المنهل الحديث في شرح الحديث

موسى شاهين لاشين

مقدمة

المنهل الحديث في شرح الحديث بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة أحمده سبحانه وتعالى وأستعينه وأستهديه، وأسأله التوفيق والسداد. وأشهد أن لا إله إلا الله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فبين للناس ما نزل إليهم، ووضح لهم معالم دينهم، ورسم لهم طريق الفوز في دنياهم وأخراهم. فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. "أما بعد" فهذا منهج جديد، أقدمه لطلبة الحديث، تيسيرا لدراستهم وعونا لهم على فهم مقرراتهم. شرحت فيه الأحاديث المختارة من صحيح البخاري، التي حددتها إدارة الأزهر لطلابها في فترة من الزمن، وقسمتها على سنوات أربع، وخصصت منها خمسين حديثا للسنة الأولى، وثمانين لكل سنة من السنوات الثلاث الأخرى، فكان مجموع أحاديث الأجزاء الأربعة (290) تسعين ومائتي حديث، استوعبت أكثر أبواب البخاري، وقطفت من كل باب أهم أحاديثه وأشملها. حرصت في منهجي على وضوح العبارة، وتنسيق المعلومات،

والاقتصار على المهم منها، متحاشيا التفريع والتطويل. وبدأت شرح كل حديث بالمعنى العام، أتناول فيه المقاصد بأسلوب سهل بسيط، يعطي فكرة للطالب عن المضمون والمغزى، ويهيئه للدخول في الدقائق والأسرار، وثنيت بالمباحث العربية، بلاغتها ونحوها ومعاني مفرداتها، وفصلتها عن فقه الحديث وأحكامه الشرعية وما يؤخذ منه من أحكام، ضبطا للفكر، وربطا للمعلومات المتناسبة، ثم ذيلت كل حديث بأسئلة، يستوثق عن طريقها الطالب من تحصيله. وما قصدت إلا الإسهام في تعبيد طريق العلم وفهم الحديث، فكم عانيت من صعوبات هذا الطريق. فإن كنت قد وفقت وأصبت الهدف فحمدا لله وشكرا، وذلك فضل الله وإن كانت الأخرى فأسأل الله العفو والعافية، وقبول حسن القصد وإخلاص النية. {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} المؤلف

كتاب الإيمان

كتاب الإيمان زيادة الإيمان ونقصه في الإسلام 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان". -[المعنى العام]- الإيمان كالشجرة، تطلق على الجذر والساق، كما تطلق عليهما مع الأغصان والأوراق والأزهار والثمار، كذلك يطلق الإيمان على التصديق بالقلب، وعليه مع الأعمال الصالحة، وإذا كانت الشجرة لا تؤتي أكلها، ولا يكمل نفعها إلا بما حمل جذرها وساقها، فإن الإيمان كذلك لا يكون منجيا من النار إلا بما استلزمه من صالح الأعمال. وإذا كانت الشجرة تتشعب شعبا مختلفة، بعضها أغلظ من بعض وبعضها أساس لغيره، فإن الإيمان كذلك يعتمد على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم تتدرج أوامره ومطالبه من الأهم إلى المهم، ومن المهم إلى ما هو دونه، حتى ينتهي بإزاحة الشوكة من طريق المسلمين. والحياء شعبة من شعب الإيمان البالغة بضعا وستين، أو بضعا وسبعين، بل هو أهم خصال الإيمان، لأنه انقباض النفس عن إتيان الفعل القبيح، فهو الباعث والداعي لكثير من صفات الخير، وهو المانع والحاجز عن كثير من مزالق الشر والفساد.

-[المباحث العربية]- (الإيمان) يعني الإيمان الكامل المنجي من النار. (بضع وستون) البضع من العدد ما بين الاثنين والعشرة على الصحيح ويجري عليه حكم العدد، فيذكر مع المعدود المؤنث ويؤنث مع المعدود المذكر، ويبني مع العشرة كما يبني سائر الآحاد، فيقال: بضعة عشر رجلا وبضع عشرة امرأة، ويعطف عليه العشرون والثلاثون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف. (شعبة) بضم الشين، أي خصلة، والشعبة في الأصل الطائفة من الشيء ومنه شعب القبائل. (والحياء) وهو الاستحياء، واشتقاقه من الحياة، وهو في الأصل تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يذم عليه، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. -[فقه الحديث]- تكلف جماعة من العلماء حصر شعب الإيمان بطريق الاجتهاد، ولم يتفقوا على نمط واحد، فبعضهم قسمها إلى أعمال القلب معتقدات ونيات، وإلى أعمال اللسان، وإلى أعمال البدن، وبعضهم أخذ يعدها سردا، دون تقسيم وبعضهم ذهب إلى أن العدد أريد به التكثير دون التحديد، من قبيل قوله تعالى {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} وقال هؤلاء: إن ذكر البضع للترقي، فيكون المعنى أن شعب الإيمان أعداد مبهمة وكثيرة، بل أكثر من الكثيرة. والحق أن محاولة حصر شعب الإيمان محاولة غير سليمة من النقد فالبعض يمكن إدخاله في البعض، كما يمكن عده مستقلا، وكل من تكلف حصر الشعب لم يخل من الاعتراض، ولا يقدح عدم معرفة حصر الشعب على التفصيل في الإيمان، إذ أمرها يحتاج إلى توقيف، وكل ما بينه رسول

الله صلى الله عليه وسلم أعلى هذه الشعب وأدناها كما ثبت في الصحيح "أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء من الإيمان". وفي بعض روايات الصحيح "الإيمان بضع وسبعون شعبة" وبعضهم رجح عليها رواية "بضع وستون شعبة" لأنه العدد المتيقن في الروايتين، وهذا كله مبني على أن العدد مقصود محدد، أما من يرى أن العدد هنا للتكثير غير مراد تحديده فلا إشكال في اختلاف الروايات. فإن قيل: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، كأن يحجم صاحبه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف يكون مثل هذا شعبة من الإيمان؟ قلنا: إن مثل هذا ليس بحياء شرعي، بل عجز ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، من حيث أنه ** انقباض من خوف أن يذم، فهو يشبه الحياء وليس بحياء شرعي، فالحياء الشرعي خير كله والحياء الشرعي لا يأتي إلا بخير، فالتغير والانكسار الذي يعتري الإنسان من خوف ما يعاب عليه منه الشرعي الممدوح الموصوف بالسكينة والوقار، ومنه المذموم غير الشرعي. فإن كان الانقباض عن محرم فهو واجب، وإن كان عن مكروه فهو مندوب، أما الانقباض عن واجب أو مندوب فليس حياء شرعيا، ومنه انكسار النفس وانقباضها عن السؤال في العلم مع الحاجة إلى السؤال. والحياء الشرعي درجات. أعلاها أن يستحي المتقلب في نعم الله أن يستعين بها على معصيته، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه "استحيوا من الله حق الحياء" قالوا: إنا نستحي والحمد لله، فقال: "ليس ذلك، وإنما الاستحياء من الله تعالى حق الحياء أن تحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تفاوت مراتب الإيمان. 2 - أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى الإيمان.

3 - الحث على التخلق بالحياء. 2 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". -[المعنى العام]- يعتمد صرح الإسلام ومجتمعه الكامل على قاعدتين، قاعدة إيجابية وهي فعل الخير، من إفشاء سلام، وإطعام طعام، وعمل بناء. وقاعدة سلبية، أو قاعدة الترك والكف، وهذه القاعدة الثانية هي المقدمة، وهي الأهم، لأن التخلية مقدمة على التحلية، من هنا اهتم الشرع بتهذيب أبنائه وإبعادهم عن المساوئ، والرذائل، وإيذاء بعضهم بعضا، فجعل المسلم الحق هو الذي يسلم الناس من لسانه ويده وبقية جوارحه، هو الذي يمسك لسانه عن طعن الناس ويحفظ ما بين فكيه عن الإساءة للمسلمين، وهو الذي يمسك يده وبقية أعضاء جسمه، ويحبس شرورها وأذاها فلا يمد يده لحق

الغير، ولا تمشي رجله للإضرار بأحد. وإذا كانت الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فرارا بالدين من أفضل القربات، فإن هجرة الفواحش، وهجرة المحرمات، من أعظم الطاعات فالمهاجر الحق هو الذي يهجر المعاصي، ويبتعد عنها، ولا يقترفها، بل لا يحوم حولها حتى لا يقع فيها. -[المباحث العربية]- (المسلم) وكذا المسلمة، فالتعبير بالمسلم للتغليب، والنساء شقائق الرجال يسري عليهن حكمهم، إلا ما خص بنص الشرع. (من سلم المسلمون) فيه جناس الاشتقاق، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد، والتعبير بلفظ "المسلمون" من قبيل التغليب أيضا أي والمسلمات. (من لسانه ويده) المراد من اليد ما هو أعم من العضو المعروف، فيراد بقية الأعضاء، كما يراد اليد المعنوية، كالاستيلاء على حق الغير بغير حق، فالمراد من سلم المسلمون من شره مطلقا. (والمهاجر) أي الهاجر، فالمفاعلة ليست من الجانبيين، كلفظ المسافر وقيل: إن من هجر شيئا فقد هجره ذلك الشيء وإن كان جمادا، وهو هجرة بالقوة وبغير إرادة. -[فقه الحديث]- من علامة المسلم التي يستدل بها على حسن إسلامه سلامة المسلمين من شره وأذاه، بل إحسان المعاملة مطلوب مع غير المسلمين، بل مع غير الإنسان من الطير والحيوان، فذكر المسلمين في الحديث خرج مخرج الغالب، لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، ولأن الأغلب أن سبب الإذابة المخالطة، وغالب من يخالطهم المسلم عادة

المسلمون مثله، فنبه على التحرز من إذايتهم التي قربت أسبابها. وخص اللسان واليد بالذكر من بين سائر الجوارح لأن اللسان هو المعبر عما في النفس، واليد هي التي بها البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع والإعطاء. وقدم اللسان على اليد لأن إيذاءه أكثر وقوعا من إيذائها، وأسهل مباشرة وأشد نكاية منها، ولهذا قال الشاعر: جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان ثم إيذاء اللسان يعم، ويلحق عددا أكثر مما يلحقه إيذاء اليد، فقد يؤذي البعيد والقريب، والحاضر والغائب والميت والحي، وأسرة أو قبيلة أو دولة بلفظ واحد، بخلاف اليد. فذكر اللسان واليد مع غلبة مباشرتهما الأذى كالعنوان لكل ما يباشر الأذى من الأعضاء، حتى القلب فإنه منهي عن الحسد والحقد والبغض والغيبة وإضمار الشر ونحو ذلك. ولا يدخل في إيذاء المسلم إقامة الحدود عليه، إذ هي إصلاح لا إيذاء وكل مأذون فيه شرعا مهما آلم ليس من قبيل الإيذاء المحرم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على ترك أذى المسلمين بكل ما يؤذي، وجماع ذلك حسن الخلق وهو درجات، أعلاها درجة الأبرار، وهم الذين لا يؤذون الذر ولا يضمرون الشر. 2 - في الحديث رد على المرجئة في قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية. 3 - في الحديث أن العفو والصفح وترك المؤاخذة أولى من المطالبة والمعاقبة {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} 4 - والحث على هجر الفسق والعصيان.

5 - وفيه أن عدم الإيذاء علامة ظاهرة من علامات المسلم، وليس معنى ذلك أن من سلم المسلمون من لسانه ويده يكون كامل الإسلام وإن قصر في الواجبات الأخرى، فظهور علامة قد تكون غير معبرة عن باطن حقيقي لا تثبت بها الحقيقة الكاملة، نعم من لم يسلم المسلمون من أذاه لا يكون مسلما كامل الإسلام وإن كان مسلما في الجملة. 3 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار". -[المعنى العام]- {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في

السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} تلك الكلمة كلمة التوحيد والإخلاص، إذا غرست في القلب ونمت وترعرعت بامتثال الأوامر واجتناب النواهي آتت أكلها، وأثمرت حبا لله، وحبا لرسوله، وينمو هذا الحب ويزداد، ويرتقي صاحبه بالاستغراق في الفرائض والنوافل، حتى يغطي حب الله وحب رسوله كل المشاعر، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه من ولده ووالده وماله ونفسه. وتبرز آثار هذا الحب في امتثال أمر الله، والتلذذ بالعبادة والتكاليف الشاقة والرضا بقضائه وقدره، بل يتلقى المحنة بالنفس الراضية المطمئنة، وبنفس الروح التي يتلقى بها المنحة. فالمحب يرضى بل يحب كل أفعال المحبوب، ويحرص على أن لا يخالفه أو يغضبه، ويتفرع عن هذا الحب حب من يحبه الله ورسوله من أجل حب الله ورسوله، يتفرع عن هذا الحب حب الصالحين ومجالستهم والاقتداء بهم وتتبع سيرتهم، والميل إليهم، لا لشيء إلا لأنهم صالحون، ولأن حبهم من حب الله، ولله، وفي الله. ويتفرع عن هذا الحب بغض ما يبغضه الله ورسوله، وبغض الكفار والفسقة والعاصين. وينتج عن هذا الحب وذلك البغض بغض لأن يعود المؤمن إلى ذلك الظلام، ظلام الكفر بعد أن أنقذه الله منه وأخرجه إلى النور. من بلغ هذه الدرجة من الحب بلغ قمة الإيمان، وتمتع بحلاوته، وسعد بسموه ونوره وهدايته، وكانت له الجنات العلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. -[المباحث العربية]- (ثلاث من كن فيه) "ثلاث" مبتدأ، والجملة بعده الخبر، وجاز الابتداء به وهو نكرة لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، والتقدير ثلاث خصال وحذف المعدود يجيز تذكير العدد وتأنيثه، فيصح أن نقول: ثلاثة، أي ثلاثة أمور، و"كان" تامة هنا، أي من وجدن فيه.

(وجد حلاوة الإيمان) أي أحس وشعر بحلاوة الإيمان، فحلاوة الإيمان موجودة في المؤمن بوجود الإيمان، لكنه لا يحسها ولا يستلذها إلا من كانت عنده هذه الخصال الثلاث، فالمؤمن مثله مثل آكل العسل، حلاوة العسل محققة في آكله، لكن إن كان الآكل في صحة وراحة بال فهو يستطيبه ويحس به، ويتلذذ بحلاوته، وإن لم يكن في صحة، أو كان مشغول البال مهموما بأمر من الأمور لم يحس له طعما ولم يشعر بحلاوته، وكذلك المؤمن إن حصل الصفات الثلاث وجد حلاوة الإيمان، وإلا لم يسعد بإيمانه في دنياه ولم ينتفع به النفع الكامل في أخراه. وقد جاء في بعض الروايات "وجد طعم الإيمان" وهي بمعنى الرواية المذكورة، لأن طعم الإيمان عند المؤمن لا يكون إلا حلوا. ولما كان الطعم والحلاوة من صفات المطعومات كان التعبير بها في جانب الإيمان مجازيا على سبيل الاستعارة التصريحية، بتشبيه انشراح الصدر بالحلاوة. (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) المصدر المنسبك من "أن" والفعل خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي أي الخصال الثلاث كذا وكذا وكذا إن روعي المجموع، وتقديره إحداها كذا، وثانيتها كذا، وثالثتها كذا إن روعي كل من الثلاث على حدة. (وأن يكره أن يعود في الكفر) يقال: عاد إلى كذا أي رجع إليه، وعاد فيه مضمن معنى استقر، أي رجع إليه وانغمس واستقر فيه. (كما يكره أن يقذف في النار) أي كراهة مشابهة لكراهته أن يقذف في النار، فقوله "كما يكره" صفة لمصدر محذوف. و"ما" مصدرية. -[فقه الحديث]- الحب الميل إلى الشيء، وهو نوعان، جبلي يغرسه الله في القلب فيحس صاحبه ميلا لا سلطان له على دفعه، ولا قدرة له في اكتسابه، ومن

هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" والنوع الثاني مكتسب بتناول أسبابه، فحب المؤمن لله ينشأ عن التفكير في فضله ونعمائه، فيتقرب إليه جل شأنه بالفرائض والنوافل، حتى يكون أمر الله وطاعته هي كل شيء في حياته، وكذلك الحال بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم اعترافا بفضله وجهاده في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور. وللحب علامات وآثار لا يوجد بدونها، فطاعة المحبوب والحرص على رضاه دليل المحبة، وصدق الله العظيم حيث يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .... } فقيام المؤمن المحب لربه بالتكاليف الشاقة ليس للحب العقلي كشرب الدواء المر- كما يرى البيضاوي -ولكن للتلذذ بالتكاليف وأدائها، وعدم الشعور بمشقتها، فهي حلوة عنده، تهفو إليها نفسه وتسعد بها مشاعره. وإذا وصل المؤمن إلى هذه الحالة كمل إيمانه، وشعر بحلاوة الإيمان وحصلت عنده الخصلتان الأخيرتان حصولا لازما تبعيا. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن للإيمان حلاوة ولذة يحسها المقربون. 2 - الحث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي، والإكثار من النوافل لنيل محبة الله ورسوله. 3 - الحث على إخلاص محبة الناس وتمحيضها لله تعالى، فحب الناس حبا مشتركا بين الله وبين النفع الدنيوي- كمحبة الصالحين لأنهم صالحون وللانتفاع منهم بالمعاملات الدنيوية- وإن كان حسنا وممدوحا شرعا لكنه لا يصل بصاحبه إلى المرتبة المطلوبة، التي بها يجد حلاوة الإيمان وجودا كاملا. والمراد من المرء المحبوب على هذا، المرء المسلم الصالح فإن الكافر والفاسق ينبغي أن يبغضا في الله، مصداقا لقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم

أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} 4 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - وحوله عصابة من أصحابه - "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك". -[المعنى العام]- قبل الهجرة بعام وبعض العام تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من المدينة في موسم الحج، وفي عقبة منى بايعهم على الإسلام وعلى أن يخبروا من وراءهم من أهل المدينة، وكانوا اثنى عشر رجلا، من بينهم عبادة بن

الصامت وتسمى هذه البيعة بيعة العقبة الأولى، وفي الموسم الثاني للحج قدم مسلما جمع كبير من أهل المدينة، قيل إنهم كانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين واجتمع بهم صلى الله عليه وسلم ولكثرتهم طلب منهم نقباء عنهم يبايعهم، فكان من النقباء عبادة بن الصامت، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن يقولوا الحق ولا يخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن ينصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم عليهم يثرب، فيمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، ولهم الجنة. وهذه هي بيعة العقبة الثانية، وبها سمي المسلمون من أهل المدينة بالأنصار، وبعد فتح مكة حين جاءت المؤمنات مهاجرات بايعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن، ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف. وتسمى هذه البيعة بيعة النساء، ثم بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على ما بايع عليه النساء، وقال لهم: من وفى وحافظ، ولم يفعل شيئا من هذه المنهيات فأجره على الله، ومن أصاب من هذه النواهي شيئا، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ولا يجمع الله عليه عقوبتين. ومن أصاب من هذه الكبائر شيئا ثم ستره الله، فلم يعاقب به في الدنيا فأمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عفا عنه وسامحه وغفر له، وإن شاء عاقبه. وكان عبادة بن الصامت ممن حضر هذه البيعة، كما كان ممن حضر بيعة الرضوان تحت الشجرة، عام الحديبية رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عن الصحابة. -[المباحث العربية]- (عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هذا التركيب كثير في الروايات، والجار والمجرور فيه وفي مثله متعلق بفعل محذوف، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل للفعل المحذوف، والتقدير: روي عن عبادة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وحوله عصابة من أصحابه) "حول" ظرف مكان خبر مقدم، و"عصابة" مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب حال من فاعل "قال" والعصابة بكسر العين الجماعة من الناس، وهي ما بين العشرة والأربعين. وذكر هذه الجملة للتوثيق بالرواية، وأن الراوي يذكر الحديث بجميع ظروفه وهيئاته. (بايعوني) المبايعة في الأصل المعاوضة المالية، والمراد منها هنا المعاهدة وهي شبيهة بالبيع لما أن كلا من المتعاهدين يبذل ما عنده للآخر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يبذل الوعد بالثواب والجنة، وهم هنا يبذلون الوعد بالطاعة. (ولا تسرقوا) المفعول محذوف للتعميم، أي لا تسرقوا شيئا ما، أو الفعل منزل منزلة اللازم، أي لا يكن منكم سرقة. (ولا تقتلوا أولادكم) بنين كانوا أم بنات مخافة العار أو الحاجة، وخص القتل بالأولاد لأنه كان شائعا فيهم، أو لأنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. (ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم) البهتان الكذب الذي يبهت سامعه، أي يدهشه لفحشه وفظاعته، وأصل هذا التعبير كان في بيعة النساء، كنى بذلك عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها زورا وبهتانا، فلما استعمل في بيعة الرجال كما هو، حمل على المباشرة مطلقا والمواجهة بالكذب، إذ ما بين الأيدي والأرجل هو المواجه للآخرين. (ولا تعصوا في معروف) مفعوله محذوف، جاء في رواية "ولا تعصوني" قال النووي: يحتمل أن يكون حذفه للتعميم، أي لا تعصوني ولا تعصوا أحدا من أولي الأمر في معروف، والمعروف ما عرف من الشارع حسنه، أمرا أو نهيا. (فمن وفى منكم فأجره على الله) "وفى" بالتخفيف والتشديد بمعنى، أي فمن ثبت على العهد، وأدى العهد وافيا، وأبهم الأجر للتفخيم، لأن الأجر من الكريم لا يكون إلا عظيما، وقد عين هذا الأجر في رواية في الصحيحين

إذ قال "فأجره على الله بالجنة" وذكر "على" في "على الله" للدلالة على تحقق الوقوع، كالواجبات، لأن الله لا يجب عليه شيء. (ومن أصاب من ذلك شيئا) الإشارة للمنهيات المذكورة، والمراد ما عدا الشرك، إذ خرج بدليل آخر كقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.} (فعوقب في الدنيا) في رواية "فعوقب به في الدنيا" بالحد أو القصاص مثلا. (فهو كفارة له) أي فالعقاب الدنيوي كفارة وطهور، كذا جاء في رواية الإمام أحمد. (ثم ستره الله) قال بعضهم عطف هنا بثم، وعطف "فعوقب" بالفاء للتخويف من الوقوع في المعصية لأن السامع إذا علم أن العقوبة تعقب وتفاجئ المعصية خاف ونفر، بخلاف الستر فإنه متراخ بعيد. -[فقه الحديث]- المسألة الرئيسية في هذا الحديث: هل الحدود كفارات للذنوب لا يعاقب عليها في الآخرة؟ أو ليست كفارات؟ وبعبارة الفقهاء: هل الحدود جوابر؟ أو زواجر؟ أي هل هي تجبر صاحب المعصية وتنقيه من الذنب؟ أو هي لزجره وزجر غيره، وعليه عقوبة أخروية؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب. قيل: جوابر، وقيل: زواجر، وقيل: بالتوقف. ولكل أدلته. وقبل التفصيل والتدليل نسارع بأن قتل المرتد على ارتداده غير داخل في المسألة، فلا نقاش في أن قتله غير مكفر لذنبه، وخروجه من العموم الظاهر في الحديث من قوله "ومن أصاب من ذلك شيئا" حيث إن الإشارة للمذكورات وأولها "أن لا تشركوا بالله شيئا" هذا العموم -كما قال النووي -خصص بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وبعض العلماء يجعل الإشارة لما ذكر بعد الشرك، بقرينة أن

المخاطب بذلك المسلمون، فلا يدخل الشرك حتى يحتاج إلى إخراجه، ويؤيد هذا الفريق ما جاء في مسلم عن عبادة في هذا الحديث "ومن أتى منكم حدا" إذ القتل على الشرك لا يسمى حدا، ورد الحافظ ابن حجر على هذا الرأي ورجح توجيه النووي، فقال: إن خطاب المسلمين بذلك لا يمنع من التحذير من الإشراك وما ذكر في حقيقة الحد عرفي، فالصواب ما قال النووي. نعود إلى آراء العلماء وأدلتهم فنقول: إن القائلين: بأن الحدود كفارات وجوابر، ولو لم يتب المحدود، هم الجمهور، ويستدلون بظاهر هذا الحديث، فهو صريح بأن من أصاب حدا فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، ثم إن عبادة بن الصامت لم ينفرد برواية هذا الحكم، بل روى ذلك أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما أخرجه الترمذي وصححه الحاكم، وفيه "من أصاب ذنبا، فعوقب به في الدنيا، فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة" وللطبراني عن ابن عمر مرفوعا" ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب" ومن أدلتهم حديث ماعز والغامدية، إذ اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحد توبة فقال: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". القول الثاني: أن الحدود ليست كفارات إلا مع التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم وبعض المفسرين واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فالآية حكمت عليهم بعذاب أخروي بعد خزي الدنيا وعقوبة الدنيا، ولم ترفع عقوبة الآخرة إلا بالتوبة، وقد حاول بعض العلماء أن يرد هذا الاستدلال بأن الاستثناء إنما هو من عقوبة الدنيا، ولذلك قيدت بالقدرة عليه. قاله الحافظ ابن حجر. فالآية على هذا معناها أن ذلك الجزاء

من التقتيل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي، والأرجل، أو النفي، ثابت لغير الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم. لكن بقي لهذا الفريق أن يستدل بالجمع بين عقوبة الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة لهم. اللهم إلا أن يقال: إن هذا خاص بالمحاربين، فهم يستثنون من العام بالنص عليهم، كما استثنى القاضي إسماعيل من قتل قصاصا، فقال: إن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، لأنه لم يصل إليه حق. وقد دفع الحافظ ابن حجر هذا الرأي فقال: بل وصل إلى المقتول حق وأي حق؟ فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل، فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا؟ ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل. اهـ. القول الثالث: التوقف لحديث أبي هريرة عند البزار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" وقد حاول الحافظ أن يرد هذا الاستدلال بأن حديث عبادة أصح إسنادا، وبجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم، ثم علم، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة. اهـ. والذي نميل إليه أن الذي شرع الحدود كعقوبة على الذنب هو الله تعالى، وإذا كنا نطمع في عفوه بدون عقوبة، فمع العقوبة الدنيوية من باب أولى، أما شرط التوبة مع الحد فليس بلازم لأن التوبة وحدها كافية في محو الذنب فلم يكن للحد والعقوبة معها موقع. نعم إن صاحبت الحد كانت خيرا مضموما إلى مكفر، والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - مشروعية البيعة، وأخذ العهود على عمل الصالحات، والبعد عن السيئات. 2 - تعظيم أمر السرقة والزنا، إذ جعلا بين الإشراك وبين قتل الأولاد. 3 - تعظيم أمر الكذب، وبخاصة في النسب.

4 - استدل بقوله "ولا تعصوا في معروف" على أن الحديث جمع بين المنهيات والمأمورات ولم يهمل الواجبات، إذ العصيان مخالفة الأمر، قال الحافظ ابن حجر: والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، واجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل. 5 - أدخل بعضهم مصائب الدنيا، من الآلام والأسقام في عموم العقاب وأنها مكفرة لبعض جرائم الحدود إن لم تقم الحدود، والتحقيق أنها لا تدخل في هذا الحديث، لأنها قد تجتمع مع الستر، فتدخل في قوله: "ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله" نعم بينت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، قال الحافظ: فيحتمل أن يراد أنها مكفرة ما لا حد فيه. 6 - وفي الحديث في قوله: "ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة. 7 - قال الطيبي: وفيه إشارة إلى الامتناع والبعد عن الشهادة على أحد بأنه من أهل النار، أو لأحد بأنه من أهل الجنة، إلا من ورد النص فيهم بأعيانهم. 8 - استدل به بعضهم على أن المطلوب ممن ارتكب حدا أن يأتي الإمام ويعترف، ويسأله أن يقيم عليه الحد، ليحصل الكفارة، وقيل: بل الأفضل أن يتوب سرا، وفصل بعضهم بين أن كون معلنا بالفجور فيستحب أن يعلن توبته، وأن يأتي الإمام ويعترف، وإلا فلا ... والله أعلم.

5 - عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم". -[المعنى العام]- كان أبو ذر يسوي بين نفسه وبين خادمه في الملبس والمأكل، فلما رآه بعض الصحابة، وقد قسم الحلة الواحدة نصفين، لبس نصفها، وألبس عبده

نصفها، سألوه: لم لم تجمع بين النصفين لتلبس حلة كاملة؟ فأجاب بقوله: تشاتمت مع رجل، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، عيرته بسوادها فشكا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوبخني بأن ما فعلته من خصال الجاهلية الذميمة وأفهمني أن العبيد لم يخرجوا عن كونهم إخوانا في الإنسانية، ولئن رفع الله بعض الناس على بعض فقد أوجب على الأسياد حسن معاملة العبيد والضعفاء في المأكل والمشرب والملبس، بل وفي أسلوب الخطاب، ونهى عن تكليفهم بصعاب تفوق طاقاتهم. فما أجل هذا التشريع الحكيم، وما أسمى سماحة الإسلام، إنه دين المودة والمحبة والألفة بين الناس. -[المباحث العربية]- (عن أبي ذر قال ساببت رجلا) الحديث من أول "ساببت رجلا" مقصود لفظه، في محل نصب مقول القول، و"قال" مسبوك من غير سابك نائب فاعل لفعل محذوف، والتقدير: روي عن أبي ذر قوله "ساببت رجلا" إلخ وأبو ذر الغفاري بكسر الغين منسوب إلى غفار، قبيلة من كنانة، روي عنه أنه قال: أنا رابع أربعة في الإسلام، ويقال: إنه خامس خمسة، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه، فأقام حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم هاجر إلى المدينة فصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهده مشهور وتواضعه جم، ومن مذهبه حرمة ما زاد عن حاجة المسلم من المال. (ساببت) مفاعلة من السب، وهو الشتم وكان السب من الجهتين، كما يدل على ذلك رواية مسلم "فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه" وقد ثبت أن الرجل بلال المؤذن، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، ولعل أبا ذر أبهمه خوفا عليه من احتقار السامع. (فعيرته بأمه) معطوف على "ساببت" والتعيير هو النسبة إلى العار، فهو سب، والفاء تفسيرية، وفي رواية "فعيرته بسواد أمه" وفي رواية "قلت له: يا ابن السوداء "وفي رواية" وكانت أمه أعجمية فنلت منها".

(فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم) معطوف على محذوف، أي فعلم رسول الله، أو شكا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال. (أعيرته بأمه؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي، على معنى ما كان ينبغي أن تعيره بأمه. (إنك امرؤ فيك جاهلية) "امرؤ" خبر "إن" وهو من نوادر الكلمات، لأن حركة عين الكلمة وهي الراء تتبع لأمها في الحركات الإعرابية فتضم مع الرفع وتفتح مع النصب وتكسر مع الجر، و"فيك جاهلية" خبر ومبتدأ، والجملة صفة "امرؤ" والمراد فيك خصلة ذميمة من خصال الجاهلية، وهي التعيير والسب. (إخوانكم خولكم) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، لأن المقصود الحكم على الخول بالأخوة، وإنما قدم الخبر للاهتمام به، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأين محذوفين، أي هم إخوانكم، هم خولكم، وخول الرجل حشمه وخدمه الواحد خائل، وهو اسم يقع على العبد والأمة، والمراد من الأخوة هنا الأخوة في الإنسانية. (جعلهم الله تحت أيديكم) مجاز عن القدرة أو عن الملك، أي جعل الله لكم التصرف والسيطرة عليهم، أو جعلكم مالكين لهم. (فمن كان) الفاء تفريعية، أو فصيحة في جواب الشرط، تقديره: إذا كان أمرهم كذلك فمن كان ... إلخ. و"من" موصولة مبتدأ، وجملة "كان" صلة وقوله "فليطعمه" خبر المبتدأ، ودخلت الفاء عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط. (مما يأكل) "من" تبعيضية، و"ما" موصولة، والعائد مفعول "يأكل" محذوف، والتقدير بعض الذي يأكله، أي من جنس ما يأكل، فلا يلزم أن يطعمه من كل مأكوله، ومثلها "مما يلبس". (فإن كلفتموهم) مفعوله الثاني محذوف، أي إن كلفتموهم ما يغلبهم.

-[فقه الحديث]- مطلع هذا الحديث: عن واصل الأحدب عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة -بفتح الراء موضع بالبادية، بينه وبين المدينة نحو ثلاثين ميلا من جهة العراق -وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، وفي رواية فقلت: يا أبا ذر. لو جمعت بينهما كانت حلة"؟ وفي رواية "فقال القوم: يا أبا ذر. لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة؟ فقال: ساببت رجلا ... " إلخ الحديث. والظاهر أن الحلة كانت تتكون من قطعتين من نوع واحد، وأنها كانت لأبي ذر، فلما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم ما سمع فهم أنه لا بد أن يلبس عبده مما يلبس، فقسم الحلة بينه وبين عبده وأخذ يسوي بينه وبين عبده في المأكل والمشرب. والظاهر أن السب وقع من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، كذا قيل، والأحرى أن يقال: إنه استغضب فغضب، فأخطأ، فندم، فقد روي أنه ألقى بخده على الأرض وقال: لا أرفعه حتى يطأه بلال بقدمه، وإنما وبخه صلى الله عليه وسلم وعنفه مع عظم منزلته تحذيرا له عن معاودة ذلك، وتنفيرا لغيره من خصال الجاهلية الذميمة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استحباب إعطاء الخدم والعبيد ما يشعرهم بالمشاركة الفعلية وليس شرطا المساواة، وإنما المطلوب المواساة التي تظهر في الإطعام والإلباس. 2 - النهي عن سب العبيد وعن تحقيرهم بآبائهم، ويلحق بهم الخادم والأجير والضعيف. 3 - الحث على الإحسان إليهم والرفق بهم، والرفق بمن كان في حكمهم كالدواب. 4 - عدم الترفع على المسلم وإن كان عبدا. 5 - منع تكليف العبد ومن في حكمه ما لا يطيق أصلا، أو ما لا يطيق

الدوام عليه، لأن النهي للتحريم بلا خلاف. 6 - إعانة العبد والخادم، ومساعدته إذا كلف بما فيه مشقة. 6 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر". -[المعنى العام]- أربع من خصال السوء، لا تليق بالمسلم الذي يطابق ظاهره باطنه، الذي يتجنب الخداع والمراوغة، أربع تمثل آفة اللسان وآفة النية وآفة الجوارح، أربع من اجتمعت فيه كان منافقا خالصا، تكامل نفاقه، ومن كانت فيه خصلة منها كان فيه ربع النفاق حتى يتركها، فإن تركها إلى غير رجعة، وتجنب العودة إليها تطهر من النفاق. إحداها الكذب في الحديث إذا كثر وأصبح عادة وشأنا في أغلب ما يخبر به، وثانيتها الغدر في العهود والإخلال بالمواثيق والنكث بعد إعطاء الأمان، وعدم الوفاء بالعقود، وثالثتها الخلف

في المواعيد وتبييت هذا الخلف، والعزم على عدم الحفاظ عليها، والتهاون فيها، وتعمد الإخلال بها، رابعة الأثافي، وخاتمة السوء وقبيحته، الفجور عند المخاصمة والخروج عن حدود الشرع والآداب عند الاختلاف، ببذاءة في اللسان وخبث في الطوية، ومبالغة وإسراف في الكيد والنكاية والإيذاء. -[المباحث العربية]- (أربع) المعدود محذوف، يقدر مؤنثا حيث ذكر العدد، أي أربع خصال، أو أربع خلال. (كان منافقا خالصا) النفاق لغة مخالفة الظاهر للباطن، وفي الشرع إن كانت المخالفة في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وهو المقصود عند الإطلاق في القرآن الكريم، وإن كانت المخالفة في أمور الشرع الأخرى فهو نفاق العمل ويقع في القول وفي الفعل وفي الترك، وتتفاوت مراتبه. (ومن كانت فيه خصلة منهن) الخصلة بفتح الخاء تطلق على الفضيلة والرذيلة، والمراد هنا الرذيلة. (إذا اؤتمن خان) المؤتمن والمؤتمن عليه محذوفان للتعميم، أي إذا ائتمنه أي أحد على أي شيء من مال أو عرض أو سر، خان الأمانة وتصرف فيها على خلاف الشرع. (وإذا حدث كذب) المخاطب بالكذب والحديث المكذوب محذوفان للتعميم أيضا، وهذا الأسلوب مع التعبير بـ"إذا" يدل على تكرر الفعل فيكون المقصود من اعتاد ذلك وصار له ديدنا. (وإذا عاهد غدر) يقال: عاهده إذا أعطاه الأمان والموثق، ويقال: غدره وغدر به إذا خانه ولم يف له بما التزم. (وإذا خاصم فجر) الفجور الميل عن الحق، والاتجاه نحو المعصية والخروج عن الحدود الشرعية.

-[فقه الحديث]- في الحديث الصحيح "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" فيتحصل من الروايتين خمس خصال، بإضافة الخيانة في الأمانة إلى الأربع، وفي جعل علامة المنافق ثلاثا مرة، وأربعا مرة تعارض، رفعه القرطبي بأنه صلى الله عليه وسلم استجد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده، فأخبر أولا بالأقل، ثم أخبر بالأكثر، وقال الحافظ ابن حجر، يحتمل أن تكون الثلاث دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة أو الخصلتان الزائدتان يتم بهما النفاق ويخلص، والأولى أن يقال: إن كل واحدة من الخمس علامة من علامات النفاق، بل الخمس من علامات النفاق، فهي أكثر من ذلك، إذ منها الملق، وإظهار الرضا والإعجاب بالرؤساء مع بغضهم وكراهيتهم، ومنها الرياء في العبادة وغير ذلك، فالمقصود من هذه الخصال المذكورة التنبيه على ما عداها من خصال النفاق، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول والفعل والنية، فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة في الأمانة، والغدر في المعاهدة، وعلى فساد النية بالخلف في الوعد، لأن الخلف في الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم على الخلف مقارنا للوعد، أما لو كان عازما على الوفاء ثم عرض له مانع، أو بدا له رأي فليس من النفاق، ولا شك أن المراد بالوعد المطلوب الوفاء به الوعد بالخير، أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه، بل قد يجب إخلافه. وأما الكذب في الحديث الذي هو من علامات النفاق فهو الكذب المتعمد الذي يترتب عليه ضرر، أما المبالغة في الوصف أو في الأخبار الماضية مما يخالف الواقع، ولا يترتب عليه ضرر، فهو وإن كان كذبا ينبغي الحذر منه إلا أنه لا يكون به منافقا. وأما الغدر في المعاهدة فهو قبيح مذموم عند كل أمة، وهو حرام باتفاق سواء كان في حق المسلم أو الذمي، وقد أمر الله المسلمين بالوفاء بعهدهم للمشركين فقال {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين.}

وأما المخاصمة فهي على ثلاثة أحوال: مخاصمة للوصول إلى حق ومخاصمة للوصول إلى غير حق، أي إلى حق الغير، ومخاصمة بغير علم فالمخاصمة للوصول إلى حق، الأولى تركها، حيث أمكن الوصول إلى الحق بغيرها، لأنها تشوش الخاطر، وتوغر الصدر، وفيها تفويت لطيب الكلام ولين الخلق. والمخاصمة للوصول إلى حق الغير هي المقصودة في الحديث، والمخاصمة بغير علم مذمومة لما فيها من الأضرار الكثيرة. وأما الخيانة في الأمانة فهي حرام باتفاق، سواء أكانت الأمانة بين العبد وربه كالفرائض، أو بين الناس بعضهم بعضا. هذا، والمراد من النفاق في الحديث نفاق العمل، فلا يقال: إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق، إذ المراد أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان وفي ذلك تحذير وتخويف من هذه الصفات الذميمة.

7 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم حدثوني ما هي؟ قال فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله فوقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة". -[المعنى العام]- جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عشرة من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وأبو هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر، فأتى صلى الله عليه وسلم بجمار نخل فشرع يأكل، تاليا قوله تعالى {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} ثم نظر في أصحابه فقال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها طول العام، ولا ينعدم ظلها، ولا يبطل نفعها، ولا ينقطع من البيوت على مر الأيام ثمرها وإنها مثل المسلم ثابت الدين، يصدر منه من العلوم والخير قوت مستطاب للأرواح ينتفع بعلمه وصلاحه وآثاره حيا وميتا، فنبئوني ما هي هذه الشجرة؟ راح كل واحد من الحاضرين يفكر فيما يصدق عليه الأوصاف من الشجر، وأخذوا يقولون: شجرة كذا. فيقال: لا. شجرة كذا. فيقال: لا، عددوا من شجر البوادي ما عددوا، فلما عجزوا قالوا: أخبرنا يا رسول الله ما هي الشجرة؟ قال: هي النخلة. فلما انصرفوا قال عبد الله بن عمر لأبيه. لقد عرفتها والله يا أبت حينما سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفت أنها النخلة، فقد كنت ألاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل جمارها وهو يسأل، قال عمر لابنه: وما منعك يا عبد الله من أن تجيب؟ قال: يا أبت. نظرت إليكم فإذا أنا عاشر عشرة أنا أصغركم استحييت منك ومن أبي بكر وأبي هريرة وأنس وكبار الصحابة، رأيت أن من الأدب أن لا أجيب أمامكن على سؤال عجزتم عن جوابه. قال عمر: لأن كنت

أجبت كان أحب إلي من حمر النعم، كنت سأكون سعيدا بجوابك حين عجز القوم أكثر من سعادتي بأعظم الأموال وأنفسها وأغلاها. -[المباحث العربية]- (إن من الشجر شجرة) "من" تبعيضية، و"أل" في "الشجر" للجنس. أي إن بعض جنس الشجر شجرة. (لا يسقط ورقها) كما يسقط أوراق غيرها في بعض فصول العام، بل ولا يخف كما يخف كثير من ورق الشجر، والجملة صفة "شجرة" وفي رواية "لا يتحات ورقها ولا .... ولا .... ولا ... " قيل في تفسيرها: "ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيؤها، ولا يبطل نفعها" قال بعض العلماء: بركة النخل في جميع أجزائها، وعلى مر الأيام، فمن حين يطلع ثمرها إلى أن ييبس يؤكل أنواعا، بسرا ورطبا وتمرا، وينتفع بخوصها وجريدها وليفها وجذعها حتى النوى ينتفع به في علف الدواب. (وإنها مثل المسلم) "مثل" روي بفتح الميم والثاء، وبكسر الميم وسكون الثاء، مثل شبه -بفتح الشين والباء، وبكسر الشين وسكون الباء -لفظا ومعنى. والنخلة في روايتنا مشبه، والمسلم مشبه به، وجاء في رواية "إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة" فالمؤمن مشبه، والنخلة مشبه به ووجه الشبه على الروايتين دوام النفع وكثرة الخير، ورواية "لا تسقط لها أنملة ولا تسقط لمؤمن دعوة" ورواية "شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء" على أساس أن دين المسلم ثابت وعمله مقبول مرفوع وإن كان فيهما إشارة إلى وجه شبه، لكنهما فردان من أفراد دوام النفع وكثرة الخير، ولذا كانت رواية البزار شاملة موجزة. إذ قالت "مثل المؤمن مثل النخلة ما أتاك منها نفعك" وإسناده صحيح. أما من قال إن وجه الشبه كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو كونها لا تحمل حتى تلقح، أو كونها تموت إذا غرقت، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة لا

يعتد بها، كما قال الحافظ ابن حجر، لأن جميع ذلك من المتشابهات مشترك في الآدمي لا يختص بالمسلم. (فحدثوني ما هي؟ ) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا عرفتموها فحدثوني، وجملة "ما هي" خبر ومبتدأ سدت مسد مفعولي "حدث". (فوقع الناس في شجر البوادي) أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة. يقال: وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها. (ووقع في نفسي أنها النخلة) في رواية "فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به". (فاستحييت) في رواية "فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم" وفي أخرى "فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم" وفي رواية "ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم". -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث في باب الحياء في العلم، قال الحافظ ابن حجر: فيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت. اهـ. وفي هذا الكلام نظر، إذ كيف يتمنى عمر أن يكون ابنه قد ترك المستحب. والحياء في العلم مذموم، وليس مستحبا لكن عدمه هنا تعارض مع توقير الكبير، فرفع الذم ولم يأخذ حكم الاستحباب وتمنى عمر أن لو قالها إنما كان من قبيل ما طبع الإنسان عليه من حبه الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم. وذكره البخاري في باب الفهم في العلم كدليل على أن العلم مواهب، وأن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه، والله يؤتي فضله من يشاء.

وبوب عليه البخاري في الأطعمة كدليل على أن قطع الجمار ليس من باب إضاعة المال، وأن بيع الجمار جائز وليس من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها. وبوب عليه البخاري في الأدب لما فيه من توقير الكبير وتقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الأفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن. 2 - الإشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله شيء منها. 3 - فيه امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى، مع بيانه لهم إن لم يفهموه، أما حديث معاوية في النهي عن الأغلوطات -أي صعاب المسائل -فإنه محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه. 4 - فيه إشارة إلى أن سامع اللغز ينبغي أن يتفطن للقرائن الواقعة عند السؤال فإن ابن عمر إنما فهم لملاحظته قرينة الجمار. كما ذكر في بعض الروايات. 5 - فيه أن الملغز ينبغي أن لا يبالغ في التعمية، بحيث لا يجعل للسامع بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه. 6 - فيه دليل على بركة النخلة وما تثمره. 7 - استدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح إذا كان أصلها لله. وهذا المأخذ من رواية قول عمر لابنه "لو قلتها ... " إلخ. 8 - كما يؤخذ من الرواية نفسها الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين

عمر، لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم. 9 - ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من العطاء ونفع الغير وبذل الخير.

كتاب العلم

كتاب العلم 8 - عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه". -[المعنى العام]- كان المسجد النبوي بالمدينة المدرسة الأولى في الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس فيه في أوقات الفراغ، يجتمع مع أصحابه، يقرأ عليهم ما ينزل من القرآن ويعلمهم أمور دينهم، ويتخولهم بين الحين والحين بالموعظة والرقاق والآداب. وكان المسجد مطروقا بين طريقين، وجزؤه غير المسقوف يصل بين جهتين بدون أبواب، فكان بعض الناس يمر به إذا انتقل من الجهة إلى الأخرى وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بالمسجد، دخل ثلاثة من الرجال ** دخلوا يمرون في طريقهم إلى الجهة الأخرى، فلما وصلوا عند الحلقة، رغب أحدهم في الجلوس، فوجد في الحلقة مكانا خاليا يكفيه، فجلس فيه، وتردد الثاني في الجلوس، إن له مصلحة خرج يقضيها، أيذهب إليها؟ ويستمر في مشيه؟ أم يجلس كما جلس صاحبه؟ وبعد خطوات بعد

بها عن الحلقة استحيا من نفسه، واستحيا أن يعاب من صاحبه ومن الصحابة الجالسين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد فجلس خلف الحلقة، حيث لم يجد فرجة كما وجد الأول، وأما الثالث فلم يتردد في الانصراف إلى مصلحته، والإعراض عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النفر الثلاثة، ورآهم الجالسون في الحلقة، وثارت في نفوسهم تساؤلات عن حكم الشريعة فيهم فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من عظته قال: أخبركم عن النفر الثلاثة الذين رأيتموهم؟ أما الأول فقد لجأ إلى الله، وإلى العلم، فاحتضنه الله برعايته ورضوانه، وأما الثاني فقد غلبه الحياء، فنال رحمة الله وعفوه، وأما الثالث فاستغنى فاستغنى الله عنه، ومن يستغن الله عنه فقد حرم الخير كله، وكان من المغضوب عليهم والآثمين المطرودين. -[المباحث العربية]- (بينما هو جالس) يعظ الناس ويعلمهم، و"بينما" أصله "بين" ظرف زمان زيدت عليه "ما" وقد تزداد الألف، فيقال "بينا" وهو ملازم للإضافة إلى جملة ويحتاج إلى جواب هو العامل فيه، إذا لم يكن في الجملة لفظ المفاجأة فإن وجد فالعامل معنى المفاجأة. (والناس معه) الجملة في محل نصب حال من الضمير في "جالس". (إذ أقبل ثلاثة نفر) "إذ" فجائية، ومعناها هو عامل النصب في "بين" والتقدير فاجأه ثلاثة نفر بين هو جالس، أي وقت جلوسه، والنفر بفتح النون والفاء اسم جمع، لهذا وقع تمييزا لجمع، ويطلق على جماعة من الرجال ليس فيهم امرأة، ويقع على العدد من ثلاثة إلى عشرة، والإضافة بيانية، إضافة تمييز مبين، أي ثلاثة هم نفر. وكان إقبالهم من باب المسجد مارين بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان للمسجد بابان متقابلان يمر به المارة ويطرقونه كالشارع. (فأقبل اثنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذا إقبال آخر غير الأول، والمقصود منه هنا توجههما إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أنس "فإذا ثلاثة نفر

يمرون فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا". (فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الكلام مضاف محذوف، أي على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو "على" بمعنى "عند". (فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة) "أما" حرف تفصيل، تجب الفاء في تلو تاليه "فرأى" و"الفرجة" بضم الفاء وفتحها هي الخلاء بين الشيئين و"الحلقة" بإسكان اللام وحكي فتحها، كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتح الحاء واللام. (وأما الآخر فجلس خلفهم) ضمير الجمع للحلقة باعتبار مكونيها من الصحابة. (وأما الثالث فأدبر ذاهبا) "ذاهبا" حال مؤكدة، حيث إن المراد من الإدبار الذهاب، وقيل المراد من الإدبار هنا الإعراض عن المجلس، فذاهبا حال مؤسسة، وقيل معنى "ذاهبا" مستمرا في ذهابه، فتكون حالا مؤسسة أيضا (فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من موضوع عظته ودرسه. (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة) "ألا" هي همزة الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، دخلت على "لا" النافية، ونفي النفي إثبات، فآل المعنى إلى: أخبركم عن النفر الثلاثة، وفائدتها على هذا التنبيه إلى أهمية ما بعدها. وفي الكلام مضاف محذوف، أي عن أحوال النفر الثلاثة. (فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني، وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن {إذ أوى الفتية إلى الكهف} بالقصر و {وآويناهما إلى ربوة} بالمد، وحكي في اللغة القصر والمد معا فيهما. ومعنى "أوى إلى الله" لجأ إلى الله، أو في الكلام مضافان محذوفان أي لجأ أو انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى "فآواه الله" أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إليه ورحمه ورضي عنه.

(وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه) أي لم يفعل كما فعل زميله الأول فترك المزاحمة حياء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، أو المراد أنه لم يفعل كما فعل زميله الثالث أي استحيا من الذهاب عن المجلس، يشير إلى هذا المعنى رواية الحاكم ولفظها "ومضى الثاني قليلا، ثم جاء فجلس". (وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه) أي أعرض عن مجلس العلم وانصرف عنه، فعامله الله تعالى وجزاه على إساءته إعراضا عنه، وصرفا لرحمته ورضوانه عنه، والإعراض في الأصل انصراف النفس عن الشيء وعدم التوجه إليه، ففي الكلام مشاكلة ومقابلة، كقوله تعالى {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وقد وصف إعراض الله تعالى في حديث "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ... " الحديث. فالمراد من الإعراض الإهمال، وعدم الإحسان. -[فقه الحديث]- لم يتعرض الحديث بالنسبة للذين جلسا في مجلس العلم إلى تسليمهما، هل سلما؟ فرد عليهما السلام؟ أو لم يسلما؟ ولا إلى أنهما صليا تحية المسجد أو لم يصليا؟ وقد تناول العلماء هاتين النقطتين بالتأويل والتوجيه، فقيل: لعلهما سلما، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة السلام، أو أنهما سلما، ولم يرد أحد عليهما، لأن المشتغل بالعلم، المستغرق في العبادة لا يجب عليه الرد ولم ينقل إلينا هذا أو ذلك لشهرته، وعدم الحاجة إلى الإخبار به، وقيل: لعلهما لم يسلما اعتمادا على عدم مشروعية السلام على المشتغل بالعلم. وعلى كلا الجوابين لا مؤاخذة عليهما. إذ لو أتيا ما يلامان عليه لنبههما صلى الله عليه وسلم وعلمهما، فلا وجه لهذا الإشكال أساسا، أما الإشكال الثاني فقد قيل: لعلهما كانا على غير وضوء، ورد بأنه لو كان كذلك لنبههما صلى الله عليه وسلم فاعتذرا ولم ينقل إلينا شيء من ذلك، وقيل: لعل دخولهما كان في وقت كراهة التنفل، ويرده الشافعية بأن تحية المسجد لا تكره في أي وقت، وقيل: لعلهما صليا، ولم ينقل إلينا لاهتمام الرواة بغير ذلك من القصة،

وعلى كل لم يثبت أنهما أتيا ما يلامان عليه، فليس في الحديث دليل على إثبات حكم، أو نفيه، لأن ما سكت عنه الراوي لا يستدل به على نفي أو إثبات. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - اتخاذ المسجد مكانا لدراسة العلم والوعظ. 2 - استحباب التحليق في دروس العلم ومجالس الذكر، لأن ذلك أدعى إلى القرب من المعلم والقائد. 3 - وأن من سبق إلى مكان في الحلقة أو في المسجد كان أحق به. 4 - استحباب القرب من المعلم للتبرك، وللمناقشة، وللتمكن من السماع. 5 - سد الخلل والفرجة في حلقة العلم، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة. 6 - جواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي، كما فعل الثاني، قاله الحافظ ابن حجر، والتحقيق أن الحديث لا يشير إلى ذلك، وإن كان هذا الحكم صحيحا، فقد تكون الفرجة في الحلقة الخارجية إن كانت هناك حلقات، على أن ظاهر الحديث أنها كانت حلقة واحدة، وإلا لقال "فرأى فرجة في إحدى الحلقات ... ". 7 - وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير. قاله الحافظ ابن حجر أيضا. وليس في الحديث إشارة إلى المزاحمة. 8 - فضيلة الاستحياء من الانصراف عن باب الخير ودرس العلم، أو من المزاحمة في الحلقات، والثناء على المستحي. 9 - استحباب الجلوس حيث ينتهي المجلس. 10 - ذم من سنحت له فرصة الخير والعلم فانصرف عنها، وهو

محمول على فعل ذلك بدون عذر. 11 - جواز الدعاء على المذنب بسخط الله، وهذا على أن قوله: "فأعرض الله عنه" خبر لفظا، إنشاء ودعاء معنى، وعلى أنه كان مسلما معرضا بغير عذر، والأولى أن يقال: إنه كان منافقا، أو أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمره أما المسلم فلا يدعي عليه. 12 - جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها، وأن ذلك لا يعد من الغيبة. 13 - الثناء على من فعل جميلا. 14 - وابتداء العالم جلساءه بما يزيل عنهم الشبهات ويوضح لهم أسرار الوقائع.

9 - عن ابن شهاب قال قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيبا يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". -[المعنى العام]- بينما كان صلى الله عليه وسلم يوزع الصدقات والأعطيات على مستحقيها اعترض أحدهم على القسمة، فقال: اعدل يا رسول الله. قال: ويحك؟ من يعدل إذا لم أعدل؟ تفقه يا هذا في دينك، وتعلم قواعد شريعتك، وتفهم أحكام الإسلام، والرضا بما حكم نبيه، ومن لم يتفقه في الدين حرم الخير، ولم يبال الله به، وإن من فقه الدين أن تعلم يا هذا أن الله هو المعطي، هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير، إنه على كل شيء قدير، وإن من الدين أن تعلم يا هذا أنني ما أنا إلا قاسم وموزع ومناول، ما أنا إلا أداة منفذة لإرادة الله، وإرادة الله فوق كل شيء، وهو الذي يعطي، تعلم يا هذا فقه الدين، واسلك طريق من أراد اللهم بهم خيرا، فهم قناديل منيرة في كل عصر، يبقون على الحق ما بقي الزمان، لا يطفئهم أعداء الله، ولا يضرهم العتاة، حتى يأتي أمر الله، وتقوم الساعة. فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. -[المباحث العربية]- (عن معاوية بن أبي سفيان) أصل السند في البخاري: قال حميد بن

عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبا يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) قال الزمخشري: تقول: سمعت رجلا يقول كذا، فتوقع السمع على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفت الرجل بما يسمع، في مثل: سمعت رجلا يقول كذا، أو جعلت ما يسمع حالا من الرجل إذا كان معرفة، كما في "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فأغناك الوصف أو الحال عن ذكر المسموع وهو القول، ولولا الوصف أو الحال لم يكن بد من أن يقال: سمعت قول فلان ... إلخ. انتهى بتصرف. (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) "يفقهه" بسكون الهاء، مجزوم جوابا للشرط، أي يفهمه، يقال: فقه بضم القاف إذا صار فقيها والفقه سجية له، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بالكسر إذا فهم. وفقهه الله، صيره وجعله يفهم، ويسابق في الفهم، ويصبح الفهم سجية وملكة له، ولما كان الفقه في اللغة يشمل الفهم في أي من الأمور، دنيوية أو أخروية خصه هنا بالفهم في الدين، أي فهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان في العقائد، أو الأحكام الفرعية، أو مطلق التفسير أو مطلق الحديث أو الآداب، وهو المراد من الخير الخير الأخروي، ونكر "خيرا" ليشمل القليل والكثير، بناء على أن التفقه في الدين موزع يزيد وينقص على مختلف الفقهاء. (وإنما أنا قاسم، والله عز وجل يعطي) "إنما" أداة قصر، وهو هنا من قصر الموصوف على صفة، وهو غير حقيقي بل إضافي، قصر قلب لمن يعتقد أنه معط فقط، وقصر إفراد لمن يعتقد أنه قاسم ومعط، أي أنا قاسم ولست معطيا أي ما أنا إلا واسطة مناولة وتوصيل، والعطاء الحقيقي كله من الله. والمقسوم والمعطي محذوف للتعميم، أي كل ما أوصله ليس لي فيه إلا المناولة وقصر المقسوم والمعطي على مال الفيء والصدقة مراعاة لسبب ورود الحديث أو قصره على الموحي به وتبليغه مراعاة لصدر الحديث "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقصره على هذا أو ذاك تضييق لواسع. لكن أيا من هذين الأمرين يصلح وجه ارتباط بين هذه الجملة وبين صدر

الحديث، وعبر بالمضارع بدل اسم الفاعل في "يعطي" لإفادة التجدد والحدوث وتوالي النعم والعطاء، وجملتا "عز وجل" معترضتان بين المبتدأ والخبر للتنزيه والتقديس. (ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله) أي على دين الله وفقهه، والمراد بالأمة أمة الإجابة، وتصدق ببعض أفرادها، وما يقوم به بعضها يستند وينسب إليها، أي وسيظل بعض أفراد هذه الأمة متفقهين في دين الله. أما من هم المقصودون بهذا البعض؟ فآراء، تأتي في فقه الحديث. وأما علاقة هذه الجملة بما قبلها فهي رفع إيهام أن الخير والتفقه في الدين مرتبط بزمن أو قرون. (لا يضرهم من خالفهم) أي لا يثنيهم وعد أو وعيد عن قيامهم على دين الله، وجهرهم بالحق، وصلابتهم فيه. (حتى يأتي أمر الله) أي قيام الساعة. أي إلى نهاية الدنيا، وبعدها يكون الحكم لله وحده، والأمر لله وحده، ولا تكليف، فلا وجه للاستشكال بأن ما بعد "حتى" يخالف ما قبلها، فيترتب عليه أن هذه الأمة بعد قيام الساعة لا تقوم على أمر الله، أو يضرها حينئذ من خالفها، وقيل: إن لفظ الغاية قصد به التأبيد، كقوله تعالى {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أي قائمين على دين الله أبدا، أو لا يضرهم من خالفهم أبدا وقيل: المراد من أمر الله الثاني فتنة الدجال، فما بعد الغاية يخالف ما قبلها وأحسن التوجيهات هو الأول. -[فقه الحديث]- إذا كان الحديث قد سيق إثر اعتراض أحد الصحابة على عطاء أعطيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما كان يطمع، أو اعتراضه على تقسيم الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الفيء والصدقات، وأنه أريد به إلزام المعترض بالتسليم، وإرشاده إلى الاستزاد من التفقه في دين الله، ليعلم أن الإيمان الحقيقي في قبول ما جاء وما يجئ به محمد صلى الله عليه وسلم وأن (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، وتوجيهه إلى

فهم قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وإذا كان هذا هو المورد فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن التفقه في الدين خير، قال الحافظ: ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين ويعلم قواعد الإسلام، وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير. 2 - أن التفقه في الدين لا يكون بالاكتساب فقط، بل بالاكتساب لمن يفتح الله عليه به. 3 - أن من يفتح الله عليه بذلك سيبقى جنسه موجودا حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وفي نوعية هذا الجنس قال بعضهم: هم أهل العلم بالقرآن والحديث والآثار، وقال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ وقال القاضي عياض: أراد أحمد: أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، وهذا توجيه حسن، ووسع الإمام النووي الدائرة فقال: يحتمل أن تكون هذه الطائفة من أنواع المؤمنين، ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد ومن زاهد، ومن آمر بالمعروف، ومن فقيه ومحدث وغير ذلك من أنواع الخير، ومن حيث اجتماع هذه الطائفة في مكان قال: ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا متفرقين. اهـ. وفي استمرار هذا النوع إلى قيام الساعة كلام كثير استدعاه أحاديث صحيحة، منها "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة، كحفالة الشعير أو التمر (أي ما يتساقط من قشور الشعير والتمر) لا يبالهم الله باله". تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز (أي يركب بعضهم بعضا) على أولئك تقوم الساعة". "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر

فيهم السمن" وفيه "يبعث الله ريحا طيبة، فتوفي كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان". هذه الأحاديث في البخاري ومسلم، ويتعارض ظاهرها مع حديثنا، قال الحافظ ابن حجر: وجدت في هذا مناظرة. أخرج الحاكم أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية. فقال عقبة بن عامر: أعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك". فقال عبد الله: أجل "ويبعث الله ريحا، ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة". قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا فالمراد من قوله في حديث عقبة "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح. اهـ ويمكن في حديثنا حمل قوله "حتى يأتي أمر الله" على معنى: حتى يأتي أمر الله بهذه الريح فتقبضهم" والله أعلم. 4 - وفي الحديث بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس. 5 - ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم. 6 - أخذ منه بعضهم دليلا على حجية الإجماع، لأن مفهومه أن الحق لا يعدو هذه الأمة. 7 - استدل به البعض على امتناع خلو أي عصر عن مجتهد. 8 - فيه أدبه صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته، حيث لم يغلظ القول لمن اعترض عليه بل وجهه برفق إلى تعلم الدين. 9 - وفيه اعترافه بأن المعطي لكل شيء هو الله تعالى وأن الإنسان ما هو إلا واسطة.

10 - وفيه إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، وما يكون في آخر الزمان والله أعلم.

كتاب الخلق

كتاب الخلق 10 - عن عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال "لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". -[المعنى العام]- سبحان من خلق الإنسان وفي طبعه الشك والنسيان، ثم سلط عليه الشيطان الوسواس الخناس، ليأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ليوسوس له، ويشككه في عبادته، ويخرجه من الإقبال على ربه، سبحانه جل شأنه يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، خفف عن الإنسان، ورفع عنه الحرج والضيق أمام الشك والوسواس. رسم له قاعدة استصحاب الأصل وطرح الشك، وإبقاء ما كان على ما كان، وتكفل- جل شأنه -أن يعفو عن الخطأ، ويتقبل العمل، وإن وقع على خلاف الأصل، رحمة منه وفضلا فالمصلى الذي يخيل إليه أنه أحدث وهو في الصلاة، ويخيل إليه أنه خرج منه الريح المبطل للوضوء، المبطل للصلاة، لا ينبغي أن يخرج من الصلاة ولا أن يعتقد بطلانها، بل عليه أن يستصحب الأصل، أي الطهارة التي دخل بها في الصلاة، وأن يطرح الشك الذي طرأ عليه، وأن لا ينصرف حتى يتيقن الحدث، يقينا لا يمازجه شك، يقينا ناشئا عن الحواس الموجبة للعلم، يقينا صادرا عن السمع أو الشم، لا ينصرف حتى يسمع بأذنه ** صوت الريح، أو يشم بأنفه ريح الحدث

بهذا الطريق الشرعي الذي رسمه الإسلام، يسد المسلم على الشيطان أبواب إغوائه، ويدفع عن نفسه أخطار الشك والتردد. -[المباحث العربية]- (أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل) الشاكي عبد الله بن زيد الأنصاري، عم عباد، وفي رواية ابن خزيمة. عن عبد الله بن زيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل .... إلخ. (الذي يخيل إليه) بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الياء الثانية المفتوحة وأصله من الخيال، والمعنى ظن، والظن هنا أعم من تساوي الاحتمالين أو ترجيح أحدهما على ما هو أصل اللغة من أن الظن خلاف اليقين. (أنه يجد الشيء) أي الحدث، والعدول عن ذكره صراحة، للأدب وصيانة اللسان عن المستقذر، حيث لا ضرورة. ومعنى وجدانه الحدث ظن خروجه منه. (في الصلاة) قيد لبيان الواقع وليس للاحتراز، فالحكم خارج الصلاة هو الحكم فيها على ما ذهب إليه الجمهور، وجعله المالكية للاحتراز، وسيأتي توضيحه في فقه الحديث. (لا ينفتل -أو لا ينصرف) بالشك من الراوي، والفعل مجزوم ب"لا" الناهية، ويجوز الرفع على أن "لا" نافية. (حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) معناه حتى يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها، فمن ذلك مسألة الباب التي

ورد فيها الحديث، وهي أن من تيقن الطهارة، وشك في الحديث، حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة. هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف. وحكي عن مالك روايتان، إحداهما: أنه لزمه الوضوء إن كان شك خارج الصلاة. ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والثانية. يلزمه بكل حال. قال النووي: وقال الشافعية: ولا فرق في الشك بين أن يستوي الاحتمالان في وقوع الحدث وعدمه، أو يترجح أحدهما أو يغلب على ظنه، فلا وضوء عليه بكل حال، ويستحب له أن يتوضأ احتياطا. أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. ثم قال النووي: ومن مسائل القاعدة المذكورة أن من شك في طلاق زوجته أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة الماء النجس، أو نجاسة الثوب، أو الطعام، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم هذا الحادث. والله أعلم. قال القرطبي: ومشهور مذهب مالك النقض داخل الصلاة وخارجها وحمل بعض أتباعه الحديث على من كان به وسواس، وتمسكوا بأن الشكوى لا تكون إلا عن علة. قال الحافظ ابن حجر: وأجيب بما دل على التعميم وهو حديث أبي هريرة عند مسلم، ولفظه "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه. أخرج منه شيء أو لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". اهـ, فهذا الحديث لم يتعرض لشكوى شاك، وهو صريح في طرح الشك. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية سؤال العلماء عما يحدث من وقائع. 2 - وعدم الاستحياء في العلم.

3 - والعدول عن ذكر الشيء المستقبح. 4 - ومحاربة الشيطان والوسوسة، وإحباط هذا الكيد بترسيخ اليقين، ففي بعض الروايات "إذ جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك أحدثت. فليقل في نفسه: كذبت". 11 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". -[المعنى العام]- أعلى درجات النظافة، وأسمى مراتب الطهارة، أن نطلب من النظيف أن يزداد نظافة، وأن نكلف احتياطا برفع ما يتوهم من وسخ، وأن نطلب المبالغة في غسل ما لا يهتم بغسله، كجيوب الأنف، والمبالغة في استبراء

النجاسة ولو مع تحقق إزالتها. هذا ما يرمي إليه الحديث الشريف فهو يأمر أن يدخل المتوضئ الماء في أنفه وخياشيمه، ثم يدفعه من الأنف إلى الخارج ليخرج مع الماء ما يحتمل وجوده في منحنيات الأنف. ويأمر المستجمر بالأحجار المنقى بها بقايا البول أو الغائط أن يجعل الحجارة وترا، فإن نقى المكان بحجرين زاد ثالثا، وإن نقى بأربعة زاد خامسا وإن نقى بستة زاد سابعا وهكذا. ويأمر المسلم إذا استيقظ من نومه أن لا يدخل يده في ماء في إناء، أو في إناء فيه سائل حتى يغسلها ثلاث مرات، قل نومه أو كثر، فخر فراشه أو حقر، غسل يده قبل أن ينام أو لم يغسلها، فإنه لا يدري إلى أين تحركت يده أثناء نومه، وإلى أي المستقذرات تعرضت، قد تكون احتكت بمناعم الجسم بين الفخذين، أو تحت الإبط، فعلق بها عرق خبيث أو ريح كريه وقد تكون قد دلكت مداخل الأنف وإفرازاته، أو إفرازات العين فأصابها ما لو وضع في سائل آذاه، ومبدأ الإسلام النظافة والحرص على نقاء اليد وطهارة السائل وصلاحيته للشرب دون تقزز أو اشمئزاز. فعلى من قام من نومه أن يغسل يديه، بأن يصب عليهما ماء في الخارج قبل أن يغمسهما في الإناء حتى من لا يعتقد تلوثهما، فإن شك في تلوثهما كان أولى به وأحرى وألزم، وكلما طال النوم، وكلما كان احتمال التعرض للتلوث أكثر كان الطلب آكد. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (إذا توضأ أحدكم) فيه مجاز المشارفة، أي إذا أراد الوضوء وأشرف عليه وابتدأه. (فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر) في رواية صحيحة "فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينثر" والاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، مع إخراج ما في الأنف من مخاط وشبهه بقوة الدفع إلى الخارج. (ومن استجمر فليوتر) الاستجمار مسح البول أو الغائط بالجمار، وهي

الأحجار الصغار، ومنه رمي الجمار في الحج. (وإذا استيقظ أحدكم من نومه) ظاهره عموم النوم بالليل أو النهار، لكن رواية أبي داود "إذا قام أحدكم من الليل" قد تخصص هذا العموم. (قبل أن يدخلها في وضوئه) بفتح الواو، أي الماء الذي يتوضأ به. (أين باتت يده) أي من جسده، وفي رواية "ولا علام وضعها". -[فقه الحديث]- يتناول الحديث ثلاث مسائل فقهية: الأولى: الاستنشاق والاستنثار في الوضوء، وكمال الاستنثار بإيصال الماء إلى داخل الأنف، وجذبه بالنفس إلى أقصاه، ثم الاستنثار وطرد الماء مع ما في الأنف إلى الخارج، وتستحب المبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائما، وأقل الاستنشاق إدخال قليل من الماء في مقدم الأنف وفتحتيه. ومذهب مالك والشافعي وأصحابهما أن الاستنشاق سنة في الوضوء والغسل، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، والمشهور عن أحمد أنه واجب في الوضوء والغسل، لا يصحان بدونه، وهو مذهب داود الظاهري وحملوا الأمر على الوجوب، وقالوا: لم يحك أحد ممن وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أنه واجب في الغسل دون الوضوء. أما الاستنثار فهو مستحب، وليس بواجب باتفاق. وكمال كيفيته أن يطرح الماء من أنفه برفق، لئلا يصيب ما حوله، وأن يستعين في ذلك بأصابع يده اليسرى، يضغط برفق على فتحتي الأنف. المسألة الثانية: الوتر في الاستجمار، ويرى الشافعية والحنابلة أنه لا بد في الاستنجاء والاكتفاء بالأحجار من إزالة عين النجاسة، واستيفاء ثلاث مسحات، ولو استنجى بحجر واحد له ثلاثة أطراف، فمسح بكل طرف مسحة أجزأه، وإن كانت الأحجار الثلاثة أفضل من حجر له ثلاثة أحرف،

للقبل ثلاثة أحجار، وللدبر ثلاثة أحجار، إذا حصل الإنقاء بها، فإن لم يحصل الإنقاء بها وجب رابع، فإن حصل الإنقاء به استحب خامس للإيتار به, وهكذا يجب الإنقاء مهما زاد، ويستحب الإيتار. وذهب المالكية والحنفية إلى أن الشرط الإنقاء فقط ولو حصل بحجر واحد ومسحة واحدة، وقالوا: إن أحاديث الثلاثة محمولة على الندب مبالغة في الإنقاء. وهل تقوم الخرق والورق المتشرب مقام الأحجار؟ التحقيق نعم، لأن المعنى فيه أن يكون مزيلا مانعا من الانتشار، ولهذا قال الشافعية: والذي يقوم مقام الحجر كل جامد [فلا يصلح الرطب] طاهر، مزيل للعين، [فلا يصلح الزجاج] ليس له حرمة كحيطان المساجد، وأوراق كتب العلم، ولا هو جزء من حيوان، وزاد بعضهم أن لا يكون نفيسا، فلا يصلح بالذهب والفضة واللآلي. ** هذا وقد قال النووي: الذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر فيستعمل الحجر أولا، لتخف النجاسة، وتقل مباشرتها باليد، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما مع وجود الآخر جاز، والماء حينئذ أفضل من الحجر، لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يخفف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها. المسألة الثالثة: غسل اليدين قبل إدخالهما إناء السائل، إن قام من النوم. ومذهب الجمهور من الفقهاء والمحققين أن غسل اليدين قبل غمسهما لمن قام من النوم، أو شك في نجاستهما مندوب، ويكره تركه، وذهب الإمام أحمد إلى وجوب الغسل عند القيام من نوم الليل دون نوم النهار، والجمهور على أن الماء لا ينجس إذا غمس يده فيه قبل غسلهما، لأن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك. والله أعلم.

12 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة" فقيل له يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا أو إلى أن ييبسا". -[المعنى العام]- الإسلام دين النظافة، نظافة الباطن، ونظافة الظاهر، نظافة السلوك ونظافة البدن والثياب، يمثل السلوك الخاطئ المشي بالنميمة بين الناس، ويمثل القذر في الثياب والبدن عدم التنزه من البول والتعرض للتلوث من بقاياه بسبب عدم الاستبراء منه بالحجارة أو الماء. أمران يستهين بهما المسلم، ولا يحسبهما من الكبائر التي يعذب عليها بعد الموت، مع أنهما من أول ما يعذب من أجله المؤمن، يصور هذا المنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر مع أصحابه بمقابر المدينة. قال لأصحابه:

إني أسمع صوت إنسانين في هذين القبرين يعذبان، أسمعهما بقدرة أودعها الله في سمعي، وإن أصواتهما أصوات تأوه وتضجر وتألم مما هما فيه، وقد أخبرني ربي أنهما يعذبان في أمرين استهانا بهما، يعذبان في معصيتين ليستا كبيرتين في حسبان الناس، لكنهما كبيرتان عند الله. كان أحدهما في دنياه لا يتحرز من بقايا البول، فيصيب بدنه وثوبه فتبطل صلاته وهو يدري، وكان الآخر في دنياه ينقل الحديث السيئ من شخص إلى المقول فيه، ويزيد عليه للإيقاع بين الناس. وأخذته الشفقة والرحمة صلى الله عليه وسلم فتوجه إلى الله أن يخفف عنهما، ثم طلب من أصحابه جريدة خضراء لينة بما عليها من خوص فشقها نصفين ووضع على كل قبر من القبرين نصفا، وقيل: إن جريدة النخل والرطب من الزرع يسبح الله ما دام رطبا، ولعل الله يخفف عن المعذبين بسبب هذا التسبيح المستمر إلى أن تيبس الجريدتان. -[المباحث العربية]- (بحائط من حيطان المدينة) المنورة، والحائط البستان، وأطلق هنا على الحائط الذي يحيط بالقبور. (أو مكة) الشك من الراوي، لكنه ورد في كتاب الأدب للبخاري بالجزم بأنه من حيطان المدينة. (فسمع صوت إنسانين) الإنسان يطلق على الذكر والأنثى، وإضافة "صوت" وهو مفرد إلى "إنسانين" وهو مثنى جائز عند النحاة، والجمع أجود جاء به القرآن الكريم في قوله {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} والظاهر أنهما كانا مسلمين، إذ حصر سبب عذابهما في البول والنميمة ينفي كونهما كافرين. (يعذبان في قبورهما) كان الظاهر أن يقال: في قبريهما، لكنه جمع هنا لأمن اللبس، وهو جائز. (وما يعذبان في كبير) أي ولا يعذبان في أمر كبير شاق، بل في أمر سهل الترك يسير، أو لا يعذبان في ذنب كبير في نظر الكثيرين، بل في أمر يحسبونه هينا وهو عند الله الكبير.

(بلى) أي بلى إنهما ليعذبان في كبير. (لا يستتر من بوله) في رواية "لا يستنزه من البول" وفي رواية "لا يستبرئ من البول" وكلها صحيحة، ومعناها لا يتجنب بوله، ولا يتحرز منه فمعنى "لا يستتر من بوله" أي لا يجعل بينه وبين بوله سترا ووقاية، وحمله بعضهم على ظاهره، وأن معناه لا يستر عورته، وهو مردود، لأنه لا يكون لذكر البول حينئذ فائدة. (وكان الآخر يمشي بالنميمة) وهي نقل كلام الغير بقصد الإضرار. (ثم دعا بجريدة رطبة) في رواية "فدعا بعسيب رطب" وهو الجريدة والغصن من النخل، وقيل: العسيب هي الجريدة التي لم ينبت فيها الخوص فإن نبت فهي السعفة، وخص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف. (فكسرها كسرتين) طولا أو عرضا، وفي رواية "فشقه باثنين". (لعله أن يخفف عنهما) "لعل" للترجي، أي أرجو أن يخفف الله عنهما والهاء في "لعله" للحال والشأن. -[فقه الحديث]- الحديث صريح في أن عدم الاستبراء من أسباب عذاب القبر، وقد صحح ابن خزيمة حديث "أكثر عذاب القبر من البول" أي بسبب ترك التحرز منه ويرى جمهور العلماء أنه من الكبائر، ويؤيدهم ما جاء في بعض الروايات عند البخاري "وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير" وفي سبب كونه كبيرا قيل: إنه يؤدي إلى بطلان الصلاة لتنجيسه الثوب والبدن، فتركه كبيرة ولا شك. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حجة لمذهب أهل السنة في ثبوت عذاب القبر، خلافا للمعتزلة. 2 - نجاسة الأبوال مطلقا قليلها وكثيرها، وهو مذهب عامة الفقهاء

وذهب أبو حنيفة إلى العفو عن قدر الدرهم الكبير للمشقة، وفي الجواهر للمالكية: أن البول والعذرة من بني آدم الآكلين دون الرضع نجسان، وهما طاهران من كل حيوان مباح أكل لحمه. 3 - وفيه حرمة النميمة، وهي كبيرة بلا خلاف. 4 - استدل به بعضهم على استحباب وضع الجريد الأخضر على القبور، ومثله كل ما فيه رطوبة من الأشجار والزهور وغيرها، لكونها تسبح ما دامت رطبة، وليس لليابس تسبيح. لكن الخطابي أنكر مثل هذا الفعل وقال عن الحديث: إنه دعا لهما بالتخفيف مدة النداوة، لا أن في الجريدة معنى يخصها، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وجعلها بعضهم خصوصية له صلى الله عليه وسلم ببركة يده فلا يقتدي به، لأنه علل وضعهما بأمر مغيب وهو عذابهما، وغيرهما لا نعلم إن كان يعذب أو لا **، ورده الحافظ ابن حجر فقال: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن لا نتسبب في أمر يخفف عنه العذاب لو عذب، كما ندعو بالرحمة لمن لا نعلم أرحم أم لا. 5 - استدل به بعضهم على استحباب قراءة القرآن على القبور، لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن أعظم رجاء وبركة، ومذهب أبي حنيفة وأحمد وصول ثواب القراءة إلى الميت وأجمع العلماء على أن الدعاء ينفع الأموات، ويصلهم ثوابه. 6 - وفيه التحذير من استمرار النجاسات في البدن أو الثوب دون إزالة.

13 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". -[المعنى العام]- انتشر الإسلام في البدو والحضر، وسطع نوره في طرق المدينة وشعاب الصحارى، وغزا شغاف القلوب الهينة اللينة، والقلوب القاسية الجافية، كان الأعراب خلف أغنامهم يسمعون به فيؤمنون، ثم ينتهزون فرصة قربهم من المدينة فينزلون إليها، ويقصدون مسجدها لينعموا برؤية رسول الإسلام ومشافهته، ومن هؤلاء الأعراب الجفاة ذو الخويصرة اليماني دخل المسجد النبوي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فسلم، ثم صلى، ثم قال بصوت جهوري: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعا، بل قل: اللهم ارحمني ومحمدا والمسلمين. ثم قام ذو الخويصرة، فانتحى ناحية من المسجد، وفي زاوية من زواياه وقف يبول، ورآه الصحابة فثارت ثائرتهم، وصاحوا: مه. مه. اكفف. اكفف. به. به. توقف. توقف، وثاروا عليه، واتجهوا نحوه يزجرونه ويردعونه فناداهم رسول الرحمة. تعالوا. دعوه. دعوه. لا تقطعوا

عليه بوله. دعوه فليكمل. إنه جاهل بالحكم. إنه لا يقصد إساءة للمسجد، إنه يظن أن المكان الذي هو فيه كبقية أماكن الصحراء، إنه يظن أنه متى بعد عن الناس تبول كيف شاء. قدروا ظروف الرجل، فقد بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، يسروا ولا تعسروا، وتحملوا أخف الضررين، تنجس المكان وانتهى الأمر، وقطعكم لبوله سيحدث به ضررا، وسيلوث بدنه وثوبه وأماكن أخرى من المسجد. قالوا: فما العمل يا رسول الله؟ فقال: ائتوني بدلو كبير مملوء ماء فجاءوا به فقال: صبوه على مكان بوله، شيئا فشيئا تطهر الأرض، ثم دعا الرجل وبغاية الرفق ومنتهى اللين قال له: إن هذه المساجد لا يليق بها البول والقذر فقد خصصت لذكر الله والصلاة. قال: أحسنت يا رسول الله، وجزاك الله خيرا. بأبي أنت وأمي. لن أعود لمثلها أبدا. -[المباحث العربية]- (قام أعرابي في المسجد) الأعرابي واحد الأعراب، وهم من سكن البادية عربا أو عجما، فالأعرابي مقابل الحضري، والعربي مقابل العجمي، وفي وصف الرجل بالأعرابي اعتذار عن فعله، والمراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة. (فتناوله الناس) أي بالزجر واللوم، ففي البخاري "فزجره الناس" وفي مسلم "فصاح به الناس" فقالوا: مه مه" والمراد بعض الناس أي بعض الصحابة الحاضرين في المسجد. (دعوه) في رواية "ولا تزرموه" بضم التاء وسكون الزاي وكسر الراء، أي لا تقطعوا عليه بوله. (وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء) يقال: هريقوا وأريقوا أي صبوا على مكان بوله، والسجل بفتح السين وسكون الجيم الدلو العظيمة والذنوب بفتح الذال وضم النون الدلو المملوءة ماء، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب.

-[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى تطهير المتنجس، ويحسن بنا أن نستعرض باختصار مذاهب العلماء في التطهير، والتعبير الدقيق أن نطلق على عين النجاسة وجرمها لفظ "نجس" وعلى ما أصابته من مائع أو جامد لفظ "متنجس". والعين النجسة لا تطهر، إلا ما كان من جلود الميتة، على خلاف بين العلماء، أما ما كان من العين النجسة، كالبول والعذرة فإنه لا يطهر في ذاته وكل ما نفعله إذا أصاب ثوبا أو جامدا أن نزيله ونحوله عنه، وإذا أصاب مائعا أو ماء أن نكثر المائع أو الماء، كثرة تضعف أو تخفي تأثيره، فيصلح المائع أو الماء للاستعمال. وإزالة النجاسة لا تجوز إلا بالماء عند الشافعية والجمهور، وأصح الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن مالك، وقال أبو حنيفة: يجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل مائع كالخل وماء الورد. ولو وقعت النجاسة في جامد كالفارة تموت في السمن أخرجت وما حولها وانتفع بالباقي. والحديث الذي نحن بصدده في النجاسة تقع على الأرض، فالحنفية يرون أنه إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة كالبول، فإن كانت الأرض رخوة صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، وإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء حكم بطهارتها، وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت عالية هرمية حفر في أسفلها حفيرة، ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويتسفل إلى الحفيرة ثم تكبس الحفيرة. وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل، بل يحفر مكان النجاسة، واستدلوا ببعض روايات الحديث، فعند الدارقطني "احفروا مكانه"، ثم صبوا عليه ذنوبا" وعند أبي داود "خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" وفي مصنف عبد الرزاق "احفروا مكانه، واطرحوا عليه دلوا من ماء".

والشافعية والجمهور على أنه لا حفر، وأن الأرض صلبة أو رخوة تطهر بصب الماء عليها كما هو ظاهر الحديث الصحيح. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة، ولهذا أنكروا بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه. 2 - وأن بول الآدمي نجس، وهو مجمع عليه. 3 - وفيه تعيين الماء لإزالة النجاسة عن الأرض المتنجسة، ولا يكفي الجفاف بالريح أو الشمس، وهو مذهب الشافعي ومالك والحنابلة، وقال أبو حنيفة: هما مطهران لأنهما يحيلان الشيء. 4 - واستدل به على عدم نضوب الماء، لأنه لو اشترط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يشترط عصر الثوب. 5 - وفيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، فالبول في المسجد مفسدة وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، ففي تنزيه المسجد عن البول مصلحة، وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. 6 - وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع. 7 - وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزم من غير تعنيف. 8 - وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه. 9 - وفيه صيانة المساجد عن القذى والأقذار.

كتاب الغسل

كتاب الغسل 14 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب (قال فانخنست منه) فذهب فاغتسل ثم جاء فقال "أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال "سبحان الله إن المسلم لا ينجس". -[المعنى العام]- كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى بصحابي أن يمسح عليه، وأن يربت عليه بيده، وأن يصاحبه، فيجالسه، تلطفا وتأنيسا وتكرما وتوددا وفي يوم من الأيام، وفي بعض طرق المدينة وجد أبو هريرة نفسه مقابلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق واحد، وكان جنبا، فكره أن يتمسح به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجالسه، وهو في هذه الحالة غير المستحبة فاستخفى، وتسلل إلى طريق آخر، وذهب إلى بيته فاغتسل، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن لم يحدث منه شيء. كان صلى الله عليه وسلم قد رآه، ينخنس ويتسلل ويتوارى في خفاء، فسأله: ماذا بك يا أبا هريرة؟ أين كنت؟ وأين ذهبت؟ وماذا فعلت؟ قال: يا رسول الله. لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. وكان أدبا حسنا من أبي هريرة أن يفعل ذلك، احتراما وتقديسا للنبي صلى الله عليه وسلم وما كان يستحق على ذلك لوما أو تعجبا، لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يعتقد

أبو هريرة نجاسة الجنب، وأنه لا يصح له أن يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله. عجبا لك يا أبا هريرة. إن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا. -[المباحث العربية]- (قال: فانخنست منه) أي فمضيت عنه مستخفيا، ووصف الشيطان بالخناس لإغوائه في خفاء، وروي "فانسللت" وروي "فانبجست" أي جريت واندفعت، وروي "فانبخست" أي اعتقدت نقصان نفسي، ولعل التغاير من تصحيف الرواة. وجاءت هذه الجملة بضمير المتكلم بين ضمائر الغيبه على سبيل الالتفات. (فذهبت) أي إلى رحلي، في بعض روايات البخاري "فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت". (سبحان الله) يقصد بها في مثل هذا المقام التعجب، ومعنى التعجب هنا: كيف يخفى عليك مثل هذا الظاهر؟ (إن المؤمن لا ينجس) نجس من باب كرم بضم الجيم في الماضي والمضارع ومن باب سمع بكسر الجيم في الماضي وفتحها في المضارع. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث أصل عظيم في طهارة المسلم حيا أو ميتا، فأما الحي فطاهر بإجماع المسلمين، حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها هو طاهر. هذا حكم المسلم الحي، وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، الصحيح أنه طاهر، ولهذا غسل إذ لو كان نجس العين لم يفد غسله -هذا حكم المسلم أما الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم عند الشافعية وجماهير العلماء من السلف والخلف، وأما قوله تعالى {إنما المشركون نجس} فالمراد نجاسة العقيدة والاستقذار، وليس المراد أن أعضاءهم نجسة كنجاسة البول والغائط ونحوهما، فإذا ثبت طهارة الآدمي مسلما كان أو كافرا فعرقه ولعابه ودمعه طاهرات، سواء أكان محدثا أم جنبا

أم حائضا، وهذا كله بإجماع المسلمين. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: تمسك بعض أهل الظاهر بمفهوم قوله "المؤمن لا ينجس" فقالوا: إن الكافر نجس العين. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن العالم إذا رأى من متابعه أمرا يخاف عليه فيه خلاف الصواب سأله عنه وعلمه الصواب. 2 - استحباب استئذان التابع المتبوع إذا أراد أن يفارقه، لقوله: أين كنت؟ فأشار إلى أنه كان ينبغي له أن لا يفارقه حتى يعلمه. 3 - جواز تأخير الاغتسال من أول وقت وجوبه. 4 - استدل به البخاري على طهارة عرق الجنب، لأن بدنه لا ينجس بالجنابة فكذلك ما تخلف عنه. 5 - وعلى جواز تصرف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل.

كتاب الحيض

كتاب الحيض 15 - عن عائشة رضي الله عنها "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل؟ قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت: كيف أتطهر بها؟ قال تطهري بها قالت: كيف؟ قال سبحان الله! تطهري فاجتبذتها إلي فقلت تتبعي بها أثر الدم". -[المعنى العام]- شجع الإسلام المرأة أن تخرج إلى المسجد، وأن تسعى لطلب العلم، وطلب من الرجال أن يأذنوا لنسائهم في الخروج، لتتمكن من أداء رسالتها وفهم أمور دينها، ودخلت المرأة ميدان الثقافة، وتحولت عن ميدان الجهالة. تلك أسماء الأنصارية التي لم يمنعها الحياء الذي جبلت عليه المرأة من أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخص شئونها، وعما تستحي منه قريناتها، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام زوجه عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا رسول الله كيف أغتسل من حيضي؟ كيف أتطهر؟ إن الغسل من الجنابة ومن الحيض كان معلوما، غير مجهول لأسماء، حتى تسأل عن كيفيته، لكنها كانت مؤدبة مهذبة في سؤالها، إنها قصدت ما وراء الغسل من نقاوة لمكان الحيض وفهم الرسول الفطن صلى الله عليه وسلم، لكنه كان أكثر منها أدبا، فأجاب عن الشيء، ثم أتبعه مستلزماته المقصودة، قال: تأخذ إحداكن ماء غسلها، ومواد نظافتها فتغسل مواطن النجاسة، ثم تتوضأ وضوء الصلاة، ثم تصب على رأسها الماء

وتدلكه، وتدخل أصابعها في أصول شعرها، ثم تصب الماء على جسدها، ثم تأخذ قطعة من قطن أو صوف، وتضع عليها شيئا من المسك أو الطيب فتتطهر بها، ولما كان التطهر في فهم أسماء عبارة عن الوضوء والغسل تعجبت: كيف تتطهر بقطعة القطن الممسكة؟ لكن حياءه صلى الله عليه وسلم جعله يقول: سبحان الله. كيف لا تفهمين بالإشارة؟ تطهري بها، وغطى وجهه بيديه، وفهمت عائشة مقصده وحياءه، فجذبت أسماء بعيدا، وأسرت إليها في أذنها، بمنتهى الأدب وطهارة اللفظ قالت: تتبعي بها أثر الدم وامسحي بها المكان الذي خرج منه الدم، وفهمت أسماء وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين. -[المباحث العربية]- (أن امرأة سألت) هي أسماء بنت شكل الأنصارية المصرح باسمها في بعض الروايات. (عن غسلها من المحيض) أي على أي صفة؟ وأي حالة يكون؟ والمحيض مصدر كالحيض. (فأمرها كيف تغتسل) أي علمها كيفية الغسل، وقد صرح به في الروايات الصحيحة قال "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكا شديدا، حتى تبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة .... إلخ". (خذي فرصة من مسك) "فرصة" بكسر الفاء وسكون الراء وفتح الصاد وحكى بعض اللغويين تثليث الفاء، وهي القطعة من الصوف أو القطن، والمسك هو الطيب المشهور، والمقصود أن تأخذ قطعة مطيبة بطيب وتستعملها في الفرج، لتغير بها الرائحة الكريهة المتخلفة عن دم الحيض. (فتطهري بها) أي فتنظفي بها. فالمراد من التطهر المعنى اللغوي. (كيف أتطهر بها؟ ) أي بالفرصة؟ وإنما قالت ذلك لأنها فهمت أن المراد بالتطهير الغسل.

(فاجتذبتها) أي شددتها إلي، وأخذتها ناحيتي. وروي "فاجتبذتها" وهي بمعنى "فاجتذبتها". (تتبعي بها أثر الدم) أي مكان أثر الدم. -[فقه الحديث]- قال النووي: السنة في حق المغتسلة من الحيض، أن تأخذ شيئا من مسك فتجعله في قطنة أو خرقة أو نحوها، وتدخلها في فرجها، بعد اغتسالها ويستحب هذا للنفساء أيضا، لأنها في معنى الحائض. وذهب بعض العلماء إلى استحباب تطيب ما حول الفرج من الخارج مع الداخل لأن الدم يصيب هذه الأماكن. والحكمة في استعمال المسك تطيب المحل، ورفع الروائح الكريهة وقيل: لأنه يؤدي إلى سرعة العلوق والحمل، وهذا بعيد أو باطل، لأنه يقتضي أن يخص بذلك ذات الزوج الحاضر، الذي يتوقع جماعه في الحال، مع أنه مستحب لكل مغتسلة من الحيض أو النفاس، سواء ذات الزوج وغيرها، فإن لم تجد مسكا استعملت أي طيب، فإن لم تجد طيبا استحب لها أن تستعمل أي شيء مكانه يزيل الرائحة الكريهة، فإن تركت الطيب مع التمكن كره لها وإن لم تتمكن فلا كراهة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - سعي النساء لتعلم أحكام الدين. 2 - سؤال المرأة الرجل العالم عن أحوالها التي تحتشم منها، وأنه لا حياء في الدين. 3 - التسبيح عند التعجب من الشيء واستعظامه. 4 - استحباب استعمال الكنايات فيما يتعلق بالعورات. 5 - الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة.

6 - الاستحياء عند ذكر ما يستحيا منه، ولا سيما ما يذكر من ذلك بحضرة الرجال والنساء. 7 - تفسير كلام العالم بحضرته، لمن خفي عليه، إذا عرف أن ذلك يعجبه. 8 - الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل. 9 - الرفق بالمتعلم، وإقامة العذر لمن لم يفهم. 10 - حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعظيم حلمه وحيائه.

كتاب التيمم

كتاب التيمم 16 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". -[المعنى العام]- يقول جل شأنه {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} وقد فضل الله محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء تفضيلا يتحدث عنه، لا يقول ذلك فخرا وكبرا، وإنما يتحدث بنعمة الله تعالى ليزداد شكرا لربه، ولتشكر أمته ربها على ما كرم به نبيها صلى الله عليه وسلم، يقول: أعطيت من الخصائص الفضلى خمسا، لم يعطهن نبي قبلي. إحداها: أن الله تعالى نصرني، ونصر أمتي بالرعب، يلقيه في قلوب الأعداء، فيسهل نصرنا عليهم، وصدق الله وعده إذ يقول {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} ثانيتها: أن من كان قبلنا لا يصلون إلا في كنائسهم ومعابدهم، ولا يصح طهورهم إلا بالماء، فجعل الله لي ولأمتي الأرض كلها مسجدا صالحة

للصلاة عليها، وجعل ترابها صالحا للتيمم واستباحة الصلاة به، فأي مسلم أدركته الصلاة، وحان وقتها، وكاد يخرج، ولم يجد ماء فعنده مسجده وطهوره، فليتيمم وليصل. ثالثتها: كان من قبلي إذا غنموا لم تحل لهم الغنائم، بل كانت تترك في العراء حتى تهلك، فأحل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته الغنائم يقسمونها ويتمتعون بها. رابعتها: الشفاعة العظمى التي تشمل أهل الموقف العظيم جميعا، يوم يلجأ الناس من الهول إلى الأنبياء، فيحيلون الخلائق إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وخامستها: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم فقد كان كل نبي يرسل إلى قوم محددين، ولزمن محدد، تنتهي رسالته عنده، لكن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أهل الأرض جميعا في جميع الأمكنة، وفي جميع الأزمنة، إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين. -[المباحث العربية]- (أعطيت خمسا) أي خمس فضائل وميزات، وفي إحدى روايات الصحيح "فضلنا على الناس بثلاث" وفي بعضها "فضلت على الأنبياء بست" واختلاف الروايات في العدد مشكل عند من يرى أن مفهوم العدد حجة وسنوضح المسألة في فقه الحديث. (لم يعطهن أحد قبلي) أي من الأنبياء. (نصرت بالرعب مسيرة شهر) في رواية لأحمد "يقذف في قلوب أعدائي "وفي رواية" ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر" وقيل: إن الحكمة في جعل الغاية شهرا أنه لم يكن بينه وبين أحد من أعدائه أكثر من شهر. والأولى جعل هذا اللفظ للمبالغة في البعد. كأنه قال: يلقي الرعب في قلوب الأعداء، فيخافونني من مسافة بعيدة.

(وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون موضع، ويمكن أن يراد المسجد المعروف، والكلام على التشبيه، أي جعلت الأرض كالمسجد، في صحة الصلاة عليها، والطهور بفتح الطاء ما يتطهر به، فالمراد ترابها، كما صرح به في رواية في الصحيح "وجعلت تربتها لنا طهورا". (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) "أي" مبتدأ، فيه معنى الشرط و"ما" مزيدة للتأكيد، وذكر الرجل للتغليب، والحكم يشمل النساء. (وأحلت لي الغنائم) في رواية "المغانم" أي أحل أكلها والانتفاع بها والمغانم ما حصل عليه المسلمون في حروبهم مع الكفار. (وأعطيت الشفاعة) أي العظمى، فأل فيها للعهد، والأصل فيها سؤال الخير للغير على سبيل الضراعة. (وبعثت إلى الناس عامة) في رواية "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وهي كناية عن الكل، كأنه قال: إلى كل لون. -[فقه الحديث]- يتناول الحديث خمس خصائص: الخصوصية الأولى: وهي ليست أولى في بعض الروايات، فلا اعتبار للترتيب، لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وهي النصر بالرعب. وهل الخصوصية في المدة؟ على معنى أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في مثل هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فقد نصر به بعض الأنبياء؟ أو الخصوصية في النصر بالرعب مطلقا؟ الظاهر الأول، وإلا لم يكن للقيد معنى، نعم رواية "ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر"تشير إلى أن الخصوصية النصر بالرعب مطلقا، لكنها تحمل على المقيدة الأولى، قال بعضهم: وهذه الخصوصية حاصلة له ولو

كان بغير عسكر. وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ محتمل بشرط أن تكون الأمة قائمة على شريعته وسنته. الخصوصية الثانية: جعل الأرض مسجدا وطهورا، وهل الخصوصية مجموع الأمرين؟ وجعلت لغيره مسجدا، ولم تجعل له طهورا؟ حيث قيل إن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة؟ أو أنهم قبله إنما أبيح لهم الصلاة في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لها في جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته؟ الأظهر أنهما خصوصيتان، وأن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية "وكان من قبلي إنما كان يصلون في كنائسهم" ورواية "ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه" نعم تعميم الأرض للصلاة لا بد أن يراعى فيه ما استثناه الشرع، كالصلاة في المقابر، والمزابل، والمجازر، وأعطان الإبل، وقارعة الطريق، والحمام وغير ذلك مما ورد النهي به، على خلاف في المذاهب. الخصوصية الثالثة: حل الغنائم، قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. اهـ. وقيل: المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف شاء. والأول أصوب وأولى بالقبول. الخصوصية الرابعة: الشفاعة لأهل الموقف من هول ذلك اليوم. قال العلماء. ولا خلاف في وقوعها له صلى الله عليه وسلم، وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل، وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار، وفيها أقوال أخرى. والأول هو الصواب. الخصوصية الخامسة: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس كافة منذ بعثته إلى يوم القيامة، وهي محل إجمع المسلمين، وكونها خاصة به لم تعط لنبي قبله أمر واضح، والإشكال بأن نوحا عليه السلام دعا على أهل الأرض بالهلاك ولو

لم يكن مرسلا إليهم ما دعا عليهم، وبأنه بعد الطوفان كان مرسلا إلى الناجين وهم الأحياء على الأرض، الاستشكال بهذا على أن رسالة نوح عليه السلام كانت عامة لا يتم، لأنه على فرض أنه لم يكن على الأرض حينئذ إلا قومه لا يحقق عموم الرسالة، لأنها مرتبطة بزمانه، بخلاف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهي قائمة إلى قيام الساعة. ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات أخرى غير هذه وردت بها الأحاديث. ذكر منها: 1 - جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، أي في صلاة الجماعة واستقامة الصفوف، والاستدارة حول الكعبة. 2 - أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} وقد جاء الحديث بإجابة هذا الدعاء. 3 - أعطيت جوامع الكلم [قيل هو القرآن الكريم، وقيل كلامه صلى الله عليه وسلم]. 4 - ختم بي النبيون، وهو صريح قوله تعالى {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} 5 - أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، والمقصود به ما فتح الله به على أمته من خيرات الأرض وبركاتها. وهذه الخصوصيات واردة في صحيح مسلم. وفي مسند أحمد "وسميت أحمد" و"جعلت أمتي خير الأمم" وعند البزار "وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر". "وأعطيت الكوثر". " وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة". وكان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم". قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع

وذكر النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء ستون خصلة. اهـ. واختلاف الأحاديث في عدد ما اختص به صلى الله عليه وسلم لا يثير إشكالا، لأن التعبير ليس من أساليب القصر، فيمكن أن أقول: خصصت بخمس، أذكرها حين أكون قد خصصت بها وبغيرها، كل ما تدل عليه العبارة أن كل واحدة من المذكورات لم تكن لأحد قبله صلى الله عليه وسلم. والمتمعن في الخصال الواردة يرى أن بعضها خاص به صلى الله عليه وسلم، ولا تشاركه فيها أمته، لكن في تشريفه صلى الله عليه وسلم تشريف لأمته، كما أن بعضها تشترك معه فيها أمته، فإسناد الخصوصيات إليه صلى الله عليه وسلم باعتبار أن أمته إنما خصت بذلك من أجله، تكريما له صلى الله عليه وسلم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية تعديد النعم، اعترافا بفضل الله وكرمه. 2 - وإلقاء العلم قبل السؤال.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة 17 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر". -[المعنى العام]- السفر قطعة من العذاب، كثير المشاق مهما تيسرت وسائله، فيه فراق الأهل والوطن والمعارف، وفيه ترك الأموال والممتلكات، وفيه يصبح الإنسان غريبا، عرضة للأخطار. لهذه المشاق الجسيمة والنفسية خفف الله عن الأمة الإسلامية بعض فرائضها فأباح الفطر للصائم المسافر، مع القضاء، ورخص للمصلي أن يقصر الصلاة الرباعية، وأن يصليها، ركعتين في ثواب أربع ركعات، صدقة تصدق الله بها على عباده المسلمين. وسواء أكان ابتداء فرض الصلاة مثنى، ثم زيد في صلاة الحضر ركعتان في الظهر والعصر والعشاء -كما تقول عائشة -أم كان ابتداء فرضها على ما هو عليه الآن، وخففت وقصرت في السفر، كما يقول الجمهور -فمما لا شك فيه أن هناك تخفيفا على المسافر رحمة من الله تعالى به. فله الحمد، وله الشكر، حمدا وشكرا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد.

-[المباحث العربية]- (فرض الله تعالى الصلاة) "الصلاة" عام مخصوص، والمراد غير المغرب أي الظهر، والعصر والعشاء والفجر. (فأقرت صلاة السفر) أي ثبت حكمها الأول ركعتين دون تغيير. (وزيد في صلاة الحضر) في الظهر والعصر والعشاء، في كل منها ركعتان فصارت أربعا. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن الصلاة -فيما عدا المغرب والصبح -فرضت أولا ركعتين في الحضر والسفر، ثم زيدت صلاة الظهر والعصر والعشاء إلى أربع في الحضر، وذكر الضحاك في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حدة الإسلام الظهر ركعتين، والعصر ركعتين والمغرب ثلاثا والعشاء ركعتين والصبح ركعتين، فلما نزلت آية القبلة تحول للكعبة، وكان قد صلى هذه الصلوات نحو بيت المقدس، فوجهه جبريل عليه السلام بعد ما صلى ركعتين من الظهر نحو الكعبة، وأومأ إليه بأن صل ركعتين، وأمره أن يصلي العصر أربعا والعشاء أربعا، والغداة ركعتين. وقال: يا محمد. أما الفريضة الأولى فهي للمسافرين من أمتك والغزاة. اهـ. وإلى هذا القول ذهب جماعة من العلماء، والجمهور على خلافه، وتأولوا قول عائشة، ولم يلتفتوا إلى تفسير الضحاك، إذ لا يثبت به حكم، لأنه خال عن صفات الحديث الصحيح. وقال الأصيلي: أول ما فرضت الصلاة، أربعا على هيئتها اليوم، وأنكر قول عائشة، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد. ولسنا مع الأصيلي في رد حديث عائشة، لأن الحديث صحيح مروي في الصحيحين، وطرقه عن عائشة كثيرة ومشهورة، ولكننا نؤول حديثها ونعمل به، وخير ما قيل في تأويله: إن المراد من قولها "فرضت" أي قدرت، وقال الحافظ ابن حجر:

والذي يظهر لي وبه تجتمع الأدلة أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح لطول القراءة فيها وإلا المغرب لأنها وتر النهار، ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية، فالمراد على هذا بقول عائشة "فأقرت صلاة السفر" ما آل إله الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت. اهـ. والتأويل ضروري لأن حديثها يتعارض أولا مع قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} لأنه دال على أن الأصل الإتمام، إذ القصر معناه التنقيص، فالآية صريحة في أنها كانت في الأصل أربعا. ويتعارض ثانيا مع ما لوحظ في أول فرض الصلاة ليلة المعراج من قصد التخفيف على الأمة، والانتقال من الاثنين إلى الأربع فيه تشديد ويتعارض ثالثا مع عملها، إذ ثبت أنها كانت تتم في السفر، وإذا كان الأصل في السفر اثنتين فلا أصل للأربع في السفر، لا أول التشريع ولا آخره، وراوي الحديث إذا خالف عمله روايته لا يجب العمل بروايته، أو تؤول. وكان من السهل عدم الاكتراث بهذا الخلاف، لولا أنه استدل به على أن القصر في السفر فريضة وواجب، لأن الفرض الذي لم تتغير فرضيته لا يجوز خلافه، ولا تجوز الزيادة عليه، ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يزيد في صلاة عن عدد ركعاتها، ولو زاد عامدا فسدت صلاته؟ فكذا المسافر لا يجوز له أن يصلي أربعا، لأن فرضه في الصلاة ركعتان. وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنهما وكثير من العلماء: يجوز القصر والإتمام والقصر أفضل خروجا من خلاف من أوجبه، ولهم أدلة كثيرة لا تليق بهذا المختصر. وقد نقلتها في كتابي "فتح المنعم شرح صحيح مسلم". هذا وللقصر في السفر شروط منها أن يكون السفر مباحا، واشترط بعضهم أن يكون سفر طاعة، وجوز أبو حنيفة القصر في سفر المعصية، ومنها أن يكون السفر مسافة ثمانية وأربعين ميلا -أي نحو ثمانين كيلو مترا،

وشرط أبو حنيفة في مسافة القصر ألا تقل عن مائة وعشرين كيلو مترا، وقال داود وأهل الظاهر: يجوز القصر في السفر الطويل والقصير، حتى لو كان خمسة كيلو مترات. ومنها أن لا ينوي الإقامة أكثر من أربعة أيام عند الشافعية، ولا يحسب يوم الدخول ويوم الخروج، وعند الحنابلة أن لا ينوي الإقامة قدرا يزيد على إحدى وعشرين صلاة. وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة خمسة عشر يوما مع يوم الدخول أتم، وإن نوى أقل من ذلك قصر. وابتداء القصر من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه، وعند بعض الحنفية إذا أراد السفر صلى ركعتين قصرا، ولو كان في منزله، ومنهم من قال: إذا ركب. وفي العودة له أن يقصر حتى يدخل بيته. وإن فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر جاز له قصرها على الأصح عند الشافعية، وبه قال أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقصر، وإن فاتته صلاة في الحضر فقضاها في السفر لم يجز له القصر بلا خلاف. وإذا دخل وقت صلاة وتمكن من أدائها في الحضر، ثم سافر في أثناء الوقت فإن له أن يقصر على الراجح. والله أعلم.

18 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته". -[المعنى العام]- للإسلام حقوق، وعلى المسلم واجبات، ولمنح هذه الحقوق واستيفاء تلك الواجبات كان لا بد من علامة يعرف بها المسلم، ويبين بها المرء عن قبوله للإسلام ودخوله فيه، وقد نصت أحاديث كثيرة صحيحة وصريحة بأن أهم وأبرز هذه العلامات شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنها وحدها تحقن الدم، ولذا عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، على قتله الكافر المحارب بعد أن قالها، لكنها وإن حقنت الدم ابتداء، لا تحقنه دواما إذ لا بد من أن يضم إليها الصلاة والزكاة، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" ولا بد أن يضم إليها كذلك الإيمان والإقرار بأصول الشريعة ولا ينكر ما علم من الدين بالضرورة، عملا بالحديث الصحيح" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". ومما جاء به صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة في الصلاة بصريح القرآن الكريم {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ومشروعية ذكاة الحيوان والطير وذبحه وتحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقوذة والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله، بنص القرآن الكريم، فكان ذلك علامة من علامات إسلام المرء، وكان دليلا على استحقاقه حقن الدم وحرمة المال، وعهد الله، وأمان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان ملزما للمسلمين أن يرعوا هذه الذمة، ولا يخونوها، وأن يعطوا من هذه

حاله حقوق الإسلام، له ما لنا، وعليه ما علينا، وحسابه على الله، وإن يك صادقا فله صدقه، وإن يك كاذبا فعليه وبال كذبه. -[المباحث العربية]- (من صلى صلاتنا) أي داوم على الإتيان بها بشروطها، والمراد من الصلاة المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا، وإن صدق عليها اسم الصلاة، والإضافة في "صلاتنا" قيد لإخراج أصحاب الديانات الأخرى الذين يصلون صلاة ليست كصلاتنا في الهيئة والأركان والشروط، ففي الكلام تشبيه بليغ حذف منه الوجه والأداة. (واستقبل قبلتنا) في صلاته, وهي الكعبة، فالحديث بعد تحويل القبلة عن بيت المقدس، وبعد تشنيع اليهود عن تحويلها، والجملة من قبيل عطف الخاص على العام، تعظيما للخاص، واهتماما به، وإلا فاستقبال القبلة داخل في الصلاة، لأنه شرط من شروطها. (وأكل ذبيحتنا) الذبيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي ما تحل شرعا بالذبح والمقصود الاقتصار في أكل ما يذبح على ما ذبح وأبيح بشرعنا، فلا يأكل الخنزير، ولا الميتة، ولا الدم، ولا المنخنقة، ولا المضروبة بمثقل، ولا الميتة متردية من أعلى إلى أسفل، ولا المقتولة بنطح، ولا ما أكل السبع، ولا ما ذكر اسم غير الله عليه. وليس المراد الأكل الفعلي، بل المقصود الإقرار بحلها دون غيرها وإن لم يطعم في حياته ذبيحة كالنباتيين، لذا جاء في رواية "وذبحوا ذبيحتنا" بخلاف الصلاة، واستقبال القبلة، فالشرط أداؤهما بالفعل. (فذلك المسلم) أي فذلك المسلم لا غيره، فتعريف المبتدأ والخبر يفيد القصر والاختصاص. (الذي له ذمة الله وذمة رسوله) أي أمان الله وعهده، وأمان رسوله وعهده فيحرم ماله ودمه إلا بحقه، وفائدة عطف ذمة الرسول على ذمة الله للتصريح باللازم، ولأنه المنفذ لشريعة الله والمطبق لها.

(فلا تخفروا الله في ذمته) الخطاب للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ويقاس عليهم من يأتي بعدهم. والفعل "تخفروا" بضم التاء وكسر الفاء بينهما خاء ساكنة من أخفر الرباعي، ومعناه غدر ونقض العهد، ولم يرع الذمة، فالهمزة فيه للسلب والإزالة، لأن معنى خفر الثلاثي حمى وأجار ورعى العهد. فالمعنى لا تغدروا، ولا تعتدوا، ولا تنقضوا عهد الله لمن هذه حاله. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضل استقبال القبلة، والتزامه في الصلاة، فرضها ونقلها، إلا في حالات مستثناه شرعا، والمراد أن يستقبل القبلة بأطراف أصابع رجليه وبجميع ما يمكن من الأعضاء، هذا أكمله، وفي أقله خلاف عند الفقهاء. 2 - أخذ بعضهم من مفهوم الحديث قتل تارك الصلاة عمدا، لأن من صلى صلاتنا يوفى عهده ويصان دمه وماله. ومفهومه أن من لم يصل صلاتنا لا يحقن دمه، وفي ذلك خلاف طويل بين الفقهاء مذكور في محله. 3 - وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، والله يتولى السرائر. 4 - وأن من أظهر شعائر الإسلام أجريت عليه أحكام المسلم، ما لم يظهر منه ما يناقض ذلك. 5 - وأن الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبيحة المسلمين هو شعار الإسلام، وقد استشكل على هذا بأن الشعار الحقيقي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأجيب بأن الصلاة متضمنة لهذا الشعار، إذ الشهادة داخلة في الصلاة ركن من أركانها، ثم إن ما ذكر في الحديث هو علامة من علامات المسلم، التي تحقن الدم ابتداء، والشهادة وحدها كذلك، ثم يطالب بعد ذلك ببقية أركان الإسلام، فإن أنكر بعضها فقد أتى ما يناقضها ولم يحقن.

وحكمة الاقتصار على ما ذكر في الحديث أنه يعالج حالة قائمة آنذاك فإن من يقر بالتوحيد من أهل الكتاب، وإن صلوا، واستقبلوا، وذبحوا، لكنهم لا يصلون مثل صلاتنا، ولا يستقبلون قبلتنا، ومنهم من يذبح ذاكرا اسم غير الله، ومنهم من لا يأكل ذبيحتنا، والاطلاع على حال المرء في صلاته وأكله يمكن ويقع بأسرع من غير ذلك من أمور الدين. 19 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة". -[المعنى العام]- من فضل الله ورحمته وكرمه على الأمة الإسلامية أن يسر لها سبل

الطاعة وفتح لها أبواب العبادة في شتى الظروف، ومختلف الأحوال، جعل لها الأرض كلها مسجدا، وشرع لها ذكره تعالى باللسان والقلب قياما وقعودا وعلى الجنوب، ويسر التقرب إليه بالصلاة على الدابة، دون التقيد باستقبال القبلة {فأينما تولوا فثم وجه الله} وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه قولا وعملا، وهو في هذا يسافر على راحلته فينوي صلاة النافلة، لا يتحرى بوجهه وصدره القبلة، بل جهة السير والمقصد، ولا يقف في مواطن الوقوف في الصلاة، ولا يجلس في مواطن جلوسها، ولا يسجد سجودها، بل هو على طبيعة الراكب في جلوسه على دابته، يومئ عند الركوع، ويخفض رأسه أكثر من الركوع عند السجود. تلك شريعة الله في النافلة في السفر، يسر وتيسير ولا حرج، أما الفريضة فلها وضعها، كان صلى الله عليه وسلم ينزل فيستقبل القبلة فيصلي على الأرض، ليس في ذلك مشقة، فهي دقائق ولها وقتها المحدد والموسع. فالحمد لله رب العالمين. -[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته) الراحلة الناقة التي تصلح لأن ترحل وتقال على الذكر والأنثى من الإبل، قاله الجوهري، وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء والهاء في الراحلة للمبالغة لا للتأنيث. (حيث توجهت به) يعني إلى جهة القبلة أو غيرها. -[فقه الحديث]- هذا الحديث نص في جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت قال النووي: وهذا جائز بإجماع المسلمين، وشرط أن لا يكون سفر معصية إذ لا يجوز الترخيص بشيء من رخص السفر لعاص بسفره، كمن سافر لقتل نفس، أو لقطع طريق، أو عاقا لوالديه، أو ناشزا على زوجها.

ثم قال: ويجوز التنفل على الراحلة في قصير السفر وطويله عند الشافعية وعند الجمهور، ولا يجوز في داخل البلد وحولها من غير سفر، وعن بعض الشافعية أنه يجوز التنفل في البلدة وحولها من غير سفر على الدابة، وهو قول أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وعن مالك أنه لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة، قال النووي: هو قول غريب. قال العلماء: واعتبرت الطريق المقصود بدلا من القبلة، بحيث لا يجوز الانحراف عن الطريق المقصود عامدا لغير حاجة المسير، إلا إن كان سائرا في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة القبلة، فإن ذلك لا يضره. وهل يشترط أن يفتتح الصلاة باستقبال القبلة؟ خلاف. والظاهر أنه لا يشترط لظاهر عموم الحديث. ولم يوضح الحديث كيفية الصلاة على الراحلة، لكن في رواية البخاري عن عامر بن ربيعة قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة يسبح -أي يتنفل -يومئ برأسه قبل أي وجه توجه" وظاهره الإيماء في الركوع والسجود معا ولكن الفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السجود أخفض من الركوع، ليكون البدل على وفق الأصل، وذهب الجمهور إلى طلب السجود على الدابة لمن قدر عليه وتمكن منه دون مشقة، وعن مالك أن الذي يصلي على الدابة لا يسجد وإن تمكن من السجود، بل يومئ. وظاهر الحديث أن جواز ترك استقبال القبلة في التنفل خاص بالراكب دون الماشي، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، لأن ذلك رخصة، والرخص لا يقاس عليها، وأجاز الشافعية والحنابلة تنفل الماشي قياسا على الراكب، ولأن السر في هذه الرخصة تيسير تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها، تعظيما لأجورهم رحمة من الله بهم، غير أن بعض هؤلاء المجيزين اشترط استقبال الماشي للقبلة في إحرامه، وعند الركوع، والسجود، واشترط السجود على الأرض، وله التشهد ماشيا، كما أن له القيام ماشيا، واشترط بعضهم التشهد قاعدا، فلا يمشي إلا في حالة القيام.

وراكب السفينة، ومثله راكب الطائرة، لا يتنفل إلا إلى جهة القبلة لتمكنه من الاستقبال بخلاف راكب الراحلة. هذا قول الشافعية والجمهور وعن مالك رواية أنه يجوز لراكب السفينة ما يجوز لراكب الدابة. أما المكتوبة فلا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة، وهذا مجمع عليه إلا في شدة الخوف، قال النووي: فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود وهو على الدابة وهي واقفة، عليها هودج أو نحوه، جازت الفريضة على الصحيح عند الشافعية، فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح، وقيل: تصح كالسفينة، فإنها تصح فيها الفريضة بالإجماع. وفي بعض الروايات الصحيحة أن قوله تعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} نزل في صلاة النافلة في السفر على الراحلة، قال العلماء: وحملت هذه الآية على النافلة في السفر، كما حمل قوله تعالى {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} على الفرائض وعلى النوافل في غير السفر. والله أعلم. 20 - عن علقمة قال: قال عبد الله صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم لا

أدري زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم فلما أقبل علينا بوجهه قال "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين". -[المعنى العام]- سبحان من أودع في كل قلب ما شغله، وسبحان من أرسل رسلا من البشر، مبشرين ومنذرين، يعلمون الناس الكتاب والحكمة، اصطفاهم الله فلم يترفعوا على أممهم، ولم يدعوا لأنفسهم ما ليس لهم، فأعلنوا بألسنتهم أنهم بشر، وشاء الله أن تشهد حياتهم وتصرفاتهم بأنهم بشر، يحبون ويكرهون، يصومون ويفطرون، يقومون وينامون، يفكرون وينشغلون وينسون ويذكرون. ومن من الرسل كان مثل محمد صلى الله عليه وسلم فيما كلف به؟ ومن منهم حمل مثل ما حمل في رسالته؟ إنه رسول البشر عامة، أبيضهم وأحمرهم، وغيره من إخوانه الرسل كان كل منهم رسول قومه خاصة، لقد حورب من أهله وهاجر من وطنه، وما إن وطئت قدمه وطنه الثاني حتى بنى مسجده، وفتح فيه مدرسته، التي يعلم فيها أمته، بدأ الأعداء يتربصون به، ويهاجمونه ويكيدون له، فلم يكن بد من أن يحمل سيفه، ويدافع عن دينه، وبدأت الغزوات الواحدة تلو الأخرى، وكلما عاد من غزوة ورى بغيرها، وما وضع سلاحه حتى لبسه، وقد تهون حروب السيف أمام حروب المنافقين ومكايدهم، حتى وصل الكيد أن تناولوا عرضه في زوجته، حشود من الأفكار يشحن بها قلبه صلى الله عليه وسلم وهكذا تعظم المشاغل بعظمة الرجال وعظمة ما يناط بهم من أعمال، فهل نعجب إذا نسي صلى الله عليه وسلم في صلاته كم صلى؟ وهل نعجب إذا قام في صلاة رباعية بعد ركعتين، ولم يجلس للتشهد الوسط؟

وهل نعجب إذا قام لخامسة في صلاة رباعية؟ لقد نبهوه وسبحوا فلم يلتفت إلى تسبيحهم، فقاموا معه وتابعوه، حتى قضى صلاته وسلم فسلموا وتحول عن القبلة بعد السلام واستقبلهم، وكانت الأحكام الشرعية تنزل تباعا من الله وظنوا أن أمر الصلاة قد تغير، فسأل سائلهم: أحدث في الصلاة شيء؟ أم نسيت يا رسول الله؟ قال: لم يحدث هذا ولا ذاك، فماذا رأيتم؟ قالوا: صليت خمسا بدل أربع، فنظر في وجوه القوم، فإذا هي تصدق السائل وتذكر صلى الله عليه وسلم ما نسي، فاستقبل القبلة، وثنى رجليه وجلس جلسة السجود وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل عليهم بوجهه يعلمهم يقول: لو حدث في الصلاة زيادة أو نقص لأخبرتكم به، وإنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، أصبتم إذ نبهتموني وأحسنتم، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، أصلى ثلاثا أم أربعا؟ فليجتهد في الصواب وليكمل، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو. -[المباحث العربية]- (لا أدري زاد أو نقص) هذا الشك من إبراهيم النخعي، فرواية ابن مسعود لا شك فيها، ولفظها "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا" ثم رواية علقمة عن ابن مسعود لا شك فيها، ويعترف إبراهيم بأن الشك من جهته هو، مصرحا بذلك في بعض الروايات، إذ يقول: والوهم مني، وفي بعض الراويات يقول: وايم الله ما جاء ذلك [الشك] إلا من قبلي. ولو أنه تدبر في الرواية لطرح الشك، لأنه لو كان نقصا لأكمل في الصلاة. (أحدث في الصلاة شيء) أي زيادة؟ (وما ذاك؟ ) أي ذلك الشيء الذي تقصدونه بأنه حدث؟ . (قالوا: صليت كذا وكذا) "كذا وكذا" كناية عن عدد قيل فعلا، وفي رواية الصحيح "قالوا: صليت خمسا" والذي كنى ابن مسعود. (ولكن إنما أنا بشر) قصر نفسه صلى الله عليه وسلم على البشرية من قبيل قصر الموصوف على الصفة قصرا إضافيا، أي إنما أنا بشر لا ملك.

(أنسى كما تنسون) وجه الشبه مطلق النسيان، لا كميته، ولا نوعيته. (فليتحر الصواب فليتم عليه) روي بألفاظ مختلفة "فلينظر أحرى ذلك للصواب "وفليتحر أقرب ذلك إلى الصواب" و "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" والتحري للصواب طلب ومحاولة الوصول إليه، أو إلى ما يقرب منه، والتحري في الأصل هو القصد، والشك عند الأصوليين هو ما استوى طرفاه الفعل والعدم، وللبحث بقية في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي في الصلاة فقام من ثنتين ولم يجلس، ولم يتشهد التشهد الوسط، فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، ومرة نسي، فسلم من ثنتين، والصلاة رباعية فعاد، فأتم الصلاة ثم سجد سجدتين بعد التسليم، ومرة نسي، فسلم من ثلاث، والصلاة رباعية فعاد، فصلى الركعة، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم، وحديثنا صلى الرباعية خمسا، ثم عاد، فسجد للسهو ثم سلم. وضبطا لشوارد الموضوع نقسم الخطوات إلى: متى يشرع سجود السهو؟ وما موضعه؟ قبل السلام أو بعده؟ وما حكمه؟ وما كيفيته؟ وماذا يفعل الشاك؟ وما حكم سهو الأنبياء ونسيانهم؟ وماذا تأخذ من الحديث من أحكام. أما المواضع التي يشرع فيها سجود السهو: بالإضافة إلى حالة الزيادة أو النقصان المشار إليهما فقد قال النووي في المجموع: لو ترك بعضا من الأبعاض [وهي التشهد الأول، والجلوس له، والقنوت، والقيام له والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد الأول، وكذلك على الآل في التشهد الأخير] جبر بسجود السهو إذا تركه سهوا، وإن تركه عمدا فوجهن. أحدهما لا يسجد، لأن السجود مشروع للسهو، وبه قال أبو حنيفة، وقيل: يسجد، وأما غير الأبعاض من السنن كالتعوذ ودعاء الاستفتاح ورفع اليدين والتكبيرات والتسبيحات والجهر والإسرار والتورك والافتراش والسورة بعد

الفاتحة ووضع اليدين على الركبتين وسائر السنن القولية غير الأبعاض فلا يسجد لها، سواء تركها عمدا أم سهوا، لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود لشيء منها، والسجود زيادة في الصلاة، فلا يجوز إلا بتوقيف، والسنن تخالف الأبعاض، فإنه ورد التوقيف في التشهد الأول وجلوسه، وقسنا عليه باقيها، أما إذا فعل منهيا عنه مما لا تبطل الصلاة بعمده كالالتفات والخطوة وكف الثوب، ومسح الحصى، وأشباه ذلك، فلا يسجد للسهو لعمده ولا لسهوه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة، ووضعها، وخلع نعليه في الصلاة ولم يسجد لشيء من ذلك. فإن فعل ساهيا منهيا عنه تبطل الصلاة بعمده كالكلام والركوع الزائدين، فهذا يسجد لسهوه، إذا لم تبطل به الصلاة. وقال أبو حنيفة: يسجد للجهر والإسرار، وقال مالك: يسجد لترك جميع الهيئات. وأما موضعه. قبل السلام أو بعده؟ فقد اختلف فيه الفقهاء. فداود الظاهري: ذهب إلى أنه لا يسجد للسهو إلا في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للسهو، وبالأوضاع الواردة نفسها، فيقتصر على ما ورد، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء. وذهب الإمام أحمد والحنابلة: إلى أنه يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، وبعد السلام في المواضع التي سجد فيها بعد السلام. قال ابن قدامة في المغني: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الوضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام وما عداهما يسجد له قبل السلام اهـ. ويقصد بالموضعين ما ورد في الصحيح من حديث ذي اليدين حين سلم صلى الله عليه وسلم من ثنتين في رباعية، من أنه أتم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم، وما جاء في الصحيح من حديث عمران بن حصين في إحدى روايتيه، حين سلم صلى الله عليه وسلم من ثلاث في رباعية، من أنه صلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم.

وذهب مالك والشافعي في قول له: إلى التفرقة بين السهو بالزيادة والسهو بالنقص، فيسجد للزيادة بعد السلام، وللنقض قبله، قال بعضهم: والفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك، لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة، وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان، وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ وهم بذلك يشيرون إلى الحديث الصحيح "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى؟ ثلاثا أو أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما كانتا ترغيما للشيطان". وذهب أبو حنيفة وأصحابه، وحكى قولا للشافعي -أن سجود السهو كله بعد السلام. وفي قول للشافعي أن سجود السهو كله قبل السلام. وعند التحقيق نجد أن أمر هذا الخلاف كله هين، فقد نقل الماوردي وغيره الإجماع على جواز هذا أو ذاك، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا قال ابن عبد البر: إنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده أن لا شيء عليه، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عند الحنفية في الأولوية. نعم حكى بعضهم خلافا في الإجزاء عند الشافعية والمالكية والحنفية ولكنه في قول ضعيف، والمعتمد في المسألة أن الخلاف في الأولى والأفضل. وحكم سجود السهو مسنون كله عند الشافعية، وعند المالكية واجب للنقص دون الزيادة، وعند الحنابلة التفصيل بين الواجبات غير الأركان فيجب السجود لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده، وعند الحنفية واجب كله. أما كيفيته فهو أن يكبر، ثم يسجد، ثم يكبر، فيرفع، ثم يكبر فيسجد، ثم يكبر، فيرفع، فهذه سجدتان، فلو اقتصر على واحدة ساهيا لم يلزمه

شيء، أما عامدا فتبطل صلاته عند الشافعية دون الحنفية، والتكبير في سجدتي السهو مشروع بالإجماع، كما هو في سجود الصلاة، والجهر به كما في الجهر به في سجود الصلاة، وتكبير الصلوات كله سنة، غير تكبيرة الإحرام فهي ركن عند الجمهور، وعند أحمد والظاهرية، أن تكبير الصلوات كله واجب. ولا خلاف أن سجود السهو الواقع قبل السلام لا يحتاج إلى تكبيرة إحرام إنما الخلاف في السجود الذي يقع بعد السلام، والجمهور على أنه يكتفي بتكبيرة السجود، وهو غالب الأحاديث. وهل يسلم إذا سجد بعد السلام؟ حكى القرطبي في قول مالك وجوب السلام بعد سجدتي السهو. وهل يتشهد بعد سجود السهو؟ الجمهور على أنه لا تشهد بعد سجود السهو الواقع قبل السلام، وأما الواقع بعد السلام فإنه يتشهد عند الحنفية وأحمد وبعض المالكية وقول عند الشافعية. أما موقف الذي يشك وهو في الصلاة، أصلى ثلاثا أم أربعا؟ فقد اختلف الفقهاء فيما يجب عليه فعله، نظرا لاختلاف الروايات، فقد ذهب الحسن البصري وطائفة من السلف إلى أنه إذا شك المصلي، فلم يدر زاد أو نقص فليس عليه إلا سجدتان، وهو جالس، عملا بظاهر رواية صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا" فإذا لم يدر أحدكم كم صلى؟ فليسجد سجدتين وهو جالس" وقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور: متى شك في صلاته. هل صلى ثلاثا أو أربعا؟ لزمه البناء على اليقين -وهو الأقل -ويجب عليه أن يأتي برابعة، ويسجد للسهو، عملا برواية "فليبن على ما استيقن" فإذا تيقن التمام سجد سجدتين للسهو، ويؤيدهم حديث الترمذي" إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين؟ فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين والثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا، ثم ليتم ما بقي من صلاته، حتى يكون الوهم في الزيادة خيرا من النقصان".

وقال بعض الحنفية: إن كان الشك قد عرض له لأول مرة بطلت صلاته وأعاد، وإن صار الشك عادة له اجتهد، وعمل بغالب الظن، وإن لم يظن شيئا عمل بالأقل. وفي سهو الأنبياء يقول النووي: يجوز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع، وهو مذهب الجمهور، وظاهر القرآن والحديث، واتفقوا على أنه لا يقر عليه، بل يعلمه الله تعالى به، والسهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يحصل منه مفسدة، بل تحصل فيه فائدة، وهي بيان أحكام الناس وتقرير الأحكام. واختلفوا في جواز السهو في الأخبار، والحق ترجيح قول من منع السهو على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا، لا في صحة ولا في مرض، ولا في رضا ولا في غضب. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الإمام، وقد ذهب الحنفية والشافعية إلى أن المؤتم يسجد لسهو الإمام، ولا يسجد لسهو نفسه. 2 - وأن سجود السهو خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بالسجود لا يسجد. وهو قول الجمهور. 3 - أن الإمام يرجع إلى قول المأمومين في أفعال الصلاة، ولو لم يتذكر، وبه قال مالك وأحمد. 4 - ومن قوله "لو حدث شيء في الصلاة لنبأتكم به" أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة. 5 - وأن الشرع يأمر التابع مهما قل شأنه أن يذكر المتبوع بما ينساه. 6 - وأن الكلام العمد فيما يصلح الصلاة لا يفسدها. وفيه نظر. 7 - استحباب إقبال الإمام على الجماعة بوجهه بعد الصلاة.

8 - أن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوا لا يقطع الصلاة. 21 - عن عائشة أم المؤمنين أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رآتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". -[المعنى العام]- مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الأخير، وأذن له نساؤه أن يمرض في بيت عائشة، وأن يجتمعن إليه فيه، وكانت أم حبيبة وأم سلمة قد هاجرتا إلى الحبشة فيمن هاجر، ورأتا هناك في كنيسة تسمى مارية تماثيل مصورة يسجد عندها الناس على أنها معبودات، أو على أنها رمز لصالحين، يرجى خيرهم ونفعهم، رأتا كيف يقدس الناس هذه التماثيل في الكنيسة؟ وكيف يركعون

لها؟ وخطر في نفس أم حبيبة النهاية والمصير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الفراش، وخطر لها ما يصير الأمر بعده، وكيف يكون قبره، وكيف يصبح مسجده، وبرزت صورة الكنيسة وما فيها من تماثيل في خيالها، فقامت تروي وتقول: يا رسول الله. لقد رأيت ورأت أم سلمة بالحبشة في كنيسة تسمى مارية تماثيل كثيرة، تمثل أشخاصا، وتصورهم كأنهم أجساد بشرية أحياء، ورأينا الناس يعظمونها ** ويقدسونها ويركعون عندها. وكان في عرض هذه الصورة تنبيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشي على أثره أن يحدث معه بعد موته ما حدث مع غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: لعن الله اليهود والنصارى، كانوا إذا مات فيهم النبي، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره كنيسة وصوروا فيها هذه الصور، تعظيما لأصحابها، وذكرى لصلاحهم ليقتدي بهم، فلما طال عليهم الأمد سول لهم الشيطان أن أجدادهم كانوا يعبدون هذه التماثيل فعبدوها. ألا وإني أنهاكم أن يتخذ قبري مسجدا ألا وإني أنهاكم أن تصوروا بعدي الصور والتماثيل، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة. -[المباحث العربية]- (أم حبيبة) أم المؤمنين، رملة بنت أبي سفيان، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش، فتوفي هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة سنة ست من الهجرة. (أم سلمة) أم المؤمنين، هند بنت أبي أمية المخزومي، هاجر بها أبو سلمة إلى الحبشة، فلما رجعا وهاجرا إلى المدينة مات زوجها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ذكرتا كنيسة) الظاهر أن إحداهما ذكرت والأخرى أمنت، فنسب الذكر إليهما، والكنيسة معبد النصارى. (فيها تصاوير) المراد من التصاوير هنا التماثيل.

(بنوا على قبره مسجدا) أي مكان سجود، وليس المراد المسجد المعروف للمسلمين، فإن معبد النصارى يسمى كنيسة وبيعة بكسر الباء. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: إنما بنى الأوائل على قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وصورا صورهم فيها ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذاكروا أحوالهم الصالحة، فيجتهدوا، ثم خلف من بعدهم خلوف، جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها. فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك. اهـ. وظاهر كلام الحافظ أن الخوف الحقيقي منشؤه الصور والتماثيل، ليس بناء المساجد على القبور، على معنى أنه لو وضعت هذه التماثيل على القبور من غير المساجد، أو على أماكن أخرى غير القبور، كما كانت على الصفا والمروة لكان النهي قائما، لأن المحذور المخيف هو التماثيل، وبالتالي يكون بناء المساجد على القبور بدون التصاوير لا يؤدي إلى هذا المحذور، وبالتالي يحذر صلى الله عليه وسلم أن يفعل معه بعد موته مثل ما صنع مع أنبياء اليهود من تصويره صلى الله عليه وسلم وقد يؤيد هذا الاتجاه أن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام ودعي إلى الكنيسة قال: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور وكان ابن عباس يصلي في البيعة، إلا بيعة تماثيل -ذكر ذلك البخاري -ولم يبحث أي منهما، ولم يبن فعله على كون الكنيسة بها قبر أو لا. لكن هناك روايات في الصحيح أوعدت باللعن والقتل، لاتخاذهم القبور مساجد، دون ذكر للتماثيل والصور، مما يفيد أن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد معرض للعن والطرد من رحمة الله، ومما لا شك فيه أنهم لم يكونوا يتخذون القبر وحده مسجدا، بل كان القبر جزء مسجد، وعلى ذلك فلا فرق بين أن يكون القبر في زاوية المسجد أو في وسطه. غاية الأمر أن الحرمة تشتد، والجرم يعظم إذا جعل القبر في القبلة، بحيث يستقبله المصلون وكذلك لا فرق بين أن يسبق بناء المسجد على بناء القبر،

أو العكس، فكل من الوضعين في النهاية يؤدي إلى تعظيم صاحب القبر، مما يهدد مستقبلا بالمحظور. وإذا كانت العلة في المنع أن يؤدي إلى تعظيم وتقديس صاحب القبر مما يؤدي إلى عبادته، أو إلى احتمال عبادته، ولو بنسبة واحد في الألف كان ممنوعا، كذلك كل مظهر من مظاهر التعظيم، كبناء القبة، والمقام استصحابا للعلة، وإغلاقا لباب الفتنة وسدا للذرائع، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفن بحجرة عائشة، هو وصاحباه، وكانت خارجة عن المسجد، ولما احتاج الصحابة والتابعون إلى الزيادة في المسجد، حين كثر المسلمون دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، وبنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب. 2 - ذم فاعل المحرمات. 3 - النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم حيث ورد اللعن عليه، وذهب الشافعي وأصحابه إلى القول بالكراهة.

22 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا". -[المعنى العام]- من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل لها الأرض كلها مسجدا وجعل أماكن الصلوات شهداء للمصلي يوم القيامة، وجعل البركة والرحمة تحل في مكان العبادة، وأنزل ملائكته تشهد الصلاة في أماكن المصلين المختلفة ومن هنا كان للبيوت حق في أن تحل بها بعض عبادة أصحابها. ثم إن المسلم مطالب بتدريب أهله على الصلاة، وفيهم من لا يستطيع حضور الصلاة في المسجد كالنساء والمرضى، فكان من الخير له ولهم أن يصلي بعض الصلوات في بيته ليراه ويقتدي به أمثال هؤلاء. ومن هذا المنطلق رغبت الشريعة الإسلامية في الصلاة في البيوت، وأن يجعل المسلم لبيته نصيبا من صلاته، ليحل الخير فيه، ونفرت الشريعة الإسلامية من حرمان البيوت من الصلاة، ومن ذكر الله، فشبهت البيوت التي لا يصلى فيها بالقبور، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب النوافل في بيته وقال: "إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وقال: "اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم". أعاننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته. -[المباحث العربية]- (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) "من" تبعيضية، أي اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم، وهذا البعض يصدق بفريضة أو راتبة أو نافلة مطلقة

والتحقيق سيأتي في فقه الحديث. (ولا تتخذوها قبورا) في الكلام تشبيه بليغ، حذف فيه الأداة ووجه الشبه والأصل: ولا تتخذوها كالقبور في هجرها من الصلاة. أو في كونها إنما نقصد للنوم الذي هو موت، وذكر بعضهم في بيان وجه الشبه أربعة معان أحدها: أن القبور مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف، فلا يصلي فيها، وليس كذلك البيوت، فصلوا فيها، ثانيها: أنكم نهيتم عن الصلاة في المقابر، لا عن الصلاة في البيوت، فصلوا فيها، ولا تشبهوها بها، ثالثها: أن مثل الذاكر كالحي، وغير الذاكر كالميت، فمن لم يصل في البيت جعل نفسه كالميت، وجعل بيته كالقبر، الرابع: قول الخطابي: لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم، فلا تصلوا فيها، فإن النوم أخو الموت. -[فقه الحديث]- ذكر الإمام مسلم في هذا المقام مجموعة من الروايات، منها "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا". إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا". "عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت". ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة". قال بعض العلماء: إن المراد ببعض الصلوات المطلوب صلاته في البيوت إنما هو بعض من الفرائض، ليقتدي به من لا يخرج إلى المسجد من النساء والمرضى. والجمهور على أن المراد به النوافل، لأن السر في عمل التطوع أفضل وهذا هو الأظهر، على أن رواية "فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة "ورواية" إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من

صلاته" ترجحان أن المراد صلاة النافلة، بل تكادان تكونان نصا في ذلك. وعمم الإمام النووي خيرية الصلاة في البيوت في جميع النوافل، راتبة الفرائض والمطلقة، ولم يستثن إلا النوافل التي هي من شعائر الإسلام، وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، وبعضهم استحب الرواتب في المسجد، وقصر البيوت على النفل المطلق. ومن فوائد الصلاة في البيوت تبركها بالصلاة، ونزول الرحمة فيها وحضور الملائكة، ونفرة الشيطان منها، وقال القاضي عياض: إنما أمرنا بالصلاة في البيوت لأن النوافل في البيوت أبعد عن الرياء، وأصون من المحيطات، ولما ورد في الحديث "توروا بيوتكم بذكر الله تعالى، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة وقد حصن من الشياطين" رواه الطبراني. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أخذ منه بعضهم من مقارنة البيوت والقبور أن الحي أفضل من المبيت، وأن في طول العمر في الطاعة فضيلة. 2 - الندب إلى الصلاة في البيوت. 3 - الندب إلى ذكر الله تعالى في البيوت، وأنه لا يخلى من الذكر فيه. 4 - استدل به بعضهم على كراهة الصلاة في المقابر. 5 - استدل به بعضهم على منع الدفن في البيوت، ويؤيده حديث سلم "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" وأجازه بعضهم مستدلا بدفن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، الذي كان يسكنه أيام حياته، ورد هذا بجواز أن يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن كل نبي يدفن حيث يقبض، ورد هذا الرد بدفن أبي بكر وعمر في بيت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأن هذا خاص بصحبتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

23 - عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم أكثرتم وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة". -[المعنى العام]- بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة من اللين، على أساس قليل من الحجارة، وسقفه من جريد النخل، مما يمنع الشمس ولا يقي المطر، حتى رأيناه صلى الله عليه وسلم ليلة القدر يسجد في ماء وطين، وجعل أعمدته جذوع النخل وجعل ارتفاع حوائطه قامة أو تزيد، وجعل أضلاعه متساوية، طول الضلع مائة ذراع، وظل المسجد كذلك في عهد أبي بكر، فلما كان عهد عمر رأى الجريد قد نخر وتساقط، والحوائط قد تهشمت فأعاد بناءه على الهيئة التي بناه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم باللين، وبالارتفاع نفسه، وجريد النخل، غير أنه زاد في سعته للحاجة. وفي عهد عثمان، وفي سنة ثلاثين من الهجرة فكر عثمان في إعادة بناء المسجد، وكان التقدم العمراني، بسبب اتصال المسلمين بالفرس والروم وكثرة الأموال، واستعمل المسلمون في بناء بيوتهم الحجارة بأنواعها والجص والألوان والأخشاب الثمينة، ورأى عثمان أن المسجد ينبغي أن يساير التقدم

في البناء، وأن يبنى بالحجارة، لما لها من طول البقاء، وحسن المنظر، فجلب للمسجد نوعا مشهورا من الخشب يسمى بالساج، جلبه من بلاد الهند ليسقف المسجد به، وجلب أنواعا جيدة من الحجارة المنقوشة ليبني حوائطه بها، ويقيم بها أعمدته، وجلب القصة والجص ليطلي به البناء بعد تمامه. وشعر بعض المسلمين أن في هذ التغيير الشكلي للمسجد إسرافا لا داعي له وأن إعادة بنائه بالوضع السابق يذكر الناس بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من الزهد والتقشف، وخشوا أن يفتح هذا العمل باب التنافس في المظاهر في عمارة المساجد. هذه المخاوف دفعت الكثيرين من الصحابة أن يعارضوا فكرة عثمان، وأن ينتقدوها، وأن يحاولوا إثناءه عن تنفيذها وأكثروا الكلام، فروى لهم عثمان رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا مثله في الجنة". ورضي الصحابة وأقروا عثمان، ولم تبق المعارضة طويلا، وتم بناء المسجد بناء كريما. فرضي الله عن عثمان، لحرصه على النهضة المسايرة للشريعة ورضي الله عن الصحابة المعارضين لحرصهم على أهدافها، وجزى الجميع عن الإسلام خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (عند قول الناس فيه) أي في عثمان، وذلك أن بعضهم أنكر عليه تغييره بناء المسجد، وتكلموا في عثمان يخطئونه ويلومونه. (حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الكلام مجاز المشارفة، أي حين أراد أن يبني، لأن النقد والإنكار توجه إليه حين خطط للبناء وأعد أدواته وأعلن عزمه قبل أن يبني، ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسعه وشيده، فأطلق البناء على التجديد، والمراد من المسجد هنا بعضه، لأن الذي شيد بعضه لا كله، فقد بقيت رحبة واسعة. (إنكم قد أكثرتم) أي أكثرتم الكلام والإنكار على فعلي. (من بنى مسجدا) التنكير للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع

عند الترمذي "صغيرا أو كبيرا وفي رواية" ولو كمفحص قطاة" والقطاة طائر صغير، ومفحصه عشه الذي يضع فيه البيض. (يبتغي به وجه الله) أي يطلب به رضا الله، والمراد من ذلك الإخلاص. (بنى الله له بيتا في الجنة) في بعض الروايات في الصحيح "بنى الله له بيتا مثله في الجنة" ولا شك أن المماثلة في مسمى البيت، إذ موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها. وبناء الجنة من در وياقوت، ولعل المماثلة في أصل الصفات لا في مقدارها، فالمسجد الواسع يجازى ببيت واسع، والمسجد المشيد يجازى ببيت مشيد، بقطع النظر عن ماهية ومقدار التشييد، ولعل هذا هو مقصد عثمان رضي الله عنه من الاستدلال بالحديث على فعله. -[فقه الحديث]- مما لا شك فيه أن إنكار البعض على عثمان إنما كان موجها إلى الغلو في مواد البناء، دون إعادة البناء، ودون التوسعة التي أرادها، فلم ينكر أحد على عمر التوسعة التي وسعها، ولا إعادة البناء، ولهذا نجد من الصعوبة فهم رد عثمان على أنه رد مقنع، هم ينكرون الغلو، ولا ينكرون البناء وفضله وعثمان يدلل على فضل البناء، وحتى رواية "بنى الله له في الجنة مثله" لا تؤيد المماثلة في التشييد والمغالاة، وإلا لتنافس المسلمون في ذلك بدرجة لا يقول بها أحد من العلماء. ويبدو لي أن عثمان أقنع المنكرين بما لم يذكر في الحديث، وأنه اقتصر على هذا الجزء كدليل على فضل بناء المساجد، وأغفل الكلام الآخر الخاص بالواقعة الخاصة، لعله قال لهم: إن عمر الحجارة يفوق بكثير عمر اللبن، وإن خشب الساج يفوق متانة الجريد، فطول عمر البناء بهما يعادل زيادة تكاليفهما، بل إن التكاليف في تلك الأيام لم يكن يحسب لها حساب فقد امتلأت خزائن الدولة وخزائن الناس، فلعله قال لهم: إن المسجد يجب

أن يجد المصلي فيه راحته وأمنه من الحر والبرد، ليتفرغ قلبه للعبادة، وأنه ينبغي أن لا يقل قبولا عند المصلين عن بيوتهم. ونحو ذلك مما أقنعهم. والحديث يفيد إنكار زخرفة المساجد، فإن الصحابة أنكروا التشييد بالخشب والجص، مع فائدتهما في ذات البناء وقوته، فإنكارهم للزخرفة بناء على هذا لا شك فيه، لعدم وجود الفائدة، مع الإضرار بالخشوع، وعلى ذلك فليس من الشريعة زركشة المساجد بالألوان المختلفة، ولا كتابة الآيات والأحاديث على الجدران، كل ذلك بدع نشأت في عهد الوليد بن عبد الملك قال الحافظ ابن حجر: وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة. ثم قال: ورخص في ذلك بعضهم، وهو قول أبي حنيفة، إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال وقد حاول البدر العيني -وهو حنفي المذهب أن يضعف القول الذي نسب إلى أبي حنيفة، فقال: مذهب أصحابنا أن ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد معناه تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يخرجه، سواء أكان ناظرا أم غيره، إما لاشتغال المصلي به، وإما لأنه إخراج المال في غير وجهه. اهـ. والحق أن المنع من الزخرفة للعلتين معا، شغل المصلي ووضع المال في غير وجهه، وعدم الزخرفة لا يؤدي إلى الاستهانة بالمساجد فلتشيد المساجد دون زخرفة، وما أكثر العمارات الخالية من الزخرفة المشيدة كأحسن تشييد، يدعو إلى الإعجاب والتقدير والإكبار، لقد كان عمر قادرا على زخرفة المسجد ولكنه قال للصانع: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر، فتفتن الناس. رواه البخاري. والحديث يدعو إلى إخلاص النية لله، ومعنى ذلك توقف هذا الجزاء على الإخلاص، أما من يقصد ببناء المسجد المباهاة والمراءاة فإن عمله محبط. وهل يدخل في ذلك من شهر مسجدا باسمه؟ أو كتب اسمه عليه؟ قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص.

وظاهر الحديث أن الجزاء المذكور مرتبط بالبناء، لكن لو نظرنا إلى المعنى والحكمة، استحق هذا الجزاء من وقف قطعة الأرض، ومن أمر بالبناء، ومن أنفق عليه، ومن اشترك فيه متطوعا، ومن عمل فيه بأجر، فالله واسع الفضل ففي الحديث "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة. صانعه المحتسب في صنعته [متطوعا أو بأجرة يقصد معها وجه الله] والرامي به، والممد له" أي المناول. 24 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه وتصلي يعني عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه". -[المعنى العام]- إذا كانت صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وإذا كانت صلاة المرء جماعة في المسجد تزيد على صلاته في بيته، أو في مكان

عمله بخمس وعشرين درجة، كان على المسلم أن يتحمل في سبيل الحصول على هذا الفضل ما يقابله من صعاب ومشاق، من الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، ومن المشي طويلا لبعيد الدار عن المسجد، ومن انتظار الصلاة حتى تقام، ولكل من ذلك أجر. فمن توضأ وأسبغ الوضوء وأحسنه، وتوجه نحو المسجد للصلاة لا يحركه ولا يدفعه إلا الرغبة في صلاة الجماعة مع الإمام في المسجد لم يخط خطوة إلا كان له بها حسنة، وإلا محي عنه بها سيئة، من حين يخرج من بيته إلى حين يدخل المسجد فإذا دخل المسجد وجلس ينتظر الصلاة أعطاه الله ثواب الصلاة ما دام منتظرا لها، وقد سخر الله ملائكته أن تحضر جماعات المسلمين، فتدعو لمنتظري صلاتهم، تقول في دعائهم: اللهم اغفر لهم. اللهم ارحمهم. تظل تدعو للمنتظر ما دام متطهرا ما لم يحدث. -[المباحث العربية]- (وصلاته في سوقه) المراد محل عمله. (فأحسن الوضوء) إحسان الوضوء إتمامه وإكماله وإسباغ أعضائه. (لا يريد إلا الصلاة) في بعض الروايات "لا ينهزه إلا الصلاة" أي لا يقيمه ولا يحركه ولا يجعله ينهض إلا الصلاة في جماعة. (لم يخط خطوة) "يخط" بفتح الياء وسكون الخاء وضم الطاء، و"خطوة" فيها ضم الخاء وفتحها. (فإذا دخل المسجد كان في صلاة) في ثواب صلاة، لا في حكمها، إذ يحل له الكلام وغيره مما يمنع في الصلاة. (ما كانت تحبسه) "ما" مصدرية دوامية، أي مدة كون الصلاة تحبسه. (وتصلي الملائكة عليه) الصلاة من الملائكة الدعاء. (ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه) كأنه خرج مخرج الغالب،

والمقصود ما دام في المسجد، فإنه لو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نيته كان كمن بقي في مكانه. (اللهم اغفر له) مقول لقول محذوف، هذا القول تفسير لصلاة الملائكة. (ما لم يحدث فيه) في رواية في الصحيح "ما لم يؤذ فيه. ما لم يحدث" فالمطلوب أمران ليدوم استغفار الملائكة له، عدم الإيذاء باليد أو اللسان أو غيرهما من الجوارح في مصلاه، وأن يظل على طهارته من غير حدث. -[فقه الحديث]- الحديث في فضل صلاة الجماعة، وفضل إسباغ الوضوء، وفضل الخطى إلى المسجد، وفضل انتظار الصلاة. أما فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد فالأحاديث الكثيرة صريحة في أنها تفضل صلاة الفرد ببضع وعشرين درجة، ولا خلاف في ذلك، إنما القصد الجمع بين الأحاديث التي جعلت الدرجات خمسا وعشرين والروايات التي جعلتها سبعا وعشرين، وقد ذهب العلماء في ذلك مذاهب كثيرة فقيل: إن إثبات أفضلية سبع وعشرين درجة تتضمن أفضلية خمس وعشرين درجة ولا تنافيها. وقيل: إنه أخبر أولا بخمس وعشرين، ثم أعلمه الله بالزيادة، فأخبر بها، ومعنى هذا أن رواية "سبع وعشرين" ناسخة لرواية "خمس وعشرين" وهذا الرأي ضعيف، وقيل: السبع مختصة بالجهرية والخمس مختصة بالسرية، وخير الأجوبة أن الأمر يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة، فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون بحسب كمال الصلاة والمحافظة على الهيئات والخشوع وكثرة الجماعة وفضلهم ونحو ذلك. وإنما فضلت صلاة الجماعة صلاة الفرد، لأن الإسلام حريص على ترابط المجتمع، وغرس المودة والمحبة بين أبنائه، لقد ولد الإسلام في

مجتمع متفرق لا يضمه هدف، ولا تجمعه غاية، يغير بعضه على بعض، وتترفع القبيلة على أختها، فحارب الإسلام هذه العصبية، وسوى بين الناس كأسنان المشط ونادى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} "ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى" وكان لا بد من وسائل تقود إلى غرس هذا المبدأ، وكان لا بد من تدريبات عملية تطبع المسلمين على الإحساس بالاجتماع والألفة والمساواة، فكانت صلاة الجماعة. يقف المسلمون فيها صفوفا كصفوف الملائكة، مستقيمة متراصة المناكب متلاصقة، والأقدام متحاذية، الغني بجوار الفقير، والعظيم بجوار الوضيع، الكل يتحرك حركة واحدة، ويسكن سكونا واحدا، فإذا ما قضيت الصلاة التقوا، وتعارفوا، ودرسوا مصالحهم وعرفوا غائبهم، فكانت الفوائد الكثيرة في صلاة الجماعة، فكان الحث عليها والترغيب فيها. ولما كانت بعض الروايات تربط الفضل بصلاة الجماعة، بقطع النظر عن كونها في المسجد، أو في البيت، أو في المتجر، أو في المصنع، أو في المدرسة ولما كانت بعض الروايات -كحديثنا -تربط صلاة الجماعة الفاضلة بالمسجد قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر من المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا، لكنه خرج مخرج الغالب، في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا. اهـ. وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في المسجد الذي يصلي فيه الجمعة، مع تقرير نوع من الفضل للجماعة في غيره، وجاء عن بعضهم قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في أي مسجد، دون البيت والسوق، أخذا بظاهر حديثنا، مع تقرير نوع من الفضل للجماعة في البيت والسوق ونحوهما. والذي تستريح إليه النفس أن التضعيف إلى خمس وعشرين عام في الجماعات على المنفرد، في أي مكان، مع تقرير نوع زائد من الفضل للجماعة في المسجد، ونوع زيادة من الفضل للجماعة في مسجد الجماعة

وهذا الرأي يعمل بكل الأحاديث مطلقها ومقيدها. واختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة، فداود الظاهري ورواية عن أحمد أن الجماعة فرض عين وشرط لصحة الصلاة، وفي رواية عن أحمد وجماعة من محدثي الشافعية أنها فرض عين وليست شرطا لصحة الصلاة فتصح بدونها مع الإثم، واستحقاق العقوبة، وجمهور المتقدمين من الشافعية وكثير من الحنفية والمالكية أنها فرض كفاية. والمشهور عن المتأخرين أنها سنة مؤكدة، ولكل أدلة ذكرتها في كتابي فتح المنعم شرح صحيح مسلم. وأما فضل إسباغ الوضوء، ففي الصحيح "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" وأما فضل الخطى إلى المسجد وانتظار الصلاة فسيأتي في الحديث رقم (34) والله أعلم. 25 - عن أبي جهيم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو يعلم

المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه قال أبو النضر لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة". -[المعنى العام]- حرص الشارع الحكيم على تقديس الصلاة، وحمايتها من مظاهر اللهو والعبث، وحماية ساحتها من الاعتراض، وتوفير وسائل الخشوع والمناجاة فأمر المصلي بأن يحجز مكان صلاته من مرور الناس، بجدار أو بعصا أو بساتر ما، وحذر المار من أن يمر بين يدي المصلي، وخوفه بالوعيد الشديد الذي يستصغر أمام هوله أن يقف أربعين سنة انتظارا لانتهاء المصلي من صلاته، لو قدر له أن يبقى في صلاة هذه المدة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة، فلم يكن يصلي إلا إلى ساتر، وكان أحيانا يتخذ بعيره ساترا، وأحيانا يتخذ الجدار، وأحيانا يتخذ الإسطوانة في المسجد، وحرض المصلي، إن اعتدى على قداسة موضع صلاته أحد بالمرور بين يديه، أن يدفعه بيده دفعا خفيفا، فإن لم يمتنع دفعه بما هو أشد إلى أن يصل إلى المنع إلا بالمقاتلة كان له أن يقاتله، وهكذا يوفر الإسلام للمصلي وسائل وظروف الخشوع، ويهيئ له ظروف الانصراف إلى الله بقلبه وجوارحه في صلاته إنها مناجاة الله. -[المباحث العربية]- (لو يعلم المار بين يدي المصلي) أي أمامه، وبالقرب منه، وكل ما بين يديك تستطيع ملامسته، فالظاهر أن المقصود بالمسافة ما تناله يد المصلي لو مدت. (ماذا عليه من الإثم) أي ما الذي عليه من الإثم بسبب مروره بين يدي المصلي. (لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر) أي لكان وقوفه أربعين خيرا

له من المرور، ولا خيرية في المرور ولا في الوقوف، فأفعل التفضيل ليس على بابه فهو من قبيل: الضرب خير من الشتم، أي لو خير لاختار الوقوف باعتباره أخف الضررين. -[فقه الحديث]- هذا الحديث يوجه المار بين يدي المصلي وينذره ويحذره، وهناك في الصحيح أحاديث أخرى توجه المصلي أن يقي نفسه ومكانه من أن يمر أحد بين يديه، فعن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى راحلته" وفي رواية "صلى إلى بعيره" وفي حديث "كان يغرز العنزة -أي الحربة -ويصلي إليها" وفي حديث كان يعرض راحلته وهو صلى إليها وفي حديث إذا وضع أحدكم بين يده مثل مؤخرة الرحل وهو العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك وفي حديث أبي سعيد الخدري "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع، فإن أبي فليقاتله، فإنما هو شيطان" فالموضوع ككشف العورة والنظر إليها، كل من الناظر والمنظور عليه واجب، وتقصير أحدهما في واجبه لا يبرر تقصير الآخر، وإذا كان على المصلي أن يتخذ سترة كان على المار أن لا يمر بين المصلي وسترته، ولا بين يديه إن لم يتخذ سترة. قال النووي: ولا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، واختلفوا إذا كان في موضع يأمن المرور بين يديه، ومذهبنا أنها مشروعة مطلقا. اهـ. وهل الخط في الأرض أو على الرمل يقوم مقام السترة عند عدمها؟ المختار استحبابه إذا لم يجد غيره، إذ به ثبت حريم للمصلي، وفي كيفيته قيل: يجعله مقوسا كالهلال، وقيل: أفقيا معترضا بينه وبين القبلة، وقيل: يخطه يمينا وشمالا، ويستحب أن يدنو المصلي من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف وسترة الإمام سترة لمن خلفه. وإطلاق الأربعين في إثم المار بين يدي المصلي للمبالغة في تعظيم

الأمر على المار وليس العدد مرادا، فقد ورد عند ابن ماجه "لكان أن يقف مائة عام خيرا من الخطوة التي خطاها" ولا شك أن الإثم يختص بمن يعلم النهي وارتكبه، إذ قوله "لو يعلم المار" دليل على توقف هذا الجزاء على العلم. وقد قسم بعض المالكية أحوال المار والمصلي في الإثم إلى أربعة أقسام: 1 - يأثم المار دون المصلي، كأن يصلي إلى سترة في شارع غير مطروق. 2 - يأثم المصلي دون المار، كأن يصلي في طريق مشروع مسلوك بغير سترة ولا يجد المار مندوحة [هذا غير مسلم، بل على المار أن يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته]. 3 - يأثم المصلي والمار جميعا، كأن يصلي في طريق مسلوك بغير سترة ويجد المار مندوحة، فيأثمان. 4 - لا يأثمان، كأن يصلي إلى سترة في غير طريق مشروع، ولم يجد المار مندوحة [وهذا أيضا غير مسلم، بل على المار أن يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته]. أما كيف يفعل إذا رأى مارا بينه وبين سترته؟ فإن الأحاديث تأمر بمنعه من المرور، ففي مسلم عن أبي صالح السمان قال: بينما أنا مع أبي سعيد يصلي يوم الجمعة إلى شيء يستره، إذ جاءه رجل شاب من بني أبي معيط، أراد أن يجتاز بين يديه، فدفع في نحره، فنظر فلم يجد مساغا إلا بين يدي أبي سعيد، فعاد، فدفع في نحره أشد من الدفعة الأولى، فمثل قائما، فنال من أبي سعيد، ثم زاحم الناس فخرج، فدخل على مروان، فشكا إليه ما لقي. قال: ودخل أبو سعيد على مروان، فقال له مروان: مالك ولابن أخيك؟ جاء يشكوك. فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه

فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان". والذي عليه جمهور الفقهاء أنه يستحب للمصلي إلى سترة أن يشير للمار أو يسبح إذا كان بعيدا عنه، وليس له أن يمشي إليه ليرده، فإن كان قريبا منه استحب له أن يرده برفق بيده، فإن أبى فله أن يدفعه بشدة، ثم له أن يقاتله بغير سلاح، فإن هلك فلا قود عليه باتفاق، وفي وجوب ديته مذهبان. والجمهور على أن الصلاة لا يقطعها مرور من مر، وفي رواية عن أحمد يقطعها مرور الكلب الأسود، وفي النفس من قطعها بمرور الحمار والمرأة شيء واستند إلى أحاديث قال عنها الجمهور: إنها منسوخة أو مؤولة، وهذه الأحاديث وتأويلها مذكورة في كتابنا فتح المنعم فليرجع إليها من شاء.

كتاب مواقيت الصلاة

كتاب مواقيت الصلاة 26 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني". -[المعنى العام]- في مجال التنافس في الطاعات، ورغبة في التسابق إلى الخيرات يسأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القربات. أي العمل الصالح أحب إلى الله؟ وأكثر ثوابا؟ ويجيبه صلى الله عليه وسلم: أحب الصالحات إلى الله المحافظة على أداء الصلوات في مواقيتها، ويرى ابن مسعود أنه -بحمد الله -يقوم بهذا العمل الصالح، لكنه يجب أن يترقى ويزداد فيسأل: ثم ماذا بعد هذا؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم بر الوالدين، ورعاية أمورهما والإحسان إليهما، قال ابن مسعود: ثم ماذا من الأعمال أحب إلى الله بعد الصلاة على وقتها وبر الوالدين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم الجهاد في سبيل الله. ورغب ابن مسعود في الاسترسال في السؤال حرصا على الاستزادة من العلم ومعرفة أبواب الخير، لكنه استشعر، أو خاف ملل الرسول صلى الله عليه وسلم فسكت شفقة منه عليه، وهو يعلم أنه لو سأل زيادة لأجيب.

-[المباحث العربية]- (أي العمل أحب إلى الله؟ ) في بعض الروايات الصحيحة "أي العمل أفضل" وفي بعضها "أي الأعمال أقرب إلى الجنة" والظاهر أن بعض الصيغ من تصرف الرواة بالمعنى. (الصلاة على وقتها) المقصود الصلاة أول وقتها على الأصح، فلفظ "على" يدل على الاستعلاء على جميع الأوقات، وفي رواية "الصلاة لوقتها" فاللام للابتداء، وقيل: إن اللام بمعنى "في" فالمراد أداؤها في أي جزء من أجزاء وقتها. وعلى هذا تكون رواية "على وقتها" دالة على التمكن من الأداء في الوقت. (ثم أي؟ ) المضاف إليه محذوف لفظا، والتقدير: ثم أي العمل أفضل؟ . (بر الوالدين) البر ضد العقوق، يقال بررت والدي، بفتح الباء وكسر الراء أبره، بفتح الباء، وأنا بر به، بفتح الباء، وبار، وجمع البر أبرار، وجمع البار البررة. (حدثني بهن رسول الله) القائل عبد الله بن مسعود، وفيه إشارة لتقرير وتأكيد ما تقدم وأنه باشر السؤال وسمع الجواب. (ولو استزدته لزادني) أي ولو استزدته من هذا النوع، وهو مراتب أفضل الأعمال، وفي رواية "فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه" أي إشفاقا وإبقاء عليه ورفقا به. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في المراد من قوله "الصلاة على وقتها" هل المقصود أول وقتها؟ أو طيلة وقتها؟ على رأس القائلين بالرأي الأول ابن بطال، إذ قال: في الحديث أن البدار إلى الصلاة في أول وقتها أفضل من التراخي فيها، لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب.

وعلى رأس القائلين بالرأي الثاني ابن دقيق العيد، إذ قال: ليس في لفظ الحديث ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. اهـ. ونحن نميل إلى رأي ابن بطال، لأن إخراجها عن وقتها محرم ولفظ "أحب" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت، يؤيد ما ذهبنا إليه ما أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي بلفظ "الصلاة في أول وقتها" وهذا لا يمنع فضل الصلاة في وقتها، لكن الصلاة في أول وقتها أفضل من الصلاة في آخر وقتها ومن جميع الأعمال. أما بر الوالدين فالآيات تقتضي الوصية بهما، والأمر بطاعتهما، ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك، فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} وقد اختلف العلماء في تقديم حق الأم في البر على الأب، فذهب الجمهور إلى أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، أخذا بالحديث الصحيح "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله. من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" وبالحديث الصحيح "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم بالأقرب فالأقرب". ونقل بعضهم عن مالك أنهما في البر سواء، أخذا مما روي عنه أنه سأله رجل، قال: طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال: أطع أباك، ولا تعص أمك. قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى أن برهما سواء، إذ قال الليث حين سئل عن المسألة بعينها: أطع أمك، فإن لها ثلثي البر. هذا وتقديم الصلاة على البر لأن الصلاة شكر لله، والبر شكر للوالدين, وشكر الله مقدم على شكر الوالدين، موافقة لقوله تعالى {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} وأما تقديم البر على الجهاد فلأن المراد هنا من الجهاد غير فرض

العين، وهو يتوقف على إذن الوالدين، وخص الثلاثة بالذكر لأنها علامة على غيرها، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها في غير عذر، مع خفة مؤونتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك. فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. قاله الطبري. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما سبق: ]- 1 - أن أعمال البر يفضل بعضها بعضا. 2 - الرفق بالعالم والتوقف من الإكثار عليه خشية الملل. 3 - ما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة عليه. 4 - وفيه حسن المراجعة في السؤال. 27 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا".

-[المعنى العام]- الصلاة مناجاة للرب، ووقوف بين يديه، تضرع ودعاء، وتسبيح وذكر واستغفار، إن هي أديت كما ينبغي تجلو القلوب من خبث الغل والحق والحسد والظن السيئ وتصفى النفوس من الحرص والتكالب على متاع الحياة الدنيا، وتحصن المسلم ضد شهوات النفس، ووساوس الشيطان ومغرياته وقد شاءت حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن يوزع هذا الدواء الروحي على ساعات الليل والنهار، خمس صلوات في كل يوم وليلة، ليرجع المؤمن إلى ربه بين الحين والحين، وكلما جذبه الشيطان ناحية الشر جذبته الصلاة ناحية الخير، يخطئ فيغفر له، فهي في يسرها وقربها من العبد ومحوها للخطايا كنهر يجري بالماء أمام البيت، يغتسل فيه جاره خمس مرات في كل يوم وليلة. كما علق به التراب، أو لحق به العرق، أو أصابه قذر الطريق، قام الغسل بإزالة كل ذلك، وأعاد إليه النضارة والنظافة والصفاء. سؤال وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ليعرفوا قدر الصلاة وأثرها فيحرصوا عليها ويحافظوا على أدائها، سؤال من واقع حياتهم، وهم الذين يعتزون بالماء، ويعرفون قدر الاغتسال به، يقول لهم: أخبروني لو أن نهرا من الماء العذب الصافي، يجري أمام بيت أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات. هل يبقى على جسده وسخ؟ فيقولون بداهة: لا. لا يبقى من وسخ على الجسم، فيقول: ذلك مثل الصلوات الخمس، تطهر المسلم بين الحين والحين، والصلاة إلى الصلاة تكفر ما بينهما، ويمحو الله بها الخطايا. -[المباحث العربية]- (أرأيتم) أي أخبروني بجواب هذا الاستفهام، وفي دلالة "أرأيتم" على معنى أخبروني مجازان، الأول في الاستفهام الذي هو طلب الفهم بأن نريد منه مطلق الطلب عن طريق مجاز مرسل علاقته الإطلاق بعد التقييد. الثاني في "رأي" التي هي بمعنى علم أو أبصر، بأن نريد منها المسبب عن العلم

أو عن الإبصار وهو الإخبار، عن طريق المجاز المرسل أيضا علاقته السببية والمسببية فيتحصل من الاستفهام والفعل طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبروني. (لو أن نهرا) "لو" يقتضي أن يدخل على الفعل، وأن يجاب، لكنه وضع الاستفهام الآتي موضع جوابه، والتقدير لو ثبت أن نهرا صفته كذا وكذا لما بقي من الدرن شيء، والنهر بفتح الهاء وسكونها ما بين جنبتي الوادي سمي بذلك لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه، والمراد منه هنا نفس الماء تسمية للشيء باسم محله، وجملة "لو أن نهرا" ... مستأنفة لبيان الحال المستخبر عنها: كأنه لما قال: أرأيتم؟ قالوا: عن أي شيء تسأل؟ فقال: لو أن نهرا ... إلخ. (بباب أحدكم) أي أمام أحدكم، فهو كناية عن قرب النهر وسهولته ويسره، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنهر، أو خبر "أن". (يغتسل فيه) الجملة حال من النهر بعد وصفه، أو من ضميره في متعلق الجار والمجرور، أو من "أحدكم" أو خبر بعد خبر. (كل يوم خمسا) "خمسا" منصوب على المفعول المطلق المبين للعدد. (ما تقول؟ ذلك يبقي من درنه؟ ) الخطاب لكل من يتأتى خطابه، وفي رواية "ما تقولون"؟ أي ماذا تظن فتقول أيها المخاطب؟ أو ماذا تظنون فتقولون؟ أذلك يبقي من درنه؟ والدرن الوسخ، وقد يطلق على الحب الصغير الذي يظهر في بعض الأحيان في بعض الأجسام، لكن المراد هنا الأول لرواية "فأصابه وسخ أو عرق، فكلما مر بنهر اغتسل فيه" و"من" في "من درنه" تبعيضية، والتقدير: أذلك الغسل يبقي بعض درنه؟ . (قالوا: لا يبقي من درنه شيئا) كان من الممكن أن يقولوا: لا. لكنهم صرحوا بمضمون الجواب للتأكيد والمبالغة في نفي الدرن. و"يبقي" بضم الياء وكسر القاف، والفاعل ضمير مستتر يعود على الاغتسال و"شيئا" مفعول به و"من درنه" جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من "شيئا" وأصله صفة له

وقدمت عليه فأعربت حالا، وفي رواية "لا يبقى من درنه شيء" يفتح ياء "يبقى" ورفع "شيء" على الفاعلية. (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا تقرر عندكم هذا الأمر فذلك مثل الصلوات، وجملة "يمحو الله بها الخطايا" مستأنفة، أو حال من الصلوات. والكلام على سبيل تشبيه التمثيل، أي تشبيه هيئة بهيئة، والمقصود منه هنا إبراز المعقول في صورة المحسوس، لتقريبه إلى الأذهان، وليستقر الحكم في النفس فضل استقرار وتمكن، ووجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسة في بدنه، ويطهره الماء الكثير، فكذلك الصلوات تطهر العبد من أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنبا إلا أسقطته. -[فقه الحديث]- قال الطبري: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، ويشكل عليه ما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا "الصلوات الخمس كفارة لما بينها، ما اجتنبت الكبائر" فعلى هذا القيد [ما اجتنبت الكبائر] يحمل المطلق. اهـ. ولا خلاف في أن المراد من الخطايا في الحديث، الذنوب الصغائر خاصة يؤكد ذلك تشبيهها بالدرن، والدرن صغير جدا بالنسبة لما هو أكبر من الأقذار أو الحبوب. نعم الصغائر تكفر أيضا بصالحات أخرى، كصيام رمضان، وصلاة الجمعة، وباجتناب الكبائر، مصداقا لقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بل ببعض النوافل، كصوم يوم عرفة التي نحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله. فإن قيل: لو اجتنبت الكبائر فماذا تكفر الصلاة؟ أجيب بأن اجتناب الكبائر لا يتم إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر.

فإن قيل: إذا كفر اجتناب الكبائر الذنوب الصغائر فماذا تكفر الأعمال المندوبة الواردة في الأحاديث؟ أجيب بأن الأعمال الصالحة المكفرة للصغائر إذا لم توجد صغائر رفعت من الدرجات، وأعطت من الحسنات ما يعادل تكفيرها للصغائر، أو كفرت من الكبائر بقدرها. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استخدام المعلم سؤال المتعلمين ليستقر الجواب في نفوسهم. 2 - استعمال التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس. 3 - فضيلة المحافظة على الصلوات الخمس. 28 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون".

-[المعنى العام]- كما فضل الله بعض الناس على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض فضل بعض الأوقات على بعض، وتفضيل الأماكن والأوقات تفضيل للعبادة فيهما على العبادة في غيرهما. وقد فضل الله وقتي العصر والفجر على بقية أوقات اليوم، لأن الفجر وقت النوم، ووقت الخلود إلى الراحة، ووقت البرد في الشتاء، ولأن العصر وقت انشغال الناس بالأعمال والكسب، فكان الترغيب في المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين، وكان فضل الله في الإثابة على صلاتهما عظيما، وشاء الله أن يباهي بعباده المصلين ملائكته، ينزل من السماء إلى الأرض ملائكة في هذين الوقتين. تنزل ملائكة الفجر فتشهد الصلاة مع المصلين، وتستمر إلى صلاة العصر، فتنزل طائفة أخرى من الملائكة تجتمع مع الأولى في صلاة العصر مع المصلين، ثم تصعد طائفة النهار إلى ربها، وتبقى ملائكة الليل فتبيت حتى الفجر، فتنزل ملائكة النهار فتجتمع مع ملائكة الليل في صلاة الفجر، ثم تصعد ملائكة الليل، فيسألهم ربهم سؤال استنطاق: كيف تركتم عبادي؟ وهو أعلم بهم، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون. فيا سعادة من شهدت صلاته وشهدت له الملائكة، ويا خسارة من أضاع هذا المغنم. -[المباحث العربية]- (يتعاقبون فيكم ملائكة) مذهب الأخفش ومن تابعه من النحويين في هذا وفي أمثاله أن الواو في "يتعاقبون" علامة جمع المذكر، وليست الفاعل، وإنما الفاعل "ملائكة" وحكوا مثله في قول العرب: أكلوني البراغيث، وحملوا عليه قوله تعالى {وأسروا النجوى الذين ظلموا} وقال سيبويه وأكثر النحويين: لا يجوز إظهار الضمير مع وجود الفاعل

الظاهر، ويتأولون هذا وأمثاله، ويجعلون الضمير هو الفاعل، ويقدرون له ما يعود عليه نحو: لله ملائكة يتعاقبون فيكم، و"ملائكة" المذكور بعد الفعل أما بدل من الضمير، وإما خبر لمبتدأ محذوف. ومعنى "يتعاقبون" تأتي طائفة عقيب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية والخطاب في "فيكم" للمصلين. (وملائكة بالنهار) إعادة النكرة نكرة تفيد أن الثانية غير الأولى. (ثم يعرج الذين باتوا) عرج من باب نصر، والعروج الصعود. (فيسألهم) أي ربهم، كما صرح به في بعض الروايات، ولم يصرح به هنا للعلم به، ومقصود السؤال أن ينطقوا بالجواب. إذ هو أعلم بهم منهم. (تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) جملة "وهم يصلون" حال وكان الترتيب الطبيعي أن يخبروا عن حالة الإتيان، ثم عن حالة الترك، لكنهم لم يراعوا الترتيب الوقوعي، لأنهم طابقوا السؤال "كيف تركتم عبادي" فقدموا جوابه، ثم زادوا عليه. -[فقه الحديث]- ذهب أكثر العلماء إلى أن هؤلاء الملائكة هم الحفظة، الذين يكتبون أعمال العباد، فسؤاله لهم عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكتبهم إياها عليهم والغرض من سؤالهم على هذا مدح المؤمنين، والثناء عليهم رفعا لدرجاتهم وزيادة في الرضا عنهم. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكونوا غير الحفظة فسؤاله لهم ما سبق في علمه بقوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} وأنه ظهر لهم ما سبق في علمه بقوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} قال القرطبي: وهذا من خفي لطفه، وجميل ستره جل شأنه، إذ لم يطلعهم إلا على حال عباداتهم، ولم يطلعهم على حالة شهواتهم وما يشبهها. اهـ. وهذا أيضا إنما يصح على أنهم غير الحفظة. وتخصيص العروج بالذين باتوا في الحديث، إما للاكتفاء بذكر أحد

الأمرين عن الآخر، وإما لأن الليل مظنة المعصية، ومظنة التكاسل. لكن جاء مصرحا بعروج كل من ملائكة الليل والنهار وسؤالهم في رواية ابن خزيمة. فلا حاجة إلى التكلف والتعليل فالتخصيص للاكتفاء واختيار المبيت عند الاكتفاء لأن الليل مظنة المعصية، فإذا أطاعوا فيه كانوا أكثر طاعة في غيره. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الصلاة أعلى العبادات، لأنه عليها وقع السؤال والجواب. 2 - فيه إشارة إلى عظم هاتين الصلاتين. 3 - وفضل هذين الوقتين. 4 - وفيه الإيذان بأن الملائكة تحب هذه الأمة ليزدادوا فيهم حبا، ويتقربون بذلك إلى الله تعالى. 5 - وفيه دلالة على أن الله تعالى يكلم ملائكته. 6 - وفيه الإخبار بالغيب.

29 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وأقم الصلاة لذكري". -[المعنى العام]- حينما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غزوة خيبر، وفي ليلة مظلمة بعد أن تعبوا من المسير، نزلوا يستريحون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يحرسنا؟ فيظل يقظا لا ينام ليوقظنا لصلاة الفجر؟ قال بلال: أنا يا رسول الله. قال: فاحفظنا, لا تفوتنا صلاة الفجر، وناموا، وقام بلال يصلي ما قدر له، ثم أسند ظهره إلى بعير فنام، فلم يستيقظ أحد إلا بعد أن طلعت الشمس، وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فزعا وقام الناس فزعين. قال: يا بلال، ألم أقل لك؟ قال: يا رسول الله. بأبي أنت وأمي أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك من النوم الغالب لقوى البشر، ما ألقيت على نومة مثل هذه النومة قط، وأخذ الصحابة يهمسون: ما كفارة نومنا عن الصلاة؟ وسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، ليس في النوم تفريط ولا إثم، إنما التفريط والإثم على من تكاسل وأهمل الصلاة حتى خرج وقتها، فمن نام عن صلاة، أو نسيها فليصل فورا إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، قال تعالى {وأقم الصلاة لذكري} أي لتذكرك إياها وإياي. -[المباحث العربية]- (من نسي صلاة) في رواية في الصحيح "من نسي صلاة أو نام عنها" وفيه "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها" والمقصود من الصلاة فريضة أي وقت، وقيل بدخول السنن الراتبة، وسيأتي إيضاحه في فقه الحديث. (فليصل) المفعول محذوف، أي فليصلها، وفي الصحيح رواية "فليصلها" وفيه "فكفارتها أن يصليها".

(إذا ذكرها) أي حين ذكره لها دون تأخير. (لا كفارة لها إلا ذلك) أي إلا أداؤها. {وأقم الصلاة لذكري} اللام للتعليل أو للتوقيت، أي لأجل ذكري، أو حين ذكري، و"ذكري" مصدر مضاف للفاعل، أي لذكري لك، أي لأذكرك بالمدح في الملأ الأعلى، وهذا بعيد عن موطن الاستشهاد، لأن الذكر في الملأ الأعلى للأداء، والمشهود هنا القضاء، أو المعنى لتذكيري لك بها، فالذكر بمعنى التذكير وهذا أولى، أو مضاف إلى المفعول، أي لتذكرني بها بعد نسيان، وهو أقرب. وفي الصحيح "فليصلها إذا ذكرها" فإن الله يقول {وأقم الصلاة لذكري} وهي جزء آية في سورة طه، وكاملها {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وقد قرئ "للذكرى" بفتح الراء، أي للتذكر. -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - قال النووي: يؤخذ من قوله "من نسي صلاة فليصل" في رواية "فليصلها" وجوب قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر، كنوم ونسيان، أو بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال: وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يجب قضاء الفائتة بغير عذر، وزعم أنها أعظم من أن يخرج من وبال معصيتها بالقضاء، قال: وهذا خطأ: من قائله وجهالة. اهـ. والخطأ والجهالة من قائله ناشئان من أنه ظن أن القضاء من غير المعذور يخرج من وبال المعصية، ولم يقل أحد بذلك. 2 - وظاهر قوله "إذا ذكرها" يفيد وجوب المبادرة وعدم التأخير في قضاء الفائتة عن وقت الذكر، لكنه محمول على الاستحباب، ويجوز التأخير

عند الجمهور، سواء فاتت بعذر أو بدون عذر، وحكي عن بعضهم أنه يجب قضاؤها على الفور إن فاتت بدون عذر، أي فيأثم بتأخيرها وتصح. 3 - استدل بقوله "لا كفارة لها إلا ذلك" أنه لا يجب غير إعادتها، خلافا لمن قال: تعاد المقضية مرتين، مرة عند ذكرها، ومرة عند حضور مثلها الآتي أخذا بظاهر رواية في مسلم "فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" والجمهور على أن المراد من هذه الرواية أنه إذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد. قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بالمرتين وجوبا، ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب، ليحوز فضيلة الوقت في القضاء لكن قال الحافظ ابن حجر: ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضا، بل عدوا الحديث غلطا من راويه. قال: ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين "أنهم قالوا: يا رسول الله. ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ قال: لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم". 4 - استدل بعضهم بتنكير "صلاة" في قوله "من نسي صلاة" على عموم الفريضة والنافلة فقال بوجوب قضاء الفريضة، وباستحباب قضاء النافلة الراتبة. قال النووي: وإن فاتته سنة راتبة، ففيها قولان للشافعي وأصحهما أنه يستحب قضاؤها، وقيل: لا يستحب، وأما السنن التي شرعت لعارض كصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوهما، فلا يشرع قضاؤها بلا خلاف. 5 - استدل باستشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} على أن شرع من قبلنا شرع لنا، لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه السلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ.

كتاب الآذان

كتاب الآذان 30 - عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم بل بوقا مثل قرن اليهود فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة". -[المعنى العام]- كان المسلمون بمكة قليلي العدد، يستخفون كثيرا في صلاتهم، ولا يكادون يجتمعون، وإذا اجتمعوا ترقبوا دخول الوقت، وتحينوا حينه وزمنه ثم قاموا إلى الصلاة دون أذان أو إقامة. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى المسجد النبوي وكثر المسلمون، ولم يعودوا يخشون الجهر بالعبادة، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في وسيلة يجمع بها الناس للصلاة، فقال بعضهم: نرفع راية، فإذا رآها المسلمون علموا أنه قد حان الوقت للصلاة فجاءوا، ولم يقبل هذا الاقتراح، لأن الراية لا يراها إلا قلة من المسلمين، ثم إنها لا ترى بالليل، فلا تنفع للإعلان بالعشاء والفجر. قال بعضهم: نوقد نارا عند حلول وقت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: إن رفع النار من فعل المجوس، ولا نحب أن نتشبه بهم، قال بعضهم: نتخذ قرنا وبوقا ننفخ فيه، فيرتفع الصوت، فيسمعه من يريد الصلاة.

قال صلى الله عليه وسلم: اتخاذ البوق من فعل اليهود، فلا نتشبه بهم، قال بعضهم: نتخذ ناقوسا. قال صلى الله عليه وسلم: اتخاذ الناقوس من فعل النصارى، سكت صلى الله عليه وسلم قليلا يفكر. أليس النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا؟ أليست المشابهة في عمل من أعمالهم أقل خطرا على المسلمين من مشابهة غيرهم؟ لم لا نتخذ ناقوسا حتى يأتي أمر الله؟ فأمر صلى الله عليه وسلم بصنع ناقوس. قال عمر: لم لا نبعث الآن رجلا عالي الصوت إلى مكان مرتفع، أو إلى باب المسجد فينادي بالصلاة؟ يجمع الناس لها، ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي عمر، فقال: يا بلال. قم وناد بالصلاة، فقام بلال فنادى: الصلاة جامعة. وانصرف المسلمون إلى بيوتهم تلك الليلة، وهم مشغولون بما دار من حديث، ومنهم عبد الله بن زيد. قال: "انصرفت وأنا مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت في منامي، وأنا بين النائم واليقظان، رجلا يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله. أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فلما أصبح عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى، وكان الوحي قد نزل بالأذان، فقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: إنها لرؤيا حق. قم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فيؤذن به، فإنه أندى منك صوتا، وسمع عمر الأذان وكان قد رأى في منامه ما رأى عبد الله بن زيد، فخرج يجري يجر رداءه، فقال: يا رسول الله. والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل هذا. -[المباحث العربية]- (كان المسلمون حين قدموا المدينة) مهاجرين من مكة. (فيتحينون الصلاة) أي يقدرون أحيانها، ليأتوا إليها، والحين الوقت والزمان.

(ليس ينادي لها) اسم ليس ضمير الحال والشأن، وجملة "ينادي لها" خبر ليس، والجملة حالية. (اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى) كان ناقوس النصارى أولا خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، فتحدث صوتا، ثم صاروا إلى الناقوس المعروف اليوم في الكنائس والمدارس. (بل بوقا مثل قرن اليهود) "بوقا" مفعول به لفعل محذوف، أي اتخذوا بوقا، والبوق والقرن اسطوانة واسعة من الطرف البعيد، ضيقة من الطرف الذي ينفخ فيه، تضخم الصوت وترفعه، ويقال له: الصور، والشابور. (أولا تبعثون رجلا) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أتقتدون بالنصارى واليهود ولا تبعثون رجلا؟ فالهمزة لإنكار الجملة الأولى وتقرير الجملة الثانية. (ينادي بالصلاة) مراده من النداء الإعلام بالصلاة بأي لفظ، لا بلفظ الأذان. (قم. فناد بالصلاة) المراد الإعلام المحض. والمراد من الأمر "قم" قيل: الوقوف، وقيل: الذهاب إلى البعد. -[فقه الحديث]- ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، والمحققون من العلماء يرون أن الصلاة فرضت في الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان في الظهر والعصر والعشاء، ثم بعد أن استقر فرض الرباعية منها خفف منها في السفر. واختلف في السنة التي شرع فيها الأذان، والراجح أن ذلك كان في

السنة الأولى، وقيل: كان في الثانية، أما الأحاديث التي وردت بأن الأذان شرع قبل الهجرة بعد الإسراء فهي ضعيفة لا تصح، وهي مروية عند الطبراني والدارقطني وابن مردويه قال الحافظ ابن حجر: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك. وظاهر حديث الباب أن النداء الأول الذي تم في جلسة التشاور كان مجرد الإعلان بحضور الوقت، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات أن اللفظ الذي نادى به بلال للصلاة قوله "الصلاة جامعة". وحديث الباب لا يتعرض لبدء الأذان المشروع المعروف ولا لألفاظه كيف جاءت؟ ولا من جاء بها؟ وكيف أقرت؟ والأحاديث التي تعرضت لذلك كثيرة، رواها أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وقد عرضناها في المعنى العام عن عبد الله بن زيد، ولم يخرج البخاري ومسلم حديثه، لأنه ليس على شرطهما، وإن كان صحيحا. والحكمة في إعلام الناس بالأذان على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره على لسان غيره. وقد ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء، إظهار شعائر الإسلام وكلمة التوحيد، والإعلام بدخول وقت الصلاة، وبمكانها، والدعاء إلى الجماعة. والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول، وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان. والسبب في تخصيص بلال بالنداء أنه أندى صوتا، أي أرفع وأطيب. والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يباشر الأذان بنفسه. والأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس بالنصوص الصحيحة

والإجماع، ولا يشرعان لغير الخمس باتفاق، ولكن ينادي للعيدين والكسوفين والاستسقاء: الصلاة جامعة. وفي حكمهما قيل سنة، وقيل فرض كفاية، وقيل فرض كفاية في الجمعة سنة في غيرها. وقال ابن المنذر: هما فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر. ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول الوقت، وأما الصبح فيجوز أن يؤذن له بعد نصف الليل، وقال أبو حنيفة: لا يجوز قبل الفجر. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - مشروعية التشاور في الأمور لا سيما المهمة. 2 - أنه ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم يفعل صاحب الأمر ما ظهرت له فيه المصلحة. 3 - وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده ولو أخطأ. 4 - وأن المطلوب مخالفة أهل الباطل في أعمالهم. 5 - وفيه مراعاة المصالح والعمل بها، فإنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة بسبب أشغالهم نظروا في ذلك. 6 - استدل بعضهم بقوله: "يا بلال. قم. فناد بالصلاة" على شرعية الأذان من قيام، وأنه لا يجوز الأذان قاعدا، وفيه نظر لاختلاف المراد من الأمر "قم". 7 - قد يؤخذ من الحديث أن الأذان للرجال، والجمهور على أنه لا يصح أذان المرأة للرجال. 8 - واستحباب كون المؤذن رفيع الصوت حسنه.

31 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا". -[المعنى العام]- طلب صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يتقدم إلى الصف الأول أولوا العقول والفهم والعلم، ولكن كيف يستجيبون لذلك؟ وهم المتواضعون الذين يحسنون الظن بغيرهم؟ قبل أن يحسنوه بأنفسهم؟ من منهم الذي يدعي لنفسه أنه خير القوم عقلا وعلما حتى يتقدم؟ لقد دفعهم تواضعهم وهضمهم لأنفسهم إلى أن يتأخروا عن الصف الأول، حتى كاد يختل توازنه وتراصه، بل حتى خلا الصف الأول، وأصبح بين الإمام وبين المأمومين ما يسع صفا أو أكثر، لقد رغب صلى الله عليه وسلم في الصف الأول كثيرا، قال: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم" وقال "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف

النساء آخرها، وشرها أولها" ولم يتغلب الترغيب على هضم النفس والتواضع فظلوا يتأخرون عن الصف الأول، حتى قال صلى الله عليه وسلم "لا يزال قوم يتأخرون [عن الصف الأول] حتى يؤخرهم الله" وربط فضل الصف الأول بميزة يؤمن بها الصحابة، ربطه بالأذان وفضل المؤذنين وقد علم عندهم أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة، فقال: لو يعلم المسلمون فضيلة المؤذن وفضيلة الصلاة في الصف الأول لاستبقوا إليهما ولتنافسوا وتباروا في الوصول إليهما حتى يضطروا إلى القرعة تفصل بينهم، وتقدم بعضهم، ولما كان المقام بيان التسابق في الخيرات اقتضى أن يقرن بذلك الدعوة إلى التسابق إلى الصلاة والتبكير إليها، وبخاصة صلاة العشاء وصلاة الفجر، وهما أثقل صلاة على المنافقين فقال: لو يعلم المسلمون ما في التبكير إلى الصلاة من الأجر لتسابقوا بشأنه ولو يعلمون ما في صلاة العشاء والفجر من الأجر لأتوهما سراعا ولو كانوا مرضى لا يستطيعون المشي، لأتوهما حبوا على أيديهم وأرجلهم. -[المباحث العربية]- (لو يعلم الناس ما في النداء) المراد به الأذان، أي لو يعلمون ما في مباشرته وأدائه من الأجر. (والصف الأول) ما يلي الإمام مطلقا، وقيل: أول صف تام يلي الإمام لا ما يتخلله شيء، وقيل: المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف وهو أضعف الأقوال، وأقواها الأول. (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) الاستهام الاقتراع، والمعنى أنهم لو علموا فضيلة الأذان، ثم لم يجدوا طريقا يحصلونه به، لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله. (ولو يعلمون ما في التهجير) أي التبكير إلى الصلاة، أي صلاة كانت وخصه الخليل بالجمعة، والصواب المشهور الأول.

(ولو يعلمون ما في العتمة والصبح) أي صلاة العشاء والفجر. (لأتوهما ولو حبوا) بفتح الحاء وسكون الباء، وهو المشي على اليدين والرجلين. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام، لأنه أولى بالإكرام ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو، لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم. ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس، كمجالس العلم، والقضاء، والذكر والمشاورة، ومواقف القتال، وإمامة الصلاة، والتدريس، والإفتاء، وإسماع الحديث ونحوها، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث فوق ذلك: ]- 1 - فضيلة الأذان والمؤذن. 2 - فضيلة الصف الأول فالأول. 3 - مشروعية القرعة عند التنازع وعدم المرجح. 4 - فضيلة التهجير والتبكير إلى الصلاة. 5 - جواز تسمية العشاء عتمة، وقد ثبت النهي عنه، قال النووي: وجوابه من وجهين. أحدهما أن هذه التسمية بيان للجواز، وأن ذلك النهي ليس للتحريم، والثاني وهو الأظهر أن استعمال العتمة هنا لمصلحة، ولنفي مفسدة، لأن العرب كانت تستعمل لفظ العشاء في المغرب، فلو قال: لو يعلمون ما في العشاء والصبح لحملت على المغرب، وفسد المعنى، وفات المطلوب، فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما.

6 - فيه الحث على حضور جماعة العشاء والفجر، والفضل الكثير في ذلك لما فيهما من المشقة على النفس، من تنغيصهما أول النوم وآخره، ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين. 32 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". -[المعنى العام]- لصلاة الجماعة فضيلة يسعى إليها كل مسلم، وللمبادرة إلى اقتناصها من أولها فضيلة يحرص عليها كل مصل، ولهذا كان الصحابة يحرصون على هاتين الفضيلتين كل الحرص، وكانوا يسارعون ويتسابقون، لدرجة الجري والقفز. وللصلاة قدسيتها، لأنها مناجاة لله، وساحة المناجاة والتهيؤ لها يعطي حكمها من التقديس والوقار. أمام هذين الوضعين كان التوجيه النبوي الكريم.

سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوات وحركات أصحابه يسعون ويهرولون للحاق به وهو في الصلاة، حيث كانت مواضع وضوئهم بعيدة عن مكان الصلاة فلما سلم من صلاته قال لهم: ما هذه الجلبة؟ ولماذا ما سمعت من حركات؟ قالوا: أسرعنا الخطا، وتعجلنا اللحاق بك، لندرك أكبر قدر من الائتمام والفضيلة. قال: لا تعودوا لمثلها، ولا تسعوا عند إتيانكم الصلاة ولكن ائتوها مشيا قريب الخطا، وعليكم بالسكينة في طريقكم، والخشوع والوقار في مشيتكم لها، فإن أحدكم إذا كان يقصد المسجد للصلاة، لا يدفعه لذلك إلا الصلاة، فهو في خطواته كما لو كان في صلاة، له ثوابها ويكتب له أجرها، فما أدركتم مع الإمام فصلوا معه، وما سبقكم به منها فأتموه، وائتوا به بعد سلام الإمام. -[المباحث العربية]- (بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع) "بينما" أصله "بين" زيدت عليه الميم والألف، وربما تزاد الألف فقط، فيقال "بينا" وهي ظرف زمان بمعنى المفاجأة، ويضاف إلى جملة، من فعل وفاعل، أو من مبتدأ وخبر ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى، ويصدر بإذ، أو إذا، أو الفاء، وبدون شيء من ذلك. (جلبة الرجال) "أل" في "الرجال" للعهد، أي المصلون، والمراد بعضهم، وفي رواية في الصحيح "جلبة رجال" بالتنكير، والجلبة الأصوات المختلطة ولم تعرف أسماؤهم، وسمى منهم الطبراني أبا بكرة. (ما شأنكم) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والشأن بالهمز وبالتخفيف هو الحال. (استعجلنا إلى الصلاة) السين والتاء للطلب، أي طلبنا العجلة وقصدناها أو للصيرورة، أي صرنا عجلين. (فلا تفعلوا) المفعول محذوف، أي لا تفعلوا العجلة والإسراع، والفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا تأخرتم فلا تفعلوا.

(إذا أتيتم الصلاة) أي إذا قصدتم وتحركتم لإتيانها. (فعليكم بالسكينة) الفاء في جواب "إذا" و"عليكم" اسم فعل أمر بمعنى الزموا، والياء زائدة داخلة على المفعول به، ومثلها كثير في الأحاديث الصحيحة، كقوله "عليكم برخصة الله". "فعليه بالصوم". "عليكم بقيام الليل" وقد لا تزاد كقوله تعالى {عليكم أنفسكم} وقد جاء في رواية في الصحيح "عليكم السكينة" ويجوز رفع السكينة على أنها مبتدأ مؤخر و"عليكم" خبر مقدم. والسكينة الوقار، وفي رواية "وعليه السكينة والوقار" فالعطف تفسيري مؤكد. وقيل إن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة من غض البصر وخفض الصوت ونحو ذلك. (فما أدركتم فصلوا) أي فالقدر الذي أدركتموه من الصلاة مع الإمام فصلوا معه. (وما فاتكم فأتموا) لفظ الإتمام يقع على باق من شيء قد تقدم أكثره أو بعضه، فظاهره أن ما فاته هو بالنسبة له آخر صلاته لا أولها، وسيأتي أيضا ذلك في فقد الحديث. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث الندب الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعيا، سواء في ذلك صلاة الجمعة وغيرها، وسواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أو لا. اهـ. وهذا التعميم الذي ذكره النووي هو ما عليه عامة العلماء، وقد جاء عن الإمام أحمد قوله: ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئا ما لم يكن عجلة تقبح. وعن بعض اللف أن الإسراع المنهي عنه هو الإسراع المفضي إلى عدم الوقار. والأصح ما ذكره النووي. ولا يقال: إن النهي عن السعي إلى الصلاة هنا يتعارض مع الأمر به

في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} لأن المراد من السعي المنهي عنه في الحديث الجري والعجلة، لمقابلته بالأمر بالمشي، والمراد من السعي المأمور به في الآية المضي والذهاب، لمقابلته بترك البيع، والاستعمالان لغويان. قال الحافظ ابن حجر: وعدم الإسراع يستلزم كثرة الخطأ، وهو معنى مقصود لذاته، وردت فيه أحاديث، كحديث جابر عند مسلم "إن بكل خطوة درجة". واختلف الفقهاء فيما يدركه المسبوق مع الإمام، هل هو أول صلاته؟ أو آخرها؟ على ثلاثة أقوال. الأول: أن ما أدركه هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها، فلو أدرك الركعتين الأخيرتين من العشاء مثلا كانتا بالنسبة له الأوليين، فإذا سلم الإمام أتم المأموم بركعتين، لا يجهر فيهما ولا يقرأ سورة بعد الفاتحة. وهذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف ورواية عن مالك ورواية عن أحمد، ودليله روايات "وما فاتكم فأتموا" والإتمام لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وروايات "أتموا" هي الصحيحة، ورواية "فاقضوا" فيها كلام. ثم إن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكنه يطلق على الأداء، فحمله على الأداء يوافق الرواية الأخرى ولما كان مخرج الحديث واحدا والاختلاف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى يتم به الاتفاق كان ذلك أولى. ومن أدلة هذا المذهب أنه يجب على المسبوق أن يتشهد في آخر صلاته على كل قول، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له، لما احتاج إلى إعادة التشهد. ومن أدلته أيضا أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الركعة الأولى، فما أدركه المأموم إنما هو أول صلاته. المذهب الثاني: أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته، وعليه بعد تسليم الإمام أن يقضي أول صلاته، بما ينبغي له من أقوال وأفعال، على الهيئة اللازمة للأول، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد ورواية عن مالك

وهو قول كبار المالكية، دليلهم رواية "صل ما أدركت واقض ما سبقك". المذهب الثالث: أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فلا يجهر في الإتمام بعد سلام الإمام، وآخر صلاته بالنسبة إلى الأقوال، فيقضي الأوليين بالفاتحة والسورة. وهو قول مالك في المشهور، ودليله ما رواه البيهقي عن علي "ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك من القرآن". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - يؤخذ من قوله "وما فاتكم فأتموا" جواز قول: فاتتنا الصلاة. وأنه لا كراهة فيه، وكرهه ابن سيرين وقال: إنما يقال: لم ندركها. إذ فيه نسبة عدم الإدراك إلينا بخلاف فاتتنا. وكلام ابن سيرين غير صحيح. 2 - فيه أنه يستحب للذاهب للصلاة أن لا يعبث بيده، ولا يتكلم بقبح، ولا ينظر نظرا قبيحا. 3 - استدل بقوله "إذ سمع جلبة الرجال" على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يفسد الصلاة. 4 - استدل بالحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله "فما أدركتم فصلوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. وهذا قول الجمهور وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة. ولا يخفى أن إدراك فضيلة الجماعة شيء، ومساواة من أدرك تكبيرة الإحرام للمسبوق في أجر الجماعة شيء آخر. 5 - استدل بالحديث على استحباب دخول المسبوق مع الإمام في أي حال وجد عليها، وفيه حديث صريح عند ابن أبي شيبة"من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها.

