام اليافعي في آخر الحكاية الثانية والثمانين بعد الأربعمائة من " روض الرياحين " فيما بلغه: إن الشيخ خطف سارق عمامته وهرب، فتبعه الشيخ، وصار يعدو خلفه ويقول له: ملّكتك إياها، قلت: قبلت قبلت، والسارق ما عنده خبر من ذلك، انتهى. وقال لي بعض الصالحين الكبار: إنه حين ولد كتب من الصادقين. وذكر شيخنا العارف، القدوة المسلك، وليّ الله أبو الحسن المقيم. بجامع بيت لهيا خارج دمشق، قال: كنت مريضاً بمرض يسمى النَّقرس، في رجلي، فعادني الشيخ، فلما جلس عندي شرع يتكلم في الصبر، قال: فكان كلما تكلم يذهب الألم قليلاً قليلاً، حتى زال الألم جميعه، فعرفت أن زواله ببركته. وقال لي جماعة بنوى: انه سألوه يوماً أن لا ينساهم في عرصات القيامة فقال لهم: إن كان لي ثمَّ جاه والله لأدخلت الجنة واحداً ممن أعرفه ورائي. وقال لي المحدِّث أبو العباس بن فروخ كان الشيخ قد صارت إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شُدَّت إليه الرحال. المرتبة الأولى: العلم. والثانية: الزهد. والثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلت: وقال الذهبي في " سير النبلاء ": كان يؤثر عنه كرامات وأحوال. وقال التقي محمد بن الحسن اللخمي: إنه ظهرت له الكرامات الكثيرة: من سماع الهاتف، ومن انتفاع الباب المقفل بالأقفال ورده كما كان، وانشقاق الحائط في الليل وخروج شخص له منه حسن الصورة، وكلامه معه في مصالح الدارين، واجتماعه بالأولياء الأخفياء وكاشفته هو للواحد بأحوال لا يعلمها إلا الله ثم صاحبها، وإعلامه بموته وهو بدمشق. ومن قوة نفسه ملازمته لحيّة عظيمة في بيته بالرواحية، ويراها كلَّ قليل تخرج إليه ويضع لها لباباً تأكله، حتى أن بعضهم رآها في غفلة وهو يطعمها اللباب فقال له: يا سيدي ما هذه؟ وخاف، فقال: هذه خلق، من خلق الله لا تضر ولا تنفع، أسألك بالله أن تكتم ما رأيت، ولا تحدث به أحداً. وأحواله كثيرة لا يسعها هذا المحل فرحمه الله، لقد كان من الدين بمكان الرأس من الجسد، ظهر له العلم فشمَّر إليه، ونظر إلى الخيرات فأفرغت عليه، إذا تكلم افتتح كلامه بالحمد لله والثناء عليه، وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالصلاة عليه، انتهى.

تقدمه في العلم وكثرة عبادته

وكان إذا ذكر الصالحين ذكرهم بتعظيم وتوقير واحترام، وسوَّدهم وذكر مناقبهم، وكراماتهم. قلت: زاد اللخمي: واكتسب في أحواله، انتهى. وكنت أنا وإياه يوماً في الحلقة بين يدي أحد مشائخه " أبي حفص الربعي " فقام فملأ إبريقاً، وحمله بين يدي أبي حفص إلى الطهارة. قلت: ومن مكاشفاته ما حكى الزين عمر بن الوردي في ترجمة الشمس ابن النقيب من تاريخه، إنه قال: دخلت وأنا صبي على النووي رحمه الله " يعني في أيام اشتغاله عليه "، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، قال: فنظرت فلم أجد عنده أحد غيري، فقال لي: اجلس يا مدرّس الشامية. وهذا من جملة كشف الشيخ رحمه الله فإنه وليهما معاً، وكانت حكاية ابن النقيب لذلك وهو بحلب، قبل ولايته الشامية وكان يظن أنه يلي قضاء الشام، فما ولي إلا حمص، ثم طرابلس، ثم حلب، ثم رجع إلى دمشق فولي الشامية. من كراماته ما حكاه ابن الوردي أيضاً في ترجمة شيخه الشرف البارزي، مما حكاه له في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة: أنه رأى النووي في المنام، قال: فقلت له: ما تختار في صوم الدهر؟ فقال: فيه اثنا عشر قولاً للعلماء، قال: فلما استيقضت وجدت الأمر كذلك، " يعني بعد التتبع "، فإنني لم أَرَ الأقوال مجموعة في كتاب واحد، وعدّه ابن الوردي من كرامات شيخه أيضاً. ووجدت هذا المنام أيضاً بخط شيخي في بعض أجزاء " تذكرته "، وعبارته: قال الشرف البارزي: رأيت النووي في النوم فسألته عن صوم الدهر، فقال: فيه اثنا عشر قولاً للعلماء، قال: فأقمت حولاً حتى اجتمعت لي، ولم أجدها مجموعة في كتاب، وهي هذه: صوم الدهر في حق من لم ينذر ولم يتضرر به، فيه أربعة أقوال: الاستحباب، وهو اختيار أكثر الشافعية، والكراهة، وهو اختبار البغوي والإباحة، وهو نص الشافعي، والتحريم، وهو قول جماعة من السلف. وفي حق من نذر ولم يتضرر به خمسة أقوال: الوجوب، وهو اختيار أكثر الشافعية، والأربعة المتقدمة للقائلين. وفي حق من يتضرر به، بأن تفوته السنن، أو الاجتماع للأهل، ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهة، والإباحة، انتهى ما قرأته بخط شيخنا. وكذا من كراماته ما كان يراه من المنامات التي تأتي كفلق الصبح، انتهى. كنت يوماً بين يديه لتصحيح درس عليه في " مختصر علوم الحديث " الأصغر، له، فلما فرغت منه قال لي: رأيت الليلة في المنام كأني كنت سابحاً في بحر وكأني خرجت منه إلى شاطئه، وإذا أنا بشخص قد غرق فيه، وقد تعلق بخشبة على وجهه لحظة ثم غرق، فقلت له: يا سيدي، علمت الشخص من هو؟ قال نعم! قلت: من هو؟ قال: ابن النجار، قلت: فما أوّلته؟ قال: يظهر قليلاً ثم يخفي خفاء لا ظهور بعده، مع نفاق بقلبه. فقلت: فكان كذلك. وابن النجار هذا هو راسله بما سيأتي، انتهى. تقدمه في العلم وكثرة عبادته وأما تقدمه في العلم وكثرة عبادته، فسمعت شيخنا أبا عبد الله بن محمد الظهير الإربلي الحنفي، شيخ الأدب في وقته، وكان كتب كتاب " العمدة في تصحيح التنبيه " له، وسألني في مقابلته معه بنسخي ليرويه عني يقول بعد فراغنا منه ما وصل التقيّ ابن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ من العلم والفقه والحديث، واللغة، وعذوبة اللفظ وحلاوة العبارة. قلت: وفي كلام الإدفوي في " البدر السافر ": إن الشيخ نوزع مرة في نقل عن " الوسيط " فقال: تنازعوني في " الوسط " وقد طالعته أربعمائة مرة؟ وكان مع سعة " علمه كما في " سير النبلاء " " عديم النظير، لا يرى الجدال، ولا تعجبه المبالغة في البحث، ويتأذّى ممن يجادل ويعض عنه. وقال في موضع آخر: كان لا يتعانى لغط الفقهاء وعياطهم في البحث، بل يتكلم بتؤدة ووقار، ولذلك كان قلمه أبسط من عباراته، انتهى ما في " البدر السافر ". وقرأت في بعض المجاميع، نقلا عن الفقيه أبي علي سعيد بن عثمان الشوائي، الجبرتي إنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وأنا بساحل موزع، فقال: إذا اختلف عليك كلام صاحب " المهذّب " وكلام الغزالي وكلام النووي، فخذ بقول النووي، فإنه أعرف بسنَّتي. قال: ورأيته صلى الله عليه وسلم ثانيةً، وسألته عن النووي، فقال: ذاك محيي ديني انتهى ما في المجموع.

ورعه وخشونة عيشه

قال في " البدر " أيضاً: وكان كثير العبادة، حكي لي البدر ابن جماعة إنه سأله عن نومه فقال: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظه وانتبه، قال " أعني البدر ": وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكانا أجلس فيه، انتهى. وذكر لي صاحبنا الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي، في حياة الشيخ، قال: كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق، والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة، وهو يردد قوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون) مراراً، بحزن وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك أمر عظيم. قلت: وصرح اليافعي والتاج السبكي " رحمهما الله " أنه أشعري. وقال الذهبي في " تاريخه " إنه مذهب في الصفات السمعية: السكوت، وإمرارها كما جاءت، وربما تأويل قليلا في " شرح مسلم " كذا قال: والتأويل كثير في كلامه، انتهى. ورعه وخشونة عيشه وأما ورعه وخشونة عيشه، فإنه كان لا يأكل من فاكهة دمشق، وسألته عن ذلك فقال: إنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعا، ولا يجوز التصرف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء، ومن جوّزها قال بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟ قلت: وتبعه القطب اليونيني على حكاية ذلك، قال: وأيضاً فغالب من يُطعّم أشجاره إنما يأخذ الأقلام غضباً أو سرقة، لأن أحداً ما يهون عليه يبيع أقلام أشجاره، وما جرت بذلك عادة، فتؤخذ تلك الأقلام، سرقة وتطعّم في أشجار الناس، فتطلع الثمرة في نفس القلم المغصوب، فتكون ملكاً لصاحب الأقلام، لا لصاحب الشجرة، فيبقى بيعه وشراؤه حراماً، انتهى كلام القطب. وصفته: أنهم يشقون فرعاً من فروع الشجرة ويجعلون في جوفة قطعة من غيرها، ثم يشدونه بحبل، ونحوه ما يُفعل في النخل. ثم إن ما تقدم في تركة الأكل من الفاكهة، هو المنقول المستفيض ولكن يُحكى " كما بلغني " أنه أكل مرة نصف حبة من بعض الفواكه، لكون بعضهم علّق عتق عبد له على أكل الشيخ منها، وبلغه ذلك، ففعله لما ينشأ منه من فك رقبة مؤمنة، ولعله يتقيأه بعد استقراره، كما فعل الصدّيق رضي الله عنه، إنه لم يغتفر هذا القدر اليسير. وفي كلام الذهبي: أنه ترك جميع الجهات الدنيوية، فلم يكن يتناول من جهة من الجهات درهماً فرداً، وأنه ما أخذ للأشرفية " فيها بلغتي " جامكية بل اشترى بها كتباً ووقفها. وقال ابن دقماق: إنه كان يجمع جامكيته عند الناظر، وكلما صار لح حق سنة اشترى له به ملكاً ويوقفه على دار الحديث، أو كتباً فيوقفها على خزائنها. وقال قاضي صفد العثماني: إنه لم يأخذ معلوماً قط، قال: وباشر مشيخة دار الحديث لمّا تعيّن عليه، فلم يتناول شيئاً من معلومها. وقال غيرهم: إنه لم يتناول منها شيئاً إلا سنة أو سنتين. ولم يسكن قاعة المشيخة بها، بل سكنها غيره " كما قال التقي السبكي "، قال: وفعله حجة، يعني في إعارة المنافع المختصة بالتدريس والمشيخة ونحوهما، وعليه عمل الناس في تسامحهم في ذلك، على أن القفّال أفتى بخلافته، وأقره الشيخ، ولكنه مشي على ما اقتضاه العُرف، ورأى أنه لم يفت به غرض الواقف، ولذا أعارها، انتهى. وكان لا يقبل من أحد شيئاً إلا إن تحقق دينه ومعرفته، ممن ليست له به علقة من إقراء أو انتفاع به، قصداً للخروج من حديث: " إهداء القوس "، وربما أنه كان يرى نشر العلم متعيناً عليه، مع قناعة نفسه وصبرها، والأمور المتعينة لا يجوز أخذ الجزاء عليها، كالقرض الجارِّ إلى منفعة، فإنه حرام باتفاق العلماء. قلت: وحديث القوس المشار إليه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم أبيّ بن كعب، فأخرجه البيهقي في سننه من طريق عطية بن قيس الكلابي، قال: عَلَّم أبيّ بن كعب رضي الله عنه رجلاً القرآن، فأتى اليمن فأهدى له قوساً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن أخذتها فخذ بها قوساً من النار "، وقال: إنه منقطع. قلت: وأورده الجوزقاني من طريق عبد الرحمن بن أبي أسلم عن عطية، وقال: عبد الرحمن ضعيف.