33 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء". -[المعنى العام]- من أبرز أهداف الإسلام ترابط المجتمع، وغرس المودة والمحبة بين أبنائه حتى يصبح كالجسد الواحد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ولقد ولد الإسلام في مجتمع متفرق، لا يضمه هدف، ولا تجمعه غاية، يغير بعضه على بعض، وتترفع كل قبيلة على الأخرى، فحارب الإسلام هذه العصبية، وسوى بين الناس كأسنان المشط، ونادى بقرآن يتلى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}

وكان لا بد من وسائل تقود إلى غرس هذا المبدأ، وكان لا بد من تدريبات عملية تطبع المسلمين على الإحساس بهذه المساواة، فكانت صلاة الجماعة، إمامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناديها بلال بن رباح العبد الحبشي، يقف المسلمون فيها صفوفا كصفوف الملائكة. المناكب ملاصقة للمناكب والأقدام مساوية للأقدام، الغني بجوار الفقير، والقوي بجوار الضعيف، الكل يتحرك حركة واحدة، ويسكن سكونا واحدا، فإذا ما قضيت الصلاة التقى المسلمون بعضهم ببعض، فدرسوا مصالحهم، وسأل بعضهم عن أحوال بعض، وعرفوا غائبهم، لقاءات في المسجد، خمس مرات كل يوم وليلة. ودخل في الإسلام منافقون، ثقلت عليهم صلاة الفجر وصلاة العشاء وثقلت عليهم الجماعات، فكانوا يتخلفون، وكرر الرسول صلى الله عليه وسلم على مسامعهم الترغيب في الجماعة، فصموا آذانهم، فكان المناسب لهم الوعيد والتهديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فكرت، وهممت أن أنفذ فكرتي أن يؤذن المؤذن للصلاة ويقيم، ثم آمر رجلا يصلي بالناس بدلا مني، ثم آخذ بعض الفتية، وبعض حزم الحطب، فنحرق بيوت المتخلفين عن الجماعة وهم فيها، وخاف المنافقون، وضعاف الإيمان من التهديد، فحافظوا، حتى المريض الذي لا يستطيع المشي كان يأتيها بين رجلين يستند إليهما، وحتى الأعمى الذي يشكو تعثره في الظلماء، وفي السيل، لم يؤذن له بالتخلف عن الجماعة، وأصبحت الجماعة في المسجد لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، مغاضب لله ورسوله والمسلمين. {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} -[المباحث العربية]- (لقد هممت) اللام في جواب القسم، ومعنى "هممت" قصدت، والهم العزم، وقيل: دون العزم. (أن آمر بحطب فيحطب) أي فيجمع. (أن آمر بالصلاة) "أل" في "الصلاة" للجنس فهي عامة، وقل: للعهد والمعهود العشاء أو الفجر أو الجمعة، روايات.

(ثم أخالف إلى رجال) أي آتيهم من خلفهم، وقيل: أتخلف عن الجماعة وأذهب إليهم، أي أخالف المصلين قاصدا إلى بيوت رجال. والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان. (فأحرق عليهم بيوتهم) "أحرق" بتشديد الراء المكسورة للمبالغة في التحريق بالنار. (عرقا سمينا) بفتح العين وسكون الراء هو العظم الذي عليه قليل اللحم. (أو مرماتين حسنتين) "أو" للتنويع، لا للشك، والمرماة بكسر الميم، وقد تفتح، هي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفيها من اللحم وقيل: اسم سهم يرمى به في الصيد، والمقصود به الخسيس الحقير من متاع الدنيا. -[فقه الحديث]- يشير الحديث إلى صلاة الجماعة، والتشديد في الأمر بها، والتخويف من التهاون فيها، أما فضلها فقد وردت فيه أحاديث كثيرة، وأنها أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين -أو سبع وعشرين -درجة. وأما حكمها ففيه أربعة مذاهب: الأول: أنها فرض عين وشرط لصحة الصلاة، فلا تصح الصلاة بدونها إلا لعذر، وهو مذهب داود الظاهري، ورواية عن أحمد، ودليلهم ظاهر التهديد في الحديث، وهو عقوبة لا يعاقب بها إلا الكفار. وهذا المذهب أضعف المذاهب وأبعدها عن الصواب. المذهب الثاني: أنها فرض عين، وليست شرطا لصحة الصلاة فتصح الصلاة بدونها مع الإثم، وهو مذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية، كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر، ودليلهم دليل الأولين ... وقالوا: لو كانت فرض كفاية لكان قيام النبي صلى الله عليه وسلم بها كافيا، ولو كانت سنة لما هدد تاركها بالتحريق، كما استدلوا على فرضيتها بصلاة

الخوف، إذ فيها أعمال منافية للصلاة، ارتكبت من أجل الجماعة، ولم يرخص بترك الجماعة في هذه الشدة، ولا يعمل ذلك لأجل فرض الكفاية، ولا للسنة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لابن أم مكتوم وهو أعمى في ترك الجماعة، ولو كانت فرض كفاية، أو سنة لرخص له. المذهب الثالث: أنها فرض كفاية، وهو مذهب جمهور المتقدمين من الشافعية، وبه قال كثير من الحنفية والمالكية. المذهب الرابع: أنها سنة مؤكدة، وهو المشهور عند الآخرين، وقد أجابوا عن ظاهر الحديث بعدة أجوبة، أهمها: 1 - أن الحديث نفسه يدل على عدم الوجوب، لكونه صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل، ولو كانت فرض عين لنفذ ما هم به. فتركه التحريق بعد التهديد دليل عدم الفرضية. 2 - لو كانت فرضا لقال صلى الله عليه وسلم للذين صليا في رحالهما من غير جماعة: أعيدا صلاتكما، أو أنتما آثمان، لكنه قال "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا، فإنها لكما نافلة". 3 - قال الباجي: إن الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة. 4 - قال بعضهم: إن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة. 5 - قال بعضهم: إن فرضية الجماعة كان في أول الإسلام، لأجل سد الباب على المنافقين، ثم نسخ. 6 - إن المراد بالصلاة صلاة الجمعة خاصة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أخذ منه بعضهم أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال، لأن تحريق البيوت عقوبة مالية.

2 - أن الإمام إذا عرض له شغل استخلف من يصلي بالناس. 3 - وفيه جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر. 4 - تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وأن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفي به عن الأعلى. 5 - وجواز أخذ أهل الجرائم على غرة. 6 - استدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونا بها ورد بأن التهديد بالتحريق لا يلزم منه حصول القتل، لا دائما ولا غالبا. 7 - وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة، لإخراج من يستخفى في بيته ويتركها. 8 - استدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل. 34 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام".

-[المعنى العام]- إذا كانت صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد منفردا بخمس وعشرين درجة كان على المسلمين أن يحرصوا عليها، وأن يتحملوا في سبيل تحصيلها ما يقابلهم من صعاب، الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، والمشي طويلا لبعيد الدار عن المسجد، وانتظار الصلاة حتى تقام، ولكل من ذلك أجر، فمن توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يشغله، ولا يحركه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كان له بها حسنة، وحط عنه بها سيئة، فإذا ما دخل المسجد، وجلس ينتظر الصلاة، كان في ثواب صلاة، حتى يدخل في الصلاة. لقد خفي على بعض المسلمين ما في كثرة الخطا إلى المسجد من الأجر وكانوا يسكنون في أقصى المدينة، على بعد ميل من المسجد، فدفعهم حرصهم على الجماعة، أن يبيعوا بيوتهم، ويشتروا بدلها بيوتا بجوار المسجد، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لا. يا بني سلمة. الزموا بيوتكم لا تبيعوها وتحملوا مشاق الوصول إلى المسجد، فإن الله يكتب لكم آثاركم يكتب بكل خطوة حسنة، فأعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم ممشى فأبعدهم ممشى قالوا: سمعنا وأطعنا يا رسول الله. وظل الصحابة يحرصون على انتظار صلاة الجماعة في المسجد ابتغاء الأجر الوفير وبخاصة في صلاة العشاء التي كانت تؤخر أحيانا، لعلمهم أن الذي يطول انتظاره لصلاة الإمام خير من الذي يصلي منفردا، ثم يذهب إلى بيته فينام. -[المباحث العربية]- (أعظم الناس أجرا) منصوب على التمييز. (أبعدهم، فأبعدهم ممشى) أي أكثرهم بعدا عن المسجد، ثم من هو دونه فالفاء للترتيب التنازلي في أعظم الأجر، و"ممشى" اسم مكان منصوب على التمييز.

(والذي ينتظر الصلاة، حتى يصليها مع الإمام) أي جماعة. (أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام) قال الحافظ ابن حجر: أي سواء صلى وحده أو في جماعة. اهـ. قال الكرماني: وفائدة ذكر "ثم ينام" هنا الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة، التي في ضمن الانتظار. اهـ. أي فليس النوم مقصودا، فكأنه قال: أعظم أجرا من الذي يصلي، ثم يذهب ليستريح، وحملها بعضهم على النوم الحقيقي، فحمل الصلاة على صلاة الظهر والعشاء. وهو بعيد. -[فقه الحديث]- يرتبط هذا الحديث بفضل صلاة الجماعة، وأنها تزيد على صلاة الرجل وحده بخمس -أو سبع -وعشرين درجة، وقد حاول بعض العلماء أن يدخل في سبب هذه الزيادة إحسان الوضوء والخروج من البيت لا يقصد إلا الصلاة والخطوات إلى المسجد وانتظار الصلاة. والذي نستريح إليه أن التضعيف إلى خمس وعشرين عام في الجماعات في أي مكان، سواء أكانت في المسجد الجامع أم في أي مسجد، أم في دور العلم أم في البيت، أم في السوق، مع تقرير نوع زائد من الفضل، وقدر خاص من الثواب للجماعة في المسجد الجامع، وللجماعة في المسجد ولكثرة الخطا، ولانتظار الصلاة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - كثرة الأجر بكثرة الخطا في المشي إلى المسجد، وقد اختلف العلماء فيمن كان بجوار المسجد، هل يجاوزه للصلاة في مسجد أبعد؟ كرهه بعضهم مطلقا، واستحسنه بعضهم مطلقا، واستحسنه بعضهم إذا كان الأبعد المسجد الجامع، لزيادة الفضل بكثرة المصلين، واشترط بعضهم أن لا يكون في المسجد البعيد مانع من الكمال، كأن يكون إمامه مبتدعا أو لحانا في القراءة، أو مكروها من قومه، وأن لا يكون في ذهابه إلى البعيد هجر للمسجد القريب، وإلا فإحياؤه بالذكر أولى.

كما اختلف فيمن كانت داره قريبة من المسجد، وقارب الخطا، بحيث يساوي عدد خطاه عدد من داره بعيدة، هل يساويه في الفضل أو لا؟ مال الطبري إلى المساواة، ويستأنس له بما رواه ابن أبي شيبة من طريق أنس قال: "مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فقارب بين الخطا، وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد" والحق أن هذا وإن دل على فضل تكثير الخطا فإنه لا يدل على المساواة، لأن ثواب الخطا الشاقة ليست كثواب الخطا الكثيرة السهلة، وحديثنا يربط الأجر ببعد المكان لا بعدد الخطوات. 2 - ويؤخذ من الحديث فضل انتظار الصلاة بالمسجد، حتى لو شارك نية الانتظار أمر آخر، وظاهر العبارة أن الأجر لمنتظر الصلاة سواء أكان انتظاره خارج المسجد أو داخله، لكن رواية "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه" يشير إلى أن أعظم الأجر مرتبط بالمكان وبالنية. 3 - يؤخذ من عموم قوله "أعظم أجرا من الذي يصلي، ثم ينام" أي سواء صلى وحده، أو في جماعة، أن صلوات الجماعة تتفاوت في الأجر.

35 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". -[المعنى العام]- حين يشاء الله ينفخ في الصور، فيخرج الناس من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون. يجرون من قبورهم نحو ساحة مخصوصة حددت لهم يسرعون على أرض مستوية غير أرضهم، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، يجرون عرايا حفاة، ويقفون في الساحة كما ولدتهم أمهاتهم، الرجال والنساء بعضهم مع بعض، ولكنهم مشغولون عن النظر إلى العورات، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، الشمس تدنو من الرءوس ونارها تلهب الأجساد والعرق يسيل فيبلغ ركبة البعض وسرة البعض حسب أعمالهم، ويطول الموقف الصعب ويرتجف الخلق حتى الأنبياء. لكن سبعة من أصناف الناس يحميهم الله من الشمس، ويظلهم بظله في هذا اليوم، الذي لا ظل فيه إلا ظله. سبعة جعلوا لهم في دنياهم ظلة ووقاية من المحرمات، وحبسوا أنفسهم في قبة من الطاعة، ومنعوها من اتباع الهوى والشيطان، مع المغريات والإمكانات، التي يقع فيها الكثيرون. سبعة أصناف أولوا عزم من البشر. أولهم: الإمام العادل والحاكم الأمين والأمير الراشد، والراعي الذي يحيط رعيته بالعطف والنصيحة، ويعمل على صالحهم. وثانيهم: شاب لم تجرفه ثورة الشباب نحو الشر، شاب منذ صباه إلى رجولته في عبادة ربه، بعيدا عن انحرافات الشباب، ضابطا غريزته، حاكما

لقوته، موجها طاقته المندفعة نحو العبادة وطاعة الله. وثالثهم: رجل عابد، محب للصلاة في المسجد، حريص على ذلك مشغول بالمسجد وذكر الله، حتى في غدوات حياته وروحاته، قلبه معلق بالمسجد. ورابعهم: رجلان تحابا وتصافيا وتصادقا، لا من أجل دنيا، ولا من أجل منفعة ذاتية عاجلة، بل من أجل حب الله، إذا اجتمعا كانا في طاعة الله وكان حديثهما فيما يرضي الله، وإذا افترقا كان افتراقهما مع دوام المودة والوفاء والإخاء. وخامسهم: رجل عصم نفسه وحكم شهوته، وغلب الخوف من الله على المتعة المهيأة، دعته امرأة ذات منصب، لها عليه سلطان يخشى، وعندها له من المغريات ما يحرص عليه، وذات جمال جذاب وحسن فاتن. دعته إلى نفسها في خلوة ومأمن من الناس، فانصرف عنها بدافع التقوى، والخوف من الله، وقال: إني أخاف الله رب العالمين. وسادسهم: رجل تصدق بصدقة سرا، أخفاها عن أعين الناس وأسماعهم، حتى لو كانت شماله رجلا ما رأتها حين أخرجتها يمينه، ويعامل بذلك ربه ويؤمن بأنها له، ومن أجله تعالى وحده. وسابعهم: رجل قلبه لين نقي، يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه حاسب نفسه في خلوته, وذكر ذنبا، فانفطر قلبه له، وخاف عقاب ربه، وندم على فعله، رجل ذكر نعم ربه عليه، وما وجب عليه من الشكر، وأحس في نفسه القصور أو التقصير، ففاضت عيناه بالدموع، يسأل الله الرحمة والمغفرة ويرجو القبول والإحسان. فما أيسر هذا المقابل الذي يحمي من نار الموقف وحره، وما أكرم رب العالمين، وما أعظم إحسانه. -[المباحث العربية]-

(سبعة) تمييز العدد محذوف، أي سبعة أصناف من الناس، وهو مبتدأ ومسوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة والوصف، وهو التمييز. (يظلهم الله) جملة في محل رفع خبر المبتدأ. (في ظله) جاء في رواية بإسناد حسن "في ظل عرشه". (الإمام) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير أحدهم الإمام، قيل: المراد به الإمام الأعظم والحاكم العام، وقيل: كل حاكم، وكل راع في رعيته، وهو أولى كما سيأتي. (العادل) أي التابع لأوامر الله تعالى، فيضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط. (وشاب نشأ في عبادة ربه) "شاب" خبر لمبتدأ محذوف تقديره والثاني شاب، وجملة "نشأ في عبادة ربه" صفة له، والظاهر أن المراد بالشاب هنا من لم يجاوز الأربعين، وبالعبادة مطلق الطاعة ونشأته فيها أن تغلب طاعته على معصيته من أول أمره. (وجل قلبه معلق في المساجد) أي يحبها حبا شديدا، "وفي" بمعنى الباء وتعلق قلبه بالمساجد كناية عن انتظاره أوقات الصلاة، فلا يصلي بالمسجد ويخرج منه إلا وهو ينتظر أخرى ليصليها فيه. (ورجلان تحابا في الله) أي لأجله، لا لغرض دنيوي وكلمة "في" تفيد السببية كالباء مثل "دخلت امرأة النار في هرة" وتحابا أصله تحاببا أدغم أول المثلين في ثانيهما، والتفاعل عبارة عن معنى حصل عن فعل متعدد فالمراد التبسا بالحب، كقولك باعدته فتباعد. لا لإظهار المحبة من نفسه، كقولهم تجاهل أي أظهر الجهل من نفسه، وفي رواية "ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله، وصدرا عن ذلك". (اجتمعا عليه) الضمير في "عليه" يرجع إلى الحب في الله وفي رواية

"اجتمعا على ذلك" أي على الحب في الله. (دعته امرأة ذات منصب) أي امرأة صاحبة جاه، من أصل أو شرف أو مال. (ورجل تصدق أخفى) بلفظ الماضي فيهما "وأخفى" مع فاعله جملة وقعت حالا بتقدير "قد" ومفعول "أخفى" محذوف، أي أخفى الصدقة، وإخفاؤها هو الإسرار بها إلى آخذها، دون شعور أحد. (حتى لا تعلم) بالرفع نحو مرض زيد حتى لا يرجونه، فحتى تفريعية وبالنصب نحو سرت حتى تغيب الشمس فحتى للغاية. (شماله ما تنفق يمينه) الشمال واليمين اليدان اللتان بجانبي الإنسان وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتها للمتصدق، أي لو قدر أن الشمال رجل مستيقظ لما علم صدقة اليمين، للمبالغة في الإخفاء، فهو من مجاز التشبيه ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف، والتقدير: حتى لا يعلم ملك شماله أو مجاور شماله من الناس، فحذف المضاف مجازا. (ورجل ذكر الله) "ذكر" فعل ماض من الذكر، بكسر الذال فهو باللسان أو من الذكر بضم الذال، فهو بالقلب. (خاليا) أي بعيدا منفردا. أو خاليا من الالتفات إلى غير الذكر، ولو كان في ملأ، وهو نصب على الحال. (ففاضت عيناه) أي امتلأت عيناه بالدمع حتى فاض عنها، فالفائض هو الدمع، لا العين، ففيه مجاز الحذف، أي فاضت دموع عينيه، وإنما أسند الفيض إلى العين مبالغة، حيث جعلت العين من فرط البكاء، كأنها تفيض نفسها. -[فقه الحديث]- حصر العدد في السبعة الواردة بالحديث لا مفهوم له، بدليل ورود غيرها كمن أنظر معسرا، أو وضع عنه ما عليه، والغازي ومن يعينه، والتاجر

الصدوق، وغير ذلك مما وردت به الأحاديث، وذكر المتحابين في الله لا يجعل العدد ثمانية، لأن المقصود هنا عدد الخصال لا عدد المتصفين بها. والأحكام والأوصاف الواردة بالحديث تشمل جميع المكلفين، من الرجال والنساء، فذكر الرجال فيه جرى على الغالب، لأن النساء يشتركن معهم فيما ذكر، نعم لا يدخلن في الإمامة العظمى، أما إذا كن ذوات عيال فعدلن في عيالهن، فيدخلن في الإمامة، إذ لا تقتصر الإمامة على الإمام الأعظم بل تشمل أولا وبالذات الإمام الأعظم، ويلحق به من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، حتى الرجل بين أولاده، والمدرس في فصله، لحديث "إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور، عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا" رواه مسلم، وإنما قدم الإمام العادل على ما بعده لعموم نفعه، وكثرة مصالحه، فالإمام العادل، يصلح الله به أمورا عظيمة ويقال: ليس أحد أقرب منزلة من الله تعالى بعد الأنبياء عليهم السلام من إمام عادل. وإنما خص الثاني من السبعة بالشاب لأن العبادة من الشباب أشد، لغلبة الشهوة، وكثرة الدواعي لطاعة الهوى، فملازمة العبادة حينئذ أشد وأدل على غلبة التقوى، وفي الحديث "يعجب ربك من شاب ليس له صبوة". والمقصود من قوله "اجتمعا عليه وتفرقا عليه" أن الحب تمكن في قلب الرجلين تمام التمكن من أجل الله تعالى لا لغرض دنيوي، فقد التقيا عليه وسرى في دمائهما، سواء اجتمعا بأجسادهما حقيقة أم لا، وسيستمر ذلك الحب حتى يفرق بينهما الموت، دون أن يقطعاه لأي غرض من الأغراض الدنيوية. فهذه الجملة تفيد استمرارهما على المحبة لأجل الله. وقد قيل في علامته: الحب في الله لا يزيده البر ولا ينقصه الجفاء. وقوله {إني أخاف الله} يحتمل أن يكون بلسانه زجرا لنفسه عن الفاحشة أو بقلبه لزجر نفسه عن الوقوع في حبال تلك المرأة, وقد وصفها بأكمل الأوصاف، التي جرت العادة بزيادة الرغبة فيمن يتجمل بها، ليشعر برفعة شأن ذلك الرجل، وأنه على جانب كبير من التقوى والخوف والحياء من

رب العالمين، لأن الصبر عن قربان المرأة الموصوفة بما ذكر من أعلى المراتب، ولا سيما إذا راودته عن نفسها، وأغنته عن مشقة الوصول إليها بمراودة ونحوها. وإنما طلب إخفاء الصدقة لأنه أبعد عن الرياء والمباهاة وأقرب إلى الإخلاص سواء تصدق بقليل أو كثير، وقصد من نفي علم الشمال بما فعلت اليمين المبالغة في إخفاء الصدقة ... وإنما تفيض عين الذاكر بالدموع لرقة قلبه، وشدة خوفه من جلال الله، أو مزيد شوق إلى جماله. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضيلة الإمام العادل. 2 - فضيلة الشاب الذي نشأ في عبادة الله وطاعته. 3 - فضل من سلم من الذنوب واشتغل بطاعة ربه طول عمره. 4 - فضيلة من يلازم المسجد للصلاة مع الجماعة. 5 - فضيلة التحاب في الله. 6 - فضيلة من يخاف الله، قال تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان} 7 - فضيلة من يخفي صدقته، ومصداق ذلك قوله تعالى {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} قال العلماء: هذا في صدقة التطوع لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأما الواجبة فإعلانها أفضل ليظهر دعائم الإسلام. 8 - فضيلة ذكر الله في الخلوات، مع فيضان الدمع من العين، روى أبو هريرة مرفوعا "ولا يلج النار أحد بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع".

36 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما يخشى أحدكم أو لا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار". -[المعنى العام]- شرع الله صلاة الجماعة ليتم اللقاء ويتعدد، فنزول الجفوة، وتشيع المودة، وتتبادل المصالح والمنافع، وشرع لها حدودا وضوابط، يتعلم بها المسلمون النظام والانقياد للقائد، الذي يرتضونه لدينهم، ويقدمونه إماما لهم

ومقتضى هذا النظام والانقياد أن لا يسبقوا قائدهم، فلا يحنوا ظهورهم إلا بعد أن يحني، ولا يرفعوا رؤسهم قبل أن يرفع. بالتزام هذه الحدود والضوابط يتحقق الهدف الأكبر لصلاة الجماعة، ولهذا كثر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع الإمام، فقال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ... وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولا: ربنا لك الحمد ... " "إني إمامكم. فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ... " لكن العجلة طبيعة الإنسان {خلق الإنسان من عجل} والشيطان يجذبه إلى هذه الطبيعة في الصلاة، ليخرجه من الطاعة إلى المعصية، بعد أن يفقده ثواب الجماعة. وكان صلى الله عليه وسلم يراقب من خلفه في صلاة الجماعة، فيقوم المعوج، ويصحح الخطأ، صلى رجل خلفه، فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع فلما قضى صلاته حذره وعلمه، لكن كثرت أمثال هذه المخالفات، وكثرت معها النصائح وكان منها أن قال: "والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت [أي من إثم وعقوبة المخالف للإمام] لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" ومع هذا التشديد والوعيد وجد المخالفون، فترقى بالوعيد، وارتفعت الشريعة بالتهديد بأن الذي يسبق الإمام في حركاته معرض لأن يجعل الله رأسه يوم القيامة رأس حمار، أو أن يجعل صورته وشكله وهيئته في شكل وهيئة حمار، ليكون ذلك علما له يوم القيامة، وعلامة على الغباء والبلادة، التي أصابته في الدنيا فلم يستمع للنصح، وأعرض عن تعليمات الدين القويم. -[المباحث العربية]- (أما يخشى أحدكم) "أما" بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف استفتاح للتأكيد، مثل "ألا" وقد ورد بها "ألا يخشى" و"أو لا يخشى" بفتح الهمزة والواو، وفي روايتنا بأو، التي للشك في اللفظ الذي ورد "أما" أو "ألا" وأصل الهمزة للاستفهام دخلت على النفي "ما" أو "لا" والاستفهام للتوبيخ

بمعنى لا ينبغي، فيصبح التقدير: لا ينبغي أن لا يخشى، ونفي النفي إثبات فالمعنى ينبغي أن يخشى. (إذا رفع رأسه قبل الإمام) في الركوع أو السجود. (أن يجعل الله رأسه رأس حمار .... ) في رواية "أن يجعل الله وجهه وجه حمار" ولا تعارض بينهما، فالصورة تطلق على الوجه، والوجه في الرأس والحديث يقتضي تغيير الصورة الظاهرة، لكن يحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي مجازا، فإن الحمار موصوف بالبلادة. بهذا قيل، والتحقيق ما قاله بعضهم من أنه يصح أن يكون التهديد بتحويل الصورة وتغييرها على سبيل الحقيقة في الدنيا، فإن قيل: إن هذا مسخ، وهو لا يجوز في هذه الأمة؟ وإن هذا التحويل لم يقع مع كثرة المخالفين؟ قلنا: لا يلزم من التهديد بالشيء وقوعه وكل ما دل عليه أن فاعله يكون متعرضا لذلك، وهذا أنسب من المجاز، لأن التهديد بالبلادة لا يتناسب مع هذا الفعل، لأن فاعله بليد فلا يهدد بالبلادة، ثم إن ألفاظ الحديث في رواياته المختلفة ظاهرة في الحقيقة، بعيدة عن المجاز، إذ من ألفاظه "أن يحول الله رأسه". نعم قيل: إن هذا الجعل في الآخرة لا في الدنيا، وعلى هذا القول لا مجاز والتحويل حقيقة، ولا مجال للمجاز. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد بالمسخ، وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في المجموع شرح المهذب. ومع القول بالتحريم، الجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته. وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية عنه، وبه قال أهل الظاهر. قال في المغني: عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام

صلاة لهذا الحديث قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب. وظاهر كلام القرطبي يقتضي كراهة الرفع قبل الإمام لا تحريمه، إذ قال: من خالف الإمام فقد خالف سنة المأموم. لكن الجمهور على الحرمة. وقد شرح الإمام النووي كيفية المتابعة وعدم السبق في كتابه المجموع شرحا وافيا، نقتطف منه قوله: قال أصحابنا: يجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم عليه أن يتقدمه بشيء من الأفعال، والمتابعة أن يجري على إثر الإمام بحيث يكون ابتداؤه لكل فعل متأخرا عن ابتداء الإمام، ومقدما على فراغه منه، فلو خالفه في المتابعة، بأن قارنه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته باتفاق أصحابنا وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة تنعقد، كما لو قارنه في الركوع، وإن قارنه في السلام فوجهان، قيل: تبطل، والصحيح الكراهة. وفيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام لا تبطل مع مقارنة الأفعال، لكن يكره وقال الرافعي: تفوت به فضيلة الجماعة. هذا في المقارنة أما التقدم على الإمام بركن كامل كأن يركع، ثم يرفع، قبل أن يركع إمامه فيبطل الصلاة إن كان عامدا عالما بالتحريم، ولا تبطل إن كان ساهيا، أو جاهلا، أو لم يعلم بحركة الإمام لبعده عنه. أما إن كان الركن غير كامل، كأن ركع قبل الإمام فلم يرفع رأسه حتى ركع الإمام، أو رفع رأسه قبل الإمام، فلم يهو حتى رفع الإمام رأسه لم تبطل صلاته، ولكن هل يعود فورا لحال الإمام؟ أو ينتظر؟ قبل: يستحب له العود، وقيل: يلزمه العود، وقيل: يحرم عليه العود، وأما سبق الإمام بأقوال غير تكبيرة الإحرام، فإنه لا يبطل الصلاة، ولا تضر هذه المخالفة والأفضل أن يعيد القراءة مع قراءة الإمام أو بعده. أما تأخر المأموم عن إمامه بركن واحد، فإنه يبطل الصلاة، فإن تخلف بركنين بطلت، لمنافاته المتابعة، انتهى بتصرف.

37 - عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ثم قال: "إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". -[المعنى العام]- مما لا خلاف في استحبابه قراءة سورة من القرآن بعد الفاتحة، في الأوليين من كل صلاة، جهرا في الجهرية، وسرا في الصلاة السرية، والخلاف في مقدار ما يقرأ، وأي السور أفضل في الصلوات. ولو تتبعنا قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدناها تختلف اختلافا كبيرا، في الظهر قرأ بالسماء ذات البروج، وبالسماء والطارق وبالليل إذا يغشى، وبسورة لقمان، وبالذاريات في ركعتين، فتراوحت قراءته في ركعة الظهر بين أربع وثلاثين آية، وبين سبع عشرة آية، وفي العصر والمغرب دون ذلك وفي العشاء قرء بسورة "التين" وأمر معاذا أن يقرأ بالشمس وضحاها وفي الفجر قرأ بسورة "المؤمنون" في ركعتين، وقرأ في ركعة بالتكوير وفي الأخرى بإذا زلزلت الأرض.

ولا شك أن هذا الاختلاف دليل جواز الكل، والكلام فيما هو أفضل ولا شك أن طول القراءة أفضل من قصرها، إذا كان منفردا أو إماما لقوم محصورين راضين بالتطويل، بشرط أن لا يضيع وقت الأفضلية للصلاة. أما الذي يؤم قوما غير محصورين، أو يؤم من لا يرضى بالتطويل فواجبه التخفيف، بالقدر الذي لا يتألم منه المأموم، فإن الإسلام حريص على عدم التنفير من صلاة الجماعة، فهي مهما قلت القراءة فيها أفضل من صلاة الفرد مهما أطال في قراءته، بسبع وعشرين درجة. ولا يظن الإمام الذي يتعب المأمومين بقراءته أنه بذلك يتقرب إلى الله، بل إنه خالف سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يدخل الصلاة ينوي تطويلها بصحابته رجالا ونساء، فيسمع بكاء الطفل، فيخفف القراءة إشفاقا على أمه. إن معاذ بن جبل كان يؤم قومه، فحرص على أن ينال من فضل القراءة فأطال، استفتح في صلاة العشاء بسورة البقرة، وخلفه المريض والمتعب من عمل النهار، وصبر المتعب قدر طاقته وهو يظن أن معاذا سيقف عند قريب فلم يقف، ويئس المتعب، فسلم، وصلى منفردا، وانصرف، وصار يتأخر عن الصلاة حتى ينتهي معاذ من صلاته فيصلي وحده، وعلم به معاذ فقال عنه: إنه منافق، وسأله أصحابه: أنافقت يا فلان؟ قال: لا. والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، وشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل معاذ حيث دفعه إلى الصلاة وحده، قال الرجل: إنا أصحاب نواضح، نعمل بالنهار فعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ أتفتن الناس؟ وتكره إليهم الإسلام والصلاة؟ اقرأ بالشمس وضحاها، أو بسورة الضحى أو بسورة {والليل إذا يغشى} ولم يسمع أبي بن كعب بهذه الحادثة فأطال في صلاة الصبح، وربما ظن أن الصبح غير العشاء، فالعشاء يحتاج الناس بعدها للنوم، أما الصبح فاستقبالهم لليوم يدعو للحركة والنشاط والرغبة في الخير الكثير، وكانت واقعة حديثنا، وكانت في مسجد قباء فشكا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب صلى الله عليه وسلم غضبا ساعئذ لم يغضب مثله من قبل ودعا أبي بن كعب في محضر من الصحابة والأئمة، فقال لهم: إن منكم منفرين، يطيلون

القراءة، أيكم صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف صحيا، والكبير سنا، وابن السبيل وذا الحاجة، يسعى إلى حاجته فإذا صلى أحدكم وحده فليطل في صلاته ما يشاء. -[المباحث العربية]- (إني لأتأخر عن صلاة الغداة) أي فلا أحضرها جماعة، وفي رواية "إني لا أكاد أدرك الصلاة" أي لاطمئناني إلى تطويل الإمام أتشاغل عن الإسراع إليه لعدم قدرتي على القيام معه، فتكاد تفوتني الجماعة، أي أتأخر عن صلاة الجماعة من أولها، فكأنه يحضر طرفها، والغداة الصبح، وقد جاء به في رواية "إني لأتأخر عن صلاة الصبح". (من أجل فلان) المقصود به أبي بن كعب، قال الحافظ ابن حجر: ووهم من فسره بمعاذ، لأن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء، وفي مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح، وفي مسجد قباء. (مما يطيل بنا) "ما" مصدرية، والمقصود الإطالة في القراءة، والجار والمجرور في موضع بدل اشتمال من "من أجل فلان". (يومئذ) التنوين عوض عن جملة، أي يوم أخبر بذلك. (إن منكم منفرين) يقال: نفر ينفر نفورا، إذا نفر وذهب، ونفره بالتشديد إذا دفعه إلى النفور. (فأيكم ما صلى بالناس) أي فأي واحد منكم، و"ما" زائدة، وفي رواية "أفأيكم أم الناس". (فليتجوز) اللام لام الأمر، وفي رواية "فليوجز) والتجوز والإيجاز التقليل والتخفيف، وهو ضد الإطناب. (فإن فيهم) في رواية "فإن من ورائه" وفي رواية "فإن خلفه". (الضعيف والكبير وذا الحاجة) المراد بالضعيف الذي لا يحتمل، أعم

من أن يكون الضعيف بسبب المرض، أو بسبب في أصل الخلقة، أو بسبب السن فذكر "الكبير" بعده من ذكر الخاص بعد العام. أما ذو الحاجة فالمراد به صاحب المصلحة العاجلة، كالمسافر والعامل، والمشغول بأمر من أموره الداعية إلى الإسراع، وقد ورد بعضها على سبيل التمثيل، ففي رواية "والعابر سبيل" وفي أخرى "والحامل والمرضع" ويمكن جعل الحاجة شاملة لجميع الأعذار. -[فقه الحديث]- قال ابن دقيق العيد: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم، طويلا بالنسبة لعادة آخرين. اهـ. وهو كلام مسلم به، لكن أحاديث معاذ أوضحت حدود التخفف بذكر السور. وظاهر الأحاديث أن تخفيف الصلاة إنما هو لمراعاة حال المأمومين، ومن هنا قال بعضهم: لا يكره التطويل إذا علم رضا المأمومين، واعترض بأن الإمام لو فرض علمه بحال من بدأ الصلاة معه، فإنه لا يعلم حال من قد يأتي فيأثم به بعد، فعلى هذا يكره التطويل مطلقا، إلا إذا صلى بقوم محصورين راضين بالتطويل، في مكان لا يدخله غيرهم. قاله ابن حجر. والتحقيق أنه حتى في هذه الحالة يكره التطويل، لأنه لا يعلم دخائل من خلفه، من مرض طارئ وانشغال بحاجة طارئة. من هنا قال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب، لا بالصور النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا، وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق، عملا بالغالب، لأنه لا يدري ما يطرأ عليه. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز التأخر عن صلاة الجماعة، إذا علم أن من عادة الإمام

التطويل الكثير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف الرجل. 2 - جواز ذكر الإنسان ببعض ما يؤخذ عليه في معرض الشكوى والاستفتاء. 3 - الغضب لما ينكر من أمور الدين، وفي الموعظة، وسر الغضب هنا إما مخالفة الموعظة، إن قلنا بسبق وعظ معاذ، وإما لتقصير أبي بن كعب في تعلم ما ينبغي تعلمه، وإما لإرادة الاهتمام بالأمر. 4 - الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع ومراعاة مصلحتهم. 5 - استدل به بعضهم على جواز إطالة الركوع إذا سمع الإمام بحس داخل ليدركه، اعتمادا على أنه إذا جاز التخفيف لحاجة من حاجات الدنيا كان التطويل لحاجة من حاجات الدين أجوز، وهو كلام فيه نظر وتعقب والمشهور الكراهة. 38 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" فاشتد قوله في ذلك

حتى قال "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم". -[المعنى العام]- ظن الصحابة أن التوجه إلى السماء بالوجه واليدين حين الدعاء مستحسن ومحبوب، لقوله تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} لأنها -كما قيل -قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فكان بعضهم يرفع رأسه وبصره إلى السماء في الدعاء في الصلاة، ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنه ينافي الخشوع والخضوع المطلوب في الصلاة. ويبدو أن بعض الصحابة خانته يقظته للنهي، فرجع إلى العادة، ورفع بصره إلى السماء بعد النهي المتكرر، مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد، وخيرهم بين الانتهاء عن رفع الأبصار إلى السماء في الدعاء في الصلاة، وبين العمى وخطف الأبصار، فكان هذا التهديد الفظيع كافيا في الانتهاء وامتثال الشرع الحنيف. -[المباحث العربية]- (ما بال أقوام) في رواية مسلم "لينتهين أقوام" بفتح اللام والياء وسكون النون وفتح التاء وكسر الهاء وفتح الياء بعدها نون مشددة. واللام فيه للتأكيد، وهو في جواب قسم مجذوف، وفي رواية للبخاري "لينتهين عن ذلك" بضم الياء وسكون النون وفتح التاء والهاء وضم الياء وتشديد النون، على صيغة المبني للمجهول، وذكر "أقوام" دون ذكر أسماء الفاعلين لئلا ينكسر خاطرهم، كما هي عادته صلى الله عليه وسلم في الستر عند النصيحة. والبال الشأن، وهو خبر "ما" الاستفهامية. (يرفعون أبصارهم إلى السماء) الجملة في محل جر صفة "أقوام" والمراد من السماء جهة العلو. (لينتهين عن ذلك) بفتح الياء وسكون النون وفتح التاء وضم الهاء.

(أو لتخطفن أبصارهم) قال الطيبي: "أو" هنا للتخيير، تهديدا، وهو خبر في معنى الأمر، أي ليكونن منهم الانتهاء من رفع البصر أو خطف الأبصار عند الرفع. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة مطلقا سواء أكان ذلك أثناء الدعاء أم كان عند غير الدعاء، لكن في رواية لمسلم "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء ... " مما يقيد النهي بلحظة الدعاء في الصلاة, فإن حملنا المطلق على المقيد كان المقصود من حديثنا النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة أثناء الدعاء فقط، وبهذا قال جماعة، وحكمه عند جمهورهم الكراهة. وإن أبقينا المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده كان رفع البصر إلى السماء مطلقا منهيا عنه، ورفعه في الصلاة حين الدعاء منهيا عنه أيضا بصفة أخص وآكد، وقد نقل الإجماع على ذلك. قال ابن التين: أجمع العلماء على كراهة النظر إلى السماء في الصلاة لهذا الحديث. وقال القاضي عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة، وذهب ابن حزم إلى أنه لا يحل ذلك بل يحرم، لما ورد من النهي الأكيد والوعيد الشديد، وذلك يقتضي أن يكون حراما، وبه قال قوم من السلف، وبالغ ابن حزم فقال: تفسد صلاته. اهـ والسؤال الذي يفرض نفسه والحالة هذه أن يقال: إذن فما هي الهيئة المشروعة للنظر أثناء الصلاة؟ وقد أجاب عن ذلك الزين بن المنير فقال: نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير التفاوت كان ذلك من إصلاح صلاته. وقال ابن بطال: يرى مالك أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة. وقال الشافعي والحنفية: يستحب للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده

لأنه أقرب للخشوع. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود، وكذا المأموم، إلا إذا احتاج إلى مراقبة إمامه، وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام. اهـ. أما إذا أغمض عينيه في الصلاة فقد قال الطحاوي: كرهه أصحابنا، وقال مالك: لا بأس به في الفريضة والنافلة، وقال النووي: المختار أنه لا يكره إذا لم يخف ضررا، لأنه يجمع الخشوع، ويمنع من إرسال البصر، وتفريق الذهن. اهـ. بقي رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة, وقد كرهه شريح وطائفة، فقد قال شريح لرجل رآه يرفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك واخفص بصرك، فإنك لن تراه ولن تناله، والجمهور على جوازه، لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة والله أعلم. 39 - عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع

فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "زادك الله حرصا ولا تعد". -[المعنى العام]- علم الصحابة فضل صلاة الجماعة وفضل الدخول فيها من أولها وحرصوا على إدراك الإمام في أكبر قدر ممكن منها، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واسعا، وكانت مسافة بين بابه وبين مكان الصلاة، ودخل أبو بكرة المسجد متوضئا، ورأى أن الصلاة قد أقيمت، وأن الإمام كاد يركع، أو قد ركع بالفعل، فانطلق يجري حتى اضطربت نفسه، ولم ينتظر حتى يصل إلى الصف، ويقف ثابتا فيه ثم يكبر، لكنه كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يصل إلى الصف بخطوات، ثم انحنى وركع وهو بعيد عن الصف، ومشى خطوات منحنيا حتى وصل إلى الصف، وصوت نفسه يتردد ويسمع، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى معه أبو بكرة والصحابة قال صلى الله عليه وسلم: أيكم الساعي؟ أيكم الراكع دون الصف؟ أيكم دخل الصف وهو راكع؟ أيكم صاحب هذا النفس؟ قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله. خشيت أن تفوتني الركعة معك. وكانت أخطاء أبي بكرة ثلاثة. السعي الشديد، والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعا، وكان لابد من نهيه عن مثل هذه الأخطاء وطلب عدم العود، لكن دافعه إلى ذلك محمود مشكور، فكان من الإنصاف الدعاء له بالخير "زادك الله حرصا" على فضيلة الجماعة، ولا تعد لأي من الأخطاء الثلاثة. -[المباحث العربية]- (أبو بكرة) كنية لهذا الصحابي واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة من فضلاء الصحابة بالبصرة. (أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم) في الكلام حذف، أي انتهى إلى صفوف جماعة النبي صلى الله عليه وسلم. (وهو راكع) "هو" ضمير رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبتدأ، وخبره "راكع"

والجملة في محل نصب على الحال. (فذكر ذلك) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فمشى راكعا، فدخل الصف فصلى، ففرغ من صلاته، فذكر ذلك إشارة إلى ما فعله من الركوع دون الصف. (ولا تعد) بفتح التاء وضم العين من العود بمعنى الرجوع. وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم التاء وكسر العين من الإعادة. -[فقه الحديث]- ركع الصحابي قبل أن يصل إلى الصف حرصا على إدراك الركعة جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولذا لم يزجره، بل دعا له بزيادة الحرص على الخير، سيما وأنه لم يأتي بما يفسد الصلاة، لأن مشيه كان خطوة أو خطوتين. وقال مالك والليث: لا بأس بذلك إذا كان فاعله يصل إلى الصف قبل سجود الإمام وقوله "ولا تعد" يحتمل أن يكون المراد منه: ولا تعد لمثل هذا الانفراد عن الصف، أو لا تعد للتأني والتأخر إلى هذا الوقت، أو لا تعد إلى الإسراع في التحرم، لما روي أنه انطلق يسعى وهو حقن النفس. أو لا تعد إلى المشي وأنت راكع، لتصل إلى الصف لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل عقب انصرافه من الصلاة: "أيكم دخل الصف وهو راكع"؟ فقال أبو بكرة: أنا وكأنه صلى الله عليه وسلم بهذا الاستفسار لا يرضى عن مثل ذلك، لأن هذا المشي وإن لم يفسد الصلاة فيه تشبيه المصلي نفسه في مشيه راكعا بالبهائم، وذلك لا يليق بحال المصلي. وفيه إخلال بالخشوع الذي ينبغي للصلاة من أول الدخول فيها. وقد علم من هذا التقرير أنه لا منافاة بين تصويب الفعل في أول الكلام وتخطئته في آخره بقوله "ولا تعد" لأن كلا منهما محمول على جهة، فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعل، حيث لم يخل بالواجبات والأركان في صلاته، مع شدة حرصه على إدراك الركعة جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله له "ولا تعد" فليس تخطئة، لأنه لم يأت بما يفسد الصلاة وإنما هو إرشاد إلى ما هو

أكمل وأليق بالمصلي، حتى يراعي الأفضل في المستقبل، ولو كان نهي تحريم لأمره بالإعادة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - اعتبار نية المرء وقصده حال الخطأ، وتشجيعه على نية الخير مع تبصيره بالصواب. 2 - لما كان أبو بكرة قد صلى بعض الركعة خارج الصف، ونهى عن العود أخذ منه كراهية الانفراد عن الصف، وهو مذهب الجمهور "أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد" وذهب إلى التحريم أحمد وإسحاق وابن خزيمة من الشافعية لحديث وابصة "أنه صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة" زاد ابن خزيمة في رواية له "لا صلاة خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة" زاد ابن خزيمة في رواية له "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" وأجاب الجمهور بأن المراد لا صلاة كاملة، لأن من سنة الصلاة مع الإمام اتصال الصفوف وسد الفرج. وقد روى البيهقي من طريق مغيرة فيمن صلى خلف الصف وحده أنه صلى الله عليه وسلم قال "صلاته تامة". 3 - أنه ينبغي للمصلي الداخل في الجماعة موافقة الإمام على أي حال وجده عليها، وقد ورد الأمر بذلك صريحا في قوله صلى الله عليه وسلم "من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحال التي أنا عليها".

40 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف". -[المعنى العام]- رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد إلى بيت عائشة فوجد عجوزين تناقشان عائشة في عذاب القبر، كانتا من يهود المدينة، وكانتا تخدمان عائشة، وكانتا تستعيذان من عذاب القبر، وكانت عائشة تكذبهما وتقول: أفي القبر عذاب؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافق عائشة على إنكاره حيث لم ينزل بذلك وحي، ويخشى أن يكون الخبر من صنع اليهود لفتنة المؤمنين. ونزل الوحي وهو في المسجد، بأن عذاب القبر حق، ورجع ليجد العجوزين تناقشان عائشة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقيهما يا عائشة لقد أوحي إلي أن عذاب القبر حق. تقول عائشة: فما رأيته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصلي إلا ويستعيذ في صلاته من عذاب القبر، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستعاذات كما يعلمهم القرآن وكان يرفع بها صوته في الصلاة، لتعليمهم وليقتدوا به، كان يقول لهم: استعيذوا بالله في صلاتكم بعد نهاية التشهد الأخير، وقبل السلام، من أربع: عذاب القبر، ومن فتنة وامتحان نزول المسيح الدجال، وممن فتنة الحياة وزينتها وزخارف الدنيا وملذاتها وشهواتها، ومن فتنة الممات والخاتمة وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أمام أصحابه من الاستعاذة من المأثم والمغرم، أي من الإثم والعصيان ومن غلبة الدين والغرامات المالية، التي لا يقدر على أدائها. فقيل له: يا رسول الله. ما أكثر ما تستعيذ من المغرم. فما خطره الذي أزعجك حتى أكثرت من الاستعاذة منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن المغرم باب شر كبير، لأن الرجل إذا

غرم ولم يستطع الأداء اختلق لصاحب الحق الأكاذيب، ووعد أن يوفي الدين في يوم كذا ثم لا يوفي، فيورث المغرم شعبتين من شعب المنافقين، الكذب وخلف الوعد، وما أقبح هاتين الرذيلتين! ! وما أقبح من يتصف بهما. وهكذا علم الرسول الكريم أمته دعاء يقيهم الشرور في الدنيا والآخرة. صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه. -[المباحث العربية]- (كان يدعو في الصلاة) لم تحدد هذه الرواية في أي موضع من الصلاة كانت الاستعاذة، لكن الروايات الأخرى الصحيحة صرحت بأن موضعها بعد الفراغ من التشهد وقبل السلام. (اللهم إني أعوذ بك) أي ألجأ إليك طالبا الحصانة والحماية. (من عذاب القبر) أضيف العذاب إلى القبر، مع أن من لم يقبر من الموتى يعذب أو ينعم في وضعه الذي صار إليه بعد الموت، لأن الغالب على الموتى أن يقبروا. (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) الفتنة الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف الحال المكروه. اهـ، وفي بعض الروايات "من شر فتنة المسيح الدجال" والمسيح بتخفيف السين المكسورة بعد الميم المفتوحة يطلق على الدجال، وعلى عيسى عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به، وقيل: إن أريد الدجال شددت السين المكسورة، وإن أريد عيسى خففت. والمشهور الأول. وأصل الإطلاق بتخفيف السين لمسحه الأرض، وأما بتشديدها فلكونه ممسوح العين، وحكى بعضهم أنه بالخاء في الدجال، أما إطلاق المسيح على عيسى عليه السلام فلأنه -كما قيل -كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو لأنه كان يمسح الأرض بسياحته، أو لأن رجله لا أخمص لها، أو للبسه المسموح، أو أن أصل الكلمة بالعبرانية ما شخا فعربت إلى المسيح، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر.

(وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) المحيا والممات مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت، ويحتمل زمان ذلك، أي الفتنة زمن الحياة، من شهوات الدنيا والجهالات، والفتنة زمن الاحتضار من سوء الخاتمة والعياذ بالله. (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) أي من الإثم الذي يجر إلى الذم والعقوبة، أي أعوذ بك من الوقوع في الذنب و"المغرم" الدين، يقال: غرم الرجل بكسر الراء، إذا استدان فيما لا يجوز، وفيما يجوز، ثم يعجز عن الأداء، فالاستعاذة من غلبة الدين، وقيل: المغرم ما يصيب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذا ما يلزمه أداؤه من غير جناية منه. (ما أكثر ما تستعيذ من المغرم) "ما" الأولى تعجبية، و"ما" الثانية مصدرية أي ما أكثر استعاذتك من المغرم. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في عذاب القبر، هل يقع على الروح فقط، أو عليها وعلى الجسد؟ أو على الجسد وحده؟ جمهور العلماء أنه يقع على الروح والجسد واستدلوا بالحديث "إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم" وبحديث "إنه ليسمع خفق نعالهم" وحديث "تختلف أضلاعه لضمة القبر" وحديث "يضرب بين أذنيه" وحديث "فيقعدانه" مما يدل على عذاب الروح والجسد، فإن عذاب الروح وحده لا يسمع، وما ذكر من التعذيب من صفات الأجساد. وعذاب القبر ثابت بهذه الأحاديث وغيرها، ويستدل له بقوله تعالى {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} إذ يفيد أن الضرب يعقب الوفاة، وبقوله تعالى عن آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وأنكر الخوارج وبعض المعتزلة عذاب القبر مطلقا، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، والأحاديث صريحة في أنه يقع على المؤمنين والكفار من أمتنا ومن الأمم السابقة.

وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط، من غير عود إلى الجسد، حملهم على هذا أن الميت قد يشاهد في قبره حال المساءلة ولا أثر فيه من إقعاد أو ضرب أو ضيق أو سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب، والجواب عن ذلك أن ذلك غير ممتنع في القدرة، والخطأ من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله. والاستعاذة الواردة مستحبة بعد التشهد وقبل السلام، وليست بواجبة وأفرط ابن حزم، فقال بوجوبها في التشهد الأول والثاني. وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم واستعاذته مما ذكر بأنه معصوم ومغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأجيب عن ذلك بأجوبة. منها أنه قصد تعليم الأمة أو أن دعاءه واستعاذته لأمته، فيكون المعنى أعوذ بك لأمتي، أو أنه سلك بذلك طريق التواضع وإظهار العبودية، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك. أما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحقق أنه لا يدركه فعلى الجوابين الأولين لا إشكال، أما على الثالث فقيل: يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه ويدل عليه قوله في حديث رواه مسلم "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه" قال البدر العيني: وفائدة استعاذته من المسيح الدجال أن ينتشر خبره بين الأمة من جيل إلى جيل، أنه كذاب، مبطل، مغتر، ساع على وجه الأرض بالفساد، مموه ساحر، حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه. وقد اختلف العلماء فيما يدعو به الإنسان في صلاته، فعند أبي حنيفة وأحمد: لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة، أو الموافقة للقرآن الكريم لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". وقال مالك والشافعي: يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري "ثم يتخير

من الدعاء أعجبه إليه" وفي رواية "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب". ولا شك أن الدعاء بالمأثور وبأمور الآخرة أولى وأفضل، والخلاف في الجواز وعدم الجواز وبطلان الصلاة وعدم بطلان الصلاة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إثبات عذاب القبر. 2 - إثبات المسيح الدجال وأنه سيخرج في آخر الزمان، وأنه فتنة وشر. 3 - الالتجاء إلى الله تعالى، والاستعاذة به من جميع الشرور الدنيوية والأخروية. 4 - بشاعة الدين، والتنفير منه، لما يؤدي إليه من الكذب والخلف بالوعد عند العجز. 5 - الاستعاذة بالله من الإثم والعصيان. 6 - استحباب الدعاء في آخر الصلاة. 7 - كمال شفقته صلى الله عليه وسلم وكمال حرصه على ما ينفع أمته.

41 - عن زيد بن خالد الجهني صلى الله عليه وسلم قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب". -[المعنى العام]- كان العرب يعيشون في السحراء، يستضيئون في ليلهم بقمرها ويسترشدون في أسفارهم وأحوالهم بنجومها، كما حكى عنهم القرآن الكريم بقوله {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} وكان من تتبعهم لحركات النجوم أن رصدوا ثمانية وعشرين نجما -وهي المسماة بمنازل القمر -فعرفوا أن كل نجم منها يعيش ثلاثة عشر يوما تقريبا، ثم يسقط في المغرب، ويطلع نجم بدله من المشرق، فسموا هذه النجوم بأسماء. وثبت لهم من تجاربهم وملاحظاتهم أن المطر كثيرا ما يغيثهم إذا غاب نجم كذا، أو طلع نجم كذا، وارتبط في نفوسهم نزول المطر بمطالع بعض النجوم وبمرور الزمن، وبزحف من الوثنية على معتقداتهم، ظنوا أن هذه النجوم هي التي تسقط المطر، ونسبوا الفضل في المطر إليها، ونسوا الله تعالى صاحب

النعمة، فقالوا: مطرنا بنجم كذا، والفضل في المطر لكوكب كذا. وجاء الإسلام المحطم للوثنية، المطهر للنفوس من العقائد الفاسدة، الموجه لعبادة الله وحده، فلفت نظرهم مرارا إلى أنه جل شأنه هو الذي يسير الرياح فتثير سحابا، فيبسطه في السماء كيف يشاء، فيجعله قطعا متراكمة، تثير بسرعة جريها واحتكاكها الرعد والبرق {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} وكان من الحكمة أن تبلغ التشريعات الإلهية للأمة في مناسبات، لتربط الأحكام بالوقائع، فتستقر في النفس وتتمكن منها، ولا يسهل نسيانها. لهذا ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في ليلة من ليالي القحط، وفي صحراء الحديبية حين اشتد العطش بالمسلمين وبدوابهم، وحين ساق الله تعالى إليهم سحابة مليئة، أمطرت عليهم غيثا مغيثا، فشربوا وسقوا وأصبحوا فرحين مستبشرين، وصلوا الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم من الصلاة أقبل عليهم يذكرهم بنعمة الله، ويوجههم إلى شكرها، ويستأصل من نفوس ضعفائهم رواسب الجاهلية الأولى، فقال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم اليوم؟ قال تعالى في الحديث القدسي: أصبح فريق من عبادي مؤمنا بي، يسند نعمي إلي، كافرا بالكواكب، لا يسند إليها ما ليس منها يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، فله الحمد وله الشكر، وأصبح فريق من عبادي كافر بي، يجحد نعمائي، ويسند نعمي إلى غيري، ويجعل جزائي على رزقي إياه تكذيبا لي، ويعتقد أن النجوم صاحبة الفضل في رزقه، فيقول: مطرنا بفضل نجم كذا، ومطرنا بتأثير كوكب كذا، فيجحدني ويشكرها وينساني ويذكرها، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. -[المباحث العربية]- (صلى لنا رسول الله) اللام بمعنى الباء، أي صلى بنا.

(بالحديبية) تخفف ياؤها وتشدد، والتخفيف هو المختار، يقال: حدب الرجل إذا خرج ظهره، ودخل صدره وبطنه، والأحدب من الأرض الغليظ المرتفع، والحديبية مكان، أو قرية صغيرة، سميت باسم بئر أو شجرة حدباء وهي على تسعة أميال من مكة. (على إثر سماء كانت من الليل) "إثر" بكسر الهمزة وسكون الثاء، وبفتح الهمزة والثاء، وهو ما يعقب الشيء، والسماء المطر، وأطلق عليه "سماء" لكونه من جهة السماء، والمعنى صلى بنا الصبح عقب مطر نزل في الليل. (فلما انصرف) أي من الصلاة، أو من مكان الصلاة. (أقبل على الناس) أي اتجه إليهم بوجهه بعد أن كانوا خلفه في الصلاة والمراد من الناس الصحابة الذين كانوا معه. (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ) "ماذا" في محل مفعول "قال" وقد علقت "تدرون" عن العمل، والاستفهام للتنبيه، وليس على حقيقته من طلب الفهم لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يدرون، والتعبير بلفظ الرب، وإضافته إلى ضمير المخاطبين، للإشعار بالفضل والمنة. أي مربيكم وصاحب الفضل عليكم بالمطر. (الله ورسوله أعلم) "أعلم" أفعل تفضيل ليس على بابه، إذ لا علم عندهم. (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) أي وكافر بي، حذف الجار والمجرور للعلم به مما قبله، والمراد من عباده عموم الناس، وليسوا عباد الرحمن المتشرفين بإضافتهم إليه، لتقسيمهم إلى مؤمن وكافر. (مطرنا بنوء كذا وكذا) النوء في الأصل ليس النجم، فإنه مصدر ناء النجم ينوء، إذا سقط وغاب، وقيل: إذا نهض وطلع، لكن المراد منه هنا النجم تسمية للفاعل بالمصدر.

-[فقه الحديث]- يطلق الكفر شرعا ويراد به سلب أصل الإيمان، والخروج عن ملة الإسلام ويطلق ويراد به كفر النعمة وجحودها. وبعض روايات حديثنا تميل إلى الإطلاق الأول، كروايتنا "فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب" وكرواية أحمد "يكون الناس مجدبين، فينزل الله عليهم رزقا من السماء من رزقه فيصبحون مشركين، يقولون: مطرنا بنوء كذا". وبعض روايات حديثنا تميل إلى الإطلاق الثاني، كروايتي مسلم "ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكواكب وبالكواكب". "ما أنزل الله من السماء من بركة، إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث فيقولون: الكواكب كذا وكذا" فقوله "بها" يدل على أنه كفر بالنعمة. وعلى هذا ينبغي أن يقال: إن من قال: مطرنا بنوء كذا معتقدا أن الكوكب فاعل، مدبر، منشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية بزعم فهو كافر، خارج عن الملة، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة، فهذا لا يكفر، وإن كره هذا القول لأنها كلمة ترددت بين الكفر وغيره. والله أعلم.

42 - عن عقبة رضي الله عنه قال: "صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته". -[المعنى العام]- كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يمكث في مكانه بعد السلام من صلاة الجماعة بعض الوقت، حتى لا يقوم الرجال إلى أن ينصرف النساء المصليات، وذلك خشية اختلاط الرجال بالنساء في الطريق. لكن هذه العادة تغيرت يوما، حين سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من صلاة العصر، فقام من مصلاه مسرعا، يتخطى رقاب المصلين قبل أن يقوموا متجها نحو بيته، أحد بيوت أمهات المؤمنين، وتعلق نظر الصحابة به صلى الله عليه وسلم وهو يسرع، وبمنزله حين دخل، ولم يمض إلا قليل من الوقت، حتى خرج إليهم يعلم قلقهم وفزعهم من هذا التصرف غير المعتاد، ويحرص على طمأنتهم وإزالة قلقهم، عاد إليهم ليوضح سر فزعه وإسراعه، وليحثهم على أن يقتدوا به، لكنهم ما رأوه حتى بادروه بالسؤال، قبل أن يوضح لهم، إنهم عجلون يخشون أن يكون في إسراعه خطر عليهم، أو أن يكون من أجل وحي يؤاخذهم عن فعل، ويسيئهم، ثم إنهم لا يصبرون على قلق، يدفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا التصرف، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم، إنه مع قربه من ربه أخشى الناس لله، وأتقاهم له، إنه أخر واجبا يقدر على أدائه دون التأخير، إنه نسي أن يوزع شيئا من مال الصدقة، قبل أن يخرج للصلاة، لقد ترك تبر الصدقة في بيته، وجاء للصلاة، ما جوابه لربه لو توفاه الساعة وسأله: لماذا أخرت حقوق الفقراء والمساكين؟ لقد تذكره في الصلاة فأخذ يفكر فيه

وشغل عن إتمام الخشوع، فكان لزاما عليه أن يبادر بأداء هذا الواجب فور القدرة والتمكن من أدائه، فدخل بيته وأمر بتوزيعه على فلان وفلان، ثم عاد يزيل القلق، ويرفع التعجب، ويهدئ خواطر أصحابه صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (فسلم ثم قام) "ثم" عطفت "قام" على "سلم" وليست مفيدة للتراخي، بل بمعنى الفاء، وقرينة ذلك قوله "مسرعا" ويؤيده رواية "فسلم فقام" يعني أن قيامه كان عقب تسليمه من الصلاة مباشرة، أو يقال: إن "ثم" للتراخي الزمني وهو أمر نسبي، وكذلك الإسراع أمر نسبي، فهو تراخ وإسراع. (يتخطى رقاب الناس) أي يمر بينهم وهم جلوس، والجملة في محل نصب على الحال. (ففزع الناس) أي خافوا، وكانت تلك عاداتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدونه، خشية أن ينزل فيهم شيء يسوؤهم. (فرأى أنهم عجبوا من سرعته) أي فعلم أنهم عجبوا، وطريق العلم ما ورد في بعض الروايات "فقلت" أو "فقيل له". (ذكرت) أي تذكرت فهو من الذكر بالضم، ويؤيد هذا رواية "ذكرت" بضم الذال وتشديد الكاف وكسرها. (شيئا من تبر) التبر الذهب غير المضروب، وقيل: ذهب أو فضة أو جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ، وفي رواية "تبرا من الصدقة". (فكرهت أن يحبسني) يشغلني التفكير فيه عن كمال التوجه والإقبال على الله تعالى، فالفعل "يحبسني" مراد به الماضي أي فكرهت أن حبسني أو كرهت أن يمنعني ويقيدني في الموقف يوم القيامة، حبس سؤال، والكراهة هنا معناها الخوف. -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب "من صلى بالناس فذكر حاجة

فتخطاهم"، عقب باب "مكث الإمام في مصلاه بعد السلام" أي أن المكث المذكور محله ما إذا لم يعرض أمر مهم، يحتاج معه إلى القيام. وقد سارع النبي بعد فراغه من صلاته إلى قسمة المال بنفسه، كما ورد في رواية أبي عاصم "فقسمته" أو أمر بتقسيمه وتوزيعه، كما في الرواية التي معنا. -[ويستفاد من هذا الحديث أمور: ]- 1 - إباحة التخطي لرقاب الناس للحاجة التي لا غنى عنها، كرعاف وحرقة بول، وما أشبه ذلك. 2 - جواز السرعة للحاجة المهمة، وأن من وجب عليه فرض فالأفضل مبادرته إليه. 3 - أن عروض التفكير أثناء الصلاة في أمر أجنبي عنها لا يفسدها ولا ينقص من كمالها، وهذا المأخذ معتمد على أن تذكر التبر كان في الصلاة ويؤيده رواية "ذكرت وأنا في الصلاة". 4 - جواز إنشاء العزم في أثناء الصلاة على الأمور الجائزة من وجوه الخير وذلك لا يبطل ولا ينقص من كمالها. 5 - جواز الإنابة للغير في فعل الخير مع القدرة على المباشرة، أخذا من رواية "فأمرت بقسمته"، أما رواية "فقسمته" فيؤخذ منها إطلاق الفعل على ما يأمر به الإنسان. 6 - استنبط منه ابن بطال أن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة في الموقف، لقوله صلى الله عليه وسلم "فكرهت أن يحبسني" أي يمنعني في الآخرة. 7 - أن المصلي ينبغي أن يتخلص من كل ما يشغل قلبه عن كمال التوجه والإقبال على الله، وذلك من قوله أيضا "فكرهت أن يحبسني" أي يشغلني التفكير فيه عن كمال الصلاة. 8 - أن على الإمام أن يقطع الوسواس، ويزيل الشكوك وأسباب الخوف عمن حوله، إذا رأوه غير المألوف لهم.

9 - فيه أن المكث بعد الصلاة ليس بواجب، وأن حديث "كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث في مكانه يسيرا" إنما كان لينصرف النساء دون اختلاط الرجال بهم ومقتضاه أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط لا يستحب لهم هذا المكث وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة: "إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". ثم إن المكث المشروع لا يتقيد بحال، من ذكر، أو دعاء، أو تعليم، أو صلاة نافلة. قال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالا، لأن الصلاة إن كانت مما يتطوع بعدها فعند الأكثرين أن يتشاغل بالذكر المأثور ثم يتطوع، وعند الحنفية يبدأ بالتطوع، وإن كانت الصلاة مما لا يتطوع بعدها فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور، ولا يتعين له مكان بل إن شاءوا انصرفوا وذكروا، وإن شاءوا مكثوا. انتهى بتصرف.

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة في لفظ الجمعة، واشتقاقها، ومعناها، لغات: 1 - الجمعة: بضم الميم، إتباعا لضمة الجيم، وهو المشهور، اسم من الاجتماع أضيف إليه اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى غلب على اليوم، وحذف منه الصلاة. 2 - الجمعة: بإسكان الميم على الأصل، فهو فعلة بمعنى مفعول وهي لغة تميم، وقرئ بها عن الأعمش، فمعنى الجمعة اليوم المجموع فيه أو الصلاة المجموع فيها، كما أن الهزءة هو الشخص المهزوء به. 3 - الجمعة: بضم الجيم وفتح الميم، فهو فعلة بمعنى فاعل، أي اليوم الجامع كهمزة ولمزة، بمعنى هامز ولامز، ولم يقرأ بها. فإن قيل: كيف يؤنث بالتاء وهو صفة لليوم المذكر؟ أجيب بأن التاء ليست للتأنيث، بل للمبالغة كما في رجل علامة، أو هو صفة للساعة. 4 - الجمعة: بضم الجيم وكسر الميم، وقد حكى ذلك الزجاج، ولا يخرج في معناها عما سبق. وقد أجمع العلماء على أن يوم الجمعة هو الذي بين الخميس والسبت واختلف في سر تسمية ذلك اليوم بهذا الاسم، مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية يوم العروبة، يفتح العين، فقيل: سمي بذلك لأن خلق آدم جمع فيه، وهذا أصح الأقوال، وقيل: لأن أسعد بن زرارة جمع الأنصار بالمدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها في ذلك اليوم، وصلى بهم، وذكرهم

فسموه الجمعة، حين اجتمعوا إليه. وقيل: سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه، وقيل: لأن كمال الخلائق جمع فيه. 43 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد". -[المعنى العام]- لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أن الله خص الأمة المحمدية بالفضل فمنحها السبق على الخلائق يوم القيامة في الحشر والحساب، ودخول الجنة وإن كانت هي آخر الأمم زمانا، وظهورا على وجه الأرض، ففي مسلم "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق". وأوضح في باقي الحديث ميزة أخرى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان قد فرض على أهل الكتاب، وعلى أمة محمد تعظيم الجمعة، والقيام بالذكر والشكر والعبادة فيه، فاختلف أهل الكتاب، ونازع اليهود نبيهم وجادلوه في أن يبدل لهم هذا اليوم بيوم السبت، فجعل عيدهم، كما خالف النصارى وغيروا وبدلوا بعد رفع المسيح، وجعلوا عيدهم يوم الأحد، واستقر حالهم على ذلك، وهكذا كان اختلاف أهل الكتاب في اليوم الذي فرض الله عليهم فلم يهتدوا له، وادخره الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهداها إليه بفضله، فهم لنا تبع حيث نبدأ بالجمعة ويأتي السبت عقب الجمعة، والأحد عقب السبت. كما أنهم سيكونون تبعا لنا في حساب الآخرة، ودخول الجنة فنحن السابقون عليهم بالفضل في الدنيا، وفي الموقف يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا زمانا، وأوتيناه من بعدهم. والله أعلم.

-[المباحث العربية]- (الآخرون) الذين جاءوا آخر الأمم زمانا في الدنيا. (السابقون) الأولون المتقدمون على غيرهم منزلة وكرامة. (يوم القيامة) أي في الحشر والحساب والقضاء لهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة. (بيد) مثل "غير" وزنا ومعنى وإعرابا، فهو منصوب على الاستثناء، وهو اسم ملازم للإضافة إلى "أن" وصلتها، ويصح أن يكون بمعنى "مع" فيكون منصوبا على الظرفية، والمعنى عليه حسن. (أنهم) يرجع الضمير إلى أهل الكتاب "اليهود والنصارى". (الكتاب) التوراة والإنجيل فأل فيه للعهد، وقيل للجنس. (ثم هذا يومهم) الإشارة إلى يوم الجمعة المفهوم من المقام. (فرض الله عليهم) فرض بمعنى ألزم وأوجب، ومفعوله محذوف، والتقدير فرض الله عليهم تعظيمه بعينه والاجتماع فيه. (فالناس لنا فيه تبع) الفاء للتفريع، أو التسبب، والمراد بالناس اليهود والنصارى فأل فيه للعهد. (اليهود غدا) المراد به يوم السبت، "والنصارى بعد غد" المراد به يوم الأحد "وغدا وبعد غد" خبران عما قبلهما، وليس فيه الإخبار بظرف الزمان عن الجثة أي عن الذات، لأن الكلام على حذف مضاف، والتقدير تعييد اليهود غدا وتعييد النصارى بعد غد، وبذلك يصير الزمان خبرا عن اسم معنى، كقولنا: صوم المسلمين غدا. -[فقه الحديث]- في بعض الآثار أن موسى عليه الصلاة والسلام عين لهم يوم الجمعة وأخبرهم بفضيلته، فناظروه، وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت

شيئا فاجعله لنا، واختلفوا معه، فأوحى الله تعالى إليه: "دعهم وما اختاروا" قال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا، فاختلفوا. هل يلزم بعينه؟ أم يسوغ إبداله بيوم آخر؟ فاجتمعوا في ذلك فأخطأوا. اهـ. وروى الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} قال: أرادوا الجمعة، فأخطأوا، وأخذوا السبت مكانه. وقال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل -والله أعلم -أنه فرض عليهم يوم، وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام هو؟ ولم يهتدوا ليوم الجمعة. اهـ. والظاهر أنه عينه لهم لأن السياق دل على ذمهم في العدول عنه، فلو لم يعينه لهم، ووكل التعيين إلى اجتهادهم، لكان الواجب عليهم تعظيم يوم لا بعينه، فإذا أدى الاجتهاد إلى أنه السبت، أو الأحد لزم المجتهد ما أدى إليه الاجتهاد، ولا يأثم. ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم "هذا يومهم الذي فرض الله عليهم". وإنما اختار اليهود يوم السبت لزعمهم الفاسد أنه فرغ الله فيه من خلق الخلق قالوا فنحن نستريح فيه عن العمل، ونشتغل فيه بالعبادة والشكر لله تعالى. واختار النصارى يوم الأحد لأنه أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخليقة، فاستحق التعظيم، ولزعمهم أن المسيح عليه السلام بعد ما صلب ودفن خرج من القبر ورفع إلى السماء يوم الأحد، فاتخذوه عيدا مخالفين شريعة التوراة التي لم ينسخها المسيح نفسه حين وجوده بينهم. وطريق الهداية إلى ذلك اليوم يحتمل وجهين: أحدهما -أن يكون الله قد نص لنا عليه، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علمه بالوحي، وهو بمكة ولم يتمكن من إقامة الجمعة بها، ولذا جمع بالمسلمين أول ما قدم المدينة، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. والثاني أن تكون الهداية إليه بالاجتهاد، كما يدل له مرسل ابن سيرين عند عبد الرزاق بإسناد صحيح، ولفظه "جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار إن لليهود يوما يجتمعون فيه، كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوما

نجتمع فيه، نذكر الله تعالى، ونصلي فيه، فجعلوه يوم العروبة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وداود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وغيره، من حديث كعب بن مالك قال: "كان أول من صلى بنا الجمعة، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أسعد بن زرارة" فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد. قال الحافظ في الفتح: ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، ولم يتمكن من إقامتها هناك، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. اهـ. ولا يقال إن يوم الجمعة مسبوق بأحد وسبت، إذ لا يتصور أحد اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الجمعة فرض على المسلمين لقوله "فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له "لأن التقدير فرض الله عليهم وعلينا، فضلوا وهدينا، ويؤيد ذلك رواية مسلم "كتب علينا". 2 - أن الهداية والإضلال من الله تعالى وهذا يوافق مذهب أهل السنة. 3 - أن سلامة الإجماع من الخطأ مخصوص بأمة محمد حيث أجمع اليهود والنصارى على غير الحق. 4 - أن الاجتهاد في زمن نزول الوحي جائز، حيث اجتهد الصحابة بالمدينة. 5 - أن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتا.

6 - فيه دليل على زيادة فضل أمة محمد، وأنها استسلمت لحكم الله تعالى وما اختار لعباده. 44 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد". -[المعنى العام]- كان الناس زمان النبي صلى الله عليه وسلم في جهد شديد، يلبسون الصوف، ويغدون في أعمالهم فيعرقون، وقد لا يكونون يملكون غير الثوب الواحد، فإذا كانت الجمعة اجتمعوا، وعليهم ثياب متغيرة، تنبعث منها ومن أجسادهم رائحة العرق فشكا بعضهم ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب في الاغتسال يوم الجمعة

لحضور الصلاة، وأكد على المسلمين أن يقيموا هذه السنة، فعبر عنها بصيغة الوجوب واللزوم، لأنها من الشريعة بمكانة عظمى، ومتأكدة أشد التوكيد كما رغب صلى الله عليه وسلم في استعمال السواك لنظافة الفم والأسنان، واستعمال الطيب للثياب والأبدان، حتى يظهر المسلمون في اجتماعهم مثلا كريما للنظافة وطيب الرائحة، وحتى لا تنبعث منهم الروائح الكريهة، فيؤذي بعضهم بعضا وتتأذى منهم الملائكة، وهكذا يتأكد ما تقرر من أن الإسلام دين النظافة ودين الألفة والمودة، ودين الحس المرهف، والأخلاق والسلوكيات العالية. -[المباحث العربية]- (أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) أي أقر وأثبت، وعبر بلفظ "أشهد" للتأكيد وأنه متثبت مما يقول. وجملة "قال" مسبوكة بمصدر من غير سابك والمصدر مجرور بحرف جر، والتقدير: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال أي بقوله: "الغسل يوم الجمعة واجب ... ". (على كل محتلم) أي بالغ، وعبر عن البلوغ بالاحتلام، وإن كان يحصل بغيره، كالإنزال دون احتلام، أو بالسن، لأنه الغالب، وهذا الوصف يشمل الرجال والنساء، ويخرج الصبيان. (أن يستن) أي يدلك أسنانه بالسواك ونحوه، والمصدر من أن والفعل معطوف على الغسل، والتقدير: الغسل والاستتان يوم الجمعة واجبان على كل محتلم. (وأن يمس طيبا) بفتح الميم على الأفصح، والمس أخف حالات اللمس والطيب كل ذي رائحة عطرة. (إن وجد) يحتمل أن يكون متعلقا بقوله "وأن يمس طيبا" فقط، فيكون التقدير إن وجد الطيب مسه، ويحتمل أن يتعلق به وبقوله "وأن يستن" فيكون التقدير: إن وجد السواك والطيب فعل، والأول أولى، لأنه الذي يتعذر، أما السواك فلا يتعذر غالبا، ثم رواية مسلم "ويمس من الطيب ما يقدر عليه" تؤكد هذا المعنى.

-[فقه الحديث]- مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة أن هذا الغسل حق لصلاة الجمعة لا لليوم، لمزيد فضلها واختصاص الطهارة بها، ويصرح بهذا ما رواه مسلم "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل" وما رواه البخاري "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" والمقصود إذا أراد المجيء، فلو اغتسل بعد الصلاة لم يعتبر غسلا للجمعة ولو اغتسل بعد الفجر أجزأه عند الشافعية والحنفية خلافا للمالكية والأوزاعي الذين استدلوا بتعليق الأمر بالغسل على المجيء فوجب أن يكون متصلا بالذهاب إلى الجمعة غير أن تقريب الغسل من وقت الذهاب للصلاة أفضل عند الجميع، لأنه يكون أوفى بالغرض من انتفاء الرائحة الكريهة حال الاجتماع في أثناء الصلاة. وإنما اقتصر في هذا الحديث على المحتلم لأنه الكثير الغالب فيمن يحضرون بخلاف الصبي فلا يتأكد الاغتسال في حقه كتأكده للبالغ وإن كان يسن له حيث أراد حضور الجمعة لحديث "إذا جاء أحدكم الجمعة -أي أراد مجيئها وإن لم تلزمه -فليغتسل" وخبر ابن حبان من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل والأمر في هذه الأحاديث للندب لا للوجوب. وقد أخذ الظاهرية بظاهر هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي وردت بصيغة الأمر فقالوا بوجوب غسل الجمعة على الرجال. وحكي عن جماعة من السلف منهم أبو هريرة وعمار بن ياسر. وحكي عن أحمد في إحدى الروايتين عنه. قال الخطابي: ذهب مالك إلى إيجاب الغسل، وأكثر الفقهاء إلى أنه غير واجب وتأولوا الحديث على معنى الترغيب والتوكيد لأمره تشبيها له بالواجب في تأكيد الندبية أو واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة أو في الكيفية لا في الحكم، والذي حملهم على صرف الأمر عن الوجوب إلى الندب أخبار منها خبر "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" وعلى ذلك فالغسل للجمعة سنة مؤكدة عند الشافعية والحنفية وجمهور المالكية وعند أحمد في إحدى الروايتين عنه. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استدل من قال: إن الغسل لليوم لا للصلاة أخذا من الإضافة ولكن

الأحاديث التي ربطت الغسل بالذهاب إلى الجمعة تؤكد فساد هذا الرأي. 2 - استحباب السواك والطيب يوم الجمعة، ولمن حضر صلاتها آكد وأبلغ. 3 - استدل به على أن الجمعة غير واجبة على الصبيان. 4 - استدل به بعضهم على سقوط الجمعة عن النساء، لأن الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض، لا بالاحتلام وهذا مردود بأن الحيض يعدل الاحتلام، وإن سقطت الجمعة عنهن بحديث "لا جمعة على امرأة ولا صبي". 5 - استدل به على أن الغسل حيث وجد يوم الجمعة كفى، ولو كان عن جنابة، لأن اليوم جعل ظرفا للغسل، وقال قوم: إن ليوم الجمعة غسلا مخصوصا، فلا يجزئ عن غسل الجمعة غسل الجنابة إلا بالنية، وقد أخذ بذلك أبو قتادة، إذ قال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة "إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلا آخر للجمعة".

45 - عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". -[المعنى العام]- يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الله، وتأدية فريضة الجمعة على أتم وجه، من الطهر، والنظافة ظاهرا وباطنا، فيخبر بأنه ما من عبد نظف بدنه وثيابه وتطهر وتجمل وادهن بطيب من بيته، ثم خرج إلى المصلى في هدوء وسكينة ووقار، فلم يزاحم أحدا، ولم يتخط رقاب الناس، بل جلس حيث انتهى به المكان، وصلى ما شاء له الله أن يصلي، ثم جلس مصغيا لما يقوله الخطيب، من عظات تطهر نفسه، وتكمل خلقه، وتعلمه شعائر دينه، وتفاصيل كتابه. ما من مسلم يفعل ذلك إلا رضي الله عنه، وغفر له خطاياه التي اقترفها منذ الجمعة الماضية، إلى الجمعة الحاضرة، لأنه أحسن لقاء ربه، واستعد لفريضته أجمل استعداد، وأظهر آثار نعمة الله عليه، شكرا لما تفضل به عليه فكان جزاؤه أكرم جزاء {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} -[المباحث العربية]- (لا يغتسل رجل) أي لا ينظف جسمه كله بالماء تنظيفا شرعيا. (ويتطهر ما استطاع من طهر) "ما" اسم موصول بمعنى الذي و"من طهر" بيان لما، وعطفه على الغسل إما للمبالغة في التنظيف، أو المراد التنظيف بأخذ الشارب والظفر وحلق العانة، أو المراد بالاغتسال غسل الجسد، وبالتطهر غسل الرأس وتنظيف الثياب. (ويدهن من دهنه) بتشديد الدال من باب الافتعال، ومعناه يطلي الشعر

بالدهن أو الزيت، ليزيل شعث رأسه ولحيته. (أو يمس) "أو" لأحد الشيئين، والمعنى إن لم يجد دهنا، يمس من طيب بيته، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو، وقد روي كذلك فلا مانع من الجمع بينهما، بأن يدهن ويمس من طيب بيته. (فلا يفرق بين اثنين) يفرق بضم الراء، أي يفصل بين اثنين، وهو كناية عن التبكير، أي عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس، قال الكرماني، أو المعنى لا يزاحم رجلين فيدخل بينهما، لأنه ربما ضيق عليهما، خصوصا في شدة الحر واجتماع الناس. (ما كتب له) معناه يحتمل وجهين، أحدهما أن المراد بما كتب له ما فرض عليه من صلاة الجمعة، والثاني أن معنى "ما كتب له" أي ما قدر له أن يصلي فرضا أو نفلا. (ثم ينصت) بضم أوله أو بفتح أوله، والمعنى يسكت عن الكلام. قال الأزهري "أنصت ونصت وانتصت" ثلاث لغات بمعنى واحد. (إذا تكلم الإمام) أي إذا شرع في الخطبة. (ما بينه وبين الجمعة الأخرى) أي بين يوم الجمعة الحاضرة وبين يوم الجمعة الأخرى. ويحتمل أن تكون الماضية قبلها، أو المستقبلة بعدها، لأن الأخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء. -[فقه الحديث]- إنما أضاف الطيب إلى البيت ليؤذن بأن السنة أن يتخذ الطيب لنفسه ويجعل استعماله عادة له، فيدخره في البيت، وهذا بناء على أن المراد بالبيت حقيقته. أما إن جعل كناية عن زوجته، كما صرح في حديث ابن عمر عند أبي داود بذلك "أو يمس من طيب امرأته" فالمعنى على هذا إن لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته، ثم إن وجد عنده ثيابا أحسن من التي يلبسها فليتجمل بها، لما ورد في حديث ابن عمر أيضا: "ويلبس من

صالح ثيابه" وليتجه إلى المسجد بالسكينة والوقار، فلا يخاصم ولا يفرق بين اثنين، ولا يتكلم حين الخطبة، حتى يغفر الله له سيئاته، والمقصود غفران الذنوب الصغائر، لما زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه "ما لم تغش الكبائر" أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر مشروط باجتناب الكبائر لأن اجتنابها بمجرده يكفر الصغائر، قال تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} أي نمح عنكم صغائركم، ولا يلزم من ذلك أنه لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، بل يكفرها أمور أخرى كالتي هنا، فإن لم يكن للعبد أمور صغائر، رجي أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك، ولا حرج على فضل الله، وظاهر الحديث أنه لا يحصل التكفير المذكور إلا لمن جمع بين تلك الأمور من الغسل وما بعده، وعلى احتمال أن يكون المراد الجمعة المستقبلة فمعنى التكفير عدم المؤاخذة بالذنب إذا وقع، على حد قول الله تعالى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} -[ويستفاد من الحديث ما يأتي: ]- 1 - استحباب الغسل للجمعة غسلا شرعيا. 2 - استحباب التطهر، وتنظيف الثياب وأخذ الشارب والظفر وغير ذلك. 3 - استحباب الادهان والتطيب. 4 - كراهة التخطي لرقاب الناس يوم الجمعة. قال الشافعي "أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى" وكان مالك لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر. 5 - مشروعية التنفل قبل صلاة الجمعة بما شاء، لقوله: "ثم يصلي ما كتب له" على أنها بمعنى ما قدر له. 6 - طلب الإنصات إذا شرع الإمام في الخطبة، وحكمه أنه واجب لورود الأمر بذلك.

7 - جواز النافلة نصف النهار "وقت الزوال" يوم الجمعة. 8 - أن ما تقدم من الأمور السبعة المذكورة في الحديث يكفر الذنوب. 46 - عن عمر رضي الله عنه أنه وجد حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة؟ وللوفد إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة" ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب منها حلة فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت! ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أكسكها لتلبسها فكساها عمر أخا له بمكة مشركا". -[المعنى العام]- يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين، يجتمعون فيه مع مختلف مهنهم وثيابهم ونظافتهم، وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الغسل يوم الجمعة ليلتقي المسلمون وقد أزالوا التفث والروائح المختلفة من العرق من أجسادهم، وإذا

كان قد دعا إلى استعمال السواك قبل اللقاء لإزالة مخلفات الفم، وإذا كان قد دعا إلى مس الطيب لتجميل الرائحة وتحسينها عند الاجتماع، فهو في هذا الحديث يدعو إلى تحسين الهيئة عند اللقاءات الكثيرة العدد، أو لقاءات ذوي الهيئات وأصحاب الجاه. ومن المعلوم أن عامة المسلمين في صدر الإسلام لم يكن لهم ثياب متعددة وربما كان الواحد يغسل ثوبه، ويستتر بشيء ما حتى يجف ويلبسه، وكثيرا ما كان ثوب المهنة والعمل هو ثوب الجمعة والمناسبات لمن تعددت عنده الثياب مما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين [أي إزارا ورداء] لجمعته سوى ثوبي مهنته" كما دعا من يروح إلى الجمعة أن يلبس أحسن ثيابه وخيرها. وكان عمر رضي الله عنه حريصا على أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس لباسا، كما هو خيرهم في الإنسانية، فرأى -وهو خارج من المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -رجلا يبيع ثيابا عند الباب، وفي يده حلة جميلة من الحرير فقال: يا رسول الله. لو اشتريت هذه الحلة الفاخرة فلبستها عند صلاة الجمعة، وعند لقائك بالوفود التي تأتيك من مختلف الجهات لكان خيرا ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم للحلة فإذا هي من الحرير الخالص، والحرير في الإسلام محرم على الرجال، فقال لعمر: إنما يلبس هذه وأمثالها من حلل الحرير من لاحظ له ولا نصيب في الآخرة. فسكت عمر، ولعله لم يكن يعلم أن الحلة من الحرير الممنوع، أو لم يكن يعلم حكم لبس الحرير، أو لم يكن حرم الحرير على الرجال من قبل هذا اليوم. وبعد فترة من الزمن جاءت هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها حلل مثل التي قيل فيها ما قيل، فوزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها حلل مثل التي قيل فيها ما قيل، فوزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خاصة أصحابه ومنهم عمر. فقال عمر: يا رسول الله. هذه. مثل التي قلت عنها: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة؟ فكيف تهديها إلي لألبسها؟ قال: ما أهديتها لك لتلبسها، وإنما لتلبسها نساءك أو بناتك، أو تهديها غيرك، فتنتفع بها بغير لبسك، فأهداها عمر أخا له كان بمكة مشركا.

-[المباحث العربية]- (حلة) هي الإزار والرداء، ولا تكون حلة حتى تكون ثوبين، وقال ابن التين: لا تكون حلة حتى تكون جديدة، سميت بذلك لحلها عن طيها. (سيراء) بكسر السين وفتح الياء، أي حرير خالص، وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور، وقد ضبطت مضافة إلى "حلة"، كثوب خز وبتنوين "حلة" و"سيراء" صفة أو بدل. (لو اشتريت) "لو" يجوز أن تكون للشرط، ويكون جوابها محذوفا تقديره لكان حسنا، ويجوز أن تكون للتمني فلا تحتاج إلى جواب. (فلبستها يوم الجمعة) كما أمرت بجعل خير الثياب للجمعة. (وللوفد إذا قدموا عليك) الوفد جماعة من القوم يفدون على الأمير ونحوه وهو جمع وافد، وهو القادم، رسولا أو زائرا أو غير ذلك، وهو مجرور باللام، أي فلبستها لأجل وقت قدومه عليك. (إنما يلبس هذه) الإشارة للحلة الحرير، وليس المقصود تلك بالذات، بل كل ما كان من حرير بحت، فالمقصود المشار إليه وأمثاله. (من لا خلاق له) أي من لاحظ ولا نصيب له من الحرير في الآخرة. (منها حلل) أي من أمثالها من الحرير الخالص. (وقد قلت في حلة عطارد ما قلت) الواو للحال، والجملة التي بعدها حالية و"ما قلت" أي ما قلته، من أنه يلبسها من لا خلاق لهم، وأتى بلفظ "ما" الدال على العموم للتهويل في الوعيد، "وعطارد" بضم العين وكسر الراء وتنوين آخره، صاحب الحلة، وهو ابن الحاجب بن زرارة التميمي، قدم في وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم، وله صحبة وحلته هذه هي التي كانت تباع بباب المسجد. (فكساها عمر أخا له بمكة) "أخا" مفعول أول: و"ها" مفعول ثان مقدم

و"له" جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ "أخا" و"بمكة" متعلق بمحذوف صفة أخرى. (مشركا) صفة أخرى، أو حال من الضمير المستكن في متعلق الجار والمجرور "بمكة". -[فقه الحديث]- ظاهر من الحديث أن الحرير محرم على الذكور والإناث، لقوله "إنما يلبس هذه من لا خلاق له" ولكن هذا الحديث مخصص بأحاديث أخرى صحيحة تدل على إباحة الحرير للنساء، ولا يدل قوله: "فكساها عمر أخا له بمكة مشركا" على جواز لبس المشركين للحرير لأنه يقال كساه إذا أعطاه كسوة سواء لبسها أم لا، فعمر أهداها لأخيه من أمه المشرك لينتفع بها، ولا يلزم من ذلك لبسها، على أن هناك خلافا أصوليا في: هل الكافر مخاطب بفروع الشريعة؟ أو غير مخاطب؟ قيل إنه كان أخاه من الرضاع واسمه عثمان بن حكيم، وقيل هو أخو أخيه؟ زيد بن الخطاب "لأمه" أسماء بنت وهب" واختلف في إسلامه. وفي رواية للبخاري أرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم، وهذا يدل على إسلامه بعد ذلك. -[ونأخذ من الحديث ما يأتي: ]- 1 - أن الحرير حرام لبسه على الرجال، قال القرطبي: اختلف الناس في لباس الحرير، فمن مانع، ومن مجوز على الإطلاق، والجمهور من العلماء على منعه للرجال. 2 - جواز البيع والشراء على أبواب المساجد. 3 - جواز أن يباشر الصالحون والفضلاء البيع والشراء. 4 - جواز أن يمتلك المسلم ما لا يجوز لبسه له، ويجوز له إهداؤه إلى الغير ممن يحل له لبسه. 5 - جواز صلة الأقارب الكفار والإحسان إليهم.

6 - جواز تقديم هدية الحرير أو الذهب إلى الرجال، لأن ذلك لا يلزمهم باستعمالها، بل ينتفعون بها في وجوه أخرى. 7 - جواز عرض المفضول على الفاضل ما يحتاج إليه من مصالحه التي لا يذكرها أخذا من عرض عمر على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشتري الحلة. 8 - أن من لبس الحرير في الدنيا يحرم منه في الآخرة، غير أن الحديث مخصوص بالرجال لقيام أدلة أخرى بإباحته للنساء. 9 - ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من السخاء والجود وصلة الإخوان. 10 - استحباب لبس الثياب الحسنة والتجمل يوم الجمعة وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب يلبس أحسن ما يجد وأفضل الألوان البياض لحديث "البسوا من ثيابكم البياض" والسنة أن يزيد الإمام في حسن الهيئة والعمة والارتداء.

47 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة". -[المعنى العام]- الإسلام دين النظافة، ودين المحافظة على الصحة، ودين الألفة والمحبة بين أعضاء المجتمع، أهداف جليلة تتحقق من عمل سهل يسير، أهداف عملاقة يغرسها عود الأراك المسمى بالسواك، مطهرة للفهم من فضلات الطعام، مزيل للروائح الكريهة والمتخلفة عن بعض الأطعمة، مغير للرائحة المنبعثة من أبخرة المعدة، أو من خلل في اللثة وقواعد الأسنان، ومنظف للأسنان وللسان من الألوان الغريبة، والصفرة الطارئة، ثم هو بعد ذلك يحفظ الفم من كثير من الأمراض، ويحفظ الأضراس من نخر السوس، ويحفظ اللثة من الضعف أو التشقق، ويحفظ المعدة من عفونات الطعام التي تتخلف بدونه بين الأسنان. وبالرائحة الطيبة، والنظافة الظاهرة تتم المودة والألفة بين الناس. تلك بعض فوائد السواك الدنيوية، التي لا تقاس بالفوائد الأخروية، لقد جاءت الشريعة بأن السواك مرضاة للرب، فطلبت استعماله في مختلف الأوقات وعلى أي الحالات، وشددت طلبه في مواطن الإقبال على العبادة، ومواطن الاجتماع بالناس. ولولا الرفق بالمؤمنين لكان السواك فرضا عليهم عند كل وضوء، وعند كل صلاة. -[المباحث العربية]- (لولا أن أشق على أمتي -أو على الناس-) في رواية لمسلم "لولا أن أشق على المؤمنين" فالمراد من الأمة ومن الناس المؤمنون، لأنهم الذين تتوجه إليهم أوامر الدين الفرعية على الصحيح، والشك هنا من الراوي في أي اللفظين صدر. و"لولا" حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على انتفاء

الشيء لوجود غيره، والمصدر المنسبك من "أن" والفعل في محل رفع بالابتداء، وفيه مضاف محذوف، والخبر محذوف وجوبا، وجواب "لولا" "لأمرتهم" والتقدير لولا خوف المشقة على المؤمنين موجود لأمرتهم بالسواك، فانتفى وامتنع الأمر الإيجابي بالسواك لوجود خوف المشقة. (لأمرتهم بالسواك) قال أهل اللغة: السواك بكسر السين يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به، يقال: ساك فمه يسوكه سوكا، فإذا قلت: استاك لم يذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين، مثل كتاب وكتب وقال بعضهم يجوز أيضا سؤك بالهمز، والسواك مأخوذ من ساك إذا دلك، وهو في اصطلاح استعمال عود أو نحوه في الأسنان لتذهب عنها الصفرة والتغيير. -[فقه الحديث]- في السواك وردت أحاديث كثيرة منها: 1 - روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء". 2 - وروى أحمد والنسائي والترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". 3 - وروى الطبراني في الأوسط "نعم السواك الزيتون، من شجرة مباركة يطيب الفم، ويذهب بالحفر، وهو سواكي، وسواك الأنبياء من قبلي" والحفر داء يفسد أصول الأسنان. 4 - وعند أحمد عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ، إلا يتسوك قبل أن يتوضأ". 5 - وروى الحاكم والبيهقي "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء". وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على السواك محافظة جعلت الشافعية والمالكية

يقولون بوجوبه عليه صلى الله عليه وسلم وقد يستندون أيضا إلى ما رواه البيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هم علي فريضة، وهن لكم تطوع، الوتر والسواك وقيام الليل". والجمهور على أنه لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم ويردون على حديث البيهقي بأنه ضعيف، وأنه معارض لما رواه ابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك، حتى خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي". وبما رواه أحمد بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي". وإذا جاوزنا حكم السواك بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجدنا العلماء يتفقون على أنه سنة لعامة المسلمين، ليس بواجب في حال من الأحوال، لا في الصلاة، ولا في غيرها بإجماع من يعتد به في الإجماع، كما قال النووي. وحكي عن داود الظاهري أنه أوجبه للصلاة, لكن إن تركه لا تبطل صلاته وحكي عن إسحاق بن راهوية أنه قال: هو واجب، فإن تركه عمدا بطلت صلاته. ثم إن السواك المستحب في جميع الأوقات يكون أشد استحبابا في خمسة أوقات. عند الصلاة، وعند الوضوء، وعند قراءة القرآن، وعند الاستيقاظ من النوم، وعند تغير الفم، من أكل، أو شرب، أو طول سكوت، أو طول كلام، أو طول عدم الطعام والشراب. ومذهب الشافعية كراهة السواك للصائم بعد زوال الشمس لئلا يزيل رائحة الخلوف المستحبة، وفي نقل ذلك عن الشافعي خلاف، بل حمل بعض الشافعية أنفسهم على هذا القول. كما حمل الفقهاء على بعض المالكية القائلين بكراهة الاستياك في المسجد لاستقذاره وتنزيه المسجد عنه، وحملوا أيضا على بعض الحنفية الذين قالوا: يكره الاستياك عند الصلاة, لأنه قد يخرج الدم فينقض الوضوء.

أما بم؟ وكيف يستاك؟ فأفضله عود الأراك، ثم عود الزيتون، ثم عود أي شجر يصلح لذلك من طيب الرائحة، وحسن أن يكون في غلظ الخنصر، وأن لا يكون شديد اليبس ولا رطبا، وفرشاة الأسنان المعروفة تقوم مقامه ومعجون الأسنان مستحسن، بل قال بعض العلماء: إن العلك [اللبان] يقوم مقامه بالنسبة للنساء. وكيفيته الكاملة أن يمسكه باليمين، وأن يكون خنصرها أسلفه، والبنصر والوسطى والسبابة فوقه، والإبهام أسفل رأسه -كما رواه ابن مسعود -وأن يغسله ويرطبه قبل استعماله، وأن يمر به على الأسنان طولا وعرضا، وأن يمر به على اللسان، وعلى طرف الأسنان وكراسي الأضراس، وسقف الحلق، وأن يستعمله برفق حسب الاستعداد لئلا يدمي اللثة، ويستاك حتى يطمئن لزوال النكهة، ونظافة الفم. والأفضل أن لا يستاك بحضرة الغير، وأن يتمضمض بعده، وأن لا يستعمل سواك غيره. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرفق بأمته والشفقة عليها. 2 - قال المهلب: فيه جواز الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه نص لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره. 3 - أخذ منه بعضهم أن أمر الشارع إذا أطلق ينصرف إلى الوجوب، وهو مذهب أكثر الفقهاء، لأنه صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم" والسواك مسنون بالاتفاق، فدل على أن المتروك إيجابه، لأنه نفي الأمر مع ثبوت الندبية. 4 - وعلى أن الطلب على وجهة الندب ليس بأمر حقيقة. 5 - والحديث بعمومه يدل على استحباب السواك للصائم بعد الزوال، خلافا للشافعية. 6 - وضع البخاري هذا الحديث تحت كتاب الجمعة كظاهرة من المظاهر المستحبة في الجمعة، كالغسل والتطيب ولبس أحس الثياب، وبما أنه مستحب آكد استحباب عند كل صلاة, فإن صلاة الجمعة تزيد تأكيد استحبابه، لكثرة المجتمعين لها. والله أعلم.

48 - عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: "كان النداء يوم الجمعة: أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء". -[المعنى العام]- شرع الله الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة، وقد كان المسلمون قبل أن يشرع يجتمعون في المسجد فيتحينون الصلاة, ويقدرون حينها ووقتها، فإذا ما قرروا دخول الوقت قاموا فصلوا، فلما كثر المسلمون وانشغلوا في المدينة بمشاغل الحياة فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفكر معه صحابته في وسيلة يعلم بها الناس بدخول وقت الصلاة، ليجتمعوا لها، فكان الأذان. وتقريرا لهذه الغاية، وانطلاقا من هذا الدافع قرر عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يؤذن للجمعة إعلاما بدخول وقتها، على مكان عال قريب من المسجد غير أذانها الأصلي الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وعمر، والذي كان ينادي به حين يجلس الخطيب على المنبر، بجوار المنبر أو على باب المسجد، قرر عثمان هذا الأذان حين كثر الناس في

المدينة، وزاد انشغالهم بدنياهم عن المكث في المسجد، والحق أن دوافع عثمان لهذا الأذان هي دوافع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته للبحث عن وسيلة يعلمون بها عن وقت الصلاة ليجمعوا الناس، فعثمان وإن ابتدع المظهر لكنه يوافق ويحقق هدف الشريعة الإسلامية. لذا أقره الصحابة، ولم يعترض على فعله أحد، واستمر العمل على هذا عند جماهير المسلمين حتى اليوم. رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (كان النداء يوم الجمعة) أي الأذان الذي ذكره الله تعالى في قوله: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} أي إذا أذن لها فامضوا إليها {وذروا البيع} (أوله) بالرفع بدل من اسم كان، أي ابتداؤه. (إذا جلس الإمام على المنبر) وفي رواية "كان الأذان أذانين. إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة". (فلما كان عثمان) خبر كان محذوف، والتقدير فلما كان عثمان خليفة. أو "كان" تامة، و"عثمان" فاعلها، أي فلما تولى عثمان رضي الله عنه. (وكثر الناس) أي بالمدينة. (النداء الثالث) الأذان الذي يكون عند دخول الوقت، قبل خروج الإمام ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وسماه ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الأذان والإقامة، وإن كان أولا باعتبار الوجود، وسميت الإقامة أذانا على سبيل التغليب لاشتراكها معه في الإعلام بالصلاة. (الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو موضع بسوق المدينة قيل: إنه مرتفع كالمنارة وقيل حجر عند باب المسجد، وقيل دار لعثمان. -[فقه الحديث]- إنما أمر عثمان بالنداء الأول على الزوراء لإعلام الناس بدخول وقت

الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وذلك حينما رأى كثرة المسلمين بالمدينة، وتشاغلهم بأعمالهم مع تباعد منازلهم، ووافق سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار، وعلى ذلك فأول من زاد الأذان بالمدينة هو عثمان بن عفان، والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك، لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر بعضهم أن أول من أحدث الأذان الزائد بمكة هو الحجاج، وبالبصرة هو زياد، والصحيح الأول، كما ورد أن عمر هو الذي زاد الأذان، والظاهر أن عمر كان يدعو الناس إلى الجمعة، من غير أن يؤذن لها، وجاء في رواية "فأمرعثمان بالنداء الأول" ولا منافاة بين الروايتين لأن الزائد عما كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول باعتبار الإيجاد، حيث يؤذن به عند دخول وقت الظهر وثالث باعتبار شرعيته لأنه أحدث بعد الأولين باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة بالسكوت وعدم الإنكار. قال الحافظ ابن حجر: وأما ما أحدثه الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى. اهـ. -[ويستفاد من الحديث ما يأتي: ]- 1 - أن جلوس الإمام على المنبر قبل الخطبة ثابت شرعا، وهو سنة عند مالك والشافعي والجمهور، خلافا لبعض الحنفية، واختلف في علته، فقيل: لراحة الخطيب، وقيل: من أجل الأذان بين يديه، وعليه لا يسن الجلوس في العيد، إذ لا أذان هناك، وقيل لتسكين اللغط والتهيؤ للإنصات، وإحضار الذهن لسماع الخطبة. 2 - التأذين قبيل الخطبة حين يجلس الإمام على المنبر. 3 - أن خطبة الجمعة سابقة على صلاتها، ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة. وإذا كان يقع حين يجلس الإمام على المنبر دل على سبق الخطبة على الصلاة.

4 - فيه دلالة على مشروعية ما يفعله عامة المسلمين هذه الأيام من التأذين أولا على المنارة مثلا، ثم التأذين بين يدي الإمام، ثم الإقامة للصلاة عند نزوله بعد الخطبة خلافا لمنكري ذلك من طوائف. 49 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: "أصليت يا فلان؟ قال: لا قال قم فاركع". -[المعنى العام]- في المسجد النبوي بالمدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة دخل سليك الغطفاني. دخل الرجل الفقير في ثوب رث، وهيئته تدعو إلى الشفقة والعطف، دخل فجلس، ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعرفه فرق لحاله، وأراد أن يراه الناس واقفا وهم جلوس، وانتهز فرصة أنه لم يصل ركعتي تحية المسجد فناداه: يا سليك, أصليت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين، وتجوز فيهما، وخففهما، قام فصلى، فرآه الصحابة وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث المسلمين في خطبته على الصدقة، وفطن أهل الخير

والفضل، فتلقى سليك ثوبين، فجاء بهما في الجمعة الأخرى، وحاول أن يهدي أحدهما فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته هاديا ومرشدا وموجها ورفيقا ورحيما، وصدق الله العظيم حيث يقول فيه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} -[المباحث العربية]- (جاء رجل) أي دخل المسجد رجل واسمه سليك بصيغة التصغير، ابن هدية، وقيل: ابن عمرو الغطفاني، ففي مسلم "جاء سليك الغطفاني". (يخطب الناس) هم الناس الموجودون بالمسجد فأل فيه للعهد. (فقال) الفاء عاطفة على محذوف، والتقدير فجلس الرجل، فقال النبي له "قم ... " كما يدل عليه رواية مسلم "جاء سليك قبل أن يصلي، فقال له: " (أصليت يا فلان؟ ) في رواية الأكثرين "صليت يا فلان"؟ يحذف همزة الاستفهام مع إرادته. (يا فلان) كناية عن الرجل الداخل وهي من الراوي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عينه طبعا عند النداء فقال: يا سليك. (فاركع) أي فصل، وعبر عن الصلاة بالركوع مجازا مرسلا، لأن الركوع أهم أجزائها، ويدل على ذلك رواية "فصل" وفي رواية "فاركع ركعتين". -[فقه الحديث]- استدل بهذا الحديث الفقهاء من المحدثين والشافعية والحنابلة على أن من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب على المنبر، يندب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما، وليخفف فيهما وجوبا، ليسمع الخطبة، والمراد بالتخفيف الاقتصار على الواجبات لا

الإسراع ومنع المالكية والحنفية هاتين الركعتين والإمام يخطب، لأنه معارض بقوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت" متفق عليه. فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات، مع قصر زمنه فمع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، كما استدلوا على منع هاتين الركعتين بأنه عليه الصلاة والسلام قال للذي دخل المسجد يتخطى رقاب الناس "اجلس فقد آذيت" فقد أمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية، وأجابوا عن قصة سليك بأنها واقعة عين لا عموم لها فتختص بسليك، واستدلوا بما في بعض طرق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال "صل ركعتين" وحض على الصدقة فأمره أن يصلي ليراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه، ولأحمد: "وإن هذا الرجل في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين، وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه". كما استدلوا أيضا بأن تحية المسجد تفوت بالجلوس، وقد جلس سليك، ولو قصد التحية ما أمره بالقيام بعد أن جلس. ورد عليهم الشافعية والحنابلة بأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بقصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية. وقد ورد ما يدل على عدم الانحصار في قصد التصدق وهو أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالصلاة في الجمعة الثانية، فإن هذا الرجل لما جلس في الجمعة الأولى، أمره الرسول أن يقوم فيصلي، ثم جلس في الجمعة التي تليها فأمره أن يقوم فيصلي، ولم يكن المقصود في المرة الثانية توجيه أنظار الناس إليه للتصدق عليه بعد أن حصل له ثوبان في الأولى فدخل في الثانية، فتصدق بأحدهما فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ومما يقوي هذا الرد ويضعف استدلالهم أن قصد التصدق لو كان العلة لجاز التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة لمثل هذه العلة ولا قائل به. كما أجابوا عن فوات تحية المسجد بالجلوس، بأن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس جهلا أو نسيانا. وجلوس هذا الداخل أولا محمول على الجهل وثانيا محمول على النسيان. كما تأول الشافعية والحنابلة قوله عليه الصلاة والسلام

للذي يتخطى رقاب الناس "اجلس" بأنه معناه لا تتخط، وليس معناه نهيه عن صلاة تحية المسجد، أو بأنه عليه الصلاة والسلام ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة، أو لأن دخوله المسجد كان في آخر الخطبة بحيث لو اشتغل بالصلاة فاتته أول الجمعة مع الإمام، أو أنه كان قد صلاها في آخر المسجد ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، فوقع منه التخطي فأنكر عليه، أما الآية فالمعارضة بها لا تسلم، إذ ليست الخطبة كلها قرآنا، على أن مصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، وأما حديث اللاغي فلا تقاس عليه التحية، لأن قائل "انصت" يشوش على الخطبة بخلاف المصلي. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة، لأنها لم تسقط في حال الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى. 2 - أن للخطيب أن يأمر في خطبته، وينهى ويبين الأحكام المحتاج إليها ولا يقطع ذلك التوالي المشروط فيها، بل كل ذلك يعد من الخطبة. 3 - أن المسجد شرط للجمعة للاتفاق على أنه لا تشرع التحية لغير المسجد. 4 - جواز رد السلام وتشميت العاطس في حال الخطبة، لأن أمرهما أخف وزمنهما أقصر، ولا سيما السلام فإنه واجب عند الشافعي.

كتاب صلاة الخوف

كتاب صلاة الخوف 50 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظةفأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم". -[المعنى العام]- خان بنو قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحالفوا مع قريش على محاربته صلى الله عليه وسلم ولولا خدعة حربية قام بها نعيم بن مسعود، بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوقع بين قريظة وبين حلفائها لولا ذلك لحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب. فما إن انتهت غزوة الأحزاب باندحار قريش وغطفان حتى شاءت الحكمة تصفية الحساب مع بني قريظة، فلم يكد يرجع المسلمون إلى المدينة حتى جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. قال ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وإن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإني عائد إليهم فمزلزل أقدامهم وكان الوقت بين الظهر والعصر فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في أصحابه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة وتسابقت خيل الله وحثها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسراع وأدرك بعضهم صلاة العصر في الطريق فمنهم من اجتهد فقال: ننزل فنصلي فهدف الأمر الإسراع، لا تأخير الصلاة عن

وقتها، ومنهم من قال: بل ننفذ الأمر كما ورد، ولا نصلي إلا في بني قريظة، ونفذ كل ما رأى -وذكروا الأمرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحدا من الفريقين، ولم يخطئ أيا من الاجتهادين -وحاصر المسلمون بني قريظة حتى نزلوا على حكم سعد بن عبادة، فكان حكم الله من فوق سبع سماوات: أن يقتل الرجال، وأن تسبى النساء والذراري، وتؤخذ الأموال. -[المباحث العربية]- (الأحزاب) قريش وأحلافها، وكانوا عشرة آلاف نفس والمراد هنا غزوة الأحزاب. (بني قريظة) فرقة من اليهود، كانت تسكن قرى حول المدينة، وقريظة تصغير القرظ، وهو ضرب من الشجر، يدبغ به، يقال أديم مقروظ، وبه سمي هذا البطن من اليهود. (فأدرك بعضهم العصر) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فراحوا فأدرك و"بعض" مفعول به منصوب "والعصر" فاعل، والضمير في "بعضهم" راجع لأحد الذي هو عام، لأنه نكرة في سياق النفي. (لم يرد منا ذلك) هذه الجملة كبيان لعلة ما اختاروه، و"يرد" للفاعل وفاعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمفعول مفتوح الراء، والمعنى واحد على كلا الوجهين، و"ذلك" إشارة إلى المفهوم من السياق، وهو تأخير صلاة العصر حتى يأتوا بني قريظة. -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب "صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء" من كتاب "صلاة الخوف" ومناسبة هذا الحديث لكتاب صلاة الخوف من حيث جواز تأخير الصلاة عن وقتها عند طلب العدو، وجواز النزول عن الدواب، وقد فرق العلماء بين صلاة الطالب والمطلوب فقال ابن المنذر: إن المطلوب يصلي على دابته يومي إيماء، أما الطالب فإنه ينزل ويصلي على

الأرض، والفرق واضح، وهو أن شدة الخوف ظاهرة في المطلوب، أما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه، قال الأوزاعي إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث توجهوا. فقد قيده الأوزاعي بخوف الفوت، ولم يفرق بين الطالب والمطلوب، وإنما بني الحكم على الخوف، وبه قال بعض المالكية. وإنما قال بعض الصحابة "لا نصلي حتى نأتيها" تمسكا بظاهر قوله "لا يصلين أحد" لأنهم فهموا أن النزول عن دوابهم، لأجل الصلاة عصيان للأمر الخاص بالإسراع، وتأولوا عموم الأمر بالصلاة أول وقتها وجعلوه مخصصا بما إذا لم يكن هناك عذر، بدليل أمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وقال البعض الآخر "بل نصلي" حيث نظروا إلى الحكمة لا إلى النص، بدليل قولهم: "لم يرد منا ذلك" أي أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد من قوله "لا يصلين أحد إلخ" ترك الصلاة حقيقة، بل أراد لازمه، وهو الاستعجال في الذهاب إلى بني قريظة، كأنه قال: صلوا في بني قريظة إلا أن يدرككم وقتها قبل أن تصلوا إلى هناك، ويرجع السبب في اختلافهم إلى تعارض الأدلة عندهم، فإن الصلاة مأمور بها في الوقت، والمفهوم من قوله "لا يصلين أحد .. " إلخ المبادرة بالذهاب إلى بني قريظة، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه، من حيث إنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظرا إلى المعنى فصلوا حين خافوا فوات الوقت، وأخذ الآخرون بظاهر اللفظ وحقيقته، فأخروا الصلاة عملا بالأمر بالمبادرة لبني قريظة، ولم يعنف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم لأنهم مجتهدون، وإذا أخطأ المجتهد فله أجر واحد وإن أصاب فله أجران. وجاء في رواية مسلم أن الصلاة كانت فريضة الظهر، ولا تعارض، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام كان بعد دخول وقت الظهر، فكان بعض الصحابة صلى الظهر بالمدينة ولم يصلها آخرون، فقيل لمن صلى الظهر لا تصل العصر إلا في بني قريظة، وقيل لمن لم يصلها لا تصل الظهر إلا في بني قريظة. ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة

وللذين ذهبوا بعدهم: لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وهذا التوجيه حسن. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حرص الصحابة على تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقة وإخلاص. 2 - أن السكوت على الفعل مثل القول بإجازته صراحة. 3 - مدى ما بذل الصحابة رضوان الله عليهم في إقرار السلام ونشره والجهاد في سبيله، فما كانوا يرجعون من غزوة إلا إلى غزوة أخرى. 4 - قال السهيلي: يدل على أن كل مجتهد في الفروع مصيب، ومعنى هذا أن الصواب في الشيء الواحد يتعدد، وقال: إذ لا يستحيل أن يكون الشيء صوابا في حق إنسان، خطأ في حق غيره، فيكون من اجتهد في مسألة فأداه اجتهاده إلى أنها حلال مصيبا في حلها، وكذلك الحرمة، انتهى وغاية هذا أن كلا منهما مصيب في نظره، لا في الواقع ونفس الأمر، على معنى أنه مثاب، لا على معنى أن الصواب والحق يتعدد. وقال النووي: لا احتجاج به على إصابة كل مجتهد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح بإصابة الطائفتين، بل ترك التعنيف، ولا خلاف أن المجتهد لا ينعف، ولو أخطأ إذا بذل وسعه. اهـ. وهذا كلام جيد محرر. 5 - استدل البخاري وغيره بالحديث على جواز صلاة الفريضة راكبا وإيماء عند الخوف، وإن كان طالبا، ووجه الاستدلال أن الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة، لم يعنفوا، مع كونهم فوتوا الوقت، فصلاة من لا يفوت الوقت بالإيماء -أو كيفما يمكن -أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها. 6 - تقديم أهم الأمرين المتعارضين. 7 - فيه دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى. 8 - وفيه دلالة لمن يقول بالظاهر.

والله سبحانه وتعالى أعلم

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة باب العيدين أي صلاتهما وما يشرع فيهما 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا -[المعنى العام]- شرع الله العيدين ليروح المسلم عن نفسه وعن أهله وعن عياله وأن يمتعهم بزينة الحياة الدنيا وبهجتها وأن يسمح لهم باللهو المباح إن لكل قوم عيدا أو أعيادا يتخلصون فيها من مشاق العمل ويتشاغلون فيها عن هموم الحياة ويطلقون فيها النفوس من عقال الجد والوقار وقد شاء الله للأمة الإسلامية أن يكون العيدان المشروعان عقب عبادتين من أشق العبادات عيد الفطر يعقب صيام رمضان وعيد الأضحى يعقب الحج فترتبط العبادة بالطيبات من الرزق وتتعلق مطالب الروح بمطالب الجسد يبتغي المسلم الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا نعم أبيح وقبل في العيدين ما لا يقبل في غيرهما من اللهو وشغل الوقت باللعب والزينة ومع ذلك اختلفت درجة هذه المباحات باختلاف درجة المسلم

نفسه فما يباح أيام العيد للشاب والفتاة لا يباح للعالم والشيخ الصالح وما يباح للصبي والصبية لا يباح للرجل والمرأة ثم لا بد من التحكم في مقدار هذا اللهو المباح بحيث لا يطول ويطغى على هدف المسلم من الحياة فحين لعب الحبش بالحراب في الشوارع يوم العيد وأخذوا يرقصون والصبيان حولهم ومروا ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة أتحبين أن تنظري إليهم؟ قالت: نعم ففتح النافذة وأقامها وراءه يسترها بثوبه تنظر من بين أذنيه فلما طال بها اللهو قال لها: أما شبعت؟ قالت: لا فانتظر قليلا ثم قال: أما شبعت؟ قالت: لا. فقال لها بعد الثالثة: حسبك لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهي دون البلوغ وكان يقول عنها إذا رأى ميلها إلى اللهو: "اقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو" وكان صلى الله عليه وسلم خير من يقدر لعائشة هذا الميل ويسمح لها بمزاولة هذا اللهو لقد رأى مرة في رف حجرتها خيلا من صلصال صنعته عائشة بيدها فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: خيل قال: خيل لها أجنحة؟ قالت: أما علمت أن خيل سليمان كانت لها أجنحة فتبسم صلى الله عليه وسلم وموضوع حديثنا من هذا القبيل في يوم من أيام العيد دعت عائشة جاريتين تجيدان الغناء والضرب بالدف إلى بيتها وجلست معهما تغني وتغنيان بأشعار من أشعار الجاهلية ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيت يضج بالغناء وصوت الطبل فلم يؤنب ولم يزجر ولم ينكر بل مر مرور الكرام حتى وصل إلى سريره فاضطجع محولا وجهه عن الساحة وتغشى بثوبه وجاء بعده أبو بكر فدخل فارتاع للمنظر ونهر عائشة والجاريتين وقال: مزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لا يليق فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال دعها يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا اليوم عيدنا فاستجاب أبو بكر للأمر وانشغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأت عائشة انشغالهما غمزت الجاريتين وطلبت منهما الانصراف فانصرفتا

-[المباحث العربية]- (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في بيتي في يوم عيد كما جاء في بعض الروايات "في أيام منى" (وعندي جاريتان) الجارية هي من دون البلوغ من النساء وتطلق على الحرائر والإماء وشاعت أكثر في الإماء وكانتا أمتين مملوكتين كانت إحداهما لحسان بن ثابت وكانت الأخرى لعبد الله بن سلام وقيل: كانتا لعبد الله بن سلام كما قيل إن اسم إحداهما حمامة واسم الثانية زينب وقيل غير ذلك والجملة حالية (تغنيان بغناء بعاث) بضم الباء وفتح العين وأخطأ من جعلها غينا فنقطها وهو موضع من المدينة على بعد ليلتين أو اسم حصن هناك وكان موضع معارك بين الأوس والخزرج واشتهر يوم بعاث عند العرب لما حصل فيه من القتل الكثير وكان أوج الحرب التي استمرت بينهما مائة وعشرين سنة وكان هذا اليوم قبل الهجرة بثلاث سنين على أرجح الأقوال والغناء بكسر الغين ما طرب من الصوت وهو معروف من أهل اللهو والمقصود هنا بغناء بعاث الترنم بالأشعار التي تبادلتها الأنصار في ذلك اليوم وما قاله كل من الفريقين من فخر أو هجاء وكان غناء الجارتين وعائشة مصاحبا لآلة لهو هي الدف بالدال المشددة المضمومة وقد تفتح ويقال له أيضا الكربال بكسر الكاف وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر (وحول وجهه) عن الجاريتين إلى الجهة الأخرى وفي رواية "تغشى بثوبه" (ودخل أبو بكر) في رواية "وجاء أبو بكر" وكأنه جاء زائرا لعائشة (فانتهرني) في رواية "فانتهرهما" والظاهر أنه انتهر الثلاث أما عائشة فلتقريرها وأما الجاريتان فلفعلهما (مزمارة الشيطان) المزمارة والمزمار مشتق من الزمير وهو الصوت

الذي له الصفير ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها وإضافتها إلى الشيطان للذم من جهة أنها تلهي وتشغل القلب عن الذكر (فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي حول وجهه نحوه وفي رواية "فكشف رأسه" -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث في كتاب العيدين للاستدلال به على أنه يغتفر في العيد من المرح والانبساط ما لا يغتفر في غيره والقضية فيه قضية الأغاني وإباحة أو حرمة سماعها وإباحة أو حرمة فعلها وأدائها قال الحافظ ابن حجر استدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في رواية أخرى للبخاري قالت "وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين .. " الحديث فقولها: "وليستا بمغنيتين" نفت به عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بالمغني من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح وقال القرطبي قولها "ليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن وهذا إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه قال: أما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقح بقوم منهم إلى

أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرفة والله المستعان اهـ قال الحافظ ابن حجر: عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل والله أعلم اهـ وهذا الذي قاله الحافظ جيد، ولو طبقناه وجدناه من جاريتين لا من بالغتين وعلى طريقة الترنم لا على طريقة المغنيات من التثني والتكسر وفي أيام العيد لا في كل الأيام وبالدف لا بفرقة موسيقية بشتى أنواع الآلات وبالمفاخر لا بأوصاف النساء والله أعلم -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - من تحويل وجهه صلى الله عليه وسلم يؤخذ ترفع ذوي المروءات وأصحاب المقامات عن مجالسة مثل ذلك 2 - مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم بسط النفس وترويح البدن من متاعب الحياة ومشاق العبادة 3 - مشروعية إظهار السرور في الأعياد وأن ذلك من شعار الدين 4 - جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة ورضي به الزوج 5 - إنكار ما استقر عنده أنه منكر فقد أنكر أبو بكر مزمارة الشيطان ظنا منه أنهن فعلن ذلك بغير علمه صلى الله عليه وسلم لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائماً فتوجه بالإنكار على ابنته مستصحبا ما تقرر عنده من منع الغناء واللهو فلا يقال: كيف أنكر الصديق شيئا أقره النبي صلى الله عليه وسلم 6 - وفي الحديث الرفق بالزوجة واستجلاب مودتها 7 - ومراعة الخواطر والأحاسيس ذلك أن عائشة رضي الله عنها

راعت خاطر أبيها وخشيت غضبه فغمزت الجاريتين وأخرجتهما على الرغم من ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لها واكتفت - رضي الله عنها-بالإشارة والغمز حياء من الكلام بحضرة من هو أكبر منها والله أعلم. 2 - عن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: "إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا" -[المعنى العام]- يوم العيد يوم فرح وسرور وتمتع بالمباح في حدود مشروعة بزينة الحياة الدنيا فهو يوم ترويح عن الأبدان لكن الإسلام يحرص دائما على أن

يصاحب المتعة والشهوة شيء من العبادة لئلا تتحول النفس البشرية بكليتها إلى الدنيا فهو يدعو إلى التسمية وذكر الله عند الأكل ويدعو في يوم العيد أن يبدأ بصلاة العيد وبأداء شعيرة عيد الفطر بزكاة الفطر وبأداء شعيرة عيد الأضحى بذبح الأضحية وأداء حق الفقير وحق الأهل والرحم منها هكذا شرعت صلاة العيد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد لها مكانا خارجا متسعا يكفي المسلمين المصلين وكان يخرج النساء والفتيات حتى الحيض منهن مع الرجال والصبيان إلى مصلى العيد وكان يخطب المسلمين والمسلمات يعلمهم شعائر هذا اليوم وكان مما قال في بعض خطبه في عيد الأضحى أن أول ما نبدأ به في مثل هذا اليوم من الأعياد أن نصلي صلاة العيد ثم نرجع إلى منازلنا ورحالنا فننحر أضحيتنا فمن فعل ذلك ورتب هذا الترتيب فقد أصاب السنة ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله -[المباحث العربية]- (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب) جملة "يخطب" في محل النصب على الحال وكانت الخطبة خطبة عيد الأضحى ففي رواية للبخاري عن البراء "خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة ... " الحديث (فقال) الفاء تفسيرية إذ الخطبة هي مقول القول نفسه (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي) صلاة العيد والإشارة إلى يوم عيد الأضحى والأولية نسبية إذ المراد أول الأعمال الهامة الدينية السامية خارج البيت وإلا فيسبق ذلك شرعا الاغتسال والتجمل وغيرهما (ثم نرجع) إلى بيوتنا والتعبير بثم لما بين الصلاة والرجوع من التراخي بسماع الخطبة (فننحر) معطوف على "نرجع" وهو معطوف على "نصلي" فهما منصوبان لعطفهما على المنصوب ويجوز فيهما الرفع على الاستئناف

والفعل حينئذ خبر لمبتدأ محذوف أي ثم نحن نرجع (فمن فعل) ذلك بترتيبه (فقد أصاب سنتنا) أي أدى السنة والمقابل محذوف هنا صرح به في رواية أخرى للبخاري بلفظ "ومن نسك قبل الصلاة فشاته شاة لحم" وفي رواية "ومن نسك قبل الصلاة فإنه لا نسك له" -[فقه الحديث]- الأعمال المشروعة في يوم العيد كثيرة ولم يقصد هذا الحديث عدها ولا ترتيبها وإنما قصد الترتيب بين أمرين منها: الصلاة ثم نحر الأضحية في عيد الأضحى أما غير هذين فلم يقصد إليها من الاغتسال والتجمل والمصافحة والدعاء وصلة الأرحام أما صلاة العيد فهي مطلوبة بإجماع المسلمين وأول صلاة عيد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صلاة عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة واختلفوا في حكمها فقال أبو حنيفة وأصحابه هي واجبة وجوبا عينيا لا كفائيا لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها وقال الشافعية والمالكية هي سنة مؤكدة لحديث الأعرابي "هل على غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع" ولحديث "خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة ... " الحديث. ومواظبته صلى الله عليه وسلم تفيد تأكد الاستحباب دون الوجوب نعم أثر عن الشافعي أنه قال من وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين فحمل هذا القول على التأكيد لا على الوجوب الشرعي وقال أحمد وجماعة: هي فرض كفاية واستدلوا بقوله تعالى {فصل لربك وانحر} وحملوا الأمر على الوجوب وحملوا الصلاة على صلاة العيد. قالوا: وحديث الأعرابي يدل على أنه لا يجب عليه شخصيا غيرها فتعين أن تكون فرضا على الكفاية وحديث "خمس صلوات" إنما هو في الصلاة اليومية لا في الصلاة ذاتا لسبب الآخر ويرد على هؤلاء بأنه لو أردنا من الصلاة في {فصل لربك وانحر} صلاة العيد فالأمر ليس للوجوب وإلا لاقتضى

وجوب النحر أيضا وهم لا يقولون به فالأمر محمول على الندب جمعا بين الأدلة وقد رتب الحديث النحر بعد الصلاة وقد جاء صريحا في رواية البخاري عن البراء قال "خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة لا نسك له فقال أبو بردة -خال البراء -يا رسول الله. فإني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغذيت قبل أن آتي إلى الصلاة قال: شاتك شاة لحم قال: يا رسول الله. فإن عندنا عناقا لنا جذعة هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني؟ قال: نعم" -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تقديم العبادة على اللعب والمرح يوم العيد 2 - أن الصلاة ذلك اليوم هي الأمر المهم وأن ما سواها من الخطبة والنحر والذكر وغير ذلك من أعمال البر يوم النحر مطلوب بالدرجة الثانية 3 - مشروعية خطبة العيد وأنها بعد الصلاة 4 - وأن على الإمام أن يتناول في خطبته حض الناس وتوجيههم لما يشرع يوم العيد 5 - وأن النحر بعد الصلاة 6 - واستحباب التبكير إلى صلاة العيد

3 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر قالوا ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" -[المعنى العام]- جعل الله في أيام دهره نفحات وجعل في الأزمان مواسم للخير والفضل كما جعل في بعض الأماكنمزيد فضل وأجر كرما منه تعالى وإحسانا ليتدارك المقصر في زمن قصير ما فاته في ماضي عمره الطويل وليتسابق المتنافسون إلى مواسم مضاعفة الثواب كما تنافسوا في الصالحات في عموم الزمان كما فضل جل جلاله المسجد الحرام على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعلى المسجد الأقصى فجعل الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في المساجد العادية والصلاة في مسجد المدينة بألف صلاة والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة كما جاء في بعض الأحاديث وفضل جل جلاله بعض الأوقات على بعض فجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر وفضل شهر رمضان ويوم الجمعة وفضل الأيام العشر الأولى من ذي الحجة كما هو واضح من هذا الحديث فالعمل الصالح فيها له من الأجر أكثر من مثله في غيرها على الإطلاق قال السامعون من الصحابة ولو كان هذا العمل جهادا في سبيل الله مفوتا الحج يكون في هذه العشر أفضل من الجهاد في غيرها حيث لا يفوت الحج؟ قال: نعم الجهاد

فيها خير من الجهاد في غيرها وإن فوت الحج لكن رجلا خرج في غيرها يجاهد في سبيل الله فاستشهد ولم يرجع بنفسه أو بغنيمة فلا يدخل في المقارنة لأن مثل ذلك الرجل قد وقع أجره على الله لا يقدر ثوابه إلا هو وهو أكرم الأكرمين -[المباحث العربية]- (ما العمل) المراد بالعمل ما يشمل أنواع العبادات كالصلاة والصوم والذكر والتفكر وغيرها (في أيام) الجار متعلق بلفظ العمل لأنه مصدر أصلا والمراد في أي أيام من أيام السنة كلها (منها) بتأنيث الضمير العائد إلى العمل لتأويله بالجمع أي الأعمال وذلك لأن العمل مصدر يصدق على المفرد وعلى الجمع والمراد به هنا الجمع أو أنه باعتبار تأويل العمل بالقربة أي ما القربة في أيام أفضل منها (في هذا العشر) المراد العشر الأول من ذي الحجة (إلا رجل) المراد إلا جهاد رجل ليصلح الاستثناء فهو مرفوع على البدل والاستثناء متصل وقيل: منقطع أي لكن رجل خرج يخاطر بنفسه وحينئذ يكون إعرابه بدلا على لغة تميم لأن المنقطع عند غيرهم واجب النصب (يخاطر بنفسه) أي يكافح ويضحي بنفسه والجملة حال من فاعل خرج (فلم يرجع بشيء) يحتمل أن يكون المراد أنه لم يرجع بشيء من ماله وإن رجع بنفسه أو المراد أنه لم يرجع هو ولا ماله واستشهد في سبيل الله وهذا الأخير أرجح لأن شيئا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم ولأنه الموافق لما صرح به في الروايات الأخرى بلفظ "إلا من عقر جواده

وأريق دمه" وبلفظ "إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله" وبلفظ "إلا من عفر وجهه في التراب" -[فقه الحديث]- السبب في امتياز عشر ذي الحجة بكون الطاعات فيه أفضل منها في غيره هو اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ويوم عرفة ولا يتأتى ذلك في غيره وهذه الأفضلية ثابتة لأيام العشر ولياليها وإنما اقتصر في الحديث على ذكر الأيام لأن الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعا وقد أقسم الله تعالى بها فقال {والفجر وليال عشر} وقد ورد في رواية كريمة عن الكشميهني بلفظ "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه الأيام" بتأنيث اسم الإشارة مع إبهام الأيام ففهم بعضهم نظرا إلى أن البخاري وضع الحديث المذكور تحت "باب فضل العمل في أيام التشريق" أن البخاري فسر الأيام المبهمة في هذا الحديث بأنها أيام التشريق وفسر العمل بالتكبير وهذا يقتضي تفضيل العمل في أيام التشريق على العمل في الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة حتى إن بعضهم وجه ذلك بأن أيام التشريق أيام غفلة والعبادات في أوقات الغفلة أفضل من غيرها كالقيام في جوف الليل والناس نيام وبأنه وقع فيها محنة الخليل بولده عليهما السلام ثم من عليه بالفداء ولكن الصحيح غير هذا فإن تلك الرواية شاذة انفرد بها كريمة وحده مخالفا لسائر رواة صحيح البخاري وغيره من الحفاظ والمعنى الذي أخذ منها يعارضه المنقول من أن العمل في الأيام العشر أفضل من العمل في غيرها من أيام السنة بدون استثناء شيء وإذا كان العمل فيها أفضل لزم أن تكون أيامه أفضل من بقية الأيام حتى يوم الجمعة فيه أفضل منه في غيره لجمعه بين الفضيلتين وقد أخرج البزار وغيره عن جابر مرفوعا "أفضل أيام

الدنيا أيام العشر" وفي حديث ابن عمر "ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر" وزعم بعضهم أن ليالي عشر رمضان الأخيرة أفضل من ليالي عشر ذي الحجة لاشتمالها على ليلة القدر قال الحافظ ابن رجب وهذا بعيد جدا وقال آخرون أن عشر ذي الحجة أفضل لأنه لو صح حديث أبي هريرة المروي في الترمذي بلفظ "قيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" لكان صريحا في تفضيل لياليه على عشر رمضان فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة وهذا جميع لياليه متساوية والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء أن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها ولا ريب أن صيام رمضان أفضل من صوم العشر لأن الفرض أفضل من النفل من غير تردد وعلى هذا فكل ما فعل من فرض في العشر فهو أفضل من فرض فعل في غيره وكذا النفل ولا يكون النفل في عشر ذي الحجة أفضل من فرض في غيره وهذا موجز ما قالوا وإنما قال الصحابة المستمعون إلى رسول الله "ولا الجهاد؟ " لأنهم استبعدوا أن يكون الجهاد فيها أفضل منه في غيرها لأن الجهاد في غيرها لا يخل بالحج بخلاف الجهاد فيها فإنه قد يخل بالحج فكان الذي يخطر بالبال أن الجهاد في غيره أفضل فبين لهم النبي أن الجهاد فيها أفضل أيضا إلا في الحالة التي استثناها وهي جهاد من خرج يكافح بنفسه وماله فلم يرجع بشيء أصلا ويبقى الاستفسار عمن خرج بهذه الصفة وعاد بهذه الصفة في الأيام العشر أليس عمله هذا فيها أفضل منه في غيرها والجواب نعم ويصير هدف الحديث: بيان أفضل الأعمال وأفضل الأوقات والأولى حمل سؤالهم "ولا الجهاد؟ " على أنهم يفهمون أن الجهاد نفلا أفضل من أي نفل وفرضا أفضل من أي فرض فيكون مراد السائل ولا الجهاد في غيرها أفضل من غيره فيها؟ ويكون جواب الرسول: ولا الجهاد في غيرها أفضل من غيره فيها إلا رجل خرج في غيرها يخاطر بنفسه إلخ فهو أفضل

من عمل أي قربة غير ذلك فيها -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلحق بالعمل الفاضل في غيره ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره 2 - تفضيل بعض الأزمنة على بعض كما فضلت بعض الأمكنة على بعض 3 - فضل أيام عشر ذي الحجة 4 - تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله تعالى 5 - استدل به بعضهم على فضل صيام عشر ذي الحجة لا ندراج الصوم في العمل واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد وأجيب بأنه محمول على الغالب 6 - أن فضل الجهاد على غيره من الأعمال معلوم ومقرر لدى الصحابة

باب الوتر

باب الوتر 4 - عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته -تعني بالليل -فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة" -[المعنى العام]- خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) كان ذلك في أوائل البعثة، فصدع صلى الله عليه وسلم بأمر ربه فكان يقوم نصف الليل أو يزيد وصلى أصحابه قيام الليل سنة ثم أنزل الله التخفيف في آخر سورة المزمل ولما فرضت الصلوات الخمس حافظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل بقدر أخف مما قبل فكان يصلي في كل ليلة عددا تراوح بالاستقراء -بين سبع ركعات منها ركعة الوتر وبين ثلاث عشرة ركعة منها ركعة الوتر واقتدى الصحابة به لكن بعضهم كان يزيد وبعضهم كان ينقص لما علموا أن صلاة الليل سنة وتطوع لكن أغلب ما كان عليه صلى الله عليه وسلم صلاة إحدى عشرة ركعة يصليها مثنى مثنى ويختم بواحدة وكان أحيانا يختم بثلاث بتسليمة واحدة وأحيانا يصلي أربعا أربعا ثم ثلاثا وأحيانا صلى ثمانيا بجلسة واحدة لا يسلم ثم يقوم التاسعة ويسلم وكل هذه الأحوال لبيان الجواز وكان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم أن ينام أول الليل ويحيي آخره، لما في ذلك من فضل الثلث الأخير من الليل إذ تنزل فيه الرحمات ولبيان الجواز صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل في أوقات

مختلفة من الليل في أوله تارة وفي وسطه تارة وفي آخره تارات فأوتر في كل ساعة من ساعات الليل وقد اضطجع صلى الله عليه وسلم -أحيانا -بعد صلاة الوتر على شقه الأيمن ليفصل بين صلاة الليل وصلاة الصبح واضطجع أحيانا بين سنة الفجر وصلاة فرضه وكان يصليها في بيته ويضطجع حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيخرج للجماعة وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يطيل صلاة الليل قراءة وركوعا وسجودا فهي أفضل القربات لخلوها عن الرياء والسمعة وخلوص القلب في الليل من مشاغل الحياة -[المباحث العربية]- (كان يصلي إحدى عشرة ركعة) هذا جوابها حين سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وفي بعض روايات مسلم "كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة" والسائل في بعض الروايات أبو سلمة (كانت تلك صلاته) الإشارة إلى الإحدى عشرة ركعة و"صلاته" بالنصب خبر كان (تعني بالليل) مدرج من الراوي عن عائشة (فيسجد السجدة من ذلك) المذكور من صلاته (ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر) هما سنة الصبح وهذه الجملة معطوفة على جملة "كان يصلي ... " في أول الحديث أي كان يصلي إحدى عشرة ركعة و"يركع ركعتين ... " (حتى يأتيه المؤذن للصلاة) "أل" في "الصلاة" للعهد والمراد فريضة الفجر -[فقه الحديث]- اختلفت الروايات في عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الليل من سبع

إلى تسع إلى إحدى عشرة إلى ثلاث عشرة بل إلى سبع عشرة ركعة وقد وجه هذا الاختلاف بأن سببه أن كل راو من الرواة أخبر بما شاهد وأما الاختلاف عن عائشة فقيل هو من الرواة عنها وقيل هو منها على احتمال أنها أخبرت عن حالات منها ما هو الأغلب ومنها ما هو نادر ومنها ما اتفق له من اتساع الوقت وضيقه صلى الله عليه وسلم ويؤخذ من الحديث 1 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من صلاة الليل لكن هل كانت تلك الصلاة واجبة عليه أو تطوعا؟ يقول النووي: ظاهره أنه صار تطوعا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة فأما الأمة فهو تطوع في حقهم بالإجماع وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في نسخ وجوبه في حقه صلى الله عليه وسلم والأصح عندنا نسخه أهـ. وقال الحافظ ابن حجر: لم أر القول بإيجاب قيام الليل على الأمة إلا عن بعض التابعين وقال ابن عبد البر شذ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قدر حلب شاة والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه 2 - إن غالب ما كان عليه صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم من الليل إحدى عشرة ركعة منها الوتر واحدة وفي بعض الروايات "ثلاث عشرة ركعة" وحملت على أنه عد منها ركعتا الفجر وفي بعض الروايات "خمس عشرة ركعة" وحملت على أنه عد منها ركعتا الفجر والركعتان الخفيفتان في أول قيام الليل كراتبة العشاء وفي بعض الروايات "تسع ركعات" وحملت على أن ذلك كان بعد أن ثقل جسمه صلى الله عليه وسلم وبدن وفي بعض الروايات "سبع ركعات" وحملت على حالة كبر السن وضعف القدرة قال القاضي عياض ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر ولم يتعرض هذا الحديث لكيفية صلاة الليل لكن الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان في أغلب الأحوال يصليها مثنى مثنى ثم يختم بواحدة فهذه أفضل الحالات وجوز أن تصلى أربعا ثم أربعا ثم ثنتين ثم واحدة أو بعد

الثمان تصلى ثلاثا بتسليمة وأجيز جمع كل الركعات بتسليمة واحدة ولم يتعرض هذا الحديث لوقتها وقد ذهب الفقهاء إلى أن وقت الجواز من بعد صلاة العشاء حتى الفجر لحديث مسلم "من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل ووسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر" أما أفضل أوقاتها فالثلث الأخير من الليل لحديث مسلم "كان ينام أول الليل ويحيي آخره" وله أيضا "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" وله أيضا "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له"؟ 3 - وفي الحديث صلاة الوتر وقد ذهب أبو حنيفة إلى وجوبه والجمهور ومعهم صاحباه أبو يوسف ومحمد على أن الوتر سنة وليس بواجب قال الحافظ ابن حجر صلاة الليل ليست بواجبة فكذا آخرها وإن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله 4 - يؤخذ من الحديث الاضطجاع بين ركعتي الفجر وبين فريضته وجاء في عدد من روايات مسلم أن الاضطجاع بعد الوتر وقبل راتبتي الفجر ومذهب الشافعية استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر وأنكر مالك وأصحابه الاضطجاع وشذ ابن حزم فقال إنه فرض لا بد من الإتيان به وإلا لم يجزه صلاة الصبح والذي تستريح إليه النفس أن اضطجاع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سنة تعبدية وإنما كان للراحة والنشاط لصلاة الصبح فقد أخرج عبد الرزاق عن عائشة قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح" 5 - وفي الحديث استحباب الاضطجاع على الشق الأيمن "عند من يقول باستحباب الاضطجاع" وقد قيل في حكمة ذلك إن القلب في جهة

اليسار؟ فالنوم على اليمين أخف وأصح يضاف إلى ذلك حب التيامن واستحبابه بصفة عامة 6 - وفيه استحباب اتخاذ مؤذن راتب للمسجد 7 - وجواز إعلام المؤذن الإمام بحضور الصلاة وإقامتها واستدعاؤه لها 8 - واستحباب طول السجود في صلاة الليل وهل الأفضل طول القراءة أو طول السجود؟ خلاف سبق بيانه 9 - وأن سنة الصبح قبلية وهي ركعتان. والله أعلم

باب الاستسقاء

باب الاستسقاء 5 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إن كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيسقون" -[المعنى العام]- في سنة ثمان عشرة من الهجرة قحط الناس واشتد الجدب وأغبرت الأرض من عدم المطر حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة وبعد تسعة أشهر من انقطاع المطر خرج عمر بالناس إلى المصلى للاستسقاء وطلب السقيا والمطر من الله ولقد شهد عمر استسقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب الناس من رسول الله أن يطلب لهم السقيا من ربه لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاب الدعاء وما كان ينتهي من الدعاء حتى تمطر السماء فمن من الأمة بعد رسولها يقوم بهذا الدعاء إن عمر معروف بالتواضع وهضم النفس ولن يتقدم ليقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والاستسقاء وهو يعرف فضيلة العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله يدعو وتؤمنون ثم قال للعباس قم فاستسق لنا ورفع عمر يديه إلى السماء يقول: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا يدعوك ونؤمن فاسقنا يا أكرم الأكرمين وتقدم العباس يرفع يديه إلى السماء يدعو ربه ويقول: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث فأرخت السماء مثل الجبال وفتحت السماء بالمطر كأفواه القرب وأخصبت الأرض وعاش الناس في رخاء

-[المباحث العربية]- (عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر الحاء أي أصابهم القحط والحاجة الشديدة إلى الماء وضمير "قحطوا" للمسلمين (استسقى بالعباس) السين والتاء للطلب، أي طلب السقيا من ربه بواسطة دعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أي قدمه ليدعو ويؤمن المسلمون (فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا) أي كنا نتقرب إليك وندعوك بدعاء نبينا في حياته (فتسقينا) أي فتجيب دعاءه وضراعتنا فتسقينا (وإنا) أي بعد وفاة نبينا (نتوسل إليك بعم نبينا) أي نقدمه ليدعوك (فاسقنا) دعا عمر ربه واعتذر بذلك للناس عن تقديمه العباس ولم يتقدم هو (قال: فيسقون) القائل أنس راوي الحديث -[فقه الحديث]- الاستسقاء وطلب المطر عند انحباسه والحاجة إليه يكون بطرق ثلاث 1 - بالدعاء في جميع الأوقات وعلى جميع الحالات فرادى وجماعات خلف الصلاة وبين الصلوات. 2 - وبالدعاء خلف الصلوات فريضة أو نافلة والأكثر في صلاة الجمعة وخطبتها. 3 - وبالصلاة المشهورة به وخروج الناس إلى المصلى والصحراء. وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج للاستسقاء والبروز إلى ظاهر البلاد لكن حكى القرطبي عن أبي حنيفة أنه لا يستحب

الخروج ورجح الحافظ قول ابن عبد البر وقد روى البخاري عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه فجعل اليمين شمالا والشمال يمينا فصلى ركعتين وكأنه صلى الله عليه وسلم بهذا التحويل يتفاءل بتحول الحال من القحط إلى المطر وفي بعض الروايات أنه خرج صلى الله عليه وسلم متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر وخطب ودعا وقد اختلف الفقهاء في تقديم خطبتها على الصلاة والجمهور على تقديم الصلاة كما اختلفوا في كيفية صلاة الركعتين هل هما كركعتي الصبح أو كركعتي العيد يكبر فيهما؟ واختلفوا في استحباب الخروج أو صلاتها في المسجد الجامع وفي وقتها والراجح أنه ليس لها وقت معين، وكذا في الاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء لكن الأفضل الخروج وبخاصة إذا لم يتسع مسجد واحد للراغبين في الاستسقاء والأصل أن يؤم الإمام المسلمين في الاستسقاء كغيرها من الصلوات لكن عمر تواضع -كما هو شأنه -والتواضع في مثل هذا الوقت ألزم واختار العباس لقرابته للنبي صلى الله عليه وسلم وتقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم له وكان من دعاء العباس في ذلك اليوم اللهم لم ينزل البلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث فأرسلت السماء ماءها مثل أفواه القرب حتى أخصبت الأرض ويؤخذ من الحديث 1 - استحباب الاستشفاع بأهل الخير وأهل الصلاح وأهل بيت النبوة 2 - أن الاستشفاع يكون بالأحياء يقدمون فيدعون ويدعو الناس بدعائهم دون الأموات إذ لو صح لاستشفع عمر واستسقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمع المسلمون عمر يقدم العباس وأقروه ولم يعترض عليه أحد.

باب الكسوف

3 - وفي الحديث منقبة عظيمة وفضل ومنزلة للعباس عند المسلمين إذ قدموه وعند الله إذ استجاب له الدعاء وأنزل المطر. 4 - تواضع عمر وتنزيله الناس منازلهم 5 - مشروعية الاستسقاء باب الكسوف 6 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله" -[المعنى العام]- في السنة الثامنة من الهجرة ولد للنبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم من جاريته مارية القبطية وبعد ثمانية عشر شهرا توفي ودفن بالبقيع وحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا حتى تساقطت الدموع على خديه فقيل له: أتبكي يا رسول

الله؟ قال: القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون وحزن المسلمون لحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غمرة الحزن حصل كسوف الشمس وانحجب ضوؤها فقال الناس: انكسفت الشمس حزنا على موت إبراهيم وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا، فخرج وصلى بالناس قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم سجد فأطال السجود ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى ثم انصرف من الصلاة فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته مهما كان عظيما فلا تنكسف الشمس لموت إبراهيم ولا لموت غيره فإذا رأيتم كسوف الشمس أو القمر فصلوا وادعوا الله -[المباحث العربية]- (كسفت الشمس) الكسوف هو التغير إلى سواد ومنه كسف وجهه إذا تغير إلى غيره والخسوف بالخاء هو النقصان والخسف الذل والجمهور على أن الكسوف والخسوف يطلق كل منهما على ذهاب ضوء الشمس أو القمر كليا أو جزئيا وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه وقصر بعضهم الكسوف على الشمس والخسوف على القمر وقيل غير ذلك وسبب كسوف القمر وقوع الأرض بينه وبين الشمس فتحجب ضوءها عنه كليا أو جزئيا لأن نوره انعكاس لضوء الشمس فكسوفه ذهاب ضوئه حقيقة أما كسوف الشمس فسببه وقوع القمر بينها وبين الأرض مما يحجب ضوءها عن هذه البقعة التي تقع في ظل القمر فكسوفها ليس ذهاب ضوئها حقيقة لأن ضوءها لم يذهب وإنما حيل بينه وبين الوصول إلى نقطة ما من الأرض ومع أن القمر صغير جدا بالنسبة للشمس لكن قربه من الأرض

يحجب عنها الضوء الذي يقع عليه بالنسبة للنقطة التي تقع في ظله (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمن حياته وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة على الأصح (يوم مات إبراهيم) ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية قيل: مات في اليوم العاشر وقيل: في اليوم الرابع وقيل في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الأول أو في رمضان وقيل في سنة تسع وقيل سنة الحديبية (فقال الناس) ال للعهد والمعهود القائلون من المسلمين (كسفت الشمس لموت إبراهيم) أي حزنا على موته (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفاء عاطفة على محذوف أي فخرج بالمسلمين إلى المصلى فصلى صلاة الكسوف ثم صعد المنبر فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ... إلخ (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) أي لا تكسفان لموت عظيم من العظماء ولا لحياته وذكر الحياة مع أن المناسبة في الموت لتعميم النفي ودفع توهم التأثر بالإيجاد بعد دفع توهم التأثر بالفقد وفي رواية "آيتان من آيات الله" أي خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما فهما علامتان دالتان على وحدانية الله وعظيم قدرته بما أودعهما من أسباب ومسببات وقوانين في سيرهما في فلكيهما وظهورهما أو انحجابهما (فإذا رأيتم) المفعول محذوف وفي رواية "فإذا رأيتم ذلك" وفي معظم الروايات "فإذا رأيتموهما" بالتثنية أي إذا رأيتم كسوف كل منهما لاستحالة وقوع الكسوف فيهما معا في وقت واحد (فصلوا وادعوا الله) أي صلوا صلاة الكسوف وفي رواية "وتصدقوا"

-[فقه الحديث]- أفعال الله تعالى لا تخلو من الحكمة والمؤمن يتدبر ويفكر ويلتمس الحكمة ليزداد إيمانا ويقينا ومما لا شك فيه أن الله هو الذي خلق الشمس والقمر والأرض والكواكب {وكل في فلك يسبحون} وأنه وحده هو الذي يجريها في أفلاكها وكان قادرا على ألا يحجب أحدها الآخر أو أن لا يصل ضوؤها إلى الآخر وأن لا يغيب ضوء أحدها عن الآخر {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورا} {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فإذا علم أهل الهيئة والفلك وقت الكسوف وزمنه وحسبوا له حسابه فليقل من علم سبحان من علم وإذا قالوا إنه أمر طبيعي عادي كالمد والجزر في البحر فليقولوا سبحان من خلق الأجرام وأودع فيها قوانينها وأسبابها ومسبباتها وهو قادر على تغيير هذه القوانين وإبطالها ومن هنا يجب على الإنسان كإنسان بصفة عامة وعلى المؤمن بالخالق والمسلم بصفة خاصة أنه يتدبر هذه الظاهرة ويتخذ منها عبرة ويندفع بها إلى زيادة الإيمان بالله وبعظيم قدرته وإلى شكره جل شأنه فإن الكسوف ذهاب نعمة وإنما يعرف فضل النعم عند ذهابها ويندفع بذهابها أو حجبها إلى زيادة المراقبة والخوف من الله تعالى وقد شاء الله حدوث الزلازل والبراكين والعواصف والصواعق والكسوف لإيقاظ الغافلين وتخويف من بعدوا عن الاتعاظ وقست قلوبهم وصدق الله العظيم حيث يقول {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} وحيث يقول {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} وكيف لا يخاف

من الكسوف؟ وما أمر الساعة ومقدماتها إلا مثيله {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وخسف القمر وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَر يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} وقد جاء في رواية للبخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال: خسفت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم فزعا يخشى أن تكون الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله وقال: "هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بها عباده فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره فليس المقصود إذن من الصلاة ومن الذكر والدعاء سرعة الانجلاء فإن ذلك لا يؤثر انجلاء وعدمه لا يؤثر إبطاء وإنما المقصود الإذعان لصاحب القدرة والتسليم لمالك الملك والتضرع إليه والخضوع له وعبادته وذكره ودعاؤه ويؤخذ من الحديث 1 - المبادرة إلى تصحيح العقائد الدينية ودفع الشبه الفاسدة وإبطال ما كان من اعتقاد جاهلي خاطئ من أن الكواكب مؤثرة في الأرض 2 - استحباب الدعاء عند الشدائد والأمور الهامة والظواهر الكبرى وإن كانت جارية على سنن الكون وقوانين الأفلاك 3 - مدى تعظيم المسلمين وإعزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولابنه رضي الله عنه 4 - من قوله "فإذا رأيتم فصلوا" أخذ مشروعية صلاة الكسوف وهو أمر متفق عليه لكنهم اختلفوا في حكمها والجمهور على أنها سنة مؤكدة وحكي عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة ونقل عن أبي حنيفة أنه أوجبها كما اختلفوا في صفتها والجمهور على أنها ركعتان كل ركعة قيامان وركوعان فبعد القيام الطويل يركع طويلا ثم يقوم من الركوع فيقرأ طويلا ثم يركع طويلا ثم يركع طويلا ثم يسجد طويلا ثم يجلس

طويلا ثم يسجد سجدة ثانية طويلا ثم يقوم إلى ركعة ثانية مثل الأولى ثم يتشهد ويسلم وقيل صلاتها كركعتي الصبح وقيل غير ذلك وتصلى جماعة وفرادى ولا يؤذن بل ينادى: الصلاة جامعة ويخطب الإمام بعدها كالعيدين ووقتها من حيث الكسوف إلى لحظة الانجلاء فإن تم الانجلاء قبل أن يشرع في الصلاة سقطت الصلاة والخطبة ولا يتقضى الصلاة بعد الانجلاء لكن إذا تم الانجلاء بعد الصلاة وقبل الخطبة لا تسقط على الصحيح 5 - واستدل بقوله "فإذا رأيتم فصلوا" على أن صلاة الكسوف تصلى في أوقات النهي دون كراهة أو تحريم لأن صلاتها بالرؤية وهي ممكنة في أي وقت من النهار وبهذا قال الشافعي ومن تبعه واستثنى الحنفية أوقات الكراهة فلا تصلى فيها وهو مشهور مذهب أحمد 6 - كما استدل به على المبادرة بالصلاة وعدم تأخيرها ولو كان ذلك لحصول الجماعة

باب التهجد

باب التهجد 7 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها" -[المعنى العام]- الصلاة مقام المناجاة ووقوف العبد بين يدى ربه وإذا كان الله قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة فذلك تخفيف منه تعالى ورحمة لكن على العبد أن يزيد في هذا الفضل على ما فرض عليه وبخاصة إذا طال الفاصل الزمني بين الفرضين فحيث طال الفصل بين صلاة العشاء وصلاة الفجر شرعت صلاة الليل وحيث طال الفصل الزمني بين صلاة الفجر وصلاة الظهر شرعت صلاة الضحى إلا أنه لما كان وقت الضحى وقت انشغال البشر بأعمالهم الدنيوية غالبا يضربون في الأرض ويسعى أكثرهم في طلب الرزق لم يبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى كما أبرز صلاة الليل إشفاقا على أمته لكن الصحابة علموا الحقيقة وفهموا المقصد فحرص المتفرغون منهم على صلاة الضحى حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الضحى وإني لأصليها وقال أبو هريرة رضي الله عنه -وهو من أصحاب الصفة المتفرغين للعبادة -أوصاني خليلي بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها لكنه لم يلتزمها أمام صحابته وربما لم يلتزمها كل يوم لأنه كان يترك العمل والتقرب وهو يحب أن يقوم به خشية أن يقتدي به أصحابه فيلتزموه كما يلتزمه فيشق عليهم ويعجزوا عن أن يداوموا عليه وصدق الله العظيم حيث يقول {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} -[المباحث العربية]- (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل) "إن" بسكون النون مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والحال محذوف واللام في "ليدع" هي الفارقة بينها وبين النافية وخبرها جملة "كان رسول الله ليدع العمل" ويجوز إهمال "إن" والابتداء بجملة "كان رسول الله" إلخ والمراد من العمل عمل الطاعات (وهو يحب أن يعمل به) الجملة حال من فاعل "يدع" وضمن يعمل معنى يقوم فتعدى بالباء وكان الأصل أن يعمله (خشية أن يعمل الناس به فيفرض عليهم) "خشية" مفعول لأجله والخشية في الحقيقة من المعطوف المترتب على المعطوف عليه والمراد من عمل الناس به التزامه والمداومة عليه لا أصل العمل به ولو مرة فقد واصل الصيام وأذن لهم أن يواصلوا لكنه لم يكررها معهم وسيأتي لهذا مزيد في فقه الحديث (وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى) مرادها ما صلى صلاة الضحى والتسبيح جزء الصلاة فأطلق الجزء وأريد الكل كركعة وسجدة لكن العرف الشرعي استعمل السبحة في النوافل لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة (وإني لأسبحها) أي لأصليها وفي رواية "لأستحبها" لكن الرواية الأولى تفيد العمل والأداء والثانية لا تستلزم الأداء فالأولى أدق في المراد

-[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر جمع ابن القيم في الهدي الأقوال في صلاة الضحى فبلغت ستة أقوال الأول: أنها مستحبة واختلف في عدد ركعاتها فقيل أقلها ركعتان وأكثرها اثنتا عشرة وقيل أكثرها ثمان وقيل: ركعتان فقط وقيل أربع فقط وقيل لا حد لأكثرها الثاني: أنها لا تشرع إلا لسبب لما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلاها يوم فتح مكة وصلاها في بيت عتبان حين طلبه أن يصلي له في مكان من داره ليتخذه مسجدا وصلاها حين بشر برأس أبي جهل ويؤيده حديث عائشة "لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجئ من مغيبة القول الثالث: لا تستحب أصلا القول الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويؤيده حديث أبي سعيد عند الحاكم "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها" الخامس: تستحب صلاتها والمواظبة عليها في البيوت السادس: أنها بدعة وجمهور علماء الأمة على أنها سنة مؤكدة وأن أقلها ركعتان وقد ورد في الصحيح عن معاذة أنها سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت: "أربع ركعات ويزيد ما شاء" وللجمع بين نفيها وإثباتها قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بعض الأوقات لفضلها ويتركها في بعضها خشية أن تفرض وقلما يكون صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وقت الضحى فصح قولها ما رأيته يصليها وتكون قد علمت بخبره أنه صلاها فاستحبتها أو يقال مرادها من قولها "ما كان يصليها" أي

ما كان يداوم عليها فيكون النفي للمداومة لا لأصل الصلاة وفي وقت صلاة الضحى يقول النووي ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال قيل ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار وقد استشكل على هذا الحديث بأن الصلاة فرضت خمسا ولها أجر الخمسين وروي في نهاية حديثها {ما يبدل القول لدي} فكيف يخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفرض صلاة أخرى بعد هذا وأجيب عن هذا الإشكال بعدة أجوبة منها أنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم فأحب التخفيف عنهم فترك المواظبة قاله المحب الطبري قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه كما اتفق في بعض القرب التي داوم عليها فافترضت وقيل خشى أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب وإلى هذا الوجه نحا القرطبي وهناك إجابات أخرى محلها المبسوطات فمن شاء فليراجعها في كتابنا فتح المنعم شرح صحيح مسلم في باب قيام الليل والله أعلم -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أنه إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة أو مصلحتان اعتبر أهمهما إذ كان صلى الله عليه وسلم يترك المداومة على ما يحب أن يعمل خشية أن يفرض 2 - وفيه جواز الفرار من قدر الله إلى قدر الله 3 - وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ورأفته بهم 4 - ومن قولها "وإني لأسبحها" مشروعية المداومة على صلاة لم يداوم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم

8 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما" -[المعنى العام]- كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم كل ليلة ويصوم الدهر إلا قليلا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه سنة الإسلام والطريقة المثلى للعبادة والتقرب إلى الله ويرغبه فيها بأنها أحب وأكثر ثوابا عند الله تعالى وهي أن المكلف لا يأخذ نفسه بالشدة والعنف حتى تمل ولا يترك لها الحبل على الغارب حتى تفرط بل يأخذها بالقصد كما كان يفعل رسول الله داود عليه السلام فإنه وزع الليل أقساطا حيث جعل النصف الأول للنوم والراحة والثلث الذي بعده للقيام والعبادة والسدس الأخير لاسترجاع ما عسى أن يكون قد فقد من نشاطه وقوته ليستقبل عمل النهار بهمة وعزيمة كما أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ليتقوى به على سائر أعماله وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل

-[المباحث العربية]- (أحب الصلاة إلى الله) لفظ "أحب" بمعنى المحبوب أي أكثر ما يكون محبوبا من الصلاة واستعمال "أحب" بمعنى محبوب قليل لأن الغالب في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل ولعل ال في (الصلاة) للعهد والمقصود منها صلاة الليل لكيلا يقال إن داود لم يكن يصلي بالنهار (كان ينام نصف الليل) هذا بيان لكيفية قيام داود المحبوبة (ويصوم يوما ويفطر يوما) بيان لكيفية صيام داود المحبوبة -[فقه الحديث]- كان هذا النظام أحب إلى الله تعالى لأنه أخذ بالرفق على النفوس التي يخشى منها السآمة المؤدية إلى ترك العبادة والله يحب أن يوالي فضله ويديم إحسانه وإنما كان ذلك أرفق على العباد لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم بخلاف السهر إلى الصباح وكان نظام داود هذا أحب إلى الله أيضا لأن فيه مصلحة هامة وهي استقبال الصبح وأذكار النهار بنشاط وإقبال ولأنه أقرب إلى عدم الرياء لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى فهو أقرب إلى أن يخفى نوم سدس الليل عمله الماضي على من يراه أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد وقد اختلفوا في أفضل الأوقات لمن يرغب أن يصلي بعض الليل على قولين أحدهما: أنه جوف الليل والثاني: وقت السحر ليصل به فريضة الفجر وكان نظام داود في الصيام أفضل لأن المكلف لم يتعبد بالصيام خاصة بل به وبالحج وبالسعي في الرزق وبالجهاد وغير ذلك فإذا استفرغ المرء جهده في الصوم خاصة انقطعت قوته وضعفت سائر العبادات ولكن إذا صام يوما وأفطر يوما كانت فيه قوة ومناعة واستطاع العمل

قال ابن المنير: كان داود عليه السلام يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه فأما الليل فاستقام له فيه ذلك كل ليلة وأما النهار فلما تعذر عليه أن يجزئه بالصيام لأنه لا يتبعض جعل عوضا من ذلك أن يصوم يوما ويفطر يوما فيتنزل ذلك منزلة التجزئة في شخص اليوم -[ويدل الحديث]- 1 - على الاقتصاد والتزام حد الاعتدال في العبادة 2 - وعلى أن صلاة التهجد في السدسين الرابع والخامس من الليل مرغوب فيها لأنه وقت تجلي الرحمن على عباده 3 - واستدل به من قال بحصول السنة لمن نام السدس الأول مثلا وقام الثلث ونام النصف الأخير لأن الواو لا تقتضي ترتيبا ويرده رواية الترتيب بثم بدل الواو 4 - وفيه الحث على المداومة على العمل وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع 9 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة

عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" -[المعنى العام]- يحرص الشيطان على أن يحول بين العبد وبين قيامه بعبادة ربه لقد أقسم على إغواء بني آدم. {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين} إنه يتفنن في تزيين الكسل والخمول لمن يعتزم عبادة الله يثبط العزائم ويسوف ويستدرج وبخاصة عند النوم ليجتمع له مع إغوائه شهوة النفس وميلها إلى النوم إذا أراد المسلم أن يصلي صلاة الليل قبل أن ينام وسوس له وأتاه من زاوية الحق المراد به الباطل يقول له: قيام الثلث الأخير أفضل. فنم ثم قم ويؤكد له القدرة على القيام ويقسم له أن ذلك سيكون وأنه من السهل اليسير فإذا نام أثقل أذنيه حتى لا يسمع صوتا موقظا أو منبها وأوثق تغميض عينيه وعقد على عقله ثلاث عقد ليغلق عنه اليقظة والانتباه فإذا ما أفلت المسلم من هذا الحصار المنيع وتقلب في فراشه واستحضر في نفسه الرغبة لأداء الصلاة خدعه شيطانه وقال له نم ما زال الليل طويلا نم قليلا ثم قم فإذا ما استجاب لهذا الإغواء فنام ثم تيقظ عاوده الشيطان بالخدعة نفسها شيئا فشيئا ومرة بعد مرة يعده ويمنيه وما يعده الشيطان إلا غرورا حتى إذا ما فات وقت الصلاة وضاعت الفرصة على المسلم وتحقق للشيطان ما أراد بال في أذن صاحبه سخرية منه واستهزاء {وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم}

-[المباحث العربية]- (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم .... ثلاث عقد) قافية الرأس مؤخره وهي إشارة إلى المخ ومركز الإدراك والتعقل وقافية كل شيء مؤخره ومنه قافية القصيدة والخطاب في "أحدكم" للتعميم في المخاطبين ومن في معناهم ويخص من هذا العموم الأنبياء ومن قيل فيهم {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وقد اختلف في هذه العقد فقيل: هو على الحقيقة وأنه كما يعقد الساحر لمن يسحره فيأخذ الخيط فيعقد عليه عقدا وهو يتكلم عليه بالسحر فيتأثر المسحور بذلك ومنه قوله تعالى {ومن شر النفاثات في العقد} فالمقصود شيء عند قافية الرأس نفسها وهل العقد في شعر الرأس أو في غيره؟ قال الحافظ ابن حجر: الأقرب الثاني إذ ليس لكل أحد شعر اهـ وقيل: إن هذا التعبير كناية وتصوير لوساوس الشيطان وتزيينه وتغريره بطول الوقت وانحلال العقد كناية عن مكافحته ودفع وساوسه والمقصود من كون العقد ثلاثا تقوية الإغواء فكأنه إغواء وإغواء وإغواء (إذا هو نام) أي إذا هو نام بدون صلاة هكذا قيده البخاري ويرى جمهور شراح الحديث أنه يعقد على رأس من صلى ومن لم يصل ولكن من صلى بعد ذلك تنحل عقده بخلاف من لم يصل (يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد) في رواية للبخاري "يضرب على مكان كل عقدة أي يضرب بيده على العقدة تأكيدا وإحكاما لها قائلا عليك ليل طويل فالضرب حقيقي وقيل إن الكلام كناية عن إحكام الوسوسة وإتيانها والايحاء للنائم بطول الوقت و"ليل طويل" بالرفع مبتدأ مؤخر و"عليك" خبر مقدم وفي رواية "ليلا طويلا" بالنصب على أن "عليك" اسم فعل بمعنى الزم ومراد الشيطان بهذه العبارة تسويفه بالقيام والإلباس عليه إذ ربما لو طلب منه عدم القيام كليا لدفع المؤمن هذه

المكيدة إما أن يستدرجه شيئا فشيئا فقد ينخدع المؤمن فكأنه يقول له: قم بعد قليل فمازال الليل طويلا. قم بعد قليل. قم بعد قليل. وبهذا الاستدراج يصل إلى ما يريد (فأصبح نشيطا طيب النفس) لسروره بما وفقه الله من طاعته وسروره بالثواب الموعود وسروره بإحباط كيد الشيطان وبانشراح صدره من ربه (وإلا) أي وإن لم يقم ويتوضأ ويصل وتنحل عقده ولو أتى ببعضها وترك بعضها بقي خبيث النفس كسلان لكنه يختلف عمن لم يأت بشيء منها بالقوة والضعف (أصبح خبيث النفس كسلان) لاستيلاء الشيطان عليه و"كسلان" ممنوع من الصرف للوصفية وزيادة الألف والنون -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضل صلاة الليل وقد ادعى ابن العربي أن البخاري أومأ إلى وجوب صلاة الليل لقوله: باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل الليل قال الحافظ ابن حجر: ولم أر النقل في القول بإيجابه إلا عن بعض التابعين والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه 2 - الحث على ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ وفي صيغه أحاديث كثيرة مشهورة في الصحيح جمعها الإمام النووي وما يتعلق بها في باب من كتاب الأذكار قال: ولا يتعين لهذه الفضيلة ذكر لكن الأذكار المأثورة فيه أفضل 3 - التحريض على الوضوء عند القيام من النوم 4 - أخذ بعضهم من قوله "عليك ليل طويل" اختصاص العقد بنوم الليل وهو كذلك لكن لا يبعد أن يجيء مثله في نوم النهار

5 - أخذ بعضهم من طلب الوضوء لحل العقدة أن التيمم لمن ساغ له لا يقوم مقام الوضوء لأن في الوضوء معاناة تعين على طرد النوم والحق إجزاء التيمم كما يجزئ الغسل للجنب فذكر الوضوء للغالب والله أعلم 10 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: "ما هذا الحبل؟ " قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد" -[المعنى العام]- من رحمة الله بالأمة الإسلامية أن رفع عنها الحرج والمشقة في عبادتها وأراد لها اليسر دون العسر وأنزل على نبيه شفقة بالأمة {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ

تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وتطبيقا وتنفيذا لهذه الرحمة الإلهية ترفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمة ودعا المشددين على أنفسهم أن يرفقوا بها وأن لا يبالغوا في العبادة وها هو يرى زوجه السيدة زينب بنت جحش وقد وضعت حبلا مشدودا بين ساريتين من سواري المسجد تتعلق به إذا غلبها النوم أثناء قيامها بالليل فيقول حلوه ليصل أحدكم ما دام نشيطا وليترك الصلاة إذا فتر لا تكلفوا أنفسكم من العبادة إلا ما تطيقونه فإن الله لا يحب العبادة مع الملل ولا يثيب عليها الثواب الكريم ولا يتشدد في الدين أحد إلا غلبه وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. فليتعبد المؤمن بما لا يشق عليه وعلى الله القبول -[المباحث العربية]- (فإذا حبل ممدود بين الساريتين) أي العمودين اللذين في جانب المسجد النبوي (قالوا: هذا حبل لزينب) أي بنت جحش أم المؤمنين بهذا جزم أكثر الشراح (فإذا فترت) في رواية "فإذا كسلت" بكسر السين أي فترت (ليصل أحدكم نشاطه) اللام المكسورة لام الأمر و"نشاطه" بفتح النون منصوب على الظرفية أي مدة نشاطه (فإذا فتر فليقعد) عن الصلاة وليتركها وقيل فليقعد في صلاته وليصل من جلوس والأول أولى -[ويؤخذ من الحديث]- : 1 - الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق قال النووي وليس ذلك مختصا بالصلاة بل هو عام في جميع أعمال البر

2 - كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر فتكون النفس أنشط والقلب منشرحا فتتم العبادة بإحسان وروح بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق عليه فإنه بصدد أن يتركه أو يترك بعضه أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب فيفوته خير عظيم وقد ذم الله تعالى من اعتاد عبادة ثم فرط فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص على تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخفيف العبادة ومجانبة التشدد قاله النووي 3 - الحث على النشاط في العبادة وأنه إذا فتر قعد حتى يذهب الفتور 4 - وإزالة المنكر باليد لمن تمكن منه 5 - وجواز تنفل المرأة في المسجد فإنها كانت تصلي النافلة فيه فلم ينكر عليها 6 - استدل به بعضهم من قوله "فليقعد" على جواز الافتتاح بالصلاة قائما والقعود في أثنائها وفيه خلاف وفي الاستدلال بالحديث نظر 7 - كذلك استدل به بعضهم على جواز قطع النافلة بعد الدخول فيها وهو استدلال مردود 8 - واستدل به على كراهة التعلق بالحبل في الصلاة لتكلف طول القيام في النافلة واختلف في الاستناد على عصا ونحوها والله أعلم

باب الاستخارة

باب الاستخارة 11 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني قال: ويسمي حاجته" -[المعنى العام]- {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} نعم سبحانه مقلب القلوب موجه النفوس محرك الإنسان على وفق مشيئته وحكمته ومن هنا كان الواجب على المسلم حين يهم بأمر من أمور الدنيا أن يطلب العون من ربه وأن يجهد نفسه في الاختيار ثم يترك الأمر للذي يخلق ما يشاء ويختار وحتى لا يغتر المسلم بتوقد فكره وصدق رؤيته وعمق خبرته دعاه الإسلام إلى أن يطلب من ربه أن يختار له وأن يتقرب إلى الله بالصلاة والدعاء ثم يناجي في صلاته ربه بدعاء علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: [اللهم إني أستخيرك بعلمك] أي أطلب أن تختار لي الخير بعلمك الأزلي بما فيه خيري [وأستقدرك بقدرتك] أي وأطلب منك العون وأن تمنحني القدرة على تنفيذ ما توجهني إليه [وأسألك من فضلك العظيم] أي وأسألك بعض فضلك الكبير، أسألك فضلا منك وخيرا [فإنك تقدر] على كل شيء

[ولا أقدر] على شيء إلا بقدرتك [وتعلم] خيري وشري وما يأتي به غدي [ولا أعلم] ما ينفعني وما يضرني [وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر] ويصرح الداعي المستخير بالأمر الذي يعتزمه [خير لي في ديني] أي في صلاح ديني وطاعتي [ومعاشي] أي وفي دنياي وعيشتي [وعاقبة أمري] أي وعاقبته وآثاره [أو عاجل أمري وآجله] أي في دنياي وأخراي وفي أحوالي الدنيوية القريبة والبعيدة [فاقدره لي] أي هيئه لي [ويسره لي] وسهل لي وسيلة الحصول عليه وتنفيذه [ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان بهذا الأمر أو بغيره [ثم أرضني به] واغمرني بالرضى والقبول والارتياح لما تهيئني له وبعد هذه الصلاة وهذا الدعاء يتوجه إلى تنفيذ ما كان يعتزم أو يعرض عنه حسبما يشرح الله له صدره والمرجو من الرب الكريم أن يستجيب ويهدي إلى الصراط المستقيم والخير العميم -[المباحث العربية]- (يعلمنا الاستخارة) أي الطلب من الله أن يختار الله للعبد أو الطلب من الله أن يوفق العبد للاختيار فالسين والتاء للطلب والمقصود تعليمهم صلاة الاستخارة ودعاءها وتحفيظهم ذلك (في الأمور كلها) متعلق بالاستخارة وليس بفعل "يعلمنا" أي أن نطلب من الله التوفيق في كل أمر نعتزمه والمقصود الأمور الهامة كلها فأل في الأمور للكمال والتفخيم فلا تصلى الاستخارة للأمور التافهة كاختيار نوع من المأكل أو ثوب من الملبس مثلا (كما يعلمنا السورة من القرآن) بيان لاهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاستخارة والكاف صفة لمصدر محذوف أي يعلمنا الاستخارة تعليما مشبها تعليمه إيانا السورة من القرآن ووجه الشبه الاهتمام والدقة والحفظ (يقول ... ) الجملة للتعليم

(إذا هم أحدكم بالأمر) الهم القصد الذي لم يصل إلى العزم والتصميم والباء للتعدية وليست زائدة مثلها في قام بالعمل (فليركع ركعتين) أي يصلي ركعتين وإطلاق الركوع على الصلاة المشتملة عليه وعلى غيره من إطلاق الجزء وإرادة الكل (أستخيرك بعلمك) أي أطلب منك الخيرة بناء على علمك الأزلي بالخير والشر (وأستقدرك) أي أطلب أن تجعلني قادرا (بقدرتك) الباء للسببية أو للاستعانة (وأسألك من فضلك العظيم) "من" للتبعيض أي أسألك بعض فضلك أو للابتداء والمفعول الثاني محذوف أي أسألك الخير الذي مصدره فضلك وتفضلك (فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم) المفعول محذوف أي تقدر على كل شيء ولا أقدر على شيء إلا ما تشاؤه وتعلم كل شيء وعاقبة كل شيء ولا أعلم عاقبة أمر من الأمور (أن هذا الأمر) أل هنا للعهد الذهني والمقصود الأمر المستخار بشأنه ويستحضره المصلي في ذهنه أو يذكره بلسانه ويسميه (ومعاشي) المعاش والعيشة حياة الدنيا وما به يعيش الإنسان فهو مصدر واسم (أو قال عاجل أمري وآجله) بدلا من قوله (ديني ومعاشي) وعاجل الأمر الدنيا وآجله الآخرة والشك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم (فاقدره لي) القاف ساكنة والدال مضمومة من قدره بتخفيف الدال بمعنى قدره بتشديدها والمراد هنا فيسره لي

(فاصرفه عني واصرفني عنه) أي باعد بيني وبينه تنفيذا ورغبة أي فضع حائلا دون تنفيذه واقطع تعلق نفسي به (واقدر لي الخير حيث كان) في تنفيذ هذا الأمر أو في تركه أو في غيره من الأمور (ثم أرضني به) أي اجعلني راضيا بما تقدره لي من الأمور حيث كانت (ويسمي حاجته) وينطق بالأمر الذي يستخير بشأنه بعد الدعاء أو في أثنائه -[فقه الحديث]- صلاة الاستخارة مشروعة على سبيل الندب المؤكد وعلى هذا حمل الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم "فليركع ركعتين" وصرفه عن الوجوب قوله "من غير الفريضة" أما كيفيتها فكركعتي الصبح والأفضل ركعتان وإن جاز أن يصلي أربعا بتسليمة واحدة بل أكثر من أربع فإن فعل الأفضل أن يصليها مثنى سواء كانت في نهار أم في ليل وقد وضعها البخاري تحت باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى أي في صلاة الليل والنهار وتصلى في أي وقت فلا تشملها أوقات الكراهة أو الحرمة عند الجمهور ومنعها بعضهم في أوقات الكراهة أما مكان الدعاء الوارد فظاهر الحديث أنه خارجها عقب السلام لقوله "فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل ... إلخ" والتعبير بثم يفيد أنه لا يضر تأخير الدعاء عن الصلاة نعم إن طال الفصل كان دعاء مستقلا غير مرتبط بالصلاة والتحقيق أنه يجوز إيقاع الدعاء في الصلاة نفسها في آخر التشهد أو في السجود أو بعد الرفع من الركوع سواء أكان الأمر دنيويا صرفا أو للدين فيه نصيب وينوى عند التنفل الاستخارة. وهل صلاة الاستخارة ودعاؤها مرتبطان فلا ينفصل أحدهما عن الآخر؟ الظاهر أن الارتباط هو الصفة الأكمل لكن تجوز الصلاة وحدها بنية الاستخارة وإن لم يوجد الدعاء كما يجوز إيقاع الدعاء في أي وقت بدون

صلاة فكل من الأمرين مشروع وجمهور العلماء على أن صلاة الاستخارة ودعاءها إنما يشرع في الأمور الهامة والمشاريع الكبرى دون الأمور التفاهة فتشرع في نحو سفر وزواج ومشروع هدم أو بناء ونحو ذلك من الأمور ذات العواقب الكبرى والتأثير الكبير في مجريات الحياة -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن يتوجه المسلم في أموره إلى طلب العون من الله تعالى 2 - وأن يكون في دعائه خاشعا وخاضعا ومستسلما 3 - وأن ينفي عن نفسه في دعائه الحول والطول والقوة 4 - وأن يثني على الله ثناء جميلا تقربا وتوطئة لقبول الدعاء 5 - وأن يلجأ إلى الصلاة تطوعا كلما حزبه أمر أو شغلته الشواغل الدنيوية 6 - وأن يحرص المسلم على فطم النفس وقطع تعلقها بالأمور التي لم تقدر لها وأن يطلب العون من الله على ذلك فقد ينصرف الشر عن الإنسان ولا ينصرف قلبه عن الرغبة فيه فلا يطيب خاطره ويبقى منكد العيش آسفا على ما فات 7 - أن يختم الداعي طلبه لشيء بطلب الخير حيث كان فإنه لا يدري ما فيه خيره على الحقيقة وما فيه شره في المال {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}

باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 12 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" -[المعنى العام]- كما فضل الله بعض الناس على بعض وكما فضل بعض الأزمنة على بعض فضل بعض الأماكن على بعض وإذا كانت البقعة التي تشرف بضم جسده صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض على الإطلاق عند المحققين فإن المقام هنا مقام تفضيل الصلاة في بعض الأماكن على بعض وتلك البقعة على هذا لا تدخل معنا في هذا المقام كما أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للإقامة بالمدينة بعد فتح مكة ليس علامة للتفضيل بقدر ما كان علامة على الوفاء والمحبة لمن آووه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وتكاد الآية الكريمة {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنا ... } تكاد تنطق بتفضيل المسجد الحرام على غيره من المساجد وعلى مسجد المدينة

وهذا الحديث يعلن فضل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وان الصلاة فيه لها من الأجر والثواب ما ليس لألف صلاة في مسجد آخر باستثناء المسجد الحرام بمكة فإن الصلاة فيه بمائة صلاة في مسجد المدينة فهي بمائة ألف صلاة في المساجد الأخرى غير مسجد المدينة وغير المسجد الأقصى كما جاء في الأحاديث ومن أجل هذا الفضل شرع السفر للصلاة في هذه المساجد وصح الحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومسجد الأقصى" فيا سعادة من حظي بهذا الفضل وبالصلاة الخالصة المقبولة في هذه البقاع الشريفة الفاضلة -[المباحث العربية]- (صلاة في مسجدي هذا) ظاهر التنكير في "صلاة" يعم الفريضة والنافلة وخصها بعضهم بالفريضة وخصها آخرون بالنافلة وسيأتي التفصيل في فقه الحديث والمراد من المسجد في "مسجدي" مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة والإشارة حضورية للتأكيد (خير من ألف صلاة فيما سواه) "فيما سواه" الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة "صلاة" أي خير من ألف صلاة كائنة فيما سواه (إلا المسجد الحرام) أي المحرم كقولهم كتاب بمعنى مكتوب قيل: المراد به كل الحرم أي مكة وما يحيط بها بما يقرب من خمسة أميال في بعض الجهات وقيل المراد به الموضع الذي يصلي فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم وخصه جماعة بالكعبة وهو بعيد وهذا الاستثناء يفيد صورا ثلاثا لأن معناه إلا المسجد الحرام فليس مسجدي خيرا منه بألف بل مسجدي خير منه بأقل من ألف أو بل مسجدي مساو له أو بل هو خير من مسجدي وسيأتي تحديد المراد في فقه الحديث

-[فقه الحديث]- اختلف العلماء في نوع الصلاة الفاضلة والمفضول عليها أهي الفرض؟ أم هي النفل؟ أم ما يعمهما؟ ذهب الطحاوي إلى أن التفضيل مختص بصلاة الفريضة لأن فضيلة النافلة في البيوت لا في المساجد لحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وذهب قوم إلى أن التفضيل مختص بالنافلة وقد يفهم هذا من صنيع البخاري إذ أورد هذا الحديث في أبواب التطوع والجمهور على أن المراد مطلق الصلاة فيعم الفريضة والنافلة ويمكن مع هذا أن يبقى العموم في حديث صلاة النافلة في البيت على معنى أن صلاة النافلة في بيت بالمدينة أفضل من صلاتها في بيت في غير المدينة وكذا صلاتها في مسجد المدينة أفضل من صلاتها في مسجد في غير المدينة وهذا لا يخالف قول الجمهور وقد ذكرنا في المباحث العربية أن الاستثناء يفيد احتمال صور ثلاث أولها إلا المسجد الحرام فليس مسجدي خيرا منه بألف بل مسجدي خير منه بأقل من ألف وحاصله أن مسجد المدينة أفضل من مسجد مكة ويعزى هذا القول إلى عبد الله بن نافع وغيره فقد روى ابن عبد البر عن طريق يحيى بن يحيى الليثي أنه سأل عبد الله بن نافع عن تأويل هذا الحديث فقال معناه أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بما دون ألف صلاة قال ابن عبد البر لفظ دون يشمل الواحد فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة وحسبك بقول يئول إلى هذا ضعفا قال وزعم بعض أصحابنا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة اهـ وهذه الصورة وهذا القول أضعف الآراء الصورة الثانية تقديرها إلا المسجد الحرام فليس مسجدي خيرا

منه بل هما متساويان في الفضل قال صاحب هذا الرأي لو كان فاضلا أو مفضولا لذكر ذلك وهذا الرأي ضعيف وبعيد كسابقه لأن الاحتمال إنما يقبل حيث لا نص يخالفه وقد ثبت بالنص الصحيح الرأي الثالث والصورة الثالثة وهي أن المسجد الحرام خير من مسجد المدينة فقد أخرج الإمام أحمد من طريق عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" وفي رواية لابن حبان "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة" وروى ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" فوضح بذلك تفضيل المسجد الحرام وفي المراد بالمسجد الحرام هنا خلاف بين العلماء فقد ذهب قوم أن المراد به الموضع الذي يصلى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم ويتقوى هذا القول بأن المسجد الحرام في الحديث مقابل لمسجد المدينة والمراد منه قطعاً مسجد الجماعة دون بقية مواضع المدينة فينبغي أن يكون المقابل كذلك وأن يراد المسجد وليس الحرم والجمهور على أن المراد به جميع الحرم ويؤيده ما رواه الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال بل في الحرم لأنه كله مسجد بقي تحديد المراد من مسجد المدينة وهل يشمل التوسعة التي أضيفت وتضاف إليه أو هو مخصوص بالمكان الذي كان يصلي فيه في عهد

الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب قوم إلى الثاني بحجة قوله "مسجدي" فأضافه إلى نفسه وأكده بالإشارة بقوله "هذا" والذي ترتاح إليه النفس القول بأن المراد المسجد كله بما أضيف ويضاف إليه فالصلاة واحدة والجماعة واحدة وفضل الله أوسع من أن يضاعف لأحد المتجاورين المتلاصقين لتحديد كان غير مقصود نعم نقول -كما قال النووي -ينبغي أن يحرص المصلي [دون إحراج أو تضييق على الناس] على الصلاة في الموضع الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ومما هو واضح أن الفضل المذكور إنما يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الإجزاء وهذا أمر متفق عليه عند العلماء كما نقله النووي وغيره فلو كان عليه صلاتان فصلى صلاة واحدة في أحد المسجدين المذكورين لم تجزه إلا عن واحدة وهذا الثواب وتلك المضاعفة غير التضعيف الحاصل بالجماعة فإنها تزيد سبعا وعشرين درجة كما تقدم في باب الجماعة قال الحافظ ابن حجر لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا؟ محل بحث انتهى ونحن نرى اجتماع التضعيفين ولا مجال للبحث فلكل منهما أفضلية ومزية مبنية على سبب وفعل والوعد صريح في كل منهما ولا حجر على فضل الله -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - استدل بالحديث على تفضيل مكة على المدينة لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة وهو قول الجمهور ويؤيده ما أخرجه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة التفت إليها وقال "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" وهو حديث صحيح وذهب جماعة إلى تفضيل المدينة على مكة وهو المشهور عن مالك وبعض أصحابه وذهب جماعة إلى تفضيل مكة على المدينة باستثناء البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكى الاتفاق على أنها أفضل البقاع

2 - ويؤخذ منه تفضيل بعض الأماكن على بعض واختلاف أجر العبادة باختلافها كالأزمنة 3 - فضل المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة على سائر المساجد في الأرض 4 - الترغيب في شد الرحال إلى هذين المسجدين ابتغاء الأجر والثواب والله أعلم

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز باب الأمر باتباع الجنائز 13 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصر المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والديباج والقسي والإستبرق" -[المعنى العام]- حرص الإسلام أول الدعوة بمكة أن يحارب العقائد الفاسدة ويغرس العقائد الصحيحة وأن يكتفى من التشريع بالأهم، وتدرج في مدارج الكمال ومكارم الأخلاق بعد الهجرة فدعا إلى كل ما يؤكد أو يزيد الروابط الإنسانية قوة وتماسكا وعنى بالنهي عن كل ما يصدع أو يهز العلاقة المتينة بين أفراده ولم يضيع الرسول صلى الله عليه وسلم فرصة أو مناسبة إلا بلغ ما أوحى إليه بشأنها وبشأن غيرها مما يماثلها ففي مناسبة الجنائز يأمر صلى الله عليه وسلم بسبع وينهى عن سبع بعضها يتعلق بالجنائز تعلقا مباشرا كاتباع الجنائز بالصلاة على الميت وتشييعه إلى قبره ودفنه وبعضها يتعلق بالجنائز من حيث السبب كعيادة المريض ونصر المظلوم وبعضها لا علاقة له بالجنائز لكنه من الآداب العامة بين المسلمين تزيد من وحدتهم وتقوي من محبتهم وتكثر من مجاملتهم لبعضهم كإجابة الدعوة إلى الوليمة والأفراح والمصالح

العامة وإبرار قسم المقسم والاستجابة لحلف الحالف وبدء السلام ورده وتشميت العاطس وبعضها علاج للكبر والفخر والخيلاء وإحباط لمظاهر تعالي البعض على بعض كاستعمال أواني الذهب والفضة في الطعام والشراب ولبس الذهب والحرير بأنواعه للرجال وهكذا تبدو التعاليم الإسلامية شديدة الحرص على ترابط الإنسانية استجابة لقوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا} -[المباحث العربية]- (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع) أي بسبع خصال أو سبع فضائل والأمر بسبع في مجلس لا ينافي الأمر بغيرها في مجلس آخر فالعدد هنا لا يفيد تحديد المأمورات (ونهانا عن سبع) المعدود في المنهيات ست لا سبع قال الحافظ ابن حجر وسقط من المنهيات في هذا الباب واحدة سهوا إما من المصنف -أي البخاري -وإما من شيخه اهـ وقد ذكرها البخاري في موضع آخر وهي "ركوب المياثر" والمياثر الغطاء الذي يكون على السرج والمقصود مياثر الحرير التي توضع على ظهر الفرس ليجلس عليها الراكب (أمرنا باتباع الجنائز) بفتح الجيم جمع جنازة بفتح الجيم وكسرها والجنازة اسم للميت في النعش وهي مأخوذة من جنزه يجنزه إذا ستره ويطلق على الخشبة التي يحمل عليها الميت ويطلق عليها لفظ سرير أو نعش واتباع الجنائز الاتصال بها أعم من الصلاة عليها أو تشييعها أو دفنها (وعيادة المريض) سميت زيارة المريض عيادة لأن شأنها العود والتكرار (وإجابة الداعي) أل في الداعي للعهد الذهني والمراد الداعي إلى وليمة ونحوها

(ونصر المظلوم) أي العمل على رفع الظلم عنه وإعادة الحق له (وإبرار القسم) بر القسم صدقة وعدم الحنث فيه وإبراره جعله بارا فالمراد تصديق الحالف في حلفه أو إجابة ما يحلف عليه (وتشميت العاطس) ينشأ العطاس غالبا من عدم التوسع في الأكل فتنفتح المسام وصمائم الأجهزة المخرجة للسموم والرطوبات من الدماغ وأنابيب التنفس فيخف البدن وينشط الفكر فهو محمود يستحق من صاحبه شكر الله تعالى عليه وتشميت العاطس الدعاء له بما أثر من قول "يرحمك الله" والأصل فيه كما قال بعض أهل اللغة الدعاء بالخير واشتقاقه من الشوامت أي من يشمت في الشخص ويفرح فيه بسبب ما يحصل له من ضر فمعناه أبعد الله الشماتة عنك وجنبك ما يشمت به عليك فالتشميت دعاء بعدم الشماتة (ونهانا عن آنية الفضة) في الكلام مضاف محذوف أي عن استعمال آنية الفضة أو الأكل أو الشرب فيها (وخاتم الذهب) أي ولبس وخاتم الذهب للرجال (والحرير والديباج والقسي والإستبرق) أي عن لبس هذه الأشياء "والديباج" نوع من الحرير كان مستعملا ومعروفا بهذا الاسم وكذا "القسي" بفتح القاف وكسر السين المشددة وكذا "الإستبرق" غليظ الحرير أو غليظ الديباج وقيل رقيقه -[فقه الحديث]- إذا أمر بأوامر أو نهى عن منهيات في مجلس واحد كان من الحكمة وجود جامع أو مناسبة بين المأمورات وجامع أو مناسبة بين المنهيات ويجمع المأمورات السبع والمنهيات السبع في حديثنا أنها عوامل تأليف القلوب وغرس المودة وإزالة عوامل البغضاء بين الناس 1 - فاتباع الجنائز مشاركة من المسلمين لآل المتوفي وتطييب

لخاطرهم ثم هي وفاء للمتوفي وشفاعة له والصلاة على الميت وتشييعه إلى قبره ودفنه ثلاثتها اتباع للجنازة نعم روى البخاري عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز" فخصص حديثها حديث الباب وجعل الأمر فيه للرجال والجمهور على أن نهي النساء عن اتباع الجنائز للتنزيه إذا أمنت الفتنة أما اتباع الرجال لجنازة ففرض كفاية وكل ما كان فرض كفاية كان مستحبا للجميع وهذا مراد الحديث "اتباع الجنازة أفضل النوافل" رواه سعيد بن منصور عن طريق مجاهد واختلف الفقهاء في وضع المشيعين هل الأفضل مشيهم خلف الجنازة للاعتبار بها والاتعاظ؟ وهو حقيقة معنى الاتباع حسا؟ أو المشي أمامها لأنهم شفعاء ومقام الشفيع مقدم؟ والمراد من الاتباع الاتباع المعنوي بمعنى المصاحبة؟ أو الأمر على التوسعة كما قال أنس بن مالك حين سئل عن المشي في الجنازة فقال: أمامها وخلفها وعن يمينها وشمالها إنما أنتم مشيعون؟ أميل إلى هذا الأخير وإلى عدم الالتزام بمكان معين للتيسير وعدم المشقة بشرط القرب من الجنازة ما أمكن وستأتي بقية لهذه المسألة عند شرح الحديث رقم 19 2 - وعيادة المريض واجبة وجوبا كفائيا قال النووي في المجموع وسواء الرحم وغيره وسواء الصديق والعدو وسواء من يعرفه ومن لا يعرفه لعموم الأخبار قال والظاهر أن المعاهد والمستأمن كالذمي قال: وفي استحباب عيادة أهل البدع المنكرة وأهل الفجور إذا لم تكن قرابة ولم يكن رجاء توبة نظر فإنا مأمورون بمهاجرتهم اهـ وشرعت عيادة النساء للنساء وللمحارم كما شرعت عيادة الرجال للمحارم من النساء مع الأمن والحيطة الشرعية وفي صحيح مسلم في فضل عيادة المريض أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة حتى يرجع "أي في

بستان الجنة، أي يستحق بعمله هذا أن يقضي وقته في بساتين الجنة ولعيادة المريض آداب منها أن تكون غبا متقطعة فلا يواصلها كل يوم أو مرات في اليوم وذلك في غير القريب والصديق ونحوهما ممن يستأنس به المريض أو يشق عليه عدم رؤيته أو ممن يتعهده ومنها أن لا يطيل المقام عنده لما في ذلك من إحراجه والتضييق عليه، وأن تختار الأوقات المناسبة للعيادة وأن تدعو له بالشفاء ومن الآثار أن يقول في دعائه "أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يشفيك بشفائه" سبع مرات "أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي. لا شافي إلا أنت. شفاء لا يغادر سقما" "حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا ودفعت عنك السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" 3 - وإجابة الداعي إلى عرس أو وليمة واجبة وقيل مندوبة على أن تكون خالية من المحرمات 4 - ونصرة المظلوم فرض كفاية على من قدر عليها وتكون بالقول وبالجوارح وبأية وسيلة مقدور عليها 5 - وإبرار القسم فيما حل من مكارم الأخلاق 6 - ورد السلام فرض كفاية إذا تعدد المسلم عليهم فإذا انفرد كان واجبا عينيا وأقل ما يجزئ في الرد "وعليكم السلام" وأكمله "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" وللمسألة باب خاص واسع يأتي في محله 7 - وتشميت العاطس واجب وجوبا عينيا على المنفرد وكفائيا على الجماعة بشرط أن يحمد العاطس ربه وأن لا يزيد عطاسه على ثلاث مرات متتالية فإذا زاد فهو مرض يدعى له بالشفاء فيقال عافاك الله وشفاك وكيفية التشميت أن يقول: يرحمك الله ويرد العاطس: يرحمنا ويرحمكم الله ويهديكم الله ويصلح بالكم أما عن آنية الفضة -وآنية الذهب من باب أولى -فيحرم استعمالها في أكل أو شرب على الرجال والنساء لما في ذلك من السرف والخيلاء وكسر

قلوب الفقراء وأما خاتم الذهب فيحرم على الرجال لبسه دون النساء خصص العموم في حديث الباب حديث آخر صحيح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك الذهب في يد والحرير في اليد الأخرى وقال "هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" وأما خاتم الفضة فجائز لبسه للرجال وأما الحرير وأنواعه فيحرم على الرجال لبسه ومن الواضح أن الحديث اشتمل على أمور واجبة وأمور مندوبة والكل داخل تحت "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم" وكذلك اشتمل على أمور محرمة وأمور مكروهة والكل داخل تحت "ونهانا" وفي هذا استعمال لصيغة واحدة في معنيين مما يجعلها مرة محمولة على الحقيقة ومرة على المجاز واستعمال اللفظ الواحد في معنييه الحقيقي والمجازي ممنوع عند كثير من الأئمة ولهم أن يقولوا: إن الأمر لمطلق الطلب وإن النهي لمطلق الكف فاللفظان في معناهما الحقيقي وحدد المراد من الطلب أدلة أخرى والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية الأوامر السبعة الواردة وجوبا أو ندبا 2 - النهي عن السبع الواردة حرمة أو كراهة 3 - حرص الشريعة الإسلامية على ما يوجب الألفة والمودة وعما يدفع البغضاء والشحناء

باب الكفن في ثوبين وغسل الميت المحرم

باب الكفن في ثوبين وغسل الميت المحرم 14 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال فأوقصته قال النبي صلى الله عليه وسلم "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" -[المعنى العام]- في حجة الوداع بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة عند الصخرات كان رجل محرم بالحج يركب ناقته ويقف بجواره صلى الله عليه وسلم فوقع الرجل عن

راحلته فاندقت عنقه ومات وكانت الحادثة الأولى لميت محرم يقف بعرفة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لا بد أن يعلم أصحابه ما ينبغي في مثل هذه الحالة كيف يغسلونه؟ وكيف يحنطونه وكيف يكفنونه وما مصير محرمات الإحرام وعلمهم الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قال لهم اغسلوه بماء وسدر كما تغسلون موتاكم وكفنوه في ثيابه التي كان يلبسها وقت إحرامه وقبل موته وأبقوا مظاهر الإحرام ومحرماته لا تحنطوه امتنعوا عن تطييبه وأبقوا رأسه مكشوفة لا تغطوها بكفنه فإنه يبعث يوم القيامة محرما يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك -[المباحث العربية]- (بينما رجل واقف) "بين" ظرف زمان زيدت عليها "ما" وتضاف للجمل وهي منصوبة بمعنى المفاجأة في "إذ وقع" والتقدير فاجأ الوقوع رجلا وقت وقوفه والمراد من الوقوف الكينونة والوجود وليس ضد الجلوس لأنه كان على ناقته ويمكن أن يراد من الوقوف السكون عن الحركة بسكون ناقته عن المشي ولم يعرف اسم هذا الرجل قيل وكان وقوفه عند الصخرات في عرفة (إذ وقع عن راحلته فوقصته- أو قال فأوقصته) الشك من الراوي عن ابن عباس في أي اللفظين صدر عن ابن عباس والوقص كسر العنق وهو المعروف عند أهل اللغة أما "أوقصته" من الإيقاص فهو شاذ ومعناه صرعته فكسرت عنقه وفي رواية "فأقصعته -أو فأفصعته" بالقاف أو بالفاء والمعنى قتلته في الحال وضمير الفاعل يحتمل أن يكون للوقعة المفهومة من "وقع" والأولى أن يكون للراحلة لرواية للبخاري "أن رجلا وقصه بعيره" على معنى أنه كان سببا في وقوعه وكسر عنقه أو على معنى أنه أصابه بعد وقوعه (اغسلوه بماء وسدر) السدر ورق شجر النبق وكان يوضع في ماء

الغسل لإعطاء الماء رائحة طيبة ومادته الزيتية تقوم مقام الصابون وإذا خضخض السدر في الماء خرجت له رغوة كالصابون (وكفنوه في ثوبين) في بعض الروايات "في ثوبيه" (ولا تحنطوه) أي لا تطيبوا كفنه ولا جسمه بالحنوط وهو كل شيء يخلط من الطيب للميت خاصة (ولا تخمروا رأسه) أي لا تغطوا رأسه (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) أي محرما كحالته التي مات عليها والفاء للتعليل أي السبب في عدم تحنيطه وعدم تخمير رأسه بقاء حالة الإحرام و"ملبيا" حال -[فقه الحديث]- يتناول الحديث غسل الميت وحنوطه وكفنه أما غسله فهو فرض كفاية عند الجمهور وعند بعض المالكية سنة وقد توارد به القول والعمل وهل هذا الغسل للتنظيف أو للتطهير قولان والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي شرع للنظيف وغير النظيف للبالغ ولمن هو دون البلوغ ويشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة وكيفيته الكاملة إعداد ماء يكفي لثلاث غسلات أو أكثر ويخلط هذا الماء بالسدر أو نحوه كورق الكافور ويكفي الصابون ويغسل أولا السبيلان كالاستنجاء ويوضأ ثم يصب الماء ليصل إلى جميع الشعر والبشرة ثلاثا ويوضع في ماء الغسلة الأخيرة شيء من الكافور أو الطيب ففي البخاري عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته -المشهور أنها زينب توفيت أول سنة ثمان من الهجرة -فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور" قال بعض العلماء يغسل ثلاثا فإن خرج منه شيء بعد

فخمسا فإن خرج منه شيء غسل سبعا وقال آخرون: يغسل ثلاثا فإن خرج منه شيء غسل موضعه ولا يعاد غسله ولا يزيد على الثلاث والمحرم بالحج أو العمرة يغسل كغسل غير المحرم أما الشهيد في معارك المسلمين فلا يغسل عند الجمهور لما روى البخاري عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادفنوهم في دمائهم -يعني يوم أحد -ولم يغسلهم". وفي رواية "لا تغسلوهم فإن كل جرح -أو كل دم -يفوح مسكا يوم القيامة" وأما حنوطه فسنة ما لم يكن محرما عند الجمهور فإن النهي عن التحنيط في الحديث إنما وقع لأجل الإحرام استبقاء لشعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد وكأن الحنوط للميت كان مقررا عندهم وقال بعض المالكية إن هذا الحديث واقعة حال فلا يستدل لمفهومها ولا يستدل به على تحنيط غير المحرم ومن السنة التحنيط بالكافور يجعل في الماء في آخر غسلة كما يقول الجمهور أو يجعل بعد انتهاء الغسل والتجفيف كما يقول بعض الحنفية قيل: والحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع أن فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتحلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه وهو أقوى الأرايح الطيبة في ذلك قالوا وهل يقوم المسك مقامه وأجابوا إن نظر إلى مجرد التطييب فنعم وإلا فلا وقد يقال إذا عدم الكافور قام غيره مقامه ولو بخاصية واحدة مثلا وأما كفنه فالمستحب أن يكفن في ثلاث والواحد الساتر لجميع البدن جائز بالاتفاق فالثلاث ليست شرطا للصحة واختلف فيما إذا شحت الورثة بالثاني والثالث والذي أميل إليه أخذ الثلاث من التركة ولا يلتفت إلى شحهم وحديث -الباب يفيد التكفين في ثوبين فالإيتار ليس ضروريا لكن هل يغير للمحرم ثياب الإحرام أو يكفن في ثياب إحرامه؟ استدل بعضهم بحديث الباب على إبدال ثياب المحرم قال الحافظ ابن حجر وليس بشيء لأنه سيأتي في الحج بلفظ: "في ثوبيه" وللنسائي "في ثوبيه اللذين

أحرم فيهما" قال المحب الطبري إنما لم يزده ثوبا ثالثا تكرمة له كما في الشهيد -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - احتج به الشافعي وأحمد على أن المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الإحرام ولذا يحرم ستر رأسه وتطييبه وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة فقالوا: يصنع به ما يصنع بالحلال واعتمدوا القياس وانقطاع العبادة بزوال محل التكليف وهو الحياة لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله ... " واعتبر بعضهم حديث الباب واقعة حال لا تتعدى صاحبها ولا يعمم حكمها وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيا لوجب أن يكمل به المناسك ولا قائل به ورجح القول الأول بأن القياس إنما يصار إليه حيث لا نص أما وقد ثبت النص فلا موضع للقياس وقد ثبتت العلة في النص وأنها الإحرام فتعم كل محرم وتكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه أصلهما من عمله وشأنه في ذلك شأن الشهداء حين يزملون بثيابهم ودمائهم 2 - استدل بالحديث على أن المحرم إذا مات لا يكمل عمله غيره 3 - قال ابن بطال وفيه أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رجي له أن يكتبه الله في الآخرة من أهل ذلك العمل 4 - واستدل به على أن الكفن من رأس المال لأمره صلى الله عليه وسلم بتكفينه في ثوبه ولم يسأل هل عليه دين يستغرق؟ أم لا؟ 5 - وفيه التكفين في الثياب الملبوسة 6 - واستحباب دوام التلبية 7 - وأن الإحرام يتعلق بالرأس لا بالوجه بالنسبة للرجال 8 - وفيه -بدليل المفهوم -استحباب تخمير رأس الميت غير المحرم والله أعلم

باب إحداد المرأة

باب إحداد المرأة 15 - عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا" -[المعنى العام]- كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي زوجها لبست شر ثيابها ودخلت بيتا صغيرا حقيرا ولم تغتسل ولم تمس ماء ولم تقلم ظفرا ولم تخرج منه إلا بعد حول فتخرج بعد الحول بأقبح منظر وجاء الإسلام بالعدة والحداد لكنه أباحه لغير زوج ثلاثة أيام وللزوج مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام

لغير الحامل وللحامل حتى تضع حملها وخفف من مظاهر الإحداد فطلب النظافة وأباح الخروج للحاجة إن إحداد الزوجة على زوجها رمز للوفاء من ناحية وإبعاد لها من دواعي الزواج بآخر مدة العدة من ناحية أخرى وتنفيس لأعماق حزنها ورفع الكبت عن مشاعرها ومسايرة لطبيعة الحزن في النفس البشرية من انصرافها عن المباهج والزينة وقت المصائب من ناحية ثالثة ولما كانت طبيعة المرأة المبالغة في هذه المظاهر وضع الشارع الحدود والضوابط فلا يحل لها الإحداد على غير زوج مهما كان عزيزا أكثر من ثلاثة أيام أما الزوج فيجب عليها الإحداد من أجله مدة العدة التي قررها الشرع الحكيم -[المباحث العربية]- (لا يحل لامرأة) الروايات برفع "يحل" على أن "لا" نافية قال أهل البلاغة أنه في المنع أبلغ من النهي الصريح لأنه يفرض أن الفعل اجتنب وأصبح يخبر عنه بالنفي والمرأة تشمل الصغيرة والكبيرة فتعم كل مكلفة (تؤمن بالله واليوم الآخر) جملة يقصد بها الحث والإثارة أي من كانت هذه حالها وجب أن تبادر للإجابة واختيار اليوم الآخر من بين ما يجب الإيمان به للتحذير والتخويف من الجزاء (تحد على ميت فوق ثلاث) "تحد" بضم التاء وكسر الحاء من أحدت المرأة وحكي فتح التاء وضم الحاء من حدت المرأة والفعل منسبك بمصدر من غير سابك وروي "أن تحد" بإظهار السابك والمصدر فاعل "يحل" أي لا يحل إحدادها وحذف التاء من "ثلاث" لمراعاة تمييز مؤنث أي ثلاث ليال أي مع أيامها (إلا على زوج) في رواية "إلا لزوج" وفي أخرى "إلا بزوج" قال الحافظ ابن حجر: وكلها بمعنى السببية اهـ أي لا يحل إحداد المرأة

بسبب ميت فوق ثلاث ليال إلا بسبب موت زوج فيحل وإثبات الحل يفيد احتمالات ثلاثة يجب أو يندب أو يباح إذ كلها حلال وسيأتي توضيح المراد في فقه الحديث -[فقه الحديث]- المقصود من الإحداد شرعا امتناع المرأة المتوفى عنها من الزينة كلها في اللباس والطيب ونحوهما من الكحل والمساحيق وتلوين الأظافر والأصباغ وغير ذلك مما يتعارف على أنه تتزين به المرأة -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية الإحداد للمرأة على غير الزوج ثلاثة أيام قال الحافظ ابن حجر وليس ذلك واجبا لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال اهـ قالوا: ويحل لها الإحداد ثلاثة أيام على أي ميت غير الزوج سواء أكان قريبا أو أجنبيا والإحداد على غير الزوج ليس واجبا باتفاق وحمل الحل هنا على المشروع المباح من أدلة أخرى 2 - استدل به على مشروعية الإحداد لوفاة زوج أربعة أشهر وعشرا سواء كانت الزوجة مدخولا بها أم غير مدخول بها واتفق العلماء على حمل حل الإحداد للزوجة لزوجها على الوجوب قال القاضي عياض: واستفيد الوجوب في المتوفى عنها من اتفاق العلماء على حمل الحديث على ذلك مع أنه ليس في لفظه ما يدل على الوجوب ولكن اتفقوا على حمله على الوجوب لحديث أم عطية في الكحل والطيب واللباس ومنعها منه قال العلماء والحكمة في وجوب الإحداد في عدة الوفاة دون الطلاق أن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان فيه فنهيت عنه ليكون الامتناع من ذلك زاجرا عن النكاح لكون الزوج ميتا لا يمنع معتدته من النكاح ولا يراعيه ناكحها ولا يخاف منه بخلاف المطلق الحي فإنه يستغنى بوجوده عن زاجر آخر قاله النووي والحق أن الزوج المطلق لا يستحق في الغالب أن تبدي زوجته الأسف والحزن على فراقه بأي مظهر من

مظاهر الإحداد وإن منعت من الزواج بغيره مدة العدة استبراء للرحم 3 - استدل أبو حنيفة وبعض المالكية بقوله "تؤمن بالله واليوم الآخر" على أنه لا يجب على الزوجة الكتابية الإحداد بل يختص الإحداد بالمسلمة وأجاب الجمهور بأن هذا قيد للإثارة والالتزام وبأن المؤمن هو الذي ينتفع بخطاب الشرع وينقاد له 4 - حرمة الإحداد فوق المدة المسموح بها لزوج أو لغيره 5 - استدل بعضهم من إطلاق الإحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرا على أن الحامل لا يلزمها الإحداد بعد هذه المدة وإن لم تضع حملها والجمهور على أنه يلزمها الإحداد في جميع العدة حتى تضع سواء قصرت المدة أم طالت فإذا وضعت فلا إحداد عليها ولو كان الوضع بعد ساعة من وفاة الزوج وأجابوا بأن هذا التحديد خرج مخرج غالب المعتدات وأن المقصود به المعتدة بالأشهر.

باب زيارة القبور

باب زيارة القبور 16 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقي الله واصبري" قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" -[المعنى العام]- لا يملك الإنسان إلا أن يحزن عند المصيبة وبالأخص إذا كانت موت حبيب بل موت وحيد وماذا تملك امرأة فقدت وحيدها غير البكاء؟ وماذا يطلب منها إذا جلست عقب دفنه في قبره تبكيه؟ لو أن الأمر وقف عند هذا الحد لعذرت وما توجه إليها لوم لكن صاحبة الحادثة تجاوزت البكاء إلى النوح والعويل وهو مظهر من مظاهر الجزع وعدم الرضا بالقضاء مظهر من مظاهر الهلع وضعف الإيمان وعدم التسليم لهذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمة الله اتقي الله وسلمي إليه الأمر وآمني بالقضاء واصبري على مصيبتك لا تضيعي ثواب المصيبة بالسخط لا تجمعي على نفسك فقد الابن وفقد الأجر ولم تلتفت المرأة للقائل ولا لقوله بل غاظها أن يطلب منها الصبر وهي العاجزة عن الصبر بل لم تصبر على القول ولا على القائل فأجابته في غضب وانفعال وجهل بقولها إليك عني ابتعد عني. اذهب ودعني فماذا تحس من ناري؟ إنك لم تصب بمصيبتي إنك بعيد عن النار إنك خلو من مصيبتي أنا المجروحة الثكلى ولو كنت مكاني عذرتني وقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالتها وشدة مصابها وعذرها في لهجتها وردها وانصرف عنها لئلا تزداد نفورا وغلظة ورآه من بعيد يكلمها أحد الصحابة؟ فأقبل إليها فقال لها: هل علمت من كان يكلمك؟ قالت: ما علمته ومالي به؟ وماله بي؟ قال لها إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تسمع به وكانت تسمع أن أصحابه يجلونه ولا يرفعون بصرهم فيه ولا يرفعون صوتهم عند مخاطبته وكانت

تعلم أنه قائد المسلمين وإمامهم وحاكمهم ونبيهم وتخيلت ما تسمع عن الملوك والأمراء وما يحيط بهم من هيبة وحشم وحراس وبوابين فأخذها الفزع والخوف أخذتها شدة مثل الموت فقيل لها: لا تخافي فهو سمح كريم حريص على المسلمين رءوف رحيم بهم قيل لها تعالى إليه تعتذرين له عن جفوتك في ردك عليه وسارت تقدم رجلا وتؤخر أخرى حتى وصلت إلى بيته صلى الله عليه وسلم ولم يسبق لها أن عرفته فلما قيل لها هذا بيته عجبت لم تجد عند بابه حاجبا ولا بوابا سبحان الله إذن تستطيع أن تطرق الباب وأن تدخل دون أن تمنع أو توقف على الباب لقد طرقت فأذن لها فدخلت وهي ترتجف وهدأ صلى الله عليه وسلم من روعها قالت معذرة فإني لم أعرفك قال: دعي الاعتذار فأنا لم أغضب من لهجتك وإنما أسفت لعدم استجابتك ولعدم صبرك قالت: صبرت وأصبر الآن قال: ليس ذلك هو المطلوب من كامل الإيمان إنما الصبر الكامل المستحق للأجر الوافر هو الصبر عند أول نزول الصدمة {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} و {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} -[المباحث العربية]- (بامرأة تبكي عند قبر) البكاء يطلق على دمع العين وعلى ما يصاحب ذلك من رفع الصوت والنواح والثاني هو المراد هنا لأنه لا اعتراض شرعا على الأول ولم يقف العلماء على اسم المرأة ولا على صاحب القبر غاية الأمر أنه ورد في صحيح مسلم ما يشعر أن الميت كان ولدها ففيه "تبكي على صبي لها" (اتقي الله واصبري) في فائدة ذكر "اتقي الله" قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره اهـ أي خافي الله في عملك هذا قال الحافظ ابن حجر يؤيده رواية "فسمع منها ما يكره فوقف عليها" وقال الطيبي قوله "اتقي الله" توطئة لقوله "واصبري" كأنه قيل لها خافي

غضب الله إن لم تصبري ولا تجزعي ليحصل لك الثواب اهـ (إليك عني) اسم فعل أمر بمعنى تنح وابتعد عني (فإنك لم تصب بمصيبتي) الفاء تعليلية للمفهوم من كلامها أي تقول ولا تعذر لأنك لم تصب بمثل مصيبتي وهذه المماثلة ملاحظة لأن الإنسان لا يصاب بمصيبة غيره نفسها إلا إذا كان شريكا له فيها وهذه الجملة خطأ من المرأة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مات له ولدان قبل ذلك (ولم تعرفه) جملة حالية من فاعل "قالت" أي قالت ذلك اللفظ الجارح جاهلة بشخصه غير عارفة له (فقيل لها) في رواية "فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله فقالت ما عرفته" وفي رواية "قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا" وفي رواية أن الذي سألها هو الفضل بن العباس وواضح أن هذا القول كان بعد انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأتت النبي صلى الله عليه وسلم) لتعتذر إليه وهو معطوف على محذوف ففي رواية مسلم "فأخذها مثل الموت" (فلم تجد عنده بوابين) الضمير "عنده" للنبي صلى الله عليه وسلم وفائدة هذه الجملة إما بيان عذرها في أنها لم تعرفه وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر. قاله القرطبي: وهو بعيد لأن المناسب لهذا عدم المشي وراءه وليس عدم البوابين ولا تلازم وخير من هذا قول الطيبي إن فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفا وهيبة في نفسها فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه فوجدت الأمر على خلاف ما تصورته (فقالت: لم أعرفك) معطوف على محذوف أي فاستأذنت فدخلت عليه فقالت له

(فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى) هذا من الأسلوب الحكيم إذ ترك الرد على كلامها وآثر غيره أهم منه أي دعي الاعتذار فإني لا أغضب لنفسي واهتمي بالموضوع الأهم وهو ما ينبغي لك من صبر وقد روي أنها قالت "أنا أصبر أنا أصبر" فقال لها ليس الصبر الكامل المطلوب ما يقع بعد وقت من المصيبة بزمن إنما ما يقع عند ابتداء المصيبة وابتداء الصدمة وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب -[فقه الحديث]- روى البخاري هذا الحديث تحت باب زيارة القبور قال النووي اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة اهـ وقد أخرج مسلم في صحيحه حديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" وزاد أبو داود والنسائي "فإنها تذكر الآخرة" وللحاكم "وترق القلب وتدمع العين فلا تقولوا هجرا" أي كلاما فاحشا وللحاكم أيضا "فإنها تزهد في الدنيا" واختلف في النساء فقيل دخلن في عموم الإذن إذا أمنت الفتنة والحديث يؤيد هذا القول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة جلوسها عند القبر وتقريره حجة وقد روى الحاكم عن أبي مليكة أنه رأى عائشة - رضي الله عنها -تزور قبر أخيها عبد الرحمن فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت: نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها وقيل: إن الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور واستدل له بحديث أم عطية عند البخاري "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات قال القرطبي ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه وبه قال جمهور أهل العلم ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة وقال المحب الطبري يحتمل أن يكون المراد بقولها "ولم يعزم علينا" أي كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباع الجنائز بحصول القراريط ونحو ذلك واستدل كذلك لمنع النساء بحديث الترمذي "لعن الله زوارات القبور" قال القرطبي هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة اهـ

ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك فقد يقال إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على الصبر عند الصدمة الأولى قال الخطابي إن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو وحكى الخطابي عن بعضهم أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره اهـ والحق أن للمصيبة في نفسها أجرا لحديث "ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كان له بها أجر" وللصبر عليها أجر آخر كما أن على الجزع منها وزرا 2 - ما كان عليه عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل فإنه لم يغلظ عليها ولم يرد غلظتها 3 - ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره 4 - وفيه ملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 5 - وأن القاضي ومن ولي من أمور المسلمين شيئا لا ينبغي أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس 6 - وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل الأمر ولو لم يعرف الآمر 7 - وأن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقرونا بالصبر 8 - وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة 9 - واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان المزور مسلما أم كافرا لعدم استفصاله صلى الله عليه وسلم في ذلك قال النووي وبالجواز قطع الجمهور وقال بعضهم لا تجوز زيارة قبر الكافر لقوله تعالى {ولا تقم على قبره}

باب البكاء عن الميت وإظهار الحزن عليه

وهو قول مردود 10 - جواز أمر الرجال النساء بالمعروف ووعظهم لهن 11 - مهادنة الثائر المعترض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرفق به لئلا يفضي التغليظ عليه إلى ما هو أشد وأكثر ضررا. 12 - الحث على آداب الخطاب وإنزال الناس منازلهم باب البكاء عن الميت وإظهار الحزن عليه 17 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين -وكان ظئرا لإبراهيم -عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأنت يا رسول الله فقال "يا ابن عوف إنها رحمة" ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم "إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون"

-[المعنى العام]- توفي القاسم وعبد الله ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة بمكة وحزن عليهما حزنا شديدا وحرم أزواجه صلى الله عليه وسلم من الولد حتى من كانت تلد قبله كأم سلمة سبحان الواهب الحكيم تسع من النساء لا تلد واحدة منهن وفيهن الولود وفي أواخر السنة السابعة أو أوائل السنة الثامنة أهدى المقوقس عظيم مصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية مصرية اسمها مارية القبطية فأسكنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عوالي المدينة وكان يأتيها بالملك من غير قسم فحملت منه صلى الله عليه وسلم وولدت له طفلا جميلا سماه إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة وكم كانت فرحة الرسول صلى الله عليه وسلم به وتسابقت المرضعات تطلب شرف إرضاعه فاختار له رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضعة تسكن في عوالي المدينة مع زوجها الذي يعمل حدادا وكان يذهب إلى ابنه ليراه بين الحين والحين وكان يصحب معه كثيرا بعض أصحابه الذين كانوا يشفقون عليه من دخان الكير فيطلبون من زوج المرضعة أن يتوقف قليلا حتى تنتهي زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وشاء الله -ولا راد لحكمه ومشيئته -أن يموت إبراهيم على رأس ثمانية عشر شهرا من ولادته وقبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أنس بن مالك وعبد الرحمن بن عوف وكان الطفل يحتضر وأنفاسه تعلو وتهبط وروحه عند الحلقوم فأخذه صلى الله عليه وسلم وشمه وقبله ووضعه فلفظ أنفاسه الأخيرة فلم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم عينيه فتساقطت الدموع فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت تبكي يا رسول الله إن الناس يبكون وأنت تنهاهم عن البكاء ما لنا نراك تبكي؟ فقال إن ما تشاهده أثر من آثار الرحمة ليس أثرا من آثار السخط ثم أتبع الدمع بدمع وقال إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان إنما هذه رقة قلب ورحمة ومن لا يرحم لا يرحم إن العين تدمع وإن القلب يحزن وإنا لفراق إبراهيم لمحزونون ولا نقول ما يسخط الرب لله ما أعطى وله ما أخذ ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل

نأتيه وإن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك يا إبراهيم حزنا هو أشد من هذا و {إنا لله وإنا إليه راجعون} -[المباحث العربية]- (دخلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) ضمير "دخلنا" لأنس بن مالك الراوي ومن معه من الصحابة (على أبي سيف القين) بفتح القاف وسكون الياء هو الحداد وأبو سيف كنية لزوج المرضعة واسمه على ما قيل البراء بن أوس بن خالد من بني عدي بن النجار واسم المرضعة خولة بنت المنذر وكنيتها أم سيف وأم بردة (وكان ظئرا لإبراهيم) أصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها فأطلق على المرضعة التي ترضع غير ولدها وأطلق على زوجها لأنه يشاركها في تربيته غالبا أي كان أبو سيف الحداد زوج مرضعة إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه) أي متع حاسة الشم وحاسة اللمس والقبلة والعين بابنه وهذه الزيارة غير الزيارة الثانية الآتية (ثم دخلنا عليه بعد ذلك) ضمير "دخلنا" لأنس وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من الصحابة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإبراهيم يجود بنفسه) الجملة حال والمراد من النفس هنا الروح ومن الجود الدفع والإخراج شبه إخراج الروح إلى بارئها بالجود بالمال إلى مستحقه بجامع الدفع والتسليم والرضى في كل واستعير الجود للإخراج واشتق منه يجود بمعنى يدفع على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية (وأنت يا رسول الله؟ ) الكلام على الاستفهام التعجبي والواو عاطفة على محذوف أي الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت تفعل كفعلهم؟ كأنه يتعجب لذلك منه مع عهده منه أنه صلى الله عليه وسلم يحث على الصبر وينهى عن

الجزع فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن الحالة التي شاهدتها يا ابن عوف هي (رحمة) وناشئة عن رقة القلب على الولد لا ما توهمت من الجزع ومن لا يرحم لا يرحم إنما أنهى الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه (ثم أتبعها بأخرى) قيل أراد به أنه أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى وقيل أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله "إنها رحمة" بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله "إن العين تدمع ... " (وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) في بعض النسخ "بفراقك" أي بسبب فراقك ولأجله لمحزونون وجاء بصيغة المفعول ليشير إلى أن الحزن ليس من فعلنا ولا بإرادتنا (فائدة) قال ابن المنير: أسند صلى الله عليه وسلم الدمع للعين فقال "العين تدمع" وأسند الحزن للقلب فقال "والقلب يحزن" ولم يسند النطق لجارحة اللسان فنسب الفعلين الأولين للجوارح التي تقوم بهما تنبيها على أن هذا لا يدخل تحت قدرة العبد ولا يكلف الانكفاف عنه وكأن الجارحة اندفعت فصارت هي الفاعلة لا هو والفرق بين دمع العين ونطق اللسان حيث نسب القول إلى نفسه ولم ينسبه إلى اللسان هو أن النطق يملك بخلاف الدمع فهو للعين كالنظر ألا ترى أن العين إذا كانت مفتوحة نظرت شاء صاحبها أو أبى فالفعل لها ولا كذلك نطق اللسان فإنه لصاحب اللسان اهـ وهو كلام جيد -[فقه الحديث]- موضوع الحديث البكاء عند الميت أو البكاء على الميت ولما كان البكاء يطلق على تساقط الدمع بدون صوت وعليه مع الصوت والشهيق والزفير والنحيب والتأوه ونحو ذلك من آثار الحزن الخالية عن الجزع والأسف وعليه مع الجزع وضعف التسليم بالقضاء وعلى كل ما سبق مضافا إليه النياحة والندبة وما يسخط الرب لما كان الأمر كذلك كان لا بد

من اختلاف الحكم الشرعي باختلاف كل حالة من الحالات الأربع فالحالة الرابعة: لا خلاف بين العلماء في حرمتها وأنها من الكبائر لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" وحديث "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة" والصالقة الصارخة والصراخ هو المعروف عندنا بالصوات والخلاف بين العلماء في هل يعذب الميت بفعل ذلك من أهله أو لا يعذب؟ والبحث طويل ومتشعب ومتعارض الأدلة وأفضل ما قيل فيه إنه يعذب؟ إن أوصى به قبل موته أو تأكد قبل موته أن أهله سيفعلون ذلك ولم ينكر عليهم ويتفاوت عذابه بتفاوت درجة مسئوليته عن هذا الفعل وبهذا نجمع بين حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" وبين نفي عائشة وغيرها لتعذيب الميت ببكاء أهله مستدلة بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وبين ما رواه أحمد "الميت يعذب ببكاء الحي فإذا قالت النائحة واعضداه وناصراه واكاسياه؟ جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها ورواه الترمذي بلفظ "ما من ميت يموت فتقوم ناديته فتقول: واجبلاه؟ واسنده؟ أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت؟ فالعذاب هنا عذاب توبيخ فقط، أما إذا لم يوص بذلك، ولم يظن أن أهله سيفعلون ذلك أو نصح أن لا يفعل بعد موته ذلك فلا يعذب ولا يوبخ بفعل ذلك من أهله. والله أعلم والحالة الأولى: وهي تساقط الدمع لحزن القلب بدون صوت لا خلاف في أنها جائزة بل ليست خلاف الأولى وهي التي حصلت هنا من النبي صلى الله عليه وسلم وقد حاول بعضهم أن يجعلها خلاف الأولى بالنسبة لمقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ما حصل منه كان قبل الموت وهذا مردود بما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم بكى على قبر بنت له رواه البخاري وزار أمه فبكى وأبكى من حوله رواه مسلم والحالة الثالثة: وهي البكاء بصوت من مظاهر الجزع وضعف التسليم

بالقضاء ويشبه أن يكون حكمها الحرمة أو الكراهة على اختلاف درجة الجزع وضعف الصبر أما الحالة الثانية وهي البكاء بصوت الشهيق والأنين والنحيب والتأوه كأثر من آثار الحزن القلبي االكبير مع التسليم وعدم الجزع فهي خلاف الأولى ومكروهة على أصعب تقدير والله أعلم -[ويؤخذ من الحديث فوق ذلك]- 1 - مشروعية تقبيل الولد ولو قارب الموت واستدل به بعضهم على تقبيل الميت وشمه ورد بأن القصة إنما وقعت قبل الموت لكن تقبيل الميت ثابت بأدلة أخرى كتقبيل أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لجعفر 2 - جواز الجلوس عند المحتضر 3 - ومشروعية عيادة المريض ولو كان طفلا صغيرا ففي ذلك مواساة لأهله 4 - ومشروعية الإرضاع من غير الأم 5 - واستفهام التابع من أمامه عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهر فعله مع ظاهر قوله 6 - وجواز الإخبار عن الحزن لمصلحة لكن الكتمان عند عدم المصلحة أولى 7 - والترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم 8 - وجواز البكاء بالدمع واعتباره دليلا على رحمة القلب عند المقتضي وهو نقيض قساوة القلب وجمود العين 9 - وقوع الخطاب لشخص وإرادة غيره بالخطاب أخذا من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده إبراهيم مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب

باب حمل الرجل الجنازة دون النساء

باب حمل الرجل الجنازة دون النساء 18 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين يذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه صعق" -[المعنى العام]- عند وفاة الإنسان وبلوغ الروح الحلقوم وقطع اتصاله بالأحياء يرى مقعده ومصيره إما إلى جنة وإما إلى نار فإن كان من أهل الجنة كان قبره روضة من رياضها وإن كان غير ذلك كان قبره حفرة من حفر النار لهذا إذا رفع على أعناق الرجال وساروا به نحو مثواه كان راغبا في سرعة

الوصول إلى قبره إن كان محسنا وكان نافرا من الوصول إلى قبره إن كان مسيئا فينادي الأول بصوت يسمعه جميع الخلائق إلا بني آدم يقول قدموني أسرعوا بي إني مشتاق وعجل للوصول إلى مقعدي وينادي الثاني بصوت يسمعه جميع الخلائق إلا بني آدم يقول أين تذهبون بي قفوا لا أحب الوصول يا للهول يا ويلتي يا هلاكي يستغيث ولا مغيث يتمنى ولات حين مناص فليستحضر المؤمن هذا الموقف وهو في فسحة من أجله وليعمل في يومه لغده وليذكر ما كان يمكن أن يحصل له من الرعب والخوف إذا سمع صوت الميت لقد حجب الله هذا الصوت عن الإنسان رحمة به ورفقا وإبقاء عليه فقد يصعق من هول الموقف وقد يصاب بالذهول وقد يندفع نحو الطاعات إلجاء لا رغبة مما لا يتفق وهدف التكليف والتشريع فسبحان من خلق وعلم من خلق وما يصلحه وأرشده إلى طريق الهدى والرشاد -[المباحث العربية]- (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال) الجنازة تطلق على الميت في سريره وقد تطلق على الميت وقد تطلق على السرير وهنا تحتمل نفس الميت باعتبار جثته ووضعها جعلها في السرير وتحتمل السرير والمراد وضعها على أعناق الرجال وعليه فجملة "واحتملها الرجال" تفسيرية والأول أولى لقوله بعد ذلك "فإن كانت صالحة قالت" فإن المراد به الميت ويؤيده رواية "إذا وضع المؤمن على سريره يقول قدموني" وعبر باحتملها بدل حملها لإفادة ما يصاحب الحمل من المشقة والتكلف (على أعناقهم) الحمل يكون على الأكتاف لا على الأعناق ففي الكلام مضاف محذوف أي على أصول أعناقهم وهي أكتافهم (قالت: قدموني) أي أسرعوا بي نحو قبري (قالت: يا ويلها) مفروض العبارة: قالت: يا ويلي كما في "قالت

قدموني" فهل اللفظ الذي يصدر منها هو: يا ويلها بضمير الغائب؟ وأنها لنفورها من الويل لم تضفه إلى نفسها؟ أو اللفظ الذي يصدر منها هو يا ويلي بضمير المتكلم وكره النبي صلى الله عليه وسلم النطق به كذلك بعدا من توهم إضافته إلى نفسه أو هذا التغيير من الرواة آثروا الرواية بالمعنى تحاشيا لإضافة الويل للمتكلم الظاهر الثاني لرواية الصحيح "قال: يا ويلتاه؟ أين تذهبون بي"؟ والويل الهلاك والحزن ونداؤه على معنى يا حزن ويا هلاك احضر فهذا وقتك ويسمى في اللغة بالندبة (أين تذهبون بها) هي تعرف أين يذهبون بها فالاستفهام للتهويل أي تذهبون بها إلى مقر هائل مخيف أو إنكاري بمعنى النفي بمعنى النهي أي لا تذهبوا بها (يسمع صوتها كل شيء) من العقلاء ملائكة وجن؟ أو من العقلاء وغير العقلاء قولان (ولو سمع الإنسان لصعق) بفتح الصاد وكسر العين أي لغشي عليه من شدة ما يسمعه -[فقه الحديث]- وضع البخاري هذا الحديث تحت باب حمل الرجال الجنازة دون النساء وتحت باب قول الميت وهو على الجنازة قدموني أما ما يتعلق بالباب الأول فقد قال ابن رشيد ليست الحجة من حديث الباب بظاهرة في منع النساء لأنه من الحكم المعلق على شرط وليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك ثم دافع ابن رشيد عن البخاري ورد عن استشكاله وأجاب بأن كلام الشارع كلما أمكن حمله على التشريع لا يحمل على مجرد الإخبار عن الواقع قال: ويؤيده العدول عن المشاكلة في الكلام حيث قال: إذا وضعت فاحتملها الرجال ولم يقل فاحتملت فلما قطع "احتملت" عن مشاكلة "وضعت" دل على قصد تخصيص الرجال بذلك اهـ وإذا تجاوزنا قوة دلالة الحديث على منع النساء من حمل الجنازة أو

عدم قوته إلى الحكم نفسه وجدنا أحاديث أخرى ليست على شرط البخاري صريحة في المنع فقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى نسوة فقال: أتحملنه قلن: لا. قال: أتدفنه؟ قلن: لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات" ونقل النووي في شرح المهذب أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء والسبب في ذلك أن الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالبا وهو مباين للمطلوب منهن من التستر مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالبا فكيف بالحمل مع ما يتوقع من صراخهن عند الحمل والوضع على أن الحمل يحتاج قوة وضعف النساء من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل ثم إن الجنازة لا بد أن يشيعها الرجال فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة وأما ما يتعلق بالباب الثاني وقول الميت الصالح قدموني فقد ذهب البعض إلى أن القول بلسان الحال لا بلسان المقال وهذا الرأي بعيد عن الصواب لا يستقيم مع قوله في آخر الحديث "يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق" مما يؤكد أن القول بصوت يسمع أما الجمهور فعلى أن هذا القول بصوت لكنهم اختلفوا هل الناطق الجسد في تلك الحال ليكون ذلك في بشرى المؤمن وبؤس الكافر قال ابن بطال إنما يقول ذلك الروح لأن الجسد لا يتكلم بعد خروج الروح منه وقال ابن المنير لا مانع أن يرد الله الروح إلى الجسد في تلك الحال ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر وقال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق ومن الجائز أن يحدث الله النطق في الميت إذا شاء واستبعد دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن وقال: إنه يحتاج إلى دليل ومع ذلك رجح الرأي الأول فقال: وكلام ابن بطال فيما يظهر لي أصوب وعندي أن الرأي الثالث أصوب حيث إن الحديث بنى القول على الحمل وجعل المحمول هو

القائل والمحمول هو الجسد بلا نقاش واستبعاد نطق الجسد من غير روح استبعاد عادي دنيوي لا يصلح في الأمور الأخروية فإذا أخبر الصادق انتهى كل استبعاد -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن العبد يرى مصيره وما أعد له قبل أن يصل إلى قبره 2 - أن للميت كلاما يسمعه غير الإنس رحمة بهم. 3 - أن كلام الميت هذا مزعج للأحياء وأنهم يصعقون لو سمعوه. 4 - فيه ترغيب في الطاعات وترهيب عن المعاصي 5 - فيه حث على الإسراع بالجنازة تحقيقا لرغبة المطيع وإرغاما للعاصي وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم

باب فضل اتباع الجنائز

باب فضل اتباع الجنائز 19 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "من تبع جنازة فله قيراط فقال أكثر أبو هريرة علينا فصدقت يعني عائشة أبا هريرة رضي الله عنهما وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد فرطنا في قراريط كثيرة" -[المعنى العام]- كرم الله ابن آدم حيا وميتا وقد شرع في الإسلام للميت حقوقا على الأحياء فمن حقه عليهم أن يغسلوه وأن يكفنوه وأن يحنطوه وأن يتبعوا جنازته حتى يصلوا عليه وبعد أن يصلوا عليه حتى يدفنوه ويدعوا له تكريم يقصد به خير الميت وخير الحي خير الميت بذكر محاسنه وتذكر فضائله والدعاء له، وتكريم للأحياء من أهله بإشعارهم بالتعاون والتكافل والتعاضد والمشاركة في المصائب والأحزان وخير للأحياء المشيعين يتذكرون الموت ويستشعرون المصير وأنهم اليوم مشيعون غيرهم وغدا يشيعهم غيرهم وأن الموت حق وأنه أقرب للحي من حبل الوريد بهذا التذكر والتدبر يزدادون إيمانا على إيمانهم ويستعدون لآخرتهم فوق استعدادهم وينالون من وراء ذلك كله أجرا عظيما، وأي أجر هذا الذي يبلغ أضعاف جبل أحد؟ لقد حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرغبا في اتباع الجنائز مبينا فضل وثواب من يشيعها فقال: من تبع جنازة من بيتها إلى أن يصلى عليها فله عند الله قيراط وقدر عظيم من الأجر ومن يضيف إلى ذلك أن يشيعها بعد الصلاة وإلى أن توارى في قبرها فله قيراط آخر وحدث بذلك أبو هريرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ونقل هذا الحديث من سمعه من أبي هريرة إلى عبد الله بن عمر وكان

ابن عمر يكتفي بالتشييع حتى الصلاة ثم ينصرف ولا يشيع حتى القبر ولم يكن سمع بهذا الحديث فلما سمعه نكره وظن أن الأمر اشتبه على أبي هريرة لكثرة تحديثه فأراد أن يستوثق فأرسل إلى عائشة يسألها عن الحديث فأيدت أبا هريرة وقالت نعم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسف ابن عمر على زمن مضى لم يقم فيه بهذه الشعيرة فضيع على نفسه ثوابا كبيرا -[المباحث العربية]- (أنه قيل له) جاء في صحيح مسلم أن القائل لابن عمر جناب أبو السائب وقيل إن له صحبة (من تبع جنازة فله قيراط) أي من الأجر كما جاء في رواية مسلم والمراد من اتباع الجنازة تشييعها والقيراط في استعمال البشر جزء من كل في أرض مصر جزء من أربعة وعشرين جزءا وفي الذهب جزء من عشرين جزءا من الدينار في أكثر البلاد وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءا منه وفي بعض البلاد القيراط نصف دانق والدانق سدس درهم فالقيراط جزء من اثنى عشر جزءاً من الدرهم فالقيراط على أي حال جزء من كل والمراد منه هنا جزء من ثواب تجهيز الميت وتنوينه للتعظيم ففي بعض الروايات "مثل أحد" وليس المراد قيراطا من جنس أجور المؤمن على طاعاته حتى يدخل فيه ثواب الإيمان والأعمال الكبرى الصالحة وإنما المراد جزء من الأجر العائد على ما يتعلق بالميت من غسل وتكفين ودفن وتعزية ومواساة وغير ذلك من الآداب والحقوق (أكثر أبو هريرة علينا) همزة "أكثر" للتعدية والتصيير أي جعل الشيء كثيرا والمراد أكثر التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم نعلمه أو أكثر علينا الأجر على هذا الفعل بما لم نعهده (فصدقت عائشة أبا هريرة) معطوف على محذوف أي فشك ابن عمر فأراد أن يستوثق فأرسل إلى عائشة يسألها

(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله) أي يقول الحديث الذي رواه أبو هريرة (لقد فرطنا في قراريط كثيرة) قاله ابن عمر بعد أن استوثق من الحديث أسفا على أنه لم يلتزمه فيما مضى من عمره -[فقه الحديث]- سبق أن تناولنا اتباع الجنائز في الحديث رقم (13) وتناولنا الحكمة في مشروعيته واختصاصه بالرجال وحكمه وفصلنا القول في وضع المشيعين أمام الجنازة أو خلفها؟ والحديث هنا ظاهر في أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها لأن المشي خلفها هو حقيقة الاتباع حسا قال ابن دقيق العيد والذين رجحوا المشي أمامها حملوا الاتباع هنا على الاتباع المعنوي وهو المصاحبة وهو بهذا المعنى أعم من أن يكون أمامها أو خلفها أو غير ذلك وهذا مجاز يحتاج إلى دليل على تقديمه وقد آثار الحافظ ابن حجر تساؤلا مؤداه هل يحصل القيراط لمن اتبع وصلى ثم رجع؟ أو اتبع وشيع من بعد الصلاة وحضر الدفن ولم يصل: أو لمن اتبع وشيع ورجج قبل الفن ولم يحضر الصلاة؟ واختار أن الأخير لا يحصل القيراط قال: لأن الاتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين إما الصلاة وإما الدفن فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المرتب على المقصود وإن كان يرجى أن يحصل لفاعل ذلك فضل ما بحسب نيته ثم اعتمد حديث البخاري في رواية أبي هريرة الأخرى ولفظها "من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط -أي من بيتها حتى الصلاة عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين" وفي لفظ "من تبعها من أهلها حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان قيل: وما القيراطان قال: مثل الجبلين العظيمين" قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أن القيراط حصل أيضا لمن صلى فقط لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة لها لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى مثلا واستدل بحديث

مسلم "من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط" قال: ففيه أن الصلاة تحصل القيراط وإن لم يقع اتباع ثم قال وهل يأتي نظير هذا في قيراط الدفن؟ فيه بحث اهـ -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الترغيب في شهود الميت والقيام بأمره 2 - الحض على الاجتماع له 3 - التنبيه على عظيم فضل الله وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته 4 - تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إما تقريبا إلى الأفهام وإما على الحقيقة والله على كل شيء قدير 5 - وفي هذه القصة دلالة على تمييز أبي هريرة في الحفظ 6 - وفيه استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه ورجوعه إلى من هو أعلم منه 7 - وعدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ 8 - وما كان عليه الصحابة من التثبيت في الحديث النبوي والتحرز فيه والتنقيب عليه 9 - وفيه إنكار العلماء بعضهم على بعض مع المحافظة على آداب المخالفة ومما ينبغي مراعاته أن ابن عمر هنا لم يتهم أبا هريرة بأنه روى ما لم يسمع وإنما خاف أن يكون قد شبه عليه لكثرة مروياته 10 - وفيه فضيلة لابن عمر من حرصه على العلم وتأسفه على ما فاته من العمل الصالح

باب الصلاة على الشهيد

باب الصلاة على الشهيد 20 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال " إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض -وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها" -[المعنى العام /]- 16 - في أخريات حياته صلى الله عليه وسلم كان يأتي أفعالا توحي بأنه يودع كأنه كان على علم أو إلهام ففي حجة الوداع قال "أيها الناس لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" حتى أحس الأحياء أنه يودع وهنا نراه يخرج إلى أحد قبل أن يقعده المرض يخرج إليها فيقف عند شهدائها يستحضر أنه سيلقاهم

ويرافقهم عند الرفيق الأعلى يستحضر رفقته لهم ورفقتهم قبل ثمان سنين يقف يدعو لهم بل قام يصلي عليهم صلاة الجنازة الشرعية وكأنه كان يودع قبورهم وأجسادهم قبيل أن تلتقي روحه مع أرواحهم في النعيم المقيم ثم انصرف عنهم إلى المسجد إلى الأحياء ينصحهم ويحذرهم بما يفهم منه أنه وداع صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني فرطكم إني سأتقدم عليكم إني سأسبقكم إلى آخرتي لكني سأبقى شهيدا عليكم تعرض علي أعمالكم فما وجدت فيها من خير حمدت الله عليه وما وجدت منها غير ذلك استغفرت الله له أيها الناس كأني في آخرتي وكأني والله أنظر إلى حوضي الآن يرده أناس منكم أو يذاد عنه أناس فاجتهدوا في التمسك بكتاب الله وسنتي ووالله ما أخاف عليكم بعدي أن تشركوا ولكني أخاف أن تقعوا في شرك الدنيا ومصيدة زينتها ومتاعها فتلهيكم عن ذكر الله وتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلكوا مقصرين في دينكم كما هلكوا وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض وتفسير ذلك أنكم تملكون ملك كسرى وقيصر ومشارق الأرض ومغاربها وهذا هو الخطر الذي يتهددكم من بعدي أخشى إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم قال الراوي: كانت هذه آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى أتاه اليقين فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سبيله إلى يوم الدين -[المباحث العربية]- (خرج يوما) كان ذلك بعد سبع سنوات ونصف السنة من غزوة أحد إذ كانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة وكان خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشهداء قبيل وفاته وتوفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة (فصلى على أهل أحد) أي على شهداء المسلمين هناك (صلاته على الميت) لعل الراوي يرفع بهذا إيهام أن المراد بالصلاة

الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء فأراد صلاة الجنازة المشروعة (فقال) معطوف على محذوف أي ثم انصرف إلى المنبر فصعده فحمد الله فأثنى عليه فقال (إني فرطكم) أي سابقكم والفرط هو الذي يتقدم الورد ليصلح الحوض والدلو ونحو ذلك وفي رواية "فرط لكم" أي لأجلكم فاللام للتعليل (وأنا شهيد عليكم) رفع إيهام أن يصبحوا بغير رقابة أو بغير اتصال بعد موته و"شهيد" بمعنى شاهد (وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن) يحتمل الحقيقة وأن الله كشفه له ويحتمل المجاز أي أتخيل حوضي كأني أنظر إليه الآن وقد ورده ناس ويبعد عنه ناس لهذا أخاف عليكم أن يكون بينكم من يذاد ويبعد عن حوضي. والقسم واللام والمؤكدات لأهمية الخبر وغرابته (وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض) أعطي المفاتيح في منامه وفسرها بإقبال الدنيا على أمته وامتلاكهم خزائن الأرض أو الكلام كناية عن امتلاك أمته كنوز الأرض (ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي) أي ما أخاف على جميعكم الشرك فلا يمنع أن يخاف شرك فرد أو أفراد (ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) أي في مفاتيح خزائن الأرض أي في متعها وأموالها ومباهجها -[فقه الحديث]- صلاة الميت أو صلاة الجنازة أربع تكبيرات يقرأ الفاتحة بعد الأولى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما في التشهد بعد الثانية ويدعو للميت بعد الثالثة ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بعد الرابعة ثم يسلم هكذا هي عند الجمهور والإجماع أنها لا ركوع فيها ولا سجود ويشترط فيها ما يشترط في أي

صلاة وتصلى فرادى وجماعة والأفضل فيها كثرة الصفوف لا طولها والحديث يثير حكم الصلاة على الشهداء وقد ترجم له البخاري بباب الصلاة على الشهيد وذكر تحت الباب قبل هذا الحديث حديث جابر بن عبد الله قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" قال الحافظ ابن حجر قال الزين ابن المنير والمراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار قال وخرج بقوله "المعركة" من جرح في القتال وعاش بعد ذلك حياة مستقرة وخرج بحرب الكفار من مات بقتال المسلمين كأهل البغي وخرج بجميع ذلك من سمي شهيدا بسبب غير السبب المذكور وإنما يقال له شهيد بمعنى ثواب الآخرة وهذا كله على الصحيح من مذاهب العلماء ثم قال والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار مشهور قال بعضهم يصلى عليه وهو قول الكوفيين وقال بعضهم لا يصلى عليه وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد اهـ ثم اختلف القائلون بعدم الصلاة هل ذلك على الوجوب أو على الاستحباب الحنابلة وبعض الشافعية على الاستحباب وقد استدل بالحديث من يقول بالصلاة على الشهداء قال قائلهم معنى صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد لا يخلو من معان ثلاثة إما أن يكون ناسخا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم فهو تشريع لنا وإما أن يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة المذكورة -أي فهو خاص بشهداء أحد بخلاف غيرهم فيصلى عليه -وإما أن تكون الصلاة عليهم جائزة غير شهداء أحد فإنها واجبة وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قبل الدفن أولى اهـ

ويرد الجمهور على الحنفية بأنه ثبت أن ذلك كان بعد ثمان سنين من استشهادهم والحنفية القائلون بالصلاة على الشهداء يقولون لا يصلى على القبر إذا طالت المدة فلا وجه لهم في الاستدلال بالحديث ولزم أن يراد بالصلاة الدعاء أما قوله "صلاته على الميت" فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى على أنه يمكن أن تكون هذه الصلاة من خصائصه صلى الله عليه وسلم ثم إنها واقعة عين لا عموم فيها فلا ينتهض الاحتجاج بها لدفع حكم تقرر من وجوه كثيرة -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - معجزات النبي صلى الله عليه وسلم 2 - استدل به على أن الحوض مخلوق وموجود الآن وهذا على أن التعبير على الحقيقة 3 - وفيه أن الأمة لا يخاف عليها الإشراك في مستقبل الزمان والمقصود أنه لا يخاف على جميعها أما البعض فقد يقع منه الإشراك وقد وقع والعياذ بالله 4 - وفيه الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر الغريب وتعظيمه 5 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته في استشعاره بالمصير وتوديعه الأحياء والأموات 6 - وفيه حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته لآخر لحظة من حياته وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا في مستقبل أيامهم 7 - وفيه ثبوت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يشاهده من أمته عن طريق عرض الأعمال عليه الوارد في بعض الأحاديث

باب موت الطفل من أبوين غير مسلمين

باب موت الطفل من أبوين غير مسلمين 21 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة الروم: الآية 30] -[المعنى العام]- قد يتساءل المرء: هل في نطفة اليهودي شيء من اليهودية؟ وهل في بويضة اليهودية شيء من اليهودية؟ حتى يرث ذلك مولودهما؟ إن العقلاء والعلماء يقولون: لا. لأن اليهودية عند الأبوين عقيدة يمكن أن تتغير في لحظة بكلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وزيادة في الإيضاح نقول هل يتأثر ويرث مولود المعتزلي الاعتزال قبل أن يولد؟ وهل يرث ابني شيئا من عقيدتي ومعلوماتي قبل أن يولد؟ اللهم لا. فالله تعالى يقول {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} إنما الذي يورث

صفات خلقية جسمية وصفات خلقية متأصلة لا تتغير في صاحبها بكلمة نخلص من هذا بأن المولود يولد من حيث العقيدة الدينية على البراءة الأصلية على الصلاحية المطلقة يولد كالماء العذب إن أضيف إليه الملح أو المر صار ملحا أو مرا وإن أضيف إليه السكر صار حلوا وإن لم يضف إليه شيء وبقي بعيدا عن التلوث والتأثر بقي صالحا وهكذا كل مولود من بني آدم يولد متمكنا من الهدى متهيئا لقبول الدين الصحيح مستعدا للاتجاه الحق لكن بيئته تؤثر فيه إما تثبيتا على النقاء واستمرارا له وزيادة فيه وإما تحريفا وتلوينا وتغييرا البيئة تؤثر فيه منذ يفتح عينه وتسمع أذنه وتحس بقية حواسه فلو أخذنا مولودا مسلما ومولودا يهوديا منذ تلك اللحظة وربيناهما بين أبوين مسلمين أو بين أبوين يهوديين لكان التأثر العقائدي واحدا فيهما وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فيصبح يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا بالتربية لا بأصل الخلقة فأصل الخلقة من حيث العقيدة واحد {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قد يكون الوضع واضحا ومقبولا إلى لحظة الولادة ولكن ما هو الوضع من حين الولادة لحين التمييز ثم لحين البلوغ وهذه فترة ما قبل التكليف أيعتبر يهوديا إذا ربي بين يهوديين ويكون من أهل النار إذا مات قبل البلوغ على اعتبار أنه تلوث بالتربية أو لا يتحمل مسئولية ويكون من أهل الجنة؟ أو لا يكون من أهل هذه ولا تلك لأنه لم يعمل صالحا؟ ولم يبق على نقائه فيدخل الجنة؟ وليس مسئولا عن تلويثه فلا يدخل النار؟ تلك هي المشكلة الغيبية التي سنتعرض لها بالتفصيل في فقه الحديث لكن الجدير بالإشارة أن هذه المسألة شيء والحكم عليه بالأحكام الدنيوية شيء آخر فما دام ابن يهودي لا يصلى عليه إذا مات ولا يدفن في مقابر المسلمين ويرث اليهودي وهو يرثه ويسبي ويملك في الحروب

وتجري عليه جميع الأحكام الدنيوية الجارية على اليهود لكن ماذا يحكم عليه في الآخرة أمر آخر نقول فيه ما نقول والله فوق ما نقوله بعلمه ومشيئته -[المباحث العربية]- (ما من مولود) أي من بني آدم و"من" زائدة في سياق النفي للتأكيد و "مولود" مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد (إلا يولد على الفطرة) الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال على تقدير ما من مولود يكون على حال من الأحوال إلا على حال ولادته على الفطرة وأصل الفطرة النشأة والخلقة والمراد منها الملة أو الإسلام أو التهيؤ له (فأبواه) الضمير للمولود والفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك كان التغير بسبب أبويه (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء) "تنتج" بضم أوله وسكون النون وفتح التاء قال أهل اللغة نتجت الناقة بضم النون وكسر التاء على صيغة المبني للمجهول وأنتج الرجل ناقته ينتجها إنتاجا جعلها تنتج بضم أوله وفتح ثالثه فالبهيمة هنا نائب فاعل و"بهيمة" حال وجمعاء حال أخرى أي مجتمعة الأعضاء متكاملتها ولكن الناس بعد ولادتها يجدعون أنفها أو أذنها والكاف في "كما" إما في موضع الحال والتقدير ما من مولود إلا يولد على الفطرة شبيها بالبهيمة تولد مكتملة وإما في موضع المفعول المطلق والتقدير يولد ولادة مشبهة ولادة البهيمة السليمة (هل تحسون فيها من جدعاء) المراد من الإحساس العلم بأي وسيلة فهو من إطلاق الخاص وإرادة العام والجدعاء مقطوعة الأذن والاستفهام إنكاري بمعنى النفي {فطرة الله التي فطر الناس عليها} جزء الآية رقم (30) من سورة الروم وصدرها {فأقم وجهك للدين حنيفا} و"فطرة" منصوب على الإغراء أي

الزموا فطرة الله (ذلك) أي الإسلام ولما ذكر الإسلام قبل لفظ الفطرة وبعده دل على أنه المراد بالفطرة (الدين القيم) أي المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ضلال -[فقه الحديث]- استدل بالحديث على إسلام الطفل إذا كان من أبوين مسلمين أو كان أحد أبويه مسلما استصحابا لأصل الفطرة حيث لم يغيره أبواه فيصلى عليه إن استهل صارخا هذا رأي الجمهور وقيل: لا يصلى عليه حتى يبلغ وقيل لا يصلى عليه حتى يصلي ومن الآراء الشاذة الصلاة على جميع الأطفال وإن كان أبواهم كافرين وقد ساق البخاري هذا الحديث تحت باب: ما قيل في أولاد المشركين وساق قبله تحت الباب نفسه حديث ابن عباس "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: الله الذي خلقهم أعلم بما كانوا عاملين" قال الحافظ ابن حجر واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال -[وذكر عشرة أقوال أهمها]- 1 - أنهم يمتحنون في الآخرة ومال إليه البيهقي في كتاب الاعتقاد ورد بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء 2 - أنهم مع آبائهم واستدل له بحديث ضعيف رواه أحمد 3 - أنهم في برزخ بين الجنة والنار لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار 4 - أنهم خدم أهل الجنة واستدل له بحديث ضعيف رواه الطبري والبزار 5 - أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي

باب ثناء الناس على الميت

صار إليه المحققون لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب أولى 6 - أنهم في المشيئة نقله البيهقي في الاعتقاد عن الشافعي وهو مقتضى صنيع مالك ويؤيده حديث البخاري "الله أعلم بما كانوا عاملين" والذي تستريح إليه النفس ما ذهب إليه النووي فيمن مات قبل التمييز وأنهم في المشيئة من مات بعد التمييز والله أعلم باب ثناء الناس على الميت 22 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "وجبت" ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال "وجبت" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض"

-[المعنى العام]- بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه إذ مرت بهم جنازة يشيعها بعض المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم ما هذه الجنازة قالوا: جنازة فلان الفلاني كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها وقالوا لنعم المرء هو. لقد كان عفيفا مسلما فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت وبعد فترة مرت جنازة أخرى فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذه الجنازة قالوا جنازة فلان ابن فلان. بئس المرء هو إنه كان فظا غليظا لا يعمل بطاعة الله ولا يسعى فيها فقال صلى الله عليه وسلم وجبت وكان عمر في الجالسين وتحير في فهم كلمة "وجبت" وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على جنازة الأول وقالها نفسها بعد الذم على جنازة الثاني ولم يكن بد من السؤال فقال: فداء لك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي وجب حتى قلت عن الرجلين "وجبت"؟ قال صلى الله عليه وسلم الأول أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة واستحقت وكتبه الله من أهلها والثاني أثنيتم عليه شرا وما شهدتم إلا بما علمتم والمؤمنون المتقون شهداء الله في الأرض يلقي الله في قلوبهم شهادة الحق وقول الصدق والدين المعاملة وما شهدتم بالشر إلا لأنه قدم شرا فوجبت له النار -[المباحث العربية]- (مروا بجنازة فأثنوا عليها) ضمير "مروا" غير ضمير "أثنوا" لأن ضمير مروا للمشيعين للجنازة وضمير "فأثنوا" للجالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم والأصل مروا بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأثنى الجالسون خيرا (خيرا) قال النووي: منصوب بنزع الخافض أي أثنوا عليها بخير وقال ابن مالك "خيرا" صفة لمصدر محذوف أي أثنوا ثناء خيرا ومثال هذا يقال في "شرا"

(وجبت) في الموضعين فعل ماض وفاعله ضمير مستتر معهود للمتكلم يرجع إلى الجنة في الأول وإلى النار في الثاني، والمراد بالوجوب هنا الثبوت المؤكد البالغ حد الوجوب ولما كان الله لا يجب عليه شيء أريد منه الثبوت المؤكد (فأثنوا عليها شرا) قال أكثر أهل اللغة الثناء بالمد ذكر المحاسن وتعداد المآثر ولا يستعمل إلا في الخير وعلى هذا فاستعماله هنا للمشاركة والمجانسة كما في قوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} فجزاء السيئة ليس سيئة وأطلق عليه لفظ سيئة للمشاكلة وقال بعضهم: إن الثناء يستعمل في الخير والشر فلا إشكال (ما وجبت؟ ) أي ما الذي وجب في كل من الجنازتين فالسؤال عمن قام به الوجوب لا عن معنى الوجوب بدليل جوابه صلى الله عليه وسلم (أنتم شهداء الله في الأرض) الخطاب لجماعة معينة من الصحابة الذين أثنوا ويدخل في الحكم من على صفتهم من الإيمان والتقوى بالقياس وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم فالخطاب على هذا للصحابة كأنه قال أنتم معشر الصحابة شهداء الله في الأرض وهذا بعيد والصواب الأول -[فقه الحديث]- ثناء الناس على الميت وذكرهم لمحاسنه مشروع وجائز مطلقا بخلاف الحي فإنه منهي عنه إذ كثيرا ما يفضي إلى الإطراء وكثيرا ما يفضي إلى الزهو وكثيرا ما يحمل على النفاق والظاهر أن شيوع الثناء بالخير على الميت من الثقات المتقين دليل على أنه من أهل الجنة وأن شيوع ذم الميت وإسناد الشر إليه من الثقات المتقين دليل على أنه من أهل النار بصفة عامة خلافا لمن زعم بأن ذلك خاص بالميتين المذكورين لغيب أطلع الله نبيه عليه بل هو خبر عن حكم أعلم الله به نبيه ويؤكده ذلك التعميم الأخير "أنتم شهداء الله في الأرض"

ويزيده تأكيدا رواية مسلم "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة" ورواية البخاري في كتاب الشهادات "المؤمنون شهداء الله في الأرض" ورواية أبي داود "إن بعضكم على بعض لشهيد" وحديث البخاري "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة فقلنا وثلاثة قال وثلاثة فقلنا واثنان قال واثنان" قال الحافظ والمعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم ولا من بينه وبين الميت عداوة لأن شهادة العدو لا تقبل اهـ وفي هذا الأخير نظر لأن شهادة العدو بالخير أقوى من شهادة الصديق فالفضل ما شهدت به الأعداء والظاهر أنها شهادة على معنى أن القول ينبغي أن يطابق الواقع فالثناء بالخير يكون على خير وقع بالفعل وليس مجرد ثناء ولم يرتض النووي هذا التفسير إذ قال قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل -وكان ذلك مطابقا للواقع -فهو من أهل الخير فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه قال: والصحيح أنه على عمومه وأن من مات فألهم الله تعالى الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة وهذا الإلهام يستدل به على تعيينها وبهذا تظهر فائدة الثناء اهـ قال الحافظ ابن حجر: وهذا في جانب الخير واضح ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أنس مرفوعا "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون عنه إلا خيرا إلا قال الله تعالى قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون" أما الثناء بالشر فظاهره يتعارض مع النهي عن سب الأموات ففي البخاري عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" قال الزين ابن المنير: والجواب أن عمومه مخصوص بالحديث السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير والشر "وجبت" و"أنتم شهداء الله في الأرض" وقال القرطبي حديث "وجبت" يحتمل أجوبة الأول أن الذي كان

يحدث عنه بالشر كان مستظهرا به -قيل كان منافقا وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الأول ولم يصل على الثاني -فيكون من باب لا غيبة لفاسق ثانيها يحمل النهي على ما بعد الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من سمعه ثالثها يكون النهي العام متأخرا فيكون ناسخا وهذا ضعيف وقال ابن رشد إن السب ينقسم في حق الكفار وفي حق المسلمين أما الكفار فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة وقد يجب في بعض المواضع وقد يكون فيه مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن ذلك المال يرد إلى صاحبه وقال ابن بطال سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان أغلب أحوال المرء الخير -وقد تكون منه الفلتة -فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، فكذلك الميت. ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن ليتعظ لذلك فساق الأحياء فإذا صار إلى قبره أمسك عنه لإفضائه إلى ما قدم وقد عملت عائشة -راوية هذا الحديث -بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه وقال الحافظ ابن حجر وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا اهـ -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - فضيلة هذه الأمة باعتبارهم شهداء الله في أرضه 2 - قبول الحكم بالظاهر من غير بحث عن السرائر 3 - جواز الشهادة قبل الاستشهاد

4 - قبول الشهادة من غير استفصال 5 - والحديث أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 23 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" -[المعنى العام]- خلع معاذ جزءاً كبيرا من ماله لغرمائه سنة عشر من الهجرة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعوضه بتعيينه واليا أو قاضيا على اليمن يجمع الزكاة ويصرفها في وجوهها ويقوم على بيت المال وقال له إني عرفت بلاءك والذي قد ركبك من الدين وقد طيبت لك الهدية لعل الله يجبرك ويخلف عليك ما غرمت ولم يكن أساس اختيار معاذ لهذا المنصب مجرد التعويض فإنه كفء له أهل لتحمل هذه المسئولية لما عرف عنه من العلم والفضل والورع وقد شهد بدرا وهو ابن إحدى وعشرين سنة وزوده رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصية تحدد له الخطوات الواجب اتباعها في

مهمته السامية الصعبة قال له إنك ستكون بمثابة حاكم لليمنيين بقوانين الإسلام ناشر لتعاليم الدين بين قوم أكثرهم من أهل الكتاب من النصارى وهم أهل علم وجدل تحتاج دعوتهم إلى حكمة وسعة صدر وقوة حجة فتدرج معهم في الدعوة وعاملهم بالتي هي أحسن وليكن أول شيء تدعوهم إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها وأقروا بها واعترفوا بالله تعالى ووحدانيته وآمنوا برسوله فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فصلها لهم وعلمهم كيفيتها وأمهم في صلاتهم فإن هم قبلوا وأذعنوا وصلوا فأعلمهم أن الله فرض على الأغنياء منهم زكاة تجمع من أموالهم وتفرق بين فقرائهم فإن استجابوا فخذ منهم صدقاتهم ولا تلزمهم إخراج كرائم أموالهم ونفائسها التي أحبوها واختصوها بفضل على غيرها فلم يجعل الله مواساة الفقراء على حساب الإجحاف بالأغنياء وتجنب الظلم عامة وفي أخذ الصدقات خاصة واحرص على العدل واحذر دعوة المظلوم فإنها مستجابة وإن كان فاسقا تفتح لها أبواب السموات السبع ولا يحول بينها وبين القبول حائل أو حجاب وحافظ معاذ على الوصية والتزمها وظل قائما على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها بالطاعون سنة سبع عشرة من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه -[المباحث العربية]- (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله) في رواية "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم ... " وفي رواية "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل" والمراد من عبادة الله توحيده والمراد من توحيده الشهادتان

(فإن هم أطاعوا لذلك) أي للإتيان بالشهادتين والظاهر أن "أطاع" هنا ضمن معنى انقاد فعدى تعديته (أن الله افترض عليهم) في رواية "أن الله فرض عليهم" وهما هنا بمعنى (فإن هم أطاعوا لذلك) أي أقروا بوجوبها والتزموا بها وقيل أدوها ويؤيده رواية "فإذا صلوا" قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى (أن الله افترض عليهم صدقة) أي زكاة وفي رواية "أن الله فرض عليهم زكاة" (تؤخذ من أغنيائهم) الجملة صفة لصدقة (وترد على فقرائهم) ضمير "فقرائهم" لفقراء أهل اليمن فلا تخرج الزكاة عن بلدها أو فقراء المسلمين فيجوز نقلها سيأتي توضيحه في فقه الحديث -[فقه الحديث]- -[استدل بالحديث على أحكام هامة نجملها فيما يلي]- 1 - استدل الجمهور بالحديث على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وقال بعضهم يصير بالأولى مسلما ويطالب بالثانية وفائدة الخلاف تظهر في الحكم بالردة والقول الراجح قول الجمهور وأن المطالبة ابتداء تكون بالشهادتين ومن كان موحدا فالمطالبة له تكون بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة ومن كان معتقدا ما يستلزم الإشراك كمن يقول ببنوة عزير فإنه يطالب بالإقرار بالتوحيد وبالإقرار بالرسالة 2 - كما استدل بالحديث على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة

من صلاة وصيام وزكاة لكونه صلى الله عليه وسلم قال "فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن عليهم .... " فدل على أنهم إذا لم يطيعوا لا يجب عليهم ودل على أنهم يدعون أولا إلى الإيمان ولا يدعون إلى العمل إلا بعد أن يؤمنوا ومذهب المحققين والأكثرين -وهو المختار -أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة [المأمورات والمنهيات] وغاية ما في الحديث أن مطالبتهم في الدنيا بالفروع لا تكون إلا بعد الإسلام لأنها لا تصح منهم بدونه ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها يزاد في عذابهم في الآخرة بسببها كمن أتلف ثوبا مخيطا فإنه مسئول عن الثوب وعن خياطته وإن لم يطالب عمليا بالخياطة إلا بعد تحصيل الثوب يؤيد هذا قوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فالآية في المكذبين بيوم الدين وقد عددوا من أسباب دخولهم سقر عدم الصلاة ونحوها 3 - كما استدل الخطابي وسائر أصحاب الشافعي بالحديث على أن الزكاة لا يجوز نقلها عن بلد المال لقوله صلى الله عليه وسلم "وترد على فقرائهم" فإن معناه أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم ورد المخالفون بأن الضمير في "فقرائهم" يحتمل أن يكون لفقراء المسلمين كما يحتمل أن يكون لفقراء أهل تلك البلدة أو الناحية وحيث تطرق إلى الدليل الاحتمال يسقط به الاستدلال وعلى هذا أجاز أبو حنيفة النقل ورأى المالكية ترك النقل لكن إن خالف ونقل أجزأ أما عند الشافعية فالنقل لا يجزئ على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها في الناحية 4 - استدل به الجمهور على إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون لعموم قوله "من أغنيائهم" وذهب الحنفية إلى عدم إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون لحديث "رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق" ولا يخفى أن المكلف بإخراج الزكاة من مال الصبي هو وليه ففي مال الصبي حق غير مكلف هو

بأدائه وإنما المكلف بأدائه هو الوصي فلا تنافي بين إيجاب الزكاة في ماله وبين رفع القلم عنه 5 - واستدل بالحديث لقول مالك وغيره: أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد وأجاب المخالفون بأنه يحتمل أن يكون ذكر الفقراء لأنهم الغالب أو للمقابلة بالأغنياء 6 - واستدل بقوله "تؤخذ من أغنيائهم" على أنه إذا امتنع عن أداء الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره وهذا الحكم لا خلاف فيه 7 - واستدل بالحديث على أن الوتر غير واجب وأنه ليس على المسلم سوى خمس صلوات ورد الحنفية الموجبون للوتر بجواز وجوبه بعد وصية معاذ ويجوز عدم ذكر الراوي له على أن الوصية لم تشمل كل الفروض 8 - استدل بالحديث على بعث السعاة لأخذ الزكاة 9 - وأن الإمام ينبغي أن يعظ عماله ويزودهم بخطة العمل 10 - وعلى قبول خبر الواحد ووجوب العمل به 11 - وأن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة 12 - وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة 13 - وأن الفقير لا زكاة عليه 14 - وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة لأنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير 15 - وأن الزكاة لا تدفع إلى كافر ولا تدفع إلى غني من سهم الفقراء هذا وقد استشكل على الحديث بأنه لم يذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر وأجيب بأن عدم الذكر تقصير من بعض

الرواة أو لأن الشارع يهتم بالصلاة والزكاة ويجعلهما عنوان الأركان بعد الشهادتين وذلك لأن الأركان الخمسة تمثل ثلاثة أركان كبرى الركن الاعتقادي وهو الشهادتان والركن البدني وهو الصلاة والركن المالي وهو الزكاة وهذا واضح في تعبير القرآن الكريم فقد نزلت سورة براءة بعد فرض الصوم والحج بلا خلاف وجاء في موضعين منها قوله تعالى {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} كما استشكل على الحديث في ترتيبه الدعوة للزكاة على الإطاعة بالصلاة مع أنها لا تتوقف عليها باتفاق وأجيب بأن الترتيب ترتيب بيان واهتمام لا ترتيب إيجاب وصحة وقيل إنهم إذا أجابوا إلى الشهادتين ودخلوا بذلك في الإسلام ثم لم يذعنوا لوجوب الصلاة كان ذلك كفرا وردة عن الإسلام بعد دخولهم فيه فيصير ما لهم فيئا ولا يؤمرون بالزكاة بل يقتلون وهو جواب حسن

24 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" -[المعنى العام]- يقول رجل من قيس: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبته فلقيته بعرفات فتزاحمت عليه فقيل له: إليك عنه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوا الرجل فزاحمتهم عليه حتى خلصت إليه فأخذت بخطام ناقته فما تغير علي قال: ما تريد؟ قلت: يا رسول الله شيئان أسألك عنهما دلني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار فقال صلى الله عليه وسلم لئن كنت قد أوجزت العبارة فقد أعظمت وطولت فاعقل علي اعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا من الأوثان وأقم الصلاة المكتوبة خمسا في كل يوم وليلة وأد الزكاة المفروضة وصم رمضان قال الرجل والذي نفسي بيده لا أزيد على هذه الأوامر شيئا ولا أنقص منها شيئا أبدا فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا إن تمسك بما أمر به دخل الجنة -[المباحث العربية]- (أن أعرابيا) قيل: إنه لقيط بن صبرة وقيل هو سعد بن الأحزم (إذا عملته دخلت الجنة) في بعض الروايات "أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار" والمراد من التقريب من الجنة دخولها لا مجرد القرب منها فهي بمعنى الرواية التي معنا ولا شك أن ما قرب من الجنة

يباعد من النار فذكره تصريح باللازم لشدة الحرص (تعبد الله لا تشرك به شيئا) العبادة الطاعة مع الخضوع فإن كان المراد منها هنا معرفة الله والإقرار بوحدانيته كان عطف الصلاة والزكاة عليها لإدخالهما فيما يدخل الجنة وإن كان المراد من العبادة الطاعة مطلقا دخلت جميع أمور الدين فيها ويكون عطف الصلاة والزكاة والصوم عليها من عطف الخاص على العام لمزيد عناية بهذا الخاص والجملة خبرية لفظا ومعنى أو خبرية لفظا إنشائية طلبية معنى وعبادة الله عبادة حقة تستلزم عدم الإشراك به شيئا لكنه صرح باللازم للنهي عما كان عليه الكفار من عبادة الأوثان لتقربهم إلى الله وقد جاءت جملة "ولا تشرك به شيئا" في بعض الروايات معطوفة بالواو وفي بعضها بدون واو العطف فهي في محل النصب على الحال أي موحدا له توحيداً كاملا (وتقيم الصلاة المكتوبة) تقييد الصلاة بالمكتوبة لاتباع القرآن في قوله {إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} وللاحتراز من النوافل (وتؤدي الزكاة المفروضة) تقييد الزكاة بالمفروضة للاحتراز من صدقة التطوع (والذي نفسي بيده) أي والله الذي روحي بقبضته ويده (لا أزيد على هذا) المشار إليه الأوامر والفروض المذكورة واكتفى بنفي الزيادة عن نفي النقص وهو مراد كما جاء في بعض الروايات -[فقه الحديث]- اختلفت روايات هذا الحديث بالزيادة والنقصان ففي بعض روايات الصحيح لم يذكر الصوم وفي بعضها ذكر صلة الرحم وقد قال العلماء في هذا وفي مثله إنه من تقصير الرواة واختلافهم في الحفظ والضبط ومعنى هذا أن من زاد فقد حفظ ما لم يحفظه الآخر ومن حفظ حجة على من لم

يحفظ ويستبعد العيني اتهام الرواة بالتقصير وضعف الحفظ ويرجع الاختلاف إلى اجتهاد الرواة وتحديثهم حسبما يقتضيه المقام ولم يذكر الحج في جميع روايات هذا الحديث ووجه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره للرجل فحذف من الرواة والصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكره لأن الرجل كان حاجا وكان واقفا على عرفات واستشكل على قوله صلى الله عليه وسلم "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" بأنه كيف ساغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن حكم على هذا الرجل بأنه من أهل الجنة مع أنه قد لا يفي بوعده وأجاب النووي بأنه صلوات الله وسلامه عليه علم بطريق الوحي أنه يوفي بما التزمه وأنه يدوم على ذلك ويدخل الجنة وقيل: إن الكلام فيه قيد ملاحظ حيث جاء هذا القيد مصرحا به في روايات صحيحة بلفظ "إن تمسك بما أمر به دخل الجنة" فيصبح المعنى من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا إن تمسك بما أمر به أما الاعتراض بأن تبشير هذا الرجل بالجنة يتعارض مع أن المبشرين بالجنة معروفون فقد أجاب عنه العيني بأن التنصيص على العدد لا ينافي الزيادة قال: وقد ورد في حق كثير مثل ذلك كما جاء في الحسن والحسين وقيل العشرة بشروا بالجنة دفعة واحدة فلا ينافي المتفرق وأما الاعتراض بأن الحديث رتب دخول الجنة على فعل المأمورات كيف مع أن دخول الجنة موقوف كذلك على الكف عن المحرمات المنهي عنها فقد أجيب عنه بأنه مقصود طوي للعلم به، وقيل إن عبادة الله شاملة لفعل المأمورات واجتناب المنهيات فإن تمسك بالعبادة الشاملة لهما دخل الجنة -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - قال القرطبي في هذا الحديث دلالة على جواز ترك التطوعات لكن من دوام على ترك السنن كان نقصا في دينه فإن كان تركها تهاونا بها

رغبة عنها كان ذلك فسقا لورود الوعيد عليه في قوله صلى الله عليه وسلم " من رغب عن سنتي فليس مني" وقد كان صدر الصحابة ومن بعدهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض ولا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابهما وإنما احتاج الفقهاء إلى التفرقة لما يترتب عليها من وجوب الإعادة والحكم بالعقاب على الترك ثم قال ولعل أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام 2 - حلم الرسول صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وحسن معاملته 3 - البشارة والتبشير للمؤمن 4 - جواز الحلف على الاقتصار على الواجبات 25 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب فقال عمر رضي الله عنه

كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر رضي الله عنه فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق" -[المعنى العام]- في أواخر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد ناس من مذحج وعلى رأسهم الأسود العنسي الذي استولى على اليمن وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ارتد ناس من بني حنيفة وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب الذي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك فأجابه صلى الله عليه وسلم "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد. فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد ناس من بني تميم قوم سجاح التي تنبأت وارتد غسان قوم جبلة بن الأيهم وفزارة وغطفان وبنو سعد كل هؤلاء وكثير غيرهم ارتدوا عن الإسلام أنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية وانكمش المتمسكون بدينهم وخافوا بطش المرتدين وأخفوا عبادتهم حتى لم يعد يصلي في بسيط الأرض إلا في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس بالبحرين وهناك فريق آخر ظلوا مسلمين لكنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة وأنكروا فرض الزكاة وأنكروا وجوب أدائها إلى الإمام وكان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم جمعوا صدقاتهم

وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم استقبل أبو بكر الصديق في فجر خلافته هذه الصورة المزعجة بناء الإسلام الشامخ يتصدع ويتهاوى ويتفاقم في كل يوم صدعه ويتسع خرقه وترجف الأرض من تحته وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسئول أمام الله عن دينه في أرضه فماذا يفعل؟ إن من أبرز صفات أبي بكر لينه في خلقه ورقة قلبه وإرهاف حسه إلى حد اشتهر معه في المواقف المؤلمة بالبكاء وهذه صفات لا تؤثر إيجابيا في الظروف المحيطة بالإسلام لكن شاءت إرادة الله أن يتحول أبو بكر من اللين إلى الصلابة ومن الرقة إلى الشدة ومن الإرهاف العاطفي إلى خشونة العقل وصرامة الحكمة ففكر وقرر لكنه ما كان له أن يمضي إلى ما رأى حتى يعرض الأمر على كبار الصحابة فجمعهم واستعرض الحالة معهم وأعلن لهم أنه يرى قتال كل من غير وبدل وأنه يرى العلاج في الحزم والحكم في السيف فقال له عمر إذا قاتلنا من ارتد وكفر ومن ادعى النبوة ومن تابعه فكيف نقاتل من منع الزكاة وهو يشهد أن لا إله إلا الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد حقن مني دمه وحفظ مني ماله وحسابه على الله فيما وراء ذلك فقال له أبو بكر أرأيت إذا لم يصلوا فسلم عمر بقتال من امتنع من الصلاة وسكت وسكت الناس فقال أبو بكر وقد سكن قلبه إلى الرأي وشرح الله صدره لتنفيذه قال بصوت الحكيم الحازم والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الصلاة حق النفس والزكاة حق المال فمن صلى عصم نفسه ومن زكى عصم ماله ومن لم يصل قوتل على ترك الصلاة ومن لم يزك أخذت الزكاة منه قهرا فإن نصب لنا الحرب قاتلناه والله لو

منعوني جديا أو حبلا كانوا يعطونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه وشرح الله صدر الصحابة وشرح الله صدر عمر لرأي أبي بكر وبان له أنه الحق ووافق الجميع على القتال وجهز أبو بكر جيشا على رأسه خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وأتباعه فنصر الله الإسلام وقتل مسيلمة باليمامة على يد وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في جاهليتي وشرهم في إسلامي وقتل العنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم ولم يحل الحول إلا وقد أعاد الإسلام نشر لوائه على ربوعه وتماسك بناؤه واستمسك به أبناؤه فنضر الله وجه أبي بكر وشكر له صالح سعيه ورضي عن شهداء المسلمين وجزى الله قادة الإسلام خير الجزاء -[المباحث العربية]- (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان ذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة (وكان أبو بكر) خبر "كان" محذوف أي خليفة وقد صرح به في بعض الروايات وفي بعض الروايات "واستخلف أبو بكر بعده" أي صار أبو بكر خليفة بعده فالسين والتاء في تلك الرواية للصيرورة (وكفر من كفر من العرب) "من" موصولة و"من" حرف جر للتبعيض وعطف هذه الجملة بالواو لا يفيد ترتيبا فقد كفر بعضهم في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم اللهم إلا أن يكون المعنى وكثر من كفر (فقال عمر ... ) الفاء فصيحة عاطفة على محذوف والتقدير فعزم أبو بكر على قتالهم فاستشار أصحابه فقال عمر (كيف تقاتل الناس؟ ) الاستفهام إنكاري وأل في "الناس" للعهد والمراد بهم مانعوا الزكاة -كما سيأتي في فقه الحديث -وفي رواية "أتريد أن تقاتل العرب" فأل في "العرب" للعهد أيضا لأن عمر لا يتردد في قتال المرتدين

(وقد قال رسول الله) الجملة في محل النصب على الحال (أمرت) بالبناء للمجهول أي أمرني ربي والفاعل المحذوف متعين وكذا إذا قال الصحابي أمرت فهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره على أرجح أقوال المحدثين لأن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم أن الرئيس هو الذي أمر (أن أقاتل الناس) المصدر مجرور بحرف جر محذوف والتقدير أمرت بمقاتلة الناس، وأل في "الناس" للجنس يخرج عنه الجن فهم وإن كانت رسالته عامة لهم إجماعا لكنه غير مأمور بمقاتلتهم لتعذرها كذا قيل والكثيرون على أن أل للعهد والمراد بالناس الكافرون وقيل عبدة الأوثان دون أهل الكتاب (حتى يقولوا لا إله إلا الله) "حتى" غاية للقتال والأصل دخول الغاية في المغيا بحتى كما في قولهم. أكلت السمكة حتى رأسها فإن الأكل شامل للرأس، ويؤدي هذا إلى وجود القتال مع الإتيان بالشهادتين ووجه الحديث بأن هذه القاعدة محلها إذا كان ما قبل "حتى" وما بعدها متجانسا ولم تقم قرينة تقتضي عدم دخول ما بعدها وهنا قامت القرينة بقوله صلى الله عليه وسلم (فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه) أي بحق الإسلام أو بحق ذلك أي بحق الدماء والأموال في الإسلام والعصمة في الأصل المنع والمراد هنا حقنوا دماءهم وحفظوا مالهم فلا تستباح بسبب من الأسباب إلا بسبب هذا الحق من قتل نفس محرمة أو زنا محصن أو ترك صلاة أو منع زكاة (وحسابه على الله) أي فيما يسر ويخفي (فقال) أي أبو بكر (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) "فرق" بتخفيف الراء وتشديدها أي التزم واحدة وأنكر الأخرى

(والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها) العناق بفتح العين الأنثى من أولاد المعز وفي رواية "لو منعوني جديا أذوط" أي صغير الفك والذقن وفي رواية "لو منعوني عقالا" وهو في الأصل الحبل الذي يعقل به البعير ويربط ثم أريد قدر قيمته وذكر هنا على سبيل المبالغة في التقليل لا على سبيل الحقيقة لأنه لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه وقيل العقال زكاة عام قاله جماعة من أهل اللغة ومن الفقهاء والأول هو الصحيح والأولى (فوالله ما هو) أي الحال والشأن (فعرفت أنه الحق) أي أن القتال هو الحق لا غيره أي ظهر لي ذلك عن طريق الحجة والبرهان لا عن طريق التقليد والإذعان -[فقه الحديث]- يمكن حصر الكلام عن الحديث في خمس نقاط: الأولى: بيان حال مانعي الزكاة وشبهتهم وردها وحكمهم في الإسلام الثانية: توضيح المناظرة بين أبي بكر وعمر وبسط حجة كل منهما الثالثة: حكم أبي بكر فيهم بعد الغلبة عليهم وموقف عمر من هذا الحكم الرابعة: موقف الروافض وإدانتهم أبا بكر في المسألة والرد عليهم الخامسة: ما يؤخذ من الحديث 1 - أما عن النقطة الأولى فقد تبين في المعنى العام أن أهل الردة كانوا صنفين صنفا ارتدوا عن الإسلام وعادوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله "وكفر من كفر من العرب" وصنفا بقوا على ما كانوا عليه من الإقرار بالشهادتين والتزام الصلاة والصيام والحج لكنهم أنكروا وجحدوا

فرض الزكاة ووجوب تسليمها للإمام بتأويل باطل سيأتي وهؤلاء هم موضوع المناظرة وإطلاق الردة على هؤلاء لدخولهم في غمار أهل الردة ومناصبتهم الإمام ومشاركتهم المرتدين في منع حقوق الدين فهو قريب من الإطلاق اللغوي دون الإطلاق الشرعي ولهذا لم يؤثر عن الصحابة أنهم سموا هؤلاء كفارا وحقيقة ما يتصفون به شرعا أنهم أهل بغي والبغاة قسمان أهل عناد وأهل تأويل وللإمام قتال الصنفين وشبهة هذا الصنف أن الخطاب في قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ورد هذه الشبهة بمنع كون الخطاب في الآية خاصا به وبمنع قصر الشرائط المذكورة في الآية عليه صلى الله عليه وسلم وذلك أن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه أ- خطاب عام كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا} و {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} ب- وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره وميز بعلامة التخصص وقطع التشريك كقوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} جـ- وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وقوله {فإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ومن هذا الوجه قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة} فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم أما التطهير والتزكية لصاحب الصدقة {تطهرهم وتزكيهم بها} فإن مخرج

الصدقة ينالهما بطاعة الله وطاعة رسوله بإخراجها أما الصلاة عليهم {وصل عليهم} أي الدعاء لهم فإنه يستحب للإمام ولعامل الصدقة ولآخذها أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن يستجيب الله ذلك وإنما قاتلهم أبو بكر ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من يدعوهم إلى الرجوع وأقام عليهم الحجة فلما أصروا قاتلهم وهذا هو حكم الإسلام فيهم -أهل بغي وليسوا كفارا -وعلى ذلك فمن أقر بوجوب الزكاة وامتنع من أدائها أخذت منه قهرا فإن أضاف إلى امتناعه نصب قتال قوتل قتال البغاة وفي ذلك يقول الإمام مالك في الموطأ الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده. اهـ 2 - وبسط المناظرة أن عمر رأى أن القتال منفي بقول لا إله إلا الله فإذا قيلت وجب الكف وهؤلاء المانعون للزكاة يقولونها ولم ينظر عمر إلى الاستثناء "إلا بحقه" أو أنه فهم قصر الحق على ما ورد في الحديث الآخر "الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه والمفارق للجماعة" فبين له أبو بكر أن الزكاة حق المال وأن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها ثم قايس الزكاة على الصلاة فقال: أرأيت إذا لم يصلوا؟ وكأن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة فرد الزكاة إليها وبذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه والظاهر من اعتراض عمر واستدلال أبي بكر بالقياس أنهما لما يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في الصحيح عن أبي هريرة بلفظ "ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا" وما جاء في الصحيح "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا" فإن عمر رضي الله عنه لو سمع ذلك لما خالف وما احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه

ولو سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الزيادة لاحتج بها ولم يلجأ إلى القياس فإنها نص في المطلوب والقول بأنهما لم يسمعا وتعدد التحديث بهذا الحديث مرة بالزيادة ومرة بدونها أولى من القول بأنهما سمعا ثم نسيا 3 - وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم؟ وتسبى ذراريهم كالكفار؟ أو لا؟ كالبغاة؟ فرأى أبو بكر الرأي الأول وعمل به ولعله أخذ بمنتهى القسوة في ذلك الوقت إرهابا لمن تسول له نفسه مثل هذا الخروج وناظره عمر في ذلك وذهب إلى الرأي الثاني لكنه سلم لأبي بكر في حينها لما يجب عليه من طاعة الإمام فلما ولي عمر الخلافة عمل بالثاني ورد عليهم السبي ووافقه المسلمون على ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة فيطالب بالرجوع فإن نصب القتال قوتل كالباغي فإن غلب لم تغنم أمواله ولم تسب ذراريه فإن رجع وأدى فبها ونعمت وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ والإجماع اليوم على أن المرتد لا يسبى والراجح أن عمر في رده السبي لم يكن نقضا لفعل أبي بكر لأنه فداهم من أيدي مالكيهم بما فتح الله به وأعتقهم تفضلا وصلة للقرابة ولم ينزع من يد أحد شيئا إلا بعوض ولو كان نقضا لأخذهم من أيدي مالكيهم بدون عوض 4 - وقد زعم بعض الروافض أن قتال مانعي الزكاة كان عسفا واتهموا أبا بكر رضي الله عنه بأنه أول من سبى المسلمين ودافع الخطابي وذهب إلى أن أبا بكر لم يسب ذراري مانعي الزكاة فقال واتفقوا على أن أبا بكر لم يسب ذراري مانعي الزكاة إلا في شيء روي عن بعض الروافض ولا يعتد بخلافهم اهـ 5 - [ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - شجاعة أبي بكر وتقدمه في العلم وقد أجمع أهل الحق على أنه أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم

2 - جواز مراجعة الأئمة والأكابر للوصول إلى الحق 3 - الأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخطئة والعدول إلى التلطف والأخذ في إقامة الحجة 4 - جواز الحلف على أنه سيفعل الشيء لتأكيده 5 - الاجتهاد في النوازل وردها إلى الأصول والرجوع إلى الراجح 6 - القياس والعمل به 7 - صيانة مال من أتى بالشهادتين وحقن دمه ولو كان عند السيف 8 - استدل به على أن تارك الصلاة عمدا معتقدا وجوبها يقتل قاله النووي ورده الحافظ ابن حجر بالفرق بين صيغة أقاتل وأقتل وفي هذا الحكم خلاف واسع عند الفقهاء فعند الحنفية: يحبس إلى أن يحدث التوبة ولا يقتل وعند أحمد في إحدى الروايات يكفر ويخرج عن الملة ويقتل ولا يغسل ولا يصلى عليه وعند الشافعية يقتل حدا لا كفرا قيل: على الفور وقيل يمهل ثلاثة أيام 9 - قتال مانعي الزكاة وتاركي الصلاة 10 - قتال أهل البغي 11 - عدم تكفير أهل الشهادة من أهل البدع 12 - الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر 13 - أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة ويطلع عليها آحادهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

باب إثم مانع الزكاة

باب إثم مانع الزكاة 26 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها تطؤه بأخفافها وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها وقال ومن حقها أن تحلب على الماء قال ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت" -[المعنى العام]- تحذير لمانعي الزكاة وترهيب لهم من عذاب الآخرة وبيان لهم أن عقابهم سيكون على النقيض من قصدهم المال الذي كنزوه ولم يؤدوا زكاته المال الذي نموه وأجهدوا أنفسهم في وفرته سيأتي يوم القيامة أوفر حال كان في الدنيا وأعظم حال وأجمل حال لكن لا ليتمتع به صاحبه بل ليعذب به إن كان ذهبا وفضة يحمى عليها في نار جهنم وتجعل صفائح من نار فتكوى بها جبهته وجنباه وظهره ويقال له: هذا ما كنزت لنفسك فذق ما كنت تكنز وإن كان إبلا أو بقرا أو غنما أو خيلا بعثها الله على أحسن حال كانت عند صاحبها في الدنيا عددا وسمنا وعظما وقوة وجعل لها ساحة كبيرة مستوية وسلمها صاحبها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها وتعضه بأفواهها وهو على الأرض تمشي عليه إهانة وذلا وألما وكلما مر عليه أخراها رجع عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. والحالة شبيهة بالحالة عند الغال الذي سرق من الغنيمة في الحرب قبل قسمتها وتوزيعها فمن سرق منها شاة جاء يحملها يوم القيامة وهي تصيح بصوتها تفضحه بين الخلائق ولا منقذ ولا شفيع. بل يأس وتيئيس

يرى ذلك المذنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستغيث به ويناديه أنقذني يا رسول الله فيقول له أنت الذي جنيت على نفسك لا أملك لك من الله شيئا لقد بلغت وأنذرت والأمر اليوم كله لله -[المباحث العربية]- (تأتي الأبل) أي يوم القيامة (على صاحبها) أي مستعلية صاحبها الذي كان يملكها في الدنيا مسيطرة عليه لا يملك منها فرارا (على خير ما كانت) في الدنيا عددا وسمنا وعظما فمن تراوحت أبله في الدنيا بين الخمسة والمائة وبين الوليد والشاب والعجوز وبين المريض والسليم وبين الضعيف والقوي جاءت مائة شابة سليمة قوية بعد أن كانت عنده على حالات مختلفة فتأتي على أكملها ليكون ذلك أنكى له لشدة ثقلها (إذا لم يعط فيها حقها) أي إذا لم يؤد زكاتها في الدنيا فالمراد حق الله المتعلق بها أو حق الفقراء المتعلق بها فالإضافة لأدني ملابسة (تطؤه بأخفافها) أي يبسط لها مكان واسع مستو تجري فيه ويسقط تحتها فتخبط وجهه بأخفافها وتعضه بأفواهها كما جاء في الروايات الصحيحة والأخفاف جمع خف والخف للإبل كالظلف للغنم والبقر والحافر للمحار والبغل والفرس والقدم للإنسان وفي صحيح مسلم "كلما مرت عليه أولاها ردت عليه أخراها" (وقال ومن حقها أن تحلب على الماء) أي ومن حق الفقراء فيها كرما ومواساة أن تحلب لهم حين ترد الماء لتشرب وخص الحلب بموضع الماء ليكون أسهل على المحتاج من قصد المنازل وأرفق بالماشية وهذه الجملة "ومن حقها ... " قيل مدرجة من كلام أبي هريرة فعليه يعود الضمير في "قال" وقيل " هي من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ففاعل "قال" يعود عليه ورواية مسلم تدل على الرفع

(قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته) قال الحافظ ابن حجر هذا حديث آخر متعلق بالغلول من الغنائم وجملة "ولا يأتي أحدكم" خبرية لفظا إنشائية معنى فالمراد منها النهي عن الغلول لا عن الإتيان أي لا تغلوا فتأتوا والغلول الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها (لها يعار) بضم الياء صوت المعز وفي رواية "لها ثغاء" بضم الثاء بعدها غين وهو صياح الغنم (فيقول: يا محمد) أغثني وأنقذني (له رغاء) بضم الراء بعدها غين ممدودة صوت الإبل (قد بلغت) تابع المقول ومفعول "بلغت" محذوف أي بلغت حكم الله لكم في الدنيا وأنذرتكم ويصح أن تكون مستأنفة غير داخلة في قول يوم القيامة أي احذروا أيها المسلمون قد بلغتكم فلا عذر لكم -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - إثم مانع الزكاة وعظم عقوبته في الآخرة 2 - وجوب الزكاة في الإبل والغنم حيث لا يعذب العذاب الشديد إلا بترك واجب 3 - أن عذاب الآخرة من جنس جريمة الدنيا وعكس ما قصد المذنب فقد أراد منها الخير فكانت هي الشر 4 - أن الله يبعث الحيوانات التي منعت زكاتها ليعذب بها مانعها وهل تبعث كلها؟ أو القدر الذي وجب في الزكاة فقط؟ الظاهر أنها تبعث كلها ليكون العذاب بها أكثر وأشد ولأن الحق في جميع المال بدون تمييز ولأن المال الذي لم يخرج زكاته لم يتطهر فيعاد كله على أكمل حال ليتحسر قلب مانع الزكاة فيزداد ألما ويؤيده ما جاء في مسلم "ما من

صاحب إبل لا يؤدي حقها منها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر -أي بأرض فسيحة مستوية -أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرت عليه أولاها ردت عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين العباد ويرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" 5 - استدل البعض بقوله "ومن حقها أن تحلب على الماء" على أن في المال حقا غير الزكاة ويؤيده ما جاء عند أبي داود "قلنا: يا رسول الله. ما حقها؟ قال: إهراق فحلها -أي التبرع بفحلها ليطرق إناثا أخريات -وإعارة دلوها -الذي تشرب به من البئر ونحوه -ومنيحتها -المنيحة اللبن الذي يهدى -وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله وأجاب الجمهور بأن هذا الوعيد كان قبل فرض الزكاة، فلما فرضت أصبح هذا الحق مكرمة ومواساة لا واجبا لكن يعكر على هذا الجواب أن أبا هريرة راوي الحديث أسلم بعد فرض الزكاة وأحسن الأجوبة أن في المال حقين -كما قال ابن بطال -فرض عين وغيره فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق 6 - التحذير من الغلول في الغنيمة وجمع البخاري بين حديثي منع الزكاة والغلول لاشتراكهما في نوع العذاب في الآخرة وأن الحيوانات التي منعت زكاتها والتي غلت ستبعث ويعذب بها صاحبها يوم القيامة.

27 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية -[المعنى العام]- على العاقل أن يعلم أن المال مال الله هو الذي أعطاه إياه وأودعه أمانة عنده إن شاء زاده وإن شاء أخذ ما أعطى وهو جل شأنه حين أودعه عند الإنسان أمره أن يخرج منه ربع العشر للفقراء والمساكين وكان من السهل أن يعطي جل شأنه الفقير من غير واسطة الغني وكان من السهل أن يجعل الكل أغنياء لا يحتاج الناس إلى الناس ولكنها الحكمة اقتضت أن يكون البعض أغنياء والبعض فقراء ليمتحن الغني فيما عنده من وديعة أيعمل فيها بأمر المودع معترفا بحقه فيها وبفضله أم يقول عنها كما قال قارون {إنما أوتيته على علم عندي} لذا نجد القرآن الكريم يذكر الغني دائما وكلما طلب منه الإنفاق -بأن المال ليس ماله وإنما هو مال الله منه بداية وله حالا ونهاية والإنسان فيه مستخلف {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} {أنفقوا مما رزقكم الله} والحديث الشريف يبدأ بهذه الحقيقة "من آتاه الله مالا" ولكن طبيعة الإنسان الجاهلة ونظره القاصر يخيل إليه أن ما في

حوزته ملك ثابت ودائم ويرغب في تنميته وزيادته ويحرص على أن لا ينقصه ويشح به حتى على واهبه ومودعه فيظن أن الزكاة تنقصه مع أن الحديث يقول "ما نقص مال من صدقة" فمانع الزكاة نسي أن المال مال الله وأنه وديعة ونسي أن الذي أعطى قادر على الأخذ قهرا وعلى المنع ونسي أن الاعتراف لله بالفضل وشكره يزيد النعمة ونسي أن الزكاة مطهرة للمال تمنح النماء الحسي والبركة المعنوية أمام هذا النسيان الكبير لم يكن بد من إيقاظه بالترهيب والوعيد وبما ينتظره من عذاب الله يوم القيامة مرة بأن المال الذي يكنزه من الذهب والفضة ولا يؤدي حق الله فيه يصفح يوم القيامة صفائح ويحمى عليها في نار جهنم حتى تصير نارا فتكوى بها جبهته وجنوبه وظهره ويقال له مقالة تبكيت: هذا ما كنزت لنفسك، فذق جزاء ما كنت تكنز، ومرة بأن المال الذي يكنزه، ولا يؤدي زكاته سيتحول يوم القيامة إلى حية متوحشة مليئة بالسم المؤلم، يحاول الفرار منها فتطوقه، وتلتف حول رقبته، ثم تأخذ بشدقيه فيفرغ سمها نارا مذابة، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، وتضيف إلى العذاب الجسمي عذابا نفسيا، تفزيعا وتوبيخا، تقول له: أنا مالك الذي كنزته لتتنعم به، أنا كنزك الذي حرمت منه الفقير ليزيدك نعيما. ها قد لقيت عاقبة كنزك عذابا بنفس كنزك. وصدق الله العظيم حيث يقول {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير.} -[المباحث العربية]- (من آتاه الله مالا) المراد من المال هنا النقدان: الذهب والفضة فهو من إطلاق العام وإرادة الخاص. (مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع) أي مثل له ماله حية، والمراد من التمثيل إما التصوير، وإما التصيير، والفرق أن التصوير يبقي المال في حقيقته مالا، أي ذهبا في صورة ثعبان، وأن التصيير تحويل لذات المال إلى ذات ثعبان. والظاهر الأول، لأن المال سيكون في صورة صفائح تارة، وفي صورة ثعبان أخرى. والشجاع الحية الذكر، وقيل: الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس،

وقد يصل إلى وجهه، والأقرع الذي تقرع رأسه لكثرة سمه. وقال القرطبي: الأقرع من الحيات الذي ابيض رأسه من السم. (له زبيبتان) تثنية زبيبة، والمراد غدتان في شدقيه مملوءتان سما، وقيل: نكتتان سوداوان فوق عينيه زيادة في قبح المنظر، وقيل نقطتان سوداوان يكتنفان فاه، وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين، وقيل: نابان بارزان من فمه. والمقصود تقبيح الصورة وإن لم يكن لها مثيل في الدنيا. (يطوقه) بضم الياء وفتح الطاء وفتح الواو المشددة، أي يصير له الثعبان طوقا حول عنقه. (ثم يأخذ بلهزمتيه) بكسر اللام وسكون الهاء، وقد فسر في الحديث بالشدقين، وهما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان. قيل: المعنى أن مانع الزكاة يأخذ بشدقي الثعبان ليحول بينه وبين العض، ويساعده رواية مسلم "يتبع صاحبه حيث ذهب وهو يفر منه، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل". وقيل: المعنى أن الثعبان يأخذ بشدقي مانع الزكاة، وقيل: المعنى أن الثعبان يأخذ يد مانع الزكاة بشدقيه، فالمأخوذ محذوف، والباء في "بشدقيه" للآلة. (ثم يقول) الشجاع لمانع الزكاة، بلسان الحال، أو بلسان المقال. (أما مالك. أنا كنزك) وفائدة هذا القول الحسرة والزيادة في التعذيب، حيث لا ينفعه الندم، وفيه نوع من التهكم. -[فقه الحديث]- قال جمهور العلماء: إن الشجاع الأقرع حقيقة، لأن الوعيد بالحقائق ممن هو قادر عليها كمال، وقلب الله للأعيان أهون من خلق الأعيان ابتداء، فليس في ظاهر الحديث أمر ينكر حتى يلجأ إلى المجاز.

كذا قالوا في نطق الشجاع الأقرع، وقوله: أنا مالك، أنا كنزك، فالله تعالى قادر على أن يخلق في الثعبان لفظا وكلاما يسمعه الإنسان ويفهمه، ككلام النملة إذ سمعها سليمان عليه السلام. أما قول من قال: إن هذه الصورة كناية عن شدة ألوان العذاب التي يلاقيها مانع الزكاة، وكذا قول القائل: إن كلام الشجاع الأقرع بلسان الحال، فكل من القولين بعيد عن الصواب لأن الترهيب بهذا الظاهر والتوبيخ بالكلام الفعلي أدخل في الوعيد. ولا تعارض بين قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} وبين قوله تعالى {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير.} لا تنافي بين الوعيدين لاحتمال اجتماع النوعين من العذاب، أحدهما بعد الآخر، وما أكثر ألوان العذاب يوم القيامة. والله أعلم.

باب الصدقة من كسب طيب

باب الصدقة من كسب طيب 28 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} ويقول {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} ويقول {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.} آيات كثيرة تؤكد أن الله يربي الصدقة ويضاعفها لصاحبها أضعافا تزيد على سبعمائة ضعف. وهذا الحديث الشريف يصور الزيادة والتكبير للصدقة بأن تصبح التمرة مثل الجبل، التمرة التي تزن درهما أو دراهم معدودة تعظم حتى يصبح وزنها في ميزان الحسنات عند الله وزن الجبل، يربيها الله تعالى عنده لصاحبها كما يربي الرجل منا فطيم فرسه الذي يعتز به، يحميه من الآفات ويحتضنه ويحيطه بالعناية والرعاية حتى يصير فرسا كبيرا ويسابق فيسبق، ومثل هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليتصدق بالكسرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد". وعلى كل مسلم صدقة، غنيا كان أو فقيرا {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها -جاءتها امرأة فقيرة معها ابنتاها، فلم تجد في بيتها إلا تمرة واحدة، لم تستنكف أن تقدمها لها، فشقت المرأة التمرة نصفين أعطت كل بنت نصفا.

تعمل رضي الله عنها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا النار ولو بشق تمرة" لقد قالها لها يوما" يا عائشة. استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان"، أي إن اليسير يستر الفقير ويسد منه مسدا. آمن الصحابة بهذه الحقيقة، فنافس الفقراء الأغنياء، لقد جاء عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عندي ثمانية آلاف، تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى، وسمعه عاصم بن عدي الأنصاري، فقال: يا رسول الله، عندي سبعون وسقا من تمر، أحتفظ بنصفها لعيالي، وأقدم نصفها في سبيل الله، وسمعهما الرجل الفقير، أبو عقيل الأنصاري، فقال: يا رسول الله. ما لي من مال، غير أني أجرت نفسي البارحة من بني فلان على صاعين من تمر، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع أتقرب به إلى الله تعالى. وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم "سبق درهم مائة ألف درهم. فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير، أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به". شرط واحد لقبول الصدقة قبولا حسنا، ومضاعفة ثوابها، هو أن تكون من مال حلال طيب، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. -[المباحث العربية]- (من تصدق بعدل تمرة) جمهور أهل اللغة على أن العدل بفتح العين المثل، وبكسرها الحمل، لذا ضبط هنا للأكثر بالفتح، وقال الكسائي: بفتح العين وكسرها بمعنى، كما أن لفظ المثل لا يختلف. أهـ. واختار التمرة مثلا لأنها أقل قوت وأطيبه. (من كسب طيب) المراد من الكسب المكسوب، أي من مكسوب طيب

سواء أكانت من مكسوب المتصدق وبجهده، أم كانت من مكسوب غيره الطيب كمال الميراث، والمراد بالطيب الحلال، قال القرطبي: أصل الطيب المستلذ بالطبع ثم أطلق على المطلوب بالشرع، وهو الحلال. أهـ. قال تعالى {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.} (ولا يقبل الله إلا الطيب) جملة معترضة بين الشرط والجزاء، تأكيدا للمطلوب على سبيل الحصر. (فإن الله يتقبلها بيمينه) في رواية "إلا أخذها الله بيمينه" وفي رواية "فيتلقاها الرحمن بيده" وقد خاض كثير من العلماء في تأويل هذه العبارة، والأسلم إجراء الحديث على ظاهره، والإيمان بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة من صفاته تعالى كما جاء على وجه الكمال من غير تشبيه. قال الحافظ ابن حجر: قال الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيها، ولا نقول: كيف؟ هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. والله أعلم. (ثم يربيها لصاحبها) قيل: المراد التربية المعنوية بتعظيم ثوابها ومضاعفته وقال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المراد تعظيم عين الصدقة، وزيادة جرمها حتى تصير كالجبل لتثقل في الميزان. (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، وهو المهر لأنه يفلى، أي يفطم، وقيل: هو كل فطيم من ذات حافز، والجمع أفلاء كعدو وأعداء، وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة وسريعة، ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيما، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لا سيما الصدقة، فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل. وفي رواية "فلوه أو مهره" وفي أخرى "مهره أو فصيله" وفي ثالثة "مهره أو رضيعه أو فصيله".

-[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضل الصدقة من كسب حلال. 2 - أن الله لا يقبل إلا الطيب الحلال، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم.} قال القرطبي: وإنما لم يقبل الله الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمتصدق والمتصدق ممنوع من التصرف فيه، والمتصدق به متصرف فيه، فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأمورا به منهيا عنه من وجه واحد، وهو محال. أهـ. على معنى أن المال الحرام غير مأذون بالتصرف فيه، وقبول الله للصدقة منه إذن بالتصرف فيه فيكون الشرع آذنا وغير آذن لشيء واحد في وقت واحد وهو تناقض محال. 3 - أن الله يضاعف الصدقة الخالصة الطيبة أضعافا كثيرة، ومصداقه في القرآن كثير. يقول تعالى {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} ويقول {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} ويقول {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.} 4 - أن لا يستقل المتصدق ما يتصدق به ولو كان تمرة أو شق تمرة أو كسرة، ما دام ذلك الذي في قدرته. 5 - أن يتقبل المعطي ما يعطاه وإن كان قليلا، وأن يشكر عليه ويكافئ بالدعاء للمتصدق، ولا يسخر من المعطي ولا يحقره، فإن الله تعالى -وهو الغني -يتلقاها بيمينه ولو كانت عدل تمرة، ويثيب عليها وينميها حتى تصير كالجبل. 6 - أن لا يهزأ أحد من متصدق بقليل، فتلك صفة المنافقين {الذين

باب أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها وكذلك الخادم

يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} إنه لا يدري درجة قبول هذا القليل، فقد يكون عند الله كثيرا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبق درهم مائة ألف درهم". 7 - الحث على الكسب الحلال، والبعد عن الحرام وعن المشبهات حتى يبارك الله فيما ينفق. باب أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها وكذلك الخادم 29 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا".

-[المعنى العام]- حض الإسلام على التصدق، وبين فضله ومضاعفة أجره، ورغب في صدقة السر حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وفي هذا الحديث يفتح الباب واسعا لتتعدد الصدقات، ويفسح مجال الخير للزوجة وللخادم وللخازن. يفسح المجال لرب المال إذا شغلته الشواغل عن التصدق بنفسه، ويفسح مجال التعاون على البر والتقوى. وإذا كان الدال على الخير شريكا فيه كانت واسطة الخير كذلك، وإن اختلف نصيب كل شريك. فالزوجة إذا أنفقت وتصدقت من مال زوجها صدقة يوافق عليها إن علمها. وتسخو بها نفسه إن شهدها كان لها أجر العطاء والمناولة والمساعدة على الخير ولزوجها أجر المال المنفق لأنه الذي اكتسبه أولا، ولأنه أذن للزوجة ولو إذنا عاما ثانيا. وخازن المال وحارسه، سواء أكان خادما لصاحبه أم كان حارسا فحسب، إن تصدق في حدود ما يسمح له به، وفي حدود ما تجود به نفس صاحبه، وفي حدود الرضا مع العلم، كان له أجره، على أن يعلم صاحبه، وأن يكون أمينا صادقا مسلما. وهكذا يشجع الإسلام المحيطين بالمال والمتصرفين فيه على أن يتعاونوا على الإنفاق في سبيل الله، ولكل منهم أجره، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا. -[المباحث العربية]- (إذا أنفقت المرأة) أي الزوجة، بدليل قوله بعد "ولزوجها أجره" وحذف المنفق عليه ليعم إنفاقها على عيال زوجها، ومن يعولهم وذوي رحمه، وضيوفه، والسائلين، والفقراء والمساكين، وفي سبيل الله عامة. وعبر بالإنفاق ليعم الصدقة والهدية وغيرها. (من طعام بيتها) "من" تبعيضية، وأضاف البيت لها لملازمتها له وأقامتها

فيه وإن كان بيت الزوج، وخص الطعام بالذكر، ولم يعمم بذكر المال، لأن الطعام مأذون لها فيه عادة غالبا بخلاف المال، وسيأتي إيضاح الفرق في فقه الحديث. (غير مفسدة) أي غير متجاوزة القدر المسموح به من الزواج. (كان لها أجرها بما أنفقت) أي كان لها أجر المناولة والإسهام في الخير فالباء للسببية، و"ما" موصولة أو مصدرية، أي كان لها أجر إنفاقها من مال الغير بإذنه ورضاه. (ولزوجها أجره بما كسب) أي وكان لزوجها أجر هذه النفقة بسبب كسب مالها، ليس أجر الكسب، فهو ثابت قبل الإنفاق، وإنما أجر إنفاق ما كسبه. (وللخازن مثل ذلك) المراد بالخازن الموكول إليه حفظ المال وإن لم يكن خادما، واسم الإشارة يعود على المفهوم من الكلام السابق، وهو أجر الزوجة، أي وللخازن إن فعل مثل الزوجة أجر مثل أجرها. (لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا) استئناف بياني، كالجواب عن سؤال ينشأ مما قبله، كأن سائلا سأل: هل يشارك الخازن والمرأة أجر صاحب المال فينقصانه؟ والجواب لا ينقص بعضهم أجر بعض، والله ذو الفضل العظيم، وليس في هذا مساواة للأجرين، لكن الاشتراك في مطلق الأجر. -[فقه الحديث]- أورد البخاري هذا الحديث بروايات متعددة، هي بعد روايتنا "إذا تصدقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها، ولزوجها بما كسب، وللخازن مثل ذلك" فنصت هذه الرواية على جهة الإنفاق وهي الصدقة، وعلى نوع المتصدق به وهو الطعام. الرواية الثانية "إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة لها أجرها، وله مثله، وللخازن مثل ذلك، وله بما اكتسب، ولها بما أنفقت"

فلم تنص على جهة الإطعام ليشمل إطعامها أولاده وأهله وأصحابه والفقراء والمساكين. ونصت على الطعام. ولا شك أن الزوجة والخازن والخادم كل منهم أمين على مال الغير، ليس له أن يتصرف فيه إلا بإذن المالك نصا أو عرفا، إجمالا أو تفصيلا وقد جاء التصريح بالإذن نصا بالنسبة للخازن في حديث البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ ما أمر به كاملا موفرا طيبا بها نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" وكانت هذه الروايات المتعددة أساسا في تعدد الآراء. قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال، ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم، فقال المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيته وتدبيره، فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم، فليس له تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه. والذي تستريح إليه النفس أن تصدق الزوجة من الطعام لا يحتاج إلى إذن سابق، لأن الشأن والعادة والعرف موافقة الزوج عليه، والشرط الأساسي حينئذ أن لا تكون مفسدة مسرفة، بأن تنفق مالا يؤثر نقصانه، ولا يتجاوز ما تسمح به نفسه. أما تصدق الزوجة بالمال أو بالأعيان كالثياب والقدور والفرش ونحوها فلا بد فيه من الإذن السابق، إما نصا وصراحة، وإما ضمنا، فإذا لم يسبق مثل هذا الإذن، وشكت في رضا زوجها حرم عليها التصدق بمثل ذلك إلا بصريح أمره، محافظة على حسن عشرة الزوجين. أما ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه "وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له" فقد قال عنه النووي: معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق،

باب الاستعفاف عن المسألة

متناول لهذا القدر وغيره، إما بالصريح أو بالمفهوم. أهـ وخلاصة القول أنه لا بد من الإذن الذي يختلف باختلاف البلاد، وباختلاف حال الأزواج من غنى أو فقر، وسخاء أو بخل، وسماحة أو غلظة، وباختلاف حال الشيء المنفق من تفاهة أو نفاسة، ومن قلة أو كثرة، ومن رطب لا يدخر وجاف مدخر. والله أعلم. باب الاستعفاف عن المسألة 30 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله". -[المعنى العام]- كان حكيم بن حزام يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، فيعطيه. يحدث عن نفسه فيقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا

حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة -أي يجذب النفوس المحتاجة وغير المحتاجة فتأخذ من شخص راض ومن شخص متأفف -فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. يا حكيم. اليد العليا -أي المعطية المنفقة -خير من اليد السفلى -أي السائلة الآخذة -وابدأ في الإنفاق بنفسك، ثم زوجك ثم من تعول الأهم فالمهم، وأفضل الصدقة وأعلاها ثوابا ما كانت عن غنى من صاحبها عنها، فلا يتبع عينه ما أعطى، ولا يستكثر القليل ولا يمن على الفقير. يا حكيم. من يطلب العفة من الله، ويروض نفسه عليها ويمسك يده وماء وجهه عن الناس يعفه الله ويعزه، ويسد حاجته، ويقنعه بما رزقه ومن يطلب الغنى من الله، ويطلب من نفسه عد ما عنده من نعم، وينظر إلى من دونه يغنه الله ويحس بالغنى والرضا والسعادة. وهكذا جمع الحديث الشريف حث الأغنياء والقادرين على الصدقة، وحث الفقراء والمحتاجين على العفة والترفع عن ذل السؤال، وحث المنفقين على أن يبدءوا بالأهم فالمهم، وحث المتصدقين أن لا يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى، وحث على القناعة والرضى وطلب الغنى من الله وحده. بذلك تكون السعادة في الدنيا والآخرة. -[المباحث العربية]- (اليد العليا خير من اليد السفلى) قيل: اليد العليا المنفقة المعطية، وقيل: المتعففة عن السؤال مع الحاجة، فالعلو بالنسبة للأولى حسي، وبالنسبة للثانية معنوي، كما في قولهم: ترفع عن الدنايا، أو ترفع عن السؤال. وأما اليد السفلى فقيل: هي الآخذة مطلقا، وقيل: هي السائلة وقيل: هي المانعة. وسيأتي مزيد لهذه المسألة في فقه الحديث. (وابدأ بمن تعول) الخطاب لكل منفق، والواو للاستئناف، أي ابتدئ أيها المنفق بأولويات الإنفاق وبالأهم فالمهم ممن يجب عليك نفقتهم.

يقال: عال الرجل أهله إذا قام بما يحتاجون. (وخير الصدقة عن ظهر غنى) الجار والمجرور "عن ظهر غنى" متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، أي خير الصدقة الكائن والواقع عن غنى من المتصدق عن الصدقة وكلمة "ظهر" مزيدة لإشباع الكلام وإعطاء الغنى رمز القوة، و"عن" للسببية، وفي المراد من الغنى أقوال. قيل: قدر الكفاية، فأفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، وقال البغوي: المراد غنى يستظهر به على النوائب التي تنوبه. أهـ. وقيل: التنكير في "غنى" للتعظيم، فخير الصدقة صدقة الأغنياء الكبار، لأنها ستكون كثيرة تسد حاجة كثير من المحتاجين. وأبعد التأويلات قولهم: إن المعنى خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة. وسيأتي مزيد بحث للمسألة في فقه الحديث. (ومن يستعف) بالإدغام، وروي "يستعفف" بفكه، أي يطلب العفة من الله ومن نفسه، ليكون عفيفا. (ومن يستغن) أي يطلب الغنى من الله، ويعمل ويسعى إليه بالطرق المشروعة، ولو بأن يأخذ حبلا فيحتطب. -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث بصفة أساسية إلى نقطتين هامتين. الأولى المفاضلة بين المعطي والآخذ، والثانية صدقة المحتاج. أما عن النقطة الأولى: فالمعتمد عند الجمهور أن المراد من اليد العليا اليد المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وفي ذلك أثر لابن عمر. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليد العليا خير من اليد السفلى" ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية. فيكون الهدف من الحديث حض الغني على الصدقة، وحض الفقير على التعفف عن المسألة، والمقابلة موافقة لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا.

أما من قال: إن المراد باليد العليا المتعففة عن السؤال فهي وإن كانت أعلى من السائلة لكن إرادتها لا تتوافق مع المقابلة، ولا مع مورد الحديث، وتقصر الهدف من الحديث على الحض على ترك السؤال. وأما أن اليد السفلى هي المانعة للصدقة فهي وإن كانت في الواقع سفلى لكي مساق الحديث والمقابلة تأباها. والإشكال في اليد الآخذة من غير سؤال. هل تعتبر سفلى؟ وتقابل باليد المعطية؟ جمهور العلماء يرفضون ذلك بشدة، فيقول ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل. محال أن تكون باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به، أو تقرب به إلى ربه متنفلا، فربما كان الأخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. أهـ. وقال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية، ويد الله هي الآخذة. وكلتاهما عليا، وكلتاهما يمين. أهـ. ورد عليه الحافظ ابن حجر بأن البحث في أيدي الآدميين، وأما يد الله فعليا على كل حال. وقال جماعة من المتصوفة: إن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا. حكاه ابن قتيبة عن جماعة، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة. والتحقيق ما قاله الحافظ ابن حجر: أن التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. أهـ. ومقصوده أن الإعطاء في حد ذاته أفضل من الأخذ في حد ذاته، أما من حيثيات أخرى قد يكون الآخذ أتقى وأورع من المعطي. وهو كلام جيد. ثم قال: ومحصل ما في الآثار أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال: وأسفل الأيدي السائلة والمانعة. وأما عن النقطة الثانية: فقد قال البخاري: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج، أو أهله متحاجون أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة، ليس له أن يتلف أموال الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من

أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله" -إلا أن يكون معروفا بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، فليس له أن يضيع أموال الناس -يقصد من يعوله -بعلة الصدقة. أهـ. وقال ابن بطال: أجمعوا على أن المدين لا يجوز له أن يتصدق بماله، ويترك قضاء الدين. وقال الطبري: قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه، وكان صبورا على الضيق، ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. أهـ وقال النووي: مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الضيق والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه. أهـ. والفرق بين ما يقوله الطبري وما يقوله النووي جواز التصدق عند الطبري بهذه الشروط، واستحبابه عند النووي مع الشروط نفسها. قال الحافظ ابن حجر: والمختار أن معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته لأحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية، كالأكل عند الجوع، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به الأذى عن نفسه، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار، بل يحرم، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل، لأجل ما يتحمل من مضض الفقر، وشدة مشقته فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله. أهـ. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تقديم نفقة النفس والعيال، لأنها معينة في الشخص، بخلاف الصدقة فهي على الكفاية.

باب من تصدق في الشرك ثم أسلم

2 - حض الغني على التصدق. 3 - استدل به بعضهم على تفضيل الغني إذا قام بحقوقه، لأن العطاء يكون مع الغني، وفي المسألة خلاف طويل: الغني الشاكر؟ أم الفقير الصابر؟ ليس هذا محلها. والله أعلم. 4 - حض الفقير على التعفف. 5 - الحث على التوجه إلى الله بالطلب سواء بالغنى أم بالعفة. 6 - أن من لجأ إلى الله وطلب منه استجاب، وصدق الله العظيم حيث يقول {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).} باب من تصدق في الشرك ثم أسلم 31 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم فهل لي فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما سلف من خير".

-[المعنى العام]- الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، ولقد كان كثير من العرب قبل الإسلام على صفات حميدة، يصلون الرحم، ويحملون الكل، ويكسبون المعدوم، ويقرون الضيف، ويعينون على نوائب الدهر، ويعتقون العبيد، ويفكون الأسير، ويوفون بالعهد، ويحفظون الأمانة. من هؤلاء الأخيار حكيم بن حزام، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وحمل على مائة بعير للفقراء، وكان كثير الصدقة، عظيم الصلة لرحمه، فلما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر ما قدم من خير في الجاهلية. وكان من الطبيعي أن يسأل هذا السؤال، كما سأل غيره ممن أسلم عن شر آثامه وشروره التي ارتكبها في الجاهلية، فأجيبوا بأن الإسلام يهدم ما قبله، وأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام بأنه لن يعدم خير ما قدم، فقد اكتسب به ثناء جميلا وذكرا حميدا، وأن خلال الخير تطبع صاحبها على الخير فتساعده على فعل الخير في إسلامه، والإسلام يضاعف حسنات البر، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وأحس حكيم بأن ما قدم في الجاهلية كان نفعه دنيويا جميلا، وأحس حاجته إلى الثواب الأخروي بعد إسلامه، فقام يفعل في إسلامه من الخير مثل ما فعل في الجاهلية، فأعتق مائة رقبة وتبرع للمحتاجين بمائة بعير محملة بالطعام والثياب، وهكذا كان خيره في الجاهلية موصولا بخيره في الإسلام. -[المباحث العربية]- (عن حكيم بن حزام) صحابي جليل، من مناقبه أنه ولد في الكعبة، قال بعض العلماء: ولا يعرف أحد شاركه في هذا، عاش ستين سنة في الجاهلية أسلم عام الفتح، ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين. (أرأيت أشياء) أي أخبرني عن أشياء، والمراد منها أمور الخير والمعروف.

(كنت أتحنث بها) التحنث التعبد، كما فسره في الحديث بالتبرر، وهو فعل البر والطاعة، قال أهل اللغة: أصل التحنث أن يفعل فعلا يخرج به من الحنث وهو الإثم، وكذا تأثم وتحرج وتهجد أي فعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج والهجود. (في الجاهلية) أي قبل إسلامه، وليس المراد قبل ظهور الإسلام، فكأنه قال: في جاهليتي. (أسلمت على ما سفل من خير) أي على ما قدمت من خير، وفي القاموس: الخير كل عمل صالح قدمته. -[فقه الحديث]- قضية الحديث: هل يثاب الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه على ما فعله من خير في حال كفره؟ . ذهب ابن بطال من المالكية وكثير من المحققين إلى أنه إذا أسلم الكافر وحسن إسلامه، ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال كفره واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل سيئة زلفها، وكان عمله بعد -أي بعد إسلامه -الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى" ذكره الدارقطني، وثبت في بعض طرقه "أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك" قال ابن بطال بعد ذكره الحديث: ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء، لا اعتراض لأحد عليه. أهـ. وعلى هذا القول يكون المراد من "أسلمت على ما سلف من الخير" على ظاهره، أي أسلمت وقد ثبت لك أجر ما أسفلت من خير. وقال بعض العلماء: إن الكافر إذا أسلم لا يثاب على ما فعل من خير في حال كفره، لأن الكافر لا يصح منه التقرب، لأن شرط المتقرب أن

يكون عارفا بالمتقرب إليه، وهو في حين فعله للخير لم يحصل له العلم بالله بعد، وحيث لا يصح منه التقرب فلا يثاب على ما فعل، ولهذا قال الفقهاء: لا يصح من الكافر عبادة، ولو أسلم لم يعتد بها، وعلى هذا القول يفسر قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما سلف من خير" على معنى اكتسبت طباعا جميلة، وأنت تنتفع بتلك الطباع في الإسلام، وتكون تلك العادة تمهيدا لك، ومعونة على فعل الخير، أو معناها اكتسبت بذلك ثناء جميلا فهو باق عليك في الإسلام ومعناها أنه ببركة ما سبق لك من خير هداك الله تعالى إلى الإسلام، وأن من ظهر منه خير في أول أمره فهو دليل على سعادة آخره وحسن عاقبته. ونحن نرجح الرأي الأول ونعتمده، فإنه يشجع الإحسان والإصلاح للإنسانية في كافة مجتمعاتها، فالعمل الذي يساير مطلوب الإسلام -وإن اختل شرطه -لا يتساوى مع العمل الذي ينفر منه الإسلام ويحاربه، إذ لا يستوي الخبيث والطيب ثم من ذا الذي يمنع فضل الله وكرمه من أن يلحق من أسلم ورجع إليه وأناب؟ وإذا كنا نجيز أن يبدل الله سيئات التائب حسنات أفلا تجيز أن يكافئ على حسنات العاصي التي فعلها حال عصيانه؟ وهي ولا شك مكافأة دون مكافأة المطيع، ونجيز أن يتفضل الله على عبده ابتداء من غير عمل، كما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل ألا يجوز أن يكتب له ثواب ما عمله غير مستوف للشروط؟ أما قول الفقهاء: لا تصح العبادة من الكافر، ولو أسلم لا يعتد بها فمرادهم أنه لا يعتد بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة، بل إن بعض الفقهاء اعتدوا بعبادة الكافر في أحكام الدنيا، فقد قال بعض الشافعية، إذا أجنب واغتسل في حال كفره ثم أسلم لا يجب عليه إعادة الغسل، بل بالغ بعضهم وقال: يصح من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء، وإذا أسلم صلى بها. وفي الأم. وتصح نية التقرب من الكافر، وما عللوا به من الجهل بالمتقرب إليه إن عنوا به أنه يجهله مطلقا منع، لأنه

باب مثل المتصدق والبخيل

لا ينكر الصانع، وإن عنوا به أنه يجهله من وجه فهو غير مسلم، ثم الذي يقضي بصحة النية منه اتفاقهم على التخفيف، لأنه لو لم تصح النية لم يصح التخفيف، وأيضا القياس يقتضي الإثابة، لأن الإسلام إذا جب السيئات صحح الحسنات. والله أعلم. باب مثل المتصدق والبخيل 32 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع". -[المعنى العام]- كثير من الجاهلين يمنع الصدقة خشية نفاد المال أو نقصه، وكثير من

عبدة المال يحصي كل يوم ما جمع، ويندفع نحو الزيادة كالمسعور، أو العطشان الذي يزيده شرب المالح عطشا. الحقيقة التي يغفلون عنها أن الله هو واهب المال، وأنه يرزق عبده من حيث لا يحتسب، وأنه قادر على أن يخسف بالمال وبصاحبه الأرض، وأنه الآمر بالصدقة، وأنه الذي يثيب على الإعطاء بغير حساب. هذه الحقيقة يغفل عنها البخلاء، ويؤمن بها الأسخياء {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} ولئلا يكون للغني عذر يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المثل المحسوس لعل الذي لا يدرك المعقول يفهم عن طريق المحسوس. إن السخي الجواد المنفق على نفسه وعياله والأقربين والفقراء وفي سبيل الله يوسع الله عليه في الدنيا ويستره في الدارين، ويحميه من مصارع السوء في الدنيا، ومن النار في الآخرة كالذي يلبس درعا من حديد يوسعه على نفسه حتى يغطي أطراف أصابع يديه ورجليه ويزيد حتى يجر على الأرض وبهذا يكون في سعة، ويكون في مأمن من أعدائه ويكون مستور العورة في الدنيا، أما البخيل الشحيح الذي لا يؤدي حق الله في ماله فيضيق عليه الله في الدنيا ولو ضيقا نفسيا، ويفضحه بين الخلق في الدنيا والآخرة ويعرض نفسه لنكبات الزمان في الدنيا، وللنار في الآخرة. كالذي يلتصق درعه في أعلى صدره ولا يستر جسده، فيكشف أمام أعدائه ويتعرض للأخطار. {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.} -[المباحث العربية]- (مثل البخيل والمنفق) المفروض أن يقول: مثل البخيل والسخي، إذ مقابل البخل السخاء، ولكنه وضع المنفق موضع السخي إشعارا بأن مجرد الإنفاق فيما أمر به الشارع وندب إليه يزيل البخل، ويقابله، وليس شرطا لإزالة البخل العطاء الزائد.

(كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد) الجبة بضم الجيم ثوب معروف على هيئة مخصوصة، واسع وطويل عادة، لكن الأوصاف الآتية -كونها من حديد، وأنها في الأصل تستر الجزء الأعلى من الصدر فقط -أخرجتها عن الهيئة المعروفة، مما حدا بالبعض أن يريد من الجبة الدرع، وحدا بالبعض أن يرويه "جنتان" بالنون بدل الباء تصحيفا، والجنة بضم الجيم في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها، أي تحصنه، لكن الحديث يقصد الجبة بهيئتها لأنها بعد أن يتم لبسها ويتم إسدالها تسبغ وتوفر، وقبل ذلك حين اللبس تكون متجمعة على الصدر، فمن غل يديه إلى عنقه لزقت على صدره، ومن بسط يديه بها غطت جسمه كله، وتقييدها بكونها من حديد إشارة إلى صلابة المشبه، وهو الطبيعة البشرية الحريصة، ولإفادة حمايتها لصاحبها المنفق ومضايقتها لصاحبها البخيل والثنية في مقابلة التثنية تفيد التوزيع، أي على كل منهما جبة. (من ثديهما إلى تراقيهما) بضم الثاء وكسر الدال وتشديد الياء المكسورة جمع ثدي بفتح الثاء وسكون الدال، و"تراقيهما" جمع ترقوة، ولكل إنسان ترقوتان، وهما العظمان المحيطان بالعنق من جهة الصدر، بينهما ثغرة النحر. (إلا سبغت) أي امتدت وغطت. (أو وفرت) "أو" شك من الراوي في أي اللفظين صدر، والفاء المفتوحة مخففة، من الوفور، وهو زيادة الامتداد. (حتى تخفي بنانه) أي تستر أطراف يديه، وفي رواية "حتى تغشى أنامله". (وتعفو أثره) "تعفو" منصوب عطفا على "تخفى" المنصوب بحتى، والمراد من الأثر أثر المشي، أي تصبح من الطول بحيث تغطي القدم وتزيد، فتزحف على الأرض، فتغطي وتمحو آثار المشي على التراب أو الرمل. و"عفا" تأتي لازمة فيقال عفا الأثر، أي تغطى بالتراب وعفوت الأثر، أي غطيته. وهي هنا من المتعدي.

(لزقت كل حلقة) من حلقات الدرع، وفي رواية لمسلم "انقبضت" وفي رواية "غاصت كل حلقة مكانها" وفي رواية "قلصت" أي تضامت واجتمعت والمفاد في الكل واحد. (فهو يوسعها) أي يحاول توسيعها. إجراء التشبيه، يعرف مثل هذا عند علماء البلاغة بتشبيه التمثيل وهو تشبيه هيئة بهيئة. والحاصل هنا تشبيه هيئتين بهيئتين. الأولى تشبيه هيئة المنفق الذي يعالج حرص النفس البشرية إلى السخاء، ويبذل من ماله إلى المستحقين ووجوه الخير، كلما بذل انشرح صدره للبذل، فداوم أو زاد، حتى يصبح السخاء طبيعة وحتى يغطي السخاء سلوكه، بهيئة من يلبس ثوبا من حلقات حديدية، يتجمع عند اللبس على أعلى صدره، فيحرك يديه وجوارحه، ويوسعه ويفرده ويمده ويبسطه ويشد أطرافه، حتى يغطي الثوب جميع جسده من أنامل يديه إلى حافة قدميه، بل يزيد حتى يزحف على الأرض، بهذا يأمن المنفق من عذاب الله، وبهذا يستر معاصيه، وبهذا يتقي النار، كما يتقي من يغطيه درعه أذى عدوه. الهيئة الثانية: تشبيه هيئة البخيل الذي غلبه الشح فلم يستطع علاج نفسه الحريصة، بل كلما هم أو فكر في الصدقة غلبه الشح وضاق صدره وزاد خوفه وحرصه، بهيئة من يبدأ لبس ثوب من حلقات حديدية، يتجمع الثوب حول رقبته وعلى أعلى صدره، كلما هم بتوسعته أو مده أو بسطه لا يقوى على ذلك، بل تزداد الحلقات انكماشا، وضغطا على صدره، والتصاقا بجسده، بهذا يتعرض البخيل لعذاب الله، وينكشف أمام معاصيه، ويودي بنفسه إلى النار، كما ينكشف من لا يستره درعه، ويمكن منه عدوه. قال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدنيا والآخرة، بخلاف البخيل فإنه يفضحه في الدارين. أهـ. وهو قريب مما قدمنا. وقيل: هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، ولعدم نمائه بالبخل.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - الترغيب في السخاء والإنفاق، والإنفاق الممدوح الذي يقصده الحديث ويبعد وصف البخل هو الإنفاق على صاحب المال وعلى العيال والضيفان أداء للواجبات والتطوعات قاله النووي، وقال القرطبي هو ما يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يدخل في الجانب الآخر إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه. 2 - الترهيب من البخل والشح، وآيته عدم الاستجابة للواجبات، والمداومة على ترك المندوبات. 3 - التيسير على المنفق، والتعسير على البخيل، مصداقا لحديث البخاري "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا". وحديث البخاري أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء "لا توكي فيوكي الله عليك" أي لا تشدي الرباط على المال وتبخلي به عن حقه فيضيق الله عليك أبواب الرزق، ومصداقا لقوله تعالى {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى).} 4 - أن الصدقة تحمي صاحبها من السوء، وتطفئ غضب الرب، وتكفر الخطيئة، وتقي من النار، وفي الصحيح "اتقوا النار ولو بشق تمرة". 5 - ضرب الأمثال، لإبراز المعقول في صورة المحسوس، ولزيادة الإيضاح، وليتمكن في النفس فضل تمكن.

باب زكاة الإبل

باب زكاة الإبل 33 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: "ويحك إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟ " قال: نعم. قال: "فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا". -[المعنى العام]- وسع الله مجال الخيرات ليتنافس المتنافسون، فتح للرجال مجال الجهاد والجمعات وشهود الجنائز، وفتح للنساء مجال الحج والعمرة وحسن تبعل الزوج وفتح للمسلمين الأوائل باب الهجرة من مكة إلى المدينة. وكان خير ميدان وأفضل الميادين. فكان من الضروري أن يحدد زمانا ومكانا، فحدد زمانا بفتح مكة، ولا هجرة بعد الفتح، وحدد مكانا بأهل الحضر،

لأنهم الذين يستطيعون الإقامة في المدينة، ويصبرون على جوها وبعض أمراضها، ومن هاجر إليها لا يجوز أن يخرج منها، ويعود إلى وطنه، من هنا كان الأعراب سكان البوادي ليسوا من أهل الهجرة. وشاء الله أن يضع هذه القيود حماية للمدينة نفسها من أن تضيق بأهلها وحفاظا على نمط الحياة ومسالكها ليبقى الراعي حول غنمه، وصاحب الإبل في البادية حول أعطانها، وصاحب الزرع بجوار زرعه إلخ. أمام هذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي جاء يرغب في الهجرة إلى المدينة. ويحك يا أعرابي، لا تستطيعها وقد تعودت الصحراء والبادية، وإن شأنها وأحكامها شديدة، ومطالبها قاسية، ما ترجع من معركة إلا وتستعد لأخرى، وأنت رجل ضعيف، وسكت العرابي حزينا آسفا أن حرم هذا الفضل، لكن الرسول الرحيم فتح له باب فضل وباب أجر، باب جهاد آخر لتحصيل الرزق الحلال، قال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: هل تؤدي حق الله فيها؟ قال: نعم. قال: فاعمل عليها، واسع على الرزق في أي مكان، قريبا كنت من المدينة أو بعيدا، حتى ولو كان بينك وبينها بحار، فإن الله لن ينقصك من أجر عملك هذا شيئا. فلئن حرمت جهاد السيف في المدينة فأمامك جهاد السعي الحلال، واقتنع الرجل ورضي، وآمن بذلك من سمع من الصحابة، حتى أثر عن أبي هريرة قوله: لأن أموت بين شعبتي رحل أبتغي من فضل الله الرزق خير من أن أموت مجاهدا في سبيل الله. -[المباحث العربية]- (أن أعرابيا) نسبة إلى الأعراب، وهم سكان البادية الذين لا يقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعربي منسوب إلى العرب. (عن الهجرة) أي بالنسبة له، أي طلب أن يهاجر من مضارب قومه إلى المدينة. (ويحك) اسم فعل يفيد الرحمة والتوجع والإشفاق، يقال: لمن وقع أو كاد أن يقع في الهلكة التي لا يستحقها.

(إن شأنها شديد) أي إن متطلباتها قاسية، لا تقدر عليها كأعرابي لم يألف المدينة، أو كضعيف عن الجهاد المفروض على المهاجرين. (فهل لك من إبل؟ ) السؤال عن الإبل خاصة لأنه صلى الله عليه وسلم رأى بالقرائن أن الأعرابي من أهل الإبل. (تؤدي صدقتها) وزكاتها وصدقتها المندوبة؟ (فاعمل من وراء البحار) أي فاعمل في أي مكان، وابعد مكان الهجرة حتى لو كان بيننا وبينك بحار، فالجملة كناية عن البعد. (فإن الله لن يترك من عملك شيئا) أي لن ينقصك من أجر عملك شيئا، وعمل كهذا إذا أدى حق الله فيه كان عوضا عن الهجرة والجهاد. يقال: وتر يتر إذا نقص، وفي رواية "لن يترك من عملك شيئا" مضارع "ترك" أي لن يضيع من عملك شيئا، بل سيجازيك خيرا. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - وجوب الزكاة في الإبل، ومثلها البقر والغنم بأدلة أخرى. 2 - فضل السعي على الرزق الحلال. 3 - فضل أداء زكاة الإبل. 4 - معادلة إخراج حق الله من الإبل والأموال لفضل الهجرة، فإن في الحديث إشارة إلى أن استقرار الأعرابي بوطنه إذا أدى زكاة إبله يقوم له مقام ثواب هجرته وإقامته بالمدينة، قاله الحافظ ابن حجر. 5 - استدل به على أن الهجرة كانت على أهل الحاضرة، ولم تكن على أهل البادية، لكن قال القرطبي: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بهذا الأعرابي، لما علم من حاله وضعفه عن المقام بالمدينة. 6 - واستدل به على تعظيم شأن الهجرة والمهاجرين.

باب لا يسألون الناس إلحافا

7 - زيادة شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه عليها، وصدق الله العظيم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.} باب لا يسألون الناس إلحافا 34 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه". -[المعنى العام]- الإسلام دين العزة والكرامة، دين العمل ورفع الهامة، دين البناء للدنيا والآخرة، لا يحب الخنوع والدناءة، ويكره الكسل والتواكل، شعاره: إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم شجرة يمكنه أن يغرسها فليغرسها، مبدؤه: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده". من هذا المنطلق حذر من أكل السحت، ومن سؤال عن كسل وخمول

وصف يد الآخذ بعد السؤال بأنها اليد السفلى الهابطة الذليلة، وحرص على السعي والعمل والأكل من عرق الجبين، لقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلانا يصوم النهار ويقوم الليل. قال: فمن ينفق عليه؟ قالوا: أخوه. قال: أخوه خير منه. وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الصدقة، فقال له: ما عندك شيء؟ قال لا، غير بردة، قال: هاتها. فجاء بها، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يشتريها؟ فباعها بدراهم، ثم اشترى بالدراهم حبلا وفأسا، وقال للرجل: اذهب واحتطب. فذهب واحتطب وما هي إلا أيام حتى صار غنيا. وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله وفأسه فيذهب إلى البادية، فيقطع شجرا، ويجمع حطبا، فيحمله على ظهره، وكتفه، فيذهب به إلى السوق فيبيعه فيأكل من ثمنه خير له من أن يتسول ويمد يده إلى الناس طالبا إحسانهم، إن أعطوه كان ذليلا دنيئا، وإن منعوه كان كسيف البال خاسئا حقيرا. -[المباحث العربية]- (والذي نفسي بيده) أي والله الذي بيده نفسي وروحي. وأقسم على الشيء المقطوع بصدقه والتسليم به لتقوية الخبر وتأكيده وتمكينه في نفس السامع. (لأن يأخذ أحدكم حبله) أي وفأسه ليقطع الحطب ويضمه في الحبل و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ. (فيحتطب على ظهره) أي فيجمع الحطب من مكان الاحتطاب، فيحمله على ظهره، فيبيعه، فيأكل، ويتصدق. (خير له من يأتي رجلا فيسأله) قيل: إن السؤال لا خير فيه، فأفعل التفضيل على غير بابه، وقيل: قد يكون فيه خير إذا كان لحاجة مشروعة

ولضرورة، وقيل: إنه روعي فيه ما في السائل، فهو في نفسه خير، وإلا ما فعله باختياره، وإن كان شرا في الواقع ونفس الأمر، و"خير" خبر المبتدأ. وإتيان الرجل غير مقصود، فقد يمر الرجل على السائل وإنما القصد خير من سؤال رجل، ولفظ "رجل" ليس قيدا فقد يسأل امرأة، والكلام بني على الكثير والغالب. (أعطاه أو منعه) الجملة صفة لرجل، أي رجلا معطيا أو مانعا. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، والتنفير منها وتحقيرها، والمسألة ودوافعها ثلاثة أنواع. النوع الأول مسألة الفقير المحتاج العاجز عن الكسب عجزا لا دخل له فيه، وهذه المسألة مباحة، والمطلوب منه عدم الإلحاح، والرفق في السؤال، وعدم الاستكثار، والأولى له العفة والصبر ما أمكن على الحاجة، فقد مدح الله هذا الصنف بقوله {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم.} والخلاف بين الفقهاء في حدود الفقير المحتاج الذي يباح له السؤال، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديده "ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه" وقد اتفقوا على أن من استطاع ضربا في الأرض، وكان قادرا على الاكتساب فهو غني، وهو واجد نوعا من الغنى، وقد قال تعالى في وصف الفقراء {لا يستطيعون ضربا في الأرض.}

فقال بعضهم: إن الفقير هو من لا يملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، واستندوا إلى حديث ضعيف رواه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش. قيل: يا رسول الله. وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب". وقال بعضهم: إن الفقير هو من لا يملك قوت يومه، واستندوا إلى حديث رواه أبو داود وصححه ابن حبان عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. فقالوا: يا رسول الله. وما يغنيه؟ قال قدر ما يغذيه ويعشيه". وقال أبو حنيفة: إن الغني من ملك نصابا. وقال الشافعي: قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. النوع الثاني: مسألة الفقير المحتاج القادر على الكسب، وهي المقصودة من الحديث، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام. وينظر فيمن يعطيه. هل يكون معينا ومساعدا على الحرام؟ أميل إلى هذا إذا تأكد من حاله. وإنما قبح الشارع السؤال، سواء أعطى المسئول السائل أم منعه لما يدخل على السائل من ذل السؤال، وعظم المنة إذا أعطي، ومن ذل السؤال والخيبة والحرمان إذا لم يعط، ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إذا أعطى، ومن الحرج إذا لم يعط. النوع الثالث: من يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه، وهذا النوع حرام باتفاق، وورد فيه وعيد شديد، ففي البخاري "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة" أي قطعة لحم، وفي مسلم "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا" وعند الترمذي "ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل، ومن شاء

فليكثر" وعند الطبري "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه -أي يبلى -فلا يكون له عند الله وجه". ملحوظة: يمكن أن يدخل في هذا النوع كثير من حاشية السلطان الذين يستكثرون عن طريقه من مال المسلمين دون عمل أو جهد يقابل ما حصلوا عليه وللمسألة تتمة تأتي في الحديث الآتي. 2 - كما يؤخذ من الحديث الحض على التكسب والسعي على الرزق من أي طريق مشروع، وإنما خص الاحتطاب بالذكر لتيسره وسهولته على عامة الناس في بيئة المخاطبين بالحديث، وله أشباه في البساطة وعدم الحاجة إلى رأس مال في كل بيئة، فذكره كمثل فقط، فلا يستدل بالحديث على شرف مهنة الاحتطاب، كما فهم البعض، إذ غاية ما في الحديث تفضيل الاحتطاب على السؤال، وليس فيه تفضيل الاحتطاب على بقية وسائل المكاسب. وقد تكلم الفقهاء في تفضيل بعض الحرف على بعض، فقال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصناعة، قال: ومذهب الشافعي أن التجارة أطيب، ثم قال: والأشبه عندي أن الزراعة أطيب، لأنها أقرب إلى التوكل. انتهى. ويمكن أن يضاف لما قال: أنها أنفع للآدمي وغيره، ولأنه لا بد في العادة أن يأكل من الزرع إنسان وحيوان وطير بغير عوض، فيحصل الزارع على أجر وإن لم يشعر. والذي نميل إليه أن الحرف لا تفاضل بينها لذاتها، وإنما تفضل الواحدة الأخرى بمقدار ما يحصل عليه صاحبها من أجر، حتى الذي يقوم بتدريس التفسير والحديث قد لا يفضل غيره إذا داخله عجب أو رياء أو نحو ذلك. 3 - حرص الإسلام على القوة المادية، وبناء الدنيا، بقدر حرصه على الطاعات والعمل للآخرة.

35 - عن عمر رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني فقال: "خذه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك". -[المعنى العام]- قد يعطي السلطان غنيا علم أنه يصرف ما يعطاه في سبيل الله، فيكون من السلطان إنفاقا في وجوهه المشروعة بواسطة، فتثاب الواسطة والسلطان معا، وكانت هذه وجهة نظر عمر بن الخطاب حينما فرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحدة ألفين، وفرض لعائشة عشرة آلاف، فلما سئل عن ذلك أرسل من يتحسس ما تفعل عائشة في عطائها، فرآها وقد فتحت الكيس، وأخذت

تقبض منه وتقول لجاريتها. أعطي هذا فلانة. أعطي هذا بيت فلان. حتى نفد ما في الكيس، فقالت لها جاريتها: ما أبقيت لنا شيئا نشتري به لحما نفطر عليه ونحن صائمتان؟ قالت لها: لو أذكرتني لفعلت. لقد استقى عمر بن الخطاب هذا المبدأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان حين يأتيه المال غير الزكاة يعطي منه بعض الأغنياء، فكان إن أعطى عمر بعض المال فقال عمر -تعففا -أعطه من هو أحوج مني إليه يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: لم أعطكه زكاة لفقرك، ولكن لتتموله وتتصدق منه. فقبله عمر وهو غير مستريح فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيل ما في صدر عمر، فقال: إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير متطلع إليه، ولم تسأله فخذه حلالا طيبا، وإذا أعطي سواك من هو أغنى منك ولم تعط أنت فلا تغضب، ولا تمكن عينيك إليه، ولا توجه نفسك نحوه ولا تقل في سرك: لماذا لم يعطني؟ ولا ليته أعطاني. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول) هذا التعبير يفيد ظاهره التكرار وكأن عمر كان يرد ما يعطاه بعد أن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخذ لكن هذا الظاهر غير مراد، فقد أوضحته رواية البخاري في الأحكام، ولفظها "حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه من هو أفقر مني فقال: خذه فتموله وتصدق به" فكان عمر يأخذ دون اعتراض، فلما اعترض وأجيب عاد يأخذ من غير اعتراض. (إذا جاءك من هذا المال) أي المال الذي يقسمه الإمام. (وأنت غير مشرف) الإشراف على الشيء التعرض له، والتطلع إليه، والحرص عليه. من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع: شرف. لذلك. (وما لا فلا تتبعه نفسك) فعل الشرط محذوف للعلم به من الكلام السابق أي وما لم يأتك فلا تتطلع إليه.

-[فقه الحديث]- قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست من جهة الفقر، ولكن من الحقوق. أهـ ونعتقد أن عمر كان يعلم ذلك، لكن عبارته "أعطه من هو أفقر مني" هي التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليه، وعمر لم يقصد الفقر الشرعي، وإنما قصد من هو أقل غنى عني. يؤكد أن المال ليس من الصدقات رواية "خذه فتموله فتصدق به" وقد اختلف العلماء في حكم أخذ العطية من السلطان بعد إجماعهم على أن الأمر في "خذه" أمر ندب لا وجوب. فقيل: يندب قبول عطية السلطان بشرط عدم إشراف النفس وعدم السؤال. وقيل: يندب قبول عطية السلطان وغير السلطان بالشرطين المذكورين ورجحه الحافظ ابن حجر، وقيل يحرم قبول عطية السلطان. قال الحافظ ابن حجر تعليقا على هذا الرأي: وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر. قال: وكراهة السلف أخذ عطية السلطان مطلقا جائرا أم غير جائر محمول على الورع. والتحقيق أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراما تحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع. اهـ ورخص جماعة في قبول عطية السلطان ولو كان جائرا، وكان ماله من حرام. قال ابن المنذر. واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود {سماعون للكذب أكالون للسحت} وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. أهـ.

باب أخذ الصدقة عند صرام النخل والصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم

والحق مع تحقيق الحافظ ابن حجر، وما ذكره ابن المنذر في المعاملات ذات المقابل، وموضوع النقاش في عطاء بدون مقابل، وشتان بين المسألتين، فلا تقاس هذه على تلك. -[ويؤخذ من الحديث فوق ذلك: ]- 1 - أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها. وإن كان غيره أحوج إليه منه. قاله الحافظ ابن حجر، وينبغي أن يضاف إليه: إذا كان الإمام عدلا تقيا. 2 - أن رد عطية الإمام ليس من الأدب، أي إذا كان كذلك عدلا نقيا. 3 - أن رد عطية الرسول صلى الله عليه وسلم لا تليق مهما كانت المعاذير. والله أعلم. باب أخذ الصدقة عند صرام النخل والصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم 36 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره حتى يصير عنده كوما من تمر فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بذلك التمر

فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه فقال: "أما علمت أن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الصدقة". -[المعنى العام]- لما كانت يد المتصدق هي العليا، وكانت اليد الآخذة هي السفلى حرم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذرية بني هاشم أن يأخذوا الصدقات، وحرم عليهم أن يأكلوا منها ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيتا من بيوته فوجد طعاما أو شرابا سأل من أين؟ فيقال: من بني فلان، فيقول: بأي صفة جاء؟ فإن قيل: صدقة لم يمد يده فيه، وأرسله إلى أهل الصفة أو دعاهم إليه، وإن قيل: هدية أكل أو شرب منه وأرسل إلى أهل الصفة يشاركونه فيه غالبا. وكان المسلمون في موسم قطع ثمار النخيل يرسلون زكاتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد، فينقلها إلى بيت المال، أو يوزعها في الحال، فتجمع عنده في المسجد يوما كومة كبيرة من التمر. وكان يصحب معه كثيرا أولاد بنتيه فاطمة وزينب، وصادف أن كان معه في هذه الحادثة الحسن والحسين -رضي الله عنهما -والحسين طفل، والحسن طفل أكبر منه، أخذا يلعبان في كومة التمر وعليها، والرسول صلى الله عليه وسلم مشغول عنهما، وبينما هم بالقيام حمل الحسن على كتفه صلى الله عليه وسلم، فسأل لعاب الحسن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى الطفل فإذا به يلوك تمرة في فمه، فأدخل صلى الله عليه وسلم أصبعه في شدق الحسن وأخرج التمرة وهو يقول له: كخ كخ, ارم ارم, إنا لا نأكل صدقة. إنا لا تحل لنا الصدقة. إن الصدقة لا تحل لأهل محمد. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (كان .... يؤتى بالتمر) "يؤتى" بالبناء للمجهول، أي يأتيه به أصحاب النخل بأنفسهم أو بعمالهم بصفة زكاة.

(عند صرام النخل) الصرام بكسر الصاد الجداد والقطاف وزنا ومعنى، أي قطع الثمر منه. (فيجيء هذا بتمره) الباء للمصاحبة، أي يجيء مصاحبا لتمره، أي لبعض تمره، مقدار الزكاة منه. (ويجيء هذا من تمره) "من" تبعيضية. (حتى يصير عنده كوما) بفتح الكاف وسكون الواو، معروف، والمراد هنا ما اجتمع من التمر، منصوب خبر "يصير" واسمها ضمير مستتر يعود على التمر، وروي بالرفع على أنه اسم "يصير" وخبرها "عنده". (فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه) في رواية للبخاري أن الآخذ الحسن ابن علي، وفيها عن أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كخ" بفتح الكاف وكسرها وسكون الخاء، وبكسر الخاء منونة وغير منونة. ست لغات اسم فعل، ومعناه ارتدع "وكخ" الثانية تأكيد للأولى. وفي نسخة "فجعله" أي المأخوذ. (أما علمت؟ ) همزة الاستفهام دخلت على ما النافية، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات. أي علمت، أي اعلم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - استدل به البخاري على أن صدقة التمر تؤخذ عند صرام النخل، وفي هذا يقول الله تعالى {وآتوا حقه يوم حصاده} وذهب البعض إلى أن هذه الكومة لم تكن زكاة واجبة، بل كانت من الصدقة المندوبة، قال الحافظ ابن حجر: وحديث الباب يشعر بأنه غير الزكاة. أهـ. ولعله يشير إلى أن الزكاة كانت تسلم للعاملين عليها, وما يأتي به الناس إلى المسجد صدقة مستحبة. 2 - واستدل بالحديث على منع محمد صلى الله عليه وسلم وآله من الأكل من الصدقة،

وينشأ عن هذا سؤالان: الأول: من المقصودون من آل محمد صلى الله عليه وسلم؟ الثاني: ما المراد من الصدقة وما حكم أكله منها؟ فعن السؤال الأول قال الشافعي: المراد هنا بنو هاشم وبنو المطلب أشركهم النبي صلى الله عليه وسلم في سهم ذوي القربى، ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم من هذا السهم, وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة. وعن أبي حنيفة ومالك. هم بنو هاشم فقط، وعن أحمد في بني المطلب روايتان. وعن السؤال الثاني نقل الخطابي الإجماع على أنه كان يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفرض والتطوع جميعا. لكن حكى غير واحد من الشافعية في التطوع قولان، ولأحمد قول كذلك، ولفظه: لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته صدقة الفطر وزكاة الأموال. والصدقة يصرفها الرجل على محتاج يريد بها وجه الله، فأما غير ذلك فلا. أليس يقال: كل معروف صدقة. قال الماوردي: يحرم عليه كل ما كان من الأموال متقوما، وقال غيره: لا تحرم عليه الصدقة العامة، كمياه الآبار وكالمساجد. واختلف: هل كان تحريم الصدقة من خصائصه صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء؟ أو كلهم في ذلك سواء؟ قولان. قال ابن قدامة. لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة. كذا قال، لكن خلافا حكى، فقد نقل الطبري عن أبي حنيفة أنه يجوز لهم أخذ الصدقة إذا حرموا من سهم ذوي القربى، وهو وجه للشافعية، وحكي عن أبي يوسف أنه يحل من البعض منهم للبعض، لا من غيرهم، وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال: الجواز، والمنع، والجواز في صدقة التطوع دون الفرض، والجواز في الفرض دون صدقة التطوع. قال الحافظ ابن حجر: وأدلة المنع ظاهرة من حديث الباب ومن غيره، ولم أر لمن أجاز مطلقا دليلا.

3 - وفي الحديث دفع الصدقات إلى الإمام. 4 - والانتفاع بالمسجد في الأمور العامة. 5 - وجواز إدخال الأطفال المساجد. 6 - وتأديبهم بما ينفعهم، ومنعهم مما يضرهم، ومن تناول المحرمات، وإن كانوا غير مكلفين ليتدربوا على ذلك. 7 - وفيه الإعلام بسبب النهي. 8 - ومخاطبة من لا يميز، لقصد إسماع غيره من المميزين، فإن الحسن كان إذ ذاك طفلا لا يميز. والله أعلم.

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر 37 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". -[المعنى العام]- للمسلمين عيدان، عيد الفطر، وعيد الأضحى، والعيد من شرائعه الفرح والسرور، والتمتع بالمباح من زينة الحياة الدنيا، لبس الجديد، والتوسع في الطعام والشراب، وإدخال البهجة والانشراح على الأطفال والصبية، فإذا ما أضيف إلى ذلك أن الناس لا يعملون ولا يتكسبون أيام العيد غالبا كانت الحكمة تقتضي مواساة الفقراء والمساكين في العيدين مواساة فوق مواساة بقية العام. من هنا شرعت الأضحية في عيد الأضحى، وجعل للفقير حق فيها وشرعت زكاة الفطر في عيد الفطر، وجعلت حقا للفقير، وقد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدرها، كما حدد وقدر نصاب الزكاة في الأموال وما يخرج منها. {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.} قدرها صاعا من القوت، من تمر أو شعير أو غيرهما من الأقوات، وهو ما يعادل "اثنين كيلو ونصف كيلو" تقريبا بالميزان المتعارف عليه في أيامنا، وما يعادل قدحين بالكيل المصري عن المسلم، وعن كل فرد يعوله المسلم، وتجب عليه نفقته صغيرا أو كبيرا، غنيا كان أو يملك قوت يومه.

وبهذه المواساة اليسيرة يتم التكافل الاجتماعي، وتتم الصلة بين أفراد الأمة ويستغني الفقراء عن أجر العمل أيام العيد، ويستغني الفقير عن ذل السؤال ويشارك الأغنياء هو وأولاده بهجتهم، يستطيع أن يبيع الأقوات ويشتري ما يحتاجه ويستطيع أن يشتري آجلا على أساس أنها مضمونة، ويلتقي المسلمون غنيهم وفقيرهم على مائدة البهجة والسرور. -[المباحث العربية]- (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفرض القطع، فإن استعمل في قطع الطلب، أو جعل الطلب مقطوعا مؤكدا أريد به الوجوب الشرعي، وإن استعمل بمعنى التقدير كفرائض المواريث كان معناه التحديد، والمعنى على الأول أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم تبليغا عن ربه زكاة الفطر، والمعنى على الثاني حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقادير زكاة الفطر مبلغا عن ربه. (زكاة الفطر) زاد مسلم "من رمضان" فالمقصود الفطر من صيام رمضان وأضيفت للفطر لكونها تجب بالفطر، وقال ابن قتيبة: المراد صدقة النفوس، مأخوذة من الفطرة التي هي أصل الخلقة. والأول أظهر. ومن أسمائها زكاة رمضان، وزكاة الصوم، وصدقة الرؤوس، وزكاة الأبدان. (صاعا) مفعول ثان لفرض على تضمينه معنى جعل، أو حالا، أو بدلا من "زكاة الفطر". (من تمر) تمييز كيل، مجرور بمن. (على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير) جاءت مزدوجة على التقابل للاستيعاب، لا للتخصيص. (من المسلمين) متعلق بمحذوف حال من (العبد) وما عطف عليه، أي فرض على جميع الناس من المسلمين. (قبل خروج الناس للصلاة) "أل" في الصلاة للعهد، أي لصلاة العيد.

-[فقه الحديث]- يتعرض الحديث لحكم زكاة الفطر, وعلى من تجب؟ ومن أي الأنواع تخرج؟ ومتى تجب؟ وما أفضل أوقات إخراجها؟ وجمهور علماء المسلمين على أن زكاة الفطر فرض، حتى نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك. لكن الحنفية يقولون بوجوبها بناء على قاعدتهم من التفرقة بين الواجب والفرض، وأن الواجب أقل من الفرض. ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية، وأولوا قوله "فرض" في الحديث، وقالوا: معناها قدر. قال ابن دقيق العيد: هو أصله في اللغة، لكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب، فالحمل عليه أولى. أهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده تسميتها زكاة. وقوله في الحديث "على كل حر وعبد" من ألفاظ الإيجاب، والتصريح بالأمر بها في حديث "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر" ولدخولها في عموم قوله تعالى {وآتوا الزكاة} وقوله تعالى {قد أفلح من تزكى} وثبت أنها نزلت في زكاة الفطر. والصحيح أن زكاة الفطر فرضت في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين. أما على من تجب؟ فقد بدأ الحديث بالعبد، لأنه لا يجب عليه في الشرع ماليات، فنص عليه أولا لتأكيد هذا المعنى، ففي صحيح مسلم "ليس في العيد صدقة إلا صدقة الفطر" وفي رواية له "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق" ومقتضاه أنها على السيد، لكن هل تجب على السيد ابتداء، أو تجب على العبد ثم يتحملها السيد؟ وجهان. وتجب على المرأة بنص الحديث، سواء كان لها زوج أم لا. بهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي وأحمد: تجب على زوجها إلحاقا بالنفقة، واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة. وتجب على الصغير والكبير، لكن المخاطب بزكاة الصغير وليه، فوجوبها على هذا الصغير، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.

هذا قول الجمهور، وفي رأي ضعيف أنها على الأب مطلقا، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه، وفي رأي أضعف لا تجب إلا على من صام. ولا تجب على الجنين وإن كان أحمد يستحب أن يخرج عنه ولا يجب. وتجب على من يملك مقدار الزكاة فاضلا عن قوت يومه وقوت من تلزمه نفقته في ذلك اليوم، فهي على هذا تجب على الفقير للفقير، وعن الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصابا، واعتمدوا على حديث "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" وقالوا: الغني هو من ملك نصابا ورد عليهم بأن زكاة الفطر بدنية وليست مالية فلا يعتبر فيها النصاب. أما ما يخرج زكاة فالحديث ينص على التمر والشعير، وأخرج ابن خزيمة عن ابن عمر قال "لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير، ولم تكن الحنطة" وعند مسلم عن أبي سعيد "كنا نخرج من ثلاثة أصناف. صاعا من تمر، أو صاعا من أقط -هو الجبن أو اللبن الجاف المتجمد -أو صاعا من شعير" وعند البخاري عن أبي سعيد قال "كنا نعطيها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السمراء -أي الحنطة -قال: أرى مدا من هذا عدل مدين" أي جعل القمح نصف صاع. قيل أراد أبو سعيد بالطعام الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز. وقد اختلف الفقهاء في مقدار القمح، فالحنفية على أنه يكفي فيه نصف صاع، والشافعية على أنه كغيره صاع، وفي المسألة نقاش طويل نمسك عنه، ونفضل الأخذ بالأحوط دفع الصاع، فإن كان الواجب نصفه كان النصف الآخر تطوعا. وظاهر الحديث أن وقتها قبل خروج الناس إلى صلاة العيد. قالوا: وبعد صلاة الفجر، وحمله الشافعي على الاستحباب، وقال بجواز إخراجها طول يوم العيد، لصدق اليوم على جميع النهار، ووقع في صحيح ابن خزيمة عن أيوب "قلت متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل.

قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين" وفي رواية الموطأ" قبل الفطر بيومين أو ثلاثة" وأخرجه الشافعي، وقال: هذا حسن، وأنا أستحبه، وعند جمهور الشافعية: يجوز إخراجها من أول شهر رمضان وعند الحنفية: يجوز تقديمها وإخراجها قبل حلول رمضان. والله أعلم.

كتاب الحج

كتاب الحج باب فضل الحج المبرور 38 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". -[المعنى العام]- ما أشبه الحج بالموقف العظيم، إذ يترك الإنسان من أجله أهله ووطنه وولده، ويتحمل في سبيل إجابة أمر الله الصعاب والمشاق، ويتخلص من أعمال الدنيا ويدع الكثير من ملاذها وشهواتها، ويكتفي من لباسها بما يشبه الأكفان، وينشغل عن معاصيها بذكر الله في أيام معلومات. لهذا كان مكفرا للذنب، ولهذا جعله الشارع نافيا للسيئات نفي الكير لخبث الحديد، بشرط أن تراعي آدابه وأن تلاحظ الغاية المقصودة منه، وأن تنقي هذه العبادة السامية من الفحش في القول، ومن كثرة الجدال مع الرفيق والبائع والأجير، فمن حج حجا مبرورا، نقيا مقبولا صار كالطفل المولود في خلوه من الذنوب. -[المباحث العربية]- (من حج) الحج في اللغة القصد، وقال الخليل: هو كثرة القصد إلى معظم، وفي الشرع: القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة، ومفعول "حج" محذوف تقديره كما جاء في رواية أخرى "من حج هذا البيت" وجاء

في رواية "من أتى هذا البيت" وهي تشمل الإتيان للحج أو العمرة. (فلم يرفث) الفاء عاطفة على فعل الشرط، وفاء "يرفث" مثلثة في الماضي والمضارع، من باب نصر، وضرب، وعلم، والأفصح فتحها في الماضي وضمها في المضارع، والرفث يطلق على الجماع، وعلى التعريض به، وعلى الفحش في القول، والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع -قال ابن حجر: والذي يظهر أن المراد في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي. (ولم يفسق) أي لم يأت بمعصية، وقال سعيد بن جبير: لم يسب. (رجع) بمنى عاد من حجه، أو بمعنى صار من ذنوبه، وهو جواب الشرط. (كيوم ولدته أمه) "يوم" بالجر على الإعراب، وبالفتح على البناء، وهو المختار، لإضافته إلى مبنى، والجار والمجرور حال على كون "رجع" بمعنى عاد وخبر له على تضمينه معنى صار، أي صار مشابها لنفسه في يوم ولدته أمه في البراءة من الذنب. -[فقه الحديث]- فرض الحج سنة ست من الهجرة على رأي الجمهور، وقيل سنة خمس وقيل: سنة تسع، وشذ من قال: فرض قبل الهجرة -ولما كان قصد البيت قد يكون لغرض آخر غير أداء أعمال الحج خصص هذا الجزاء بمن قصده استجابة لأمر الله، فقال "من حج لله" وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" -وفي الحديث اكتفاء كما قيل: حيث لم يذكر الجدال اعتمادا على ذكره في الآية، أو على أن الجدال الفاحش داخل في عموم الرفث، والجدال الحسن وكذا المستوى الطرفين لا يؤثر في مغفرة ذنب الحاج، وظاهر قوله "كيوم ولدته أمه" يفيد غفران الصغائر والكبائر

والتبعات التي هي حقوق العباد وبهذا الظاهر قيل، ويؤيده ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". وقوله: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة" وقال الطبري: إنه محمول على من مات وعجز عن الوفاء، وقال الترمذي: هو مخصوص بالمعاصي -أي بالذنوب -المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، فمن كان عليه صلاة أو كفارة أو نحوهما من حقوق الله لا تسقط عنه، لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنوب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج، لا هي أنفسها. فلو أخرها بعد الحج تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق. أهـ. وعليه فالذنوب المتعلقة بحقوق العباد كذنب الغصب والتعدي بالقتل والسب لا يسقطه إلا استرضاء صاحب الحق أو عفو الله. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على جعل الطاعات خالصة لله. 2 - فضل الحج على سائر الطاعات. 3 - الحث على صفاء العبادة من مكدرات الذنوب. 4 - أن بعض الأعمال تكفر الذنوب.

باب التمتع والقران والإفراد

باب التمتع والقران والإفراد 39 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برا الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل قال حل كله". -[المعنى العام]- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه عام حجة الوداع ملبيا بالحج، فقدموا مكة صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أعظم الذنوب، بل كانوا يضمون المحرم لأشهره بعد أن يستحلوه ويسمونه صفرا، وكانوا يقولون: لا تحل العمرة إلا إذا شفيت جروح الإبل التي حملت الحجيج، وإلا إذا انمحى أثر سيرها على الرمال، وذلك لا يكون إلا بعد انقضاء صفر. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحارب هذه العقيدة الفاسدة بالقول والعمل فأمر أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة، وأن يأتوا بأفعالها، ثم يتحللوا، ثم يهلوا بالحج، وكبر على الصحابة هذا الفعل، لما رسخ في أذهانهم من تحريم العمرة في أشهر الحج، فطيب الرسول قلوبهم، وتلطف بهم، وقال "افعلوا ما أمرتم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم" ففعلوا، ثم سألوا عما يحل لهم بعد عمرتهم، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأنه يحل لهم كل ما كان محرما عليهم حتى غشيان النساء. -[المباحث العربية]- (يرون) أي يعتقدون، والضمير لأهل الجاهلية. (أن العمرة) في الكلام مضاف محذوف، والتقدير أن فعل العمرة.

(من أفجر الفجور) هو من باب أكذب الكذب، والقصد منه المبالغة في المعنى، حيث جعل الفجور كأنه يفجر، والمعنى أن ذلك من أعظم الذنوب والفجور الانبعاث في المعاصي. (ويجعلون المحرم صفرا) أي يسمون المحرم صفر، وصفر في جميع الأصول من الصحيحين بدون ألف، على المشهور من لغة ربيعة، التي تكتب المنصوب بغير ألف، كصورة المرفوع. ومع هذا لا بد من قراءته منصوبا منونا، لأنه مصروف بلا خلاف. قاله النووي والقاضي عياض. (ويقولون) جملتا "يجعلون" و"يقولون" معطوفتان على "يرون". (إذا برأ الدبر) برأ بالهمزة وبدونها، ومعناه صح وشفي، والدبر بفتح الدال المشددة، والباء المفتوحة الجرح، وال فيه للعهد، أي إذا شفي جرح ظهور الإبل الحادث من عناء الحمل في الحج. (وعفا الأثر) أل في الأثر للعهد، والمعنى ذهب وانمحى أثر سير الإبل من الطريق بعد رجوعهم من الحج بسبب الأمطار أو طول الأيام مع الهواء ويحتمل أن يكون المراد من الأثر أثر هذه الجروح، وفي رواية "وعفا الوبر" ومعناه وكثر وبر الإبل الذي نحلته الرحال في الحج، وهذه الألفاظ الأربعة الدبر. والأثر. صفر. اعتمر -تقرأ بتسكين الراء لإرادة السجع. (حلت العمرة لمن اعتمر) أي صار الإحرام بالعمرة لمن أراد أن يحرم بها جائزا، ففي لفظ "اعتمر" مجاز مرسل. (صبيحة رابعة) أي صبيحة ليلة رابعة من ذي الحجة. (مهلين بالحج) نصب على الحالية، والمعنى محرمين ملبين به. وفي رواية "وهم يلبون بالحج". (أن يجعلوها) الضمير المنصوب للحجة التي أهلوا بها. (فتعاظم ذلك عندهم) أي كبر على الصحابة الاعتمار في أشهر الحج. (أي الحل) "أي" اسم استفهام، منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل

محذوف، تقديره: نحل أي الحل؟ وفي رواية "أي الحل نحل" فأي مفعول مطلق مقدم للفعل المذكور. -[فقه الحديث]- روي عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون .... إلخ. فقد عينت لنا هذه الرواية الذين قالوا، وإنما جعلوا العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور لتعظيم أشهر الحج، فمنعوا أن يوقعوا فيها أي عمل يشبهه، وهذه المبالغة من مبتدعاتهم الباطلة التي لا أصل لها -وكانوا يفرون من توالي ثلاثة أشهر محرمة، القعدة والحجة والمحرم، فيضيق عليهم ما اعتادوه من إغارة بعضهم على بعض، فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه. ويؤخرون تحريم المحرم إما إلى صفر الحقيقي، وإما إلى شهر آخر غير معين، وهذا الذي ضللهم الله به في قوله تعالى: {إنما النسيء} -تأخير حرمه شهر إلى شهر آخر، أو الزيادة في الشهور والأيام- {زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} الآية- ومرادهم من صفر في قولهم: "وانسلخ صفر" الشهر الذي سمي صفرا وحقيقته المحرم- ولما كانوا لا يستقرون ببلادهم في الغالب، ولا يبرأ وبر إبلهم إلا عند انسلاخه ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية، وجعلوا أول أشهر الاعتمار الشهر الذي هو في الأصل صفر، وقد تسبب عن اعتقادهم الفاسد وقولهم الخطأ أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج وجعله عمرة في أشهره، لإبطال مدعاهم. ولذا جاء في بعض الروايات "فقدم" بإثبات فاء الترتيب وهو الوجه الصحيح كما يقول ابن حجر، ولا يلزم من كونهم مهلين بالحج ألا يكونوا قارنين، فلا وجه لمن يستدل بالحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا، أو على تفضيل الإفراد. وقد أجمعوا على أن أول أشهر الحج شوال، وهي ثلاثة بكمالها عند مالك وأحمد، وشهران وعشر ذي الحجة بدخول يوم النحر عند أبي حنيفة،

ولا يدخل يوم النحر عند الشافعي على المشهور، والإهلال بالعمرة في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في نفس السنة هو المسمى بالتمتع، والذي قال الله فيه {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وفي تفضيله على أخويه أو تفضيل أحدهما عليه خلاف بين الفقهاء، وأما فسخ الحج إلى العمرة فقد نقل القاضي عياض عن جمهور الأئمة أنه كان خاصا بالصحابة في تلك السنة لإبطال اعتقاد الجاهلية، وليرد الرسول بذلك ردا عمليا على الذين يمنعون العمرة في أشهر الحج، وإنما كبر ذلك على الصحابة لمخالفته ما علق بأذهانهم ما ابتدعه لهم أسلافهم، من اعتقاد أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وقوله "أي الحل" مرتب على محذوف تقديره فتعاظم ذلك عندهم ثم اقتنعوا فجعلوا حجهم عمرة، فأتوا بأفعالها فأرادوا التحلل منها فقالوا: أي الحل؟ وهذا القول يشعر بأنهم كانوا يعلمون أن للحج تحللين، تحللا أصغر، وتحللا أكبر، وإنما سألوا عن أي التحللين مع أنهم معتمرون والعمرة ليس لها إلا تحلل واحد إما لأنهم كانوا محرمين بالحج أو لا فظنوه منسحبا، وإما لأنهم ظنوا أن العمرة كالحج لها تحللان. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز الاعتمار في أشهر الحج. 2 - جواز التمتع. 3 - محاربة الاعتقادات الفاسدة بالقول والعمل. 4 - منع التلاعب بالشهور وبأسمائها، لأنه عد من أعمالهم الخاطئة.

40 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم: "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة" فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: "افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا". -[المعنى العام]- يتحدث جابر عن حجة الوداع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساق معه الهدي،

وأهل الصحابة بالحج مفردا، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتحللوا من إحرامهم بالحج بعمل عمرة، فيطوفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا والمروة، ويقصروا، فإذا جاء اليوم الثامن من ذي الحجة أحرموا بالحج من مكة، ولما تعجب الصحابة من هذا الأمر قال لهم صلى الله عليه وسلم لولا أني سقت الهدي لفعلت الذي أمرتكم به، أما وقد ساق الهدي فلا يتحلل حتى يذبح الهدي في محله، فطابت نفوسهم ورسخت عقيدتهم، وفعلوا ما أمروا به. -[المباحث العربية]- (أنه حج) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل فعل محذوف تقديره، روي عن جابر حجه مع النبي صلى الله عليه وسلم. (البدن) بضم الباء، وسكون الدال وضمها، جمع بدنه، وهي الناقة. (وقد أهلوا بالحج مفردا) "مفردا" بفتح الراء حال من "الحج" والجملة حال أيضا. (وبين الصفا والمروة) الظرف متعلق بمحذوف تقديره، وبالسعي بين الصفا والمروة. (أقيموا حلالا) نصب على الحال، بمعنى محلين. (إذا كان يوم التروية) "كان" تامة، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء، ويتزودون منه ليوم عرفة وما بعده. (فأهلوا بالحج) بكسر الهاء، أي فأحرموا بالحج من مكة. (واجعلوا التي قدمتم بها متعة) أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة، وقد أطلق على العمرة متعة مجازا مرسلا، لأن المتعة هي الإتيان بالعمرة ثم بالحج، والمراد هنا العمرة فقط. (كيف نجعلها) كيف اسم استفهام في محل نصب على الحال والاستفهام للتعجب.

(ما أمرتكم) "ما" موصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما أمرتكم به. (لا يحل مني حرام) بكسر حاء "يحل" والمعنى: لا يحل شيء مني حرم علي، ورواية مسلم "لا يحل مني حراما" بالنصب على المفعولية، لكن بضم ياء "يحل" وكسر حائها، وفاعلها محذوف، تقديره: لا يحل طول المكث مني شيئا حراما. -[فقه الحديث]- موضوع حديث جابر هذا هو موضوع الحديث السابق، غير أنه نص فيه على أن الإهلال كان بالحج مفردا، وهذا النص يتعارض مع رواية عروة عن عائشة "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج" وقد ضعف بعض المحدثين رواية عائشة، واعتمدوا رواية جابر، وجمع بعضهم بأن رواية جابر "أهلوا" ليس فيها نص على إجماعهم على الإفراد، فيحتمل أن كلامه عن البعض الذي كان حوله، قال النووي: والصواب الذي نعتقده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، لأنه لم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في تلك السنة بعد الحج، ولا شك أن القران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سنته، وإنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتقصير دون الحلق لأنهم كانوا سيهلون بعد قليل بالحج، فأخر الحلق ليتوفر الشعر، لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - سؤال المتعلم وتعجبه إذا لقي أمرا غريبا عليه. 2 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تطييب قلوب أصحابه وتلطفه وحلمه عليهم. 3 - فيه دليل للقائل بأن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.

باب ما ذكر في الحجر الأسود

باب ما ذكر في الحجر الأسود 41 - عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. -[المعنى العام]- مقاصد سامية يرمي إليها عمر بن الخطاب بتقبيله الحجر الأسود، وقوله: والله إني لأعلم وأعتقد أنك حجر، ومن شأن الأحجار أنها لا تضر ممتنعا عنها، ولا تنفع مقبلا لها، وما أقدمني على تقبيلك إلا الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في فعله، يعود المسلمين على التسليم الحسن للشارع في أمور الدين، وأن العلم بها حجة على من بلغته وإن لم يقف على عللها، وينفي ضرره ونفعه ليحمي العقيدة الإسلامية من أن شوبها زيغ أو إشراك بسبب التقبيل، وينفي الشبهة عن المسلمين بإثبات علمهم بحقائق الأمور، حتى لا يرميهم المشركون بسوء الفهم وقلة الإدراك، فجزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء.

-[المباحث العربية]- (لا تضر ولا تنفع) الجملة في محل رفع صفة لحجر. (يقبلك) الجملة في محل النصب على الحال. -[فقه الحديث]- يقال إن إبراهيم عليه السلام لما بنى القواعد وبلغ مكان الركن قال: يا إسماعيل اطلب لي حجرا حسنا أضعه هنا فجاءه بهذا الحجر، الذي يختلف في لونه عن بقية الأحجار، فهو أسود مائل إلى الحمرة، ويختلف كذلك في خاصيته من الصلابة والنعومة، فقد قاوم الأجيال الطويلة عوامل الطبيعة، وقاوم احتكاك ملايين الأيدي وتمسحها، وقاوم الحريق، وقاوم المنجنيق، وقاوم تعدد الهدم والبناء، ولو كان حديدا لفنى مع هذه العوامل، وقد حافظ عليه بناة الكعبة جميعا، بل حافظوا على وضعه في المكان الذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام، وفي زاوية الكعبة من جهة الشرق على ارتفاع ذراعين وثلثي ذراع من الأرض، وعظموه تعظيما خاصا، حتى كادوا يقتتلون على وضعه لولا حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبسطه لردائه وحمل كل قبيلة له من طرف، وسواء كان هذا التعظيم لما ورد فيه من الأحاديث التي قالها عنها المحدثون: إنها لا تخلو من ضعف، أو كان للتعبد فهو تعظيم شرعي بلا خلاف. ولما كان الناس حديثا عهدهم بعبادة الأصنام خشي عمر رضي الله عنه أن يظن الجهال أن استلامه وتقبيله من باب تعظيم الأحجار، كالذي كانت تفعله العرب، فأراد أن يعلمهم أن استلامه وتقبيله لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل والوقوف عند أمر نبيه، وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه وتقبيله مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم للأصنام، لأنهم كانوا يعتقدون فيها الضر والنفع، أراد عمر ذلك فجاءه في موسم الحج ليبلغ قوله أكبر عدد ممكن من المسلمين، فقبله، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع والظاهر أنه خاطب الحجر بهذا وهو جماد لا

يخاطب ليسمع الحاضرين، فيشيع هذا في الموسم، فيشتهر في البلدان، ويحفظه من تأخر في الأقطار، ومراده بهذه العبارة أنه لا يضر ولا ينفع بذاته، فلا يمنع من أن المقبل والمستلم ينتفع بالثواب من حيث كونه ممتثلا لأوامر الشرع. قال الحافظ ابن حجر. وإنما شرع تقبيله اختبارا وابتلاء، ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. يقول عمر: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ومعناه لولا الاقتداء لم يحصل مني تقبيل لك، فكأنه خرج من بين الأحجار باعتبار تقبيله صلى الله عليه وسلم فصار جنسا آخر، لأنهم قد ينزلون نوعا من أنواع الجنس بمنزلة جنس آخر، باعتبار اتصافه بصفة خاصة به، لأن تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذوات، والسنة أن يستلمه الزائر فيمسحه ويقبله بفمه من غير صوت، فقد كان الرسول يضع شفتيه عليه طويلا ولا يسمع له صوت. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن تقبيل الحجر الأسود سنة. 2 - اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم تعلم الحكمة فيه. 3 - دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته. 4 - بيان السنن بالقول والفعل. 5 - أن الإمام إذا خشي من فعله فساد اعتقاد بادر ببيان الأمر وتوضيح الحكم. 6 - منع تقبيل ما لم يرد الشارع بتقبيله من الأحجار وغيرها، فلا يجوز تقبيل الأعتاب والأبواب وما يوضع على القبور من الأستار.

باب سقاية الحاج

باب سقاية الحاج 42 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال: "اسقني" قال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال: "اسقني" فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال: "اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه -يعني عاتقه -وأشار إلى عاتقه. -[المعنى العام]- تواضع محمود، وتشريع سام أن يشرب الرسول الكريم مما تحركت فيه أيدي الناس، ومن الدلو الذي يشرب منه الناس، وأن يصر على ذلك أمام عروض التكريم، جاء صلى الله عليه وسلم إلى سقاية الحاج وعليها العباس فقال: اسقني: قال العباس لابنه: اذهب يا فضل إلى البيت فأت رسول الله بشراب أطيب من هذا، فقال النبي الكريم: لا تفعل. اسقني من هذا، قال: يا رسول الله، إن الناس يجعلون أيديهم فيه، أفلا نسقيك من بيوتنا؟ قال: لا، ولكن اسقني مما يشرب الناس، ونزل العباس على رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم وناوله الدلو فشرب، ثم أتى زمزم وبنو عبد المطلب يخرجون ماءها ويسقون الناس فشجعهم وامتدحهم بقوله: اعملوا وجدوا، فإنكم على عمل صالح، ولولا خشيتي من تزاحم الناس عليكم ليقتدوا بي لنزلت عن دابتي وعملت معكم،

ولحملت الحبل على عاتقي كما تحملون ولسقيت الناس بيدي كما تسقون. -[المباحث العربية]- (السقاية) بكسر السين تطلق على ما بيني للماء من الأحواض، وتطلق على إناء الشراب، ومنه قوله تعالى: {جعل السقاية في رحل أخيه} وهي الصواع الذي كان الملك يشرب فيه، وتطلق بمعنى المصدر الذي هو السقي، ومنه قوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج ... } والسقاية المرادة هنا هي سقاية الحاج وكانت حياضا من أدم- جلد مدبوغ -في فناء الكعبة. كان عبد مناف يحمل الماء في القرب إلى مكة ويسكبه فيها ليشرب الحجاج، ثم فعل ذلك ابنه هاشم من بعده ثم عبد المطلب، فلما حفر زمزم كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس، ثم ولي السقاية من بعده ولده العباس، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا فلم تزل بيده حتى قام الإسلام، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات العباس أراد على أن يأخذها من عبد الله ابنه فقال طلحة: أشهد لقد رأيت أباه يقوم عليها وإن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة. فكف علي عن السقاية، فهي اليوم لبني العباس. (فاستسقى) لسين والتاء للطلب، أي طلب الشراب. (يا فضل. اذهب إلى أمك) الفضل بن العباس شقيق عبد الله، وأمه لبابة بنت الحارث الهلالية. (زمزم) بفتح الزايين وسكون الميم بينهما، وهي العين التي نبعت بركضة جبريل تكريما لإسماعيل عليه السلام، سميت بذلك لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على وجه الأرض، وقيل سميت بذلك لكثرة مائها، يقال: ماء زمزوم وزمزام أي كثير، قال ابن هشام. الزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع. ثم دفنتها جرهم عند نفيهم من مكة، فاندرس موضعها، فمنحها الله عبد المطلب، فحفرها بعد أن بينها الله له في المنام بعلامات ولم تزل ظاهرة إلى الآن.

(وهم يسقون) مفعوله محذوف، تقديره، يسقون الناس، والضمير المرفوع لبني عبد المطلب، كما جاء في رواية جابر "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب .... " الحديث وجملة "وهم يسقون" حال. (ويعملون فيها) أي ينزحون الماء منها. (لولا أن تغلبوا) بالبناء للمجهول، أي لولا أن يغلبكم الناس على هذا العمل إذا رأوني قد عملته لرغبتهم في الاقتداء بي فيغلبوكم بالمكاثرة لنزلت عن راحلتي وشاركتكم، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد قصر السقاية عليهم، وألا يشاركوا فيها. -[فقه الحديث]- كرر الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الشرب وكرر العباس الاعتذار. كرر الرسول طلب الشرب رغبة منه في مشاركة الناس شرابهم تواضعا منه صلى الله عليه وسلم، وتطييبا لنفوسهم وترغيبا لهم فيه، وكرر العباس الاعتذار ترفعا بالنبي الكريم عن أن يشرب مما لاقته أيدي الناس، فقد روي عن عكرمة أن العباس قال للرسول صلى الله عليه وسلم: إن هذا قد مرث -أي حرك باليد حتى تفتت الزبيب وتفرق في الماء: أفلا أسقيك من بيوتنا؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ولكن اسقني مما يشرب الناس، فناوله العباس الدلو، فذاقه فقطب لحموضته، ثم دعا بماء فكسره، ثم شرب، ثم قال: "إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء" وعلى هذا فلا تعارض بين قوله هنا "فشرب" وما ورد في رواية أخرى "فقطب بعد أن ذاقه ثم مجه" وقد روي في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرة، ففي مسلم "ماء زمزم طعام طعم" زاد الطيالسي "وشفاء سقم" وفي المستدرك "ماء زمزم لما شرب له" وروى البيهقي "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن سقاية الحاج خاصة ببني العباس.

2 - وأن السقايات العامة كالآبار والصهاريج يتناول منها الغني والفقير، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب منها، ولا تحل له الصدقات، فهي للغني هدية وللفقير صدقة. 3 - وأنه لا يكره طلب السقي من الغير. 4 - ولا يكره رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضه مصلحة أولى منه. 5 - وفيه الترغيب في سقي الماء خصوصا ماء زمزم. 6 - وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم. 7 - وحرص أصحابه على الاقتداء به. 8 - وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. 9 - وأن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله صلى الله عليه وسلم من الشراب الذي غمست فيه الأيدي.

كتاب العمرة وفضلها

كتاب العمرة وفضلها 43 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". -[المعنى العام]- يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإكثار من الاعتمار بأن كل عمرة تكفر الذنوب الواقعة بينها وبين سابقتها كما يرغب في الحج المبرور الذي يخلص لوجه الله فيخبر بأن جزاءه الجنة، وأعظم به من جزاء لعمل ميسور خصوصا في هذه الأزمان التي كثر فيها المال، وتوفرت فيها وسائل الانتقال. -[المباحث العربية]- (العمرة) في اللغة: الزيارة. يقال: اعتمر فهو معتمر، أي زار وقصد، وقيل: إنها مشتقة من عمرة المسجد الحرام بالناس، وفي الشرع: زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة. (إلى العمرة) إلى بمعنى "مع" قاله ابن التين، كما في قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} وقوله {من أنصاري إلى الله).} (ليس له جزاء إلا الجنة) بنصب الجنة على الاستثناء، وبرفعه على البدلية من جزاء، لأن الكلام تام منفي.

-[فقه الحديث]- قال الشافعي العمرة سنة، لا نعلم أحدا رخص في تركها: وعن أحمد أنها واجبة استدلالا بقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} أي أقيموها، والأمر للوجوب، وبما روي "الحج والعمرة فريضتان". وبما جاء في حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، إذ وقع فيه "وأن تحج وتعتمر" وكان ابن عباس يقول: والله إنها لقرينتها في كتاب الله، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوع وهو قول الحنفية، احتجاجا بما رواه الترمذي من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: لا وأن تعتمروا أفضل" وبما رواه ابن ماجه" الحج جهاد، والعمرة تطوع" ويقولون في الآية: إنها تعرضت لإكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، على أن شعبة قرأ "والعمرة لله" برفع العمرة -قال ابن عبد البر: والمراد من الحديث تكفير الصغائر دون الكبائر، وذهب بعض العلماء إلى التعميم "راجع الحديث 38" وعلى القول بتكفير الصغائر فقط فهناك إشكال بأنها مكفرة باجتناب الكبائر بنص القرآن، ورفع بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد، فتغايرا من هذه الحيثية، وظاهر الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة لأنها هي التي وقع الخبر عنها أنها تكفر، ولكن الظاهر من حيث المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفر ما قبلها إلى العمرة السابقة فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر. والتحقيق أن التكفير بهما معا، فقد سبق أن قلنا: إن "إلى" بمعنى مع، والحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم، وقيل هو المتقبل، وقيل هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق وقيل: هو الذي لا تعقبه معصية، وروي "ما بر الحج يا رسول الله؟ قال: إفشاء السلام، وإطعام الطعام" وفي رواية "وطيب الكلام". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الأعمال الصالحة تكفر الذنوب. 2 - الحث على الإكثار من العمرة.

3 - الحث على تصفية الحج من شوائب الذنوب. 4 - أن الحج لا يقتصر ثوابه على تكفير الذنوب بل يدخل الجنة. 44 - عن أنس رضي الله عنه أنه سئل: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربع عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة -أراه - حنين قلت: كم حج؟ قال: واحدة؟ -[المعنى العام]- سئل أنس بن مالك الصحابي الجليل الكثير الملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم عن عدد عمر الرسول صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد الهجرة، فقال: أربعا: عمرة الحديبية التي أحرموا بها ولم يتموها لصدهم عنها من قريش، وعمرة السنة التالية التي قاموا بها بناء على نصوص صلح الحديبية. وعمرة الجعرانة عقب قسمة غنائم حنين بعد فتح مكة، وعمرة مع حجته، قال السائل: وكم مرة حج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأجابه أنس: حجة واحدة هي حجة الوداع. وفي هذا دليل واضح على حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إحراز أكبر عدد ممكن من العمر، فما تركها عاما منذ قدر عليها ومكن منها مع مشقة السفر وعسر الطريق، فما أعظم الفارق بين حرص الرسول صلى الله عليه وسلم وبين تقصير المسلمين القادرين الذين

يقضون الصيف في بلد شمالي والشتاء في بلد استوائي ثم لا يفكرون في الاعتمار. -[المباحث العربية]- (أنه سئل) السند في الأصل: حدث همام عن قتادة قال: سألت أنسا رضي الله عنه فالمسئول أنس، والسائل قتادة بن دعامة. (كم اعتمر) "كم" اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول مطلق والتقدير: كم عمرة اعتمر. (قال أربعا) أي اعتمر أربعا. وفي رواية "أربع" بالرفع، أي الذي اعتمره أربع، وتمييز العدد محذوف أي أربع عمر. (عمرة الحديبية) "عمرة" بالنصب والرفع، لأنها بدل من "أربع" المنصوبة أو المرفوعة، والحديبية قريبة من مكة بينهما عشرون ميلا تقريبا من جهة جدة. (وعمرة الجعرانة) عمرة بالنصب والرفع كسابقتها، والجعرانة بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء، وأهل المدينة يكسرون العين ويشددون الراء، وهي أقرب إلى مكة منها إلى الطائف، إذ تبعد عن مكة نحو ثلاثين ميلا. (قسم غنيمة -أراه -حنين) كذا وقع بنصب "غنيمة" بغير تنوين، وكأن الراوي طرأ عليه شك، فأدخل بين المضاف والمضاف إليه لفظ "أراه" بضم الهمزة، أي أظنه، وقد رواه مسلم بغير شك، فقال "حيث قسم غنائم حنين" و"حنين" واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال. (قلت كم حج؟ ) ضمير "قلت" للراوي عن أنس، وهو قتادة والمقول له أنس.

-[فقه الحديث]- كانت عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف. وإنما عدت عمرة مع أنهم صدوا عن البيت باعتبار حصول ثوابها، حيث شرعوا فيها ولم يكن التقصير من جانبهم، ووقعت العمرة الثانية بمقتضى شروط صلح الحديبية في ذي القعدة من العام السابع الهجري فقوله "حيث صالحهم" معناه، حيث كانت على وفق الصلح الذي حصل في العام قبله، وتسمى عمرة القضاء، إما لأنها وقعت قضاء عن العمرة التي صدوا عنها بناءا على وجوب القضاء على المحصر، كما هو مذهب الحنفية، وإما لأنها بمعنى القضية، لما وقع بين المسلمين والمشركين من المقاضاة في الكتاب الذي كتب بينهم بالحديبية الأولى، فالمراد بالقضاء الفصل، وتعليل التسمية بذلك مبني على عدم وجوب القضاء على المحصر، كما هو مذهب الشافعية والمالكية، ويؤيده تسميتها بعمرة القضية، وهذا هو الوجه، إذ لو كانت بدلا عن عمرة الحديبية كما يقول الحنفية لكانتا عمرة واحدة، ووقعت العمرة الثالثة في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة عام فتح مكة، ودخل صلى الله عليه وسلم بهذه العمرة إلى مكة ليلا، وخرج منها ليلا إلى الجعرانة، فبات بها، ومن هنا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس، أما العمرة الرابعة فقد سقطت من الراوي، ولهذا استظهرها البخاري بالرواية الأخرى التي ألحقها بها، وهي المذكورة في قوله "وعمرة مع حجته" أي حجة الوداع -وقد استشكل في الرواية إذ قال "ومن القابل عمرة الحديبية" مع أن عمرة الحديبية كما ذكر من قبل هي التي صد عنها، وقد جعله ابن التين وهما من الراوي، ووجهه الحافظ ابن حجر، بأنه لا وهم في ذلك، لأن كلا منهما كان في الحديبية، فإذا أطلقت عمرة الحديبية انصرفت إلى الأولى، وإذا قيدت بالعام القابل كانت الثانية. وقد جمع بين قول أنس "وعمرة مع حجته" وبين ما ثبت عن عائشة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مفردا جمع بينهما بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة بالعقيق، فما ثبت عن عائشة وصف لحالة الرسول الأولى وقول أنس ذكر لحالته الأخيرة، وقد تضاربت أقوال

المحدثين في زمن العمر الأربع فقال بعضهم إنها كلها كانت في ذي القعدة، ومنع بعضهم كون الرابعة فيه والتحقيق أن الرسول في حجة الوداع دخل مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة لكنه أحرم بالعمرة في ذي القعدة على الصحيح، لأنهم خرجوا لخمس بقين من ذي القعدة، فمن جعلها فيه اعتبرها بالإحرام، ومن منع كونها فيه اعتبر أداء أفعالها الذي كان في ذي الحجة بلا خلاف، كذلك اختلف أقوال الصحابة في عدد عمره صلى الله عليه وسلم وقد علمنا وجه من جعلها أربعا، أما من جعلها ثلاثا فقد أسقط الأخيرة، مرجحا إحرام الرسول صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا، أو أسقط الأولى لأنها لم تتم، ومن قال: اعتمر عمرتين أسقط الأخيرة والأولى معا لما ذكر، وأثبت عمرة القضية وعمرة الجعرانة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حرص الصحابة على تعرف أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتدوا به. 2 - اعتبارهم العمل الذي لم يتم في حكم التام حيث لا تقصير. 3 - حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على كثرة الاعتمار. 4 - الرد العملي على اعتقاد الجاهلية الفاسد من تحريمهم العمرة في أشهر الحج.