ومنهم: عبادة بن الصامت، واختلف في سنده، فأخرجه أبو داود، ومن طريقه: البيهقي، في سننيهما، من طريق عبادة بن نُسَيِّ، قال مرة: عن الأسود بن ثعلبة ومرة: عن جنادة بن أبي أمية، كلاهما عن عبادة، قال: علّمت أُناساً من أهل الصُّفَّة: الكتاب والقرآن، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله، أهدى رجل إليّ قوساً ممن كنت أعلّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله؟ قال: " إن كنت تحب أن تُطوّق بطوق من نار فاقبلها "، لفظ الأسود. ولفظ جنادة: فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال: " جمرة بين كتفيك، تقلدنها أو تعلقنها ". ومنهم: أبو الدرداء، فأخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: " من أخذ قوساً على تعليم القرآن قلّده الله قوساً من نار "، ونُقل عن بعض الأئمة أنه ليس لها أصل، انتهى. وكنت جالساً بين يديه قبل وفاته بنحو شهرين، فدخل عليه فقير، وقال: الشيخ فلان من بلاد صرخد يسلم عليك، ولقد أرسل لك معي هذا الإبريق، قال: فقبله الشيخ وأمرني بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت من قبوله له، واستشعر بذلك فقال: أرسل إليّ بعض الفقراء نعلاً، وهذا إبريق، وكلاهما آلة السفر. قلت: وفيها أدرجه الذهبي في كلام ابن العطار مما لم أقف عليه في النسخة التي وقفت عليها قال: وعزم عليه الشيخ برهان الدين الاسكندراي، أن يفطر عنده في رمضان، فقال: أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة، قال ابن العطار: فأفطرنا ثلاثين أو أكثر، على لونين من الطعام، وكان الشيخ في بعض الأوقات يجمع بين إدامين، انتهى. ورأيت رجلاً من أصحابه قشر خيارة ليطعمه إياها، فامتنع من أكلها وقال: أخشى أن ترطب جسمي وتجلب النوم. قلت: ونحوه عدم تعاطيه البلح على عادة الدمشقيين، وكذا الماء المبرد " كما حكاه غير واحد " بل قال الشمس ابن الفخر: إنه قد ترك جميع ملاذ الدنيا من المأكول، إلا ما يأتيه من أبوه من كعك يابس وتين حوراني، والملبس إلا الثياب الرثة المرقعة، ولم يدخل الحمام، وترك الفواكه جميعها. وقال اللخمي: كان أبوه وأمه يرسلان إليه بعض القوت فيأكله، وترسل أمه له القميص ونحوه ليلبسه، ولا يقبل من أحدٍ شيئاً غير أقاربه وبعض أهل الصلاح. ولم يتزوج قط " فيما علمت " لاشتغاله بالعلم والعمل، وكذا جزم بكونه لم يتزوج غير واحد، منهم قاضي صفد. وقال ابن دقماق: إنه كان يأكل من خبز يبعثه له أبوه من نوى، يخبزونه له، ويُسيّرون له ما يكفيه جمعة، فيأكله، ولا يأكل معه سوى لون واحد، إما دبس وإما خل وإما زيت. وأما اللحم ففي كل شهر مرة، ولا يكاد يجمع بين لونين من إدام بداً. وقال الكمال الإدفوي في " البدر السافر ": إنه كان لا يجمع بين إدامين، ولا يأكل اللحم إلا عندما يتوجه لنوى، انتهى. وقلع ثوبه ففلاه بعض الطلبة، وكان فيه قمل، فنهاه، وقال: دعه. وذكر لي العلاّمة رشيد الدين إسماعيل بن المعلم الحنفي قال: عذلته في عدم دخول الحمام، وتضييق عيشه في أكله ولباسه وجميع أحواله، وقلت له: أخشى عليك مرضاً يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده، قال: فقال لي: إن فلاناً صام وعبد الله تعالى حتى اختصر عظمه. قال: فعرفت إنه ليس له غرض في المقام في دارنا، ولا الالتفات لما نحن فيه. قلت: وقال الذهبي في " سير النبلاء ": كان عديم الميرة والرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك رعونات النفس، من ثياب حسنة وأكل طيب وتجمّل في هيئة، بل طعامه جلْف الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام وشيخنانية لطيفة ووصفه بأنه كان أسمر، كثّ اللحية، ربعةً مهيباً، قليل الضحك، عديم اللعب، بل هو جِدٌّ صرف، يقول الحق وإن كان مُرّاً، لا يخاف في الله لومة لائم. وقال في " تاريخ الإسلام ": وكان في ملبسه مثل آحاد الفقهاء من الحورانية لا يؤلبه له، عليه شيخنانية صغيرة. ووصفه بأن لحيته كانت سوداء فيها شعرات بيض، وعليه هيبة وسكينة.

مناصحته لحكام عصره

وفي " البدر السافر " حكاية عن قاضي القضاة الجمال سليمان الزرعي: أنه كان يتردد إليه وهو شاب، قال: فجئت إليه في يوم عيد، فوجدته يأكل حريرة مدخّنة، فقال: سليمان ... كًل فلم تطب لي، فقام أخوه وتوجه إلى السوق وأحضر شواء وحلواء، وقال له: كُلْ، فلم يأكل، فقال له: يا أخي، أهذا حرام؟ فقال: لا، ولكنه طعام الجبابرة. وكأنه رأى المقام يقتضي ذلك، وفهم من الإعراض عن الحريرة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، عدم الاستغناء عما اشتري وشبهه، وأنها طريقة لهم لازمة، أو لأن الحلواء المحضّرة كانت فيها زيادة تأنق وترفّه، ومن جهة كونها من سكر مثلاً، مع إضافة غيره من فستق ورائحة ونحوهما إليه، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء. ولشدة ورعه لم يكن يُكثر من إقراء الشباب، بل كان يرشد من يقصده منهم للاشتغال، إلى الشيخ أمين الدين أبي العباس أحمد بن الشمس أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الجبار الأشتري، الحلبي، المتوفى في سنة إحدى وثمانين وستمائة، بعد الشيخ بسنتين، لعلمه بدينه وأمانته، وكذا كان يرشدهم إلى التاج ابن الفركاح، " كما أسلفه عند ذكر الأخذ عنه " إن صحت تلك الحكاية. وكان الشيخ رحمه الله يرى تحريم النظر مطلقاً، خلافاً للرافعي. قال العثماني قاضي صفد: إنه توجه لزيارة الزاهد الفقيه: فرج بن عبد الله الصفدي الشافعي، صحبة التاج المقدسي، فجرت مسألة النظر إلى الأمرد، وأن الرافعي يحرّم بشرط الشهوة، والنووي مطلقاً، فقال الشيخ فرح: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: لي: الحقُّ في هذه المسألة مع النووي، فصاح تاج الدين وقال: صار الفقه بالمنامات، فخضع الشيخ فرح وقال: أستغفر الله، أنا حكيت ما رأيت، والبحث له طريق، فسكن التاج وقال: نحن في بيتك، انتهى. مناصحته لحكام عصره وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار لا يأخذه في الله لومة لائم، بل كان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها. فمما كتبه وأرسلني في السعي فيه، ورقة إلى الظاهر تتضمن العدل في الرعية، وإزالة المكوس عنهم، وكتب معه في ذلك غير واحد من الشيوخ وغيرهم، منهم من مشائخي: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر شيخ الحنابلة، وأبو محمد عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي، شيخ المالكية، وأبو بكر محمد بن أحمد الشريشي المالكي، وأبو إسحاق إبراهيم بن وليّ الله عبد الله المعروف بابن الأرميني، وأبو حامد محمد بن العلامة أبي الفضائل عبد الكريم بن الحرستاني خطيب دمشق واب خطيبها. ووضع ورقة الظاهر في ورقة لبَيْليك الخازندار بدر الدين نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المولى الحسن، ملك الأمراء: بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلّغه من خيرات الآخرة والأولى كلَّ آماله، وبارك له في جميع أعماله، آمين. وينهي إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام هذه السنة في ضيق عيش وضعف حال، بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار، وقلّة الغلات والنبات، وهلاك المواشي، وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الراعي والرعية، ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة. وقد كتب خَدَمَة الشرع الناصحون للسلطان، المحبون له: كتاباً بتذكرة النظر في أحوال رعيته والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل هو نصيحة محضة وشفقة تامة، وذكرى لأولي الألباب. والمسؤول من الأمير " أيده الله تعالى " تقديمه إلى السلطان " أدام الله له الخيرات " ويتكلم عليه من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدّخراً له عند الله تعالى (يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه) .

وهذا الكتاب الذي أرسله العلماء إلى الأمير، أمانة ونصيحة للسلطان " أعزّ الله أنصاره والمسلمين كلّهم في الدنيا والآخرة " فيجب عليكم إيصاله للسلطان، أعزّ الله أنصاره، وأنتم مسؤولون عن هذه الأمانة، ولا عذر لكم في التأخر عنها ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، تُسألون عنها: (يوم لا ينفع مال ولا بنون) ، (يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم شأن يومئذ يغنيه) ، وأنتم بحمد الله تحبون الخير وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات وأفضل الطاعات، وقد أهَّلتم له وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله. ونحن خائفون أن يزداد الأمر شدة، إن لم يحصل النظر في الرفق بهم، قال الله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) ، وقال تعالى: (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) . والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، فما فعلتموه وجدتموه عند الله، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلما وصلت الورقتان إليه أوقف عليهما السلطان، فلما وقف عليهما ردّ جوابهما ردّاً عنيفاً، مؤلماً، فتنكدت خواطر الجماعة الكاتبين وغيرهم. فكتب رحمه الله جواباً لجوابه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. من عبد الله يحيى النووي، يُنهي أن خَدَمَة الشرع الشريف كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها، فقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لِتُبَيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه) ، فوجب علينا حينئذ بيانه، وحرم علينا السكوت، قال الله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) . وذُكر في الجواب: أن الجهاد ليس مختصاً بالأجناد، وهذا أمر لم نَدَّعه، ولكن الجهاد فرض كفاية، فإذا قرر السلطان له أجناداً مخصوصين، ولهم أخباز معلومة من بيت المال " كما هو الواقع " تفرّغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم، من الزراعة والصنائع وغيرها، الذي يحتاج الناس كلهم إليها، فجهاد الأجناد مقابل بالأخباز المقررة لهم، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد أو متاع، أو أرض أو ضياع تباع، أو غير ذلك. وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان أعز الله أنصاره، متفقون على هذا، وبيت الله بحمد الله معمور، زاده اله عمارة وسعة وخيراً وبركة، في حياة السلطان المقرونة بكمال السعادة له، والتوفيق والتسديد، والظهور على أعداء الدين، وما النصر إلا من عند الله، وإنما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وملازمة أحكام الشرع. وجميع ما كتبناه أولاً وثانياً وهو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية، وليس فيه ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا بأنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الرفق بالرعية والشفقة عليهم، وإكرامه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم. وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبنا. وأما ما ذُكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار كيف كانوا في البلاد، فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان والقرآن بطغاة الكفار؟ وبأيّ شيءٍ كنا نذكّر طغاة الكفار وهم لا يعتقدون شيئاً من ديننا.؟ وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به، وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟

وأما أنا في نفسي، فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب عليّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى: (إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار) ، (وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا، وأن لا نخاف في الله لومة لائم. ونحن نحب للسلطان معالي الأمور وأكمل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سبباً لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره له على ممر الأيام، ويُخلّد في سُننه الحنيفية، ويجد نفعه (يوم تجد كلُّ نفس ما عملتْ من خير محضَراً) . وأما ما ذُكر في تمهيد السلطان البلاد، وإدامته الجهاد، وفتح الحصون وقهر الأعداء، فهو بحمد الله من الأمور الشائعة، التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة، وسارت في أقطار الأرض ولله الحمد، وثواب ذلك مدّخر للسلطان إلى (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحْضراً) . ولا حجة لنا عند الله إذا تركنا النصيحة الواجبة علينا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ومما اكتتبه لما احتيط على أملاك دمشق حرسها الله تعالى، بعد إنكاره مواجهةً للظاهر، وعدم إفادته وقبوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: (وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتُبَيِّننَّه للناس ولا تكتمونه) ، وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) . وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره، ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدين النصيحة لله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم ". ونصيحة السلطان " وفقه الله لطاعته "، وتولاه بكرامته " أن تُنهَى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفاء وإزالة الضرر عنهم، قال الله تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين) ، وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان الله في عون أخيه "، وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين على منابر من نور ن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا ". وقد أنعم الله تعالى علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه لنصرة الدين والذب عن المسلمين، وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين، وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسببه أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فله الحمد على هذه النعم المتظاهرة، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين، وزيادتها في خير وعافية، آمين. وقد أوجب الله شكر نعمته، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) ، وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم، أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل في يده شيء فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلّف بإثباته. وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع ويوصي نوابه به، فهو أولى من عمل به. والمسؤول: إطلاق الناس من هذه الحوطة، والإفراج عن جميعهم. فأطلقْهم طلقك الله من كل مكروه فهم ضعفاء، وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين، والضعفاء والصالحون، وبهم تنصر وتغاث وترزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم، وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات.

ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تُنهي إليه الأمور على وجهها، فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار وتلف غلاتهم، فإن أكثرهم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء، وقد نُهبت كتبهم. وإذا رفق السلطان بهم، حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أرفق بأمته، ويُظهره على أعدائه، فقد قال الله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم) ، وتتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في مملكته البركات، ويُبَارَك له في جميع ما يقصده من الخيرات، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "، فنسل الله الكريم أن يوفق السلطان للسن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة. فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه. قلت: وكان السبب في هذه الحوطة " كما صرح به صاحب " البدر السافر " " أن السلطان الظاهر بيبرس، لما ورد دمشق بعد قتال التتار ونزوحهم عن البلاد، ولّى وكالة بيت المال شخصاً من الحنفية، فقال: إن هذه الأملاك التي بدمشق، كان التتار قد استولوا عليها، فتملكوها على مقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فوضع السلطان يده عليها، فقام جماعة من أهل العلم في ذلك، وكان الشيخ منهم. قلت: بل هو أعظمهم. قال: فكلم السلطان في ذلك كلاماً فيه غلظة، فظن السلطان أن له مناصب يعز له عنها، فقيل له حاله، انتهى كلام البدر. وقال القطب اليونيني: إنه واقَف الظاهر غير مرة بدار العدل، بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك. وحكي عن الظاهر أنه قال: أنا أفزع منه، " أو ما هذا معناه "، ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر، وبالغ معه وأغلظ له، فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه " ولعله يقصد الخوف على الشيخ "، فما تأثر الشيخ في ذلك في ذات الله عزّ وجلّ، ولا رجع عن قصده لنفع يجلبه إلى بعض المسلمين، فقد كانت مقاصده جميلة، وأفعاله لله تعالى. وقال العماد ابن كثير: إنه قام على الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أرادوا وضع الأملاك على بساتينها، فردّ عليهم ذلك، ووقى الله شرّها، بعد أن غضب السلطان وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظّمه، حتى كان يقول: أنا أفزع منه، انتهى كلام ابن كثير. والظاهر المشار إليه هو: ركن الدين أبو الفتوح بيبرس، البندقداري، الصالحي، النجمي، الأيوبي، التركي، صاحب مصر والشام، الذي أفرد سيرته ابن عبد الظاهر، وابن شدّاد، ومات بدمشق قبل الشيخ بيسير، في العشر الأخير من المحرم من السنة التي مات الشيخ فيها. وأما خضر فهو: ابن أبي بكر بن موسى المِهْراني العدوي، أحد من كان الظاهر المذكور يعتقده لكونه كان أخبر بتملّكه قبل وقوعه، حتى كان يتردد لزيارته في الأسبوع مرة ومرتين وأكثر، ولا يخرج عن ريه، وبنى له عدة زوايا وأماكن، منها الزاوية التي بالقرب من الجامع الظاهر من الحسينية، وبها محل دفنه، ثم تغيّر عليه لكثرة ما رُمي به عنده من الفواحش، واستشار في أمره، فأشار بعض خواصه من الأمراء بقتله، فقال خضر مخاطباً للسلطان: اسمع ما أقول لك: إن أجلي قريب من أجلك، بيننا أيام يسيرة، فوجم السلطان من ذلك وعدل عن قتله، ثم حبس بمكان مُعدٌّ له بالقلعة، لم يمكّن من الدخول عليه إلا من يثق به غاية الوثوق، مع التوسعة عليه بالأطعمة الفاخرة والفواكه والملابس، حتى مات بالقاهرة في يوم الخميس سادس المحرم المذكور، ولما ورد البريد على السلطان بموته صرخ وقال: مات! ثم انتقل من مكانه إلى غيره، ولم يستكمل قراءة البريد، بل ولا قرئ عليه شيء " كأنه خوفاً من قوله الذي أسلفه "، فكان كذلك، لم يلبث أن مات " كما تقدم " بدمشق، في العشر الأخير من الشهر المذكور.

وأما بَيْليك، فهو الأمير بدر الدين الخازندار الظاهري، نائب المملكة وأتابك الجيوش المنصورة، وكان موصوفاً بكثرة المعروف، ومحبة الصلحاء والعلماء، وحُسْن السيرة، مع الحظ الحسن، وفهم وذكاء، واعتناء بمطالعة التواريخ وسماع الحديث، ومات أيضاً قبيل الشيخ بيسير، وبعيد الظاهر، وذلك في ربيع الآخر من السنة أيضاً، انتهى. ومما كتبه رسالة تتعلق بالمكوس والحوادث الباطلة، وأبطل الله ذلك على يد من شاء من عباده، في دولة السعيد بن الظاهر. قلت: والسعيد هذا هو ناصر الدين محمد بركة خان بن الظاهر ركن الدين المذكور، استقر في المملكة بعد أبيه، وخُلع منها بعد سنتين وشهرين وثمانية أيام، انتهى. ومما كتبه بسبب الفقهاء، لمّا رُسم بأن الفقيه لا يكون منزّلا في أكثر من مدرسة واحدة، وصورته: بسم الله الرحمن الرحيم، خَدَمَة الشرع يُنهون أن الله تعالى أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين ومناصحة المسلمين، وحثّ على تعظيم حرماته، وإعظام شعائر الدين، وإكرام العلماء وأتباعهم. وقد بلغ الفقهاء بأنه رُسم في حقهم بأن يغيّروا عن وظائفهم، ويُقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكّدت بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهو محتاجون ولهم عيال، وفيهم الصالحون والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم فهم منتسبون إلى العلم ومشاركون فيه، ولا تخفى مراتب أهل العلم وفضلهم، وثناء الله تعالى عليهم، وبيانه مزيّتهم على غيرهم، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان. واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة والإحسان إليهم، ومعاضدتهم ودفع المكروهات عنهم، والنظر في أحوالهم بما فيه من الرفق بهم، فقد ثبت في " صحيح مسلم " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم مَن وَلِي من أمر أمتي شيئاً فارفق بهم، فارفق بهم "، وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه كان يقول لطلبة العلم مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجالاً يأتونكم يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً ". والمسؤول: أن لا يغيَّر على هذه الطائفة شيء، وتُستجلب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة، وقد ثبت في " صحيح البخاري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم ". وقد أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك حين أنكر عليه السلطان صَرْفَ الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، فقال: أقمت بها جنداً لا تردّ سهامهم، فاستصوب فعله وساعده عليه. والله الكريم يوفق الجناب دائماً لمرضاته، والمسارعة إلى طاعته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وله رحمه الله رسائل كليات تتعلق بالمسلمين، وجزئيات في إحياء سنن نيرات، وفي إماتة بدع مظلمات، وكلام طويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، مواجهاً به أهل الرتب العاليات. قلت: منها رسالة إلى نائب السلطنة بدمشق، بطلب جميع الناس للاستسقاء، كتبها في يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وستين وستمائة، وهو الخامس من كانون الأصم، ونصها: خَدَمَة الشرع العلماء بدمشق المحروسة، يُنهون أن الله سبحانه وتعالى أخذ عليهم العهد بتبليغ الشرع إلى المكلفين، ونصيحة الله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر، وعامة المسلمين. ونصيحة الله ورسوله امتثال أمرهما، ومن نصيحة ولاة الأمر تبليغهم شرائع الأحكام، وإرشادهم إلى شعائر الإسلام، والإشارة عليهم بفعلها، وإشاعتها ونشرها. ونصيحة عامتهم الاعتناء بمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، والحث عليها، والمسارعة إليها.

ومما هو من ذلك: الاستسقاء عند الحاجة إليه، والضرورة الحاملة عليه، فإن الاستسقاء سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الأخيار، الكرام الأبرار، رضي الله عنهم، ولم يزل المسلمون عليه فيما تقدم وتأخر من الأعصار. وقد قال تعالى في كتابه العزيز، الذي يجب على كل مكلف الانقياد إليه، والخضوع له والعمل بما فيه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ، وقال تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه) ، وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) . وثبت في صحيحي إمامي المحدثين، وعمدتي المسلمين: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، رضي الله عنهما، من طرق كثيرات، بروايات متظاهرات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى مرات. وفي الصحيح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى، واستسقى معاوية فَمَن بعده رضي الله عنهم، ولم يزل المسلمون على فعل الاستسقاء عند الحاجة إليه. وهذه السنّة التي حالها ما ذكرنا، ومحلُّها ما وصفنا، تشتمل مع ذلك على مصالح كثيرة من مهمات الآخرة والدنيا، عامة للبلاد والعباد، والشجر والدواب، ويشترك فيها الخواص والعوام. فيتوجه على وليّ الأمر وفقه الله تعالى الكريم لطاعته، وتولاّه بكرامته، وأدام نعمه عليه، وضاعف الخيرات لديه: الاهتمام بشأنها، والاعتناء بأمرها، والمسارعة إليها، والتحريض عليها. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة " ونصوص الشرع الكريم بنحو ما ذكرناه كثيرة مشهورة. والمسؤول: التقدم إلى قاضي القضاة " أدام الله له الخيرات " بجمع الناس للاستسقاء على الوجه الشرعي، فإن خذّل عن هذا الأمر جاهل، وزعم أنه يحالف التوكّل، أو أنه اعتراض على الله تعالى، فهذا المخذّل مخطئ جاهل، بل إن اعتقد هذا كان كافراً، لأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق والصواب، الذي يجب على كل مكلّف الانقياد له، والمسارعة إلى قبوله، وانشراح الصدر به، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) ، وقال تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) . وكل ما خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو البدعة والضلالة، والغباوة والجهالة، والسفاهة والنذالة، بل هذه طريقة الكفار في مدافعة دين الإسلام: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) . ويجب على وليّ الأمر " وفّقه الله لطاعته " إذا سمع كلام هذا الزاعم الجاهل، الضال الغاشم المتجاهل، وغيره ممن يقول نحو هذا القول في مدافعة الحق والاعتراض على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يؤدبه تأديباً بليغاً ينزجر به هو وأمثاله، ويُشْهَر أمره، لينكف أهل الجهالة والضلالة عن مثل فعله، وليُعْلَم أن المراد بالاستسقاء امتثال أمر الله تعالى، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مصلحة ناجزة، وسعادة معجّلة، ومنّة من الله تعالى يُشكر على التوفيق لها. وأما نزول المطر فهو إلى الله تعالى، وليس المراد الاستسقاء تيقّن نزول المطر، فإن علم الغيب وإنزال الغيث وغيره من الكائنات، إلى رب العالمين. ولقد أمرنا الله تعالى بدعائه ووعدنا الإجابة، وهو لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: (ادعوني أستجب لكم) ، وقال تعالى: (ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية) ، وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) .