باب جزاء الصيد

باب جزاء الصيد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام* أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون.} نهت الآية الكريمة عن قتل الصيد، وهو حرام في حالة الإحرام بلا خلاف، ولما كان ظاهر الآية يشمل جميع الدواب بين الحديث المراد من هذا العام وأذن في قتل بعض الحيوان كما جاء في هذا الحديث. 45 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور". -[المعنى العام]- بعد أن حرم الله على المحرم قتل الصيد رفع الحظر على لسان نبيه عن

دواب تجلب الضر للإنسان: الغراب والحدأة والعقرب، والفأرة والكلب العقور، تلك الحيوانات التي تهدد المرء في صحته وأقواته وحياته أبيح للمحرم والمصلي أن يقتلها أثناء إحرامه وعبادته، فتبارك الله أحسن المشرعين، خوف العبد بصغار مخلوقاته ثم أعطاه حق الدفاع عن النفس حتى في أقدس الأماكن، وأباح له حتى في أدق الظروف محاربة الأعداء. -[المباحث العربية]- (خمس من الدواب كلهن فاسق) خمس مبتدأ، سوغ الابتداء به وهو نكرة تخصيصه بالصفة، وهي قوله "من الدواب" و"كلهن" مبتدأ ثان والضمير فيه يعود على "خمس" و"فاسق" خبر "كل" وإفراده لمراعاة لفظ "كل" إذ لفظه مفرد مذكر ومعناه بحسب ما يضاف إليه، والجملة صفة أخرى لخمس، والخبر جملة "يقتلن في الحرم" أو هما خبران عن "خمس"، وأما جعل "كلهن" تأكيدا فيرفضه البصريون، لامتناع توكيد النكرة عندهم والدواب جمع دابة، وهو ما يدب على الأرض، أي يمشي، ثم نقله العرف العام إلى ذوات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير، والمذكور في الحديث باعتبار المعنى الأصلي، ولا يعترض عليه بالغراب والحدأة، لأنهما قد يمشيان على الأرض، أو إطلاق الدواب عليهما على سبيل التغليب. (الغراب) خبر مبتدأ محذوف، إن لاحظناه وحده قدرناه: إحدى هذه الخمس الغراب، وإن لاحظنا المعطوفات قدرناه: هي الغراب والحدأة. قيل: سمي غرابا لأنه نأى واغترب لما أرسله نوح عليه السلام ليختبر أمر الطوفان، فرأى جيفة فوقع عليها ولم يرجع. (والحدأة) بهمزة من غير مد، وحكي مدها ندورا، وفي بعض اللغات (حدية) بالياء بدل الهمزة، ومن خواصها أنها تقف في الطيران، ويقال إنها لا تخطف إلا من جهة اليمين. (والعقرب) هذا اللفظ للذكر والأنثى، وقد يقال: عقربا أو عقرباء ويقال: إن عينها في ظهرها، وإنها تتبع الحس، وإنها لا تضر ميتا ولا نائما حتى يتحرك.

(والفأرة) واحدة الفيران: وهي أنواع فأرة المنزل، وفارة الإبل وفارة المسك وفأرة الغيط. قال العيني: وكلها في تحريم الأكل وجواز قتلها سواء. -[فقه الحديث]- أطلق الحديث على هذه الخمس لفظ (فواسق)، والفسق في اللغة الخروج -إما لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله، أو حل أكله، كقوله تعالى: {أو فسقا أهل لغير الله به} أو لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع، ويؤيد الأخير ما ورد: قيل لأبي سعيد لم قال الرسول صلى الله عليه وسلم "والفأرة الفويسقة"؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة عن السراج لتحرق بها البيت. أما الإفساد في الغراب ففوق نبشه الجيفة المدفونة ينقر ظهر الدواب، وينزع عين البعير، ويختلس أطعمة الناس وأما في الحدأة فكذلك تختلس اللحم والفراريج، وأما في العقرب فإنها تلدغ وتقتل أو تؤلم، وأما في الفأرة فإنها تسرق الأطعمة وتفسدها، وتقرض الثياب وتأخذ الفتيلة فتضرم النار، وتنشر الأمراض، وأما في الكلب العقور فإنه يجرح الناس ويقطع الطرقات. والتقييد في الحديث بخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثر. فقد ورد في بعض الأحاديث "أربع" وفي بعضها "ست" وفي بعضها أكثر فيلحق بها ما في حكمها: وقالوا: إن الحكم بالقتل مترتب على ما جعل وصفا لها من حيث المعنى، وهو الفسق فيدخل فيه كل فاسق من الدواب، إلا أنهم اختلفوا في فسقها، من قال لكونها مؤذية ألحق بها كل مؤذ، وهذا قضية مذهب الإمام مالك كأنه نبه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم، كالحية والزنبور والبرغوث والبق والبعوض، وبالفأرة على كل ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض، كابن عرس، والغراب والحدأة على ما يشاركهما في الاختطاف، كالصقر والنسر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في العدو أو العقر، كالأسد والفهد، وعلى هذا فاقتصار الحديث عليها لكثرة ملابستها للناس، بحيث يعم أذاها، ومن قال لكونها لا تؤكل ألحق بها ما لا

يؤكل إلا ما نهي عن قتله، وقد قسم الشافعي وأصحابه الحيوان بالنسبة إلى المحرم ثلاثة أقسام: 1 - قسم يستحب قتله كالخمس وما في معناه مما يؤذي. 2 - قسم يجوز قتله كسائر ما لا يؤكل لحمه. 3 - وقسم لا يجوز قتله وفيه الجزاء إذا قتله المحرم، وهو ما أبيح أكله، أو نهي عن قتله. أما أبو حنيفة وأصحابه فقد اقتصروا على الخمس، إلا أنهم ألحقوا بها الحية، لثبوت الخبر بها، والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية، ولوروده في بعض الروايات، وألحقوا بذلك ما ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها أما غير الجمهور فقد اعتمد مفهوم العدد وجمع بين الروايات المختلفة فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال العدد الأقل، ثم بين بعد ذلك غيره، وقالوا: إن المراد أعيان ما سمى، سواء أكان أربعا أم خمسا أم ستا أم أكثر، ولا يقاس عليها غيرها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على قتل خمس، وبين الخمس ما هن، فدل هذا على أن حكم غير هذه الخمس غير حكم الخمس، وإلا لم يكن للتنصيص فائدة، وإذا قال صلى الله عليه وسلم "خمس" فليس لأحد أن يجعلهن ستا ولا سبعا. وقد قيد الحديث الكلب بالعقور، أما غير العقور فإن كان مما أمر باقتنائه، ككلب الصيد وكلب الحراسة ومثلهما الكلاب "البوليسية" الموجودة الآن فلا خلاف في منع قتلها، وإن كان غير ذلك كالذي يربي للزينة فقد اختلف العلماء فيه، وقع للشافعي في الأم جواز قتله، لأنه غير محترم. وقال النووي في الحج: يكره قتله كراهة تنزيه. وكذا قاله الرافعي. والظاهر من قوله في الحديث "يقتلن في الحرم" ومن مجموع الروايات أن المراد إباحة القتل لا وجوبه ولا استحبابه فقد روي "خمس قتلهن حلال" وروي خمس من قتلهن وهو حرام فلا جناح عليه "وروي "لا حرج على من قتلهن". ويجيب الشافعية عن هذه الروايات بأنها لا تعارض تقسيمهم، إذ المستحب حلال ولا حرج فيه. وإذا كان حكمها جواز القتل أو استجابه في

باب الحج عن الميت

الحرم فحكمها في الحل كذلك من باب أولى، وقد وقع حكمها في الحل صريحا في رواية مسلم "يقتلن في الحل والحرم". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز قتل هذه الخمس في الحل والحرم. 2 - عدم جواز تربيتها. 3 - عدم جواز أكلها. باب الحج عن الميت 46 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج

عنها؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية اقضوا الله فالله أحق بالوفاء". -[المعنى العام]- أقبلت امرأة من جهينة ترغب في بر والدتها بعد وفاتها بالحج عنها، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي قد نذرت أن تمشي لحج بيت الله الحرام، فلم تحج حتى ماتت. أفيجزئ حجي عنها؟ ويصلها ثواب حجتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم حجي عنها، ثم دلل لها على صحة قضائها الحج عن أمها، فقال: أخبريني لو كان على أمك دين مالي للناس أفلا تقضينه؟ قالت: نعم. قال: اقضوا حق الله. فالله أحق بالوفاء من الآدميين. -[المباحث العربية]- (جهينة) بضم الجيم وفتح الهاء قبيلة في قضاعة. (أفأحج عنها) الهمزة للاستفهام على سبيل الاستخبار، والفاء عاطفة على محذوف، تقديره أتصح نيابة مولود عن والده فأحج عنها؟ (أرأيت) بتاء المخاطبة ومعناه أخبريني، بمجاز مرسل في همزة الاستفهام بإرادة مطلق الطلب من طلب الفهم، ومجاز في الرؤية بإرادة ما ترتب عليها، وهو الإخبار، فآل الأمر إلى طلب الإخبار، المدلول عليه بلفظ أخبريني. (أكنت قاضية) على وزن فاعلة، محذوف المفعول، أي قاضية ذلك الدين عنها، وفي رواية "كنت قاضيته" بالضمير في آخره. (اقضوا الله) في الكلام مضاف محذوف أي اقضوا حق الله. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذه المرأة ولا اسم أبيها.

ولكن قيل: إن اسمها غائثة بالثاء بعد الألف، وقيل بالنون امرأة سنان بن عبد الله الجهني وورد في رواية أن السائل كان زوجها. وقد جمع الحافظ بين الروايتين بأن نسبة السؤال إليها مجازية باعتبارها آمرة. والذي تولى السؤال لها حقيقة زوجها، ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس "أمرت امرأة سنان بن عبد الله الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمها توفيت. إلخ -والحج المفروض حكمه حكم الحج المنذور، فكلاهما واجب الأداء، ولذلك كان عجز الحديث عاما "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء". وقد روي عن مالك أنه لا يحج أحد عن أحد مطلقا، حيث يرى أن الحج عبادة بدنية كالصلاة، والصلاة فرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد فيها إلا بإتعاب البدن بخلاف الزكاة، فالابتلاء بنقص المال، وأجاب عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع، وروي عنه أيضا: إن أوصى بذلك حج عنه وإلا فلا، ونقل الإجماع على أنه لا تجزئ النيابة في الحج الفرض إلا عن موت أو عضب- أي مرض لا يستطيع معه الثبوت على الراحلة- فلا يدخل المريض الذي يرجى برؤه، ولا المجنون، لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه، وأما النفل فتجوز النيابة فيه عند أبي حنيفة، خلافا للشافعي، وعن أحمد روايتان -وادعى قوم أن النيابة خاصة بالابن يحج عن أبيه، قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى أنه جمود -والحديث لا يتعارض مع قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} لأن الآية كما قيل مخصوصة بقوم إبراهيم، لأنها حكاية لما في صحفهم، وقيل: لما كان هذا لا ينفع إلا مبنيا على سعي نفسه بالإيمان كان سعي غيره كأنه سعيه، ويمكن أن يدخل الولد وما عمل في عموم سعي أبيه. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الترغيب في الرحلة لطلب العلم. 2 - صحة استفتاء المرأة من أهل العلم عند الحاجة. 3 - صحة قضاء الحج الواجب على الميت.

4 - جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، ولا خلاف في ذلك لأن النبي خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء وهو قوله "اقضوا الله". 5 - استدل بهذا الحديث على صحة نذر الحج ممن لم يحج، حيث لم تشر السائلة إلى أن أمها حجت الفرض -فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور، وعليه الحج عن النذر، وقيل: يجزئ عن النذر ثم يحج حجة الإسلام، وقيل يجزئ عنهما. 6 - وفي هذا الحديث ما يؤيد الشافعي من أنه يجب على ولي الميت أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال، فكذلك ما شبه به في القضاء، ويلحق بالحج كل حق ثبت في ذمته، من كفارة أو نذر مالي أو زكاة أو غير ذلك. ومذهب أبي حنيفة أنه لا يلزم الورثة الحج عنه، سواء أوصى أو لا، أما النائب فيشترط أن يكون قد حج عن نفسه على رأي الجمهور، واستدلوا بما في السنن وصحيح ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يلبي عن شبرمة، فقال: أحججت عن نفسك؟ فقال: لا، قال: هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة" وعدم تبين حالة السائلة أحجت عن نفسها أم لا يصلح دليلا لجواز إنابة من لم يحج عن نفسه. 7 - بر الوالدين والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وغير ذلك من أمور الدين والدنيا. 8 - استدل به على أن العمرة ليست بواجبة لأن المرأة لم تذكرها، ولا حجة فيه على ذلك، لأن مجرد ترك السؤال لا يدل على عدم الوجوب ولأن الكلام عن النذر، ولاحتمال أن تكون أمها قد اعتمرت، على أن السؤال عن الحج والعمرة وقع في حديث آخر. 9 - ومن قوله "فالله أحق بالوفاء" استدل بعض الشافعية على أن حق الله مقدم على حقوق العباد، وقيل: بالعكس، وقيل: هما سواء.

10 - تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه. 11 - تشبيه المجهول بالمعلوم ليستقر في النفس. 12 - أنه يستحب للمفتي التشبيه بالدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه. 13 - أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلوما عندهم مقررا حتى صح التشبيه. 47 - عن أبي سعيد رضي الله عنه -وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة- قال: أربع سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال يحدثهن عن النبي

صلى الله عليه وسلم فأعجبنني وآنقنني: أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم ولا صوم يومين الفطر والأضحى ولا صلاة بعد صلاتين بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي ومسجد الأقصى. -[المعنى العام]- حكم أربع أعجبت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، وتعجب كل مسلم غيور على عرضه غيور على مظاهر دينه. غيور على أصل عقيدته. 1 - تحريم سفر المرأة بدون زوج أو رجل يحرم عليه زواجها على التأبيد وذلك لما في السفر من الأخطار التي قد يتعرض لها العرض والعفاف والمرأة لضعفها لا تستطيع الدفاع. 2 - وتحريم صوم يومي العيدين. لما شرع فيهما من مظاهر الفرح والمتعة والسرور. 3 - وتحريم الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد صلاة الصبح حتى تطلع، وذلك لقربهما من وقت الغروب نفسه ووقت الطلوع اللذين يسجد فيهما الكفار للشمس. 4 - وتحريم السفر إلى أي من المساجد للصلاة فيه غير المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة والمسجد الأقصى ببيت المقدس تكريما لها لذكريات كريمة تتعلق برسل عند الله كرام. -[المباحث العربية]- (وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة) هذه الجملة لا محل لها من الإعراب معترضة بين كلامين متصلين لبيان كثرة مرافقة الراوي للرسول صلى الله عليه وسلم وحرصه على الدين والجهاد، حتى تطمئن النفس إلى صحة ما روى. (أربع) مبتدأ سوغ الابتداء به وهو نكرة مراعاة تمييزه المحذوف وتقديره: أربع حكم.

(فأعجبنني) بإسناد الفعل إلى نون النسوة التي تعود على الحكم الأربع. (وآنقنني) بإسناد الفعل إلى نون النسوة أيضا. قيل معناه أعجبنني فهو مرادف لما قبله. ذكر تأكيدا كقوله تعالى {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} وقيل معناه: وزاد حسنهن في نظري، وهذا الأخير حسن، والمعنيان لغويان قال في المصباح: أنق الشيء من باب تعب زاد حسنه وأعجب، وشيء أنيق مثل عجيب لفظا ومعنى. (أن لا تسافر) بنصب "تسافر" بناء على أن "أن" مصدرية، ورفعه على أنها مفسرة، و"لا" نافية فيهما. (ليس معها زوجها) الجملة صفة لامرأة. (أو ذو محرم) قيل: الظاهر أن لفظ "ذو" زائد والمعنى أو محرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة، ويصح أن يكون "محرم" بمعنى المصدر أي الحرمة و"ذو" أصلية، ويقويه ما ورد "إلا مع ذي حرمة لها". (ولا صوم في يومين الفطر والأضحى) في نسخة إسقاط "في" والمعنى عليها، ويحتمل أن يكون صوم مضافا إلى يومين والتقدير: ولا صوم يومين ثابت أو مشروع، و"الفطر" بدل من "يومين" على تقدير يوم الفطر. (لا تشد) بلفظ النفي، والمراد النهي، وهو أبلغ من صريح النهي حيث صوره بصورة الشيء الذي وقع ويخبر عنه. (الرحال) جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير لتيسير ركوبه، وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه. وخرج ذكر الرحال عند العرب مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والقطر والسيارات والبواخر والطائرات والمشي في المعنى. (إلا إلى ثلاثة مساجد) الاستثناء مفرغ، والمستثنى منه محذوف سيأتي تقديره.

(مسجد الحرام) بالجر بدل من سابقه، وهو بمكة، والحرام بمعنى المحرم كالكتاب بمعنى المكتوب. (ومسجدي) أي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو المدفون فيه صلى الله عليه وسلم. (ومسجد الأقصى) أي الأبعد عن المسجد الحرام في المسافة، أو الأقصى عن الأقذار، وهو مسجد بيت المقدس، والإضافة في "مسجد الحرام" و"مسجد الأقصى" من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقد جوزه الكوفيون، أي المسجد الحرام والمسجد الأقصى. -[فقه الحديث]- خص مالك سفر المرأة الممنوع بغير سفر الفريضة، وكذا روي عن أحمد، وقال البغوي: لم يختلف الفقهاء في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض إلا مع زوج أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب، أو أسيرة تخلصت، وزاد غيره: أو امرأة انقطعت من الرفقة فوجدها رجل مأمون، لأن هذه أسفار للضرورة، وتدفع ضررا متيقنا فيتحمل الضرر المتوهم، والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات في سفر الفرض كغيره، ويؤيده حديث الدارقطني "لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم" فنص الحديث على منع الحج فبقية الأسفار من باب أولى، ولم يختلفوا في أن النساء كلهن في ذلك سواء لا فرق بين الصغيرة والكبيرة والقبيحة والجميلة، حتى الخنثى إلا ما نقل عن الباجي أنه خصه بغير العجور التي لا تشتهي، وتعقبوه بأن لكل ساقطة لاقطة، وقد حدد في هذا الحديث السفر بمسيرة يومين، وفي آخر بثلاثة أيام، وفي ثالث بيوم، وفي رابع ببريد، وفي خامس لم يحدد، وقال ابن المنير في الجمع بينها: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين وما وقع لهم، فإذا سأل السائل: هل تسافر المرأة بريدا بدون محرم؟ أجيب: لا تسافر المرأة بريدا بدون محرم. وإذا سأل آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بدون محرم؟ أجيب لا تسافر المرأة بدون محرم، وهكذا. فكأن التقييد لبيان الواقع لا للاحتراز، فلا يعمل بمفهومه،

ولهذا عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق: قال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفرا، فالمرأة منهية عنه إلا مع محرم لها، وقدره أبو حنيفة بمسافة القصر، وضابط المحرم عند العلماء من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها فخرج بالتأبيد أخت الزوجة، وبالمباح أم الموطوءة بشبهة بنتها، وبحرمتها الملاعنة وممن قال إن عبد المرأة الأمين محرم لها كالإمام أحمد وغيره يحتاج إلى أن يزيد في هذا الضابط ما يدخله، واختلفوا هل يقوم غير المحرم كالنسوة الثقات مقامه؟ والصحيح الجواز لضعف التهمة. وفرق، فقيل: يجوز لفرض حج ثقة واحدة، أما سفرها لنحو زيارة وتجارة فلا يجوز مع النسوة، لأنه سفر غير واجب. أما صوم يوم الفطر فحرام لأنه للفصل من الصوم وإظهار تمامه، ويوم النحر لأجل النسك المتقرب بذبحه ليؤكل منه، ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى، ولما في صومهما من الإعراض عن ضيافة الله في أيام أمر الله الناس بالتمتع فيها بالأكل والشرب ونحوهما. وأما الصلاة بعد العصر وبعد الصبح فقد خصها الشافعي بالنافلة التي لا سبب لها، وذهب أبو حنيفة إلى كراهة التنفل مطلقا بعد هذين الوقتين، وعلة النهي البعد عن التشبه بالكفار الذين يسجدون للشمس في هذين الوقتين تعظيما لطلوعها وغروبها. أما قوله "لا تشد الرحال" إلا في آخره فلا ينبغي أن تقدر المستثنى منه خاصا، فيقدر مثلا لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلى هذه الثلاثة، وهذا تقدير إمام الحرمين وغيره من الشافعية ليجيزوا شد الرحال إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك، وقال الجويني: يحرم شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة، عملا بظاهر هذا الحديث، وقد وقعت في هذا الموضوع مناظرات كثيرة، وصنف فيها وسائل من الطرفين، وقد ألزم فيها الشيخ تقي الدين ابن تيمية بتحريم شد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره

قدر المستثنى منه لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان. وأما سر تخصيص هذه الثلاثة بهذه الخصوصية فقد قال القرافي: لا ينحصر سبب التفضيل في كثرة الثواب على العمل، بل يكون لأسرار يعلمها الله ويعلمها النبي صلى الله عليه وسلم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - النهي عن سفر المرأة بدون زوج أو محرم. 2 - النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى. 3 - النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. 4 - النهي عن السفر للصلاة في مسجد غير هذه الثلاثة. 5 - أفضلية هذه المساجد على غيرها. 6 - سد الذرائع.

فضائل المدينة

فضائل المدينة 48 - عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل وقال ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل" قال أبو عبد الله عدل فداء. -[المعنى العام]- جاء رجل إلى علي كرم الله وجهه فقال له: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصك وآلك بشيء من العلم؟ أو هل كان يسر إليكم بشيء من دون الناس؟ فغضب علي ثم قال: ما كان يسر إلينا بشيء يكتمه عن غيرنا، إلا ما كان في قراب سيفي هذا وأخرج منه صحيفة كتب فيها: المدينة حرم من جبلها الجنوبي

إلى جبلها الشمالي، ولحرمتها غلظ إثم الذنب فيها، فمن ابتدع فيها بدعة ليست من الدين أو أوى المبتدع، أو عمل على نشر البدعة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه توبة على ذلك الفعل ولا فدية، وذمة المسلمين واحدة، فعهد الواحد منهم محترم عند جميعهم، كعهد الجميع، فمن خان مسلما أو نقض عهده فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه فرضا ولا نفلا، ومن خرج من ولاية المسلمين إلى ولاية أخرى من غير إذن أولياء أمره فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه وزنا ولا كيلا وفي ذلك تغليظ هذه الأفعال التي تضر بسمعة الإسلام وسمعة المسلمين. -[المباحث العربية]- (ما عندنا شيء) الضمير للمتكلم وأهله آل البيت، والمراد بالشيء المكتوب وإلا فقد كان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب، أو الشيء المنفي شيء اختصوا من دون الناس. (المدينة) علم بالغلبة على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بها وكانت تسمى يثرب فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة، وكان بعض المنافقين لا يذكرها إلا باسم يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة وطيبة. (ما بين عائر إلى كذا) "عائر" على وزن فاعل مهموز الوسط، وفي رواية "عير" اسم لجبل صغير بقرب المدينة، وقوله "إلى كذا" إبهام من البخاري لاسم الجبل المقابل الذي سمي في رواية مسلم: "ثور" والذي حمل البخاري على هذا الإبهام اعتماده على إنكار مصعب الزبيري، وجود "ثور" بالمدينة، لكنه ثابت بما لا يدع مجالا للشك والإبهام، فثور جبل صغير خلف أحد من جهة الشمال يميل إلى الحمرة بتدوير، وخلف أهل المدينة ينقلون هذا عن سلفهم. (من أحدث فيها حدثا) أي من عمل فيها عملا منكرا ليس بمعتاد ولا معروف في الكتاب والسنة.

(أو آوى محدثا) أوى بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعا لكن القصر في اللازم والمد في المتعدي أشهر، قال تعالى {إذ أوى الفتية إلى الكهف} {وآويناهما إلى ربوة} و"محدثا" بكسر الدال صاحب الإحداث أي الذي أحدث أو جاء ببدعة في الدين وبفتح الدال الأمر المبتدع نفسه، والمعنى عليه آوى بدعة وتبناها أو رضي بها وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه فعليه لعنة الله، والمراد بالمحدث قيل: الظالم، وقيل ما هو أعم. (لعنة الله) المراد باللعنة، العذاب الذي يستحقه على ذنبه، لا الإبعاد عن الرحمة الذي هو لعن الكافر. (لا يقبل منه صرف ولا عدل) اختلف في تفسيرها على أكثر من عشرة أوجه، منها: لا يقبل منه توبة ولا فدية- لا يقبل منه وزن ولا كيل- لا يقبل منه شفاعة ولا فدية- لا يقبل منه فريضة ولا نافلة: وهذا ما عليه الجمهور، وقد يكون نفي الفدية بمعنى أنه لا يجد في القيامة فداء يفتدي به، خلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما في الصحيحين. (ذمة المسلمين واحدة) الذمة الأمان والعهد، سمي بذلك لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها. (فمن أخفر مسلما) أي نقض العهد الذي حصل من أخيه المسلم، يقال: خفرته بغير همزة بمعنى أمنته، وبالهمزة بمعنى نقضت عهده، فالهمزة للسلب. -[فقه الحديث]- عن قتادة عن أبي حسان الأعرج إن عليا كان يأمر بالأمر فيقال له: قد فعلناه فيقول: صدق الله ورسوله، فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول أهو شيء عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما عهد إلي شيئا خاصا دون الناس إلا شيئا سمعته منه، فهو في صحيفة في قراب سيفي فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها "المدينة حرم ..... إلخ الحديث". ومعنى كون المدينة

حرما كما قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم أنه يحرم صيدها وقطع شجرها، وهل فيه الجزاء أو لا؟ خلاف بينهم، وقال أبو حنيفة: لا يحرم، وعليه فمعنى "حرم" أن لها حرمة، فإثم الذنب فيها كبير، وعلى القول بأن شجرها محرم لا يتعارض مع قطع الرسول صلى الله عليه وسلم النخل وجعله قبلة للمسجد، لأن النهي محمول على قطع الشجر الذي أنبته الله مما لا صنع للآدمي فيه، والنخل الذي قطعه الرسول كان ملكا لبني النجار، ومن زرعهم، وقيل: إن النهي عن قطع الشجر الذي يحصل بقطعه الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح فلا يمنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر، وقيل إن قطع الرسول للنخل كان في أول الهجرة وحديث التحريم كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر، وهذا أوجه الأوجه. والغرض من لعنة الملائكة والناس أجمعين بعد لعنة الله المبالغة في تهديده وفي استحقاقه العذاب. وقد اعترض على قوله "لا يقبل منه صرف ولا عدل" حيث فسر الصرف بالتوبة واعترض بأن التوبة النصوح مقبولة بنص الكتاب والسنة وأجيب بأن المعنى: لا يقبل منه قبول رضى وإن قبل منه قبول جزاء، أو بأن فاعل هذا الذنب متعمدا قد يشتد سخط الله عليه، فلا يوفقه للتوبة النصوح، وقد يجاب أيضا بأن هذا جار مجرى التغليظ، إشعارا بفظاعة الجرم، فليس المقصود حقيقته، وهذا جواب حسن، فمثله كثير مستساغ في أساليب العرب، والمراد من قوله "ذمة المسلمين واحدة" إلخ أن عهد المسلمين سواء صدر من واحد أو أكثر، من شريف أو وضيع، محترم عند جميعهم، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا أو أعطاه ذمة موافقة لقواعد الشريعة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد، لأن المسلمين كنفس واحدة، والمراد من الولاء في قوله "ومن تولى قوما بغير إذن مواليه" ولاء العتق، فالمعنى عليه: من جعل من العبيد العتقاء له وليا غير المعتق بدون إذنه فعليه لعنة الله إلخ، واستشكل عليه بأن ولاء العتق ممنوع انتقاله عن موالي الرقيق ولو مع الإذن منهم، فلو أريد ولاء العتق لم يكن لقيد عدم الإذن فائدة، اللهم إلا أن يكون للتنبيه على أن

الغالب في المنع عدم الإذن، لهذا قيل إن المراد اتخاذ مواليه وأولياء أمره وحكامه من غير المسلمين، وعلى هذا التأويل تظهر فائدة تقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وقد ورد في بعض الروايات أنه كان بالصحيفة "العقل وفكاك الأسير، ولعن الله من لعن والده" ويجمع بين هذه الأخبار بأن الصحيفة المذكورة كانت تشتمل على مجموع ما ذكر فقال كل راو بعضها. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن فاسق معين. 2 - أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء. 3 - جواز كتابة العلم. 4 - تحريم صيد المدينة وقطع شجرها. 5 - أن نقض العهد حرام. 6 - رد ما تدعيه الشيعة من أن عليا وأهل بيته كان عندهم من النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة أعلمهم بها سرا تشتمل على كثير من قواعد الدين وأمور الإمارة. قال الشرقاوي: وهذا مسلم بالنسبة لأحكام الشرع الظاهرة، أما الباطنة كعلوم الحقائق والأسرار الإلهية فلا مانع من أن يخص علي بشيء حتى يتحقق قوله عليه الصلاة والسلام "أنا مدينة العلم وعلى بابها" وفي هذا الكلام نظر. والله أعلم.

كتاب الصوم

كتاب الصوم الصوم في اللغة الإمساك مطلقا، وشرعا: إمساك عن الفطر جميع النهار على وجه مخصوص، وقد فرض صوم رمضان في شعبان من السنة الثانية من الهجرة، والمشهور عند الشافعية والجمهور أنه لم يجب صوم قط قبل صوم رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية أن أول ما فرض من الصيام صيام عاشوراء فلما نزل الأمر بصيام رمضان نسخ. والصوم وصلة للصفاء الروحي، وتزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان وكسر للنفس, وصبر على مضض الجوع والعطش، وإحجام عن الشهوات. فهو بذلك يعلم التواضع والعطف على الفقراء والشكر للمنعم وكسر الشهوة. ثم هو فوق ذلك امتحان وابتلاء، ينظر الله للصائم ويباهي به ملائكته، ويجزل له الجزاء، وقد ورد في شأنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الصوم نصف الصبر" مع قوله "الصبر نصف الإيمان". 49 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها".

-[المعنى العام]- الصيام تشريع حكيم دعت إليه الشرائع السابقة والعقول السليمة وقد قصد به الإسلام الإمساك عن الشهوات ليستر صاحبه يوم القيامة من النار التي حفت بالشهوات، وليؤدي هذا الغرض المقصود منه يجب أن يخلو من الفحش في القول والسفه في الفعل ليتوافق ظاهر المرء وباطنه، فيكون إمساكا عن جميع ما نهى الله عنه، لا عن بعض ما حرم الله، فليس الصيام عن الأكل والشرب إنما الصيام الحقيقي عن اللغو والرفث، فإن اعتدى على الصائم وسبه إنسان أو دافعه فينبغي ألا يقابله بالمثل، بل يزجر نفسه والمعتدي بقوله "إني صائم" فلا أدنس صيامي ويقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بربه الذي بيده الأرواح أن رائحة الفم المتغير من أثر الصيام أزكى عند الله من ريح المسك، ويقول تعالى: "الصيام لي" فلا حظ للصائم إلا الخضوع لأمري، يترك طعامه وشرابه وشهواته ابتغاء وجهي، أنا الذي سأجزيه جزاء لا يشبه جزاء الأعمال الحسنة الأخرى، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، لكنه جزاء غير معين لأنه صابر، و {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.} -[المباحث العربية]- (جنة) بضم الجيم وتشديد النون أي وقاية من النار، أو من الشهوات أو منهما. (فلا يرفث) راجع المادة في الحديث رقم (38) والفاعل مستتر يعود على الصائم المفهوم من المقام، وفي رواية الموطأ "فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث". (ولا يجهل) أي لا يفعل شيئا من أفعال أهل الجهل، كالصياح والسفه والسخرية، وفي رواية "فلا يرفث ولا يجادل". (وإن امرؤ قاتله أو شاتمه) "امرؤ" فاعل فعل محذوف يفسره المذكور والمراد من المقاتلة المنازعة والمدافعة ولو بالقول.

(والذي نفسي بيده لخلوف) القسم للتأكيد ولغرابة الخبر، والخلوف بضم الخاء، وحكى بعض الشيوخ فتحها وهو خطأ، وهو تغير طعم الفم وريحه لتأخر الطعام، قال: خلف فمه بفتح الخاء واللام يخلف إذا تغير، واللغة المشهورة من الثلاثي. (شهوته) قيل: المراد بها شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب ويؤيده رواية "ويدع زوجته من أجلي"، وقيل: هو من عطف العام على الخاص. (الصيام لي) الجملة مستأنفة وقعت موقع البيان لموجب الحكم المذكور وفي رواية "فالصيام لي" بزيادة الفاء المفيدة للسببية. (وأنا أجزي به) أي أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته لا غيري بخلاف غيره من العبادات، فإنه قد تطلع عليها الناس، وجاء القصر من تكرير المسند إليه بتقديمه على الفعل، والمفعول محذوف، والتقدير وأنا أجزي به صاحبه. (الحسنة بعشر أمثالها) كان الظاهر أن يقول: بعشرة أمثالها. لأن المثل مذكر، فحقه تأنيث العدد، ولكنه لاحظ أن مثل الحسنة هو الحسنة، وهي مؤنثة فكأنه قال: بعشر حسنات. -[فقه الحديث]- في كون الصيام جنة بالفعل أو بالقوة قال القرطبي: الصيام جنة بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث". ويصح أن يراد أنه ستره بحسب فائدته وهي إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله "يدع شهوته إلخ" ولا يفهم من النهي عن الرفث والجهل مع الصيام أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم، وقال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه القضاء، وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر للصوم، سواء كانت فعلا أو قولا، لعموم

قوله "فلا يرفث ولا يجهل" ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم قد خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع، ولا يشك أحد في أن من لم يعرض صيامه لشيء من ذلك طول نهاره ليس هو في الفضل كمن عرض صيامه للآثام. والمراد بالمفاعلة في قوله "قاتله أو شاتمه" التهيؤ أي إذا تهيأ امرؤ لقتال الصائم وتهيأ الصائم لقتاله، وقيل. المراد بها الفعل حقيقة من جانب المتعدي والتهيؤ من جانب الصائم، أي إن دفع امرؤ الصائم وتهيأ الصائم لقتاله فليقل إلخ وقيل: إن المفاعلة ليست على بابها، والمراد إن اعتدى عليه أحد فلا يجاره، بل يصرفه عن نفسه بقوله: إني صائم ويؤيده رواية "وإن شتمه إنسان" بدون مفاعلة، وقد اختلف العلماء في قوله "إني صائم" هل يقولها في نفسه أو بلسانه؟ ثلاثة أقوال: أحدها: أن يقول ذلك بلسانه حتى يعلم من يجهل أنه معتصم بالصيام عن اللغو والرفث والجهل. ثانيا: أن يقول ذلك لنفسه، أي إذا كنت صائما فلا ينبغي أن أخدش صومي بالجهل ونحوه فيزجر نفسه بذلك. ثالثا: التفرقة بين صيام الفرض وصيام النفل، فيقول ذلك بلسانه في الفرض، ويقول لنفسه في التطوع بعدا عن الرياء، وإنما أمر بتكرير "إني صائم" ليتأكد البعد عن الشر من نفسه وممن خاطبه، وقيل: المراد من "مرتين" مرة لنفسه ومرة لخصمه، وقد ورد في رواية "فإن سابك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائما فاجلس". وفائدة هذا الجلوس تغيير الوضع إلى وضع أقل تهيؤا للمقاتلة، فإن ذلك التغيير يضعف الثورة النفسية، فإذا كان قائما جلس، وإذا كان جالسا اضطجع. وفي معنى قوله "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" قال ابن المنير: لا حاجة إلى تجوز ولا تأويل، لأن الله عالم بهذا النوع من الإدراك وكذا بقية المدركات والمحسات يعلمها الله على ما هي عليه بدون حاسة لأنه خالقها وهو يعلم ما خلق، وتمسك الشافعية بظاهر الحديث، فقالوا بكراهة السواك بعد الزوال، وأجاب المالكية بأن هذا كناية عن مدح نفس الصوم، وإن لم يوجد خلوف

أصلا، وإنما كان خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ودم الشهيد ريحه ريح المسك فقط لا أطيب منه مع ما فيه من المخاطرة بالنفس وبذل الروح لأن الصوم أحد أركان الإسلام، وأيضا هو فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية على الراجح كما نص عليه الشافعي. ووجه الربط بين قوله "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" بما قبله على تقدير يقول الله تعالى: يترك الصائم طعامه إلخ، وإنما قدرنا هذا ليصح المعنى لأن سياق الكلام يقتضي أن يكون ضمير المتكلم في لفظ "والذي نفسي بيده" وفي لفظ "من أجلي" من متكلم واحد وهو معنى فاسد، وفي معنى "الصيام لي" حيث إن الأعمال كلها لله، يقول القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله أضافه إلى نفسه، وقيل معناه: لم يتعبد به أحد غيري. وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بمجرد فعلها، وقل أن يسلم ما يظهر من شائبة الرياء، بخلاف الصوم، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم "الصيام لا رياء فيه" وقوله "ليس في الصيام رياء" ومعناه أن الصوم لا رياء فيه من جهة فعله، فإن حال الممسك عن الطعام شبعا كحال الممسك تقربا من حيث الصورة، وإن كان الرياء يدخل الصوم بالقول والتحدث عن النفس، كما إذا قال الصائم متباهيا: إني صائم، والمراد من قوله "وأنا أجزي به" أن جزاء الصوم كثير من غير تعيين لمقداره، لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان ذلك إشارة إلى تعظيم هذا العطاء وتفخيمه، وهذا كقوله تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال، ويؤيده ما رواه الطبراني "وأما العمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله فالصيام" وظاهر الكلام عدم الارتباط بين قوله "والحسنة بعشر أمثالها" وبين ما قبله. ولهذا قيل: أن هذه الرواية مختصرة وأصلها كما في الصيام" وأنا أجزي به، كل حسنة يعملها ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به" فخص الصيام بالتضعيف على سبعمائة ضعف، وإنما عقبه بقوله "والحسنة بعشر أمثالها" إعلاما بأن الصوم مستثني من هذا الحكم فكأنه قال: الصوم لي وأنا أجزي به بغير حساب، والحسنة في غيره بعشر أمثالها. وقد اتفقوا

على أن المراد بالصيام الذي يستحق هذا الجزاء هو الصيام الذي سلم من المعاصي قولا وفعلا. وأدنى درجات الصوم الاقتصار على الكف عن المفطرات، وأوسطها أن يضم إليه كف الجوارح عن الجرائم، وأعلاها أن يضم إليهما كف القلب عن الوساوس. 50 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". -[المعنى العام]- ينبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغرض الأسمى من الصوم وأنه الإمساك عن المحرمات قبل الإمساك عن المفطرات، فيقول "من لم يترك الخنا" -وهو

الفحش في المنطق -والكذب والغيبة والنميمة ونحوها، من لم يترك هذه المحرمات وهو صائم فلا خير في صومه، وليس ينفعه، ولن يقبل الله تركه لطعامه وشرابه، نعم إن ترك الصوم انتهاك لحرمة الله وحقه، والزور وأمثاله انتهاك لحق الله وحق العباد، ولو وزن الصوم بإثم فحش اليد واللسان لرجح الإثم الثواب، وعاد الصائم من صومه صفر اليدين، وقد وضح الرسول ذلك لأصحابه حين قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار ولا متاع، قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". -[المباحث العربية]- (قول الزور) الزور الكذب والميل عن الحق، وفسر قول الزور بشهادة الزور وفهم بعض العلماء أن المراد الأمر بحفظ النطق فيعم الغيبة والرفث والصخب وكل ما يقبح النطق به. (والعمل به) في الكلام مضاف محذوف، أي والعمل بمقتضاه، والضمير يعود على قول الزور، وفي رواية "من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به" فيحتمل عود الضمير على الجهل لقربه، ويحتمل عوده على قول الزور وإن بعد، لأن الروايات اتفقت عليه! ويحتمل أن يعود عليهما وأفرده لاشتراكهما في تنقيص الصوم. (فليس لله حاجة) مفهومه أن لله حاجة في الصيام إذا لم يكن معه قول الزور، ولكن هذا المفهوم غير مراد، لأن الله لا يحتاج إلى شيء، ولهذا كان التعبير مجازا عن عدم الالتفات والقبول، من قبيل نفي السبب وإرادة المسبب وقال ابن بطال: وضع الحاجة موضع الإرادة، يعني ليس لله إرادة في صيامه وعدم الإرادة كناية عن الرد وعدم القبول، فيرجع لما قبله، وجاء في رواية "فليس به حاجة" قال الحافظ ابن حجر: فإن لم تكن تحريفا فالضمير للصائم.

-[فقه الحديث]- هذا الحديث يحتمل أن يراد منه: من لم يدع قول الزور والعمل بمقتضاه مطلقا غير مقيد بصوم فماذا يصنع بصومه؟ كما يقال: من لم ينته عن الفحشاء والمنكر فلا فائدة من صلاته، ويحتمل أن يكون المراد: من لم يدع ذلك في حالة تلبسه بالصوم، وهذا هو الظاهر وقد صرح به في بعض الطرق، وليس معنى قوله "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أن يؤمر بترك صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه. وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من باع الخمر فليشقص الخنازير" أي فليذبح الخنازير، وليقطعها بالمشقص، وهو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض، فليس المراد أمره بذبح الخنازير، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، فكذلك من اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لا يؤمر بأن يدع صيامه، ولكنه يؤمر باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وقد اختلف العلماء في أن الغيبة والنميمة والكذب والزور تفطر الصائم، وقد روى الغزالي "خصلتان تفسدان الصوم الغيبة والكذب" والجمهور من الأئمة -كما مر -على أنه لا يفسد الصوم بذلك، والمعروف في رواية الغزالي "خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب" وقال ابن العربي مقتضى هذا الحديث أن فاعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب صيامه لا يقوم في موازنة إثم الزور وما ذكر معه وقال البيضاوي: ليس المقصود من مشروعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الشريرة والأمارة بالسوء للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظرة القبول، وقال بعضهم لعل القصد بالصوم في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، فيكون اجتناب المفطرات واجبا، واجتناب ما عداها من المخالفات من توابع الواجب والتحقيق، أن الصوم يتأثر بهذه الأشياء وينقص ثوابه بفعلها، لأنه إذا كان منهيا عنها مطلقا:

فتعلقها بالصوم دليل على زيادة قبحها من أجله، وتأثيرها في سلامته. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - النهي عن قول الزور والعمل به مطلقا، وزيادة قبحه في الصوم. 2 - أن الصوم لا يسلم مع قول الزور. 3 - الحث على التثبت من صحة الأنباء قبل العمل بمقتضاها حيث أشرك العامل بقول الزور مع قائله في الحكم. 51 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين إنك تواصل يا رسول الله قال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقين" فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا -وفي رواية عنه قال لهم: "فاكلفوا من العمل ما تطيقون".

-[المعنى العام]- من الجلي أن يكون لإمام البشر خصائص وأعمال يقوم بها لا يستطيعها سائر المكلفين، ومن ذلك قيام الليل، ووصال الصيام، أما قيام الليل فقد احتجب به عنهم، وأما وصال الصيام فقد نهاهم عنه بعد ما حاولوه، نهاهم محافظة منه على صحتهم وقوتهم فإن الإسلام لم يعدهم للصلاة والصيام فحسب، وإنما يدخر قوتهم للحرب والجهاد، والكفاح في سبيل العيش، وتخليف جيل قوي شديد يرهب الأعداء، وراجع النهي مسلم غيور على الاقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم فقال: إنك تواصل يا رسول الله ولنا بك أسوة حسنة، وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يعينه على الوصال أكثر مما يعينهم: أيكم مثلي؟ إني أظل عند ربي في ساحة ذكره ومعارفه، فكأنه يطعمني ويسقيني، ويطمع الصحابة في هذه المنزلة الرفيعة فيصرون على الوصال، ويرد عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عمليا فيواصل بهم يوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من رمضان، فيهل هلال شوال وقد بلغ منهم الجهد كل مبلغ، وأصابهم الكلال، وأضعف من قوتهم الوصال، ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم حالهم وتجلدهم فيقول: لو لم يهل هلال شوال لواصلت بكم وصالا حتى يدع المتعمقون تعمقهم، لا تتطلبوا من العبادة ما يجهدكم، وتكلفوا من العمل ما تطيقون. -[المباحث العربية]- (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم) مفعول "نهى" محذوف تقديره: نهى أصحابه. وحقيقة الوصال في الصيام أن يصوم يومين أو أكثر، ولا يتناول مطعوما بالليل عمدا بلا عذر. واختلفوا في الجماع والاستقاءة ليلا. هل تخرج عن الوصال أو لا؟ (وأيكم مثلي؟ ) الواو عاطفة على جملة مفهومة من المقام تقديرها: هذا شأني، وأيكم مثلي؟ والاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد، وقوله "مثلي" أي على صفتي ومنزلتي من ربي. (إني أبيت) وفي رواية "إني أظل" والمراد بلفظ "أظل" مطلق الكون ولا

اختصاص لذلك بنهار دون ليل، كقوله تعالى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا} وذلك لأن المتحدث عنه الإمساك ليلا لا نهارا. (يطعمني ربي) الجملة في محل النصب خبر "أبيت": أو حال على جعلها تامة. (فلما أبوا أن ينتهوا) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول "أبوا". (واصل بهم يوما ثم يوما) ظاهره أن مدة المواصلة كانت يومين، وقد صرح بذلك في رواية أخرى، وتعبيره هذا يفيد من التراخي الذي يتناسب مع طول أيام الوصال على الصائمين ما لا يفيده التعبير بيومين، وهذا سر التعبير بثم. (ثم رأوا الهلال) هلال شهر شوال لأن الوصال كان في آخر رمضان. (لو تأخر لزدتكم) فاعل تأخر يعود على الهلال. وكأن الهلال بدا بعد تسع وعشرين من رمضان، فتمنى أن لو كمل رمضان ثلاثين يوما ليواصل بهم، ومفعول "زدتكم" الثاني محذوف تقديره: لزدتكم وصالا. (كالتنكيل) هذا من كلام الراوي، والمشبه مفهوم مما قبله أي هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كالتنكيل والزجر والمعاقبة. (فاكلفوا) بدون همزة من الثلاثي من باب علم يقال: كلف بالأمر إذا أولع به. وحكى القاضي عياض أن بعضهم قاله بهمزة قطع وكسر اللام، قال: ولا يصح لغة، والمعنى هنا: فتكلفوا ما تطيقونه: وكلمة "ما" موصولة "وتطيقون" صلة: والعائد محذوف، والفاء في "فاكلفوا" أفصحت عن شرط تقديره: إذا تبين لكم إجهاد الوصال ومشقته فتكلفوا ما تطيقون. -[فقه الحديث]- سبب هذا النهي ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل، فواصل الناس فشق عليهم، فنهاهم رحمة بهم، وإبقاء عليهم، وحفظا على سلامة أبدانهم

وقوتهم، وكراهة للتعمق في الدين، وتكلف ما لم يكلف، وخشية أن يفرض فيعجزوا عنها وقول الرجل "إنك تواصل يا رسول الله" لا ينافي الأدب، لأنه لم يكن على سبيل الاعتراض، ولكن على سبيل استخراج الحكم أو الحكمة أو بيان التخصيص. وقد اختلفوا في المعنى المراد من قوله "يطعمني ويسقيني" فقيل: هو على حقيقته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه. وتعقبه ابن بطال بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا. وقيل: يخلق الله فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، ورد أيضا بالنظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط الحجر على بطنه من الجوع، وبأنه لو خلق فيه الشبع والري لما وجد روح عبادة الصوم، وهو الجوع والمشقة وحينئذ يكون ترك الوصال أولى. وقيل: يحفظ الله عليه قوته من غير طعام ولا شراب كما يحفظها بالطعام والشراب، ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف ولا كلال، فعبر بالطعام والسقيا عن فائدتهما، وهي القوة، وهذا قول الجمهور والفرق بينه وبين ما قبله أن ما قبله يعطى القوة مع الشبع والري، وهذا يعطى القوة من غير شبع ولا ري، بل مع الجوع والظمأ، وقال ابن المنير ما حاصله، إن استغراقه صلى الله عليه وسلم في أحواله الشريفة، واستغراقه في مناجاة ربه يجعله بحيث لا تؤثر فيه الأحوال البشرية من الجوع والعطش، فقد يستغني الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني، وهذا مشاهد، يحس به من زاد سروره باشتغاله بمحبوبه، فإنه ينسى الطعام والشراب والجوع والعطش، وهذا رأي حسن نحا نحوه العلامة ابن القيم، ولم يكن امتناع الصحابة ناشئا عن مخالفتهم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان لفهمهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا النهي للتنزيه، ولرغبتهم في التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم وإنما واصل بهم صلى الله عليه وسلم بعد نهيه تقريعا وتنكيلا لا تقريرا. وكانت تلك المواصلة في مصلحة النهي لا ضده، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمته، وكان ذلك أدعى إلى اطمئنان قلوبهم، لما سيؤدي إليه الوصال من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم من وظائف الصلاة،

والقراءة وغيرها وهذا كما أشار عليهم أن يرجعوا من حصار الطائف، فلم يعجبهم فأمرهم بمباكرة القتال من الغد، فأصابتهم جراح وشدة وأحبوا الرجوع، فأصبح راجعا بهم، فأعجبهم ذلك. وفي حكم الوصال لغير النبي صلى الله عليه وسلم قال أهل الظاهر: إنه حرام، إذ حملوا النهي في قوله "لا تواصلوا" على التحريم، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى كراهيته، واختلفوا في كونها كراهة تنزيه أو تحريم وذهب آخرون إلى جواز الوصال لمن قوي عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولم يرغب عن السنة في تعجيل الفطر، وممن كان يواصل عبد الله بن الزبير وذهب أحمد وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر، وهذا في الحقيقة ليس بوصال، لأنه بمنزلة تأخير العشاء لمن جعل لنفسه في اليوم والليلة أكلة واحدة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز مراجعة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي سر المخالفة. 2 - جواز الاستكشاف عن حكمة النهي. 3 - أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله صلى الله عليه وسلم المعلوم صفته. 4 - أنهم كانوا يبادرون إلى الاقتداء به إلا فيما نهاهم عنه. 5 - ثبوت خصائصه صلى الله عليه وسلم وأن عموم قوله {لقد كان لكم في رسول الله أسوة} مخصوص. 6 - إثبات قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر، حيث وجدت قدرة الرسول صلى الله عليه وسلم بدون طعام ولا شراب. 7 - استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثنى. 8 - جواز قول "لو" وحمل النهي الوارد في ذلك على ما لا يتعلق بالأمور الشرعية.

52 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: "ما هذا؟ " قالوا: هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى قال: "فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه". -[المعنى العام]- كانت قريش تعظم يوم عاشوراء فتكسوا الكعبة فيه وتزينها، وكانت تصوم هذا اليوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه شكرا لله على نجاة نوح وموسى وإغراق الكافرين فيه، فلما قدم المدينة وجاء يوم عاشوراء وجد اليهود صياما فسألهم عن سر صيامهم، قالوا: هذا يوم صامه موسى شكرا لله على نجاته ونجاة بني إسرائيل من عدوهم، ونحن نصومه تعظيما له، فقال لهم الرسول

صلى الله عليه وسلم أنا أحق منكم بموسى، ثم قال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا، فلما فرض صيام رمضان كان من شاء صام هذا اليوم ومن شاء أفطر، وفي فضل صومه قال صلى الله عليه وسلم "صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". -[المباحث العربية]- (فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء) الفاء عاطفة على محذوف، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الأول، ورأى اليهود في المحرم من العام القابل في السنة الثانية من الهجرة، والتقدير قدم المدينة، فأقام عشرة أشهر، فرأى اليهود "وعاشوراء" بالمد على المشهور، وحكي فيه القصر، علم على اليوم العاشر من شهر المحرم على الصحيح، وهو مقتضى الاشتقاق، والموافق للمعنى الموضوع له وقيل هو اليوم التاسع منه. (ما هذا؟ ) "ما" اسم استفهام خبر مقدم، و"هذا" مبتدأ مؤخر، والإشارة للصوم المفهوم من المقام. (يوم صالح) "يوم" خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا يوم صالح، ووصف اليوم بالصلاح باعتبار ما حدث فيه. (يوم نجى) يوم بالتنوين لعدم إضافته لما بعده، وجملة "نجى" إلخ صفته وعائد الصفة محذوف مع الجار، وبدون تنوين على أنه مبني لإضافته إلى مبني. (فصامه وأمر بصيامه) أي ثبت على صيامه له وداوم على ما كان عليه، فقد كان يصومه قبل قدومه إلى المدينة، ومفعول "أمر" محذوف تقديره وأمر المسلمين بصيامه. -[فقه الحديث]- / 16 تتلخص نقاط الحديث فيما يأتي:

أولا: دواعي اليهود لصيام هذا اليوم وتعظيمهم له، فقد روي أنهم كانوا يتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهن ولباسهن الحسن الجميل، واقتداء بموسى عليه السلام في صيامه له، وسر هذا التعظيم ما ذكره وبقولهم: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله فيه بني إسرائيل من فرعون بإغراقه في اليم، وقيل في فضل هذا اليوم، إن سفينة نوح استوت فيه على الجودي، فصامه نوح شكرا لله وإن يونس نجي فيه من بطن الحوت، وتاب الله فيه على آدم، وأخرج يوسف فيه من الجب، وولد فيه عيسى، وفيه رفع، ورد إلى يعقوب فيه بصره، إلى غير ذلك من الفضائل التي لم يرد فيها أثر صحيح. ثانيا: ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل الهجرة، وكان صيامه له إما عن اجتهاد أو أذن الله بصيامه على أنه فعل خير، أو صامه استنادا إلى شرع إبراهيم عليه السلام، أما أمره أصحابه بصيامه بعد أن سمع مقالة اليهود فلم يكن تصديقا لقولهم، بل لكونه كان يصومه، أو لعل الوحي نزل على وفق قولهم، أو أنه لم يبتدئ الأمر بصيامه فقد كانوا يصومونه، ولم يحدث بقوله تجديد حكم، أو أن هذا من قبيل استئلاف اليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم أو تواتر عنده الخبر أو صامه باجتهاده أو أخبره من أسلم منهم كابن سلام. ثالثا: أحقيته صلى الله عليه وسلم بموسى منهم إنما هي باعتبار الاشتراك في الرسالة والأخوة في الدين، والقرابة الظاهرة، فضلا عن أنه أطوع وأتبع للحق منهم. رابعا: روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في آخر أعوامه "إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" ومات صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وروي أنه قال لأصحابه "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما" فإن قيل: إن رغبته هذه في المخالفة تتنافى مع موافقته لهم ومع قوله "نحن أحق بموسى منكم" قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما فيما يخالفون فيه أهل الأوثان فوافقهم وقال "نحن أحق بموسى منكم" واستمر على صيام يوم عاشوراء حتى فتحت مكة، ولما تم الفتح

واشتهر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده. خامسا: آراء الفقهاء في حكم صوم يوم عاشوراء قبل فرض صوم رمضان وبعده، وقد اتفق العلماء على أن صوم عاشوراء سنة وليس بواجب واختلفوا في حكمة أول الهجرة، فقال أبو حنيفة: كان واجبا، بدليل أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بصيامه، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، فلما فرض رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء وبقي الاستحباب، ويؤيده ما روي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر" وفي رواية "فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده" ومدة فريضة صيام عاشوراء على هذا سنة واحدة لأن فرض صوم رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة، والمشهور عند الشافعية أنه كان قبل فرض رمضان مستحبا استحبابا آكد، فلما فرض رمضان ترك أكد استحبابه، وبقي مطلق الاستحباب، ورجح ابن حجر أن المتروك وجوبه، وقال: إن تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام الوفاة، ولترغيبه صلى الله عليه وسلم في صومه، وأنه يكفر سنة، ثم قال: وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ سادسا: البدع المشتهرة في عاشوراء من صلاة مخصوصة، ودعاء مخصوص. واكتحال بالإثمد في ذلك اليوم لم تصح، ولم يرد فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صحيح, وهي من وضع قتلة الحسين رضي الله عنه. سابعا: -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - سؤال العالم غيره عن سر ما يفعل من العبادات. 2 - استحباب الصيام في أيام الإنعام شكرا لله. 3 - استحباب صيام يوم عاشوراء.

باب فضل ليلة القدر

باب فضل ليلة القدر القدر بفتح القاف وسكون الدال، قال الحافظ ابن حجر: اختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه "ليلة" قيل: المراد به التعظيم، كقوله تعالى: {ما قدروا الله حق قدره} والمعنى أنها ذات قدر، لنزول القرآن فيها، وتنزل الملائكة ورحمة الله لعباده، ولأن كل عمل صالح فيها يكون له قدر عند الله، وقيل: القدر بمعنى القدر بفتحة القاف والدال، وهو الذي يقرن دائما مع القضاء ومعناه تفصيل ما جري به القضاء وإظهاره للملائكة، وشرع إحياؤها بالعبادة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم العشر الأوسط من رمضان ومعه أصحابه، فأري ليلة القدر وهيئ له زمنها وأنها في العشر الأواخر، فخرج صبيحة العشرين فخطب أصحابه، وقال: من اعتكف مع رسول الله في العشر الوسطى فليرجع إلى معتكفه التماسا لليلة القدر، واعتاد صلى الله عليه وسلم اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، وفي ذلك ورد الحديث التالي: 53 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليلة وأيقظ أهله.

-[المعنى العام]- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بعض الليل، ويقوم ليالي خاصة، وكان أكثر ما يقوم في رمضان، وأكثر ما يقوم من رمضان العشر الأوسط، لأنها وقت غفلة عامة الناس، وفيها تفتر الهمم، فلما أبينت له ليلة القدر اهتم بالعشر الأواخر، وقام بإحيائها كلها، واعتزل نساءه فيها، وتخلص لعبادة ربه، وأيقظ من يستطيع القيام من أهله، ليشاركوه إحياءها التماسا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. -[المباحث العربية]- (كان إذا دخل العشر) "ال" في "العشر" للعهد، أي العشر الأواخر من رمضان كما جاء في رواية أخرى. (شد مئزره) المئزر والإزار كالملحفة واللحاف، وهو ما يأتزر به الرجل من أسفله، و"شد مئزره" كناية عن جده واجتهاده في العبادة فوق ما كان يجتهد عادة، وقد جاء في رواية أخرى "جد وشد المئزر" ولما كان العطف يقتضي المغايرة قالوا، شد المئزر كناية عن اعتزاله النساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، واستشهد له بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بإظهار ويؤيد هذا المعنى رواية الطبراني: "كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء" ويحتمل أن يراد بشد المئزر الاعتزال والتشمير معا. (وأحيا ليله) إيقاع الإحياء على الليل مجاز عقلي، والمراد إحياء نفسه بالطاعة في الليل، لأن النوم أخو الموت، والقائم إذا حيى باليقظة فقد أحيا ليله بحياته، ويصح أن يكون استعارة، بأن شبه القيام بالإحياء الذي هو إدخال الروح في الجسد، بجامع حصول الانتفاع التام، واشتق منه أحيا بمعنى قام فيه بالعبادة.

-[فقه الحديث]- اختار الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر للتشمير عن ساعد الجد في العبادة بعد أن أبينت له ليلة القدر وأنها فيه -وليس معنى اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها أنه كان في غيرها غير مجتهد، بل المراد أنه كان يزيد من اجتهاده، ويعتكف هذه الأيام، وإيقاظه لأهله يجوز أن يكون قبل اعتكافه، ويجوز أن يكون من المسجد من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد. ويحتمل أن يوقظهن إذا دخل البيت لحاجته والمراد من أهله من يطيق القيام كما جاء في بعض الروايات. وظاهر الحديث أنه كان يحيي الليل كله، وأما قول بعض الفقهاء: يكره قيام الليل كله فمعناه الدوام، دون قيام ليلة وليلتين وعشر، وقيل: المراد من قولها: "وأحيا ليله" أحيا معظمه لا كله، لقول عائشة في حديث صحيح "ما علمته قام ليله حتى الصباح". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استحباب إحياء الليل. 2 - استحباب إحياء العشر الأواخر من رمضان استحبابا آكد. 3 - استحباب إشراك الأهل مع الرجل في العبادات المستحبة وأن ذلك مطلوب منه. 4 - الحرص من الرسول صلى الله عليه وسلم على مداومة القيام في العشر الأواخر.

كتاب البيوع

كتاب البيوع لما فرغ من بيان العبادات المقصود منها التحصيل الأخروي شرع في بيان المعاملات المقصود منها التحصيل الدنيوي، والبيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، وهو لغة مطلق المبادلة، ويطلق أيضا على الشراء، يقال: باعه الشيء وباعه منه، وابتاع الشيء اشتراه، وشرى الشيء باعه، قال تعالى: {وشروه بثمن بخس} والبيع شرعا مبادلة بالمال على وجه مخصوص. 54 - عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". -[المعنى العام]- يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في السعي والعمل والأكل من طريق حلال، بل من طريق أحل، وهو طريق عمل اليد، طريق الكفاح من عمل مباح، كسرة من هذا الطريق بدون ملح أطيب وألذ من الضأن من غيره عند سليم الإحساس، ولكن هذه الدعوة الإسلامية السامية لم تلق عند المسلمين في عصرنا آذانا صاغية فضعف إنتاجهم في الدنيا وفشا فيهم الجهل والفقر والمرض، وكثر فيهم التسول مع صحة الجسم ووجاهة المنظر، تحت أسماء مختلفة قارئ للكف وضارب للرمل وشيخ متصوف وعابر سبيل، فوق النصب والنشل

والاحتيال وغير ذلك، مما هو سبة في جبين الإسلام والمسلمين، وتقدم غيرهم، وأنتجوا وعملوا بهذه الحكمة بل جعلوا في دستورهم "من لم يعمل لم يأكل". وبهذا ساد المشركون ورموا الإسلام بأنه دين التواكل والضعف والذل والتأخر، والإسلام من هذا الوصف وممن كان السبب في وصمه به بريء، فهذا عبد الرحمن بن عوف يهاجر صفر اليدين وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: إنني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فإذا الإسلام في شخص عبد الرحمن يقول: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة، قال: سوق قينقاع. فغدا إليه عبد الرحمن بأقط وسمن، أي والله صحابي جليل لا يستحي أن يبيع الجبن والسمن في السوق، وإنما يستحي أن يكون عالة على الناس، ثم تابع الغدو فما لبث أن بدا عليه النعيم. وغيره وغيره من مثل الإسلام الرائعة التي تعبر تعبيرا صادقا عن الإسلام، وأنه اليوم مظلوم، ومظلوم من أهله قبل أعدائه فاللهم وجه المسلمين إلى الطريق المستقيم. -[المباحث العربية]- (ما أكل أحد طعاما قط) أي من بني آدم كما جاء في بعض الروايات و"قط" بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة ظرف زمان لاستغراق ما مضى ويختص بالنفي وهو مبني على الضم، واشتقاقه من قططت الشيء بمعنى قطعته. (خيرا من أن يأكل) "خيرا" صفة لمصدر محذوف، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بمن، والمعنى: ما أكل أحد طعاما أكلا خيرا من أكله من عمل يده، ويجوز أن تكون "خيرا" صفة لطعاما، وعليه يلزم أن يكون المصدر المنسبك "من أن يأكل" مرادا به اسم المفعول، والمعنى: ما أكل أحد طعاما خيرا من طعام "مأكول" من عمل يده.

-[فقه الحديث]- وجه الخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم "خيرا من أن يأكل من عمل يده" ما في عمل اليد من إيصال النفع إلى الكاسب وإلى غيره، والسلامة من البطالة المؤدية إلى الفضول، وكسر النفس به، والتعفف عما في أيدي الناس. والبعد عن ذل السؤال. وقد روى ابن المنذر "ما أكل رجل طعاما قط أحل من عمل يديه" وروى النسائي "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" ويؤخذ من مجموع الروايات أن الخيرية من ناحية الحل والطيب واللذة- وعدم شعور البعض بالفرق في الطعم بين لقمة الكسب ولقمة السحت إنما هو من ضعف الإدراك وقلة الذوق وانعدام الإحساس، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا لمرهفي الشعور بنبي الله داود عليه السلام، واختاره من بين الأنبياء مع أن آدم كان حراثا، ونوحا كان نجارا، وإدريس كان خياطا، وموسى كان راعيا إلخ، اختاره لأن اقتصاره في أكله على ما يعمل بيده لم يكن لاحتياجه لأنه كان خليفة الله في أرضه. ومع ذلك اختار الأكل من الطريق الأفضل وهو عمل يده، وفي عمل داود عظمة أخرى، وهي أنه كان يعمل الدروع من الحديد ويبيعها ويأكل من ثمنها، وقيل: إنه كان يعمل القفاف أو كان يعمل زرادا "حدادا" أو ضافر خوص مما يحتقره الناس في زماننا ويستكثرون على أنفسهم أن يأكلوا منه، ويفضلون الأكل من السحت وبسيف الحياء، ومن هذا الوادي قوله صلى الله عليه وسلم "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الاكتساب لا ينافي التوكل. 2 - أن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس السامع. 3 - تقديم ما يباشره المرء بنفسه على ما يباشره بغيره. 4 - فضل الأكل من عمل اليد حتى مع الغنى.

55 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم قالوا أعملت من الخير شيئا؟ قال: كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر قال: قال فتجاوزوا عنه". -[المعنى العام]- يروى أن الله تعالى يأتي بعبد من عباده يوم القيامة، آتاه الله مالا، يقول له: ماذا فعلت في دار الدنيا في الخير؟ {ولا يكتمون الله حديثا} فيقول: ما عملت من الخير إلا أني كنت ذا مال وكنت أبايع الناس فكنت آمر غلماني وأقول: خذوا ما تيسر واتركوا ما تعسر، وتجاوزوا لعل الله يتجاوز عنا، فيقول الله عز وجل: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي. وصدق الله العظيم: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم.} -[المباحث العربية]- (تلقت الملائكة روح رجل) أي استقبلتها، و"ال" في "الملائكة" للعهد، والمراد بهم ملائكة قبض الروح. (ممن كان قبلكم) أي من بني إسرائيل.

(قالوا: أعملت) الهمزة للاستفهام، وفي رواية بدونها، وهي مقدرة فيها، وقد قيل: إن هذا السؤال في القبر، ففي الكلام حذف والتقدير: فقبض فأدخل القبر فقالوا. ويحتمل أن يكون بعد البعث، والتقدير فبعث فأرسل الله له ملائكة يسألونه فقالوا. (فتياني) بكسر الفاء جمع فتى وهو الخادم، حرا كان أو مملوكا. (أن ينظروا) بضم الياء من الإنظار وهو الإمهال. (ويتجاوزوا) التجاوز وهو التسامح والاقتضاء الاستيفاء. (الموسر) اختلفوا في حده فقيل من عنده مئونته ومئونة من تلزمه نفقته وقيل: من يملك نصاب الزكاة، وقيل: من لا تحل له الزكاة، وقال الشافعي: قد يكون الشخص بالدرهم غنيا بكسبه. وقد يكون فقيرا بالألف مع ضعفه من نفسه وكثرة عياله. والمعتمد هنا في الإنظار أن الموسر والمعسر يرجعان إلى العرف. -[فقه الحديث]- يرغب الحديث في إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر، وقد اختلفوا في إنظار المعسر وإبرائه أيهما أفضل؟ والراجح أن إبراءه أفضل من إنظاره، لأنه يحصل به مقصود الإنظار وزيادة ويكون ذلك مما استثنى من قاعدة كون الفرض أفضل من السنة، لأن الإنظار واجب، والإبراء مستحب، وقيل إن الإنظار أفضل، لشدة ما يقاسيه من ألم الصبر مع تشوف القلب، وهذا ليس موجودا في الإبراء الذي فيه راحة اليأس. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" فوزع الأجر على الأيام، وجعل لكل يوم يمر عوضا جديدا. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن العبد يحاسب عند موته بعض الحساب. 2 - إباحة الأكل من كسب عبده لقوله "كنت آمر فتياني".

3 - أن إنظار المعسر أو الوضع عنه سائغ، ومن دواعي المغفرة. 4 - يشير الحديث إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، خصوصا إذا أيده شرعنا. 5 - أن الرب جل جلاله يغفر الذنوب باليسير من الحسنات إذا كانت خالصة لوجهه. 6 - أن الأجر يحصل لمن يأمر بالخير وإن لم يتول ذلك بنفسه. قال في الفتح: وهذا كله بعد تقرير أن شرع من قبلنا إذا جاء في شرعنا في سياق المدح كان حسنا عندنا. 56 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال -حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما". -[المعنى العام]- تشريعان ساميان يرمي إليهما الرسول الكريم: 1 - الإمهال في المعاملة حتي يتبين الطرفان المحاسن والمساوئ لما يتعاملان عليه فلا يؤخذ أحدهما على غرة ولا يقع في خديعة "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا".

2 - والنصيحة فيما يبذلان والصدق فيه، ليبارك الله لهما في المبيع والثمن بالزيادة والنماء فإن لم يصدقا وكتما العيوب ذهبت بركة البيع، فإنه لا يحل لامرئ يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبر به، و"المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه شيئا وبه عيب إلا بينه له" و"من باع بيعا لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه". -[المباحث العربية]- (البيعان) بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة تثنية بيع، وأراد بهما البائع والمشتري، وإطلاقه على المشتري بطريق التغليب، أو هو من باب إطلاق المشترك وإرادة معنييه معا، إذ البيع جاء لمعنيين كما قدمنا وجاء في رواية "المتبايعان". (بالخيار) الباء للملابسة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر "البيعان" والتقدير: البيعان متلبسان بالخيار. (ما لم يتفرقا) "ما" مصدرية ظرفية. وهي حرف، والتقدير: مدة عدم تفرقهما. وجاء في رواية "ما لم يفترقا" والافتراق والتفرق بمعنى، وقيل الافتراق بالكلام والتفرق بالأبدان. (فإن صدقا وبينا) مفعول "صدقا" و"بينا" محذوف والتقدير فإن صدقا في وصف ما يبذلان وبينا عيوبه. (محقت) من المحق وهو النقصان وقيل: أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه أثر، ومنه قوله تعالى {يمحق الله الربا} أي يستأصله ويذهب ببركته. (بركة بيعهما) المصدر مراد به اسم المفعول وقيل باق على مصدريته. -[فقه الحديث]- تعرض الحديث إلى نقطتين فقهيتين:

الأولى: خيار المتبايعين، والثانية نصيحة كل منهما للآخر. أما النقطة الأولى فقد اختلف الفقهاء في تأويل "ما لم يتفرقا" فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن المراد التفرق بالأقوال فإذا قال البائع: بعت وقال المشتري: قبلت، أو اشتريت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما بعد ذلك خيار، ويتم البيع، ولا يقدر المشتري على رد المبيع "لا بخيار الرؤية أو خيار العيب، أو خيار الشرط، وقالوا: إن إثبات خيار المجلس لأحدهما يستلزم إبطال حق الآخر، فينتفي بقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقالوا: إن الحديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" محمول على خيار القبول، بمعنى أنه إذا أوجب أحدهما فقط ولم يقبل الآخر فلكل منهما الخيار ما داما في المجلس، وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن المراد بالتفرق في الحديث التفرق بالأبدان فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان، فلو أقاما في مجلس العقد مدة أو تماشيا مراحل فهما على خيارهما وإن زادت المدة على ثلاثة أيام، فإن اختلفا في التفرق فالقول قول منكره بيمينه -وإن طال الزمن -لموافقته الأصل. وأما النقطة الثانية: فقد شرحت نتيجة الصدق والنصيحة، وعاقبة الكذب والخديعة، فإن صدق كل منهما في الإخبار عما يتعلق به من محاسن المبيع والثمن، وبين كل منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب في السلعة والثمن بورك لهما في بيعهما فكثر نفع المبيع والثمن، وإن كتم البائع عيب السلعة، وكتم المشتري عيب الثمن، وكذب البائع في الإخبار عن سلعته وكذب المشتري في وصف ثمنه ذهبت بركة بيعهما من الزيادة والنماء الذي كان يحصل على تقدير الخلو من الكذب والكتمان، وليس المراد أن البركة كانت موجودة ثم محقت، بل المراد عدم إنشائها لوجود الكذب والكتمان، وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه الصدق والبيان دون الآخر؟ ظاهر الحديث يقتضي ذلك، ولكن يحتمل أن يعود شؤم أحدهما على الآخر، فيقوم شؤم التدليس والكذب الذي وقع في ذلك العقد بمحق بركته، وإن كان الصادق مأجورا والكاذب مأزورا.

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - ثبوت الخيار للمتبايعين حتى يتفرقا. 2 - أن نصيحة المسلم واجبة. 3 - أن غش المؤمن وخديعته حرام. 4 - أن الصدق والنصيحة تزيد في النعم وتبارك في الانتفاع بها. 5 - فضل الصدق والحث عليه وذم الكذب والحث على اجتنابه. 6 - أن عمل الآخرة يحصل خير الدنيا والآخرة. 7 - أن النماء الذي يجب أن يعول عليه إنما هو النماء المعنوي الذي هو سبب البركة، لا النماء الحسي الذي يحصل بسبب الكذب والخداع. 57 - عن عون بن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: رأيت أبي اشترى عبدا حجاما فسألته فقال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم ونهى عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله ولعن المصور". -[المعنى العام]- رأى أبو جحيفة رضي الله عنه عبدا يحترف الحجامة، وكان يعتقد أنها

حرام، فرغب في أن يتقرب إلى الله بمنع هذا المحرم، ولا سبيل له على هذا العبد إلا أن يشتريه، فاشتراه من سيده، ثم أمر بالآلات التي يحجم بها فكسرت، مبالغة في منعه من مزاولة هذه المهنة، وسأله ابنه عن سر تكسير هذه الآلات؟ فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، فلا يباع ولا يؤكل ثمنه، ونهى عن ثمن الدم، أي أجر الحجامة، فلا ينبغي أن تمتهن، ونهى عن الوشم، فلعن الواشمة والمستوشمة فلا ينبغي أن يغير أحد من خلق الله، ونهى عن الربا، أكله وإعطائه فهو حرب لله ورسوله، ولعن المصورين والمتشبهين بالخالق في تصوير ما خلق، إذ سيقال لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت والتعجيز "أحيوا ما خلقتم" وفق الله الأمة الإسلامية إلى الطريق المستقيم. -[المباحث العربية]- (حجاما) أي صناعته الحجامة يتكسب منها لسيده. (فسألته) ظاهرة أن السؤال وقع عن سبب مشتراه، وذلك لا يناسب جوابه بحديث النهي، والتحقيق أن هذا السياق وقع فيه اختصار، بينه البخاري في رواية أخرى في آخر البيوع ولفظها "اشترى حجاما، فأمر بمحاجمة فكسرت، فسألته على ذلك". (وثمن الدم) أي أجرة الحجامة، وإطلاق الثمن عليها تجوز. (الواشمة) فاعلة الوشم، والتعبير بالمؤنثة لبيان الواقع والكثير والواشم مثلها. (الموشومة) التي وشم لها، ومثلها الموشم، والوشم أن يغرز الجلد بنحو إبرة، ثم يحشى بكحل أو نيلة فيتلون الجلد بالخضرة أو الزرقة والمقصود من النهي عن الواشمة والموشومة النهي عن فعلهما وهو الوشم. (وآكل الربا) في الكلام مضاف محذوف والتقدير: ونهى عن فعل آكل الربا.

-[فقه الحديث]- يمكن إجمال أحكام الحديث فيما يلي: أولا: حكم محترف الحجامة، وحكم أجره، وحكم معطي هذا الأجر. أما الحجامة فهي مباحة في حد ذاتها، وإذا كانت مباحة كان محترفها لا شيء عليه. نعم هي من المهن الدنيئة، كالكناسة، وينبغي أن يترفع عنها المسلم الحر، أما أجره فقد كرهه الأكثرون، وحملوا النهي في الحديث على التنزيه، مستدلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام صاعا من تمر، ولو كان أجره حراما لم يعطه، وإنما كره لخبثه من جهة كونه عوضا مقابلا لمخامرة النجس وأجازه كثير من العلماء من غير كراهة، كأجر البناء والكناس وقالوا في الحديث: إن النهي عن ثمن الدم السائل الذي حرمه الله، فلا يباع وقال أبو حنيفة: أجرة الحجام لا تجوز، مستدلا بأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، وكسب الحجام فجمع بينهما، ومهر البغي حرام إجماعا، فكذلك كسب الحجام، وجعلوا النهي في حديثنا للتحريم وقال آخرون: يجوز للمحتجم إعطاء الحجام الأجرة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، ولا يجوز للحجام أخذها عن كسبه، أما شراء أبو جحيفة للعبد فقد كان ليكسر محاجمه، ويمنعه عن تلك الصناعة فهما منه أن النهي عن ذلك للتحريم، فأراد حسم المادة. ثانيا: حكم بيع الكلب. وقد قال الشافعي وأحمد ومالك في رواية عنه: لا يجوز بيع الكلب، وإن ثمنه حرام ولو معلما، وذلك لنجاسته كالخنزير. وقال أبو حنيفة وبعض المالكية: يجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها، وتباح أثمانها، وأجابوا عن هذا الحديث الذي معنا بأنه كان حين كان حكم الكلاب أن تقتل، وكان لا يحل إمساكها، ثم أبيح الانتفاع بها للاصطياد ونحوه. ونهي عن قتلها فيباح بيع ما ساغ الانتفاع به. ثالثا: حكم الواشم والموشوم: لا خلاف في حرمة الوشم، لأنه من فعل الجاهلية، وفيه تغيير لخلق الله تعالى، وقد ورد في فاعله اللعن.

روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة" وفي رواية البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات مبتغيات للحسن مغيرات خلق الله". رابعا: حكم آكل الربا وموكله، أي آخذه ومعطيه حرام بالإجماع، وقد ورد فيهما اللعن أيضا. واشتركا في الإثم، وإن كان الرابح أحدهما لأنهما في الفعل شريكان. خامسا: حكم التصوير، وقد خاض في هذا الموضوع كثير من الكتاب وخلاصة القول أن ظاهر لفظ الحديث العموم فيشمل جميع أنواع الصور سواء كانت ذات ظل أو لا ظل لها، وسواء كان لذي روح أو لغيره، وعلى هذا العموم حكم بعضهم بالتحريم، وقيل: إن النهي واللعن ورد على نوع خاص، هو النوع المعلوم وقتهما، وهو الرسم باليد والنحت، والعلة واضحة، هي خشية تعظيم الصور في يوم من الأيام لدرجة العبادة، وكان القوم قريبا عهدهم بعبادة الأصنام، وعلى ضوء ما تقدم وعلى ضوء اهتمام الشارع بما يؤدي إلى المفاسد وبما يجلب المصالح يمكن الحكم على الصور التي تترتب عليها المصالح ولا يخشى منها الضرر، كالصورة لتحقيق الشخصية ولتعليم الطب وصون الأمن ولعب الأطفال وصور ما لا روح فيه، بشرط ألا يكون له احترام ديني عند شعب من الشعوب. يمكن الحكم على هذه الصور وأمثالها بالإباحة، أما الصور الخلقية المخلة بالآداب والمثيرة للشهوة البهيمية، والصور في المعابد، وصور العظماء لقصد تقديس أشخاصهم، ونحو ذلك مما يخشى منها المفاسد فهي حرام. أما التماثيل فينبغي الحكم عليها بالتحريم، لا خشية من تعظيمها فحسب فالكثير منها يبصق عليها الناظرون كلما نظروها، ولكن لما فيها من إضاعة المال فيما لا نفع فيه، وتخليد العظماء لا يكون بأمثال من اللعب ذات اليدين والرجلين، وإنما يخلدهم عملهم وأثرهم، ولنا في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز شراء العبد الحجام. 2 - النهي عن بيع الكلب والنهي عن ثمنه. 3 - النهي عن الوشم. 4 - النهي عن ثمن الدم. 5 - النهي عن الربا أخذه وإعطائه. 6 - النهي عن التصوير. 58 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها". -[المعنى العام]- أصل عظيم من أصول الإسلام. وبعث لعوامل المحبة، واستئصال لأسباب الشقاق والشحناء، يتمثل في معاملات خمس، بينها الرسول صلى الله عليه وسلم

بقوله: لا يبيع حضري لبدوي، ولا يكون له سمسارا، ولا يزيد أحد في ثمن السلعة ما لم يرد الشراء، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب امرأة خطبها أخوه وقبلت خطبته، ولا تسأل امرأة طلاق امرأة أخرى لتحل محلها. -[المباحث العربية]- (أن يبيع حاضر لباد) الحاضر من كان من أهل الحضر، أي المدن والقرى والبادي من كان من أهل البادية أي المضارب والخيام، والمصدر مجرور بحرف محذوف، والمفعول محذوف، والتقدير نهى عن بيع حاضر متاعا لباد. (ولا تناجشوا) معطوف على معنى الجملة السابقة إذ معنى: نهى أن يبيع حاضر لباد، قال: لا يبع حاضر لباد، أو جملة "ولا تناجشوا" مقول لقول محذوف معطوف على ما قبله، أي نهى أن يبيع حاضر لباد، وقال: لا تناجشوا وأصله: تتناجشوا فحذفت إحدى التاءين، وذكره بصيغة التفاعل لأن التاجر إذا فعل ذلك لصاحبه كان بصدد أن يفعل له مثله، وأصل النجش في اللغة: تنفير الصيد من مكانه ليصاد، وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليوقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ليوقع المشتري كما يثير الصائد الصيد في الشباك. (ولا يبيع الرجل) بالرفع والجزم، أما الرفع فعلى أنه خبر بمعنى النهي وسياق النهي في صورة الخبر أبلغ في المنع، وأما الجزم فعلى النهي الصريح. (ولا يخطب) بالرفع والجزم كسابقه، ومثلهما "ولا تسأل المرأة" والفاعل في "ولا يخطب" يعود على الرجل، والخطبة بكسر الخاء اسم من خطب يخطب، من باب نصر فهو خاطب، وأما الخطبة بضم الخاء فهي من القول والكلام. (ولا تسأل المرأة طلاق أختها) مفعول "تسأل" الأول محذوف، والتقدير

ولا تسأل المرأة زوج أختها طلاقها. (لتكفأ ما في إنائها) أي لتقلب ما في إناء أختها لنفسها، واللام في لتكفأ علة للمنهي عنه، لا للمنهي، أي لا يكن قلبها ما في إناء أختها في إناء نفسها سببا في سؤالها طلاق أختها، وكفء ما في الإناء كناية عن سلب ما للزوجة من المنفعة والعشرة وكل ما لها من الحقوق عند الزوج. -[فقه الحديث]- نهى الحديث عن خمسة أشياء: 1 - بيع الحاضر للبادي. 2 - التناجش. 3 - البيع على البيع. 4 - الخطبة على الخطبة. 5 - سؤال المرأة طلاق أختها. 1 - أما بيع الحاضر للبادي فصورته أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه حضري فيقول له: ضعها عندي لأبيعها لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، والمبيع مما تعم حاجة أهل البلد إليه. وهل يختص هذا بالبادي؟ أو يلحق به من شاركه في عدم معرفة السعر الحاضر؟ ويلحق به كل إضرار بأهل البلد ينشأ عن الإشارة بتأجيل البيع؟ بالأول قال مالك وبالثاني قال الشافعي وأحمد. والجمهور على أن النهي للتحريم بشرط العلم بالنهي. وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري كان من قبيل النصيحة: والبيع صحيح مع التحريم عند الشافعي والجمهور، لأن النهي راجح إلى أمر خارج عن نفس العقد، وعند أهل الظاهر: البيع باطل، وقيل إن المراد من النهي ألا يكون الحضري سمسارا للبدوي، أي لا يتولى له البيع والشراء بأجرة، وهذا المعنى أعم من سابقه لشموله الشراء.

2 - وأما التناجش فهو حرام فإن كان بمواطأة البائع وهو الكثير كأن يأخذ معه من أصحابه من يزيد في الثمن ليخدع المشتري الحقيقي سواء كانت الزيادة ليساوي الثمن القيمة، أو ليزيد عليها، فهما مشتركان في الإثم لما في ذلك من الخديعة، وإن كان بغير علم البائع كأن كان يعلم رغبة رجل وحاجته لسلعة خاصة غير موجود سواها، فيذهب لمعاكسته وإيقاعه فيها بثمن أعلى من قيمتها ولا يريد الشراء، فالإثم على ذلك الناجش، وإن كان الناجش البائع وحده، كأن يخبر بأنه اشترى هذه السلعة بأكثر مما اشتراها به ليوقع المشتري فالإثم عليه. وحكم البيع صحيح مع الإثم عند الشافعية والحنفية، ولا خيار، وعند المالكية صحيح مع الخيار وعند الحنابلة باطل إذا كان بمواطأة البائع. 3 - وأما بيع الرجل على بيع أخيه فصورته أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط: افسخ لأبيعك خيرا منها بمثل ثمنها أو مثلها بأنقص، ومثل ذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأكثر. وقد أجمع العلماء على أن البيع على البيع والشراء على الشراء حرام. وفي صحة البيع خلاف، واستثنى بعضهم من الحرمة ما إذا كان البائع أو المشتري مغبونا وهو مردود. أما السوم على السوم وهو أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع، وقبل أن يعقداه يقول آخر لصاحبها: أنا أشتريها بأكثر، أو يقول للراغب: أنا أبيعك خيرا منها بأرخص، فإنه حرام كالبيع على البيع والشراء على الشراء، بخلاف المزايدة والمناقصة فلا شيء فيها، لأنها تحدث قبل الاتفاق والاستقرار. 4 - وأما خطبة الرجل على خطبة أخيه، فصورتها أن يخطب رجل امرأة، ويحصل التراضي والاتفاق، فيأتي رجل آخر -وهو يعلم- فيخطب هذه المرأة، فإن لم يحصل التراضي، بأن رفض، أو لم يصرح بالتراضي، كوقت المشورة فالأصح أن لا تحريم، قال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضوا بالزواج ويسمى المهر. 5 - وأما سؤال المرأة طلاق أختها فصورته أن تسأل امرأة زوج امرأة

أخرى أن يطلق زوجته ويتزوج بها، وقيل صورته أن يخطب الرجل المرأة، وله امرأة فتشترط المخطوبة طلاق الأولى، لتنفرد به وذكر الأخ في البيع والخطبة، والأخت في سؤال الطلاق ليس للتقييد، بل للتلطف والعطف، والنهي يعم البيع على بيع الكافر، والخطبة على خطبته، وسؤاله طلاق الكتابية، فالمراد من الأخوة، الأخوة في الإنسانية، والمعنى في هذه المنهيات أنها توغر الصدور، وتورث الشحناء، ولهذا لو أذن له في ذلك صاحب الحق ارتفع الإثم على الأصح. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - النهي عن كل ما فيه تضييق على الناس. 2 - النهي عن هذه المذكورات الخمس وما في حكمها مما يحدث الشقاق والتباغض.

59 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم". -[المعنى العام]- يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الربا والتباسه بالبيع: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا إذا كان متساويين" أي مع الحلول والتقابض المعبر عنهما في حديث آخر "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء" أي "خذ وهات" أما إذا اختلف جنس الربويين مع اتحاد العلة كالفضة بالذهب فبيعوا كيف شئتم مع التفاضل بشرط أن يكون يدا بيد، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (والورق بفتح الواو وكسر الراء الفضة). -[المباحث العربية]- (إلا سواء بسواء) الاستثناء مفرغ، و"سواء" منصوب على الحالية على التأويل بمتساويين. (كيف شئتم) كيف حال، والمعنى على أي حال شئتم. -[فقه الحديث]- يشتمل الحديث على حكمين: 1 - بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، ومثلهما كل ربوي بمثله وشرط صحة بيعه التساوي والحلول والتقابض قبل التفرق، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وذهب مالك إلى وجوب التقابض عند الإيجاب بالكلام، فلو انتقل من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما، أي لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف، سواء كانا في المجلس أو تفرقا، وإذا اشتمل

العقد على ربوي من الجانبين ومعه غيره فلا بد من التماثل بين الربويين، ولو كان ذلك الغير المصاحب للمقترن معه في العقد من غير نوعه، كمد عجوة ودرهم، بمد عجوة ودرهم، وعليه فلا يصح بيع مائتي دينار جيدة أو رديئة أو وسط بمائة دينار جيدة ومائة رديئة، ولا بيع مائة رديئة بمائة وسط، والمراد من الذهب والفضة جميع أنواعهما المضروب وغير المضروب. 2 - بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، ومثلهما كل ربويين اتحدا في العلة واختلف جنسهما، وشرط صحة هذا البيع الحلول والتقابض، فالمراد من قوله: "كيف شئتم" كيف شئتم من ناحية التفاضل، أي لا يشترط التساوي المشروط مع الربويين اللذين من نوع واحد، أما إذا اختلفت العلة كذهب وحنطة، أو كان أحد العوضين أو كلاهما غير ربوي كذهب وثوب، أو عبد وثوب حل التفاضل والتأجيل والتفرق قبل القبض. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز بيع الربويات بعضها ببعض إذا تساويا مع القبض والحلول. 2 - يجوز بيع الربويات مع التفاضل إذا اختلف الجنس مع القبض والحلول. 60 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر" قال: وأخبرني زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره.

-[المعنى العام]- تشريع هام يحفظ حقوق المتبايعين، ويمنع الغرر والمخاصمة: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه" وينتفع به، ولا تبيعوا الثمر على الشجر، لأنه لا يمكن كيله، ولا وزنه، ولما كان العرب يعيشون على التمر والرطب، ولما اشتدت حالة القوم إلى المعاوضة بين الرطب واليابس رخص الشارع في بيع الرطب على النخيل خرصا بالتمر على الأرض كيلا -[المباحث العربية]- (الثمر) اسم جنس جمعي واحده ثمرة، وليس المراد به الجمع لأن النهي للجنس ولو ثمرة واحدة. (حتى يبدو صلاحه) حتى للغاية، فالتحريم المستفاد من النهي مغيا ببدو الصلاح و"يبدو" منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وهو مشتق من البدو وهو الظهور، ومعنى ظهور صلاح الثمر بلوغه صفة يطلبه الناس فيها غالبا للانتفاع به كظهور حمرته أو صفرته، ويختلف باختلاف الثمر. (ولا تبيعوا الثمر بالتمر) الأول بالمثلثة والثاني بالمثناة، والباء للعوض فالتحريم يعم ما لو جعل التمر ثمنا، وهو الغالب في استعمال الباء، أو مثمنا. (رخص بعد ذلك) أي شرع حكما ذا سهولة. والمشار إليه هو النهي عن بيع الثمر بالتمر. (في بيع العرية) مفرد العرايا، كقضية وقضايا، والعرية لغة: النخلة التي يستثنيها مالكها، ويخرجها من البيع للأكل، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم البستان من البيع، وبيع العرايا شرعا هو الرطب أو العنب على الشجرة خرصا بتمر أو زبيب على الأرض كيلا بشروط المماثلة بتقدير الجفاف. -[فقه الحديث]- سبب النهي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ما ورد في البخاري "أنهم

كانوا يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر العفن والدمان (الفساد والتعفن) وأصابه قشام (عيب يمنع التمر من أن يرطب) عاهات يحتجون بها، فقال صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه" فضلا عما فيه من عدم الانتفاع بالثمر، ومذاهب العلماء في ذلك البيع أنه إذا اشترط القطع صح البيع بالإجماع، وإن باع بشرط التبقية فالبيع باطل بالإجماع، لأنه ربما تتلف الثمرة قبل إدراكها، فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل، أما إذا شرط القطع فقد انتفى هذا الضرر، وعلة النهي أولا عن بيع الثمر بالتمر (وهو المسمى بيع المزابنة) أن الثمر وهو الرطب على النخل أو العنب على الشجر لا يمكن كيله ولا وزنه، فتقديره بأي كيل أو وزن لا يخلو من الغرر، وعلة الترخيص فيه ثانيا (وهو المسمى بيع العرايا) شدة الحاجة إليه، وفي قول الراوي: بالرطب أو التمر قال بعض العلماء: إن "أو" للتخيير وعليه فيجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض أو التمر الجاف، والجمهور على منع بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض، وحملوا "أو" في هذه الرواية على أنها للشك من الراوي، وقالوا: إن أكثر الروايات يدل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال: العرية بالتمر، وقاس العلماء العنب والبر على الرطب، بجامع أن الكل زكوي يمكن خرصه ويدخر يابسه وهو مشهور مذهب الشافعية، وألحق المالكية بالرطب كل ما يدخر يابسه، بخلاف ما لا يتحقق فيه هذا الجامع، كالمشمش والبرتقال، لأنها متفرقة مستورة بالأوراق، فلا يتأتى فيها الخرص، وهو المقصود بقوله: "ولم يرخص في غيره".

61 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره. -[المعنى العام]- حديث قدسي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول: قال الله عز وجل: ثلاثة أنازعهم وأعاديهم فأقهرهم وأذلهم يوم القهر والجزاء. رجل يعطي العهد ويؤكده بذكر اسمي، ثم يغدر بصاحبه، ورجل يتحكم في تصرفات الأحرار التي شرعتها لهم فيحرمهم من حريتهم، ورجل يستخدم الناس ولا يدفع لهم أجورهم التي استحقوها، استغلالا لسلطانه ونفوذه، أو مماطلا في أداء الحقوق. -[المباحث العربية]- (ثلاثة) مبتدأ سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة التخصيص بالإضافة والتقدير: ثلاثة أصناف من المكلفين. (أنا خصمهم) الخصم هو المنازع والمغالب، ويقع على المفرد وغيره والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، والمطابقة في التثنية والجمع لغة بعض العرب ومنها قوله تعالى: {هذان خصمان} والجملة خبر "ثلاثة". (يوم القيامة) التقييد بهذا الظرف مع أنه خصم لهم في جميع الأوقات لأنه وقت الجزاء.

(رجل) بدل من ثلاثة، والتخصيص به لا مفهوم له، فالحكم يشمل النساء، إنما ذكره لأن الغالب في خطاب الشرع أن يكون للرجال. (أعطى بي) مفعولا "أعطى" محذوفان اختصارا لظهورهما، والباء للملابسة، وفي الكلام مضاف محذوف، والجار والمجرور حال، والتقدير: أعطى أخاه العهد حال كونه متلبسا باسمي. (ثم غدر) أي نقض العهد ولم يف به. (باع حرا) الحر يستعمل في بني آدم على الحقيقة، وهو خلاف العبد. (فأكل ثمنه) المراد بالأكل الأخذ، من إطلاق الخاص على العام، أو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، أو إنه باق على حقيقته، وحمل غيره عليه على سبيل القياس بجامع الاستيلاء، ومثله قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا} وقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وتخصيص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقاصد الأخذ. (فاستوفى منه) المفعول محذوف، أي فاستوفى منه العمل. -[فقه الحديث]- ذكر هذا الحديث هنا لما فيه من حث على الوفاء بالعقود، ومنع بيع الحر وإعطاء الأجير أجره، وهو ينذر بالعذاب الشديد لهؤلاء الثلاثة، لأن من كان القاهر الجبار خصمه فالويل له. أما الأول فلأنه غدر بعباد الله، وهتك حرمة اسمه تعالى فكان غدره شنيعا وشرط ذلك أن يكون ذاكرا للعهد مختارا، وأما الثاني فليس المراد منه نفس البيع وأخذ الثمن، بل المراد الاستيلاء على الحر مطلقا، سواء باعه وأخذ ثمنه، أم لا ويشهد لذلك ما رواه أبو داود "ورجل اعتبد محررا" وهذه الرواية أعم مما هنا في الفعل، لأن الاعتباد يشمل البيع وغيره، وأخص منه في المفعول به، لأن المحرر هو من سبقت ملكيته، فالحر أعم منه فيحمل خصوص الفعل والمفعول في كل من الروايتين على العموم، واعتباد

المحرر، كما قال الخطابي: إما يعتقه مع كتمان ذلك أو جحوده، وإما باستخدامه كرها بعد عتقه، وشرطه: أن يكون عالما بحريته متعمدا استعباده. وإنما خاصم الله من استولى على الحر لأن المسلمين أكفاء في الحرية والذمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه. وأن ينصحه ولا يغشه وليس في الظلم أعظم من الاستعباد ومنع التصرف فيما أباح الله له. وإلزام الحر الذلة والصغار، وفي هذا يقول ابن الجوزي: الحر عبد الله، فمن جنى عليه فخصمه سيده، وأما الثالث فهو داخل في بيع الحر، لأنه استخدمه بغير عوض وهذا عين الظلم، وذكر الثلاثة ليس للتخصيص، لأنه سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، وإنما هو لإرادة التشديد على هؤلاء الثلاثة والإنكار عليهم لبشاعة فعلهم.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة الوكالة بفتح الواو، ويجوز كسرها، لغة التفويض، وشرعا تفويض -شخص أمره إلى آخر فيما يقبل النيابة، والأصل فيها قوله تعالى: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} 62 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ثم قال أعطوه سنا مثل سنه" قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه فقال "أعطوه فإن من خيركم أحسنكم قضاء". -[المعنى العام]- جاء أعرابي جاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبه برد ما استقرضه منه. طالب فأغلظ في المطالبة. وتكلم فعنف في الكلام، فغضب الصحابة من هذا التهجم على الحرم النبوي، خصوصا أنه ليس له ما يبرره، إذ لم يسبق لهذا الأعرابي أن طالب، ولم يبد من الرسول صلى الله عليه وسلم فور المطالبة ممانعة أو مماطلة، فهموا بإيذائه، أرادوا أن يتناولوه بالسوء، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتركوه، لأنه -وإن أساء -صاحب حق ثم أمرهم أن يعطوه بعيرا مثل بعيره الذي اقترضه منه، فلم يجد الصحابة عندهم في إبل الصدقة بعيرا في سن بعيره، فقالوا: لم نجد يا رسول الله إلا أحسن من بعيره سنا، قال لهم: أعطوه، فإن خيركم في المعاملة أحسنكم في القضاء، فلما أخذ الرجل البعير

نظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة سرور وإعجاب وشكر، وقال: أوفيتني أوفى الله بك، وصلى الله وسلم على صاحب الأدب الرفيع ورضي عن أحبابه الغيورين. -[المباحث العربية]- (يتقاضاه) أي يطلب منه أن يقضيه دينا له عليه، وهو بعير في سن معينة والجملة في محل النصب على الحال. (فأغلظ) أي شدد في المطالبة، ومفعوله محذوف تقديره: فأغلظ القول. (فهم به أصحابه) في الكلام مضاف محذوف، أي فهم بإيذائه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. (فإن لصاحب الحق مقالا) أي صولة الكلام وقوة الحجة، لكن ينبغي أن يكون ذلك على من يمطله أو يسيء معاملته. (سنا مثل سنه) أي بعيرا له سن مثل سن بعيره، وأصله: ذو سن: وأسنان الإبل معروفة في كتب اللغة. (لا نجد إلا أمثل) أي إلا أحسن في المثلية، والاستثناء مفرغ، وأمثل صفة لمفعول "نجد" والتقدير: لا نجد إلا بعيرا أمثل من بعيره. (أعطوه) مفعوله الثاني محذوف، والتقدير: أعطوه الأمثل. (فإن خيركم أحسنكم قضاء) نصب على التمييز، والمراد بالخيرية الخيرية في المعاملات. -[فقه الحديث]- مناسبة هذا الحديث لكتاب الوكالة قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "أعطوه سنا" لأن أمره بإعطاء السن وكالة في قضاء الدين، ولم يقف الحفاظ على اسم هذا الرجل، لكن قيل إنه يهودي، والصحيح أنه كان مسلما، وشدد في

المطالبة من غير قدر زائد يقتضي الكفر، بل جرى على عادة الأعراب من الجفاء في المخاطبة، ووقع في المعجم الأوسط للطبراني ما يفهم منه أنه العرباض بن سارية، ولكن رواية النسائي والحاكم تدل على غيره، وكأن القصة وقعت للأعرابي، ووقع للعرباض نحوها، وسبب هذا التقاضي ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم كان قد استقرض منه بعيرا للمساكين على الصدقات، فلما جاءت إبل الصدقة جاء هذا يطلب بديل بعيره، وقد اختلف الفقهاء في حكم استقراض الحيوانات، فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى جواز استقراض جميع الحيوانات، ومنع ذلك الحنفية، لحديث النهي عن بيع الحيوانات نسيئة، وجمع الشافعي بين هذا الحديث وحديث النهي بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين، والجواز على ما إذا كان ذلك من أحدهما، على أن حديث النهي مرسل عند الحفاظ، واستشكل إعطاؤه سنا خيرا من سنه بأن في ذلك ربا، لأن هذا القرض جر نفعا للمقرض، وأجيب بأن المنهي عنه هو ما كان مشروطا في القرض، كشرط رد صحيح عن مكسر، أو رد زيادة في القدر أو الصفة. أما لو فعل ذلك بدون شرط كما هنا استحب حسن القضاء، ولم يكره للمقرض الأخذ خلافا للمالكية. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز توكيل الحاضر الصحيح، وهو مذهب الجمهور، ومنعه أبو حنيفة إلا بعذر أو سفر أو برضى الخصم، واستثنى مالك من بينه وبين الخصم عداوة. 2 - وجواز توكيل الغائب أيضا، لأنه إذا جاز توكيل الحاضر مع إمكان مباشرة الموكل بنفسه فجوازه للغائب مع الاحتياج إليه أولى. 3 - وجواز الأخذ بالدين، ولم يختلف العلماء في جوازه عند الحاجة. 4 - وجواز الوكالة في قضاء الدين. 5 - وفيه حجة لمن قال يجوز قرض الحيوان. 6 - وفيه ما يدل على أن القرض إذا أعطاه المستقرض أفضل مما

اقترض جنسا أو كيلا أو وزنا جاز، وطاب له أخذه منه، لأنه صلى الله عليه وسلم أثنى فيه على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده. 7 - وفيه دليل على أن للإمام أن يقترض للمساكين على الصدقات ولسائر المسلمين على بيت المال، لأنه كالوصي لجميعهم والوكيل عنهم. 8 - وفيه دليل على أن للإمام إذا اقترض للمساكين أن يرد من أموالهم أكثر مما أخذ على وجه النظر والصلاح إذا كان على غير شرط. 9 - وفيه حسن خلقه وكرمه وقوة صبره على الجفاة مع قدرته على الانتقام منهم. 10 - وفيه أن من أذى السلطان فلأصحابه أن يعاقبوه وينكروا عليه. 63 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا؟ " قال بلال كان عندنا تمر ردي فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عند ذلك أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر

ببيع آخر ثم اشتر به". -[المعنى العام]- رغب بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود أنواع التمر، فذهب إلى السوق بصاعين من التمر الرديء الموجود لديه، وباعهما بصاع جيد، وقدمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارتاب في الأمر، إذ لا عهد له بهذا اللون عند بلال فسأله من أين لنا هذا التمر الجيد يا بلال؟ فأجاب: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع من هذا، فأسرع الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان التألم والضجر: أوه. أوه. هذا عين الربا يا بلال. كيف يخفى عليك هذا الأمر؟ لا تفعل مثل هذا أبدا انطلق فرده على صاحبه وخذ تمرك وبعه بحنطة أو شعير أو نحو ذلك، ثم اشتر به من هذا التمر، ثم جئني به. -[المباحث العربية]- (بتمر برني) بفتح وسكون الراء وكسر النون بعدها ياء مشددة، نوع من التمر أصفر مدور، وهو أجود الأنواع، قال بعضهم: قيل له ذلك لأن كل تمرة تشبه البرنية. (كان عندي) وفي رواية (كان عندنا). (ردي) بالياء المشددة بدون همزة في آخره، وأصله رديء بالهمزة على وزن فعيل، ورديء الشيء يردأ فهو رديء أي فاسد، ولما كثر استعماله حسن فيه التخفيف بأن قلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها وأدغمت في الياء. (ليطعم النبي) روي بالياء المفتوحة والعين المفتوحة، ولفظ النبي مرفوع على الفاعلية، وروي بضم الياء وكسر العين ولفظ النبي منصوب على المفعولية، والفاعل يعود على بلال، كأنه جرد من نفسه شخصا وأخبر عنه، وروي بالنون المضمومة بدل الياء وكسر العين ولفظ النبي منصوب، وروي "لمطعم النبي" بالمصدر بدل الفعل.

(عند ذلك) أي عند قول بلال. (أوه. أوه) بفتح الهمزة وتشديد الواو وسكون الهاء، وهي كلمة تقال عند الشكاية والحزن، ومن العرب من يمد الهمزة ويجعل بعدها واوين. (عين الربا. عين الربا) بالتكرار أيضا، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا البيع عين الربا. (لا تفعل) مفعوله محذوف أي لا تفعل هذا مرة أخرى. (أن تشتري) مفعوله محذوف أي تشتري التمر الجيد، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول أردت. (فبع التمر) ال في التمر للعهد أي التمر الرديء. (ببيع آخر) البيع هذا بمعنى المبيع، من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول والمعنى: بأي مبيع آخر غير التمر، كالحنطة والشعير والنقد. (ثم اشتر به) مفعول (اشتر) محذوف، وفي الكلام مضاف أيضا والتقدير: اشتر الجيد بثمن الرديء. -[فقه الحديث]- وجه ذكر هذا الحديث في كتاب الوكالة أن بلالا في هذا البيع والشراء كان وكيلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا باع الوكيل بيعا فاسدا فبيعه مردود. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "عين الربا لا تفعل" يعطي رد البيع، لأنه من المعلوم أن بيع الربا مما يجب رده، بل جاء في بعض الروايات الأمر بالرد، ولعل سكوت البعض للغفلة أو اعتمادا على أن ذلك معلوم. وإنما تأوه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ في الزجر، وتألمه إما من هذا الفعل، وإما من سوء الفهم، وقوله: "لا تفعل" معناه لا تشتر الربوي بجنسه إلا مثلا بمثل، فقد أجمعوا على أن التمر بالتمر لا يجوز بيعه بعضه ببعض إلا مثلا بمثل، سواء في ذلك الطيب والدون، وكله على اختلاف أنواعه جنس واحد.

باب ما جاء في الحرث والمزارعة

-[ويؤخذ من هذا الحديث: ]- 1 - البحث عما يستريب فيه الشخص حتى ينكشف حاله. 2 - اهتمام التابع بأمر متبوعه، وانتقاء الجيد له من أنواع الطعام وغيرها. 3 - جواز اختيار طيب المطعومات. 4 - قيام عذر من لا يعلم التحريم حتى يعلمه. 5 - اهتمام الإمام بأمر الدين وتعليمه لمن لا يعلمه. 6 - إرشاده إلى التوصل إلى المباحات وغيرها. 7 - جواز الوكالة في البيع والشراء. 8 - أن البيوع الفاسدة ترد. 9 - النص على تحريم ربا الفضل 10 - عظم أمر حرمة الربا. باب ما جاء في الحرث والمزارعة الحرث إثارة الأرض وطرح البذرة، والزرع في معناه، والمزارعة في الشرع هي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها، ويكون البذر من المالك، فإن كان من العامل فهي مخابرة، وهما إن أفردتا عن المساقاة باطلتان، للنهي عن المزارعة في صحيح مسلم وعن المخابرة في

الصحيحين، ولأن تحصيل منفعة الأرض ممكن بالإجارة، فلم يجز العمل عليها ببعض ما يخرج منها، كالمواشي حين يكربها على أن يكون الكراء مناصفة أو أثلاثا بين المالك ومن يتعهد ذلك، فإنه لا يجوز للجهل بالمقدار، أما الأشجار فإنه لا يمكن عقد الإجارة عليها، ولذا جوزت المساقاة، وأجاز بعض الأئمة المزارعة والمخابرة منفردتين، وحمل النهي على ما إذا اشترط لأحدهما زرع قطعة معينة وللآخر أخرى، فإن لم تفرد المزارعة أو المخابرة من المساقاة جازت تبعا، بشرط أن تقوم المساقاة عليها، ولأحوالها تفاصيل في كتب الفقه. 64 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". -[المعنى العام]- يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الغرس والزرع، فيبين ثواب الغارس والزارع فيقول: من غرس أو زرع زرعا لم يأكل منه آدمي أو طير أو خلق من خلق الله إلا كان له به أجر قصد إطعام هذه المخلوقات أو لم يقصد، رضي بذلك الأكل أو كره، فقد يثاب المرء رغم أنفه. ومثل ذلك الترغيب يقول صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة" أي نخلة صغيرة "فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فيغرسها" فله بذلك أجر. -[المباحث العربية]- (ما من مسلم) "من" زائدة داخلة على المبتدأ في سياق النفي لتأكيده. (يغرس غرسا أو يزرع زرعا) الغرس بمعنى المغروس، والزرع بمعنى المزروع، والغرس خاص بالشجر، والزرع بالنبات، و"أو" للتنويع. (أو بهيمة) هي كل ذوات أربع قوائم من دواب البر والماء ما عدا

السباع والطيور، وتطلق على كل حي لا نطق له، وذلك لما في صوته من الإبهام، والمعنى الثاني أنسب هنا، لعمومه وشموله السباع وغيرها مما ورد في روايات أخرى. -[فقه الحديث]- ورد في هذه الرواية "ما من مسلم" وفي أخرى "ما من رجل" وفي ثالثة "ما من عبد" فالمراد بالرجل والعبد المسلم، سواء كان حرا أو عبدا، مطيعا أو عاصيا، حملا للمطلق في "رجل" و"عبد" على المقيد، وهو المسلم، ويلحق به المسلمة، إذ المقصود من لفظ المسلم الجنس فيشمل كل من اتصف بهذا الوصف ذكرا كان أو أنثى، وعلى ذلك فالتقييد بالمسلم يخرج الكافر، فلا ثواب له في الآخرة، لأن القرب إنما تصح من المسلم، فإن تصدق الكافر أو فعل شيئا من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة، وإنما يثاب عليه في الدنيا بزيادة مال أو ولد. وهكذا قال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} وقال {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وفي مسلم عن عائشة قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفع. إنه لم يقل يوما {رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} يعني لم يكن مصدقا بالبعث، ومن لم يصدق به كافر؟ ولا ينفعه عمل، وجاء في مسلم أيضا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم معبد في نخل لها فقال "لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة" وقال بعضهم: التقييد بالمسلم في حديثنا لأن الغالب في خطابه صلى الله عليه وسلم أن يكون للمسلمين وليس للاحتراز به عن الكافر، أما الكافر فلا يبعد أن يخفف عنه عمل الخير من عذاب غير الكفر كالتخفيف الذي سيحصل لأبي طالب بسبب إكرامه لنبينا صلى الله عليه وسلم، أما عذاب الكفر فلا يخفف عنه منه شيء كما أنه لا ينعم ويخلد في النار، وقد رجح الشرقاوي هذا الرأي الثاني وحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في ابن جدعان "لا ينفع" حمله على عدم النفع في دخول الجنة، فلا ينافي أن ينفعه في

التخفيف، وقال: إن حمل المطلق على المقيد خلاف الظاهر، والإطلاق في قوله صلى الله عليه وسلم "يغرس غرسا أو يزرع زرعا" يتناول من غرسه للتصدق به، ومن غرسه لعياله أو لنفقة، لأن الإنسان يثاب على ما يسرق منه، ولو لم ينو ثوابه، ولا يختص حصول الثواب بمن يباشر الغرس أو الزراعة، بل يتناول من استأجر لعمل ذلك، وللأجير منه أجر كذلك، كالبناء للمسجد يثاب على عمله كما يثاب المنفق على البناء، وذلك بشرط أن يحسن النية. ويبتغي بذلك وجه الله وإن أخذ أجرته أو أكثر، كذلك الإطلاق في قوله "فيأكل منه طير ... " إلخ يشمل ما لو أكلت هذه المخلوقات بسبب عجزه عن حصاده، أو تركه لبعض الحب في الأرض رغم أنفه، وقد جاء "من زرع زرعا أو غرس غرسا فله أجر ما أصابت منه العوافي" أي طالبات الفضل والرزق. وهذه الرواية تفسر لنا مدى ما يصل إلى الزارع من الثواب، وأنه باق ما بقي ذلك الزرع أو الغرس، أو ما بقي الانتفاع به لو مات زارعه أو غارسه، وبهذا التفسير فسرت رواية مسلم "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"، وليس هذا الأجر قاصرا على الغارس أو الزارع بل يعم كل ما في معناهما، فقد ورد "من بنى بيتا في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجر جار ما انتفع من خلق الرحمن تبارك وتعالى أحد" كذلك من أقام صدقة جارية أو ترك علما ينتفع به أو ولدا صالحا يدعو له، أو علم قرآنا، أو حفر بئرا، أو أجرى نهرا، أو بنى مسجدا، أو مدرسة أو مستشفى، أو نحو ذلك. وللجمع بين هذا الحديث وبين ما رواه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا "لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا" قيل: إن النهي محمول على الاستكثار من الضياع والانصراف إليها بالقلب الذي يفضي بصاحبه إلى الركون إلى الدنيا، وللجمع بين هذا الحديث الذي يفهم منه تفضيل الزراعة على غيرها من المكاسب وبين الأحاديث الكثيرة الدالة على أفضلية الكسب باليد قيل: إن الزراعة إذا كانت باليد كانت أفضل المكاسب، وقيل إن الكسب باليد أطيبه من حيث الحل، والزراعة أفضل من حيث الانتفاع العام، فهو نفع متعد إلى الغير، وحيث أن الأمر كذلك ينبغي أن يختلف الحال باختلاف حاجة الناس، فحيث كان الناس محتاجين إلى الأقوات أكثر كانت الزراعة أفضل، للتوسعة

على الناس، وحيث كانوا محتاجين إلى المتاجر لانقطاع الطرق كانت التجارة أفضل، وحيث كانوا محتاجين إلى الصنائع أكثر كانت الصناعة أفضل. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضل الغرس والزرع. 2 - أن الثواب المترتب على أفعال البر في الآخرة، يختص بالمسلم دون الكافر. 3 - أن الأجر للغارس والزارع وإن لم يقصد الأجر. 4 - أن الغرس والزرع واتخاذ الصنائع مباح وغير قادح في الزهد. 5 - الحض على عمارة الأرض لنفسه ولمن يأتي من بعده. 6 - جواز نسبة الزرع إلى الآدمي. 7 - جواز اتخاذ الضيعة والقيام عليها.

65 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أجلى عمر اليهود والنصارى من أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "نقركم بها على ذلك ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. -[المعنى العام]- يحدث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتصر على أهل خيبر، وقد فتح بعضها عنوة وبعضها صلحا آلت الأرض المفتوحة عنوة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، والتي فتحت صلحا كانت لليهود، ثم صارت للمسلمين بعد الصلح، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج اليهود من أرض خيبر جميعها، ولكنهم طلبوا أن يعملوا في أرض المسلمين على سبيل المساقاة، بأن يتحملوا عمل نخلها ومراعيها، والقيام بتعهدها وعمارتها، مقابل نصف تمرها، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مطالبهم، وقال: نقركم بها. ونسكنكم إياها، على قيامكم بالعمل مقابل نصف التمر، لا دائما، بل ما شئنا، وعقد معهم عقد المساقاة، واستقروا بالديار حتى تولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين، فنفذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها عند موته بإخراجهم من أرض الحجاز، فأجلاهم عمر رضي الله عنه إلى أطراف الجزيرة العربية من الشمال. -[المباحث العربية]- (أجلى) يقال: جلا القوم عن الوطن إذا خرجوا مفارقين، وأجلى لازم ومتعد.

(من أرض الحجاز) جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة ونجد وحجاز وعروض ويمن، فالحجاز شقة على ساحل البحر الأحمر تشمل مكة والمدينة. (لما ظهر على خيبر) أي تغلب وانتصر. (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها) يقال: قر في المكان بمعنى سكن، وأقره بمعنى أسكنه، أي فاوضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسكنهم بخيبر. (أن يكفوا عملها) "أن" مصدرية، وحرف الجر محذوف، والتقدير بكفاية عملها، وفي رواية "أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها". (على ذلك) أي على ما ذكر من كفاية العمل ونصف التمر. (ما شئنا) "ما" مصدرية ظرفية أي مدة مشيئتنا. (إلى تيماء) بفتح التاء وسكون الياء، من أمهات القرى شمال نجد قرية من الشام. (وأريحاء) بفتح الهمزة وكسر الراء، قرية بفلسطين. -[فقه الحديث]- تمسك بعض أهل الظاهر بقوله "نقركم بها على ذلك ما شئنا" على جواز المساقاة إلى أجل مجهول، وجمهور الفقهاء على أنها لا تجوز إلا لأجل معلوم ووجهوا الحديث بأن هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كان أثناء الصلح، ثم أفرد عقد المساقاة وحدده، أي أنه صلى الله عليه وسلم أجابهم إلى الإبقاء، ووقفه على مشيئته، وبعد ذلك عاملهم على المساقاة، وقال النووي: جازت المساقاة بغير أجل للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة أول الإسلام، وقال أبو ثور: إذا أطلقت المساقاة اقتضى ذلك سنة واحدة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أنه لا فرق في جواز المزارعة بين المسلمين وأهل الذمة، لأنه لما

باب الشرب

جازت المزارعة مع اليهود جازت مع غيرهم من أهل الذمة كذلك. 2 - وفيه مساقاته صلى الله عليه وسلم على نصف التمر فتقتضي عموم الثمر، ففيه حجة لمن أجازها في الأصول كلها. وقال الشافعي: لا تجوز إلا في النخل والكرم خاصة. 3 - وفيه إجلاء عمر رضي الله عنه اليهود من الحجاز، لأنهم لم يكن لهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم على بقائهم في الحجاز دائما، بل كان ذلك موقوفا على مشيئته، ولما عهد صلى الله عليه وسلم عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب، وانتهت الخلافة إلى عمر رضي الله عنه أخرجهم إلى تيماء وأريحاء بالشام. 4 - استدل به على أن صاحب الأرض إذا قال للمزارع: أقرك كما أقرك الله، ولم يذكر أجلا معلوما جاز. باب الشرب 66 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: حلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجن وهي في داري وشيب لبنها بماء من البئر التي في داري فأعطى** رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح فشرب منه حتى إذا نزع القدح من فيه وعلى يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فقال عمر: وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر يا رسول الله عندك فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه ثم قال الأيمن فالأيمن.

-[المعنى العام]- دعا أنس بن مالك رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره وقدم إليه إناء فيه لبن مخلوط بماء، فشرب رسول الله منه، فلما أبان القدح عن فمه نظر إلى القوم، وفيهم أبو بكر عن يساره وعمر من أمامه وأعرابي عن يمينه، ورأى عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يميل الإناء نحو الأعرابي، فخشي أن يقدمه على أول مصدق في الإسلام، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقال: أعط أبا بكر بجوارك يا رسول الله وفطن الرسول إلى مقصد عمر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصد مقصدا أسمى، فناول الأعرابي كان يقصد أن يربي الأمة، وأن يغرس في نفوسهم أن الناس سواسية أمام الأحكام الشرعية، وأن اليمين مقدم على الشمال، ولئن طيب التشريع نفوس الكبراء بتقديمهم عند تساوي بعض الأوصاف، فقد طيب نفوس الضعفاء والفقراء بتقديمهم إذا هم سبقوا إلى الأماكن المفضلة الشرعية، فإن فاتتهم فرصة الجاه والمكانة، فأمامهم فرصة السبق إلى عمل الخير، وإلى المكان المقدم لينالوا الفضل والفضيلة. -[المباحث العربية]- (شاة داجن) الداجن شاة ألفت البيوت وأقامت بها، قال ابن الأثير الداجن الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، ولم يقل: داجنة لأن الشاة تذكر وتؤنث. (وشيب لبنها بماء) الفل على صيغة المبني للمجهول، من شاب يشوب أي خلط (فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح) فاعل "أعطى" ضمير يعود على أنس، وأصل الرواية بضمائر الغيبة، ولفظها "حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجن -وهو دار أنس بن مالك -وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح .... ". (إذا نزع القدح) أي قلعه من فمه وأبعده عنه، وجواب إذا محذوف

تقديره: مال نحو الأعرابي. (وعلى يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي) قيل: إنه خالد بن الوليد ورد بأنه لا يقال له أعرابي، وسبب تعبيره أولا بعلى وثانيا بعن أن موضع اليسار كان مرتفعا فاعتبر استعلاؤه، أو كان الأعرابي بعيدا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والجملة حال. (فقال عمر) الفعل معطوف على جواب "إذا" (وخاف أن يعطيه الأعرابي) فاعل "يعطي" يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والهاء مفعوله الثاني ويعود على القدح، والأعرابي مفعوله الأول. وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول "خاف" وفاعلها يعود على عمر، وجملة خاف في محل النصب على الحال بتقدير "قد" عند من يشترط اقتران الماضي بها إذا وقع حالا. (أعط أبا بكر يا رسول الله عندك) مفعول أعط الثاني محذوف، أي أعط أبا بكر القدح، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا أي أعط أبا بكر حالة كونه عندك ومجاورا لك. (الأيمن فالأيمن) بالنصب على تقدير: قدموا أو أعطوا. وبالرفع على تقدير الأيمن أحق، ويدل على ترجيح رواية الرفع ما جاء في بعض الطرق "الأيمنون. الأيمنون. الأيمنون". -[فقه الحديث]- يمكن إجمال نقاط الحديث في: 1 - وجهة نظر عمر في طلبه. 2 - آراء الفقهاء في تقديم الأيمن في الشراب مع توجيه الأحاديث. 3 - وآرائهم في تقديمه في غير الشراب مع التوجيه. 4 - الجمع بين الحديث وبين أحاديث معارضة.

5 - ما يؤخذ من الحديث من أحكام، وهذا هو التفصيل: أولا: قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا العرض تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلام الأعرابي بجلالة قدر أبي بكر رضي الله عنه. ثانيا: وجمهور الفقهاء على استحباب تقديم من هو يمين الشارب في الشرب وإن كان مفضولا بالنسبة إلى من هو على يسار الشارب، لفضل جهة اليمين على جهة اليسار. قال القاضي عياض: وهذا لا خلاف فيه. وقال النووي: إنها واضحة، وخالف في ذلك ابن حزم فقال لا بد من مناولة الأيمن كائنا من كان، فلا يجوز مناولة الأيسر إلا بإذن الأيمن، ويؤيده ظاهر ما ورد في البخاري "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره فقال: يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ قال: ما كنت لأوثر بفضل منك أحدا يا رسول الله. فأعطاه إياه" وما ورد عن ابن عباس قال: "دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة فجاءتنا بإناء فيه لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه وخالد عن يساره فقال لي: الشربة لك، وإن شئت آثرت خالدا، فقلت: ما كنت لأوثر بسؤرك أحدا" والجمهور يحمل هذه الأحاديث على الندب، لا على الوجوب، وإنما استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس أن يعطي خالد بن الوليد ولم يستأذن الأعرابي في أن يعطي أبا بكر ائتلافا لقلب الأعرابي وتطييبا لنفسه، وشفقة عليه أن يسبق إلى قلبه شيء يهلك به، لقرب عهده بالجاهلية ولم يجعل ذلك لابن عباس لقرابته صلى الله عليه وسلم ولصغر سنه، ولأن الأشياخ أقاربه فاستأذنه تأدبا ولئلا يوحشهم بتقديمه عليهم، وتعليما بأنه لا ينبغي أن يدفع لغير الأيمن إلا بإذنه. ثالثا: والجمهور على أن غير المشروب من الفاكهة واللحم وغيرها حكمه حكم الماء. ونقل عن مالك تخصيص ذلك بالشراب، ولعل ملحظه أن الشرب يكون خيره في أوله غالبا، ولأن النفس تعاف السؤر عادة، فرفعا لهذا الحرج احتجنا إلى مرجح شرعي، وهو تقديم الأيمن لفضل اليمين أما غير الشراب فالمتأخر يتساوى في الخير مع المتقدم، بل قد يفضله في النوع أو الكمية.

رابعا: وقد تعارض ظاهر الحديث مع ما ورد "ابدءوا بالكبراء" أو قال "بالأكابر" وجمع بينهما بأن البدء بالكبراء إنما يكون إذا لم يوجد أحد على جهة اليمين، بأن كان الحاضرون تلقاء وجه المناول أو وراءه: فتقديم الأفاضل والكبار هو عند التساوي في باقي الأوصاف. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية تقديم من هو على يمين المناول. 2 - جواز شرب اللبن بالماء لنفسه أو لأهل بيته أو لأضيافه، وإنما يمنع ذلك إذا أراد بيعه، لأنه غش حرام. 3 - أن الجلساء شركاء في الهدية، وذلك على جهة الأدب والمروءة والفضل والأخوة، لا على الوجوب، لإجماعهم على أن المطالبة بذلك غير واجبة. 4 - أن من قدم إليه شيء من الطعام أو الشراب استحب له قبوله إذا علم طيب مكسب صاحبه. 5 - أن من سبق إلى مجلس عالم أو كبير أو إلى موضع من المسجد أو إلى موضع مباح فهو أحق ممن يجيء بعده كائنا من كان، ولا يقام أحد من مجلس جلسه. 6 - فضيلة اليمين على غيرها. 7 - أن من استحق شيئا من الأشياء لا يصرف عنه إلى غيره مهما كانت مرتبته.

باب إثم من منع ابن السبيل الماء

باب إثم من منع ابن السبيل الماء 67 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل ثم قرأ هذه الآية {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} [سورة آل عمران: الآية 77]. -[المعنى العام]- يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم وينذر بالسخط الشديد والعذاب المؤلم يوم القيامة لثلاثة من الناس، ولغيرهم ممن ورد النهي عن أفعالهم، وبأنهم لا يقبلهم ربهم يوم الحساب ولا يغفر لهم إساءتهم وظلمهم، أول هؤلاء رجل عنده ماء فاضل عن حاجته في بئره، أو في حوضه، أو في قربته، وطلبه صاحب حاجة شديدة فمنعه عنه، سيغضب رب العزة على هذا الآثم وسيحرمه من فضله وإحسانه يوم القيامة ويقول له: اليوم أمنعك من فضلي كما منعت

فضل ما لم تعمل يداك، وثانيهم رجل لا يقصد من مبايعة الإمام الأعظم واختياره إلا دنيا يصيبها، إن هو أعطيها رضي ولو انتهكت حرمات الله واغتصبت أموال الآخرين، وإن لم يعطها سخط ونقض البيعة، وحاول إشعال الفتنة ولو كان الإمام أعدل الحكام، والثالث رجل يبيع آخرته بدنياه ويشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا ومتاعا فانيا، ويقسم كاذبا ويؤكد القسم بالله الذي لا إله إلا هو أنه دفع في متاعه الذي يريد بيعه أكثر مما يعرضه عليه هذا المشتري. أو أنه عرض عليه ثمن أكثر مما يعرض عليه الآن، فيغتر المشتري وينخدع بالأيمان، فيشتري بما أقسم البائع عليه أو بأكثر منه، ألا فليذكر هذا الظالم قوله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} -[المباحث العربية]- (ثلاثة) مبتدأ سوغ الابتداء به ملاحظة الوصف المحذوف، أي ثلاثة من الناس، والتنصيص على العدد لا ينافي الزائد. (لا ينظر الله إليهم) يحتمل أن النظر المنفي نظر الرضى، أي لا ينظر إليهم نظرة رضى ورحمة، وإنما ينظر إليهم نظرة سخط وغضب. وقيل إن الكلام كناية عن الإعراض عنهم والاستهانة بهم وعدم الإحسان إليهم والتقييد بيوم القيامة لأنه يوم المجازاة وبه يحصل التهديد والوعيد. (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من ذنوبهم التي اقترفوها أو لا يثني عليهم. (ولهم عذاب أليم) فعيل بمعنى اسم الفاعل أي عذاب مؤلم. وفائدة هذه الجملة بعد ما قبلها التخويف بالعذاب البدني بعد التخويف بالعقاب الروحي. (رجل) بدل من "ثلاثة" أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أحدهم رجل والتخصيص بهذا الوصف لا مفهوم له فيشمل الحكم النساء، وإنما ذكره لأن

الخطاب الشرعي على أغلب ما يكون للرجال، والنساء شقائق الرجال إلا فيما خصهن الشارع من أحكام. (فضل ماء) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ماء فاضل عن حاجته و"فضل" اسم "كان" وجملة "كان" في محل رفع صفة رجل (بالطريق) هذا القيد للغالب، ولإبراز شناعة الفعل، فإن الماء إذا كان في عرض الطريق ومنع منه ابن السبيل كان الفعل شنيعا، والحكم يشمل منع الماء الفاضل عن ابن السبيل وإن لم يكن الماء في الطريق. (فمنعه من ابن السبيل) أي فمنع الماء الفاضل عن حاجته من المسافر الذي يحتاجه. (بايع إماما) المراد به الإمام الأعظم، وفي رواية "بايع إمامه" والمراد من المبايعة هنا المعاقدة عليه وإعطاء العهد له، كأن كل واحد منهما باع ما عنده لصاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته، فمن جانب الرعية بذل الوعد بالطاعة ومن جانب الإمام بذل الوعد بالرعاية. (لا يبايعه إلا لدنيا) أي إلا لأجل شيء يحصل له من متاع الدنيا والجملة حال من فاعل "بايع" والمعنى: بايع غير مبايع إلا لدنيا. (فإن أعطاه) تفسير لمبايعته الإمام للدنيا. (أقام سلعته) أي أنفق سلعته، أي باعها، أي أراد أن يبيعها، من قامت السوق إذا نفقت، ويحتمل أن يكون المعنى: أقام سلعته في السوق أي وضعها. لقد أعطيت بفتح الهمزة، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: لقد أعطيت بائعها كذا عوضا لها. أو بضم الهمزة مبنيا للمجهول أي أعطاني أي عرض على من يريد شراءها كذا. وتوكيد الجملة باليمين واللام وكلمة "قد" التي هنا للتحقيق مظهر من مظاهر شناعة الجرم. (كذا وكذا) "كذا" كلمة واحدة مركبة من كلمتين، مكنيا بها عن العدد

لا تستعمل إلا معطوفا عليها مثلها، وهي هنا في محل النصب مفعول ثان لأعطيت، وتحتاج إلى تمييز، وهو محذوف تقديره: كذا وكذا درهما مثلا. (فصدقه رجل) المراد به المشتري. -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من هذا الحديث: ]- 1 - أن صاحب الماء أولى به عند حاجته، إذ الحديث ينذر بالعقاب من منع الفضل، فدل ذلك على أنه أحق بالأصل. 2 - أن في منع الماء الفاضل عن المستحق إثما، إذ لو لم يأثم المانع لما استحق هذا الوعيد. 3 - حرمة نقض البيعة، والغضب لغير الله وحدوده. 4 - الحث على اختيار الإمام الصالح للدين والدنيا. 5 - النهي عن اليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال المسلم، وقد ورد في ذلك الوعيد الشديد. أخرج الحاكم "من اقتطع مال امرئ بيمينه حرم الله عليه الجنة وأدخله النار، قالوا: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان سواكا، وإن كان سواكا". 6 - النهي عن الأيمان الكاذبة عند البيع، سواء كان البيع بعد العصر أو قبله، وإنما خص الحديث بعد العصر بالذكر لأنه الوقت الغالب للبيع في تلك البلاد، أو لما فيه من زيادة الجرأة إذ هو وقت تعظم فيه المعاصي، لصعود الملائكة بالأعمال إلى الله، فيعظم أن يرتفعوا بالمعاصي، ويكون هذا الذنب آخر عمله، والعبرة بالخواتيم ولهذا يغلظ به في أيمان اللعان.

باب فضل سقي الماء

باب فضل سقي الماء 68 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له" قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر". -[المعنى العام]- يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على الإحسان إلى الحيوانات، ويشير إلى سعة فضل الله وإنه قد يغفر الذنب الكبير بعمل الخير اليسير، فيقول: كان رجل يمشي بصحراء بطريق مكة فعطش عطشا شديدا فوجد بئرا، فنزل فشرب، ثم خرج. فلقي كلبا يلهث، وقد ضاقت أنفاسه من شدة العطش، فأشفق الرجل على هذا الكلب، وقال في نفسه: وقد تذكر الألم الذي أصابه منذ قليل قبل أن يروى. قال في نفسه: إن هذا الكلب يعاني ما عانيت من الجهد والمشقة والظمأ، فنزع خفه ونزل البئر فملأه ماء ثم أمسكه بفمه ليعالج الصعود العسير بيديه، فصعد فوضع الخف أمام الكلب، وجعل يغرف له بخفه حتى

أرواه وانصرف، فغفر الله له، وأدخله الجنة بسبب إحسانه إلى هذا الحيوان، قال السامعون من الصحابة -وقد عجبوا لهذا الأجر العظيم -كأن لنا في سقي بهائمنا أجرا يا رسول الله؟ قال: نعم لكم أجر في سقي كل حيوان حي. -[المباحث العربية]- (بينا) مثل بينما والتقدير: اشتد العطش على رجل في وقت مشيه. (رجل يمشي فاشتد) "رجل" مبتدأ و"يمشي" خبره، والفاء واقعة موقع الفجائية التي تقع بعد بينا و"اشتد" جواب بينا، وهو المفسر للعامل فيها. (ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث) أي خرج من البئر، و"إذا" فجائية، وتختص بالجملة الإسمية، وهي حرف عند الأخفش، ظرف عند غيره، وعاملها قيل: مقدر مشتق من لفظ المفاجأة، أو نفس الخبر، ولفظ "هو" مبتدأ و"كلب" متعلق بالخبر المحذوف وجملة "يلهث" في محل جر صفة كلب، والتقدير: هو مفاجأ بكلب لاهث وقت خروجه، ويصح جعل الضمير للشأن مبتدأ أول والباء زائدة، و"كلب" مبتدأ ثان، وجملة "يلهث" خبره، والجملة خبر ضمير الشأن، ومعنى "يلهث" يرتفع نفسه بين أضلاعه وينخفض، أو يخرج لسانه، وقيل معناه: يبحث بيديه ورجليه في الأرض. (يأكل الثرى) الجملة في محل جر صفة أخرى لكلب، أو في محل نصب على الحال من ضميره في "يلهث" أو منه باعتبار تخصصه بالوصف، والثرى هو التراب الندي. (بلغ هذا مثل الذي بلغ بي) لفظ "مثل" ضبط بضم اللام على أنه فاعل بلغ واسم الإشارة مفعوله، وضبط بفتح اللام على أن اسم الإشارة فاعل "ومثل صفة لمصدر محذوف أو صفة لمفعول به محذوف، والتقدير: لقد بلغ هذا الكلب مبلغا مثل الذي بلغ بي أو عطشا مثل الذي بلغ بي. (ثم رقي) بفتح الراء وكسر القاف على مثال صعد لفظا ومعنى أما رقى

بفتح القاف فمن الرقية، وليس هذا موضعه، وقيل: إنه روي كذلك، ويمكن تخريجه على لغة طيئ الذين يفتحون العين فيما كان من الأفعال معتل اللام كبنى ورضى، والأول أفصح وأشهر. (فشكر الله له فغفر له) عطف "غفر" على "شكر" بالفاء أدى إلى تفسير الشكر بالثناء أو قبول العمل، وتكون الفاء للسببية، أي أثنى عليه عند ملائكته فغفر له، أو قبل عمله فغفر له ويجوز أن يكون الغفران هو نفس الشكر وتكون الفاء تفسيرية كقوله تعالى {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} على قول من فسر التوبة بالقتل، وقال القرطبي: معنى قوله "فشكر الله له" أظهر ما جازاه به عند ملائكته. أهـ. وكأن في الكلام تقديما وتأخيرا. والأصل فغفر الله له، فأظهر مغفرته له للملائكة. (قالوا) أي الصحابة ومنهم سراقة بن مالك كما جاء في رواية ابن ماجه. (وأن لنا في البهائم أجرا) الواو عاطفة على محذوف، وهمزة الاستفهام التعجبي مقدرة، وفي الكلام مضاف محذوف والتقدير، الأمر كذلك وإن في سقي البهائم أجرا؟ . (في كل كبد رطبة أجر) يجوز في "كبد" ثلاثة أوجه: فتح الكاف وكسر الباء وفتح الكاف وسكون الباء للتخفيف، وكسر الكاف وسكون الباء، قال حاتم: الكبد يذكر ويؤنث ولهذا قال: رطبة. والمراد بالرطوبة رطوبة الحياة، ولفظ "أجر" مبتدأ مؤخر، وفي الكلام مضاف محذوف والتقدير، أجر حاصل في إرواء كل كبد حي. -[فقه الحديث]- فهم البعض من هذا الحديث أن الرجل كان مسافرا منفردا فاستشكل بالنهي عن سفر الرجل وحده، لكن الحديث لا يدل على أنه كان مسافرا، فقد قال "بينا رجل يمشي" فيجوز أن يكون ماشيا في أطراف المدينة، وعلى فرض كونه مسافرا فيحتمل أنه كان معه رفقة فانقطع عنهم في الفلاة لضرورة

فجرى له ما جرى فلا يفهم منه جواز السفر منفردا، وقد خصص بعض العلماء قوله "في كل كبد رطبة أجر" خصصه بالحيوان المحترم الذي لا ضرر فيه، وقالوا: كان الرجل من بني إسرائيل، وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب، وكل مأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره، قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه، والذي ترتاح إليه النفس بقاء الحديث على عمومه، لأن أصل الحديث مبني على إظهار الشفقة لمخلوقات الله من الحيوانات، وإظهار الشفقة لا ينافي إباحة قتل المؤذي، فيُسقى، ثم يقتل، لأنا أمرنا أن نحسن القتلة ونهينا عن المثلة، وعلى قول مدعي الخصوص: الكافر الحربي والمرتد الذي استمر على ارتداده إذا قدما للقتل، وكان العطش قد غلب عليهما ينبغي أن يأثم من يسقيهما، لأنهما غير محترمين في ذلك الوقت، ولا يميل قلب شفوق فيه رحمة إلى منع السقي عنهما، بل يسقيان ثم يقتلان. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على الإحسان إلى الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي كلب فسقي بني آدم أعظم أجرا. 2 - أن سقي الماء من أعظم القربات، قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. 3 - احتج به بعضهم على جواز صدقة التطوع على المشركين.

باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار

باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار 69 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر" وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر؟ فقال: "ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [سورة الزلزلة: الآيات 7 - 8] -[المعنى العام]- بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن النتائج الأخروية لتربية الخيل ثلاث، لأنها إما أن يؤجر من أجلها صاحبها، وإما أن يؤزر، وإما ألا يؤجر ولا يؤزر، أما الأول فهو مسلم رباها للجهاد في سبيل الله، وأعدها لقتال أعداء الإسلام، فله بإطعامها أجر وبسقيها أجر، سواء تعب أم لم يتعب، حتى لو قطعت حبلها وجرت أشواطا فأكلت من مباح أو شربت من مباح فله بهذا الأكل والشرب

أجر، حتى آثار حوافرها وأروائها على الأرض، له به حسنات. وأما الثاني الذي تكون عليه وزر فرجل رباها للرياء والفخر، أو لمناوأة المسلمين، يعدو عليهم بها، أو يطلقها على مزارعهم فهي إثم. وأما الثالث فرجل رباها ليستغني بنتاجها عن سؤال الناس وليتعفف بما يعمله عليها ويكتسبه على ظهورها عما في أيدي الناس، أو يتردد عليها إلى متاجره أو مزارعه ثم لم ينس حق الله في رقابها فيؤدي صدقتها أو زكاة تجارتها إن كانت للتجارة، ولا يحملها ما لا تطيقه، ويغيث بها الملهوف ومن تجب معونته فهذه تكون له سترا من الفقر والحاجة. وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحمر، وهل في تربيتها هذه الأوضاع الثلاثة: فأجاب السائلين إلى القاعدة الإسلامية العامة، وإلى آية جامعة فريدة، تغني عن كثير من التفاصيل {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} أي من أحسن النية وأحسن معاملة ما تحت يده رأى جزاء ذلك خيرا في الآخرة، ومن أساء النية أو أساء المعاملة لقي جزاء ما قدم شرا في الآخرة، وهكذا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشيء الواحد يكون سببا في الأجر عند شخص، وسببا في الوزر عند آخر، لا لأنه استعمل في الخير أو الشر، وإنما لأنه أعد وقصد به أحدهما، فالمدفع مثلا عند شخص يعده للدفاع عن الوطن وعن الإسلام وعن العرض غيره عند شخص لقطع الطريق وتخويف الآمنين، وإن لم يستعمل في أي من الجهتين. وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". -[المباحث العربية]- (لرجل أجر) أي ثواب، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، "وأجر" مبتدأ مؤخر والجملة خبر "الخيل". (ولرجل ستر) أي ساتر لفقره ولحاله. (فأطال لها في مرج) أي شدها في حبل طويل، والمرج بفتح الميم وسكون الراء بعدها جيم، الأرض الواسعة فيها الكلأ الكثير، والجمع مروج.

(أو روضة) "أو" للشك من الراوي و"الروضة" الأرض المخضرة بأنواع النبات. (فما أصابت في طيلها) الطول بكسر الطاء وفتح الواو، وكذلك الطيل بالياء موضع الواو حبل طويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره، والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه. (فاستنت) أفلتت، وقيل: لجت في عدوها إقبالا وإدبارا، وقيل: جرت بغير فارس. (شرفا أو شرفين) بفتح الشين والراء ما شرف من الأرض وارتفع والمراد منه هنا الشوط أو الشوطان، سمي به لأن العادى به يشرف على ما وجه إليه. (آثارها) أثر كل شيء بقيته، والظاهر أن المراد به أثر خطواتها في الأرض بحافرها. (تغنيا) بفتح التاء والغين وكسر النون المشددة أي استغناء عن الناس وهو منصوب على أنه مفعول لأجله، ومثله "فخرا" وما عطف عليه. (ونواء) بكسر النون أي معاداة لأهل الإسلام، وأصله من ينوء إلى غيره وينوء غيره إليه أي يميل إليه متثاقلا. (عن الحمر) في الكلام مضاف محذوف أي عن صدقة الحمر. (الفاذة) بالذال المشدة، أي المنفردة القليلة النظير في معناها، إذ جمعت على انفرادها حكم الحسنات السيئات، وقيل: لأنها ليس مثلها آية أخرى في قلة وكثرة المعاني. {فمن يعمل مثقال ذرة} الذر النمل الصغير، وقيل هو ما يرى في شعاع الشمس من الهباء.

-[فقه الحديث]- مناسبة هذا الحديث للباب المذكور مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم "ولو أنها مرت بنهر فشربت منه" وهو يشير إلى أن ماء الأنهار الجارية غير مختص بأحد، وقد قام الاجتماع على جواز الشرب منها دون استئذان أحد، لأن الله خلقها للناس وللبهائم ولا مالك لها غير الله تعالى. فإذا أخذ أحد منها شيئا في وعائه صار ملكه يتصرف فيه بالبيع والهبة والصدقة ونحوها، ووجه حصر الخيل في هذه الثلاثة أن الذي يقتنيها إما أن يقتنيها للركوب أو للتجارة، وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو يقترن به فعل معصية وهو الأخير، أو يتجرد عن هذا وذاك وهو الثاني. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على اقتناء الخيل إذا ربطها في سبيل الله، ويكفي أن أروائها تكون حسنات يوم القيامة. 2 - أن الرياء مذموم، وأنه وزر ولا ينفع العمل المشوب به يوم القيامة. 3 - ويؤخذ من قوله "ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي" فضل سقي الدواب، لأنه يشعر بأن من شأن البهائم طلب الماء ولو لم يرد ذلك صاحبها، فإذا أجر على ذلك من غير قصد فيؤجر إذا قصد من باب أولى. 4 - فيه حجة لمن يقول بعدم اجتهاد الأنبياء. 5 - فيه إشارة إلى التمسك بالعموم. 6 - استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل السائمة من قوله "ولم ينس حق الله في رقابها". 7 - وفيه التنبيه للأمة على الاستنباط والقياس وكيف يفهم معنى التنزيل، لأنه نبه عما لم يذكر في كتاب الله وهي الحمر بما ذكر من جزاء

عمل مثقال ذرة خيرا أو شرا. 8 - فيه دليل على عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو "من عمل صالحا فلنفسه".

كتاب الاستقراض والحجر والتفليس

كتاب الاستقراض والحجر والتفليس الاستقراض طلب القرض، والقرض يطلق اسما بمعنى الشيء المقروض ومصدرا بمعنى الإقراض الذي هو تمليك الشيء على أن يرد بدله، والحجر لغة المنع، وشرعا: منع التصرف في المال، والتفليس من فلسه الحاكم تفليسا يعني حكم بأنه يصير إلى حالة يقال فيها عنه ليس معه فلس، وهو قطعة مضروبة من النحاس كان يتعامل بها تشبه المليم في زماننا، وقيل: المفلس من تزيد ديونه عن مورده، سمي مفلسا لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، وشرعا حجر الحاكم على المفلس ليقضي ما عليه من دين الآدمي، وجمع المؤلف بين هذه الثلاثة لتلازمها في بعض الأحوال ولقلة الأحاديث الواردة فيها. 70 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله". -[المعنى العام]- يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أخذ من أموال الناس شيئا بأي وجه من وجوه المعاملات وهو ينوي الأداء يسر الله له ما يؤدي من فضله لحسن نيته فإن مات قبل الأداء أرضى الله غريمه، ومن أخذ من أموال الناس شيئا يعتزم إتلافه على صاحبه وعدم رده أتلفه الله من يده وأضاعه منه، فلا ينتفع به،

لسوء نيته، ويبقى عليه الدين يعاقب به يوم القيامة، وقد ورد "من تداين بدين وفي نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن تداين بدين وليس في نفسه وفاؤه ثم مات اقتضى الله لغريمه منه يوم القيامة" وفي رواية "فيؤخذ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فتجعل عليه". -[المباحث العربية]- (يريد أداءها) أي يريد ردها إلى صاحبها، والجملة في محل النصب على الحال. (أدى الله عنه) مفعول "أدى" محذوف تقديره، أداها الله عنه، كما جاء مصرحا به في بعض الروايات. -[فقه الحديث]- الأداء والإتلاف قد يكونان في الدنيا وقد يكونان في الآخرة، فالأداء في الدنيا يكون بأن يفتح الله عليه باب الرزق والسعة حتى يؤدي، وفي الآخرة يكون بأن يتكفل الله عنه ويرضي غريمه بما شاء. وأما الإتلاف في الدنيا فقد يكون في المال أو في النفس، وفي الآخرة يكون بالعذاب الأليم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكن من جنس الذنب، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له. 2 - الحض على ترك أكل أموال الناس سواء كانت بطريق القرض أو بأي وجه من وجوه المعاملات. والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة. 3 - الترغيب في تحسين النية لأن الأعمال بالنيات.

4 - الترغيب في الدين لمن ينوي الوفاء. روى الحاكم وابن ماجه عن عبد الله بن جعفر أنه كان يستدين فسئل، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله مع المدين حتى يقضي دينه" كذا قيل، وفيه نظر. والله أعلم. 71 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [سورة الأحزاب: الآية 6] فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه". -[المعنى العام]- يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تحمل الميت في ديونه وفي ورثته إن كانوا ضياعا اقتداء به صلى الله عليه وسلم، نعم ولي الأمر أولى من عامة المسلمين، فإن لم يقم بهذا الواجب حسن بالمسلمين أن يتسابقوا إلى هذه الولاية. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة، أحرص عليهم، وأؤدي عنهم عند عجزهم بعد موتهم. واستدل على الولاية بقوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ثم قال: فمن ترك من المسلمين مالا فلورثته من بعده، ومن ترك كلا أو دينا فأنا كفيل بالأداء فليأتني ورثته الضياع. -[المباحث العربية]- (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به) "ما" نافية و"من" زائدة لتأكيد النفي

"مؤمن" مبتدأ والخبر محذوف والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي إلا في حال ولايتي له، وفي رواية "إلا أنا أولى به" بدون الواو، فإلا ملغاة وجملة "أنا أولى به" هي الخبر. (اقرءوا إن شئتم: النبي أولى) جواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله والتقدير إن شئتم فاقرؤوا، وجملة الشرط وجوابه معترضة بين اقرءوا ومفعوله، والآية مقصود لفظها مفعول اقرءوا. (فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته) "أي" اسم شرط مبتدأ زيدت عليها "ما" و"أي" مضاف و"مؤمن" مضاف إليه، وجملة "مات" صفة لمؤمن و"فليرثه" جواب الشرط، واقتصر على المال لأنه الغالب. (من كانوا) "من" اسم موصول في محل رفع صفة لعصبة، وعبر بالموصول هنا لإفادة العموم والشمول لأنواع العصبة الثلاثة: العصبة بالنفس وبالغير ومع الغير، ويجوز إعراب "من" نكرة خبر كانوا مقدما، والمعنى أيا كانوا، أي أي أنواع العصبة كانوا. (أو ضياعا) بفتح الضاد مصدر ضاع يضيع، أطلق على اسم الفاعل للمبالغة كالعدل والصوم، أي من ترك شيئا ضائعا كالأطفال، رواه بعضهم بكسر الضاد جمع ضائع كجائع وجياع. (فليأتني) فاعل يأتي مفهوم من المقام أي من ترك دينا فليأتني دائنه ومن ترك ضائعا فليأتني الضائع. (فأنا مولاه) الفاء للتعليل، ومولاه وليه. -[فقه الحديث]- فسر العلماء قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} بأن طاعته أولى بهم من طاعة أنفسهم، بمعنى أنه إذا دعاهم النبي إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت الاستجابة إلى دعوته أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وأنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، ويترتب على ذلك

إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإن شق ذلك عليهم، وأن يحبوه أكثر من حبهم لأنفسهم وقيل: معناه: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من طاعة بعضهم لبعض، وقيل: معناه إنه أولى بهم في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم، وقد استنبط بعضهم من الآية أن له صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إليهما. وعلى صاحبهما البذل وأن يفدي بمهجته مهجة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن قصده عليه السلام ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه. والآية تشمل أنه أولى بأخذ غنمهم ودفع غرمهم، فمن ترك مالا ولا ورثة له فالأمر إليه، ومن ترك عيالا ولم يترك مالا فالأمر إليه، لكن الرسول لما ذكر الآية لم يذكر ماله من حظ، وإنما ذكر ما هو عليه، وذلك من كمال خلقه صلى الله عليه وسلم. وقد كان الرسول في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين، ليحرض الناس على قضاء ديونهم في حياتهم والتوصل إلى البراءة منه، وليحرض أهل الميت وأصحابه وضامنيه على السداد عنه، لئلا تفوته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الله تعالى عليه الفتوح صار يصلي عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء، فصار فعله الأخير ناسخا لفعله الأول. وهل كانت الصلاة على الميت المدين قبل الفتوح محرمة على النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ وهل كان يجوز له أن يصلي مع وجود الضامن أو لا؟ وهل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم دين من لم يخلف كان واجبا عليه أم كان يفعله تكرما؟ في كل ذلك خلاف بين الفقهاء ومرجعه كتب الفروع. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الدين لا يخل بالمدين. 2 - أن من ترك مالا ولا دين عليه فماله لورثته. 3 - ومن كان عليه دين أخذ من تركته.

4 - ومن ترك دينا ولا مال له فلا يلزم الورثة السداد. 72 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". -[المعنى العام]- من أكبر الكبائر عقوق الأمهات، فقد حملن كرها ووضعن كرها وربين كرها، ومن لم يشكرهن ويبرهن فليس أهلا للجميل، ومن أكبر الكبائر وأد البنات مخافة العار والحاجة، لأنه يدل على عدم الرضا بالله وبقضائه، وعدم الثقة في تكفله بمخلوقاته، وفيه قتل النفس التي حرم الله قتلها، ومن المحرمات منع الحقوق وطلب ما لا يستحق، وشغل المجلس بقيل كذا، وقال فلان كذا، من الغيبة والنميمة وما لا فائدة من ذكره، وإضاعة المال وإنفاقه في غير وجهه المشروع.

-[المباحث العربية]- (عقوق الأمهات) أصل العقوق القطع كأن العاق لأمه يقطع حقوقها. (وأد البنات) دفنها حية وكان من أفعالهم في الجاهلية. (ومنع وهات) "منع" مفعول "حرم" ولم يصرف ملاحظة للإضافة فهو مضاف لمحذوف، والتقدير: حرم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، وحرم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه، فكأنكم لا تكتفون بالانتصاف لأنفسكم، بل ولا تنصفون غيركم، وهذا من أقبح الخلال، وقيل تقديره: حرم عليكم منع الواجب من المال والأقوال والفعال، وتكليف الغير القيام بما لا يجب عليهم وقيل تقديره: حرم عليكم منع ما عندكم، فلا تتصدقون ولا تعطون، وحرم عليكم مد أيديكم للأخذ من الناس. وقال ابن التين: ضبط "ومنع" بغير ألف وصوابه "منعا" بالألف و"هات" بالكسر مبني على حذف الياء بناء على الصحيح من أنه فعل أمر، وعلى الكسر بناء على أنه اسم فعل بمعنى أعط. (وكره لكم قيل وقال) فعلان، الأول مبني للمجهول، والتقدير: قيل كذا وقال فلان كذا، وهما مبنيان على أنهما فعلان، مع أنهما مفعول "كره" مقصودا حكايتهما، والمعنى: نهى عن فضول ما يتحدث به الجالسون من قولهم: قيل كذا وقال فلان كذا. -[فقه الحديث]- مناسبة الحديث للباب قوله "وإضاعة المال" وسيأتي بيانه، وقد تعرض الحديث إلى رعاية الأصول والفروع والمتعاملين والأموال فقال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، وكذلك عقوق الآباء، وإنما خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء. وللتنبيه على أن بر الأم يقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك. ولأن ذكر أحدهما يدل على الآخر، فهو من قبيل تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لتعظيم موقعه، والنهي عن القيل والقال إنما يصح في قول ما لا ينبغي ولا يعلم حقيقته. أما

من حكى ما صح وما يعرف حقيقته، وأسنده إلى ثقة صادق فلا وجه للنهي عنه، ولا يذم، وقيل المراد به النهي عن الغيبة والنميمة فإن تبليغ الكلام من أقبح الخصال والإصغاء إليه أقبح وأفحش، أما كثرة السؤال ففي تأويله وجوه: أحدها: السؤال عن أمور الناس وكثرة البحث عنها. وثانيها: مسألة الناس من أموالهم. ثالثها: كثرة السؤال في العلم للامتحان وإظهار المراء. رابعها: السؤال عما لا يعني. خامسها: كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خشية أن يفرض ما ليس فرضا. قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وأما إضاعة المال فبصرفه في غير وجهه وحاصل ما قيل فيه. أن كثرة الإنفاق على ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا ولا شك في منعه. كثيرا كان المال أو قليلا. والثاني: إنفاقه في وجوه الخير المحمودة شرعا. ولا شك في كونه مطلوبا بشرط ألا يفوت حقا آخر هو أهم منه. والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فإن كان على وجه يليق بالمنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، وإلا فهو إسراف على الصحيح ما لم يكن لدفع مفسدة ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف.

كتاب الخصومات

كتاب الخصومات الخصومات جمع خصومة، والخصم معروف، يستوي فيه الجمع والمفرد والمؤنث والمذكر، لأنه في الأصل مصدر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه. 73 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلاكما محسن قال شعبة أظنه قال لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا. -[المعنى العام]- يقول ابن مسعود رضي الله عنه: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشية فجلست إلى رهط، فقلت لرجل: اقرأ علي، فإذا هو يقرأ حرفا لا أقرؤه، فقلت: من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: نعم. وفي رواية قال: "إن جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام أتياني فجلس جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري. فقال جبريل: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، وقال ميكائيل: استزده. فقلت: زدني فقال: اقرأ على حرفين فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف وقال: كل كاف شاف"، وفي رواية قال ابن مسعود: يا رسول الله اختلفنا في قراءتنا، فإذا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تغير ووجد في نفسه حين ذكرت

الاختلاف وقال: "إنما هلك من قبلكم بالاختلاف، لا تختلفوا، لأن الخلاف شر كله". -[المباحث العربية]- (سمعت رجلا يقرأ) المسموع على الحقيقة صوت الرجل لا الرجل ولكنهم تسامحوا فأوقعوا السماع على صاحب الصوت اعتمادا على المقام وجملة "يقرأ" صفة لرجل، ولم يعرف اسم الرجل، وقيل: هو عمر. (آية) في صحيح ابن حيان أنها من سورة الرحمن، وفي المبهمات للخطيب أنها من سورة الأحقاف. (كلاكما محسن) إفراد الخبر باعتبار لفظ "كلا". (لا تختلفوا) أي في القرآن. فقه الحديث مناسبة الحديث للباب قوله "لا تختلفوا" لأن الاختلاف الذي يورث الهلاك هو أشد الخصومة، وأشار بعضهم إلى أن المناسبة قوله "فأخذت بيده فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي توجيه "كلاكما محسن" قال بعضهم: إن إحسان الرجل راجع إلى قراءته، وإحسان ابن مسعود راجع إلى احتياطه وطلب تحريه من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يعارض هذا التوجيه ما ورد في صحيح ابن حبان "فأمر عليا رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم، فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف". قال ابن مسعود: "فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حرفا لا يقرأه صاحبه" انتهى. فهذا يدل على أن كلا منهما محسن في القراءة، وهذا جائز، لأن كل لفظ جازت قراءته على وجهين أو أكثر لو أنكر أحد هذه الوجوه، فقد أنكر القرآن، ويجاب عنه بأن الممنوع إنكار المتواتر من وجوه القراءات. وهو الذي يؤدي إلى إنكار القرآن، وهذا لا يمنع من جواز القراءة بوجهين أو أكثر، فقد روى الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز،

والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط. قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"، ويرجع اختلافها إلى الحركات أو الحروف مع تغيير في المعنى أو بدون تغيير، وقيل: يرجع إلى التقديم والتأخير أو الزيادة والنقص، وليس من الاختلاف الإظهار والإدغام ونحوهما، لأن هذه الصفات المتنوعة لا تخرج اللفظ عن كونه لفظا واحدا، وإنما ظهرت الكراهة في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوله: "كلاكما محسن" لأنهما تجادلا، ويخشى من هذا الجدال إنكار شيء من القرآن- وكان الواجب على ابن مسعود أن يقره على قراءته، ثم يسأل عن وجهها، وهذا الذي أهلك من قبلهم، فقد أنكر كل واحد منهم قراءة الآخر، وغيروا وبدلوا، فلم يعرف الأصيل من الدخيل. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حرص الصحابة على تأدية ما سمعوا من القرآن كما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم. 2 - مشروعية التقاضي عند التخاصم. 3 - حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الفصل بين الخصوم. 4 - الاعتبار بأحوال السابقين.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة اللقطة بضم اللام وفتح القاف على المشهور، وجاز في القاف الإسكان ويقال لها أيضا لقاطة بضم اللام، وهي لغة اسم للمال الملتقط، وشرعا: ما وجد من حق ضائع محترم غير محرز، ولا ممتنع بقوته، ولا يعرف الواحد مستحقه. وفي الالتقاط معنى الأمانة والولاة، من حيث أن ** الملتقط أمين فيما التقطه، والشرع ولاه حفظه، وفيه معنى الاكتساب من حيث أن له التملك بعد التعريف. 74 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أصبت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عرفها حولا فعرفتها حولا فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثا فقال احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت فلقيته بعد بمكة فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا". -[المعنى العام]- لما كان مال المسلم لا يحل إلا عن طيب نفس منه، وعن طريق حلال، ولما كانت اللقطة تحتمل أن تكون من أموال المسلمين خصوصا إذا كانت ببلاد الإسلام حافظ الشارع عليها، وبالغ في وسائل إيصالها لصاحبها فأمر بالتعريف عنها في الأماكن المطروقة مدة تصل فيها الأخبار عادة، وفي هذا يحدث أبي بن كعب أنه وجد صرة فيها مائة دينار فأخذها وجاء إلى

النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن حكم الإسلام فيها، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعرفها سنة بأن يعلن عن بعض أوصافها، ولا يذكر كل الأوصاف، يكرر هذا الإعلان في أوقات مختلفة من سنة كاملة، فمرة في الصباح، ومرة في المساء، ومرة في الظهيرة، ومرة في أول الأسبوع والشهر، ومرة في الوسط ومرة في الآخر وأعلن أبي بن كعب عنها سنة، فلم يأته صاحبها فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بالخبر فأمره أن يعرفها سنة أخرى زيادة في الاستيثاق وتورعا عن أموال الغير، فعرفها سنة فلم يأته صاحبها، فعاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر فأمره أن يعرف وعاءها ورباطها وعددها ثم يستمتع بها، فإن جاء صاحبها ردها إليه، وإلا فشأنه بها شأن ما يصنع بأمواله. -[المباحث العربية]- (أصبت) وفي رواية "وجدت". (صرة فيها مائة دينار) في نسخة "صرة مائة دينار" بنصب "مائة" بدل من "صرة" ورفعها على تقدير: فيها مائة دينار. (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها) في الكلام حذف للعلم به، والأصل فأتيت النبي فأخبرته بخبرها، فقال عرفها، بالتشديد أمر من التعريف. (ثلاثا) أي ثلاث مرات والمعنى: أن مجموع إتيانه ثلاث مرات، وليس معناه: أنه أتى بعد المرتين الأولين ثلاث مرات. وإن كان ظاهر الحديث يقتضي ذلك، لأن "ثم" تخلفت عن معنى التشريك في الحكم والترتيب والمهلة فتكون زائدة لا عاطفة، قاله الكوفيون. (احفظ وعاءها) بكسر الواو، وقد تضم، وهو ما جعل فيه الشيء سواء كان من جلد أو خرق أو خشب أو غير ذلك، وفي رواية "عفاصها" والعفاص الوعاء. (فاستمتعت، فلقيته بعد بمكة، فقال: لا أدري. ثلاثة أحوال أو حولا واحدا) أصل السند: حدثنا شعبة عن سلمة سمعت سويد بن غفلة قال: لقيت

أبي بن كعب فقال ... قال الحافظ ابن حجر: لقي شعبة شيخه سلمة، فعند الطيالسي "قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك فقال: لا أدري. ثلاثة أحوال أو حولا واحدا". (ووكاءها) بكسر الواو هو الذي يشد به رأس الكيس أو الصرة أو غيرهما. (فإن جاء صاحبها) جواب الشرط محذوف للعلم به أي فارددها إليه. (وإلا فاستمتع بها) فعل الشرط محذوف تقديره: وإن لم يجئ صاحبها. -[فقه الحديث]- الكلام عن هذا الحديث ينحصر في نقاط: الأولى: حكم رفع اللقطة أو تركها. الثانية: الغرض من حفظ الوعاء والعدد والوكاء، وهل يسبق التعريف أو يتأخر عنه؟ الثالثة: ما ينبغي للاقط: التعريف أو الدفع إلى السلطان؟ الرابعة: حكم لقطة الحقير من الأشياء. الخامسة: حكم التعريف وكيفيته ومكانه، ومدته ومتى تبتدئ؟ السادسة: حكم دفع اللقطة لمن ذكر أوصافها ولم يأت بشهود. السابعة: ضمان اللقطة لو تلفت قبل الحول أو بعده. الثامنة: اللقطة بعد انقضاء مدة التعريف. مع ذكر الأدلة وتوجيه الأحاديث المعارضة فيما ذكر. أما عن النقطة الأولى: فقد روي عن مالك وأحمد كراهة أخذها استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم "ضالة المسلم حرق النار" أي كحرق النار، فمن أخذها

ليمتلكها أدت به إلى النار. وروي عن الشافعي مرة وجوب رفعها، ومرة تفضيل أخذها. وروي عن أبي حنيفة أن كلا الأمرين مباح، والتحقيق التفصيل، فمن خشي عليها الضياع أو التلف إذا تركها، وهو يعتزم تعريفها وجب أو استحب له رفعها. ومن لم يخش عليها شيئا من ذلك وهو يرجح عودة صاحبها أو أخذ أمين آخر لها فالورع تركها، وأخذها لأكلها بدون تعريف حرام، وعليه يحمل الحديث "ضالة المسلم حرق النار". وأما عن النقطة الثانية: فالغرض من حفظ الوعاء والعدد والوكاء وجوه من المصالح: منها أن العادة جارية بإلقاء الوعاء والوكاء إذا فرغ من النفقة، فإذا أمر بحفظ هذين فحفظ ما فيهما أولى، ومنها تمييز اللقطة عن ماله فلا تختلط به، ومنها أن صاحبها إذا جاء بعته فربما غلب على ظنه صدقه فيجوز له الدفع إليه، ومنها أنه إذا حفظ ذلك ساعده على التعريف لها، والأمر بالمعرفة للندب على الراجح، وقيل للوجوب، هذا عقب أخذها أما معرفتها عند التملك فواجبة اتفاقا. وأما النقطة الثالثة: فالجمهور على أن الملتقط لا يجب عليه أن يدفع اللقطة إلى السلطان، سواء كانت قليلة أو كثيرة، لأن السنة وردت بأن واجد اللقطة هو الذي يعرفها دون غيره، لقوله "عرفها" ويجوز للسلطان أن يأخذها من غير الأمين، ويدفعها إلى أمين ليعرفها، وقيل: يفرق بين القليل والكثير، فإن كان قليلا عرفه وإن كان كثيرا دفعه إلى بيت المال، وفرق بعض المالكية وبعض الشافعية بين المؤتمن وغيره، فألزموا المؤتمن بالتعريف وأمروا غير المؤتمن بدفعها إلى السلطان ليعطيها لمؤتمن ليعرفها. وأما عن النقطة الرابعة: فقد رخص في أخذ اللقطة اليسيرة والانتفاع بها وترك تعريفها. وخص بما دون الدرهم، ولكنه يبقى على ملك مالكه، لأن التمليك من المجهول لا يصح، واستدل بما روي أنه صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمتنع من أكلها إلا تورعا، خشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها ملقاة في الطريق، وروي عن مالك أن تركها أفضل.

أما عن النقطة الخامسة: فإن التعريف واجب لظاهر الأمر، وإن أخذها لحفظها، نعم إن غلب على ظنه أن سلطانا غير أمين يأخذها منه إن عرف امتنع عليه التعريف، وكانت أمانة تحت يده، وكيفية التعريف ترجع إلى العرف كأن ينادي أو يكتب: من ضاع له شيء فليطلبه عندي، ويكون ذلك في بلد اللقطة، في الأسواق ومجامع الناس، وأبواب المساجد، وعند خروج الناس من الجماعات ونحوها، ويكره التعريف في المساجد وطلب اللقطة فيها إذا وقع ذلك برفع الصوت، ومدة التعريف سنة لقوله صلى الله عليه وسلم "عرفها حولا" والمعنى في ذلك أنها أطول مدة في العادة تستغرقها القوافل، وفيها تمضي الفصول الأربعة ولو التقط اثنان لقطة عرفها كل واحد منهما نصف سنة على الراجح، ثم اقتسماها عند التملك، ولا يشترط في التعريف الفور، ولا الموالاة، ولا استيعاب السنة، بل يرجع ذلك إلى العرف والعادة، نعم ظاهر الحديث أن أبي بن كعب أمر بالتعريف عامين، ولم يقل بهذا الظاهر أحد من أئمة الفتوى، لهذا قال ابن حزم: إن عامين ولم يقل بهذا الظاهر أحد من أئمة الفتوى، لهذا قال ابن حزم: إن الرواية إما أن تكون غلطا من الرواة وإما لكون المعرف عرفها تعريفا غير جيد كما قال للمسيء صلاته "ارجع فصل فإنك لم تصل" ويجوز أن يكون التكرار في الأمر بالتعريف محمولا على مزيد التورع عن التصرف في اللقطة، والمبالغة في التعفف عنها. وابتداء الحول من يوم التعريف، لا من يوم الأخذ، وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تقدير الحول من غير تفصيل بين القليل والكثير، وقال بعضهم، إن كانت أقل من عشرة دراهم يعرفها أربعة أشهر، وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا. وقال بعضهم: إن الكثير في العرف يعرف سنة، والقليل يعرف مدة يغلب على الظن قلة أسف صاحبه عليه. وأما النقطة السادسة: فقد جاء في بعض الروايات "فإن جاء أحد يخبرك بعدها ووعائها ووكائها فأعطه إياها" وهي ظاهرة في أن الوصف كاف في الرد، ولا يحتاج إلى شهود، ويجب الدفع حينئذ، وهو ما هب إليه مالك وأحمد وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا يجب الدفع إلا بالبينة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" وتأولوا الرواية السابقة بما إذا

علم صدقة، أو يحمل الأمر فيها على الإباحة أو على الندب، لا على الوجوب، نعم يجوز له بل يستحب أن يدفعها إليه إن ظن صدقه عملا بظنه. وأما عن النقطة السابعة: فاللقطة كالوديعة، ويد الملتقط عليها يد أمانة، فإذا تلفت قبل الحول من غير تقصير فلا ضمان، وبالتقصير يضمن بدلها، فإن تلفت بتقصير بعد الحول فالضمان وعدمه تابع للخلاف الآتي في التملك. أما عن النقطة الثامنة: فقد ذهب قلة من العلماء إلى أن اللقطة تملك بعد التعريف حولا استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم "فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" وبقوله "وإلا فتصنع بها ما تصنع بمالك" وذهب الجمهور إلى وجوب رد اللقطة إن كانت العين موجودة، وإن استهلكت أو تلفت بتقصير منه يجب البدل لصاحبها إذا جاء، وقال ابن بطال: وعلى هذا إجماع أئمة الفتوى، والحديث الذي معنا يؤيد رأي الجمهور، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب بعد أن عرفها "فإن جاء صاحبها" أي فارددها ففيه الأمر بالرد بعد انتهاء مدة التعريف، وأصرح من هذا قوله صلى الله عليه وسلم "لا تحل اللقطة، من التقط شيئا فليعرفه، فإن جاء صاحبها فليردها إليه، فإن لم يأت فليتصدق بها، فإن جاء فليخيره بين الأجر وبين الذي له". -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الأمر بحفظ ثلاثة أشياء من اللقطة الوعاء والعدد والوكاء. 2 - وجوب التعريف عن اللقطة. 3 - الاستمتاع بها إذا لم يجئ صاحبها، ومنع أبو حنيفة أن ينتفع بها الغني دون الفقير، وحمل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم عرف فقر أبي بن كعب فهو حكاية حال لا تعم. 4 - وفيه شدة حرمة أموال المسلمين. 5 - وفيه احتياط الصحابة في أمور دينهم.

كتاب المظالم

كتاب المظالم 75 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا". -[المعنى العام]- عدالة ورحمة، وقضاء وإرضاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نجا أصحاب التبعات من السقوط في النار واجتازوا الصراط، أوقفتهم الملائكة على جسر بين الجنة والنار، ليقتص المظلوم من الظالم، وليقتطع من حسناته بقدر مظلمته أو يعفو عنه، لأن أحدا لا يدخل الجنة وعليه تبعة لأحد، فإذا صفوا ما كان بينهم وتخلصوا مما كان عليهم وعاد الرضا إلى كل نفس ونزع ما في صدورهم من غل، أذن لهم بدخول الجنة التي عرفهم الله مساكنهم فيها فيقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم فيقصد كل منهم منزله قصدا لا يحتاج إلى مرشد أو دليل، فهو أعرف به من أهل الجمعة إذا تفرقوا بعد الصلاة إلى مساكنهم في الدنيا.

-[المباحث العربية]- (إذا خلص المؤمنون) بفتح اللام أي إذا سلموا أو نجوا من النار بعبورهم الصراط المضروب عليها. (حبسوا بقنطرة) قال ابن التين: القنطرة كل شيء ينصب على عين أو واد، والجار والمجرور متعلق بحبسوا، والباء بمعنى في، أي منعتهم ملائكة في القنطرة من دخول الجنة. (بين الجنة والنار) الظرف متعلق بمحذوف صفة القنطرة، أي قنطرة كائنة بين الجنة والنار. (فيتقاصون) بتشديد الصاد من القصاص، يعني يتبع بعضهم بعضا فيما وقع بينهم من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا، وفي رواية "فيتقاضون" بالضاد. (مظالم) جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها، والكسر أكثر، وهي اسم لما أخذ بغير حق. (حتى إذا نقوا) بضم النون وتشديد القاف من التنقية، وهي إفراد الجيد من الرديء، وفي رواية "حتى إذا نقصوا" أي أكملوا النقاص الذي ابتدءوا فيه، لأن الشروع علم من قوله "فيتقاصون". (وهذبوا) بالبناء للمجهول، أي خلصوا من الآثام بالمقاصة. (أذن لهم) مبني للمجهول، والجار والمجرور هو نائب الفاعل، أي أذن الله لهم، أو أذنت الملائكة لهم بأمر الله. (فو الذي نفس محمد بيده) الواو واو القسم، والموصول صفة لموصوف محذوف، أي والله الذي ... إلخ. والنفس تطلق على معان، والمراد بها هنا الروح، أو الذات مع الروح، واليد عند السلف من المتشابه الذي يفوضون فيما عني به، فيؤمنون بأن له يدا لا كالأيدي، لا يكيفون ولا يشبهون ولا يؤولون.

(لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمسكنه كان في الدنيا) أصل التركيب لأحدهم أدل -أي أعلم -بمسكنه في الجنة من مسكنه الذي كان في الدنيا، فاللام داخلة على جواب القسم للتأكيد. و"أحد" مبتدأ وأدل خبر، "وبمسكنه" متعلق بأدل "وفي الجنة" متعلق بمحذوف صفة لمسكنه، أي بمسكنه الكائن في الجنة، وكان صلة لموصول محذوف هو صفة لمسكن الثانية، والباء فيه بمعنى من والتقدير من مسكنه الذي كان في الدنيا. -[فقه الحديث]- قال ابن بطال: المقاصة في هذا الحديث هي لقوم دون قوم، هم قوم لا تستغرق مظالمهم حسناتهم، لأنها لو استغرقت جميع حسناتهم لكانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم: "خلصوا من النار" فهي لقوم لهم حقوق وعليهم تبعات يسيرة، إذ المقاصة مفاعلة لا تكون إلا من اثنين فكأن لكل واحد منهما على أخيه مظلمة، وعليه له مظلمة، ولا يرجع أحد منهم إلى النار. وهناك أقوام من المؤمنين لا يحبسون. بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة، وهناك أقوام من المؤمنين يلتقطهم عنق من النار. أما هذه القنطرة فيحتمل أن تكون طرفا من الصراط من جهة الجنة، كالجزء الواقع على اليابس من القنطرة المقامة على النيل، وقيل: هي قنطرة مستقلة غير متصلة بالصراط، وهو الظاهر وغايته مخالفة المشهور من أن في القيامة جسرا واحدا هو الصراط لا جسرين، وفي حقيقة المقاصة خلاف، قيل: إنها بالحسنات فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته، فيدخلون الجنة ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد منهم من الحسنات، وقيل: إنها بالقصاص باللطمة ونحوها، فيقال للمظلوم: إن شئت أن تنتصف، وإن شئت أن تعفو، قيل معنى "يتقاصون" يتتاركون لأنه ليس موضع مقاصة ولا محاسبة، لكن يلقي الله عز وجل في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض، ليدخلوا الجنة وليس في قلب أحد غل من أحد، والظاهر أن هذه المقاصة من المظالم المتعلقة بالأبدان والأموال معا.

وإنما يكون الواحد من المؤمنين أعلم بمسكنه في الجنة أكثر من علمه بمسكنه في الدنيا، لأن مسكنه من الجنة سيعرض عليه في القبر بالغداة والعشي. وجاء في حديث عبد الله بن سلام "إن الملائكة تدلهم على طريق الجنة" وهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة أو على الجميع، والمراد أن الملائكة تقول لهم ذلك قبل دخول الجنة، فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا، والأولى أن تكون دلالة الملائكة بعد دخول الجنة مبالغة في التكريم. -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - حض المؤمن على التخلص من المظالم والتبعات في الدنيا لينجو من مثل هذا الموقف. 2 - أن المؤمنين في الآخرة على درجات متعددة. 3 - أن الجنة لا يدخلها إلا طاهر نقي من الأكدار والتبعات. 76 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب

كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} -[المعنى العام]- بينما كان ابن عمر يمشي إذ عرض له رجل فقال له: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى بين العبد وربه يوم القيامة؟ فقال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحديث نعم موقفان رهيبان يحدث عنهما ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الأول: فإن الله يقرب العبد المؤمن، ويحيطه بسياج من الحفظ، ويستره عن أهل الموقف ويسر إليه: أتذكر ذنب كذا الذي فعلته يوم كذا في مكان كذا؟ فيرتجف المؤمن، ويطرق خجلا، ويقول: نعم يا رب أذكر، فيقول الله تعالى: ألا تذكر ذنب كذا؟ فيزداد خوفه وينخلع قلبه وهو يقول: نعم يا رب أذكر، وهكذا يعدد الله لعبده المؤمن الذنوب، ويقر العبد بها في اضطراب، وتمضي عليه فترة رهيبة يعتقد فيها أنه سيعذب بذنوبه لا محالة، وأنه هالك بما اقترفت يداه، وإذا البشرى من الغفور الرحيم تناجيه: عبدي سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، أعطوه يا ملائكتي كتاب حسناته، وامضوا به إلى الجنة، وأما الموقف الثاني فموقف الكافر والمنافق، يؤخذ بناصيته ويخترق به الصفوف ويقاد إلى ربه كما يقاد الحيوان في ساحة الذبح، وأهل الموقف ينظرون إليه، حتى يصل إلى ساحة العدل والقضاء، ويقف بين يدي الله خاسئا وهو حسير. فيسأله ربه ألم أنعم عليك؟ ألم أرسل إليك رسولا؟ ألم أوتك كذا وكذا، أما استحييت مني فبارزتني بالقبيح ألم تأكل خيري وتعبد غيري؟ ألم تفعل كذا يوم كذا فينظر عن يمينه فلا يجد إلا النار، فينظر عن شماله فلا يجد إلا النار وقد أحاطت به ملائكة غلاظ شداد، فيقول: يا رب لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيقول الله تعالى {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} فيختم على فيه، ويقال لأركانه، انطقي،

فتنطق بذنوبه وآثامه، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل، وإذا الحكم من العادل الجبار يصدر إلى الملائكة {خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} ويقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} -[المباحث العربية]- (يدني) مضارع أدنى من الإدناء، والمراد منه التقريب. (فيضع عليه كنفه) الكنف بفتح الكاف والنون الجانب والستر والعون، ووضع الكنف عليه كناية عن حفظه وصونه عن الخزي. (ويستره) أي يحجبه عن أهل الموقف بحيث لا يرونه، أو بحيث لا يسمعون ما يجري بينه وبينه. (أتعرف ذنب كذا؟ ) الاستفهام للتقرير، و"كذا" كلمة واحدة مركبة من كاف التشبيه وذا الإشارة، كني بها عن معين غير عدد، وهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وتكرير الجملة للتعديد لا للتأكيد. (أي رب) بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء و"رب" منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة. (ورأى في نفسه أنه قد هلك) "رأى" بمعنى علم، وفاعلها يعود على المؤمن وجملة "أنه" سدت مسد مفعوليها، والجملة معطوفة على "قرره" داخلة في حيز الغاية، أي حتى إذا اعتقد أنه قد هلك، أي استحق الهلاك بسبب ما ارتكب من الذنوب. (وأنا أغفرها لك) تقديم المسند إليه وإسناد الفعل إلى ضميره يفيد التقوية والاختصاص، والجملة معطوفة على التي قبلها. (وأما الكافر والمنافق) "أما" حرف شرط نائبة عن مهما يكن، وال في الكافر والمنافق للجنس فتفيد العموم، ولهذا أشير لهما بلفظ الجمع "هؤلاء".

(فيقول الأشهاد) الفاء واقعة في جواب أما، والأشهاد جمع شاهد مثل ناصر وأنصار وصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع شهيد، بمعنى شاهد كشريف وأشراف، والمراد من الأشهاد الرسل أو الملائكة أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس. (ألا لعنة الله على الظالمين) "ألا" حرف استفتاح، واللعن الطرد والإبعاد، والمراد بالظلم هنا الكفر والنفاق، فأل فيه للكمال في الصفة، وليس كل ظلم يدخل في معنى الآية ويستحق اللعنة، والجملة خبرية أو دعائية، وهي من كلام الأشهاد أو من كلام الله تعالى. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن هذا السؤال إنما هو عن الذنوب التي لم يطلع عليها العباد في الدنيا لقوله "سترتها عليك في الدنيا" ويمكن أن يكون عاما في كل الذنوب حتى التي اطلع عليها الخلق على أن يكون الستر كناية عن عدم المؤاخذة، نعم عموم قوله "وأنا أغفرها لك اليوم" مخصوص بحديث المقاصة السابق، فالغفران للذنوب التي لن يدخلها تقاص، وفائدة التقرير في هذا الموقف إبراز فضل الله ورحمته بالمؤمنين، حيث ستر في الدنيا وعفا في الآخرة. ويتبين من الحديث أن قوله تعالى {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} أن السؤال عن النعيم الحلال إنما هو سؤال تقرير وتوقيف على نعم الله التي أنعم بها. لا سؤال حساب وانتقام. لأن السؤال عن الذنوب كان للتقرير بدليل قوله "وأنا أغفرها لك اليوم" وإذا كان كذلك فسؤال العباد عن النعيم الحلال أولى أن يكون للتقرير. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضل الله على عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. 2 - عدل الله في حكمه على الكافرين. 3 - فيه حجة لأهل السنة في قولهم بأن أهل الذنوب من المؤمنين لا

يكفرون بالمعاصي كما زعمت الخوارج. 4 - وفيه حجة على المعتزلة في مغفرة الذنوب إلا الكبائر. 77 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تأخذ فوق يديه". -[المعنى العام]- اقتتل غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجر: يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟

أدعوى الجاهلية؟ قالوا: لا يا رسول الله. إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، فقال: لا بأس "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وكانت القبيلة في الجاهلية تنتصر لابنها فتهاجم معه، ولو كان ظالما، ولا تمنعه عن ظلمه كما قال شاعرهم. إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم على القوم لم أنصر أخي حين يظلم وفهم أحد السامعين خطأ، وظن أن نصرة الظالم مساعدته وإعانته على زيادة الظلم والاعتداء على المظلوم، كما كانت الجاهلية تفعل، فقال: يا رسول الله واضح لنا أن ننصر المظلوم، فكيف ننصر الظالم؟ فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن المعتدي ظالم لنفسه قبل أن يظلم المعتدي عليه، فنصرته إنما تكون بنصره نفسه من جوارحه، ومنعه من الاعتداء، فقال "إن كان ظالما فينهه، فإن له نصرة، ويكفه عن الظلم فذاك نصره إياه". -[المباحث العربية]- (انصر أخاك) قال ابن بطال: النصر عند العرب بمعنى الإعانة فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يئول إليه، وهو من عجيب الفصاحة ووجيز البلاغة، والمراد بالأخ الأخ في الإسلام، وكل شيئين بينهما اتفاق يطلق عليهما اسم الأخوة. (ظالما أو مظلوما) منصوب على الحال من المفعول. (قالوا: يا رسول الله) القائل أحد السامعين كما جاء في رواية أخرى "فقال رجل: يا رسول الله" وفي رواية "فقالوا يا رسول الله" لكنها تحمل على أن المتكلم واحد وغيره وافقه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الرد "تأخذ" بالإفراد ولو كان المتكلمون جمعا لقال تأخذون. (هذا ننصره مظلوما) الإشارة إلى ما في ذهن المتكلم من الرجل الذي ينصرونه، ومظلوما حال من الضمير المنصوب في "ننصره" وكذلك "ظالما". (تأخذ فوق يديه) قيل: إن كلمة "فوق" مقحمة، وقيل إنها ذكرت إشارة

إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة، وليس المراد اللفظ من التطويق بالذراعين فوق اليدين، وإنما المراد منعه من الظلم بالفعل إن لم يمتنع بالقول، فهو كناية عن المنع بأي طريق كان. -[فقه الحديث]- قال العلماء: نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فإن قام به أحد سقط عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على من له قوة على نصرته إذا لم يكن له من ينصره غيره من سلطان وشبهه. والمقصود من نصره كف المعتدي، والحيلولة بينه وبين إلحاق الأذى بالمظلوم، والشهادة له عند الحاكم، لا مهاجمة المعتدي ومقاتلته، لئلا ينتصر له آخرون وتتسع الدائرة فموقف الناصر كموقف صاحب المال من الصائل، عليه أن يدفع بالأخف، فإن لم يرتدع إلا بالأشد دفع به، فإن دفع بالأشد مع إمكانه الردع بالأخف أثم، وكيفية نصر الأخ الظالم كما وضحها الرسول صلى الله عليه وسلم تكون بمنعه من الظلم إذ في ذلك نصر له على شيطانه الذي يغويه، وعلى نفسه الشريرة التي تدفعه إلى السوء وتطغيه، ثم هو إذا ترك على ظلمه أداه ذلك إلى أن يقتص منه، فمنعك له من وجوب القصاص نصرة له، فإذا حلت دون الظلم وكان الظالم والمظلوم مسلمين فقد نصرت المظلوم والظالم معا بالمعنى السابق، وإذا كان الظالم مسلما والمظلوم غير مسلم فقد نصرت أخاك الظالم بمنعه من ظلمه لنفسه، وإذا كان المظلوم مسلما والظالم غير مسلم فقد نصرت أخاك بدفع الأذى عنه، وإذا كان الظالم والمظلوم غير مسلمين فلا يجب عليك النصرة. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على التضامن والتعاون في دفع المظالم حفظا لسلامة المجتمع. 2 - إلقاء المسئولية والتبعة على كل مسلم يستطيع منع الضرر عن غيره إذا لم يفعل.

3 - قال ابن المنير: فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان. 78 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". -[المعنى العام]- يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أداء الحقوق في الدنيا قبل أن يعجز الظالم عن أدائها من نوعها، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فمن ظلم أحدا في عرضه، أو ماله فليطلب البراءة من المظلوم في الدنيا، قبل أن يكون القصاص بالحسنات والسيئات، قبل أن يؤخذ من حسناته للغرماء، فإذا فنيت حسناته قبل أن تنقضي مظالمه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار. -[المباحث العربية]- (من كانت له مظلمة) اللام فيه بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة

لأخيه، أو بمعنى عند، ويؤيده رواية "من كانت عنده مظلمة لأخيه" والمظلمة قال ابن مالك: بفتح اللام وكسرها والكسر أشهر. (من عرضه) بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سلفه أو فيمن يلزمه أمره. (أو شيء) من الأشياء وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي "من عرض أو مال". (فليتحلله منه) الضمير المنصوب للأمر الذي حصل به الظلم: والمجرور للأخ، ويصح العكس، والمراد بالتحلل من أخيه أن يجعل نفسه في حل مما فرط منه، بأن يطلب براءة ذمته منه، وقيل: معناه يستوهبه ويقطع دعواه عنه، وليس المراد منه أن يجعل الحرام حلالا، لأن ما حرم الله لا يمكن تحليله، فقد جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: اجعلني في حل فقد اغتبتك. فقال: إني لا أحل ما حرمه الله، ولكن ما كان من قبلنا فأنت في حل منه. (اليوم) نصب على الظرفية، والمراد به أيام الدنيا لمقابلته بقوله "قبل ألا يكون دينار ... إلخ". (قبل ألا يكون دينار ولا درهم) "يكون" من كان التامة، أي قبل ألا يوجد، أو قبل ألا يغني دينار ولا درهم، ويعني يوم القيامة. (إن كان له عمل صالح) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا سأل من أين يؤخذ هذا البدل يوم لا دينار ولا درهم؟ فقيل: إن كان له عمل صالح إلخ. (أخذ منه) أي من ثوابه ففي الكلام مضاف محذوف. (فحمل عليه) أي حمل المأخوذ من سيئات المظلوم على الظالم.

-[فقه الحديث]- قام الإجماع على أن الظالم إذا بين مظلمته لأخيه واستبرأه منها فأبرأه فهو نافذ، واختلفوا فيمن بينهما ملابسة أو معاملة، ثم حلل بعضهما بعضا من كل ما جرى بينهما فقال قوم: إن في ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبين مقداره، وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بين له وعرف ما له عنده أو قارب ذلك بما لا مشاحة في ذكره، وقال قوم: إن بيان مظلمة العرض غير لازم خصوصا إذا كان يترتب على البيان مفسدة، ولهذا قال الخطابي: إذا اغتاب رجلا فإن كان بلغ القول صاحبه فلا بد أن يستحله، وإن لم يبلغه استغفر الله ولا يخبره أما مظلمة المال فالبيان لازم لتصح البراءة. وقال بعض أهل العلم: إنما يصح التحلل في المنافع التي هي أعراض، كأن يكون قد غصب دارا فسكنها، أو دابة فركبها، أو ثوبا فلبسه، أو في الأعيان التي تلفت، فإن كانت الدار قائمة، أو الدابة موجودة، أو الثوب باقيا، أو الدراهم في يده حاصلة لم يصح التحلل منها إلا أن يستوهبه أعيانها، وقد فهم البعض من قوله صلى الله عليه وسلم أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، تعارضا بين الحديث وبين قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وهو فهم قاصر، إذ معنى الآية: لا تحمل نفس لم تذنب وزر نفس أذنبت، وهذا الظالم حين تطرح عليه سيئات المظلوم إنما يحمل وزر نفسه وسيئة جرمه، فحقيقة العقوبة مسببة عن ظلمه، وهو لم يعاقب بجناية غيره، أما كونها رفعت من سيئات المظلوم، فلأن هذا الرفع في مقابلة الحسنة التي كان يستحقها مقابل وقوع الظلم عليه. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - طلب المبادرة إلى أن يتصافح الناس ويصفو ما بينهم قبل أن يقفوا للحساب. 2 - أن في الآخرة مقاصة بعدل الله أو فضله. 3 - أن مقاصة الآخرة بالحسنات والسيئات.

79 - عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها". -[المعنى العام]- بينما الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة زوجته أم سلمة إذ سمع صوت متخاصمين قريبين من باب حجرته، فبادر بالخروج إليهم، وسمع مقالتهما، وكل منهما يدعي أن الحق له، فنصحهما الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع الصدق، وابتغاء الصواب، وعدم الاعتماد على فصاحة القول وقوة البيان، في الوصول إلى أموال الناس بالباطل، فقد يصدق الرسول الخصم الكاذب، ويقضي له بما ليس من حقه، فالرسول بشر لا يعلم الغيب في كل الأحوال، وإنما يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، فمن اقتطع بفصاحته قطعة من مال أخيه، فقد اقتطع لنفسه قطعة من النار، وإن كان شيئا يسيرا وإن كان قضيبا من أراك، فليفعل الظالم

ما يحلو له وليعمل ما شاء: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} -[المباحث العربية]- (أنه سمع خصومة بباب حجرته) اسم "أن" ضمير للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد من الخصومة صوت التخاصم والتشاحن: والباء الجارة للإلصاق المجازي والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لخصومة، أي سمع صوت خصومة قريبة من باب حجرته التي هي مسكن زوجته أم سلمة، وذكر ابن حجر أن الخصومة كانت في مواريث وأشياء قد درست. (خرج إليهم) أي إلى الخصوم المفهومين من الخصومة ولم تعرف أسماؤهم. (فقال: إنما أنا بشر) هذا حصر إضافي، أي أنا مقصور على البشرية لا أتعداها إلى علم بواطن الأمور في جميع الأوقات، وجاء به ردا على من زعم أن من كان رسولا يعلم الغيب فيطلع على بواطن الأمور في كل حال، ولا يخفى عليه المظلوم، فأشار إلى أن الوضع البشري يقتضي ألا يدرك من الأمور إلا ظاهرها، فإذا ترك على ما جبل عليه، ولم يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأ على سائر البشر. (وإنه يأتيني الخصم) اسم "إن" ضمير الحال والشأن، و"الخصم" بسكون الصاد في الأصل مصدر سمي به المخاصم والمنازع، ويطلق على الواحد والجمع، وقد يثنى ويجمع فيقال: خصمان وخصوم، أما الخصم بفتح الخاء وكسر الصاد فهو المولع بالخصومة الماهر فيها، ومنه قوله تعالى: {بل هم قوم خصمون} (فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض) قال في مغني اللبيب: ويقترن خبر لعل بأن المصدرية كثيرا حملا على عسى. أهـ و"أبلغ" أفعل تفضيل من بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، هذا ما قاله الزجاج، وقال غيره البلاغة، إيصال المعنى إلى القلب في أحسن

صورة من اللفظ، وفي رواية "لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" أي ألسن وأفصح وأبين كلاما وأقدر على الحجة، وهو أفعل تفضيل من "لحن" يقال: لحن كفرح إذا فطن لحجته وانتبه والألحن الأشد فهما والأحسن قراءة، ويقال: لحن كفتح إذا أخطأ في الإعراب وخالف وجه الصواب. (فأحسب) بفتح السين وكسرها لغتان، وهو منصوب عطفا على "يكون" أو مرفوع عطفا على جملة "لعل" أي يأتيني الخصم فأتوقع بلاغته فأحسب أنه صدق، وفي الكلام حذف تقديره وهو في الباطن كاذب. (فأقضي له بذلك) أي فأحكم له بسبب ذلك الذي سمعته منه. (فمن قضيت له بحق مسلم) لفظ "مسلم" خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له فيشمل الذمي والمعاهد، وإنما خص المسلم بالذكر اهتماما بحاله، أو لأن الخطاب في قوله "فلعل بعضكم" للمؤمنين. (فإنما هي قطعة من النار) أي القضية، والمراد المقضي به قطعة من النار، وهو من قبيل تسمية الشيء باسم ما يئول إليه، أو تسمية السبب باسم المسبب. (فليأخذها أو ليتركها) الفاء فصيحة، أفصحت عن شرط مقدر، أي إذا كان الحكم له، وهو كاذب فليأخذها أو ليتركها. والأمر هنا في جملته للتهديد والوعيد كقوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فالمقصود: إذا ثبت أن المحكوم به قطعة من النار فليفعل المحكوم له ما شاء. وقيل: إن الأمر الأول للتهديد والثاني للإيجاب، و"أو" للإضراب لا للتخيير، أي بل ليدعها. وقد قال سيبويه: إن "أو" تأتي للإضراب بشرطين. 1 - سبق نفي أو نهي. 2 - وإعادة العامل. والشرطان موجودان هنا لأنا إذا حملنا "فليأخذها" على التهديد كان

معناها فلا يأخذها بل يدعها. -[فقه الحديث]- -[في هذا الحديث: ]- 1 - عظم إثم من خاصم في أمر باطل، وهو يعلم أنه باطل ويكفي أن يكون ما يحصل عليه من هذه المخاصمة كقطعة من النار تحرق آخذها. 2 - وفيه دلالة على الحكم بالظاهر. 3 - وفيه نهي للقوي على البيان البليغ في تأدية حجته أن يستغل استعداده ومواهبه في الوصول إلى غير حق، وأكل ما حرم الله وهو معنى قوله تعالى: {وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} 4 - وفيه دلالة على حكمه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه شيء فيخصص قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} 5 - وفيه دليل على أنه ليس كل مجتهد مصيبا وإثم الخطأ مرفوع عنه إذا بذل وسعه. 6 - وفيه العمل بالظن لقوله "فأحسب أنه صدق فأقضي له". 7 - وفيه أن قضاء القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما. 8 - وفيه أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به فإنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بصدور الحكم في جانبه. 9 - وفيه موعظة الإمام إلى الخصوم ليتحروا الحق. 10 - وفيه حجة لمن قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه حيث جعل القضاء مرتبا على ما سمع من ألفاظ الخصوم.

80 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: "كلوا" وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة. -[المعنى العام]- حادثة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلتها إحدى زوجاته، تبرز هذه الحادثة طبيعة المرأة وغيرتها التي قد تخرجها عن حد الاعتدال، كما تبرز حكمة الزوج وتقديره للموقف وتطييبه النفوس، هذه عائشة التي تدل بجمالها وشبابها، وتزهو على بقية زوجاته صلى الله عليه وسلم بأنها الوحيدة التي تزوجها بكرا، يعز عليها وهذه حالتها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في بيتها وفي يومها تعد لهم طعاما فتسبقها ضرتها إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بإرسال طعام قد يكون أجود مما تصنع عائشة، فثارت ثورتها، وتقدمت إلى الخادم فخطفت القصعة من يده، ففلقتها بحجر كان في يدها، ثم ألقت بها على الأرض، ورأى الرسول

الكريم الدهشة على وجوه أصحابه، فأخذ في ضم أجزاء القصعة التي انكسرت، وأخذ يجمع الطعام الذي انتثر على الخوان -وكان حصيرا من خوص يفرش ليوضع عليه الطعام وقد استبدل به عند العرب هذه الأيام المشمع -وهو يقول "غارت أمكم عائشة غارت أمكم عائشة" ثم استبقى الخادم حتى أكل القوم، فأمر بإحضار قصعة عائشة السليمة، ودفعها للخادم، وهو يقول: قصعة بقصعة. وبهذا الحلم النبوي الكريم، وبهذه الحكمة الرشيدة طابت نفس صاحبة القصعة المكسورة، واعتذرت الكاسرة، وعاد الصفاء والهدوء والوئام. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته أمهات المؤمنين. -[المباحث العربية]- (مع خادم) يطلق على الذكر والأنثى، ولم يأت اسمه في أي من الروايات. (بقصعة) هي واحدة القصاع، وهي إناء يشبع العشرة. (فضربت بيدها) الضمير لبعض نسائه، وأنثه باعتبار المعنى. (فضمها) أي ضم الرسول صلى الله عليه وسلم القصعة التي انكسرت. (وحبس الرسول) أي أوقف الخادم الذي هو رسول إحدى أمهات المؤمنين. -[فقه الحديث]- ورد في بعض الروايات أن التي أرسلت هي زينب بنت جحش، وفي بعضها: أنها صفية، وفي بعضها، أنها أم سلمة وفي بعضها: أنها حفصة والكل متفق على أن الإرسال كان إلى بيت عائشة وللجمع بين هذه الروايات قيل: يحتمل أن الحادثة تكررت، فإن كان ذلك في واقعة واحدة رجعنا إلى الترجيح، ورواية زينب بنت جحش أرجح الروايات كما قال ابن حجر، وإنما أبهمت عائشة مع اتفاق الروايات عليها تفخيما لشأنها وسترا عليها ما لا

يليق بمقامها، وأما نوع الطعام فهو المتخذ من التمر واللبن والسمن. وقد يضاف إليه الدقيق أو الفتيت، ويؤخذ من مجموع الروايات أن عائشة تعمدت كسر القصعة غيرة من مرسلتها، فقد ورد عن عائشة قالت: "ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية. صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به فأخذتني رعدة فكسرت الإناء" وفي رواية "فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر "حجر" ففلقت القصعة". وظاهر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاتب عائشة على صنعها هذا إما لأنها بادرت فاعتذرت كما جاء في بعض الروايات "فقلت يا رسول الله: ما كفارة ما صنعت"؟ قال: "إناء مثل إناء" وإما لأنه قد عذرها في حالة غيرتها كما جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يجمع الطعام ويقول لأصحابه، "غارت أمكم. غارت أمكم" يكرر هذه العبارة، وإما لأنه فهم أن التي أرسلت الطعام كانت تقصد إساءة عائشة والمظاهرة عليها بإرسالها الطعام إلى بيتها وفي يومها. بقيت مسألة رد قصعة مكان قصعة، وبه احتج من يقضي في العروض بالأمثال، وهو المشهور عن مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، فيقولون: إن من استهلك عروضا فعليه مثل ما استهلك، ولا يقضي بالقيمة إلا عند عدم المثل، وأجاب من يقضي بالقيمة في العروض عن الحديث بجوابين. أولهما: أن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت زوجتيه، فنقل من ملكه إلى ملكه، لا على وجه الغرامة والحكم على الخصم، بل على سبيل تطييب قلب مرسلتها. ثانيهما: أن أخذ القصعة السليمة من بيت الكاسرة كان عقوبة، والعقوبة بالأموال مشروعة، وفي الحديث حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه والله أعلم.