وليُعلم أنه ليس للاستسقاء شروط تُعتبر في صحته سوى اجتماع الناس والصلاة، وهذا متيسر لا مانع منه، لكن قال العلماء: يستحب لولي الأمر أن يأمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالتوبة من المعاصي ومصالحة الأعداء، والصدقة، وصيام ثلاثة أيام، ويخرجون في اليوم الرابع صياماً، وهذا أدب مستحب وليس بواجب ولا شرط، ولو تُرك صح الاستسقاء، ومع هذا فهو هيّن بحمد الله تعالى لا كلفة فيه، فإن معناه أن ولي المر يأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك، وليس معناه أن يحكم على قلوبهم بفعله، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا رب العالمين، بل هو يأمرهم به، فمن وفِّق له فهو نعمة من الله تعالى عليه، ومن حرمه فلا يضر إلا نفسه، ويُرجى للمسلمين الرحمة والخير بامتثال الموفّقين. وما يخلو هذا الأمر من مصالح كثيرة، من صلاة وصيام وصدقة، وذكر وتوبة، وقلاع عن معاص، وإقبال على الطاعات، لا سيّما وقد منّ الله تعالى " وله الحمد والنعمة " على المسلمين بما وُفِّق له السلطان، زاده الله فضلاً وخيراً، وتمكيناً وعلوّاً ونصراً، وأدامه ظاهراً على أعداء الدين وسائر المخالفين، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكرات، مبطلاً للحوادث، مُظهراً للمحاسن والخيرات، بما فعله من إزالة هذا المنكر العظيم، الفاحش الجسيم، الذي لم يُسبق إلى إزالته: (وليَنْصُرَنّ الله من ينصره) . فهذه نصيحة الخدمة أنهوها إلى الأمير، وهم راجون من فضل الله تعالى مسارعته إلى هذه المصلحة، وقد ضاق الوقت عن تأخيرها، وهذه المصلحة لا تحصل بفعل آحاد الناس، بل باجتماع الناس كلهم، وفيهم العلماء والصالحون، والصغار والضعفاء، والمساكين والمضطرون، وقد ثبت في الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " والله يوفق الأمير لكل مكرمة، ويديمه أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حاثا على الاهتمام بشعائر الدين ومصالح المسلمين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذي اصطفى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ولما وصلت الرسالة لولّي الأمر " وفّقه الله تعالى " أمر محتسب البلد فنادى ساعته في الناس بصيام ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين، الثاني عشر من جمادى الأولى المذكور، وبالصدقة والمعروف ومصالحة الأعداء، وغير ذلك مما هو من آداب الاستسقاء. ثم خرج ولّي والناس يوم الخميس، الخامس عشر من الشهر المذكور، واستسقوا، ثم سقوا بعد ذلك بتسعة أيام سقيا عامة، وترادفت أمطار كثيرة، بعد أن حصل لكثير من الناس قنوط. فلله الحمد على نعمه والتوفيق لإظهار شعائر دينه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتناء بسنّته، ومسارعة المسلمين إليها. وكتب وليّ الأمر إلى نوابه في البلدان يأمرهم بالاستسقاء في اليوم الذي يستسقي في أهل دمشق، فامتثلوا أمره في ذلك، فسقوا كلهم في بلدانهم في الوقت المذكور، ثم وقعت في البلدان ثلوج كثيرة لم ير في تلك السنين مثلها، وأبطل تضمين الخانات والخمور، وأريقت على كل من وجدت عنده، في دمشق وسائر بلاد الشام، ورفعت المنكرات " ولله الحمد " رفعا تاما، بعد أن كانت شائعة أفحش الشياع وذلك في ربيع الآخر من السنة، ثم جعل الله الكريم في الغلات أنواع البركات، وأخصبت الغلات في جميع بلاد الشام إلى حد لم يعهد مثله من نحو ثلاثين سنة. ثم أعقب ذلك رخص " لكثرة الغلات " لم يعهد مثله من نحو خمس عشر سنة، حتى بيعت غرارة القمح بثلاثين درهما وبأربعين وما بينهما، والشعير بأربعة عشر درهماً، وقلت رغبة الناس في الغلات، لكثرتها، والله الحمد والمنة. وهذا كله لفظ الشيخ، وأردفه بفضل في صفة الاستسقاء وآدابه، وقرأ جميع ذلك عليه تلميذه ابن العطار، في يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وستمائة بالرواحية بدمشق، ثم حدّث بن البرهان أبو إسحاق إبراهيم بن الضياء أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندري، عن العلاء ابن العطار، إجازة إن لم يكن سماعا، وأنبأني به العز أبو محمد الحنفي، عن أبي إسحاق المذكور انتهى. وكان بدمشق شخص يقال له ابن النجار، سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة، فقام الشيخ ومعه جماعة من العلماء حتى أزالوها، فغضب ابن النجار، وراسل الشيخ يتهدده ويقول له: أنت الذي حركت العلماء لهذا، فكتب إليه الشيخ ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، من يحيى النواوي، اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده، التارك مصلحة لنفسه في تهيئة جهازه له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين، حملا مني لك على ما هو شان المؤمنين، من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين، فأنكر عليه بلساني وقلبي، لأنها غيبة لا أعلم صحتها. ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام، فجرى ما جرى من قول قائل للسلطان، " وفقّه الله الكريم للخيرات ": إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء، وهذا من الافتراء الصريح، والكذب القبيح، فوجب عليّ وعلى جميع من علم هذا من العلماء، أن يبين بطلان هذه المقالة ودحض هذه الشناعة، وأنها خلاف إجماع المسلمين، وأنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين، وأن ينهوا ذلك إلى سلطان المسلمين، فإنه يجب على الناس نصيحته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم "، وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان، وفّقه الله تعالى لطاعته، وتولاه بكرامته. وقد شاع بين الخواص والعوام إن السلطان كثير الاعتناء بالشرع، ويحافظ على العمل به، وأنه بنى المدرسة لطوائف العلماء، ورتب القضاة من المذهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان " أعز الله أنصاره " بالشرع، وأنه إذا طلب طالب منه العمل بالشرع أمر ذلك ولم يخالفه. فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما إفتراه، ودلّس على السلطان وأظهر أن انتزاعها جائز عند بعض العلماء، وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد، وجب عليهم نصيحة السلطان وتبيين الأمر له على وجهه. وإن هذا خلاف إجماع للمسلمين، فإنه يجب عليه نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين، فوفّقهم الله تعالى على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته، على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحداً بعينه، بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب. وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك، لما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها وليَّ الأمر، " أدام الله نعمه عليهم "، لينصحوه ويبينوا حكم الشرع. ثم بلّغني جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات، حصل لي العلم بقولهم: إنك كرهت سعيهم في ذلك، وشرعت في ذم فاعل ذلك، وأسندت معظم ذلك كله إليّ، ويا حبذا ذلك من صنيع، وبلّغني عنك قول هؤلاء الجماعات أنك قلت: قولوا ليحيي هذا الذي سعى في هذا، فينكفّ عنه، وإلا أخذت منه دار الحديث، وبلّغني عنك هؤلاء الجماعات أنك حلفت مرات بالطلاق الثلاث أنك ما تكلمت في انتزاع هذه البساتين، وأنك تشتهي إطلاقها. قيا ظالم نفسه، أما تستحيي من هذا الكلام المتناقض؟ فكيف يصح الجمع بين شهوتك في إطلاقها، وأنك ما تتكلم فيها، وبين كراهتك السعي في إطلاقها، ونصيحة السلطان والمسلمين؟ ويا ظالم نفسه، هل تعرّض لك أحد بمكروه، أو تكلم فيك أحد بعينك؟ وإنما قال العلماء؛ من قال هذا للسلطان فقد كذبه، ودسّ عليه وغشه، ولم ينصحه، فإن السلطان ما يفعل هذا إلا لاعتقاده أنه حلال عند بعض العلماء، فبينوا أنه حرام عند جميعهم، وأنت فقد قلت: إنك لم تتكلم فيها، وحلفت على هذا بالطلاق الثلاث، فأيّ ضرر عليك في إبطال قول كاذب على الشرع، غاشّ مدلِّس على السلطان، وقد قلتَ: أنه غيرك؟ وكيف تكره السعي على شيء قد أجمع الناس على استحسانه؟ بل هو واجب على من قدر عليه، وأنا بحمد الله من القادرين عليه بالطريق الذي سلكتُ. وأما نجاحه فهو إلى الله تعالى مقلّب القلوب والأبصار. ثم أي أتعجب غاية العجب من اتخاذك إياي خصماً، ويا حبذا من اتخاذٍ، فإني " بحمد الله " أُحب في الله تعالى وأُبغض فيه، فأحبّ من أطاعه، وأبغض من خالفه. وإذا أخبرت عن نفسك بكراهتك السعي في مصلحة المسلمين ونصيحة السلطان، فقد دخلت في جماعة المخالفين وصرت ممن نبغضه لله رب العالمين، فإن ذلك من الإيمان كما جاءت به الآثار، الصحيحة المنقولة بأسانيد الأئمة الأخيار: أرض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابُه فيهِ

ويا ظالم نفسه، أنا ما خاصمتك أو كالمتك أو ذكرتك، أو بيني وبينك مخاصمة أو منازعة أو معاملة في شيء، فما بالك تكره فعل الخير يسّرني الله الكريم له؟ (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) ، بل أنت لسوء نظرك لنفسك تنادي على نفسك، وتشهد الشهود بكراهة هذه النصيحة التي هي مصرَّحة بأنك أنت الذي تكلمت في هذه البساتين، وأن الطلاق وقع عليك، وما أبعد أن تكون شبيهاً بمن قال الله فيهم: (ولتعرفَنَّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) . ويا عدوَّ نفسه أتراني أكره معاداة في سلك طريقتك هذه؟ بل والله أحبها وأوثرها وأفعلها بحمد الله تعالى، فإن الحب في الله والبغض فيه، وأجب عليّ وعليك وعلى جميع المكلفين. ولست أدري أي غرض لك في حرصك على الإنكار على الساعين في إعظام حرمات الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين؟ فيا ظالم نفسه، انتهي عن هذا، وارجع عن طريقة المباهتين المعاندين. وأعجب من هذا، تكرير الإرسال إليّ بزعمك الفاسد كالمتوعد، إن لم ينكفّ أخذت من دار الحديث. فيا ظالم نفسه، وجاهل الخير وتاركه، أأطّلعت على قلبي أني متهافت عليها؟ أو علمت أني منحصر فيها أو تحققت أني معتمد عليها، مستند إليها؟ أو عرفت أني أعتقد انحصار رزقي فيها؟ وما علمت لو أنصفت كيف كان ابتدأ أمرها؟ أو ما كنت حاضراً مشاهدا أخذي لها؟ ولو فرض تهافتي عليها: أكنت أوثرها على مصلحة عامة للمسلمين مشتملة على نصيحة الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسلطان وعامة المسلمين، هذا لم أفعله ولا أفعله إن شاء الله تعالى وكيف تتوهم أني أترك نصيحة الله ورسوله وسلطان المسلمين وعامتهم، مخافة من خيالاتك؟ إن هذه لغباوة منك عظيمة. ويا عجباً منك! كيف تقول هذا؟ أأنت رب العالمين بيدك خزائن السماوات والأرضين، وعليك رزقي ورزق الخلائق أجمعين؟ أم أنت سلطان الوقت تحكم في الرعية بما تريد؟ فلو كنت عاقلاً ما تهجمت على التفوّه بهذا الذي لا ينبغي أن يقوله إلاَّ ربُّ العالمين أو سلطان الوقت، مع أن سلطان الوقت منزّه عن قولك الباطل، مرتفع المحل عن فعل ما ذكرت يا ظالم، فإن كنت تقول هذا استقلالاً منك فقد أفتتَّ عله واجترأت على أمر عظيم، ونسبته إلى الظلم عدواناً، وإن كنت تقول عنه فقد كذبت عليه، فإنه " بحمد الله " حسن الاعتقاد في الشرع، وذلك من نعم الله تعالى عليه، والسلطان " بحمد الله وفضله " أكثر اعتقاداً في الشرع من غيره ويعظم حرماته، وليس هو ممن يقابل ناصحه بهذيانات الجاهلين وترّهات المخالفين، بل يقبل نصائحهم كما أمر الله تعالى. واعلم أيها الظالم نفسه، إني والله الذي لا إله إلا هو، لا أترك شيئاً أقدر عليه من السعي من مناصحة الدين والسلطان والمسلمين في هذه القضية، وإن رغمت أنوف الكارهين، وإن كره ذلك أعداد المسلمين، وفرق حزب المخذّلين، وسترى مما أتكلم به إن شاء الله تعالى عند هذا السلطان، وفّقه الله تعالى لطاعته، وتولاه ببركاته، في هذه القضية، غيرة على الشرع، وإعظاماً لحرمات الله تعالى وإقامة للدين، ونصيحة للسلطان وعامة المسلمين. ويا ظالم نفسه، واجلب بخيلك ورجلك إن قدرت، واستعن بأهل المشرقين وما بين الخافقين، فإني بحمد الله في كفاية تامة، وأرجو من فضل الله تعالى أنك لا تقوى لمنابذة أقل الناس مرتبة، وأنا بحمد الله تعالى ممن يود القتل في طاعة الله تعالى. أتقوى يا ضعيف الحيل لمنابذتي؟ أبلغك يا هذا أني لا أؤمن بالقتل؟ أو بلغك أني أعتقد أن الآجال تنقص، وأن الأرزاق، تتغيّر؟ أما تفكر في نفسك في قبيح ما أتيته من الفعال، وسوء ما نطقت به من المقال؟ أيا ظالم نفسه، من طلب رضا الله تعالى، تردّه خيالاتك وتمويهاتك وأباطيلك وترهاتك؟ وبعد كل هذا أرجو من فضل الله أن يوفّق السلطان " أدام الله نعمه عليه " لإطلاق هذه البساتين، وأن يفعل فيها ما تقرُّ به أعين المؤمنين، وترغم به أنف المخالفين، فإن الله تعالى قال: (والعاقبة للمتقين) .