والله سبحانه وتعالى أعلم

كتاب الشركة

كتاب الشركة باب الشركة في الطعام والنهد والعروض الشركة بفتح الشين مع كسر الراء وسكونها ويجوز كسر الشين وسكون الراء وهي في اللغة الاختلاط وفي الشرع ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع وقد تحدث قهرا كالإرث وبالاختيار كالشراء ونحوه والنهد بفتح النون وكسرها مع سكون الهاء هو إخراج القوم نفقاتهم على قدر عددهم وخلطها عند المرافقة في السفر وقد يكون في الحضر قال البخاري ولم ير المسلمون في النهد بأسا بأن يأكل هذا بعضا وهذا بعضا مجازفة والعروض جمع عرض بسكون الراء وهو المتاع ويقابله النقد 1 - عن أبي موسى قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم -[المعنى العام]- يمتدح الرسول صلى الله عليه وسلم الأشعريين لتراحمهم وإيثار بعضهم بعضا وبأنهم إذا نفد زادهم ولم يبق عند بعضهم إلا القليل سواء كانوا مسافرين أو مقيمين في هذه الحالة الضنكة التي تحرص فيها النفس على ما عندها

وتعض على ما تحت يدها بالنواجذ يجمعون ما عندهم ويخلطونه كأنه مال واحد ويجتمعون عليه كأنهم رجل واحد يتناولون منه كل حسب حاجته منه إن فعلهم هذا من الإسلام بل إن الإسلام هو فعلهم ولو اقتدى بهم المسلمون في أيامنا ما غلا طعام وما عز مطلوب ولكنه الشره وحب النفس سيطر على مشاعرنا فما نكاد نسمع بقلة استيراد متاع حتى نتكالب على شرائه ونتسابق في تخزينه حتى ينعدم من السوق وينعم بالإسراف فيه قلة بينما يعاني الكثير آلام الحرمان -[المباحث العربية]- (إن الأشعريين) جمع أشعري بتشديد الياء نسبة إلى الأشعر قبيلة من اليمن ويروى إن الأشعرين بدون ياء النسب (إذا أرملوا) أي إذا فنى زادهم من الإرمال وهو فناء الزاد وإعواز الطعام وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قال تعالى {أو مسكينا ذا متربة} أي لصقت يده بالتراب لفقره (في إناء واحد) في بمعنى الباء أي قسموا بإناء واحد حتى يأخذ كل واحد منهم مقدار نصيب الآخر وأكد هذا بقوله بالسوية (فهم من) ي الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم أي الأشعريون متصلون بي وكلمة من هذه تسمى اتصالية والمراد من هذه الجملة كما قال النووي المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى وقيل المراد فعلوا فعلى في المواساة -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- استحباب خلط الزاد في السفر والحضر وليس المراد من قسمته ما عرف عند الفقهاء بل المراد إباحة البعض للبعض بموجوده

2 - فضيلة الإيثار والمواساة 3 - منقبة عظيمة للأشعريين قبيلة أبي موسى الأشعري بسبب إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهم وتشريفهم بإضافتهم إليه 4 - جواز تحديث الرجل بمناقبه لأن المحدث بهذا الحديث أبو موسى الأشعري ولم ينكر عليه أحد 5 - استدل به بعضهم على جواز هبة المجهول ظنا منه أن أخذ البعض من مال البعض هبة والحق أن الهبة تمليك والتمليك غير الإباحة وأيضا لا تكون الهبة إلا بالإيجاب والقبول وكل ما يدل عليه الحديث المواساة والإباحة 2 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استسقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أننا أخرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا -[المعنى العام]- شبه الرسول صلى الله عليه وسلم حالة المحافظ على حدود الله ومنها الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر والذي يقع في الذنوب أو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر بقوم اقتسموا سفينة سكنوها بطريق القرعة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الأسفلون إذا أرادوا ماء مروا على من فوقهم فيتأذى سكان العلو من الخروج ومن رشاش الماء، ومن الحركة وقت الراحة وغير ذلك من أنواع المضايقات وأحس سكان الأسفل بأذاهم ورغبوا في تفاديه ففكروا تفكيرا سقيما فكروا لو أنهم خرقوا السفينة من الأسفل لاستطاعوا أن يحصلوا على الماء دون إلحاق الأذى بإخوانهم سكان العلو وما خطر ببالهم أن ذلك الخرق مهما صغر كفيل بإغراق السفينة وإهلاك الجميع وبدءوا في إخراج مشروعهم إلى عالم الوجود فأخذ أحدهم بفأسه وشرع ينقر وسمعه الأعلون فنزلوا فقالوا ما لك؟ قال تأذيتم بنا في مرورنا عليكم ولا بد لنا من الماء فإن تركوه يخرق هلكوا جميعا وإن منعوه نجا ونجوا جميعا وهكذا من يقيم حدود الله تحصل له ولغيره النجاة وأما من يهملها أو يقع فيها فله الهلاك للعاصي بمعصيته وللساكت بالرضى بها وعدم إنكاره لها -[المباحث العربية]- (مثل القائم على حدود الله) أي المستقيم على أمر الله وعلى ما منع من مجاوزته ويقال القائم بأمر الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر (استهموا على سفينة) أي اقترعوا فأخذ كل واحد منهم سهما أي نصيبا منها (فكان الذين في أسفلها) في بعض الروايات الذي في أسفلها بإفراد الموصول ويؤول موصوفه بالفريق (فإن تركوهم) الضمير المرفوع لمن فوق أي إن ترك الذين سكنوا الأعلى الذين تحتهم وإن شرطية جوابها جملة هلكوا (وما أرادوا) الواو بمعنى مع وما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية

(هلكوا جميعا) الضمير في هلكوا للفريقين العلوي والسفلي (وإن أخذوا على أيديهم) كناية عن منعهم من تنفيذ إرادتهم من الخرق (نجوا ونجوا جميعا) الضمير الأول لأهل العلو والثاني لأهل السفل وصح العكس وجميعا حال على التأويل وفي الحديث تمثيل شبهت فيه الهيئة الحاصلة من انتباه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وحيلولته بين مريد الذنب وبين اقترافه بالهيئة الحاصلة من سكنى قوم أعلى سفينة وقوم أسفلها ورغبة الأسفلين في خرقها ومنع الأعلين لهم بجامع النجاة في كل نجاة الآمرين والطائعين من عقاب الله ونجاة سكان السفينة المريدين للخرق والمانعين لهم من الغرق كذلك يقال في الحالة الثانية شبهت الهيئة الحاصلة من إهمال المسلم أمر المقدم على الذنب حتى يقع فيه بالهيئة الحاصلة من إهمال ساكني أعلى سفينة أمر ساكني أسفلها مريدي خرقها حتى ينفذوا الخرق بجامع الهلاك في كل هلاك المسلم الذي لم يأمر بالمعروف بسبب تقصيره وهلاك المذنب بسبب ذنبه هلاكهما بعقاب الله وهلاك سكان السفينة المهملين والخارقين بالغرق والغرض من هذا التمثيل الحث على إنكار المنكر والعمل على منعه قبل وقوعه -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز ضرب الأمثال 2 - جواز القرعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذم المستهمين في السفينة ولم يبطل فعلهم بل رضيه وضرب به مثلا لمن نجا من الهلكة في دينه قال ابن بطال: القرعة سنة لكل من أراد العدل في القسمة بين الشركاء والفقهاء متفقون على القول بها ولم يخالف في ذلك إلا بعض الكوفيين وقالوا لا

معنى لها لأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها وحكي عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال هي في القياس لا تستقيم ولكنا نترك القياس في ذلك للآثار والسنة فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه كما أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين 3 - أنه يجب على الجار أن يصبر على شيء من أذى جاره خوف ما هو أشد 4 - أنه ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به 5 - أنه لصاحب العلو منعه من الضرر 6 - تعذيب العامة بذنوب الخاصة وباستحقاق العقوبة بترك النهي عن المنكر مع القدرة كما حكى الله عن سبب أخذ بني إسرائيل بالعذاب بقوله {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ويقول سبحانه {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} 7 - وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقرعة وإن كان فيه علو وسفل

كتاب العتق

كتاب العتق العتق في اللغة القوة من عتق الطائر إذا قوي على جناحيه وفي الشرع عبارة عن قوة شرعية في المملوك بإزالة الملك عنه والرق ضعف شرعي يثبت في المحل فيعجزه عن التصرفات الشرعية ويسلبه أهلية القضاء ونحوها والعتق من أرفع الأعمال عند الله حث الشارع وتشوف إليه فجعله كفارة الحنث في اليمين وكفارة للظهار وكفارة للجماع في نهار رمضان وحكم به في القتل الخطأ ثم حث عليه حيث لا موجب له قال صلى الله عليه وسلم أيما رجل أعتق امرءا مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا من النار بل أوجب على من أعتق بعض عبد وهو موسر أن يعتق كله ثم حث الشحيح الحريص على المال أن يكاتب عبده فقال {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} ولم يكتف بالحث على الكتابة بل حث على مساعدته لأداء ما كاتب عليه {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وجعلهم مصرفا من مصاريف الزكاة {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب .... } وكان عمر بن الخطاب يضرب بالدرة السيد الغني الذي يرفض مكاتبة عبده الراغب في الكتاب ثم فوق هذا وذاك أمر بحسن معاملة العبيد إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم وإذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه بل في الخطاب والحديث لا يقل أحدكم عبدي أمتي كلكم عبد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل فتاي وفتاتي.

3 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قلت فأي الرقاب أفضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها قلت فإن لم أفعل قال: تعين صانعا أو تصنع لأخرق قلت فإن لم أفعل قال تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك -[المعنى العام]- سأل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال التي تقربه إلى الله تعالى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال الإيمان بالله والجهاد ثم قال فأي العبيد أعتق؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أغلاهم ثمنا وأحبهم إلى أسيادهم قال أبو ذر فإن لم أستطع الجهاد ولا العتق فأي الأعمال الصالحة أقدم؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم تساعد الصانع الضعيف على صنعته بالنفس والمال أو تشغل عاطلا قال أبو ذر: فإن لم أستطع قال تكف أذاك عن الناس فإن كف أذى اللسان والجوارح عن الناس صدقة -[المباحث العربية]- (إيمان بالله) خبر مبتدأ محذوف أي أفضل الأعمال إيمان بالله (أي الرقاب أفضل) أي للعتق وعبر عن العتق بفك الرقبة لأن حكم السيد عليه وملكه كحبل في رقبة العبد وكالغل المانع له من الخروج فإذا أعتق أطلقت رقبته من ذلك (أغلاها ثمنا) أغلى خبر مبتدأ محذوف وثمنا تمييز وفي رواية أعلاها بالعين وفي رواية أكثرها (وأنفسها) أي أكثرها رغبة عند أهلها لمحبتهم فيها (فإن لم أفعل) أي إن لم أقدر على ذلك فأطلق الفعل وأراد القدرة

عليه وجاء في رواية فإن لم أستطع (تعين صانعا) بالصاد والنون من الصنعة أي تعينه على صنعته بالنفس أو بالمال وفي رواية ضايعا بالضاد والياء أو بالضاد والهمزة أي تعين ذا ضياع من فقر أو عيال (أو تصنع لأخرق) الأخرق بهمزة وراء مفتوحتين بينهما خاء ساكنة من لا يحسن صنعة ولا يهتدي إليها (تدع الناس من الشر) أي تتركهم من الشر وتدع من الأفعال التي أمات العرب ماضيها كما يقول الصرفيون (فإنها صدقة تصدق بها) الضمير في فإنها للمصدر الذي دل عليه الفعل وأنثه لتأنيث الخبر وتصدق بفتح الصاد وتشديد الدال أصله تتصدق فحذفت إحدى التاءين -[فقه الحديث]- قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد بالإيمان لأن الجهاد أفضل الأعمال إذ ذاك كان عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا على أن الجهاد ليس قاصرا على مجاهدة الكفار في ميادين القتال بل يشمل جهاد النفس الأمارة بالسوء وقهرها على طاعة الله وهذا ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد الأكبر حين عاد من الغزو فقال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر هذه هي الدرجة الأولى في الأعمال الفاضلة إيمان بالله وجهاد في سبيله أما أفضل الرقاب عند العتق فأغلاها ثمنا وأحبها إلى صاحبها إن العتق على هذه الصفة لا يقع غالبا إلا خالصا لوجه الله وإليه الإشارة بقول الله تعالى {لن تناولوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وكان لابن عمر رضي الله عنه جارية يحبها فأعتقها لهذه الآية وفي تطبيق هذا الوصف وعدم تطبيقه قال النووي محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة أما إذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشتري بها رقبة نفيسة أو رقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل وهذا بخلاف الأضحية فإن

الواحدة السمينة أفضل كما اختلف فيما إذا كان النصراني أو اليهودي أكثر ثمنا من المسلم فقال مالك عتق الأغلى أفضل وإن كان غير مسلم وقيل عتق المسلم أفضل قال صاحب الفتح والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والضابط أن أيهما كان أكثر نفعا كان أفضل سواء قل أو كثر وإنما أمره بإعانة الصانع قبل الأخرق لأن إعانته أفضل من إعانة غير الصانع لأن غير الصانع مظنة الإعانة فكل أحد يعينه غالبا بخلاف الصانع فإنه لشهرته بصنعته يغفل عن إعانته فهو من جنس الصدقة على المستور وهذه الرواية أولى من رواية ضائعا بالضاد لأنها هي التي تقابل بإعانة الأخرق وقد اختلفت الروايات في أفضل الأعمال وللجمع بينها قيل: إن الاختلاف وقع بحسب اختلاف السائلين والجواب لهم بحسب ما يليق بالمقام -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان 2 - حسن المراجعة في السؤال 3 - صبر المفتي والمعلم على التلميذ والرفق به 4 - فيه إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع 5 - فيه دليل على أن الكف عن الشر داخل في فعل الإنسان وكسبه فيؤجر عليه عند النية والقصد لا مع الغفلة والذهول

4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه -[المعنى العام]- يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم السادة بأن يحسنوا معاملة الخدم بأن يجلسوهم معهم على مائدة الطعام ليأكلوا مما يأكلون ففي هذا هضم لنفس السيد واعتراف منه بالمساواة في الخلق والأخوة في الإنسانية وشكر لنعمة الله عليه وفيه الإحسان إلى خادمه الذي تحت يده وتطييب لنفسه وتعليمه لآداب المائدة وإعفافه عن السرقة والحقد. فيقول عليه الصلاة والسلام إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه ليأكل إن لم تكن ريبة بأن كان الخادم جميلا والمخدوم سيدة أو الخادمة جميلة والمخدوم رجلا أو كان هناك ضيف يشمئز من وجود الخادم فإن وجد ما يمنع إجلاسه فليناوله مما يأكله قبل أن يأكل ولا ينتظر حتى يقذف إليه بالفضلات ولا يجعل له طعاما خاصا أقل جودة مما يأكل فإن نفس الخادم تتعلق بما يقدم فإن لم يفعل لم يزك الطعام ولم ينتفع به آكله بل قد يعود عليه بالضرر والأمراض

-[المباحث العربية]- (إذا أتى أحدكم خادمه) بنصب أحد على أنه مفعول مقدم ورفع خادم على الفاعلية والمراد بالخادم من يخدم سواء كان عبدا أو حرا ذكرا أو أنثى (فإن لم يجلسه معه) معطوف على محذوف تقديره فليجلسه معه وهو جواب إذا وقد ثبت ذلك عند أحمد وفي رواية فليقعده معه ليأكل وفي أخرى فليدعه فليأكل معه فإن لم يفعل فليناوله (لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين) رواه الترمذي بلفظ لقمة أو لقمتين بدون الأكلة والأكلة بضم الهمزة هي اللقمة وأو للشك من الراوي هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقمة أو لقمتين؟ أو أكلة أو أكلتين؟ فجمع بينهما وأتى بالشك ليحتاط في تأدية المقالة كما سمعها ويحتمل أن يكون من عطف أحد المترادفين على الآخر بكلمة أو وقد صرح بعضهم بجوازه وأما أو التي في قوله لقمة أو لقمتين وقوله أكلة أو أكلتين فهي للتقسيم بحسب حال الطعام وحال الخادم (فإنه ولي علاجه) الفاء للتعليل والفعل ولي إما من الولاية أي تولى ذلك وإما من الولي وهو القرب والعلاج مصدر عالج يعالج أي تولى صنع الطعام أو قرب من مكان صنعه وتحمل مشقة حره ودخانه وحمله وشم ريحه وعلقت به نفسه -[فقه الحديث]- محل إطعام الخادم لقمة أو لقمتين إذا كان الطعام قليلا أما إذا كان كثيرا فيلزمه أن يشبعه ويسن أن يقلب اللقمة في الدسم وأن تكون بحيث تسد مسدا ليست صغيرة تثير الشهوة ولا تقضي وطرا والأمر بالإجلاس والمناولة للندب على الراجح وليس قاصرا على من ولي علاج الطعام بل شمل كل خادم وهذا الوصف أشمل

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على حسن معاملة الخادم 2 - الحث على مكارم الأخلاق والمواساة والتواضع وعدم الترفع على عباد الله ولو كانوا خدما 3 - استحباب إعطاء الأجير شيئا من الذي يجنيه

كتاب الهبة

كتاب الهبة الهبة في اللغة إيصال الشيء إلى الغير بما ينفعه وشرعا تمليك بلا عوض في الحياة وهذا يعم الصدقة والهدية والإبراء. لأنه إن ملك لاحتياج أو لثواب آخرة فصدقة أو لإكرام فهدية أو ملك المدين فإبراء نعم لا يشترط في الصدقة والهدية صيغة بل يكفي البعث والقبض 5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة -[المعنى العام]- يحض الرسول صلى الله عليه وسلم على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء والتعاون على أمر المعيشة والهدية إذا كانت يسيرة أدل على المودة وأرفع للكلفة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدى إليه والكثير قد لا يتيسر كل وقت والمواصلة تصير كالكثير فلا تحتقر جارة هدية جارتها ولا تتحرج مهدية من صغر هديتها ولو كان المهدى من التفاهة كحافر الفرس وظلف الشاة -[المباحث العربية]- (يا نساء المسلمات) في إعرابه ثلاثة أوجه: أصحها وأشهرها نصب نساء وجر المسلمات على الإضافة وهو من باب إضافة الشيء إلى

نفسه والموصوف إلى صفته والأعم إلى الأخص كمسجد الجامع وجانب الغربي وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة وعند البصريين على تقدير محذوف أي مسجد المكان الجامع وجانب المكان الغربي وهنا يا نساء الطوائف أو الأنفس أو الجماعات المسلمات الوجه الثاني رفع نساء ورفع المسلمات على معنى النداء المفرد والمسلمات صفة مرفوعة على اللفظ الوجه الثالث رفع نساء ونصب المسلمات على أنه صفة بحسب الموضع وفي رواية يا نساء المسلمين وفي أخرى يا نساء المؤمنين (لا تحقرن جارة لجارتها) بنون التوكيد الثقيلة وفي الكلام محذوف أي لا تحقرن جارة هدية لجارتها وفي رواية جارة لجارة بحذف الضمير (ولو فرسن شاة) خبر لكان المحذوفة مع اسمها والتقدير ولو كان المهدى فرسن شاء والفرسن بكسر الفاء والسين بينهما راء ساكنة وحكي فتح السين وهو عظم قليل اللحم وهو للبعير موضع الحافر من الفرس ويطلق على ظلف الشاة مجازا -[فقه الحديث]- المقصود من الحديث الحث على الإهداء أو على قبول الهدية بنفس راضية وتأويله على الأول لا تحتقرن جارة مهدية شيئا لجارتها مهما كان حقيرا وعلى الثاني: لا تحتقرن جارة هدية مهما كانت حقيرة وحمل الحديث على ما يشمل الأمرين أولى والمراد من ذكر فرسن الشاة المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بالمهاداة به أي لا تمتنع جارة من أن تهدي لجارتها ما وجد عندها مهما كان حقيرا فالوجود خير من العدم ولا تحتقر جارة ما أهدي إليها ولو كان حقيرا فهو دليل المودة ولغير العادة خاطب الشرع النساء في حكم يشمل الرجال وذلك لأنهن اللاتي يباشرن الإهداء والقبول غالبا لمطعومات المنازل التي هي أحقر الأشياء وغيرهن يشاركهن بطريق الإلحاق والتعبير

بالجارة لما هو الغالب والكثير وإلا فالنهي يشمل كل مهدية وكل مهدى إليها جارة كانت أو بعيدة أو غريبة -[ويفيد الحديث]- 1 - الحض على التهادي ولو باليسير 2 - استحباب المودة وإسقاط التكلف 3 - النهي عن ازدراء الهدية مهما صغرت 6 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: "يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت يا خالة ما كان يعيشكم قالت الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا" -[المعنى العام]- تحدث عائشة ابن أختها عروة بن الزبير الذي شهدها في نعيمها بعد أن فتح الله على المسلمين بهجة الدنيا وأغدق عليهم من خيراتها تحدثه عن أيام مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم قاسى فيها من آلام الجوع ما جعله يربط الحجر

على بطنه وعانى فيها من الإعدام ما حرم منزل نسائه من النار الشهر والشهرين لعدم وجود ما ينضجونه عليها فيعجب عروة ويسأل خالته: بم كان يقتات حبيب الله وهو الذي عرضت عليه الجبال أن تكون ذهبا؟ وعلام كنتم تعيشون يا خالة فتجيبه: كنا نعيش على الماء والتمر وعلى بعض هدايا من الجيران كانت لهم نوق وشياه وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبانها فيسقينا -[المباحث العربية]- (أنها قالت لعروة) بن الزبير بن العوام أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ولد في آخر خلافة عمر سنة ثلاث وعشرين هجرية ومات سنة أربع وتسعين (إن كنا لننظر) إن مخففة من الثقيلة واللام في خبرها للفرق بينها وبين إن النافية واسمها ضمير الشأن وهذا مذهب البصريين وقال الكوفيون إن نافية واللام بمعنى إلا. (ثم الهلال ثم الهلال) بالجر عطفا على السابق (ثلاثة أهلة في شهرين) ثلاثة بالنصب مفعول لفعل محذوف أي نرى ثلاثة أهلة وبالجر على البدلية وفي شهرين متعلق بمحذوف أي تكمل رؤيتها في شهرين باعتبار رؤية الهلال في أول الشهر الأول ثم رؤيته في أول الشهر الثالث فيصدق عليه ثلاثة أهلة في ستين يوما والمقصود من هذا التعبير الإشعار بكمال الشهرين (وما أوقدت) بضم الهمزة مبنيا للمفعول والجملة في محل نصب حال (يا خالة) بضم التاء على أنه منادى مفرد أو بكسرها على أنه مضاف لياء المتكلم المحذوفة مع بقاء الكسرة (ما كان يعيشكم) بضم الياء وكسر العين من أعاشه وضبطه النووي بفتح العين وكسر الياء المشددة وفي رواية ما كان يقيتكم من القوت

(الأسودان التمر والماء) أي كان يعيشنا الأسودان وهو من باب التغليب كالقمرين للشمس والقمر إذ الماء ليس أسود وأطلقت عائشة على التمر أسود لأنه تمر المدينة (كانت لهم منائح) جمع منيحة بفتح الميم وكسر النون وهي ناقة أو شاة تعطيها غيرك ليحتلبها ثم يردها عليك ولا يقال منيحة إلا للناقة وتستعار للشاة -[فقه الحديث]- ورد في بعض الروايات كان يأتي علينا الشهر وما نوقد فيه نارا وفي أخرى كان يأتي على آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان ولا منافاة بين حديثنا وبين هذه الروايات لأن ذلك يختلف باختلاف الأوقات وقد عنت عائشة بجيران الرسول صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة وعبد الله بن عمر بن حزام وأبا أيوب الأنصاري وسعد بن زرارة وغيرهم ممن كانت بيوتهم قريبة من بيوته صلى الله عليه وسلم وإن لم تكن ملاصقة ومناسبة هذا الحديث لكتاب الهبة أنه يدل على الإهداء للرسول صلى الله عليه وسلم وفي الهدية معنى الهبة كما قدمنا -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - زهد النبي صلى الله عليه وسلم 2 - وصبره على التقلل من العيش 3 - وإيثاره صلى الله عليه وسلم الآخرة على الدنيا 4 - وفيه حجة لمن آثر الفقر على الغنى 5 - وفيه مشاركة الواجد للمعدم 6 - وفيه جواز ذكر المرء ما كان فيه من الضيق بعد أن يوسع الله عليه تذكيرا بنعمة الله وليتأسى به غيره

7 - عن أنس رضي الله عنه قال أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا فأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذيها فقبله قلت وأكل منه قال وأكل منه -[المعنى العام]- يقول أنس كنت غلاما شديدا قويا وخرجت مع بعض الصحابة فاستنفرنا أرنبا من مكانه وجحره الصخري فنفر وأخذ يعدو والقوم من خلفه يحاولون إمساكه واصطياده حتى أعياهم وأتعبهم فانقطعوا عنه وتبعته وحدي فأدركته فأمسكته وجئت به إلى زوج أمي أبي طلحة فذبحه وأرسلني بفخذيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل الهدية وأكل منها -[المباحث العربية]- (أنفجنا أرنبا) بالنون والفاء والجيم أي أثرناه ونفرناه من مكانه

والأرنب واحد من الأرانب يطلق على الذكر والأنثى ولذا عادت عليه الضمائر في الحديث مؤنثة (بمر الظهران) مر الظهران بفتح الميم وتشديد الراء وفتح الظاء علم على موضع بينه وبين مكة ستة عشر ميلا إلى جهة المدينة والعلم مجموع المضاف والمضاف إليه فالإعراب على الجزء الأول وهو مر وأما الجزء الثاني فمجرور بالإضافة أبدا وعلامة جره الكسرة بناء على أن المثنى إذا سمي به أعرب بالحركات (فسعى القوم) أي جروا نحوه ليصطادوه (فلغبوا) بفتح الغين وكسرها والفتح أشهر ومعناه تعبوا (بوركها أو فخذيها) الورك بفتح الواو وكسر الراء وبكسر الواو وسكون الراء ما فوق الفخذ وقوله أو فخذيها شك من الراوي عن أنس بين الوركين والفخذين (فقبله) الضمير يعود على المبعوث به -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - إباحة السعي لطلب الصيد وجمع بينه وبين ما روي من تبع الصيد غفل بأن المراد من تمادى في طلب الصيد إلى أن فاتته الصلاة أو غيرها من مصالح دينه أو دنياه 2 - وأنه إذا طلب جماعة الصيد فأدركه بعضهم وأخذه يكون ملكا له ولا يشاركه فيه من شاركه في طلبه 3 - وأنه لا بأس بإهداء الصاحب لصاحبه الشيء اليسير وإن كان المهدى إليه عظيما إذا علم من حاله محبة ذلك منه 4 - إباحة أكل الأرانب وهو قول الأئمة الأربعة

5 - جواز هدية الصيد وقبولها من الصائد 6 - أن ولي الصبي يتصرف فيما يملكه الصبي بالمصلحة 8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل وإن قيل هدية ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم -[المعنى العام]- لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع كثيرا بأصحابه الفقراء ويأكل معهم تكريما لهم وتطييبا لقلوبهم ولما كان الكثير منهم محلا للصدقة ولما كانت الصدقات لا تحل لمحمد ولا لآل محمد كان الرسول الكريم إذا جيء بطعام سأل عن مورده أعلى سبيل الهدية جاء؟ أم على سبيل الصدقة فإن قيل على سبيل الصدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يمد يده إليه وإن قيل على سبيل الهدية أسرع في تناوله وأكل معهم صلى الله عليه وسلم -[المباحث العربية]- (سأل عنه) المفعول محذوف أي سأل مقدمه عنه زاد أحمد من غير أهله (أهدية أم صدقة) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف أي هذا هدية أم صدقة؟ ويجوز النصب بتقدير أجئتم به هدية أم صدقة

(كلوا ولم يأكل) المفعول محذوف أي كلوه ولم يأكله أو الفعل منزل منزلة اللازم أي حصلوا الأكل ولم يحصله (ضرب بيده) أي شرع في الأكل مسرعا ومثله ضرب في الأرض إذا أسرع السير -[فقه الحديث]- يدل هذا الحديث على قبول الهدية وإنما لم يأكل صلى الله عليه وسلم من الصدقة لأنها لا تحل له قال ابن بطال: لأنها أوساخ الناس لأن أخذ الصدقة منزلة دنية لقوله صلى الله عليه وسلم اليد العليا خير من اليد السفلى وأيضا لا تحل الصدقة للأغنياء وقد قال تعالى {ووجدك عائلا فأغنى} ومحل ذلك إذا ظل الشيء على صفة الصدقة أما إذا تصدق به على شخص فأهداه للرسول صلى الله عليه وسلم حل له أكله كما جاء في حديث بريرة وهي أمة اشترتها عائشة فأعتقتها وتصدق عليها بلحم فقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو لها صدقة ولنا هدية وذلك لأن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك لصحة ملكه لها كتصرف سائر الملاك في أملاكهم أما حكم السؤال عما يقدم إلى المرء من طعام أو شراب أمن حلال هو أم من حرام فهو من الورع إن كان في محل تكثر فيه الشبهات وتركه أولى إن بعدت الشبهات

9 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال وهو على المنبر: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال أعطيت سائر ولدك مثل هذا قال لا قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم قال فرجع فرد عطيته -[المعنى العام]- سألت أم النعمان أباه أن ينفله عن إخوته من أبيه وأن يعطيه عطية من ماله فماطلها سنة أو سنتين فلما كثر إلحاحها عليه وهبه غلاما فقال لا أرضى بهذه الهبة حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بشير ولده النعمان يحمله بعض الطريق لصغره ويأخذ بيده بعضه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعطيت ابني هذا عطية فأمرتني أمه أن أشهدك عليها قال عليه الصلاة والسلام هل لك أولاد غيره قال نعم قال أكلهم أعطيتهم مثل هذا؟ قال لا قال أيسرك أن يكونوا إليك في البر كلهم سواء قال نعم قال فليس يصح هذا إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور فرجع بشير فرد عطيته التي أعطاها لابنه النعمان -[المباحث العربية]- (عمرة بنت رواحة) عمرة بفتح العين وسكون الميم ورواحة بفتح الراء أخت عبد الله بن رواحة زوجة بشير وهي أم النعمان (لا أرضى) مفعوله محذوف أي لا أرضى هذا الإعطاء حتى تشهد (قال: أعطيت سائر ولدك) الكلام على تقدير همزة الاستفهام الذي للاستخبار

(مثل هذا) الإشارة إلى المعطي للنعمان (فاتقوا الله) الفاء فصيحة أعربت عن شرط محذوف تقديره: إذا لم تكن أعطيت سائر ولدك مثله فاتق الله وأعدل بين أولادك وإنما جمع الضمير ليشمل كل من على شاكلته فكأنه يقول اتقوا الله يا من تفعلوا هذا الفعل واعدلوا بين أولادكم (قال فرجع) فاعل قال ضمير يعود على النعمان راوي الحديث وفاعل رجع ضمير يعود على بشير معطي الهدية -[فقه الحديث]- الكلام عن هذا الحديث يتطرق إلى النقاط التالية 1 - نوع العطية وسببها والباعث على الإشهاد 2 - آراء الفقهاء وأدلتهم في تفضيل بعض الأولاد على بعض 3 - آراؤهم في الرجوع فيما أعطاه الوالد لولده 4 - ما يؤخذ من الحديث وإليك البيان 1 - صرح في رواية مسلم بأن العطية كانت غلاما وفي رواية ابن حبان بأنها كانت حديقة ووفق ابن حبان بين الروايتين بحملهما على واقعتين لكن يبعده أن يرجع بشير ليشهد على عطيته الثانية بعد أن قيل له في الأولى لا أشهد على جور والأولى ترجيح رواية مسلم وأن العطية كانت غلاما وسبب هذا الإعطاء ما رواه مسلم عن النعمان قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة أي مطلها ثم بدا له فأعطى فأمرته أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدة تثبيت العطية وعدم تمكن بشير من الرجوع فيها 2 - وقد اختلف الفقهاء في تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطايا فذهب أحمد وبعض المالكية إلى وجوب التسوية واستدلوا

بقوله صلى الله عليه وسلم اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم والأمر للوجوب وبقوله في رواية أخرى لا أشهد على جور وبأن التفضيل يؤدي إلى تقطيع الأرحام وإبقاء الشحناء بين الأخوة فيكون حراما واختلف هؤلاء فيما لو حصل التفضيل هل يفسد العقد أو يصح مع الحرمة؟ والمشهور الفساد نعم هؤلاء يجيزون التفاضل إن كان له سبب كاحتياج الولد لزمانته أو لصغره أو نحو ذلك وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فإن فضل بعضا صح وكره وحملوا الأمر في الحديث اتقوا الله واعدلوا على الندب وقالوا في الرواية الأخرى: إن الجور هو الميل عن الاعتدال فيطلق على المكروه. واستشهد بزيادة مسلم أشهد على هذا غيري وهو إذن بالإشهاد فلا يكون حراما وامتناعه صلى الله عليه وسلم عن الشهادة إنما كان على وجه التنزه كما استشهدوا بعمل الخليفتين أبي بكر وعمر ثم إن الإجماع منعقد على جواز إعطاء الرجل ماله لغير ولده فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ثم اختلف الفريقان في صفة التسوية الواجبة أو المستحبة فذهب أحمد وبعض الشافعية وبعض المالكية إلى أن العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث وقال غيرهم لا فرق بين الذكر والأنثى إنما اختلفا في الميراث بالعصوبة أما بالرحم المجردة فهما سواء كالأخوة والأخوات من الأم وظاهر الأمر بالتسوية في الحديث يشهد لهم 3 - أما الرجوع فيما أعطاه الوالد لولده زيادة على إخوته فوجب عند أحمد لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى للبخاري فارجعه والأمر للوجوب وقال غيره إن الأمر بالرجوع ليس للإيجاب وإنما هو من باب الفضل والإنصاف والإحسان مثله ما جاء في رواية البزار أن رجلا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه وجاءته بنية له فأجلسها بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا سويت بينهما وليس من باب الوجوب -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز الميل القلبي إلى بعض الأولاد والأزواج دون بعض وإن طلبت التسوية بينهم في غير ذلك

2 - جواز استفسار الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال أخذا من قوله أعطيت سائر ولدك 3 - أن الإشهاد في الهبة مشروع وليس بواجب 4 - جواز الرجوع عند التفضيل 5 - كراهة تحمل الشهادة فيما ليس مباحا 6 - وجوب المحافظة على ما فيه التألف بين الإخوة 7 - أن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة وتظهر فائدتها ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه أو يؤديها عند بعض قضاته 8 - المبادرة إلى قبول قول الحق وأمر الحاكم والمفتي والناس بتقوى الله في كل حال 9 - قال بعضهم فيه إشارة إلى سوء عاقبة التنطع لأن أم النعمان لو رضيت ولم تطلب الإشهاد ما ردت الهبة وهذا القول ضعيف لأن رد الهبة كان رفقا وعدلا فلا يكون من سوء العاقبة

10 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته كالعائد في قيئه -[المعنى العام]- ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجوع في الهبة بعد القبض بتشبيه الراجع فيها بأخس الحيوانات في أخس أحوالها فهو يشبهه بالكلب الذي يقيء فيختلط قيئه القذر بقذارة الأرض والهوام ثم يعود إلى قيئه فيتناوله -[المباحث العربية]- (العائد في هبته كالكلب) الجار والمجرور الأول متعلق باسم الفاعل قبله والجار والمجرور كالكلب متعلق بمحذوف خبر المبتدأ وجوز الأخفش والفارسي أن تكون الكاف اسما في محل رفع خبر والكلب مخفوضا بالإضافة (يقيء ثم يعود) الجملة في محل النصب على الحال أي كالكلب في هذه الحالة -[فقه الحديث]- احتج الشافعي وأحمد بهذا الحديث على أنه ليس للواهب زوجا كان أو غيره أن يرجع فيما وهبه إلا للذي ينحله الأب لابنه جمعا بين هذا الحديث وحديث النعمان الماضي فعموم لفظ العائد مخصوص بما رواه ابن ماجه عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مالا وولدا وأبي يريد أن يجتاح مالي قال عليه الصلاة والسلام (أنت ومالك لأبيك) كما احتجا بما رواه البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لنا مثل السوء الذي يعود في

هبته كالكلب يرجع في قيئه) أي لا يجوز للمؤمنين أن يتصفوا بصفة ذميمة فهذا المثل ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة بعد إقباضها وذهب مالك إلى أن للأجنبي أن يرجع في هبته إذا قصد من الموهوب له الثواب ولم يثبه وذهب أبو حنيفة إلى أن للواهب الرجوع في هبته من الأجنبي ما دامت قائمة ولم يعوض عنها واستدلا بما رواه ابن ماجه والطبراني من قوله صلى الله عليه وسلم (الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها) وأجابا عن حديث الباب بأنه عليه الصلاة والسلام جعل العائد في هبته كالعائد في قيئه من حيث إنه ظاهر القبح مروءة وخلقا لا شرعا ولذا كان التشبيه بالكلب لا بالرجل والكلب غير متعبد بتحليل ولا تحريم فالقيء والعود فيه ليس حراما عليه فلا يثبت منع الواهب من الرجوع نعم فيه أنه أمر قذر كالقذر الذي يفعله الكلب 11 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم -[المعنى العام]- تحدث عائشة عن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من زوجاته في الحضر والسفر أما في الحضر فكان يقسم لكل منهن يومها وليلتها بالعدل والسوية إلا أن

أم المؤمنين سودة ضحت بليلتها ويومها ووهبتهما لعائشة رضي الله عنهما ابتغاء مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحست بميله نحو عائشة، وأما في السفر فكان صلى الله عليه وسلم يقرع بينهن قبل أن يخرج فأي واحدة منهن خرج سهمها سافرت في صحبته صلى الله عليه وسلم -[المباحث العربية]- (أقرع بين نسائه) من القرعة ومنه يقال تقارعوا واقترعوا والقرعة هي السهام التي توضع على الحظوظ فمن خرجت قرعته وهي سهمه الذي وضع على النصيب فهو له (فأيتهن) أي أية امرأة منهن خرج سهمها الذي باسمها خرج بها معه (تبتغي) الجملة في محل النصب على الحال من فاعل وهبت وجملة وهبت مستأنفة للتعليل -[فقه الحديث]- -[استدل بهذا الحديث على: ]- 1 - جواز هبة المرأة لغير زوجها وقد اختلف العلماء في إعطاء المرأة بغير إذن زوجها من مالها على قولين أحدهما أن المرأة البالغة الرشيدة ذات الزوج لا فرق بينها وبين البالغ الرشيد في التصرف وهو قول الشافعي والقول الآخر أنه لا يجوز لها أن تعطي من مالها شيئا بغير إذن زوجها وقال مالك لا يجوز إعطاؤها بغير إذن زوجها إلا من ثلث مالها خاصة قياسا على الوصية 2 - وعلى القسم بين الزوجات في الأيام وليس على الزوج قسم في الميل والمحبة لأنه لا يملك ذلك فتصريف القلوب من الله ولذا ورد اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك 3 - وعلى مشروعية القرعة لما فيها من تطييب النفس

باب فضل المنيحة

4 - وعلى فضيلة الإيثار 5 - وعلى فضيلة التنازل عن هوى النفس لتحقيق هوى من يحب باب فضل المنيحة 12 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة" -[المعنى العام]- يرمي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تكثير أبواب الخير وتسهيلها على الناس مع عظم الجزاء عليها إذ أخبر عن أربعين خصلة يسيرة أشدها على النفس حلبة العنز يمنحها صاحبها لمستحقها ابتغاء وجه الله تصديقا بثوابها من فعل واحدة من الأربعين التي ذكر أشقها ولم يرد من المخلوق جزاء ولا شكورا أدخله الله بها الجنة وصدق الله العظيم {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} -[المباحث العربية]- (أربعون خصلة) أربعون مبتدأ وخصلة تمييز وفي رواية أربعون حسنة

(أعلاهن منيحة العنز) أعلاهن مبتدأ ثان و"منيحة العنز" خبره والجملة خبر "أربعون" والمنيحة على وزن عظيمة وهي في الأصل العطية من منح إذا أعطى وكذا المنحة وخصها العرف بالناقة أو الشاة تعار لينتفع بلبنها أو وبرها ثم ترد إلى صاحبها فهي كما يقول ابن بطال تمليك المنافع لا تمليك الرقاب والعنز الأنثى من المعز (ما من عامل يعمل) ما نافية ومن زائدة وعامل مبتدأ وجملة يعمل صفة وجملة أدخله الله بها الجنة هي الخبر والضمير في بها يعود على أربعون (رجاء ثوابها) رجاء منصوب على التعليل مفعول لأجله (وتصديق موعودها) تصديق معطوف على رجاء فهو تعليل أيضا -[فقه الحديث]- حاول بعض العلماء عد الأربعين فذكروا منها تشميت العاطس والفيء على ذي الرحم وإطعام الجائع وإرواء الظمآن والسلام وإعطاء شسع النعل وإيناس الوحشان وكشف الكربة وستر المسلم والتفسح في المجالس وإدخال السرور على المسلم والدلالة على الخير والإصلاح بين الناس ورد المسكين بكلمة طيبة وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وغرس المسلم وزرعه والشفاعة للمسلم ورحمة عزيز ذل وغني افتقر وعالم بين الجهال والتزاور في الله قال الكرماني وهذا رجم بالغيب لاحتمال أن يكون المراد غير المذكورات من سائر أعمال الخير وقال الحافظ ابن حجر الأولى في هذا أن لا يعد لأنه صلى الله عليه وسلم أبهمه وهو عالم به وما أبهمه الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعلق الأمل ببيانه من غيره ولعل الحكمة في إبهامه ألا يحتقر شيء من وجوه البر وإن قل فإنه يخشى من تعيينها والترغيب فيها الزهد في غيرها من أبواب الخير وفي الحديث أن الثواب الكامل للعمل الصالح إنما يعطى لمن فعله ابتغاء وجه الله مصدقا بثوابه

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات الشهادات جمع شهادة والمشاهدة المعاينة مأخوذة من الشهود وهو الحضور لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره ومعناها شرعا إخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان 13 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: -"خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" قال إبراهيم وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد" -[المعنى العام]- يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الاستزادة من الخير بأنهم خير الناس ويستحث التابعين أن ينهضوا ليقربوا من الصحابة في الفضل بأنهم خير ممن يأتي بعدهم ويحذر من زمان يكثر فيه الجور ويقل فيه العدل وتباع فيه الشهادة ويفشو فيه الكذب ولا يتورع فيه عن الزور ويستهان فيه بالشهادة واليمين يجيء فيه أقوام يخونون ولا يؤتمنون وهانحن اليوم في هذا الزمن المقصود وإن نظرة واحدة إلى أفنية المحاكم اليوم لأكبر دليل نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا يا رب العالمين -[المباحث العربية]- (خير الناس قرني) معناه خير الناس أهل قرني فحذف المضاف وقد

يسمى أهل العصر قرنا لاقترانهم في الوجود قال القرطبي القرن من الناس أهل زمان واحد وقال الخطابي واشتق لهم هذا الاسم من الاقتران في الأمر الذي يجمعهم وفي مقداره خلاف قيل أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وهو المختار وقيل هو مقدار التوسط في أعمار الزمان والمراد بقرنه صلى الله عليه وسلم أصحابه (ثم الذين يلونهم) من وليه يليه والولي القرب والدنو والمراد منهم التابعون والمراد من الموصول الذي بعده أتباع التابعين -[فقه الحديث]- يقتضي هذا الحديث أن الصحابة أفضل من التابعين وأن التابعين أفضل من أتباع التابعين ولكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أم إلى الأفراد محل بحث ذهب الجمهور إلى الثاني وقال ابن عبد البر بالأول وظاهر قوله تسبق شهادته يمينه ويمينه شهادته يلزمه الدور إذ الشهادة ستكون سابقة ومسبوقة ولذا حمل على حالين لا على حالة واحدة أي تسبق شهادة أحدهم يمينه أحيانا وتسبق يمينه شهادته أحيانا وقال البيضاوي في توجيهه الذين يحرصون على الشهادة مشغوفون بترويجها يحلفون على ما يشهدون به فتارة يحلفون قبل أن يأتوا بالشهادة وتارة يعكسون ويحتمل أن يكون مثلا في سرعة الشهادة واليمين وحرص الرجل عليهما والتسرع فيهما حتى لا يدري بأيهما يبتدئ فكأنه يسبق أحدهما الآخر من قلة مبالاته بالدين وقد احتج به المالكية في رد شهادة من حلف معها والجمهور على أنها لا ترد وقد جاء في البخاري في آخر هذا الحديث قال الراوي وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار أي كان الآباء ينهون الأبناء عن المبادرة بالشهادة حتى لا تصير المبادرة بها عادة لهم عند الكبر ولا تنافي بين هذا النهي وبين ما جاء في مسلم ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها لأن الحديث محمول على من كانت عنده شهادة نسيها

صاحب الحق أو مات صاحبها العالم وترك أطفالا لهم على الناس حقوق ولا علم للوصي بها فيجيء من عنده الشهادة فيبذلها فيحيي الحق الضائع أو أن الأول حديث البخاري في حقوق الآدميين والثاني حديث مسلم في حقوق الله تعالى ونحوها مما شهد فيه حسبة وقال ابن بطال إن النهي عن الشهادة مع الإيمان يدل على قوله يضربوننا على الشهادة والعهد وإنما كانوا يضربونهم خشية أن تصير الإيمان عادة فيحلفون في كل ما يصلح وما لا يصلح 14 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال ألا وقول الزور .. قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت -[المعنى العام]- كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من أمهات المعاصي بكثير من التنفير ويظهر عند ذكرها الاهتمام بها أكثر من سواها مراعيا في ذلك مقتضى

الحال ومناسبة القول للسامعين فهو يحذر من الكذب وشهادة الزور فيسترعي انتباههم ويستجمع فهمهم ويثير أحاسيسهم بقوله ألا أخبركم بأكبر الكبائر فيقولون بلى أخبرنا يا رسول الله فيكررها ثلاثا فيكررون بلى أخبرنا يا رسول الله فلا يبدأ بمطلوبه بل يقدم عليه ما رسخ في أذهانهم قبحه وما استقر في طبائعهم عظمه ليقترن المقصود بالمعلوم فيقول ألا وقول الزور ألا وقول الزور ألا وقول الزور يظل يكررها حتى يشفق عليه القوم ويقولون في أنفسهم تألما من انزعاجه ليته يسكت لا يقدرون على النطق تأدبا معه وتقديسا له صلى الله عليه وسلم ورضي عن أصحابه الصادقين -[المباحث العربية]- (ألا أنبئكم) بالتشديد والتخفيف أي ألا أخبركم وألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام للتنبيه ليدل على تحقيق ما بعدها (بأكبر الكبائر) جمع كبيرة وهي الفعلة القبيحة فهي في الأصل صفة لموصوف محذوف وفي معناها الشرعي خلاف قيل كل معصية وقيل كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب والأقرب أنها كل ذنب ورد فيه وعيد شديد من كتاب أو سنة وإن لم يكن فيه حد (ثلاثا) معمول لقال أي قال ذلك ثلاثا تنبيها للسامع على استحضار فهمه (الإشراك بالله) خبر مبتدأ محذوف أي أكبر الكبائر الإشراك بالله والمراد به مطلق الكفر ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود ولا سيما في بلاد العرب فذكره تنبيها على غيره ويحتمل أن يراد به خصوصيته إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك وهو التعطيل لأنه نفي مطلق والإشراك إثبات مقيد فيترجح الاحتمال الأول (وعقوق الوالدين) من العق وهو القطع والعاق هو الذي شق عصا الطاعة لوالديه قال النووي هذا قول أهل اللغة أما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه وقال ابن الصلاح: العقوق المحرم كل فعل يتأذى به

الوالدان تأذيا ليس بالهين وقال وربما قيل طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق (وكان متكئا) الجملة حالية على تقدير قد عند من يوجبها في الجملة التي فعلها ماض مثبت إذا وقعت حالا (ألا وقول الزور) فصل بين التعاطفات بحرف التنبيه تعظيما لشأن قول الزور وإضافة القول إلى الزور من إضافة الموصوف إلى صفته -[فقه الحديث]- إنما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اتكائه حينما أراد أن يحذر من قول الزور وكرره ثلاثا اهتماما به وتأكيدا لتحريمه وتعظيما لقبحه وليس ذلك لعظم قولة الزور بالنسبة إلى الإشراك والعقوق وإنما لكثرة المفاسد المترتبة على قول الزور والمتعدية إلى غير الشاهد وقول الزور أسهل وقوعا على الناس والتهاون به أكثر فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما قول الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتاج إلى الاهتمام والمراد بقول الزور ما هو أعم من الشهادة فيشمل الكذب في المعاملات وقيل المراد به شهادة الزور خاصة ويؤيده ما رواه ابن ماجه من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فلما انصرف قام قائما فقال عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} فقد حمل صلى الله عليه وسلم قول الزور في الآية على شهادة الزور وإذا قلنا إن المراد من قول الزور الكذب فليس معنى ذلك أن أية كذبة كبيرة بل مراتب الكذب متفاوتة بحسب المكذوب عليه وبحسب المترتب على الكذب من المفاسد وإنما قال الصحابة ليته سكت شفقة عليه صلى الله عليه وسلم وكراهية لما يزعجه أو لما حصل لهم من الرعب والخوف من هذا المجلس وهذا التكرار وليس المراد من الاقتصار على ذكر هذه الثلاثة انحصار أكبر الكبائر فيها بل ذكرها لمناسبتها للسامعين في ذلك الوقت ولا يلزم من كون المذكورات أكبر الكبائر استواء

رتبتها نفسها فإننا لو قلنا البطيخة والبرتقالة أكبر من التمرة لا يقتضي استواء البطيخة والبرتقالة في الكبر وهذا الحديث يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر ويؤخذ منه ثبوت الصغائر وأما قول بعضهم إن كل ذنب كبيرة فهو محمول على كراهية تسمية معصية الله صغيرة إجلالا له عز وجل فالخلاف بينه وبين الجمهور خلاف لفظي. ووجهة نظر هذا القائل أنه كره تسمية معصية الله صغيرة إجلالا له عز وجل وذلك لا يساير ما وافق عليه من أن الجرح لا يكون بمطلق المعصية وأن من الذنوب ما يكون قادحا في العدالة ومنها ما لا يقدح وهذا مجمع عليه وإنما الخلاف في التسمية والصحيح التغاير والتخالف بين الذنوب لورود القرآن والأحاديث بذلك ولأن ما عظم فساده أحق باسم الكبيرة بل نص القرآن في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر ولذا قال الغزالي لا يليق إنكار الفرق بينهما وقد عرف من مدرك الشرع -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - عظم حرمة قول الزور وفي معناه كل ما كان زورا من تعاطي المرء ما ليس له أهلا 2 - ما كان عليه الصحابة من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والمحبة له والشفقة عليه

15 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا ثم قال من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه -[المعنى العام]- سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل في مدحه فخشي على المسلمين من فتح باب المدح على مصراعيه أن يؤدي إلى كذب المادح أو إلى مراءاته أو إلى مجازفته بما لا يعلم أو إلى اغترار الممدوح وفتوره عن الخير اتكالا على ما قيل فيه فقيد باب المدح بقوله عجبا لك أيها المادح أهلكت صاحبك الممدوح أهلكت صاحبك الممدوح لا تمدحوا الناس في وجوههم لا تكثروا الثناء لا تقطعوا بخيرية أحد لأن علم بواطن الأمور عند الله فإن أبيتم إلا أن تمدحوا وكنتم واثقين مما تقولون فقولوا نحسب ونظن فلانا كذا وكذا والله حسيبه وكافيه وعالم بحقيقته ولا نزكي على الله أحد -[المباحث العربية]- (رجل على رجل) قيل: المثني محجن بن الأدرع الأسلمي والمثنى عليه عبد الله ذو البجادين بكسر الباء صحابي جليل مات في غزوة تبوك ودفنه النبي صلى الله عليه وسلم بيده في قبره وقال اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه وقال ابن مسعود فليتني كنت صاحب الحفرة

(ويلك) لفظ الويل في الأصل الحزن والهلاك والمشقة ويستعمل بمعنى التفجع والتعجب وها هنا كذلك وينتصب عند الإضافة ويرتفع عند القطع وناصبه عامل مقدر من غير لفظه أي هلكت هلاكا أو أتعجب منك تعجبا (قطعت عنق صاحبك) مستعار من قطع العنق الذي هو القتل لاشتراكهما في الهلاك أي أهلكت صاحبك بإدخال الغرور عليه (مرارا) يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم كررها مرارا وجاء في رواية ثلاثا وهو معمول لقال (لا محالة) أي لا حيلة له في ترك ذلك فالميم زائدة ومعناه لا بد (أحسب) بكسر السين وفتحها ومعناه أظن أما أحسب بضم السين فهي للعدد (فلانا) مفعول أحسب الأول ومفعولها الثاني كذا وكذا وأحسبه الثانية تأكيد للأولى أعيدت لطول الفصل (والله حسيبه) أي كافيه فعيل بمعنى فاعل والجملة لا محل لها من الإعراب معترضة هي والجملة التي بعدها بين معمولي أحسب وهما أيضا من مقول القول (ولا أزكي على الله أحدا) أي لا أقطع على الله بعاقبة أحد بخير ولا غيره لأن ذلك مغيب عنا لكن نقول نحسب ونظن والله يعلم الحقائق، وعدى فعل التزكية بعلى مضمنة معنى الجرأة أي لا أمدح متجرئا على غيب الله (وإن كان يعلم ذلك منه) اسم الإشارة يعود على صفات الكمال التي هي منشأ المدح وجواب الشرط محذوف أي إن كان يعلم فليقل أحسب والعلم مراد به الظن لئلا يقال إذا كان يعلم ذلك منه فلم يقول أحسبه -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث يقتضي النهي عن المدح وقد حمله العلماء على

المدح في الوجه الذي يؤدي إلى غرور الممدوح وإعجابه بنفسه وافتتانه عن الرغبة في الخير اتكالا على ما ظنه في نفسه بسبب الإطراء وحمله البعض على الإفراط في المدح وحمله البعض على المدح بما ليس فيه وبهذه التوجيهات أول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم احثوا في وجوه المادحين التراب وقول عمر إياكم والمدح فإنه من الذبح أما مدح من لا يخاف عليه بما فيه من غير إفراط فلا يدخل في النهي فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب وكل ما هنالك أنه نهى مادحيه عن الإطراء لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقد يستحب المدح إن حصل به مصلحة كأن يشجع الممدوح فيزداد في الخير أو يستنهض به همم الغير ليقتدوا به كما قال النووي في شرح مسلم ويستحب للممدوح حينئذ أن يقول اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون وقد احتج أبو حنيفة بهذا الحديث على الاكتفاء في التزكية بواحد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعب على الرجل إلا الإغراق والغلو في المدح والراجح عند الشافعية والمالكية اشتراط اثنين في التزكية كما في الشهادة -[ويستنبط من الحديث: ]- 1 - أن الثناء على الشخص في وجهه عند الحاجة لا يكره وإنما يكره الإطناب في ذلك 2 - الندب إلى مراعاة الحيطة والدقة عند التحدث عن الغير

باب الإصلاح بين الناس

باب الإصلاح بين الناس 16 - عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا -[المعنى العام]- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس الذي يأثم بكذبه ويعاقب عليه هو الذي يكذب ليصلح بين المتخاصمين فيبلغ كل فريق خيرا عن الفريق الآخر لأنه حينئذ لم يضر بكذبه أحدا بل نفع وأصلح وإنما الأعمال بالنيات -[المباحث العربية]- (أم كلثوم بنت عقبة) بن أبي معيط كانت تحت زيد بن حارثة ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف ثم تزوجها الزبير بن العوام ثم تزوجها عمرو بن العاص وهي أخت عثمان بن عفان لأمه وأسلمت وهاجرت وبايعت وكانت هجرتها سنة سبع (ليس الكذاب) ليس المراد نفي الكذب بل نفي إثمه فالكذب كذب سواء كان في الإصلاح أو غيره (الذي يصلح بين الناس) الموصول خبر ليس والجملة بعده صلته

وكان حق السياق أن يقول ليس من يصلح بين الناس كذابا لكنه ورد على سبيل القلب وهو جائز (فينمي) بفتح الياء من نمى الحديث إذا رفعه وبلغه على وجه الإصلاح فإذا بلغه على وجه الإفساد والنميمة قيل نمى بالتشديد (أو يقول خيرا) شك من الراوي -[فقه الحديث]- قال الطبري اختلف العلماء في هذا الباب فقالت طائفة الكذب المرخص فيه هو جميع معاني الكذب وأجازوا قول ما لم يكن لما فيه من المصلحة فإن الكذب المذموم إنما هو ما فيه مضرة للمسلمين ويحتج لذلك بما روى الترمذي لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس فيحدث الرجل امرأته عن جمالها وعن حبه لها وعن اغتباطه بصنعها وتحدثه بمثل ذلك ويتحدث الرجل عن قوته وصبره ويخدع عدوه في خططه ويكيد له ويقاس على هذه الثلاثة أمثالها من كل ما فيه مصلحة وإن كان فيه إخبار بخلاف الواقع كما لو قصد رجل ظالم قتل رجل هو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم ومنع بعضهم الكذب مطلقا فلا يجوز الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه واختلف هؤلاء في تأويل ما ورد مما يبيح ظاهره الكذب فحمله بعضهم على التورية وطريق المعاريض كأن يقول للظالم دعوت لك أمس ويقصد أنه قال: اللهم اغفر للمسلمين ويعد زوجته بعطية ويريد إن قدر الله أو إلى مدة ويظهر من نفسه قوة في الحرب وإن كان ضعيفا ويؤيد هذا الحمل حديث إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب وحمله بعضهم على قول ما علم من الخير والسكوت عما علم من الشر فيسهل المصلح ما صعب ويقرب ما بعد بإبراز وجوه الخير والسكوت عما يحمله النزاع من شر ويحدث الرجل امرأته بأوجه حسنها ويصمت عما يؤذيها ويتكلم عن مناحي قوته

وقوة جيشه ويسكت عن نقاط الضعف أو يأتي بألفاظ تحتمل وجهين فلا يصل العدو إلى مأربه ولكن لا يخبر عن شيء على خلاف ما هو عليه وأما الكذب عند طلب ظالم لمختف ليقتله ونحوه فهو من باب احتمال أخف الضررين كالذي يضطر إلى الميتة فليأكل ليحيي نفسه 17 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء وهو يقول والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين المتألي على الله لا يفعل المعروففقال أنا يا رسول الله وله أي ذلك أحب -[المعنى العام]- بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة إذ سمع أصوات متخاصمين قريبين من باب حجرته يقول أحدهما للآخر رفقا بي وإمهالا لبعض حقك أو تنازلا عن شيء مما لك فإني قد أصابني في مالي كيت وكيت ويرد عليه صاحب الحق بقوله والله لن أرفق بك ولن أحط عنك ولن أمهلك وكره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمع القطع بمنع الخير والحلف على ذلك اليمين فخرج مغضبا فقال أين المتجبر؟ ليقسم بالله ألا يفعل المعروف قال الدائن أنا يا رسول الله أعترف بخطئي وأعتذر وأتوب إلى الله

ولخصمي ما أحب إن شاء الإمهال أمهلت وإن شاء التنازل تنازلت وإن شاءهما فعلت فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره ورضي عن حسن استعداده -[المباحث العربية]- (صوت خصوم) الخصوم بضم الخاء جمع خصم بفتحها قال الجوهري الخصم يستوي فيه الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث لأنه مصدر ومنه قوله تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} ومن العرب من يثنيه ويجمعه ومنه قوله تعالى {هذان خصمان} (عالية أصواتهما) عالية يجوز فيه الجر والنصب أما الجر فعلى أنه صفة الخصوم وأما النصب فعلى الحال من خصوم لتخصصه بمتعلق الجار والمجرور أو من ضميره المستكن في متعلق الجار والمجرور وأصواتهما بالرفع فاعل عالية لأن اسم الفاعل يعمل عمل فعله والتثنية فيه باعتبار الخصمين المتنازعين والجمع في خصوم باعتبار من حضر من أنصار الطرفين أو التثنية باعتبار طرفي الخصومة والجمع باعتبار تعدد أفراد كل طرف كقوله تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم} أو على أن الجمع ما فوق الواحد (وإذا أحدهما يستوضع الآخر) إذا للمفاجأة وأحدهما مرفوع بالابتداء ويستوضع خبره وهو العامل في إذا على الصحيح ومعنى يستوضع يطلب أن يضع عنه من دينه شيئا (ويسترفقه في شيء) أي يطلب منه أن يرفق به في الاستيفاء والمطالبة (والله لا أفعل) مفعوله محذوف تقديره لا أفعل شيئا من الحطيطة أو الرفق (أين المتألي على الله) بضم الميم وفتح التاء والهمزة واللام المشددة المكسورة أي الحالف المبالغ في اليمين وأين خبر مقدم والمتألي مبتدأ مؤخر وضمن لفظ متألي معنى حاكم فعداه بعلى

(أنا يا رسول الله) الضمير خبر مبتدأ محذوف أي المتألي أنا (فله أي ذلك أحب) أي فلخصمي أي الأمرين أحب الحط أو الرفق والجار والمجرور خبر متقدم وأي مبتدأ مؤخر أي مضاف واسم الإشارة مضاف إليه والإشارة إلى المذكور من الرفق أو الحط وجملة أحب على أنها فعل صلة أي وعلى أنها اسم خبر مبتدأ محذوف أي هو أحب والجملة صلة أي -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع عنه 2 - الزجر عن الحلف على ترك فعل الخير نعم يرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص أفلح إن صدق إذ لم ينكر عليه حلفه على ترك الزيادة وهي من فعل الخير وأجيب بأن قصة الأعرابي كانت في مقام الدعوة إلى الإسلام والاستمالة إلى الدخول فيه فكان صلى الله عليه وسلم حريصا على ترك حضهم على ما فيه نوع مشقة بخلاف حال من تمكن في الإسلام فيحضه على الازدياد من نوافل الخير وقد أجابوا عن تكفير الرجل المتألي عن يمينه الذي حنث فيه بأنه يحتمل أنه كفر ولم يرد ويحتمل أن يمينه كانت قبل نزول الكفارة قال النووي ويستحب لمن حلف ألا يفعل خيرا أن يحنث فيكفر عن يمينه 3 - سرعة فهم الصحابة لمراد الشارع وطواعيتهم لما يشير إليه وحرصهم على فعل الخير 4 - الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللغط ورفع الصوت عند الحاكم 5 - جواز سؤال المديون الحطيطة من صاحب الدين خلافا لمن كرهه من المالكية واعتل بما فيه من تحمل المنة وقال النووي لا بأس بالسؤال

بالوضع والرفق لكن بشرط ألا ينتهي إلى الإلحاح وإهانة النفس أو الإيذاء ونحو ذلك 6 - الشفاعة إلى أصحاب الحقوق وقبول الشفاعة في الخير

كتاب الشروط

كتاب الشروط 18 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج -[المعنى العام]- يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالشروط على وجه العموم ويحث بصفة خاصة على الوفاء بشروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق فيقول أحق الشروط بالوفاء الشروط التي استحللتم بها فروج النساء -[المباحث العربية]- (أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) أحق مبتدأ والشروط مضاف إليه وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف والجار والمجرور متعلق بأحق وما موصولة خبر المبتدأ والتقدير أحق الشروط بالوفاء الذي استحللتم به الفروج -[فقه الحديث]- الشروط التي تشترط في النكاح لا تخرج عن أنواع ثلاثة الأول شرط من مقتضيات عقد النكاح ومن مقاصده كاشتراط المهر والعشرة بالمعروف والكسوة والسكنى والنفقة والقسم ونحو ذلك

وحكمه أنه يجب الوفاء به باتفاق العلماء وعلى هذا النوع حمل بعض العلماء الحديث وفسروا أحق الشروط بأوجب الشروط وألزمها واستشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على هذا النوع وقال إن تلك الأمور واجبة في ذاتها فلا تأثير للشروط في إيجابها فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها وحمل الحديث على النوع الثالث الآتي بيانه الثاني شرط هو مناف لمقتضى عقد النكاح كاشتراط ألا يمسها أو أن تكون العصمة بيدها أو أن تخرج من المنزل بدون إذنه متى تشاء فهذا الشرط لا يجب الوفاء به فلو وقع في صلب العقد بطل الشرط وصح العقد عند الأكثر وفي قول للشافعي يبطل العقد الثالث شرط لا يقتضيه العقد ولا ينافيه أي ليس واجبا بقطع النظر عن الشرط كالنوع الأول ولا منهيا عنه كالنوع الثاني بل هو جائز في ذاته كاشتراط ألا يتزوج عليها أو ألا يسافر بها وقد اختلف العلماء في حكمه فمن قائل يلزمه الوفاء به كالشافعي وأحمد وبعض أهل العلم ومن قائل شرط الله قبل شرطها فللزوج ألا ينفذ هذا الشرط إذا أراد

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا الوصايا جمع وصية كالهدايا جمع هدية وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال وغيره كالعهد والاستخلاف وفي الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت كما تطلق شرعا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات ومنه قوله تعالى {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} والمقصود في هذا الكتاب المعنى الأول وهو العهد بحق مالي أو غيره مضاف إلى ما بعد الموت وهي المعنية بقوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم ... بعد وصية يوصي بها أو دين} وقوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين} 19 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده -[المعنى العام]- لكل أجل كتاب والموت يأتي غالبا فجأة أسبابه كلا أسباب قد يشفى العجوز المريض وقد يموت الشاب السليم تلك حقيقة يعلمها جميع العقلاء ومن هنا يجب الاستعداد له في أي لحظة وتوقعه في كل حين إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء واعمل لدنياك

كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ومن هنا كان الواجب على كل مسلم أن يبادر بالوصية اليوم قبل الغد والغد قبل ما بعد الغد كان عليه أن لا يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته جاهزة تامة موثقة فيرفع بها الخلاف بعد موته فيما خلف من ضياع أو تبعات ويحل بهذه الوصية عقدا ومشاكل تنشأ غالبا بين الورثة وغيرهم فهو أعلم من غيره بما يصلح في ماله وهو أعلم من غيره بمن يستحق ومن لا يستحق وهو صاحب المال وصاحب التصرف فعليه أن يصفي ما له وما عليه في حدود الشرع الحنيف حتى إذا فاجأه الموت لقي الله وهو متخلص من تبعات الحياة -[المباحث العربية]- (ما حق امرئ مسلم) أي لا ينبغي لامرئ مسلم ولا يحق له إلا أن يكتب وصيته فـ "ما" نافية ولفظ مسلم خرج مخرج الغالب والمسلمون مخاطبون بالشريعة أولا فليس المقصود إخراج غير المسلم من الحكم وقيل إن لفظ مسلم ذكر تهييجا وإثارة للامتثال لما يشعر به من أن من لم يفعل لا يكون مسلما (له شيء) جملة من خبر ومبتدأ وقعت صفة ثانية لامرئ وفي بعض الروايات له مال وفي رواية شيء وهي أشمل لأنها تعم ما يتمول وما لا يتمول كالاختصاصات فقد يوصي بالإشراف مثلا (يوصي فيه) هو بفتح الصاد والجملة صفة لشيء (يبيت ليلتين) الجملة صفة ثالثة لامرئ وقدر بعضهم محذوفا آمنا أو ذاكرا أو مريضا وعدم التقدير أولى أي يقع منه المبيت في حياة وذكر الليلتين للتقريب لا للتحديد ففي بعض الروايات يبيت ليلة أو ليلتين وفي بعضها يبيت ثلاث ليال والمراد لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة قال الطيبي في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زمانا ما وقد سامحناه في الليلتين

والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك (إلا ووصيته مكتوبة عنده) قيل إن الواو زائدة والجملة من المبتدأ والخبر خبر حق وبعد رفع النفي والاستثناء يصبح التقدير حق امرئ مسلم بات ليلتين كتابة وصيته وقيل إن الواو للحال والجملة حال من فاعل يبيت وجملة يبيت خبر بتقدير أن المصدرية وقيل بدونها والتقدير ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين على حال من الأحوال إلا على حال كتابته وصيته وقد جاء في بعض الروايات حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده وفي بعضها لا ينبغي للمسلم أن يبيت وفي بعضها لا يحل لامرئ مسلم -[فقه الحديث]- في حكم الوصية وكونها واجبة أو مندوبة خلاف بين الفقهاء فقد حكي عن الشافعي في القديم أنها واجبة وبه قال الزهري وعطاء وإسحاق وداود وابن جرير وآخرون واستدلوا بظاهر الآية {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ... } وبظاهر الحديث ما حق امرئ مسلم إلخ وبرواية لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده واختلف القائلون بالوجوب فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة وذهب بعضهم إلى وجوبها للقرابة الذين لا يرثون خاصة قالوا فإن أوصى لغير قرابته لم تنفذ ويرد الثلث كله إلى قرابته وجمهور الفقهاء على نفي الوجوب ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ واستدل لعدم الوجوب بأن الميت لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله جزء ينوب عن الوصية كما أجاب الجمهور عن الآية بأنها منسوخة ففي البخاري عن ابن عباس قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك

ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع وأجاب القائلون بالوجوب بأن الذي نسخ الوصية للوالدين والأقارب الذين يرثون وأما الذي لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه وأجاب القائلون بعدم الوجوب عن الحديث بأن قوله ما حق امرئ مراد به الحزم والاحتياط لأنه قد يفجؤه وهو على غير وصية ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له أو قالوا الحق لغة الشيء الثابت ويطلق شرعا على ما ثبت به الحكم والحكم الثابت قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا وقد يطلق على المباح أيضا لكن بقلة فإن اقترن به لفظ على أو نحوها كان ظاهرا في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال وعلى هذا فلا حجة في الحديث لمن قال بالوجوب بل اقترن هذا الحق بما يدل على الندب وهو تفويض الوصية إلى إرادة الموصي حيث قال في بعض الروايات له شيء يريد أن يوصي فيه فلو كانت واجبة لما علقها بإرادته وأجابوا أيضا عن رواية لا يحل باحتمال أن يكون راويها ذكرها بالمعنى وأراد بنفي الحل ثبوت الأعم بما يدخل تحته الواجب والمندوب واختلف القائلون بأن الوصية مندوبة فذهب بعضهم إلى مشروعيتها في المال الكثير دون من له مال قليل بل قال ابن عبد البر أجمعوا على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا تندب له الوصية قال الحافظ ابن حجر وفي نقل الإجماع نظر فالثابت عن الزهري أنه قال جعل الله الوصية حقا فيما قل وكثر والمصرح به عند الشافعية ندبية الوصية من غير تفريق بين قليل وكثير نعم قال بعضهم إن كان المال قليلا والعيال كثيرا استحب له توفرته عليهم يعني لا يوصى لقريب غير وارث ما دام المال قليلا بالنسبة للورثة

وقد تكون الوصية بغير مال كأن يعين من ينظر في مصالح أولاده أو يعهد إليهم بما يفعلونه من بعده من مصالح دينهم ودنياهم وهذا النوع لا خلاف في ندبيته وجمع بعضهم بين القائلين بوجوب الوصية والقائلين بندبيتها فقال إن وجوب الوصية يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كوديعة ودين الله أو لآدمي إذا كان عاجزا عن تنجيز ما عليه وتكون مندوبة فيمن رجا منها كثرة الأجر وتكون مكروهة في عكس ذلك وتكون مباحة فيما استوى الأمران فيه ومحرمة فيما إذا كان فيها إضرار فقد ثبت عن ابن عباس الإضرار في الوصية من الكبائر ويجرنا الحديث إلى الوصية لوارث وإلى تفضيل بعض الورثة على بعض وقد روى داود والترمذي وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ومعنى عدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم لأن أكثر الفقهاء على أنها حينئذ موقوفة على إجازة الورثة والمعتمد إجازتهم لها بعد وفاة الموصي سواء أجازوا قبل وفاته أم لم يجيزوا فقد يكون الواحد منهم في حاجة إلى معروف الموصي وعطائه فيوافق حرجا على الوصية في حياته فإن لمثل هذا الرجوع فكذا يحق الرجوع بعد الوفاة لكل من أجاز في الحياة لوارث ويصبح الحكم واضحا في تفضيل بعض الورثة على بعض فإن كان تنجيزها في حياة المورث صحت ونفذت مع الإثم عند جمهور الفقهاء وله باب خاص في كتاب الهبة وإن كان وصية محالة لما بعد الموت فقد وضحنا رأي جمهور العلماء وأنها لا تنفذ إلا بإجازة جميع الورثة والله أعلم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - قالوا إن قوله ما حق امرئ مسلم بعد اعتبار قيد مسلم للتهييج لا للاحتراز لا يمنع من صحة وصية الكافر في الجملة

قال ابن السبكي مع أن الوصية شرعت زيادة في العمل الصالح والكافر لا عمل له بعد الموت لكنهم نظروا إلى أن الوصية كالإعتاق وهو يصح من الذمي والحربي 2 - أخذ بعضهم من قوله إلا ووصيته مكتوبة عنده جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن ذلك بالشهادة قالوا لأن كتابة الرجل بخطه إن لم تكن أقوى من الشهادة فهي تعادلها وخص أحمد وبعض الشافعية ذلك بالوصية من بين المعاملات لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام والجمهور على أن الكتابة لا تكفي عن الشهادة والكتابة ذكرت هنا لما فيها من ضبط المشهود به فهي مساعدة للشهادة لا نائبة عنها فمعنى ووصيته مكتوبة عنده أي بشروطها ومنها الإشهاد عليها يؤكد ذلك قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} 3 - استحباب التعجيل بالوصية ولو غيرها كل يوم بتغير الأموال ومصاريفها وقد ثبت في مسلم عن ابن عباس قال لم أبت ليلة أي منذ سمعت الحديث إلا ووصيتي مكتوبة عندي 4 - ومن قوله ووصيته مكتوبة عنده أن الوصية تنفذ وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره 5 - فيه الحث على التأهب للموت والاحتياط له بالوصية ونحوها 6 - أخذ بعضهم من قوله ما حق امرئ أن المراد بالمرء الرجل فمنع وصية الصبي المميز والجمهور على جوازها وأن التعبير بالمرء للغالب ولذا تصح وصية المرأة ولا يشترط إسلام ولا رشد ولا ثيوبة ولا إذن زوج وإنما اشترط في صحتها العقل والحرية والله أعلم

20 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال أن تصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من

الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} وهكذا ينسى الإنسان الموت في غمرة زينة الحياة الدنيا من المال والبنين ينسى أن يتصدق أو يصعب عليه أن يتصدق حتى إذا أحس بالموت وبمقدماته بدأ وأسرع في الصدقات ومثل هذا الإنسان كمن لا يعرف ربه إلا عند الغرق وما ينفقه في أواخر حياته ليس في الثواب كالذي ينفقه وهو في زهرة حياته وفي قوة حرصه على جمع المال وفي طول آماله لعمارة دنياه وفي ثورة تزيين الشيطان له من طول العمر والحاجة إلى المال وخشية الفقر إنها فرصة البخل وزمانه {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} نعم الصدقة بالقرش من الصحيح السليم خير من المائة من المريض المشارف على الموت وصدق التشبيه المروي عن أبي الدرداء مرفوعا مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع وصدق ما رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة وهكذا يوضح الحديث فضل صدقة الصحة والحرص ويحذر من التراخي والإمهال فيها حتى يقرب الموت وفي هذا المعنى يقول الحديث القدسي عبدي أنى تعجزني وقد خلقتك من نطفة حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا وتصدقوا بكذا أي أقر أن لفلان كذا أو تصدقوا على فلان بكذا أو أوصي لفلان من الأقارب من غير الورثة بكذا ولفلان بكذا وقد أصبح لفلان عندي كذا تقول عند الموت هذا القول في حين أن المال الذي توزعه وتتكلم عنه صار أمره إلى فلان من الورثة ولم يعد من حقك أن تتصرف فيه -[المباحث العربية]- (جاء رجل) يحتمل أن يكون أبا ذر ففي مسند أحمد أنه سأل أي الصدقة أفضل وفي الطبراني عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل عن أي الصدقة أفضل فأجيب

(أي الصدقة أفضل) في رواية أي الصدقة أعظم أجرا (أن تصدق) بفتح الصاد مخففة وتشديد الدال وأصله تتصدق فحذفت إحدى التاءين تخفيفا وفي رواية بتشديد الصاد والدال وأصله تتصدق أيضا فأدغمت إحدى التاءين في الصاد بعد قلبها صادا (وأنت صحيح حريص) في رواية وأنت صحيح شحيح والشح بخل مع حرص والحرص دافع إلى الشح فالمعنيان متقاربان والمراد من الصحة في صحيح من لم يدخل في مرض مخوف فيتصدق عند انقطاع أمله من الحياة وليس القصد أن الحرص أو الشح سبب في أفضلية الإنفاق فيكون ممدوحا ولكن أفضلية الإنفاق حينئذ لما فيه من مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام المانع وهو الصحة والشح أو الحرص (تأمل الغنى) بضم الميم أي تطمع في الغنى (ولا تمهل) بسكون اللام على الجزم بـ لا الناهية وبرفعها على أن لا نافية وبالنصب بأن مضمرة (حتى إذا بلغت الحلقوم) الفاعل ضمير مستتر تقديره هي يعود على النفس والروح وإن لم يسبق لها ذكر اكتفاء بدلالة السياق والحلقوم مجرى التنفس وهو آخر مجرى النفس عند خروجها والمراد من بلوغها الحلقوم قرب بلوغها لأنها لو بلغت بالفعل لم يقبل منها (قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) فلان الأول والثاني الموصى له وفلان الثالث الوارث والمعنى قلت أوصي لفلان بكذا ولفلان بكذا وأنه أصبح المال حقا لفلان الوارث ولم يعد حقا لك حتى توزعه ويحتمل أن يكون الأول والثاني المورث والثالث الموصى له أي قلت لفلان الوارث من مالي كذا ولي من مالي كذا ولفلان من الأقارب غير الورثة كذا ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا أي أوصي لفلان من الأقارب غير الورثة بكذا وأقر أن لفلان عندي كذا وقد آل الأمر في المال للورثة إن أجازوه نفذ وإلا فلا

-[فقه الحديث]- وضع البخاري هذا الحديث تحت باب الصدقة عند الموت من كتاب الوصية وقال الشراح أي جوازها وإن كانت في حال الصحة أفضل ووضعه تحت باب فضل صدقة الشحيح الصحيح من كتاب الزكاة ولا خلاف أن الصدقة عند الموت قبل الغرغرة مقبولة فالكلام في المفاضلة بين الصدقة في الحالين ولا خلاف أيضا أن الصدقة في حال الحرص أفضل منها في مرض الموت لأن الإنسان في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال فالسماح في هذه الحالة بالصدقة أصدق في النية وأعظم في الأجر بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حرص الصحابة على التسابق في الخيرات والمسارعة إلى الأفضل من الطاعات 2 - التحذير من التسويف بالإنفاق استبعادا لحلول الأجل واشتغالا بطول الأمل 3 - الترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية وفوات الأمنية 4 - أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه وصمة البخل والشح التي لحقته في صحته

21 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات -[المعنى العام]- يستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب الإثارة والرعب والتخويف من الكبائر يدخل الهيبة يثير الفزع في نفوس أصحابه بالوصف الشنيع إجمالا فيتلهفون إلى التفصيل فيعطونه فيستقر في نفوسهم ويثبت عظمه في قلوبهم قال مرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر وما يقصد سؤالهم ليجيبوا ولكن يقصد تهيئتهم للأمر الكبير وفي هذا الحديث يقول اجتنبوا واحذروا القرب من السبع المهلكات ويرتاع الصحابة وتقشعر أبدانهم من هذا الوصف المخيف يقول قائلهم وما هن يا رسول الله يقول أولها الشرك بالله الخالق القادر واهب الحياة وسابغ النعم وثانيها السحر والتغرير وخداع المسلمين وتزوير خلق الله وثالثها قتل النفس المعصومة التي حرم الله قتلها ورابعها أكل مال اليتيم واستغلال ضعفه وعجزه عن الدفاع عن نفسه وخامسها أكل الربا واستغلال حاجة المحتاج والزيادة عليه في

القرض وسادسها الفرار جبنا أمام أعداء الإسلام حين القتال وسابعها الاستهتار بأعراض المسلمين وتناولهم باللسان وطعنهم وقذفهم بالزنا من غير بينة والحق أن كل كبيرة مما بعد الشرك تهز بنيان المجتمع وتنخر في عظامه وتقوض صرحه وتفتت تماسكه وتوقد النار التي تأتي عليه ولا تبقي فيه ولا تذر وما وصل المسلمون في هذه الأيام إلى ما وصلوا إليه من الذلة والهوان إلا ببعدهم عن تعاليم الدين الحنيف -[المباحث العربية]- (اجتنبوا السبع الموبقات) أي ابتعدوا عنها وهو أبلغ من اتركوا والموبقات المهلكات من وبق بفتح الباء إذا هلك ومنه قوله تعالى {وجعلنا بينهم موبقا} ووصفت الكبائر بالمهلكات لأنها سبب إهلاك مرتكبها (السحر) ويطلق على ما لطف ودق ومنه سحر العيون لاستمالتها النفوس والطبيعة ساحرة وحديث إن من البيان لسحرا ويطلق على ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها كما يفعل المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده (وأكل مال اليتيم) المراد من الأكل الاستيلاء لا خصوص الأكل وعبر عنه بالأكل لأنه الغالب واليتم لغة الانفراد واليتيم في الأناس من فقد أباه وفي البهائم من فقد أمه بشرط الصغر فيهما وقال الزمخشري ولا يشترط الصغر لغة وحديث لا يتم بعد بلوغ تعليم شريعة لا تعليم لغة (وأكل الربا) أي تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء والربا لغة الزيادة من ربا يربو أي زاد (والتولي يوم الزحف) التولي الانصراف والفرار ويوم الزحف يوم القتال

(وقذف المحصنات) أي رميهن بالزنا وأصل القذف الرمي البعيد و"المحصنات" بكسر الصاد وفتحها قراءتان سبعيتان وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام العفة والإسلام والنكاح والتزويج والحرية والمراد هنا الحرائر العفيفات (الغافلات) عن الفواحش أو عما قذفن به ووصف الغافلات لتغليظ الذنب ليس قيدا للاحتراز يبيح قذف غير الغافلات -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث لسبع من أكبر الكبائر أولها الشرك بالله ولا خلاف في أنه أكبر الكبائر على الإطلاق وإنما الخلاف فيما يليه من الكبائر ففي بعض الأحاديث يليه القتل بغير حق وفي بعضها يليه عقوق الوالدين وفي حديثنا يليه السحر قال بعضهم في الجمع بين الأحاديث يضم ما جعل ثاني الشرك في حديث إلى ما جعل ثانيا في الحديث الآخر ويجعلان في درجة واحدة من الإثم وكذا ما جعل ثالثا والتحقيق أن الشيء الواحد قد يختلف في الإثم باختلاف ظروفه وملابساته وما يترتب عليه من مفاسد فالعقوق بالضرب كبيرة ولا يساويه العقوق بمخالفة أمرهما في الأكل مثلا وقتل النفس الصالحة التي تختل بقتلها أمور المسلمين كبيرة ولا يساويه قتل نفس فاجرة ترتاح من شرورها كثرة من الآمنين فاختلف جوابه صلى الله عليه وسلم في ترتيب الكبائر التي تلي الشرك لأن كلا مما يليه في بعض الروايات يكون أحق بأن يكون ثانيا في بعض الأحوال ولا انحصار لأكبر الكبائر ولا للموبقات في عدد معين كما أنه لا انحصار للكبائر كذلك في عدد محدود ومما ورد النص بكونه كبيرة غير ما ذكر في حديثنا عقوق الوالدين وشهادة الزور واليمين الفاجرة والإلحاد في الحرم أو استحلال البيت الحرام وشرب الخمر والسرقة وفراق الجماعة والغلول والزنا والغيبة والنميمة وكثير غير ما ذكر

ولنقتصر على شرح ما ورد في حديثنا بعد كبيرة الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق 1 - فالسحر اختلف في حقيقته الفقهاء فبعض الشافعية وبعض الحنفية وابن حزم الظاهري على أنه تخييل فقط ولا حقيقة له في المرائي ولا يغير حقائق الأشياء المرئية ويؤيدهم ظاهر قوله تعالى {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وقال الجمهور إن للسحر حقيقة واختلفوا فذهب جمهورهم إلى أن حقيقته في الشخص المقصود بحيث يغير مزاجه ويؤثر في حواسه ووجدانه فيرى الحلو مرا والأبيض أصفر والساكن متحركا والجميل قبيحا والمحبوب مكروها وهذا الرأي قريب من الأول وذهبت طائفة قليلة إلى أنه يحول الشيء من حقيقة إلى حقيقة أخرى كأن يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه وهذا الرأي ضعيف والفرق بين السحر والكرامة على القول بأن للسحر حقيقة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد أما الكرامة فلا تحتاج إلى ذلك هذا بالإضافة إلى أن السحر لا يكون إلا من فاسق عند الجمهور أما إنكار السحر إنكارا كليا فهو مكابرة فالآيات والأحاديث المثبتة له لا يسهل تأويلها ومع هذا ينبغي ألا نغفل عن أن كثيرا مما يطلق عليه سحر مما يفعله المشعوذة والدجالون في عصرنا لا حقيقة له وهو نصب واحتيال ينبني على خداع الجهلة والبسطاء بخفة في الحركة أو استخدام لخواص الأشياء التي يجهلها الراءون وأما حكم السحر فقد قال النووي عمل السحر حرام وهو من الكبائر ومنه ما يكون كفرا ومنه ما لا يكون كفرا وأما تعلمه وتعليمه فحرام وعن مالك الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله

كالزنديق قال عياض وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين وقال الحافظ ابن حجر وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر عن غيره وإما لإزالته عمن وقع فيه 2 - وأما أكل مال اليتيم ففيه يقول الله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} ولا خلاف في أن أكل الأجنبي من مال اليتيم كبيرة، قل الأكل أو كثر وإنما الخلاف في ولي اليتيم والقائم على ماله هل له أن يأكل منه أو لا؟ وظاهر الحديث العموم وبه قال قوم والجمهور على أن للولي أن يأكل من مال اليتيم بقدر عمالته في مال اليتيم وإلى هذا الرأي نميل والتفاصيل والأدلة لا يتسع لها المقام وقد ذكرناها في كتابنا فتح المنعم شرح صحيح مسلم 3 - وأما الربا ففي تحريمه يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} ولا خلا ف بين العلماء في أن الربا من الكبائر آكله وموكله ويلحق بهما شاهداه وكاتبه لإعانتهم على أكله وقد جاء في صحيح مسلم من حديث جابر لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم في الإثم سواء 4 - وأما التولي يوم الزحف ففيه يقول الله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} وقد نزلت هذه الآية بشأن أهل بدر وقد أمر المسلمون أن يقف الواحد منهم أمام عشرة من الكفار بقوله تعالى {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} ثم خفف الله عن الأمة بقوله {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} فرفع الحرج عن المتولي يوم الزحف إذا بلغ عدد العدو أكثر من الضعف والتولي الذي هو كبيرة هو التولي ساعة القتال أو بعد دخول العدو أرض المسلمين أما

التولي بعد الدخول في أرض العدو وقبل القتال ففي كونه كبيرة نظر والظاهر أنه وإن حرم لا يبلغ حرمة الكبائر 5 - أما قذف المحصنات ففيه يقول الله تعالى {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} والمراد القذف بالزنا خاصة أما القذف بغير الزنا كالرمي بالسرقة والقتل وشهادة الزور ونحوها فهو حرام لكنه ليس من هذا القبيل من الكبائر ولا يختص القذف بالمتزوجات بل حكم البكر كذلك بالإجماع كذلك انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال كحكم قذف المحصنة من النساء هذا وهناك ذنوب لم تذكر في أكبر الكبائر ولا في السبع الموبقات مع أنها أعظم من بعض ما ذكر كشتم الرب سبحانه وتعالى وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلقاء المصحف في قاذورة وكذا لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن يقتله وكذا لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته فإن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مثلا وأمام هذا نحتاج إلى جواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع وأجيب بأن مفهوم العدد ليس بحجة والأحسن أن يقال إن الاقتصار وقع بحسب المقام وما ذكر إنما هو تنبيه على ما لم يذكر وفي هذا يقول ابن عبد السلام إذا أردت أن تعرف الكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت على أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن سايرت أدنى مفاسد الكبائر أو زادت عليه فهي من الكبائر -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن المعاصي مهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة 2 - التشويق بذكر العدد والتخويف منه قبل بيانه وتفصيله ليتمكن في النفس فضل تمكن 3 - التحذير من السبع الموبقات

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد فضل الجهاد والسير 22 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يعدل الجهاد قال لا أجده قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر قال ومن يستطيع ذلك قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات -[المعنى العام]- لما دخل الإسلام قلوب الصحابة وامتزج بأرواحهم ودمائهم أخذوا يتنافسون في عمل الصالحات ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل القربات التي ترفع من درجاتهم عند الله فأبو ذر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أفضل الأعمال الإيمان بالله فيقول له ثم ماذا؟ فيقول ثم جهاد في سبيل الله ويستقر في نفوسهم فضل الجهاد وأنه أعلى أعمال البر والخير لكن الجهاد ليس ميسورا لكل أحد فهو غير مشروع للنساء وقد رفع الحرج بالنسبة له على الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون فكيف يحصل هؤلاء من الثواب ما يعوضهم عن ثواب الجهاد إن النساء قد وعدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن حسن تبعل المرأة لزوجها وقيامها على بيت المجاهد وحفظها لأمواله وأولاده يعدل

الجهاد ويتيح لها مشاركته في أجره فما هو البديل للرجال الذين لا يستطيعون الجهاد؟ هذا سائل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد ويساويه في الأجر والثواب فيقول صلى الله عليه وسلم لا أجده ولا أجد ما يسد مسد الجهاد ويعطي ثوابه لأنه لا يوجد العمل الذي يساوي بيع النفس والمال والأهل ويقف المعذور الذي حال حائل بينه وبين الجهاد آسفا يتحسر ويفتح له رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الأمل والعمل ويصور له أجر المجاهد ويقول له هل تستطيع أن تقضي المدة التي يقضيها المجاهد خارج داره صائما النهار قائما الليل صياما لا فطور فيه وقياما لا فتور فيه فيقول الرجل لا أستطيع ولا يستطيعه أحد فيقول فذلك مثل المجاهد -[المباحث العربية]- (دلني على عمل يعدل الجهاد) أي يساويه ويماثله في الأجر والجهاد في اللغة المشقة يقال جهدت جهادا أي بلغت المشقة وشرعا بذل الجهد في قتال الكفار ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع إغوائه وتزيينه وأما مجاهدة الفساق فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجاهدة الكفار تكون باليد والقتال وتكون بالمال وتكون باللسان وتكون بالقلب والمراد هنا الأول (لا أجده) أي لا أجد العمل الذي يعدل الجهاد في الأجر أي لا يوجد أصلا وليس المعنى أنه موجود ولا أحصل عليه (أن تدخل مسجدك) الذي تصلي فيه فالإضافة لأدنى ملابسة (فتقوم) أي فتقوم فيه الليل كله بالصلاة والذكر والدعاء بنشاط وقوة ويقظة

(ولا تفتر) أي ولا تكسل ولا تضعف (وتصوم) أي النهار منذ يخرج المجاهد (ولا تفطر) يوما من أيام غيابه عن أهله هذا هو المراد وليس المقصود الصيام دون إفطار في الليل مدة غيابه لأنه لطول المدة مستحيل غير مقدور عليه فلا يسأل عنه وفي الكلام ذكر للبداية وحذف للنهاية اعتمادا على المقام والأصل إذا خرج المجاهد إلى أن يرجع (ومن يستطيع ذلك) استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا يستطيع أحد ذلك وهذه الرواية أقوى في الدلالة على فضيلة الجهاد وعظمة أجره من رواية لا أستطيع ذلك -[فقه الحديث]- هذا الحديث وحديث عائشة في البخاري قالت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد قال لكن أفضل الجهاد حج مبرور وفي رواية جهادكن الحج هذان الحديثان صريحان في أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله لكن يشكل عليهما حديث ابن مسعود في البخاري سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال الصلاة على ميقاتها قلت ثم أي قال ثم بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله فقد جعل هذا الحديث الجهاد بعد الصلاة وبعد بر الوالدين وحديث ابن عباس مرفوعا ما العمل في أيام أفضل منه في هذه يعني أيام العشر قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء وحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم أو يضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله

قال الحافظ ابن حجر في رفع إشكال الحديث الأول الذي يظهر أن تقديم الصلاة على الجهاد والبر لكونها لازمة للمكلف في كل أحيانه وتقديم البر على الجهاد لتوقفه على إذن الوالدين وقال في رفع إشكال الحديث الثاني يحتمل أن يكون عموم حديث لا أجد عملا يعدل الجهاد خص بحديث العمل في أيام العشر كأنه قال: لا أجده إلا أن يكون عمل صالح في أيام العشر قال: ويحتمل أن يكون فضل الجهاد في حديثنا وعدم وجود معادل له مخصوصا بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فلم يرجع بشيء فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة أ. هـ وعندي أن الجهاد تختلف مراتبه وأحواله فدرجته حين دخول الكفار بلادنا غير درجته حين مهاجمتنا ديارهم ودرجته في العسر غير درجته في اليسر ودرجته مع وفرة عدد المسلمين وتفوقهم على أعدائهم غير درجته عند قلة المسلمين وكثرة عدد أعدائهم بل تختلف مراتبه بالنسبة للمجاهد نفسه فدرجته بالنسبة لشجاع يغرس الثقة في المسلمين ويدفعهم للنصر كخالد بن الوليد غير درجته بالنسبة لخائر النفس جبان فأحيانا وبالنسبة لفرد ما يكون الجهاد أفضل الأعمال على الإطلاق بعد الإيمان وأحيانا وبالنسبة لشخص ما تكون الصلاة في أوقاتها أفضل الأعمال على الإطلاق وأحيانا وفي بعض الظروف وبالنسبة لفرد يكون بر الوالدين مقدما على الجهاد وهكذا فاختلفت الأحاديث بالنسبة لتقديم بعض الأعمال على بعض مراعاة للظروف والملابسات -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة الجهاد في سبيل الله وتعظيم أمره حتى صارت حالات المجاهد جلوسه ونومه وأكله وشربه معادلة لأجر المواظب على الصيام والقيام حتى إن فرس المجاهد كلما تحرك في حبله الذي يربط به وهو واقف في مكانه يكون للمجاهد بهذه الحركة أجر إذ يقول أبو هريرة أن فرس المجاهد ليستن في طوله أي يتحرك في حبله فيكتب له حسنات

2 - أن الفضائل لا تدرك ولا تعلم بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى إن شاء 3 - فضل المداومة على العبادة لمن يستطيعها كمداومة الصوم ومداومة القيام 4 - مدى فهم الصحابة وإدراكهم لفضيلة الجهاد مما جعلهم يحرصون عليه أو على بديله 23 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة

-[المعنى العام]- مرة أخرى وبأسلوب آخر يوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد في سبيل الله ففي الحديث السابق بعد أن نفى صلى الله عليه وسلم وجود عمل يعدل الجهاد وبين أن ثواب المجاهد منذ أن يخرج من بيته إلى أن يعود يعادل ثواب من يصوم هذه الفترة لا يفطر نهاره ويقوم ليله بهمة ونشاط وفي هذا الحديث يمثل ثواب المجاهد بثواب القائم كالحديث السابق ويزيد عليه أن الله تعالى تعهد للمجاهد بأمرين بل بأحد أمرين تعهد إن توفاه أن يدخله الجنة في الحال وبغير حساب وهذا العهد صريح في قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وتعهد إن أرجعه سالما أن يرجعه بأجر عظيم جدا إن لم يحصل على غنيمة وبأجر أقل إن حصل على غنيمة {ومن أوفى بعهده من الله} وفي غمرة بيان الفضل للمجاهد لا ينسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرز ضرورة إخلاص المجاهد لينال هذا العهد الإلهي والإخلاص أمر داخلي لا يعلمه إلا الله فهو وحده الذي يعلم من قصد بجهاده إعلاء كلمة الله ويعلم من يقصد الشهرة ومن يقصد المغنم ومن يقصد الحمية والعصبية ومن يقصد إبراز الشجاعة وأن يرى مكانه وقوته وما هذا الوعد إلا لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا -[المباحث العربية]- (مثل المجاهد في سبيل الله) أي صفته وحاله والمقصود بالمجاهد من يقاتل الكفار دفاعا عن الإسلام بنية خالصة (والله أعلم بمن جاهد في سبيله) جملة لا محل لها من الإعراب معترضة بين المبتدأ مثل المجاهد ... وبين الخبر كمثل الصائم القائم وأفعل التفضيل أعلم مراد بها أعلم بنيته وقصده من جميع خلقه وأعلم منه نفسه بنيته يعلم إن كان يقصد إعلاء كلمة الله وحده أو يقصده ويقصد غيره من منافع الدنيا أو يقصد منافع الدنيا وحدها

(كمثل الصائم القائم) أي الصائم النهار القائم الليل كله مدة غياب المجاهد عن أهله من حين يخرج إلى أن يعود (وتوكل الله للمجاهد) في رواية وانتدب الله وفي رواية لمسلم تضمن الله وفي رواية لمسلم تكفل الله وكلها بمعنى العهد والضمان والالتزام متفضلا جل شأنه ومحصله تحقيق هذا الوعد المذكور والمنصوص عليه في قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله} (بأن يتوفاه أن يدخله الجنة) أي بأن يدخله الجنة إن توفاه وقد جاء في رواية إن توفاه بإن الشرطية وهي أوضح وروايتنا بمعناها وكأن مصدر أن يدخله الجنة بدل من مصدر أو يتوفاه أي تعهد بإدخاله الجنة في حالة الاستشهاد والمقصود من إدخاله الجنة على هذا إدخاله فور استشهاده أو إدخاله دون حساب ليمتاز عن غيره ممن سيدخل الجنة فليس في الحديث تسوية بين الشهيد والراجع سالما في دخول الجنة (أو يرجعه) بفتح الياء من رجع الثلاثي وهو متعد بنفسه وهو منصوب عطفا على يتوفاه (سالما مع أجر أو غنيمة) سالما حال والمقصود السلامة من الموت والقتل وإن أصيب بجراح المعارك وقد قيل إن أو هنا بمعنى الواو لأن من رجع بغنيمة لا يخلو من الأجر واعترض على هذا بأن كثيرا من الغزاة يرجعون بدون غنيمة وقيل إن أو هنا مانعة خلو لا تمنع الجمع والاعتراض السابق ما زال واردا لهذا اتجه المحققون إلى أن هناك وصفا محذوفا أي غنيمة معها أجر واعتبار التنوين في أجر للتفخيم والتقدير أو يرجعه سالما مع أجر عظيم فقط أو مع غنيمة وأجر أقل وستأتي تتمة لهذا البحث في فقه الحديث -[فقه الحديث]- هذا الحديث يتفق مع الحديث السابق في بيان فضل الجهاد في سبيل

الله وتنظيره المجاهد بالصائم القائم ويزيد على سابقه ببيان الأجر والمكافأة على هذا العمل الفريد العظيم وإذا كان هذا الحديث قد أبهم الأجر ونكره فإن كثيرا من الأحاديث الواردة في فضل المجاهد قد تناولت الثواب والحسنات بتفصيل أكثر كحديث أبي هريرة الدال على أن حركة فرس المجاهد في مربطه له أجر وكم من الحركات يتحرك المجاهد السكنات الجسمية لها حسنات بعدد نبضات القلب لأن الصائم الممثل به مثاب على كل لحظة من لحظات صومه فتشبيه المجاهد بالصائم القائم إثبات لثوابه وأجره على كل حركة يتحركها وعلى كل سكون يسكن فيه والقرآن صريح في توضيح هذا الثواب حيث يقول {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} أي في الجهاد {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} ومن النصوص القطعية أن أجر الشهيد في سبيل الله الجنة بل منازلها العليا ومن الظاهر الجلي أن المجاهد إذا رجع سالما له أجر عظيم سواء أرجع بدون غنيمة مادية أو رجع بالغنيمة لكن مع هذا الظاهر الجلي لا يسوغ القول بأن أجر من حصل على الغنيمة مساو لأجر من لم يحصل عليها فالغنيمة جزء من الأجر معجل وفقدها احتفاظ بهذا الجزء إلى الآخرة وهذا في وضوحه لا يحتاج إلى سند ومع ذلك صرحت به الأحاديث ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ويقول خباب في الحديث الصحيح فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا أي ومن غنم أكل في دنياه من أجره بعض الشيء

وهذا لا يتعارض ولا يتنافى مع حل الغنائم والتمدح بأخذها وأكلها وجعلها من فضائل هذه الأمة إذ لا يلزم من تحريمها على الأمم قبلنا أن يكون أجر جهادهم أكبر من أجر جهادنا ولا يلزم من حلها لنا ونقصها لثواب جهادنا بعض الشيء ألا تكون ممدوحة فقد استعين بها على قوة شوكة الإسلام وتحطيم شوكة الكفر فهي خير للمسلمين عجل لهم لصالحهم وصالح الإسلام ولا يعترض على ما قررناه من أن الغنيمة تنقص الأجر بأن أهل بدر مع غنيمتهم خير من أهل أحد مثلا مع عدم اغتنامهم فعقد هذه المقارنة غير سليم لأن الشبه غير قائم بين الفريقين فيما عدا الغنيمة بل المقارنة الصحيحة أن يقال أن أهل بدر مع غنيمتهم يتساوون في الأجر مع أنفسهم لو لم يغنموا فالمقارنة الصحيحة الخاصة بما نحن بصدده تكون بين أهل بدر في حال الغنيمة وبينهم أنفسهم في حال عدم الغنيمة أما المقارنة بينهم وبين المجاهدين في الغزوات الأخرى فلا تصلح لأنهم لا يساويهم مع غنيمتهم غزاة غيرهم غنموا أو لم يغنموا فأجر البدريين أضعاف أجر من بعدهم لكونهم وضعوا اللبنة الأولى الجبارة في اشتهار الإسلام وإعزاز أهله في أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تفخيم شأن الجهاد في سبيل الله 2 - استعمال التمثيل والتنظير لتقريب المراد إلى أذهان المخاطبين 3 - أن الفضائل لا تدرك دائما بالقياس بل هي تفضل من الله تعالى 4 - الحث على الإخلاص في العمل وابتغاء وجه الله عند فعل الصالحات وتصفيتها من شوائب الرياء والسمعة فالأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لمجرد وقوع أعبائها لذا ورد في بعض الروايات لهذا الحديث عند مسلم تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته وسيأتي بعد حديث أنواع المجاهدين ومن منهم المجاهد المقصود بالأجر المذكور والله أعلم

24 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك -[المعنى العام]- كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد في سبيل الله والاستشهاد في سبيل نشر دعوة الإسلام والحفاظ عليها بين فضيلة من يجرح أو يصاب في جهاده سواء أدى الجرح إلى الوفاة أو لم يؤد إلى الوفاة ذلك لئلا يظن ظان أن الشهادة مقصورة على الموت في الميدان فيأسف المجروح في المعركة على ما فاته من الاستشهاد في الساحة فأبان هذا الحديث أن جراحة القتال للمجاهد هي امتداد للمعركة بالنسبة له وأن آثار إصابته

ستكتب له جهادا وأن موته في بيته بسبب جراحاته الحربية استشهاد بل يزيد هذا الاستشهاد بعلامة يراها أهل الموقف العظيم يعرفون منها أنه شهيد علامة يتمناها غير الشهداء المسك يفوح واللون الأحمر الشبيه بالدم يسيل لكنه لا ينفر منه البشر ولا يشمئزون منه فالصفات المنفرة في الدم غير موجودة نتن الدم وخبث ريحه بدل وأصبح كالمسك فما أكرم الشهداء على الله وما أطيب ريح جروحهم وما أعظم أجورهم فكيف يخاف الجرح في سبيل الله من آمن بتلك الحال وكيف يهاب الموت من آمن بوعد الله ومن أوفى بعهده من الله وذلك هو الفوز العظيم -[المباحث العربية]- (والذي نفسي بيده) أي روحي بقدرته وتحت تصرفه والقسم هنا لغرابة الخبر قصد تمكينه في نفس المخاطب مع غرابته (لا يكلم أحد في سبيل الله) أي لا يجرح أحد المجاهدين والكلم بسكون اللام الجرح وبني الفعل يكلم للمجهول ولم يحدد الفاعل ليعم أي جارح مسلما كان أم كافرا والمراد من أحد المسلم المجاهد بدلالة المقام وأراد من سبيل الله هنا قتال الكفار بنية خالصة لما يأتي في الحديث التالي (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) جملة معترضة للتنبيه على أن الإخلاص وقصد وجه الله وقصد إعلاء كلمة الله شرط في نيل هذا الثواب والمفضل عليه في أعلم جميع المخلوقات أي أعلم من جميع المخلوقات ومن الشخص نفسه بماله ودرجة إخلاصه (إلا جاء يوم القيامة) ليس المراد المجيء من مكان إلى مكان بل المراد إلا كان يوم القيامة ووجد بهذه الحالة في الموقف العظيم ليراه جميع الخلائق ويغبطونه (وجرحه يثعب دما) بفتح الياء وسكون الثاء وفتح العين أي يجري

بغزارة ودما منصوب على التمييز والجملة حالية والمراد من الدم هنا ما يشبه الدم وليس دما على الحقيقة (اللون لون الدم) هذا هو الشبه مع السيولة أما بقية عناصره وأوصافه وحقيقته فهو ليس بدم (والريح ريح المسك) في رواية والعرف بفتح العين وسكون الراء وهو الرائحة -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن هذه الصورة من الثواب عامة في كل من جرح في معركة بين المسلمين والكفار سواء كان الجرح كبيرا أم صغيرا وسواء اندمل أو لم يندمل حتى مات وسواء كان السبب في موته واستشهاده أم لم يكن وأن هذه الصورة قصد بها تشريفه يوم القيامة بهذا الطابع المميز الشاهد بفضله وهذا لا يمنع أن يكون للشهداء طابع آخر غير سيلان الدم فيمكن أن يكون للمرء طابعان ويؤيد هذا الرأي ما رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وغيره من حديث معاذ بن جبل من جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغرز ما كانت وخصصه بعض العلماء بمن يموت وجرحه يتفجر دما سواء مات بسببه أم بسبب آخر ووجهة نظره أنه إذا اندمل في الدنيا زال أثر الجراحة وسيلان الدم ولا ينفي ذلك أن يكون له فضل آخر بصورة أخرى وخصصه بعضهم بمن يموت بسبب الجرح اعتمادا على رواية ابن حبان في حديث معاذ المذكور عليه طابع الشهداء واستدل بالحديث على أن الشهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدم ليجيء يوم القيامة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم ورد هذا الاستدلال بأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك قال الحافظ ابن حجر

ويغني عن هذا الاستدلال لترك غسل الشهيد قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد زملوهم بدمائهم وهل يقاس على هذا من جرح في قتال البغاة وقطاع الطرق وفي سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي سبيل الدفاع عن ماله باعتبار أن من يموت في ذلك من الشهداء قال بذلك ابن عبد البر وعارض العراقي وتوقف في دخول المقاتل دون ماله في هذا الفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بمن يكلم في سبيله فهو يعبر عن الإخلاص والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه الله وإنما يقصد صون ماله وحفظه فهو يفعل ذلك بدافع الطبع لا بدافع الشرع ولا يلزم من كونه شهيدا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك

25 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله -[المعنى العام]- طبع الله الإنسان على حب المال {وتحبون المال حبا جما} ودعاه إلى معالجة هذا الطبع وأن يتوجه إلى الآخرة بالعمل الصالح وابتغاء رضا الله تعالى وطبع الله النفس البشرية ميالة وراغبة في الماديات وطلب منها أن تغلب الروحانيات على الماديات العمل الواحد باختلاف الإرادة والقصد يختلف ثوابا أو إحباطا إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه وليس هناك عمل صالح يعدل الجهاد لأنه تضحية بالنفس ولا أغلى من النفس ولا يليق بالعاقل المسلم أن يضع في اعتباره مقابلا لروحه غير الجنة ونعمت البيعة والصفقة للمجاهد وبئست صفقة يكون فيها مقابل الروح عرضا زائلا حقيرا من مال أو شهرة أو حمية أو عصبية أو غضب وكم كان الصحابة عقلاء؟ وكم كانوا على درجة عالية من الذكاء لقد أدركوا فضيلة الجهاد وحرصوا على تحصيلها لكنهم يخشون الطبيعة البشرية وأهواءها التي تدفع كثيرا إلى الحرص على المال والشهرة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يقاتل وهدفه الغنيمة وعمن يقاتل وهدفه الشهرة والذكر في قائمة المجاهدين وعمن يقاتل وهدفه أن ترى شجاعته وإقدامه فمن من هؤلاء يستحق أجر المجاهد في سبيل الله والحقيقة الشرعية أن هؤلاء

وغيرهم من أمثالهم الذين يقصدون بقتالهم الدنيا ليسوا من المقاتلين في سبيل الله الموعودين بالشهادة والجنة فأجاب صلى الله عليه وسلم بجواب جامع مانع فقال من كان هدفه من قتاله وجهاده أن يكون دين الإسلام هو الأعلى فهو في سبيل الله فطوبى للمجاهدين المخلصين الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم لرفع راية الإسلام وإعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله -[المباحث العربية]- (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية جاء أعرابي وفسره بعضهم بلاحق بن ضميرة، وقد روي أن معاذ بن جبل سأل مثل هذا السؤال، وأن أبا موسى الأشعري سأل مثل هذا السؤال لكن لا يطلق على أحدهما أعرابي ولهذا قيل بتعدد السؤال وهو يرد على ذهن الكثير فالقول بالتعدد وجيه (الرجل يقاتل للمغنم) أي بدافع الرغبة والحرص على ما يغنم من الكفار من أموال وسبي (والرجل يقاتل للذكر) أي ليشتهر بالشجاعة والإقدام وليذكره الناس بذلك (والرجل يقاتل ليرى مكانه) أي يقاتل رياء وليقال أنه قاتل في غزوة كذا واشترك وحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا من الغزوات إلخ (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) كلمة الله هي دعوة الله إلى الإسلام (فهو في سبيل الله) الضمير راجع إلى القتال الذي في ضمن قاتل أي فقتاله قتال في سبيل الله فقه الحديث هناك دوافع أخرى للقتال غير ما ذكر ففي رواية ويقاتل غضبا أي

لأجل حظ نفسه وفي رواية الرجل يقاتل حمية أي يدفع مضرة تلحقه فالحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب أشياء طلب المغنم وإظهار الشجاعة والرياء والحمية والغضب والملاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجب على الاستفهام بالإيجاب ولا بالنفي لأن الحمية والغضب قد يكون في سبيل الله ولو أجاب بالنفي بالنسبة للثلاثة كما هو الظاهر لاحتمل أن يكون فاعل ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك ولاحتمل أن تتوارد أسئلة وأسباب أخرى مشابهة فكان جوابه صلى الله عليه وسلم حاصرا جامعا مانعا واضحا مغلقا لأي استفهام وقد اختلف العلماء في تفسير جوابه صلى الله عليه وسلم هل المقصود به أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا آخر من الأسباب المذكورة أو نحوها أخل بذلك بهذا قال بعضهم ويؤيده ما رواه أبو داود والنسائي جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له قال لا شيء له فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول لا شيء له ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه وقال الجمهور والمحققون إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه فدخول غير الإعلاء ضمنا لا يقدح في الإعلاء إذا كان هو الباعث الأصلي وقد ذكر بعض المحققين أن المراتب خمس أن يقصد الإعلاء وشيئا آخر معه وأن يقصد أحدهما صرفا وتحتها مرتبتان الإعلاء الدنيا وأن يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا وتحتها مرتبتان يقصد الإعلاء وتحصل الدنيا ضمنا ويقصد الدنيا ويحصل الإعلاء ضمنا والمحذور أن يقصد غير الإعلاء على الاستقلال سواء حصل الإعلاء أو لم يحصل ويحمل الحديث الذي معنا على الحالات الثلاث وإن اختلفت الدرجات أولها قصد الإعلاء فقط وحصول الإعلاء فقط ثانيها

قصد الإعلاء فقط وحصول غير الإعلاء ضمنا ثالثها قصد الإعلاء وشيء من الدنيا نعم هذا الثالث ينبغي أن يكون محذورا لحديث أبي داود والنسائي المذكور أما من قصد الدنيا فقط فحصل الإعلاء ضمنا أو قصد الدنيا فقط فلم يحصل الإعلاء فقتاله ليس في سبيل الله على التحقيق -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة 2 - وأن الفضل الذي يرد في الأحاديث عن المجاهد يختص بمن قصد إعلاء كلمة الله 3 - وجواز السؤال عن العلة في الأحكام الشرعية 4 - ذم الحرص على الدنيا 5 - ذم القتال لحظ النفس وفي غير الطاعة 6 - فصاحته صلى الله عليه وسلم وما أوتيه من جوامع الكلم

26 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله} قال فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله عز وجل {غير أولي الضرر} -[المعنى العام]- بعد غزوة بدر نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب الوحي زيد بن ثابت ليكتبها فجاء يحمل القلم والدواة وعظما هو كتف أو لوح كتف حيوان حتى جلس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يملي الآية على زيد وزيد يكتب ومن خلفه عبد الله بن أم مكتوم يسمع فلما انتهى زيد من الكتابة تحرك ابن أم مكتوم ليواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هاله أن يعد من القاعدين المفضل عليهم ولا ذنب له فقال يا رسول الله وما ذنبنا إنني أعمى ولو أستطيع جهادا لجاهدت معك إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما ترى ذهب بصري أنا ضرير ولا ذنب لي وكان جبريل قد صعد لكن ما أتم ابن أم مكتوم شكوى ضرارته حتى نزل جبريل وظهرت حالات الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع فخذه على فخذ زيد وثقلت وتصبب العرق وسمع الغطيط حتى عرف ابن أم مكتوم الأعمى أنه يوحى إليه وخاف أن ينزل شيء يؤاخذه على سؤاله فجعل يقول أتوب إلى الله فلما سري عنه صلى الله عليه وسلم قال لزيد اقرأ ما كتبت فقرأ {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} فقال له صلى الله عليه وسلم اكتب {غير أولي الضرر} فكتبها زيد في

ملحق عند صدع كان في الكتف وهكذا رفع الله الحرج عن ذوي الأعذار وأشركهم في الأجر مع المجاهدين فضلا وكرما وحذر من القعود عن الجهاد وهكذا {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وهكذا أرضى من ابتلاه في صحته وجسمه وجبر خاطره وجعله يحمد الله على الضراء كما يحمده كامل الصحة على السراء -[المباحث العربية]- (عن زيد بن ثابت) وكان من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أملى علي) في رواية للبخاري لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} قال النبي صلى الله عليه وسلم ادعوا فلانا فجاء زيد ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال اكتب {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله} (فجاءه ابن أم مكتوم) في رواية للبخاري وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم فقال ... إلخ ومعنى هذا أن ابن أم مكتوم كان موجودا خلف النبي صلى الله عليه وسلم حين أملاها على زيد فيحمل هنا قوله جاء ابن أم مكتوم على مجيئه من خلف النبي صلى الله عليه وسلم لمواجهته بشكوى العذر وابن أم مكتوم يقال له عبد الله ويقال له عمرو واسم أبيه زائدة وأم مكتوم أمه واسمها عاتكة (وهو يملها علي) يملها بضم الياء وكسر الميم وتشديد اللام يقال مل يمل بتشديد اللام وهو مثل أملى يملي ومنه قوله تعالى {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} (ولو أستطيع الجهاد لجاهدت) في رواية فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان أعمى فقال يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى وفي رواية فقال أنا ضرير وفي رواية فشكا ضرارته وفي رواية فقال ما ذنبنا (وفخذه على فخذي) في رواية إني لقاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة فوضع فخذه على فخذي فهذه الرواية صريحة

في الوقت الذي وضع فيه فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد ولعل ذلك من شدة الوحي عليه كالمريض المتألم الذي يلجأ إلى من بجواره كأنه يستنجد به (فثقلت علي) أي ثقلت الفخذ على فخذي وفي رواية فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل منها (حتى خفت أن ترض فخذي) ترض بفتح التاء وضم الراء وتشديد الضاد أي تدق فخذي وتطحنها (ثم سري عنه) بضم السين وتشديد الراء المكسورة أي كشف عنه {غير أولي الضرر} قرئ غير بالرفع على البدل من القاعدون وقرئ بالجر صفة للمؤمنين وقرئ بالنصب على الاستثناء -[فقه الحديث]- لا خلاف في تفضيل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين غير أولي الضرر أي على القاعدين عن الجهاد من غير عذر شرعي مثله القرآن الكريم بقوله {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} وإنما الخلاف في تفضيل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد من أصحاب الضرر والعذر الشرعي فذهب بعض العلماء إلى المساواة في الأجر بين المجاهد وبين المعذور القاعد إذا صدقت نيته لحديث إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم حبسهم العذر وظاهر الحديث أن نزول غير أولي الضرر إنما كان إجابة لابن أم مكتوم عن سؤاله ما ذنبنا لو نستطيع الجهاد لجاهدنا فظاهر الآية استواء أولي الضرر مع المجاهدين لأنها استثنت أولي الضرر من عدم الاستواء فأفادت إدخالهم في الاستواء إذ لا واسطة بين الاستواء وعدم الاستواء فيثاب المجاهد مقابل بذل المال أو الروح ويثاب صاحب العذر الثواب نفسه تفضلا وكرما من الكريم المتفضل

وذهب بعض العلماء إلى عدم المساواة في الثواب بين المجاهد وبين المعذور القاعد قالوا إن المقصود باستوائهم استواؤهم في أصل الثواب لا في كميته لأن المجاهدين أنفسهم لا يستوون في كمية الثواب وهذا لا يتنافى مع حديث إن بالمدينة لأقواما ... إلا وهم معكم فكون المعذور القاعد مع المجاهد لا يلزم منه التساوي في الأجر فالجبان مع الشجاع في الميدان ولا تفهم مساواة المضحي المغامر الذي يبلي بلاء حسنا بمن هو معه ولا يفعل فعله اللهم إلا في أصل الثواب لا في كميته ثم ظاهر الآية في لاحقها يؤيد ذلك فهي تقول {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} أي من المعذورين {درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين} أي من غير المعذورين {أجرا عظيما} هذا وما يقال في المجاهد وفي المتخلف عن الجهاد من ذوي الأعذار ومن غيرهم يقال في سائر الأعمال الصالحة هل يستوي المعذور مع فاعل الطاعة في كمية الثواب أو في أصل الثواب دون كميته -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - اتخاذ الكاتب وتقريبه 2 - وتقييد العلم بالكتابة 3 - ودفاع المعذور عن نفسه وبيان عذره 4 - أهمية أسباب النزول وتنجيم القرآن ونزول بعضه للظروف والمناسبات 5 - أن وصف الإنسان بما هو فيه من نقص كالأعمى لا يعتبر غيبة ولا يحرم ما لم يقصد به التنقيص 6 - شدة الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم 7 - إدراك الصحابة لنزول الوحي

27 - عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا -[المعنى العام]- مصداقا لقوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وقوله تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} يتأكد دور المال في الجهاد ومما لا شك فيه أن العنصر البشري لا يستغني عن العنصر المالي في الغزو ومن هنا رفع الحرج والجناح عن قوم أرادوا الغزو وهم لا يجدون ما يستعدون به ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} وإذا كان العنصران ضروريين للمعركة كان من جهز غازيا له من الأجر مثل ما للغازي لأن أيا من الأمرين لا يستقل بالعمل فكان اشتراكهما في الأجر كاشتراكهما في إدارة المعركة وإذا كان الغازي لا يستطيع الجهاد وهو مشغول بتبعات بيته وأهله من حفظ عرض وتأمين روعة أطفال وقضاء مصالح زوجة وأولاد كان من يخلف الغازي في أهله بخير شريكا له في الأجر لأنه الذي ساعده وأمنه

وفرغه للجهاد وبدونه لم يكن ليخرج ولو خرج لم يكن متفرغا للقتال بل مشغول البال مما يؤثر ولا شك على سير المعركة وبهذا التوجيه النبوي الحكيم من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا تترابط الأمة عند الشدائد ويقوم كل من أفرادها بدور إيجابي يتكامل به دور الآخر ويتحقق لها النصر في الخارج والأمن والاستقرار في الداخل -[المباحث العربية]- (من جهز غازيا) في الكلام مجاز المشارفة أي من جهز من يريد الغزو ويشارفه والتجهيز قد يراد منه الإعانة والمساعدة والإسهام وقد يراد منه تمام التجهيز من أوله إلى آخره ومن جهز يشمل من جهز غيره وقعد هو ومن جهز نفسه وغزا ومن جهز غيره وغزا فالتجهيز وحده له أجر الغزو وهو أعم من أن يكون بالمال أو بالسلاح أو بالدابة أو بها جميعا وبغيرها مما يحتاجه الغازي فالمقصود من هيأ للغازي أسباب خروجه المادية (فقد غزا) أي فقد أشبه من غزا في تحصيل ثواب الغزو مع تساوي الأجر أو مع عدم التساوي كما سيأتي في فقه الحديث (ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير) الجار والمجرور متعلق بـ غازيا أي غازيا في سبيل الله والمراد من يخلفه ويقوم مقامه في أهله من حيث المحافظة وقضاء المصالح وقيد بخير ضروري لأن من خلف مع القصور أو التقصير وعدم الخير ليس له هذا الجزاء -[فقه الحديث]- يثير هذا الحديث وأمثاله وجهتي نظر للعلماء في مسألتين الأولى هل المراد بالتجهيز وبالخلف في الأهل تمام التجهيز حتى يستقل من ألفه إلى

يائه أو مجرد الإسهام والإعانة والمشاركة جمهور العلماء على الأول وأنه لا ينال مثل أجر الغازي إلا من جهزه وحده تجهيزا كاملا أما من أسهم فله أجر آخر دون هذا الأجر وكذلك من خلف الغازي في أهله بخير لا ينال هذا الأجر إلا إذا قام مستقلا بكفايتهم والقيام مقام الغازي فيهم أما من خلف بخير دون ذلك فله أجر آخر ليس هذا الأجر ويؤيد الجمهور رواية ابن ماجه وابن حبان وفيها من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يجرح وذهب قليل من العلماء أن المشارك في التجهيز والمسهم فيه له مثل أجر الغازي اعتمادا على فضل الله وكرمه وظاهر الأحاديث المسألة الثانية هل هذا الحديث وأمثاله قصد به مماثلة الدال على الخير لفاعله في كمية الثواب أو في أصل الثواب والأجر ثم يزيد الفاعل جمهور العلماء على الأول على المماثلة في الثواب إذا خلصت النية كما بينا في الحديث السابق لأن صرف الخبر عن ظاهر المماثلة يحتاج إلى دليل وقال بعض العلماء إن المماثلة في أصل الثواب أما التضعيف للحسنات إلى عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة فهي للفاعل المباشر لأنه بذل المشقة بنفسه وفرق بين من يباشر مع النية الصادقة وبين من يدل على الخير بنية صادقة دون أن يباشر قال بعض المحققين إن هذه الدعوى لا تصلح هنا لأن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي المؤنة لنفسه والحفظ لأهله فمن جهز غازيا أو خلفه في أهله بخير باشر مشقة بنفسه أيضا بخلاف من دل على الخير فإن فاعله كان يمكن أن يفعله بدون دلالة الدال فالقول هنا بالمماثلة في الأجر وكميته أرجح فمعنى قوله فقد غزا أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة أما ما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وقال ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما وفي رواية مسلم ثم قال للقاعد وأيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له

مثل نصف أجر الخارج فقد قال القرطبي لفظة نصف يشبه أن تكون مقحمة أي مزيدة من بعض الرواة وقال الحافظ ابن حجر في توجيهه إن لفظة نصف أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر ومع أن حديث ابن ماجه وابن حبان بلفظ من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع يفيد أن المماثلة حاصلة في حياة الغازي لكن من يخلف الغازي في أهله بخير أعم من أن يخلفه في حياته أو بعد مماته وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يبادرون إلى زوجة الشهيد كل يطلبها زوجة ليرعاها ويرعى أولادها مما قوى عزيمة المسلمين على الاستشهاد دون خشية على ذرية ضعاف يضيعون بعد أبيهم كما روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرعى أم سليم ويجبر قلبها بكثرة زيارتها في بيتها ويعلل ذلك بأن أخاها قد استشهد في سبيل الله

28 - عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم" -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} نعم خلقها الله للركوب والزينة فمن استعملها فيما شرعت له من مباح كانت مباحة ومن قصد مع الإباحة الطاعة المندوبة كان ركوبها واتخاذها مندوبا ومن احتاجها لواجب لا يتم إلا بها كان استعمالها واجبا وخير استعمال لها استعمالها في الجهاد وفي الغزو وإذا كان القرآن الكريم قد أمر بالإعداد للمعارك مع الكفار بقوله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ... } كان اتخاذ الخيل وإعدادها ورباطها في سبيل الله من أفضل الصالحات من هنا رغب الرسول الكريم في اقتناء الخيل مشيرا إلى أنها فأل طيب وأن الخير يلازمها وأن الأجر والغنيمة والنصر في نواصيها ومقدم رأسها وفي إقدامها على القتال وأي ترغيب أهم من اقتناء الخير وقد روى الإمام أحمد تفصيل الخير الوارد في الحديث فيما رواه عن أسماء بنت يزيد مرفوعا الخيل في نواصيها الخير معقود أبدا إلى يوم القيامة فمن ربطها عدة في سبيل الله وأنفق عليها احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة -[المباحث العربية]- (الخيل) ال هنا للعهد والمراد منها الخيل المعدة للجهاد في سبيل

الله المتخذة لركوب المجاهدين عليها بالفعل أو بالرباط والإعداد ويدخل فيها البرذون بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وهو الجافي الخلقة من الخيل ودخل أيضا الهجين وهو ما يكون أحد أبويه عربيا والآخر غير عربي لكن لا يدخل فيها البغال والحمير لقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} فدل على أنها غير الخيل (معقود في نواصيها الخير) عقد الخير كناية عن ملازمته كملازمة الشيئين المعقود أحدهما بالآخر والخير مراد به الأجر والمغنم من إطلاق العام على بعض أفراده والناصية في الأصل مقدم الرأس والمراد منها هنا الشعر المسترسل على جبهة الفرس وخص الناصية بالذكر لرفعة قدرها ولكونها المقدم من الفرس وفي ذلك إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلى الإدبار فالمعنى الخير يلازم الإقدام في الحرب بالخيل (الأجر والمغنم) تفسير للخير على سبيل البدل أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الأجر والمغنم والمراد الأجر وحده أو مع المغنم كما وضحنا في الحديث السابق -[فقه الحديث]- يرتبط الحكم في هذا الحديث بحديث الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال في مرج أو روضة أي جعل حبلها طويلا ترعى في مرعى منخفض أو مرتفع فما أصابت في طيلها ذلك أي في حبلها الذي يطول لها لترعى في المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها أي حبلها فاستنت أي مرحت بنشاط شرفا أو شرفين أي شوطا أو شوطين كانت أرواثها وآثارها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له وأما الرجل الذي هي عليه وزر فهو رجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي وزر على ذلك وأما الذي

هي له ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا ولم ينس حق الله في رقابها كما يرتبط بحديث إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن فالخيل إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا كان اتخاذها في الطاعة أو في الأمور المباحة وإلا فهي مذمومة وما يذكر من شؤم الفرس أيضا ليس على عمومه بل هو مخصوص ببعض الخيل قال القاضي عياض ما كان في نواصيها البركة يبعد أن يكون فيها شؤم فيحتمل أن يكون الشؤم في غير الخيل التي ارتبطت للجهاد وأن التي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة أو يقال الخير والشر يمكن اجتماعهما في ذات واحدة فالأجر والمغنم من الفرس لا يلزم معه أن لا يتشاءم منه على أن التشاؤم من الفرس مؤول والشريعة تنهى عن التشاؤم بصفة عامة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - قال القاضي عياض في الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن ففيه جناس سهل بين الخير والخيل 2 - قال الخطابي في الحديث إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل هو من خير وجوه الأموال وأطيبها 3 - قال ابن عبد البر في الحديث إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب لأنه لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في غيرها مثل هذا القول 4 - استدل به الإمام أحمد والبخاري على أن الجهاد ماض مع الحاكم البر والفاجر لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة وفسره بالأجر والمغنم والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلا فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر

5 - في الحديث الترغيب في الغزو على الخيل 6 - فيه بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون فهو مثل حديث لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق 7 - استنبط منه الخطابي إثبات سهم للفرس يستحقه الفارس من أجله 8 - في الحديث علم من أعلام النبوة إذ فيه إخبار بما سيحدث إلى يوم القيامة 29 - عن البراء رضي الله عنه قال له رجل: يا أبا عمارة وليتم يوم حنين قال لا والله ما ولى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ولى سرعان الناس فلقيهم هوازن بالنبل والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

-[المعنى العام]- عقب فتح مكة وبعد أن أقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خمسة عشر يوما علموا أن قبائل هوازن ببطونها الكثيرة وتسكن بين مكة والطائف وتبعتهم ثقيف التي تسكن الطائف تجمعوا في مكان يدعى حنين بينه وبين مكة أكثر من ثلاثين كيلو مترا وقصدوا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج إليهم فخرجوا خرج فاتحو مكة نحو عشرة آلاف مقاتل وانضم إليهم الطلقاء الذين أسلموا من مكة عدد لم يسبق تجمعه للمسلمين فداخلهم الغرور وأعجبتهم كثرتهم حتى قال أحدهم لن نغلب اليوم عن قلة ولم يعلموا أن هوازن ومن تبعها جمعوا ضعف عدد المسلمين وأنهم خرجوا للحياة أو الموت ... أخرجوا معهم الأطفال والشيوخ والعجزة والأنعام والغنم ليشعر المقاتلون منهم أنهم يدافعون عن كل ما لديهم في الحياة ونظموا أنفسهم تنظيما دقيقا عملوا كمائن في الشعاب ثم صفوا صفوفهم في الوادي الخيل ثم المقاتلة ثم النساء والأطفال ثم الغنم ثم النعم من البقر والإبل وهوازن مشهورة بالشجاعة والإقدام والبسالة ورمي النبل واندفع المسلمون نحو الصفوف يضربون ويقتلون وفرت صفوف هوازن وظهرت النساء والأنعام وانكب الخفاف من الشباب عزلا نحو الغنائم الوفيرة يجمعونها وخرجت عليهم الكمائن بنبالها الدقيقة التي لا تكاد تخطئ أمام هول المفاجأة فر المسلمون وولوا مدبرين لم يبق منهم في الميدان مائة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه وأهله حوله أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين رأى المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته نحو الكفار أخذ أبو سفيان بزمامها ليمنع اندفاعها وأبو بكر وعمر والعباس وابنه الفضل وعلي وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن يحيطون به كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رابط الجاش قال يا عباس ناد في المسلمين وكان جهوري الصوت فنادى يا أصحاب الشجرة يقول العباس فوالله لكأني حين سمعوا صوتي عطفتهم عطفة البقر على أولادها فقالوا يا لبيك يا

لبيك وعادوا سراعا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل عن بغلته يواجه الكفار وهو يقول أنا النبي والنبي لا يكذب وقد وعدني الله النصر فلا يصح لي الفرار أنا ابن عبد المطلب طويل العمر شهير الذكر ثم دعا ربه واستنصره وعاد المسلمون فصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله سكينته عليهم فحملوا على الكفار فهزموهم فغنموا منهم غنائم كثيرة سبيا ومالا وأسلم كثير من هوازن فأرسلوا وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون إعادة السبي والمال فخيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ليرد إليهم أحدهما فاختاروا السبي فرده صلى الله عليه وسلم -[المباحث العربية]- (قال له رجل) قيل إنه من قيس ولعله أبهم سترا عليه فقد كان حسب الظاهر يقصد غمز صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبكيتهم (أفررتم) كان فرارهم معلوما فالاستفهام إنكاري توبيخي أي ما كان ينبغي أن تفروا (يوم حنين) اسم لواد قريب من الطائف بينه وبين مكة أكثر من ثلاثين كيلو مترا من جهة عرفات (لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر) استدراك على محذوف تقديره فررنا لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر وإذا كانت هذه الرواية لا توهم فرار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رواية أعقبتها في البخاري تقول أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأراد البراء رفع ما توهمه هذه الرواية وما توهمه الآية الكريمة في قولها {ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} فجاء بالاستدراك (كانوا قوما رماة) أي يجيدون الرمي بالنبال والسهام (وإنه لعلى بغلته البيضاء) البغل والبغلة مولد بين الفرس والحمار أمه الفرس والبغلة البيضاء كانت قد أهداها له عربي يدعى فروة بن نفاثة الجذامي وكان له صلى الله عليه وسلم بغلة شهباء أهداها له المقوقس كذا قيل

(وإن أبا سفيان آخذ بلجامها) هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أسلم قبل فتح مكة خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه لفتح مكة فأسلم وحسن إسلامه وخرج إلى غزوة حنين فكان فيمن ثبت وفي بعض الروايات أن العباس هو الذي كان آخذا بلجام البغلة وجمع الحافظ ابن حجر بين الروايتين بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها فلما ركضها ودفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الكفار خشي العباس فأخذ بلجام البغلة يكفها وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللجام للعباس إجلالا وإكراما له (أنا ابن عبد المطلب) نسب إلى جده دون أبيه عبد الله لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر بخلاف عبد الله فإنه مات شابا -[فقه الحديث]- في عدد من ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين خلاف طويل وروايات متعددة ففي رواية فأدبروا عنه حتى بقي وحده وفي بعضها فولى عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار وفي رواية وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل وعد ابن إسحاق الثابتين معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن ومن المهاجرين أبو بكر وعمر وابن مسعود فهؤلاء عشرة وجمع المحققون بين هذه الروايات بأن رواية حتى بقي وحده أي بقي وحده متقدما مقبلا على العدو أما من كانوا حوله فلم يكن شأنهم ذلك والتحقيق أنه بقي معه جماعة دون المائة جمعا بين رواية الثمانين ورواية نفي المائة ولعل الاختلاف في العدد ناشئ من الهرج والذهاب والعود فهناك من عجل بالرجوع مثلا فعد فيمن ثبت وهناك من كان يتحرك حول النبي صلى الله عليه وسلم فعد فيمن لم يثبت ومن المعلوم أن الفرار يوم الزحف من الكبائر لقوله تعالى {ومن يولهم

يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم} ولهذا حاول العلماء توجيه هذا الفرار حتى يخرجوا من الكبائر رغم أن الله تعالى وعد بمغفرته فقال بعضهم إن الفرار يكون كبيرة إذا قل عدد الأعداء عن ضعف عدد المسلمين لقوله تعالى {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ... } وكانت هوازن أكثر من ضعف عدد المسلمين وفي هذا التوجيه نظر والأولى قول الطبري إن الفرار المنهي منه هو ما وقع على غير نية العود أما الاستطراد والفرار للتجمع مرة أخرى فهو كالتحيز إلى فئة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - ساق البخاري هذا الحديث تحت باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء بعد أبواب الخيل وناقة الرسول صلى الله عليه وسلم والغزو على الحمير واستدل به على جواز اتخاذ البغال في الجهاد 2 - وجواز إنزاء الحمر على الفرس أي تلقيح الفرس بالحمار وقد حرمه قوم احتجاجا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون والجمهور على جوازه وأن الحديث قصد به الحض على تكثير الخيل لما فيها من الثواب 3 - وفيه حسن الأدب في الخطاب والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب 4 - ذم الإعجاب ووخامة عاقبته فالقرآن الكريم جعله من أسباب الهزيمة حيث قال {إذ أعجبتكم كثرتكم} 5 - جواز الانتساب إلى الآباء والأجداد ولو ماتوا في الجاهلية قال الحافظ ابن حجر والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب 6 - جواز التعرض للهلاك الغالب في سبيل الله ولا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان متيقنا من النصر والحفظ وهذا صحيح لكن فعل أبي سفيان وغيره ممن لا يقين من النجاة عندهم دليل جواز التعرض للهلاك وقوله

تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} مخصص بغير الجهاد 7 - استدل بعضهم بركوبه صلى الله عليه وسلم بغلة في الحرب مع مظنة فرارها على مزيد ثباته صلى الله عليه وسلم وشجاعته 8 - جواز شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالعدد 30 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطا بين نساء من نساء المدينة فبقي مرط جيد فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك يريدون أم كلثوم بنت علي فقال عمر أم سليط أحق وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد قال أبو عبد الله تزفر تخيط

-[المعنى العام]- للنساء دور في الحياة ولهن دور في الجهاد إذا لم يكف الرجال لقد خلق الله المرأة ناعمة الملمس رقيقة الإحساس ضعيفة الأعصاب لينة العظام وكل تلك الصفات لا تتناسب مع الضرب بالسيف ولا الطعن بالرمح ولا الرشق بالنبل فضلا عن أن وقوعها في الأسر قد يلحق بالمسلمين أذى في أعراضهم ويطعن في كرامتهم ولهذا اقتصر خروج النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته على الضرورة والضرورة تقدر بقدرها لقد كان المسلمون في قلة وقيام المرأة بحراسة الأمتعة وبنقل الماء إلى الجنود وبمداواة الجرحى ورعايتهم يوفر عددا من الرجال يمكن الإفادة بهم في القتال فلذلك سمح رسول الله صلى الله عليه وسلم باستصحاب بعض النساء في الغزوات بلغن أقصى ما بلغن في بعض الغزوات خمسا ولما جاءت أم كبشة تستأذن في الخروج سادسة لم يأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها لا لئلا يقول الناس إن محمدا يغزو بالنساء ولما سألت عائشة عن الجهاد للنساء قال لها صلى الله عليه وسلم أفضل جهادكن الحج والعمرة ولما سألت خطيبة النساء أسماء بنت يزيد الأنصارية رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكية أن الرجال فضلوا على النساء بالجهاد وإذا خرجوا حفظ النساء لهم أموالهم وقمن على رعاية أولادهم سألت أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله قال نعم وقد أخرج البخاري هذا الحديث تحت باب جهاد النساء وهو صريح في أن جهادهن اقتصر على حمل الماء وسقي الجنود ومثل ذلك ما جاء في حراسة الأمتعة ومداواة الجرحى وقد جاءت في الغنائم أكسية نسائية فوزعها عمر على نساء المدينة فأعطى كل واحدة ثوبا وبقي ثوب زائد فأراد أحد الجالسين أن يكرم به زوجة عمر أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فآثر عمر عليها أم سليط الأنصارية التي أيدت الإسلام باشتراكها في بعض الغزوات بسقي الجنود

-[المباحث العربية]- (أنه قسم مروطا) جمع مرط بكسر الميم وسكون الراء وهو كساء غير مخيط يؤتزر به وأغلب استعماله للنساء ويكون من صوف أوخز غالبا (على نساء المدينة) مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا أي أعطى كل واحدة مرطا (فبقي مرط جيد) وصفه بالجودة للإشارة إلى قصد التكريم به وليس معنى ذلك أن المروط الموزعة لم تكن جيدة (فقال له بعض من عنده) لم يقف الحفاظ على اسم القائل وجرت عادتهم على إبهام الاسم للستر حين يكون ما أسند إليه لا يتشرف به وهذا العرض هنا يشتم منه النفاق والتزلف (أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك) أي زوجتك وهي أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت في حياته صلى الله عليه وسلم وكانت أصغر بنات فاطمة من علي رضي الله عنهما وكان عمر قد تزوجها (أم سليط أحق به) أم سليط بفتح السين وكسر اللام وهي أم قيس بنت عبيد من بني مازن تزوجها أبو سليط بن أبي حارثة من بني عدي بن النجار فولدت له سليطا ذكر أنها شهدت أحدا وخيبر وحنينا (فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد) تزفر بفتح التاء وسكون الزاء وكسر الفاء أي تحمل قرب الماء -[فقه الحديث]- ثبت في الصحيح أن عائشة وأم سليم كانتا تحملان القرب يوم أحد ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم وهذا الحديث يضم إليهما في المهمة نفسها أم سليط وثبت في الصحيح أيضا عن الربيع بنت معوذ قالت كنا نغزو مع

النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونداوي الجرحى ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة وفي حديث آخر ثبت خروجهن لغزل الشعر ومناولة السهام قال الحافظ ابن حجر ولم أر في شيء من الأحاديث التصريح بأنهن قاتلن أهـ ولعل من ينسب إليهن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد أنهن كن يعن الغزاة وإعانة الغازي غزو فمن أعان غازيا فقد غزا كما سبق بيانه نعم كان بعضهن بصدد أن تقاتل إذا اعتدى عليها أحد المشركين فقد أخرج مسلم عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين فقالت اتخذته أن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه ولا شك أن خروج المرأة في الغزو كان للضرورة ولذلك أبيح لها أن تداوي الرجال ولا يباح للمرأة أن تعالج الرجل الأجنبي إلا لضرورة والضرورات تبيح المحظورات ولذلك لم يبح إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن يباشر الرجل الأجنبي غسلها بالمس بل يغسلها من وراء حائل عند البعض وتيمم عند الأكثر وقال بعضهم تدفن كما هي بدون غسل وفي الحديث نزاهة عمر بن الخطاب وتقديره للجهاد والمجاهدين والمجاهدات وحيطة الحاكم وابتعاده عن الشبهات ومكافأته للمحسن على إحسانه وفضل المجاهدين السابقين

31 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع -[المعنى العام]- طبع الله الإنسان على حب المال فقال في القرآن الكريم {وتحبون المال حبا جما} وقال رسوله الكريم لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانيا ولو كان له واديان لتمنى ثالثا ذاك طبع طبع الله الإنسان عليه ودعا إلى تهذيب هذا الطبع وتقويمه دعاه إلى مقاومة الجشع والطمع والجري وراء المال من حله ومن غير حله دعاه إلى أن ينفق ما وهبه الله فيما شرعه فيحسن به كما أحسن الله إليه ولا ينسى نصيبه من الدنيا دعاه إلى أن يجعل المال في يده لا في قلبه وأن يسخر المال ويجعله خادما لا أن يجعل نفسه خادما والمال مخدوما دعاه أن يكون سيدا للمال لا أن يكون عبدا للدرهم والدينار والثياب وزينة الحياة الدنيا يصبح في خدمة المال وجمعه ويمسي في عده وحراسته والسهر عليه وسواء أكان الحديث يدعو عليه بالتعاسة والشقاوة أم كان يخبر عنه بأنه تعس في نفسه غير سعيد فإن الزجر والتنفير شديد ومخيف وقد جعل الحديث علامة هذا الشقي أنه إن أعطي من المال رضي عمن

أعطاه وإن لم يعط سخط على من لم يعطه فسبب الرضا عنده العطاء وسبب الغضب عنده المنع ولو كان لحكمة وللمصلحة فهو أسير المال وهو كالكلب يتبع العظم والسيد مثل هذا يستحق الدعاء عليه بدوام التعس لأنه ألغى عقله واستدبر شرع الله فلا يستحق الدعاء له مثل هذا المتخبط في ظلمات الجهل والخطيئة والمنتكس في سلوكه كمن يمشي على رأسه هو كمن يمشي على أشواك جدير أن يدعى عليه بعدم إخراج الأشواك من جسده ذلك الصنف الهالك يقابله صنف الفالحين الذين باعوا أموالهم لله وأنفقوها في سبيله واستوى عندهم الغنى والفقر وهانت عليهم الدنيا بمظاهرها ومناصبها يؤدون واجبهم وواجب الإسلام في أي موقع أخذوا بلجام خيلهم في الجهاد تركوا الزينة ونعيمها فشعت شعرهم وثار واغبرت أقدامهم وتربت إن وضعوا في مقدمة الجيش أدوا واجبهم وإن وضعوا في مؤخرة الجيش أدوا واجبهم لا يعنيهم اختلال الموازين عند الناس لا يعنيهم أن الجهلة عباد المصالح وأهل التزلف والنفاق لا يقدسونهم كما يقدسون أصحاب المناصب لا يعنيهم أن لا يؤذن لهم عند هؤلاء الناس إن استأذنوا عليهم لا يعنيهم أن يرفض السوقة والجهلة وعباد المال شفاعتهم إن هم تشفعوا لأحد عندهم لا يعنيهم شيء من ذلك ما داموا مع ربهم شعارهم دعاء ربهم . . . . . . .. . . . . . . . ... وليتك ترضى والأنام غضاب إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب -[المباحث العربية]- (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) تعس بفتح التاء وكسر العين ويجوز فتحها ضد سعد تقول تعس فلان أي شقي وقيل التعس السقوط على الوجه وقيل أن يعثر فلا يفيق من عثرته وقيل هلك وعبد الدينار كناية عن اتباعه والذل من أجله والجري وراءه فكأنه لذلك خادمه وعبده قيل إنما خص العبد بالذكر ولم يقل مالك الدينار أو جامع الدينار لأن

المذموم الشره والجشع لا مطلق الملك والجمع والدينار هو المضروب من الذهب للتعامل به والدرهم هو المضروب من الفضة (وعبد الخميصة) الخميصة كساء أسود له أعلام وفي رواية القطيفة وهي ثوب له خمل وكرر لفظ عبد مع كل معطوف للإشارة إلى استقلال كل في الذم فمن استغرق في جمع واحدة منها فهو تعس (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) هذا دليل على الشره والحرص وأن الأخذ تملك عليه أمره فالرضا عن الناس عنده مرتبط بالإعطاء والسخط مرتبط بعدم الإعطاء وليس للحق أو للعدل عنده وزن بعد ذلك وأعطي بضم الهمزة مبني للمجهول أي إن أعطاه أي معط بحق أو بغير حق رضي عنه واصطفاه وتبعه (تعس وانتكس) إعادة الدعاء عليه بالتعس لزيادة التعنيف والانتكاس الانقلاب والمعنى سقط وعاوده السقوط أي سقط وكلما نهض سقط (وإذا شيك فلا انتقش) شيك بكسر الشين أي أصابته الشوكة في جسده وانتقش أخرج الشوكة بالمنقاش وهو الملقاط والمعنى دعاء عليه بأنه إذا أصابته شوكة لم تخرج من جسده بطبيب أو غيره وإنما خص انتقاش الشوكة لأنه أسهل ما يتصور من المعاونة فإذا انتفى السهل انتفى ما فوقه بطريق الأولى (طوبى لعبد) طوبى بضم الطاء دعاء له بكل شيء طيب وقيل دعاء له بالجنة لأن طوبى أشهر أشجارها وأطيبها والواو في طوبى منقلبة عن ياء لأنه فعلى من طاب يطيب فأصله طيبى والمراد من العبد الإنسان وقيل المؤمن فالأول من عباد الله وكلنا له عبد والثاني من عباد الرحمن العابدين (آخذ بعنان فرسه في سبيل الله) ليس المقصود الأخذ بالعنان بالفعل وإنما المقصود الرباط بالفرس والاستعداد به للجهاد في أية لحظة (أشعث رأسه) شعث الرأس انتفاش شعرها وتعرضها للتراب بسبب

السفر والبعد عن الراحة والزينة وأشعث منصوب على الحال من عبد لأنه نكرة وصفت فساغ مجيء الحال لها كذا قال الكرماني وقال غيره مجرور بالفتحة لمنعه من الصرف صفة لعبد ورأسه مرفوع على الفاعلية (مغبرة قدماه) تأكيد للخشونة والمشقة والبعد عن الراحة والزينة وإعرابه كإعراب سابقه (إن كان في الحراسة كان في الحراسة) اتحد هنا الشرط والجزاء في اللفظ وقصد اختلافهما في المعنى والتقدير إن دعته المصلحة أن يكون في الحراسة ومقدمة الجيش التي تحرس من هجوم العدو قبل وأدى واجبه فيها خير أداء وحاصل اختلاف الشرط والجزاء يرجع إلى قيد ملاحظ في الجزاء أي إن كان في الحراسة كان في الحراسة راضيا عاملا وإن كان في المؤخرة كان في المؤخرة راضيا عاملا فهو لا يقصد بجهاده الرياء والشهرة وإنما هدفه الإسهام في نصر دين الله قدر ما يستطيع في أي موقع (إن استأذن لم يؤذن له) مظهر آخر من مظاهر عدم الاهتمام بالغنى الذي يزن الناس به الرجال فهم لا يعرفون قدره وهو لا يعني بمنزلته عندهم بقدر عنايته بمنزلته عند ربه وقد حذف المستأذن عليه والمستأذن فيه للتعميم أي إن استأذن على أحد في الدخول أو في الكلام لم يؤذن له وقدموا عليه في الدخول أو في الكلام ذا المال وذا المنصب (وإن شفع لم يشفع) بضم الياء وفتح الشين وتشديد الفاء المفتوحة أي لم تقبل شفاعته ولا ينظر إليها ولا يهتم بها لأنه أشعث أغبر -[فقه الحديث: ]- ذكر البخاري هذا الحديث في كتاب الجهاد تحت باب الحراسة في الغزو في سبيل الله باعتبار نصفه الأخير طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في

الحراسة ... إلخ والحراسة في الحديث غير الحراسة التي جعلت عنوان الباب إذ القصد منها في العنوان حماية القائد أو حماية الأسلحة أوحماية المنطقة والجيش من الغدر والمفاجأة ولذلك ساق البخاري قبل ذلك مباشرة قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سهر في سفر وأراد النوم ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة ... الحديث والحراسة في حديثنا مراد منها مقدمة الجيش وصدره فعلاقته بالباب على هذا غير ظاهرة وقد أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال باعتبار صدره تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ... إلخ والعلاقة بين الجزأين واضحة وإن اختلف موضوعهما وهي علاقة المقابلة مال يفتن ويصبح سبب الهلاك ومال ينجي ويكون سبب الفوز والفلاح وقد استشكل على الحديث بأنه كيف يدعى على الضال بدوام الضلال وزيادته ولا يدعى له بالهداية والاستقامة وأجيب بأن الدعاء عليه ليس بزيادة الضلال وإنما بتلقيه جزاء الضلال والشقاوة المدعو بها أثر وجزاء طبيعي لسلوكه وشرهه في الجمع وسوء التصرف في الإنفاق والدعاء بعدم خروج الشوكة دعاء بالإيلام جزاء تعريض نفسه للشوك فهو دعاء عليه بعقوبة دنيوية معاكسة لأنه ألغى عقله وأهمل شرعه -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - التحذير من فتنة المال 2 - التحذير من الشره والاتجاه بكل الهمة نحو جمعه من حله ومن غير حله 3 - الحث على القناعة 4 - الحث على أن يكون الرضا أساسه الحق والعدل وليس الإعطاء

5 - جواز الدعاء على الضال بالجزاء المناسب لضلاله 6 - الحث على إنفاق المال في سبيل الله 7 - امتداح التواضع وعدم السعي للشهرة 8 - امتداح أداء الواجب في أي موقع 9 - فضل الرباط في سبيل الله وفضل اتخاذ الفرس لذلك 10 - ذم المقاييس البشرية وموازين الناس للرجال بموازين الغنى والمناصب

كتاب بدء الخلق

كتاب بدء الخلق 32 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي -[المعنى العام]- جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل إلى الأرض جزءا واحدا منه يتراحم الخلق فيما بينهم حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه والكلام عن رحمة الله وسعتها كلام في بدهي جلي فاسمه جل شأنه الرحمن الرحيم ورحمته وسعت كل شيء لكن حديثنا يهدف إلى بيان سبقها على الغضب يهدف إلى بيان انغماس الخلق في رحمته أولا وقبل أن تصيبهم المصائب أو يبتلوا ببلاء يهدف إلى توجيه العبد إلى شكر الرحمن الرحيم في وقت المحنة لتفضله السابق والكثير بالمنحة يهدف إلى توجيه العبد إلى الإيمان بالقضاء والقدر وأن {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} نعم خلق الله أول ما خلق الماء والعرش ثم القلم واللوح فقال للقلم اكتب قال القلم ما أكتب قال اكتب ما كان وما يكون فكتب

في اللوح المحفوظ كل شيء وحفظ هذا اللوح عنده تعالى وفي خاصة ملكه عند عرشه لا يطلع عليه إنس ولا جن ولا ملك ومما كتب فيه إن رحمة الله تغمر مخلوقاته قبل غضبه وإن رحمة الله بخلقه أضعاف أضعاف غضبه عليهم لإساءتهم يخلقهم ويجحدونه يرزقهم فيأكلون خيره ويعبدون غيره ومع ذلك يستمر يرزقهم ويمنحهم النعم الكثيرة التي لا تحصى وحتى ذنوبهم تلحقها الرحمة فيعفو عنها فبرحمته خلق الخلق وبرحمته يحيون وبرحمته يموتون وبرحمته يبعثون وفي رحمته يخلدون نسأل الرحمن الرحيم أن يديم علينا سحائب رحمته في الدنيا والآخرة -[المباحث العربية]- (كتاب بدء الخلق) الخلق بالمعنى الأسمى أي المخلوق ولكل مخلوق بدء لكن المراد بدء المخلوقات وأيها حصل أولا وأيها كان في البداية قبل غيرها (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه) يقال قضى بمعنى خلق ومنه قوله تعالى {فقضاهن سبع سماوات في يومين} ويقال قضى بمعنى حكم وأمضى، فالمعنى على الأول لما خلق الله وأوجد جنس المخلوقات في بعض أفراده كالماء أو العرش أو القلم والكتاب كتب كذا وكذا. والمعنى على الثاني لما قضى وحكم وقدر خلق الخلق كتب كذا وكذا. أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ كما صرح بذلك في بعض الأحاديث (فهو عنده) الضمير هو يعود على كتابه وقوله فهو عنده قصد به الإشارة إلى كمال خفائه عن الخلق أي فالكتاب وأسراره عنده وحده ويجوز أن يعود الضمير على المكتوب المفهوم من كتب في كتابه أي فالمعلومات المكتوبة علمها عنده (فوق العرش) استشكل بذكر كلمة فوق لما هو معلوم أن العرش لا يعلوه شيء وحاول بعضهم رفع الإشكال فزعم أن لفظ فوق زائدة مثلها

في قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين} إذ المراد اثنتان فصاعدا ورد هذا بأن الزائد يستقيم الكلام بحذفه كما في الآية أما الحديث فلا يستقيم الكلام بحذف لفظ فوق إذ لا يقال فهو عنده العرش وقيل معناه دون العرش من قبيل قوله {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} قال جمهور المفسرين معناه فما دونها وأقل منها في الصغر فمعنى دون العرش أي تحته وعندي أننا لو قلنا إن العرش يحيط بالسموات والأرض إحاطة قشر البيضة بالبيضة كان ما في داخله من مخلوقات يصلح أن يقال عنه أنه فوقه باعتبار أنه فوق جزء من أجزائه فلا إشكال (إن رحمتي غلبت غضبي) إن يجوز فيها فتح الهمزة على أنها بدل من مفعول كتب المقدر والأصل كتب في كتابه شيئا أن رحمتي غلبت غضبي ويجوز فيها الكسر على حكاية المكتوب والمراد من رحمته تعالى هنا لازمها من إيصال الخير والمنافع والمراد من غضبه هنا كذلك لازمه من إيصال الإيلام والعذاب والمراد من الغلبة السبق لرواية إن رحمتي سبقت غضبي ولو تأملنا لوجدنا رحمته وخيره تعالى سابق لأي ابتلاء لأن الرحمة تفضل لا تحتاج سببا أما الغضب فهو متوقف على سابقة ما يوجبه وقيل المراد من الغلبة الكثرة والشمول ولو تدبرنا نعم الله وفضله ورحمته لآمنا بكثرتها عن الغضب بمئات المرات -[فقه الحديث]- عن بدء المخلوقات وأيها خلق أولا سأل ناس من أهل اليمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيما رواه البخاري كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض فهذا صريح في أنه لم يكن شيء غيره تعالى لا الماء ولا العرش ولا غيرهما ومما هو ظاهر أن العرش والماء كانا مبدأ هذا العالم ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء فمعنى {وكان عرشه على الماء} أي بعد أن كان وحده ولا شيء معه ولما كان العطف بالواو بين الكتابة وبين

خلق السموات والأرض وبين العرش وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ولما كان الترتيب في الذكر بدون حرف العطف الدال على الترتيب كالفاء وثم وجدنا من يقول إن الماء خلق أولا ... ومن يقول إن القلم خلق أولا والتمس كل لقوله دليلا فمن قال إن الماء خلق أولا اعتمد على ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين مرفوعا إن الماء خلق قبل العرش ويؤيده ظاهر قوله في الصحيح وكان عرشه على الماء فالمعتلي عادة متأخر عن المعتلى عليه ومن قال إن القلم خلق أولا اعتمد على ما رواه أحمد والترمذي وصححه أيضا من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ويؤيده ظاهر أن العرش من المخلوقات ومن شأنه أن يكتب قبل أن يوجد كبقية المخلوقات والأكثرون على سبق خلق العرش ويؤولون الأولية في حديث القلم بأنها أولية نسبية أي بالنسبة لما عدا الماء والعرش وأما حديث أول ما خلق الله فقد قال المحققون ليس له طريق ثبت يعتمد عليه وقد أورد بعضهم إشكالا على الحديث من حيث سبق الرحمة على الغضب فزعم أن العذاب قد يقع قبل الرحمة كمن يدخل النار من الموحدين ثم يخرج بالشفاعة أو بفضل الله وأجيب بأن الرحمة سابقة دائمة في الخلق والحفظ والإنعام والرزق وحتى من يعذب من الموحدين سبق تعذيبه رحمات ورحمات {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} فإمهالهم رحمة ثم عذابهم عذابا مؤقتا بدرجة أخف رحمة ولولا وجودها لعذبوا بعذاب أشد وخلدوا ومن هنا قال الطيبي في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب وأنها تنالهم من غير استحقاق وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق فالرحمة تشمل الشخص جنينا ورضيعا وناشئا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر منه من الذنوب ما يستحق معه ذلك

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إثبات القلم لأن الكتابة إنما تكون به 2 - إثبات اللوح المحفوظ لقوله في كتابه وفي رواية في كتاب 3 - إثبات العرش 4 - الرجاء الواسع في رحمة الله تعالى وفيها يقول جل شأنه {ورحمتي وسعت كل شيء}

33 - عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان -[المعنى العام]- لما خلق الله السموات والأرض وخلق القمر وقدره منازل وجعل الشمس ضياء وربط النهار بالشمس والليل بغيابها وجعل الليل والنهار يوما وربط الشهر بالقمر وبمنازله فإذا تمت دورته في منازله وعاد إلى المنزل الأول كان الشهر ويقطع هذه المسافة في تسعة وعشرين يوما ومائة وواحد وتسعين جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا أي ما يزيد قليلا عن نصف يوم فمجموع أيام السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وأحد عشر جزءا من ثلاثين جزءا وربط أول الشهر العربي شرعا برؤية الهلال وكانوا من غير الشريعة يجعلون شهرا تسعة وعشرين يوما وشهرا ثلاثين يوما فالمحرم في اصطلاحهم ثلاثون يوما وصفر تسعة وعشرون يوما وهكذا إلى آخر السنة القمرية وشرع الله على لسان إبراهيم وإسماعيل أربعة أشهر من كل عام يحرم فيها القتال ويسالم الناس بعضهم بعضا حتى يمر الرجل فيها على قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه فلا يقربه بسوء وحددت هذه الأشهر بالمحرم ورجب وذي القعدة وذي الحجة ومع أن العرب لم يبعث فيهم رسول منذ إسماعيل إلى محمد عليهما السلام لكنهم التزموا بحرمة أشهر أربعة غير أنهم كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا فإن احتاجوا أحلوه وحرموا ربيعا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها وكانوا يعتبرون في

التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر حراما من السنة ولذلك نص على العدد (اثنا عشر شهرا) وكان وقت حجهم يختلف لذلك فكان الحج في السنة التاسعة التي حج فيها أبو بكر بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع وهي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كان في ذي الحجة وهو الذي كان موعد الحج على عهد إبراهيم عليه السلام فاستدار الزمان وعاد الاسم على المسمى وعلى وقته الذي أراده الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أن تحترم الأشهر الحرم وأوقاتها وحددها تحديدا لا يقبل النسيء والتأخير ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم والشهر الذي بين جمادى وشعبان والذي تحافظ مضر على اسمه في وقته حتى نسب إليها فقيل رجب مضر هذه هي السنة العربية الإسلامية وأشهرها أما أي الأشهر أولها وأي الأشهر آخرها وبأي الأحداث أرخ فكان في زمن عمر رضي الله عنه جعل أولها المحرم وأرخ بسنة هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قبل ذلك في صدر الإسلام يؤرخ بعام الفيل وأوله ربيع الأول والله أعلم -[المباحث العربية]- (إن الزمان) الزمان اسم للوقت قليله وكثيره والمراد به هنا السنة بشهورها فالمعنى إن الزمان في انقسامه إلى أعوام وانقسام الأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصله (قد استدار) يقال دار يدور واستدار يستدير إذا طاف حول الشيء وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه والمعنى هنا أن النسيء وتأخير الأشهر وتغيير أسمائها وأوقاتها قد عاد إلى الأصل (كهيئته يوم خلق الله) الكاف اسم بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي استدارة مشابهة لهيئته يوم خلق الله السموات

(ثلاث منها متواليات) التمييز مفرده الشهر وهو مذكر فكان الأصل أن يقال ثلاثة لكن لما حذف المعدود جاز تذكير العدد وتأنيثه حسب الذي يقدر ويروى (ثلاثة) بالتاء على الأصل (ورجب مضر) معطوف على ثلاث وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب (الذي بين جمادى وشعبان) رفع للبس وإزالة الشك وتحديد لمنع النسيء والتأخير -[فقه الحديث]- هذا الحديث جزء من خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يبطل به نسيء الجاهلية الذي حكاه جل شأنه وأوعد عليه بقوله {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين} والمعنى أن تأخير الأشهر عن مواقيتها وزيادة أوقات الحل وترحيل أوقات الحرمة زيادة في كفر الكافرين وضم معصية إلى معاصيهم فهم يحلون ما حرم الله وتحليل ما حرم الله كفر على كفرهم يحلون الشهر المحرم عاما من الأعوام ويحافظون على حرمته عاما آخر قال الكلبي في تفسيره أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالعودة من موسم الحج قام فخطب فيهم وقال لا مرد لما قضيت ثم يحل لهم بعض الأشهر الحرم وقال الضحاك في تفسيره أول من فعل ذلك جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية وكان يقوم على جمل في موسم الحج فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه

ومعنى تحريم الأشهر الحرم أن ما كان حراما في غيرها يكون شديد الحرمة فيها ومقتضى مضاعفة الجريمة فيها مضاعفة أجر الطاعة الواقعة فيها أيضا ثم إن المباح كرد اعتداء أو عقوبة أو مقابلة إساءة بإساءة يكون محظورا شرعا فيها فالهدف الشرعي منها خلق جو من الأمن والأمان بين المجتمعات الإسلامية وإذا كان هذا الهدف مطلوبا في جميع أيام العام فإنما قصد بالأشهر الحرم الإلزام والتدريب على هذا السلام بين الأمة كالصوم شهرا مقصودا به التدريب على الصبر وعلى قوة الإرادة حتى يسهل على المسلم الالتزام الكامل في جميع الأوقات وفي هذه الهدنة يمكن للنفوس الغضبة أن تصفو وللثورة أن تهدأ وللضغائن أن تزول وقد قيل في حكمة تحديدها هذا التحديد أن المحرم مبدأ العام وأن رجب وسطه وأن ذا القعدة وذا الحجة آخره وكان الآخر شهرين لأنهما موسم الحج وتعظيم شعائر الله والمسلمون فيهما أحوج إلى الأمن والأمان أكثر من غيرهما

34 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أدري لعله كما قال قوم فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم الآية -[المعنى العام]- لله في الكون آيات يسخر ما يشاء لما يشاء يجعل الشيء الواحد تارة نعمة وتارة عذابا وتارة نعمة لقوم وعذابا للآخرين المطر مثلا يكون غيثا وحياة لبلدة ميتة ويكون طوفانا وسيولا مغرقة مدمرة بل المطر القليل المعتاد يكون عند القحط للزارعين غيثا وفي الوقت نفسه يكون لمن يعملون في الفخار ونحوه بلاء والريح منها الصبا والنسيم التي يتمناها الإنسان في الصيف ومنها الدبور التي تلفح الوجوه والتي أهلكت بها عاد {ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} وما نراه وما نسمعه في أيامنا من نكبات العواصف العاتية المدمرة ليس إلا امتحانا واختبارا وإنذارا ولكن قل من يتنبه ويعتبر من هنا كان واجب المؤمن إذا رأى آية من آيات الله في الكون سحابا أو ريحا أو مطرا أو نحوها أن يطمع في كرم الله ونعمائه وأن يخاف بطش الله وعقابه يرجو رحمته ويخشى عذابه بل عليه أن يغلب الخوف على الطمع والرجاء وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم الوحي إليه بأن أمته لا تعذب عذاب استئصال كبعض الأمم {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} رغم أنه أعطي الأمان من أن تعذب أمته بالحجارة أو بالمسخ أو بالصيحة أو بالغرق أو بالريح رغم كل هذا كان إذا رأى سحابة في السماء وهو يتمناها غيثا يخشى أن تكون عذابا أليما يتملكه الخوف من عقاب الله فهو يرى كثرة المكذبين الضالين المستحقين للنقمة يتملكه القلق يدخل ويخرج يقبل ويدبر يتحرك ويسكن وينقبض وجهه وتظهر

عليه علامات الخوف والارتباك فإذا أمطرت السحابة مطرا طيبا هدأ وزال عنه ما كان به تكرر ذلك منه وعرف بين مشاهديه قالت عائشة يوما يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته تغيرت وعرفت الكراهية في ملامحك فقال يا عائشة كيف آمن أن يكون فيها عذاب لقد عذب قوم من مثلها لما رأوها تستقبل أوديتهم وديارهم وهم في قحط فرحوا بها وقالوا هذا سحاب عارض مستعرض في السماء ممطرنا فكانت ريحا فيها عذاب أليم -[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء) هذا الأسلوب يفيد الشأن والعادة والاستمرار والمخيلة بفتح الميم وكسر الخاء هي السحابة التي يخال ويظن فيها المطر فقوله في السماء زيادة في الإيضاح وفي رواية للبخاري إذا رأى غيما أو ريحا (أقبل وأدبر ودخل وخرج) ليس المقصود بيان من أين أقبل؟ ولا إلى أين أدبر ولا إلى أين دخل وليس المقصود الإقبال أو الإدبار والدخول والخروج بالفعل وإنما المقصود لازم ذلك من مظاهر القلق والخوف (فإذا أمطرت السماء) أي المخيلة التي في السماء من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه (سري عنه) بضم السين وكسر الراء المشددة وفتح الياء مبني للمجهول أي كشف عنه وزال ما ألم به من الخوف وآثاره (فعرفته ذلك) بفتح العين وتشديد الراء المفتوحة وسكون الفاء من التعريف والإشارة لما كان عليه من تغير الوجه والخوف أي أخبرته بما أراه منه وفي رواية للبخاري قلت يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية

(وما أدري) ما استفهامية أي ومن أين وكيف أدرك عاقبة السحابة (لعله كما قال قوم) لعل هنا للإشفاق لأنها سبقت المكروه فإذا سبقت المحبوب كانت للترجي والضمير للحال والشأن أي ربما يكون الحال والشأن كحال وشأن من قال يقصد قوم عاد وقولهم {هذا عارض ممطرنا} (فلما رأوه عارضا) أي فلما رأوا السحاب في عرض السماء أي معترضا في السماء (مستقبل أوديتهم) أي متجها بما يحمل نحو خيامهم ومزارعهم والغاية من ذكر الآية هي بقيتها وقولهم {هذا عارض ممطرنا} فهو مقول القول في كما قال قوم -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الله يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وقاصفا تقصف وتدمر كل شيء باعتبارها التي تحمل المخيلة والسحاب وأن المخيلة والسحاب ليست خيرا دائما 2 - مشروعية تغليب الخوف على الرجاء حتى مع القرب من الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس خوفا 3 - شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته ورحمته بهم وخوفه من عذابهم وقد استشكل هذا مع قوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فهذا وعد من الله تعالى أن لا يوقع العذاب بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما دام محمد صلى الله عليه وسلم حيا فيهم ووعد أيضا أن لا يعذبهم وهم يستغفرون بعد وفاته ووعد الله لا يتخلف فكيف يخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع العذاب بالأمة مع هذا الوعد وأجيب بأن الآية والوعد إنما نزل بعد هذه القصة

وهذا الجواب مبني على مجرد احتمال فلا يرفع الإشكال وبخاصة أن عبارة عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر تفيد الدوام والاستمرار وحدثت بهذا عطاء التابعي مما يوحي بأن هذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته والأولى أن يقال إن الآية والوعد يمنعان عذاب الاستئصال لكل أفراد الأمة والمخوف منه أن يقع العذاب بالمخيلة بالبعض وهو ما لا يشمله الأمن والتأمين بل هو واقع في مختلف الأزمان وإلى اليوم 4 - أن القلق ومظاهره من الإقبال والإدبار والدخول والخروج لا يخل بما يجب من صبر وسكينة واستسلام للقضاء والقدر بل لعله مظهر من مظاهر إعلان الضعف والعجز واللجوء إلى الله وقت الشدة ووقت الخوف أما السكينة والصبر والاستسلام فهي مطلوبة بعد وقوع المصيبة 5 - حرص الصحابة والمرأة على معرفة أمور الدين والاستفسار عما تجهل من الأحوال الشرعية 6 - ما يجب على المسلم من الانتباه للكون وما يجري فيه وتدبر ذلك والتفكير فيه وإحالة ما يجري من ذلك إلى الله تعالى لا إلى الطبيعة وقوانينها

35 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض -[المعنى العام]- طاعة الإنسان المسلم لربه تعالى تنتج محبة الله تعالى للعبد مصداقا لقوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وتزداد هذه المحبة بالنوافل عملا بقوله تعالى في الصحيح القدسي وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ... إلى آخر الحديث وإذا أحب الله عبدا أوحى إلى جبريل بهذا الحب فيحبه جبريل لأنه يحب الله ويحب من يحبه الله، ثم يأمر الله جبريل أن ينادي في ملائكة السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فتحبه الملائكة ثم يغرس الله تعالى حب ذلك الإنسان في قلوب بني الإنسان الذين يعاشرونه أو يرونه أو يسمعون به فكل الذين يحبهم الله يحبهم الصالحون من بني آدم ويحبهم أكثر من يعرفهم ويثنون عليهم ويذكرونهم بخير وبالتالي فكل الذين يحبهم الناس المؤمنون ويشيع حبهم وثناؤهم وتقديرهم عندهم محبوبون

عند الله فحب الناس الصالحين للمؤمن دليل على حب الله له وبالنقيض يكون بغض الصالحين لفرد دليلا غالبا على بغض الله له نسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا بحبه والطاعة له والتقرب إليه وأن يمنحنا حبه وحب جبريل وحب ملائكته وحب الصالحين -[المباحث العربية]- (إذا أحب الله عبدا) الحب عند البشر ميل القلب للمحبوب سواء كان جبليا أم كان مكتسبا وحب الله تعالى يعلمه جل شأنه لكنه يستلزم القبول والرضا والإثابة والله يحب المتقين ولا يحب كل خوان أثيم (نادى جبريل) بصوت يخلقه يسمعه جبريل عليه السلام أو بالوحي إليه بصورة ما وخص جبريل لأنه ملك الوحي والوساطة في تبليغ أمر الله إلى خلقه (إن الله يحب فلانا فأحببه) الجملة مقول القول المدلول عليه بالنداء وفلانا كناية عن الاسم الذي يذكر والأمر بحب جبريل له أمر تكليف والملائكة {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} أو أمر تكوين أي يغرس حبه فيه بكن فيكون والأول هو الظاهر لنداء جبريل في أهل السماء فهو مستبعد أن يكون أمر تكوين (فينادي جبريل في أهل السماء) بناء على أمر من الله تعالى بذلك وأهل السماء هم الملائكة أما الأرواح التي تسكن السماء فهي لا تكلف (ثم يوضع له القبول في الأرض) ثم ليست للتراخي الزمني ولا للتراخي الرتبي فالأولى أن تكون للترتيب والتراخي الذكري والمراد من القبول المحبة والقبول أول درجاتها والمراد من الأرض أهلها من الناس -[فقه الحديث]- ساق البخاري هذا الحديث تحت باب ذكر الملائكة من كتاب بدء الخلق كدليل على وجود الملائكة وهي أجسام لطيفة هوائية نورانية تقدر

على التشكل بأشكال مختلفة منزهة عن ظلمة الشهوة وكدرة الغضب خلقوا على صور مختلفة وأقدار وحجوم متفاوتة بعضهم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع يسد الجناح الأفق أو يحمل القرية فيخسف بها الأرض أو يصيح الملك فتموت الأمة لا يحصي عددهم إلا الله {وما يعلم جنود ربك إلا هو} ساداتهم الأكابر أربعة جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ومنهم الحفظة والسياحون في الأرض يبتغون مجالس الذكر والمصلين ومنهم المقربون وحملة العرش والحافون به والموكلون بالنطف والخلق في بطن الأم، ومنهم خزنة السماء وخزنة الجنة وخزنة النار والزبانية وغير ذلك وظاهر الحديث أن حب الله للعبد يستلزم حب أهل الأرض له وهو لزوم غالبي فقد يحب الله عبدا مغمورا بين الخلائق أشعث أغبر لا يهتم به أحد ولهذا قال المحققون كل من هو محبوب القلوب عند أكثر من يعرفه من المؤمنين فهو محبوب عند الله وتعكس هذه القضية عسكا منطقيا إلى بعض من هو محبوب عند الله هو محبوب عند أكثر من يعرفه من المؤمنين والحديث هنا لم يتعرض لبغض الله العبد وبغض الخلائق له لكنه تعرض له في غير رواية البخاري إذ جاء وإذا أبغض عبدا نادى جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه ثم يوضع له البغض في الأرض وحب الله للعبد أساسه التقوى لقوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وتقوى الله تستوجب حسن الخلق وحسن معاملة الإنسان لمن يعرفه وأقلها طلاقة الوجه والبعد عن أذى اللسان واليد وأحسنها إزالة الأذى عن الطريق وإفشاء السلام وإطعام الطعام ووصل من قطع وإعطاء من منع والعفو عمن ظلم بمثل هذا يتحقق حب الله وحب الناس

36 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح -[المعنى العام]- شرع الله الزواج والنكاح ليستعف المسلم بالحلال عن الحرام وليصرف شهوته حيث أباح له الله وشهوة الفرج أخطر من شهوة البطن فعن طريقها يفتن المرء في دينه وأمام سلطانها يضعف كل سلطان لهذا كانت استجابة الزوجة لرغبة زوجها بشأنها واجبة وكانت مبادرتها بتلبية طلبه بخصوصها حتمية إن للزوجة شهوتها وثورتها كالزوج لكن لما جبلها الله عليه من الحياء لا تدعو زوجها إليها مهما رغبت أو ثارت فكانت وسيلة

قضاء الوطر لها وله طلب الزوج والخطر حينئذ على الطرفين يكمن في رفضها وعدم استجابتها خطر عليه قد يدفعه إلى التفكير في أخرى زوجا أو غير زوج وخطر عليها قد تعض بسببه أصابع الندم لم يعالج الحديث هذا الخطر بهذا الأسلوب فقد تركب المرأة رأسها وتأخذها العزة بالإثم وتدعي أنه لا خطر عليها وأنها لا تهتم بتفكير زوجها في أخرى ولكنه عالجه بدفعها إلى الخوف من غضب الله ومن غضب ملائكته فقال مصلح الإنسانية إذ دعا الرجل زوجته لقضاء شهوته وجب عليها الإسراع بالاستجابة فإن هي تأخرت أو امتنعت بدون عذر فغضب من أجل ذلك زوجها عليها لعنتها الملائكة وغضب الله عليها حتى ترجع عن عصيانها وحتى يرضى زوجها عنها -[المباحث العربية]- (إذا دعا الرجل امرأته) بالعبارة أو بالإشارة بالتصريح أو بالتلميح باللفظ الواضح أو التعريض ما دامت تفهم ذلك وتعلمه (إلى فراشه) كناية عن الجماع أي إلى أن يقضي شهوته سواء كان على فراشه أو فراش غيره أو بدون فراش ولذا قيل الولد للفراش أي لمن يطأ في الفراش (فأبت) يقال أبى يأبى بفتح الباء فيهما أي امتنع فأبت أن تقضي شهوته سواء أجاءت إلى فراشه وامتنعت أو لم تجئ أصلا فرواية فأبت أن تجئ قصد بها الغالب في الامتناع (فبات غضبان عليها) غضبان حال ممنوع من الصرف للوصفية وزيادة الألف والنون (لعنتها الملائكة) اللعن طلب الطرد والإبعاد عن رحمة الله وقد يقصد به مطلق السب وهل المراد من الملائكة جماعة مخصوصون فأل للعهد وهم الحفظة أو ملائكة موكلون بذلك أو عموم الملائكة اعتمادا على رواية مسلم الذي في السماء

(حتى تصبح) فيه إشارة إلى أن الدعوة خاصة بالليل لكن يمكن أن يشمل دعوة النهار ويستمر اللعن من حين الامتناع حتى الصباح التالي والأولى جعل المراد من الغاية الرجوع أو الاعتذار ورفع غضب الزوج والتعبير بالإصباح لأنه مظنة ذلك غالبا -[فقه الحديث]- قال ابن أبي جمرة ظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع ذلك منها ليلا أهـ وليس هذا الظاهر مرادا إذ لا يجوز لها أن تمتنع في النهار لكن السر في التعبير بذلك تأكد الحكم في الليل لقوة الباعث حينئذ غالبا يؤيد هذا روايات مطلقة كرواية مسلم والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها فالغاية الشرعية إزالة السخط والغضب وتحصيل الرضا تصرح بذلك الأحاديث فلابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر رفعه ثلاثة لا تقبل لهم صلاة ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع والسكران حتى يصحو والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى وظاهر الحديث أن اللعن مشروط بحصول أمرين عدم إجابة دعوته وأن يغضب لذلك فإن دعاها فأبت فعذرها أو تنازل عن حقه فلم يغضب لم يحصل اللعن وإن غضب منها لسبب آخر غير امتناعها عن إجابة طلبه للفراش لم يحصل اللعن لكن ظاهر حديث الطبراني اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما عبد آبق وامرأة غضب زوجها حتى ترجع قد يدخل في الحكم الغضب لأي سبب شرعي والتحقيق أنه لا يدخل في اللعن وإن كانت تأثم بإغضابه بغير حق وظاهر الحديث جواز لعن المسلم العاصي لأن الملائكة لا يعصون الله فلعن المسلم العاصي ليس معصية

والتحقيق أنه لا يجوز أن يدعى على المسلم العاصي المعين باللعن بمعنى الطرد من رحمة الله بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية ويجوز أن يدعى عليه باللعن مقصودا به مطلق السب إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن منع المسلم من حقوقه البدنية أو المالية يوجب سخط الله وعقوبته إلا أن يتغمده الله برحمته 2 - أن الملائكة تدعو على أهل المعصية ما داموا فيها وذلك يدل على أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها 3 - وفيه دليل على قبول دعاء الملائكة من خير أو شر لكونه صلى الله عليه وسلم خوف من ذلك 4 - إرشاد الزوجة إلى طلب مرضاة الزوج 5 - استدل به بعضهم على أن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة وفيه نظر لأن طلبه وامتناعها ليس دليلا على قوة الحاجة في الطالب وضعفها في الممتنع فقد يكون ذلك لسبب آخر كشدة الممتنع أو تدلله أو نحو ذلك 6 - أن العبد يجب أن يحرص على أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه قال الحافظ ابن حجر وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان

37 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر فقالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبرا فبكى عمر وقال أعليك أغار يا رسول الله -[المعنى العام]- في الجنة من الحور العين ما لا عين رأت حور مقصورات في الخيام وحور يتلألأن في قصورهن وحول قصورهن ونساء الدنيا المؤمنات سيدات الحور العين يخلقن خلقا جديدا فيه شبههن الدنيوي وجمال الحور الأخروي وفي الجنة قصور لا تدانيها قصور الدنيا مهما عظمت ذلك النعيم لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ومن مثل عمر بن الخطاب في ورعه وتقواه وعدله ومن أحق بأفخم القصور من عمر يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى فيما يراه النائم ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ما يراه في المنام كالذي يراه في اليقظة رأى في منامه أنه في الجنة ورأى امرأة مسلمة تقية يعرفها في الدنيا رآها في الجنة بجوار قصر مشيد رآها تتلألأ نورا وبهاء رآها تغسل وجهها ويديها من أنهار الجنة لتزداد وضاءة ونورا وأعجب صلى الله عليه وسلم بالقصر من الخارج وفكر فيما عساه يكون فيه من الداخل من حور وولدان وما تشتهي الأنفس وتلذ العين ومالت نفسه

للدخول وهم به لكنه سأل من حوله من الملائكة لمن هذا القصر فقالوا لعمر بن الخطاب يا للسعادة ويا بشرى لعمر وتردد في الدخول إلى قصر عمر كيف يدخل وهو يعلم أن عمر غيور يأنف أن يرى أحد نساءه إنها غيرة إسلامية يحييها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أغير من عمر ويقدر للغيرة قدرها فليكف عن الدخول وليسارع بالابتعاد عن القصر وليصبح فيبشر عمر بما رأى وما حدثته به نفسه ويبكي عمر بن الخطاب سرورا بالبشرى وتواضعا وشكرا لربه ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتك دخلت فكم يسرني دخولك بيتي يا رسول الله أفديك بأبي وأمي لا أغار منك مهما غرت من جميع الرجال على نسائي فأنت الأمين المأمون وبك يحتمي من يخاف وإلى حماك يلجأ من يستعيذ صلى الله عليك يا رسول الله -[المباحث العربية]- (بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم) قال بينا هو بين الظرفية الزمانية زيدت عليها الألف وقد تزاد الميم قبل الألف فيقال بينما وتضاف إلى الجملة وتحتاج إلى جواب والتقدير بين الأوقات التي كنا فيها عند النبي صلى الله عليه وسلم قال (بينا أنا نائم رأيتني في الجنة) أي بين لحظات نومي رأيت نفسي في الجنة فالرؤيا منامية (فإذا امرأة) إذا للمفاجأة وهي جواب بينا أي بين لحظات نومي ورؤية نفسي في الجنة فاجأتني امرأة وفي رواية البخاري في مناقب عمر فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة سهلة بنت ملحان بن خالد بن زيد الأنصارية زوجة أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري وهي أم أنس بن مالك خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة (تتوضأ إلى جانب قصر) من المعلوم أن قصور الجنة تجري من تحتها الأنهار ومن المسلم به أن الوضوء المشروع في الدنيا غير مشروع في الآخرة لأنه لا تكليف هناك ومما لا شك فيه أن الغسل في الجنة ليس

للنظافة فأهل الجنة غاية في النظافة لهذا قيل إن المراد من تتوضأ تغسل جوارحها لتزداد جمالا وبهاء وقيل معنى تتوضأ تتلألأ وتضوي وتنير وضاءة وجمالا وقد رواه الترمذي بلفظ رأيت في الجنة قصرا من ذهب (لمن هذا القصر) لم تشغله المرأة ووضاءتها صلى الله عليه وسلم وإنما شغله القصر وجماله (قالوا لعمر) القائل جبريل ومعه بعض الملائكة أو أحد الملائكة الموكلين بالقصر ومعه زملاؤه وفي رواية للبخاري فقال بالإفراد ويروى فقالت أي المرأة (فذكرت غيرته) في رواية فذكرت غيرتك بالخطاب لعمر وكان حاضرا التحديث كما هو واضح من الرواية ومن جوابه للرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى فذكرت أي تذكرت فهو من التذكر والذكر بضم الذال وليس من الذكر بكسر الذال وهو الإخبار والغيرة بفتح الغين (فوليت مدبرا) أي انصرفت عن القصر بسرعة ومدبرا أي معطيا القصر ظهري ودبري حال مؤكدة لأن التولي عن الشيء استدبار له غالبا (أعليك أغار يا رسول الله) أصل الكلام أعليها أغار منك أو أمنك أغار عليها فحصل في الكلام قلب وقيل إن على بمعنى من وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أغار منك -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز التحديث بالمنام السار لصاحبه ولغيره إذا كان في ذلك مصلحة 2 - فيه بعض صفات الجنة وما فيها

3 - فيه منقبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه 4 - فيه أدب النبي صلى الله عليه وسلم في مراعاة الصحة وحماية الصاحب والمحافظة على مشاعره وأحاسيسه 5 - مدح الغيرة وإقرارها والمحافظة عليها وعدم إثارتها 6 - قال ابن بطال فيه الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه ومن ثم امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول القصر أهـ أي في الحديث معاملة الناس على أساس ما هم عليه من أخلاق ومراعاة طباعهم فلو كان القصر لرجل غير مشهور بالغيرة لدخله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على أنه مأمون من غير شبهة 7 - فيه فضيلة الرميصاء امرأة أبي طلحة حيث إنها المقصودة من المرأة في الحديث للتصريح باسمها في الروايات الصحيحة 38 - عن أسامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما

شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه -[المعنى العام]- إظهار خلاف الباطن نفاق وقبيح وإظهار الصلاح من الفاجر سيئ وخطير سيئ عند علام الغيوب وخطير عند البشر والأمر بالمعروف ممن لا يفعل هذا المعروف ذنب كبير والنهي عن المنكر ممن يفعله ويقيم عليه كبيرة من أكبر الكبائر لهذا يقول جل شأنه {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} والحديث صور عقوبة العالم الذي لا يعمل بعلمه وعقوبة المخادع للناس الذي يقول ما لا يفعل ويفعل ما ينهي عنه لقد كان يخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية فأخفى عنهم حقيقته وظهر لهم بثوبي زور فكانت عقوبته أن تكون صورته يوم القيامة صورة حمار صورة أبلد الحيوانات لأنه في دنياه قد ظن أنه ذكي وأنه بذكائه يضحك على الناس ويخدعهم وحقيقته أنه غبي لأنه كان يضر نفسه وهو لا يعرف الضرر وكان يؤذي نفسه من حيث يظن أنه ينفعها يجاء به يوم القيامة فيلقى في جهنم ونارها جزاء جريمته فتخرج أمعاؤه من بطنه لأنه كان يكتم الحقائق في باطنه فجزاؤه من جنس عمله ونقيض قصده تخرج أمعاؤه من بطنه في النار فيدور حولها كما يدور الحمار في الطاحونة لأنه كان يلف ويدور أمام الناس ليخفي حقيقته كان يخشى الفضيحة في الدنيا فنافق فكانت عقوبته الفضيحة في الآخرة يجتمع عليه أهل النار ممن كانوا يظنون فيه الصلاح يحيطون به ويلتفون حوله ويعجبون لأمره يسألونه عن جريرته التي أردته هذا الردي يا فلان ما شأنك وما قصتك وماذا كان عملك في الدنيا لقد كنت بيننا مظهرا للصلاح وكنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر يجيبهم والنار تأكل

أحشاءه يجيبهم وهو يعض أصابع الندم ولات ساعة ندم يجيبهم بحقيقة الأمر ولا مجال للكذب والخداع يقول كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله وأنهاكم عن المنكر وأفعله فيعلمون السر في عدم استجابتهم له في دنياهم إن ما يخرج من القلب يحل في القلب وما يخرج من اللسان فقط لا يتجاوز الآذان ولو أنه كان من المخلصين لتغير حاله وحالهم إن العلماء مصابيح الأمة التي تنير لها الطريق بعد تباعد العهد بالرسالة فإذا كان المصباح مظلما في نفسه فكيف يستضاء به وصدق القول صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء -[المباحث العربية]- (يجاء بالرجل يوم القيامة) أل في الرجل للعهد والمقصود المؤمن العاصي الذي يأمر بالمعروف ولا يفعله وفي رواية للبخاري يجاء برجل والفعل يجاء مبني للمجهول على طريقه يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (فيلقى في النار) في الأسلوب إهانة وامتهان إذ لم يقل فيدخل النار بل يرمى فيها كما يرمى الشيء الحقير وفي رواية فيقذف في النار (فتندلق أقتابه) الأقتاب جمع قتب بكسر القاف وسكون التاء وهي الأمعاء واندلاقها خروجها بسرعة (فيدور كما يدور الحمار برحاه) الرحى معروفة يطحن عليها الحب والصغيرة منها تديرها الأيدي والكبيرة تديرها الحيوانات وفي رواية للبخاري فيطرح في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه روي يطحن مبنيا للمعلوم أي يطحن النار أو يطحن أقتابه وأمعاءه وروي بالبناء للمجهول ونائب الفاعل ضمير الرجل أي يحطم في النار والكاف في كما يدور صفة لمفعول مطلق محذف أي يدور دورانا شبيها بدوران الحمار والحمار مثل في البلادة

(فيجتمع أهل النار عليه) أي بعض أهل النار أي من كان يعرفه في الدنيا وفي رواية للبخاري فيطيف به أهل النار أي يحيطون به ويجعلون حوله حلقة (أليس كنت تأمرنا بالمعروف) اسم ليس ضمير الشأن والحال وكان واسمها وخبرها خبر ليس وفي رواية للبخاري ألست والاستفهام إخباري وفيه معنى التعجب (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه) في رواية للبخاري كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله وفي رواية كنت آمركم بأمر وأخالفكم إلى غيره والمعروف اسم جامع لكل طاعة وإحسان -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن لا يفعل المعروف ويرتكب المنكر الذي ينهى عنه والحديث صريح في عذابه وعقوبته لكن هذه العقوبة لاجتماع الأمرين أو هي لعدم إتيان المعروف وبعبارة أخرى هل يأمر بالمعروف من لا يفعله وينهى عن المنكر من يقع فيه أو لا يأمر ولا ينهى ما دام غير ممتثل قال بعض العلماء لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة وهذا تعطيل لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسد لبابه فمن المتعذر خلو الإنسان من خطيئة والحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ولو كان الآمر متلبسا بالمعصية لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إذا كان مطاعا وأما إثمه الخاص به فشيء آخر قد يؤاخذه الله به وقد يغفره له وحديث من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه يؤيد هذا الرأي فإنه لم يعلق الأمر على أن يكون الآمر ممتثلا فهما واجبان كل منهما مطلوب لذاته وإن وجدت صلة بينهما من حيث التأثير والتأثر

لذا قال جماعة من الناس يجب على متعاطي الكأس أن ينهى جماعة الجلاس -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - بعض صفات النار وأنها مخلوقة 2 - عظم شأن العمل والامتثال قبل الأمر بالمعروف وأنه ينبغي لمن يأمر بالمعروف أن يكون عاملا بما يأمر به 3 - أن العقوبة مشابهة للعمل 4 - أن أهل المعاصي يتعارفون في النار قال الطبري فإن قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في النار فالجواب أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذبوا بمعصيتهم وعذب أميرهم بأنه كان يفعل ما ينهاهم عنه 39 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استجنح أو كان جنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا

ذهب ساعة من العشاء فحلوهم وأغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا -[المعنى العام]- خمسة من الأوامر تنفع المرء في دنياه والدنيا مزرعة الآخرة أولها حفظ الصبيان في الليل والليل موحش مخيف يكثر الشر فيه عن النهار فظلمته تساعد الحشرات والزواحف على الأذى دون أن ترى وتخفي عن الماشي الحفر والأشواك والأوحال وتبعث في النفس رهبا ورعبا سواء في سكونه أو أية حركة تصدر والصبية في سن تكثر فيه الأوهام والمخاوف ويسبح فيها الخيال مذاهب شتى وتقل فيها الخبرة والدراية والحكمة، لكل هذا أمر الآباء بكف الصبيان عن الخروج ليلا إلى الصحاري والأماكن الموحشة حماية لهم من أخطار شياطين الإنس والجن وثاني الأوامر إغلاق الأبواب فالباب المغلق على صاحبه يجعله أكثر أمنا وإذا ذكر اسم الله حين الإغلاق زاده الله حفظا الأمر الثالث إطفاء المصباح عند النوم وبخاصة إذا كان من نوع الفتيلة التي تتعرض للاشتعال أو للسقوط أو كان من نوع الغاز المضغوط الذي قد يتعرض للانفجار ومثل المصباح في الأمر بإطفائه النار والهدف تأمين النائم ليلا من أخطار محتملة لا يدركها النائم ولا ينتبه لإزالتها وعلاجها في أول أمرها فإذا أضيف ذكر اسم الله عند الإطفاء كان متخذا الأسباب العادية متوكلا على ربه الأمر الرابع تغطية أوعية الشراب لحماية ما فيها من سقوط الهوام والأتربة والجراثيم الملوثة مع الاستعانة بتسمية الله أما خامس الأوامر فهو تغطية أواني الطعام لحمايتها مما نحمي منه

الشراب مع الاستعانة أيضا بذكر الله تعالى وبهذا نأخذ في أسباب الحفظ العادية ولا ننسى أن الأمور كلها بيد الله عملا بالحديث الشريف اعقلها وتوكل -[المباحث العربية]- (إذا استجنح الليل) أي إذا أظلم يقال جنح الليل بجنح جنوحا وجنحا إذا أظلم ويقال إذا أقبل ظلامه وأصل الجنح الميل لذا قيل جنح الليل أول ما يظلم (أو كان جنح الليل) شك من الراوي في أي اللفظتين صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هنا تامة بمعنى وجد (فكفوا صبيانكم) الأمر للأولياء ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أحادا أي ليكف كل ولي صبيه عن الخروج إلى الصحاري والجبال والأماكن الموحشة وكانت بيوتهم قريبة من الفيافي والقفار وفي رواية فاكفتوا صبيانكم أي ضموهم إليكم وامنعوهم من الانتشار قال تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} أي كافتة وضامة أحياء وأمواتا (فإن الشياطين تنتشر حينئذ) التنوين عوض عن المضاف إليه أي حين يظلم الليل والمراد من الشياطين مردة الإنس والجن (فإذا ذهب ساعة من العشاء فحلوهم) بضم الحاء وضم اللام المشددة أي حلوا عقالهم وضمهم فإنهم لن يخرجوا وحدهم في وسط الليل حيث منعوا وأنذروا في أوله وفي رواية كثيرين فخلوهم بخاء مفتوحة أي تخلوا عن حراستهم وتخويفهم (وأغلق بابك) أي باب بيتك وباب حجرتك يقال أغلقت الباب فالباب مغلق ولا يقال مغلوق والخطاب لمن يتأتى خطابه فكأنه قال وأغلق يا من تصلح مخاطبا في كل زمان ومكان فهو في معنى الجمع

فالأمر في فكفوا للجميع وفي أغلق للجميع والتنوع في الأسلوب (وأوك سقاءك) الوكاء اسم للخيط الذي يربط به فم القربة وأوك أمر من الإيكاء يقال أوكى السقاء ربطه وشد فمه والسقاء إناء السقي والمراد هنا القربة ونحوها لأنها التي تشد وتربط (وخمر إناءك) يعم إناء الطعام والشراب وغيرها يقال خمرت الإناء أي غطيته ومنه خمار المرأة لأنه يسترها (ولو تعرض عليه شيئا) تعرض بفتح التاء وضم الراء وأجاز بعضهم كسر الراء وهو مأخوذ من العرض مقابل الطول والمراد تجعل شيئا على عرض الإناء وفي رواية للبخاري ولو أن تعرض عليه عودا أي تجعل العود عليه بالعرض والمعنى أن تغطي الإناء فإن لم تجد ما تغطيه به فلا أقل من أن تضع شيئا على عرضه أما ماذا يفيد العود فيأتي توجيهه في فقه الحديث -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى خمس نقاط يجمعها الحفظ والوقاية من الضرر وهي حفظ الصبيان ليلا وإغلاق الباب وإطفاء المصباح وربط فم السقاء وتغطية الإناء 1 - أما كف الصبيان عن الخروج والانتشار ليلا فقد قال ابن الجوزي إنما خيف على الصبيان في تلك الساعة لأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالبا والذكر الذي يحذر منه الشياطين مفقود من الصبيان غالبا والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به فلذا خيف على الصبيان في ذلك الوقت أهـ وفي هذا الكلام نظر لأن الصبيان التي ذكرها هي حالتهم ليلا ونهارا ولو أمكن للشيطان أن يعبث بهم لهذا لعبث بهم نهارا وفي بيوتهم ليلا إذا خلوا في حجرة أو في محل الخلاء ثم إن انتشار الشياطين من

الجن في أول الليل دون ما بعد ساعة من أوله أمر غير معقول المعنى حتى يمنع الصبيان ساعة ثم يصرح لهم بعدها بالخروج والانتشار مع أن الخطورة المعقولة تشتد كلما تأخر الليل والذي تستريح إليه النفس أن شيطان الجن بإغوائه يستغل الليل ليوسوس إلى الإنسان ويسبح بخياله لهذا الإغواء من الكبار ثم هم في النهار مشغولون مع آبائهم في العمل أو في التعليم ووقت فراغهم هو أول الليل فحرصت الشريعة على حمايتهم وصيانتهم فترة فراغهم والمقصود أنهم لا يخرجون إلى الفيافي والقفار والأماكن الخالية والمهجورة وليس المنع عن مطلق الخروج ولو لمصلحة ولعل الحديث سيق لبيئة خاصة وظروف خاصة يخشى على صبيانهم في وقت معين لكثرة وقوع الشرور فيه دون ما بعده ثم إن هذه البيئة كانت تقضي الحاجة في الخلاء إذ لم يكن عندهم كنف فكان الإذن للصبيان بالخروج قبل النوم لقضاء الحاجة 2 - وأما إغلاق الأبواب فقد ترجم له البخاري بباب إغلاق الأبواب بالليل وقيد الليل هنا لما أنه أكثر حاجة للوقاية والأمن من النهار فهو وقت النوم والغفلة التي تمكن اللصوص وأهل الفساد من الإفساد وهذا لا يمنع من طلب إغلاق الأبواب نهارا إذا استدعى الأمر ذلك وقد جاء في الحديث فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا قال الحافظ ابن حجر ففيه إشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان أهـ وقال ابن دقيق العيد يحتمل أن يؤخذ قوله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا على عمومه فيشمل الباب الذي ذكر اسم الله عند إغلاقه والذي لم يذكر ويحتمل أن يخص بما ذكر اسم الله عليه ثم قال والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج فأما الشيطان الذي كان داخلا فلا يدل الخبر على خروجه قال فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا رفعها ويحتمل

أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين أهـ وفي هذا الكلام نظر فمن المعلوم أن الشياطين لا تحجبها الأبواب ولا تحتاج لفتح الأبواب وإذا كان الأثر لذكر الله فهو يمنع دخولها مع فتح الباب كما يمنع قربه من المؤذن مثلا والذي تستريح إليه النفس أن المقصود بإغلاق الأبواب تأمين الداخل من اقتحام أهل الشر من بني آدم بإغواء الشيطان ثم إن الشيطان هو المتمرد من الإنس والجن وشيطان الإنس لا يفتح بابا مغلقا بسهولة لكنه يدخل من الباب المفتوح بيسر وخفة فإذا انضم إلى الإغلاق ذكر الله تعالى كان الحفظ إن شاء الله وكان الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله 3 - وأما إطفاء المصباح ففي رواية البخاري في باب غلق الأبواب من كتاب الاستئذان أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم وفي باب (لا تترك النار في البيت عند النوم) وأطفئوا المصابيح فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت وهذا الحديث يشير إلى حديث رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا نمتم فأطفئوا سراجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم قال ابن دقيق العيد إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليه الفأرة لا يمنع إيقاده قال وأما ورود الأمر بإطفاء النار مطلقا فقد يتطرق منه مفسدة أخرى غير جر الفتيلة كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت فيحرقه فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك فإذا استوثق بحيث يؤمن معه الإحراق فيزول الحكم بزوال علته وقال القرطبي إن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه

أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق فإن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوما 4 - وأما ربط القربة ومثله تغطية أواني الشراب بعامة فهو لحماية الشراب من التلوث بما يملأ الجو من الأتربة والهوام والجراثيم ونحوها 5 - ومثله تغطية إناء الطعام وقد جعل الحديث حدا أدنى لتغطيته وهو وضع عود على عرضه فإن قيل فماذا يدفع العود وعن أي شيء يحمي أجيب بأنه يمنع سقوط الأشياء الكبيرة وما لا يدرك كله لا يترك كله على أن مباشرة التغطية تقتضي التسمية فيكون العود مذكرا ومعينا على التسمية وقد اختلف العلماء في هذه الأوامر هل هي للإرشاد لأنها لمصالح دنيوية فجزم النووي بذلك ومعناه أنه لا يثاب على فعلها إلا إذا قصد اتباع الأمر وتعقب أنه يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره وقال القرطبي من فرط في هذه الأوامر كان للسنة مخالفا ولأدائها تاركا والتحقيق قول الحافظ ابن حجر وهذه الأوامر تتنوع بحسب مقاصدها فمنها ما يحمل على الندب وهو التسمية على كل حال ومنها ما يحمل على الندب والإرشاد معا كإغلاق الأبواب وإيكاء السقاء وتخمير الأواني والله أعلم

40 - عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد فقالوا له إن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله من الشيطان فقال وهل بي جنون -[المعنى العام]- الغضب انفعال نفسي يهيجه الشيطان وينفخ في ناره يحرك القلب ويثير فيه الدم فينقبض أحيانا فترى صفرة الوجه وتصلب العين ويضطرب ويندفع أحيانا فترى حمرة الوجه يصاحب ذلك رعشة في الجوارح غالبا وسيطرة على القوة المفكرة فيختل توازنها ويسوء السلوك والتصرف حتى يخيل لصاحبه حين يهدأ أنه لم يفعل ما فعل أو يتعجب من نفسه كيف حصل منه ما حصل والناس أمام قوة الغضب والصفو أربعة أصناف أحسنهم بطيء الغضب سريع الرضا وأقبحهم سريع الغضب بطيء الرضا وبين هذين سريع الغضب سريع الرضا وبطيء الغضب بطيء الرضا وخير علاج للغضب تغيير الحالة التي يكون عليها من تحرك للغضب إن كان واقفا قعد وإن كان قاعدا قام وتحرك إلى جهة أخرى مع شغل

الفكر بذكر الله بدلا من الانشغال بما أغضب أو يغضب وخير الذكر في هذه الحالة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فيطلب العون والحماية من ربه على شيطانه وقصة الحديث تتلخص في مجلس يجلسه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وفيهم معاذ بن جبل وعلى مقربة من مجلسهم كان رجلان يتناقشان وتطورت مناقشتهما إلى سباب سب كل منهما الآخر وكان أحدهما سريع الغضب قويه انتفخت أوداجه وعروق حلقه وارتعشت أعضاؤه وراح يتحفز لمقاتلة أخيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه يرى ويسمع فقال لجلسائه إني لأعلم كلمة لو قالها هذا الغضبان لزال عنه الغضب لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه هذا الانفعال وهدأ فقام معاذ بن جبل من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب للرجل المغضب وأسر إليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنك ما تجد وظن الرجل لجهله وغلظته أنه ظن أن به مسا من الشيطان فقال لمعاذ انصرف وابتعد فلست مجنونا وليس بي مس من الجن ولم يقبل النصيحة وأعانه الشيطان على رفضها فكان له قرينا ولم يجن من غضبه إلا ما تسوء عاقبته في الدنيا والآخرة -[المباحث العربية]- (عن سليمان بن صرد) بضم الصاد وفتح الراء صحابي مشهور قتل سنة خمس وستين من الهجرة وله ثلاث وتسعون سنة (ورجلان يستبان) أي يسب كل منهما الآخر ولم يقف المحدثون على اسميهما جريا على عادة الصحابة والتابعين في ستر وإغفال أسماء من يسيء (احمر وجهه وانتفخت أوداجه) في رواية مسلم تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه وفي رواية أحمد وأصحاب السنن من حديث معاذ حتى إنه ليخيل إلى أنفه ليتمرغ من الغضب وانتفاخ الأوداج كناية عن شدة الغضب ولكل

واحد ودجان فذكر الأوداج بالجمع على رأي من يجعل الجمع فوق الواحد أو لأن كل قطعة من الودج تسمى ودجا (ذهب عنه ما يجد) من وجد يجد وجدا وموجدة إذا غضب ويقال وجد يجد وجدانا إذا لقي ما يطلبه (فقالوا) في رواية للبخاري فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقال ... إلخ وفي رواية مسلم فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فالذي خاطبه واحد وهو معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود ولفظها قال فجعل معاذ يأمره فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا فالجمع هنا لرضى الحاضرين عن القول فأسند إلى الجمع (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله من الشيطان) هذه رواية بالمعنى فإنه صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ذلك وليس في الحديث أنه أمرهم أن يأمروه بذلك (وهل بي جنون) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي ليس بي جنون وفي رواية للبخاري أترى بي من بأس أمجنون أنا اذهب وكأنه توهم أن الاستعاذة مختصة بالمجانين. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر خليق بهذا الرجل أن يكون كافرا أو منافقا أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال وحتى زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب قال وقيل إنه من جفاة الأعراب وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان ولهذا يخرج به عن صورته ويزين إفساد ماله كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الإقدام على من أغضبه ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال أهـ -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - التحذير من السباب واللعن والتنفير منهما وقد ذكر البخاري الحديث تحت باب ما ينهى من السباب واللعن

2 - إن الغضب من الشيطان وإثارته وتزينيه فقد أخرج البخاري الحديث تحت باب صفة إبليس وجنوده 3 - كيد الشيطان وفي الحديث الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ وفي بعض الكتب قال الله تعالى ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت 41 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقول إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم} إلى قوله {الحكيم}

-[المعنى العام]- خلق الله الخلق من العدم وبدأ خلق الإنسان من طين من الأرض خلقه وفيها يعيده ومنها يخرجه تارة أخرى وإذا كانت القدرة المخلوقة تكون الإعادة أسهل عليها من البدء وإذا كانت العادة أن الخلق الأول أصعب من إعادة الخلق فإن قدرة الله تعالى لا يوصف شيء أمامها بأنه أصعب أو أسهل فخلق أشد المخلوقات حين يصور بكلمة كن فيكون وإذا كان الله تعالى خلق بني آدم في بطون أمهاتهم وكساهم بعد ولادتهم عرايا فإنه سيعيدهم عراة سيخرجهم من قبورهم بعد أن تآكلت أكفانهم وتناثرت عن رفاتهم سيخرجهم كما بدأهم حفاة عراة بل ويعيد إليهم ما قطع منهم في دنياهم من أجزاء جسمهم حتى الجلدة التي تقطع عند الختان تعود إليهم ينفخ في الصور فإذا الناس قيام ينظرون يحشرون إلى أرض غير الأرض أرض مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يجتمع الرجال والنساء جميعا عراة لا ينظر أحد سوأة الآخر تشغلهم أهوالهم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ويشغله عن أن ينظر إلى غيره يومئذ يستمعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام فقد ألقي في نار الدنيا عريانا فكانت عليه بردا وسلاما يكسى بحلة من الجنة ويليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تكون الشفاعة والحوض الذي يقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أمته لتشرب يعرفهم بسيماهم يعرفهم بالغرة والتحجيل بياض الجبهة ونورها وبياض الأطراف ونورها من أثر الوضوء ويعرف بعض أصحابه الذين يحال بينهم وبين الحوض تأخذهم ملائكة العذاب نحو النار فتأخذه رأفة بهم صلى الله عليه وسلم فينادي هؤلاء أصحابي فأين تذهبون بهم فيقال له إنك لا تعلم ما أحدثوا بعدك إذ ارتدوا وكفروا فيقتدي صلى الله عليه وسلم بأخيه عيسى عليه السلام ويقول: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}

-[المباحث العربية]- (إنكم تحشرون) الخطاب للصحابة ومن على شاكلتهم في الإنسانية فالمعنى أن الناس يحشرون كما جاء في البخاري يحشر الناس على ثلاث طرائق والحشر في الأصل مطلق الجمع وإذا أطلق الحشر في عرف الشرع يراد منه الحشر من القبور ما لم يخصه دليل (حفاة) دون نعال ودون خفاف جمع حاف وحفاة منصوب على الحال وفي رواية لمسلم حفاة مشاة (عراة) جمع عار أي لا ثياب عليكم (غرلا) بضم الغين وسكون الراء جمع أغرل وهو الأغلف وزنا ومعنى وهو من بقيت غرلته وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر (إنا كنا فاعلين) بادئين الخلق فمن السهل إعادته والإعادة أهون من البدء عادة (يؤخذ بهم ذات الشمال) أي بعيدا عني وعن حوضي إلى جهة النار (أصحابي أصحابي) أصحابي الثانية تأكيد للأولى والأولى خبر مبتدأ محذوف أي هؤلاء أصحابي فلم أخذ بهم ذات الشمال (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) أي من الوقت الذي فارقتهم فالكلام عن قوم مرتدين حين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ماتوا والارتداد على العقب كناية عن الرجوع إلى حالة أولى وهل المراد منها الكفر أو المعاصي؟ سيأتي في فقه الحديث (كما قال العبد الصالح) الأنبياء كلهم عباد صالحون والمراد هنا عيسى عليه السلام فالألف واللام للعهد والمعهود من قال هذا القول كما حكاه القرآن الكريم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم أي رقيبا أراقب أعمالهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر أو مشاهدا لأعمالهم فأسأل عنها

-[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى ثلاث نقاط أساسية صفة الناس في الحشر والآراء في نوعية الحشر المراد والجمع بين الأحاديث الثانية كسوة إبراهيم عليه السلام وسببها ووضع محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة لها الثالثة حال من يؤخذون ذات الشمال أما عن النقطة الأولى فقد قال القرطبي الحشر أربعة حشران في الدنيا وحشران في الآخرة فاللذان في الدنيا أحدهما المذكور في سورة الحشر {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} والثاني الحشر المذكور في أشراط الساعة الوارد في الحديث ولفظه أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب أي ومن المغرب إلى المشرق أي تجمع الناس من بقاع الأرض الحشر الثالث حشر الأموات من قبورهم بعد البعث جميعا إلى الموقف قال تعالى {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} الرابع حشرهم إلى الجنة أو النار أهـ وظاهر الحديث أنه في الحشر الثالث وظاهره أن جميع الأموات يخرجون من قبورهم إلى الموقف حفاة عراة مشاة لأن الحفاة لو كانوا راكبين لم يكن لذكر هذا الوصف أثر على أن لفظة مشاة واردة في الحديث الصحيح وهذا الظاهر يتعارض مع حديث البخاري يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير ويحشر بقيتهم إلى النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا كما يتعارض مع ما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان عن أبي سعيد أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها وقد جمع العلماء ورفعوا هذا الإشكال بعدة أجوبة تعتمد على اختلاف أحوال الناس أو على اختلاف الأوقات فذهب بعضهم إلى أن

الناس يحشر بعضهم عاريا وبعضهم كاسيا وبعضهم ماشيا وبعضهم راكبا وهذا الجمع بعيد لأن الخطاب لعموم الناس وأنهم سيكونون حفاة عراة وذهب بعضهم إلى أن الناس جميعا يخرجون من القبور حفاة عراة مشاة ثم تفترق حالهم ويمكن أن يقال إنهم يبعثون في الثياب التي يموتون فيها أو أن هذا حال الشهداء وبعض الخاصة وقد يرتبون ثم تتناثر عنهم ثيابهم وينزلون عن إبلهم ويصلون أرض المحشر حفاة عراة مشاة وأما عن النقطة الثانية فقد روى البيهقي أول من يكسى إبراهيم حلة من الجنة ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ويؤتى بي فأكسى حلة لا يقوم لها البشر ويقال إن الحكمة في هذه الخصوصية لإبراهيم أنه ألقي في النار عريانا وقيل لأنه أول من لبس السراويل وقد ثبت لإبراهيم عليه السلام أوليات أخرى منها أنه أول من أكرم الضيف وأول من قص الشارب وأول من اختتن وأول من رأى الشيب قال الحافظ ابن حجر ولا يلزم من خصوصية إبراهيم عليه السلام بأنه أول من يكسى تفضيله عن نبينا صلى الله عليه وسلم لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة ويمكن أن يقال لا يدخل محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك على القول بأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه وأما عن النقطة الثالثة فقد قيل عن الذين يؤخذون ذات الشمال إنهم أهل البدع والأهواء في الأزمنة المتعاقبة ورد بأنه لا يقول عن هؤلاء أصحابي أصحابي ويؤكد هذا الرد ما رواه أحمد والطبراني ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني وقال بعضهم يحتمل أن يكونوا أهل الكبائر وأن المراد من الردة الردة عن الاستقامة فيشمل العصاة وهو مردود أيضا إذ لا يليق هذا الوصف بالصحابة فإن كان المراد من بعدهم رد بالرد الأول والأولى حملهم على المنافقين أو على الذين ارتدوا في عهد أبي بكر فقاتلهم حتى قتلهم على كفرهم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إثبات الحشر وبعض صفاته

2 - إثبات البعث وأنه إعادة لبدء الخلق 3 - فضيلة ظاهرة لإبراهيم عليه السلام 4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم أحوال العصاة من أمته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فإن قيل جاء في الحديث أن أعمال أمته تعرض عليه بعد وفاته فكيف خفي عليه أحوالهم أجيب باحتمال أن الذي يعرض عليه أعمال الموحدين لا المرتدين ولا المنافقين أو بأنه لا يلزم أن يكون العرض تفصيليا أو بأنه لا يلزم أن يكون العرض لكل الناس من أمته فقد يحجب عنه صلى الله عليه وسلم أعمال بعض الأفراد والله أعلم

42 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن أحق من إبراهيم إذ قال {رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي -[المعنى العام]- نزلت آيات من القرآن توهم أن إبراهيم عليه السلام شك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وأن لوطا عليه السلام في شدته لم يلتجئ إلى ربه وأن يوسف عليه السلام لم يصبر على قضاء الله وأنه التجأ إلى عبد من عباد الله بدلا من أن يصبر ويلتجئ إلى الله وداخل قلوب بعض الصحابة أن إبراهيم شك في البعث ولم يشك نبينا وأن لوطا لم يلتجئ إلى الله والتجأ إلى الله وحده نبينا وأن يوسف لم يصبر على السجن وصبر على الحصار وعلى الأذى نبينا فكانت اللفتة النبوية الكريمة وكان الأدب النبوي الحسن وكان الدفاع عن الأنبياء من هذه الشبه يقول محمد صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى ولو كان الشك يمكن أن يتطرق إليه لتطرق إلينا فقد كان قوي الإيمان وكان خليل الرحمن وكان يهدف إلى أن يصل إلى عين اليقين برؤية إحياء الموتى بعد أن وصل إلى علم اليقين بالأدلة والبراهين وأن لوطا عليه السلام كان يأوي إلى الله ويلتجئ إليه وإن قال لقومه لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فقد كان يعتذر إلى قومه بما يفهمون ويدركون ويضمر في قلبه ما لا يدركون من الالتجاء إلى الله وأن يوسف عليه السلام من كبار الصابرين المحتسبين المؤمنين بالله والمعتمدين عليه بدليل أنه لم يبادر بالخروج ولم يبادر بإجابة الداعي له لمقابلة الملك ولو كنت مكانه لأسرعت بإجابة الداعي والخروج من

السجن فصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين -[المباحث العربية]- (نحن أحق من إبراهيم) ضمير نحن للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم وحده معظما نفسه والمراد نحن أحق بالشك كما صرح به في رواية أخرى وصح أن يراد به نحن معشر الأنبياء وقيل أنه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من الشك هنا الخواطر التي تطرأ على اليقين فلا تثبت ولا تؤثر فيه وليس المراد الشك الاصطلاحي بمعنى التوقف بين أمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر وأحق أفعل تفضيل يمكن أن تكون على غير بابها وأن المراد بها نفي المعنى عن الأمرين كقوله تعالى {أهم خير أم قوم تبع} أي لا خير في الفريقين وهنا لا شك عندنا ولا عند إبراهيم عليه السلام وسيأتي توضيح المراد من الجملة في فقه الحديث (إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى) إذ ظرف لما مضى من الزمان أي الشك الواقع حين قال إلخ والمراد الرؤية البصرية وكيف يستفهم بها عن الحال والصفة فالاستفهام عن الكيفية والتفصيل لا عن أصل إحياء الموتى فهو مقرر لا يسأل عنه (أو لم تؤمن) الواو عاطفة على محذوف والاستفهام للتقرير والتقدير أشككت ولم تؤمن بإحيائي الموتى وقدرتي على ذلك فمتعلق الإيمان محذوف ويمكن أن يكون أو لم تؤمن بأنني قادر على أية كيفية فلا تسأل عن الكيفية (بلى) جواب بعد نفي وهي لتقرير ما بعد النفي وإثباته أي بلى آمنت (ولكن ليطمئن قلبي) الجار والمجرور متعلق بمحذوف مفهوم من

المقام أي ولكن أطلب ما أطلب ليطمئن قلبي والمراد من اطمئنان قلبه زيادة الاطمئنان حيث أن قلبه مطمئن بالإيمان (ويرحم الله لوطا) في رواية للبخاري يغفر الله للوط والدعاء بالرحمة قد لا يراد بها استحقاق العذاب ليرحم والدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجود ذنب ليغفر بل الكلام قد يكون على الفرض والتقدير أي يغفر الله له إن كان وقدر له ذنب ويرحمه الله على فرض استحقاقه لعذاب وقد يكون الكلام مرادا به مطلق الدعاء من قبيل الدعاء الذي جرى على ألسنتهم وقد يراد بالذنب خلاف الأولى كما قيل في تفسير قوله تعالى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (لقد كان يأوي إلى ركن شديد) هذا رد على ما يوهمه قول لوط لقومه {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} فهو يوهم أن لوطا لم يأو إلى الله في الشدة فإن لو حرف لامتناع الجواب بسبب امتناع الشرط وجوابها في الآية أي لرددتكم فامتنع رده لقومه عن ضيوفه لامتناع إيوائه إلى ركن شديد فأثبت الحديث أنه كان يأوي إلى الله لكن المنفي والممتنع أنه كان يأوي ويتمنع بعشيرته وسيأتي مزيد إيضاح في فقه الحديث (طول ما لبث يوسف) أي المدة الطويلة التي قضاها يوسف في السجن وهي سبع سنين (لأجبت الداعي) أي لاستجبت وأسرعت بإجابة الداعي والخروج من السجن حيث جاءه رسول الملك يدعوه للخروج فلم يبادر بالخروج بل قال {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} فطلب البراءة قبل الخروج فأل في الداعي للعهد -[فقه الحديث]- ماذا حدث من الأنبياء الثلاثة عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام وما الهدف من سياق الحديث وكيف يتحقق هذا الهدف

الذي حصل من إبراهيم عليه السلام حكاه القرآن الكريم في الآية (260) من سورة البقرة {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك} (أي اضممهن إليك وتأكد باللمس والبصر أنهن أحياء يتحركن ثم اذبحهن وقطعهن أجزاء) {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} وواضح أن الله لم ير إبراهيم كيف أحيا الطير لم يره الكيفية إنما أراه طيرا حيا يطير ويسعى بعد أن كان أجزاء متفرقة فهل كان الذي رآه هو مطلبه وأنه أراد زيادة سكون قلبه بالمشاهدة لتنضم إلى العلم واعتقاد القلب لأن تظاهر الأدلة وتعددها أسكن للقلوب والعلوم تتفاوت في قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين وكان الذي رآه غير ما طلب على طريقة الأسلوب الحكيم أي لا ينبغي أن تسأل عن الكيفية فهي من اختصاص الله جل شأنه ولكن ينبغي أن تسأل عما أجيبك إليه وسواء أكان هذا أو ذاك فإن مطلب إبراهيم عليه السلام لا يستلزم أنه شك في القدرة الإلهية على الإحياء بكيفية ما وإنما الذي أشرب مطلبه معنى الشك قول الله تعالى {أولم تؤمن} أي أتشك ومن المعلوم أن السؤال عن الشيء أو إنكاره لا يستلزم حصوله بل ولا توقع حصوله يؤكد ذلك قوله تعالى {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ... } وعلى هذا فالحق والتحقيق قول من يقول إن إبراهيم لم يشك وإن الهدف من الحديث استبعاد أن يشك وأن المعنى إذا كنا لا نشك فإبراهيم لم يشك لأننا أولى بالشك منه لأن تطرق الشك إلينا أقرب من تطرقه إلى إبراهيم ومقصوده لا تتوهموا من الآية أن إبراهيم عليه السلام شك وأن نبيكم لم يشك فنبيكم خير من إبراهيم وعلى هذا لا نميل إلى ما حكاه

الطبري عن بعضهم: قال آخرون: شك إبراهيم في القدرة ولا إلى ما حكاه ابن عطية عن بعضهم بأنه دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ولا إلى قول ابن الجوزي إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث فقال أنا أحق أن أسأل ما سأل إبراهيم لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى ولمعرفتي بتفضيل الله لي ولا إلى أقوال أخرى ليست بشيء وأما الذي حصل من لوط عليه السلام فقد حكاه القرآن الكريم في الآيات الكريمات (78 - 79 - 80) من سورة هود {وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} فظاهر الآية أن لوطا يتحسر على ضعف قوته عن دفعهم ويتحسر على عدم إيوائه إلى ركن شديد وعدم استناده إلى ركن قوي يدفعهم مما يوهم أنه لم يلتجئ إلى الله والحديث يثبت أن لوطا عليه السلام كان يلتجئ إلى ركن شديد فإن كان مراد الحديث بالركن الشديد الله سبحانه وتعالى كان الهدف دفع الإيهام والتوهم أي أنه عليه السلام كان يضمر في نفسه اللجوء إلى الله ويعلن لهم ضعف مساندة عشيرته حيث قيل إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه وإن كان مراد الحديث بالركن الشديد عشيرته كان المعنى أن لوطا عليه السلام كان له في واقع الأمر سند وعشيرة يمكنه أن يأوي إليهم لكنه لم يأو إليهم فعلا وآوى إلى الله ومعنى الآية لو أنني آوي إلى عشيرتي لمنعتكم لكني لا آوي إليها وقيل في الآية أن أو بمعنى بل أي بل آوي إلى ركن شديد سواء أريد به الله تعالى أو عشيرته وأما ما حدث من يوسف عليه السلام فقد حكاه القرآن الكريم في الآية (50) من سورة يوسف {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} فالآية

ظاهرة في أن يوسف لم يبادر بإجابة الداعي للخروج من السجن فإذا لوحظ معها أن يوسف عليه السلام أمر الفتى الخارج من السجن أن يذكره عند الملك وأنه مسجون ظلما وأن القرآن الكريم حكاها في الآية (42) {وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين} إذا لوحظ ذلك ولوحظ ما رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث كانت الآية الأولى وحديثنا دفاعا عن يوسف وردا على ما توهمه الآية الثانية وحديث الطبراني من عدم صبر يوسف ومن لجوئه إلى غير الله فحوادث الأنبياء الثلاثة توهم اتهاما لكل منهم والحديث يبرئهم من هذا الاتهام بأسلوب من التواضع لم يعهد إلا من محمد صلى الله عليه وسلم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مدى تواضعه صلى الله عليه وسلم 2 - مدى دفاعه صلى الله عليه وسلم عن إخوانه الأنبياء عليهم السلام 3 - رفع إيهام اتهام الأنبياء الثلاثة عما يوهمه ظاهر ألفاظ القرآن خاصا بهم 4 - استحباب الدعاء لمن سبق عند الحديث عنهم

43 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بني فلان قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لكم لا ترمون فقالوا يا رسول الله نرمي وأنت معهم قال ارموا وأنا معكم كلكم -[المعنى العام]- أعداء الإسلام في كل عصر يتربصون بالمسلمين وعلى المسلمين أن يأخذوا حذرهم وأن يستعدوا لمعاركهم بما يستطيعون من قوة قوة الجسم وقوة الآلات وقوة كيفية استخدام الآلات والتدريب عليها ومن هنا كان التدريب لازما لأية معركة قبل حدوثها وكان الحديث مصورا لحادثة من حوادث تدرب المسلمين على الرمي بالنبال والنبل معروف بصور مختلفة ومهمته إرسال قذيفة إلى مسافة بعيدة وكانت في حادثتنا سهاما تقذف بواسطة شد القوس والوتر والتدريب إنما يكون على مدى إصابة السهم للهدف مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على جماعة لا تصل إلى عشرة من شباب المسلمين في سوق وقد نصبوا هدفا يتبارون ويتسابقون في رميه بالنبال وإصابته والقائد الماهر يشجع التدريب إن لم يأمر به والقائد

المحبوب المتواضع يشترك معهم ويقف في وسطهم وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بينهم فرحا بهم مسرورا بنشاطهم ويقول لهم أحسنتم العمل أحسن الله إليكم استمروا في التدريب بهمة ونشاط يا أبناء البطل إسماعيل فإن أباكم إسماعيل كان يجيد الرمي وكان ماهرا فيه فاقتدوا به واقتفوا أثره استمروا في الرمي وسأشارككم إياه لكن كيف يشارك الفريقين في وقت واحد وكل فريق يسابق الآخر إذن لا بد أن يبدأ مع فريق ضد فريق وكان أن قال وأنا مع هذا الفريق وتوقف الفريق الآخر وألقى بنباله على الأرض قال لهم صلى الله عليه وسلم ما لكم توقفتم وألقيتم بنبالكم قالوا كيف نرمي وأنت معهم إن من كنت معه يغلب ولا يغلب وكيف نحاول أن نغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ناصره وكيف تتكافأ الفرص وتتوازن الفرق وأنت في جانب قال سأقف مؤيدا لكم جميعا متمنيا لكم السبق والفوز والإجادة جميعا ارموا وتسابقوا وأنا معكم جميعا ولكم جميعا -[المباحث العربية]- (مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر) في رواية للبخاري أنهم كانوا يتناضلون بالسوق والنفر الجماعة من ثلاثة إلى عشرة والظاهر أن كل فريق كان نفرا (من أسلم) على وزن أفعل التفضيل من السلامة قبيلة مشهورة أي من بني أسلم وينتسبون إلى أسلم بن أفصى (بالهمزة والفاء الساكنة والصاد المفتوحة) بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة وهذه القبيلة أصلها من اليمن (ينتضلون) أي يتسابقون بالرمي بالنبال فينصبون هدفا يرمونه بسهام على سبيل التسابق بين فريقين فيغلب الذي يصيب الهدف أكثر ويمكن أن يقع التسابق بين شخصين بعدد من الرمي (ارموا بني إسماعيل) أي استمروا في سباقكم ورميكم وزيدوا من

التدريب على إصابة الهدف وبني إسماعيل منادى حذف منه حرف النداء وفي كون بني أسلم من إسماعيل كلام كثير نعرض بعضه في فقه الحديث (فإن أباكم كان راميا) يقصد أباهم إسماعيل عليه السلام (وأنا مع بني فلان) أرمي مع فريقهم أو معهم بالتشجيع والتأييد والقصد إلى الفوز وجاء عند ابن حبان والبزار في هذه القصة وأنا مع ابن الأدرع وعند الطبراني وأنا مع محجن بن الأدرع (فأمسك أحد الفريقين) أي الفريق المقابل للفريق الذي انضم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أمسكوا عن الرمي وتوقفوا وفي بعض الروايات أنهم ألقوا القوس من أيديهم (ما لكم لا ترمون) ما اسم استفهام مبتدأ والجار والمجرور خبره وجملة لا ترمون في موقع الحال والتقدير أي شيء حصل لكم حالة امتناعكم عن الرمي والخطاب للفريق الذي أمسك عن الرمي (نرمي وأنت معهم) الكلام على الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي أي لا نرمي وأنت معهم (ارموا وأنا معكم كلكم) الخطاب في ارموا للفريق الممتنع والخطاب في معكم للفريقين ورفع إيهام كون الخطاب فيه للفريقين الممتنع أيضا بالتأكيد بلفظ كلكم تأكيدا للضمير في معكم -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب التحريض على الرمي من كتاب الجهاد وأتبعه بذكر الآية الكريمة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} يلمح بما جاء في تفسير القوة في هذه الآية بأنها الرمي قال الحافظ ابن حجر وهذا التفسير عند مسلم من حديث عقبة بن عامر ولفظه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ثلاثا قال القرطبي إنما فسر القوة بالرمي وإن كانت

القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو وأسهل مؤنة لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فينهزم من خلفه أهـ كما ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب نسبة اليمن إلى إسماعيل من كتاب المناقب وأتبعه بقوله منهم أسلم بن أفصى بن حارثة إلخ وقد أفاض الحافظ ابن حجر في هذه المسألة وقال مع الاختصار الشديد نسبة مضر وربيعة إلى إسماعيل متفق عليها وأما اليمن فجماع نسبهم ينتهي إلى قحطان واختلف في نسبه والأكثر أنه من أبناء سام بن نوح وقيل من ولد هود عليه السلام وهو والد العرب المتعربة وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة قال وزعم الزبير بن بكار أن قحطان من ذرية إسماعيل وهو ظاهر قول أبي هريرة في قصة هاجر ثم انتقد الحافظ ابن حجر إشارة البخاري واستدلاله بالحديث على نسبة اليمن إلى إسماعيل فقال وأراد المصنف أن نسب حارثة بن عمرو متصل باليمن وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل فدل على أن اليمن من بني إسماعيل وفي هذا الاستدلال نظر لأنه لا يلزم من كون بني أسلم من بني إسماعيل أن يكون جميع من ينسب إلى قحطان من بني إسماعيل ثم نقل عن المهراني أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لبني أسلم "يا بني إسماعيل" لا يدل على أنهم من ولد إسماعيل من جهة الآباء بل يحتمل أن يكون ذلك لكونهم من بني إسماعيل من جهة الأمهات لأن القحطانية والعدنانية قد اختلطوا بالمصاهرة فالقحطانية من بني إسماعيل من جهة الأمهات أهـ وكلام المهراني مردود لأن قولهم من بني فلان لم يعهد أن يراد به الأمهات بل المعهود به النسب والنسب دائما للآباء وكان الأولى لو أريد به الأمهات أن يقال من بنات فلان ومعنى هذا أن كون بني أسلم من بني إسماعيل ليس متفقا عليه وعلى القول بأنهم ليسوا من بني إسماعيل يمكن الإجابة عن الإشكال بأن المترامين كانوا من بني أسلم ومن غيرهم من بني إسماعيل والمعنى أنه مر بنفر من أسلم ومن غيرهم وأنه شجع بني إسماعيل على الرمي يرشح هذا الجواب ما ذكره ابن عبد البر في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بناس من

أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال ارموا بني إسماعيل فلعل من كان هناك من خزاعة كانوا أكثر فقال ذلك على سبيل التغليب -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية التسابق في الرمي ونحوه من الأمور المشروعة التي تخدم الدين أو الوطن أو الصحة كالرياضة وغيرها ولم يتعرض الحديث لمكافأة الفائز لكن الفقهاء قالوا إن كانت المكافأة للفائز مدفوعة من الطرفين لا يجوز لأنها كالرهان تشتمل على الغرر وإن كانت مدفوعة من أحدهما أو من طرف ثالث جاز 2 - أن التدرب على السلاح بأنواعه والاستعداد للقتال وأخذ الحذر وبناء القوة مطلوب شرعا ولا يخفى أن الرمي مثل من أمثلة الأسلحة القديمة يحل محله المدافع بعيدة المدى وقاذفات القنابل ونحوها من الأسلحة الحديثة فما ورد فيه من حث وترغيب يقال في أمثاله ومن ذلك ما جاء عند أبي داود وابن حبان عن عتبة بن عامر مرفوعا إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثا الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله أي مناول السهام والنبال وفيه ومن ترك الرمي بعد علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها وعند مسلم من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو فقد عصى 3 - أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم له حيث أمسكوا خشية أن يغلب فريقه وإيمانهم بأن الله معه وناصره وأن من يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم يقوي بذلك ويشتد ويغلب فقد جاء عند الطبراني من كنت معه فقد غلب وعند ابن إسحاق لا نغلب من كنت معه 4 - إعزازهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم 5 - قال المهلب يستفاد من الحديث أن من صار السلطان عليه في جملة المناضلين له لا يتعرض له كما فعل هؤلاء القوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهـ وهو غير مسلم

6 - استدل البخاري بالحديث على أن اليمن من بني إسماعيل وفيه نظر لأنه استدلال بالأخص على الأعم 7 - وفيه أن الجد الأعلى سمي أبا 8 - والتنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضله حيث ذكر أن إسماعيل كان راميا 9 - وفيه تطييب قلوب الأبناء بمفاخر الآباء وندبهم إلى اتباع خصال الآباء المحمودة والعمل بمثلها 10 - وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم 11 - ومعرفته بأمور الحرب صلى الله عليه وسلم

44 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن -[المعنى العام]- في مقام ذم بني إسرائيل وذكر عجائبهم وما وقع منهم من انحراف عن شريعتهم وفي مقام تحذير الصحابة ومن بعدهم من أن يحذوا حذوهم ويقلدوهم في بدعهم يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته مما سيقع منهم يحذر الكثرة مما ستقع فيه القلة يحذر من التقليد الأعمى يحذر من الأضواء الكاذبة ومن إلباس الحق بالباطل ومن تزيين المفاسد يحذر من الاتباع في الابتداع ويخبر بما سيقع في آخر الزمان للمسلمين وأنهم سيضيعون العزة والكرامة وسيشعرون بالذلة والهوان والنقص وسيجعلون اليهود والنصارى سادة لهم يرفعون إليهم أبصارهم والنفس مولعة بتقليد الأعلى فيسلكون مسلكهم ويحاكونهم في سوآتهم ونقائصهم حتى لو سلكوا أقبح المسالك وأضيقها حاكوهم واتبعوهم وفعلوا مثلهم وقد حصل الكثير من هذا في زماننا والعياذ بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم -[المباحث العربية]- (لتتبعن) اللام في جواب قسم محذوف والخطاب لأمة الإجابة الإسلامية والعين في لتتبعن مضمومة والنون مشددة للتأكيد (سنن) بفتح السين والنون أي طريق (من قبلكم) أي الذين سبقوكم زمنا ممن لهم طريق سماوي والمقصودون أهل الكتاب اليهود والنصارى

(شبرا بشبر وذراعا بذراع) في رواية شبرا شبرا أو ذراعا ذراعا أي في القليل والكثير فالمقصود تمام المتابعة وكمال الاقتداء أما فيهم المتابعة المنكرة المقصودة فسيأتي في فقه الحديث ونصب شبرا على أنه حال جامدة مؤولة بالمشتق تقيد التشبيه في الاتباع (حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) الجحر بضم الجيم وسكون الحاء والضب بفتح الضاد وتشديد الباء دابة صغيرة الحجم جبلية المسكن وجحرها مثل في الضيق والتعريج والرداءة فالكلام مبالغة في تمام المتابعة ووصول بها إلى فرض المستحيل (اليهود والنصارى) مفعول به لفعل محذوف والتقدير أتعني اليهود والنصارى والاستفهام حقيقي (فمن) اسم استفهام مبتدأ محذوف الخبر أي فمن أعني غيرهم والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أعني غيرهم -[فقه الحديث]- قال ابن بطال أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم وقال القاضي عياض تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه أهـ وواضح من التمثيل بجحر الضب أن الحديث في المنكرات والقبائح والمسالك المتعرجة الرديئة واضح من قصد اليهود والنصارى أن الاتباع المعني إنما هو في الأمور الدينية فيؤول الإنكار إلى اتباع اليهود والنصارى في انحرافهم عن الطريق المستقيم وسلوكهم السلوك القبيح والقصد من هذا الإنكار التحذير مما سيقع من الشر والبعد عن الدين وهو وإن كان بعيدا عن المخاطبين لن يحصل في زمنهم لكنه تخويف لهم وإيقاظ وتحذير لمن بعدهم

وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة إذ أخبر صلى الله عليه وسلم بما سيقع في آخر الزمان وقد وقع الكثير من ذلك في زمننا والعياذ بالله فقد كان نساء بني إسرائيل يرتفعن بالأحذية عن الأرض يستشرفن للرجال وانتشر في زمننا الكعب العالي وكن يلبسن الضيق والقصير والمزركش ويتجملن لغير الأزواج ودخل نساؤنا هذا الجحر الضيق في كثير من بلاد الإسلام وقلد الكثيرون من الرجال رجال الغرب في لبس الضيق وحلق اللحية وتزجيج الحواجب والتثني والتكسر وفي شرب السجائر بل وفي الأكل بالشمال بالإضافة إلى خسة التعامل بالربا والتهاون بالفاحشة وضعف الغيرة على النساء وفي هذا الحديث ذم وتسجيل على اليهود والنصارى أنهم انحرفوا عن دينهم القويم وابتعدوا عن الطريق المستقيم وفي هذا الحديث تحذير من التقليد الأعمى ودعوة للبعد عن الاتباع في الابتداع البعيد عن المصلحة الدينية والدنيوية وفيه التمثيل بالمحسوسات لتقريب المعاني إلى الأفهام

45 - عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار -[المعنى العام]- نتيجة لتحريف التوراة والإنجيل ونتيجة لانقطاع أسانيد الأخبار الإسرائيلية كانت الثقة فيما روي عن أحوالهم ضعيفة إلا أن يأتي الخبر عن طريق المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم ولما كانت الأعاجيب قد حدثت ووقعت في بني إسرائيل كانت أخبارهم عجبا لا يكاد العاقل يصدقها من هنا تلازمت أمور ثلاثة الإيمان بما يرد عن الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم من أخبارهم ومن غيرها ووجوب تبليغ ما يصدر عنه لمن لم يعلمه الثاني التحديث بما حدث به عن بني إسرائيل من غير حرج مهما كان الخبر غريبا الثالث الالتزام بالنقل الصحيح والصدق فيما يسند إليه صلى الله عليه وسلم من أخبار بني إسرائيل وغيرها والتحذير من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وادعاء أنه قال ما لم يقل أو نفي القول عنه مع العلم بثبوته عن هذه الأمور الثلاثة يتحدث صلى الله عليه وسلم فيأمر قومه وأصحابه بلغوا من وراءكم وانقلوا عنا ولو خبرا صغيرا ولو آية نزلت أو علامة وحكما شرعيا جد إذا حدثتكم عن بني إسرائيل وأحوالهم فحدثوا بما حدثتكم به من غير حرج وما لم أحدثكم به عنهم وعلمتم كذبه فلا تحدثوا به أما ما لم تعلموا كذبه من أخبارهم فحدثوا به ولا تصدقوه ولا تكذبوه لا تصدقوه لكثرة ما أسند عنهم من أكاذيب ولا تكذبوه لوقوع الغرائب فيهم واحذروا أيها المسلمون من الكذب على محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن من كذب عليه متعمدا أعد له مكان ومقر في النار -[المباحث العربية]- (بلغوا عني) الخطاب للصحابة ويقاس عليهم من في حكمهم وليس

الأمر للجميع فيجب التبليغ على كل فرد بل الأمر للمجموع فيجب على البعض في الجملة وهو ما يسمى بفرض الكفاية ومفعولا بلغوا محذوفان أي بلغوا من وراءكم شيئا مما تسمعون مني (ولو آية) آية خبر كان المحذوفة مع اسمها أي ولو كان المبلغ آية واحدة وهذا التعبير يشعر بالقلة والآية في اللغة تطلق على المعجزة وعلى العلامة وعلى العبرة وعلى البرهان والدليل والآية من القرآن معروفة وهل المراد هنا الآية القرآنية أو ما يعمها من حيث المعنى اللغوي أي بلغوا عني ولو علامة وجزئية من جزئيات الشريعة الظاهر الثاني (وحدثوا عن بني إسرائيل) أي عن أخبارهم وأعاجيبهم وبنو إسرائيل قد يراد بهم أبناء يعقوب أخوة يوسف فإسرائيل اسم ليعقوب عليه السلام وقد يراد ذريتهم إلى النبي موسى وعيسى عليهما السلام ولهذا البحث تتمة في فقه الحديث (ولا حرج) أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم فخبر لا محذوف أي لا منع من التحديث عنهم من جهة الشرع بعد أن كان قد نهى عن التحديث عنهم وقيل المعنى لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب وقيل لا حرج عليكم في عدم التحديث أي حدثوا ولا حرج عليكم أن لا تحدثوا أي حدثوا أو لا تحدثوا لكم الخيار وبقية التوضيح في فقه الحديث (فليتبوأ مقعده من النار) اللام لام الأمر يقال تبوأ المكان إذا اتخذه مقرا والمقعد مكان القعود أي ليتخذ لقعوده وإقامته يوم القيامة مكانا في النار فلفظ من بمعنى في -[فقه الحديث]- لا شك أن الشريعة الإسلامية لا تصل إلى المكلفين إلا عن طريق تبليغ السامع لغير السامع ورب مبلغ أوعى من سامع فكان تبليغ الوحي

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبا على الصحابة الذين تلقوه وواجبا على من يسمع منهم وهكذا إلى آخر الزمان فالكل يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بوسائل متعددة وهل يجب على كل فرد أن يبلغ شيئا ولو قل فيكون التبليغ فرض عين أو التبليغ واجب في الجملة على سبيل فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الإثم والطلب عن الباقين الذي أميل إليه أن تبليغ القليل أو أقل القليل واجب عيني أما الواجب على الكفاية فهو تبليغ الكثير تبليغ العلم والشريعة بكمياتها وعلومها المختلفة ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه لزم الاحتراز والتحذير من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم كأنه يقول بلغوا وتحروا الصدق في التبليغ وإياكم والكذب علي في تبليغكم وقد اتفق العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من الكبائر بل بالغ الإمام الجويني فحكم بكفر من كذب متعمدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهل من قال من الكرامية وبعض المتزهدة بأن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يجوز فيما يتعلق بتقوية أمر الدين وفي الترغيب والترهيب وتأولوا فقالوا فرق بين من كذب عليه ومن كذب له فمن قوى الدين بما لم يقله صلى الله عليه وسلم فقد كذب له كمن وضع أحاديث ترغيب في قراءة القرآن أو في جزاء الأعمال الصالحات والوعيد في الكذب عليه وهذا التأويل باطل ومردود فالشريعة الإسلامية قوية ولا تحتاج إلى تقوية بالكذب والكذب عدم مطابقة الخبر للواقع على الإطلاق أما التحديث عن بني إسرائيل بما لم تتأكد صحته فقد ورد أولا النهي عنه لعدم الإفراط في قصصهم وأعاجيبهم ثم ضعف صلى الله عليه وسلم الاعتماد على الأخبار التي تنقل عنهم لانقطاع السند واحتمال الكذب فأشار بعدم تصديق ما نسمع عنهم وبعدم تكذيبه إذا أتاكم عن بني إسرائيل شيء فلا تصدقوه ولا تكذبوه لا تصدقوه لكثرة ما نسب إليهم من الأكاذيب ولا تكذبوه لكثرة ما وقع فيهم من الأعاجيب

وفي هذا الحديث يأمر بالتحديث عنهم قال الحافظ ابن حجر وكان النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار قال الإمام مالك المراد جواز التحديث عنهم بما كان من أمر حسن وأما ما علم كذبه فلا أهـ والإشكال في التحديث عنهم بما يعلم صدقه ولم يعلم كذبه أما ما علم صدقه من شريعتنا فلا إشكال في جواز التحديث به وما علم كذبه لا إشكال في النهي عن التحديث به ولهذا يقول الشافعي من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحديث بالكذب أهـ أما ما لم يعلم صدقه ولا كذبه فالجمهور على جواز التحدث عنهم به بأية صورة وقعت سواء باتصال أو بانقطاع بخلاف الأحكام الإسلامية فيصير المعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه والله أعلم 46 - عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله تعالى بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة

-[المعنى العام]- الحياة هبة الله تعالى لذا ينبغي أن تترك الروح لخالقها يسلبها متى يريد ويحملها الآلام إذا شاء وقد حذر الإسلام من الإقدام على التخلص من الحياة مهما كانت بواعثه ومهما قست بالمرء نوائب الزمان فمن المعلوم أن هذه الدنيا دار شقاء وليس للمصائب والمتاعب إلا الرجال وأولو العزم أكثر الناس بلاء وبقدر تحمل الرجل لكبار الأرزاء تكبر رجولته وبقدر جزعه وانهياره أمام بعضها يظهر ضعفه وجبنه وقد علمتنا التجارب أن طريق السعادة مليء بالأشواك ومن أراد القمة تسلق الوعر وبالجهاد والصبر والتفويض يصل الإنسان ومن ظن أنه بانتحاره يتخلص من الآلام فهو واهم لأنه إنما يدفع بنفسه من ألم صغير إلى ألم كبير ومن ضجر محدود في زمن قصير إلى ضجر غير محدود في زمن طويل إن الذي يقدم على الانتحار غير راض بالقضاء محارب للقدر ساخط على مراد الله يائس من روح الله و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} من أجل هذا كانت عقوبته عند الله قاسية فمن قتل نفسه بحديدة أو ضرب نفسه برصاص أو طعن نفسه بسكين أعد الله له حديدة أو رصاصا أو سكينا من نار يطعن بها نفسه في جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا حدثنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى في الجهاد الذي يظن أنه ميدان الجنة يخبرنا صلى الله عليه وسلم عن رجل قاتل الكفار ما ترك شاردة ولا واردة منهم يحدثنا أنه من أهل النار لأنه حين جرح وآلمه الجرح أجهز على نفسه بغرز سيفه بين ثدييه حتى خرج من ظهره وفي هذا الحديث يذكر صلى الله عليه وسلم حادثة مشابهة وقعت في بني إسرائيل هي أن رجلا أصابته جراحة في يده فأهملها حتى تقيحت وازداد ألمها حتى ضعفت قوة الرجل وعزيمته أمام وجعها فقرر أن يتخلص من الحياة كلها ليستريح من قرحته فأخرج سهما من كنانته ونخس القرحة

نخسة شديدة لعله يفجر بها شريان يده فلم ينفجر فأخذ سكينا مرهفا وفي لحظة كشط القرحة ونفذ إلى الشريان الذي قذف بدمه فلم ينقطع الدم حتى مات الرجل فكان من أهل النار فيقول الله تعالى لملائكته عبدي هذا حرمت عليه الجنة لأنه بادرني بنفسه وسارع بإزهاق روحه ولم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي -[المباحث العربية]- (كان فيمن كان قبلكم) أي في بني إسرائيل (رجل) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمه (به جرح) بضم الجيم وسكون الراء أي بيده جرح وفي رواية خرجت به قرحة بفتح القاف وسكون الراء وفي رواية خرج برجل فيمن كان قبلكم خراج بضم الخاء وتخفيف الراء وهو القرحة وجمع بينها بأنه أصابه جرح ثم صار قرحة (فجزع) في رواية البخاري فلما آذته (فأخذ سكينا فحز بها يده) في رواية انتزع سهما من كنانته فنكأها أي نخسها وخرقها ويجمع بين الروايتين بأنه فجر الجرح بالسهم فلم ينفعه فحز موضعه بالسكين (فلما رقأ الدم) أي لم ينقطع يقال رقأ الدم والدمع يرقأ إذا سكن وانقطع (قال الله تعالى) أي لملائكته (بادرني عبدي بنفسه) أي بروحه أي سابقني وجاء أول وهو هنا كناية عن استعجاله الموت -[فقه الحديث]- لا خلاف في أن الإقدام على الانتحار حرام وهو كبيرة من أكبر

الكبائر مهما كانت الوسيلة ومهما كان الهدف وقد ذكرت بعض الأحاديث وسائل كانت شائعة معروفة آنذاك كمن قتل نفسه بحديدة ومن شرب سما فقتل نفسه ومن تردى من جبل والذي يخنق نفسه ولا شك أنه يقاس عليها من ألقى نفسه في البحر فغرق ومن أشعل في نفسه نارا فاحترق إلى غير ذلك من الوسائل الحديثة ولذا جاء في الحديث الصحيح ما يفيد التعميم ولفظه ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة وأهل السنة على أن قاتل نفسه لا يكفر ما لم يستحل ذلك وأنه لا يقطع له بالنار وإن مات من غير توبة بل هو في حكم المشيئة يجوز أن يعفو الله عنه ويجوز أن يعاقبه على ذنبه ومثله كل مرتكب لكبيرة غير الشرك والخوارج على أن قاتل نفسه وكل مرتكب لكبيرة من الكبائر كافر مخلد في النار محرم عليه الجنة والمعتزلة على أن قاتل نفسه وكل مرتكب لكبيرة من الكبائر ليس بكافر ولا بمؤمن وأنه في منزلة بين المنزلتين وأنه مخلد في النار محرم عليه الجنة وظاهر أحاديث قاتل نفسه الصحيحة والمتعددة وظاهر القرآن الكريم في قاتل النفس المؤمنة متعمدا مع المعتزلة فالله تعالى يقول في سورة النساء آية 93 {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} والأحاديث الصحيحة تقول من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا ... وحديث الباب لفظه قال الله تعالى بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة لذا كان على أهل السنة أن يجيبوا على هذه النصوص وأن يوجهوها بما يوافق مذهبهم في مقامين الأول في ألفاظ الخلود في النار والثاني في ألفاظ تحريم الجنة وقد أجابوا في المقام الأول بأجوبة منها

ذهب بعضهم إلى أن المراد خالدا مخلدا فيها إلى أن يشاء الله وهذا الرأي يضعفه التعبير بلفظ أبدا وقال بعضهم أن المراد بالخلود المكث الطويل لا حقيقة الدوام كأنه قال يخلد مدة معينة ويضعفه ما أضعف سابقه وقال بعضهم أن أحاديث الخلود وردت مورد الزجر والتغليظ وحقيقته غير مرادة وهذا الرأي ضعيف جدا لأنه يؤدي إلى أن الله يهدد ويخيف بما لا يقع وقال بعضهم إن المعنى أن هذا جزاؤه الأصلي لكن الله تكرم على الموحدين بإخراجهم من النار لتوحيدهم وحاصله أن هذا جزاء فعلي لغير الموحدين أما الموحدون فلن يقع لهم الخلود وهو مردود لعبارات الحديث الواضحة في وقوع هذا الجزاء وقيل إن أحاديث الخلود محمولة على من استحل هذا الفعل فإنه باستحلاله يصير كافرا والكافر مخلد في النار وقيل إن الجزاء المذكور هو الجزاء إن لم يتجاوز الله عنه والرأيان الأخيران أقرب الآراء إلى القبول وفي المقام الثاني في تحريم الجنة عليه قالوا بعض ما قالوا في المقام الأول كالمستحل وأن ذلك ورد مورد الرجز والتغليظ وزادوا إن الجنة التي تحرم عليه كجنة الفردوس مثلا وحاصله أن ال في الجنة للعهد وهو بعيد إن تحريم الجنة عليه مقيد بالمشيئة وحاصله حرمت عليه الجنة إن شئت استمرار التحريم وهو أبعد قال النووي حديث الباب يحتمل أن يكون ذلك شرع من مضى وأن أصحاب الكبائر كانوا يكفرون بها أهـ وهو مردود بأن ذكره هنا تقرير له زاد النووي نقلا عن القاضي عياض أنه يحتمل أن تحرم عليه الجنة

ويحبس في الأعراف أهـ لكن هذا الاحتمال لا يتمشى مع مذهب أهل السنة القائلين بدخول جميع الموحدين الجنة وأقرب التوجيهات للقبول أن تحريم الجنة تحريم مؤقت أي حرمت عليه الجنة فترة من الزمن وهي التي يدخل فيها السابقون إلى الجنة والتي يعذب فيها الموحدون في النار على معاصيهم وليس في الحديث بجميع رواياته ما يدل على تأييد تحريمها عليه بقي إشكال قوله بادرني عبدي بنفسه فإن ظاهره يقتضي أن من قتل نفسه مات قبل أجله وأنه لو لم يقتل نفسه لتأخر موته عن ذلك الوقت لكنه بادر فتقدم وهذا الظاهر يتمشى مع مذهب المعتزلة أما أهل السنة فيقولون إن المقتول ميت بأجله ولهذا يجيبون بأن المبادرة إنما هي من حيث التسبب في ذلك والقصد له والاختيار للمقدمات أما خروج الروح ففي أجله وأطلق على ذلك مبادرة لوجود صورتها وإنما استحق المعاقبة لأن الله لم يطلعه على انقضاء أجله فاختار هو قتل نفسه وقال القاضي أبو بكر قضاء الله مطلق ومقيد بصفة فالمطلق يمضي على الوجه بلا صارف والمقيد مثاله أن يقدر لواحد أن يعيش عشرين سنة إن قتل نفسه وثلاثين سنة إن لم يقتل وهذا بالنسبة إلى علم المخلوق كملك الموت مثلا وأما بالنسبة إلى علم الله فإنه لا يقع إلا ما علمه أهـ فمعنى الحديث بادرني عبدي بالنسبة لعلم المخلوقين لا في الحقيقة ونفس الأمر وعلم الله تعالى -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تحريم قتل النفس وأن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن الأنفس ملك لله ولا يتصرف فيها صاحبها إلا بما شرعه المالك جل شأنه

2 - فيه رحمة الله تعالى بخلقه حيث حرم عليهم قتل نفوسهم 3 - فيه الحث على الصبر على البلاء وترك الجزع 4 - فيه تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى المحرم 5 - فيه التحدث عن الأمم الماضية وما فعلت بقصد الترغيب أو الترهيب 47 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه

-[المعنى العام]- أخرج الطبري أن قائدا من بني إسرائيل أرسل النساء إلى عسكره وأمرهن أن لا يمتنعن من أحد فزنوا بهن فأرسل الله عليهم الطاعون فمات سبعون ألفا في يوم واحد وذكر ابن إسحاق أن الله أوحى إلى داود عليه السلام أن بني إسرائيل كثر عصيانهم فخيرهم بين ثلاث إما أن أبتليهم بالقحط شهرين أو العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم فاختاروا الطاعون فنزل بهم عقوبة على عصيانهم ولما كانت الأمة المحمدية معرضة للابتلاء نفسه لتعرض البعض للفساد والإفساد كانت هذه الوصية التي سبقت العالم والعلم الحديث الوصية بالحجر الصحي ومنع المرضى من الاختلاط بالأصحاء بمنع من هم في أرض الوباء من الخروج إلى أرض الأصحاء ومنع الأصحاء من الدخول إلى أرض الوباء حتى يمكن حصار المرضى فيعالج من يمكن علاجه ويقضي الله بما شاء على من أصيب وفي ذلك تخفيف للبلاء وحصاره والحد من أضراره وأخطاره فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه -[المباحث العربية]- (الطاعون رجس) الطاعون على وزن فاعول من الطعن عدلوا به عن أصله الذي هو الطعن ووضعوه دالا على نوع خاص من الأمراض الوبائية وفي أعراضه وتحديد نوع مرضه قال صاحب النهاية الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء وتفسد به الأمزجة والأبدان أهـ وهذا التعريف يصدق على كل الأمراض المعدية التي تنتقل عدواها عن طريق الهواء فهو تعريف غير محدد وقال الداودي الطاعون حبة أي ورم تخرج من الأرفاغ وفي كل طي من الجسد وقال عياض أصل الطاعون القروح الخارجة من الجسد أهـ وقال ابن عبد البر الطاعون غدة تخرج في

المراق والآباط وقال النووي هو بثر وورم مؤلم جدا ويخرج غالبا في المراق والآباط أهـ وقال بعض الأطباء الأقدمون منهم ابن سينا الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث في المواضع الرخوة من البدن وأغلب ما تكون تحت الإبط وخلف الأذن وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد أهـ وهذه التعاريف قد تصدق أعراضها على نوع من أنواع السرطان القاتل لكن المعروف عن السرطان أنه يصيب الأفراد لا على هيئة وباء وعدوى وهناك من العلماء من خالف هذه الأعراض فهذا المتولي يقول هو قريب من الجذام من أصابه تآكلت أعضاؤه وتساقط لحمه وسيأتي مزيد إيضاح وبيان المراد في فقه الحديث والرجس بالسين الخبيث أو النجس أو القذر والرجز بالزاي هو العذاب هذا هو المشهور في معناهما والأنسب هنا بالزاي بل المحفوظ كما قال الحافظ ابن حجر بالزاي لكن القاضي وجه رواية السين بأن الرجس يطلق أيضا على العقوبة وقال الجوهري الرجس العذاب (أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم) يحتمل أن يكون المراد ممن كان قبلكم بني إسرائيل فالشك في اللفظ الوارد والماصدق واحد ويحتمل أن يكون المراد غير الطائفة الواردة وأن العذاب بالطاعون تكرر (فإذا سمعتم به في أرض) أي بانتشاره في مكان ما (فلا تقدموا عليه) بفتح التاء والدال بينهما قاف ساكنة أي فلا تتجهوا وتقبلوا على مكانه (فلا تخرجوا فرارا منه) فرارا مفعول لأجله -[فقه الحديث]- يقول علماء الطب الحديث إن الطاعون مرض وبائي خطير تنتشر عدواه عن طريق الفئران والبراغيت يصاب به أولا الفأر فإذا امتص البرغوث دم الفأر المصاب حمل جرثومة المرض واسمها في الطب

ميكروب (باسلس بستس) فإذا عض البرغوت المصاب إنسانا أو فأرا آخر نقل إليه المرض الفتاك وهكذا يسرع المرض بالانتشار في مناطق كثرة البراغيث والفيران وأول ما ينبغي القضاء عليه محاربة البراغيث ثم القضاء على الفيران وهناك المصل الواقي لتحصين الأصحاء قبل وصول الداء والطاعون غير مقصود لذاته بل المقصود الوباء المعدي بصفة عامة وعدم دخول الأرض المصابة وعدم خروج أحد منها وهو ما عرف فيما بعد في العصر الحديث بالحجر الصحي وعزل المرضى وهو أنجح وسائل الوقاية الصحية وقد استشكل على سبب المرض المشار إليه بما ورد في الحديث أن الطاعون من وخز الجن وقال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط وقسم يكون من وخز الجن أهـ والأولى أن يقال إن المراد من الجن في الحديث معناه اللغوي وهو الشيء المستتر لا الجن المعروف فيمكن أن يقصد الميكروب الذي ينتقل إلى الجسم السليم وهو لا يرى بالعين المجردة وسنرجئ القول في خروج أهل الأرض المصابة إلى شرح الحديث الآتي ونستعرض ما قيل في حكم الدخول إلى أرض الوباء ولا خلاف في النهي عن الدخول إلى الأرض المصابة وأنه ممنوع إلا لضرورة كالأطباء ومساعديهم ومن تحتاجهم الأرض لحياتها الضرورية أما الدخول من غير ضرورة فهو حرام أو مكروه لأنه تعريض النفس إلى التهلكة وقد أخرج الطحاوي بسند صحيح عن أنس أن عمر أتى الشام فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة فقالا يا أمير المؤمنين إن معك وجوه الصحابة وخيارهم وإنا تركنا من بعدنا مثل حريق النار فارجع العام فرجع وحاصل القصة أن عمر قسم الشام أجنادا الأردن جند وحمص

جند ودمشق جند وفلسطين جند وجعل على كل جند أميرا وقد وقع طاعون عمواس (بفتح العين والميم وحكي تسكين الميم) في الشام في المحرم وصفر سنة ثمان عشرة من الهجرة وخرج عمر في ربيع الأول يقصد الشام حتى إذا كان قريبا منها لقيه أبو عبيدة وكان أمير الشام وأشير على عمر بالرجوع فعزم على الرجوع فقال له أبو عبيدة أفرارا من قدر الله أي أترجع فرارا من قدر الله وفي رواية أمن الموت نفر إنما نحن بقدر لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا فقال له عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيد أي لعاقبته كيف خفي عليك هذا نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله وفي رواية إن تقدمنا فبقدر الله وإن تأخرنا فبقدر الله ومقصود عمر أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه ولو فعل وهجم لكان من قدر الله فهما مقامان مقام التوكل ومقام التمسك بالأسباب فرجوع عمر فرار من أمر خاف منه على نفسه فلم يهجم عليه والذي فر إليه أمر لا يخاف على نفسه منه فالرجوع سد للذرائع وقد زعم قوم أن النهي عن الدخول للتنزيه وأنه يجوز الإقدام عليه لمن قوي توكله وصح يقينه وتمسكوا بما جاء عن عمر من أنه ندم على رجوعه والله أعلم

48 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء وأن الله جعله رحمة للمؤمنين ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد -[المعنى العام]- لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كان له بها حسنة وأجر وهكذا يبعث الله على الناس البلاء ليوقظهم من غفلتهم ويردهم عن غواياتهم إلى طاعات ربهم فهذه طبيعة الإنسان إذا أنعم عليه أعرض عن ربه ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض وإذا مس الإنسان الضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل فالابتلاء وإن كان مؤلما وعذابا لكنه لصالح الإنسان مآلا وهو رحمة ومغفرة للمؤمنين الذين يستحقون رحمة الله يكفر من سيئاتهم ويرفع من درجاتهم وهو عذاب وعقوبة عاجلة لمن يستحقها بسبب الكفر أو ما يرتكب من الموبقات والابتلاء قد يقع بالأموال وبالتخويف وبنقص الأنفس وموت الأهل وقد يكون بالأمراض الجسمية وأشدها مرض الطاعون الفتاك أعاذ الله منه أمة الإسلام يقول جل شأنه {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} فالصبر والاحتساب من مريض الطاعون إيمان وتوكل بأنه لن يصيبه

إلا ما كتب الله له إيمان بقدر الله إيمان بأن الفرار لا ينفع من الموت أو القتل هذا الصابر المحتسب إن عاش فله أجر الصابرين وإن مات فله أجر الشهداء وهو في رفقة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا وهذا الصابر المحتسب الماكث في بلد الطاعون يحمي من هم خارج بلده من العدوى وانتشار المرض ويقوي الروح المعنوية لمن هم معه ولا يثير فيهم الهلع والجزع والناس يموتون من الهلع والجزع أحيانا قبل أن تفتك بهم الأمراض وما أعظم وصية رب العالمين لسيد المرسلين وللمؤمنين {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} -[المباحث العربية]- (سألت ... عن الطاعون) أي عن حكمة إرساله على الناس وعن موقف من يقع به أو حوله (على من يشاء) من المؤمنين والعاصين والكافرين (رحمة للمؤمنين) ليكفر سيئاتهم فعذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة أو ليرفع من درجاتهم (ليس من أحد) من زائدة وأحد اسم ليس (يقع الطاعون) أي في بلده (فيمكث في بلده) أي فيبقى ويقيم ولا يفر بالخروج فالجار والمجرور في بلده تنازعه الفعلان يقع ويمكث (محتسبا) أي مفوضا وطالبا الأجر من الله (يعلم أنه لا يصيبه) المراد من العلم الإيمان والعمل بالمعلوم وليس المراد مجرد المعرفة -[فقه الحديث]- تعرضنا في الحديث السابق إلى حكم الدخول إلى الأرض المصابة

بالطاعون ونتعرض هنا إلى حكم الخروج لمن وقع الطاعون في أرضه وهو فيها ودوافع الخروج حينئذ لا تخلو عن احتمالات أربعة الخروج بدافع مصلحة ضرورية فقط أو بدافع المصلحة الضرورية والفرار أو بدافع الفرار فقط أو اتفاقا وعفوا بدون دافع ولفظ الحديث السابق فلا تخرجوا فرارا منه يحتمل النهي عن الخروج في صورتين صورة أن يكون الدافع الفرار وحده وصورة أن يكون الدافع الفرار مع غيره وقريب منه ما رواه أحمد وابن خزيمة المقيم في الطاعون كالشهيد والفار منه كالفار من الزحف ولا خلاف في النهي عن الخروج فرارا وهو حين يتمحض أشد منعا منه حين تشترك معه مصلحة فالفرار معناه ضعف الإيمان بالقضاء والقدر والله تعالى يقول {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة} وما أكثر الذين يموتون على فراشهم دون طاعون وما أكثر الذين يفاجأون بالموت في طريقهم دون أمراض ولكل أجل كتاب إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد وماذا يفيد الحرص على الفرار من الوباء إذا كنا نؤمن بأن الله هو الذي أعدى الأول من المصابين ومع ذلك فالخروج من أرض الطاعون يعرض من هم خارج الأرض للخطر ويتسبب في انتشار الوباء واتساع رقعته ودرء هذا مصلحة عامة واجبة الرعاية وإن لم ينص عليها الحديث صراحة لكن إذا جعلنا قيد فرارا قيدا لما هو الشأن والغالب واعتمدنا الحكم بدونه كما في قوله تعالى {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} كان الخروج منهيا عنه سواء كان من دافعه الفرار أم لم يكن

باب مناقب قريش

نعم قد تكون هناك ضرورات ومصالح عامة أو ضرورات ومصالح شخصية تقدر بقدرها مع الموازنة بينها وبين ما يترتب على الخروج من أضرار وهذا ما نستريح إليه لكن العلماء اختلفت آراؤهم في ذلك فقد نقل القاضي عياض وغيره عن بعض الصحابة جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون وقال قوم يحرم الخروج منها وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم وقال قوم يحرم الخروج لمجرد الفرار لا لغرض آخر فالخروج إلى الأسفار والحوائج مباح والله أعلم باب مناقب قريش 49 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه

-[المعنى العام]- يقول جل شأنه {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} نعم الإنسانية كلها من أب وأم لكنها في سلوكها وأخلاقها تختلف حتى تشتهر قبيلة بالكرم وأخرى بالشح والبخل وتشتهر قبيلة بالأما-نة وأخرى بالخيانة وتشتهر قبيلة بالحلم وتشتهر أخرى بسرعة الغضب وهكذا في الصدق والكذب وفي الشجاعة والجبن فكانت الإنسانية من حيث السلوك معادن يختلف بعضها عن بعض يعلو بعضها بمكارم الأخلاق ويهبط بعضها بسفاسفها فمن كان على مكارم الأخلاق قبل الإسلام ثم أسلم وتفقه في الدين كان خير الناس فمن كان سيدا وعزيزا في الجاهلية بأخلاقه زاده الإسلام عزا لكن عليه أن لا يدفعه ذلك إلى التطلع للإمارة والولاية فهي في الإسلام حمل وعبء ومسئولية من يسألها ويحرص عليها لا يولى وإن ولي لا يعان عليها فالعقلاء والمتدينون ومقدروا المسئولية يكرهونها ويخشون الوقوع فيها فإذا وقعوا فيها جندوا أنفسهم لرعايتها حق رعايتها وسألوا الله الإعانة والتوفيق والسداد أما النفعيون والانتهازيون وأصحاب المصالح الشخصية العاجلة الذين يتلونون لكل أمير ويلبسون من الأقنعة ما يناسب كل راء ويأتون هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فأولئك شرار الخلق لا خلاق لهم في الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب -[المباحث العربية]- (تجدون الناس معادن) الخطاب للصحابة أو لكل من يتأتى خطابه أي تجد أيها المخاطب في كل زمان ومكان الناس معادن وجاء في رواية الناس معادن أي في حقيقتهم معادن أدركتم ذلك أو لم تدركوا والمعادن جمع معدن وهو الشيء المستقر في الأرض وفي الكلام تشبيه بليغ حذف منه الوجه والأداة والأصل الناس كالمعادن في تفاوت

الأصالة والخسة وفي عدم تغير الصفة المذكورة في حال خفائهم عنها وفي حال ظهورهم بها (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) أي كما أن المعدن إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولم تتغير صفته كذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية كذا قيل وللموضوع تتمة في فقه الحديث ولفظ خيارهم إما جمع خير بإسكان الياء أو فعل تفضيل يقال خير وأخير وشر وأشر بمعنى لكن الذي بالألف أقل استعمالا وإما جمع خير بتشديد الياء المكسورة والمراد بالجاهلية ما قبل الإسلام والمراد من الفقه علم الشريعة يقال فقه الرجل بضم القاف ويجوز كسرها إذا صار فقيها وفهم سر الدين وشرائعه (وتجدون خير الناس) من هنا مرادة ومقدرة أي من خير الناس لأن من اتصف بذلك لا يكون خير الناس على الإطلاق (في هذا الشأن) في الولاية والإمارة فالمشار إليه معهود للمخاطبين ذهنيا (وتجدون شر الناس ذا الوجهين) من هنا مقدرة ومرادة كسابقه أي من شر الناس والمراد من الوجه الحالة (الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) المشار إليهم مطلق فريق فالكلام كناية عن عدم الوضوح وعن التلون والنفاق وللبحث بقية تأتي في فقه الحديث -[فقه الحديث]- لا شك أن الإسلام شرف وإن التفقه في الدين شرف وأن شريف الجاهلية يصاحبه الشرف إذا أسلم فمن استجمع أوجه الشرف الثلاثة كان

أشرف الناس يليه مشروف في الجاهلية أسلم وتفقه ويليه شريف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه ويليه مشروف في الجاهلية أسلم ولم يتفقه ولا عبرة في الشريعة بشرف الجاهلية إذا لم يصاحبه إسلام ولا عبرة بشرف التفقه ما لم يصاحبه الإسلام فأقل الناس من جمع نقيض أوجه الشرف الثلاثة فكان مشروفا في الجاهلية ولم يسلم ولم يتفقه ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فإنه فيما إذا تعارض الشرف مع التقوى فلا شك حينئذ بأن الأكرم هو الأتقى لكن إذا تساوى شريف في الجاهلية ومشروف في التقوى كان الأكرم هو الشريف الأتقى ولا يخفى أن المراد من شرف الجاهلية الشرف المبني على الخلال الحميدة ومكارم الأخلاق من عفة وكرم وإعانة ونجدة وصدق ووفاء ونحوها وليس المبني على الغلبة أو القوة أو السلطة أو الكثرة العددية أو نحو ذلك ولما كان شريف الجاهلية قد يطمع بعد الإسلام ويتطلع إلى الرئاسة باعتبار أنه كان رأسا قبل الإسلام ناسب أن يفطم الحديث هذا التطلع وأن يحد منه لجعل الأمر للأمة لا له فحذر من الحرص على الولاية والسعي إليها بل دعا إلى عدم إعطائها لمن يطلبها وقد استدل بعض العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم وتجدون خير الناس في هذا الشأن أي شأن الولاية أشدهم له كراهية على أن الحرص على الإمارة والعمل والسعي للحصول عليها مكروه بل ويؤخذ من الحديث أنه كلما اشتدت كراهة المسلم الدخول في هذا الأمر كلما عظم اتصافه بالعقل والدين لما في ذلك من تقدير للعبء والمسئولية ولما يترتب عليه من مطالبة الله تعالى للقائم به من حقوق ومن خوف الزلل والظلم ولقد أثر عن عمر رضي الله عنه في نهاية خلافته قوله وددت لو خرجت من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي

وقد جاء في بعض الروايات تجدون من خير الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه فهذه الغاية تشير إلى أن من لم يكن حريصا على الإمرة غير راغب فيها تزول عنه الكراهة إذا حصلت له ولهذا أحب بعض الصالحين استمرار الولاية حتى قاتل عليها ولما كانت البيعة أو الولاية يصحبها غالبا منافقون ووشاة ناسب أن يتعرض الحديث لذي الوجهين بأنه شر الناس أو من شر الناس قال القرطبي إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل والكذب مدخل الفساد بين الناس أهـ وفي تحديد المراد به قال النووي هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها مخالف لضدها وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحايل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود وفي تحديد المراد به أيضا قال ابن عبد البر: تأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيري الناس خشوعا واستكانة وما قاله النووي أقرب إلى المراد والله أعلم

50 - عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يري عينه ما لم تره أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل -[المعنى العام]- تختلف درجات الكذب باختلاف درجة المكذوب به ودرجة المكذوب عليه وكلما كانت آثار الكذبة أشد ضررا كانت الكذبة أعظم جرما وأي كذبة أشد خطرا من كذبة ينتسب بها المرء إلى غير أبيه فيستحل مالا لم يكن ليحل له ويحمل اسما لم يكن ليحمله ويأخذ حقوقا لم يكن ليأخذها جريمة كبرى يشترك فيها من يدعي أبا غير أبيه مع هذا الرجل الذي ليس أبا حقيقيا ينتهكان بذلك شرع الله وحقوق الناس فما أعظم هذه الفرية وما أشد خطرها على المجتمع الإسلامي وحينما يكون المكذوب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يبلغ عن ربه ما أنزله إليه حين يدعي مدع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو لم يقل تضطرب الشريعة وينسب إلى الله ما لم يأذن به جل شأنه وحين يكذب الآدمي في الإخبار عن منامه فيقول إنه رأى كذا وكذا وكذا وهو لم ير من ذلك شيئا والرؤيا جزء من النبوة ونوع من الوحي وإيحاء من الله حين يكذب الإنسان في رؤياه يكون كاذبا على الله مدعيا أن الله ألقى إليه في منامه بكذا وهو لم يلق إليه هل هناك من يفترى عليه أعظم من الله اللهم لا {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} إن فاعل ذلك أظلم الظالمين وأعظم الكذابين أليس في جهنم مثوى للظالمين فليتبوءوا مقعدهم من النار هي حسبهم وبئس المصير

-[المباحث العربية]- (إن من أعظم الفرى) بكسر الفاء وفتح الراء مقصورا وجاء ممدودا جمع فرية والفرية الكذب والبهت أي التبجح بالكذب تقول فرى فلان بفتح الراء يفري بكسرها مع فتح الياء وافترى يفتري إذا اختلق (أن يدعي الرجل إلى غير أبيه) بفتح الياء وتشديد الدال وكسر العين أي أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه والتعبير بالرجل للغالب والمرأة حكمها حكم الرجل ويجوز أن يبقى الادعاء على أصله ويقدر مفعول محذوف أي أن يدعي الرجل نسبا إلى غير أبيه وهذا أولى لورود لفظ النسب في بعض الروايات (أو يري عينه ما لم تره) يري بضم الياء وكسر الراء منصوب عطفا على أن يدعي وعينه بالإفراد مرادا به الجنس فيصدق على عينيه أي يدعي أن عينيه رأتا في المنام شيئا ما رأتاه -[فقه الحديث]- في الحديث تشديد الوعيد على ثلاث كذبات الكذب في الانتساب وادعاء ابن لفلان وهو غير أبيه أو الرضا بادعاء آخر بنوته وهو يعلم أنه غير أبيه الثانية الكذب في المنام وادعاء أنه رأى ما لم ير والثالثة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الأولى فقد كانت العرب في الجاهلية تستبيح أن يتبنى الرجل ولد غيره فلا ينسب الولد لأبيه الحقيقي وإنما ينسب إلى الذي تبناه ويصبح له حق الولد من النسب من جميع النواحي حتى نزل قوله تعالى {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما} فحرم التبني ووجبت نسبة كل واحد إلى أبيه الحقيقي ولما كانت تلك العادة متأصلة عندهم احتاج اقتلاعها إلى كثير من التشديد

والوعيد فجاء في صحيح البخاري غير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله ومن ادعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار وفي صحيح مسلم من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام وفيه أيضا لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر نعم حاول علماء أهل السنة تفسير الكفر بكفر النعمة أو تخصيصه بمن استحل ذلك وتفسير تحريم الجنة بتحريم دخولها مع أول الداخلين أو أن هذا جزاؤه المستحق لو جوزي وقد يعفو الله عنه وغير ذلك من التوجيهات التي لا تخرج فاعل ذلك من الملة وإن عظمت جريرته وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن هذا الحكم مشروط بالعلم بأنه غير أبيه وهذا واضح لأن الإثم إنما يترتب على العلم بالشيء المتعمد لكن هل يدخل في هذا الوعيد كل من انتسب إلى غير أبيه مهما كان الهدف من الانتساب أو هو خاص بما كان على شاكلة التبني الجاهلي الذي يترتب عليه آثار غير شرعية من الإرث وغيره التحقيق أن هذا الوعيد خاص بالحالة الثانية أما من رغب عن الانتساب لأبيه لمعرة فيه أو انتسب لأخواله للافتخار والتشرف أو انتسب لأحد أفراد العائلة لشهرته فلا يدخل في الوعيد المذكور وإن كان لا يخلص من إثم ومؤاخذة وأما الكذبة الثانية وهي الكذبة عن المنام وادعاء أنه رأى في منامه شيئا لم يحصل فإن الحكمة في تشديد الوعيد على هذه الكذبة أن المنام جزء من الوحي سواء قلنا إن الله يرسل ملك الرؤيا فيرى النائم ما شاء أم قلنا إن الله يلقي إلى النائم بما شاء فالكذب في الرؤيا كذب على الله كذلك الكذبة الثالثة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم هي في مضمونها كذب على الله تعالى لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يخبر عن الله فمن كذب عليه كذب على الله عز وجل والكذب على الله أعظم الكذب بنص القرآن الكريم يقول الله

تعالى {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته} فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر ويقول {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} وغير ذلك من الآيات في تشديد الوعيد على الكذب على الله كثير -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تحريم التهرب والانتفاء من النسب المعروف 2 - تحريم الانتساب إلى غير الأب الحقيقي 3 - تحريم الكذب في رؤيا المنام 4 - غلظ تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 51 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون لولا موضع اللبنة ** وفي رواية ** عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله

إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين -[المعنى العام]- تتطور البشرية وترقى عصرا بعد عصر وتتقدم من البدائية إلى الحضارة قرنا بعد قرن وتتسع مداركها ومعارفها جيلا بعد جيل وتسمو أفهامها من المحسوسات إلى المعقولات كلما تقدمت بها العلوم ومن هنا كانت البشرية تعبد الحجارة التي لا تسمع ولا تبصر وكانت معجزات رسلها محسوسة تدرك بالأبصار ناقة لها شرب ولهم شرب فلق البحر وانفجار الماء من الصخر وحية تسعى وذراع يضيء وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى إلى غير ذلك من الماديات المحسوسات الخارقات للعادة وكان كل رسول يدعو قومه إلى عبادة الله وحده وإلى الاستقامة والبعد عن خبائث السلوك فمنهم من حذر من إتيان الذكران من العالمين ومنهم من نهى عن التكبر والتجبر والعبث {أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين} ومنهم من أمر بإيفاء الكيل {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم} ومنهم من نهى عن القتل إذ وصلوا إلى قتل الأنبياء بغير حق ومنهم من نهى عن الزنا لشيوعه وفحشه ومن نهى عن أكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك من تشريعات الرسالات التي أشبهت في تقويمها للبشرية بدار بنيت حجرا حجرا وزاوية زاوية وجانبا جانبا فبنيت في حسن وجمال وبقي لتكمل وتتم مكان حجر في زاوية فتم بناء الدار بالرسالة المحمدية وكمل تقويم البشرية بما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فشملت رسالته وشريعته كل الشرائع وزادت ما تحتاجه البشرية لإصلاحها في كل زمان إلى يوم القيامة -[المباحث العربية]- (مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا) المثل بفتح الثاء ما شبه مضربه

بمورده والمراد منه هنا مطلق الوصف والحال أي صفتي وحالي مع الأنبياء قبلي كرجل بنى دارا وفي بيان المشبه والمشبه به قال الحافظ ابن حجر قيل المشبه به واحد والمشبه جماعة فكيف صح التشبيه وجوابه أنه جعل الأنبياء كرجل واحد لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل أهـ وعندي أن التشبيه من قبيل تشبيه هيئة بهيئة، تشبيه هيئة رسالة الأنبياء السابقين وما جاءوا به من هداية وإصلاح البشرية بهيئة رجل أسس دارا وبناها ورفع بنيانها إلا موضع حجر في زاوية فرسالة الأنبياء قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشبه في الحقيقة البيت الذي ينقصه شيء وليس التشبيه بالرجل (إلا موضع لبنة) بفتح اللام وكسر الباء وبكسر اللام وسكون الباء وهي القطعة من الطين تعجن وتجفف وتعد للبناء فإذا أحرقت سميت آجرة (لولا موضع اللبنة) جواب لولا محذوف على أنها شرطية وموضع مبتدأ خبره محذوف والتقدير لولا موضع اللبنة يوهم النقص لكان بناء الدار كاملا ويحتمل أن تكون لولا تحضيضية ويقدر فعل بعدها لاختصاصها بالأفعال أي لولا أكمل موضع اللبنة (فأنا اللبنة) مشبه ومشبه به أي فأنا بالنسبة إلى رسالات الأنبياء أشبه اللبنة المكملة للبناء بالنسبة للدار -[فقه الحديث]- لقد كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وشريعته صالحة لهم ولزمنهم كاملة لإصلاح قومه غير ناقصة لكن الرسالات السابقة في مجموعها وبكل ما جاءت به لا تصلح للبشرية المستقبلة في جميع الأزمنة وفي جميع الأمكنة فكان لا بد من إضافة رسالة إلى الرسالات السابقة لتصلح لتقويم البشرية في كل زمان ومكان والإشكال الوارد في هذا المقام هو هل الرسالة الخاتمة بالنسبة للرسالات السابقة أساسية لم تكن الرسالات السابقة

وحدها كافية للبشرية وأن اللبنة المقصودة هي في أساس الدار لا تقوم الدار بدونها بل تنقص وتسقط أو أن الرسالة الخاتمة مكملة للرسالات السابقة محسنة ومجملة لها ومكملة لصلاحها إلى الأول ذهب ابن العربي والجمهور على الثاني قال الحافظ ابن حجر ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها وقد وقع عند مسلم إلا موضع اللبنة من زاوية من زواياها فيظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصا وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة -[ ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز ضرب الأمثال والتشبيه لتقريب المعاني إلى الأفهام 2 - أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وبهذا نطق القرآن حيث يقول {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} 3 - وأن الرسالة المحمدية آخر الرسالات وأنها كاملة مكملة 4 - فضل محمد صلى الله عليه وسلم 5 - حاجة الإنسانية إلى الرسالة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

52 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها -[المعنى العام]- صلى الله على من أدبه ربه فأحسن تأديبه حتى قال فيه {وإنك لعلى خلق عظيم} أدبه بآداب القرآن فكان خلقه القرآن تخلق صلى الله عليه وسلم بالحلم والسماحة وبالرفق والإحسان قال عنه من خلقه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} وقال له {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم} كان اليسر والتيسير أساس شريعته يعلم أمته ويضرب لهم بنفسه المثل الأعلى يقول يسروا ولا تعسروا ويقول للذين أرادوا التبتل والتفرغ للعبادة وصيام الدهر وقيام الليل وعدم تزوج النساء يقول أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ويخفف عن أمته فيقول ليس من البر الصيام في السفر ويقول إن الدين يسر وما خير بين أمرين إلا اختار

أيسرهما ما لم يكن الأيسر إثما أو يفضي ويؤدي إلى الإثم فإن كان الأيسر إثما أو يفضي إلى الإثم أخذ الأشد وكان أبعد الناس عن الإثم كان يعلم الرفق والعفو والسماحة يعفو عمن ظلمه يعفو عمن جبذه من ثوبه حتى أثر في رقبته يعفو عمن أغلظ له القول وقال يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك فيبتسم ويعطيه ويعطيه ويعطيه حتى يرضى وما ضرب امرأة ولا خادما قط وما انتقم لنفسه ممن آذاه مع عظم قدرته عليه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله وينفذ أمر الله صلى الله عليه وسلم وأكرمنا بشفاعته يوم القيامة -[المباحث العربية]- (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين) خير بضم الخاء وكسر الياء المشددة مبني للمجهول وحذف الفاعل ليشمل تخيير الله تعالى وتخيير أي إنسان له صلى الله عليه وسلم والمراد من الأمرين ما كان من أمور الدنيا لأن أمور الدين المخير بينها لا إثم فيها كذا قيل وللبحث بقية تأتي في فقه الحديث (إلا أخذ أيسرهما) أي أسهلهما أداء (ما لم يكن إثما) أي ما لم يكن أيسرهما مقتضيا أو مفضيا إلى إثم فإنه حينئذ يختار الأشد البعيد عن الإثم (إلا أن تنتهك حرمة الله) لا شك أن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهاك لحرمة الله فإذا ما انتقم لإيذائه كان انتقاما لانتهاك حرمة الله وإن كان انتقامه لنفسه حينئذ واقعا تبعا (فينتقم لله بها) أي فينتقم بسبب حرمة الله المنتهكة بدافع كون الانتقام لله -[فقه الحديث]- خلقان كريمان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعهما السماحة والرفق

الخلق الأول اختيار أسهل الأمرين وأيسرهما فالدين يسر وفي القرآن {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ومن الواضح أن التخيير إنما يكون بين أمرين مباحين فلا تخيير بين مندوب ومباح ولا بين مكروه ومباح نعم قد يصح بين الأولى وبين خلاف الأولى من حيث إن كلا منهما لا إثم فيه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه الخطيئة فما هو إثم بالنسبة لمقام النبوة قد لا يكون كذلك بالنسبة للعامة فهو من قبيل قولهم حسنات الأبرار سيئات المقربين فالتخيير من قبل الله تعالى لا يكون بين ما فيه إثم وبين ما لا إثم فيه بل لا بد أن يكون بين جائزين وإن كان أحدهما أولى وأفضل من حيث إن الثاني قد يفضي إلى الإثم وقد مثل له الحافظ ابن حجر بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به عن التفرغ للعبادة وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة والكنوز أسهل منه أهـ ومثال اختيار الأسهل فطره صلى الله عليه وسلم في السفر واحتجابه عن صلاة قيام رمضان جماعة في المسجد هذا ما يتعلق بتخيير الله تعالى له بين أمرين دينيين أو دنيويين أما التخيير من قبل العباد فقد يكون بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه فيختار ما لا إثم فيه وإن كان أشق وأشد فإن كان بين أمرين لا إثم فيهما اختار الأسهل صلى الله عليه وسلم الخلق الثاني العفو عند القدرة وعدم الانتقام لخاصة نفسه ويمكن تقسيم الجرائم التي ينتقم لها أو لا ينتقم إلى 1 - جريمة في حقه وفي حق الله كالكفر مع إيذائه صلى الله عليه وسلم من أجل دعوته إلى الإيمان والمبالغة في عدائه وعداء دعوته مع الإصرار والاستدامة على الكفر فينتقم صلى الله عليه وسلم من صاحب هذه الحالة لكن بنية الانتقام لله مثال ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن خطل

2 - جريمة في حقه وحق أهله وحق الله فينتقم صلى الله عليه وسلم من صاحب هذه الجريمة بنية الانتقام لله ولحق العباد من أهله مثال ذلك القصاص من بعض من نال من عرضه صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك 3 - جريمة في حقه صلى الله عليه وسلم لا بسبب الدعوة ولا بفعل كفر كالأعرابي الذي جفا برفع صوته عليه والأعرابي الذي شده من ردائه حتى أثر الرداء في كتفه صلى الله عليه وسلم فلا ينتقم فيها وإن كان إيذاؤه صلى الله عليه وسلم معصية لله تعالى وهذه الحالة هي المرادة من الحديث وهي المرادة من حديث أخرجه الحاكم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما أي بصريح اسمه ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله ولا سئل في شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون لله ينتقم ومن حديث الطبراني وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فإن انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبا لله -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك التشدد 2 - الندب إلى الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ 3 - يؤخذ من قوله إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها الندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 4 - ترك الحكم للنفس فلا يقضي حاكم لنفسه وإن كان متمكنا من الظلم وذلك لحسم المادة وإغلاق باب الخطر 5 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق

53 - عن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب لربح فيه -[المعنى العام]- بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ رأوا قطيعا من الغنم قد جلب إلى المدينة من البادية للبيع ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه يفحص أكثرهم خبرة في البيع والشراء فوقع اختياره على عروة بن الجعد فناداه وأعطاه دينارا وقال له اذهب إلى هذا الجلب فاشتر لنا شاة يقول عروة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار وبينما أنا عائد إذ لقيني رجل فساومني فبعته شاة بدينار وجئت بالدينار والشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تخطئ نظرته حين اختار عروة فدعا له بالبركة في بيعه وشرائه فكان يربح في كل ما يبيعه مهما كان حقيرا حتى لو اشترى التراب وباعه لربح فيه يقول عروة فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي ثم اتخذ شراء الجواري وبيعها مهنة فربح الكثير والكثير رضي الله عنه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

-[المباحث العربية]- (يشتري له به شاة) أي يشتري للرسول صلى الله عليه وسلم فهو وكيل في الشراء وذكر سفيان بن عيينة أن الشاة التي رغب في شرائها كانت للضحية لكن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالكباش وأنه كان يضحي بكبشين أملحين أحدهما عنه وعن أهله والثاني عن فقراء المسلمين (فاشترى له به شاتين) أي فاشترى عروة للرسول صلى الله عليه وسلم بالدينار شاتين (فكان لو اشترى التراب لربح فيه) أي لو اشترى التراب وباعه لربح وهذا التعبير كناية عن حصول البركة في البيع والشراء والكناية قصد اللازم مع صحة وقوع الملزوم وبيع التراب وشراؤه نادر فالكلام للمبالغة عن الربح في كل بيع وشراء فقه الحديث أصل السند كما في البخاري حدثنا علي بن عبد الله أخبرنا سفيان حدثنا شبيب بن غرقدة قال سمعت الحي يتحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم ... إلخ فالسند كما هو واضح فيه مجهول وهو الحي ولم يسم أحد منهم فالحديث على هذا ضعيف للجهل بحال القوم وقد دافع الحافظ ابن حجر عن صحة هذا الحديث والمقام لا يسمح بإيراد البحث فمن أراده فليراجعه والمقصود من عرض المسألة أن الشافعي قال إن هذا الحديث غير ثابت فتوقف في بيع الفضولي ثم قال إن صح الحديث قلت به وبيع الفضولي هو بيع غير المأذون له في البيع فعروة طلب منه الشراء كوكيل في الشراء لكنه باع ما يملكه الغير بدون إذنه فالشاتان وقعتا في ملك الرسول صلى الله عليه وسلم بالشراء وهذا البيع باطل عند جمهور الفقهاء وصحيح عند بعضهم وموقوف صحته على إجازة المالك عند البعض الآخر وهو أقرب الأقوال للحديث فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقر البيع ولم يعترض وأجازه ودعا لصاحبه

فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه من المسلمين فهو من أصحابه

ويجيب المبطلون لبيع الفضولي بأن الحديث واقعة عين لا يحتج بها فقد يكون عروة قد وكل بالشراء والبيع معا فليس من قبيل بيع الفضولي -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية السوم في البيع والشراء 2 - أن الشرع لا يحدد الربح فقد ربح عروة هنا 100/ وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم 3 - منقبة عظيمة لعروة بن الجعد أو ابن أبي الجعد البارقي 4 - وفيه علامة من علامات النبوة وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعروة فاستجيب له فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه من المسلمين فهو من أصحابه 54 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

-[المعنى العام]- لا شك أن سب الصفوة من الناس وخيارهم ليس كسب العامة والسوقة ولا شك أن الجريمة في حق كبار القوم أعظم منها في صغارهم ولا شك أن الصحابة خير القرون على الإطلاق أيدوا وصدقوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه آووا ونصروا وأوذوا في سبيل الدعوة وتحملوا وأنفقوا في سبيل الله وضحوا درهمهم لا يعدله آلاف الدنانير من غيرهم والمد منهم لا يعدله مثل أحد ذهبا من غيرهم فكان فضلهم لا يدانيه فضل وكرامتهم لا تساميها كرامة حفظ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهادهم وصان لهم عرضهم وحذر من أن ينال أحد من أحدهم ولو كان واحدا منهم لقد كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء تشاحنا وتناولا غليظ القول فسب خالد بن الوليد عبد الرحمن بن عوف فعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وساق الحديث لا تسبوا أصحابي فإنهم قمة الناس حملوا لواء الدعوة ودافعوا عنها ونشروها وبذلوا في سبيلها النفس والنفيس لو أنفق آحاد الأمة مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ في الأجر ما يبلغه أحدهم بإنفاقه حفنات من قمح أو شعير في سبيل الله بل ما بلغ أجر أحدهم في إنفاقه حفنتين اثنتين من الشعير فرضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيرا -[المباحث العربية]- (لا تسبوا أصحابي) الخطاب في الأصل موجه إلى خالد بن الوليد لسبه عبد الرحمن بن عوف والجمع ليشمل من على شاكلته فالنهي للصحابة أن يسب بعضهم بعضا قال الحافظ ابن حجر وغفل من قال إن الخطاب بذلك لغير الصحابة ممن سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلا لمن

سيوجد منزلة الموجود للقطع بوقوعه قال ووجه التعقب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق أهـ ونحن نقول إن الخطاب لكل من يتأتى خطابه أعم من أن يكون صحابيا أو من دونه إلى يوم القيامة فكأنه قال لا تسبوا معشر الناس أصحابي والمراد من أصحابي مطلق الصحبة ولسنا مع من يقول إن المراد به أصحاب مخصوصون سبقوا إلى الإسلام فهو كقوله تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} فكأنه قال يا خالد لا تسب كبار الصحابة ومتقدميهم فهذا القول يشعر مفهومه عدم النهي عن سب متأخري الصحابة فالأولى جعل الخطاب لكل من يتأتى خطابه وتعميم المراد من الصحابة (فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا) أي أنفق مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله وهذا التعبير مبالغة لا واقع له إذ من المستحيل امتلاك مثل أحد ذهبا فضلا عن إنفاقه (ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي ما بلغ في الدرجة والثواب وعظم الأجر ما يبلغه إنفاق أحدهم مدا من الشعير أو التمر ولا نصف المد والمد حفنة بحفنة الرجل المعتدل -[فقه الحديث]- اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه أو رآه من المسلمين وإن كان العرف يخص الصحبة ببعض الملازمة وهذا هو الراجح في تعريف الصحابي فلا يشترط فيه أن يكون الرائي وقت الرؤية مميزا فإنهم ذكروا في الصحابة مثل محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام ومع هذا فأحاديث هذا الضرب مراسيل لا يقبلها حتى من يقبل مراسيل الصحابة وفضيلة الصحبة وردت في أحاديث كثيرة منها في الصحيح خير

أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... وسبب التفاوت في الأجر بينهم وبين غيرهم ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية وعظم موقع ما أنفقوا حيث ضيق اليد وشدة الاحتياج ثم إن إنفاقهم كان في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير حاصل بعد وفاته والنهي عن سب الصحابة مقصود به التشديد في الحرمة والجريمة وإلا فسب عامة المؤمنين حرام ثم إن النهي يشمل عموم الصحابة فيدخل فيهم من لابس الفتنة ومن لم يلابس الفتنة لأن من لابس الفتنة كان مجتهدا متأولا وحتى من كان منهم غير مجتهد وغير متأول على سبيل الفرض يحرم سبه لأن الخطأ لا يلغي الفضيلة ومذهب الجمهور من العلماء أن من سب الصحابة يعزر ولا يقتل وقال بعض المالكية يقتل وقال بعض المحققين إن كان سبهم والطعن فيهم مخالفا للأدلة القطعية فهو كفر كقذف عائشة رضي الله عنها وإن لم يكن كذلك فهو بدعة وفسق -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضيلة الصحابة على غيرهم 2 - أن العمل الصالح الواحد يختلف أجره باختلاف الفاعل وباختلاف المكان والزمان والظروف المحيطة 3 - توجيه الأحكام والتدليل عليها بما يقنع السامع والمكلف 4 - جواز التعليق على المستحيل العادي كإنفاق جبل من ذهب للمبالغة وتقريب المعاني

55 - عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من بني مخزوم سرقت فقالوا من يكلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجترئ أحد أن يكلمه فكلمه أسامة بن زيد فقال إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه لو كانت فاطمة لقطعت يدها -[المعنى العام]- كان قطع يد السارق معلوما للعرب فلما جاء الإسلام أقره شريعة بقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} وكانت امرأة من بني مخزوم تستعير أمتعة وحليا من أناس ثم لا تردها فإذا طولبت بها جحدتها بعد أن تبيعها وتأخذ ثمنها ولما أحست أن بعض الناس قد اكتشفوا حالها فلم يعودوا يعيرونها لجأت إلى الاستعارة باسم أناس لهم وضعهم وهم لا يعرفون فتقول مثلا إن بنت فلان أو امرأة فلان تطلب منكم كذا وكذا عارية مردودة فتعطي فتبيع ويطالب الناس الذين أخذت العارية باسمهم فيفاجأون ويفزعون وقادها هذا السلوك المنحرف إلى أن سرقت قطيفة فيها حلي فرفع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها فأنكرت فقال اذهبوا إلى دارها فذهبوا فأتوا بالمسروق فاعترفت وكانت من بيت كبير وأسرة عريقة والعرب الشرفاء يسيء إلى قبيلتهم

كلها أن يقال فيهم سارق واحد فضيحة كبرى لبني مخزوم أن تقطع يد امرأة منهم لكن ماذا يفعلون إنهم خائفون حتى من مكالمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها هيبة وإجلالا فليبحثوا عن وسيط وشفيع مقبول الرجاء فوجدوا الحبيب بن الحبيب أسامة بن زيد فطلبوا منه أن يشفع ليعفو عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يدفعوا الفداء ويرضوا الخصماء واستجارت المرأة بأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وجاء أسامة يشفع فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وعنف أسامة ورماه بالجهل كيف تشفع في حد من حدود الله ثم نادى بلالا يا بلال قم فخذ بيدها فاقطعها فقام فقطعها ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطب فيهم وقال إن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد فأهلكهم الله بظلمهم والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها أما المرأة فقد تابت توبة خالصة واستضافتها يوم القطع امرأة أسيد بن حضير وآوتها بعد أن قطعوا يدها وصنعت لها طعاما وغضب أسيد من زوجته لعطفها عليها فشكاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم رحمتها رحمها الله وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمها ويصلها -[المباحث العربية]- (أن امرأة من بني مخزوم) اسمها على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم (سرقت) قطيفة وقيل حليا وقيل كانت تستعير المتاع وتجحده وسمي بذلك سرقة لشبهه بالسرقة وسيأتي مزيد إيضاح في فقه الحديث (فقالوا من يكلم النبي صلى الله عليه وسلم) معطوف على محذوف أي فرفع أمرها للنبي صلى الله عليه وسلم أو فأتي بها للنبي (فيها) أي في أمرها والشفاعة عنده أن لا يقطع يدها أي في العفو عنها (فلم يجترئ أحد أن يكلمه) أي يشفع عنده فيها أن لا تقطع إما

عفوا وإما فداء ويجترئ بسكون الجيم وكسر الراء يفتعل من الجرأة بضم الجيم ويجوز فتح الجيم والراء مع المد والجرأة الإقدام (فكلمه أسامة بن زيد) وكانوا يسمونه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر الحاء أي محبوبه لما يعرفون من منزلته عنده لأنه كان يحب أباه قبله وأمه أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يجلسه على فخذه صلى الله عليه وسلم بعد أن كبر وأبوه زيد بن حارثة استشهد في غزوة مؤتة أما أسامة فمات في المدينة سنة أربع وخمسين وفي رواية فكلمه فزبره أي أغلظ في القول حتى نسبه إلى الجهل (فقال إن بني إسرائيل) في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قام في الناس خطيبا فقال إنما أهلك من كان قبلكم ... إلخ ويحتمل أنه قال ذلك لأسامة ثم قام يخطب في الناس (كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه) اسم كان ضمير الحال والشأن (وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه) في رواية الوضيع والشريف يقابل الضعيف والوضيع لما يستلزم الشرف من الرفعة والقوة (لو كانت فاطمة) فاطمة بالنصب خبر كانت واسمها ضمير يعود على السارقة وفي رواية لو فاطمة ويقدر فعل بعد لو لأنه لا يليها إلا الأفعال أو يقدر لفظ أن لتساير الرواية الأخرى وحذف أن مع لو كثير -[فقه الحديث]- في بيان المسروق أخرج ابن ماجه لما سرقت المرأة القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه ... وفي رواية مرسلة أنها سرقت حليا ويمكن الجمع بينهما بأن الحلي كانت في القطيفة لكن جاء عند مسلم وأبي داود أن المرأة كانت تستعير المتاع وتجحده وعند النسائي أنها استعارت حليا على ألسنة ناس كوسيطة لهم

فباعته وأخذت ثمنه وقد أثارت هذه الرواية إشكالا فقهيا هل يقطع في جحد الوديعة قال بالإيجاب وأخذ بالظاهر أحمد في أشهر روايتيه وانتصر له ابن حزم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية إذ لا قطع على خائن ولا مختلس ولا منتهب وأجابوا بأن رواية سرقت أرجح ولو أنها قطعت في جحد العارية لوجب قطع كل من جحد شيئا إذا ثبت عليه وقد اختلف العلماء في جواز الشفاعة في أصحاب الذنوب فقال ابن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف فقال لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام وعن عائشة مرفوعا أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود كما اختلفوا هل يجوز للإمام أن يعفو أو لا يجوز يقول ابن عبد البر على السلطان أن يقيم الحد إذا بلغه وعند أبي داود وأحمد وصححه الحاكم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير لقي الزبير سارقا فشفع فيه فقيل له حتى يبلغ الإمام فقال إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع وبسند صحيح أن ابن عباس وعمارا والزبير أخذوا سارقا فخلوا سبيله فقيل لابن عباس بئسما صنعتم حين خليتم سبيله وعند الدارقطني من حديث الزبير مرفوعا اشفعوا ما لم يصل إلى الولي فإذا وصل فعفا فلا عفا الله عنه -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - منع الشفاعة في الحدود إذا بلغت الوالي 2 - تمسك بالحديث من أوجب إقامة الحد على القاذف إذا بلغ الإمام ولو عفا المقذوف وهو قول الحنفية وقال مالك والشافعي وأبو يوسف

يجوز العفو مطلقا ويدرأ بذلك الحد 3 - وفيه دخول النساء مع الرجال في حد السرقة 4 - وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه 5 - وفيه منقبة عظيمة لأسامة 6 - وأن فاطمة عليها السلام عند أبيها في أعظم المنازل لأنه ما خصها بالذكر إلا لأنها أعز أهله عنده ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها فأراد المبالغة في إثبات الحد على كل مكلف 7 - وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل 8 - وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولا سيما من خالف أمر الشرع 9 - وفيه جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزيز 10 - وفيه ما كان عليه الصحابة من تهيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله 11 - وفيه أن الإسلام يسوي بين أفراده على اختلاف منازلهم في القضاء

كتاب المغازي

كتاب المغازي غزوة بدر 56 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال لا نقول كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره -[المعنى العام]- في مواقف الشدة تعرف الرجال وفي المواطن الحرجة تظهر معادنهم لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين العير أو النفير فجمع أصحابه بالمدينة وأخبرهم أن أبا سفيان مع عير لقريش يمرون قريبا من المدينة وطلب منهم الخروج لعلهم يغنمون مقابل بعض ما فقدوا وما تركوا من مال بمكة حين الهجرة واستشارهم فخرجوا فبلغ ذلك أبا سفيان فأرسل إلى أهل مكة يستنفرهم وغير طريقه وأفلت بالعير وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قد ساروا يومين وأصبحوا بالصفراء قريبا من بدر فجمعهم للمرة الثانية يستشيرهم في القتال وقد علم أن قريشا خرجت بألف مسلح فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وقام عمر فتكلم فأحسن ثم قام المقداد فقال يا رسول الله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك

فقاتلا إنا هنا قاعدون ولكنا نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو خضت بنا هذا البحر لخضنا معك نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرا وسرورا ثم نظر إلى الأنصار ينتظر رأيهم وكان يتخوف أن لا يوافقوه لأنهم لم يبايعوه إلا على النصرة ممن يقصده لا أن يسير بهم إلى قتال العدو فقال له سعد بن معاذ مثل ما قال المقداد وزاد فكانت الثقة وكانت الشجاعة وكان الإقدام وكان النصر من عند الله -[المباحث العربية]- (المقداد بن الأسود) اسم أبيه عمرو بن ثعلبة الكندي ونسب إلى الأسود لأنه كان قد تبناه في الجاهلية (مشهدا) أي موقفا مشاهدا مفعول شهدت (لأن أكون صاحبه أحب إلي) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ وأحب خبره أي كوني صاحبه أحب إلي (مما عدل به) عدل بضم العين وكسر الدال أي وزن والمعنى أحب من شيء يقابل به من الدنيويات وقيل من الأجر والثواب والمراد المبالغة في عظمة ذلك المشهد وأن ابن مسعود كان يتمنى أن يكون صاحب هذا الموقف وأنه لو خير بين أن يكون صاحبه وبين أن يحصل له أي شيء آخر لفضل أن يكون صاحبه (أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين) يوم بدر عندما استشار أصحابه في القتال بعد إفلات العير (لا نقول كما قال قوم موسى) الكاف صفة لمصدر محذوف وما مصدرية أو موصولة أي لا نقول قولا مشبها قول قوم موسى أو مشبها الذي قاله قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا المخاطب موسى عليه السلام وقال ذلك بنو إسرائيل استهزاء واستهتارا وخذلانا

(أشرق وجهه) أي تفتح وأضاء (سره) أي وسره قول المقداد -[فقه الحديث]- أخرج ابن أبي شيبة أن سعد بن معاذ قال يوم بدر لئن سرت حتى تأتي برك الغماد لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى ... إلخ نحو ما نسب إلى المقداد وأخرج الإمام أحمد بإسناد حسن قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نقول كما قالت بنو إسرائيل ولكن انطلق أنت وربك إنا معكم وللجمع بين الأحاديث يقال إنه لا مانع أن يقول ذلك المقداد فيسمعه سعد بن معاذ فيقول كما قال ويزيد لعلك يا رسول الله خرجت إلى أمر فأحدث الله غيره فامض لما شئت وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وما نسب إلى المقداد وسعد بن معاذ يمكن أن ينسب إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم نسب هذا القول في بعض الروايات إلى سعد بن عبادة وفيه نظر لأن سعد بن عبادة لم يشهد بدرا -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من التواضع والمشورة 2 - ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان والتضحية وثبات الجأش والشجاعة 3 - فيه منقبة عظيمة للمقداد 4 - ما كان عليه قوم موسى من الجبن والضعف والخور 5 - مشروعية الدعاء على الكافرين 6 - أثر التوعية والتنشيط والتشجيع عند القتال

57 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا توفي بالمدينة قال عمر فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقلت إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر قال سأنظر في أمري فلبثت ليالي فقال قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا قال عمر فلقيت أبا بكر فقلت إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلمأ رجع إليك قلت نعم قال فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها لقبلتها -[المعنى العام]- حقا لا حياء في الدين ولا حياء مما يبيحه الإسلام والقوي هو الذي يخضع عرفه إلى شرعه هذا عمر بن الخطاب لا يأنف أن يعرض ابنته

على عثمان ليتزوجها فيرفض عثمان الزواج صراحة وجرأة أخرى من عثمان لا حرج فيما تراه مصلحة لك وبخاصة في شريكة الحياة لم يأنف عمر من العرض ولم يأنف عثمان من الرفض وعرضها مرة أخرى على أبي بكر قال له: إن شئت ورغبت زوجتك حفصة بنت عمر وسكت أبو بكر لم يجب برفض أو قبول لكن الصمت في مثل هذه الحالة له دلالة النطق بل له دلالة الرفض يا للوجد والألم والغضب النفسي الذي أصيب به عمر حفصة وإن كانت ثيبا قد مات عنها زوجها خنيس متأثرا بجراح معركة بدر لكنها ما زالت شابة في سن العشرين وهي جميلة وهي ابنة عمر كيف يرفضها عثمان ويتأبى ويمسك عن قبولها أبو بكر أقرب الأصدقاء إلى عمر بل هو أخوه الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينه حسرات نفسية تقطع أحشاءه وبخاصة من رفض أبي بكر شكا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض عثمان فكان في الجواب الشفاء وكان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا وسلاما على قلب عمر قال له يتزوج عثمان من هي خير من حفصة وتتزوج حفصة من هو خير من عثمان وانتظر عمر الإيضاح فكان يتزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتزوج حفصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل بعد هذه البشرى سعادة لعمر وهل يستطيع كتمانها عمر لقد ذهب بها إلى أبي بكر يعتب عليه ويبشره لكن أبا بكر عاجله بالاعتذار إليه قال أعلم أنك تألمت وغضبت إذ سكت ولم أجبك حين عرضت علي حفصة وما منعني من القبول إلا أني كنت أعلم رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فلم أكن لأقبل ولم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أكن لأرفض لأنني لو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها وعرف عمر السبب فبطل العجب وعاد الصفاء بين الأصحاب -[المباحث العربية]- (تأيمت حفصة) بفتح التاء والهمزة والياء المشددة أي صارت أيما بالياء المشددة المكسورة وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي

عدتها وأكثر ما تطلق على من مات زوجها قال ابن بطال العرب تطلق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيما (من خنيس) بضم الخاء وفتح النون مصغر وهو أخو عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي (قد شهد بدرا) هذا سر إيراد الحديث هنا فيمن شهد بدرا (توفي بالمدينة) متأثرا بجراحة أصابته قيل في غزوة أحد وقيل في غزوة بدر وهذا أولى كما قال الحافظ ابن حجر (فقلت إن شئت أنكحتك حفصة) الجملة بيان لعرضه حفصة ومفعول المشيئة محذوف أي إن شئت نكاح حفصة أنكحتك حفصة، وكان العرض بعد وفاة زوجة عثمان رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم (سأنظر في أمري) أي في أمر زواجي منها ففي الكلام مضاف محذوف والمراد من النظر التفكر والمراد من الأمر الشأن (قد بدا لي) أي قد ظهر لي واستقر عندي (أن لا أتزوج يومي هذا) مفعول أتزوج محذوف أي لا أتزوج حفصة وحذفه للتعميم أي لا أتزوج أية امرأة أو الفعل منزل منزلة للازم أي لا يحصل مني زواج والمراد من يومي هذا وقتي الحاضر فليس المراد يوم المتكلم بذاته (فصمت أبو بكر) صمت بفتح الميم من باب دخل وحكي بكسر الميم في المضارع فيكون من باب ضرب (فلم يرجع إلي شيئا) يرجع بفتح الياء تتعدى إلى المفعول بنفسها أي فلم يعد إلي جوابا ولا ردا وهذه الجملة قصد بها رفع المجاز في صمت لئلا يظن أنه صمت زمنا ثم تكلم (فكنت عليه أوجد مني على عثمان) أي كنت عليه أشد وأكثر غضبا وألما وذلك لما كان بينهما من أكيد المودة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد آخى

بينهما ولأن عثمان اعتذر والاعتذار يخفف ولا يشعر بالإهمال وقيل إن عثمان كان قد طلبها من عمر فرده عمر لرفض حفصة لقرب وفاة زوجها ثم عرضها عمر فاعتذر عثمان فسبق رفضه جعل العتب على عثمان ضعيفا (فأنكحتها إياه) قيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بخمسة وعشرين شهرا أو ثلاثين شهرا ولها من العمر نحو العشرين سنة فقد ولدت قبل البعثة بخمس سنين (إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها) قال العلماء: لعل اطلاع أبي بكر على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد خطبة حفصة كان بإخباره صلى الله عليه وسلم إما على سبيل الاستشارة وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئا مما يريد -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - عرض الإنسان ابنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه وإنه لا استحياء في ذلك 2 - وأنه لا بأس بعرضها عليه وإن كان متزوجا لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجا 3 - فيه عتاب الرجل لأخيه وعتبه عليه وقد جبلت الطباع على ذلك 4 - في الاعتذار وإيضاح الأمور عند مظنة التقصير 5 - فيه أنه لا غضاضة من اطلاع الإنسان من يثق في عقله ودينه على ما يريد ولو كان في ذلك ما يمس مشاعره في العادة فقد اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على عزمه على الزواج من حفصة مع أن ابنة أبي بكر عنده 6 - وفيه أن الصغير لا ينبغي له أن يخطب امرأة أراد الكبير أن يتزوجها ولو لم تقع الخطبة فعلا

7 - وفيه الرخصة في تزوج من عرض النبي صلى الله عليه وسلم بخطبتها أو أراد أن يتزوجها لقول الصديق ولو تركها لقبلتها 8 - وفيه أن الأب يخطب إليه ابنته الثيب كما يخطب إليه ابنته البكر ولا تخطب إلى نفسها 9 - وفيه أن الأب يزوج ابنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك وكان الخاطب كفؤا لها 10 - المحافظة على الأسرار وعدم إفشائها ولو كان السر معلوما بالإشارة أو بالتعريض 11 - فيه منقبة عظيمة لخنيس وأنه من أهل بدر 58 - عن جابر رضي الله عنه قال إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل

-[المعنى العام]- في السنة الخامسة من الهجرة وبعد غزوة أحد بعامين خرج حيي بن أخطب اليهودي بعد قتل بني النضير إلى مكة يحرض قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج كنانة بن أبي الربيع بن أبي الحقيق اليهودي يسعى في بني غطفان ويحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف تمر خيبر فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طلحة بن خويلد فيمن أطاعه وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش وفي طريقهم انضم إليهم جمع من بني سليم فصاروا في جمع عظيم قيل إنهم بلغوا عشرة آلاف يتجهون إلى المدينة والمسلمون حينئذ لا يزيدون على ثلاثة آلاف أكثرهم فقير لا يملك السلاح واستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فاستقر الرأي على عدم الخروج وعلى البقاء في المدينة يقاتلون من بيت إلى بيت فقال سلمان الفارسي يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا هوجمنا في بلدنا خندقنا علينا وحفرنا حول بلدنا قناة دائرة متسعة لا يسهل اجتيازها فنكون في حصن من الأعداء هم في ناحية ونحن في ناحية فلا يكون إلا الرمي بالنبال ويمكن التحصن منه وراقت الفكرة ولم يتردد الرسول صلى الله عليه وسلم في تنفيذها فالأمر عجل والأعداء يتجمعون في الطريق وجند المسلمون لهذا العمل الكبير حتى الغلمان جند منهم من يقدر على حمل التراب على كتفه واشترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في الحفر وحدد لكل عشرة من الرجال مسافة عشرة أذرع في عشرة أذرع بدأ العمل بكل جد يسابقون الزمن عشرون يوما مضت وهم يحفرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك بالمعول تارة ويحمل التراب تارة حتى غطى التراب جلد بطنه وصدره اشتد بهم الجوع ثلاثة أيام لا يذوقون طعاما اشتد بهم التعب بضعا وعشرين يوما لا يجدون راحة وماذا يفعلون في صخرة كبيرة حطمت المعاول ولم تتحطم إنها تشبه الجسر تيسر على الأعداء العبور وتضيع فائدة الخندق كلها لجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه الصخرة وصلابتها فقال إني نازل إليها ناولوني المعول نزل وبطنه معصوب

بحجر من شدة الجوع ضربها الضربة الأولى وهو يستغيث ويستعين بربه ويقول بسم الله الله أكبر فكسر ثلثها فضربها الضربة الثانية وهو يقول بسم الله الله أكبر فكسر الثلث الثاني ثم ضربها الثالثة وهو يقول بسم الله الله أكبر فعادت رملا يسيل وينهال وجاء الأحزاب وأحاطوا بالمدينة من فوقها ومن أسفل منها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهرهم إلى جبل سلع والخندق بينهم وبين القوم وتم الحصار وحدث تراشق بالنبال وعبر سبعة من فرسان المشركين الخندق من ناحية ضيقة فتصدى لهم شجعان المسلمين فقتل من الفرسان اثنان وفر الباقون وطال الحصار واشتد الأمر بالمسلمين وزاغت منهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وجعل المنافقون يستأذنون ويقولون إن بيوتنا عورة تحتاج منا رعاية وحماية ويقولون فيما بينهم ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ونقلت إلى بيوت المدينة ضعاف النفوس وفكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يخذل عيينة بن حصن ومن معه ليرجع مقابل أن يعطي ثلث ثمار المدينة فرفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقالا كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون منا في شيء من ذلك فكيف نفعله بعد أن أكرمنا الله عز وجل بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف وسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء جماعة من الصحابة يقولون يا رسول الله هل من شيء تقوله لربك لقد بلغت القلوب الحناجر قال نعم اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا وارسل من يخذل ويوقع بين صفوف المشركين وجاءت ليلة شديدة الريح والبرد والمطر وأرسل الله على الكفار ريحا عاصفة ما تركت لهم بناء إلا هدمته ولا إناء إلا أكفأته وقذف الله في قلوبهم الرعب فأسرعوا بالرحيل وعادوا من حيث أتوا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا -[المباحث العربية]- (فعرضت كدية شديدة) كدية بضم الكاف وسكون الدال وفتح الياء

وهي القطعة الصلبة الصماء وفي رواية كيدة بالكاف ثم الياء ثم الدال قيل هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض (وبطنه معصوب بحجر) من الجوع وفائدة ربط الحجر على البطن أنها تضمر من الجوع فيخشى انحناء الصلب بذلك فإذا وضع الحجر فوقها وشد عليه العصابة استقام الظهر والحجر المشار إليه نوع من حجارة رقاق قدر البطن (ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لبيان السبب في ربط الحجر على البطن وفي رواية لا نطعم شيئا أو لا نقدر عليه وذواقا أي مذوقا مفعول به لنذوق (فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول) بكسر الميم وسكون العين وفتح الواو أي المسحاة وفي رواية فأخذ المعول أو المسحاة بالشك وهي الفأس أو نوع منها يحطم الحجارة (فعاد كثيبا أهيل) فاعل عاد ضمير يعود على الكدية باعتبارها شيئا مضروبا والكثيب الرمل ومعنى أهيل أي منهالا يهال ويسيل ولا يتماسك -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مقدار ما لاقى الصحابة والرسول الكريم في الدفاع عن الدعوة ومحاربة الشرك وأهله 2 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مشاركة للقوم فلم يجعل فارقا بين القائد والجندي حتى في الأعمال الشاقة كالحفر ونقل التراب ونحوه 3 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من القوة الجسمية ومن تأييد الله له 4 - جواز ربط الحجر على البطن عند شدة الجوع

5 - إن قول الصحابي لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق طعاما ليس من قبيل الشكوى المذمومة ولا تنافي الصبر والتسليم للقضاء والرضا به 6 - مشروعية وسائل الدفاع عن النفس واستخدام الموانع الطبيعية والصناعية للحيلولة دون وصول الأعداء 59 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتى على حمار فلما دنا من المسجد قال للأنصار قوموا إلى سيدكم أو خيركم فقال هؤلاء نزلوا على حكمك فقال تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم قال قضيت بحكم الله وربما قال بحكم الملك -[المعنى العام]- كانت ديار بني قريظة وهم يهود قريبة من المدينة وقد كتبوا عهدا بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحاربوه ولا يساعدوا من يحاربه لكنهم

نقضوا العهد وغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتعاونوا مع الأحزاب فلما نصر الله المسلمين ورجع الأحزاب وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد المسلمون نزل جبريل وقد خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة الحرب فقال أخلعتم عدة الحرب ولم تخلع الملائكة عدتها إني سابق إلى بني قريظة فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة وأسرع المسلمون إلى إجابة النداء فكانوا عند المغرب في بني قريظة نحو ثلاثة آلاف حاصروهم بضع عشرة ليلة وقذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه وكان سعد قد أصيب بسهم في غزوة الأحزاب وما زال يعالج منه في خيمة في المسجد فجاءوا به على حمار يسندونه من يمين وشمال فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم فأنزلوه وكرموه فنزل فقال له صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء قد قبلوا الاستسلام والنزول على ما تحكم به فيهم ووقف بنو قريظة ووقف المسلمون يرقبون حكم سعد فقال يا رسول الله حكمت فيهم بأن يقتل الرجال الذين يحملون السلاح ضد الإسلام وأن تسبى ذريتهم ونساؤهم وأن تغنم ديارهم وأموالهم وكان الوحي قد نزل بحكم الله فيهم وهو ما نطق به سعد فقال صلى الله عليه وسلم حكمت فيهم بحكم الله عز وجل من فوق سبع سموات على لسان الملك جبريل عليه السلام فخندق لهم خندق وضربت أعناق الرجال وكانوا نحو ستمائة مقاتل وهكذا كانت نتيجة الغدر والخيانة ومحاربة الإسلام -[المباحث العربية]- (نزل أهل قريظة على حكم سعد) أي أعلنوا النزول من حصونهم والتسليم على أساس قبول الحكم الذي يحكم به عليهم سعد بن معاذ (فأرسل النبي إلى سعد) أرسل لإحضاره من المسجد وكانت قد ضربت له خيمة يتمرض فيها (فأتى على حمار) بفتح الهمزة والتاء مبني للمعلوم

(فلما دنا من المسجد) الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في بني قريظة فهو غير المسجد الذي يتمرض فيه (قال للأنصار) لعل أبا سعيد الخدري اعتبر القول خاصا بالأنصار لأنه سيد الأوس ورئيسهم وكبيرهم (قوموا إلى سيدكم) سيد القوم أفضلهم وهل القيام من أجل إنزاله أو من أجل تكريمه سيأتي الحكم في فقه الحديث وهل المأمورون بالقيام مطلق الصحابة أو هم الأنصار قيل وقيل (هؤلاء نزلوا على حكمك) أي رضوا به والإشارة لبني قريظة (تقتل مقاتلتهم) أي الرجال الذين يقاتلون ويحملون السلاح (ونسبي ذراريهم) ونساءهم (قضيت بحكم الله) في رواية لقد حكمت فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات ومعناه أن الحكم نزل من فوق ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق فهو فوق كل شيء ومع كل شيء (وربما قال بحكم الملك) الشك من أحد الرواة في أي اللفظين قاله الرسول صلى الله عليه وسلم والملك بكسر اللام أي الله عز وجل فالروايتان بمعنى واحد وعند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام وفسره بجبريل لأنه الذي ينزل بالأحكام وهذا الذي عند الكرماني مردود -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استدل بعضهم بقوله قوموا إلى سيدكم على مشروعية القيام للقادم ويقول إن النهي عن القيام قد اقترن بالمشابه لقيام الأعاجم لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة ولجعفر ابن عمه وكان يقوم لابنته فاطمة إذا دخلت عليه وتقوم له إذا قدم عليها

وذهب بعضهم إلى منع القيام للقادم ووجه الحديث بأن الأمر بالقيام لمساعدته على النزول لمرضه لا لتكريمه واحتج بحديث معاوية من سره أن يتمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار ورد هذا الاستدلال بأنه فيمن أحب أن يقوم الناس له أي في المتكبرين ومن يغضبون أو يسخطون على من لم يقم لهم أما القائم نفسه فلا دلالة في الحديث على منعه من القيام لمن لا يحب ذلك من العلماء والصالحين بل قال بعض العلماء إن الزمان إذا فسد وترتب على عدم القيام للقادم فتنة ولو كان ممن يحب أن يتمثل له الناس قياما جاز اتقاء هذه الفتنة عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 2 - مشروعية التحكيم في المشكلات ونزول الطرفين على حكم من يرضونه حكما 3 - وفيه قبول الفاضل حكم المفضول 4 - محاربة من نكث العهد وخان الميثاق وقد نزل في بني قريظة {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} 5 - جواز التلقيب بالسيد لمن يعلم عنه الخير والفضل والكراهة الواردة تحمل على تسويد أهل الشر والفسوق 6 - في الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عظيمة لسعد بن معاذ رضي الله عنه

60 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا وحدث أبو موسى بهذا ثم كره ذاك قال ما كنت أصنع بأن أذكره كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه -[المعنى العام]- بعد غزوة بني المصطلق قدم إلى المدينة أعرابي بجلب وشياه يبيعها فقال إني رأيت ناسا من بني ثعلبة وبني أنمار وقد جمعوا لكم يستعدون لمحاربتكم وأنتم في غفلة عنهم وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما زال يذكر تجمع الأحزاب ومن الحكمة أن يقتص وأن يعيد إلى المسلمين الثقة بالنفس وأن يرد كيد من تسول له نفسه بالاعتداء على المسلمين فليخرج إليهم في صحراء نجد حيث يقيمون نعم هم قلة لكن المسلمين مجهدون والمسافة والشقة بعيدة ليخرج من المسلمين عدد غير كبير ليخرج سبعمائة أو نحوها برغبة واختيار من غير استنفار خرج الكثيرون ممن لا ظهر له وها هم الأشعريون الفقراء يخرجون الستة منهم يعتقبون البعير الواحد يركبه كل منهم مسافة فينزل ليركب غيره والمسافة طويلة والأرض صخرية ورملية حامية والقوم لا

يلبسون نعالا أو خفافا أياما يمشون حتى انتفخت فقاقيع مائية في أقدامهم ثم انفجرت فنقبت أقدامهم وتساقطت بعض أظفار أرجلهم لكن ما زال مقصدهم بعيدا لفوا على أرجلهم خرقا وقطعا من الأقمشة وساروا عليها لم تكن هذه حالة الستة نفر ولا حال الأشعريين فقط بل كانت تلك الحالة العامة بين المسلمين حين صارت الخرق في الأرجل سمة عامة فسميت سفرتهم هذه وغزوتهم تلك بغزوة ذات الرقاع وشاء الله أن لا يكون قتال ورغم أن الخوف دب في المسلمين أمام أعدائهم حتى صلوا صلاة الخوف لكن الله كف أيدي الأعداء عنهم وبث في قلوبهم الرعب فتفرقوا وانصرفوا وعاد المسلمون بسلام -[المباحث العربية]- (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) يقصد نفسه والأشعريين أو معشر الصحابة (في غزاة) أصلها غزوة قلبت الواو ألفا بعد نقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فأصبحت ساكنة بعد فتح فقلبت ألفا (ونحن ستة نفر) أي من الأشعريين يمثلون مجموعة في الجيش وهذا التعبير يرجح أن الضمير في خرجنا لجماعة الأشعريين لئلا يلزم تشتيت ضمائر جماعة المتكلمين (بيننا بعير) أي واحد والبينية مراد بها الاشتراك في الاستخدام (نعتقبه) أي يركبه بعضنا عقب ركوب البعض ويصدق بركوب اثنين اثنين وواحد واحد لكن الذي يؤدي إلى نقب الأقدام من طول المسافة وطول المشي أن يكون الاعتقاب واحدا واحدا (فنقبت أقدامنا) نقبت بفتح النون وكسر القاف أي رقت وضعفت الطبقة الظاهرة من الجلد (ونقبت قدماي) ذكر خاص بعد عام لمزيد عناية به أو لرفع إبهام البعضية في الأفراد أو في قدم دون قدم

(وسقطت أظفاري) أي أظفار قدمي وهذه الجملة لبيان زيادة العناء والآلام (فكنا نلف على أقدامنا الخرق) أي قطع الثياب البالية لوقايتها من خشونة الأرض وحرارتها (فسميت غزوة ذات الرقاع ... إلخ) وقد ذكر أصحاب المغازي في سر تسميتها بذلك أسبابا أخرى فقيل لأنهم رقعوا راياتهم وقيل لأن شجرا بذلك الموضع يقال له ذات الرقاع وقيل لأن الأرض التي نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع وقيل لأن جبلا هناك كانت حجارته ذات بقع تشبه الرقاع ولا مانع من اتحاد الواقعة وتعدد أسباب التسمية -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مدى الصعوبات والمشاق والآلام التي تحملها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل حماية الدعوة ونشرها 2 - مشروعية المشاركة والتعاقب على البعير وذلك مشروط بعدم الإضرار بالحيوان 3 - مثل أعلى في التوافق والتراضي بين الرفقاء والإيثار والمحبة ولو كان بهم خصاصة وفي الحديث إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعامهم جمعوا ما عندهم في إناء واحد ثم اقتسموه بالسوية فهم مني وأنا منهم 4 - جواز التحدث عما تحمل الإنسان من مشاق في سبيل عمل الخير ولا يعد ذلك من الرياء والسمعة أو الافتخار ما لم يقصد ذلك وإن كان الأولى ترك مثل هذا التحديث فقد جاء في نهاية هذا الحديث في

البخاري قول أبي بردة الراوي عن أبي موسى وحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك قال ما كنت بأن أذكره كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه أهـ أي كأنه كره أن يفشي ويعلن عملا صالحا قدمه 61 - عن البراء رضي الله عنه قال تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا -[المعنى العام]- في مستهل ذي القعدة سنة ست من الهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة هو وأصحابه قاصدين إلى العمرة كان صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه أنه

يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون وظن صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا هذه تتحقق له ولأصحابه هذا العام فأخبرهم فخرجوا معه بهدي العمرة لم يهتموا بالسلاح ولم يستعدوا لحرب لكن شأنهم تقلد السيوف واستصحاب الرماح والنبال في جل سفرهم خرج معه نحو أربعمائة وألف (أربعة عشر مائة) حتى وصلوا إلى مكان يسمى الحديبية على بعد عشرة أميال تقريبا من مكة نزلوا فضربوا الخيام وقرروا التوقف عن المسير إذ بلغهم أن قريشا علمت بهم واستعدت لمنعهم وجمعت الجموع لقتالهم وأرسلت قريش رسلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم تسأله عن مقصده وأخبرهم أنه ما جاء لفتح أو لحرب وإنما جاء مقلدا الهدي محرما معتمرا لكنهم أصروا على منعه فأرسل إليهم عثمان بن عفان لعله يشرح لهم ويقنعهم وله فيهم حسب ونسب فحجزوه وأشيع بين المسلمين أنهم قتلوه فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فأشاروا عليه بقتال قريش وطلبوا منه أن يمد يده ليبايعوه على الموت في سبيل الله وتحت شجرة بايعوه سميت شجرة الرضوان لما نزل بشأنها من قوله تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وتحركت الرسل بين الفريقين ودارت مفاوضات وطال الوقت حتى نفد الماء إن بئرا واحدة قليلة الماء لا تكفي أربعمائة وألفا ودوابهم لقد نزحوها نزحا حتى لم يبق فيها حفنة من الماء والقوم ورواحلهم عطاش ذهبوا يشكون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على حافة البئر ثم قال هل من ماء في زاد أحدكم فجيء له بقليل من ماء كان في مزودة منزوحا من البئر فتوضأ منه ومضمض ودعا ثم قذف الماء في البئر وقال دعوها ساعة تركوها ساعة وإذا بمناديهم ينادي الماء الماء ذهبوا فإذا البئر ملأى فشربوا وسقوا أبلهم وملأوا مزاودهم وظلوا يشربون منها حتى تم الصلح صلح الحديبية فتركوها ورجعوا وانصرفوا وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته إلى المدينة سورة الفتح {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}

وتبين للمسلمين أن فتح مكة فيما بعد وإن اعتبر فتحا إلا أن الفتح الحقيقي الجدير باسم الفتح والمقصود بقوله تعالى {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} إنما هو صلح الحديبية لما فتح الله به على الإسلام والمسلمين ويكفي دليلا على ذلك أنه أسلم في عامين بعده أضعاف من أسلموا قبله كان المسلمون في الحديبية نحو ألف ونصف الألف وكانوا في فتح مكة نحو عشرة آلاف -[المباحث العربية]- (تعدون أنتم الفتح فتح مكة) الخطاب لمتأخري الصحابة ممن لم يشهد الحديبية ويعلم ثمرة صلحها وأل في الفتح للكمال كقولنا أنت الرجل (وقد كان فتح مكة فتحا) هذا استدراك للحفاظ على قيمة فتح مكة أي كان فتحا لكنه ليس الفتح الأكبر (ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان) قصده أننا نعد الفتح الأكبر صلح الحديبية المترتب على بيعة الرضوان وآثرها بالذكر لفضلها والتشرف بالانتساب إليها (يوم الحديبية) بتشديد الياء الثانية وتخفيفها لغتان وأنكر بعضهم التخفيف قال أبو عبيد أهل العراق يثقلون وأهل الحجاز يخففون (والحديبية بئر) يشير إلى أن المكان المعروف بالحديبية سمي ببئر كانت هناك ثم عرف المكان كله بذلك وقيل سمي المكان باسم شجرة حدباء كانت هناك فصغرت وقيل غير ذلك (فنزحناها) في رواية فنزفناها بالفاء بدل الحاء والنزف والنزح واحد وهو أخذ الماء شيئا بعد شيء إلى أن لا يبقى منه شيء (فلم نترك فيها قطرة) واحدة القطر نقطة المطر والتعبير مبالغة إذ الدلو لا يمسك من قعرها شيئا مع وجود قطرات كثيرة (فجلس على شفيرها) أي على حرفها

(ثم دعا بإناء من ماء) المقصود من مائها ففي رواية ثم قال ائتوني بدلو من مائها لأن المعجزة ستكون تكثير الماء وليس إنشاء الماء (فتوضأ ثم مضمض) الظاهر أن المراد من الوضوء هنا معناه اللغوي أي غسل كفيه ومضمض (ثم صبه فيها) أي ثم صب ماء في البئر (فتركناها غير بعيد) أي تركناها زمنا يسيرا فغير بعيد صفة لزمن محذوف وليس لمكان محذوف أي زمنا غير بعيد بدليل رواية ثم قال دعوها ساعة (ثم إنها أصدرتنا) أي رجعتنا وأعادتنا وأبعدتنا وصرفتنا عنها وقد روينا (ما شئنا) قدر مشيئتنا ورغبتنا أي روينا حتى شبعنا وانتهت رغبتنا وانصرفت إرادتنا ومشيئتنا (نحن وركابنا) الركاب الإبل التي يركب عليها والمراد ما يعم كل ما معهم من دواب -[فقه الحديث]- في عدد أهل الحديبية خلاف مبني على اختلاف الروايات فروايتنا أربع عشرة مائة وفي رواية للبراء نفسه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة أو أكثر وفي رواية لجابر في البخاري أيضا كنا خمس عشرة مائة وقد جمع بينها بأن عددهم كان أكثر من ألف وأربعمائة ودون الألف والخمسمائة فمن قال أربع عشرة مائة ألغى الكسر ومن قال خمس عشرة مائة جبر الكسر أما رواية عبد الله بن أبي أوفى وأنهم كانوا ألفا وثلاثمائة فهي محمولة على ما اطلع عليه هو واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم أو العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة والزائد من تلاحقوا

بهم أو قصد عدد المقاتلة والزيادة من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان كما اختلف في البيعة وعلام بايع المسلمون ففي بعض الروايات أنهم بايعوا على الموت وفي بعضها أنهم بايعوا على أن لا يفروا ومن المعلوم أنه إذا بايع على أن لا يفر لزم من ذلك أن يثبت والذي ثبت إما أن يغلب وإما أن يغلب ومن يغلب إما أن يؤسر وإما أن يموت فلما كان الموت لازما محتملا لمن يفر عبر به بعضهم أما من قال إن البيعة كانت على الثبات وعدم الفرار فقد حكى صورة البيعة وأما لماذا عدت بيعة الرضوان أو صلح الحديبية الفتح الأكبر فلأنها كانت فاتحة نجاح الدعوة نجاحا لم يعهد فقد حصل بها الأمن وزال بسببها الخوف وانتشر بناء عليها الإسلام لأن الناس حين أمنوا كلم بعضهم بعضا وحث المسلم غير المسلم على الإسلام وتناقش الناس في الإسلام بحرية فغزا قلوب الكثيرين مع أن شروطها تبدو مجحفة بالمسلمين فقد كان من شروطها 1 - أن يرجع المسلمون هذا العام ولهم في العام القابل أن يدخلوا مكة ويقيموا بها ثلاثة أيام فقط وسلاحهم في قرابه 2 - وضع الحرب بين الفريين عشر سنين 3 - أن لا يناصر محمد محالفيه على قريش كما أن قريشا لا تناصر أحلافها على النبي صلى الله عليه وسلم 4 - من أتى محمدا من قريش رده إليهم وإن كان مسلما ومن أتى قريشا من المسلمين لا يردونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الأحكام على الأشياء ينبغي أن يؤخذ في اعتبارها أثرها وقيمتها في دروب الحياة في الواقع وفي نفس الأمر لا في الظاهر فحسب 2 - شجاعة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفانيهم في سبيل

غزوة خيبر

الدعوة وبيعهم أنفسهم هينة سريعة من أجلها 3 - اعتزازهم بحضور بيعة الرضوان 4 - عرض الأتباع مشكلتهم على متبوعهم لعله أصوب منهم رأيا وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم 5 - أن النبي صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة له المنزلة الرفيعة عند ربه 6 - معجزة تكثير الماء على يديه صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر وقد وقع نبع الماء من بين أصابعه مرارا في الحضر والسفر صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر 62 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أو قال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الناس

على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعني وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله فقال لي يا عبد الله بن قيس قلت لبيك رسول الله قال ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة قلت بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي قال لا حول ولا قوة إلا بالله -[المعنى العام]- عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة في ذي الحجة فأقام بها بضع عشر ليلة وكان أهل خيبر من اليهود قد نكثوا عهدهم وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمالئوا مع الأحزاب ضده صلى الله عليه وسلم كما فعل قريظة والنضير فكان لزاما تأمين الدعوة من غدرهم كما كان من العدالة تأديبهم خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم وصل إلى ديار خيبر ليلا وكان لا يغير على قوم حتى يصبح فلما أصبح وخرجت يهود إلى مزارعهم رأوا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا وتحصنوا بحصونهم فأقام النبي صلى الله عليه وسلم محاصرا إياهم بضع عشرة ليلة فأصابتهم مخمصة شديدة فخرجوا وبدءوا القتال وانتهى اليوم الأول دون نصر لفريق ومال كل إلى عسكره بعد الغروب فلما أصبح الصباح تقاتلوا حتى الغروب دون نصر ومال كل إلى عسكره فلما أصبح الصباح أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية أو اللواء لعلي بن أبي طالب ففتح الله به وكان النصر للمسلمين والتجأ اليهود إلى قصر من قصورهم وصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يجلوا من خيبر وله الذهب والفضة والحلي ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموه شيئا ولا يغيبوا عنه في الأرض مالا لكنهم نكثوا ودفنوا كنوزا يخفونها فأطلعه الله عليها وأخرجها من خربة فعاقبهم بالنكث واستسلموا فسبى النساء والذرية وقرر إجلاءهم فقالوا دعنا في هذه الأرض نصلحها فأبقاهم عمالا بالأرض ليس لهم

فيها ملك ولهم شطر ما يخرج منها ثم قسم المال والسبي وعاد هو وأصحابه وفي طريق عودتهم حينما أشرفوا على واد رفعوا أصواتهم بالتكبير لا إله إلا الله الله أكبر وكانوا قد علموا أن يكبروا كلما علوا جبلا أو هبطوا واديا لكنهم رفعوا أصواتهم عاليا فقال لهم صلى الله عليه وسلم هونوا على أنفسكم وارفقوا بها وهدئوا من أصواتكم فإنكم تدعون الله وتكبرونه وهو ليس أصم ولا غائبا ولكنه سميع بصير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو معكم أينما كنتم وكان أبو موسى الأشعري قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يختفي عنه وراء ناقة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر فناداه يا عبد الله بن قيس قال لبيك يا رسول الله قال حسنا قلت ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ونعيم كبير من نعيمها قال بلى دلني يا رسول الله أفديك بأبي وأمي قال لا حول ولا قوة إلا بالله التي قلتها الساعة كنز من كنوز الجنة فاحرص عليها وادع إليها فهي تسليم وتفويض وخير ما يذكر به المسلم ربه التسليم والتفويض -[المباحث العربية]- (لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر) أي وعادوا وفي طريق عودتهم كبروا لأن أبا موسى الراوي لم يكن معهم إلا في طريق عودتهم (أشرف الناس على واد) أي ارتقوا على جبل يشرف على واد منخفض والشرف المرتفع من الأرض (اربعوا على أنفسكم) بهمزة وصل مكسورة فراء ساكنة فباء مفتوحة وحكى ابن التين في رواية كسر الباء أي ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) الجملة تعليلية حاصرة لأن رفع الصوت إنما يحتاجه الأصم الذي لا يسمع الصوت المنخفض والبعيد الذي تحول المسافة بين مخرج الصوت وبينه فخفض الصوت صالح لمن اتصف بالصفتين السمع والقرب وأطلق على التكبير دعاء من جهة أنه بمعنى النداء لكون الذاكر يريد إسماع من ذكره والشهادة له

(وهو معكم) جملة حالية لتأكيد معنى القرب لأن القرب أمر نسبي فالبعيد قريب بالنسبة لمن هو أبعد (وأنا خلف دابة) المتكلم أبو موسى الأشعري راوي الحديث ودواب الغزو الناقة والفرس لكنهم لما كانوا عائدين غانمين للبقر وغيرها من الدواب جاز أن يراد بالدابة البقرة مثلا (لا حول ولا قوة إلا بالله) لعل أبا موسى قالها تسليما بأن رفع الصوت من الله وخفضه من الله ومعناها لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله وقيل المعنى لا حيلة للإنسان في أمر ما ولا قدرة له على فعل ما إلا بأمر الله وقدرته فهي كلمة استسلام وتفويض وإن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب الخير إلا بإرادة الله (لبيك يا رسول الله) أي إجابة لك بعد إجابة يا رسول الله (ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة) من الأولى بيانية كأنه قال على كلمة أي كنز من كنوز الجنة والكلمة تطلق على الواحدة وعلى الكثير من الكلام حتى على الخطبة الطويلة والكنز في الأصل المال الكثير النفيس المدخر وأطلق على الحوقلة كنز لمشابهتها الكنز في عزتها ونفاستها وعظيم فائدتها فالمراد أنها من ذخائر الجنة أو من محصلات نفائس الجنة وقال النووي المعنى أن قولها يحصل ثوابا نفيسا يدخر لصاحبه في الجنة (لا حول ولا قوة إلا بالله) هذه الجملة مقصود لفظها مبتدأ خبره محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف أو في موضع جر بدل من كنز أو في موضع نصب بتقدير أعني -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث هنا في الغزوات ثم ذكره في كتاب

الدعوات تحت عنوان وهو السميع البصير قال ابن بطال غرض البخاري الرد على من قال إن معنى سميع بصير عليم ويلزم من ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها وبالأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتا ولا يسمعها ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صنعة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر فصح أن كونه سميعا بصيرا يفيد قدرا زائدا على كونه عليما وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر ولا فرق بين إثبات كونه سميعا بصيرا وبين كونه ذا سمع وبصر وهذا قول أهل السنة قاطبة أهـ وقد يعترض على صنيع البخاري من حيث إن الحديث لا نص فيه على البصير وقد صور الكرماني هذا الاعتراض بقوله لو جاءت الرواية لا تدعون أصم ولا أعمى لكانت أظهر في المناسبة للترجمة والعنوان وأجاب عن الاعتراض بقوله لكنه لما كان الغائب كالأعمى في عدم الرؤية نفي لازمه ليكون أبلغ وأشمل أهـ -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - وصف الله تعالى بالقرب وفي ذلك يقول الله تعالى {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} 2 - عدم مشروعية رفع الصوت بالتكبير أو الدعاء رفعا يجهد النفس ويشق عليها 3 - من اعتراض الحديث على رفع الصوت بالتكبير لا على أصل التكبير شرع التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع وقد جاء استحباب ذلك صريحا في حديث كان صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده قال العلماء ومناسبة التكبير عند الصعود أن الاستعلاء والارتفاع

محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء فشرع لمن تلبس به أن يذكر الله تعالى وأنه أكبر من كل شيء 4 - قال ابن بطال في هذا الحديث نفي الآفة المانعة من السمع والآفة المانعة من النظر وإثبات كونه سميعا بصيرا يستلزم أن لا تصح أضداد هذه الصفات عليه 5 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حرصه على أمته وشفقته عليهم مصداقا لقوله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} 6 - فضيلة الذكر بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد أخرج الحاكم إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال الله أسلم عبدي واستسلم

غزوة مؤتة من أرض الشام

غزوة مؤتة من أرض الشام 63 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم -[المعنى العام]- في رمضان سنة سبع من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بإمارة غالب بن عبد الله الليثي لتأديب بطن من بطون جهينة ولتأمين المسلمين في الأرض الإسلامية وكان في هذه السرية أسامة بن زيد فاجأت السرية القوم صباحا فقاتلتهم وراع المسلمين رجل من المشركين أوجع في الضرب وأكثر من قتل المسلمين ولكن الدائرة سرعان ما دارت على المشركين فانهزموا وفروا وتعقب أسامة ورجل من الأنصار هذا المشرك حتى أدركاه وأحاطا به فقال لا إله إلا الله لينجو من القتل وكان معلوما مشهورا أن من قالها عصم دمه وماله فكف الأنصاري عن الرجل لكن أسامة اعتقد أنه يخادع فقد أسرف في قتل المسلمين منذ قليل فقاتله بالسيف فاحتمى منه بشجرة فطعنه أسامة برمحه حتى قضى عليه وذهب البشير بخبر السرية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه حديث أسامة وقتله الرجل فلما وصل أسامة إلى المدينة سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته يا أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله قال إنه قالها خوفا من السلاح قال له هل شققت عن قلبه لتعلم أقالها من قلبه أم خداعا قال يا رسول الله أنه أوجع في القتل وقتل فلانا

وفلانا من المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله قال أسامة يا رسول الله استغفر لي قال وبم تجيب يوم القيامة إذا جاءت لا إله إلا الله تطالبك بحقها في حقن الدم والمال قال استغفر لي يا رسول الله قال وكيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة أعاد أسامة طلب المغفرة وكرره لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على قوله كيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة وتمنى أسامة أنه لم يكن أسلم قبل ذلك اليوم ليغسل الإسلام الجديد ذنبه وحلف ألا يقاتل مسلما فلما جاءت الفتنة واستنفر علي أصحابه ومنهم أسامة أحجم أسامة عن مناصرة علي وأرسل إليه يقول لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه ولكن أكره قتال المسلمين -[المباحث العربية]- (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الضمير لأسامة ومن كان معه من أفراد السرية (إلى الحرقة) في رواية الحرقات بضم الحاء وفتح الراء بطن من جهينة يقيمون على مسافة نحو ستة وتسعين ميلا من المدينة بناحية نجد قيل سموا بذلك لواقعة كانت بينهم وبين بني مرة بن عوف فأحرقوا بني مرة بالسهام وأكثروا من قتلهم (فصبحنا القوم) أي فاجأناهم وهجمنا عليهم في الصباح يقال صبحته إذا أتيته صباحا بغتة (ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم) لم يقف الحفاظ على اسم الأنصاري أما الحرقي فقيل إن اسمه مرداس بن عمرو الفدكي وقيل مرداس بن نهيك الغزاوي والكلام معطوف على محذوف أي فهزمناهم فولوا هاربين (فلما غشيناه) بفتح الغين وكسر الشين أي لحقنا به ووقفنا عليه كأنه تغطى بنا

(قال لا إله إلا الله) كناية عن الشهادتين وقيل إن هذه الشهادة وحدها كافية للمنع من القتل وبخاصة من مشرك (فطعنته برمحي حتى قتلته) أي وما زلت أطعنه حتى قتل (أقتلته بعد ما قال) الاستفهام للتقرير أي حمل المخاطب على الإقرار ويصح أن يكون للتهويل والعجب ويصح أن يكون للتوبيخ أي ما كان ينبغي (قلت كان متعوذا) بضم الميم وفتح التاء والعين وكسر الواو المشددة أي ملتجئا إلى الكلمة من أجل العوذ والعصمة (فما زال يكررها) أي يكرر أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله وفي رواية فما زال يكرر أفلا شققت عن قلبه وفي رواية أنه كرر كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كرر الألفاظ الثلاثة فنقل راو واحدة ونقل الآخر الأخرى (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) في رواية حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ والمعنى تمنيت أنه لم يتقدم إسلامي بل ابتدأت الإسلام الآن ليمحو عني هذا الذنب -[فقه الحديث]- قال ابن رشد: قتل أسامة الرجل ليس من العمد الذي فيه الإثم ولا من الخطأ الذي فيه الدية والكفارة وإنما هو عن اجتهاد تبين خطؤه ففيه لأسامة أجر واحد وإنما عنفه صلى الله عليه وسلم لتركه الاحتياط فإن الأحوط عدم قتله أهـ ومما لا شك فيه أن أسامة اجتهد وتأول سواء قلنا إنه ظن أن الرجل قالها خوف السلاح فقط كما اعتذر هو بذلك أو قلنا كما قال الخطابي لعل أسامة تأول قوله تعالى {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} ولهذا سقط القصاص عنه باتفاق

أما من جهة الدية أو الكفارة فجمهور العلماء عن أن الدية والكفارة لا تسقط في مثل هذه الحالة لكن هل ألزمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياها فسكت الرواة عنه أو لم يلزمه حيث كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة وقال القرطبي يحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب ثم قال ولم أر من اعتذر عن سقوط الكفارة فلعلها أيضا لم تكن شرعت والتأويل وإن أسقط القصاص لم يسقط التوبيخ كما وقع ولا العقوبة الأخروية ولذا لم يقبل عذره -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر 2 - استدل به بعضهم على أن من تمنى أنه لم يكن أسلم قبل اليوم لا يكفر لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال وفي هذا الاستدلال نظر لأن أسامة لم يقصد التمني حقيقة وإنما قصد المبالغة في الخوف 3 - جواز اللوم والتعنيف والمبالغة في الوعظ عند الأمور الهامة 4 - قال القرطبي في تكريره صلى الله عليه وسلم وإعراضه عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك 5 - أن لا إله إلا الله تعصم الدم 6 - جواز المراجعة في العلم 7 - حلم العالم على السائل

غزوة الطائف

غزوة الطائف 64 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا قال إنا قافلون إن شاء الله فثقل عليهم وقالوا نذهب ولا نفتحه وقال مرة نقفل فقال اغدوا على القتال فغدوا فأصابهم جراح فقال إنا قافلون غدا إن شاء الله فأعجبهم فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -[المعنى العام]- عاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غزوة حنين التي سنتكلم عنها في الحديث التالي وحبس الغنائم بمكان يدعى الجعرانة وكان مالك بن عوف النضري قائد الكفار في حنين قد دخل الطائف بعد أن انهزم في حنين وكان له حصن في ضواحيها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإدراكه وغزو الطائف وفي طريقه هدم حصن مالك بن عوف ووصل الطائف في شوال سنة ثمان من الهجرة ودخل ثقيف أهل الطائف مدينتهم وأغلقوا على أنفسهم أسوارها المنيعة وتحصنوا بها وقد جمعوا بالداخل قوت سنة حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت ثقيف قوما رماة صعدوا الأسوار ومن ثقوب أخذوا يرمون المسلمين بالنبال ولا تنالهم نبال المسلمين بعد بضعة عشر يوما من حصار غير مفيد والمسلمون يقدمون الشهداء استشار الرسول صلى الله عليه وسلم خبراء

القوم فقال نوفل بن معاوية الديلي يا رسول الله هم ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة وقال إنا قافلون إن شاء الله وقويت عزيمته على ذلك حين جاءه أصحابه يقولون يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع عليهم فقال اللهم اهد ثقيفا ثم قال لأصحابه مرة ثانية إنا قافلون إلى المدينة غدا إن شاء الله فلم يعجبهم هذا القرار وثقل عليهم وعز عليهم أن يرجعوا دون فتح الطائف وهم في كثرة وقوة فقال قائلهم نأتي إلى هنا ونحاصرهم ويعلم بنا العرب ثم نعود كما جئنا وأحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الغالبية لا تستريح لقرار العودة فرأى أن يدركوا بأنفسهم أن القرار حكيم وضروري فقال لهم لكم ما تشاءون اغدوا للقتال فأصبحوا يرمون رجال الأسوار بالنبال دون إصابة وحاولوا فتح أبواب الحصن وكانت ثقيف مستعدة لهذه المحاولة بقطع الحديد المحمي التي ألقتها من فوق الأسوار على المسلمين فأصيب منهم الكثير وجاءوا يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنا راجعون غدا إن شاء الله فأعجبهم القرار وأعلنوا الرضا به والموافقة عليه فتبسم صلى الله عليه وسلم وعادوا إلى الجعرانة فقسم الغنائم كما سيأتي في الحديث التالي وشاء الله لأهل الطائف أن يسلموا بعد عام -[المباحث العربية]- (الطائف) بلد كبير مشهور كثير الأعناب والنخيل على بعد نحو مائتي ميل من مكة من جهة الشرق أشهر سكانها قبائل ثقيف (إنا قافلون) راجعون من حيث جئنا أي غدا إن شاء الله (فثقل عليهم) أي اشتد وعظم عليهم أمر الرجوع (وقالوا نذهب ولا نفتحه) الكلام على الاستفهام التعجبي أو الإنكاري أي لا ينبغي أن يقع ذلك والمعنى نذهب عن الطائف ولا نفتحه لا يكون ذلك (وقال مرة نقفل) بضم الفاء أي قال ذلك مرة أخرى قبل اعتراضهم

أي قال ذلك مرتين فاعترضوا فقال بعد الاعتراض (اغدوا على القتال) الغدو السير أول النهار أي سيروا للقتال غدا صباحا كعادتكم (فغدوا) على القتال بالنبال ومحاولة فتح الحصن (فأصابهم جراح) شديدة من النبال ومن قطع الحديد المحمي (فقال) معطوف على محذوف أي فشكوا إليه فقال (فأعجبهم) ضمير الفاعل يعود على قرار العودة المفهوم من المقام (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) كان ضحكه صلى الله عليه وسلم تبسما ولذا جاء في رواية أخرى في الصحيح فتبسم -[فقه الحديث]- يرجع العلماء أسباب عدم النيل من ثقيف وعدم فتح الطائف إلى 1 - أنهم كانوا قد أحكموا سورا عاليا حول بلدتهم وأحكموا أبوابه 2 - وأنهم جعلوا عليه منافذ علوية محصنة للرمي منها على الخارج 3 - واستعانوا ببعض المهرة من الرماة من الكفار من غير أهل الطائف 4 - وأنهم كانوا مشهورين بالشجاعة والقوة 5 - وأنهم جعلوا مواشيهم ترتع في موضع بعيد مأمون 6 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بدأ يقطع أعنابهم ويحرق نخيلهم سألوه أن يدعها لله وللرحم حيث إن الجدة العليا لأمه صلى الله عليه وسلم كانت من ثقيف فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم 7 - أنهم خافوا إن نزلوا أو استسلموا أن يقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم كما فعل ببني قريظة فقاتلوا قتال المستميت 8 - قال بعضهم لم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف كيلا يستأصل

المسلمون أهله انتقاما على سوء معاملتهم للرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض عليهم نفسه فأغروا به الصبية والسفهاء أهـ وفي هذا نظر لأنه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه في الحصار أن يدعو عليهم دعا لهم ولأنه ساعة أوذي طلب لهم المغفرة والهداية -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حرصه صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمته ورحمته بقومه حيث أمرهم بالرحيل حماية لهم من الضرر 2 - أن الإمام لا يضره أن ينزل على رأي الرعية حتى يستبين لهم وجه الصواب 3 - أنه يشرع احتمال أخف الضررين فقد حملهم صلى الله عليه وسلم بعض الأذى من أجل أن لا يندموا ويرتابوا في صحة القرار 4 - سماحته صلى الله عليه وسلم حين استسلموا ورجعوا إلى قبول رأيه فلم يعنفهم بل لم يعتب عليهم رفضهم واعتراضهم 5 - أن الرجوع إلى الحق والصواب خير من العناد والتمادي في غير المصلحة

65 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال جمع النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من الأنصار فقال إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم قالوا بلى قال لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار -[المعنى العام]- في رمضان على رأس ثمان سنين ونصف السنة من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتحت له مكة بعد أن سار إليها في عشرة آلاف مسلم أقام بها خمسة عشر يوما ثم بلغه أن هوازن وثقيفا قد جمعوا جموعهم بواد يسمى حنين قريب من الطائف يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار بجموعه التي فتحت مكة بل تبعه كثير ممن قرب عهدهم بالإسلام من أهل مكة جيش لم يسبق له مثيل في كثرة عدده وعدده حتى أعجب المسلمون بكثرتهم وقال قائلهم لن نغلب اليوم من قلة ولم يحسبوا أن هوازن جمعت من الأعداء ضعف عددهم وأنهم أهل الأرض وأدرى بشعابها وأهل خبرة في الحرب وقوة وبأس لقد صفوا الخيل ثم المقاتلة ثم النساء من وراء ذلك ثم الغنم ثم النعم ثم أخذوا المسلمين على غرة ففر المؤلفة قلوبهم وتبعهم كثير من جيش المسلمين حتى قيل إنه لم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى أقل من مائة رجل فقال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس ناد أصحاب الشجرة فنادى فرجع الناس وحملوا على المشركين فهزموهم واستاقوا السبي والغنم والنعم غنائم كثيرة يحتاج حصرها وتوزيعها إلى وقت طويل فأمر صلى الله عليه وسلم بجمعها وحفظها في الجعرانة وأقام عليها حرسا حتى يرجع هو وأصحابه من الطائف فلما عاد من الطائف أخذ يوزع غنائم حنين فقسمها بين قريش والمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا وفاز المؤلفة قلوبهم من مسلمي الفتح بأكبر نصيب، فقد أعطى أبا سفيان مائة من الإبل وأعطى صفوان بن

أمية مائة وأعطى عيينة بن حصن مائة وأعطى مالك بن عوف مائة وأعطى الأقرع بن حابس مائة وغيرهم أعطي مائة مائة. فغضب الأنصار وتكلموا فيما بينهم. قال أحدهم: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وقال آخر: إذا كانت الشدة ندعى لها، ويعطى الغنيمة غيرنا وقال ثالث والله إن هذا لهو العجب إن قريشا حديثة إسلام لم تحارب للدعوة بعد بل ما زالت سيوفنا تقطر من دمائهم لدفاعهم عن الكفر يعطون ولا نعطى؟ غفر الله لرسوله. وبلغ كل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم في قبة ثم خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم أقلتم كذا وكذا قالوا نعم فقال أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم لو شئتم قلتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فواسيناك وخائفا فآمناك فقالوا بل المن علينا لله ولرسوله بماذا نجيبك يا رسول الله فقال إن قريشا حديثو العهد بالإسلام قريبو عهد بجاهلية وقريبو عهد بمصيبة وهزيمة في مكة وذل وصغار فأردت أن أجبرهم وأن أتألفهم أما يرضيكم أن ترجع قريش بالإبل والشاة وترجعون أنتم برسول الله قالوا بلى يا رسول الله قال فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا رضينا يا رسول الله ولا حاجة لنا بالدنيا قال صلى الله عليه وسلم لو سلك الناس طريقا وسلك الأنصار طريقا آخر لسلكت طريق الأنصار ولولا الهجرة وفضلها لتمنيت أن أكون امرءا من الأنصار -[المباحث العربية]- (جمع النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من الأنصار) في رواية فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم وفي رواية فدخل سعد بن عبادة فذكر له ما جال في نفوس قومه فقال له صلى الله عليه وسلم فأين أنت من ذلك يا سعد قال ما أنا إلا من قومي قال فاجمع لي قومك فخرج فجمعهم (إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة) في بعض الروايات حديثو

عهد بالجمع أي قريبون من الجاهلية وقريبون من هزيمتهم وفتح بلادهم وقتل أقاربهم في سابق الغزوات (وإني أردت أن أجبرهم) بفتح الهمزة وسكون الجيم وضم الباء من الجبر ضد الكسر وفي رواية أجيزهم بضم الهمزة وكسر الجيم بعدها ياء فزاي أي أعطيهم وأثيبهم (أما ترضون) الهمزة للاستفهام التقريري أي حمل المخاطبين على الإقرار بما بعد النفي أي ارضوا ليقولوا رضينا وقد قالوها فعلا فقد جاء في رواية أنهم قالوا يا رسول الله قد رضينا وفي روايتنا قالوا بلى (أن يرجع الناس بالدنيا) المراد من الناس من أعطوا من الغنائم من قريش والمراد من الدنيا الغنيمة وفي رواية بالشاة والبعير وفي رواية أن يذهب الناس بالأموال (وترجعون برسول الله إلى بيوتكم) وفي رواية تحوزونه إلى بيوتكم (لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا) الوادي هو المكان المنخفض وقيل الذي فيه ماء والشعب بكسر الشين اسم لما انفرج بين جبلين وقيل الطريق في الجبل -[فقه الحديث]- تطلق المؤلفة قلوبهم شرعا على ناس أسلموا إسلاما ضعيفا وعلى كفار قريبين من الإسلام وعلى مسلمين لهم أتباع كفار ليتألفوهم وعلى مسلمين أول ما دخلوا في الإسلام ليتمكن الإسلام من قلوبهم قال الحافظ ابن حجر والمراد هنا الأخير لقوله في بعض الروايات فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم وظاهر الحديث أن العطية التي أعطاها قريشا كانت من جميع الغنيمة وقال القرطبي الإجراء على أصول الشريعة يفيد أن العطاء المذكور كان من الخمس فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي في هذه الغزوة ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم

وقيل إنما كان تصرفا في الغنيمة لأن الأنصار كانوا قد انهزموا فلم يرجعوا حتى وقعت الهزيمة على الكفار فرد الله الغنيمة لنبيه فهو خاص بهذه الواقعة أما قول من قال من الأنصار فقد اعتذر عنه رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم لما شرح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة مما صنع رجعوا إليه مذعنين ورأوا أن الغنيمة العظمى هي ما حصل لهم من عود الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم وقال صلى الله عليه وسلم ما قال تطييبا وتواضعا وإنصافا وإلا ففي الحقيقة أن الحجة البالغة والمنة الظاهرة له عليهم ولذا جاء في بعض روايات الصحيح أنه قال لهم ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي وكلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء والغنيمة للمصلحة 2 - أن من طلب حقه من الدنيا لا لوم عليه 3 - تسلية من فاته شيء من الدنيا بما حصل له في الآخرة من ثواب 4 - العمل على الهداية وتأليف القلوب وإزالة ما يعلق بالنفوس 5 - حسن أدب الأنصار في عدم الجدل والمماراة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 6 - إقامة الحجة على الخصم وإقناعه بالحق 7 - فيه مناقب عظيمة للأنصار 8 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حلم وحسن معاملة

66 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في كفي سواران من ذهب فكبرا علي فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة -[المعنى العام]- في سنة تسع من الهجرة وفدت وفود العرب إلى المدينة لتسلم وتتزود من معارف الإسلام على يد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن هذه الوفود وفد بني حنيفة الذين كانوا يسكنون اليمامة بين مكة واليمن كان الوفد بضعة عشر رجلا وفيهم مسيلمة وأسلموا وعادوا إلى بلادهم وفي العام التالي جاء وفد كبير آخر من بني حنيفة على رأسه مسيلمة. وكان لمسيلمة شأن بين قومه فكان يدعى رحمان اليمامة وشاء الله له أن يكون مثل إبليس حمله غروره أن يفكر في مشاركة محمد صلى الله عليه وسلم في الرسالة أو أن يخلفه فيها بعد

وفاته وأذاع هذا الفكر الخبيث بين جماعته حين قدم على رأس وفد وجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر بعده تبعته وفي المدينة طلب مقابلة محمد صلى الله عليه وسلم فذهب صلى الله عليه وسلم إليه في رحله ومعه ثابت بن قيس الخطيب المسلم المشهور المعروف بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد فقال مسيلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك أن تجعل لي الخلافة بعدك وكان صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه أن خزائن الأرض قد وضعت بين يديه وأنه وضع في كفيه سواران من ذهب فكرههما وعظم عليه طرحهما فأوحى الله إليه في المنام أن ينفخهما فنفخهما فذهبا فلما سمع من مسيلمة ما سمع تذكر الرؤيا ووقع في نفسه أن مسيلمة أحد السوارين وأنه شر على الإسلام يخدع الناس لكنه صلى الله عليه وسلم لا يقتل بالظنة ثم إن وفد بني حنيفة قوم كثير ثم ماذا يقال عنه إذا أساء إلى رءوس الوفود قد أحسن القول والفعل لمسيلمة لكنه قال له لو سألتني الجريدة التي في يدي ما أعطيتكها فضلا عن الخلافة وإني لأظنك الذي رأيت في منامي ولن تعدو أن تتخطى أمر الله فقد رأيت ضياعك وهلاكك ولن أطيل الكلام معك ولكني سأترك لك ثابت بن قيس يجيبك وعاد صلى الله عليه وسلم وعاد مسيلمة إلى اليمامة ليكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض بيني وبينك لي نصفها ولك نصفها فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وأعلن مسيلمة النبوة وادعى أن قرآنا ينزل عليه وخدع الكثير من قومه فآمنوا به وسمع أن امرأة من بني تميم تدعى سجاحا تدعي النبوة أيضا وأن جماعة من قومها آمنوا بها فأرسل إليها وتزوجها واجتمع قومها وقومه على طاعته وفي هذه الأثناء ادعى النبوة في اليمن رجل آخر يدعى الأسود العنسي وتابعه كثير من قومه وخرج بهم إلى صنعاء فغلب عامل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها وملكها وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأوله بالسوار الثاني فأما ما كان من أمر الأسود العنسي فقد قتل قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بليلة

واحدة وأما ما كان من أمر مسيلمة فقد أرسل إليه أبو بكر بجيش كبير في حروب الردة فقضى عليه وعاد الإسلام من جديد إلى ربوع الجزيرة العربية بعد أن اختفى منها حتى لم تكن تقام الجماعة فيها إلا في مسجدين مسجد المدينة ومسجد عبد القيس -[المباحث العربية]- (أتيت بخزائن الأرض) أي في المنام ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي وتأويل خزائن الأرض فتح الله على أمته من كنوز كسرى وقيصر وخيرات الأرض ومعادنها وما أصابهم من غنى وملك بعده صلى الله عليه وسلم (فوضع في كفي سواران من ذهب) وضع بالبناء للمجهول وكفي بالإفراد ومن بيانية والسوار ما يوضع في اليد حول المعصم وهو بكسر السين ويجوز ضمها وفي رواية إسواران بكسر الهمزة وسكون السين وهو تثنية إسوار وهي لغة في السوار وظاهر الرواية أن السوارين لم يلبسا في اليدين في المعصمين بل كانا مجموعين في كف واحدة لكن الرواية الأخرى في البخاري تقول رأيت في يدي بالتثنية سوارين من ذهب مما يقتضي وضع سوار في كل يد (فكبرا علي) بضم الباء أي عظما وثقلا وفي رواية للبخاري ففظعتهما وكرهتهما وفي رواية أخرى له أيضا فأهمني شأنهما والفظيع الأمر الشديد (فأوحى الله إلي) يحتمل أن يكون من وحي الإلهام أو على لسان الملك (فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما) تأويل الرؤيا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم والرواية صريحة في أن الكذابين كانا حينئذ موجودين بكذبهما لكن جاء في رواية أخرى للبخاري فأولتهما كذابين يخرجان مما يدل على أنه إخبار بغير واقع سيقع وقد جمع بينهما بأن الكذابين كانا موجودين لكن أمرهما وشيوع كذبهما لم يكن خرج بعد أما رواية يخرجان بعدي فالمراد منها

خروج شوكتهما ومحاربتهما والمراد من البينية في أنا بينهما بينية الدعوة الصادقة والداعية الصادق بين كذابين وليست بينية مكانية لأن اليمامة بين مكة وصنعاء والمدينة في الطرف البعيد عنها (صاحب صنعاء وصاحب اليمامة) أي الأسود العنسي ومسيلمة وكلمة صاحب بالنصب بدل من الكذابين وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف أي هما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة والصاحب الملازم من المصاحبة والصحبة -[فقه الحديث]- إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليسا من لبسه لأنهما من حلي النساء عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له وأيضا في كونهما من ذهب والذهب مشتق من الذهاب يشير إلى أنه شيء يذهب ولا يبقى وتأكد ذلك بالوحي بنفخهما فطارا فعرف أنه لا يثبت لهما أمر إذ النفخ يشير إلى حقارة أمرها لأن شأن الذي ينفخ فيه فيذهب بالنفخ أن يكون في غاية الحقارة والمراد الحقارة المعنوية لا الحسية. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - في الحديث علم من أعلام النبوة وأن أمة الإسلام ستفتح عليها خزائن الأرض وقد كان ما أخبر به 2 - قال الحافظ ابن حجر ويؤخذ منه منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه حتى طارا أما الأسود فقتل في زمنه وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتله أبو بكر الصديق قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك 3 - ويؤخذ منه أن السوار وسائر آلات أنواع الحلي اللائقة بالنساء تعبر للرجال بما يسوؤهم ولا يسرهم إذا رؤي في المنام

قصة أهل نجران

قصة أهل نجران 67 - عن حذيفة قال جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة -[المعنى العام]- نجران بلد كبير يتبعه قرى كثيرة فوق السبعين قرية وتقع بين مكة واليمن أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة يدعوهم إلى الإسلام فخرج إليه وفد عاد ولم يسلم وفي المدينة وفي سنة تسع من الهجرة قدم

وفد نجران شأنهم شأن كثير من الوفود التي قدمت بعد أن ذاع أمر الإسلام وقويت شوكة المسلمين جاء عشرون رجلا على رأسهم رجلان رجل يلقب بالسيد واسمه الأيهم وكان رئيسهم في مجتمعاتهم ورجل يلقب بالعاقب واسمه عبد المسيح وكان صاحب الرأي والمشورة فيهم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم تلن له قلوبهم وانصرفوا من يومهم ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون آية من أول سورة آل عمران إحداها تقول {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فلما عادوا في اليوم الثاني قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال لهم إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم أي ألاعنكم أي يقول كل منا ألا لعنة الله على الظالمين فانصرفوا يتشاورون فلما أصبح الصباح خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد الحسن والحسين ليباهل الوفد وقال لأصحابه لقد أتاني البشير يبشرني بهلاك أهل نجران إن هم أقدموا على المباهلة وجاء الوفد ورئيساه العاقب والسيد فقال أحدهما لصاحبه والله لا نباهله أبدا لأنه لو كان نبيا ولاعناه لن نفلح أبدا نحن ولا أولادنا من بعدنا قال الآخر وهل نستجيب لما يطلبه منا إنه يطلب جزية في مقابل حمايته لنا مع بقائنا على ديننا إنه يطلب ألفي حلة في العام ألفا في رجب وألفا في صفر ومع كل حلة أوقية من ذهب إنها جزية كبيرة قال له صاحبه لكنها أهون علينا من المباهلة وأهون علينا من الدخول في دينه فذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولان له لن نباهلك ولكنا سنعطيك ما طلبت من الجزية فابعث معنا رجلا أمينا نسلمها له ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال صلى الله عليه وسلم كل المسلمين أمين وسأبعث معكم رجلا أمينا حق أمين وأعظم أمين وبات المسلمون كل يتطلع لأن يكون هو المبعوث ليحظى بهذا الشرف الكبير أمين حق أمين فلما أصبحوا وانتظر الصحابة من يكون صاحب هذا الشرف قال صلى الله عليه وسلم قم يا أبا عبيدة بن الجراح فاذهب معهم والتفت إليهم وقال هذا أمين هذه الأمة

-[المباحث العربية]- (جاء العاقب والسيد) العاقب اسمه عبد المسيح وكان صاحب الرأي والمشورة في أهل نجران والسيد واسمه الأيهم بياء ساكنة بعد الهمزة ويقال اسمه شرحبيل وكان رئيس مجتمعاتهم (صاحبا نجران) أي المقيمان بها الملازمان لها من الصحبة ونجران بفتح النون وسكون الجيم بلدة كبيرة بين مكة واليمن يتبعها ثلاث وسبعون قرية (يريدان أن يلاعناه) المراد من الملاعنة أن يقول كل من المختلفين على أمر لعنة الله على الكاذب وهي المباهلة الواردة في قوله تعالى {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} وإسناد الإرادة لهما مع أن أحدهما كان يعارض الآخر إما على سبيل تغليب المريد على غير المريد وإما لأن المعارض كان يريد ثم عدل (فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل) الملاعنة قيل إن القائل هو السيد وقيل هو العاقب وهو الأقرب لأنه صاحب الرأي والمشورة (فوالله لو كان نبيا فلاعنا) في رواية فلاعننا بإظهار النون والمراد على الروايتين فلاعننا هو وليس المراد فلاعناه نحن أي دعا علينا باللعنة (لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا) المراد من العقب الذرية التي تأتي عقب الآباء فالمراد من البعدية التأكيد أو المراد بعد أن نذهب نحن وتستقل الذرية بأمرها (قالا إنا نعطيك ما سألتنا) ولا نلاعن القائل أحدهما وأسند القول إليهما لموافقة الآخر وكان قد سألهم أن يصالحهم ويحميهم على ألفي حلة وألفي أوقية من الذهب كجزية ما داموا لم يسلموا وكانوا نصارى (وابعث معنا رجلا أمينا) ليتسلم مال الصلح وطلبا الأمانة في الرجل

لئلا يتهما في حالة عدم وصول المتفق عليه كاملا (ولا تبعث معنا إلا أمينا) تصريح بلازم الجملة الأولى للتأكيد (أمينا حق أمين) حق أمين من إضافة الصفة إلى الموصوف أي أمينا حقا (فاستشرف له أصحاب رسول الله) أي فتطلع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه واشرأبت له أعناقهم كل يحرص أن يكون هو الموصوف بهذا الوصف حتى روي عن عمر أنه قال ما أحببت الإمارة قط إلا مرة واحدة ثم ذكر القصة وقال فتعرضت أن تصيبني (فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح) أي قف وأبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في فهر بن مالك مات أبو عبيدة بالطاعون وهو أمير على الشام من قبل عمر سنة ثمان عشرة -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر ذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين أهـ -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وفيه نظر لأن ما حصل من صاحبي نجران الخوف والخشية من أن يكون نبيا ثم التسليم بغلبته عليهم ودفع الجزية له وليس بلازم أن يكونا مقرين في أنفسهما له بالنبوة 2 - جواز مجادلة أهل الكتاب وقد تجب إذا تعينت طريقا للمصلحة قال تعالى {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} 3 - مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة قال الحافظ

ابن حجر وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ووقع ذلك لجماعة من العلماء ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين أهـ 4 - وفيه مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار وفي كل عام 5 - وفيه بعث الإمام العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام قال الحافظ ابن حجر وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتي بصدقاتهم وجزيتهم قال وهذه قصة غير قصة أبي عبيدة لأن أبا عبيدة توجه معهم فقبض مال الصلح ورجع وعلي أرسل بعد ذلك لقبض الجزية ممن لم يسلم والصدقة ممن أسلم 6 - وفيه منقبة عظيمة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأنه أمين وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين كثير غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيدا فيها وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم بعض كبار الصحابة بفضيلة ووصفه بها وقد أخرج الترمذي وابن حبان أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح

قدوم الأشعريين وأهل اليمن

قدوم الأشعريين وأهل اليمن 68 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال إنا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين فاستحملناه فأبى أن يحملنا فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا ثم لم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن أتي بنهب إبل فأمر لنا بخمس ذود فلما قبضناها قلنا تغف لنا النبي صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح بعدها أبدا فأتيته فقلت يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا قال أجل ولكن لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها -[المعنى العام]- في سنة تسع من الهجرة عام الوفود قدم وفد الأشعريين ضمن وفد يمني وكانت الوفود تأتي إلى المدينة بعد أن شاع الإسلام وأمن على نفسه من آمن جاءوا يرغبون في الاستزادة من الإسلام برؤية النبي صلى الله عليه وسلم جاءت رءوس القبائل تعلن طاعتها وإسلامها وجاء الفقراء منهم للتفقه في الدين وابتغاء فضل الله حيث كانت الغنائم تتوالى رأى الأشعريون وهم الفقراء سماحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده وكثرة عطائه فتعرضوا للعطاء مرة ومرتين فلم يصبهم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقدم البعض على البعض لاعتبارات فقد

يقدم ضعيف الإيمان يستأنفه وإن كان غنيا وقد يقدم وفد قبيلة غليظة الفؤاد على وفد قبيلة رقيقة القلوب يستلينهم نعم وقد يعطي الرجل وغيره أحب إليه ممن أعطاه ولم يصبر الأشعريون وللفقر أنياب موجعة لقد صرحوا بالطلب فأعرض صلى الله عليه وسلم صرحوا مرة أخرى أن يعطيهم نوقا تحملهم فاعتذر لهم برفق ألحوا وألحفوا فغضب صلى الله عليه وسلم وحلف أن لا يعطيهم وبدا عليهم الانكسار والتأسف وأقاموا بين عذاب الضمير لإغضابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحرمان فلا هم أخذوا ولا هم استبقوا رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون مجلسه خائفين وجلين يغضون الطرف ويخفضون الصوت لكن الكريم السمح الذي يعز عليه مشقة أمته الرءوف الرحيم لا يفوته جبر خاطر من عنفه وأغلظ له مؤدبا لقد جاءه صلى الله عليه وسلم قطيع من إبل ساقها الله غنيمة للمسلمين فأمر أن يعطي الأشعريون منها خمسا فلما أخذوها قال بعضهم لبعض لقد كان صلى الله عليه وسلم قد حلف أنه لن يعطينا لعله نسي يمينه وأعطانا في غفلة عنها ولئن أخذناها والحالة هذه لا يبارك لنا فيها ولا نفلح بعدها أبدا في أبداننا وأموالنا وأولادنا فلنرجع إليه بالنوق نذكره يمينه فرجعوا وتكلم أبو موسى الأشعري نيابة عنهم فقال يا رسول الله إنك حلفت لا تعطينا وقد أعطيتنا أنسيت يمينك قال صلى الله عليه وسلم ما نسيت وما أعطيتكم ولكن الله الذي أعطاكم فالعطاء كله من الله إنما أنا قاسم والله هو المعطي وما حلفت على شيء ورأيت غيره خيرا منه إلا فعلت ما هو خير وحنثت وكفرت عن يميني -[المباحث العربية]- (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريين) نفر بالرفع بدل من الضمير الفاعل في أتينا وقد استدل به ابن مالك على جواز الإبدال من ضمير الحاضر بدل كل من كل والأشعريون قوم أبي موسى سكناهم اليمن قيل سموا بذلك نسبة إلى الأشعر جد لهم ولدته أمه كثير الشعر على جميع أعضاء جسمه

(فاستحملناه فأبى) السين والتاء للطلب أي طلبنا منه أن يحملنا على إبل أي طلبنا منه إبلا تحملنا ونركب عليها فأبى أن يعطينا مقدما غيرنا علينا (فاستحملناه فحلف) أي فطلبنا منه مرة ثانية وفي رواية عن أبي موسى أرسلني أصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان فوافقته وهو غضبان فقال والله لا أحملكم (ثم لم يلبث) أي ثم لم تمض مدة طويلة على حلفه حتى عاد في حلفه (أن أتي بنهب إبل) نهب بفتح النون وسكون الهاء بعدها باء أصله ما يؤخذ اختطافا بحسب السبق إليه من غير تسوية بين الآخذين والمراد هنا غنيمة وأطلق عليها لفظ نهب مجازا وإضافته إلى إبل إضافة بمعنى من أي بغنيمة من إبل (بخمس ذود) بإضافته خمس إلى ذود وروي بالتنوين فذود إما بدل مجرور أو مرفوع خبر لمبتدأ محذوف والذود بفتح الذال وسكون الواو بعدها دال من الثلاث إلى العشرة من النوق وقيل إلى السبع وهو مؤنث ولا واحد له من لفظه والتكسير له أذواد وفي رواية بثلاث ذود وفي رواية ستة أبعرة قال بعضهم في الجمع بين الروايات يحتمل أنه أمر لهم أولا بثلاث ثم زادهم (تغفلنا النبي صلى الله عليه وسلم يمينه) أي أخذنا منه ما أعطانا في حال غفلته عن يمينه ولم نذكره به (فلما قبضناها قلنا) في رواية فاندفعنا أي سرنا مسرعين وفي رواية ثم انطلقنا فقلت لأصحابي ... فالقائل أبو موسى وأسند القول للجمع لرضاهم به (لا أحلف على يمين) أي على محلوف يمين فأطلق عليه لفظ يمين للملابسة وفي رواية على أمر

(فأرى غيرها خيرا منها) ظاهر الكلام عود الضمير على اليمين ولا يصح عوده على اليمين بمعناها الحقيقي فالمعنى فأرى غير المحلوف عليه خيرا من المحلوف عليه والرؤية هنا اعتقادية لا بصرية (وتحللتها) أي فعلت ونقلت المنع إلى الإذن فيصير حلالا ويحصل ذلك بالكفارة -[فقه الحديث]- ظاهر قوله إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها تقديم الحنث على الكفارة ولا خلاف في جواز ذلك لكن الخلاف في جواز تقديم الكفارة على الحنث أخذا من رواية فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير ورواية إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير فالحنفية وأشهب من المالكية وداود الظاهري يرون أن الكفارة لا تجزئ قبل الحنث وقالوا في قوله تعالى {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} أي إذا حلفتم فحنثتم وقالوا أيضا إن الكفارة تجب بالحنث لا بنفس اليمين إذ لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث، وقالوا أيضا إن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبل الحنث تطوع ولا يقوم التطوع مقام الفرض وذهب ربيعة والأوزاعي والليث والشافعي وسائر فقهاء الأمصار إلى أن الكفارة تجزئ قبل الحنث وإن استحبوا تأخيرها لما بعد الحنث واحتجوا بأن اختلاف ألفاظ الحديث لا يدل على تعيين أحد الأمرين وإنما أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعا فقد فعل ما أمر به وقد اختلف لفظ الحديث فقدم الكفارة مرة وأخرها مرة لكن بحرف الواو الذي لا يوجب ترتيبا قال الباجي وابن التين وجماعة الروايتان دالتان على الجواز لأن الواو لا ترتب وقال الجمهور في قوله تعالى {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} أي إذا حلفتم فأردتم الحنث وللإمام مالك في المسألة روايتان قال عياض ومنع بعض المالكية تقديم كفارة المعصية لأن فيه إعانة على المعصية والله أعلم

واختلف العلماء في هل كفر صلى الله عليه وسلم عن يمينه المذكورة فقيل لم يكفر أصلا لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إنما نزلت الكفارة تعليما للأمة والظاهر من الحديث أنه كفر وهو الأصح لقوله في رواية الصحيح وكفرت عن يميني -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - ترجيح الحنث في اليمين إذا كان خيرا من التمادي في التمسك به وخص ذلك بعضهم بما كان طاعة مستأنسا برواية مسلم فرأى غيرها أتقى لله فليأت التقوى 2 - وأن تعمد الحنث في مثل ذلك يكون طاعة لا معصية 3 - وجواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر ولو كان مستقبلا 4 - وفيه جواز اليمين عند المنع 5 - ورد السائل الملحف عند تعذر الإسعاف 6 - وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول 7 - واستحباب استدراك جبر خاطر السائل الذي يؤدب على الحاجة إذا تيسر 8 - وأن من أخذ شيئا يعلم أن المعطي لم يكن راضيا بإعطائه لا يبارك له فيه

69 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم -[المعنى العام]- القلوب كالمعادن تصفو وترق وتشع وتجلو ثم هي تصدأ وتغلظ وتجمد وتسود نعم وللقلوب طلاء كطلاء المعادن وطلاؤها الذكر والتدبر والنظر في مخلوقات الله واتخاذ أسباب التواضع والرفق والحلم والرحمة والخوف والوجل نعم للقلوب صدأ كصدأ الحديد وسواد ودخان يتكاثف عليها كتكاثفه على النحاس بفعل النار يجلبه الغرور وكثرة المال والتكالب على الدنيا وقد وصف الله تعالى الصنف الأول في آيات كثيرة فقال {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} {والذين يؤتون ما

آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا ... السكينة والوقار في أهل الغنم كما وصف القرآن الكريم الصنف الثاني في آيات كثيرة فقال {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} {لهم قلوب لا يفقهون بها} {فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور} {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله والفخر والخيلاء في أهل الإبل وفي رواية غلظ القلوب والجفاء في المشرق ويهدف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيان اختلاف القلوب إلى إعطاء كل ذي حق حقه من المدح أو الذم إلى إعطاء اليمنيين الذين سارعوا إلى الإسلام وقبول الإيمان حقهم من الثناء أتاكم معشر المهاجرين والأنصار ... أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يمان والحكمة يمانية ... والسكينة والوقار في أهل الغنم وإلى إعطاء ربيعة ومضر الذين قست قلوبهم وأعرضوا عن الإيمان حقهم من الذم والفخر والخيلاء في أهل الإبل جعلنا الله ممن رقت قلوبهم و {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} -[المباحث العربية]- (أتاكم أهل اليمن) الخطاب للصحابة والمهاجرين والأنصار وقال لهم هذا القول وهو بتبوك (هم أرق أفئدة وألين قلوبا) المفضل عليه محذوف أي هم أرق أفئدة ممن سواهم أو من أهل المشرق وهو الأولى والمشهور أن الفؤاد هو القلب وعليه يكون الوصفان الرقة واللين لموصوف واحد وقيل الفؤاد

غير القلب فإنه عين القلب أو باطن القلب أو غشاء القلب وأما الوصف باللين والرقة والضعف فالمراد منه أنها ذات خشية واستكانة وأنها سريعة الاستجابة والتأثر لأن الغشاء إذا رق سهل نفوذ الشيء إلى ما وراءه (الإيمان يمان) أي الإيمان في أهل اليمن أي أنهم لصفات فيهم أسرع قبولا له وأصل يمان يمني نسبة إلى اليمن فحذفت الياء تخفيفا وعوض عنها الألف (والحكمة يمانية) بتخفيف ياء يمانية لأن الألف فيه عوض عن ياء النسب كما قلنا في يمان ولا يجمع بين العوض والمعوض والياء هنا مزيدة للتوصل إلى تاء التأنيث والحكمة هي كل كلام موافق للحق وفي القاموس الحكمة العدل والعلم والحلم أهـ وقال بعضهم كل كلمة وعظتك وزجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة والمراد من الحكمة هنا في الحديث العلم المشتمل على معرفة الله تعالى (والفخر والخيلاء) قد يفرق بينهما بأن الفخر إظهار الكبر وإعلانه سواء كان موجودا بالفعل أو غير موجود والخيلاء إعجاب نفسي وقد يظهر ببعض المظاهر وفي رواية والجفاء وغلظ القلوب وقيل الفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما ومنه الإعجاب بالنفس والخيلاء الكبر واحتقار الناس (في أهل الإبل) في رواية أهل الوبر والوبر شعر الإبل وفي رواية أهل الخيل والإبل وفي رواية في الفدادين عند أصول أذناب الإبل والفداد بتشديد الدال هو شديد الصوت والمعنى أن القسوة وغلظ القلوب والكبر في المكثرين من الإبل الذين تعلو أصواتهم خلفها عند سوقهم لها وفي رواية في أهل المشرق وفي رواية في ربيعة ومضر لأن ربيعة ومضر كانوا يمثلون أغلبية سكان أهل المشرق وقد اشتهروا بتربية الإبل والخيل (في أهل الغنم) أي في اليمن لأن معظم تربيتهم الغنم وفي رواية في أصحاب الشاء

-[فقه الحديث]- حاول بعض العلماء صرف نسبة الإيمان إلى أهل اليمن عن ظاهرها حيث أن مبدأ الإيمان من مكة ثم من المدينة وقد تكلفوا لهذا الصرف تكلفات بعيدة منها أن المراد من اليمن مكة فإنه يقال إن مكة تهامة وتهامة من أرض اليمن ومنها أن المراد من اليمن مكة والمدينة فإنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو في تبوك ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة لكونه ناحية اليمن ومنها أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمنيون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره والحق أن هذا التكلف بعيد عن الصواب وبعيد عن ألفاظ الحديث في مجموع طرقه ورواياته إذ من ألفاظه كما هنا أتاكم أهل اليمن والكلام لأهل مكة المهاجرين ولأهل المدينة الأنصار فالآتي إذن غيرهم ثم إنه ليس هناك مانع أصلا من إجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة فأهل اليمن سارعوا إلى قبول الإيمان ثم إن نسبة الإيمان إليهم وإن كان فيها إشعار بكمال إيمانهم لا تنفي الإيمان عن غيرهم بل جاء في رواية صحيحة والإيمان في أهل الحجاز ثم إن هذا الحكم لا ينسحب على أهل اليمن فردا فردا ولا في جميع العصور فإن اللفظ لا يقتضيه -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - منقبة عظيمة للمؤمنين من أهل اليمن

غزوة تبوك وهي غزوة العسرة

2 - تفاضل أهل اليمن وأن المؤمنين كالقبائل بعضهم أرفع إيمانا من بعض 3 - مدح السكينة والوقار ولين القلوب ورقة الأفئدة 4 - التنفير من الفخر والخيلاء والكبر والغرور 5 - أن من اتصف بشيء وقوي قيامه به نسب إليه إشعارا بكمال حاله فيه 6 - ذم أهل الإبل الذين يشتغلون بها عن أمور دينهم وتصل بهم إلى غلظة القلوب والخيلاء غزوة تبوك وهي غزوة العسرة 70 - عن مصعب بن سعد رضي الله عنه عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال أتخلفني في

الصبيان والنساء قال ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي -[المعنى العام]- في شهر رجب سنة تسع من الهجرة بلغ المسلمين من التجار الذين ينتقلون بين الشام والمدينة أن الروم جمعوا جموعا كثيرة وحرضوا بعض القبائل العربية المتاخمة لمملكتهم لمحاربة المسلمين وكانت نصارى العرب قد كتبوا إلى هرقل أن المسلمين في هذه الفترة قد أصابتهم السنون فهلكت أموالهم فأراد هرقل أن يستغل هذه الفرصة فجهز جيشا يزيد على أربعين ألف مقاتل علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمر بالاستعداد للخروج ولكن كيف يخرجون إنهم في شبه مجاعة بل في مجاعة حقيقية أين الظهر الذي يركبونه من المدينة إلى الشام وأين التموين الذي يكفيهم عسرة ما بعدها عسرة لقد قدم الصحابة ما يمكن أن يقدموه قدم أبو بكر كل ماله لكنه قليل وقدم عمر نصف ماله لكنه أقل وها هو ذا عثمان قد أعد للتجارة مائتي بعير تحمل القمح قد جعلها في سبيل الله وسلمها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها مائتا أوقية استجاب المسلمون لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم الحر الشديد وضيق الحال تجمع جيش إسلامي يبلغ ثلاثين ألفا وتحرك نحو الشام مسافة تبلع الأربعمائة ميل أو تزيد ومن يخلف المسلمين في المدينة يرعى أمورها ويحفظ ذمارها ويحمي حماها مدة الغيبة الطويلة لقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ابن عمه لهذه المهمة الصعبة كما اختاره ليقوم مقامه ليلة الهجرة لكن عليا رضي الله عنه نظر إلى هذه المهمة نظرة أخرى ظن أنها مهمة غير القادرين على القتال كيف وهو المشهور بالقوة والشجاعة والإقدام إذا اشتد البأس كيف وهو الذي صرع كل من بارزه في ساحة المعارك كيف وهو الذي فتح الله على يديه خيبر يوم حمل لواء الإسلام وقاد المسلمين ظن أنه بمراجعته رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير القرار فقال يا رسول الله أتذهب بالجيش وتتركني في المدينة بين صبيانها ونسائها أما كان

هناك من يقوم بهذا الأمر غيري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تبقى وإما أن أبقى ألا يرضيك أن تخلفني في أهل المدينة كما خلف هارون موسى حين قال له موسى اخلفني في قومي وأصلح ألا يرضيك أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى قال رضيت يا رسول الله قال إنك مني بمنزلة هارون من موسى غير أن هارون كان نبيا ولا نبي بعدي وبقي علي بالمدينة وسار الجيش في قيظ شديد وفي قلة من الظهر العشرة يخصهم بعير واحد يتعاقبون عليه الماء ينفد ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء وصلوا عينا أو بئر تبوك فلم يسعفهم ماؤها فنضبت فمضمض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاضت نفد زاد القوم أو كاد لجأوا إلى النوى بعد نفاد التمر يمصون النواة كغذاء ويشربون عليه الماء ذهبوا يستأذنون النبي في ذبح بقية نواضحهم وإبلهم يسدون بها الرمق فأذن لهم لكن عمر قال يا رسول الله ما بقاء الناس بعد إبلهم قال وماذا ينقذ الناس قال يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها قال: أفعل فجاء صاحب البر ببره وذو التمر بتمره وصاحب الكسرة بكسرته وصاحب النوى بنواه فجمع على النطع شيء يسير فدعا صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال خذوا في أوعيتكم فما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه فأكلوا وشبعوا وفضلت فضلة أقاموا في تبوك بضع عشرة ليلة ولم يحاربهم جيش الروم وجاء وفود نصارى العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحهم وفرض عليهم الجزية ثم رجع من تبوك وتحدثت آيات كثيرة من سورة التوبة عن هذه الغزوة وعن الثلاثة الذين خلفوا عنها وتوبة الله عليهم -[المباحث العربية]- (خرج إلى تبوك) وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة العسرة وتبوك مكان معروف في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق أو هي أقرب منها إلى المدينة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث إذا أريد به البقعة وقد يصرف

(واستخلف عليا) على المدينة أي جعله خلفا له يحكم ويقضي ويؤم ويرعى المصالح ويحمي الذمار مدة غيابه (أتخلفني في النساء والصبيان) الاستفهام إنكاري عتابي بمعنى نفي الانبغاء أي لا ينبغي ذلك أو للتحسر أي أتألم وأتحسر من ذلك لأني أحب الجهاد وأقدر عليه وأنا أهل له (ألا ترضى) الاستفهام تقريري أي قر بأنك ترضى (أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) في استخلاف موسى له فترة غيابه عن قومه في حياته لا بعد مماته (إلا أنه ليس نبي بعدي) الاستثناء منقطع والضمير في أنه ضمير الحال والشأن والجملة بعده خبر أن والمقصود بالجملة الاحتراس ورفع الإيهام -[فقه الحديث]- تمسكت الشيعة بهذا الحديث كدليل على أن الخلافة من بعده صلى الله عليه وسلم كان لعلي بن أبي طالب وزادوا أنه صلى الله عليه وسلم وصى له بها في آخر حياته وأساءوا إلى أبي بكر وعمر على أنهما اغتصباها وأساءوا إلى المسلمين الذين بايعوهما بل أساء بعضهم إلى علي نفسه لأنه سكت عن حقه ولم يدافع عنه ولا حجة لهم في الحديث لأن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى لأنه توفي قبله بنحو أربعين سنة إذن وجه الشبه الاستخلاف زمنا ما في غيبته في حياته ويستند الشيعة أيضا إلى حديث رواه الحاكم في الإكليل أنه حين استخلفه صلى الله عليه وسلم قال له يا علي اخلفني في أهلي واضرب وخذ وعظ ثم دعا صلى الله عليه وسلم نساءه وقال اسمعن لعلي وأطعن وهذا الحديث مرسل لا يحتج به

ويستندون أيضا إلى حديث من كنت مولاه فعلي مولاه أخرجه الترمذي والنسائي وطرقه كثيرة وحسنة بل صحيحة لكن المولى له معان كثيرة ويمكن حملة على ولاية النسب فهو ابن عمه وزوج ابنته وليس بلازم أن تكون ولاية أمر المسلمين والخلافة ثم إن استخلاف أبي بكر للصلاة بالمسلمين وهي ركن أساسي في الخلافة يبعد أن يراد ولاية المسلمين لعلي نحن لا ننكر فضل علي وسابقته في الإسلام كما لا ننكر فضل أبي بكر وسابقته ومؤازرته ولا نقارن بينهما في الفضل لأن عليا كرم الله وجهه ورضي عنه وإن كان من الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى فإن أبا بكر أحب الرجال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص الحديث الصحيح رضي الله عن الصحابة أجمعين -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه 2 - مشروعية استخلاف الحاكم من يقوم مقامه في غيابه 3 - منزلة الجهاد في سبيل الله وحرص الصحابة عليه 4 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

كتاب تفسير القرآن الكريم

كتاب تفسير القرآن الكريم 71 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم قلت ثم أي قال وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك -[المعنى العام]- حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة أفضل الأعمال ليعملوا بها كما حرصوا على معرفة أعظم الذنوب ليبتعدوا عنها فهذا عبد الله بن مسعود الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال يسأله عن أعظم الذنوب عند الله فيقول له صلى الله عليه وسلم أعظم الذنوب عند الله أن تشرك بالله وتجعل له ندا مشاكسا مع أنه هو الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك واستعظم ابن مسعود هذه الجريمة فقال حقا يا رسول الله إن ذلك الذنب لعظيم جدا فأخبرني عن الذنب الذي يليه في العظم قال صلى الله عليه وسلم أعظم الذنوب بعد الإشراك بالله أن تقتل ولدك وتئده في الحفرة خشية الفقر والإملاق وخوف أن يأكل معك ويشاركك طعامك قال ابن مسعود ثم أي الذنب أعظم بعد هذين قال صلى الله عليه وسلم أعظم الذنوب بعد هذين أن تزاني زوجة جارك وتنتهك حرمات الجوار وترتكب الزنا مع من يجب عليك حمايتها من الفاحشة ووقايتها من السوء وأنزل الله تعالى مصداقا لهذا

الحديث قوله {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} -[المباحث العربية]- (أي الذنب أعظم) أي أشد عقوبة والسؤال عن أعظم الذنوب ليقع التحرز منه أكثر من غيره (أن تجعل) المخاطب عبد الله بن مسعود وهو غير مقصود والمعنى أن يجعل الإنسان ندا والمصدر المنسبك من أن والفعل خبر مبتدأ محذوف والتقدير أعظم الذنب جعلك إلخ (لله ندا) بكسر النون وتشديد الدال ويقال له النديد وهو نظير الشيء المعارض له في أموره فهو أخص من المثل لأنه المثل المناوئ من ند الفرس إذا نفر وخالف (وهو خلقك) الجملة حالية لزيادة تقبيح الشرك (ثم أي) التنوين في أي عوض عن المضاف إليه والتقدير ثم أي شيء أقل عظما (تخاف أن يطعم معك) يطعم بفتح الياء أي تخاف من أكله معك إيثارا لنفسك عليه عند عدم ما يكفي أو بخلا مع سعة الرزق وفي ذلك يقول تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} والجملة حالية (أن تزاني) أي تزني برضاها فالمفاعلة من الجانبين ولعله أشد قبحا من اغتصابها لما فيه من إفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني (حليلة جارك) أي زوجته سميت بذلك لأنها تحل له وتحل معه -[فقه الحديث]- لا خلاف بين أهل الإسلام أن الإشراك بالله أعظم الذنوب على

الإطلاق والجمهور على أن القتل بغير حق أكبر الكبائر بعد الشرك وأما ما سواهما من الزنا وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل وأحكام ومراتب تختلف باختلاف الأحوال والمفاسد المترتبة عليها وإذا كان قتل النفس بغير حق يلي الإشراك بالله فأقبحه قتل الابن لأنه ضد ما جبلت عليه طبيعة الآباء من الرقة فلا يقع إلا من جافي الطبع لا سيما إذا كان القتل عن طريق الدفن حيا كما كانوا يفعلون فذكر الولد قيد كون القتل أقبح وكون الدافع مخافة أن يطعم معك زيادة في هذا القبح ولا خلاف في أن الزنا مطلقا من أقبح وأعظم الذنوب لكنه قد تلازمه ملازمات تزيد من قبحه وتضاعف من عقوباته فمثلا الزنا بالأم في الحرم في الأشهر الحرم أعظم الزنا لكن الحديث لم يمثل به لأنه فرضي بعيد الوقوع بخلاف الزنا بحليلة الجار فإنه سهل الوقوع وكثيره وعظم جرمه ناشئ من أن الجار عليه الذب عن حريم جاره وكانت العرب تتمدح بصون حرم الجار قال عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن كلا من الثلاثة أن تجعل لله ندا وأن تقتل ولدك وأن تزاني حليلة جارك على ترتيبها في العظم نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الذنوب تنقسم إلى عظيم وأعظم 2 - التخويف من هذه الذنوب والزجر عنها 3 - مدى حرص الصحابة على تعلم دينهم والبحث عن المخاطر لتجنبها 4 - حسن السؤال مع حسن الأدب

5 - سعة صدره صلى الله عليه وسلم لما يلقى عليه من الأسئلة 6 - أن الخطاب في العظة لا يعني إدانة المخاطب 72 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا -[المعنى العام]- هذا حديث قدسي أسنده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه فقال قال الله عز وجل كذبني ابن آدم في أخباري بأني سأعيده كما بدأته لقد قلت في

محكم آياتي {كما بدأكم تعودون} وقلت {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} وقلت {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} فكذبني كثير من بني آدم وقالوا {أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} {بل قالوا مثل ما قال الأولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} ولم يكن لابن آدم أن يكذبني لأنه لو تدبر أقل تدبر ما كذبني لو تدبر كيف خلق أو مم خلق ما كذبني {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} يشتمني ابن آدم ويؤذيني يسند إلى ذاتي المقدسة بعض النقائص وما يصح وما يليق به أن يشتمني ويؤذني ينسب إلى الصاحبة والولد وهما من صفات خلقي ينسب إلى ذاتي المقدسة الحاجة إلى الصاحبة وأنا الواحد الأحد الفرد الصمد {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} شتمني كثير من بني آدم وآذوني {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا} {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون} {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} {قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره}

-[المباحث العربية]- (كذبني ابن آدم) كذبني بتشديد الذال من التكذيب أي نسبة المتكلم إلى الكذب في أخباره وأنه يحكي ويخبر بما لا يطابق الواقع والمراد من ابن آدم بعضهم وهم من أنكر البعث من العرب وغيرهم من عبدة الأوثان والدهرية أو من ادعى أن لله ولدا من العرب أو من اليهود أو من النصارى وفي رواية عند أحمد (كذبني عبدي) (ولم يكن له ذلك) التكذيب أي لم يكن يليق ولم يكن يصح ولم يكن ينبغي أن يقع منه ذلك بعد أن أودع الله فيه عقلا وفطرة لو تأمل أدنى تأمل ما وقع منه (وشتمني) الشتم إسناد النقص إلى الغير (فأما تكذيبه إياي فزعم أني لن أقدر أن أعيده) بعد أن يصير ترابا والتعبير بزعم للإيماء بكذب ابن آدم في ذلك إذا الزعم مطية الكذب غالبا فزعم أن الله لا يقدر على الإعادة تكذيب لله في إخباره بالإعادة (وأما شتمه إياي فقوله لي ولد) إنما سماه شتما له لأنه أسند النقص لله بنسبة الولد إليه (فسبحاني) أي أنا منزه عن النقائص فنزهوني عنها تنزيها (أن أتخذ صاحبة أو ولدا) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نزهوني عن اتخاذ الصاحبة أو الولد والمراد من الصاحبة الزوجة -[فقه الحديث]- إنما كان إنكار البعث تكذيبا لله تعالى لأنه يحمل في طياته نفي القدرة عنه ويحمل في طياته رد الخبر الصادق الوارد صريحا في القرآن وفي الكتب المنزلة ويحمل في طياته رد الأدلة والآيات الكونية الناطقة بالقدرة على البعث وسواء أكان التكذيب بلسان المقال كما حدث من كثيرين أو