من أفرده بالترجمة

والسلطان " بحمد الله تعالى " يفعل الخيرات، فما يترك هذه القضية تفوته. واعلم أنك عندي " بحمد الله تعالى " أقل من أن أهتم بشأنك أو ألتفت إلى خيالاتك وبطلانك، ولكني أردت أن أعرِّفك بعض أمري، لتدخل نفسك في منابذة المسلمين بأسرهم، ومنابذة سلطانهم " وفقه الله تعالى " على بصيرة منه، وترتفع عنك جهالة بعض الأمر، ليكون دخولك بعد ذلك معاندة لا عذر لك فيها. ويا ظالم نفسه، أتتوهم أنه يخفى عليّ وعلى من سلك طريق نصائح المسلمين وولاة الأمور وحماة الدين، أنّا لا نعتقد صدق قول الله تعالى: (والعاقبة للمتقين) ؟ وقوله تعالى: (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) ، وقوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا) . وقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وقوله تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم خذلان من خذلهم "، والمراد بهذه الطائف: أهل العلم، كذا قاله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وغيره من أهل العلم والفهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " هذا فيمن كان في واحد من الناس، فكيف الظن بمن هو في عون المسلمين أجمعين، مع إعظام حرمات الشرع ونصيحة السلطان وموالاته، وبذل النفس في ذلك؟ واعلم أني والله لا أتعرض لك بمكروه، سوى إني أبغضك لله تعالى، وما امتناعي عن التعرض لك بمكروه عن عجز، بل أخاف الله رب العالمين من إيذاء من هو من جملة الموحدين، وقد أخبرني من أثق بخيره وصلاحه، وكراماته وفلاحه، إنك إن لم تبادر في التوبة حُلّ بك عقوبة عاجلة، تكون بها آية لمن بعدك، ولا يأثم بها أحد من الناس، بل هو عدل من الله تعالى يوقعه بك عبرة لمن بعدك، فإن كنت ناظراً لنفسك فبادر بالرجوع عن سوء فعالك، وتدارك ما أسلفته من قبح مقالك، قبل أن يحل بك ما لا تقال به عثرتك، ولا تغتر بسلامتك وثروتك ووصلتك، وفكّر في قول القائل: قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع كم واثق بالعمر وأريته ... وجامع بددتُ ما يجمع والسلام على من اتبع الهدى، والحمد لله رب العالمين. من أفرده بالترجمة قلت: وقد أفرد ترجمته بالتصنيف خادمه العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود الدمشقي، عرف بابن العطار، الذي كان لشدة ملازمته له وتحققه به، يقال له: مختصر النووي، استوفيت مقاصده هنا، وهو عمدتي بل عدتي، بن عمدة كل من أتى بعده. ووقع في كلام الذهبي في " سير النبلاء " إنه في ست كراريس، والمتداول بالأيدي في كراس وشيء، فيحتمل أن يكون كان كتب في جميع المراثي، ثم حذفها بعض النُّساخ، ووجدت في نسخة وقفت عليها ما يستأنس به لذلك. وظاهر صنيع الذهبي في تاريخه يشعر بكون التي وقف عليها في، لم يستوفي المراثي فيها وقد وقفت على نسخة بجميع المراثي، بخط تلميذه جد شيخ شيوخنا المسند الشهاب أحمد بن البدر حسن، لأبيه، وهو أبو عبد الله محمد ابن الواعظ أبي عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى بن مسعود بن غنيمة، السويداوي، عرف هو وأبوه بالقدسي، كتبها بالخانقاه الشميساطية بدمشق، وهي سماعهِ على مؤلفها، بقراءة المحدث ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن طغريل ابن الصيرفي، سوى ورقتين، فبقراءة السويداوي، وذلك في ثلاثة مجالس، آخرها يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وسبعمائة، بمنزل المؤلف بدار الحديث النورية، وصحح بخطه.

وكتب السويداوي: إن المصنف ابتدأ في تصنيفها في منصف شعبان سن ثمان وسبعمائة، ودعا له بقوله: عافاه الله، وأحسن عقباه. وسبب ذلك أنه كان أصيف بالفالج من قبيل سنين، ويحتمل أن يكون تصنيفا آخر، وهو بعيد. لكن يُستأنس له بما وجدته في كلام الذهبي مُدرجا في كلام ابن العطار، ما لم اقف عليه في النسختين، على أن ابن العطار قال ما نصه: ورأيت منه أموراً تحتمل مجلدات. وذكر ما يرغب في مناقب العلماء، قول سفيان بن عُيينة: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. وقول محمد بن يونس: ما رأين للقلب أنفع من ذكر الصالحين. وأنه دوّنها لتكون سببا للترحم عليه والدعاء له، لما له عليه من الحقوق المتكاثرة التي لا يطيق حصرها، ووصفه بشيخي وقدوتي، الإمام للتصانيف المفيدة، والمؤلفات الحميدة، أو حد دهره، وفريد عصره، الصوام القوام، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق المرضية، والمحاسن السَّنية، العالم الرباني، المتفق على علمه وأمانته وجلالته، وزهده وروعه وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، له الكرامات الطافحة، والمكرمات الواضحة، والمؤثر بنفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين، مع ما هو عليه في المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الثقل، والاجتهاد عن الخروج مع خلاف العلماء ولو كان بعيداً، والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من الشوائب، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة. وكان محققا في علمه وفنونه مدققاً في علمه وكل شؤونه، حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفاً بأنواعه كلها من صحيحه وسقيمه، وغريب ألفاظه وصحيح معانيه واستنباط فقهه، حافظاً لمذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، وما اشتهر من جميع ذلك وما هُجر، سالكاً في كل ما ذكر طريق السلف، قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل، فبعضها للتصنيف، وبعضها للتعليم، وبعضها للصلاة، وبعضها للتلاوة والذكر لله تعالى، وبعضها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكذا أفردها التقي محمد بن الحسن اللخمي في أربع أوراق، وقال: إنه كان عالما بالفقه وفروعه من أقوال الشافعي وأوجه أصحابه، مكث نحو عشرين سنة يفتي ويعلم الناس العلم والفقه والحديث والأدب والزهد، وكان ليس في عصره في بلاد المسلمين مثله، محققاً، حافظاً متقناً، ورعاً، مدققاًَ في الحديث عالماً بصحيحه وحسنه، وسقيمه. وغريبه وأحكامه، عارفا بلغته وأسماء رجاله، وضبطهم وجرحهم وتعديلهم، ومواليدهم ووفياتهم، محققاً في الألفاظ المشكلة. له في فنونه يد طولى، كثير النقل جداً، مداوماً للمطالعة والتأليف، عارفاً بفن التصريف، وفن العربية واللغة، كثير النقل فيهما. عارفا بالأصلين معرفة جيدة، وبالقراءات السبع وغيرها، كثير الخبرة بمذاهب العلماء، المشهورة والمهجورة، ليّن القلب، سالكا طريق السلف في الزهد في الدنيا، والمبالغة في الخشوع والورع، غزير الدمعة كثير الصمت، حافظا لسانه أشد الحفظ، غاضا للطرف، طويل الفكرة، حسن الأخلاق جداً، إذا آذاه أحد يقول له: يا مبارك الحال. مثابرا على الصوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أشد المواطن وأصعبها، محاسباً لنفسه، حافظاً لأوقاته، قد جزّأ كل وقت منها لنوع من العمل، فغالبها للاشتغال بالعلم، وبعضها للتعليم والعبادة، كالصلاة بالليل والتسبيح والقراءة والتدبر. أثنى عليه الأئمة الصلحاء، العلماء العارفون، وتأسف المسلمون عليه بعد مماته أسفاً بليغا، وجزعوا عليه جزعاً شديداً الخاص منهم والعام، والمادح في حال حياته والذام. وأفردها أيضاً مريده اللامة الرباني كمال الدين، إمام الكاملية وشيخها، في جزء سماه: " بغية الراوي في ترجمة النواوي "، وقرأها " على ما بلَّغني به العلاَّمة أبو الفضل النُّويري خطيب مكّة شرَّفها الله تعالى " عند ضريح الشيخ، نفعنا الله ببركاتهم، وكذا أرسل إليّ صاحبنا الشيخ الثقة الورع الحجة برهان الدين إبراهيم القادري، نفعنا الله ببركته، غير أن تصنيفي هذا قُرئ عند ضريح الشيخ أيضاً، جوزي خيراً.

من ترجمه مع غيره

وقد أخذ بعض الجماعة ترجمة الكمال فقال: إنه رتبها وزاد عليها، لكونه استحسن جميعها، وما رضي وضعها، وسماها: " تحفة الطالب والمنتهي، في ترجمة الإمام النووي "، ومن نفس التسمية يُعلم المقصود. ولو فُرض على سبيل التنزل أن صاحب " التحفة " لم تكثر أوهامه، وكان ما زعمه " والعياذ بالله " صحيحاً، ما كان يجمل به هذا القول، بل اللائق الأدب مع أهل العلم والولايات، وإنزالهم منزلتهم في البدايات والنهايات، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وكأني به أو بغيره من الناس، ممن لا اطلاع له بل ديدنه الاختلاس، " ألهمنا الله رشده، وأعاذنا من شرور أنفسنا " قد خذ ما وقع لي من الزوائد الفرائد، التي لا أعلم من سبقني إليها، من غير عزو، غافلاً عن قول القائل: شكر العلم عَزْوه لقائله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مَنْ ترجمه مع غيره وممن علمته الآن ترجم الشيخ سوى من تقدم، الشيخ شمس الدين محمد بن الفخر عبد الرحمن بن يوسف البعلي. قال فيه: كان إماماً بارعاً، حافظاً متقناً، أتقن علوماً شتى، وصنّف التصانيف الجمة، مع شدة الورع والزهد، وكان أمّاراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، على الأمراء والملوك والناس عامة، فنسأل الله أن يرضى عنه ويرضى عنا به. والشيخ قطب الدين موسى اليونيني، الحنبلي، قال في ذيله على " المرآة " لسبط ابن الجوزي. المحدث الزاهد، العابد الورع، المتبحر في العلوم، صاحب التصانيف المفيدة، كان أوحد زمانه في الورع والعبادة، والتقلل من الدنيا والاكباب على الإفادة والتصنيف، مع شدة التواضع، وخشونة الملبس والمأكل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي ترجمته له فوائد فرّقتها في محالها. والتاج الفاكهاني المالكي. وصفه في خطبة " شرح الأربعين " بالشيخ الإمام، العلامة الزاهد، محيي الدين رحمه الله. والحافظ العلم البرزالي. وصفه في تاريخه المسمى " المقتفي لتاريخ أبي شامة "، الذي افتتحه من أول سنة خمس وستين، بالشيخ الإمام، الحافظ الزاهد، وقال: كان ورعاً متعبداً، متقللاً من الدنيا، يصوم الدهر. والكمال جعفر الإدفوي. وصفه في كتابه " البدر السافر " بالزاهد الورع. وقال: إنه صنّف تصانيف مفيدة وحصل النفع بها، ودارت عليه الفتوى بدمشق، ومآثر غزيرة، ومضى على جميل وسداد. وقضى ما كُتبتْ عليه خطيئةٌ ... من يوم حلّ بساحه التكليفُ قال: وكان فقدُه من أعظم المصائب، وعدمُه بليَّة رمت العباد بسهم من البلاء، صائب، رحمه الله ونفعنا ببركته، وحشرنا معه في آخرته في دار كرامته. والحافظ الشمس الذهبي. قال في " سير النبلاء ": الشيخ الإمام القدوة الحافظ، الزاهد العابد، الفقيه المجتهد، الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأيام، محيي الدين، صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان، واشتهرت بأقاصي البلدان. إلى أن قال: لازم الاشتغال والتصنيف، محتسباً في ذلك، مبتغياً وجه الله تعالى، مع التعبد، والصوم والتمجد، والذكر والأوراد، وحفظ الجوارح، وذمِّ النفس، والصبر على العيش الخشن، ملازمة كلّية لا مزيد عليها، وكان مع ملازمته التامة للعلم، ومواظبته لدقائق العمل، وتزكية النفس من شوائب الهوى وسيِّء الأخلاق، ومحقها من أغراضها: عارفاً بالحديث، قائماً على أكثر فنونه، عارفاً رجاله، رأساً في نقل المذهب متضلعاً من علوم الإسلام. وقال في " تاريخ الإسلام ": مفتي الأمة، شيخ الإسلام، الحافظ النبيه الزاهد، أحد الأعلام، علَم الأولياء. وقال في " طبقات الحفّاظ " في الطبقة الحادية والعشرين منها: شيخ الإسلام محيي الدين، هو سيد أهل هذه الطبقة، وإنما ذكرته في الطبقة العشرين لتقدم موته رحمة الله تعالى عليه. والعلاّمة الزين أبو حفص ابن الوردي. قال في " تاريخه ": شيخ الإسلام، العالم الرباني الزاهد إلى أن قال: وله سيرة مفردة في علومه وتصانيفه، ودينه وتفنّنه، وورعه، وزهده، وقناعته وتعبده وتهجده، وخوفه من الله تعالى. إلى أن قال: وقبره ظاهر يُزار بنوى. وقد قلت: لقيتِ خيراً يا نَوى ... وحُرِستِ من ألم النوى فلقد نشا بِك زاهدٌ ... في العلم أخلص ما نوى وعلى عداهُ فضلُه ... فضلُ الجنوب على الهوا