بلسان الحال كما هو واقع ممن ينكر البعث ولا يؤمن به فهو تكذيب ورد للأخبار والآيات وإنما كان نسبة الولد إلى الله شتما له تعالى لأن الولد يكون عن والدة تحمله وتضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح والناكح يستدعي باعثا له على ذلك والله تعالى منزه عن جميع ذلك قاله الحافظ ابن حجر وهو يتفق مع قوله تعالى {بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} لكن لما كان بعض من قالوا بأن له ولدا لم يقولوا إن له صاحبة ولم يستبعدوا حدوث الولد من غير الصاحبة كحدوث حواء من آدم لما كان الأمر كذلك كانت نسبة الولد تنقيصا لما يستلزمه من سبق الرغبة في البنوة والحاجة إليها مما يتنافى مع الصمدية والاستغناء المطلق -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - بيان سبب نزول قوله تعالى {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} وقوله {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} 2 - بيان سبب نزول قوله تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} 3 - جحود ابن آدم وطغيانه وكفره بربه صاحب النعم التي يتقلب فيها صباح مساء 4 - عفو الله تعالى وإمهاله ورحمته بالكافرين يأكلون خيره ويعبدون غيره لكنه لا يؤاخذهم عاجلا بذنوبهم ويمهلهم لعلهم يرجعون

73 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه وافقت الله عز وجل في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن قلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيرا منكن حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات} الآية -[المعنى العام]- من المعلوم أن القرآن الكريم نزل مفرقا الآية بل جزء الآية والآيات دون العشر وما فوقها إلى السورة الكبيرة بتمامها وكان نزوله في الجملة حسب الظروف والمناسبات وحاجة المجتمع وكان عمر بن الخطاب في ذكائه ورؤيته البعيدة يرى المناسبة فيجري على لسانه ما تحتاجه هذه المناسبة من أحكام فينزل الوحي بالحكم والآية فيصادف ما قاله عمر موافقات تشير إلى صفاء النفس وإلهامها وإلى بصيرة نافذة عدها بعض العلماء وأوصلوها عشرا أو ما يزيد وهنا يتحدث عمر بنفسه عن ثلاث منها هي موافقة من عمر لما ثبت في اللوح المحفوظ من قرآن وموافقة من آيات القرآن عند نزولها لما ظهر من قبل على لسان عمر فقد وافق قول ربه وقول ربه عند نزوله وافق ما نطق به

قرأ عمر قوله تعالى في حق إبراهيم {إني جاعلك للناس إماما} وقوله تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} فاستقر في نفسه أن شريعة الإسلام مقتدية بشريعة إبراهيم، ورأى وهو يطوف بالكعبة مقام إبراهيم أعني الحجر الذي وقف عليه وهو يبني الكعبة فأثر قدمه بدا ظاهرا للعيان مع مرور السنين الطوال وكان هذا الحجر المقدس ملصقا بالكعبة فخطر له لماذا لا نصلي عند هذا الحجر المقدس فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى كان خيرا وبركة فنزل قوله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وكان النساء لا يحتجبن من الرجال وكان أمهات المؤمنين يقمن بتقديم الطعام والشراب للرسول صلى الله عليه وسلم وضيفه بل كن يأكلن أحيانا في إناء واحد مع الرسول وضيفه فدخل عمر مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل مع عائشة فدعاه صلى الله عليه وسلم أن يأكل معها فجلس يأكل فأصاب إصبعه إصبع عائشة قال أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين وحملته الغيرة وهو مشهور بغيرته أن يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله يدخل عليك في بيتك البر والفاجر من الرجال فاحجب نساءك وبعد زمن يسير نزلت آية الحجاب ودخل مرة بيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأى نساءه حوله متحزبات مجمعات على مطالبته بالتوسعة في النفقة ويقلن له بنات كسرى وقيصر يرفلن في الحرير والديباج والذهب ونحن كما ترى وكانت الغنائم التي تأتيه يوزعها في مصارفها ويضرب المثل للقادة والحكام من بعده أن لا يشبعوا وجيرانهم يموتون جوعا فلما رأى النساء عمر اتحنسن رهبة وخوفا منه فقال لهن يا عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت إحداهن إنك فظ غليظ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم وأحلم فإن يأمر بشيء كنا أطوع إليه منك وقالت الأخرى عجبا لك يا عمر دخلت في كل شيء وتريد أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه قفال عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خير منكن وبعد قليل من الزمن نزلت الآية الكريمة مع صدر سورة التحريم وهكذا كان رضي الله عنه ذا رأي مصيب يصادف الوحي ويصادفه الوحي

-[المباحث العربية]- (وافقت الله عز وجل) أي وافقت كلامه المثبت في اللوح المحفوظ (في ثلاث) مسائل وأحكام إذ ألهمت حكمها قبل أن ينزل (أو وافقني ربي في ثلاث) أي وافق رأيي وقولي حكم الله حين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فالرأي حين أبداه عمر كان موافقا لما في اللوح وحين نزلت الآية كانت موافقة لرأي عمر (لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى) لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب والمعنى أتمنى أن تأمر باتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة أو شرطية وجوابها محذوف أي لكان خيرا (يدخل عليك البر والفاجر) أي يدخل عليك بيتك البر والفاجر فيرى نساءك الآية رقم 53 من سورة الأحزاب وفيها {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} (معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه) على مطالبتهن بالتوسعة أو على تحزبهم (إن انتهيتن) جوابها محذوف تقديره كان خيرا (أو ليبدلن الله رسوله) أو لأحد الأمرين أي يقع أحد الأمرين إما انتهاؤكن عن مضايقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خيرا لكن وإما يبدل الله رسوله أزواجا خيرا منكن (حتى أتيت إحدى نسائه) حتى غاية لمخاطبة الأزواج أي خاطبتهن موجها الخطاب إلى كل منهن حتى أتيت إحدى نسائه قيل أم سلمة وقيل زينب بنت جحش (أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم) أما حرف استفتاح مثل ألا ينبه إلى أهمية الجملة بعده ويؤكدها وأصلها همزة الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي دخلت على ما النافية ونفي النفي إثبات

{عسى ربه إن طلقكن} الآية رقم 5 من سورة التحريم -[فقه الحديث]- جمع بعض العلماء موافقات عمر فبلغت عشرا أو تزيد منها رأيه في أسرى بدر وفي منع الصلاة على المنافقين وفي تحريم الخمر وفي الإفك حيث قال سبحانك هذا بهتان عظيم فذكر الثلاث هنا لا ينفي ذكر غيرها في مواطن أخرى -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - منقبة عظيمة لعمر بن الخطاب وشهادة بحكمته وبعد نظره 2 - ومشروعية الصلاة في مقام إبراهيم وقد روي أنه كان ملصقا بالبيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر فلما كان عهد عمر أبعده عن الجدار في مقصورة خاصة توسعه على الطائفين 3 - مدح الغيرة على النساء ومشروعية حجاب أمهات المؤمنين 4 - التحذير من مغاضبة النساء لأزواجهن 5 - ما كان عليه نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما هو من طبيعة المرأة 6 - مدى صبره صلى الله عليه وسلم على نسائه وحسن معاملته لهن 7 - جرأة بعض النساء في مواجهة اللوم والدفاع عن الرأي

74 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ... } الآية -[المعنى العام]- كان اليهود قوما ماديين فكانت الأعاجيب والمعجزات الحسية طابع عهدهم طلبوا من نبيهم أن يدعو ربه ليخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها بهرهم السامري بالعجل فعبدوه احتالوا على حيتانهم يوم سبتهم طلبوا من موسى عليه السلام الماء من الحجر فضربه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ظلموا موسى عليه السلام وآذوه بأن في سوءته عيبا فأمر الله الحجر أن يجري بثوبه حالة اغتساله في البحر فجرى وراءه عريانا يقول ثوبي يا حجر فرأوه من غير عيب فبرأه الله مما قالوا نتق الله فوقهم الجبل كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم فأمرهم الله أن يأخذوا الكتاب ويعملوا بالتوراة وإلا وقع عليهم وكانت فيهم البقرة التي ضرب ببعضها الميت فأحياه الله وأنطقه وكانت فيهم الأعاجيب الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا وأكمل بالراهب المائة ثم تاب فكان من أهل الجنة من غير

عمل والرجل الذي لم يعمل خيرا قط سوى أنه كان ينظر المعسر ويتجاوز عن الموسر فتجاوز الله عنه وكان من أهل الجنة وكان فيهم الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة وكانت التوراة قد تعرضت لبعض الكونيات كخلق حواء وأصل الخلق ونحو ذلك بشيء من التفصيل أكثر من تعرض القرآن وزاد الربانيون والأحبار في هذه الأخبار ما زادوا حتى أصبحت شبيهة بالقصص الذي يجذب السامعين واستهوى ذلك بعض كتاب المسلمين فشغلوا بقراءتها واستغل اليهود العرب تعطش المسلمين لهذه المعلومات على أنها تفصيل لما أجمل في كتابهم فأخذوا يقرءون التوراة المحرفة وما فيها من الدخيل بلغة اليهود العبرانية ويفسرونها للمسلمين بالعربية استغلوا أن المسلمين قد أمروا بالإيمان بما أنزل على موسى عليه السلام حيث جاء في القرآن {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} وكان لا بد للإسلام أن يرشد الأمة إلى الوضع السليم من هذا الخليط أيصدقونه أم يكذبونه وجاء الإرشاد والتوجيه لا تصدقوا أهل الكتاب في كل ما تسمعونه منهم وعنهم فإن في أخبارهم الأكاذيب والمفتريات والتحريف والدخيل ولا تكذبوهم في كل ما تسمعونه منهم وعنهم حتى ولو كان خارقا للعادة وغير معقول فقد كانت فيهم الأعاجيب اعتبروا أخبارهم قابلة للصدق وقابلة للكذب ولا تعتقدوا وقوعها ما لم يرد في الخبر الإسلامي الصحيح صدقها ولا تعتقدوا كذبها وعدم وقوعها ما لم يرد نص شرعي بنفيها وقولوا آمنا بما ثبت ويثبت أنه أنزل من عند الله أو وقع آمنا بكل ما جاء حقيقة عن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والنبيين جميعا لا نفرق بين ما جاء عن أحد منهم ونحن لما جاء عنهم مسلمون مصدقون

-[المباحث العربية]- (كان أهل الكتاب) المراد بهم اليهود لأنهم هم الذين كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية للمسلمين (يقرءون التوراة بالعبرانية) بكسر العين وسكون الباء لغة التوراة الأصلية (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) معطوف على محذوف أي فعلم رسول الله فخاف على المسلمين فقال: ... إلخ (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) أي فيما يقرءونه ويفسرونه على أنه الكتاب المنزل (وقولوا آمنا إلخ) أي آمنا بما هو صدق في الحقيقة ونفس الأمر وبما أنزل فعلا لا بما يقرءون ويفسرون -[فقه الحديث]- الحديث يوضح سبب نزول قوله تعالى {قولوا آمنا بالله ... } إلخ وكان هدف اليهود من القراءة والتفسير إقناع المسلمين باليهودية فالآية السابقة على هذه الآية تقول {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} ثم كانت الآية {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} الآيتان (135 - 136) من سورة البقرة وفي سورة آل عمران آيتان مشابهتان {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} الآيتان 84، 85 من سورة آل عمران

وقد بينت آية سابقة على هاتين الآيتين في السورة نفسها ما يمكن أن يكون سببا لنزولهما فالآية 78 تقول {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} ومن هنا كان النهي عن تصديقهم فيما يقرءون لمظنة كذبة لكثرة الدخيل وكان النهي عن التكذيب لاحتمال صدقة في نفس الأمر لكثرة الأعاجيب وقد نقل الحافظ ابن حجر عن الشافعي قوله لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه أهـ ومعنى ذلك أنه لا مانع من تكذيبهم في إثبات أشياء جاء شرعنا بنفيها أو في نفيهم لأشياء جاء شرعنا بإثباتها وهذا كلام حسن لكن ما ورد شرعنا بوفاقه من أخبارهم فتصديقنا في الحقيقة لإخبار شرعنا لا لإخبارهم والله أعلم ويستفاد من الحديث مشروعية التوقف عن الخوض في مشكلات غير واضحة الحكم

75 - عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} إلى قوله {وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم -[المعنى العام]- القرآن الكريم محكم كله رصين في حروفه وكلماته وآياته وسوره {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} معجز لأمة البلاغة أن يأتوا بسورة واحدة مثله {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} وهو في الوقت نفسه متشابه الهدف متشابه في حسن سياقه وعلو نظمه وهو في الوقت ذاته {منه آيات محكمات} واضحات المعاني {وأخر متشابهات} عميقات المفهوم لا يعلمها كثير من الناس وواجب المؤمنين إزاء المتشابهات أن يؤمنوا بها ويسلموا أنها من عند الله ويسارعوا بالإذعان والاستسلام سواء منهم من عجز عن فهمها عجزا كليا فاستغلق عليه معناها ومن وصل من العلماء إلى بعض معانيها وسواء أكان الله تعالى قد حجزها لعلمه وقصر معناها على غيبه يريد بذلك اختبار إيمان خلقه ومدى تسليمهم بمتعبداته واعترافهم بالعجز والقصور أو كان الله قد عمق المراد منها ليبذلوا الجهد في الفهم ويضاعفوا البحث في التفسير والتأويل عن هذا يقول سبحانه {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} أما الذين في قلوبهم زيغ وضلال ولم يتمكن الإيمان في عقيدتهم {فيتبعون} ويتصيدون وشككون وينشرون {ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء

تأويله} تأويلا يساير هواهم ويبتعد كل البعد عن أهداف القرآن ومراد منزله ويوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحذر من هؤلاء يوصي بإهمالهم وإهمال آرائهم يوصي بعدم الاطمئنان إلى إيمانهم وبأخذ الحيطة في مسالمتهم وسواء أكان سبب نزول الآية مجادلة بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى أم مجادلتهم في الحروف المقطعة في أوائل السور وأن عددها بالجمل مقدار مدة أمة الإسلام سواء كان هذا أم ذاك فإن الآية الكريمة تحذر من اتباع المتشابه وتصيده والقول فيه بغير علم والقطع بالمراد منه من غير دليل وتحذر ثانيا من هؤلاء المتتبعين له وقانا الله شرهم وشر فتنتهم وانحرافهم -[المباحث العربية]- {هو الذي أنزل عليك الكتاب} الآية كلها مقصود حكايتها ولفظها بدل من هذه الآية والمراد من الكتاب القرآن علم بالغلبة {هن أم الكتاب} أي أصله الذي يرجع إليه تحمل عليه المتشابهات (فإذا رأيت) بكسر التاء والخطاب لعائشة (الذين يتبعون ما تشابه) أي يتصيدون ويجرون وراء المتشابه بالتأويل الفاسد (فأولئك) بكسر الكاف والخطاب في الإشارة لعائشة (الذين سمى) المفعول محذوف أي سماهم الله ووصفهم بزيغ القلوب (فاحذروهم) الخطاب للأمة أي فاحذروهم يا معشر المسلمين -[فقه الحديث]- ورد في القرآن ثلاث آيات أحداها تدل على أن القرآن محكم كله قال تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} الآية الأولى من سورة هود

ثانيتها: تدل على أن القرآن متشابه كله قال تعالى {لله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} الآية 23 من سورة الزمر ثالثتها: تدل على أن القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه قال تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} الآيتان 7، 8 من سورة آل عمران ولما كان للإحكام معان متعددة لغة واصطلاحا وللتشابه كذلك حمل الإحكام في الآية الأولى على معنى الإتقان والقرآن كله بهذا المعنى محكم نظمت آياته نظما لا يطرأ عليه شيء يخل بفصاحته وبلاغته ثم إنه محكم كله من جهة المعاني ولا يلحقه تناقض ولا يوصف خبر منه بكذب وكل تشريع فيه منطو على مصلحة وحكمة ولما كان للإحكام معان متعددة لغة واصطلاحا وللتشابه كذلك حمل التشابه في الآية الثانية على المعنى الأول فالقرآن كله متماثل من حيث كونه أحسن الحديث وكونه مثاني مكرر المواعظ والوعد والوعيد يزداد بتكرار تلاوته حلاوة بينما يمج كل حديث معاد أما الآية الثانية وهي موضوع الحديث فهي التي خاض فيها العلماء 1 - فمنهم من قال: المحكم ما عرف المراد منه ولو بالتأويل والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور وهذا القول منسوب إلى الحنفية وجمهور أهل السنة فهم يمسكون عن الخوض فيها ويقفون عند اللفظ ويسلمون المعنى المتبادر ثم يفوضون المراد فيقولون الله أعلم بمراده 2 - وبعضهم يقول المحكم الفرائض والحدود والحلال والحرام

والوعد والوعيد وما يجب الإيمان والعمل به والمتشابه القصص والأمثال وما يجب الإيمان به ولا يجب العمل به وهذا الرأي مروي عن مجاهد وعكرمة وقتادة فهم يحملون المتشابه على المتماثل في القرآن والكتب الأخرى 3 - وبعضهم يقول المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا كقوله تعالى {قل هو الله أحد} {وإلهكم إله واحد} والمتشابه ما احتمل أوجها في تفسيره 4 - وبعضهم يقول المحكم الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال والمتشابه الذي يحتاج إلى أمارة أو قرينة تحدد معناه وهناك أقوال كثيرة أخرى لا يحتملها المقام فمن أرادها فليرجع إلى كتابنا اللآلئ الحسان في علوم القرآن واختلف العلماء في معرفة المتشابه فبعضهم يرى أن الله استأثر بعلمه وأنه لا يجوز تتبعه والبحث فيه والفريق الآخر يعارضه وقبل توضيح الموقفين نحدد المراد من المتشابه موطن النزاع / 16 والمحقق يجد أن المتشابه المقصود بإغلاق أو فتح باب تأويله هو ما يتعلق بالساعة والحروف المقطعة وما يوهم التشبيه من صفات الله تعالى وأمثال ذلك مما لا يرفع الجدل تشابهه والتباسه فالفريق الأول وهو المختار عند أهل السنة يمنعون التأويل ويقفون عند قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} ويبتدئون بقوله {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} إلخ على أنها جملة مستأنفة والفريق الثاني وعلى رأسه مجاهد وابن عباس وأبو الحسن الأشعري والمعتزلة واختاره النووي يفتحون باب التأويل ويرون أنه يمكن الاطلاع على علمه ويعطفون {والراسخون في العلم} على لفظ الجلالة ويجعلون جملة يقولون حالا ولكل من الفريقين أدلة يطول هنا التعرض لها والرأي الأول أسلم والله أعلم

76 - عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة قالت عائشة وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء ... } قالت عائشة وقول الله تعالى في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت فنهوا أن ينكحوا عمن رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال

-[المعنى العام]- يحذر الإسلام من المساس باليتيم وماله بقدر ما يدعو إلى كفالته والعطف عليه يقول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقيام الولي على مال اليتيم واستثماره قد يدفعه إلى الإسراف تارة أو الأكل منه بحجة الأجر ومقابل التنمية تارة أخرى أو إلى خلطه بماله تارة ثالثة مما يعرض مال الصبي أو بعض ماله إلى الضياع فحذر الشارع من الحالتين الأوليين بقوله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} وحذر من الحالة الثالثة بقوله {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} وكان لا بد من سد المنافذ التي تؤدي إلى ظلم اليتيمة لأن اليتيمة أضعف كثيرا من اليتيم الضعيف بفقد أبيه في صغره قبل أن يدرك رشده وقبل أن يعرف مصلحة نفسه كانت هناك حالتان قد يظلم بهما الولي اليتيمة التي في حجره وولايته الحالة الأولى إذا كانت ذات مال وجمال فيرغب الولي في الزواج منها إذا كان غير محرم لها كأن يكون ابن عمها مثلا أو يرغب في تزويج ابنه منها طمعا في مالها واطمئنانا إلى أنه يمكنه أن لا يعطيها الصداق المستحق لمثيلاتها من غير اليتيمات فنزلت الآية الكريمة {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} تحمي اليتيمة وتحافظ على حقوقها وتأمر الأولياء بالابتعاد عن نكاح اليتيمة المصحوب بالظلم سواء أكان الظلم بنقص صداقها عن مهر المثل أم بالطمع في مالها وأمامهم النساء غير اليتيمات فليقصدوا الطيب ويبتعدوا عن الظلم الخبيث الحالة الثانية إذا كانت ذات مال ولكن يرغب الولي عن الزواج بها

ولا يحب أن يتزوجها هو ولا ابنه خشيت الشريعة أن يعضلها وأن يمنعها من الزواج وأن يرفض من يتقدم لها حرصا منه على بقاء مالها تحت يده فنزلت الآية الكريمة {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط} والعدل أي راعوا ما يتلى عليكم في الكتاب في آية {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} وراعوا ما يتلى عليكم الآن في يتامى النساء اللائي لا ترغبون في نكاحهن ولا تؤتونهن ما كتب لهن وقوموا لليتامى بالعدل وحافظوا على حقوقهن في الحالتين {وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} -[المباحث العربية]- (سألها عروة) ابن الزبير بن العوام (عن قول الله) أي عن تفسير قول الله وعن سبب نزوله (وإن خفتم) أي وإن ظننتم وقوع الجور والظلم فخفتم عقاب الله (أن لا تقسطوا) بضم التاء أي أن لا تعدلوا أي إن ظننتم عدم العدل يقال قسط إذا جار واقسط إذا عدل قيل الهمزة فيه للسلب أي أزال القسط والجور (في اليتامى) المراد في اليتيمات فاليتامى جمع يتيم واليتيم من فقد أباه قبل البلوغ وفعيل يصدق على المذكر والمؤنث (يا ابن أختي) هو ابن أخت عائشة ابن أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير (هي اليتيمة) كان الظاهر أن تقول هن اليتيمات لأن المقصود بيان المراد من حال اليتامى لكنها أعادت الضمير على الواحدة وبينت حالها وحالها حالهن (تكون في حجر وليها) بكسر الحاء وسكون الجيم والحجر هنا

الكنف والرعاية والتربية والمراد من وليها القائم بتربيتها وولاية أمرها (تشركه في ماله) بفتح التاء وسكون الشين وفتح الراء أي تشاركه فيما تحت يده من مالها وماله أو الإضافة لأدنى ملابسة والأصل في مالها الذي يديره (ويعجبه مالها وجمالها) قد يكون جمالها ليس هدفا للولي فذكره لبيان مزيد من الرغبة مع ما ينافيه من نقصها حقها وغبنها في صداقها (فيريد وليها أن يتزوجها) هذا في الولي غير المحرم كابن العم مثلا أما المحرم فقد يريد تزويجها ابنه مثلا للغرض نفسه (بغير أن يقسط في صداقها) بضم الياء أي بغير أن يعدل في صداقها اعتمادا على ولايته وإطلاق تصرفه (فيعطيها مثل ما يعطيها غيره) ممن يرغب في نكاحها والفعل معطوف على قسط أي بغير أن يقسط وبغير أن يعطيها (فنهوا) فهمت عائشة النهي من جواب الشرط فانكحوا لأن المعنى إن خفتم نكاح اليتيمة ظلما فلا تقربوه وانكحوا غيرهن (إلا أن يقسطوا لهن) الاستثناء من عموم الأحوال أي نهوا عن نكاحهن في جميع الأحوال إلا في حال العدل (ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق) المراد من السنة هنا الطريقة وطريقة الفتاة في الصداق مهر المثل ولما كان مهر المثل قد يكون له بداية ونهاية طلب لهن النهاية مبالغة في إكرامهن ودفعا لأي توهم (ما طاب لهم من النساء سواهن) قيل ما طاب أي ما حل ليخرج المحارم وقيل ما حسن في نظرهم ومن تعجبهم والتعبير بـ ما بدل من التي للعاقل لأن القصد الوصف لا الذات (بعد هذه الآية) أي بعد تبليغه لهم آية {وإن خقتم .. } الآية رقم 3 من سورة النساء

{ويستفتونك في النساء} الآية رقم 127 من سورة النساء وقول الله عز وجل في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} ليس ذلك في آية أخرى وإنما هو في الآية نفسها آية {ويستفتونك} ولعل الخطأ من الرواية ففي رواية أخرى في الصحيح فأنزل الله عز وجل {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم إلخ فحصل في روايتنا سقط (رغبة أحدكم عن يتيمته) رغب يتغير معناها بحرف الجر يقال رغب فيه إذا أراده ورغب عنه إذا لم يرده ولما حذف حرف الجر في الآية (احتملت الأمرين) فقصدت عائشة حرف عن لتجعل الآية الأولى في الغنية نهيا عن الرغبة فيها مع الظلم في المهر وتجعل الثانية في المعدمة نهيا عن ظلمها والانصراف عنها وحمل سعيد بن جبير الآية الأخيرة على المعنيين معا لحذف حرف الجر فقال نزلت في الغنية والمعدمة والمروي عن عائشة أوضح ويمكن أن تشتمل الثانية النهي عن عضل الغنية ومنع تزويجها مع الرغبة عنها وعن إرادتها -[فقه الحديث]- روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق أي نخل وفي رواية كانت شريكته في ذلك النخل وكان يمسكها عليه أي لأجله ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ... } إلخ ومعنى هذا أن الآية نزلت في من لم يكن يرغب في نكاحها وإنما نكحها لمالها ولا تتعرض الآية لنقص الصداق ومما هو معلوم أن سبب النزول قد يتعدد لمنزل واحد فالآية تنهي

عن زواج الولي باليتيمة من أجل مالها مع ظلمها أعم من أن يكون الظلم في الصداق أو في المعاشرة فلا تعارض بين الحديثين -[ويؤخذ من الحديث فوق بيان سبب نزول الآية وتفسيرها]- 1 - اعتبار مهر المثل في المحجورات فإن اليتيمة محجور على تصرفها وقد طلب لها أن تبلغ أعلى سنتها في الصداق 2 - أن غير المحجورات يجوز نكاحها بأقل من مهر المثل وذلك بتفسير {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} أي بأي مهر تحصل الموافقة عليه 3 - أن للولي أن يتزوج من هي تحت حجره لكن يكون العاقد غيره قاله الحافظ ابن حجر وذلك لئلا يكون الإيجاب والقبول من شخص واحد 4 - جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهن بعد البلوغ لا يقال لهن يتيمات إلا أن يكون قد أطلق عليهن ذلك استصحابا لما كان من حالهن

77 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي قلت اقرأ عليك وعليك أنزل قال فإني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال أمسك فإذا عيناه تذرفان -[المعنى العام]- قراءة القرآن من أفضل القرب ففي الصحيحين الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران وسماع القرآن بتدبر وخشوع له أجر القارئ بل قيل القارئ كالحالب والسامع كالشارب وكان صلى الله عليه وسلم أحيانا يقرأ على أصحابه ليحفظهم ويعلمهم كيفية الأداء وأحيانا أخرى يطلب منهم أن يقرءوا أمامه وهو يستمع لقراءتهم للاطمئنان على حسن أدائهم وليمتع سمعه بحلاوة القرآن كما متع ويمتع لسانه بقراءته وفي هذا الحديث يطلب صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه اقرأ علي القرآن يا ابن مسعود، ويتعجب ابن مسعود من هذا الطلب كيف يقرأ على من نزل عليه القرآن إن وضعه أن يسمع القرآن من جبريل لا من

ابن مسعود يقول كيف أقرأ عليك يا رسول الله القرآن وعليك أنزل وكيف أقرأ وأنت القارئ المبلغ ولم يكن دافع الرسول صلى الله عليه وسلم للطلب الاطمئنان على حسن الأداء بل كان حب السماع والرغبة في التدبر فقال إني أحب أن أسمعه من غيري فاقرأ صدع ابن مسعود للأمر وبدأ يقرأ سورة النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطرق ساكن يملؤه الخضوع والخشوع حتى أتى ابن مسعود على الآية رقم 41 {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} أي ما أهول الموقف العظيم الذي تشهد فيه الجوارح على أصحابها {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} {وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} إن الموقف لا يحتاج شهودا لكن الشهود للفضيحة والإشهار والإذلال يأتي كل نبي فيشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ولكن المكذبين من أمته فعلوا كيت وكيت يأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيشهد على أمته كما يشهد الأنبياء ثم يشهد على الأمم السابقة بأن أنبياءهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة فلا عذر لمعتذر لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل محكمة عليا عادلة لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وكيف يشهد العزيز عليه عنت الناس الحريص عليهم الرءوف الرحيم كيف يشهد شهادة تؤدي بكثير من البشر إلى النار إنه لموقف صعب يقطع القلب الرقيق والإحساس المرهف لقد بكى صلى الله عليه وسلم حين سمع الآية وتصور الموقف وأشار إلى ابن مسعود يقول له قف أمسك عن القراءة كف كف ونظر ابن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى سيلا من الدموع تنحدر من عينيه على خديه صلى الله عليه وسلم -[المباحث العربية]- (اقرأ علي) المفعول محذوف أي اقرأ علي القرآن (آقرأ عليك وعليك أنزل) الاستفهام للتعجب أي أتعجب من قراءتي على المنزل عليه وجملة وعليك أنزل جملة حالية وقدم المتعلق على الفعل للقصر

(فإني أحب أن أسمعه من غيري) تعليل لطلب القراءة أي لأني أحب أن أسمعه من غيري (فقرأت عليه سورة النساء) وهو لم يقرأ السورة كلها فالمراد قرأت عليه أول سورة النساء {فكيف إذا جئنا .. } الآية كلها مقصود لفظها وحكايتها مفعول به لبلغت {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قيل إن المشار إليهم الأمم السابقة وقيل الشهداء وهم الأنبياء فالمشار إليه متقدم ذكرا وقيل أمة محمد فالمشار إليه حاضر (أمسك) عن القراءة -[فقه الحديث]- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله جل ذكره {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} وهذا المعنى هو أولى الاحتمالات في الشهادة المرادة من الحديث -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - حب سماع القرآن وأنه كحب القراءة شرعا 2 - أن المطلوب من القراءة والسماع التدبر والتفهم 3 - استحباب البكاء عند قراءة أو سماع آيات هول القيامة وآيات عذاب النار

4 - فيه منقبة عظيمة لابن مسعود بحفظه للقرآن واختياره للقراءة رضي الله عنه 5 - فيه إثبات هول القيامة وموقف الشهداء على الأمم 6 - فيه أن ترتيب الآيات في سورها توقيفي 7 - في رد ابن مسعود واستفهامه حسن أدب الصحابة وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم 8 - في رده صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود عطف المسئول الكبير على السائل وترفقه به وتعليل أوامره 78 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال وهل بلغكم الخبر فقالوا وما ذاك قال حرمت الخمر قالوا أهرق هذه القلال يا أنس قال فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل

-[المعنى العام]- كانت الخمر في الجاهلية مشروبا يجلس له الرجال مجتمعين لذته في اجتماعهم ودوران الكأس عليهم ومسامرتهم أثناء الشرب وبعده حين تأخذ الخمر بالعقول فينطق شاربوها بما لا يقبلون أن ينطقوا به في كمال وعيهم ويتصرفون بما لا يليق أن يتصرفوا به لقد علموا أن الخمر فيها إثم كبير لكن منافعهم منها من حيث إنها تبعث الحرارة في الجسم وتمنحه بعض الخفة وبعض النشاط إذا كانت كميتها في حدود مناسبة كانت هذه المنافع البسيطة قد غلبتهم وجعلتهم يستهينون بما تحدثه من إثم كبير وجاء النهي عن الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فامتنع الكثيرون عن شربها قبيل الصلوات أو شرب الكثير منها الذي يأخذ بعقولهم واستمرت هذه الحال إلى سنة ست من الهجرة وكان العقلاء من المسلمين لا يشربونها أو لا يكثرون منها بل كان بعضهم يتمنى أن لو حرمت لقد رأوا بأعينهم ما تجره الخمر عليهم من الويلات والعداوات حتى إن قبيلتين من الأنصار اجتمعوا فشربوا حتى ثملوا فعبث بعضهم ببعض لطخوا وجوه بعضهم وعبثوا في شعورهم فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر القبيح فيقول صنع هذا أخي فلان والله لو كان بي رحيما ما فعل بي هذا وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن فوقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} الآية رقم 90 من سورة المائدة فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على من حضر ثم بعث مناديا ينادي في المدينة ألا إن الخمر قد حرمت ووصل صوت هذا المنادي إلى مجموعة من الرجال يشربون الخمر في بيت أبي طلحة يسقيهم أنس بن مالك وجاء المنادي على بابهم وخرج إليه أنس يسأله الخبر فيؤكد له المنادي أن الخمر قد حرمت وكأن الموجودين بالدار كانوا يتمنون ذلك فما إن سمعوا حتى قالوا لأنس اكسر أواني الخمر بعد إراقة ما فيها ولم يتردد ولم يراجع ولم يشك في

الخبر أحد منهم فقام أنس بإراقتها وكسر قلالها وقام كثير من المسلمين في كثير من البيوت بإراقتها في الطريق فكان الرائي يرى سيلا يجري في شوارع المدينة المنورة -[المباحث العربية]- (ما كان لنا خمر غير فضيخكم) الفضيخ بفاء مفتوحة وضاد مكسورة على وزن عظيم اسم للبسر إذا شقق ونبذ والبسر هو البلح الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب كما يطلق على خليط البسر والتمر والمعنى ما كان لأهل المدينة خمر بمعنى عصير العنب وغيره غير نبيذ البسر والرطب والتمر وفي رواية لأنس كنت أسقي من فضيخ زهو وتمر والزهو بفتح الزاي وسكون الهاء البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب وفي رواية للبخاري عن أنس أيضا حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد يعني بالمدينة خمر الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر والخمر ما خامر العقل أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وسمي العصير خمرا لأنه يفعل ذلك بالعقل وقيل لأنه يغطى حتى يغلي أي يخمر واللغة الفصحى تأنيث الخمر وحكي جواز التذكير وتؤنث فيقال خمرة (فإني لقائم أسقي) خمرا والضمير لأنس وكان هو الساقي لأنه كان أصغرهم سنا وكان السقي في منزل أمه وفي رواية أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر وفي رواية أسقيهم حتى كاد الشراب يأخذ فيهم (أبا طلحة وفلانا وفلانا) في رواية للبخاري عن أنس كنت أسقي أبا عبيدة أي ابن الجراح وأبا طلحة وهو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس وأبي بن كعب وكان السقي في بيت أبي طلحة وفي رواية عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا

(إذ جاء رجل) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمه وعند مسلم فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت فيحتمل أن يكون الرجل هو المنادي (قالوا أهرق هذه القلال) في رواية هرق بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف والأصل أرق فعل أمر فأبدلت الهمزة هاء وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمز والهاء معا كما في روايتنا قالوا وهو نادر وجاء في رواية أكفئها من الإكفاء وهو الإمالة والقلال جمع قلة وكانت جرة كبير (فما سألوا عنها ولا راجعوها) أي ما شكوا في الخبر وما ترددوا في تنفيذه -[فقه الحديث]- جزم الدمياطي في سيرته بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية سنة ست من الهجرة وقد أخرج البيهقي مرفوعا وصححه ابن حبان اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث وأنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه والحديث صريح في أن الصحابة اعتبروا الفضيخ خمرا مع أنه ليس من عصير العنب وجمهور العلماء على أن الخمر في الشرع اسم لكل ما يسكر سواء أكان من عصير العنب أو من نقيع التمر أو الزبيب أو العسل أو غيرها للحديث الصحيح كل مسكر خمر قال الحافظ ابن حجر استدل بالحديث على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا على أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع ولم يستفصلوا وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وخالف في ذلك الحنفية فقالوا يحرم المتخذ من العنب قليلا أو كثيرا إلا إذا طبخ وفي المتخذ من غير العنب لا يحرم منه إلا القدر الذي

يسكر وما دونه لا يحرم أهـ وأدلة هذه المسألة كثيرة ومتشعبة في المطولات مما لا يليق بهذا المختصر وفتح الباري فيه غناء عن جميع المبسوطات -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استدل بالحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى نهاية ثم حرمت وقيل كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل وبالغ النووي في الرد على هذا القول الأخير فقال ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له وقد قال الله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها فدل على أن ذلك كان واقعا وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع فنسخت فيه قولان للعلماء والراجح الأول 2 - وفي الحديث إجازة خبر الواحد والعمل به فإن المخبر بتحريم الخمر واحد وقد قبل خبره وعمل به 3 - مدى التزام الصحابة بالشريعة ومسارعتهم إلى إنكار المنكر بإزالته والله أعلم

79 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار -[المعنى العام]- خلق الله الزمان ظرفا لأفعال العباد ولصالح العباد يدبرون أمورهم بواسطته ويحددون مواقيتهم به الليل والنهار وساعاتهما والشهر والعام بل عمر الأشياء وعمر الإنسان نعمة عظيمة من نعم الله {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} الآية 5 من سورة يونس ومن كفر الإنسان وجحوده أن لا يشكر نعمة الله وأن لا يقدرها قدرها وأن لا يستفيد منها وأكثر من ذلك جحودا أن يحول النعمة بسلوكه الخاطئ إلى نقمة وأن يسند أخطاءه إلى غيره وأن يتهم البريء وأن يلصق العيب الذي يقع فيه إلى الزمان أو المكان فيلعن الأرض ويسب الزمان وهو لا يدري أنه بذلك يسب خالقهما ومدبرهما ومسخرهما منتهى الكفر والجحود أن يسب الإنسان النعمة ويؤذي المنعم بها يسب الزمان والدهر والله سبحانه وتعالى هو خالق الزمان والدهر وبيده تصريف الأمور في الأزمنة والأمكنة التي يقدرها يقلب الليل والنهار ويداول الأيام بين الناس يعطي ويمنع مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير إن أنعم فبمحض الفضل وإن سلب فوديعته يستردها متى شاء له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه المآب

-[المباحث العربية]- (قال الله تبارك وتعالى) هذا حديث قدسي، أوحي به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث به عن ربه جل وعلا (يؤذيني ابن آدم) قال القرطبي معناه يخاطبني من القول بما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي والله منزه عن أن يصل إليه الأذى وإنما هو من التوسع في الكلام والمراد أن من وقع منه ذلك تعرض لسخط الله (يسب الدهر) الدهر الزمان جعل ظرفا للأمور وكانت عاداتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا بؤسا للدهر وتبا للدهر والجملة مستأنفة لبيان كيفية الإيذاء (وأنا الدهر) الدهر بالرفع وفي الكلام مضاف محذوف أي أنا خالق الدهر وصاحبه ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعل فكأنه قال لا تسبوا الفاعل فإنكم إذا سببتموه سببتموني (أقلب الليل والنهار) أي إن الدهر حادث بتقليب الليل والنهار ولا فعل له من خير أو شر -[فقه الحديث]- كان الكثيرون من أهل الجاهلية لا يؤمنون بإله ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر فيعتقدون أن الدهر فاعل مدبر يسندون إليه الكوارث والنعم وكانت هذه الخرافات عقيدة لهم للجهل والبعد عن العلم فنعى القرآن عليهم بأنهم {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إبطال مذهب الفلاسفة الدهريين ومن وافقهم من مشركي العرب المنكرين للصانع

2 - أنه لا يجوز نسبة الأفعال للدهر على سبيل الحقيقة على أن الدهر فاعل مدبر فمن اعتقد ذلك فهو كافر وأما من نطق بذلك دون اعتقاد فهو آثم متشبه بأهل الكفر والضلال 3 - أخذ ابن حزم من قوله وأنا الدهر أن الدهر اسم من أسمائه تعالى 80 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي أو لعمر فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى {إذا جاءك المنافقون} فبعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يا زيد -[المعنى العام]- بعد غزوة بني المصطلق وقد نزل جيش المسلمين بعد الانتصار على ماء يسمى ماء المريسيع تشاحن أجير لعمر بن الخطاب مع حليف لعبد الله بن أبي كبير المنافقين من أجل الماء فكسح أجير عمر حليف بن

أبي فنادى الأخير يا للأنصار ونادى أجير عمر يا للمهاجرين وخف إليهما نفر من الفريقين وكادت الفتنة تشتعل بين المهاجرين والأنصار لولا تدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله دعوها فإنها منتنه أي دعوا العصبية والقبلية فإنها كريهة وقد دفنها الإسلام وانحسر الفريقان واجتمع فريق من المنافقين بعبد الله بن أبي يقولون له كنت ترجي وتدفع فصرت لا تضر ولا تنفع فأخذته الحمية فقال نافرونا وكاثرونا في بلادنا ما مثلنا إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن منها الأعز الأذل وقال لمن معه من المنافقين لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وكان غلام من الأنصار يدعى زيد بن أرقم قريبا من المنافقين سمع كلامهم فأخبر بذلك رئيس قومه الخزرج سعد بن عبادة فأخبر سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا زيدا فسأله فحكى ما سمع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك أخطأ سمعك لعلك شبه عليك ودعا عبد الله بن أبي فسأله فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا وقال أتباعه يا رسول الله كبيرنا تكذبه وتصدق عليه صبيا لا يدرك وأحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضيق وأدرك عمر وكبار الصحابة صدق الصبي فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق المنافق قال صلى الله عليه وسلم لا قال فمر معاذ بن جبل فليقتله قال لا لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وقد بلغه الخبر فقال يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه وإني أخشى أن يقتله أحد فتكرهه نفسي وتأخذني الحمية ضده فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فقال صلى الله عليه وسلم بل نرفق به ونحسن صحبته ثم قال يا عمر أذن في الناس بالرحيل وكانوا في منتصف الليل وفي ساعة لا يرحل فيها الجيش عادة لكنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يشغل الناس بالسفر عن الفتنة وكانت عائشة في هذه الساعة قد انقطع عقدها تبحث عنه بعيدا عن الجيش فكانت حادثة الإفك وكانت الإشاعة التي أطلقها عبد الله بن أبي ووصل الجيش أبواب المدينة ووقف عبد الله بن عبد الله بن أبي يمنع أباه من الدخول ويقول له والله لا آذن لك بدخولها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا عبد الله بن أبي ابنه

لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل لابنه أن يأذن له بالدخول فشهر سيفه في وجهه وقال له والله لا أدعك تدخلها حتى تقول أنا الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز فقال رأس النفاق صاغرا وظن الصبي زيد بن الأرقم وبعض الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبه وصدق ابن أبي فاغتم ولزم بيته خوفا من عتب من يلاقيه وجاءه من يزوره وجاءه عمه يقول له أهكذا تقول خبرا يكذبك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد همه وغمه ونزل القرآن الكريم يكشف المنافقين ويصدق خبر الصبي زيد بن أرقم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرك أذنه وبشره بأن الله صدقه وتلا عليه وعلى الصحابة سورة المنافقين وفيها {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} الآيتان 7، 8 -[المباحث العربية]- (كنت في غزاة) الراجح أنها غزوة بني المصطلق (عبد الله بن أبي بن سلول) رأس النفاق وسلول اسم أمه (لا تنفقوا على من عند رسول الله) الخطاب للأنصار الذين أنفقوا على المهاجرين وقاسموهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم والمقصود بمن عند رسول الله المهاجرون (حتى ينفضوا من حوله) أي حتى يتفرقوا عنه ولفظ من حوله من كلام ابن أبي ولم يحكه القرآن في الآية ولم يقصد الراوي بذكره التلاوة (ولئن رجعنا من عنده) لفظ من عنده أي من جيشه وغزوته من كلام ابن أبي ولم يحكه القرآن أيضا {ليخرجن الأعز منها الأذل} يعني بالأعز نفسه قاتله الله وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعزه الله ورفع ذكره

(فذكرت ذلك لعمي أو لعمر) أو هنا للشك من الراوي وفي سائر الروايات الأخرى في البخاري لعمي بدون شك والمراد بعمه هنا سعد بن عبادة وليس عمه حقيقة وإنما هو سيد قومه الخزرج (ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ما الذي أردته وقصدته حتى وصلت إلى تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لك (ومقتك) أي وغضب عليك وهذا القول كان مبنيا على الظن لا على الواقع {إذا جاءك المنافقون} الآيات مقصود لفظها وحكايتها مفعول به لأنزل (إن الله صدقك يا زيد) صدقك بتشديد الدال أي قرر صدقك وفي رواية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام فقال وفت أذنك يا غلام مرتين أي كانت أذنك وفية مؤدية واعية لما سمعت -[فقه الحديث]- ظاهر قوله فأنزل الله عز وجل {إذا جاءك المنافقون} من غير ذكر نهاية ما أنزل قد يوهم أن السورة قد نزلت حينئذ كلها لكن الروايات الأخرى في الصحيح تثبت نهاية ما أنزل آنذاك وأنه إلى قوله {ليخرجن الأعز منها الأذل} فيكون الذي نزل {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} ويبدو أن هذا القدر من السورة نزل أولا فقيل لعبد الله بن أبي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر لك فجعل يلوي رأسه ممتنعا مستكبرا فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} ويبدو أنه لتقارب وقت النزولين واتصال موضعهما ذكر الكل كأنه نزل دفعة واحدة والله أعلم

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر أتباعهم والاقتصار على معاتباتهم ذكره الحافظ ابن حجر وعندي أن ذلك ليس من الهفوات التي يترك أصحابها أو يعاتبون عليها لكن كان سبب هذه المعاملة عدم التأكد من الخبر 2 - التوقف عن الحكم بناء على أخبار غير جازمة وبدون بينة وقبول عذر من يعتذر حينئذ وتصديق إيمان من يحلف وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك 3 - تأنيس وتأليف ضعاف الإيمان لئلا ينفروا أتباعهم وبخاصة عند عدم الإدانة أو في سفساف الأمور 4 - جواز تبليغ الإمام أخبار بعض الرعية من أجل المصلحة العامة 5 - جواز تبليغ المقول فيه قولا قيل به ما لم يقصد بذلك الإفساد المطلق وليس ذلك من النميمة وتعتمد في مثل ذلك الموطن قاعدة ترجيح المصلحة العامة على المفسدة الخاصة 6 - في الحديث منقبة عظيمة لزيد بن الأرقم رضي الله عنه 7 - ذم النفاق والتحذير من المنافقين وحث المؤمن على أن يكون حذرا فطنا

كتاب فضائل القرآن

كتاب فضائل القرآن 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا حسد إلا في اثنتين رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل" -[المعنى العام]- الدنيا مزرعة الآخرة والكيس من استفاد منها وعمل لما بعد الموت والحكيم من نظر إلى من دونه قدرا في الدنيا فيحمد الله على حاله وإلى من فوقه دينا وتجارة أخروية فنافسه وسابقه وحرص على اللحاق به والزيادة عليه والحديث يرشد إلى ميدانين من ميادين الخير باعتبارهما أهم الميادين وكان غيرهما بجوارهما لا شيء ميدان قراءة القرآن والعمل به وميدان الإنفاق في سبيل الله فيقول لا غبطة محمودة ولا يليق بمسلم أن يتطلع إلى ما عند مسلم ولا أن يتمنى فضلا تفضل الله به على مسلم إلا في حالتين حالة رجل أو امرأة علمه الله القرآن فحفظه أو أجاد قراءته في المصحف فهو يشغل به وقته ويتلوه في ساعات الليل وفي ساعات النهار فإنه يحق للمسلم الذي يسمعه أن يتمنى أن يكون مثله وأن

يعمل مثل ما يعمل يحق للمسلم حينئذ أن يحاول وأن ينافس الحالة الثانية حالة رجل أو امرأة آتاه الله مالا فجعله في يده لا في قلبه وابتغى به الدار الآخرة وأخذ ينفق منه في وجوه الإنفاق الشرعية صباح مساء فيحق للمسلم الذي يراه أن يتمنى مثله وأن يحاول الكسب الحلال والإنفاق مما يكتسب في سبيل الله ففي الحالتين فضل كبير فضل قراءة القرآن وفضل الإنفاق في وجوه الخير وفي ذلك فليتنافس المتنافسون -[المباحث العربية]- (لا حسد إلا في اثنتين) "لا" نافية للجنس واسمها "حسد" مبني على الفتح في محل نصب وخبرها محذوف تقديره "محمود" أو مرخص به شرعا إلا في خصلتين وحالتين والمستثنى منه محذوف أي لا حسد في شيء من الأشياء أو في خصلة من الخصال إلا في خلصتين والمراد من الحسد الغبطة وهي تمني مثل ما عند الغير وهي محمودة شرعا بخلاف الحسد الذي هو تمني زوال نعمة الغير وهو محرم شرعا وإنما عبر عن الغبطة بالحسد للمشابهة بينهما من بعض الوجوه (رجل) بالرفع والجر وهو على كل منهما قائم مقام المضاف المحذوف أي خصلة رجل فالرفع خبر مبتدأ محذوف أي إحداهما خصلة رجل والجر على البدلية من "اثنين" وذكر الرجل ليس للاحتراز عن المرأة وإنما ذكره للتمثيل فالحكم يعم النساء (علمه الله القرآن فهو يتلوه) علمه قراءته حفظا أو قراءة والمراد العمل به مع التلاوة بدليل رواية ابن عمر "فهو يقوم به" وتلاوته أعم من أن تكون في صلاة أو في غير صلاة (آناء الليل وآناء النهار) أي ساعات الليل وساعات النهار وليس المقصود استغراق جميع الأوقات بالقراءة حتى لا ينام أو لا يأكل أو لا

يشتغل بأمر دنياه بل المراد المبالغة في كثرة القراءة و"آناء" جمع "إنى" بكسر الهمزة وفتح النون منونة كأمعاء جمع معي (فسمعه جار له) ذكر "جار" مبني على الغالب لأنه الذي يسمع في جميع أحواله غالبا (ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) التمني للأمرين معا والغبطة في اجتماعهما (آتاه الله مالا) نكرة تفيد الشيوع فيقع على القليل والكثير وعلى أي ممول تجارة وزراعة وصناعة أقواتا وغير أقوات (فهو يهلكه) أي ينفقه والتعبير بالإهلاك للإشارة إلى استنفاده كله والإسراف في الخير محمود (في الحق) قيد للاحتراز عن التبذير المذموم -[فقه الحديث]- تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر وحصر الخير فيهما ادعاء للإشارة إلى عظم أمرهما ومبالغة في فضلهما نعم هناك خصال لها من الفضل مثل ما لهاتين أو أكثر كالجهاد والتفقه في الدين مثلا لكن الحث على بعض الفضائل في بعض الأوقات روعي فيه المناسبات والظروف وحال المخاطبين ولذلك يقول الحافظ ابن حجر ولا يلزم من الحديث أفضلية المقرئ على الفقيه لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء ولا يلزم كذلك أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم عناء في الإسلام كالمجاهد والمرابط والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لأن ذلك دائر على النفع المتعدي إلى الغير فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز الغبطة بمعنى تمني مثل ما عند الغير من غير تمني زواله عن الغير قال الحافظ ابن حجر فإن كان في الطاعة فهو محمود ومنه {وفي

ذلك فليتنافس المتنافسون} وإن كان في المعصية فهو مذموم 2 - فضل قراءة القرآن 3 - فضل الإنفاق في سبيل الله وفي الحق وفضل السخاء 4 - ذم البخل والشح 5 - المبالغة في الإنفاق في الحق لا تعد تبذيرا ولا تذم 6 - الحض على هاتين الخصلتين 7 - الحث على التنافس في الخيرات 8 - استدل بالحديث على أن الغني القائم بحقوق المال أفضل من الفقير قال الحافظ ابن حجر نعم يكون أفضل بالنسبة إلى من أعرض ولم يتمن اهـ وظاهر كلامه أنه لا يكون أفضل من الفقير إذا تمنى لكن حديث "ذهب أهل الدثور بالأجور" يفيد تفضيل الغني المنفق لماله في وجوه الخير على الفقير والله أعلم.

2 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت" -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} ويقول {سنقرئك فلا تنسى} بهاتين الآيتين أشار الله تعالى إلى صعوبة حفظ القرآن وصعوبة الاحتفاظ بهذا الحفظ وأشار إلى طريق المحافظة عليه بقوله {ورتل القرآن ترتيلا} وقوله {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} حتى من يكون منا مرضى أو ضاربين في الأرض فطريق إمساك المسلم بما حفظ مداومة التلاوة وهذا الحديث يوضح ذلك المعنى بضرب المثل وتشبيه القرآن في صدر حافظه بالإبل المقيدة مادام القيد والتعاهد ظلت ممسكة وإن فك قيدها ولم تراقب انفلتت وذهبت وصاحب القرآن كذلك إن داوم على تلاوته واستذكاره ظل حافظا وإن غفل عن تلاوته وأهمل قراءته نسي ما حفظه وما أعظم مصيبة من حفظ آية ثم نسيها وما أشد خسران من نسي القرآن بعد حفظه نعوذ بالله من ذلك -[المباحث العربية]- (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل) الصاحب الملازم لذي ألف الشيء أو الذي يملكه و"إنما" أداة حصر ادعائي لأن لصاحب القرآن تشبيهات أخرى (المعقلة) بضم الميم وفتح العين وتشديد القاف المفتوحة هي

المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير بعد ثني الساق على الفخذ قاعدا وبه لا يستطيع القيام (إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت) وفي رواية لمسلم "إن تعاهدها صاحبها فعقلها أمسكها وإن أطلق عقالها ذهبت" تعاهد الإبل وعقل الإبل قد يراد به إحداث ذلك بعد أن لم يكن وقد يراد به استمرار ذلك وتعاهد القرآن كذلك قد يرد به إنشاء القراءة والحفظ وقد يراد به استمرار القراءة ومداومة الحفظ والظاهر -مع صحة الأمرين- أن المراد هنا الاستمرار لذا وضع البخاري الحديث تحت عنوان باب استذكار القرآن وتعاهده أي طلب ذكره وتجديد العهد بملازمته وهذه الجملة بيان لوجه الشبه والتشبيه في الحديث تشبيه مركب بتشبيه القرآن بالإبل وقارئه بصاحب الإبل وتشبيه المذاكرة والتلاوة بمداومة العقل والحفظ بالإمساك والنسيان بالإطلاق ويصح أن يكون تشبيه تمثيل أي تشبيه هيئة صاحب القرآن مع القرآن من حيث التعاهد أو عدمه بهيئة صاحب الإبل مع الإبل من هذه الحيثية بجامع الإمساك عند التعاهد والانفلات عند الإهمال -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض ألف التلاوة أعم من أن يألفها صاحب القرآن نظرا من المصحف أو عن ظهر قلب فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه ويسهل عليه قراءته فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه اهـ ويؤكد هذا المعنى حديث البخاري "استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا أي تفلتا من صدور الرجال من النعم" وقال ابن بطال هذا الحديث يوافق الآيتين قوله تعالى {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} وقوله تعالى {ولقد يسرنا القرآن للذكر} فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له ومن أعرض عنه تفلت منه اهـ

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد وتشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة التمكن في النفس 2 - الإشارة إلى صعوبة حفظ القرآن وصعوبة استمرار إمساكه مما يوحي بالمشقة المؤدية إلى زيادة الأجر 3 - الحض على المحافظة على القرآن بدوام دراسته وتكرار تلاوته 3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يرى شيئا وينظر في القدح فلا يرى شيئا وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق"

-[المعنى العام]- يحذر صلى الله عليه وسلم من المراءاة بقراءة القرآن وبالعبادات وينبه إلى أن الأساس استقرار الإيمان في القلوب ويوجه الأمة إلى عدم الاغترار بالمظاهر ويتنبأ عن طريق الوحي بقوم يخرجون في مستقبل الزمان يبالغون في الصلاة والصيام والأعمال الخيرية ظاهرا ويقرءون القرآن كثيرا درجة أن الصحابي العابد لو رآهم لاحتقر عبادته نفسه بالنسبة لعبادتهم لاحتقر صلاته بالنسبة لصلاتهم واحتقر صيامه بالنسبة لصيامهم واحتقر قراءته للقرآن بالنسبة لقراءتهم لكن أعمالهم تلك مع كثرتها ومبالغتها هيكل وشكل وصورة لا حقيقة لها فأذكارهم لا تتجاوز ألسنتهم وقراءتهم لا تتجاوز حناجرهم لأنها لم تنبع من إيمان قلبي فمثل عبادتهم تلك كمثل السهم الذي يخترق الصيد ويخرج بسرعة لشدة سرعته لا يعلق به شيء من الصيد حتى الدم لا يكاد يرى فيه يحس الصائد أنه رجع من رميته صفر اليدين ينظر في أجزاء سلاحه لعله يجد شيئا من الصيد ينتفع به فلا يجد وهكذا هؤلاء الناس يخرجون من مظاهر الطقوس التي مارسوها من غير قبول ومن غير أجر أو ثواب -[المباحث العربية]- (يخرج فيكم) الخطاب قيل للصحابة على معنى أن الموصوفين سيخرجون إلى الوجود في عصر الصحابة ولو عند آخر صحابي على معنى لو فرض ورأيتموهم بينكم حقرتم صلاتكم وقيل الخطاب للأمة أي يخرج فيكم معشر المسلمين قوم تحقرون معشر العابدين صلاتكم (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم) أي تعدون صلاتكم بالنسبة لظاهر صلاتهم قليلة (وعملكم مع عملهم) أي وعملكم الصالح أي عبادتكم مع عبادتهم

فهو من عطف العام على الخاص ليتناول غير الصلاة والصيام من العبادات (ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) أي يقرءون بتجدد وكثرة قراءة بالألسنة والحروف التي لا تصل إلى القلب والحناجر جمع حنجرة وهي الحلقوم والبلعوم وهو طرف المريء مما يلي الفم وفي رواية "لا يجاوز تراقيهم ولا تعيه قلبهم" (يمرقون من الدين) أي يخرجون من أعمالهم الدينية الظاهرية (كما يخرج السهم من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وتشديد الياء فعيلة بمعنى مفعولة، أي الصيد المرمي. شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجة لقوة الرامي لا يعلق به من جسد الصيد شيء (ينظر في النصل فلا يرى شيئا) فاعل "ينظر" للرامي المعلوم من المقام والنصل بفتح النون وسكون الصاد حديدة السهم وسنه (وينظر في القدح فلا يرى شيئا) "القدح" بكسر القاف وسكون الدال عود السهم قبل أن يراش ويتصل (وينظر في الريش فلا يرى شيئا) الريش هو ما يلصق على السهم ليحمله في الهواء كما يحمل الطائر وهو يشبه الأجنحة التي توضع في مقدمة الصاروخ (ويتمارى في الفوق) أي ويتشكك الرامي في وجود أثر من الصيد في "الفوق" وهو بضم الفاء الجزء المشقوق من رأس السهم حيث يركب في الوتر -[فقه الحديث]- ذهب بعض العلماء إلى أن الحديث يشير إلى الخوارج اعتمادا على رواية للبخاري في كتاب استتابه المرتدين في باب قتل الخوارج تربط الحديث بالحرورية والحق أنها إن ربطت بهم لا تمنع من وجود طوائف

غيرهم فيها الصفات الواردة في الحديث وفي هذا الزمان كثير ممن يتصفون بهذه الصفات وقد قال الحافظ ابن حجر في تصويرهم أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءته فلا يحصل لهم إلا سرده وقال النووي المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب وحكى القرطبي عن قراءتهم هذه أن المراد منها الحذق في التلاوة أي يأتون به على أحسن أحواله نطقا أو أنهم يواظبون على تلاوته أو هو كناية عن حسن الصوت به وهذه وجوه احتقار الآخرين لقراءة أنفسهم -[ويؤخذ من الحديث: ]- علم من أعلام النبوة وإخبار عما حدث في المستقبل من وجود هذه الطائفة 2 - التحذير من المراءاة بالقرآن 3 - التنبيه إلى عدم الاغترار بالمظاهر 4 - الحث على قراءة القرآن بقلب واع وتدبر 5 - ذم النفاق والمراءاة بالعبادة.

4 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر" -[المعنى العام]- لما كان فضل القرآن عظيما عملا به وقراءة لدرجة قال حكيمهم من أراد أن يسمع الله فليقرأ القرآن ومن أراد أن يناجي الله فليقم إلى الصلاة وورد في الحديث القدسي "من شغله القرآن عن ذكري وعن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" لما كان الأمر كذلك كان الناس أمام هذه السوق الأخروية أربعة أصناف قارئ عامل وعامل غير قارئ وقارئ غير عامل وغير قارئ وغير عامل والحديث يشبه كل صنف من هذه الأصناف الأربعة بنوع من أنواع النبات تقريبا للأذهان وتوضيحا للمعاني فالمؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل بما جاء فيه مثله مثل الأترجة الفاكهة النضرة الجميلة الناعمة الصفراء اللون التي تسر الناظرين ذات الرائحة الطيبة والطعم اللذيذ وذات الفوائد الكثيرة للبدن فهي حسنة ظاهرا والباطن نافعة لمن يتناولها ولمن يقرب منه فيراها أو يشمها وكذلك قارئ القرآن العامل به حسن الظاهر والباطن نافع نفسه ونافع من يسمعه أو يراه والمؤمن الذي يعمل بما جاء

به القرآن ولا يقرؤه مثله مثل التمرة حلوة في حقيقة طعمها نافعة لآكلها لكنها لا تنفع من بجواره لأنها لا رائحة لها ولا متعة في منظرها والمنافق الذي يقرأ القرآن مثله مثل الريحانة ريحها طيب تعطر ما حولها وطعمها مر لا تمتع آكلها والمنافق الذي لا يقرأ القرآن خبيث الباطن قبيح الظاهر مثله مثل الحنظلة لا يستلذ بها متناولها ولا يتمتع بها من يجاوره لأن طعمها مر أو خبيث وريحها قبيح جعلنا الله من المؤمنين الصادقين القارئين العاملين -[المباحث العربية]- (كالأترجة) بضم الهمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة وقد تخفف الجيم ويزاد قبلها نون ساكنة فاكهة شبيهة بالبرتقال إلا أنها أكبر ولونها يميل إلى الصفرة أكثر (طعمها طيب وريحها طيب) ربط الطعم في الحالات الأربع بصفة الإيمان وربط الريح بالقراءة قيل لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه ثم قيل الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة لأنه يتداوى بقشرها ويستخرج من حبها دهن له منافع وفيها أيضا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها ولين ملمسها وفي أكلها مع الالتذاذ طيب رائحة ودباغ معدة وجودة هضم ولها منافع أخرى قاله الحافظ ابن حجر (الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به) "يعمل" معطوف على "لا يقرأ" لا على "يقرأ" (طعمها مر أو خبيث) شك من الراوي

(وريحها مر) استشكلت هذه الرواية بأن المرارة من أوصاف الطعوم فكيف يوصف بها الريح وأجيب بأن ريحها لما كان كريها استعير له وصف المرارة قاله الحافظ ابن حجر وحاصله أنه شبه خبث الرائحة بمرار الطعم بجامع النفور والتقزز في كل واستعيرت المرارة للخبث على سبيل الاستعارة التصريحية وفي رواية للبخاري "ولا ريح لها" وللحنظلة حقيقة ريح خبيث فرواية "لا ريح لها" محمولة على نفي الريح الطيبة -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضل قراءة القرآن والحث عليه 2 - ضرب المثل لتقريب المعاني وتثبيتها في النفوس 3 - أن الهدف من قراءة القرآن تدبره والعمل به لا مجرد النطق بألفاظه 4 - تحقير أمر المنافق لعدم استفادته من أعماله التي ظاهرها العبادة

كتاب النكاح

كتاب النكاح النكاح من نكح ينكح من باب ضرب وفتح ويقال هي ناكح وناكحة وأصل النكاح في اللغة الضم والمخالطة يقال نكح المطر الأرض ونكح النعاس عينه ونكحت الحصاة أخفاف الإبل ثم أطلق على الوطء لأنه ملزوم وعلى العقد لأنه سبب الوطء فصار حقيقة عرفية شرعية وفي حقيقته الشرعية ثلاثة أقوال الأول قول الجمهور وهو أصحها أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء وحجتهم في ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل أنه لم يرد في القرآن إلا للعقد وقوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} معناه حتى تتزوج أي يعقد عليها لأن العقد لا بد منه نعم مفهومه أن ذلك كاف بمجرده لكن بينت السنة أن لا عبرة بمفهوم الغاية بل لا بد بعد العقد من ذوق العسيلة كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق ثم العدة الثاني قول الحنفية ووجه للشافعية أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد وهو بمعنى القيد يسند للرجل والمرأة قال تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} الثالث أنه حقيقة فيهما بالاشتراك ويتعين المقصود بالقرينة فإذا قالوا نكح فلانة أو بنت فلان أو أخت فلان أرادوا عقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الوطء قال ابن حجر وهذا أرجح في نظري

ومن فوائده أنه سبب وجود النوع الإنساني ومنها قضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة منها غض البصر وكف النفس عن الحرام إلى غير ذلك. 5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" -[المعنى العام]- كان علي كرم الله وجهه في أناس ممن أرادوا أن يحرموا أنفسهم من الشهوات رغبة في التبتل والانقطاع إلى العبادة فذهبوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن الواحدة تلو الأخرى عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقوم به من الطاعات سرا في بيتها وفي ليلتها فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم يصوم ويفطر ويقوم وينام ويقضي مآربه من النساء ويأكل من الطيبات ويلبس من المباحات دون إسراف ودون حرمان كانوا يأملون في الحصول على مبالغات الرسول في التبتل والعبادة ليقتدوا به فلم يجدوا تشددا ولا إسرافا بل بعضهم اعتدالا وإنصافا ومع ذلك عزموا على المضي في مغالاتهم قال بعضهم لبعض لا ينبغي أن نقيس أنفسنا بالرسول الذي أمنه ربه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فسأداوم على قيام الليل كله بالصلاة وقال آخر وأما أنا فسأصوم العام كله لا آكل إلا في الليل ولا أفطر إلا الأيام التي حرم الله

صومها وقال الثالث وأما أنا فسأعتزل التمتع بالنساء فلن أتزوج أبدا لأتفرغ لعبادة الله فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقال لهم أنتم الذين قلتم كذا وكذا قالوا نعم يا رسول الله دفعنا إلى ذلك خوفنا من عقاب الله قال عليه الصلاة والسلام رفقا بأنفسكم فما أيسر الدين إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهر أبقى إني أكثر منكم خوفا وخشية وأحرص منكم على التقوى لله ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء وهذه سنتي التي أمرني الله بها فمن رغب عنها ولو إلى خير منها في نظره فليس من أتباعي -[المباحث العربية]- (عن أنس قال) الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف أي روي عن أنس و"قال" يسبك بمصدر من غير سابك والمصدر نائب فاعل روي (جاء ثلاثة رهط) إضافة ثلاثة إلى رهط بيانية أي ثلاثة هم رهط والرهط من ثلاثة إلى عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالنفر والفرق بينهما أن النفر من ثلاثة إلى تسعة لا إلى عشرة كما في الرهط وقد جاء في مرسل سعيد بن المسيب أن الثلاثة هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون (يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم) أي العبادة السرية وقد جاء في رواية مسلم عن علقمة "في السر" وجملة "يسألون" مستأنفة كأن سائلا سال لم جاءا أو حال من ثلاثة باعتبار تخصصه بالإضافة أي جاء ثلاثة رهط سائلين (فلما أخبروا) بالبناء للمجهول والمعمول محذوف تقديره فلما أخبروا بعبادته وجواب "لما" محذوف تقديره عجبوا (كأنهم تقالوها) بتشديد اللام المضمومة أي عدوها قليلة أي رأى كل منهم أنها قليلة وأصله تقاللوها فأدغمت اللام في اللام لاجتماع المثلين والتعبير بالتشبيه للدلالة على أنهم لم يتقالوها بالفعل لأن الاستهانة

بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم استهانة به ولا تقع من صحابة أجلاء (وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي وأين خبر مقدم والضمير مبتدأ مؤخر والجار والمجرور متعلق بما تعلق به الخبر والواو عاطفة للجملة على محذوف والتقدير هذا شأنه صلى الله عليه وسلم ومكانته ولسنا قريبين منه (وقد غفر له) بالبناء للمجهول وفي رواية "غفر الله له" والجملة في محل النصب على الحال من النبي أي لسنا قريبين من النبي حالة كونه مغفورا له ومستأنفة استئنافا تعليليا أي لسنا قريبين منه لأنه قد غفر له (ما تقدم من ذنبه وما تأخر) كناية عن الكل والإحاطة (أما أنا فإني) أما بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف شرط وتفصيل نابت مناب مهما يكن من شيء والفاء لازمة لتلو تاليها (أصلي الليل أبدا) اللام في الليل لاستغراق جميع أجزائه وكلا الطرفين متعلق بالفعل كأنه قال أصلي في جميع حالات ساعات الليل وقال الحافظ ابن حجر أبدا قيد "لليل" لا لقوله "أصلي" وكأنه يريد إعرابه حالا على التأويل أي أصلي الليل متواصلا (أصوم الدهر ولا أفطر) بالنهار سوى العيدين وأيام التشريق ولذا لم يقيد بالتأبيد كأخويه (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) معطوف على محذوف أي فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فبلغ ذلك رسول الله فجاء (أما والله) بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف تنبيه (لكني أصوم وأفطر) استدراك على ما فهم من الكلام السابق لأن بلوغه صلى الله عليه وسلم منتهى الخشية والتقوى يوهم أنه لا يتعاطى شيئا من متع الدنيا ولا يفتر عن العبادة فرفع هذا بما ذكره كأنه قال أنا وإن تميزت عنكم بذلك لكني إلخ

(فمن رغب عن سنتي) أي من أعرض عن طريقتي (فليس مني) في الكلام مضاف محذوف أي ليس من متبعي -[فقه الحديث]- مناسبة هذا الحديث لكتاب النكاح قوله صلى الله عليه وسلم "وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وسبب مجيء هذا الرهط ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع بعضهم واتفقوا على أن يصوم بعضهم النهار ويقوم بعضهم الليل ولا ينام بعضهم على الفراش ولا يأكل بعضهم اللحم ولا يقرب بعضهم النساء ثم جاءوا يسألون ليقتدوا ولعل السر في أنهم لم يسألوه صلى الله عليه وسلم وسألوا زوجاته أنهم ظنوا أنه سيخفي عبادته السرية عنهم قولا كما أخفاها عملا شفقة منه على الأمة والرواية التي معنا تفيد أن الرسول خاطبهم بقوله "أنتم الذين قلتم كذا وكذا" إلخ لكن جاء في رواية مسلم "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا" وقد جمع بينهما بأنه خاطبهم فيما بينه وبينهم ثم منع أصحابه عامة عن التكلف مع عدم تعيينهم رفقا بهم وسترا عليهم وإنما قال لهم الرسول "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" ليرد بذلك ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم بأنه مع كونه لم يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون لأن المشدد لا يأمن الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه وقال ابن المنير إن هؤلاء بنوا أمرهم على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة فلما علموا أنه صلى الله عليه وسلم مغفور له ظنوا عدم خوفه وحملوا قلة العبادة على ذلك فرد عليهم مبينا أن خوف الإجلال أعظم من خوف العقوبة ومرادهم من الذنب المغفور ما فرط من خلاف الأولى أو ما هو ذنب في نظره العالي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى في الواقع وقد اختلف العلماء في النكاح هل هو من العبادات أو من المباحات فذهب الحنفية إلى

أنه سنة مؤكدة على الأصح وقال النووي إن قصد به طاعة كاتباع السنة أو تحصيل الولد الصالح أو عفة الفرج والعين فهو من أعمال الآخرة يثاب عليه وهو للتآئق إليه القادر على تكاليفه أفضل من التخلي للعبادة تحصينا للدين وإبقاء للنسل والعاجز عن تكاليفه يصوم أما القادر على التكاليف غير التآئق فالتخلي عنه إلى العبادة أفضل وعند أحمد في رواية عنه إن النكاح أو التسري لازم إذا خاف العنت والظاهر أن الأصل فيه الندب بكثرة الأحاديث المرغبة فيه وقد يعرض له الوجوب أو الحرمة أو الكراهة والمراد من قوله "فمن رغب عن سنتي فليس مني" من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس متصلا بي وهو يلمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه فإن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه كالورع فالمراد ليس على طريقتي الكاملة ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فالمراد ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم 2 - وأنه إذا تعذرت معرفتها من الرجال جاز استكشافها من النساء 3 - وأن من عزم على فعل خير واحتاج إلى إظهاره فلا بأس بإعلانه حيث يأمن الرياء 4 - وأن من المباحات ما ينقلب بالقصد إلى الكراهة 5 - وأن الدين يسر ومساير لطبائع البشر 6 - وفيه فضل النكاح والترغيب فيه 7 - وبيان الأحكام للمكلفين وإزالة الشبهة عن المجتهدين 8 - وفيه رفقه صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأخذهم بالتي هي أحسن

9 - وفيه إشارة إلى أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية 10 - وفيه حث على وجوب اتباع الرسول في أعماله 11 - قال الطبري وفيه الرد على منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل وأما قوله تعالى {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} ففي الكفار قال الحافظ ابن حجر والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر ولا يؤمن معها من الوقوع في الشبهات كما أن منع تناول ذلك يفضي إلى التنطع المنهي عنه ويرد عليه صريح قوله تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا وترك النوافل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط

6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" -[المعنى العام]- بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما جرت به عادة الناس من رغبتهم في التزوج من ذوات المال حتى كادت هذه الرغبة أن تقدم على ما عداها وكثير من الشباب الطائش يحرص كل الحرص على الجمال حتى يعميه عما ينبغي أن يهتم به من خلال وما درى هذا وذلك أن المال عرض زائل وإن الجمال في طريقه لا محالة إلى التحول والذبول ثم لم يحسب هذا وذاك حسابا لما يجره مال الزوجة من شقاق وعصيان وما يجره جمالها من تيه ودلال وغيرة وفساد وخيانة في كثير من الحالات ما لم يتحصن المال والجمال بالحسب والدين نعم الإسلام لا يكره الغنى ولا ينفر من الجمال ولكنه يدعو إلى جعل الدين والصلاح أساس الاختيار فإذا ما توفر فاطلب ما شئت من صفات الكمال فإن لم تحرص على صاحبة الدين ولم تظفر بها فإنك لا تأمن الفقر والإفلاس في كل شيء في المال والأخلاق والراحة والسعادة والهناء فكم من بيوت شاهدناها شامخة ثم انهارت على صخرة الفساد وما أعناها مالها وما نفعها جمالها فاظفر بذات الدين إن رمت السعادة وانشد ضالتك في غنى النفس ووفرة الصلاح والأخلاق -[المباحث العربية]- (تنكح المرأة) بالبناء للمجهول والمرأة نائب فاعل

(لأربع) تمييز العدد محذوف أي لأربع خصال (لمالها) بدل من السابق بإعادة الجار للإشارة إلى استقلال كل في المقصد (لحسبها) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب مأخوذ من الحساب لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وحسبوها فيحكم لمن زاد عدده على غيره بالشرف وأما قوله صلى الله عليه وسلم "الحسب المال والكرم التقوى" فالمراد منه أن المال حسب من لا حسب له (وجمالها) في هذه الرواية حذفت اللام الجارة للإشارة إلى أن هذه الصفة قد لا تقصد بذاتها بل تقصد تابعة لغيرها وفي مسلم بإعادتها في الأربع لإفادة أن كلا منها مستقل في الغرض (فاظفر بذات الدين) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا تحققت ما فصلت لك فاظفر بذات الدين وذات بمعنى صاحبة وفي رواية لمسلم "فعليك بذات الدين" والخطاب لكل من يقصد النكاح (تربت يداك) الجملة جواب لشرط محذوف تقديره إن خالفت ما أمرتك به وتفسيرها افتقرت يداك يقال ترب الرجل إذا افتقر ومعناه الأصلي التصقت يداه بالتراب ويلزمه الفقر وقيل هي كلمة جارية على ألسنتهم لا يراد بها حقيقة الدعاء بل القصد منها الحث على امتثال الأمر الذي قبلها وللعرب كلمات توسعوا فيها حتى أخرجوها عن حقيقتها لإرادة الإنكار أو اللتعجب أو التعظيم أو الحث على الشيء كما هنا ومن هذه الكلمات قاتلك الله لا أب لك -[فقه الحديث]- الكلام عن هذا الحديث يتعرض إلى النقاط التالية 1 - بيان هذه المقاصد الأربعة وهل هي مقاصد عادية أو شرعية 2 - بيان غيرها من المقاصد ووجه اقتصار الحديث عليها

3 - الجمع بين الحديث وما يعارض ظاهره 4 - كيفية التفصيل إذا وجدت بعض الصفات 5 - بيان الكفاءة في النكاح وصلتها بهذه الصفات 6 - ما يؤخذ من الحديث وإليك التفصيل 1 - قال القرطبي معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هي التي يرغب في نكاح المرأة لأجلها فهو أخبار عما في الوجود لا أنه وقع الأمر بذلك بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كل من ذلك لكن قصد الدين أولى فهو يبين العادة الجارية بين الناس ويوافق عليها ويقدم بعضها على بعض فالمال يعين الزوج عند الشدة وتستغني به المرأة عن مطالبة الزوج بما تحتاج إليه أو بما لا طاقة له بتحمله وقد يحصل له منها ولد فيعود إليه مالها والحسب يحفظ للرجل منزلة أدبية بين المجتمع الذي يعيش فيه وقد حمل عليه بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم "تخيروا لنطفكم" فكرهوا نكاح بنت الزنا وبنت الفاسق واللقيطة ومن لا يعرف أبوها والجمال يعف الزوج عن النظر إلى الغير ويشرح الصدر روى الحاكم "خير النساء من تسر إذا نظرت وتطيع إذا أمرت" والجمال مطلوب في كل شيء لا سيما في المرأة التي تكون قرينة وضجيعة هذا إذا لم يؤد الجمال إلى زهوها ودلالها وفساد أخلاقها أما الدين فهو سنام الصفات المبتغاة وهو اللائق طلبه من ذوي المروءات وأرباب الديانات لأن أثره عظيم وخطر فقده جسيم ولذا أرشد إليه صلى الله عليه وسلم بآكد وجه وأبلغه فعبر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار وبصيغة الطلب الدالة على الاهتمام بالمطلوب 2 - نعم هناك مقاصد أخرى غير هذه الأربعة كالعاقلة والتي تحسن تدبير المنزل والمتعلمة والودود والولود والبكر وغير القريبة لضعف الشهوة وأما تزوجه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت عمته فلبيان الجواز ولهدم قاعدة التبني وألا تكون ذات ولد من غيره إلا لمصلحة كما تزوج النبي أم سلمة ومعها ولد أبي سلمة للمصلحة وإنما اقتصر الحديث على هذه الأربعة لأنها هي

التي ألف اعتبارها عند جمهرة الناس على أن الكثير من غيرها يمكن رده إليها 3 - ولا يتعارض هذا مع ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا "لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن يهلكهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة سوداء ذات دين أفضل" لأن المراد به النهي عن مراعاة الجمال أو المال مجردا عن الدين فلا يتنافى مع استحباب ذلك في المرأة إذا روعي الدين معه بدليل أمره صلى الله عليه وسلم لمن يريد التزوج بالنظر إلى المخطوبة وهو لا يفيد معرفة الدين وإنما يعرف به الجمال أو القبح 4 - فإذا اختصت كل واحدة بخصلة أو أكثر من هذه الخصال قدم أكثرهن تقوى وأما التفاضل بين المسلمة والكتابية فإن استوتا في بعض الصفات دون بعض قدمت المسلمة قطعا وإذا اجتمعت جميع خصال الكمال في الكتابية وكانت المسلمة على النقيض منها كان للنظر في الترجيح مجال 5 - وقد اختلف العلماء في كفاءة النكاح فقيل هي في الدين وقيل هي في الحسب وقيل هي في المال والأولى تحكيم العرف -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على تنشئة البنات على الدين والفضيلة 2 - الحث على حسن اختيار الزوجة وأن يهتم بالصلاح أولا وبالذات 3 - استدل به بعضهم على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة فإنه يقصد نكاحها لذلك فإن طابت به نفسا فهو له حلال وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق والصحيح أنه ليس له الاستمتاع بمالها من غير رضاها وليس له الحجر عليها في مالها.

7 - عن سهل رضي الله عنه قال: مر رجل غني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما تقولون في هذا" قالوا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع قال ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال "ما تقولون في هذا" قالوا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" -[المعنى العام]- أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه مقاييس الرجال وأنهم لا يوزنون بهيئاتهم ولا بأموالهم وإنما المقياس الذي ينبغي أن يحفظوه ويعملوا به هو ما اعتمده الحكيم بقوله {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أراد أن يعلمهم ذلك فلم يلق إليهم الخبر إلقاء وإنما استخرج خطأهم في الحكم ثم جهلهم ليقع المقياس في نفوسهم كل موقع ويتمكن منهم فضل تمكن

رأى صلى الله عليه وسلم غنيا يقدرونه ويعظمونه لكنه ليس من الله في شيء فقال لهم وفيهم أبو ذر الغفاري ما تظنون بهذا الرجل الذي مر أمامكم قالوا رجل له وزن إن خطب بنت أحد منا لم ترد له يد وإن شفع لأحد لم ترد له شفاعة وإن تكلم أنصت له الحاضرون فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مر رجل آخر فقير دميم رث الهيئة يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم فقال ما رأيكم في هذا الرجل فأبدوا استخفافهم به وقالوا هذا جدير بالرفض إن طلب يد بنت أحد جدير بالرد أن شفع جدير بعدم الإصغاء لحديثه إن تكلم فقال صلى الله عليه وسلم هذا الفقير جدير بأن يفضل على ملء الأرض رجالا من أمثال ذلك الغني -[المباحث العربية]- (ما تقولون في هذا) ما اسم استفهام مفعول مقدم أي تقولون أي شيء في هذا والخطاب للحاضرين من الصحابة (حري أن خطب أن ينكح) حري بفتح الحاء وكسر الراء وتشديد الياء بمعنى حقيق وجدير وينكح بضم الياء وفتح الكاف بالبناء للمجهول أي يزوج وحري خبر مبتدأ محذوف وإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف محذوف والجار والمجرور متعلق بحري والتقدير هو حري بالنكاح وخطب بفتح الخاء من الخطبة بكسرها وهي طلب النكاح ومفعول "خطب" محذوف وكذا جواب الشرط دل عليه ما قبله والتقدير إن خطب امرأة فهو جدير بالتزويج وجملة الشرط والجواب معترضة بين الجار والمجرور وبين متعلقه (وإن شفع أن يشفع) أن يشفع بتشديد الفاء بمعنى تقبل شفاعته معطوف على "أن ينكح" وجملة الشرط والجواب معترضة أيضا ومثل ذلك يقال في الباقي (وإن قال أن يستمع) بالبناء للمجهول وقد أسند إلى الذات مجازا والأصل إسناده إلى القول أي أن يستمع قوله

(هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) الإشارة الأولى للرجل الفقير والثانية للرجل الغني ومثل بالجر صفة وقد اكتسبت التعريف بالإضافة لقصد المماثلة في شيء معين وبالنصب على التمييز -[فقه الحديث]- لم يقف الحفاظ على اسم الرجل الغني ولعل إغفاله من الرواة قصد به الستر عليه أما الفقير فقالوا إنه جعيل بن سراقة وكان رجلا صالحا دميما أسلم قديما وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وقد بنى الصحابة تقديرهم للرجلين على أساس الغنى والحسب والجاه وفاضل الرسول بينهما على أساس الدين ليرشدهم إلى أن منزلة الرجال وكفاءتهم في التزويج ينبغي أن تقاس بهذا المقياس لا بذاك وليس في هذه المفاضلة تفضيل لكل فقير على كل غني وكل ما فيها تفضيل الفقير المذكور على الغني المذكور وقد تكلم الشراح في سر معرفة الرسول لحال الرجلين الدينية فقيل أنه حكم بما كان ظاهرا إذ كان الأول كافرا ويبعده أن يقول الصحابة فيه أنه جدير أن يزوج أن خطب والكافر لا يقبل طلبه وخطبته والأصح أنه كان مسلما وحكم الرسول على بواطن الأمور باطلاع الله إياه عن طريق الوحي -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضل جعيل بن سراقة إن ثبت أنه الفقير 2 - أن السيادة لمجرد الدنيا لا أثر لها 3 - الحث على عدم الاستهانة بالفقراء والمستورين فرب أشعث أغبر خير من ملء الأرض من الأثرياء 4 - أن من فاته حظ من الدنيا أمكنه الاستعاضة عنه بالصلاح والتقوى 5 - أخذ منه البخاري فضيلة الفقر فأخرجه في كتاب الرقاق 6 - الترغيب في النكاح للصالحين بعد الترغيب في الحديث السابق على نكاح الصالحات ولذا أخرجهما البخاري معا في باب الأكفاء في الدين

8 - عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت فقلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة قالت عائشة لو كان فلان حيا لعمها من الرضاعة دخل علي فقال "نعم الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" -[المعنى العام]- كانت حجرات أمهات المؤمنين متلاصقة من جريد النخل المغطى من الخارج بمسوح الشعر وكانت أبوابها مسوحا من الشعر يتناول الواقف سقفها بيده وكانت تسعا لكل واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم حجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة فسمعت صوت رجل يستأذن في الدخول على حفصة أم المؤمنين فنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة إني أسمع صوت رجل أجنبي يستأذن للدخول في بيتك دون وجودك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقد أنه فلان عم حفصة من الرضاع قالت عائشة وهل يجوز للعم من الرضاع أن يختلي ببنت أخيه من الرضاع قال نعم

قالت لو كان فلان وهو عمي من الرضاع حيا هل يجوز له الدخول علي في غيبتك قال نعم إن الرضاعة المعتبرة شرعا تحرم النكاح كما يحرم النسب فتبيح ما يترتب على ذلك من النظر والخلوة ونحوهما -[المباحث العربية]- (صوت رجل) لم يقف الحافظ على اسمه (يستأذن في بيت حفصة) أم المؤمنين رضي الله عنها أي يطلب الأذن في دخوله عليها (يستأذن في بيتك) للدخول على حفصة وقد أضيف البيت إلى حفصة سكنا وأضيف إلى ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكا (أراه فلانا) بضم الهمزة معناه أظنه والهاء مفعوله الأول وفلانا مفعوله الثاني وروي بفتح الهمزة، فأرى علمية بمعنى أعتقده فلانا (لعم حفصة) هذه اللام مثلها في قوله تعالى {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} وفيها قال ابن الحاجب أنها بمعنى عن وقال ابن مالك وغيره أنها للتعليل (قالت عائشة) الظاهر أن هذا من كلام (عمرة) الرواية عن عائشة ويحتمل أن يكون من كلام عائشة وكان مقتضى الظاهر قلت فهو من باب الالتفات (ولو كان فلان حيا لعمها) أي لعم عائشة ولم يقف الحافظ على اسمه ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس لأن أبا القعيس والد عائشة من الرضاعة وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة وقد عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فأمرها النبي أن تأذن له بعد أن امتنعت وقولها هنا لو كان حيا يدل على أنه كان قد مات (الرضاعة) أل في الرضاعة للعهد أي الرضاعة المعتبرة شرعا

-[فقه الحديث]- سياق الحديث يدل على أن أم المؤمنين حفصة أذنت للمستأذن بالدخول ولعلها علمت من الرسول هذا الحكم قبل أن تعلمه عائشة وإجماع الأئمة على أن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة وتبيح ما تبيح من النكاح ابتداء ودواما وتنشر الحرمة من الرضيع إلى أولاده فقط دون آبائه وأمهاته وأخواته أما الحرمة من المرضعة وصاحب اللبن فتنشر إلى الجميع فتحرم عليه وعلى أولاده هي وأصولها وفروعها وأخوتها وأخواتها لأنها صارت أمه كما صار صاحب اللبن أباه والحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها من اللبن فإذا اغتذى به الرضيع صار جزؤه من أجزائها فكأن الرضيع صار جزءا منها فانتشر التحريم بينهم بخلاف قرابات الرضيع لأنه ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب وحيث حرم عليه هؤلاء على التأبيد جاز له النظر والخلوة والمسافرة ولا ينتقض الوضوء باللمس دون سائر أحكام النسب كالميراث والنفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص ورد الشهادة وقد جاء في بعض الروايات "الرضاعة تحرم ما يحرم من النسب" قال القرطبي وهذا دال على نقل الرواية بالمعنى ثم قال ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال اللفظين في وقتين وقد رجح الحافظ ابن حجر الثاني لأنه يصار إلى الأول عند اتحاد الراوي والواقعة والقصة والزمن وليس ما هنا كذلك وقد استشكل بما جاء في البخاري من أن عم عائشة من الرضاعة جاء يستأذن على عائشة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأذن له بعد أن امتنعت إذ هذه الرواية تدل على أن عمها كان حيا وقولها في حديثنا "لو كان فلان حيا" يدل على أنه كان ميتا وأجيب بأنهما عمان من الرضاعة واختلفت جهة الاعتبار فيهما فأحدهما رضع مع أبي بكر وهو الذي قالت فيه لو كان حيا فهو أخ من الرضاع لأبيها من النسب والآخر هو أخو أبيها من الرضاعة فهو أخ من النسب لأب من الرضاع وهنا إشكال آخر ناشئ من سؤالها في حديثنا ثم توقفها في الثاني وكل منهما يدل على الحكم بوضوح وقد أجاب عنه القرطبي فقال هما سؤالان وقعا مرتين في زمنين عن رجلين وتكرر منها ذلك إما لأنها نسيت

القصة الأولى وإما لأنها جوزت تغير الحكم فأعادت السؤال وقال عياض إن أحد العمين كان أعلى والآخر كان أدنى أو أحدهما كان شقيقا والآخر كان لأب فتوقفت عن أحدهما وسألت عن الآخر -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استئذان الرجل في الدخول ولو كان محرما 2 - جواز تنبيه الرجل إلى ما يعنيه من أمور بيته 3 - إن الحلال يقطع أنف الغيرة 4 - جواز مراجعة المفتي بالمثل والنظير. 9 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك فقالت إنه أخي فقال "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة"

-[المعنى العام]- تروي عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها في بيتها فوجد معها رجلا جالسا فأخذته الغيرة وشق عليه ذلك حتى بدأ الغضب في وجهه فانصرف الرجل فقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة من هذا ولاحظت كراهيته له وظنت أن ذلك ناشئ من عدم معرفته صلى الله عليه وسلم برضاعته معها فقالت أنه أخي من الرضاع يا رسول الله وقد أعلمتنا أن أخوة الرضاع كأخوة النسب فقال صلى الله عليه وسلم ليس هذا من ذاك تأملن وتفهمن المراد من أخوة الرضاع لقد رضع هذا معك رضعة أو رضعات وهو كبير وذلك لا يحرم إنما الرضاعة المعتبرة التي تثبت الحرمة وتحل الخلوة هي ما تسد جوعة الطفل وتنبت لحمه وتنمي عظمه -[المباحث العربية]- (عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها) أي في حجرتها وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل يروي المحذوف أي روي عن عائشة دخول النبي عليها (وعندها رجل) لم يدر اسمه قال في الفتح وأظنه ابنا لأبي القعيس وغلط من قال أنه عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة وكانت أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي وولدته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وأرضعته بالطبع فصار أخا لعائشة من الرضاعة لكن ليس هو الذي رآه النبي عندها قطعا (فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك) في رواية مسلم "وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه" وعبرت بحرف التشبيه في الجملة الأولى تأدبا لصيانة وجه الرسول عن وصفه بالتغير وفي الثانية لدقة الحكم لأن الكره داخلي لا يجزم به لمجرد الرؤية (فقالت إنه أخي) أي قالت عائشة إن الرجل الجالس أخي من

الرضاعة تريد بذلك رفع ما أغضبه وأكدت الجملة لأن موقف الرسول موقف المنكر (انظرن من إخوانكن) من النظر بمعنى المعرفة والتأمل لا بمعنى الإبصار وفي رواية "ما إخوانكن" إيقاعا لما موقع من والأولى أوجه والأخوان جمع أخ لكنه أكثر ما يستعمل لغة في الأصدقاء بخلاف غيرهم ممن هو بالولادة أو الرضاعة فيقال لهم إخوة "من" اسم استفهام مبتدأ وما بعدها خبر أو بالعكس والجملة في محل النصب مفعول انظرن والخطاب لعائشة ونساء الأمة حيث الحكم عام والمعنى تحقق صحة الرضاعة ووقتها فإنما تثبت الحرمة إذا وقعت على شروطها وفي وقتها (فإنما الرضاعة من المجاعة) تعليل للحث على إمعان النظر والتفكير وأل في الرضاعة للعهد يعني الرضاعة التي تثبت الحرمة ما تكون في الصغر حين يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعته لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن وينبت لحمه بذلك فيصير كجزء من المرضعة فيكون كسائر أولادها وفي رواية "فإنما الرضاعة من المجاعة" -[فقه الحديث]- مناسبة هذا الحديث لكتاب النكاح مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم "فإنما الرضاعة من المجاعة فإنه يشير إلى مسألتين يتوقف عليهما تحريم النكاح وعدم تحريمه وهما 1 - مقدار اللبن المحرم 2 - وزمن الرضاعة المعتد به وفيهما خلاف بين الفقهاء أما الأولى فقال مالك وأبو حنيفة كثير الرضاع وقليله في التحريم سواء ولو مصة لإطلاق الآية وهو المشهور عن أحمد وقال الشافعي لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان لأنها لا تغني من جوع فاحتاج الأمر إلى تقدير وأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات استنادا إلى ما رواه

مسلم عن عائشة "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس رضعات محرمات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ" ومن شواهده ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود "لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم" وما رواه النسائي عن عائشة "لا تحرم الخطفة والخطفتان" وفي رواية أخرى عنها "لا تحرم المصة والمصتان" وأما الثانية فقد قال الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد المحرم من الرضاع ما كان في الحولين فلا يحرم الرضاع بعدهما لقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} فتمام الرضاعة حولان فلا حكم لما بعدهما فلا يتعلق به التحريم وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصر الرضاعة المحرمة عليها ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" وقال مالك يحرم ما كان في الحولين وما قاربهما بشهر أو شهرين أو ثلاثة ولا حرمة له بعد ذلك وقال أبو حنيفة إن مدة الرضاع ثلاثون شهرا ومن هذا يتبين أن الأئمة الأربعة متفقون على أن إرضاع الكبير لا يحرم لأنه لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم ولو كان إرضاع الكبير محرما لما تغير وجهه صلى الله عليه وسلم حينما دخل على عائشة وعندها رجل لذا كان على الأئمة أن يجيبوا على ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت "جاءت سهلة بنت سهيل القرشية وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وأنه قد بلغ مبلغ الرجال وأنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئا من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "أرضعيه تحرمي عليه" وفي رواية "فقالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير" فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال "قد علمت أنه رجل كبير" وفي رواية "فقالت إنه ذو لحية" فقال صلى الله عليه وسلم "أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة" وأجابوا بأن حديث سهلة منسوخ أو هو مخصوص بسالم وسهلة أو رخصة يلجأ إليها عند الحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه ويرد على حديث سهلة إشكال آخر هو كيف يلتقم سالم ثدي سهلة وهي أجنبية عنه وأجاب عياض باحتمال أنها حلبت اللبن ثم

شرب سالم من غير أن يمص الثدي وأجاب النووي بالعفو عن ذلك لأجل الحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر وظاهر قول النبي "أرضعيه" يقتضي ذلك لا الحلب -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إن الرضعة الواحدة لا تحرم لأنها لا تغني من جوع وحيث احتيج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به هو ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات 2 - إن التغذية بلبن المرضعة تحرم سواء بشرب أو بأكل أو بأي صفة إذا وقع ذلك بالعدد المشروط حيث أنه يطرد الجوع خلافا لمن منعه بناء على أن الرضاعة المحرمة هي التقام الثدي ومص اللبن منه 3 - أن الرضاعة إنما تعتبر في حال الصغر لأنها الحال التي يمكن طرد الجوع فيها باللبن وذلك في الحولين 4 - جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها وأنه يصير أخا لها 5 - وأن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك 6 - مدح غيرة الرجل على أهله 7 - الإرشاد إلى الخطأ بالحلم كالتعليم وعدم العنف 8 - فطنة عائشة إذ فهمت بسرعة سبب تغير وجهه صلى الله عليه وسلم 9 - حرص الزوجة على إرضاء زوجها بمجرد غضبه بالاعتذار

10 - عن جابر رضي الله عنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها" -[المعنى العام]- يحرص الإسلام على صلة الأرحام ويحذر من كل ما يؤدي إلى العقوق ومن ذلك نكاح المرأة على امرأة أخرى قريبة منها قرابة قوية وجعلهما ضرتين مع ما طبعت عليه الضرة من كراهية لضرتها ومن أجل حفظ التواد والصفاء بين الأرحام نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة على عمتها أو خالتها وقال "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن" -[المباحث العربية]- (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نهى عن نكاح المرأة والفعل منزل منزلة اللازم أو لمفعول محذوف أي نهى الأمة (على عمتها أو خالتها) كلمة أو ليست للشك لأن حكمهما واحد -[فقه الحديث]- في معنى العمة والخالة كل امرأة بينها وبين الأخرى قرابة بحيث لو

كانت إحداهما ذكرا لحرمت المناكحة بينهما وعليه فلا يحرم الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت خالها ولا بين المرأة وبنت عمتها أو بنت عمها لأنها لو قدرت إحداهما ذكرا لم تحرم الأخرى عليه نعم كره بعض السلف مثل هذا مخافة الضغائن قال الجمهور وهذا الحديث مخصص لعموم قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وقال بعض المحققين أن تحريم هذا الجمع داخل في آية المحرمات دلالة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استنبطه من تحريم الجمع بين الأختين لأنه مبين للناس ما نزل إليهم إذ ينتظم تحريم الجمع في الحالين معنى واحد مشترك هو التسبب في قطع رحم قريبه ومعنى هذا القول أن الحديث مبين غير مخصص ثم النكاح المذكور يقتضي بطلانه فلو نكحهما مرتبا في العقد بطل الثاني لأنه الذي حصل به الجمع ثم إذا طلق ابنة الأخ طلاقا بائنا حل له نكاح عمتها بمجرد البينونة وإن لم تنقض العدة لانقطاع الزوجية حينئذ وليس فيه الجمع بينهما هذا ما ذهب إليه مالك والشافعي وذهب الحنفية إلى أنه لا يحل حتى تنقضي العدة 11 - عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار"

-[المعنى العام]- حرصا على حقوق الزوجات وبعدا عما يؤدي إلى الإضرار والظلم ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يتزوج الرجل مولية رجل آخر على أن يتزوج هذا الآخر مولية الأول ويضع كل منهما صداق للأخرى وهذا هو المسمى في الإسلام بالشغار "ولا شغار في الإسلام" -[المباحث العربية]- (نهى عن الشغار) أي نهي تحريم والشغار بكسر الشين مصدر شاغر ومثله المشاغرة وهو في اللغة الرفع من قولهم شغر الكلب برجله إذا رفعها ليبول فكأن المتناكحين رفعا المهر بينهما أو كأن كلا من الوليين يقول للآخر لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك وفي التشبيه بهذه الهيئة القبيحة تقبيح الشغار وتغليظ على فاعله وقيل معناه في اللغة الخلو من قولهم شغر البلد عن السلطان إذا خلا منه لخلو العقدين عن المهر أو عن بعض الشروط وسيجيء معناه الشرعي -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في صورة نكاح الشغار المنهي عنه فصوره بعضهم بأن يزوج بنته أو أخته أو موليته لآخر على أن يزوجه هذا الآخر موليته ويكون وضع كل منهما صداقا للأخرى سواء كان مع البضع مال أو لا والجمهور يشترط في صورته ألا يكون مع البضع صداق آخر فإن لم يقل وبضع كل صداق الأخرى صح النكاح ووجب مهر المثل قال الخطابي كان ابن أبي هريرة يشبهه برجل زوج امرأة واستثنى منها عضوا من أعضائها وبيان ذلك أنه يزوج موليته ويستثني بضعها يجعله صداقا للأخرى فكأن يضع كل من الزوجين مملوك للأخرى لاحق لأحد الزوجين في الانتفاع به وقال ابن القيم اختلف في علة النهي فقيل هي التعليق أي جعل كل واحد من العقدين شرطا في الآخر فكأنه يقول لا ينعقد لك نكاح بنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك وقيل هي التشريك في البضع حيث جعل

بضع كل واحدة موردا لنجاح امرأة ومهرا للأخرى وهي لا تنتفع به فلم يرجع المهر إليها بل عاد المهر إلى الولي وهو ملكه بضع زوجته بتمليكه بضع موليته وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين وإخلاء لنكاحها عن مهر تنتفع به فأشبه تزويج واحدة من رجلين اثنين قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن نكاح الشغار حرام ولا يجوز إذا خلا من ذكر ما يصلح مهرا أما إن ذكر مع البضع ما يصلح مهرا فقد اختلفوا في صحته فالجمهور على البطلان لأن الأصل في أبضاع النساء التحريم إلا ما أحله الله بشروطه وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب مهر المثل لكل منهما لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة وقال الحنابلة إن سمي لإحداهما ولم يسم للأخرى صح نكاح من سمي لها وهنا مسألة جديرة بالبحث منتشرة في عهدنا وهي زواج البدل كأن يزوج محمد مثلا ابنته لابن أحمد على أن يأخذ بنت أحمد لابنه ولا يذكر هذه الشروط في العقد وهذا النوع من النكاح وإن لم يكن شغارا بالمعنى المصطلح عليه إلا أنه يتبعه حتما تساهل كل من الوليين في حقوق كل من الزوجتين فضلا عما يجره هذا النكاح من الأضرار بواحدة إذا ما أضر بالأخرى فينبغي أن يكره 12 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال "أن تسكت"

-[المعنى العام]- كانت المرأة قبل الإسلام من سقط المتاع ولم يكن يحسب لرأيها أي حساب حتى في أهم الأمور التي تخصها وهو زواجها فجاء الإسلام رافعا من شأنها معتمدا رأيها إذا كانت من ذوات الرأي بأن كانت بالغة عاقلة فطلب من الولي ألا يزوجها إلا بعد أن يأخذ إذنها في شريك حياتها "الأيم تستأمر" أي لا تزوج الثيب حتى تصرح بقبولها لهذا الزوج "والبكر تستأذن" فلا تزوج حتى يحصل الولي على إذنها قالت عائشة إن البكر تستحي أن تعلن رضاها يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم "رضاها صمتها" -[المباحث العربية]- (لا تنكح الأيم) ببناء الفعل للمجهول ولا نافية والفعل مرفوع فهو خبر بمعنى النهي أو ناهية والفعل مجزوم ويحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين والنفي أبلغ من النهي والأيم بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة وهي في الأصل التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا مطلقة كانت أو متوفى عنها والمراد بها هنا الثيب التي زالت بكارتها بأي وجه سواء زالت بنكاح صحيح أو شبهة أو فاسد أو زنا أو أصبع أو غير ذلك لأنها جعلت مقابلة للبكر (حتى تستأمر) ببناء الفعل للمجهول والسين والتاء للطلب أي حتى يطلب أمرها والمراد لازم الطلب أي حتى تأمر (حتى تستأذن) ببناء الفعل للمجهول أيضا أي حتى يطلب إذنها والمراد لازم الطلب أي حتى تأذن وفرق بين الأمر والأذن بأن الأمر لا بد فيه من لفظ والأذن يكون بلفظ وغيره (وكيف إذنها) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والضمير للبكر (قال أن تسكت) المصدر المنسبك من أن والفعل خبر مبتدأ محذوف أي إذنها سكوتها

-[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى إذن الزوجة سواء كانت بكرا غير بالغة أو ثيبا غير بالغة أو بكرا بالغة أو ثيبا بالغة وفي حكم هذا الإذن وفي حكم النكاح بدونه اختلف الفقهاء على النحو الآتي أولا البكر غير البالغة ويزوجها أبوها ولا يشترط إذنها اتفاقا إلا من شذ ثانيا الثيب غير البالغة قال أبو حنيفة يزوجها كل ولي فإذا بلغت ثبت لها الخيار وقال الحنابلة بثبوت الخيار لمن كانت دون التسع سنين لا من لها تسع سنين فأكثر نعم ظاهر الحديث أنه لا بد من إذن الزوجة صغيرة كانت أو كبيرة لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها ثالثا البكر البالغة ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه يجوز للأب أن يزوجها بغير إذنها احتجاجا بمفهوم ما رواه مسلم "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها" إذ يدل على أن ولي البكر أحق بها منها على أن التفرقة في حديثنا بالاستئمار في جانب الثيب والاستئذان في جانب البكر تعطي التفرقة في تزويج كل من حيث أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة دون البكر وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس للأب أن يجبر البكر البالغة فإن أجبرها لم يصح العقد وقيل يصح ولها الخيار والحديث الذي معنا دليل له من حيث أنه يدل على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت كما أنه من المقرر أن البكر الرشيد لا يتصرف أبوها في شيء من مالها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منه فكيف يجوز له أن يخرج بضعها بغير رضاها وهذا الرأي وجبه يتفق وروح عصرنا الذي خرجت فيه الفتاة ودرست الرجال لكن ليس معنى طلب رضاها وعدم إجبارها أن تستقل هي بالاختيار وتجبر وليها وتلزمه بالأمر الواقع لأنها مهما تثقفت وتعلمت تغلبها عاطفتها

ولأن في استقلالها بهذا الأمر نكرانا للأبوة وإيغارا للصدور رابعا الثيب العاقلة وقد اتفقوا على أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها قال الشافعي وأحمد إذا زوجها بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيته لأنه صلى الله عليه وسلم رد نكاح خنساء ولم يقل إلا أن تجيزه وقال مالك لا يجوز وإن أجازته إلا أن يكون بالقرب ويبطل إذا بعد لأن عقده بغير أمرها ليس بعقد هذا فيما يتعلق بتزويج الولي أما تزويج المرأة نفسها فعند أبي حنيفة بنفذ نكاح المرأة البالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من غير ولي ومن غير إجازته وقال الشافعي ومالك وأحمد لا ينعقد بعبارة النساء أصلا لقوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي" ولقوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل" وإنما اكتفي في إذن البكر بأن تسكت لأنها تستحي عادة أما الثيب فلا بد من لفظها لأن كمال حيائها قد زال بممارسة الرجال فإن ظهر مع سكوت البكر قرينة الرضا كالتبسم زوجها باتفاق وأما قرينة السخط كالبكاء فعند المالكية لا تزوج وعند الشافعية لا يؤثر ذلك إلا أن وقع مع البكاء صياح ونحوه فلا يزوجها -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - احترام الإسلام للمرأة وتقديره لرأيها 2 - مشروعية أخذ رأي الزوجة في زواجها قبل إبرام العقد 3 - أن الاستحياء عن إبداء الرأي لا يسقط مشروعية المشورة 4 - أن سكوت من عرف بالحياء دليل على رضاه ما لم تظهر قرينة مانعة.

13 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" -[المعنى العام]- يحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على رباط الألفة والمحبة بين الناس فيحذرهم من بعض أسباب الحقد والتباغض والإيذاء بقوله لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب أحد امرأة على خطبة أخيه إلا إذا ترك الخاطب الأول أو أذن للخاطب الثاني إذنا يدل على الرضا والانصراف -[المباحث العربية]- (نهى النبي أن يبيع) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نهى عن بيع بعضكم على بعض والتعبير بالبعض هنا دون الرجل المعبر به في الخطبة ليشمل بيع الجماعة للجماعة أو للفرد وبالعكس سواء كان المبيع شيئا واحدا أو أكثر (ولا يخطب الرجل) بالرفع والجزم والنصب أما الرفع فعلى أنه

خبر بمعنى النهي ولا نافية وجعل سياقه في صورة الخبر أبلغ في المنع لإشعاره بأنه أمر ممتثل فعلا يخبر عنه وأما الجزم فعلى النهي الصريح وأما النصب فعلى عطفه على يبيع و"لا" زائدة (على خطبة أخيه) الخطبة بكسر الخاء طلب المرأة من وليها وأصلها الهيئة التي يكون عليها الإنسان حين يخطب نحو الجلسة من خطب يخطب من باب نصر فهو خاطب والمبالغة منه خطاب وأما الخطبة بضم الخاء فهي من القول والكلام فهو خاطب وخطيب والمراد من الإخوة الإخوة في العهد والحرمة فتشمل المسلم والذمي وذكر الأخ جري على الغالب ولأنه أدعى لسرعة الامتثال (حتى يترك الخاطب قبله) الضمير للرجل الخاطب الثاني وقيل للتزويج وهو بعيد (أو يأذن له الخاطب) أي يأذن للخاطب الثاني الخاطب الأول -[فقه الحديث]- أما بيع البعض على بيع البعض فقد قيل في صورته أن يقول الرجل لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط افسخ لأبيعك خيرا منها بمثل ثمنها أو مثلها بالنقص ومثل ذلك الشراء على الشراء كأن يقول البائع أفسخ لأشتري منك بأكثر والنهي في الحديث للتحريم وقد أجمع العلماء على أن البيع على البيع والشراء على الشراء حرام وفي صحته خلاف واستثنى بعضهم من الحرمة ما إذا كان البائع أو المشتري مغبونا لكن هذا الاستثناء مردود أما السوم على السوم وهو أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع وقبل أن يعقدا يقول آخر لصاحبها أنا أشتريها بأكثر أو للراغب أنا أبيعك خيرا منها بأرخص فهو حرام كالبيع على البيع والشراء على الشراء والمعنى في ذلك ما فيه من الإيذاء والتقاطع بخلاف المزايدة والمناقصة فلا شيء فيهما لأنهما قبل الاتفاق والاستقرار وأما الخطبة على الخطبة فصورتها أن يخطب رجل امرأة فتركن إليه

ويتفقا ويتراضيا ولم يبق إلا العقد فيجيء آخر وهو يعلم بكل هذا فيخطب على خطبة الأول وهي حرام بالإجماع وإن نقل عن أكثر العلماء أن عقد الخاطب الثاني لا يبطل والمعتبر في التحريم إجابتها إن كانت غير مجبرة أو إجابة الولي إن كانت مجبرة أو إجابتهما معا إن كان الخاطب غير كفء أما إذا لم تركن إليه وإن كانت مجبرة أو لم يركن وليها إن كانت مجبرة أو قبل أن يتفقا كوقت المشورة أو لم يكن الثاني يعلم بخطبة الأول فهو على حكم الأصل من الإباحة على الأصح وقال بعض المالكية لا تحرم حتى يرضوا بالزواج ويسمى المهر ويشترط كذلك ألا تكون خطبة الأول محرمة كأن تكون في العدة مثلا لأنه لا يثبت للخاطب بخطبته حينئذ حق وكما يأثم الخاطب الثاني يأثم ولي المخطوبة إذا قبل منه ودل الحديث كذلك على تحريم أن تخطب المرأة على خطبة امرأة أخرى إلحاقا لحكم النساء بحكم الرجال كأن ترغب امرأة في رجل وتدعوه إلى تزويجها فيجيبها فتأتي أخرى فترغبه في نفسها وتزهده في التي قبلها وإنما عبر بالرجل لأن الخطبة عادة من شأن الرجال والحكمة في ذلك ما فيه من الإيذاء والتقاطع ولهذا قيد الحديث إباحة الخطبة على الخطبة بترك الخاطب الأول أو إذنه للخاطب الثاني وفي معنى الترك والإذن ما لو طال الزمان بعد إجابته حتى عد معرضا أو غاب زمنا يحصل به الضرر أو رجعوا عن إجابته وفيما لو أذن الخاطب الأول للخاطب الثاني هل يختص ذلك بالمأذون له أو يتعدى لغيره لأن مجرد الإذن الصادر من الخاطب الأول دال على إعراضه عن تزوج تلك المرأة وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها الظاهر الثاني فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص ولغير المأذون له بالإلحاق وقيل يختص بالمأذون له الجواز كون ذلك عن طريق الإيثار لا عن طريق الإعراض والأحسن أن يقال بتحكيم العرف والقرائن في ذلك وليس في هذا الحديث منافاة لما ثبت أن النبي خطب فاطمة بنت قيس لأسامة بن زيد على خطبة معاوية وأبي الجهم لأن ذلك حصل قبل النهي عن الخطبة على الخطبة وقال النووي أن النبي أشار بأسامة ولم يخطب وعلى تقدير أن يكون خطب فكأنه لما ذكر لها ما في معاوية وأبي الجهم ظهر منها الرغبة عنهما فخطبها لأسامة

وإنما جاءت مستشيرة فأشار عليها بما هو الأول ولم يكن هناك خطبة على خطبة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - النهي عن كل ما فيه تضييق على الناس 2 - النهي عن كل ما يحدث الشقاق ويوغر الصدور ويورث الشحناء 3 - تحريم البيع على البيع 4 - تحريم الخطبة على الخطبة 14 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها" -[المعنى العام]- نهي آخر عن أسباب العداوة والبغضاء والتفريق بين المرء وبين

عشيرته بعد أن نهى صلى الله عليه وسلم الرجال صريحا عن التشاحن مع الرجال بخطبتهم على خطبتهم نهى النساء عن التعدي على النساء لا يحل لامرأة أن تسأل رجلا طلاق زوجته التي هي أختها في الإنسانية ولها مالها من حقوق الزوجية والاستقرار لا يحل لها أن يكون غرضها من هذا السؤال أن تحظى هي بهذا الرجل وأن تنفرد به دونها ولتعلم من تسول لها نفسها بذلك أنها ليس لها إلا ما قدر لها في الأزل من زوج معين ومن سعادة أو شقاء مهما سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدر الله تعالى وإذا فلا فائدة من الإقدام على هذا المنكر إلا إثارة الضغائن والأحقاد والمشاحنة وتقطيع الأرحام فلترض بما قسم الله ولتعلم أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها وما أصابها لم يكن ليخطئها -[المباحث العربية]- (لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها) تسأل مؤول بمصدر من غير سابك والمصدر فاعل "يحل" ومفعول تسأل الأول محذوف والتقدير تسأل زوج أختها طلاق أختها والمراد من الأخت قيل الضرة وقال النووي المراد بأختها غيرها سواء كانت أختا من النسب أو الرضاع أو الدين ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختا في الدين إما لأن المراد بهذا التعبير كونه الغالب كقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم} أو لأنها أختها في الجنس الآدمي ويشتد النهي إذا كانت قريبة من النسب لما فيه من قطيعة الرحم (لتستفرغ صحفتها) أي لقلب ما في إنائها وأصله من أفرغت الإناء إفراغا إذا قلبت ما فيه وأصل الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة جمعها صحاف ويقال الصحفة القصعة التي تشبع الخمسة وفي الكلام كما قال الطيبي استعارة تمثيلية مستملحة شبهت المرأة بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يوضح في الصحفة من الأطعمة اللذيذة وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة ثم أدخل المشبه في جنس

المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في المشبه به من الألفاظ والأولى أن يقال شبهت الهيئة الحاصلة من الزوجة والحظوظ الواردة عليها وإبعاد الزوجة عن حظوظها وتمتعاتها بسبب الطلاق بالهيئة الحاصلة من الإناء والأطعمة التي فيه وتفريغ الإناء مما فيه بجامع إذهاب النفع في كل ثم ادعينا أن الهيئة المشبهة من جنس الهيئة المشبهة بها ثم استعرنا التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية وقيل استفراغ الإناء كفاية من سلب ما للزوجة من النفقة والعشرة وما لها من حقوق عند الزوج (فإنما لها ما قدر لها) أي فإنما للمرأة التي تسأل الطلاق لأختها ما قدر لها في الأزل والجملة تعليل للنهي عن السؤال فالفاء تعليلية -[فقه الحديث]- قال النووي: معنى الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته ليطلقها ويتزوج بها وقيل صورته أن يخطب الرجل امرأة وله امرأة فتشترط عليه طلاق الأولى لتنفرد به والأول والثاني هو الظاهر إذ أخرج البخاري الحديث تحت باب الشروط التي لا تحل في النكاح وصدره بقول ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها وظاهر الحديث التحريم قال الحافظ ابن حجر لكنه محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة وحمل بعضهم النهي على الكراهة واعترض عليه ابن بطال بأن نفي الحل تحريم صريح ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى قال الطحاوي أجاز الكوفيون ومالك والشافعي أن يتزوج المرأة على أن يطلق زوجته لكنه إن وفى بما قال فلا شيء عليه وإن لم يوف فلها مهر المثل عند الكوفيين قال الشافعي لها مهر المثل وفى أو لم يوف ومثل المرأة في الإثم وليها إذا طلب طلاق امرأة ليزوج موليته مكانها

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - وجوب الإيمان بالقضاء والقدر 2 - حرمة العمل على قطع عيش الغير مطلقا لأنه إذا حرم على من ينتفع من ورائه حرم على من لا ينتفع من باب أولى 3 - أن السعي في ذلك لا يضر المطعون فيه ولا ينفع الطاعن فإنما لكل ما قدر له 15 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا" -[المعني العام]- أدب رفيع وسياسة حكيمة يدعو إليها الرسول الكريم بقوله من كان يؤمن بالله وبيوم الجزاء إيمانا كاملا فلا يؤذ أحدا مهما أوذي وليدفع بالتي هي أحسن وليكن خلقه مع جيرانه حسن المعاملة خصوصا مع النساء

ذلك المخلوق العجيب الذي حارت في سياسته العقول التي ساست الدول والذي استعبد كثيرا من الملوك الذين استعبدوا الشعوب والذي قال الله فيه {إن كيدكن عظيم} على حين قال {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} فيقول النبي استوصوا بهذا المخلوق الأعوج في طباعه وفي معاملاته وعاشروه بالحكمة والكياسة يكن ذلك خيرا له ولكم لأنه كالضلع المعوج بل كطرف الضلع الأعلى الشديد الأعوجاج الذي لا يمكن تقويمه لأن الشدة تكسره واللين لا يقومه فاستوصوا بالنساء خيرا تنتفعوا بهن مع اعوجاجهن -[المباحث العربية]- (عن أبي هريرة عن النبي قال) الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف والثاني متعلق بمحذوف هو حال من أبي هريرة والمصدر المنسبك من قال من غير سابك نائب فاعل روي المحذوف والتقدير روي عن أبي هريرة حالة كونه راويا عن النبي قول النبي كذا ومفعول راويا محذوف لدلالة نائب فاعل روي عليه (من كان يؤمن) كان ناقصة واسمها ضمير يعود على من وجملة يؤمن خبرها والشرط والجواب خبر "من" وفعل كان لا دلالة له في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام وتستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو قوله {وكان الإنسان عجولا} (فلا يؤذ جاره) بحذف الياء على أن لا ناهية وبإثباتها على أن لا نافية (واستوصوا بالنساء خيرا) السين والتاء للقبول والمطاوعة مثلها في أقمته فاستقام أي اقبلوا وصيتي واعملوا بها وقيل السين والتاء للطلب جيء بهما للمبالغة أي اطلبوا الوصية بهن من أنفسكم أو ليطلب الوصية بعضكم من بعض ويلزم من ذلك أن تحافظوا لأن من وصى غيره بشيء كان أحرص عليه والنساء اسم جمع لا واحد له من لفظه وامرأة واحدة

من معناه وخيرا منصوب على أنه مفعول لفعل محذوف والتقدير استوصوا استيصاء خيرا أو على أنه مفعول لفعل محذوف والتقدير استوصوا لتفعلوا خيرا أو على أنه خبر يكن المحذوفة مع اسمها والتقدير استوصوا بالنساء يكن الاستيصاء خيرا ذكر ذلك النحاة في قوله تعالى {وأنفقوا خيرا لأنفسكم} والجملة معطوفة على (فلا يؤذ جاره) أي لا تؤذوا الجار واستوصوا وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لمزيد العناية بالخطاب (فإنهن) الفاء للتعليل وما بعدها بيان لسبب وصيته صلى الله عليه وسلم بهن (خلقن من ضلع) بكسر الضاد وفتح اللام وسكونها والفتح أفصح والظاهر أن في الكلام استعارة والأصل فإنهن خلقن من شيء كالضلع في اعوجاجه أي خلقن خلقا فيه اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل أي طبعت على العوج كأنه جسم تكونت منه ففي الحديث حذف المشبه ووجه الشبهة والأداة واستعير لفظ المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية وقيل أراد به أول النساء حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام فيكون لفظ الضلع على حقيقته ويكون معنى خلقها من الضلع الحقيقي إخراجها منه عند أصل الخلقة (وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) قال الحافظ ابن حجر فيه إشارة إلى أنها خلقت من أشد أجزاء الضلع اعوجاجا مبالغة في إثبات هذه الصفة لها ويحتمل أن يكون قد ضرب ذلك مثلا لأعلى المرأة لأن أعلاها رأسها وفيه لسانها وهو الذي يحصل منه الأذى وأعوج صفة مشبهة وليس أفعل تفضيل لأن أفعل التفضيل لا يأتي من ألفاظ العيوب التي صفتها على وزن أفعل وقيل هو أفعل تفضيل شذوذا أو محل المنع عند الالتباس بالصفة فإذا تميز عنها بالقرينة فلا منع (فإن ذهبت تقيمه كسرته) الضمير المنصوب للضلع وهو يذكر ويؤنث وجملة (تقيمه) في محل النصب على الحال

(فاستوصوا بالنساء خيرا) الفاء فصيحة وقعت في جواب شرط مقدر أي إذا كان هذا شأنهن فاستوصوا -[فقه الحديث]- يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله" أن من آذى جاره لا يكون مؤمنا لكن هذا المفهوم غير مراد إذ المعنى من كان يؤمن بالله إيمانا كاملا فلا يؤذ وذكر هذه العبارة للحض على الطاعة لأن من آمن بالمبدأ والمعاد كف عن المعصية وسارع إلى الطاعة وإنما خص الجار بالذكر والواجب على المؤمن ألا يؤذي أحد مطلقا لشدة العقاب على إيذاء الجار إذ لهذه الملاصقة حرمة وحقوق كحقوق الأخوة فإيذاؤه أفحش الإيذاء وفيه بعث على دوام الشقاق وفي ذلك تعرض أكثر لارتكاب الجرائم أو خص الجار بالذكر لكونه مظنة الأذى غالبا لكثرة التعامل بين المتجاورين وقيل إن المراد بالجار ما يشمل الملكين الكاتبين وإيذاؤهما يحصل بأذى كل مخلوق وقد فهم بعضهم من ذكر البخاري لهذا الحديث على جزأين فهم أن قوله صلى الله عليه وسلم "واستوصوا بالنساء خيرا إلخ" حديث مستقل جمعه الراوي مع ما قبله في سند واحد ولكن اتصال الكلام يدل على أن الجزأين حديث واحد إذ المرأة أعلى مراتب المجاورة فهي الجار الملاصق بدون حجاب وهي التي عبر عنها القرآن بالصاحب بالجنب وإنما أكد الحديث الوصية بالنساء فكررها لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن ولذا علل الأمر بأن طبيعتهن الاعوجاج فهن شبه معذورات فيما يرى منهن مما لا يرضي إذ من العسير عليهن الانفكاك عما جبلن عليه فليكن التحمل والملاينة من الرجال ولهذا أيضا عدل عن النهي عن الإيذاء إلى الاستيصاء للإشارة إلى أن حسن الخلق مع النساء ليس كف الأذى عنهن بل احتمال الأذى منهن والحلم عن طيشهن والإحسان إليهن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره إحداهن إلى الليل وأعلى من ذلك أن يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخبار حتى روي أنه كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما فقال هذه بتلك

ولا يظن من هذا أن الإسلام يدعو إلى ترك المرأة وهواها دون تقويم بل مراده الرفق في المعاملة باستعمال اللين في غير ضعف والشدة من غير عنف وإلى ذلك يشير صلى الله عليه وسلم بقوله "فإن ذهبت تقيمه كسرته" أي إن رمت تقويمهن بالشدة أفسدت ولم تنتفع بهن مع أنه لا غنى عنهن "وإن تركته لم يزل أعوج" أي وإن تراخيت وتساهلت في الإصلاح بقي فسادهن وازداد فلا تكن لينا فتعصر ولا جامدا فتكسر -[ويؤخذ من الحديث: ]- - مداراة سيئ الأخلاق وعدم الاصطدام به 2 - الندب إلى الملاينة لاستمالة النفوس وتأليف القلوب 3 - الدعوة إلى الصبر على أذى الجار 4 - إن عدم الإيذاء من كمال الإيمان 5 - إن معاملة النساء ينبغي أن تكون بين اللين والحزم 6 - ارفق بالضعيف وحسن معاملته

16 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة من غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره" -[المعنى العام]- بين لنا الحديث السابق ما ينبغي أن تكون عليه معاشرة الزوج لزوجته ويبين لنا هذا الحديث ما ينبغي أن تكون عليه معاشرة الزوجة لزوجها فلا يحل لها أن تصوم نفلا وهو حاضر صيامها إلا بإذنه فقد يتضرر بهذا الصوم ويفوت عليه بعض مقاصده ولمنزله حرمة لا تنتهك فلا يجوز لها أن تدخل فيه أحدا أيا كان وهو حاضر أو غائب إلا بإذنه فقد يغار على زوجته من الأجنبي وقد يكون في بيته من القصور والعيوب ما يحرص على إخفائه ولا يجب أن يراه أقرب الأقربين وهي راعية في ماله مسئولة عنه أمام الله فلا تنفق شيئا منه إلا بإذنه فإن أنفقت من غير إذنه الخاص بعد حصول إذنه العام وهي تعلم رضاه فلها أجر بقصدها الخير وفعلها له ولزوجها أجر مثله باكتسابه هذا المال لا ينقص أحدهم من أجر الآخر شيئا -[المباحث العربية]- (وزوجها شاهد) أي حاضر ومفعوله محذوف أي شاهد صومها والجملة في محل النصب على الحال (ولا تأذن في بيته) معطوف على تصوم داخل في حيز نفي الحل أي ولا يحل لها أن تأذن والمأذون به محذوف والتقدير أن تأذن بدخول أحد في بيته

(وما أنفقت من نفقة) ما شرطية مفعول مقدم و"من" بيانية (فإنه يؤدي إليه شطره) الجملة جواب الشرط ويؤدي مبني للمجهول وشطره نائب فاعل والشطر النصف أو الجزء -[فقه الحديث]- الكلام عن الحديث يتناول النقاط التالية 1 - آراء الفقهاء في نوع الصوم المنهي عنه وحكمه وأدلتهم وعلة هذا النهي 2 - آراؤهم في دخول أبي الزوجة بدون إذن الزوج وأدلتهم 3 - بيان المراد من قوله وما أنفقت من نفقة إلخ 4 - ما يؤخذ من الحديث وإليك البيان 1 - المراد من الصوم المنهي عنه صوم النفل يدل له ما رواه أبو داود والترمذي "لا تصومن امرأة يوما سوى شهر رمضان وزوجها شاهد إلا بإذنه" وما رواه الطبراني "ومن حق الزوج على زوجته ألا تصوم تطوعا إلا بإذنه" ومثل النفل ما وجب على التراخي وظاهر الحديث أن النهي للتحريم وهو قول الجمهور ونقل النووي عن بعض الشافعية القول بالكراهة والصحيح الأول فلو صامت بغير إذنه صح وأثمت وأمر قبوله إلى الله قال النووي ومقتضى المذهب عدم الثواب وفي علة النهي قيل لأن من حقه الاستمتاع بها في كل وقت وعليه فلو منع من الاستمتاع بها مانع آخر كأن كان مريضا بحيث لا يستطيع التمتع أو كان محرما أو صائما صوما مفروضا أو مسافرا جاز لها التطوع فلو قدم من سفره وهي صائمة فله إفساد صومها من غير كراهة وقال المالكية ليس له ذلك ولا يبتعد أن يكون النهي لما للزوج من حقوق غير التمتع كالمحافظة على صحتها ونضرتها أو على قدرتها على أداء أعمالها في منزلها ورعايتها لأولادها أو على وفرة لبنها إذا كانت مرضعة أو نحو ذلك وعليه فليس لها مهما كان مريضا أو محرما أو صائما أو مسافرا أن تصوم نفلا إلا بإذنه ويكون قيد "وزوجها شاهد" لا

مفهوم له بل خرج مخرج الغالب كقوله تعالى {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} ولا مانع أن تكون الحكمة مجموع الأمرين معا 2 - ولا يحل لها أن تأذن لأحد بدخول بيته كائنا من كان إلا بإذنه ولو كانت امرأة فالفساد بدخول النساء أكثر منه بدخول الرجال ولو كان أبا أو جدا بهذا قال الجمهور وقال المالكية بجواز دخول الأب بغير إذن الزوج وأجابوا عن الحديث بأنه معارض بصلة الرحم لكن يرد عليهم بأن صلة الرحم إنما تندب بما يملكه الواصل والتصرف في بيت الزوج لا تملكه المرأة إلا بإذنه وإذا كانت لا تصل أهلها بماله إلا بإذنه فليس لها أن تصلهم بدخولهم بيته إلا بإذنه 3 - ونفقة المرأة من بيت زوجها إما أن تكون بإذن خاص كأن يقول تصدقي اليوم على فلان بعشرة وحكمها ظاهر وإما أن تكون ضمن إذن عام كأن يأذن لها بالتصدق من ماله في حدود معينة على جهة مخصوصة وعلى هذا النوع حمل الحديث أي وما أنفقت من نفقة من غير أمره الخاص بعد أمره العام فإن الله يؤدي إليه نصف ثواب هذه الصدقة، ويدل لذلك ما رواه البخاري في الزكاة "كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب لا ينقص بعضهم أجر بعض" وما رواه أبو داود في النفقات "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف أجره" أما إذا تصدقت من ماله بغير إذن أصلا لا صريحا ولا ضمنا أثمت والأجر له وحمل بعضهم الحديث على تصدق المرأة بغير إذن الزوج من المال الذي يعطيه لها لنفقتها فيكون الأجر بينهما للرجل باكتسابه ولأنه يؤجر على ما ينفقه على أهله وللمرأة لتصدقها بما يخصها يؤيده ما أخرجه أبو داود إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تتصدق من بيت زوجها فقال "لا إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه" وحمل الخطابي الحديث على ما إذا أنفقت على نفسها من ماله بغير إذنه فوق ما يجب لها من القوت وفسر قوله فإنه يؤدى إليه شطره بأنها تغرم له شطره أي جزءه الزائد على ما يجب لها وهذا الحمل بعيد والإذن في

هذه الأمور مراد به الرضا ولا يشترط فيه القول والعرف في اعتباره هو الحكم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضل الإنفاق 2 - إثابة الإنسان على الخير إذا كان سببا فيه ولو لم يعلم 3 - إعظام حق الزوج على المرأة 4 - إن حق الزوج آكد من التطوع بالخير لأنه واجب 5 - احتج به الحنفية والمالكية على وجوب القضاء على من أفطر في صيام التطوع عامدا إذ لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع ما احتاجت إلى إذنه ولو كان مباحا كان إذنه لا معنى له ومن السهل الرد على هذا الاحتجاج بالتأمل في علة النهي المذكور عن قريب

17 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى قالت فقلت من أين تعرف ذلك فقال أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت علي غضبى قلت لا ورب إبراهيم قالت قلت أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك" -[المعنى العام]- في جو من المرح والعتاب والتلطف يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في تحمل النساء والحلم عن هفواتهن فيقول لزوجته عائشة إني لأعلم حالك وشأنك من حديثك فاعلم إذا كنت راضية عني أو كنت غاضبة مني ولم تدهش عائشة لوثوقها من كمال فطنة الرسول ولكنها لدلالها رغبت في أن تسمع وصفها في الحالين من لسانه الشريف فقالت كيف تعرف ذلك يا رسول الله قال إذا كنت عني راضية ودعا للقسم داع قلت لم أفعل كذا ورب محمد وإذا كنت علي غضبى قلت إذا أقسمت لا ورب إبراهيم قالت عائشة نعم يا رسول الله هذه حالي ولكن لا يخطر ببالك تغير قلبي وتحوله عنك وهجره لذاتك الشريفة حين أغضب فوالله لا أهجر حينذاك إلا اسمك الشريف على مضض مني وتألم فأظهر الصدود بلساني وقلبي بذاتك متعلق وحبي لك ثابت وهواك في نفسي لا يتغير -[المباحث العربية]- (إني لأعلم إذا كنت عني راضية) أكد النبي الكلام بأن واللام لتنزيل عائشة منزلة المنكر للحكم وسبب هذا التنزيل إخفاؤها غضبها عنه صلى الله عليه وسلم وإذا ظرف لمفعول أعلم المحذوف والتقدير أعلم شأنك وقت رضاك عني وقد استدل ابن مالك بمثل هذا الحديث على خروج "إذا" عن الظرفية وأعربها مفعول أعلم والجمهور على خلافه

(من أين تعرف ذلك) أصل "أين" ظرف للمكان والمراد هنا السببية فكأنها قالت بأي شيء تعرف ذلك والمشار إليه مفعول أعلم (لا ورب محمد) لا حرف نفي وقعت جوابا عن كلام سابق وجواب القسم محذوف تقديره ورب محمد لم أفعل (أجل) حرف جواب بمعنى نعم (والله ما أهجر إلا اسمك) عبرت بالقسم والقصر لتأكيد مضمون الجملة وزيادة تقريره في ذهن الرسول وإنما كان غضبها من شدة غيرتها على النبي وقوة حبها له عليه السلام استدل بهذا الحديث على كمال فطنة عائشة رضي الله عنها من وجوه (أ) تخصيصها إبراهيم عليه السلام دون غيره لأنه صلى الله عليه وسلم أولى الناس بإبراهيم كما في التنزيل فلما لم يكن بد من هجر اسمه الشريف أبدلته ممن هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة (ب) تعبيرها بهذا الحصر الدال على غاية اللطف لأنها أخبرت أنها إذا كانت في نهاية الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تنحرف عن كمال المحبة فلا يهجر قلبها من أغضبها بل يظل على وده وتعلقه (جـ) تعبيرها بالهجران بدل الترك لأنه يدل على أنها تتألم من هذا الترك الذي لا اختيار لها فيه كما قال الشاعر إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود أميل -[ويستفاد من الحديث: ]- - استقراء الرجل لحال المرأة من فعلها وقولها فيما يتعلق بالميل وعدمه 2 - الحكم بالقرائن لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها اسمه الشريف وسكوتها عن ذكره 3 - وفيه حسن معاملته صلى الله عليه وسلم لزوجاته أمهات المؤمنين

4 - وفيه إرشاد للزوجات لما ينبغي أن يكون عليه إذا غضبن من أزواجهن 5 - وفيه فضيلة عائشة رضي الله عنها 6 - وفيه وجد النساء والمهن 7 - وفيه ملاطفة كل من الزوجين صاحبه في بحبوحة من الظرف والأدب 8 - استدل به على أن الاسم غير المسمى في المخلوقات إذ لو كان الاسم عين المسمى لكانت بهجره هاجرة لذاته وليس كذلك

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق ساق البخاري أحاديث في حقوق المرأة على الرجل وأتبعها أحاديث أخرى في حقوق الرجل على المرأة ثم ضرب المثل الأعلى للزوجية الكاملة ثم ألحق بذلك الطلاق وهو لغة حل القيد وشرعا حل عقد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه وفي مشروعية النكاح مصالح العباد الدينية والدنيوية وفي الطلاق إكمال لها إذ قد لا يوافقه النكاح فيطلب الخلاص عند تباين الأخلاق وفي جعله عددا حكمة لطيفة فقد خلق الإنسان من عجل كما خلق هلوعا فربما يتسرع حين يضيق صدره فيفصم عروة النكاح فإذا ما هدأ ندم فرحمة به وإشفاقا عليه شرعه سبحانه ثلاثا فإن وقع الثالث كان من الحكمة تأديبه وعلاج استهتاره ببعض القسوة بأن تنكح زوجا غيره قبل أن تعود إليه فتبارك الله أحكم المشرعين 18 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" -[المعنى العام]- طلق ابن عمر امرأته وهي حائض بعد أن بينت الشريعة عدة المطلقة

بأنها ثلاثة قروء وشعر عمر بالإيذاء الذي يلحق المرأة من ذلك بطول عدتها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم طلاق ابنه قال يا رسول الله إن ابني طلق امرأته وهي حائض فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وتغيظ ثم قال مر ابنك فليراجع امرأته ثم ليستمر على إمساكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء استمرار الإمساك أمسك بعد وإن شاء التطليق طلق قبل أن يمس في هذا الطهر فتلك الحالة من وقوع الطلاق في طهر لم تمس فيه هي التي أذن للرجال أن يطلقوا فيها النساء لتستقبل المرأة عدتها دون تطويل -[المباحث العربية]- (طلق امرأته) آمنة بنت غفار وقيل اسمها النوار ويمكن الجمع بأن اسمها آمنة ولقبها النوار (وهي حائض) لم يؤنث لفظ حائض ليطابق المبتدأ لأن الصفة إذا كانت خاصة بالنساء فلا حاجة لتأنيثها والجملة في محل النصب على الحال (على عهد رسول الله) أي في زمنه وأيامه والجار والمجرور متعلق بطلق قال العيني وأكثر الرواة لم يذكروا هذا لأن قوله "فسأل عمر رسول الله" يغني عنه (عن ذلك) الإشارة إلى الطلاق بتقدير مضاف أي عن حكم الطلاق على هذه الصفة (مره) الخطاب لعمر والضمير المنصوب لابنه أي مر ابنك وأصل "مر" أؤمر بهمزتين الأولى همزة الوصل مضمومة تبعا لثالث الفعل فإن وصل بما قبله سقطت نحو قوله تعالى {وأمر أهلك بالصلاة} والثانية فاء الكلمة فحذفوها تخفيفا ثم حذفت همزة الوصل استغناء عنها لتحرك ما بعدها (ثم ليمسكها) بإعادة اللام وهي مكسورة على الأصل في لام

الأمر فرقا بينها وبين لام التوكيد وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها وقد تسكن بعد ثم قال تعالى {ثم ليقضوا تفثهم} والمراد من الأمر بالإمساك الأمر باستمراره لأن المراجعة المأمور بها إمساك (فتلك العدة) الإشارة إلى مدة الطهر والكلام على حذف مضاف أي زمن العدة (التي أمر الله) الأمر هنا مجاز عن الإذن (أن يطلق لها النساء) المصدر مجرور بحرف محذوف أي أذن الله في تطليق النساء مستقبلات لها -[فقه الحديث]- تتلخص نقاط الحديث فيما يأتي 1 - أحوال الطلاق وأحكامه من حيث الحاجة إليه وعدمها ومن حيث زمن إيقاعه 2 - آراء الفقهاء في أخذ الأمر من قوله "مره" وكونه للوجوب أو للندب مع أدلتهم 3 - علة تأخير الطلاق في الحديث إلى الطهر الثاني وحكم ذلك 4 - ما يؤخذ من الحديث وإليك التفصيل 1 - روى أبو داود وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "أبغض الحلال عند الله الطلاق" لكنه يختلف حكمه باختلاف المقاصد والأغراض فقد يكون واجبا كطلاق المولى إذا انقضت مدة الإيلاء ولم يرجع وطالبت الزوجة بحقها وقد يكون مندوبا كطلاق سيئة الخلق سوءا لا يحتمل وقد يكون حراما كطلاق من ظلمها في القسم قبل أن يقضى لها وقد يكون مكروها كطلاق مستقيمة الحال وقد يكون مباحا كطلاق من

لا يهواها ولا تسمح نفسه بمئونتها من غير تمتع بها والطلاق من حيث زمن إيقاعه يكون حراما كطلاق في حيض أو في طهر جومعت فيه ويكون حسنا كالطلاق في طهر لم يجامعها فيه والحكمة في ذلك ما في تطليقها في الحيض من الإيذاء لها بتطويل عدتها لأنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها عند أحد حتى عند القائلين بأن القرء هو الحيض إذ الشرط عندهم أن تستقبل عدتها بحيضة كاملة وتعتد بالطهر الذي طلقت به عند القائلين بأن القرء هو الطهر وليس معنى تحريم الطلاق في الحيض عدم وقوعه وعدم الاعتداد به بل إنه يقع راجع أو لم يراجع فقد قال ابن عمر نفسه حسبت علي تطليقة قال ابن عبد البر ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال 2 - ويتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم "مره فليراجعها" مسألة أصولية هي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أو لا وقد كثر البحث فيها والراجح أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفا آخر بفعل شيء كان المكلف الأول مبلغا محضا والثاني مأمور من قبل الشارع كما هنا ثم الأمر بالمراجعة للوجوب عند المالكية وبعض الحنفية فيجبر على مراجعتها ما بقي من العدة شيء وللندب عند الشافعية لقوله تعالى {فأمسكوهن بمعروف} وغيره من الآيات المقتضية للتخيير بين الإمساك بالمراجعة والفراق بتركها لأن الرجعة لاستدامة النكاح وهو غير واجد في الابتداء ففي الدوام أولى ومع استحباب الرجعة فتركها مكروه على الراجح لصحة الخبر فيه ولرفع الإيذاء ويسقط الاستحباب بدخول الطهر الثاني والحديث يأمر بالرجعة والإمساك حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر مع أن تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني ليس بشرط ولهذا قيل إن الغرض منه إبعاد أن يكون الرجعة لغرض الطلاق لو طلق في الطهر الأول حتى قيل إنه يندب الوطء فيه وإن كان الأصح خلافة وقيل إن الغرض التغليظ والعقوبة وعورض بأن تغليظه صلى الله عليه وسلم دون أن يعذره يقتضي أن ذلك من الظهور حيث لا يخفى على أحد فضلا عن ابن عمر وقد جاء في رواية

"مره فليراجعها ثم يطلقها طاهرا أو حاملا" وفي أخرى "حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثم إن شاء أمسكها" وعليه فلا إشكال من الناحية الفقهية وإن ورد إشكال الجمع بين الروايات إلا أن يقال بعض الروايات لبيان الجواز وبعضها لبيان الأفضل -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الرفق بالمطلقة وتحذير مطلقها أن يجمع إلى مصيبة الطلاق مشقة التطويل عليها في العدة 2 - تحريم الطلاق في الحيض أو طهر جامع فيه 3 - طلب المراجعة ممن طلق للبدعة 4 - إن الرجعة تصح بالقول ولا خلاف فيه 5 - إن الرجعة يستقل بها الزوج دون الرجوع إلى الولي ورضا المرأة لأنه جعل ذلك إليه دون غيره وهو كقوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} 6 - وفيه إشارة إلى أن الطلاق لم يشرع إلا لدرء مفسدة أو جلب مصلحة 7 - وفي قوله "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" مشيرا إلى قوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} دليل للشافعية والمالكية إذ قالوا إن المراد بالقرء المذكور في قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} هو الطهر ذلك لأنه لما نهى عن الطلاق في الحيض وأذن بالطلاق في الطهر علم أن الإقراء التي أمرت المطلقة بتربصها هي الإطهار 8 - وفيه الحث على المعاشرة بالمعروف لأنه إذا طلب المعروف عند الفراق كان طلبه عند المعاشرة أولى 9 - وقيام الرجل عن ابنه ولو رشيدا بالسؤال عما يستحي أن يسأل الابن عنه إن لحقه عتاب في ذلك.

19 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" -[المعنى العام]- أول خلع في الإسلام يحدث عنه ابن عباس بقوله جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدا لقد ضربني فكسر يدي ولا أعتب عليه ما فعل ولا أطعن في دينه ولكني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة من الرجال فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها وبي من الجمال ما ترى

وأخشى أن أقصر في حقه أو أندفع إلى ما شبه الكفر من النشوز وأنا راغبة في التمسك بتعاليم الإسلام وجاء ثابت بن قيس فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم إن زوجتك راغبة عنك قال يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت علي حديقتي أجبتها فقال لها صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته إن هو طلقك قالت نعم وإن شاء الزيادة زدته قال صلى الله عليه وسلم أقبل الحديقة وطلقها تطليقة واحدة يكن خيرا لك ولها فقبل ثابت الحديقة وطلقها وفرق الرسول بينهما -[المباحث العربية]- (إن امرأة ثابت) أبهم البخاري اسمها في بعض الروايات وسماها في آخر الباب بجميلة بنت أبي بن سلول أخت عبد الله رأس النفاق وقبل بنته امرأة ثابت بن قيس وقيل اسمها زينب وجمع بعضهم بأن اسمها زينب ولقبها جميلة (ما أعتب عليه في خلق) بضم التاء وكسرها من باب قتل وضرب وحقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الوجدان وقيل اللوم في سخط وروي "ما أعيب" بالياء بدل التاء قال الحافظ ابن حجر وهي أليق بالمراد و"الخلق" بضمتين السجية والطبيعة (ولكني أكره الكفر في الإسلام) قيل معناه لكني أكره لوازم الكفر من المعاداة والنفاق والخصومة ونحوها وقيل هو إشارة إلى أنها قد تحملها شدة كراهتها له على إظهار الكفر لينفسخ نكاحها منه وهي تعرف أن ذلك حرام لكنها خشيت أن يحملها شدة البغض على الوقوع فيه وقيل المراد بالكفر كفران العشير بتقصير المرأة في حق زوجها أو نحو ذلك مما يتوقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها وقولها "في الإسلام" إشارة إلى علة كراهيتها الكفر المذكور وهذا الأخير أرجح الأقوال وأولاها بالقبول إذ الثاني مجرد احتمال عقلي والأول يرجع إلى الثالث في مضمونه (وطلقها تطليقة) المصدر مفعول مطلق مبين للعدد

-[فقه الحديث]- استدل بهذا الحديث على جواز الخلع وهو فراق زوج يصح طلاقه لزوجته بعوض وقد أجمع العلماء على جوازه ولا يتعارض مع قوله تعالى {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} لأنه مخصوص بحال عدم التراضي لقوله تعالى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وقوله سبحانه {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} وحكمة مشروعيته حاجة المرأة إلى التخلص عند تباين الأخلاق أو عند البغض وخوف التقصير في حق العشير أو نحو ذلك ولما لم يكن من السهل أن يجيبها زوجها إلى الطلاق بعد أن أدى إليها المهر وبذل فيها من النفقات ما بذل جاز بذلها عوضا له ليهون عليه إجابتها ولتسمح نفسه بطلاقها وظاهر قولها "ما أعتب عليه في خلق ولا دين" إنه لم يصنع بها شيئا يقتضي الشكوى لكن في رواية النسائي أنه كسر يدها ولهذا قيل في معناه إنه وإن كان سيئ الخلق وفعل بي كذا وكذا فإني لا أعتب عليه هذا بل أبغضه لشيء آخر هو دمامته والأمر في قوله صلى الله عليه وسلم لزوجها "أقبل الحديقة" للإرشاد والإصلاح لا للوجوب والأصح أن الخلع طلاق فينقص عدده وقيل فسخ فلا ينقص عدد الطلاق وثمرة هذا الخلاف فيما لو خالع الزوج مرارا فعلى القول بأنه فسخ ينعقد النكاح بينهما دون حاجة إلى أن تنكح زوجا غيره وعلى أنه طلاق لا بد أن تنكح زوجا غيره ويجوز الخلع في حالتي الشقاق والوفاق فذكر الخوف في قوله تعالى {إلا أن يخافا} جرى على الغالب -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز استفتاء المرأة من الرجال 2 - إباحة شكواها من زوجها 3 - التأدب في الشكوى وعدم الافتراء والطعن 4 - مراعاة العشرة من الزوجة مهما أسيء إليها فإن هذه الشاكية لم تقصر في حق زوجها مع كراهتها له

5 - جواز الأمر بغير الواجب للإرشاد والإصلاح 6 - جواز الإرشاد بالخلع عند الشقاق 7 - أن الخلع بلفظ الطلاق يقع طلقة بائنة مأخوذة من دليل آخر 8 - أنه يحل للرجل ما أخذه من المرأة في الخلع برضاها 9 - جواز سؤال المرأة زوجها الطلاق لسبب يقتضيه فإن لم يكن سبب حرم عليها. 20 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ولد لي غلام أسود فقال "هل لك من إبل" قال نعم قال "ما ألوانها" قال حمر قال "هل فيها من أورق" قال نعم قال "فأنى ذلك" قال لعله نزعه عرق قال "فلعل ابنك هذا نزعه" -[المعنى العام]- ارتاب أعرابي في زوجته وخشي أن يكون الولد الأسود الذي ولدته

ليس منه فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ولد لي غلام أسود وأنا وأمه ليس فينا سواد وإن قلبي يستنكره يا رسول الله ولما كان مثل هذا الموقف يحتاج إلى كثير من العناية والاهتمام والتبيين لدفع الشبهة التي قد تودي بالأسرة ظلما وعدوانا قال صلى الله عليه وسلم هل تملك إبلا قال نعم قال هل ولدت قال نعم قال ما لونها قال حمر قال ما في أولادها جمل أسمر قال نعم فيها جمل أسمر قال من أين جاء الجمل الأسمر وأبواه لا سمرة فيهما قال ربما أخذ هذا من أصل بعيد كالجد وجد الجد قال عليه الصلاة والسلام لعل ابنك هذا الأسمر أخذ اللون من جد بعيد فاقتنع الرجل ورجع إلى أهله راضيا مرضيا -[المباحث العربية]- (أن رجلا) وفي رواية "أن أعرابيا" واسمه ضمضم بن قتادة من بني فزارة (هل لك من إبل) لك متعلق بمحذوف خبر مقدم و "من" زائدة وإبل مبتدأ مؤخر (ما ألوانها) ما اسم استفهام خبر مقدم وألوانها مبتدأ مؤخر (حمر) بضم الحاء وسكون الميم خبر مبتدأ محذوف أي ألوانها حمر (هل فيها من أورق) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر و"من" زائدة وأورق ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل وهو ما في لونه بياض إلى سواد قيل الذي فيه سواد ليس بحالك بأن يميل إلى الغير ومنه قيل للحمامة ورقاء (فأنى ذلك) خبر ومبتدأ والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا ثبت أن ألوان الآباء حمر فمن أين لون ذلك الابن الأورق والمراد الاستفهام عن السبب الذي نجم عنه هذا اللون لا عن المكان الذي أتى منه

(لعله نزعه عرق) أصل النزع الجذب والعرق في الأصل مأخوذ من عرق الشجر ومنه قولهم فلان عريق الأصالة والمعنى لعله قلبه وأخرجه من ألوان فحله ولقاحه أصل من أصوله الأولى وفي رواية "لعل نزعه عرق" بغير هاء وقد قيل في تأويلها إن اسم لعل ضمير الشأن محذوف ويحتمل أن الأصل بالهاء فسقطت (فلعل ابنك هذا نزعه) بإضمار الفاعل وفي رواية "نزعه عرق" بإظهاره -[فقه الحديث]- يثير هذا الحديث مسألتين فقهيتين الأولى نفي الولد بناء على القرائن والثانية اعتبار القذف بالتعريض وعدم اعتباره أما نفي الولد فظاهر الحديث أن الزوج لا يجوز له نفي ولده بمجرد الظن والإمارات الضعيفة بل لا بد من التحقق كأن رآها تزني أو ظهور دليل قوي كأن لم يطأها أو أتت بولد لدون ستة أشهر من الوطء أو لأكثر من أربع سنين بل يلزمه نفي الولد لأن ترك نفيه يتضمن استلحاقه واستلحاق من ليس منه حرام كما يحرم نفي من هو منه لصحة الأحاديث بذلك ولا يكفي مجرد الشيوع فإن لم يكن له منها بولد فالأولى أن يستر عليها ويطلقها إن كرهها قال القرطبي تبعا لابن رشد لا يحل نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة وقال صاحب الفتح عن الشافعية إن لم ينضم إلى الاختلاف في الألوان قرينة زنا لم يجز النفي فإن اتهمها برجل مخصوص فأتت بولد على لون ذلك الرجل جاز النفي على الصحيح وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقا وأما اعتبار القذف بالتعريض فقد ذهب إليه المالكية وأوجبوا به الحد إذا كان مفهوما وأجابوا عن الحديث بأن الرجل لم يرد قذفا بل جاء سائلا مستفتيا عن الحكم لما وقع له من الريبة فلما ضرب النبي له المثل أذعن واقتنع والجمهور على أن التعريض بالقذف لا يثبت به حكم القذف حتى

يقع التصريح وفرق بعضهم بين التعريض بالقذف مواجهة وبين التعريض على سبيل السؤال وفرق آخرون بين تعريض الزوج وتعريض غيره فعذروا الزوج بالنسبة إلى صيانة النسب -[ويؤخذ من الحديث فوق ما سبق: ]- 1 - جواز ضرب المثل وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبا لفهم السائل 2 - وفيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير 3 - وتقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه 4 - والاحتياط للأنساب وإبقاؤها حيث أمكن 5 - الزجر عن ظن السوء 6 - وفيه إثبات أثر الوراثة في الفرع 7 - وفيه إلزام السائل الحجة عن طريق المحاورة

كتاب النفقات

كتاب النفقات النفقات جمع نفقه يقال نفقت الدراهم نفقا من باب تعب ويتعدى بالهمزة والنفقة اسم منه ونفقت الدابة نفوقا من باب قعد ماتت ونفقت السلعة والمرأة نفاقا بالفتح كثر طلابها وفي الشرع ما وجب لزوجة أو قريب أو مملوك وجمعها في العنوان لاختلاف أنواعها 21 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة" -[المعنى العام]- في بيان فضل النفقة على الأهل قليلة أو كثيرة يقول عليه الصلاة والسلام إذا أطعم الرجل أو بذل مالا أو غيره على أهله دون رياء ولا سمعة يقصد أداء ما أمر الله بأدائه ويبتغي من الله الفضل والأجر كان له بنفقته هذه ثواب كثواب المتصدق على الفقراء والمساكين -[المباحث العربية]- (عن أبي مسعود) هو عقبة بن عمرو -قيل شهد بدرا- والصحيح أنه نزلها فقط فنسب إليها (على أهله) أهل الرجل امرأته وولده والذي في عياله ونفقته كالأخ والأخت والعم وابن العم أو أجنبي يقوته في منزله وعن الأزهري

أهل الرجل أخص الناس به ويجمع على أهلين وأهالي على غير قياس ويقال الأهل يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب ويحتمل أن يختص بالزوجة ويلحق بها من عداها بطريق الأولى لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب دائما فثبوته فيما ليس بواجب دائما بل يسقط في بعض الأحيان أولى أو لأن الثواب إذا ثبت فيما هو عوض -فإن نفقة الزوجة عوض عن الاستمتاع بها- فثبوته فيما هو صلة أولى (وهو يحتسبها) أي يعملها وهو ينوي بها وجه الله والجملة في محل النصب على الحال (كانت له صدقة) اسم كان يعود على النفقة وفي الكلام تشبيه بليغ أي كانت النفقة كالصدقة في حصول مطلق الثواب لكل لا في الكمية ولا في الكيفية -[فقه الحديث]- قال النووي إن طريق الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الاتفاق فينفق بنية أداء ما أمر به وظاهر الحديث إن الإنفاق الواجب صدقة لكن صرفه الإجماع عن معناه الحقيقي وحمله على التشبيه وإلا لحرمت النفقة على الزوجة الهاشمية والمطلبية وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم المؤونة ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع وقال ابن المنير تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتآنس والتحصن وطلب الولد كان الأصل ألا يجب لها عليه شيء إلا أن الله خص الرجل بالفضل على المرأة وبالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق والصدقة على النفقة

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - عظم أجر جهاد الرجل في سبيل عيشه ونفقة أهله 2 - الحث على تصفية أعمال الخير من الشوائب 3 - الحث على قصد الثواب من الله عند القيام بالواجب 4 - إن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية. 22 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" -[المعنى العام]- يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإنفاق على نوع خاص من الأقارب الذين فقدوا عائلهم الأول لما في هذا النوع من الأجر الكبير الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي القربى ثنتان صدقة وصلة" من أجل هذا وضع الشارع الحكيم الرجل الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين -غريبا كان أو قريبا- في منزلة المجاهد في سبيل الله

الذي باع نفسه وماله ابتغاء الدار الآخرة أو منزلة الذي يصوم النهار أبدا ولا يفطر ويقوم الليل أبدا ولا يفتر -[المباحث العربية]- (الساعي على الأرملة والمسكين) أي الذي يحصل العيش لهما أو يخدمهما والأرملة بفتح الميم التي لا زوج لها (كالمجاهد في سبيل الله) المحارب للكفار في ميادين القتال في حصول الثواب لكل (أو القائم الليل) أو للشك من الراوي والليل والنهار يجوز فيه ثلاثة أوجه على إرادة الصفة المشبهة من القائم والصائم مثل الحسن الوجه فالرفع على الفاعلية المجازية فإنه يقال قام ليله وصام نهاره والنصب على الظرفية والجر على إضافتها للفاعل المعنوي المجازي -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب فضل النفقة على الأهل ومناسبته له من حيث جواز إنصاف الأهل أي الأقارب بصفة الأرملة أو المسكنة وإذا ثبت هذا الفضل لمن ينفق على من ليس له بقريب ممن اتصف بالوصفين فالمنفق على المتصف بهما إذا كان قريبا أولى.

23 - عن عمر بن أبي سلمة قال "كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك فما زالت تلك طعمتي بعد" -[المعنى العام]- يحدث عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حادثة وقعت له قبل التاسعة من عمره حافظ بمقتضاها على آداب الطعام والشراب كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت يده تروح وتغدو في مواطن متعددة من الإناء وأخذ يأكل من نواحي القصعة ولعله لم يسم الله عند ابتداء الأكل ولاحظ الرسول عليه الأكل بالشمال فقال له يا غلام قل بسم الله الرحمن الرحيم وكل بيمينك دون شمالك وكل مما يليك وما يقرب منك ولا تمدن يدك إلى موضع يد الذي يأكل معك قال عمر فسمعت ووعيت وأطعت وحافظت على النصيحة والعمل بها منذ سمعتها -[المباحث العربية]- (عن عمر بن أبي سلمة) هو ابن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة إذ كان أبوه وأمه من المهاجرين إليها وصحح ابن حجر مولده قبل الهجرة بسنتين وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج أم المؤمنين أم سلمة (كنت غلاما) أي دون البلوغ يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ غلام والجمع أغلمة وغلمان وللأنثى غلامة وقصده من ذكر هذا الوصف بيان عذره في الإساءة (في حجر رسول الله) ضبطه بعضهم بفتح الحاء أي في تربيته وتحت نظره وأنه يربيه في حضنه تربية ولده وقال عياض الحجر يطلق

على الحضن وعلى الثوب فيجوز فيه الفتح والكسر وإذا أريد به الحضانة فبالفتح لا غير وحضن الإنسان ما دون أبطه إلى الكشح ثم قالوا فلان في حجر فلان أي في كنفه وحمايته ومنه قوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (وكانت يدي تطيش) أي تتحرك وتمتد في جوانب الصفحة ولا تقتصر على موضع واحد قال الطيبي والأصل أطيش بيدي فأسند الطيش إلى يده مبالغة في أنه لم يراع أدب الأكل (فما زالت طعمتي بعد) الإشارة إلى جميع ما ذكر من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه وطعمتي بكسر الطاء اسم للهيئة "وبعد" مبني على الضم أي بعد ذلك -[فقه الحديث]- اشتمل هذا الحديث على ثلاثة من آداب المائدة تسمية الله والأكل باليمين والأكل مما يلي الأكل أما الأمر بالتسمية عند الأكل فمحمول على الندب عند الجمهور ويقاس عليه الشرب وحمله بعضهم على الوجوب لظاهر الأمر قال النووي استحباب التسمية في ابتداء الطعام مجمع عليه كذا يستحب حمد الله في آخره قال العلماء يستحب أن يجهر بالتسمية لينبه غيره فإن تركها عامدا أو ناسيا أو جاهلا أو مكرها أو عاجزا لعارض ثم تمكن في أثناء الأكل استحب له أن يسمي فقد روي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا "إذا أكل أحدكم الطعام فليقل باسم الله فإن نسي في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره" وتحصل التسمية بقول باسم الله فإن اتبعها بالرحمن الرحيم كان حسنا ويسمي كل واحد من الآكلين بناء على ما عليه الجمهور من أن سنة الكفاية مطلوبة من الجميع لا من البعض فإن سمى واحد منهم حصلت التسمية وفي الحكمة من التسمية عند الأكل قيل إنها لطرد الشيطان ومنعه من المشاركة في الطعام والأوجه أن يقال إن التسمية تجلب البركة

وتدعوا إلى القناعة وعدم الشره وتعين على البعد عن الحرام والمكروه فيما يأكل ثم هي ذكر الله وانشغال بالعبادة في الوقت الذي ينشغل فيه النهم بملء البطن ولا مانع أن تكون الحكمة مجموع هذه الأمور وأما الأكل باليمين فالأمر فيه محمول على الندب أيضا عند الجمهور وقد نص الشافعية في الأم على وجوبه لظاهر الأمر ولورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي صحيح مسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت فما رفعها إلى فيه بعد" والحكمة في الأكل والشرب باليمين أنها في الغالب أقوى من الشمال وأمكن منها وإنها مشتقة من اليمن بمعنى البركة فهي وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعا ودينا وإن اليسار تعالج بها النجاسات وأما الأكل مما يلي فهو سنة متفق عليها وخلافها مكروه شديد الاستقباح إذا كان الطعام واحدا لجماعة وغير جاف والحكمة في ذلك ما في ما خلقته من إظهار الحرص والفهم وسوء الأدب ولأن في الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة وإفساد مودة لتقزز النفس مما خاضت فيه الأيدي وهل هذا الحكم عام في كل مأكول أو يباح في الأطعمة الجافة التي لا تخوض فيها الأيدي الظاهر أنه خاص بالأطعمة السائلة استدلالا بما رواه الترمذي عن عكراش قال بعثني بنو مرة بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت المدينة فوجدته جالسا بين المهاجرين والأنصار قال ثم أخذ بيدي فانطلق بي إلى بيت أم سلمة فقال هل من طعام فأتتنا بجفنة كثيرة الثريد والودك -الدسم- فأقبلنا نأكل منها فخطبت بيدي في نواحيها وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمين ثم قال يا عكراش كل من موضع واحد ثم أتتنا بطبق فيه ألوان التمر فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق قال "يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد" والذي ترتاح إليه النفس أن يقال إن كان الطعام الجاف أنواعا متعددة كانت في إناء واحد أو في أواني متعددة جاز التنقل وإن كان الأولى تركه لأن الأدب

يتطلب عدم مد الأيدي إلى البعيد لما في ذلك من مظاهر الشره والحرص والأنانية وإن كان نوعا واحدا فلا يجوز أما حديث الترمذي فهو محمول على ما إذا علم رضا من يأكل معه على أنه ضعيف قال الترمذي نفسه عنه هذا حديث غريب وقال ابن حبان في رواية منكر الحديث وقال أبو حاتم مجهول نعم الكراهة في الأطعمة السائلة أشد منها في الأطعمة الجافة للفرق بين التقزز في كل -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استحباب الأكل والشرب وغير ذلك باليمين وكراهة ذلك بالشمال إذا لم يكن عذر من مرض أو جراحة 2 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حال الأكل 3 - استحباب تعليم أدب الأكل والشرب 4 - البعد عما يورث الاشمئزاز في الطعام والشراب وما شابههما 5 - وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر ومواظبته على مقتضاه 6 - وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم وطيب نفسه بأكله مع ربيبه الصغير في إناء واحد مع ما يبدو من الصغير غالبا لما يثير التقزز والاشمئزاز

24 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا فقال يا نافع لا تدخل هذا علي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" -[المعنى العام]- كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول لخادمه نافع عند كل طعام ائتني بمسكين يأكل معي لا يأكل حتى يجلس معه مسكين فأتاه خادمه يوما بمسكين يدعي "ابن نهيك" من أهل مكة فجعل ابن عمر يضع بين يديه ويضع بين يديه وجعل الرجل يأكل ويأكل حتى انتهى قال ابن عمر لخادمه يا نافع لا تدخل على هذا الرجل مرة أخرى لأن صفاته في الأكل لست من صفات المؤمنين إنه يأكل بشره واستكثار ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء -[المباحث العربية]- (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول) جملة "يقول" حال وجملة "سمعت" مستأنفة استئنافا تعليليا لنهي الخادم عن إدخال هذا مرة ثانية (المؤمن يأكل في معي واحد) عدي يأكل بفي لأنه بمعنى يوقع الأكل فيها ويجعلها ظرفا للمأكولات كقوله تعالى {/ إنما يأكلون في بطونهم} ومعي بكسر الميم وفتح العين مقصورا هو المصير على وزن أمير

وهو ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة وجمعه مصران كقضيب وقضبان وجمع الجمع مصارين (سبعة أمعاء) حقيقة العدد ليست مرادة وتخصيص السبعة للمبالغة في التكثير في الآحاد كقوله تعالى {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} كما أن السبعين للمبالغة في العشرات قال تعالى {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} والسبعمائة مبالغة في المئات وقيل حقيقة العدد مرادة وسيأتي توضيح ذلك في فقه الحديث -[فقه الحديث]- اختلف في معنى الحديث اختلاف كثيرا فقيل إن الحديث على ظاهره وأن أمعاء الإنسان سبعة المعدة والبواب والصائم والرقيق والأعور والقولون والمستقيم فالكافر لا يشبعه إلا ملء الأمعاء السبعة لشرهه والمؤمن لقناعته يشبعه ملء معي واحد وقيل إن شهوات الطعام سبع شهوة الطبع وشهوة النفس وشهوة العين وشهوة الفم وشهوة الأذن وشهوة الأنف وشهوة الجوع وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن أما الكافر فيأكل بالجميع وقال الكثير من المحققين ليس المراد من الحديث ظاهره واختلفوا في توجيهه على أقوال أوجهها أنه مثل للمؤمن وزهده في الدنيا وللكافر وحرصه عليها فكأن المؤمن وزهده في الدنيا إنسان يأكل في معي واحد وكأن الكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها إنسان يأكل في سبعة أمعاء فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل وإنما المراد الحث على التقلل من الدنيا وللتنفير من الاستكثار منها فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل وعن أسباب ذلك بالأمعاء وقيل هو مثل للمؤمن وأكله الحلال وللكافر وأكله الحرام والحلال أقل من الحرام في الوجود كما تقول فلان يأكل الدنيا أكلا وقيل هو مثل لحال المؤمن وقناعته ولحال الكافر وشرهه

وهي آراء متقاربة والعدد عليها لا مفهوم له بل المراد منه المبالغة في التكثير ولا يلزم من هذا إطراده في حق كل مؤمن وحق كل كافر فقد روي عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير وفي الكافرين من يأكل القليل مراعاة للصحة أو رهبانية أو ضعفا في البنية وإنما المراد أن هذا هو الأعم الأغلب وأن الشأن في المؤمن التقلل والقناعة لاشتغاله بأسباب العبادة بخلاف الكافر ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عمر قال "جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعة رجال فأخذ كل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وأخذ النبي رجلا فقال له ما اسمك قال أبو غزوان فحلب له النبي صلى الله عليه وسلم سبع شياه فشرب لبنها كله فقال له النبي هل لك يا أبا غزوان أن تسلم قال نعم فأسلم فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره فلما أصبح حلب له النبي شاة واحدة فلم يتم لبنها فقال له ما لك يا أبا غزوان فقال والذي بعثك بالحق لقد رويت قال إنك أمس كان لك سبعة أمعاء وليس لك اليوم إلا واحد" -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحض على التقلل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة بما تيسر منها 2 - فضيلة ابن عمر رضي الله عنه وتواضعه وحرصه على ما يقربه إلى الله 3 - مؤاكلة أفاضل السلف للمساكين والتودد إليهم والانبساط لهم

25 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه" -[المعنى العام]- من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ومراعاته لآداب الطعام ورعايته لحق النعم وتأديبه للأمة الإسلامية لم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما حلالا طيلة حياته بل كان إذا قدم إليه طعام يشتهيه ويحبه أكله وإذا قدم إليه طعام ليس كذلك أنصرف عنه إلى غيره واعتذر بعذر لا ينفر كما قال لأصحابه حينما وضع الضب على مائدته "كلوا لكنه ليس بأرض قومي فنفسي تعافه" -[المباحث العربية]- (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة ظرف زمان لاستغراق ما مضى ويختص بالنفي وهو مبني على الضم واشتقاقه من قططت الشيء بمعنى قطعته (إن اشتهاه أكله) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل فماذا كان يفعل إزاء ما يحب وما لا يحب -[فقه الحديث]- المراد من الطعام الذي لم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم بعيب الطعام الحلال أما الحرام فكان يعيبه وينهي عنه وسواء في ذلك الطعام الحلال ما كان من صنع الآدمي وما لم يكن قال النووي ومن آداب الطعام ألا يعاب فلا يقال مالح أو قليل الملح أو حامض أو غليظ أو رقيق أو غير ناضج أو نحو ذلك وقال قوم إن كان التعييب من جهة الخلقة فهو لا يجوز لأن خلقة الله لا تعاب وإن كان من جهة صنعة الآدميين لم يكره لكن ظاهر الحديث العموم

وحكم التعييب الكراهة عند الجمهور وقال ابن بطال وهو من حسن الأدب والحكمة في ذلك أن المرء قد يكره الشيء ويشتهيه غيره فربما يتأذى بعيبه من يشتهيه وحينئذ لو كان وحده لا يتأذى بالتعييب أحد لم يكره وقيل في الحكمة لأن كل مأذون فيه من جهة الشرع لا يعاب وعليه يكره أن يعيب وإن كان منفردا ومحل الكراهة في غير مقام التعليم والنصح -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - النهي عن عيب الطعام الحلال مطلقا إلا على سبيل التعليم والنصيحة 2 - رعاية حق النعمة بعدم انتقاصها. 26 - عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" -[المعنى العام]- كان حذيفة بن اليمان بالمدائن عاصمة مملكة الأكاسرة فطلب أن يشرب فجاءه زعيم القوم بماء في إناء فضة فرمى الإناء بالماء ثم قال

للحاضرين من قومه لم أرمه إلا لأني نهيته بالحسنى مرارا ألا يقدم الشرب في إناء من فضة فلم ينته ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا قصعاتها لأن هذه الأشياء يستعملها الكفار في الدنيا فخالفوهم تكن لكم في الأخرة وهكذا يعلم الرسول أمته التواضع والزهد والبعد عن النعومة وعن التشبه بالكفار ويبشرهم بأن هذه المحظورات ستباح لهم في الآخرة ويستمتعون بما يستصغر أمامه كل ما يتعجبون اليوم من حسنه وبهائه ولقد أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فجعل الصحابة يلمسونه ويتعجبون فقال صلى الله عليه وسلم أتعجبون من هذا قالوا نعم قال "مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا" -[المباحث العربية]- (تلبسوا) الخطاب للرجال الحاضرين ويلحق بهم الغائبون أو لكل من يتأتى له الخطاب ويلحق بالرجال الحاضرين الخناثى لاحتمال كونهم رجالا (الديباج) الثياب المتخذة من الإبريسم فارسي معرب رقيقه السندس وغليظة الاستبرق أنواع من الحرير كانت ترد للعرب من بلاد الفرس فهو من عطف الخاص على العام (آنية) جمع إناء وهو الوعاء صغيرا كان أو كبيرا وعلى أي هيئة كان (في صحافها) جمع صفحة وهي إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها والضمير فيه يرجع إلى الفضة وكان القياس أن يقال في صحافهما وهذا كقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} فإذا علم حكم الفضة علم حكم الذهب بالطريق الأولى والإضافة بمعنى "من" وقيل الضمير للآنية لأنها تكون صحافا وغير صحاف ولما كانت العادة استعمال الأواني المبسوطة في الطعام دون الشراب ذكر الأكل مع الصحاف وليس المراد إباحة الأكل في غير الصحاف منها

(فإنها) الضمير للمذكورات من الحرير والديباج وأواني الذهب والفضة والفاء للتعليل (لهم) الضمير للكفار دل عليه السياق -[فقه الحديث]- نقاط الحديث 1 - لبس الحرير ولبس ما بعضه حرير واتخاذه فرشا وستائر وبيان حكمة التحريم 2 - الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة أو في آنية مضببة أو مطلبة بهما أو اتخاذها للزينة وبيان حكمة التحريم أما الحرير بجميع أنواعه فقد حكى النووي الإجماع على تحريمه على الرجال واختلفوا في التطريز بالحرير واتخاذ العلم والشريط منه والأكثرون على الترخيص بما كان قدر أربعة أصابع فما دونها والجمهور من المالكية والشافعية على تحريم الجلوس على الحرير لما ورد في البخاري "نهانا صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه" وأجازه أبو حنيفة وبعض الشافعية أجابوا بأن لفظ "نهى" ليس صريحا في التحريم أو أن النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده أما مس الحرير وبيعه والانتفاع به فهو غير حرام واختلفوا في الحكمة في تحريم الحرير على الرجال فقيل السرف ورد بأنه لو كان كذلك لحرم على النساء أيضا وقيل الخيلاء وقيل التشبه بالنساء لأنه من زينة النساء التي أذن لهن في التزين بها ونهى الرجال عن التشبه بهن وقيل التشبه بالكفار أخذا من قوله {فإنها لهم في الدنيا} والأولى اعتبار الحكمة في مجموع هذه الأمور وأما الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة فإنه لا يحل لرجل أو امرأة بل لا يحل استعمال هذه الأواني بأي وجه ولا اقتناؤها بدون

استعمال وسواء في ذلك ما كان كله أو بعضه من ذهب أو فضة كذلك يحرم استعمال إناء مضبب -أي مكسور ثم ملحوم- بضبة من ذهب كبيرة أو صغيرة وأبيحت ضبة كبيرة من فضة لحاجة والعرف هو الحكم في الصغيرة والكبيرة أما الإناء الذي اتخذ من معدن آخر ثم طلي بالذهب أو الفضة فإنه لا يحل أن حصل من ذلك شيء بعرضه على النار فإن لم يحصل أبيح لقلة المموه به وحيث حرم استعمال إناء الذهب والفضة مع الحاجة إليه حرم اتخاذه للزينة من باب أولى والحكمة في هذا التحريم الإسراف والترف والتشبه بالكفار وكسر قلوب الفقراء وظاهر الحديث تحريم الحرير على الرجال والنساء إن كان الخطاب في "لا تلبسوا ولا تأكلوا" للعموم أو إباحة أكل النساء وشربهن في آنية الذهب والفضة إن كان الخطاب في "لا تأكلوا" للرجال لهذا قال بعضهم بمنع استعمال النساء الحرير والديباج وأجاب الجمهور عن الحديث بأن الخطاب للمذكر ودخول المؤنث في استعمال أواني الذهب والفضة بدليل آخر وقيل الخطاب عام وجاءت إباحة التزين بالذهب والحرير للنساء بأدلة أخرى ولا يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم {"فإنها لهم في الدنيا"} إباحة استعمال الكفار للمذكورات إذ المراد بيان الواقع لا تجويزه لهم لأنهم مكلفون بفروع الشريعة على الصحيح وظاهر الحديث أنهم ليسوا بمكلفين بالفروع -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تحريم الحرير الخالص بأنواعه على الرجال دون النساء 2 - تحريم أواني الذهب والفضة استعمالا واقتناء 3 - الحض على مخالفة الكفار في عاداتهم وتقاليدهم

كتاب الصيد والذبائح والتسمية على الصيد

كتاب الصيد والذبائح والتسمية على الصيد 27 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال "ما أصاب بحده فكله وما أصاب بعرضه فهو وقيذ" وسألته عن صيد الكلب فقال "ما أمسك عليك فكل فإن أخذ الكلب ذكاة وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلبا غيره فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتله فلا تأكل فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكره على غيره" -[المعنى العام]- سأل عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم أكل المصيد الذي يرمى بالخشبة المدببة فيقتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قتل بالحد والطرف المدبب فحلالا أكله لأنه كالمذكى المذبوح في حلقه وما قتل بعرض السهم فهو ميت بمثقل لا يحل أكله شأنه في ذلك شأن ما يرمى بحجر وسأله عن حكم أكل مصيد الكلب فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت الله وقصر إمساكه عليك ولم يأكل منه فحلال أكله لأن قتل الكلب بهذه الصفة كالذكاة وإن اشترك مع كلبك كلب أو كلاب لا تدري من أرسلها وما حالها ولم تدر أيها قتل الصيد فلا تأكل لأنك وإن كنت ذكرت الله على كلبك فإنك لا تدري اذكر اسم الله على الآخر أم لا

-[المباحث العربية]- (عن عدي بن حاتم) الطائي الجواد بن الجواد أسلم سنة الفتح وثبت هو وقومه على الإسلام ونزل الكوفة وشهد الفتوح بالعراق وكان مع علي رضي الله عنه في حروبه ومات سنة ثمان وستين وهو ابن مائة وعشرين عاما (عن صيد المعراض) في الكلام مضاف محذوف أي عن حكم صيد المعراض والصيد مصدر صاد يصيد وقع على المصيد نفسه مبالغة أو تسمية بالمصدر قيل لا يقال للشيء صيد حتى يكون ممتنعا حلالا لا مالك له والمعراض بكسر الميم وسكون العين سهم لا ريش له ولا نصل وقيل خشبة ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة مدببة وفي القاموس سهم بلا ريش دقيق الطرفين غليظ الوسط يصيب بعرضه دون حده (ما أصاب بحده فكله) (ما) شرطية مفعول مقدم لأصاب وجملة فكله هي الجواب والضمير المنصوص فيها يعود على "ما" (وما أصاب بعرضه) أي بعرض المعراض والمراد بالعرض هنا خلاف الحد (فهو وقيذ) فعيل بمعنى مفعول والموقوذ الميت بضرب شيء ثقيل غير محدد كالميت بضرب العصا أو الحجر وكان أهل الجاهلية يضربون الحيوانات بالعصا حتى إذا ماتت أكلوها فنص القرآن على تحريمها (عن صيد الكلب) أل في الكلب للعهد أي الكلب المعلم للصيد (ما أمسك عليك) ضمن أمسك معنى حبس ما أمسك الكلب من المصيد قاصرا له عليك (فإن أخذه الكلب ذكاة) أن مشددة و"أخذ" بسكون الخاء اسمها وإضافته إلى الكلب من إضافة المصدر إلى فاعله ومفعوله محذوف تقديره الصيد والمراد من الأخذ القتل وفي الكلام تشبيه بليغ أي فإن أخذ

الكلب كالذكاة المعروفة بقطع الأوداج ووجه الشبه حل الأكل (وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلبا غيره) أي غير المذكور من كلبك أو كلابك (فخشيت أن يكون أخذه معه) اسم يكون يعود على الكلب الآخر ومفعول أخذ يعود على المصيد والضمير في (معه) يعود على كلبك والتقدير فخشيت أن يكون الكلب الآخر أخذ الصيد مع كلبك (وقد قتله) ضمير الفاعل للكلب الأجنبي وضمير المفعول للصيد والجملة حال أي إن خشيت أن يكون كلب أجنبي أخذ الصيد قاتلا له فلا تأكل -[فقه الحديث]- يتناول شرح الحديث أمورا 1 - حكم صيد المعراض وحكم صيد الرصاص الموجود في أيامنا 2 - صيد الكلب وشرطه وأحواله 3 - حكم التسمية على الصيد والذبيحة 4 - حكم احتراف الصيد والتلهي به 5 - ما يؤخذ من الحديث وإليك التفصيل 1 - سواء كان طرف المعراض حديدة مدببة أو خشبة مدببة فإن الصائد إذا رمى به صيده فأصابه بحده وطرفه فقتله فهو في حكم المذكى يحل أكله أما إذا أصاب المعراض الصيد بعرضه وخلاف حده فقتله فهو ميت بمثقل لا بمدبب لا يحل أكله فإن أدرك حيا وذكي حل عند الحنفية ولو كان المعراض قد نفذ في مقاتله ولا يحل عند المالكية إلا إذا كان المعراض لم ينفذ في مقاتله ولا يحل عند الشافعية والحنابلة إلا إذا وجدت قبل التذكية

حياة مستقرة وحركة اختيارية ومن علامتها الحركة الشديدة بعد التذكية أو انفجار الدم أما صيد الرصاص الموجود في أيامنا فلم يوجد فيه نص للعلماء المتقدمين لحدوث الرمي به بحدوث البارود وسط المائة الثامنة الهجرية وقد اختلف فيه المتأخرون فقال الشافعية والحنابلة بتحريمه ما لم يدرك حيا ويذكى لأنه مقتول بقوة الدفع فيكون كالموقوذة شأنه في ذلك شأن ما صيد ببندق الحصى الذي يستعمله الصبيان (النبل) وقال المالكية ومحققو الحنفية بحله لما فيه من إنهار الدم بسرعة وهو ما شرعت الذكاة لأجله لكنهم يشترطون في حله تمييز الصائد وتسميته عند إطلاق الرصاصة وتزيد المالكية اشتراط كون الصائد مسلما وأن ينوي الصيد 2 - أما صيد الكلب والصقر وأشباهها فله شروط أ) أن يكون معلما أي إذا أغري على الصيد طلبه وإذا زجر عنه انزجر ب) أن يرسله فإن صاد الكلب من غير إرسال فلا يحل صيده إلا إذا أدرك وفيه حياة مستقرة وذكي 3 - قال الشافعية والحنفية ألا يأكل الكلب مما صاد لما جاء في البخاري "فإن أكل فلا تأكل فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه" ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل وإن أكل منه" فإنه فضلا عن كونه ضعيفا لا يقاوم الذي في الصحيح ولا يقاربه هو محمول على ماذا أطعمه صاحبه منه أو أكل منه بعد أن قتله وسلمه إلى صاحبه 4 - ألا يشاركه كلب آخر غير مرسل أو مرسل غير معلم أو مرسل من غير أهل الصيد كالمجوسي والوثني والمرتد أو معلم مرسل من أهل الصيد بدون تسمية خلافا لبعضهم فإذا أرسل كلبه المعلم فعرض له كلب آخر مستوف لشروط الصيد فقتلاه حل واشترك فيه الصائدان وكذلك يحل إذا تأكد أن القتل وقع من كلبه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين علة النهي في رواية

أخرى بقوله "فإنك لا تدري أيهما قتل" 5 - أما التسمية على الصيد فقد ذهب الظاهرية إلى أنها فريضة فمن تركها عامدا أو ساهيا لم يؤكل ما ذبحه وذهب مالك وأبو حنيفة إلى اشتراكها فلا يصح تركها عمدا ورخصوا للمسلم في تركها سهوا فإنه صلى الله عليه وسلم جعل عدم ذكر الله على الكلب الآخر علة للنهي فيكون عدم التسمية مانعا من الحل وذهب الشافعية إلى أن التسمية في الصيد والذبيحة سنة فيحل الأكل مع تركها عمدا ونسيانا وقالوا في الحديث إن المراد من ذكر اسم الله لازمة وهو الإرسال ممن هو أهل للصيد 6 - والصيد مشروع بالقرآن والسنة قال القاضي عياض الاصطياد للاكتساب والحاجة والانتفاع بالأكل والثمن واختلفوا فيمن اصطاده للهو ولكن بقصد التذكية والإباحة والانتفاع فكرهه مالك وأجازه الجمهور فإن فعله بغير نية التذكية وبدون انتفاع فهو حرام لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس عبثا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لأكله ونهى أيضا عن الإكثار من الصيد فقد روى الترمذي "من سكن البادية فقد جفا ومن ابتع الصيد فقد غفل" -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إباحة الاصطياد بالمعراض 2 - جواز أكل مصيده إذا أصيب بالحد 3 - إباحة الصيد بالكلب 4 - ذكر الكلب مطلقا يتناول أي لون كان ففيه حجة على أحمد حيث لا يجوزه بالكلب الأسود وإن كان معلما 5 - مشروعية التسمية عند الصيد 6 - جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد.

28 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي قال "أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل" -[المعنى العام]- سأل أبو ثعلبة الخشني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم الأكل في آنية الكفار

فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن النظافة وراحة النفس تستدعي ترك الأكل فيها ما وجد غيرها فإن لم يوجد غيرها غسلت للاحتياط من النجاسة لأنهم لا يتحرزون منها وأكل فيها وسأله عن أكل صيد السهم الذي ينزع من القوس فأجابه بحل أكله إن ذكرت التسمية عند إرساله وسأله عن أكل صيد الكلب المعلم وغير المعلم فأجابه بحل صيد الكلب المعلم إن سمى مرسله وبعدم حل صيد غير المعلم إلا إن أدرك وفيه حياة مستقرة وذكي فإنه يحل أكله -[المباحث العربية]- (عن أبي ثعلبة الخشني) بضم الخاء وفتح الشين نسبة إلى خشين من قضاعه واسمه جرثوم أسلم قبيل خيبر وشهد بيعة الرضوان وتوجه إلى قومه بني خشين بأرض الشام فأسلموا (إنا بأرض قوم) يريد نفسه وقبيلته والمراد بالأرض أرض الشام والجملة مقول القول (أفنأكل في آنيتهم) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف أيأتأذن لنا فنأكل في آنيتهم والآنية جمع إناء كأسقية وسقاء وجمع الجمع أواني (وبأرض صيد) من باب إضافة الموصوف إلى صفته والتقدير بأرض ذات صيد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو من إضافة المحل للحال فيه (أصيد بقوسي) في الكلام مضاف محذوف والأصل أصيد بسهم قوسي والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (فما يصلح لي) ما اسم استفهام مبتدأ والمراد ما يصلح لي أكله من ذلك (أما ما ذكرت) أما حرف تفصيل وما اسم موصول مبتدأ

والجملة بعده صلة والعائد مفعول "ذكرت" محذوف وجملة "فإن وجدتم" خبر الموصول (من أهل الكتاب) في الكلام مضاف محذوف أي من آنية أهل الكتاب بدليل عود الضمير على الآنية في قوله "غيرها" (وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل) ما شرطية و"ذكرت" معطوف على ما صدت و"فكل" جواب الشرط (وما صدت بكلبك غير معلم) بنصب غير على الحال وجرها على البدل -[فقه الحديث]- استفتى أبو ثعلبة رسول الله عن مسألتين الأولى الأكل في آنية أهل الكتاب الثانية الصيد بالقوس وبالكلب المعلم وغير المعلم أما عن المسألة الأولى فقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلو فيها وهذا التفصيل يقتضي حرمة أو كراهة استعمالها إن وجد غيرها ولكن الفقهاء قالوا بجواز استعمالها بعد الغسل بلا كراهة سواء وجد غيرها أم لا والظاهر أن المراد النهي عنها بعد الغسل للاستقذار ولكونها معدة للنجاسة ومراد الفقهاء أواني الكفار التي ليست مستعملة في النجاسات غالبا واقتضى قوله "وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها" التعارض مع ما علم من استصحاب الأصل لأن أصل الأواني الطهارة ولهذا قيل إن الظن المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل لكن الصحيح أن الحكم للأصل ويجاب عن هذا التعارض بجوابين أحدهما أن الأمر بالغسل للاحتياط لا لثبوت الكراهة وثانيهما أن المراد بالحديث حالة تحقيق نجاستها ويدل عليه قوله في رواية أبي داود "إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر " الحديث

وأما المسألة الثانية فإنه يستفاد من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم (1) جواز الصيد بالقوس (2) واشتراط التسمية (3) وأن الكلب لا بد أن يكون معلما (4) وأن ما صيد بالكلب غير المعلم وأدرك ذكاته يذكى ويؤكل وإلا فلا يؤكل (5) وتعليق حل الأكل على صيد المعلم والتسمية فإذا انتفى هذا الوصف انتفى الحل على خلاف في التسمية مر توضيحه في الحديث السابق ويستفاد من الحديث أيضا جواز جمع المسائل وإيرادها دفعة واحدة ويجاب عنها مفصلة أما وأما. 29 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بنفر نصبوا دجاجة يرمونها فلما رأوه تفرقوا فقال ابن عمر: من فعل هذا إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا وعنه رضي الله عنه في رواية أنه قال "لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان" -[المعنى العام]- مر ابن عمر رضي الله عنهما على فتية مستهترين وقد نصبوا دجاجة هدفا لرميهم فلما رأوه من بعيد خافوا وفروا وتركوها فجاء إليها وحلها وقال لمن حوله لا ينبغي شرعا أن يفعل مثل هذا الفعل وازجروا فتيانكم

عن أن يصبروا هذا الطير للقتل إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا وفي مناسبة أخرى قال ابن عمر لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان فقطع أجزاءه وهو حي -[المباحث العربية]- (مر بنفر) النفر من ثلاثة إلى تسعة لا إلى العشرة كما في الرهط وروي "مر بفتية" جمع فتى (نصبوا دجاجة يرمونها) أي جعلوها هدفا يتعلمون به الرمي وجملة "يرمونها" حال من الفاعل أو صفة لدجاجة (من فعل هذا) الإشارة إلى نصبهم دجاجة للرمي والاستفهام إنكاري توبيخي أي لا ينبغي أن يفعل هذا (إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا) دليل الإنكار والتحريم لأن اللعن لا يكون إلا على محرم وفي رواية مسلم "لعن الله من اتخذ شيئا فيه روح غرضا" والغرض الهدف الذي يصوب إليه الرمي والجملة تعليل للإنكار (من مثل بالحيوان) مثل بفتح الميم وتشديد الثاء أي قطع أطرافه أو أنفه أو أذنه أو جزءا من أجزاءه والاسم المثلة بضم الميم -[فقه الحديث]- هذان حديثان جمعهما الزبيدي باعتبار اتحاد الراوي وتلازم المعنى ويؤخذ منهما 1 - أن الفتية كانوا يعلمون حرمة فعلهم وشناعة عملهم 2 - شدة ابن عمر رضي الله عنهما وقوته في الحق ورهبة القوم منه 3 - الرفق بالحيوان وعدم تعذيبه وعلى أولياء الأمور تقع مسئولية عبث الأطفال وتعذيبهم للطيور والعصافير 4 - كراهة صبر الحيوان وحبسه حيا ليقتل وكذا تكتيفه مدة طويلة قبل

الذبح ووضع السكين أمام عينيه إلخ 5 - أن التمثيل بالحيوان من الكبائر إذ ورد فيه العن. 30 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة" -[المعنى العام]- يرغب الرسول في اصطفاء الجلساء فإن المرء على دين خليله والجليس الصالح نافع دائما وعلى فرض عدم الانتفاع منه فإنه لا يضر أما الجليس السيئ فهو ضار دائما وعلى فرض الحذر منه والحيطة من أذاه فإنه لا ينفع وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك فإنه إما أن تنفعه وتنتفع منه بالشراء وإما ألا تشتري ويهديك بعض طيبة فتنتفع وأما إن تزكو نفسك بمجالسته كمن يشم ريح بائع الطيب وشبه الجليس السيئ الأخلاق بالحداد نافخ الكير فإنه إما أن يشركك في شره فتحرقك ناره وإما أن يسيئ إلى سمعتك بأنك تصاحب الأشرار فلا تسلم من دخانه فرحم الله امرءا اصطفى من يخالل واختار من يجالس

-[المباحث العربية]- (والسوء) أي الجليس السوء وفي اللسان ساءه يسوؤه سوءا بفتح السين وضمها فعل به ما يكره نقيض سره والاسم بضم السين (كحامل المسك) الطيب المعروف ومصدره نوع من ذكور الغزلان يكون في الصين يصاد لأخذ المسك من سرته وله وقت معلوم من السنة يجتمع في سرته فإذا اجتمع ورم الموضع فمرض الغزال إلى أن يسقط منه ويقال إن أهل تلك البلاد يجعلون له أوتادا في البرية يحتك بها فتسقط أو تذبح بعد أن تشد السرة المدلاة بعصابة وقد اجتمع فيها الدم ثم تدفن في الشعر حتى يستحيل ذلك الدم المتخمر الجامد مسكا زكيا بعد أن كان نتنا لا يطاق (ونافخ الكير) بكسر الكاف جراب من جلد ينفخ به الحداد النار (يحذيك) كيعطيك وزنا ومعنى أي ينفحك منه بشيء على سبيل الهدية (تبتاع) أي تشتري (أن يحرق) بضم الياء من أحرق تطبيق التمثيل إن الجليس الصالح إما أن يتبادل هو وجليسه ما يعود عليهما بخيري الدنيا والآخرة فهو المشار إليه بقوله "أن تبتاع منه" وإما أن يكون النصح والإرشاد من جانب الجليس الصالح فقط فهو يشبه اتحاف حامل المسلك لجليسه من مسكه وإما ألا يكون هذا ولا ذاك لكن ينتفع صاحب الجليس الصالح بحال جليسه ويقتفي أثره في صلاحه فتزكو في نفسه محبة الخير فهو يشبه من شم من حامل المسك ريحا طيبة أما الجليس السوء فهو إما أن يصيبك شره فهو المشار إليه بقوله "أن يحرق ثيابك" وإما أن تسلم من شره لكن لا تخلو نفسك من الضيق به والحرج منه ولا تسلم من الظنة بالسوء فتخسر ثقة الناس فهو المشار إليه بقوله "أن تجد منه ريحا خبيثة"

-[فقه الحديث]- قال الكرماني وجه إيراد الحديث في كتاب الصيد كون المسك فضلة الظبي والظبي مما يصاد وقال النووي: أجمعوا على أن المسك طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب ويجوز بيعه وقال بعض المالكية إن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة وهي مع ذلك محكوم بطهارتها فهي دم يستحيل إلى مسك كما يستحيل إلى لحم فهي لا تنجس بالموت فشأنها شأن البيض ومن الأدلة على طهارته ما رواه أبو داود مرفوعا "أطيب طيبكم المسك" وما روي من تشبيه الرسول لدم الشهيد به وتشبيه الجليس الصالح بحامله في سياق التكريم والتعظيم فلو كان نجسا لكان من الخبائث ولما حسن التمثيل به في هذا المقام -[ويؤخذ من الحديث: ]- 16 - / 1 - النهي عن مجالسة من تؤذي مجالسته في الدين أو الدنيا 2 - الترغيب في مجالسة من تنفع مجالسته فيهما ويتبع ذلك تخير الرفقاء والأصحاب 3 - فضل الصحابة رضي الله عنهم إذ كان جليسهم خير الجلساء محمدا صلوات الله وسلامة عليه حتى قيل ليس للصحابي فضيلة أفضل من الصحبة ولهذا سموا بالصحابة مع أنهم كانوا علماء شجعاء كرماء إلى غير ذلك من الفضائل 4 - جواز بيع المسك والحكم بطهارته.

كتاب الأضاحي

كتاب الأضاحي الأضاحي جمع أضحية وفيها أربع لغات بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء وتخفيفها وضحية وجمعها أضاحي وأضحاة وجمعها أضحى كأرطاة أرطى وبه سمي يوم الأضحى وهي الشاة التي تذبح وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه. 31 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء فلما كان العام المقبل قالوا يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام الماضي قال كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها" -[المعنى العام]- في العام التاسع من الهجرة وقد قحط الناس وأصابهم الجهد والمشقة والضنك حرص المشرع الحكيم على البر بالفقراء فوق حرصه عليه في أيام الرخاء للفرق بين صعوبة الإحسان في الحالة الأولى وبسهولته في الحالة الثانية فقال صلى الله لأصحابه من ذبح منكم أضحية فلا يبقين في بيته من لحمها شيئا بعد ثلاث ليال من ذبحها بل يأكل ويتصدق بالباقي ولا يدخر منها شيئا لما بعد الثلاث واستجاب الصحابة وامتثلوا وجاء العام العاشر من الهجرة -وكان عام رخاء- وقد فهموا أن النهي في العام التاسع كان من

أجل الرأفة بالفقراء لظروف القحط ولهذا أعادوا سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نفعل بأضحيتنا مثل ما فعلنا في العام الماضي ويباح لنا الادخار منها في هذا العام وكان ما توقعوه إذ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم كلوا منها وأطعموا البائس الفقير وأخروا ما يبقى فإنما نهيتكم في العام الماضي عن الادخار لما كان بالناس من جهد خشيت معه إرهاق الفقراء فأردت أن تعينوهم في هذه المحنة على الحياة -[المباحث العربية]- (فلا يصبحن) من أصبح التامة بمعنى دخل في الصباح والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم بلا الناهية (بعد ثالثة) ثالثة صفة لموصوف محذوف أي بعد ليلة ثالثة من وقت الأضحية (وفي بيته منه شيء) أي وفي بيته من المذبوح شيء من لحمه والجملة في محل النصب على الحال (فلما كان العام المقبل) سنة عشر من الهجرة إذ النهي السابق كان سنة تسع وفعل "كان" تام والعام فاعل (نفعل كما فعلنا) ما مصدرية وموصولة والعائد مفعول "فعلنا" محذوف والكاف اسم بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف والتقدير نفعل فعلا مثل فعلنا أو مثل الذي فعلناه والكلام على تقدير همزة الاستفهام (كلوا وأطعموا وادخروا) مفعول "أطعموا" محذوف تقديره الأهل والأصحاب والفقراء وادخروا أصله اذتخروا قلبت تاء الافتعال دالا ثم قلبت الذال دالا وأدغمت في الدال (فإن ذلك العام) أي الماضي الواقع فيه النهي الفاء تعليلية (كان بالناس جهد) أي مشقة يقال جهد عيشهم إذ اشتد وبلغ غاية المشقة وكانوا قد قحطوا وقل قوتهم

(فأردت أن تعينوا فيها) مفعول -تعينوا- محذوف أي تعينوا الفقراء والمجهدين وضمير "فيها" للمشقة المفهومة من الجهد أو يعود على السنة لأنها زمن الجهد -[فقه الحديث]- الكلام على الحديث يتناول النقاط التالية 1 - آراء الفقهاء في حكم الأضحية وأدلتهم 2 - أراؤهم في المطالب بها 3 - وفي وقتها 4 - وفي القدر الذي يؤكل منها 5 - والجمع بين الحديث وبين ما يوهم التعارض معه 6 - حكم التصدق من الأضحية ومقداره وإليك التفصيل 1 - ذهب الشافعي وأحمد إلى أن الأضحية لا تجب لكنها مندوب إليها من فعلها كان مثابا ومن تخلف عنها لا يكون آثما استدلالا بما رواه الستة غير البخاري "من رأى هلال ذي الحجة منكم وأراد أن يضحي فليمسك عن شعره" فالتعليق على الإرادة ينافي الوجوب وقال مالك لا يتركها فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر وقال أبو حنيفة تجب على الحر المقيم المسلم الموسر استدلالا بما رواه البخاري "من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ومن لم يذبح فليذبح" وبما رواه ابن ماجه "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" فمثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب وهذا كله في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم أما النبي فكانت واجبة عليه 2 - واختلفوا فيمت يطالب بالأضحية فقال الشافعي هي سنة على

جميع الناس رجالا ونساء وعلى المسافر وعلى الحاج بمنى وقال مالك لا أضحية على المسافر ولا يؤمر بتركها إلا الحاج بمنى وقال أبو حنيفة لا تجب على المسافر أضحية 3 - وأجمعوا على أن من ذبح قبل الصلاة فعليه الإعادة استحبابا عند من استحب الأضحية ووجوبا عند من أوجبها لأنه ذبح قبل وقتها واختلفوا فيمن ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يجوز لأحد أن يذبح قبل الإمام أي قبل مقدار الصلاة والخطبة وقال أبو حنيفة بالجواز 4 - ومدلول حديث الباب أنه لا بأس بالأكل والادخار من الأضحية بدون تحديد بزمن والأكل ليس بواجب إلى هذا ذهب جمهور العلماء وفقهاء الأمصار ومنهم الأئمة الأربعة وذهب جماعة من الظاهرية إلى تحريم لحوم الأضاحي بعد ثلاث احتجاجا بما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام" 5 - قال ابن التين اختلف في النهي الوارد في الحديث فقيل على التحريم ثم طرأ النسخ بالإباحة وقيل للكراهة فيحتمل النسخ من باب نسخ السنة بالسنة ويحتمل بقاء الكراهة إلى اليوم وقال آخرون كان التحريم لعلة فلما زالت تلك العلة زال الحكم وبهذا يتضح عدم التعارض بين حديث الباب وبين الحديث الذي استدل به الظاهرية إذ كان مورده عاما معينا لحالة خاصة، نعم يبقى إشكال بينه وبين ما رواه الترمذي عن عائشة أنها سئلت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الأضاحي فقالت لا وأجيب بأن مرادها نفي نهي التحريم لا مطلق النهي أو أن مرادها نفي النهي عن الأكل بالكلية أي لم ينه صاحبها عن أن يأكل منها وقد اختلف الأصوليون في الأمر الوارد بعد الحظر كقوله "كلوا" بعد النهي السابق أهو للوجوب أم للإباحة وعلى القول بأنه للوجوب حقيقة بالإجماع هنا مانع من الحمل عليه -إذ لا خلاف بين سلف الأمة وخلفها في عدم الحرج على المضي بترك الأكل من أضحيته اللهم إلا ما ورد عن ابن حزم- ومحل

كونه للوجوب حيث لا قرينة تصرفه عن حقيقته 6 - وقد استدل بإطلاق الحديث "أطعموا" على أنه لا تقييد في القدر الذي يجزئ من الإطعام والجمهور على أن التصدق من الأضحية سنة وقال بعض العلماء يجب التصدق منها وهو الصحيح عند الشافعية والواجب مقدار ما يصدق عليه اسم اللحم ولو قليلا بشرط أن يكون نيئا وألا يكون قديدا هذا ومن البدع المنكرة خضب الاكف بدماء الأضاحي أو غيرها وتلطيخ الأبواب والجدران بها -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز الاستفسار والمراجعة فيما أشكل من الأحكام 2 - جواز الأكل والطعام والادخار من الأضحية 3 - أنه يجوز للحاكم أن يلزم لمحكومين بغير الواجب عليهم لمصلحة المجتمع.