والصلاح خليل بن أبيك الصفدي، وصفه في تاريخه المسمى ب " الوافي بالوفيات " بمفتي الأمة، شيخ الإسلام، الحافظ الفقيه الزاهد، أحد الأعلام. ولم يأت في ترجمته بفائدة زائدة. ووليّ الله تعالى: العفيف اليافعي. قال في " تاريخه ": شيخ الإسلام، مفتي الأنام، المحدث المتقن، المحقق المدقق، النجيب الحبر، المفيد القريب والبعيد، محرّر المذهب وضابطه ومرتّبه، أحد العُبّاد، الورعين الزُّهاد، العالم العامل، المحقق الفاضل، الولي الكبير، السيد الشهير، ذو المحاسن العديدة، والسير الحميدة، والتصانيف المفيدة، الذي فاق جميع الأقران، وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في أعلى المقامات، ناصر السنة، ومعتمد الفتاوى. ذو الورع الذي لم يبلغنا مثله عن أحد في زمانه ولا قبله. ولقد بلغني أنه كان يجري دمعه في الليل ويقول: لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً ... على غير ليلى فهو دمع مضيَّع وقد رأيت له منامات تدل على عظم شأنه، ودوام ذكره لله تعالى، وحضوره، وعمارة أوقاته، وشدة هيبته، وتعظيم وعده ووعيده، وحياته بعد موته، وكلمني ودعا لي، وغير ذلك مما لا تضبطه العبارة، مما تميز به العلماء والعُبَّاد. وقال في " الإرشاد ": رأيته في النوم وعليه هيئة عظيمة تزلزل الجبال، كأنما القيامة قامت، وهو يذكر الله ويمجده، ويعظّم وعده ووعيده، ثم دعا لي وقال: ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقال التاج أبو نصر السبكي " فيما أنبني العز أبو محمد عبد الرحيم بن الفرات، الحنفي " عنه في " طبقات الشافعية الكبرى " له: الشيخ الإمام، العلامة محيي الدين أبو زكريا، شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين. كان يحيى رحمه الله سيداً وحصوراً، وليثاً على النفس هصوراً، وزاهداً لم يبال بخراب الدنيا، إذ صيّر دينه ربعاً معموراً. له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة، هذا مع التفنن في أصناف العلوم، فقهاً ومتون أحاديث، وأسماء رجال، ولغة وتصوفاً، وغير ذلك. وأنا إذا أردت أن أُجمل تفاصيل فضله، وأدل الخلق على مبلغ مقداره بمختصر القول وفصله، لم أزد على بيتين أنشدنيهما من لفظة الشيخ الإمام " يعني والده " وكان من حديثهما أنه " أعني الوالد " رحمهما الله، لما سكن في قاعة دار الحديث الأشرفية في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، كان يخرج في الليل إلى إيوانها، ليتهجد تجاه الأثر الشريف، ويمرّغ خده على البساط، وهذا البساط من زمن الأشرف الواقف، وعليه اسمه، وكان النووي يجلس عليه وقت الدرس، فأنشدني الوالد لنفسه: وفي دار الحديث لطيفُ معنى ... على بُسْط بها أصبو وآوي عسى أن أمَسَّ بحُرِّ وجهي ... مكاناً مسَّه قدمُ النواوي وبإقرار النووي وابن الصلاح وجلوسهما على هذا البساط، مع علمهما وورعهما، وكذا مَنْ بينهما، ومَنْ بعد النووي إلى السبكي فمَنْ بعده: يُدْفَع به مَنْ مَنع افتراش البسط المنقوش عليها شيئاً من حروف الهجاء ويتأيد به من صنّف في معارضته. وشار التاج أيضاً في " التوشيح " إلى هذا الصنيع، بل حكى عن والده أيضاً أنه رافق في مسيره وهو راكب بغلته، شيخاً ماشياً، فتحادثا، فكان في كلام ذلك الشيخ أنه رأى النووي، قال: ففي الحال نزل الوالد عن بغلته وقبّل يد ذلك الشيخ، وهو عامي جلف، وسأله الدعاء، ثم دعاه حتى أردفه معه، وقال: لا أركب وعين رأت وجه النووي تمشي بين يدي أبداً، قال: " وما زال يعني الوالد رحمه الله " كثير الأدب معه " يعني النووي " والمحبة والاعتقاد فيه، انتهى كلامه. كلام التقي في " تكملة شرح المهذّب " كما أسلفته، يشهد لذلك.

وقال التاج أيضاً في " الطبقات الوسطى ": الشيخ الإمام، شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، حجة الله على اللاحقين، ما رأت العين أزهد منه في يقظة ولا منام، ولا عاينت اكثر اتباعاً منه لطرق السالفين، من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. له التصانيف المفيدة، والمناقب الحميدة، والخصائل التي جمعت طارف كل فضل وتليده، والورع الذي خرَّب به دنياه وجعل دينه معموراً، والزهد الذي كان يحيى به سيّداً وحصوراً. هذا إلى قدر في العلم لو أطلّ على المجرّة لما ارتضى سرياً في أعطانها، أو جاور الجوزاء لما استطاب مقاماً في أوطانها، أو حلَّ في دارة الشمس لأنِف من مجاورة سلطانها. وطال ما فاه بالحق لا تأخذه لومة لائم، ونادى بحضرة الأسود الضراغم، وصدع بدين الله بمقال ذي سريرة يخاف يوم تبلى السرائر، ونطق معتصما بالباطن الظاهر، غير ملتفت إلى الملك الظاهر، وقبض على دينه والجمر يلتهب، وصمّم على مقاله والصارم للأرواح ينتهب. ولم يزل طول عمره على طريقة أهل السنّة والجماعة، مواظباً على الخير، لا يصرف منه ساعة في غير طاعة. إلى أن قال: فكان قطب زمانه، وسيد وقته، وسرّ الله في خلقه، والتطويل في ذكر كراماته تطويل في مشهور، وسهاب في معروف غير منكور. ولقد سافرت لزيارة قبره في نوى وزرته، أعاد الله علينا وعلى المسلمين من بركاته. ومن نظم التاج المذكور " وكان سائراً بمنزله المُلَّيْحة قاصداً زيارة النووي " قوله: مُلَّيحةُ الحِرْبة مثل اسمها ... ماءٌ كماءِ البحر ملحاً سوى فعد عنها وانو مغنىً نوى ... فليس للمرء سوى ما نوى وقال في " الصغرى ": الشيخ محيي الدين أبو زكريا، أستاذ المتأخرين، الجامع بين العلم والدين، والسالك سبيل الأقدمين، ذو التصانيف المشهورة. وقال الجمال الإسنوي في " الطبقات " " فيما أنبئت عنه " هو محرر المذهب وهذّبه، ومنقحه ومرتّبه، ومنقحه ومرتّبه. سار في الآفاق ذكره وعلا في العالم علمه وقدْره، صاحب التصانيف المشهورة، المباركة النافعة. وقال نحوه في " المهمات "، وفي " شرحه على المنهاج ". وقال الحافظ العماد ابن كثير في " تاريخه ": الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصبة السبق دون أقرانه. كان من الزهادة والعبادة والتحرّي والورع والانجماع عن الناس والتخلي لطلب العلم والتحلي به: على جانب لا يقدر عليه غيره، ولا يضيّع شيئاً من أوقاته. وقال في " طبقات الشافعية ": الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومهذّبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد. كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد، والتقشف والاقتصاد في العيش، والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد، في زمانه ولا قبله بدهر طويل. وقال قاضي صفد محمد بن عبد الرحمن العثماني في ترجمته من " طبقاته الكبرى ": شيخ الإسلام، بركة الطائفة الشافعية، محيي المذهب ومنقحه، ومن استقر العمل بين الفقهاء فيه على ما يرجحه، وليّ الله العارف القطب الزاهد المتقشف، الورع المتعفف، المعرض عن الدنيا ولذتها، وأهلها وزينتها، الباذل نفسه لنصرة دين الله، المجانب للهوى، أحد العلماء العارفين وعباد الله الصالحين، الجامعين بين العلم والعبادة والعمل والزهادة، صاحب المصنفات العظيمة، الشائعة الذائعة، المباركة النافعة، المتفق عليها بين جميع الموافقين والمخالفين من أئمة الدين. قال: وهو أحد مشائخ المذهب وأئمته، وتصانيفه العمدة فيه، واتفق على زهده وورعه وأنه من الأولياء. قال: ورأيته بمنامي كرتين، إحداهما قرأت عليه في " المنهاج "، والثانية مشيت خلفه زماناً، فالتفت فرآني فأكرمني. إلى أن قال: وكان من التقلل والورع على أكمل الأحوال. وقال في " الطبقات الصغرى ": شيخ الإسلام، المجمع على إمانته وولايته، واستقر العمل في المذهب على ما يرجحه. وقال الصدر سليمان بن يوسف الياسوفي، الشافعي، الحافظ: كنت إذا سمعت شخصاً يقول: أخطأ النووي، أعتقد أنه كفر، حكاه في ترجمة الياسوفي جماعة منهم شيخنا.

سلسلته في الفقه وأهمية معرفتها

وقال السراج أبو حفص ابن الملقن في " العمدة في شرح المنهاج ": هو الشيخ الأمام، العالم المحقق، المدقق المتقن، ذو الفنون من العلوم المتكاثرات، والتصانيف النافعة المستجادات، الزاهد العابد، الورع المعرض عن الدنيا، المقبل بقلبه على الآخرة، الباذل نفسه في نصرة دين الله، المجانب للهوى، أحد العلماء الصالحين، وعباد الله العارفين، الجامعين بين العبادة والورع والزهادة، المواظبين على وظائف الدين، واتّباع هدي سيد المرسلين، محيي السنّة والدين. ووصفه في أول " شرح الأربعين " بالعلاّمة الحافظ أبي زكريا، قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه. وأما في " الطبقات " فلم يذكر شيئاً، بل قال: ذكرت أحواله موضحة في " شرح المنهاج ". وقال الكمال الدَّميري في " شرحه للمنهاج ": الحبر الإمام، العلامة شيخ الإسلام، قطب دائرة العلماء الأعلام، محرر المذهب المتفق على إمامته وديانته، وسؤدده وسيادته، وورعه وزهادته، كان ذا كرامات ظاهرة، وآيات باهرة، وسطوات قاهرة، فلذلك أحيى الله ذكره بعد مماته، واعترف أهل العلم بتعظيم بركاته، ونفع الله بتصانيفه في حياته وبعد وفاته، فلا يكاد يستغني عنها أحد من أصحاب المذاهب المختلفة، ولا تزال القلوب على محبة ما ألفه مؤتلفة. إلى أن قال: حتى فاق على أهل زمانه، ودعا إلى الله في سره وإعلانه، وكان يديم الصيام، ولا تزال مقلته ساهرة، ولا يأكل من فواكه دمشق، لما في ضمانها من الشبهة الظاهرة، ولا يدخل الحمّام تنعّماً، وانخرط في سلك: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ، وكان يقتات مما يأتيه من قِبَل أبويه كفافاً، ويؤثر على نفسه الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ولذلك لم يتزوج إلى أن خرج من الدنيا معافى، وحج حجتين مبرورتين لا رياء فيهما ولا سمعة، وطهر الله من الفواحش قلبه ولسانه وسمعته. وقال المؤرخ صارم الدين إبراهيم بن دقماق الحنفي في تاريخه " نزهة الأنام ": الشيخ الإمام القدوة، العلامة الزاهد العابد، الناسك الخاشع، شيخ الوقت، فريد العصر، بركة الزمان، لم يكن في زمانه مثله في دينه وعلمه وعمله، وزهده وورعه، وكانت مقاصده جميلة، وأفعاله لله تعالى. وقال الشهاب أبو العباس ابن الهائم في " البحر العجاج شرح المنهاج ": الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومهذّبه، وضابطه ومرتّبه. أستاذ المتأخرين، الجامع بين العلم والدين، والسالك سبيل الأقدمين في العبادة، والورع والزهادة، والاقتداء بسيد المرسلين. ذو التصانيف الجامعة، المباركة النافعة. وقال التقي أبو بكر الحصني في " شرحه للمنهاج ": الإمام العلاّمة، محرر المذهب وضابطه، أستاذ المتأخرين، الجامع بين العلم والدين، سلك سبيل الأولين في الزهد والعبادة، تصانيفه تذهب دنس القلب وعناده، إلى أن قال: وعليه سكينة ووقار، وهيبة من العليم الجبار، الذي اصطفاه وجعله من الخيار. إلى أن قال: وناهيك به أنه قطب الوقت. وقال الحافظ الشمس ابن ناصر الدين الدمشقي، في " التبيان لبديعة الزمان " له: الحافظ القدوة الإمام، شيخ الإسلام، صاحب التصانيف السديدة، والمؤلفات النافعة المفيدة. كان فقه الأمة، وعلم الأمة، وأوحد زمانه تبحُّرا في علوم جمة، مع شدة الورع والزهادة، وكثرة الصلاح والعبادة، والقناعة بالعيش الأشخن، واللباس الأدثر، والقيام بالأمر المعروف والنهي عن المنكر. وكانت عليه هيبة ووقار باهر، حتى كان يخاف منه الملك بيبرس الظاهر. وقال التقي ابن قاضي شهبة في " طبقات الشافعية " له: الفقيه الحافظ الزاهد، أحد الأعلام شيخ الإسلام، محيي الدين أبو زكريا، ولخص ترجمته من ابن العطار، وزاد يسيراً. وقال في الألقاب: منها عمدة المتأخرين. واستيفاء الكلام في هذا يعسر، وما تقدم فيه كفاية. سلسلته في الفقه وأهمية معرفتها فلنذكر سلسلة الفقه التي أوردها العلاء ابن العطار في ترجمته تبعاً للشيخ، فإنه ذكرها في " تهذيب الأسماء واللغات "، وقال: إنها من المطلوبات المهمات، والنفائس الجليلات، التي ينبغي للمتفقه والفقيه معرفتها، ويقبح به جهالتها، فإن شيوخه في العلم آباء له في الدين، ووصلة بينه وبين رب العالمين، وكيف لا يقبح جهله الأنساب، والوصلة بين العبد وربه الكريم الوهاب، مع أنه مأمور بالدعاء لهم وبرّهم، وذكر مآثرهم، والثناء عليهم وشكرهم.

من رواة كتبه

ونقل ابن العطار عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: العلماء أرأف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم، لأنهم يحفظونهم من نار الآخرة وأهوالها، وآباؤهم وأمهاتهم يحفظونهم من الدنيا وآفاتها " يعني إذا كانوا علماء " فإن الجهال لا يحفظونهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. فأقول: قد تقدم شيوخه الذين تفقه عليهم. ونقول: تفقه الثلاثة الأولون منهم " وهم: المغربي، وابن نوح، وابن أبي غالب، وكذا ابن رزين " بأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن الصلاح، وهو بأبيه، وهو في طريق العراقيين بأبي سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموصلي، وهو بالقاضي أبي الحسن علي بن إبراهيم الفارقي، وهو بالشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، وهو بالقاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، وهو بأبي الحسن محمد بن علي بن سهل بن مصلح الماسرجي. وتفقه شيخه رسلان على جماعة منهم: الإمام أبو بكر الماهاني، وهو ووالد ابن الصلاح أيضاً في طريق الخراسانيين بأبي القاسم البزري، عن أبي الحسن علي بن محمد بن عبيد إلكيّا الهرّاسي، عن أبي المعالي عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف، إمام الحرمين، عن أبيه، عن أبي بكر عبد الله بن أحمد، القفال، المروزي، الصغير، إمام طريق خراسان، عن أبي زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي، وهو الماسَرْجي ممن تفقه بأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، وهو بأبي العباس أحمد بن عمر ابن سريح، وهو بأبي القاسم عثمان بن بشار الأنماطي وهو بأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني وهو بأبي عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة وسفيان بن عيينة، وأبو خالد مسلم بن خالد، مفتي مكة وإمام أهلها. فأما مالك فتفقه بربيعة عن أنس، وبنافع عن ابن عمر. وأما ابن عيينة فبعمرو بن دينار، عن عمر وابن عباس. وأما مسلم فبأبي الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو بأبي محمد عطاء بن أبي رباح " أسلم "، وهو بابن عباس، وكل من ابن عباس وابن عمر وأنس برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا أخذ ابن عباس عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وجماعة من الصحابة الذين أخذوا عنه صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: ومعلوم أن كل واحد من هؤلاء آخذٌ عن جماعة، بل جماعات، ولكن أردت الاختصار وبيان واحد من شيوخ كل واحد من أجلهم وأشهر، انتهى كلام الشيخ. من رواة كتبه وقد كان في مرويات كلّ من شيخينا: العلاّمة المحدث الشمس أبي عبد الله محمد بن الجمال الرشيدي، الشافعي، الخطيب. والبرهان إبراهيم ابن صدقة الصالحي، الحنبلي رحمهما الله تعالى: ومن تصانيف الشيخ عدة، سمعاها على المقرئ الشمس محمد بن عبد الرحمن الحجازي، عرف بابن الرفّاء، وهي: " كتاب الأربعين " بإشاراتها، و " الأذكار "، و " الرياض "، و " التبيان "، زاد الرشيدي " الترخيص بالقيام "، وأنه سمع وحده على التقي أبي الفتح محمد بن أحمد بن حاتم الخطيب، مواضع من " الأذكار "، وذلك من باب " ماذا يقول إذا دخل في الصلاة "، إلى باب " كراهة النوم "، ومن " الأذكار في صلوات مخصوصة "، إلى " المدح "، ومن " النهي عن الكذب "، إلى آخر الكتاب. وأجازه بسائره. وزاد الصالحي: " التقريب "، وأنه سمع وحده على الزين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن المبارك الغزّي، ابن الشحنة منها " الرياض " فقط، بسماع الرفاه " الأربعين " مع " الإشارة " على القاضي علم الدين أبي الربيع سليمان بن سالم بن عبد الناصر الغزّي، والمحب أبي العباس أحمد بن يوسف الخلاطي، والبدر أبي محمد الحسن بن عبد العزيز بن عبد الكريم الأنصاري اللخمي، قال الأولان: أخبرنا بها العلامة أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن العطار، وقال الثالث: أخبرني بها القاضي الجمال سليمان بن عمر الزرعي، الشافعي، قالا: أخبرنا بها مؤلفها. وبقراءته " أعني الرفاء " " الأذكار " على أبي الربيع الغزي والبدر اللخمي، المذكورين. قال أولهما: أخبرنا ابن العطار. وقال ثانيهما: أخبرنا الزرعي، قالا: أخبرنا مؤلفه، وبرواية ابن حاتم له غالباً عن الشرف أبي بكر ابن قاسم بن أبي بكر الرحبي، وناصر الدين محمد بن كشتغدي الصيرفي، وسيف الدين أبي بكر بن محمد بن يحيى بن سنقر المعالي سماعاً، بإجازتهم من مؤلفه.

وبسماعه " أعني الرفاء " " للرياض " على أبي الربيع، والخلاطي، المذكورين، قالا: أخبرنا ابن العطار. وبرواية ابن الشحنة له أعلى من هذا، عن القاضي البدر أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة، إذناً عاماً، كلاهما عن مؤلفه. وبسماع الرفاء " للتبيان " و " التقريب " معاً، على القاضي العز أبي عمر عبد العزيز بن البدر محمد بن إبراهيم بن جماعة قال: أخبرنا بهما والدي سماعاً، أخبرنا بهما المؤلف. وبسماعه " للترخيص " على العز بن جماعة، وأبي الربيع الغزي، قال الأول: أخبرنا والدي البدر. وقال الثاني: أخبرنا ابن العطار، قالا: أخبرنا المؤلف. وحدث الكمال محمد بن محمد بن نصر الله بن إسماعيل بن النحاس " بالأربعين " و " الرياض "، عن ابن العطار سماعاً، والكمال هذا ممن سمع عليه شيختي باي خاتون، ابنة العلاء السبكي، وأجاز لابني الفاقوسي وآخرين. وفي مرويات شيخنا الشرف أبي الفتح محمد بن الزين أبي بكر بن الحسين المراغي، الشافعي، منها " تصحيح التنبيه وتحرير ألفاظه "، و " المنهاج "، و " الأذكار "، فأما ما عدا " المنهاج " فبتناولها من والده، وأجاز له روايتها عنه بإجازته من الحافظ أبي الحجاج المزي، وأبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الهادي، والصدر أبي الفتح الميدومي، كلهم عن مؤلفها. وأما " المنهاج " فعرض مواضع منه على الحافظ الزين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، وأجازه بسائره، عن أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي البركات، النعماني، عن مؤلفه. وفي مرويات أستاذي شيخ مشائخ الإسلام رحمه الله: " الرياض " و " الأذكار " و " المنهاج "، كلها عن العلامة البرهان أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد ابن عبد الواحد، التنوخي سماعاً عليه لمعظم " الرياض "، ولجميع " المنهاج "، وقراءة عليه لبعض " الأذكار ". وكذا كان شيخنا الزين عبد الغني بن محمد بن محمد السمنودي، سمع " المنهاج "، و " التقريب "، كلاهما على التنوخي، برواية التنوخي " للرياض " و " الأذكار " عن العلاء ابن العطار، أخبرنا بهما المؤلف. و " للتقريب "، عن البدر ابن جماعة، وابن العطار، سماعهما على مؤلفه. و " للمنهاج "، عن الشمس محمد بن إبراهيم بن حيدرة، بن علي القرشي، الشافعي، عُرف بابن القمّاح، وإجازته: المكاتبة من العلاء أبي الحسن العطار في سنة ست عشرة وسبعمائة، والمشافهة من الشرف أبي محمد هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم ابن البازي، القاضي، والشمس محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن النقيب، الحلبي، في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ومن البدر محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة القاضي، والحافظ الجمال أبي الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي، وأبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسي، والصدر أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم الميدومي، وأبي نُعَيم المدعوّ بكاراً بن التقي عُبيد بن عباس بن محمد بن بكّار الأسعردي، وأبي العباس أحمد بن كشتغدي الصيرفي، مشافهة ومكاتبة، بإجازة ابن القمّاح، إن لم يكن خاصاً فعامّاً، وسماع الخمسة بعده، وإجازة الباقين من مؤلفه. وممن أجاز التنوخي ممن أخذ عن النووي: علي بن أيوب بن منصور المقدسي. وكذا كان في مرويات المجد محمد بن محمد بن علي الحريري الحنفي، إمام الضَّرْغَشْتَمِيَّة: " الأربعين "، مع ما بآخرها، سمعها على النجم محمد بن علي بن محمد البالسي، بسماعه لها على ابن عبد لهادي، أخبرنا بها مؤلفها. وفي قيد الحياة الآن من يرويها سماعاً على الشرف أبي الطاهر محمد بن عبد اللطيف بن الكويك، عن المزي، وابن عبد الهادي، كلاهما عنه. كما أن الشيخ الجلال أبي المعالي، القمّصي، الشافعي " نفع الله ببركته ورحمه " في مروياته " الأذكار "، سمع من أوله إلى " الأذكار في الدعوات "، ومن " اذكار الجهاد "، إلى " آداب ومسائل من السلام "، على الشهاب أحمد بن حسن البطائحي، الشافعي، والشرف أبي الطاهر بن الكويك، وأجازاه بسائره. وسمعه عليهما بتمامه: الرضي محمد بن محمد بن محمد الأوجاقي، وهو الآن في الأحياء أيضاً، بسماع البطائحي لجميعه، على أبي الربيع الغزّي، بقراءته له على ابن العطار، وبإجازة ابن الكويك من المزي، قالا: أخبرنا به المؤلف، قال الأول: قراءة، والثاني: إذنا.

مرويات السخاوي عنه

و " المنهاج " عرض القمّصي مواضع منه على حافظ العصر الزين العراقي، وأجاز بسائره، عن النعماني، عنه. وكذا في الموجودين مُسندة الدنيا الآن: أم الفضل عزيزة، المدعوة هاجر ابنة الشرف القدسي، سمعت " الرياض " على التنوخي بسنده، ثم أنها انتقلت بالوفاة، وبعدها القمّصي ثم المبهم الذي سمع " الأربعين " على ابن الكويك، وكذا الرضي، كلهم إلى رحمة الله تعالى. مرويات السخاوي عنه وأما أنا فسمعت بعضاً من جملة من تصانيفه، على بعض من تقدم، و " الرياض " بتمامه من غير المذكورة. وأروي جميع تصانيفه وسائر ما أُثبِّته في هذا التصنيف من كلامه، عن الشيخ أبي هريرة عبد الرحمن بن عمر القبابي، إجازة مكاتبة، عن الصدر الميدومي، وأبي عبد الله ابن الخباز، كلاهما عن مؤلفها، وهذا لا يوجد الآن أقل عدداً منه. فلنورد به أحاديث عن طريقه: الحديث الأول: أنبأني أبو هريرة عن المذكورين، أنبأنا القطب شيخ الإسلام أبو زكريا النووي رحمه الله، قال: أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف ابن سعد بن الحسن بن المفرج بن بكار، المقدسي، النابلسي، ثم الدمشقي، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي، حدثنا أبو نُعيم عبيد بن هشام الحلبي، حدثنا ابن المبارك عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته لله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وأخبرنيه عالياً متصلاً من غير طريق الشيخ: خاتمة مُسندي مصر، أم محمد سارة ابنة السراج أبي حفص عمر بن عبد العز عبد العزيز بن البدر بن جماعة، قراءة عليها وأنا أسمع، بمنزلها بالقاهرة، عن الصلاح بن عبد الله محمد ابن أحمد بن إبراهيم بن أبي عمر، أخبرنا الفخر أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي، أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن مُعَمر البغدادي، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد الشيباني، أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثنا محمد بن رمح، وعبد الله بن رَوْح، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا يحيى بن سعيد، بإسناده نحوه. وهو حديث صحيح جليل القدر، عظيم الموقع، أجمل أهل النقل على صحته وثبوته، اتفق الشيخان على تخريجه من طريق يحيى، ولكن طريق ابن المبارك بخصوصها التي أورده الشيخ منها، انفرد بها مسلم، ووافقه على تخريجها من أصحاب الستة: النسائي. كما أن طريق يزيد لبتي أوردتها، انفرد بها مسلم أيضاً، ووافقه على تخريجها منهم كذلك: ابن ماجه، فأما الأول فرواه مسلم عن أبي كريب، والنسائي عن سليمان بن منصور، كلاهما عن ابن المبارك، أما الثاني فرواه مسلم أيضاً عن محمد بن عبد الله بن نمير، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن يزيد بن هارون. وهو عند أحمد في مسنده عن يزيد، فوافقاه فيه بعلو، ووقع لنا بدلاً للآخرين مع العلو أيضاً، على طريقي مسلم وابن ماجه الثانية، والله الموفق. الحديث الثاني:

وبه إلى النووي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا شيخنا الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي، ثم الدمشقي، رحمه الله، أخبرنا أبو طالب عبد الله، وأبو منصور يونس، وأبو القاسم حسين بن هبة الله بن صَصْري، وأبو يعلى حمزة، وأبو الطاهر إسماعيل، قالوا: أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن، هو ابن عساكر، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني، خطيب دمشق، بها، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن سلوان، أخبرنا أبو القاسم الفضل بن جعفر، أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن القاسم، بن الفرج الهاشمي، أخبرنا أبو مُسْهر، عبد الأعلى بن مُسْهر، أخبرنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي، إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كستوته، فاستكسوني اكْسكُم. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، لم ينقص ذلك من مُلكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وآنسكم، وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، لم يزد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم ما سئل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص البحر أن يُغمس المخْيط فيه خمسة واحدة. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله عزّ وجلّ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ". قال أبو مُسْهر: قال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس إذا حدّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه. وأخبرنيه عالياً متصلا أبو المعالي بن أحمد الدمشقي، بالقاهرة، قال: أخبرنا أبو هريرة ابن الحافظ أبي عبد الله الذهبي الدمشقي، قال: أخبرنا البهاء أبو محمد القاسم بن المظفر بن محمود بن عساكر الدمشقي، قال أخبرنا عم أبي: العزُّ النسابة أبو عبد الله محمد بن تاج الأمناء أبي الفضل أحمد بن محمد ابن الحسن بن عساكر الدمشقي، أخبرنا عمُّ أبي: الحافظ أبو القاسم بن عساكر إذناً، وأبو طالب الخضر بن هبة الله بن طاووس سماعا، قالا: أخبرنا الشريف أبو القاسم به مثله. وهو حديث صحيح عال جليل الإسناد، عظيم الموقع، حسن التسلسل بالدمشقيين الثقات، فإن كلهم من أهلها، إلا الصحابي رضي الله تعالى عنه، وقد دخلها، وكذا دخلتها. أخرجه مسلم في صحيحه منفردا به، عن محمد بن إسحاق الصغاني. ورواه الطبراني عن أبي زُرعة الدمشقي، كلاهما عن أبي مسهر، فوقع لنا بدلا لهما عاليا بدرجتين. وقد جوّد أبو مسهر إسناده، ولكن خلف فيه، كما بُيِّن في غير هذا الموضع. ووقع في تخريج " 40 " الشيخ، لشيخنا، ما نصه: وقد رواه الإمام أبو زكريا النووي في آخر كتاب " الأذكار " له، من هذا الوجه، فكان بينه وبين ابن الموازيني المذكور في روايتنا ثلاثة أنفس، انتهى، ولم يخرجه النووي كما رأيت من طريق الموازيني، إنما أورده من طريق الشريف أبي القاسم، وهو رفيق ابن الموازيني في الرواية عن ابن سلوان. وكذا رواه في آخر " الإرشاد " وكأنّ شيخنا " رحمه الله " أراد أن يقول: الشريف، فسبق القلم، ويؤيده أنه أورده في " الأربعين " التي خرّجها لشيخه البلقيني عن الصواب، حيث قال: وقد رواه الشيخ الإمام العلامة محيي الدين النووي في آخر كتاب " الأذكار " له، عن شيخه خالد النابلسي، عن أبي القاسم بن صَصْري، وغيره، عن أبي القاسم بن عساكر، عن أبي القاسم الخطيب، عن ابن سلوان. قال الشيخ " رحمه الله " عقب إيراده في " الإرشاد ": ورجال إسناده منه إلى أبي ذر، كلهم دمشقيون، وقد دخل أبو ذر دمشق. فأجتمع في هذا الحديث جُمل من الفوائد: منها: صحة إسناده ومتنه، وعلوه، وتسلسله بالدمشقيين، رضي الله عنهم وبارك فيهم، وهذا في غاية الندرة والحسن، وحصل تعريف أوطان رواته بكلمة واحدة: دمشقيون. ومنها: ما أشتمل عليه من البيان لقواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه، والآداب وغيرها، ولله الحمد.

الحديث الثالث: وبه إلى النووي " رحمه الله " قال: أخبرنا خالد بن يوسف بن سعد النابلسي الحافظ، أخبرنا زيد بن الحسن هو الكندي، أخبرنا المبارك بن الحسين " الواسطي "، أخبرنا علي بن أحمد، وهو ابن البُسري، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، هو أبو طاهر المخلّص، حدثنا عبد الله، هو البغوي، حدثنا شيبان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من طلب الشهادة صادقا من قلبه أُعْطيها ولو لم تصبه ". وأخبرينه غير واحد عن أبي إسحاق التنوخي، عن العلاء ابن العطار قال: أخبرتنا ستّ العرب ابنة يحيى، قالت: أخبرنا الكندي به. وأخبرني به عالياً العز أبو محمد الحنفي، عن أم محمد أبنت محمد بن الفخر، قالت: أخبرنا جدي الفخر ابن البخاري قراءة عليه وأنا شاهدة في الثالثة، قال أخبرنا أبو اليُم زيد بن الحسن، فذكره. وهو حديث صحيح أيضا انفرد به مسلم فرواه في الجهاد من صحيحه. وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده. كلاهما عن شيبان، فوافقناهما فيه بعلوّ. ورواه أبو عوانة في صحيحة المستخرج على مسلم، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد البغدادي، وأخي خطاب، كلاهما عن شيبان، فوقع لنا بدلالة عاليا. وكذا رواه غير المذكورين، عن شيبان، بل رواه مؤمل أيضا عن حماد، وزاد فيه: " وإن مات على فراشه ". وقد عزا صاحب " مسند الفردوس " هذا الحديث لأبن ماجه، والذي فيه حديث سهل بن حُنيف، الذي أخرجه مسلم أيضا، لا أنس، والله الموفق. وفي " الإرشاد " للشيخ حديث عبد الله بن حوالة مرفوعا: " إنكم ستجنّدون أجنادا " أورده أيضا من نسخة أبي مُسهر بإسناده، وتكلم عليه، لكننا اقتصرنا على إيراد ثلاثة، والله المستعان. وبه إلى النووي بإسناده الماضي في الحديث الثاني إلى الحافظ أبي قاسم بن عساكر، أنه أنشدهم لنفسه: واظب على جمع الحديث وكَتْبه ... وجهد على تصحيحه في كُتْبِه واسمعه من أربابه نقلاً لما ... سمعوه من أشياخهم تَسْعد بهِ واعرف ثِقاتي رِواته من غيرهم ... كَيما تميز صدقَه من كِذْبه فهو المُفسر للكتاب وأنما ... نطق النبيُّ لنا به عن ربه فتفهْمِ الأخبارَ تعرفْ حِلُه ... من جرْمه مع فرضهْ من ندْمه وهو لمُبيّن للعباد لشرحه ... سَيَر النبيّ المُصطفى مه صَحْبه وتتبَع العالي الصحيحة فإِنه ... قرْبٌ إلى الرحمن تَحظ بقربه وتجنّب التصحيف فيه فربما ... أدّى إلى تحريفه بل قلبهْ واترك مقالة من لحاك بجهله ... عن كُتْبه أو بدعة في قلبه فكفى المحدثُ رفعةً أن يرتضي ... ويُعدَّ من أهل الحديث وحزبه روى هذا الشعر الشيخ في " الإرشاد "، وأورده أبو القاسم التجيبي عن أبي عثمان بن زيدون، عن أبي العباس بن فرح قال: أنشدنا النووي به.

§1/1