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة 32 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" -[المعنى العام]- يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من انتهاك حرمات الله وارتكاب الكبائر وينذر فاعلها بانسلاخه عن وصف المدح الذي يسمى به أولياؤه المؤمنون فيقول لا يزني الزاني حين يزني وهو كامل الإيمان ولا يشرب الخمر شاربها وهو متصف بهذا الوصف الحميد ولا يسرق السارق حين يسرق وعنده شيء من الحياء من الله ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهيها وهو مؤمن فبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون -[المباحث العربية]- (لا يزني الزاني) وفي رواية "لا يزني" بدون كلمة الزاني وبها استدل بها ابن مالك على جواز حذف الفاعل والراجح أن الفاعل ضمير مستتر لا محذوف يعود على مفهوم من المقام أي الرجل أو المؤمن أو الزاني لا يزني وهل الجملة خبرية لفظا ومعنى أو خبرية لفظا إنشائية معنى الظاهر الأول

(وهو مؤمن) الجملة في محل النصب على الحال (ولا يشرب الخمر) اختلف أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظ قريبة المعاني فقيل سميت خمرا لأنها تخمر العقل أي تغطيه ومنه خمار المرأة لأنه يغطي رأسها وقيل مشتقة من المخامرة بمعنى المخالطة لأنها لتخالط العقل وقيل لأنها تركت حتى أدركت كما يقال خمر العجين أي بلغ إدراكه وهي مؤنثة كما قال أبو حنيفة وحكى الفراء جواز تذكيرها وفي مدلولها الشرعي خلاف بين الفقهاء فمذهب أبي حنيفة أن الخمر هي ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وغيره لا يسمى خمرا إلا في حالة السكر بخلاف ماء العنب فإنه خمر سواء أسكر أو لم يسكر وأطلق مالك والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث الخمر على كل مسكر لحديث "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" ولقول ابن عمر على المنبر دون معارض "أما بعد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خمر العقل" أهـ وحديث ابن عمر هذا لم يحصر الخمر في الخمسة إذ عمم بعد ذكرها بقوله "والخمر ما خامر العقل" -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث إن الإيمان منفي عن مرتكبي هذه الكبائر وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما بالتحريم ولما كان هذا الظاهر معارضا بأحاديث أخرى صحيحة كالذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" قال أبو ذر قلت وإن زنى وإن سرق قال رسول الله وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال "وإن زنى أو سرق" ثم قال في الرابعة "على رغم أنف أبي ذر" لما كان هذا التعارض أول أهل السنة حديث الباب بعدة تأويلات

منها أن المراد بالإيمان المنفي الإيمان الكامل فلفظ وهو مؤمن مراد منه وهو كامل الإيمان ومنها أن المراد بالإيمان الحياء فقد ورد "الحياء شعبة من الإيمان" من إطلاق الكل وإرادة الجزء أو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم والمعنى لا يزني الزاني حين يزني وهو مستحي إذ لو استحيا من الله تعالى حق الحياء واعتقد أنه حاضر مشاهد لحاله لم يرتكب هذا الفعل الشنيع ومنها أنه من باب التغليظ والتهديد العظيم يعني أن هذه الخصال ليست من أفعال المؤمنين لأنها منافية لحالهم فلا ينبغي أن يتصفوا بها بل هي من صفات الكافرين كقوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} أي ومن تشبه بالكفار فلم يحج ومنها إن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الإيمان ويؤيده ما رواه ابن حبان مرفوعا "إن الخمر لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه" ومنها إن المراد من فعل ذلك مستحلا له أي لا يزني الزاني مستحلا زناه حين يزني وهو مؤمن -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - إن الزنا والخمر والسرقة من الكبائر 2 - التنفير والزجر عن ارتكاب المعاصي والآثام.

كتاب المرضى

كتاب المرضى 33 - عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" -[المعنى العام]- لما نزل قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال لقد أنزلت على آية هي لأمتي خير من الدنيا وما فيها ثم قرأها قال إن العبد إذا أذنب ذنبا فتصيبه شدة أو بلاء في الدنيا من تعب أو مرض أو هم أو حزن أو غم وإن قل حتى الشوكة الصغيرة تصيبه في قدمه فإن الله يحط بها عنه من خطاياه ويكتب له بها حسنات ويرفع له بها درجات -[المباحث العربية]- (ما يصيب المسلم من نصب) قال الراغب أصل أصاب يستعمل في الخير والشر قال تعالى {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا} الآية وقيل الإصابة في الخير مأخوذة من الصوب وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة من غير ضرر وفي الشر مأخوذ من إصابة السهم قال الكرماني المصيبة في اللغة ما ينزل بالإنسان مطلقا وفي

العرف ما نزل به من مكروه خاصة وهو المراد هنا والنصب هو التعب وزنا ومعنى و"من" قبله زائدة (ولا وصب) أي مطلق مرض أو مرض ملازم (ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم) الهم المكروه يلحق الإنسان بحسب ما يقصده والحزن بفتحتين أو بضم وسكون هو ما يلحقه بسبب حصول مكروه في الماضي وهما من أمراض الباطن والأذى ما يلحقه من تعدي الغير عليه والغم كما قال الكرماني يشمل جميع المكروهات لأنه إما بسبب ما يعرض للبدن أو النفس والأول إما بحيث أن يخرج الجسم عن المجرى الطبيعي فهو المرض وأما بحيث أن لا يخرجه فإن لوحظ فيه الغير فهو الأذى وإن لم يلاحظ وظهر فيه الانقباض والاغتمام بسبب ما يقصد مستقبلا فهو الغم أو في الماضي فهو الهم والحزن فذكر الغم ذكر عام بعد خاص (حتى الشوكة) يجوز فيه الحركات الثلاث فالجر على معنى الغاية أي إلى الشوكة أو للعطف على لفظ (نصب) والرفع للعطف على محل (نصب) لأنه فاعل (يصيب) و (من) زائدة والنصب بتقدير عامل أي حتى وجدانه الشوكة (يشاكها) بضم أوله أي يشوكه بها غيره وفيه وصل الفعل بالضمير بعد حذف حرف الجر لأن الأصل يشاك بها وفي معنى ذلك ما لو دخلت من غير إدخال والجملة في محل النصب على الحال (إلا كفر الله بها من خطاياه) من تبعيضية وكفر من التكفير وهو التغطية والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال فالجملة في محل النصب على الحال والتقدير ما يصيب المسلم غم في حال من الأحوال إلا في حال تكفير خطاياه أي إنما يصيب المسلم هذه الأمور مكفرة خطاياه والقصر قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة

-[فقه الحديث]- قال ابن بطال إن المسلم يجازى على بعض خطاياه في الدنيا بالمصائب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها وظاهر الحديث أن الثواب على نفس المصيبة بشرط ألا تقترن بالسخط وعليه الجمهور وقيل إن الثواب والعقاب على الكسب والمصائب ليست منه بل الأجر على الصبر عليها والرضا بها ورد بأن ذلك قدر زائد يمكن الثواب عليه زيادة على ثواب المصيبة ومن المعلوم أن الناس عند البلاء درجات فمنهم من يسلم الأمر ومنهم من يبتغي به وجه الله ويقصد الأجر ومنهم من يتلذذ بالبلاء راضيا عن الفعال لما يشاء وأما الساخطون فليسوا من الله في شيء ويؤخذ من الحديث حصول الثواب للمصاب وتخفيف العقاب عنه. 34 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء"

-[المعنى العام]- يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن من حيث كثرة ابتلاء الله له في دنياه ومن حيث إطاعته لربه وصبره على المصائب ورضاه بها واحتسابها بالنبتة الصغيرة اللينة التي تشتد عليها الريح فتقلبها مرة وتميلها أخرى ولا تكاد تعتدل حتى تهب عليها الريح من جانب آخر فتقلبها إلى الجهة الأخرى وهكذا المؤمن كلما اختبره الله برزء انطاع له ولان ورجا منه الخير فإذا سكن عنه البلاء اعتدل قائما بالشكر لربه أما الكافر الفاجر فمثله مثل شجرة ضخمة صلبة غير جوفاء لا تعصف بها الريح ولا تتأثر بالعوارض حتى إذا شاء الله لها الهلاك قصمها قصما وكسرها كسرا وهكذا الفاجر لا يتفقده الله باختبار بل يعافيه في دنياه ويمهله ويملى له ويجعل له التيسير في المال والصحة والأولاد وبهجة الحياة الدنيا حتى إذا أخذه لم يفلته وإن أخذ ربك لشديد -[المباحث العربية]- (مثل المؤمن) المثل هو الصفة العجيبة الشأن (كمثل الخامة من الزرع) الخامة هي أول ما ينبت من الزرع على ساق واحدة غضا طريا و (من الزرع) متعلق بمحذوف صفة للخامة لأن تعريفها للجنس أو حال منها (من حيث أتتها الريح كفأتها) أي أمالتها والجار والمجرور متعلق بكفأتها أي تميلها الريح من أي جانب وصلت إليها والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب سيقت لبيان وجه الشبه (فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء) تكفأ أصله تتكفأ وحذفت إحدى التاءين وأصل الكلام فإذا اعتدلت الخامة تكفأت بالريح أي تقلبت فعبر عن الريح بالبلاء لأنها بلاء بالنسبة إلى الخامة أو أراد بالبلاء ما يضر بالخامة وقال الكرماني لما شبه المؤمن بالخامة أثبت للمشبه به ما هو من خواص المشبه

وهو البلاء وقال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون جواب الشرط محذوفا والضمير في اعتدلت يعود على الريح والتقدير فإذا اعتدلت الريح استقامت الخامة ويكون قوله بعد ذلك (تكفأ بالبلاء) فوجه الشبه قبول العوارض التي تخرج الشيء عن اعتداله قهرا (والفاجر كالأرزة) بفتح الهمزة وسكون الراء شجرة الصنوبر وهي مشهورة بالطول والغلظ وهي شعار جمهورية لبنان (صماء) صلبة مكتنزة شديدة ليست بجوفاء ولا خوارة وفي (صماء معتدلة) النصب على الحال أو الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف (حتى يقصمها الله) من القصم وهو الكسر عن إبانة بخلاف الفصم بالفاء فإنه كسر بدون إبانة ووجه الشبه بين الفاجر والأرزة قلة العوارض التي تخرج الشيء عن اعتداله حتى يأتيه الهلاك دفعة واحدة -[فقه الحديث]- يرمي الحديث إلى غرس الصبر في قلب المؤمن عند البلاء وبعث له على الرضا بالقضاء فإن الله تعالى يخص أولياءه بشدة الأوجاع والمصائب والآلام لما خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب ليكمل لهم ثواب طاعاتهم ويكفر عنهم سيئاتهم فليست المصائب والفقر والأحزان التي تصيب المؤمن ليست لهوانه على الله وإنما ليدخر له النعيم المقيم فالبلاء في مقابلة النعمة فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد حتى قال عليه الصلاة والسلام "إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم" وفي رواية "ثم الأمثل فالأمثل" فالجدير بالمؤمن أن يشكر الله على الضراء كما يشكره على السراء قال المهلب والمؤمنون أمام البلايا على أقسام منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه ومنهم من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض ومنهم من تشغله المحبة عن طلب رفع البلاء وهذا أرفع من سابقه ومنهم من يتلذذ به وهذا أرفع الأقسام

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن نعم الدنيا وآلامها ليست علامة على رضا الله وسخطه 2 - الحث على الصبر على الشدائد وتحملها بشجاعة ورضا 3 - الحث على شكر الله على البلاء كشكره على السراء حيث إنه من قبيل لطف الله بالمؤمن. 35 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" يريد عينيه -[المعنى العام]- دخل أعمى على أنس بن مالك رضي الله عنه فأدناه منه ثم قال له متى ذهب بصرك قال وأنا صغير قال أنس ألا أبشرك قال الرجل بلى قال أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يقول في الحديث القدسي إذا سلبت من عبدي كريمتيه وابتليته بفقد عينيه حبيبتيه -وهو

بهما ضنين- فصبر عند الصدمة واحتسب لم أرض له ثوابا إلا الجنة فسر الأعمى ذلك وشكر الله -[المباحث العربية]- (ابتليت عبدي) المراد من العبد المؤمن بدلالة المقام كقوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} (بحبيبتيه) فعلية بمعنى مفعولة أي بمحبوبتيه وقد فسرهما البخاري في آخر الحديث بقوله يريد عينيه قال الحافظ لم يصرح بالذي فسرهما وعزا الشرقاوي تفسيرهما إلى أنس وإنما وصف العينين بهذا الوصف لأنهما أحب أعضاء الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد من خير فيسر به أو شر فيجتنبه -[فقه الحديث]- إنما اختار الله هذا النوع من الابتلاء ورتب عليه هذا الجزاء لأنه أشد الأنواع بعد فقدان الدين فقد روي "ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره ومن ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى الله لقي الله تعالى ولا حساب عليه" فإذا صبر العبد على أكبر المصائب كان على ما دونها أكثر صبرا وقد قيد الحديث الجزاء على فقد هذه النعمة بالصبر لأن الأعمال بالنيات فإن لم يستحضر ما وعد الله تعالى به الصابرين من الثواب وأظهر الجزع والضجر فلا ثواب له ويكون شأنه كالبعير يعقله أهله ثم يرسلونه فلا يدري لم عقل ولم أرسل وقد جاء في رواية أخرى للبخاري "إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت" إلخ فهي تشير إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم وإلا فمتى ضجر وقلق في أول وهلة ثم يئس فصبر فلا يحصل له الوعد المذكور وفي الحديث إشارة إلى أن ابتلاء الله لعبده في الدنيا ليس من سخطه عليه ولا لهوان شأنه بل إما لدفع مكروه أو لتكفير ذنوب أو لرفع

منزلة فإذا ما تلقى ذلك بالرضاء تم له المراد ولذا جعل العوض الجنة وهي أعظم العوض لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها. 36 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة واثكلياه والله إني لأظنك تحب موتي ولو كان ذاك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون" -[المعنى العام]- رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة من البقيع فوجد عائشة تمسك برأسها من صداع وهي تقول وارأساه كأني سأموت من هذا الألم فقال صلى الله عليه وسلم ما يضرك شيء لو مت قبلي فأكفنك وأصلي عليك وأدفنك واستغفر لك وأدعو لك وفهمت عائشة بدافع الغيرة أن الرسول يحب موتها قبله فقالت والله إني بعد كلامك هذا لأظن أنك تتعجل موتي وأتصور أنك ترجع من دفني

إلى بيتي متزوجا بغيري وتنساني في نفس اليوم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال دعي ما تحسين من ألم واشتغلي بي فإنك -يعلم الله- لن تموتي في هذه الأيام أما أنا فموتي قريب قربا جعلني أفكر في خليفتي فهممت أن أرسل إلى أبي بكر لأعهد إليه بالخلافة خشية أن يتقاتل عليها المسلمون ويطمع فيها المتمنون ولكني رجعت فيما هممت به وقلت لا داعي لهذا العهد فإن الله قضى لأبي بكر بالخلافة وسيرد المسلمون من يتقدم لها غيره عهدت أو لم أعهد فآثرت أن يختار المسلمون خليفتهم ليؤجروا -[المباحث العربية]- (وارأساه) وا -حرف ندبة رأس مندوب يعطي حكم المنادى فهو منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة والألف للندبة والهاء للسكت والمعنى أتوجع من الصداع في رأسي قال الطيبي ندبت رأسها وأشارت إلى الموت (ذاك) ذا اسم إشارة والكاف مكسورة حرف خطاب للمؤنث والإشارة إلى ما يستلزمه المرض من الموت والإشارة مبتدأ والجملة بعده خبره (لو كان) قيل "لو" للتمني فلا جواب لها وقيل للشرط والجواب محذوف التقدير لو كان وأنا حي لم يكن عليك بأس ويرشد إلى ذلك رواية "ما ضرك لو مت قبلي" وكان تامة وفاعلها ضمير يعود على اسم الإشارة (وأنا حي) جملة في محل النصب على الحال وقعت بين الشرط والجزاء على جعل "لو" شرطية (فاستغفر لك وأدعو) حمل بعضهم الاستغفار والدعاء على صلاة الجنازة من إطلاق الجزء وإرادة الكل تفسيرا له برواية "لو مت قبلي فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"

(واثكلياه) إعرابه كإعراب (وارأساه) والثكل بضم الثاء فقدان المرأة ولدها أو الموت والهلاك وليست حقيقته مرادة هنا بل هو كلام يجري على ألسنتهم عند وقوع المصيبة أو قوقعها أو خوف مكروه فالمعنى وا مصيبتاه (والله إني لأظنك تحب موتي) كأنها أخذت ذلك من قوله لها (لو كان وأنا حي) (ولو كان ذاك) أي ولو حصل موتي (لظللت آخر يومك) أي الذي أموت فيه (معرسا) بتشديد الراء المكسورة من عرس بامرأته إذا بنى بها أو غشيها وروي بتخفيف الراء من أعرس (بل أنا وارأساه) إضراب عما قالته أي دعي ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي فإنك تعيشين بعدي علم ذلك بالوحي (لقد هممت أو أردت) أو للشك (وأعهد) المعمول محذوف والتقدير وأعهد إليه بالخلافة أي أوصي له بها (أن يقول القائلون) في الكلام مضاف محذوف هو مفعول لأجله والعامل فيه (هممت) والتقدير هممت بالإرسال إلى أبي بكر والعهد إليه بالخلافة خشية أن يطمع الناس فيها بعد وفاتي ومقول القول محذوف أي يقول القائلون الخلافة لفلان (أو يتمنى المتمنون) بضم النون وأصله المتمنيون على وزن المتطهرون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان الياء والواو فحذفت الياء وضمت النون لمناسبة الواو ومفعول "يتمنى" محذوف أي يتمنى المتمنون الخلافة (ثم قلت) معطوف على "هممت" فالقائل الرسول يحكي لعائشة أنه هم بكذا ثم رجع عما هم به وقال في نفسه إلخ

(يأبى الله) إلا خلافة أبي بكر عهدت إليه أو لم أعهد (ويدفع المؤمنون) خلافة غيره اعتمادا على استخلافي له في الصلاة (أو يدفع الله) خلافة غيره (ويأبى المؤمنون) إلا خلافته أو للشك من الراوي في أي العبارتين صدرت عن الرسول -[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث تحت عنوان "باب قول المريض وارأساه" واستدل به على الترخيص للمريض بأن يقول ذلك دون كراهة وأشار بذلك إلى الرد على من كره أنين المريض وتأوهه والتحقيق في الموضوع أن المذموم من ذلك ذكره للناس تضجرا أو تسخطا وأما من أخبر به إخوانه ليدعوا له بالشفاء والعافية أو كان أنينه وتأوهه للاستراحة فليس ذلك من قبيل الشكوى المذمومة وسبب تراجع الرسول عما هم به من العهد لأبي بكر بالخلافة مع أن هذا العهد كان قاطعا للنزاع إنه علم بطريق الوحي حصول الخلافة لأبي بكر وتشريعا لمبدأ المشورة بينهم وترغيبا في جعل الخلافة عن طريق الانتخاب لا عن طريق التعيين وليحصل المسلمون أجر اجتهادهم واختيارهم لمن يعهد بالخلافة وترك الأمر لهم وإنما عين أبو بكر عمر رضي الله عنهما لضرورة قصوى فقد كان المسلمون في حروب يؤثر فيها أدنى خلاف على أن الشبهة في هذا التعيين منفية تمام الانتفاء فلم يعين أبو بكر ابنه ولا أحد من أقربائه بل اختار مرضيا عنه من جميع المسلمين وإنما ذكر الرسول ابن الصديق معه في العهد بالخلافة ولم يكن له دخل لأن المقام مقام استمالة قلب عائشة أي كما إن الأمر يفوض إلى أبيك كذلك الائتمار في ذلك بحضور أخيك وأقاربك هم أهل أمري وأهل مشورتي ويروي الحديث بلفظ "لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر أو آتيه" من الإتيان بمعنى المجيء فلا ذكر لابن أبي بكر وعليه فلا إشكال

-[ويؤخذ من الحديث: فوق ما تقدم]- 1 - ما طبعت عليه المرأة من الغيرة 2 - ومداعبة الرجل أهله 3 - والإفضاء إليهم بما يخفيه عن غيرهم 4 - وأن ذكر الوجع ليس من الشكاية 5 - وأن الميت لا ينفع الحي ولا يكون واسطة بينه وبين الله بالدعاء والاستغفار وإلا لما علق النبي استغفاره ودعاءه لعائشة على كونه حيا.

37 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي" -[المعنى العام]- إنما يقدم على الموت بالانتحار من فقد دينه وعقله ورجولته وشجاعته وإنما ينهار أمام شدائد الحياة من اتصف بالجبن والخور وضعف العزيمة وفساد التفكير والمؤمن ينبغي أن يكون أرفع من هذا العمل القبيح المزري بالإنسانية بل لا يليق به أن يتمنى الموت لضر أصابه مهما عظم فإن كان في شدة لا ينفس عنه إلا طلب الموت فليقل اللهم مد لي في حياتي ما دامت الحياة خيرا لي من الوفاة واقبضني إليك ما كانت الوفاة خيرا لي من الحياة -[المباحث العربية]- (لا يتمنين أحدكم) الخطاب للصحابة وينسحب الحكم على من بعدهم من المسلمين ولا ناهية والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم وفي رواية "لا يتمنى" بإثبات الياء فلا نافية والفعل مرفوع خبر في معنى النهي وهو أبلغ من النهي الصريح لأنه قدر فيه أن المنهي قد امتثل وأن المنهي عنه قد نفي فأخبر عنه وفي رواية "لا يتمن" بحذف الياء ومن غير توكيد (لضر أصابه) المراد من الضر ما يشمل المرض وغيره من أنواع الضر وجملة "أصابه" في محل الجر صفة لضر (فإن كان -لا بد- فاعلا) فاعلا خبر كان واسمها يعود على المصاب المفهوم من الكلام السابق و"لا" نافية للجنس و"بد" اسمها والخبر محذوف والجملة معترضة بين كان وخبرها والتقدير فإن كان متمنيا الموت لا غنى عن التمني موجود فليقل إلخ

(ما كانت الحياة) ظرفية مصدرية أي مدة كون الحياة خيرا لي (إذا كانت الوفاة) عبر في جانب الحياة بقوله "ما كانت" لأنها حاصلة فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة ولما كانت الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط "إذا كانت" -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لي وارحمني والحقني بالرفيق الأعلى" ومع تمني عمر بن الخطاب الموت إذ قال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط وأجيب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما سأل ما قارن الموت وبأنه إنما دعا بذلك بعد أن علم أنه ميت في يومه ذلك ورأى الملائكة المبشرين له عن ربه بالسرور الكامل ولهذا قال لفاطمة رضي الله عنها لا كرب على أبيك بعد اليوم فكان ذلك خيرا له من كونه في الدنيا وبأن عمر خشي فتنة في دينه والنهي في الحديث عن التمني خاص بخوف ضرر دنيوي فلا يتوجه إلى من خاف ضررا أخرويا بقي أنه نهى عن تمني الموت في أول الحديث وأمر به في آخره بقوله "فليقل وتوفني" وأجيب بأن النهي وارد على التمني المطلق والإجابة واردة على التمني المقيد بما إذا كان الموت خيرا ففي الأول نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي الثاني نوع تفويض وتسليم للقضاء والأمر في قوله "فليل" أمر بعد حظر فلا يبقى على حقيقته من الوجوب أو الاستحباب وإنما هو للإذن والإباحة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - محافظة الإسلام على الأرواح 2 - وحرصه على حياة الإنسان 3 - ونهيه عن تمني الموت فضلا عن الإقدام عليه بالانتحار 4 - ودعوته إلى التسليم والرضا بالقضاء

5 - والصبر على الضراء. 38 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لن يدخل أحدا عمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله قال "لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" -[المعنى العام]- حرصا على عدم اغترار المسلمين بطاعاتهم وعباداتهم وبعثا للخوف والرجاء في نفوسهم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليس منكم أحد ينجيه عمله من النار وليس منكم أحد يدخله عمله الجنة قال رجل منهم ولا أنت ينجيك عملك ويدخلك الجنة يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتداركني الله منه برحمة وفضل فليس العمل إلا سببا عاديا لجلب رضا الله المؤدي

إلى الجنة فلا تغتروا به ولا تتكلوا على الفضل والرحمة ولكن اقصدوا في أعمالكم السداد والصواب وقاربوا بينكم وبين رضا الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ولا يتمن أحد منكم الموت رجاء التعجل بدخول الجنة والفوز برحمة الله لأنه إن كان محسنا ومطيعا بأنه يرجى له أن يزداد طاعة فيزداد رضا ورحمة وإن كان مسيئا عاصيا فإنه يرجى له أن يرجع إلى ربه ويتوب إليه ويرد المظالم ويتدارك ما فاته من الطاعات -[المباحث العربية]- (لن يدخل أحدا عمله الجنة) المضارع مبني للمعلوم وأحدا مفعوله الأول مقدم والجنة مفعوله الثاني وعمله فاعله آخر لاشتماله على ضمير يعود على المفعول (ولا أنت) أنت مبتدأ والخبر محذوف والجملة على تقدير همزة الاستفهام معطوفة على محذوف أي لا يدخل أحدا عمله الجنة ولا أنت يدخلك عملك الجنة (ولا أنا) الخبر محذوف أيضا والجملة معطوفة على محذوف أي لن يدخل أحدا عمله الجنة ولا أنا يدخلني عملي الجنة (إلا أن يتغمدني الله بفضل) يقال تغمده الله برحمته أي غمره بها كالغمد للسيف ففيه استعارة تبعية حيث شبه غشيان الرحمة على الإنسان بغشيان الغمد على السيف بجامع الوقاية في كل ثم استعير المشبه به للمشبه إلخ والباء للملابسة والاستثناء منقطع أو متصل من عموم الأحوال والتقدير ولا أنا يدخلني عملي الجنة في حال من الأحوال إلا في حال تغمد فضل الله لي (فسددوا وقاربوا) أي اطلبوا السداد وهو الصواب وهو ما بين الإفراط والتفريط أي فلا تغلو ولا تقصروا واعملوا به فإن عجزتم عنه فقاربوا منه ويروى "وقربوا" أي قربوا غيركم إليه وقيل معنى سددوا اجعلوا أعمالكم مستقيمة ومعنى قاربوا اطلبوا قربة الله عز وجل وجاء في

رواية "ولكن سددوا" وفائدة الاستدراك هنا إنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل فكأنه قيل بل للعمل فائدة وهي أنه علامة على الرحمة التي تدخل العامل الجنة فسددوا وقاربوا والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فسددوا (ولا يتمنين) ضبطه العيني بنون التوكيد الخفيفة فالفعل معها مبني على الفتح في محل جزم بلا الناهية وروي "لا يتمن أحدكم" وأصله يتمنى حذفت الياء للجزم بلا الناهية وروي "لا يتمنى" بإثبات الياء فهو نهي في صورة الخبر ولا نافية (إما محسنا) خبر لكان المحذوفة مع اسمها والتقدير إما يكون محسنا والجملة تعليل للنهي عن تمني الموت (فلعله أن يزداد خيرا) لعل للرجاء المجرد عن التعليل ودخلت أن على خبرها وخيرا مفعول "يزداد" (أن يستعتب) من الاستعتاب وهو طلب زوال العتب أو من العتبى وهي الرضا -[فقه الحديث]- ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "لن يدخل أحدا عمله الجنة" يتعارض مع قوله تعالى {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} وقوله {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} وقد جمع بين الحديث والآيات بعدة وجوه منها أن العمل لا يوجب دخول الجنة بل الدخول بمحض فضل الله تعالى والعمل سبب عادي ظاهر إذ العمل مهما عظم ثمن ضئيل بالنسبة لدخول الجنة فمثل هذه المقابلة كمثل من يبيع قصورا شاهقة ومتاعا واسعا بدرهم واحد فإقبال البائع على هذه المبادلة ليس للمساواة بين المبيع والثمن بل لتفضله على المشتري ورحمته به فمن رحمة الله بعبادة المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا لنعيم لا يبلى ويؤيده

قول ابن عباس لما قرأ قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} نعمت الصفقة أنفس هو خالقها وأموال هو رازقها ثم يمنحنا عليها الجنة حقا نعمت الصفقة الرابحة على أنه تعالى هو المتفضل في الحقيقة بالثمن جميعا وهو الموفق للعمل والمعين عليه فلا جرم أن يكون دخول الجنة بفضله ورحمته وهذا الوجه أحسن الوجوه ومنها أن أصل دخول الجنة بالفضل وعليه يحمل الحديث وأن المنازل والدرجات بالعمل وعليه تحمل الآيات ومنها أن الفوز بالجنة ونعيمها إنما هو بالفضل والعمل جميعا فقوله تعالى {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} أي مع فضل الله ورحمته وقوله صلى الله عليه وسلم "لن يدخل أحدا عمله الجنة" أي مجردا عن فضل الله تعالى فالآية لم تذكر الفضل لئلا يتكلوا والحديث اقتصر عليه لئلا يغتروا وإنما خص الرسول نفسه بذكر التغمد بالفضل ولم يقل إلا أن يتغمدنا الله لأن تغمد الله له بالرحمة مقطوع به ولأنه إذا كان دخوله صلى الله عليه وسلم موقوفا على فضل الله فغيره بالطريق الأولى واستشكل تعليل النهي عن تمني الموت بازدياد الخير إن كان محسنا استشكل هذا بأنه قد يعمل السيئات فيزيده طول عمره شرا وأجيب بأن الخطاب للمؤمن الكامل الساعي في ازدياد ما يثاب عليه قال الحافظ ابن حجر وفيه بعد وقيل إن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من حسنات آخر قد تقاوم بتضعيفها سيئاته وما دام الإيمان باقيا فالحسنات بصدد التضعيف والسيئات بصدد التكفير وخير ما قيل في هذا الإشكال أن الحديث خرج مخرج تحسين الظن بالله وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه إلى المزيد من عمله الصالح وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه يدل على ذلك التعبير بلفظ "لعل" المشعر بالوقوع غالبا لا جزما -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن عمل الإنسان مهما بلغ لا يقابل دخول الجنة

2 - إرشاد المسلم إلى سلوك الطريق الوسط في العبادة من غير إفراط ولا تفريط 3 - النهي عن تمني الموت فضلا عن الإقدام عليه 4 - الرد على المعتزلة القائلين بأن الطاعة سبب الثواب موجبة له والمعصية سبب العقاب موجبة له بناء على قاعدتهم في الحسن والقبح العقليين 5 - إن قصر العمر قد يكون خيرا للمؤمن.

كتاب الطب

كتاب الطب الطب علاج الجسم والنفس والطبيب هو الحاذق في كل شيء وخصه العرف بالمعالج والطب نوعان طب القلوب ومعالجتها بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى وطب الأبدان وهو المراد هنا وبعضه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثره عن طريق التجربة 39 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" -[المعنى العام]- كما بعث صلى الله عليه وسلم لإنقاذ البشرية من الشرك بعث أيضا لإنقاذها من الجهالات والأوهام فحارب ما كان شائعا من أن ربط الأسباب بالمسببات أمر طبيعي فأصلح عقائدهم وأرشدهم إلى ما ينبغي لله من الكمال والتفويض فقال "لا عدوى" تؤثر بذاتها بل انتقال الداء من مريض إلى صحيح موقوف على إرادة الله ومشيئته ومع هذا ينبغي ألا يقلل من شأن الأسباب العادية فلا يوردن ذو إبل مريضة إبله على إبل صحيحة ويكلم أحدكم المجذوم وبينه وبينه قدر رمح أو رمحين ثم ضم إلى هذا إصلاحا آخر فأبطل ما كان فاشيا في ذلك الوقت من اعتقادهم وجود أشياء لا حقيقة لها مما يضر بتفكيرهم ويخل بنظام معيشتهم فقال ولا تأثير للتشاؤم

بالطير ولا وجود لطائر ينادي بالثأر ولا لحية في البطن تنهش عند الجوع فكل هذه الأمور جهالات مردها ضيق التفكير ولا نتيجة لها إلا تنغيص حياة الإنسان وحمله على العيش في عزلة وفي سجن من الخرافات والأوهام -[المباحث العربية]- (لا عدوى) لا نافية للجنس وخبرها محذوف والعدوى هي انتقال المرض من جسم إلى جسم وتطلق على انتقال الخلق من شخص إلى آخر (ولا طيرة) على وزن عنبة من تطير بمعنى تشاءم بالطير (ولا هامة) بتشديد الميم وتخفيفها وهي الرأس واسم طائر والمعنى الأخير هو المراد في الحديث وسيأتي بيانه (ولا صفر) اسم للشهر المعروف واسم لحية عظيمة توهمتها العرب في بطن الإنسان قال الطيبي دخلت لا التي لنفي الجنس على المذكورات فنفت ذواتها وهي غير منفية فيتوجه النفي إلى أوصافها وأحوالها فالمنفي ما زعمت الجاهلية إثباته مما يخالف الشرع ونفي الذوات لإرادة نفي الصفات أبلغ لأنه من باب الكناية (وفر من المجذوم) الذي أصابه الجذام وهو مرض ينتهي بتآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرح (كما تفر من الأسد) ما مصدرية والكاف اسم بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف أي فرارا كفرارك من الأسد -[فقه الحديث]- تتلخص نقاط الحديث في: 1 - العدوى من حيث الجمع بين الأحاديث المثبتة والنافية لها وتحقيق المقام في الموضوع

2 - والطيرة وكيفيتها وحكمها وحكم أشباهها 3 - وصفر 4 - وأمور أخرى ورد نفيها في بعض الروايات 5 - والفرار من المجذوم وهذا هو التفصيل 1 - يتعارض أول الحديث مع آخره فأوله ينفي العدوى وآخره يأمر بالفرار من المجذوم كما يتعارض نفي العدوى مع قوله صلى الله عليه وسلم "لا يوردن ممرض على مصح" ومع أحاديث أخرى تثبت العدوى وأجيب عن هذا التعارض بأن إثبات العدوى في المجذوم ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى فيكون المعنى لا عدوى إلا من الجذام والجرب والبرص والطاعون وما يظهر من الأمراض المعدية وقيل الأمر بالفرار لرعاية خاطر المجذوم ونحوه لأنه إذا رأى صحيح البدن سليما من الآفة التي به عظمت مصيبته وحسرته على ما ابتلي به ونسي سائر ما أنعم الله تعالى به عليه فيكون قرب الصحيح منه سببا لزيادة محنة أخيه المسلم وبلائه وقيل لا عدوى أصلا والأمر بالفرار إنما هو لحسم المادة وسد الذريعة لجواز حدوث شيء من ذلك للمخالط فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الرسول وهذا الرأي والذي قبله بعيدان عن الصواب لما علم من ثبوت العدوى ثبوتا لا يقبل الإنكار والتحقيق في المقام أن بعض الأمراض تنتقل من جسم إلى جسم بواسطة جراثيم تسمى "ميكروبات" وهي كائنات حية صغيرة جدا ولكل مرض ميكروب خاص به قد ينتقل إلى جسم السليم فيقبله فيكثر فيه وتظهر عوارض المرض عليه بإذن الله تعالى وقد ينتقل إلى جسم السليم ولا يقبله بل يدفعه أن تلتهمه الكرات الدموية البيضاء لقوتها في ذلك الجسم فتعدمه أولا فأولا فلا تظهر عوارض المرض وينجو بتقدير الله تعالى وكم من حذر وقع في

شرك هذه الأمراض وكم من مخالط للمرضى نجا من خطرها وذلك لنعلم أن أهم شروط العدوى إرادة الله فالأمراض المعدية من الأسباب الظاهرية التي لا تأثير لها بطبعها في إحداث المرض فإنه قد يتخلف مع حصول المخالطة كما يشاهد كثيرا ولو كان مؤثرا بطبعه لما تخلف المرض في بعض الوقائع وكانت العرب في جاهليتها الأولى تعتقد أن التأثير بالذات للأمراض المعدية متى وجدت المخالطة فنفى صلى الله عليه وسلم أن تكون العدوى أثرا للمخالطة بذاتها فقال "لا عدوى" أي مسببة عن مرض المخالطة بطبعه وذاته بل بتأثير الله تعالى فالنفي ليس منصبا على ذات العدوى بل على وصفها أما الطيرة فقد كانت العرب تعتقد أن من أراد البدء في عمل أو الشروع في سفر فإنه يحسن به أن يتوثق أولا من نجاحه أو إخفاقه بأن يزجر الطير الذي يلاقيه فإن انصرف إلى جهة اليمين تفاءل وشرع في عمله وإن انصرف إلى غيرها تشاءم ورجع عن عمله فنفى صلى الله عليه وسلم شرعة التطير ليعلم أنه ليس لذلك العمل تأثير في جلب نفع أو دفع ضر ومثل الطير كل ما يتشاءم منه فيحول دون المضي في أمر كان يعتزم المضي فيه أما التفاؤل فقد رخص فيه لأنه لا يعطل المصالح 2 - وأما الهامة فقد كانوا يعتقدون أن روح القتيل الذي لا يؤخذ بثأره تصير طائرا يطير بالليل ويصيح قائلا اسقوني من دم قاتلي ولا تزال هكذا حتى يثأر له فتستقر في مكانها -وهذا- فضلا عن أنه خيال لا أصل له -فيه إغراء بسفك الدماء وإثارة الفتن وإلهاب لحمية الجاهلية ومحاربة لما جاء به الدين وقيل إن المراد بالهامة البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم رأى أنها ناعية إليه نفسه أو بعض أهله والأول أولى لدخول الثاني في التطير 3 - وأما صفر فقد كان العرب يتشاءمون من دخول هذا الشهر ويتوهمون فيه كثرة الدواهي لوقوعه بعد الأشهر الحرم فكانوا لا يعقدون فيه زواجا ولا يشرعون في عمل جديد ولا ينشئون سفرا لتجارة ولا لغيرها

وفي ذلك تعطيل للمصالح وإخلال بنظام الحياة وقيل المراد من صفر المنفي ما كانت العرب تعتقده من أن منشأ الألم الذي يشعر به الجائع هو وجود حية عظيمة في بطنه تنهش من أحشائه وأضلاعه فأبان لهم صلى الله عليه وسلم أن هذا خرف لا يليق بالعاقل ولا مانع من إرادة الأمرين معا حيث كانا معروفين عند العرب 4 - وقد زاد مسلم "ولا غول" وكانت العرب تعتقد أن الغيلان في الفلوات تتراءى للناس وتتلون لهم وتتشكل بأشكال مختلفة لتخيفهم وتضلهم عن الطريق فتهلكهم وزاد النسائي "ولا تولة" بكسر التاء وفتح الواو وهي ما كان يزعمه العرب من كل ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره كالخرزة التي تحملها المرأة لذلك 5 - بقي إشكال ناشئ من أمره صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم مع أنه روي عنه أنه أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال "كل باسم الله وثقة بالله وتوكلا عليه" وأجيب بأن حديث الأخذ بيد المجذوم رواه أبو داود فلا يقاوم حديث الباب والمعارضة لا تكون إلا مع التساوي والأولى أن يقال أن الرسول أراد الرد على ما كانت الجاهلية تعتقده فأبطله بالأكل معه ليثبت أن الفاعل الحقيقي هو الله ونهاهم عن الدنو منه ليبين أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها ففي نهيه إثبات الأسباب وفي فعله إشارة إلى عدم استقلالها -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - إبطال المعتقدات الفاسدة بوجود أشياء لا حقيقة لها 2 - نفي ترتب الآثار والنتائج على الأمور الخيالية.

40 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا عدوى فقام أعرابي فقال أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء فيأتيها البعير الأجرب فتجرب قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول -[المعنى العام]- لما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثير العدوى واستقلالها بنقل المرض بقوله "لا عدوى" قام إعرابي معترضا على هذا النفي فقال كيف تنفي العدوى يا رسول الله مع أننا نرى الإبل سليمة قوية نشطة تجري على الرمال نظيفة القوام كأنها الظباء فيدخل عليها البعير الأجرب فيختلط بها فينتقل الجرب منها إليها أو ليس ذلك دليلا على ثبوت العدوى وألزمه الرسول بأن الاختلاط وحده ليس كفيلا بنقل المرض بل لا بد من أن يصاحبه قضاء الله وقدره إذ قال له من الذي أعدى البعير الذي أصابه الجرب أولا دون أن يخالط المصاب بالجرب وسكت الأعرابي إذ الجواب بداهة أنه لم يعده شيء بل أصابه الجرب بإرادة الله تعالى -[المباحث العربية]- (إعرابي) لم يعرف اسم هذا الرجل (فما بال إبلي) الفاء أفصحت عن شرط مقدر أي إذا لم تكن

عدوى فما بال إبلي وما اسم استفهام خبر مقدم و"بال" بمعنى شأن مبتدأ مؤخر (تكون في الرمل) كان واسمها وخبرها والجملة حال من "إبلي" (كأنما الظباء) جمع ظبي وهو الغزال المعروف والجملة في محل النصب على الحال من الضمير المستكن في خبر تكون "في الرمل" فهي حال متداخلة والتقدير ما شأن إبلي حالة كونها مستقرة في الرمل مشبهة الظباء ووجه الشبه نقاوة أرجلها ونظافتها فلا يعلق بها شيء من الرمل أو التراب علاوة على نشاطها وقوتها وخلوها من الداء (فيأتي البعير الأجرب) الفعل معطوف على "تكون" (فيجربها) أي ينقل إليها الجرب (فمن أعدى الأول) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر أي إذا فرض أن البعير الداخل على أبلك أعداها فمن أعدى البعير الأول والاستفهام تقريري أريد منه حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه ليزول الإشكال أورد البخاري هذا الحديث متصلا بالذي قبله وهو ظاهر في أن استشكال الأعرابي مبني على نفي العدوى وإنما أورد قصة إبله اعتمادا على أنها -حسب زعمه- تثبت العدوى بحيث لا تتخلف وفي رد الرسول صلى الله عليه وسلم إلزام له في غاية البلاغة والرشاقة حاصله السؤال عمن أجرب البعير الأول فإن قيل بعير آخر إلى ما لا نهاية لزم التسلسل وإن قيل الله هو الذي أجرب الأول لزم القول بأن الذي فعل الجرب في الأول هو الذي فعله في الثاني إذ لولا إرادة الله التي أحدثت الداء ابتداء ما حدث الداء انتقالا وتتمة البيان مفهومة من الحديث السابق -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز المراجعة والاستفسار فيما أشكل من الأحكام 2 - قوة عارضة النبي وإقامة الدليل والحجة

3 - جواز أخذ الجواب من فم السائل واعترافه. 41 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" -[المعنى العام]- إرشادا إلى أن الحياة هبة الله وأنه ينبغي أن تترك الروح لخالقها يسلبها متى يريد ويحملها الآلام إذا شاء يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإقدام على التخلص من الحياة مهما كانت بواعثه ومهما قست بالمرء نوائب الزمان فمن المعلوم أن هذه الدنيا دار شقاء وليس للمصائب والمتاعب إلا الرجال وبقدر تحمل الرجل لكبار الأرزاء تكبر رجولته وبقدر جزعه وانهياره أمام بعضها يظهر صفعه وجبنه وقد علمتنا التجارب أن طريق السعادة مفروش بالأشواك ومن أراد القمة تسلق الصعاب ودون الشهد أبر النحل وبالجهاد والصبر والتفويض يبلغ الإنسان ما يريد ومن ظن أنه بانتحاره يتخلص من

آلامه فليعلم أنه إنما يدفع نفسه من ألم صغير إلى ألم كبير ومن ضجر محدود بزمن قصير إلى ضجر غير محدود فمن تردى من جبل أو من شاهق فقتل نفسه نصب الله له يوم القيامة جبلا من نار يكلف الصعود إليه ليهوي منه في نار جهنم خالدا على هذه الحال أبدا ومن شرب سما فقتل نفسه أعد الله له يوم القيامة سما يفوق سم الدنيا في صعوبة مذاقه وشدة تأثيره وإيلامه كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم يكلف أن يتجرعه خالدا على هذه الحال أبدا ومن طعن نفسه بسكين فقتل نفسه أعد الله له سكينا من نار ليطعن بها بطنه كلما فجرها عادت كما كانت خالدا مخلدا على هذه الحال أبدا فليتدبر العاقل ويؤمن بالقضاء والقدر وليثق بأن بعد العسر يسرا وبعد الضيق فرجا ومن يتق الله ويصبر ويجاهد يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا -[المباحث العربية]- (من تردى من جبل) أي أسقط نفسه منه (فقتل نفسه) فائدة ذكرها توقف الجزاء المذكور عليها فإنما هي التي أفادت التعمد إذ التردي يكون عن عمد وعن غير عمد أما إذا تعمد الإلقاء ولم يحدث بذلك قتل فجزاء هذا الأمر إلى الله (يتردى فيه) أي في الجبل والمراد في مثله والجملة في محل النصب على الحال (خالدا مخلدا فيها أبدا) حال مقدرة من فاعل يتردى وفي ذكر "مخلدا" بفتح اللام بعد ذكر "خالدا" ما يشعر بالإهانة والتحقير و"أبدا" منصوب على الظرفية (تحسى سما) أي تجرع سما وأصله من حسوت المرق إذا شربت منه شيئا فشيئا والتعبير بصيغة التفعل للمعالجة والتكلف

(يجأ) مضارع وجأ وأصله يوجئ بفتح الياء وكسر الجيم فحذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة ثم فتحت الجيم لأجل الهمزة ومعناه يطعن ويضرب -[فقه الحديث]- مناسبة هذا الحديث لكتاب الطب جعلها البخاري تحت باب شرب السم للتداوي وكأنه يستدل بذلك على عدم جوازه لأنه يفضي إلى قتل النفس قال الحافظ ابن حجر إن مجرد شرب السم ليس بحرام على الإطلاق لأنه يجوز استعمال اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره إذا كان فيه نفع ويمكن جعل المناسبة من حيث أن المريض قد ييأس من الطب فيستعين على نفسه بذلك للتخلص من دائه كما هو مشاهد في هذه الأيام والحديث يدل على أن الجزاء من جنس العمل وعيدا وتحذيرا من الإقدام على الانتحار بأية وسيلة كانت فيقاس على ذلك من تردى في بحر فغرق ومن نصب لنفسه حبلا فخنق ومن أشعل في نفسه نارا فاحترق ولما كان ظاهر الحديث يفيد تخليد فاعل هذا الفعل في النار مع أنه قد يكون مؤمنا حمل الشراح الخلود في الحديث على المكث الطويل لكن هذا الحمل بعيد لتأكيده بلفظ التأبيد ولذا جعل بعضهم هذا الجزاء لمن استحل هذا الفعل الشنيع أو لمن سخط على القضاء وحمله بعضهم على التغليظ والتهديد والوعيد وهذان الرأيان أقرب من جعله لكافر بعينه أو لمن فعل ذلك من الكفار لأن الخلود حاصل للكافر وإن لم يقدر على الانتحار -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - التحذير من الانتحار مهما كانت أسبابه ودواعيه 2 - أن الجزاء من جنس العمل 3 - وجوب الصبر على الآلام وعدم السخط 4 - الرضا بالقضاء وتسليم قبض الروح لواهب الحياة.

كتاب الأدب

كتاب الأدب 42 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال "أمك" قال ثم من قال "أمك" قال ثم من قال "أمك" قال ثم من قال "أبوك" -[المعنى العام]- سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولى الناس بصحبته الحسنة فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن أحق الناس بالمواساة والإحسان أمك قال الرجل ثم من في المرتبة الثانية قال صلى الله عليه وسلم أمك أيضا في المرتبة الثانية قال صلى الله عليه وسلم أمك أيضا في المرتبة الثالثة قال الرجل ثم من في المرتبة الثالثة قال الرجل ثم من في المرتبة الرابعة قال صلى الله عليه وسلم أبوك في المرتبة الرابعة ثم الأقرب فالأقرب -[المباحث العربية]- (جاء رجل) هو معاوية بن حيدة (بحسن صحابتي) صحابة وصحبة مصدران بمعنى واحد وهو المصاحبة والكلام من إضافة الصفة إلى الموصوف أي بصحبتي الحسنة (أمك) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف أي أحق

الناس بحسن صحابتك أمك وروي بالنصب بإضمار فعل تقديره الزم أو احفظ أمك (ثم من) مبتدأ والخبر محذوف والجملة معطوفة على جملة محذوفة والتقدير قال أحق الناس أمك ثم أحق الناس أمك وفي رواية بدون عاطف مع الأم في المرتين وذكره مع الأب -[فقه الحديث]- في الحديث دلالة على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب لأنه صلى الله عليه وسلم كررها ثلاثا وذكر الأب في الرابعة وكأن ذلك لصعوبة الحمل ويتبعه الوضع ثم الرضاع ويتبعه الفطام فهذان تنفرد بهما الأم وتشقى ثم تشارك الأب في التربية وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين} فسوى بينهما في الوصاية وخص الأم بالحمل والفصال قال بعضهم ومن أسباب تقديم الأم على الأب ضعفها وعجزها فهي في حاجة إلى من يدافع عنها ويكفيها متاعب الحياة في الكبر هذا وتفضيل الأم على الأب في البر والطاعة، رأي جمهور العلماء حتى قال ابن بطال: إن لها ثلاثة أمثال ما للأب من البر وذهب بعض الشافعية إلى أن الأبوين سواء في الحق والبر وأجاب عن الحديث بأن التكرار للحث على عدم التهاون في حقها استنادا على ضعفها وشدة شفقتها والغرض من حسن الصحبة الطاعة والبر والإحسان ولو كان الأبوان كافرين إلا أن يأمرا بمعصية الله فقد قيل للحسن ما بر الوالدين قال تبذل لهما ما ملكت وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية وهذا ما نص عليه التنزيل قال تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} وروي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال كنت رجلا بارا بأمي فلما أسلمت

قالت يا سعد ما هذا الذي أحدثت لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب ولا يظلني سقف حتى أموت فتعير في فيقال لك يا قاتل أمك قال فقلت يا أماه لا تفعلي فإني لا أترك ديني هذا فمكثت يوما وليلة لا تأكل فلما أصبحت جهدت فمكثت يوما آخر وليلة كذلك فلما رأيت ذلك منها قلت تعلمين والله يا أماه ولو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فكلي إن شئت أو لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت والمعنى في الوصية بالوالدين أنهما سبب في وجود الإنسان ربياه صغيرا وقاما على رعايته كبيرا فمن لم يشكرهما بحسن صحبتهما كان جاحدا لكل من أنعم عليه من باب أولى ولا يظن أحد بالغ في برهما أنه أدى حقهما فقد أخرج الطبراني أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة لو ألقيت فيها قطعة لحم لنضجت فهل أديت شكرها فقال صلى الله عليه وسلم "لعله أن يكون بطلقة واحدة. 43 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه"

-[المعنى العام]- بين الشرع في الحديث السابق ما ينبغي من بر الوالدين ومن العناية بالأم بصفة خاصة ويبين في هذا الحديث ما ينبغي أن يتقي من عقوقهما وإيذائهما بأي نوع من أنواع الإيذاء قل أو كثر قصد أو لم يقصد ووجها به أو لم يواجها به فيقول صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الذنوب أن يشتم الرجل والديه ويستعظم الصحابة هذا الفعل القبيح ويستبعدونه لأن الطبع السليم يأباه فيقول قائلهم أو يحدث ذلك يا رسول الله وكيف يحدث فيقول صلى الله عليه وسلم ليس شرطا أن يتعاطى سبهما مباشرة فقد يتسبب فيه فيسب أبا رجل آخر فيسب هذا الآخر أباه ويزيد المسبوب شتم أم الساب أو يسب أمه فيسب أمه فمن فعل ذلك فكأنما سب والديه فما أرفع آداب الإسلام وما أبعد المسلمين عنها في هذا العصر الذي نسمع فيه عن ضرب الأمهات وذبح الأباء من أجل عرض حقير فاللهم العفو والعافية في الدين والدنيا يا رب العالمين -[المباحث العربية]- (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه) المصدر المنسبك من أن والفعل اسم أن والجار والمجرور خبرها واللعن من الله الطرد من الرحمة والإبعاد عن الخير ومن الخلق الدعاء بذلك وقد لا يقصد الدعاء بذلك بل يقصد مطلق السب والشتم وهو المراد هنا (وكيف يلعن الرجل والديه) كيف اسم استفهام مبني على الفتح في محل النصب على الحال والاستفهام استبعادي والمعنى على أية حال يلعن الرجل والديه نستبعد أن يحدث ذلك -[فقه الحديث]- يدل الحديث على أن الكبائر متفاوته بعضها أكبر من بعض وهو رأي الجمهور ويدل كذلك على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر وهو

قول عامة الفقهاء وقيل ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهي عنه فهو كبيرة وهو منقول عن ابن عباس وحمل على تميزه عن تسمية معصية الله صغيرة وإن كانت الذنوب من حيث ذاتها تنقسم إلى صغائر وكبائر وفي تحديد أكبر الكبائر أحاديث كثيرة منها "أكبر الكبائر ثلاثة الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور" وزيد في رواية "ومنع فضل الماء" وفي أخرى "اليمين الغموس" وفي أخرى "وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف" والتحقيق أنه أمر نسبي فكل كبيرة إذا قيست بما هو دونها كانت أكبر منها وفي ضابط الكبيرة قيل هي كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب وقيل هي ما ورد فيه حد وقيل هي ما ورد فيه وعيد شديد وقيل غير ذلك وإنما كان السب من أكبر الكبائر لأنه نوع من العقوق وهو إساءة للوالدين وكفران لحقوقهما في مقابلة إحسانهما وإذا كان التسبب في لعن الوالدين من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنهما أشد ولم يذكر العلماء للعقوق ضابطا يعتمد عليه وغاية ما قيل فيه أن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما وما يجب للأجانب فهو واجب لهما وحكى الغزالي أن أكثر العلماء على وجوب طاعتهما في الشبهات بل قال بعض المالكية أنهما إذا نهيا عن سنة راتبة المرة بعد المرة أطاعهما وإن كان ذلك على الدوام فلا طاعة لهما لما فيه من إماتة الشرع -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - سد الذرائع 2 - وأن من آل فعله إلى محرم حرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد ذلك المحرم والأصل في ذلك قوله تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) ومن هنا استنبط العلماء منع بيع الحرير لرجل يتحقق أنه يلبسه ومنع بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمرا ومنع بيع السلاح لمن يتيقن أنه سيقطع به الطريق 3 - وعظم حق الأبوين

4 - والعمل بالغالب لأن الذي يسب أبا الرجل يجوز أن يسب الآخر أباه ويجوز ألا يفعل 5 - وجواز مراجعة الطالب لشيخه فيما يشكل عليه 6 - أن الأصل يفضل الفرع بأصل الوضع ولو فضله الفرع ببعض الصفات. 44 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" -[المعنى العام]- يعلم كل منا رحمة الأم بولدها وتعاطف الوحش على ابنه وحضانة الطير لفراخه وما هذا التراحم المنبث بين الخلق جميعا بالنسبة إلى رحمة الله بعباده إلا كجزء واحد من مائة جزء أمسك الله عنده وادخر لعباده تسعة وتسعين ومنحهم هذا الجزء ليتراحموا فيما بينهم فمن نزعت من قلبه

الرحمة للمخلوقين عامة ولأصوله خاصة حرم رحمة الخلق ورحمة أرحم الراحمين -[المباحث العربية]- (مائة جزء) في رواية (في مائة جزء) فتجعل في متعلقة بمحذوف لإفادة ظرفية الجنس في أنواعه قصدا إلى المبالغة وقال الكرماني "في" زائدة لأن المعنى يتم بدونها (وأنزل في الأرض) وكان القياس أن يقال وأنزل إلى الأرض ولكن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض أو ضمن أنزل معنى وضع للمبالغة يعني أنزلها في جميع الأرض (يتراحم الخلق) التفاعل ليس على بابه أي يرحم بعضهم بعضا أو على بابه من حيث أن الراحم ينبغي أن يرحم (حتى ترفع الفرس حافرها) الحافر للفرس كالظلف للشاة والفعل بالنصب في جميع النسخ (خشية أن تصيبه) المصدر الصريح مفعول لأجله والمنسبك من أن والفعل مجرور بالإضافة -[فقه الحديث]- قال المحدثون أن رحمة الله عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير والقدرة صفة واحدة والتعليق غير متناه فحصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عندنا وتكثيرا لما عند الله وقيل العدد على الحقيقة وخص بذلك لمناسبة عدد درج الجنة التي هي محل الرحمة فكانت كل رحمة بإزاء كل درجة وهذا الرأي لا يلتفت إليه والأول جدير بالقبول وإنما خص الفرس بالذكر لأنها أشد الحيوان المألوف نفورا ولما فيها من الخفة والسرعة في التنقل فإذا تجنب ذلك أن يصل الضرر منها إلى ولدها رحمة به كان غيرها من باب أولى

-[ما يؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على التراحم بين الخلق وإن كان عريزيا بين الأصول والفروع 2 - وبعث الرجاء في واسع الرحمات على إلا يخل ذلك بالخوف المطلوب قال تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} 3 - قال ابن أبي جمرة فيه إدخال السرور على المؤمنين لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها. 45 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى" -[المعنى العام]- يشبه الرسول الكريم صفة المؤمنين التي ينبغي أن يتخلقوا بها بصفة الجسد الواحد فكما أن الجسد إذا مرض عضو من أعضائه تأثر جميعه ومرض كله وكما أن الدماغ يتأثر بشوكة في أصبح القدم مع تباعد ما بينهما ينبغي أن يتأثر المؤمنون بما يصيب أحدهم مهما بعد وكما تعطف اليد على اليد لتغسل إحداهما الأخرى ينبغي أن يتعاون المؤمنون علىتحصيل خيري الدنيا والآخرة وكما يشد بعض البنيان بعضا وتتماسك أعضاء الجسد

لتؤدي مهمتها ويدافع بعضها عن بعض ينبغي أن يتكاتف المؤمنون ليعيشوا في قوة ومنعه بفضل هذه الصفات ساد المسلمون وعزوا وقهروا وحكموا ويتناسيها والبعد عنها ضعفوا وذلوا وقهروا وحكموا فما أوضح النار لذي عينين {إنما يتذكر أولوا الألباب} -[المباحث العربية]- (ترى المؤمنين في تراحمهم) الخطاب لكل من يتأتى له الخطاب والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من المؤمنين والتراحم من باب التفاعل الذي يستدعي اشتراك الجماعة في أصل الفعل والرحمة رقة القلب وفي للسببية أو للظرفية المجازية (وتوادهم) أي تحابهم وأصله تواددهم فأدغمت الدال في الدال وهو تفاعل من الود (وتعاطفهم) أي تعاونهم كما يعطب الثوب على الثوب والحبل على الحبل ليقويه قال بعضهم هذه الألفاظ الثلاثة متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف أما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر ويكون ممن الأعلى للأدنى غالبا وأما التواد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي ويكون بين المتقاربين غالبا وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضا في الملمات والشدائد ويكون من الأدنى إلى الأعلى وبالعكس فالأوصاف الثلاثة تربط بين طوائف المؤمنين في حالات الشدة وحالات الرخاء (كمثل الجسد) الكاف اسم بمعنى مثل مفعول ثان لترى على جعلها علمية وحال على جعلها بصرية أي ترى المؤمنين في حالة كذا وكذا مشبهين صفة الجسد ووجه الشبهة التوافق والتأثر بالتعب والراحة قال القاضي عياض تشبيه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح وذلك بأن شبهت الهيئة الحاصلة من الجسد وأعضائه وارتباط كل عضو بالآخر بجامع

مشاركة المجموع للفرد وارتباط كل بالآخر والغرض من ذلك هو التنبيه على عظم نتيجة التعاطف والحث على التمسك بالاتحاد والتآلف (إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده) أصل الضمائر إذا اشتكى الجسد ألم عضو تداعى لهذا العضو سائر جسده ففاعل "اشتكى" يعود على الجسد وضمير "له" و"جسده" يعودان على العضو ومعنى "تداعى" دعا بعضه بعضا إلى المشاركة في الألم ومنه قولهم تداعت الحيطان أي تساقطت أو كادت أن تتساقط (بالسهر والحمى) والمراد من الحمى الألم والحرارة التي تنبث في جميع البدن فالمعنى إذا تألم عضو من الجسد تأثرت جميع الأعضاء بسبب السهر والألم الذي يسري من مركز الإحساس إلى سائر البدن -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث يتعارض مع ما نراه من تقاطع وتدابر بين المسلمين ولهذا قال العلماء إن المراد من الحديث بيان الشأن والحالة التي ينبغي أن يكونوا عليها ليستحقوا وصف الإيمان أي من علامات إيمان المرء أن يشعر بالألم الذي يحل بإخوانه المؤمنين فإذا فقد هذا الشعور فقد علامة الإيمان ومن فقد علامة الإيمان يخشى عليه فقدان الإيمان نفسه -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام 2 - تعظيم حقوق المسلمين 3 - الحض على تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم وملاطفة بعضهم بعضا.

46 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" -[المعنى العام]- يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم بالجار فيقول أوصاني جبريل بالجار وكرر وصيته مرة بنفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه ومرة يعتبر إكرام الجار علامة من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر ومرة يصف من يؤذي جاره بالخيبة والخسران ومرة يطلب الإهداء إليه وعدم احتقار الجارة لهدية جارتها ولو فرسن شاة فلم يزل يوصيني بأن أوصيكم بالجار حتى ظننت أنه سيأتيني من قبل الله بشرعة توريث الجار في جاره وجعله شريكا له في ماله -[المباحث العربية]- (حتى ظننت أنه سيورثه) أي ظننت أنه يأمرني عن الله بتوريث الجار من جاره وهذا خارج مخرج المبالغة في شدة حفظ حق الجار وقيل معناه ظننت أنه سينزل منزلة من يرث في البر والإحسان والأول أظهر -[فقه الحديث]- إطلاق الجار في الحديث يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والمواطن والضار والنافع وقريب الدار

وبعيدها واختلف في حد الجوار فعن علي رضي الله عنه من سمع النداء فهو جار وقيل من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار وعن عائشة حق الجوار أربعون دارا من كل جانب وقيل لأعرابي النجدة يا جاري فقال نعم جوار ورب الكعبة قال القرطبي يطلق الجار ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب وهو المراد من الحديث ولا يغيب عنا أنه إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه فإنه يكون آكد حق من لا حائل بينه ولا جدار كالزوجة والخدم في المنزل والزملاء في العمل بل قال ابن أبي جمرة ينبغي أن يراعى حق الحافظين اللذين يكتبان على الإنسان أعماله فإنه يؤذيهما إيقاع المخالفات وللجار مراتب بعضها فوق بعض فقد أخرج الطبراني مرفوعا "الجيران ثلاثة جار له حق وهو المشرك له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق وهو مسلم له رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم" وروى البخاري عن عائشة قالت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال "إلى أقربهما منك بابا" وتفترق الحال في حق معاملة الجار باختلاف الصلاح وغيره ويشمل جميع الأنواع أن تعامله بطلاقة الوجه وإرادة الخير والموعظة بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار به أما حق الجار الصالح والتوصية به فقد وردت بها أحاديث كثيرة وأشملها ما أخرجه الطبراني "قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار قال إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته إن مرض عدته وإن احتاج أعطيته وإن افتقر عدت عليه وإن أصابه خير هنأته وإن أصابته مصيبة عزيته وإذا مات اتبعت جنازته ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها وإن اشتريت فاكهة فاهد له وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ ولده" -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تأكيد حق الجار

2 - إن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه 3 - إن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون بخلاف ما إذا كان في طريق الشر 4 - جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم 5 - جواز التحدث عما يقع في النفس من أمور الخير. 47 - عن ثابت بن الضحاك -وكان من أصحاب الشجرة- رضي الله عنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ومن لعن مؤمنا فهو كقتله ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله" -[المعنى العام]- جمع هذا الحديث من الآداب ومحاسن الأخلاق خمسا 1 - ألا يحلف بملة غير ملة الإسلام لئلا يتشبه بأصحابها 2 - وألا ينذر ما لا يملك إذ لا فائدة من هذا النذر وكأنه يعبث مع

الله 3 - وألا يحاول الإنسان التخلص من الحياة بأية وسيلة لئلا يعذب بنفس الوسيلة عذابا دائما في الآخرة 4 - وألا يتعدى على المؤمن باللعن 5 - ولا بالقذف بالكفر فمن فعل ذلك بالمؤمن فكأنما قتله {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} -[المباحث العربية]- (وكان من أصحاب الشجرة) أي شجرة الرضوان بالحديبية وهذه الجملة معترضة لبيان فضل الراوي والتوثيق من روايته (من حلف على ملة غير الإسلام) الملة الدين والشريعة وهي هنا نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل وعلى بمعنى الباء وغير الإسلام صفة ملة أي من حلف بملة مغايرة للإسلام والحلف بالشيء حقيقة في الإقسام به وقد يطلق على التعليق لمشابهته اليمين في قصد المنع وغيره كأن يقال إن فعل كذا كان كذا فالمعنى على الأول من أقسم بملة غير الإسلام كأن قال واليهودية مثلا وعلى الثاني علق ملة غير الإسلام على شيء كأن يقول إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني (فهو كما قال) الفاء داخلة على جواب الشرط والضمير مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو الخبر وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي فهو مثل قوله أو كالذي قاله (وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك) أي وفاء نذر والجار والمجرور "فيما لا يملك" متعلق بنذر أو محذوف صفة له (ومن قتل نفسه بشيء) أعم عن الحديدة والسم والتردي من الجبل المذكور في حديث 41

(ومن لعن مؤمنا فهو كقتله) ضمير "هو" يعود على مصدر دل عليه الفعل أي فلعنه كقتله -[فقه الحديث]- اشتمل هذا الحديث على خمسة أحكام الأول الحلف على ملة غير الإسلام الثاني النذر فيما لا يملك الثالث قتل الإنسان نفسه الرابع لعن المؤمن الخامس قذف المؤمن بالكفر أما الأول فإن من أقسم بملة غير ملة الإسلام فإما أن يكون معظما لها وإما أن يكون غرضه تأكيد ما أقسم عليه دون تعظيم للمقسم به فإن كان الأول فمعنى "فهو كما قال" فهو كافر وإن كان الثاني فمعناه فهو يشبه من يعظم تلك الملة فهو آثم أو فهو معرض نفسه لاستحقاق مثل عذاب من اعتقد ذلك ومن علق ملة غير الإسلام على شيء كأن قال إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا أو إن كنت فعلت كذا فأنا على اليهودية أو النصرانية مثلا فأما أن يقصد حقيقة التعليق بأن يؤيد الاتصاف بذلك على تقدير حصول المعلق عليه فهو كافر سواء علق على أمر وقع أو على أمر لم يقع لأن التعليق على واقع يشبه التنجيز ولأن إرادة الكفر كفر وأما ألا يقصد حقيقة التعليق بأن القصد الابتعاد مثلا -وهو الأغلب- فهو غير كافر لكن يحرم عليه ذلك ولا كفارة عليه وتلزمه التوبة لأنه صلى الله عليه وسلم جعل عقوبته في دينه ولم يوجب في ماله شيئا حيث قال "من حلف فقال في حلفه والعزى فليقل لا إله إلا الله" وأما الثاني فمثله أن يقول إن شفى الله مريضي تصدقت بدار فلان مثلا فليس عليه الوفاء بشيء من هذا النذر لأنه لا يملكها ولا يملك إجبار

صاحبها على بيعها له بخلاف ما لو قال فعلي عتق رقبة وهو يملك ثمنها فإنه يعتبر مالكا لرقبة بالقوة وأما الثالث فقد مضى الكلام عليه في الحديث رقم 41 وأما الرابع فالمراد أن لعن المؤمن كقتله في التحريم أو في العقاب والتقييد بالمؤمن للتشنيع وقيل للاحتراز عن الكافر فيجوز لعنه إذا كان غير معين كقولنا لعن الله الكفار وأما الشخص المعين فلا يجوز لعنه ما دام حيا لجواز أن يوفقه الله للهداية وأما الخامس فالمراد أن من رمى مؤمنا بالكفر كأن قال له يا كافر أو أنت كافر كقتله في قطع المنفعة لأن القاتل يقطع عن المقتول منافع الدنيا والرامي للمؤمن بذلك يقطعه عن منافع الآخرة وقيل فهو كقتله في إثم لأنه بنسبته له إلى الكفر يحكم بقتله فكأنه قتله بناء على أن المتسبب كالفاعل والأولى حمل هذا والذي قبله على التغليظ والتخويف وهو كثير في الاستعمال كأن تسمع تأنيب زميل لزميله بكلمة جارحة فتقول له أنت قتلته بهذه الكلمة كذلك يحرم رمي المؤمن بالفسق فإن قصد نصحه سرا جاز ما لم يؤد ذلك إلى عناد الفاسق وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس وخصوصا إذا كان الآمر دون المأمور في المنزلة -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية 2 - وأن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له بل لله تعالى 3 - النهي عن سباب المؤمن ولعنه.

48 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا" -[المعنى العام]- هدي نبوي كريم وتشريع سماوي حكيم يحذرنا من ظن السوء ومن الاتهام بغير تحقق وبغير دليل "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وينهانا عن أن نتبع خاطر السوء أو نحاول أن نتحقق الظن السيئ بأية حاسة من حواسنا "ولا تحسسوا ولا تجسسوا" ويرشدنا إلى الابتعاد عن كل ما يحدث الشقاق والضغائن لا ترفعوا ثمن السلعة لإيقاع الغير من غير رغبة لكم في شرائها ولا تتمنوا زوال نعمة إخوانكم فإن تمنيكم لن يزيلها ولن يثمر هذا الحسد إلا تآكلا في قلب الحاسد وإلا أسى في نفسه وكمدا وابتعدوا عن أسباب التباغض وعن أسباب التقاطع وتمسكوا بأواصر المحبة وتآلف القلوب فإنكم جميعا عباد الله وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها بالإسلام وكنتم أعداء فأصبحتم بنعمة الإيمان إخوانا فلا ترتدوا بعد هذا كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض واتقوا الله إن الله تواب رحيم -[المباحث العربية]- (إياكم والظن) أصله احذروا تلاقي أنفسكم والظن ثم حذفوا الفعل وفاعله وأقاموا عنه لفظ "ايا" ثم حذفوا المفعول به وهو "تلاقي" ثم

حذف المضاف وهو "أنفس" فانفصل الضمير وانتصب فصار "إياكم" و"الظن" معطوف على هذا الضمير المنصوب (فإن الظن أكذب الحديث) الفاء تعليلية والمراد من الحديث حديث النفس والمراد بالكذب لازمه وهو سوء الأثر (ولا تحسسوا ولا تجسسوا) الأولى بالحاء من الحس وهو الإدراك بإحدى الحواس الخمس والثانية بالجيم من الجس وهو اختبار الشيء باليد فهو عطف الخاص على العام وقيل كلاهما بمعنى واحد فذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدا وسحقا والمراد لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها (ولا تناجشوا) من النجش وهو أن يزيد في السلعة أكثر من ثمنها دون أن يقصد شراءها بل ليغرر غيره فيوقعه فيها وكذلك في النكاح (ولا تحاسدوا) الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحقها أما تمني مثل ما للغير فهو غبطة محمودة وأما تمني زوال النعمة عن ظالم استعمل النعمة في ظلم الناس فإنه لا يسمى حسدا (ولا تباغضوا) أي لا تتعاطوا أسباب البغض لأن البغض نفسه لا يكتسب ابتداء (ولا تدابروا) أصل التدابر أن يعطي كل واحد من المتدابرين أخاه دبره وقفاه والمراد هنا إعراض البعض عن البعض قال الهروي التدابر التقاطع يقال تدابر القوم أي أدبر كل واحد عن صاحبه والتفاعل في الأربعة ليس على بابه حتى يشترط وقوعه من متعدد بل النهي متوجه على الفعل ولو كان من جانب واحد (وكونوا عباد الله إخوانا) عباد الله منصوب على النداء أو على الاختصاص "إخوانا" خبر "كونوا" أو "عباد الله" خبر أول "إخوانا" خبر ثان ويصح أن يكون "عباد الله" خبرا و"إخوانا" بدلا منه قال الحافظ هذه الجملة تشبه النتيجة لما تقدم كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا

مفهومه إذا لم تتركوها تصيرون أعداء -[فقه الحديث]- اشتمل هذا الحديث على جمل من الفوائد والآداب التي لا يستغنى عنها أولها الظن وليس المراد التحذير من العمل بالظن الذي هو محل الاجتهاد ومناط الأحكام الشرعية غالبا وهو إدراك الحكم إدراكا راجحا عن دليل شرعي بل المراد التحذير من ظن السوء بالمسلم من غير دليل أو من الظن الذي يضر بالمظنون به ومصداق ذلك قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} وقد استشكل وصف الظن بأنه أكذب الحديث مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الكذب الذي يستند إلى الظن وأجيب بأن اغترار صاحبه به أكثر فسوء أثره نفسه أعظم من سوء أثر الكذب الذي يتعمده وسوء أثره عند الناس أعظم أيضا لأن صاحبه قد يكون ممن لا يعهد الناس عليه كذبا فيصدقونه فتحدث العداوة والبغضاء بينهم وبين المظنون فيه ثانيها التحسس والتجسس وفي ذكرهما بعد التحذير من الظن مناسبة لطيفة فقد يقول الظان أبحث لا تحقق فيقال له "ولا تجسسوا" ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طرقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبره ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما فيشرع في مثل هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك ثالثها التناجش وقد مضى تفصيل حكمه في كتاب البيوع في مقرر السنة الثالثة الثانوية رابعها التحاسد وظاهر الحديث النهي عن وقوع الحسد من الجانبين لكن النهي ليس مقصورا على وقوعه من اثنين فصاعدا بل هو مذموم ومنهي عنه ولو وقع من واحد سواء كان الدافع كراهية وجود النعمة عند الغير أو محبة انتقالها إلى الحاسد وسواء سعى في ذلك أو لا فإن

سعى كان باغيا وإن لم يسع لعجزه فهو آثم وإن لم يسع لتقوى فقد يعذر لأنه لا يملك دفع الخواطر النفسية ويكفيه مجاهدة نفسه ويشكل على هذا الحديث ما روي ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة والظن والحسد ويجاب بما روي "قيل فما المخرج منهن يا رسول الله قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ" خامسها التباغض ولا يشترط وقوعه من جانبين والتبغض المذموم ما كان لغير الله أما التباغض في الله بأن تبغض شخصا لمعصيته فهو واجب يثاب عليه سادسها التدابر بمعنى تولية الدبر وهو يتجه للمعاداة أو المهاجرة أو الاستبداد بالشيء أو الجدال أو عدم التعاون أو عدم إفشاء السلام ولهذا جاء تفسيره بكل هذه المعاني سابعها كونوا عباد الله إخوانا أي اكتسبوا ما تكونوا به إخوانا كإخوان النسب وهذا أمر يشمل جميع ما ذكره وغيره من الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والنصيحة وغير ذلك مما تقتضيه الأخوة وفي النداء بيا عباد الله إشعار بعلة هذا الأمر يعني كونوا إخوانا لأنكم مستوون في كونكم عبيدا لله تعالى وتجمعكم ملة واحدة ومن كان شأنهم كذلك لم يصدر عنهم ما يتنافى وما ينبغي فالواجب أن تكونوا كالإخوة من النسب.

49 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" -[المعنى العام]- يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على تحري الصدق والاعتناء به ويحذر من الكذب والتساهل فيه فيقول إن الصدق في النية وفي القول يوصل إلى الخير والطاعة والخير والطاعة يوصلان إلى الجنة وإن الذي يصدق ويقصد الصدق ويحافظ عليه يكتبه الله في دواوين الحفظة صديقا ويلقي في قلوب الناس وعلى ألسنتهم الوثوق به والاطمئنان إليه فتربح تجارته ويعظم قدره وإن الكذب في القول أو في النية يوصل إلى الفساد والمعاصي والفساد والمعاصي يوصلان إلى النار وإن الذي يكذب ويتكرر منه الكذب ويتساهل فيه ينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتبه الله عند ملائكته من الكذابين ويلقي في قلوب أهل الأرض وعلى ألسنتهم عدم الثقة به فيفقد الاطمئنان إلى معاملته ويبوء في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالخزي والخسران

-[المباحث العربية]- (عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه وهو المراد عند إطلاق البخاري إذا كان الراوي عنه كوفيا (إن الصدق يهدي إلى البر) وفي رواية "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر" والصدق يطلق على صدق اللسان وهو مطابقة الخبر للواقع وعلى صدق النية وهو الإخلاص في القول والفعل وهذا يستلزم صدق اللسان لاقتضائه استواء سريرة المخلص وعلانيته (ويهدي) من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى البغية (البر) أصله التوسع في الخير والمراد به العمل الخالص من كل مذموم وهو اسم جامع للخيرات كلها (وإن الرجل ليصدق) زاد في رواية (ويتحرى الصدق) (حتى يكون) وفي رواية "حتى يكتب عند الله" (صديقا) صيغة مبالغة قال ابن بطال أراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) قال الراغب أصل الفجر الشق فالفجور شق ستر الديانة ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي وهو اسم جامع للشرور وهو والبر متقابلان قال تعالى {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} -[فقه الحديث]- ظاهر قوله (حتى يكتب عند الله كذابا) يتعارض مع ما ثبت من أن حكم الله أزلي ولهذا قيل في معناه حتى يظهره الله للملأ الأعلى أو حتى يلقي الله ذلك في قلوب الناس وألسنتهم ويكتبوا اسمه مع أسماء الكذابين فيستحق بذلك صفتهم وعقابهم وزيادة (ويتحرى الصدق) و (يتحرى الكذب) في بعض الروايات تشير إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار الصدق سجية له حتى يستحق الوصف به وكذلك عكسه

وهذا الحديث يتعارض ظاهره مع ما روي (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيكون المؤمن كذابا قال لا) ومع حديث (يطبع المؤمن على كل شيء ليس الخيانة والكذب) وأجيب بأن المراد لا يكون المؤمن الكامل المستكمل لأعلى درجات الإيمان كذابا حتى يغلبه الكذب لأن كذابا من أبنية المبالغة لمن يكثر الكذب منه ويتكرر حتى يعرف به قال الغزالي الكذب من قبائح الذنوب وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب إن لم ينشأ عنه ضرر مباحا وليس كذلك ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الترغيب في الصدق وتحريه والاعتناء به 2 - التحذير من الكذب والتساهل فيه 3 - أن الخير لا يؤدي إلا إلى خير أكثر غالبا 4 - وإن الشر ينتج شرا أكبر 5 - عدم الاستهانة بالقليل فمعظم النار من مستصغر الشرر.

50 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقيل له فقال هذا حمد الله وهذا لم يحمد الله -[المعنى العام]- قدم عامر بن الطفيل بن مالك الفارس المشهور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى بينه وبين ثابت بن قيس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كلام ثم عطس ابن أخيه فحمد الله فقال له صلى الله عليه وسلم يرحمك الله ثم عطس عامر -وكان كافرا- فلم يحمد فلم يشمته فقال يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني وأنا أكبر منه سنا ومقاما فقال صلى الله عليه وسلم هذا ذكر الله فذكرته وأنت نسيت الله فتناسيتك -[المباحث العربية]- (عطش رجلان) بفتح الطاء من باب ضرب وقتل والاسم العطاس وهو انحدار الرطوبة من تجويف في الجبهة إلى الأنف من قناة وأصله بينهما وبقاء هذه الرطوبة يفسد الدماغ ويثقل الجسم فالعطاس يوقظ الفكر وينشط الجسم والرجلان عامر بن الطفيل وابن أخيه كما جاء في رواية الطبراني وفي رواية للبخاري "أحدهما أشرف من الآخر وإن الشريف لم يحمد الله" (فشمت أحدهما) من التشميت وأصله إزالة شماته الأعداء والتفعيل يأتي للسلب نحو قشرت الشجرة أزلت قشرتها فاستعمل للدعاء بالخير وهو قولك للعاطس "يرحمك الله" وقيل معناه صان الله شوامتك أي قوائمك التي بها قوامك فقوام الدابة مثلا بسلامة قوائمها التي تنتفع بها إذا سلمت وقوائم الإنسان التي بها قوامه الرأس وما اتصل به من عنق وصدر وفي رواية "فسمت" بالسين فيكون دعاء له بأن يكون على سمت حسن قال ابن العربي المعنى على كلا اللفظين -شمت وسمت- بديع

وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق والصدر فإذا قيل له يرحمك الله كان معناه أعطاك الله رحمة يرجع بها كل عضو إلى حاله فالتسميت بالسين رجوع كل عضو إلى سمته والتشميت بالشين الدعاء بسلامة ما به قوام الإنسان (فقيل له) القائل هو العاطس الذي لم يحمد الله كما جاء في بعض الروايات والمقول محذوف للعلم به أي قيل له يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني والمعنى على تقدير الاستفهام أي فلم فرقت في المعاملة -[فقه الحديث]- الكلام على الحديث يتناول النقاط التالية 1 - حكم حمد الله عند العطاس وكيفيته وحكمه مشروعيته 2 - آراء الفقهاء في حكم التشميت والأحوال التي لا يشرع فيها 3 - كيفية التشميت وحكمة مشروعيته 4 - ما يقوله العاطس بعد التشميت 5 - الآداب التي ينبغي أن يراعيها العاطس 6 - ما يؤخذ من الحديث وهذا هو التفصيل: 1 - نقل النووي الاتفاق على استحباب الحمد للعاطس وأن يرفع به صوته وأما لفظه فنقل ابن بطال عن طائفة أنه لا يزيد على الحمد لله وعن طائفة يقول الحمد لله على كل حال وعن طائفة يقول الحمد لله رب العالمين وروي عن ابن عباس أنه قال إذا عطس الرجل فقال الحمد لله قال الملك رب العالمين فإن قال رب العالمين قال الملك يرحمك الله وعن طائفة ما زاد من الثناء فيما يتعلق بالحمد فهو حسن فقد أخرج الطبري عن أم سلمة قالت "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحمد لله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك الله" وعطس آخر فقال

الحمد لله رب العالمين حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه فقال صلى الله عليه وسلم "ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة" وأخرج الترمذي عن رفاعة ابن رافع قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما انصرف قال من المتكلم ثلاثا فقلت أنا يا رسول الله فقال "والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها" قال الحافظ ابن حجر ولا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة بعد قوله الحمد لله رب العالمين وكذا العدول عن الحمد إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على الحمد وحكمة مشروعية الحمد أن العطاس يدفع الأذى عن الدماغ الذي بسلامته تسلم الأعضاء ويخرج الفضلات ويصفي الروح فهو نعمة جليلة يناسبها أن تقابل بالحمد 2 - أما حكم التشميت فسيأتي تفصيله وتفصيل المواضع التي يشرع فيها والتي لا يشرع فيها في الحديث التالي رقم (51) 3 - أما لفظ التشميت فقد قال ابن بطال أنه "يرحمك الله" يخصه بالدعاء وحده وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال يقول يرحمنا الله وإياكم وعن ابن عباس يقول "عافانا الله وإياكم من النار يرحمكم الله" وحكمة مشروعيته تحصيل المودة والتأليف بين المسلمين وتأديب العاطس بتخلية نفسه من الكبر وتحليتها بالتواضع لما في ذلك من ذكر الرحمة والإشعار بالذنب لا يعرى عنه أكثر المكلفين ذكره ابن دقيق العيد 4 - ويقول العاطس بعد التشميت يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم وقيل يقول يهديكم الله ويصلح بالكم قال ابن بطال ذهب مالك والشافعي إلى أنه يتخير بين اللفظين قال ابن رشد والجمع بينهما أحسن إلا للذمي 5 - ومن آداب العاطس 1 - أن يخفض بالعطاس صوته

2 - وأن يرفعه بالحمد 3 - وأن يغطي وجهه لئلا يبدو من فمه وأنفه ما يؤذي جليسه 4 - وألا يلوي عنقه يمينا أو شمالا يتضرر بذلك 6 - [ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية الحمد للعاطس 2 - طلب التشميت لمن حمد الله وهو مجمع عليه 3 - جواز السؤال عن علة الحكم 4 - بيان علة الحكم للسائل إذا كان في ذلك منفعة له 5 - أن العاطس الكافر إذا لم يحمد لم يلقن الحمد ليحمد فيشمت. 51 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا

على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان" -[المعنى العام]- إن الله يحب العطاس لأنه ينشأ من خفة البدن وينشأ عنه النشاط في العبادة ويكره التثاؤب لأنه ينشأ عن امتلاء المعدة وكسل التفكير ويتبعه التراخي في العبادة فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان على كل مسلم سمع عطاسه وحمده أن يشمته فيقول له يرحمك الله وأما التثاؤب فهو من إغواء الشيطان ليفتح الإنسان فاه ويقول ها ويعوي كما يعوي الكلب فيتمكن الشيطان منه ومن تنحيته عن ذكر الله فليتجنب المسلم أسباب التثاؤب فإذا أشرف عليه فليدفعه وليكظم قدر استطاعته فإن لم يستطع فليضع يده أو ثوبه على فمه وليقبض شفتيه لئلا يضحك الشيطان من قبح شكله وهيئته ويفرح بنجاح خطته ويسخر من المسلم ومن ضعف عزيمته -[المباحث العربية]- (إن الله يحب العطاس) المحبة هنا باعتبار سبب العطاس الذي هو عدم التوسع في الأكل فتنفتح المسام وصمائم الأجهزة المخرجة للسموم والرطوبات من الدماغ وسائر الجسد فيخف البدن وينشط الفكر فيكون داعية إلى النشاط في العبادة وباعتبار ما يترتب على العطاس من الحمد والتشميت إلى غير ذلك (ويكره التثاؤب) وهو النفس الذي ينفتح منه الفم والكراهة هنا باعتبار السبب أيضا وهو التوسع في الأكل حيث يمتلئ الجسم ويزيد الضغط على الأوعية فتكثر فيها الأسدة وتتعطل الأجهزة المفرزة للسموم فيثقل الجسم ويضعف الفكر ويستولي الكسل وتنحط الهمة عن العبادة

(كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان "حقا" خبرها والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة "حقا" وجملة "سمعه" صفة "مسلم" وجملة "كان" جواب "إذا" وهو العامل فيها (فيرده ما استطاع) ما ظرفية مصدرية أي مدة استطاعته -[فقه الحديث]- نقاط الحديث تتلخص في 1 - حكم التشميت والأحوال التي لا يشرع فيها 2 - توجيه كون التثاؤب من الشيطان 3 - حكم التثاؤب وكيفية رده 4 - توجيه ضحك الشيطان من المتثائب 5 - ما يؤخذ من الحديث وهذا هو التفصيل 1 - استبدل جمهور أهل الظاهر وجماعة من المالكية بقوله "كان" حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له "يرحمك الله" على أن التشميت واجب عيني وقال الحنفية وجمهور الحنابلة وهو الراجح عند المالكية إن قوله (على كل مسلم) محمول على حال انفراد السامع فإذا سمع العاطس اثنان فأكثر كان التشميت واجبا على الكفاية فيسقط الإثم بتشميت بعضهم وقال الشافعية وبعض المالكية إن المراد من الحديث أن التشميت حق في حسن الأدب ومكارم الأخلاق فهو مستحب عينا إن انفرد السامع وإلا فعلى الكفاية والأمر بالتشميت ظاهر في عموم من حمد الله أما من لم يحمد الله فقد قال النووي يستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف وزعم ابن العربي أن الذي يذكر بالحمد جاهل لأنه يلزم نفسه بما لم يلزمها ثم قال ابن العربي لو ذكر وشمت فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين جهالة

التذكير السابقة وجهالة إيقاع التشميت قبل وجود الحمد من العاطس وقد خطأ العلماء ابن العربي فيما زعم والصواب استحباب التذكير كذلك يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وإن لم يسمعه لعموم الأمر به لمن عطس فحمد كذا قيل وقال النووي المختار أنه من سمعه دون غيره واستثنى العلماء ممن يشمت 1 - الكافر قال ابن دقيق العيد إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة أن التشميت الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا وقد روى أبو موسى الأشعري قال كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم قال ابن حجر هذا الحديث يدل على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت لكن لهم تشميت خاص وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال 2 - والمزكوم الذي تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث قال النووي إذا تكرر العطاس متتابعا فالسنة أن يشمته لكل مرة إلى أن يبلغ ثلاث مرات فيقول له في الثالثة أنت مزكوم ومعناه أنك لست ممن يشمت بعدها لأن الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن قال ابن حجر فإن قيل فإذا كان مريضا فإنه ينبغي أن يشمت بطريق الأولى لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره قلنا نعم لكن يدعي له بدعاء آخر يلائمه كالدعاء بالعافية والشفاء لا بالدعاء المشروع للعاطس وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه يكرر التشميت إذا تكرر العطاس حتى يعرف أنه مزكوم ولو زاد على ثلاث ومعنى ذلك أن الأمر بالتشميت يسقط عند العلم بالزكام ولو بدون تكرار 3 - ومن عرف من حاله أنه يكره التشميت فإنه لا يشمت إجلالا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه ولا يقال كيف تترك السنة لذلك فإنما

هي سنة لمن أحبها أما من كرهها ورغب عنها فلا ويطرد ذلك من السلام وعيادة المريض قال ابن دقيق العيد والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا مع من خاف منه ضررا فأما غيره فيشمت امتثالا للأمر ومناقضة للتكبر في مراده وكسرا لسورته في ذلك وهو أولى من إجلال التشميت 4 - ومن عطس والإمام يخطب فإن التشميت يتعارض والأمر بالإنصات لمن سمع الخطيب فتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة 5 - ومن كان عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله كما إذا كان على الخلاء أو في الجماع ثم يحمد الله بعد الفراغ من ذلك فيشمت 6 - ومعنى كون التثاؤب من الشيطان أنه الذي يزين للنفس شهواتها من امتلاء المعدة بكثرة الأكل فينشأ عنه التكاسل وقال ابن العربي كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته وقال ابن بطال إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبا لأنها حالة تتغير فيها صورته لا إن المراد أن الشيطان هو الذي فعل التثاؤب 7 - والتثاؤب مكروه وكراهته في الصلاة أشد منها في غيرها والمسلم مأمور بالأخذ من أسباب رده بوضع يده على فمه وبإطباق الشفتين وبزجر النفس وبعدم رفع الصوت لأن التثاؤب إذا وقع فلا يمكن رده وإنما يمكن تخفيفه بما ذكر أو المعنى إذا أراد أحدكم أن يتثاءب 8 - أما ضحك الشيطان من المتثائب فمحمول على التنفير ويؤيد ذلك ما جاء عند ابن ماجه "فليضع يده على فيه ولا يعوي" فإن التعبير بيعوي الذي هو فعل الكلب استقباح وأي استقباح وقيل الضحك مجاز عن الرضا لأن التثاؤب دليل الغفلة عن ذكر الله ونتيجة لإغواء الشيطان على التوسع في الأكل وقيل الضحك على حقيقته فرحا بتشويه صورة الإنسان وخروجه عن اعتدال الهيئة وقد رجحه الشرقاوي وعلله بأنه لا ضرورة تدعو إلى

العدول عن الحقيقة ومن الخصائص النبوية ما أخرجه البخاري "ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وما أخرجه الخطابي "ما تثاءب نبي قط" -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية العطاس 2 - كراهة التثاؤب والتنفير منه 3 - مشروعية حمد العاطس 4 - مشروعية التشميت بعد الحمد 5 - مشروعية رد التثاؤب جهد الاستطاعة 6 - استحباب ما يؤدي إلى العطاس المحمود من خفة الأكل وغيرها 7 - كراهة ما يؤدي إلى التثاؤب ككثرة الأكل وغيرها.

كتاب الاستئذان

كتاب الاستئذان الاستئذان طلب الإذن فيما لا يملكه المستأذن وهو واجب لدخول مكان غير مملوك بنص الكتاب قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} أي تستأذنوا وتسلمواوقرئ به وقيل معناه حتى تتنحنحوا وأصله طلب الإيناس ضد الإيحاش وظاهر الآية أن الاستئذان مقدم على السلام لكن جاء في السنة ما يفيد عكسه روى أبو داود "استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال أألج فقال لخادمه أخرج لهذا فعلمه فقال قل السلام عليكم أدخل وأجمع العلماء بأن السلام يقدم إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل وإلا قدم الاستئذان ويستأذن ثلاثا الأولى ليسمع والثانية ليستعد له المالك والثالثة ليأذن له فإن لم يوجد أحد من الآذنين فلا ينبغي الدخول بل ينبغي الصبر حتى يوجد من يأذن فإن وجد المالك ولم يأذن سواء قال أرجع صراحة أو فهم عدم الإذن منه بالقرائن وجب الرجوع وعدم الوقوف على الأبواب وأصل مشروعيته الاحتراز من وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحب المنزل النظر إليه لو دخل بلا إذن ومن هذا يعلم أنه واجب ولو تحقق خلو المنزل من النساء كما يجب عند الاستئذان صرف البصر وكف الأذى وعدم التضييق على المارين وعدم احتقارهم والاستهزاء بهم فإن قيل له من ذا فلا يقل أنا ويسكت بل يذكر ما يبين عن شخصيته قال النووي إذا لم يقع التعريف إلا بأن يكفي المرء نفسه لم يكره ذلك وكذا لا بأس أن يقول أنا الشيخ فلان إذا لم يحصل التمييز إلا بذلك أما الاستئذان في دخول بيت يملكه فهو مشروع إن كان

فيه أهله ليتأهبوا له فلا يصادف حالا يكرهها 52 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير" -[المعنى العام]- شرع الله السلام بين عباده ليستأنسوا فلا يستوحش مسلم من مسلم ولينمو الود وتزداد المحبة والتآلف وقد بين الرسول الكريم في هذا الحديث من يطلب منه البدء بالسلام لئلا يكون للناس حجة ولئلا يلقي بعضهم التبعة على بعض فقال ليسلم الصغير سنا على الكبير والمار ماشيا أو راكبا على القاعد والمضطجع والقليل عددا على الكثير -[المباحث العربية]- (يسلم الصغير على الكبير) خبر في معنى الأمر وقد ورد صريحا بلفظ "ليسلم" والسلام مصدر سلم وهو اسم من أسماء الله تعالى بمعنى أنه ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ويطلق بمعنى التحية وهو المراد هنا والصغر والكبر أمر نسبي وهما إذا أطلقا أطلقا انصرفا إلى السن وقد يحملان على المقام الديني أو الدنيوي -[فقه الحديث]- يتناول شرح الحديث النقاط التالية 1 - حكم إلقاء السلام والرد عليه 2 - لفظهما المطلوب شرعا وحكم ألفاظ التحيات الجارية 3 - المواطن التي لا يشرع فيها 4 - بيان المطالب بالبدء بالسلام والحكم إذا لم يبدأ

5 - متفرقات وهذا هو التفصيل أولا إفشاء السلام سنة عينية للواحد كفاية للجماعة على من يعرف وعلى من لا يعرف نعم ذكر الماوردي أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق لا يسلم إلا على بعض من لقي لأنه لو سلم على الكل لتشاغل عن المهم الذي خرج لأجله ولشغل الناس عن مصالحهم وخرج بذلك عن العرف والمألوف كما قال لو دخل شخص مجلسا فإن كان الجمع قليلا يعمهم سلام واحد فسلم كفاه ولو كان كثيرا ينتشر فيهم السلام يبتدئ أول دخوله بمن شاهدهم وتتأدى سنة السلام في حق جميع من يسمعه وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم ممن لم يسمعه وجهان أما رد السلام فواجب على من سمعه على الكفاية إن قام به البعض سقط الإثم عن الباقين واختص بالثواب من قام بالرد وإلا أثموا جميعا ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة واحدة قاصدا جميعهم أجزاه ما لم يحصل فاصل ضار والظاهر وجوب الرد على من سمع السلام من المذياع أو قرأه في كتاب لأن السلام دعاء بالأمن والرحمة فإذا حيا المذيع السامعين بهذه التحية لزمهم أن يحيوه وأن يدعوا له بأحسن منها أو يردوها نعم يشترط إسماع المسلم الرد حيث أمكن لما في ذلك من تطييب الخاطر وشرح الصدر ومقابلة الإحسان بالإحسان ويشترط كون الرد على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جوابا وكان آثما بتركه ثانيا أما لفظه المطلوب شرعا فهو السلام عليكم فإن كان واحدا صح أن يخاطبه بالإفراد والأفضل الجمع ليتناول الملائكة ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم وهذا أقل ألفاظه وأكمل منه زيادة ورحمة الله وبركاته اقتداء بقوله عز وجل {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} ويكره أن يقول المبتدئ عليك السلام فقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى فإن قالها استحق الجواب على الصحيح والأفضل الأكمل في الرد أن يقول عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويأتي بالواو قال النووي فلو حذفها جاز وكان

تاركا للأفضل ولو اقتصر علي وعليكم السلام اجزأه ولو اقتصر على عليكم لم يجزه قال النووي لو قال وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان فالمماثلة بين الرد والتحية واجبة والزيادة مندوبة ولا يعد نحو صبحك الله بالخير أو قواك الله أو مرحبا أو أهلا وسهلا أو نحو ذلك مما هو شائع في أيامنا لا يعد ذلك تحية شرعية ولا يستحق قائله جوابا والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ثالثا واستثنى ممن يسلم عليهم 1 - الكافر فلا يسلم عليه ابتداء لقوله صلى الله عليه وسلم لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه ورخص بعض العلماء ابتداء أهل الكتاب بالسلام إذا دعت إليه داعية ونصوا على جواز الدعاء لهم بطول البقاء ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالرد عليه لكن لا يزيد في الجواب على قوله وعليك وإذا سلم على رجل ظنه مسلما فبان كافرا استحب أن يرد سلامه فيقول رد علي سلامي والمقصود من ذلك أن يوحشه 2 - والفاسق لا يسلم عليه عند الجمهور بل يسن تركه على مجاهر بفسقه قال النووي إلا أن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم ولا يجب رد سلام الفاسق زجرا له ولغيره 3 - ولا يسلم الرجل على المرأة الشابة الأجنبية ويحرم عليها ابتداؤه ويكره له رد سلامها والفرق أن ردها يطمعه فيها أكثر بخلاف رده عليها ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة وسلام محرم عليها وسلام الرجل على عجوز لا تشتهى وقال بعضهم لا يسلم الرجل على النساء مطلقا إذا لم يكن منهن ذات محرم 4 - ولا يسلم على المشتغل بالأكل حال مضغه وبلعه ويشرع قبل وضع اللقمة في الفم إذا علم أن ذلك لا يؤذيه 5 - ولا على مشتغل بجماع

6 - ولا على من كان في الخلاء 7 - أو في الحمام 8 - أو كان نائما 9 - أو مصليا 10 - أو مؤذنا 11 - أو مستمعا للخطبة 12 - أو في درس العلم 13 - أو مكشوف العورة 14 - أو معه امرأة شابة 15 - ولا يسلم الخصم على القاضي ولو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد رابعا والبدء بالسلام مطلوب من الداخل على أهل المنزل لأنه هو الذي يتوقع منه الشر فإذا ابتدأ بالسلام أمن منه ذلك وأنس إليه ويشبهه القادم على الجالس والمار على القاعد والراكب على الماشي فإذا لم توجد هذه الأوصاف كأن حصل التساوي مشيا أو ركوبا طلب من المفضول بنوع ما إن يبدأ الفاضل من باب معرفة حق الفاضل وتوقيره والتواضع له فالصغير يسلم على الكبير والقليل يبدأ الكثير ولو تزاحمت جهات البداءة بالسلام كأن مر كبير على صغير فالمعتبر المرور كما قال النووي فالوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا ولو استوى المتلاقيان كأن كانا ماشيين أو راكبين وقد استويا في السن بدأ الأدنى منهما الأعلى قدرا في العلم أو الدين ولا ينظر إلى أعلاهما قدرا من جهة الدنيا إلا أن يكون سلطانا يخشى منه فإن استويا في القدر كذلك فكل منهما مأمور بالابتداء وخيرهما الذي يبدأ بالسلام فإن سلم كل على الآخر مرتبا كان الثاني جوابا فإن سلم كل على الآخر معا لزم كلا منهما الرد قال بعضهم إن هذه المناسبات لم تنصب منصب العلل

الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها فلو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى لأنه دال على الاستحباب ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة بل يكون خلاف الأولى فلو لم يسلم المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان الأولى تاركا المستحب والآخر فاعلا للسنة خامسا ومن المسائل المتفرقة التي تتعلق بالسلام 1 - أنه يشرع التسليم على الصبيان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذ فيه تدريب لهم على تعلم السنة ورياضة لهم على آداب الشريعة ليبلغوا متأدبين بآدابها هذا إذا لم يكن الصبي وضيئا يخشى منه الافتتان ولو سلم الصبي على البالغ وجب عليه الرد على الصحيح 2 - والتسليم بالإشارة وحدها لا يكفي حيث أمكن النطق والسماع بل ورد الزجر عنه في حديث "لا تشبهوا باليهود والنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة وتسليم النصارى بالأكف" وتكفي من الأخرس الإشارة والظاهر أنها تكفي وحدها مع البعد الذي لا يبلغه الصوت ويجب في الرد على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي جاز وهو -مع القدرة على العربي- من باب ترك المستحب وليس بمكروه وفي استحقاقه الجواب خلاف 3 - والمصافحة بأخذ اليد باليد سنة مجمع عليها عند التلاقي لأنها مما يولد المحبة ومن تمامها أخذ الكف بين الكفين ومن آدابها ألا ينزع يده حتى يكون البادئ بها هو الذي ينزع يده ولا يصرف وجهه حتى يكون هو الذي يصرفه ويستثنى من المصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن 4 - قال ابن بطال اختلف الناس في المعانقة والتقبيل فكرههما مالك لما رواه الترمذي "قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض قال لا قلنا أفيقبل بعضنا بعضا قال لا قلنا أفيصافح بعضنا بعضا

قال نعم" والجمهور على أنهما لا بأس بهما عند القدوم من السفر 5 - وأفتى البعض بكراهة الانحناء بالرأس أو الظهر وتقبيل الرأس أو اليد ولا سيما لنحو غني. وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبل يد عمر رضي الله عنهما وأنكر مالك تقبيل اليد وأنكر ما ورد فيه وهو محمول على ما إذا كان على وجه التكبر 6 - والقيام على وجه البر والإكرام جائز ولا ينبغي لمن يقام له مهما كان كبيرا أن يعتقد استحقاقه لذلك حتى إن ترك القيام له حنق أو عاتب أو شكا -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية السلام 2 - ما ينبغي للكبير من التقدير والإجلال والدعاء بالذكر الجميل 3 - حرص الإسلام على التآلف والتعاطف بين أفراده.

كتاب الرقاق

كتاب الرقاق الرقاق بكسر الراء جمع رقيقة وفي بعض الكتب كتاب الرقائق والمعنى واحد قال الراغب متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة كثوب رفيق وثوب صفيق ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسيه سميت الأحاديث المذكورة في هذا الكتاب بذلك لما فيها من الوعظ والتنبيه الذي يجعل القلب رقيقا فكأنه قال كتاب الكلمات المرققة للقلوب 53 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" -[المعنى العام]- يدعو الرسول إلى المثابرة في عمل الدنيا والآخرة فيقول نعمتان لا يقدرهما كثير من الناس حق قدرها ولا ينظر في عاقبتهما حتى يخسرهما هما الصحة التي يتمتع بها والفراغ الذي يضيعه وقد كان يستطيع أن يستغل صحته وفراغه في طاعة ربه -[المباحث العربية]- (نعمتان) تثنية نعمة وهي الحالة الحسنة وقيل هي الفعلة على جهة الإحسان إلى الغير

(مغبون فيهما كثير من الناس) إما مشتق من الغبن بسكون الباء وهو النقص في البيع وإما من الغبن بفتح الباء وهو النقص في الرأي فكأنه قال هذان الأمران إذا لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما أي باعهما ببخس لا تحمد عقباه أو ليس له في ذلك رأي و"كثير" مرفوع بالابتداء و"مغبون" خبر مقدم والجملة خبر "نعمتان" (الصحة والفراغ) خبر مبتدأ محذوف تقديره هما الصحة والفراغ والجملة استئناف لبيان النعمتين ففيه التفصيل بعد الإجمال -[فقه الحديث]- يرمي الحديث إلى التشمير والجد والعمل والحرص على النعمة والاستفادة منها واختار من النعم التي لا تحصى نعمتين خصهما من بينها لعظم فائدتهما وكثرة الغافلين عن استغلالهما بأنك لا تكاد ترى من يذكر الصحة إلا من فقدها حتى قال بعضهم الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى كما أن كثيرا من الناس لا يحسب للزمن حسابا فيقطعه في اللهو ويستكثر الفراغ ويؤخر الهام من الأمور إلى الغد وهو لا يدري أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم موجود غدا وأن الأيام التي تمر محسوبة من العمر المحدود وكان الرسول في هذا الحديث يقول الصحة والفراغ إن لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما فيهما أي باعهما ببخس لا تحمد عاقبته فإن الإنسان إذا لم يعمل الطاعة في زمن صحته ففي زمن المرض من باب أولى وكذلك شأنه في الفراغ أيضا وقد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لانشغاله بالمعاش وبالعكس فإذا تهيأ للعبد الصحة والفراغ وقصر في نيل الفضائل فذلك هو الغبن كل الغبن لأن الدنيا سوق الأرباح وتجارة الآخرة فمن استغل فراغه وصحته في طاعة مولاه فهو المغبوط ومن استعملها في معصيته فهو المغبون لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم قال صلى الله عليه وسلم "أغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك"

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن الصحة والفراغ من النعم العظيمة التي يمكن أن تعود بالنفع الأكبر على الإنسان 2 - أن الغافلين عن استغلال النعم فيما وضعت له كثير قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} 3 - الحث على الاستفادة من الصحة قبل المرض ومن الفراغ قبل الانشغال. 54 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" -[المعنى العام]- طبع الله الإنسان على حب المال والسعي في طلبه وعدم الشبع منه حتى لو ملك جبلا من ذهب لتمنى جبلا ثانيا ولو ملك جبلين من ذهب وفضة لتمنى ثالثا وهكذا لا يقنع حتى يموت ويدفن وحتى يمتلئ فمه وعيناه وجوفه بعد الفناء بالتراب وخير الناس من عصمه الله من هذا الشر ورزقه غنى النفس وجعل دنياه في يده لا قلبه وإن خير الناس من إذا أعطي الدنيا جعلها وسيلة للآخرة وقال كما قال عمر حينما صبت أمامه كنوز

كسرى اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا اللهم الهمنا الرضا وارزقنا أن ننفقه فيما يرضيك يا رب العالمين -[المباحث العربية]- (لو كان لابن آدم واديان) تثنية واد وهو كل منفرج بين جبال أو آكام وهو منفذ السيل وفي رواية "لو كان لابن آدم مثل واد مالا" وفي أخرى "لو أن ابن آدم أعطي واديا" وفي أخرى "لو أن لابن آدم واديين" قال الشرقاوي وهنا نكتة دقيقة فإنه ذكر ابن آدم ولم يقل لو كان للإنسان تلويحا إلى أنه مخلوق من التراب ومن طبعه القبض واليبس فيمكن إزالته بأن يمطر الله عليه توفيقه فيثمر حينئذ الخلال الزكية (من مال) وفي رواية "من ذهب" وفي أخرى "من ذهب وفضة" (لابتغى) أي لطلب وفي رواية "لأحب أن له إليه مثله" وفي أخرى لتمنى مثله ثم تمنى حتى يتمنى أودية (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) وقعت هذه الجملة موقع التذييل والتقرير للكلام السابق كأنه قيل لا يشبع من خلق من التراب إلا بالتراب وفي رواية "ولا يملأ عين ابن آدم" وفي أخرى "ولا يسد جوف ابن آدم" وفي أخرى "ولن يملأ فا ابن آدم" قال الكرماني ليس المقصود من هذه التعبيرات الحقيقة بل هو كناية عن الموت لأنه مستلزم للامتلاء فكأنه قال لا يشبع من الدنيا حتى يموت فالغرض من العبارات كلها واحد وليس فيها إلا التفنن في الكلام قال الحافظ وهذا يحسن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة وقال بعضهم إن نسبة الامتلاء إلى الجوف والبطن واضحة أما نسبته إلى النفس التي عبر بها عن الذات وأريد منها البطن فمن قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء وأما نسبته إلى الفم فلكونه الطريق الموصل إلى الجوف وأما نسبته إلى العين فلأنها الأصل في الطلب لأنه يرى ما يعجبه فيطلبه ليحوزه وخص البطن في أكثر الروايات لأن أكثر ما يطلب المال لتحصيل المستلذات وأكثرها تكرار للأكل والشراب

(ويتوب الله على من تاب) وقعت هذه الجملة موقع الاستدراك فكأنه قال حب المال جبل في الإنسان ولكن يمكن تهذيبه بتوفيق الله لمن يريد له ذلك -[فقه الحديث]- في معنى هذا الحديث يقول الله تعالى {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} حيث فسر كثير من المفسرين زيارة القبور بالموت يعني شغلكم التكاثر في الأموال إلى أن متم والمراد ذم الحرص على الدنيا والشره نعم جبل الإنسان على حب المال والسعي في طلبه وعدم الشبع منه لكنه مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه ولهذا كانت هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب وجعل التخلص منها أو الحد من طغيانها رجوعا إلى الله وإلى شرعته ولا يفهم من هذا أن الإسلام يدعو أبناءه إلى الفقر والخمول ويباعد بينهم وبين السعي ويقصر هممهم عن بلوغ قمة الحياة فالإسلام الذي خرج بالبدو من العصا والعنز إلى قصور وكنوز كسرى وقيصر أبعد ما يكون عن هذا الفهم القاصر ولكنه يحذر من أن يأكل أهله التراث أكلا لما ومن أن يحبوا المال حبا جما يعميهم عن تخير مصدره ويطغيهم عن إحسان مصرفه يحذر من أن تستولي فكر المال على كل أهدافنا فلا نسعى إلا له ولا نفكر فيما بعده يوضح أن هذه الشهوات للقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ينبغي ألا يشغلنا عن حقوق الله وعن حقوق الناس وعما ينتظرنا في الدار الآخرة من جزاء فما هذه الشهوات إلا متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن الثواب ومن أجل هذا يلوح الحديث إلى المبدأ والنهاية بذكر التراب وبتذكيرنا بأننا أبناء آدم الذي خلق من التراب يدعونا إلى غنى النفس قل المال أو كثر وينأى بنا عن خسة بعض المتمولين فقراء النفس الذين هم لشدة شرههم وحرصهم على جمع المال يحسون بأنهم فقراء يأكلون ولا يشبعون بل كلما ازدادوا أكلا ازدادوا جوعا

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن حب المال وعدم الشبع منه جبلى في الإنسان 2 - ذم هذه الصفة والحث على تهذيبها وتقويمها 3 - التحول إلى المصالح وطلب توفيق الله لتقويم المعوج من الطباع. 55 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه قال "فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر" -[المعنى العام]- يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربات لينتفع به في الآخرة فيسأل أصحابه من منكم يحب مال وارثه أكثر من ماله فيجيبون لا أحد منا إلا وهو يحب ماله أكثر من حبه لمال وارثه فيقول صلى الله عليه وسلم إنما المال الذي يصح أن ينسب إليكم في حياتكم ومماتكم ويستدعي محبتكم هو ما أنفقتموه في الخيرات وقدمتموه في سبيل الله فإنه هو الذي ينفعكم نفعا أبديا أما ما تدخرونه وتحرمون أنفسكم من

التمتع الحلال به حتى تموتوا عنه فليس في الحقيقة مالا لكم وإنما هو مال ورثتكم فمن كان ماله أحب إليه من مال وارثه فليقدم ومن كان مال وارثه أحب إليه فليؤخر -[المباحث العربية]- (عبد الله) بن مسعود كما مر في الحديث 49 (أيكم مال وارثه أحب إليه) أي مبتدأ ومال مبتدأ ثان و"أحب" خبر الثاني والجملة خبر أي والمراد بالاستفهام تقريرهم بما جبل عليه الإنسان من حب مال النفس ليبني عليه صلى الله عليه وسلم ما يريد بيانه لهم زيادة في الإيضاح والمراد من المحبة لازمها من الحرص وعدم التفريط (فإن ماله ما قدم) الفاء أفصحت عن شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فإن ماله ما قدم وعائد الصلة مفعول "قدم" المحذوف والمراد من التقديم الإنفاق في وجوه الخيرات (ومال وارثه) نسبة المال إلى المورث في دنياه حقيقة ونسبته إلى الوارث حينئذ مجاز باعتبار المال و (مال) بالنصب عطفا على اسم إن وبالرفع على الابتداء -[فقه الحديث]- مال الإنسان باعتبار الانتفاع به على ثلاثة أنواع لأنه إما أن ينفقه في الملاذ والشهوات بطريق الإسراف والتبذير فلا ينبغي أن يقال إنه ماله بل الأولى أن يقال إنه مال الشيطان وإما أن ينفقه في وجوه الخيرات من الصدقة والبر والحج وفك العاني ونحوها فهذا هو الجدير بأن يطلق عليه أنه ماله حقيقة بل هو جدير بأن يقال عنه أنه حفظه بدلا من أن يقال إنه أنفقه قال تعالى {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} وإما أن يكنزه ويدخره ويشح به ولا يؤدي حق الله فيه حتى يموت عنه ويتركه لورثته فلا ينبغي أن يقال إنه ماله بل هو مال وارثه وكل ماله فيه الكد والتعب والجمع

دون الانتفاع لأن الوارث إن صرفه في وجوه الخير فالمنفعة له لا للمورث وإن صرفه في معصية فلا فائدة للمورث من باب أولى إن سلم من تبعته ولا يعارض هذا ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم لسعد "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" لأن سعدا أراد أن يتصدق بماله كله في مرضه وكان وارثه بنتا ولا طاقة لها على الكسب فأمره أن يتصدق منه بثلثه ويكون باقيه لابنته وبيت المال وحديث الباب إنما خاطب به أصحابه في صحتهم ليحرضهم على تقديم شيء من مالهم لينفعهم يوم القيامة فكأنه طلب من المؤمن في هذين الحديثين أن يراعي مصلحة نفسه ومصلحة وارثه فلا يبذل كل ماله ولا يبخل بكل ماله بل يكون وسطا كما قال تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مراعاة مقتضى الحال وسؤال المخاطب وتقريره ليبني عليه الجواب 2 - بيان جبلة الإنسان في حبه لنفسه فوق حبه لأولاده 3 - الدعوة إلى البذل والإنفاق في وجوه الخير قبل أن يرحل عن المال ويتركه للغير.

56 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجا النجاء فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم" -[المعنى العام]- يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإيمان به وتصديقه وإطاعته في كل ما جاء به عن ربه ويحذر من عصيانه وتكذيبه ومن ضرر مخالفته فيشبه حاله وحال ما جاء به ومن جاء إليهم بحال رجل تحقق عنده جيش العدو تحقق العيان وهو حريص على خير قومه راغب في إبعادهم عن كل مكروه فأقبل ينصحهم باتخاذ وسائل الهرب والنجاة مما لا قبل لهم بمواجهته فمن خاف العدو فسار ليلا سيرا لا ضرر معه ولا إزعاج فإنه ينجو من الهلاك والاجتياح وأما من تقاعس عن الهرب واشتغل بالملاذ حتى أدركه جيش الأعداء فإنه لا محالة هالك هلاكا يفوق كل تشف وكل انتقام وهكذا حال رسول الإسلام مع أمته بين لهم ما فيه خيرهم وما فيه هلاكهم فمن صدقه واستقام على شرعة الله السهلة التي لا مشقة فيها ولا إرهاق نجا من عذاب الله وفاز بالسعادة الأبدية والنعيم المقيم ومن كذبه وعصاه وطغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى -[المباحث العربية]- (مثلي) المثل بفتحتين هو الصفة العجيبة الشأن يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم (ومثل ما بعثني الله به) في بعض النسخ حذف العائد (أتى قوما) التنكير للشيوع (رأيت الجيش) أل للعهد والمراد الجيش المعهود عداوته للمخاطبين

(بعيني) بالتثنية وفي رواية بالإفراد والغرض من ذكره الإرشاد إلى أنه تحقق عنده جميع ما أخبر به تحقق من رأى شيئا بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك (وأنا النذير العريان) النذير المنذر والعريان بضم العين الذي تجرد عن ثيابه قال الطيبي في كلامه تأكيدات (1) قوله بعيني (2) "وإني أنا" (3) قوله "العريان" لأنه للغاية في قرب العدو ولأنه الذي يختص في إنذاره بالصدق والنذير العريان مثل قديم والأصل فيه أن رجلا لقي جيشا فأسروه وسلبوه وجردوه من ملابسه فانقلب إلى قومه فقال إني رأيت الجيش بعيني إني أنا النذير لكم وترونني عريانا إذ جردوني من ملابسي فتحققوا صدقه لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولم تجر عادته بالتعري فالتحقق من صدق النذير المشبه به نتيجة لهذه القرائن والتحقق من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله على يده من المعجزة القاطعة بصدقه قال العيني وتنزيل الحديث على هذه القصة بعيد والأنسب لأن يتمثل به النبي صلى الله عليه وسلم هو ما كان من عادة العرب من أن الرجل إذا رأى غارة فاجأت قومه وأراد أن يعلمهم يتعرى من ثيابه ليشير بها أنه فاجأهم أمر ثم صار مثلا لكل منذر مما يخاف مفاجأته ويؤيد هذا ما رواه أحمد "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فنادى ثلاث مرات أيها الناس مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو فأقبل ليذكر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أوتيتم (ثلاث مرات) (فالنجاء النجاء) روي بالهمزة فيهما وبالقصر فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية تخفيفا وروي بتاء التأنيث والنصب في الكل على الإغراء أي اطلبوا النجاة بأن تسرعوا بالهرب فإنكم لا تطيقون مقاومته والتكرير للتأكيد والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر أي إذا صدقتموني فاطلبوا النجاة (فأطاعته طائفة) الفاء لترتيب الإطاعة على القول وفي رواية "فأطاعة طائفة" بتذكير الفعل لأن الطائفة بعض القوم

(فأدلجوا) أي ساروا أول الليل أو كله (على مهلهم) بفتح الهاء الأولى وبسكونها وهو السكينة والتؤدة والرفق (وكذبته طائفة) كان الظاهر أن يقول "وعصته" ليقابل "فأطاعته" أو يقول فصدقته بدل "فأطاعته" ليقابل "كذبته" ولكنه عدل عن ذلك ليفيد أن النجاة موقوفة على الطاعة ولا يكفي فيها التصديق مع العصيان وإن الاجتياح الذي هو الإهلاك والاستئصال إنما يتناسب مع التكذيب ويكفي لحصوله التكذيب وحده وإن وجدت معه طاعة ظاهرية كحال المنافقين وقال الطيبي عبر في الأولى بالطاعة وفي الثانية بالتكذيب ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق ويشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان (فصبحهم الجيش) أصله أتاهم صباحا ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغته ولو في غير الصباح شبه الرسول حاله وحال ما جاء به وحال المبعوث إليهم شبه هذه الصفة كلها بصفة رجل مقطوع بصدقه جاء ينصح قومه بما ينفعهم وينجيهم من هلاك ودمار على يد جيش لا قبل لهم به فصدقه جماعة فاتخذوا وسائل النجاة فنجوا وكذبه آخرون فتقاعسوا حتى أدركهم العدو فأبادهم -[فقه الحديث]- أفاد هذا الحديث 1 - وجوب المبادرة بالاعتصام بحبل الله والإيمان بالرسول وطاعته والانتهاء عن المعاصي لتحقق النجاة للمرء من عذاب الله 2 - فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته إذ هداهم إلى الله وأنار لهم السبيل وبصرهم بالعواقب وأنذرهم عذاب يوم كبير 3 - ضرب الأمثال تقريبا لإفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه.

57 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه" -[المعنى العام]- طبع الإنسان على حب المال والطمع فيه وعدم الوقوف منه عند حد وطبع على النظر إلى ما في يد الغير والرغبة فيه لكنه مأمور بتهذيب هذا الطبع وتقويمه بما يوافق الشرع فإذا نظر إلى من فضل عليه في المال أو الجاه أو الأولاد أو الأتباع أو غير ذلك من متاع الحياة الدنيا فليتبع هذه النظرة بنظرة إلى من هو أقل منه في ذلك فهو أجدر ألا يتحسر وألا يعيش في هم ونكد وأجدر ألا يزدري نعمة الله تعالى عليه -[المباحث العربية]- (من فضل عليه) بالبناء للمجهول أي فضله الله عليه بأن أعطاه أكثر منه

(والخلق) بفتح الخاء وسكون اللام الخلقة والصورة وقد يراد به المخلوق فيشمل الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا (إلى من هو أسفل) "هو" مبتدأ و"أسفل" خبره والجملة صلة "من" ويجوز في "أسفل" الرفع على الخبرية والنصب على الظرفية فيتعلق بمحذوف هو الخبر وهو في الأصل صفة لظرف محذوف والتقدير هو كائن في مكان أسفل منه قال تعالى {والركب أسفل منكم} -[فقه الحديث]- يوجهنا الحديث إلى وسائل الرضا والسعادة النفسية ومحاربة التحسر والجزع والهم والنكد ولا شك أن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه أسى وحسرة فدواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون في ذلك شعور بأن نعمة الله وصلت إليه فوق كثير من الناس فيعظم اغتباطه ويشكر وكل إنسان في حالة خسيسة من الدنيا يجد من أهلها من هو أخس حالا منه وتقييد التفضيل بالمال والخلق للاحتراز عن التفضيل بالعلم والتقوى فإنه ينبغي للمرء أن ينظر إلى من فضل بشيء من ذلك ليستصغر حال نفسه فيطلب اللحاق به فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه فقد روى الترمذي "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فآسف على ما فاته لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا" وأخرج الحاكم والبيهقي "أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله عز وجل" ومن رواية الترمذي والبيهقي تتبين علة الأمر بالنظر إلى من هو دوننا في المال وإنها خوف الأسف على ما فات وازدراء نعمة الله ولا يبعث الحديث على الكسل في طلب الرزق ولا يمنع من التأسي بالعاملين للوصول إلى حالة أفضل إنما يطلب أن يأخذ الإنسان في

الأسباب ثم يحمد الله على ما رزق ولا يحزن على ما فقد ولا يكون نظره إلى من هو أعلى منه في المال باعثا له على التكالب عليه وعلى جمعه من الحل وغير الحل تاركا بذلك حرث الآخرة ومضيعا حق الله فيما جمع -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز النظر إلى من فضل على الإنسان في المال ليبعثه ذلك إلى الجد والسعي على أن ينظر لمن هو دونه ليشكر على ما هو فيه 2 - وأنه لا يكون أحد على حال سيئة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أسوأ حالا منه 3 - وأن الشكر على النعم واجب مهما صغرت هذه النعم بالنسبة لغيرها 4 - وأن الرضا النفسي بما قسم الله هو الغنى الحقيقي وهو المحصل للسعادة الروحية. 58 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحشرون حفاة عراة غرلا" قالت عائشة فقلت يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض فقال "الأمر أشد من أن يهمهم ذاك" -[المعنى العام]- يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الحشر بعد البعث من القبور فيقول

تحشرون إلى الموقف عارية أقدامكم لا يسترها خف ولا تعتمد على نعل عارية أجسامكم لا يخفي عورتكم إزار ولا رداء ويعود إلى أعضائكم ما قطع منها في الدنيا حتى ما يقطعه الخائن وكان في القوم عائشة فتعجبت من هذا الوصف وبما طبع في نفسها من استقباح كشف العورة واستنكار النظر إليها قالت يا رسول الله كيف يحشر الرجال والنساء جميعا وكيف ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وأجابها رسول الله اطمئني يا عائشة نعم يحشر الرجال والنساء جميعا عراة ولكنهم لا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض لهول ما هم فيه {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} -[المباحث العربية]- (تحشرون) الخطاب للصحابة ومن على شاكلتهم في الإنسانية والحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه ولا يقال الحشر إلا في الجماعة والحشر منه ما هو في الدنيا كحشر جنود سليمان وحشر يهود بني قريظة إلى خيبر ومنه ما هو في الآخرة وهو سوق الأموات من قبورهم بعد البعث إلى الموقف وهذا هو المراد في الحديث (حفاة) أي بلا نعل ولا خف ولا شيء يستر أرجلهم (عراة) جمع عار أي بلا شيء يستر عورتهم (غرلا) بضم الغين وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف الذي لم يختن والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا أول مرة ويعادون كما كانوا في الابتداء لا يفقد منهم شيء حتى الغرلة وهي ما يقطعه الخاتن من ذكر الصبي (الرجال والنساء) الكلام على تقدير الاستفهام والرجال مبتدأ والخبر محذوف والتقدير هل الرجال والنساء يحشرون جميعا (ينظر بعضهم إلى بعض) الجملة حالية أو هي خبر الرجال وفي الكلام مضاف محذوف أي سوأة بعض كما جاء في رواية أخرى "فقالت

وأسواتاه الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض (الأمر أشد) أي أمر القيامة وأهوال المحشر أشد (من أن يهمهم ذلك) بضم الياء من أهم الرباعي أي يشغلهم وبفتح الياء من همه الشيء إذا أذاه قال ابن حجر والأول أولى والإشارة إلى نظر بعضهم إلى سوأة بعض -[فقه الحديث]- وصفت أحاديث أخرى أرض المحشر بأنها ستكون بيضاء كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل فوقها خطيئة مستوية لا حدب فيها يرد البصر ولا بناء يستر ما وراءه ولا علامة يعلمها بها أحد ويصف هذا الحديث أهل المحشر بأنهم سيكونون حفاة عراة ولكل واحد ما كان له من الأعضاء يوم ولد فمن قطع عنه شيء رد إليه وقد تعارض ظاهر هذا الحديث مع حديثين أحدهما رواه أبو داود وصححه ابن حبان عن أبي سعيد أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" وجمع بينهما بأنهم يخرجون من قبورهم بثيابهم التي دفنوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيحشرون عراة وقيل في الجمع أن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا وهذا القول ليس بشيء وحمل بعضهم قول الرسول في حديث أبي سعيد "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" حمله بعضهم على العمل أخذا من قوله تعالى {ولباس التقوى ذلك خير} وثانيهما يفهم من قوله "حفاة" أنهم سيكونون مشاة وهذا صرح به في رواية وهذا يتعارض مع ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير" وجمع الكرماني فقال هذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة والتعبير بالاعتقاب

على الإبل مجاز عن الحرص على الفرار والهرب من النار التي يبعثها الله عليهم يؤيد ذلك ما رواه الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنكم تحشرون ونحا بيده نحو الشام رجالا وركبانا وتحشرون على وجوهكم" وعندي أنه يحتمل أن تكون هذه النار مجازا عما يخترعه العالم المتمدن من أسلحة الدمار والخرابمن القنابل الذرية والصواريخ الموجهة وأن هذا الحشر سيكون عبارة عن هجر الناس من المناطق المهدمة إلى مناطق نائية حتى يأتيهم أمر الله وإشارة الرسول نحو الشام ليست نصا في جعله أرض الهجرة والحشر -[ويؤخذ من الحديث فوق صفة الحشر السابقة: ]- 1 - أن أهوال الآخرة شديدة تشغل الناس عن كل ما يشتهون 2 - أن النظر إلى العورة مستقبح وحرام 3 - مراجعة المستمع للعالم إذا أشكل عليه الخبر. 59 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل والقمقم"

-[المعنى العام]- يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم العصاة بصفة عامة والمشركين بصفة خاصة من عذاب النار وشدته وبالغ أثره فيقول إن أخف أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يقف في نار تبلغ الكعبين فكأنه يلبس نعلين من نار وأهون منه رجل يوضع تحت باطن قدميه الذي لا يصل إلى الأرض عند المشي جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ويفور كما يغلي القدر بالماء فيقول الله تبارك وتعالى له لو أنك لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا ألا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي -[المباحث العربية]- (رجل يوضع على أخمص قدميه جمرتان) الأخمص بفتح الهمزة والميم وقد تضم الميم ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم وعبر هنا بعلى من أن الجمرة تكون تحت القدم للإشارة إلى تمكن الجمرة من قدمه كتمكن المستعلي من المستعلى عليه وقد وقع في بعض الروايات "رجل توضع في أخمص قدميه جمرة" بالإفراد فيحتمل أن يكون الاقتصار على الجمرة للدلالة على الأخرى لعلم السامع بها بقرينة القدمين كما إذا قلت ضربت ظهر ترسيهما فإنه لا بد من إرادة الظهرين (كما يغلي المرجل والقمقم) المرجل بكسر الميم وفتح الجيم قدر من نحاس والقمقم بضم القافين إناء من نحاس ضيق الرأس له عروتان غالبا يسخن فيه الماء ويستقى به وهذه الرواية بواو العطف لا أشكال فيها إذ المقصود تشبيه غليان رأسه بغليان هذين الإناءين وكذلك جاء في رواية بلفظ "أو" بدل الواو فهي على الشك من الراوي أو على إرادة التنويع في التشبيه أي لك أن تشبه الرأس بالمرجل ولك أن تشبهه بالقمقم لكن المشكل رواية "كما يغلي المرجل بالقمقم" الذي هو إناء آخر وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بجعل الباء بمعنى مع وجوز بعضهم أن تكون

الرواية "بالقمقم" بكسر القافين وهو يابس البسر ويكون المعنى يغلي منهما دماغه كما يغلي القدر بالبسر اليابس ويكون قد شبه تحرك أجزاء رأسه الداخلة بتحرك البسر في الماء عند الغليان -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر وقع التصريح بأن المراد من الرجل أبو طالب في حديث ابن عباس عند مسلم ولفظه "إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب" وسبب ذلك كما قال بعض العلماء أنه دافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعرض نفسه لمن أراد الرسول بسوء وكان يمدح ما جاء به إلا أنه كان يخشى العار إذا فارق ما كان عليه آباؤه مثبتا قدمه على ملتهم حتى قال عند الموت إنه على ملة عبد المطلب فهون الله عليه العذاب نظرا لقوة دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم في أيام ضعفه وسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه من باب مشاكلة الجزاء للعمل واعترض هذا القول بأن حسنات الكفار تصير بعد الموت هباء منثورا ولهذا قيل إن التخفيف على أبي طالب بسبب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له فقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه نعم يشكل عليه "فما تنفعهم شافعة الشافعين" وأجيب بأنه خصوصية لأبي طالب والنبي صلى الله عليه وسلم ويفهم من هذا أن المراد من أهل النار ملازموها وهم الكفار ولا يشمل مرتكبي الكبائر من المؤمنين يدل لذلك ما رواه البخاري "أن الله يقول لأهون أهل النار أردت منك أهون من هذا أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - شدة عذاب النار 2 - أن المعذبين به من الكفار ليسوا في درجة واحدة

3 - تحذير العصاة والكافرين من هول هذا العذاب ليبتعدوا عما يؤدي إليه.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض الفرائض جمع فريضة بمعنى مفروضة وهي في الأصل مشتقة من الفرض وهو القطع والتقدير وخصت المواريث باسم الفرائض لما أنها مقدرات لأصحابها ومبينات في كتاب الله تعالى ومقطوعات لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها قال تعالى {نصيبا مفروضا} وقال صلى الله عليه وسلم "أفرض أمتي زيد بن ثابت" أي أعلمهم بهذا العلم وقال "تعلموا الفرائض وعلموها للناس فإني امرؤ مقبوض وأن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما" وقال "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف العلم وهو أول شيء ينسى من أمتي" 60 - عن سعد رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام" فذكرته لأبي بكرة فقال وأنا سمعته أذناي ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم -[المعنى العام]- كان الرجل في الجاهلية إذا رغب في استلحاق ولد لغاية من الغايات استلحقه وصار ابنه عرفا ونسب إليه وأخذ جميع حقوق الابن الحقيقي من إرث وغيره فجاء الإسلام بتحريم التبني وبحفظ مال الرجل لأبنائه الشرعيين وحرم على الابن المتبني أن يستحل حقا من حقوق الأبناء

الأصليين وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "من انتسب إلى غير أبيه انتسابا يستحل به حقوق الغير وهو يعلم أنه غير أبيه حرم الله عليه الجنة" -[المباحث العربية]- (ادعى) بوزن افتعل أي انتسب (وهو يعلم) الجملة حالية (فذكر ذلك لأبي بكرة) وهو نفيع بن الحارث الكلدي أي ذكر الحديث والذي ذكره لأبي بكرة هو أبو عثمان الراوي عن سعد وفائدة هذه العبارة التوثيق من صحة الحديث حيث سمعه غيره أيضا ووعاه -[فقه الحديث]- حكمة هذا التحذير أن من نتائج انتساب الرجل إلى غير أبيه أنه قد يتزوج أخته من أبيه الحقيقي أو عمته أو غيرهما مما حرمه الشرع فوق إرثه من غير أبيه وأخذه مال الغير بغير حق وظاهر قوله "فالجنة عليه حرام" تخليده في النار ولهذا حمله بعضهم على المستحل لأن الجنة ما حرمت إلا على الكافرين وحمله بعضهم على التغليظ على الزجر للتنفير من هذا الفعل واستشكل بأن جماعة من خيار الأمة انتسبوا إلى غير آبائهم كالمقداد بن الأسود إذ هو ابن عمرو بن ثعلبة الزهري تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري فنسب إليه وأجيب بأن أهل الجاهلية كانوا لا يستنكرون أن يتبنى الرجل غير ابنه الذي خرج من صلبه فينسب إليه ولم يزل ذلك في أول الإسلام حتى نزل قوله تعالى {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وقوله عز وجل {ادعوهم لآبائهم} فغلب على بعضهم النسب الذي كان يدعى به من قبل الإسلام فصار إنما يذكر للتعريف لا للانتساب الحقيقي فلا يقتضي الوعيد المذكور لأنه إنما يتعلق بمن انتسب إلى غير أبيه عن علم منه بأنه ليس أباه عامدا مختارا ليحصل على جميع حقوق البنوة -[ويستفاد من الحديث: ]- التحذير الشديد من الانتساب إلى غير الآباء لما في ذلك من المفاسد الكثيرة.

كتاب الحدود

كتاب الحدود الحدود جمع حد وهو لغة المنع وشرعا عقوبة مقدرة على مرتكب المعصية وإنما جمعه لاشتماله على أنواع وهي حد الزنا وحد القذف وحد الشرب وحد السرقة وفي كون الحدود زواجر أو جواير رأيان والراجح أنها جوابر لأن الله أكرم من أن يعاقب على ذنب مرتين 61 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" -[المعنى العام]- يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من السرقة قليلها وكثيرها فيقول إن السارق مستحق للطرد من رحمة الله لأنه ألغى عقله وفقد كرامته وعصى ربه وباع ثمينا ببخس باع يده التي يبطش بها والتي لا تقابل بمال بشيء حقير قد يكون أساسه بيضة رخيصة أو حبلا تافها فما أهون نفسه عليه وما أحقر ما سعى إليه وما أشقاه وما أبعده عن رحمة الله -[المباحث العربية]- (لعن الله السارق) اللعن الطرد من الرحمة ويحتمل أن يكون المراد به هنا الإهانة والخذلان (يسرق البيضة) قيل المراد بها بيضة الحديد وهي الخوذة التي تلبس

على رأس الجند عند الحرب لوقايتهم وقيل المراد بها بيضة الحيوان -[فقه الحديث]- قبل أن نشرح الحديث نتكلم بإيجاز عن مذاهب الفقهاء في المقدار الذي نقطع من أجله يد السارق 1 - فالظاهرية يقولون بالقطع في القليل والكثير ولا نصاب له استدلالا بظاهر قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وبظاهر الحديث الذي معنا 2 - والحنفية على أنه لا يقطع في أقل من عشرة دراهم (تعادل خمسة وعشرين قرشا مصريا تقريبا) ودليلهم أن قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إذ ذاك عشرة دراهم يروى ذلك عن ابن عباس وغيره 3 - والمالكية على أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار إذا كان المسروق ذهبا (والدينار بالوزن درهم وثلاثة أسباع درهم بميزاننا) وإذا كان فضة فنصابه ثلاثة دراهم لأن ربع الدينار في صدر الإسلام كان يعادل ثلاثة دراهم وإن كان غيرهما قوم بالدراهم 4 - والشافعية على أن المعتبر في القطع هو ربع الدينار فلو تباعدت النسبة بين الذهب والفضة كما في أيامنا لم تقطع اليد فيما قيمته أدنى من ربع دينار من الذهب الخالص وإن ساوى عشرين درهما من الفضة أو أكثر (ربع الدينار يساوي في أيامنا خمسين قرشا مصريا باعتبار أن ثمن الدرهم من الذهب مائة وأربعون قرشا) من هذا العرض السريع يتضح أن المذاهب الأربعة متفقة على تحديد نصاب للقطع لا ينطبق على بيضة الدجاجة ولا على الحبل التافه ولهذا احتاج الحديث إلى توجيه قال فيه بعضهم إن المراد من البيضة بيضة الحديد التي هي خوذة المحارب ومن الحبل حبل السفينة ونحوه وكل منهما يزيد على النصاب وقال بعضهم إن التأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب إذ ليس من كلام العرب والعجم أن يقولوا قبح الله

فلانا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه الله تعرض لقطع اليد في بيضة حقيرة وفي حبل رث وعلى هذا فالحديث محمول على المبالغة في التنبيه على عظم ما خسر وتحقير ما حصل فحقيقة البيضة والحبل غير مقصود كقوله صلى الله عليه وسلم "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاه" فمن المعلوم أن مفحص القطاة وهو قدر ما تحتضن به بيضها لا يتسع للجبهة فلا يتصور أن يكون مسجدا ومنه "تصدقن ولو بظلف محرق" وقال الخطابي إن الحديث من باب التدريج لأنه إذا استمر ذلك به لم يأمن أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقه حتى يبلغ فيه القطع فتقطع يده فليحذر هذا الفعل وليتركه قبل أن تملكه العادة ومعنى ذلك أن في الحديث حذفا اعتمادا على المعلوم من الأحاديث الأخرى والأصل يسرق البيضة فيعتاد السرقة فيسرق النصاب فتقطع يده وقال بعضهم لما نزل قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} مطلقا غير مقيد قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث على ظاهر ما نزل ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فصاعدا فأخبر الأمة بذلك في الأحاديث الأخرى ومعنى ذلك أن الحديث الذي معنا منسوخ وقد استدل بهذا الحديث على جواز لعن الفاسق غير المعين من العصاة مطلقا إذ لا ينبغي تعيير أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من قبل فعلهم ليكون ذلك ردعا وزجرا عن انتهاك شيء منها ويحتمل أن لا يراد به حقيقة اللعن بل التنفير فإذا وقعت من معين لم يلعن بعينه لئلا يقنط وييأس ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن النعيمان بعد أن أقيم عليه الحد وأجاز بعضهم لعن من لم يقم عليه الحد سواء سمي وعين أم لا ما دام على الحالة الموجبة للطرد من رحمة الله فإذا تاب منها وطهره الحد فلا لعنة تتوجه إليه.

كتاب الديات

كتاب الديات الديات جمع دية وأصلها مصدر مأخوذ من الودي وهو دفع المال يقال وديت القتيل أديه وديا فحذفت فاء الكلمة وعوض عنها الهاء ثم غلب استعمال الدية شرعا في المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها 62 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق لدينه التارك للجماعة" -[المعنى العام]- يحرم النبي عليه الصلاة والسلام دماء المسلمين ويعظم شأنها ويوجب حقنها فلا يجوز قتل المسلم إلا بواحدة من ثلاث خصال أولاها أن يكون قد قتل مسلما عمدا عدوانا وظلما فإنه يقتل قصاصا والثانية أن يزني وهو محصن بالشروط اللازمة للرجم فإنه يقتل حدا والثالثة ارتداد المسلم وخروجه عن دينه القويم وما أبلغ الزجر عن هذه الخصال بهذا الأسلوب الحكيم -[المباحث العربية]- (عبد الله) هو ابن مسعود كما مر في حديث 49

(لا يحل دم امرئ) المراد لا يحل إراقة دمه أي كله وهو كناية عن القتل ولو لم يرق دما (يشهد أن لا إله إلا الله) أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها قوله (لا إله إلا الله) وجملة "يشهد إلخ" نعت ثان أتي به لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين فهي صفة كاشفة وليست قيدا فيه إذ لا يكون مسلما إلا بذلك وقال في شرح المشكاة الظاهر أن "يشهد إلخ" حال جيء به مقيدا للموصوف مع صفته إشعارا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدماء (إلا بإحدى ثلاث) الباء للسببية أي لا يحل إلا بسبب إحدى خصال ثلاث أو الملابسة متعلقة بمحذوف والتقدير إلا متلبسا بفعل إحدى ثلاث فيكون الاستثناء مفرغا ثم المستثنى منه يحتمل أن يكون الدم فيكون التقدير لا يحل دم امرئ مسلم إلا دما متلبسا بإحدى ثلاث ويحتمل أن يكون استثناء من امرئ فيكون التقدير لا يحل دم امرئ مسلم إلا امرءا متلبسا بإحدى ثلاث خصال فمتلبسا حال من امرئ وجاز لأنه تخصص بالوصف الذي هو "مسلم" وجعلها للسببية لا يحوج إلى هذا التكلف (النفس بالنفس) أي النفس القاتلة مأخوذة بالنفس المقتولة فالباء للسببية والجار والمجرور متعلق يكون خاص وقال الشرقاوي النفس الأولى هي المقتولة والثانية هي القاتلة وعليه فالباء للمقابلة وهو كما ترى (الثيب الزاني) بالياء على الأصل ويروى بحذفها اكتفاء بالكسرة كقوله تعالى {الكبير المتعال} (التارك للجماعة) ال في الجماعة للعهد أي جماعة المسلمين وهذه صفة مفسرة للمفارق لدينه -[فقه الحديث]- أورد البخاري هذا الحديث تحت كتاب الديات لأن كل ما يجب فيه

القصاص يجوز العفو عنه على مال فتكون الدية أشمل وظاهر قوله "لا يحل" أنه يحل قتل من استثني، وهو كذلك وإن كان بعض من استثنى واجب القتل فإن الواجب والمستحب حلال وإنما عبر بهذا اللفظ ليقابل تحريم قتل غيرهم وليس معنى إهدار دم هؤلاء الثلاثة أن لكل إنسان الحق في قتلهم بل صاحب الحق الأول هو الولي بإذن الإمام وصاحب الحق بعده هو الإمام أو نائبه -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - جواز قتل المسلم بالكافر المستأمن والمعاهد لعموم قوله النفس بالنفس والجمهور على خلافه تخصيصا لهذا العموم بحديث لا يقاد مؤمن بكافر 2 - جواز قتل الأب بابنه وليس كذلك تخصيصا لهذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يقاد الوالد بولده" ولأنه سبب في إحيائه فلا يكون الابن سببا في إفنائه 3 - أن الجماعة لا يقتلون بالواحد لقوله "النفس بالنفس" بالإفراد وقد روي هذا عن أحمد والجمهور على خلافه مراعاة لحكمة القصاص وهي صون الدماء إذا لو لم يقتص من الجماعة لقتلوا مجتمعين وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد 4 - جواز قتل الحر بالعبد لأن كلا نفس وبهذا قال الحنفية وخصص الجمهور هذا العموم بقوله "كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد" 5 - أن المرأة حكمها في الردة حكم الرجل لاستواء حكمها في الزنا وبهذا قال الجمهور ومنع بعضهم قتل المرتدة بناء على أن هذه الدلالة دلالة اقتران وهي ضعيفة في الاستدلال 6 - إن تارك الصلاة لا يقتل بتركها لأنه ليس من الثلاثة وبهذا قال الحنفية ومن وافقهم وقال الجمهور يقتل حدا لا كفرا بعد الاستتابة لأنهم

ادخلوه في التارك لدينه المفارق للجماعة من ناحية أن المفارق لدينه إما أن يفارقه كله وهو المرتد وأما أن يفارق بعضه كتارك الصلاة وإنما لم يقتل تارك الزكاة لإمكان انتزاعها منه قهرا ولم يقتل تارك الصيام لإمكان منعه من المفطرات وقال أحمد وبعض المالكية إن تارك الصلاة يكفر ولو لم يجحد وجوبها وتمسكوا بظواهر أحاديث وردت في تكفيره وحملها الجمهور على التارك المستحل جمعا بين الأخبار 7 - أن الصائل لا يجوز قتله وليس كذلك بل يباح قتله في الدفع ويجاب بأنه داخل في المفارق لدينه التارك للجماعة أو المراد لا يحل تعمد قتله إذا اندفع بدون ذلك إذ الصائل يجب دفعه بالأخف ولا يقتل إلا مدافعة 8 - جواز وصف الشخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتد من المسلمين وهو باعتبار ما كان.

63 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه" -[المعنى العام]- يعظم النبي صلى الله عليه وسلم جريمة ثلاثة من عصاة المسلمين ويجعلهم أكثر العصاة بغضا إلى الله في الدنيا وفي الآخرة الأول الذي يفعل المعاصي ويرتكب الكبائر داخل الحرم المكي غير آية بقداسة ذلك المكان ولا بوعيد الله لمن ينتهك حرمته حيث قال {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} والثاني الذي يحيي شعائر الجاهلية وعاداتها وآثامها بعد أن قطع الله ذلك وأزاله بالإسلام الحنيف والثالث الذي يطلب القصاص من رجل ليس عليه ذنب هذا القصاص فهو يريد إهدار دم حرمه الله بغير حق وجدير بالمسلم أن يبتعد عما يغضب الله من هذه الأمور وغيرها -[المباحث العربية]- (أبغض) أفعل تفضيل بمعنى المفعول من البغض ومثله أعدم من العدم إذا افتقر قال في الصحاح وقولهم ما أبغضه إلى شاذ لا يقاس عليه والبغض من الله إرادة إيصال المكروه (الناس) المراد بهم عصاة المؤمنين فهؤلاء الثلاثة أبغضهم إلى الله فلا يرد أن المشرك أبغض منهم جميعا (ملحد) هو خبر مبتدأ محذوف تقديره أحدهم ملحد أي مائل عن القصد والإلحاد العدول عن القصد واستشكل عليه بأن مرتكب الصغيرة مائل عن القصد أيضا ودفع بأن هذه الصيغة في عرف الشرع تستعمل في الخروج عن الدين فإذا وصف بها المسلم كان المراد تعظيم الذنب ولذلك

أوردها بالجملة الإسمية المشعرة بثبوت الصفة وبتنكير التعظيم فالمراد من يفعل كبيرة (في الحرم) أل فيه للعهد والمراد الحرم المكي لأن سبب الحديث أن رجلا قتل رجلا بالمزدلفة في غزوة الفتح (مطلب) بضم الميم وتشديد الطاء مفتعل من الطلب وأصله "متطلب" فأبدلت التاء طاء وأدغمت في الطاء أي المبالغ في الطلب أو المتكلف له (ليهريق) بضم الياء وفتح الهاء ويجوز إسكانها أي يريق (سنة الجاهلية) طريقة أهل الجاهلية الذميمة -[فقه الحديث]- في الحديث إشارة إلى أن عقاب الكبيرة الواقعة في الحرم أشد من عقابها في غيره وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره وهو مشكل فيتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة ويؤخذ ذلك من سياق الآية فإن الإتيان بالجملة الإسمية يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه والتقييد بالظلم والتصريح بالظرفية وتنوين التعظيم في الحاد أي من يكون إلحاده عظيما وجعل بعضهم من خصوصيات الحرم أن يعاقب ناوي الشر فيه أخذا من قوله تعالى {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} بل قال ابن مسعود ما من رجل يهم فيه بسيئة إلا كتبت عليه وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان عند أهل الجاهلية والمراد هنا ما جاء الإسلام بتركه من الطيرة والكهانة وأخذ الجار بجاره وأن يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره والمراد من المطلب دم امرئ الطالب الذي ترتب على طلبه المقصود وهو هنا الإراقة لأن من طلب ولم ينل مقصوده المترتب عليه لا يكون بهذه المنزلة أو ذكر الطلب ولم يذكر الفعل ليكون الزجر عن الفعل بطريق الأولى واحترز بقوله {بغير حق} عمن يطلب بحق كطلب القصاص من القاتل عدوانا

-[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الترهيب الشديد من هذه الخصال الثلاث 2 - حرمة الحرم المكي وعظم الذنب فيه 3 - أن العزم المصمم عليه يؤاخذ به ولا سيما في حرم مكة. 64 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له خذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" -[المعنى العام]- يحفظ النبي عليه الصلاة والسلام حرمة البيوت وعورات الناس من أن يطلع عليها الأجانب عنهم بغير إذنهم فيهدر قيمة المعتدي ويحكم بأنه لو رمى صاحب البيت من ينظر إلى حرماته وعوراته بحصاة ففقأ عين الناظر فلا قصاص ولا دية ولا مؤاخذة -[المباحث العربية]- (خذفته) بالخاء والذال ثم فاء أي رميته بحصاة بأن جعلتها بين

إبهامك وسبابتك قاله في المصباح وقيل هو أن تجعلها على طرف الإبهام وترميها بطرف السبابة وفي بعض النسخ (فحذفته) بالحاء المهملة قال الطبري وهو خطأ لأن في نفس الخبر الرمي بالحصاة وهو بالمعجمة جزما قال في الفتح ولا مانع من استعمال المهملة في ذلك مجازا (ففقأت عينه) أي قلعتها أو أطفأت ضوءها (ما كان عليك من جناح) من زائدة لتأكيد النفي وفي رواية بدونها وجناح اسم كان والمراد منه الإثم والمؤاخذة والحرج -[فقه الحديث]- في الحديث احتراز عمن اطلع بإذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه فإنك تؤاخذ في ذلك أما من انتهك حرمة بيتك بغير إذن ففقأت عينه فليس عليك إثم وفي رواية صححها ابن حبان والبيهقي (فلا قود ولا دية) وهذا مذهب الشافعية وعبارة النووي ومن نظر إلى حرمة في داره من كوة أو ثقب فرماه بخفيف كحصاة فأعماه أو أصاب قرب عينه فجرحه فمات فهدر بشرط عدم محرم وزوجة للناظر اهـ والمعنى فيه المنع من النظر وإن كانت حرمة مستورة أو منعطفة لعموم الإخبار ولأنه لا يدري متى تستتر ومتى تنكشف فيحسم باب النظر وخرج بالدار المسجد والشارع ونحوهما وبالثقب الباب والكوة الواسعة والشباك الواسع العيون وبقرب عينه ما لو أصاب موضعا بعيدا عنها فلا تهدر في الجميع ومحل ذلك ما لم يقصر صاحب الدار وكان الناظر مجتازا فنظر غير قاصد وذهب المالكية إلى القصاص وخرجوا الحديث مخرج التغليظ واعتلوا بأن المعصية لا تدفع بالمعصية ورد بأن المأذون فيه إذا ثبت الإذن لا يسمى معصية وهل يشترك الإنذار قبل الرمي أولا وجهان أصحهما أنه لا يشترط -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - محافظة الشارع على حرمات المنازل

2 - المنع من الاطلاع في بيت الأجنبي ولو كان الناظر امرأة 3 - إباحة الدفاع عن المحارم ولو أدى إلى فقء العين 4 - وفيه مشروعية الاستئذان 5 - وجواز رمي من يتجسس وحاول الوقوف على عورات الناس وأحوالهم.

كتاب التعبير

كتاب التعبير أي تفسير الرؤيا تقول عبرت الرؤيا عبرا وعبارة إذا انتقلت من ظاهرها في باطنها ومنه عبور النهر أي الانتقال من شاطئ إلى آخر ويقال عبرت الرؤيا بالتخفيف إذا فسرتها وعبرت بالتشديد للمبالغة في تفسيرها وهواستعمال قليل وقد غلب مصدره (تعبير) على تفسير الرؤيا وقد كثر الكلام عن حقيقة الرؤيا وأقرب ما قيل إنها إدراكات الروح النائم تأتيها بغير طريق الحواس الخمس المعروفة لبطلان عمل هذه الحواس بالنوم وطريق هذه الإدراكات ما يعبر عنه بالبصيرة أو ما يعبر عنه المناطقة بالحواس الباطنة أو ما يعبر عنه علماء النفس بالعقل الباطن وقال ابن الأثير الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم في النوم من الأشياء لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن وغلب الحلم على ما يراه من الشيء القبيح ومنه قوله تعالى {أضغاث أحلام} وفي الحديث (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) 65 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره" -[المعنى العام]- لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يراه النائم على ضربين أحدهما يؤذن بخير

للرائي في دنياه أو أخراه فينبغي لمن رأى ذلك أن يحمد الله تعالى عليه وأن يتحدث به إلى من يحب والثاني يزعج النفس ويوقعها في الوهم والاضطراب وغير ذلك مما يكرهه الرائي فعليه أن يستعيذ بالله من شر تلك الرؤيا ومن شر الشيطان وأن يكتمها عن الناس ولا يذكرها لأحد فإنه إن فعل ذلك وقاه الله ضررها وأنجاه من شرها وهو بكل شيء حفيظ -[المباحث العربية]- (رؤيا) بالألف اسم لما يراه النائم والرؤية بالتاء اسم لما يكون في اليقظة وقد تستعمل أولى في موضع الثانية قال تعالى {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} على أنها الإسراء وكان يقظة لا مناما (وليحدث بها) مفعول محذوف تقديره وليحدث بها لبيبا أو حبيبا -[فقه الحديث]- إذا رأى أحدكم في نومه رؤيا يحبها لما تشير من خيري الدنيا والآخرة فليحمد الله عليها وليحدث بها وعند مسلم "فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب" وقوله "فليبشر" بضم الياء من الإبشار والبشرى كما قال النووي أي فليستبشر وفي حديث عند الترمذي "ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا" وفي آخر "ولا يقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح" قال القاضي أبو بكر ابن العربي "أما العالم فإنه يؤولها على الخير مهما أمكنه وأما الناصح فإنه يرشده إلى ما ينفعه ويعينه عليه وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يعلمه بما يعول عليه في معناها أو يسكت وأما الحبيب فإن عرف خيرا قاله وإن جهل أو شك سكت" اهـ قال الحافظ والأولى الجمع فإن اللبيب عبر به عن العالم والحبيب عبر به عن الناصح وأما الحكمة في أنه لا يحدث بها من لا يحب فهي أنه يفسرها له بما لا يحب إما بغضا وإما حسدا فيتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا وإنما نسبت غير المحبوبة إلى الشيطان لأنه هو الذي يخيل بها أو لأنها تناسب صفته من الكذب والتهويل أو لأنها على هواه ومراده إذ هو يحب الشر دائما لا أنه

يوجدها إذ كل شيء بخلق الله وتقديره وأضيفت الرؤيا إلى الله تعالى أضافة تشريف وظاهره أن المضافة إلى الشيطان يقال لها رؤيا أيضا وقيل لها حلم أخذا من حديث "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" وهو تصرف شرعي وإلا فالكل يسمى رؤيا والحكمة في كتمان الرؤيا المكروهة مخافة تعجيل اشتغال قلب الرائي بمكروه تفسيرها لأنها قد تبطئ فإذا لم يخبر بها زال تعجيل روعها وتخويفها ويبقى إذا لم يعبرها له أحد بين الطمع في أن لها تعبيرا حسنا والرجاء في أنها من الأضغاث فيكون ذلك أسكن لنفسه كذا قال القاضي عياض وفي معنى "فإنها لا تضره" قال النووي إن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترتب على الرؤيا كما جعل الصدقة وقاية للمال اهـ ويمكن أن يقال إن الاستعاذة والتفل والتحول إلى الجنب الآخر والصلاة وقراءة القرآن الواردات في بعض الروايات إنما هي لتقوية الروح المعنوية ومدافعة الوهم والخوف اللذين يؤثران تأثيرا ضارا أكثر من تأثير وقوع المصائب -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - مشروعية حمد الله عند الرؤيا الصالحة 2 - والتحدث بها للعالم الناصح 3 - ومشروعية التعوذ بالله عند الرؤيا المكروهة 4 - وعدم ذكرها لأحد 5 - أن الرؤيا قد تقع على ما يعبر به أخذا من قوله "ولا يذكرها لأحد" 6 - استدل بقوله "فليستعذ بالله من شرها" على أن للوهم تأثيرا في النفوس لأن الاستعاذة مما يدفع الوهم فكأنه لم يكن.

66 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" قالوا وما المبشرات قال "الرؤيا الصالحة" -[المعنى العام]- في المرض الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم كشف الستارة ورأسه معصوب والناس صفاف خلف أبي بكر فقال أيها الناس إن الوحي ينقطع بموتي وأنه لن يبقى بعدي ما يعلم به أخبار المستقبل إلا الرؤيا الصالحة يراها العبد لنفسه أو ترى له من غيره -[المباحث العربية]- (لم يبق) عبر بلم المفيدة للمضي تحقيقا لوقوعه والمراد الاستقبال أي لا يبقى يدل لذلك ما ورد عن عائشة بلفظ "لن يبقى بعدي" فهذا الظرف والتصريح بلن قرينتان على إرادة الاستقبال وقيل هو على ظاهره من المضي واللام في النبوة للعهد والمراد نبوته عليه الصلاة والسلام أي لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات -[فقه الحديث]- لا يرد على الحصر في الحديث الإلهام لأن المراد الباقي من النبوة

الذي يعم أفراد المؤمنين وأما الإلهام فمختص ببعضهم فضلا عن قلة وقوعه وظاهر الاستثناء أن الرؤيا نبوة أو جزء من النبوة حقيقة وليس كذلك بل المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة في الصدق والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب وإلا فمن الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله تعالى لعبده المؤمن لطفا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه وعند أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" وعند ابن جرير من حديث أبي هريرة قال "البشرى في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وفي الآخرة الجنة" ويدل الحديث على صدق الرؤيا الصالحة وأنها جزء من النبوة وفيض من العلي الكريم حيث يبين لعباده ما عسى أن يقع بهم من خير أو شر -[والحاصل أن ما يراه النائم على أنواع: ]- 1 - نوع يكون تخليطا بصور غير متناسقة ولا مرتبطة الأجزاء ويسمى بالهواجس 2 - ونوع يصدر عن هوى النفس وعن صور مكبوتة في اليقظة تظهر عند انطلاقها في النوم حيث لا حدود ولا رقيب وهذا النوع هو محل اهتمام علماء النفس 3 - ونوع غير هذين النوعين وهو ما يعني به الشرع وهو قسمان بشير ونذير ومنه الصحيح الذي لا يحتاج إلى تأويل كرؤيا ملك يوسف وصاحبي السجن والناس إزاء هذا النوع على ثلاث درجات الأنبياء ورؤياهم كلها صدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير وغيرهم ويقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وتغلب الأضغاث مع الفسقة ويندر الصدق مع الكفار.

كتاب الفتن

كتاب الفتن الفتن جمع فتنة وهي المحنة والشدة والعذاب وكل مكروه كالكفر والإثم والفضيحة والفجور والمصيبة وغيرها من المكروهات فإن كانت من الله تعالى فهي على وجه الحكمة وإن كانت من الإنسان بغير ما أمر الله فهي مذمومة فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة قال تعالى {والفتنة أشد من القتل} وقال {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا} إلخ وأصلها من الفتن بفتح الفاء وسكون التاء وهو كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته 67 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من كره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" وفي رواية أخرى عنه قال "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" -[المعنى العام]- يهدف النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعم الصلات بين الحاكم والمحكوم وسد منافذ الفرقة والانقسام ودرء المفاسد المترتبة على تصدع بنيان الأمة وتفرق صفوفها حين تخرج على حاكمها وأمرائها فيقول كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام بعده نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء وأمراء ترون منهم ما تنكرون يأخذون مالكم بالحق الذي

عليكم ويمنعونكم الحق الذي لكم قالوا يا رسول الله أنقاتلهم قال لا ما أقاموا الصلاة أكرهوا عملهم لا تنزعوا يدا من طاعة أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم كفوا واصبروا فإن من خرج على الإمام وعلى الجماعة أدنى خروج مات ميتة تشبه ميتة الجاهلية في بعدها عن الخير وعن رضوان الله تعالى -[المباحث العربية]- (شيئا) من أمور الدنيا أو من أمور الدين غير الكفر (فإنه من خرج من السلطان) في الكلام مضاف محذوف أي من خرج من طاعة السلطان والفاء للتعليل واسم إن ضمير الشأن والجملة بعده خبر (شبرا) أي قدر شبر وكني به عن أدنى معصية للسلطان (ميتة) بكسر الميم بيان لهيئة الموت وحالته التي يكون عليها (إلا مات ميتة جاهلية) إلا زائدة كما تدل على ذلك الرواية السابقة وقيل من للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي وإلا غير زائدة بل على معناها فكأنه قال ما فارق أحد الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية وقيل غير ذلك -[فقه الحديث]- لقد قصد النبي بقوله (إلا مات ميتة جاهلية) أنه يموت كأهل الجاهلية على التفرقة والضلال إذ كانوا لا يرجعون إلى طاعة أمير ولا يتبعون هدي إمام ولا يعتبرون بحديث أو نذير وليس المراد أنه يموت كافرا بل يكون عاصيا ويحتمل أن ذلك ورد مورد الزجر والتنفير وظاهره غير مراد كما قصد النبي بقوله (فارق الجماعة) الخروج عن طاعة الإمام أو الأمراء ونصب العداء لهم قال ابن أبي جمرة المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء وإنما حذر الشارع من ذلك

لأن من خرج على السلطان فقد خرج على جماعة المسلمين وفي الخروج على الجماعة من الفتن العامة الجالبة للشر الكثير ما يجب على المسلم أن يتجنبه ولو ناله في سبيل ذلك ضرر إذ ضرره وحده أخف من ضرر جماعة المسلمين ولا شك أن المؤمن الذي يتحمل هذا الضرر لهذا القصد يكون له عند الله ثواب عظيم -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن السلطان لا يعزل بالفسق إذ قد يكون عزله سببا للفتنة وإراقة الدماء وتفريق ذات البين فالمفسدة في عزله أكثر منها في إبقائه 2 - فيه حجة على ترك الخروج على أئمة الجور وعلى لزوم السمع والطاعة لهم وقد أجمع الفقهاء على أن الإمام المتغلب تلزم طاعته فيما ليس معصية ما أقام الجماعات والجهاد إلا إذا وقع منه كفر صريح فلا تجوز طاعته بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. 68 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"

-[المعنى العام]- يحدث عبادة بن الصامت أنه كان مما بايعهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى أن يسمعوا ويطيعوا له عليه السلام ولغيره من الحكام في جميع الأحوال إلا في حال وقوع الكفر الصريح من ولي الأمر الشرعي فلا سمع ولا طاعة وفيما عدا ذلك عليهم أن يمتثلوا وينقادوا لما يأمرهم به إمامهم في حال نشاطهم وحبهم للأمر وفي حال كسلهم وكراهتهم له وفي حال فقرهم وفي حال غناهم حتى لو استأثر الولاة بأمور الدنيا وحظوظها ولم يعطوهم منها فلا ينازعوهم في ولايتهم ولا يخرجوا من طاعتهم لما في ذلك من تصدع الأمة وتفرق كلمتها وسقوط هيبتها وسقوط هيبتها وقيام الفتن الداخلية الجالبة للشر الكثير ولذا أوصد النبي هذا الباب فأوجب السمع والطاعة لولاة الأمر ما أقاموا على شريعة الله وأحكام دينه القويم -[المباحث العربية]- (دعانا النبي فبايعناه) بإثبات ضمير الفعول في النسخ المعتمدة وفي رواية بإسقاط الضمير وفي أخرى "فبايعنا" بفتح العين أي دعانا صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة فبايعناه والمراد عاهدناه ففيه استعارة تبعية (فيما أخذ علينا) أي فيما عاهدنا عليه واشترك علينا الوفاء به وظاهر هذه العبارة أن عبادة لم يذكر هنا كل ما أخذه عليهم (أن بايعنا) بفتح همزة أن وعين "بايعنا" والفاعل ضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وأن مفسرة لجملة قال مع مفعولها المحذوف وهذا على رأي من لا يشترط في أن المفسرة أن تسبق بما فيه معنى القول دون حروفه وإلا فلنجعل أن زائدة والجملة بعدها بيانا لجملة "قال" (في منشطنا ومكرهنا) بفتح الميم فيهما مصدران ميميان والجار والمجرور تنازعه كل من السمع والطاعة أي نسمع ونطيع في حال نشاطنا وحبنا للمأمور به كالسفر في جو معتدل إلى غزو قوم مضمون الظفر بهم

وفي حال كرهنا للمأمور به كالدعوة إلى السفر في الحر إلى عدو قوي الشكيمة (وأثره علينا) بفتحات أو بضم الهمزة وسكون التاء أي أنانية وحب النفس وهو مجرور عطفا على منا قبله (وأن لا ننازع الأمر أهله) لمراد بالأمر الملك والإمارة والمصدر المسبوك من أن والفعل عطف تفسير لما قبله لأن معنى عدم المنازعة هو الصبر على الأثرة (إلا أن تروا) استثناه من عموم الأحوال والتقدير وأن لا ننازع الأمر أهله في حال من الأحوال إلا في حال أن نرى منهم إلخ وكان المناسب أن يقول "إلا أن نرى" لكن عبر بضمير المخاطب لأن التقدير بايعنا قائلا إلا أن تروا إلخ (بواحا) أي ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا إذا أذاعه وأظهره (عندكم فيه من الله برهان) أي نص من قرآن أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل -[فقه الحديث]- قال النووي المراد بالكفر هنا المعصية ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه مخالفا لقواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم وقال الكرماني الظاهر أن الكفر باق على ظاهره والمراد من النزاع القتال فلا يقاتل السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر -[ويدل الحديث: ]- 1 - على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وعدم الخروج عليه ما دام فعله يحتمل التأويل

2 - وعلى ضرر الشقاق والخروج على الحاكم الشرعي 3 - وعلى إثم ذلك عند الله. 69 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به" -[المعنى العام]- أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سيقع في الأمة المحمدية من الفتن والأحداث التي يختلط فيها الأمر ولا يتبين الصواب وحذر من الخوض فيها ومشايعة أربابها أو اذكاء نارها أو مباشرة أي عمل فيها إذا في كل ذلك شر لما يترتب عليه من إزهاق أرواح وإضاعة أموال من غير موجب لذلك وبدون تضحية في سبيل الله والإسلام ثم أرشد النبي المسلمين إلى أن من أدخل نفسه في الفتن صرعته وأهلكته ومن وجد منفذا ينجو منه فليسلك

طريقه ويعتزل تلك الفتن فإنه أسلم لدينه وأبعد عن مواطن الزلل والشبهات أنجانا الله من ذلك -[المباحث العربية]- (فتن) بكسر الفاء وفتح التاء على صيغة الجمع وفي رواية "فتنة" بالأفراد هو فاعل تكون لأنها تامة (القاعد فيها) أي في زمن الفتن أو في نفسها (من تشرف لها) بفتح التاء والشين والراء المشددة أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها (تستشرفه) بالجزم جواب الشرط أي تجعله مشرفا على الهلاك يقال استشرفت الشيء أي علوته وأشرفت عليه (ملجأ) أي موضعا يلتجئ إليه من شرها (أو معاذا) بفتح الميم والذال وضبطه بعضهم بضم الميم وهو بمعنى الملجأ -[فقه الحديث]- المراد بالفتن جميع الاختلافات التي تكون بين أهل الإسلام ولا يكون الحق فيها معلوما وقيل المراد ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل وزاد الإسماعيلي عن إبراهيم بن سعد في أول هذا الحديث "النائم فيها خير من اليقظان واليقظان خير من القاعد" واليقظان هو المضطجع والظاهر أن المراد بيان طبقات المباشرين للفتنة في أطوارها كلها وأنهم درجات بعضهم في ذلك أشد من بعض فأعلاهم الساعي فيها بحيث يكون مدبرا لها ومهيئا أسبابها ثم من يكون محافظا على قيام أسبابها وهو الماشي ثم من يكون مباشرا لها أي منفذا لأعمالها وهو القائم ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد ثم من يكون مجتنبا لها

ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض عنها وهو النائم فالمراد من الأفضلية في هذه الخيرية أن يكون بعضهم أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور وقوله "من تشرف لها تستشرفه" أي من انتصب وتعرض لها انتصبت وتعرضت له فوقع فيها ومن أعرض عنها أعرضت عنه وقيل هو من المخاطرة والإشراف على الهلاك أي من خاطر بنفسه فيها أهلكته ونحوه قول القائل من غلبها غلبته "ومن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به" أي من لقي في زمن الفتنة مكانا بعيدا عنها فليعتصم به ويعتزل فيه ليسلم من الفتنة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها 2 - وأن شرها يكون بحسب التعلق بها والدور الذي يقوم به الداخل فيها. 70 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم"

-[المعنى العام]- يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يسكت المرء على المنكرات والمعاصي وإن كان لم يفعلها بنفسه ولكن قومه وبني وطنه يأتونها سرا وجهرا ولا ينكر عليهم يحذر النبي أمثال هذا بأن العقاب ينزل عليهم عقوبة لهم على سيئ أعمالهم يصيبهم جميعا صالحا وطالحا وإن كان جزاؤهم في الآخرة سيكون مختلفا على حسب أعمالهم وإذا كان ذلك الشأن مع من سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضي فكيف بمن عاون نسأل الله السلامة -[المباحث العربية]- (أصاب العذاب) الجملة جواب إذا والعذاب الثاني هو الأول إذ النكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول (ثم بعثوا) بالبناء للمجهول أي بعثهم الله يوم القيامة -[فقه الحديث]- لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "من كان فيهم" ذلك الذي يكون مع العصاة وإن لم يعمل بعملهم وليس على منهاجهم فالمعنى أن العذاب يصيبهم حتى الصالحين منهم ثم يبعث كل واحد على حسب عمله إن كان صالحا فعقباه صالحة وإلا فسيئة وذلك العذاب طهرة للصالحين وزيادة في درجاتهم ونقمة على الفاسقين فلا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في العذاب بل يجازى كل بعمله على حسب نيته وهذا من الحكم العدل لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون عليها في الآخرة وأما في الدنيا فما أصابهم من بلاء فهو تكفير لما قدموه من عمل سيئ كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو رفع لدرجاتهم أما أخذ الأطفال فهو لتكفير سيئات آبائهم أو رفع درجاتهم -[ويدل الحديث على: ]- 1 - أن الهلاك يعم الطائع مع العاصي

2 - وأن المجتمع لا ينجيه إلا الاستقامة لأن وجود العصاة المفسدين في المجتمع يهدمه ويمزقه 3 - وأنه لا يلزم من الاشتراك في كيفية الموت الاشتراك في الثواب أو العقاب 4 - وفيه تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 5 - ومشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة هذا إذا لم يرض أفعالهم فإن أعان أو رضي فهو منهم قاله في الفتح.

كتاب الأحكام

كتاب الأحكام الأحكام جمع حكم وهو عند الأصوليين خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين والمراد هنا النسبة التامة في القضية فالأحكام أي النسب التامة المتعلقة بأمور خاصة غير ما تقدم كالإمارة والقضاء وما أشبه ذلك والمقصود بيان آداب الحاكم وشروطه سواء كان خليفة أو قاضيا أو واليا أو أميرا كذا آداب المتحاكمين ومجلس القضاء 71 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" -[المعنى العام]- دخل رجلان من الأشعريين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما أمرنا يا رسول الله على قومنا وقال الآخر مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه" وسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فقال يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي ويحذر النبي أصحابه من الحرص على الإمارة والسعي لها ويخبرهم عن حالة ذميمة سيكونون عليها في مستقبل أيامهم فيقول إنكم ستحرصون على الإمارة فتفتكون وتسفكون الدماء وتستبيحون الأموال والأعراض فتكون

الإمارة بهذه الطريقة ندامة نعم قد ترضع صاحبها بعض الوقت وتنفعه بالمال والجاه ونفاذ الكلمة ولكنه لا محالة سيفطم وسيفصل عنها بالعزل أو بالموت فتكون الندامة والحسرة ولقاء الجزاء فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذة يعقبها حسرات -[المباحث العربية]- (إنكم ستحرصون على الإمارة) الخطاب للصحابة ومن بعدهم والمراد من الإمارة ما يشمل الإمامة العظمى وجميع الرئاسات (فنعم المرضعة وبئست الفاطمة) المخصوص بالمدح والذم محذوف لتقدم ما يدل عليه والفاء فصيحة في جواب وشرط التقدير إذا كانت الإمارة ندامة فنعم المرضعة الولاية وبئست الفاطمة هي وأسقطت التاء من نعم وألحقت لبئس تفننا وألا فالحكم فيهما واحد وهو أنه يجوز التأنيث وتركه إذ أن الفاعل مؤنث مجازي فيهما فضلا عن أن الحكم الخاص بنعم وبئس هو جواز تذكيرهما وتأنيثهما ولو كان الفاعل اسما ظاهرا حقيقي التأنيث تقول نعم المرأة هند ونعمت المرأة هند وقيل النكتة في ذلك أن إرضاعها هو أحب حالتيها إلى النفس وفطامها أشق الحالتين عليها فهو مبغوض لها والتأنيث أبغض حالتي الفعل والتذكير أشرف حالتيه فجعل أشرف حالتي الفعل مع الحالة المحبوبة وأبغض حالتيه مع الحالة المبغوطة وفي الحديث استعارة تبعية حيث شبه نفع الولاية صاحبها بالجاه والمال ونفاذ الكلمة والالتذاذ بذلك بالإرضاع واشتق من ذلك مرضعة بمعنى نافعة وشبه انقطاع فوائد الولاية وانفصاله عنها بموت أو غيره بالفطام عن الرضاع واشتق من ذلك فاطمة بمعنى قاطعة للنفع -[فقه الحديث]- يذم الحديث الحرص على الإمارة والسعي للحصول عليها لما يترتب على ذلك من مضار منها

1 - محاولة جمع الأنصار والمؤيدين بشتى الوسائل مما يوقع الفرقة والبغضاء بين المسلمين 2 - فرض طالب الإمارة نفسه على الناس وإشعارهم بأنه خير منهم وهذا يتنافى مع التواضع الذي ينبغي أن يكون عليه الأمير 3 - أن فتح هذا الباب يتيح لغير الأكفاء والعتاة الوصول إليها بسيف الحياء أو بالإكراه 4 - أن الباعث على طلبها غالبا ما يكون حب الرياسة وما يلابسها من منافع وملذات عاجلة بغض النظر عما تحتاجه من علم وورع وتبعات 5 - أن في إباحة طلب الإمارة تقاتل الراغبين فيها وتناحرهم وانتقام الغالب من المغلوب وحزبه وانتهاز المغلوب الفرصة للانقضاض على الغالب ولا يتنافى تقييد الندامة هنا بيوم القيامة مع ما تفيده رواية الطبراني من كون الندامة في الدنيا حيث روى "أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة" لأن الندامة قد تحصل في الدنيا بالحصار والعزل والحبس ومصادرة الأموال والقتل وقد تكون في الآخرة حين يطالب بتبعاتها وهذا لمن لم يعمل فيها بما يرضي الله ويحكم بما أنزل الله ولا يعارض هذا الحديث قول يوسف عليه السلام "اجعلني على خزائن الأرض" وقول سليمان "هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" لأن الكلام في غير الأنبياء فإنهم لا توجد في طلبهم الإمارة المضار السالفة الذكر -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن ما ينال الأمير من البأساء والضراء أبلغ وأشد بما يناله من النعماء والسراء 2 - ذم الحرص على الإمارة والتهالك في طلبها 3 - في الحديث علم من أعلام النبوة فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

72 - عن معقل بن يسار قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" -[المعنى العام]- يزجر النبي ويتوعد الحكام الذين يفرطون في حقوق الرعية ولا يؤدون الأمانة بإخلاص ولا يقومون على شئون العباد بما يصلح دينهم ودنياهم يتوعدهم بأنهم يكونوا يوم القيامة أبعد الناس عن رحمة الله حتى رائحة الجنة لا يشمونها مع أنها تدرك من مسافة بعيدة وما ذاك إلا لعظم ما ارتكبوا من خيانة الأمة وتضييع حقوقها -[المباحث العربية]- (استرعاه الله رعية) أي جعله راعيا وحافظا والجملة صفة لعبد (فلم يحطها) الفاء للعاقبة والصيرورة كاللام في قوله {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} أي ليصير الأمر إلى ذلك و"يحطها" بضم الحاء وسكون الطاء أي يحفظها وفي المختار "حاطه كلأه ورعاه وبابه قال وكتب" اهـ

(بنصيحة) وفي رواية "بالنصيحة" بزيادة ال وفي أخرى "بنصحه" بضم النون وهاء الضمير والنصح مصدر نصحه ونصح له ينصح والنصيحة الاسم منه وهما الإخلاص واجتناب الغش (إلا لم يجد رائحة الجنة) إلا أداة استثناء ملغاة وهي مع ما تفيد القصر وجملة "لم" يجد رائحة الجنة خبر المبتدأ الذي هو عبد ومن زائدة وفي نسخة بدون إلا وهي مشكلة لأن نفي النفي إثبات فتؤدي إلى أنه يجد رائحة الجنة وهو عكس المقصود وأجيب عنها بأن إلا مقدرة أو أن الخبر محذوف أي ما من عبد كذا إلا حرم الله عليه الجنة وجملة "لم يجد" استئناف كالمفسر له أو "ما" ليست نافية بل شرطية وجاز زيادة من للتأكيد في الإثبات عند بعض النحاة -[فقه الحديث]- أثبتت الروايات أن معقلا حدث بذلك حين عاده عبيد الله بن زياد في مرضه الذي مات فيه وكان ابن زياد أمير البصرة في زمن معاوية وولده يزيد وكان سفيها سفاكا للدماء ولذا حدثه معقل بما لعله يردعه والمراد من قوله "إلا لم يجد رائحة الجنة" أنه لا يجد هذه الرائحة إذا كان مستحلا لذلك أو لا يجدها مع السابقين أو الكلام خرج مخرج التغليظ والتنفير ورائحة الجنة يدركها الشخص يوم القيامة من مسافة بعيدة ففي رواية الطبراني "وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاما" فيكون في الكلام مبالغة في بعده عن الجنة -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - عظم المسئولية والأمانة الملقاة على عاتق الحكام 2 - الزجر والنهي عن ظلم الرعية وخيانة الوطن 3 - الوعيد الشديد للولاة الظالمين.

73 - وعنه أيضا رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة" -[المعنى العام]- يعلم النبي أمته أن من قلده الله شيئا من أمر المسلمين واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم ودنياهم ثم خان فيما أؤتمن عليه يظلمه لهم من أخذ أموالهم أو سفك دمائهم أو انتهاك أعراضهم أو حبس حقوقهم أو إهمال إقامة الحدود فيهم وردع المفسدين منهم ونحو ذلك فيخبر أن من غش وخان بشيء من ذلك حرم الله عليه الجنة وتوجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فليحذر الذين يخالفون عن أمره وليعلموا أن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع -[المباحث العربية]- (ما من وال) ما نافية ومن زائدة ووال مبتدأ (فيموت) الفاء هنا للعاقبة والصيرورة كاللام في قوله تعالى {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} وفي قولهم "للموت ما تلد

الوالدة" وهي لم تلده لأن يموت ولكن المصير إلى ذلك قاله الزجاج (وهو غاش) جملة حالية مقيدة للفعل مقصودة بالذكر (إلا حرم الله عليه الجنة) إلا أداة استثناء ملغاة وهي مع ما تفيد القصر وجملة "حرم الله إلخ" خبر المبتدأ -[فقه الحديث]- لقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم كل حاكم أو رئيس لجماعة من المسلمين أن الله تعالى إنما ولاه واسترعاه على عباده ليديم لهم النصيحة حتى يموت على ذلك فإذا قلب القضية استحق أن يعاقب بأن حرم الله عليه الجنة وهذا وعيد شديد لائمة الجور فمن ضيع حقوق من استرعاه الله عليهم استحق هذا العذاب إذا استحل ما صنع أو المراد به التغليظ والتنفير وعبر هنا بقوله "حرم الله عليه الجنة" وفيما قبله بقوله "لم يجد رائحة الجنة" ولا مانع من وقوع اللفظين منه صلى الله عليه وسلم فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ البعض قال في الفتح وهو محتمل لكن الظاهر أنه لفظ واحد تصرف فيه الرواة والله أعلم. 74 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان"

-[المعنى العام]- يهدف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث إلى تحري العدالة بين المتقاضيين وأن على القاضي أن يتجنب كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين معرفة الصواب واستبانة الحق ولا سيما ما يكون راجعا إلى نفس القاضي كأن يكون متوتر الأعصاب أو جائعا أو مريضا أو نحو ذلك مما يشغل القلب عن استيفاء النظر وتحري العدالة بين المتخاصمين -[المباحث العربية]- (عن أبي بكرة) نفيع بن الحارث الثقفي (لا يقضين) بتشديد الياء والنون توكيدا للنهي (حكم) بفتح الحاء والكاف هو الحاكم وقد يطلق على القيم بما يسند إليه (بين اثنين) أي بين طرفي خصومة أعم من أن يكونا شخصين أو أكثر (وهو غضبان) جملة حالية والغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام -[فقه الحديث]- إنما نهي عن الحكم في هذه الحالة لأن الغضب قد يتجاوز بالحكم إلى غير الحق وقاس الفقهاء على ذلك كل ما يحصل به اضطراب الفكر كجوع شديد ومرض مؤلم وخوف مزعج وبرد قاتل وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغل عن استيفاء النظر واقتصر في الحديث على ذكر الغضب لأنه أشد هذه الأنواع حيث يستولي على النفس وتصعب مقاومته بخلاف غيره وهو يشمل الغضب لله تعالى لشغله القلب كغيره ولو خاف وحكم حال الغضب صح إن صادف الحق مع الكراهة وعن بعض الحنابلة لا يصح عملا بظاهر النهي وهي اقتضاؤه للفساد وفصل بعضهم بين أن يكون

الغضب قد طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف ولا يعترض بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم للزبير بعد أن أغضبه خصم الزبير لعصمته صلى الله عليه وسلم فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضا -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - النهي عن الحكم في حال الغضب فإن حكم فالكراهة عند الجمهور والحرمة عند أهل الظاهر 2 - حرص الشارع على كل ما يوفر العدالة بين المتخاصمين ويستفاد من إطلاق الغضب أنه لا فرق بين مراتبه ولا أسبابه بالنسبة لهذا الحكم. 75 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال من ذا فقلت أنا فقال أنا أنا كأنه كرهها" -[المعنى العام]- يرشد النبي صلى الله عليه وسلم من يدق باب الغير لحاجة أو استئذان إذا سئل من

هذا الذي يستأذن أو يدق الباب أن يجيب بما يكشف عن شخصه ويميز حقيقة ذاته عند السائل ولا يكتفي بمجرد قوله "أنا" فإنه لا يفيد المقصود ولذا كرهه النبي من جابر بن عبد الله حين أجاب به بعد أن دق بابه عليه الصلاة والسلام -[المباحث العربية]- (في دين) أي بسبب دين فلفظ (في) هنا للسببية (فدققت الباب) بقافين أي ضربته ضربا شديدا وفي رواية "فضربت" وفي ثالثة "فدفعت" (من ذا) أي من الذي يدق الباب والاستفهام خبر مقدم والإشارة مبتدأ مؤخر (أنا) خبر مبتدأ محذوف أي الذي يدق هو أنا (أنا أنا) الثانية توكيد للأولى وإنما أكد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه انفعل من ذلك (كرهها) بضمير المؤنث أي كره هذه اللفظة وفي رواية (كأنه كره ذلك) وفي ثالثة "كره ذلك" بدون تشبيه والكلام على التحقيق والراجح رواية التشبيه لما فيها من زيادة الاحتياط لأن الكراهية أمر نفسي خفي يظن ولا يجزم به بالقرائن -[فقه الحديث]- إنما كره النبي قول جابر (أنا) لما فيه من تعظيم النفس والكناية عنها بالضمير المنافي للخضوع والتواضع ولأنه أجابه بغير ما سأل عنه وكان حق الجواب أن يقول (أنا جابر) فإنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف عين الذي ضرب الباب بعد أن عرف أن ثم ضاربا فلم يستفد منه المقصود وكان الدين الذي على عبد الله الأنصاري والد جابر ثلاثين وسقا من تمر لأبي الشحم اليهودي

ولعل ملحظ الزبيدي في ذكر هذا الحديث في كتاب الأحكام هو جواز نيابة الولد عن والده في المقاضاة والتقاضي في ساحة القضاء -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مشروعية دق الباب عند الاستئذان دقا مناسبا 2 - أن على المسئول أن يجيب إجابة واضحة تفيد المقصود من السؤال 3 - تقويم الحاكم لخطأ المتقاضي وإن كان في بيته 4 - أن الرسول لم يتخذ لنفسه بوابا. 76 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا" -[المعنى العام]- يرشد النبي إلى ما يقوي رباط المحبة والألفة ويرفع الضغائن من النفوس ومن أهم عوامل ذلك الترابط الأخوي والمحبة الدائمة أن لا يقيم الرجل أخاه من مجلسه ليجلس هو مكانه إذ أنه حين يفعل ذلك تملأ نفس أخيه حقدا وضغينه ويوقظ حميته وأنفته فتقع العداوة والبغضاء ولكن الأليق بالجالس أن يفسح للقادم وللداخل أن يقول افسحوا وتوسعوا قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم}

-[المباحث العربية]- (لا يقيم الرجل) لا نافة والمراد النهي بدليل رواية "لا يقيمن" بلفظ النهي المؤكد بالنون وذكر الرجل لأن الأغلب مخاطبة الشرع للرجل فالحكم يشمل النساء (ولكن) الاستدراك على لازم العبارة المذكورة أي أنتم أيها الجالسون أحق بأماكنكم ولكن (تفسحوا وتوسعوا) عطف توسعوا تفسيري -[فقه الحديث]- ظاهر النهي التحريم فلا يصرف عنه إلا بدليل ولفظ الحديث وإن كان عاما لكنه مخصوص بالمجالس المباحة إما على العموم كالمسجد ومجالس الحكام والعلم وإما على الخصوص كمن يدعو قوما بأعيانهم إلى منزل لوليمة أو نحوها أما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك ولا إذن له فيها فإنه يقام ويخرج منها وكذا إذا جلس في المجالس العامة وكان مجنونا أو يتأذى منه كالسفيه إذا دخل مجلس العلم والحكمة في هذا النهي منع استنقاص المسلم المقتضي للضغائن والحث على التواضع المقتضي للمودة والمحبة وأيضا فالناس في المباح كلهم سواء فمن سبق إلى شيء استحقه ومن استحق شيئا فأخذ منه بغير حق فهو غصب والغصب حرام (ولكن تفسحوا وتوسعوا) وفي رواية "ولكن ليقل افسحوا وتوسعوا" والأمر للندب والاستحسان وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلس لم يجلس فيه وهو ورع منه لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحيا من غير طيب قلب فسد ابن عمر الباب ليسلم من هذا -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - منع إقامة شخص من مجلس استحقه ليجلس فيه غيره مهما كان ذلك الغير عظيما 2 - استحباب أن يتسع الجالسون لمن يقدم عليهم بأن ينضم بعضهم

إلى بعض حتى يفضل مجلس للداخل 3 - مراعاة آداب المجالس عامة ومجالس الحكام خاصة. 77 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس أجل أن يحزنه" -[المعنى العام]- يحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تقوية العلاقات الاجتماعية فينهى عما يؤدي إلى تفريق الناس واختلافهم وتأثر بعضهم من بعض وسوء ظن المسلم بأخيه حين يتناجى اثنان أو أكثر ويتركون واحدا تفترسه الظنون وتحيط به الشكوك من جراء ذلك التصرف المشين وقد يحمله ذلك على التباغض والتقاطع وهذا ما لا يرضاه الدين -[المباحث العربية]- (فلا يتناجى) بالألف بعد الجيم فلفظه خبر ومعناه النهي وفي نسخة "يتناج" بإسقاط الألف بلفظ النهي والفاء في جواب "إذا"

(حتى تختلطوا) بالتاء قبل الخاء وفي رواية بالياء أي حتى يختلط الثلاثة بغيرهم واحدا كان ذلك الغير أو أكثر (أجل) بجيم ساكنة ولام مفتوحة كذا استعمله العرب فقالوا "أجل قد فضلكم" بحذف من أي من أجل وهو مفعول لأجله (أن يحزنه) يجوز أن يكون من حزن وأن يكون من أحزن فالأول من الحزن والثاني من الإحزان والمصدر مضاف إليه وفي الكلام مضاف محذوف أي أجل خشية إحزانه -[فقه الحديث]- جاء في صحيح مسلم عن نافع عن ابن عمر مرفوعا "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه" والعلة في ذلك أن الواحد إذا بقي فردا وتناجى من عداه دونه ربما ظن احتقارهم له وسوء رأيهم فيه أو أنهم يريدون به غائلة وهذا المعنى مأمون عند الاختلاط وعدم إفراده من بين القوم بترك المناجاة فلا يتناجى ثلاثة دون واحد لأنه قد نهي عن أن يترك واحد وإنما خص الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتصور فيه ذلك المعنى فما وجد المعنى فيه ألحق به في الحكم فإن تناجى اثنان وتركا ثالثا فلا يجوز له التسمع عليهما فإن هدف الشارع مراعاة الشعور والحرص على ترك ما يؤذي المؤمن كذلك لا ينبغي لداخل القعود عند متناجيين ولا التسمع من بعد لحديثهما إلا إذا وجدت قرينة الإذن والرضا -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - النهي عن مناجاة ومسارة أحد الجالسين معك وترك آخر فريدا 2 - جواز مناجاة البعض وترك البعض عند الاختلاط سواء كان الزائد عن الثلاثة قد جاء اتفاقا أم عن طلب كما كان يفعل ابن عمر إذ كان يدعو رابعا ثم يناجي الذي أراد

3 - يؤخذ من التعليل أن المناجي إذا كان ممن إذا خص أحدا بمناجاته أحزن الباقين امتنعت مناجاته 4 - أن الإسلام دين المجتمعات والإحساس الرقيق ومراعاة شعور الناس 5 - رعاية آداب المجالس عامة ومجلس القضاء خاصة

كتاب الدعوات

كتاب الدعوات 78 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" -[المعنى العام]- يكشف هذا الحديث عن مدى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على خير أمته وسعادتها في الدنيا والآخرة حيث أنه يدخر دعوته المستجابة وشفاعته العظمى التي وعده الله بها إلى الآخرة حتى يشفع للمذنبين من أمته شفاعة كريمة يرضي بها قلب الرسول الرءوف الرحيم -[المباحث العربية]- (يدعو بها) أي بهذه الدعوة والجملة صفة دعوة (اختبئ دعوتي شفاعة) أي ادخرها و"شفاعة" مفعول لأجله -[فقه الحديث]- استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المستجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم إذ ظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة واحدة فقط وأجيب بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها وما عدا ذلك

من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة وقيل معنى قوله "لكلنبي دعوة" أي أفضل دعواته وله دعوات أخرى وقيل لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب في الحال ومنها ما يؤخر إلى وقت إرادة الله عز وجل "وأريد أن أختبئ دعوتي" أي المقطوع بإجابتها "شافعة لأمتي" أي المذنبين منها "في الآخرة" وظاهر قوله "فجعلت دعوتي شافعة" الجزم بذلك وهو يتعارض مع قوله هنا "أريد أن أختبئ" وجمع الحافظ بينهما بقوله وبأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤخرها ثم عزم ففعل ورجا وقوع ذلك فأعلمه الله فجزم به وفي حديث أنس "لكل نبي دعوة فدعا بها فاستجيبت فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" ومن كثرة كرمه عليه الصلاة والسلام أن آثر أمته على نفسه ومن صحة نظره أن جعلها في الدار الباقية دون الفانية وللمذنبين لاحتياجهم إليها دون الطائعين -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - فضل نبينا على سائر الأنبياء حيث آثر أمته بدعوته المجابة ولم يجعلها أيضا دعاء عليهم بالهلاك كما وقع من غيره 2 - كمال شفقته بأمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم حيث جعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم.

كتاب التوحيد

كتاب التوحيد 79 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" -[المعنى العام]- يبين الحديث فضل الله على عباده المؤمنين الذين يتقربون إليه تعالى فيعملون الصالحات ويؤدون الواجبات راجين القبول طامعين في الغفران تمسكا بصادق وعده فإنه سبحانه يقبل أعمالهم ويثيبهم على طاعتهم يستجيب دعاءهم ويقبل عليهم ويرضى عنهم ويخلصهم من المحن والشدائد والكروب كما يبين أيضا أن من وفق من عباد الله لعمل طاعة من الطاعات مخلصا فيها ضمن من الله جزاء وافرا وذلك بالرضا عنه والإقبال والمبادرة إلى إكرامه أعظم الإكرام فسبحان من تفضل على عباده المؤمنين بنعمة الإيجاد في البداية وفي حال الحياة بالهداية وبالنعيم المقيم في النهاية -[المباحث العربية]- (أنا عند ظن عبدي) قال بعضهم لفظ "عند" موضوع للمكان والله

تعالى منزه عن المكان فالمراد هنا سبق إثابة الله لمن يظن به خيرا وقال الراغب أنه موضوع للقرب ويستعمل في المكان (في ملإ) أي في جماعة وقوم والظاهر أن "في" هنا للظرفية المجازية لتلبس الذكر بالملإ حيث وصل إلى أسماعهم كتلبس المظروف بالظرف فيكون الشخص ذاكرا والملإ مستمعين وعلى هذا لا تكون "في" للمصاحبة (شبرا ذراعا باعا) بالنصب على التمييز أي مقدار شبر ومقدار باع والباع عبارة عن طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره (هرولة) أي إسراعا وفي المصباح هرول أسرع في مشيه ولهذا يقال هو بين المشي والعدو ولفظ النفس والتقرب والهرولة في جانب الله مجاز على سبيل المشاكلة أو على طريق الاستعارة أو قصد إرادة لوازمها وإلا فهذه الإطلاقات وأشباهها مستحيلة على الله تعالى على سبيل الحقيقة -[فقه الحديث]- يقول الله عز وجل "أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامله به فإن ظن أني أعفو عنه وأغفر له فله ذلك وإن ظن أني أعاقبه وأؤاخذه فذلك وقيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر وما قبل ذلك فالمختار الاعتدال وعليه فينبغي للمرء أن يجتهد في العبادات موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك والله لا يخلف الميعاد فإن اعتقد أو ظن خلاف ذلك فهو آيس من رحمة الله تعالى وهذا من الكبائر ومن مات على ذلك وكل إلى ظنه ومحل ذلك أن يكون العبد قائما بما طلب منه وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرور والخلاصة أن حسن الظن المعتبر مستلزم لحسن العمل وإلا فهو الطمع المذموم الذي يورد صاحبه موارد الهلكة ومعنى "وأنا معه إذا ذكرني" أن العبد حين يذكر فالله معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي معية خصوصية غير المعلومة من قوله تعالى {وهو معكم أين ما كنتم} فإنها

المعية بالعلم والإحاطة "فإن ذكرني" بالتنزيه والتقديس والتعظيم "في نفسه" بالقلب أو باللسان سرا "ذكرته" أي أثبته ورحمته وأمنته إن كان خائفا وآنسته إن كان مستوحشا "في نفسي" دون أن أعلنه للملائكة أو غيرهم "إن ذكرني في ملإ" أي أمام جمع وهمم يستمعون عظمة الله تعالى وجلاله ونعمه وكل ما يليق به "ذكرته في ملإ خير منهم" وهم الملأ الأعلى أي أن الله تعالى يذكره بحسن الثناء والوعد بالجزاء مسمعا بذلك الملائكة وغيرهم وهذا فخر دونه كل فخر ولا يلزم من ذلك تفضيل الملائكة على بني آدم لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأيضا فإن الخيرية إنما حصلت بالذكر والملأ معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الملأ الذي ليس فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالمجموع على المجموع "وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" يعني من تقرب إلي بطاعة قليلة جازيته بمثوبة كثيرة وكلما زاد في الطاعة زدت في ثوابه وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني فإتياني له بالثواب على السرعة -[ويستفاد من الحديث: ]- 1 - جواز إطلاق النفس على الذات العلية فهو إذن شرعي في إطلاقها عليه تعالى ويقويه قول الله تعالى {ويحذركم الله نفسه} 2 - مضاعفة الله للعبد ثواب أعماله 3 - سعة فضل الله على عباده وإكرامه لهم بعاجل الثواب 4 - قال الكرماني وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة العندية فإن العاقل إذا سمع ذلك ظن لنفسه الخير

80 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" -[المعنى العام]- يدفع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى السمو النفسي والطهر القلبي والنور الرباني والصفاء الروحاني والتفاني ظاهرا وباطنا في تقديس الله تعالى وتنزيهه وتمجيده وتعظيمه وإجلاله فيحتم على مداومة ذكره تعالى بكلمتين خفيفتين على اللسان فلا يصعب على أحد ترديدهما ولكنهما ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن يعم من يتقرب إليه بهما كل إكرام وتفضيل من الخالق على المخلوقين وإن شئت فاستمع إلى قوله عليه الصلاة والسلام من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وعن علي رضي الله عنه قال من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه أو حين يقوم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

-[المباحث العربية]- (كلمتان) أي كلامان فهو من باب إطلاق الكلمة على الكلام وهو خبر مقدم وما بعده صفة بعد صفة والمبتدأ جملتا "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" لأنهما وإن كانا منصوبين على الحكاية فهما في محل رفع ولا يرد أن الخبر مثنى والمبتدأ ليس كذلك لأنه على حذف العاطف أي سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم كلمتان خفيفتان إلخ وقدم الخبر ليشرف السامع إلى المبتدأ فيكون أوقع في النفس وأدخل في القبول لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب ورجح بعضهم كون "سبحان الله إلخ" هو الخبر لأنه مؤخر لفظا والأصل عدم مخالفة اللفظ محله إلا لموجب يوجبه ولأنه محط للفائدة بنفسه بخلاف "كلمتان" فإنه إنما يكون محطا للفائدة باعتبار وصفه بالخفة على اللسان والثقل في الميزان والمحبة للرحمن لا باعتبار ذاته إذ ليس متعلق الغرض الإخبار منه صلى الله عليه وسلم عن سبحان الله إلخ بأنهما كلمتان بل بملاحظة وصفه بما ذكر فكان اعتبار سبحان الله إلخ خبرا أولى وهو من قبيل الخبر المفرد بلا تعدد لأن كلا من سبحان الله عامله المحذوف الأول والثاني مع عامله الثاني إنما أريد لفظه والجملة المتعددة إذا أريد لفظها فهي من قبيل المفرد المبتدأ لأنه معلوم وكلمتان باعتبار وصفه بما ذكر هو الخبر لأنه مجهول والقاعدة إذا اجتمع معلوم ومجهول يجعل المعلوم مبتدأ والمجهول خبرا (حبيبتان) تثنية حبيبة بمعنى محبوبة وفعيل إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا ذكر الموصوف نحو رجل قتيل وامرأة قتيل فإن لم يذكر الموصوف فرق بينهما نحو قتيل وقتيلة وحينئذ فوجه لحوق علامة التأنيث هنا أن التسوية جائزة لا واجبة ومناسبته للخفيفة والثقيلة لأنهما بمعنى الفاعل لا المفعول وقيل هذه التاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية (خفيفتان على اللسان) فيه استعارة حيث شبه سهولة جريانهما على اللسان بخفة المحمول من الأمتعة واشتق من ذلك (خفيفتان) بمعنى سهلتي الجري على اللسان لقلة حروفهما ورشاقتهما

(الميزان) هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد والأصح أنه جسم محسوس ذو لسان وكفتين وفي كيفيته أقوال وفي هذا الجزء من الحديث المقابلة والموازنة في السجع لأنه قابل الخفة على اللسان بالثقل في الميزان وقال حبيبتان إلى الرحمن لأجل الموازنة بقوله على اللسان وحبيبتان وخفيفتان وثقيلتان صفات لقوله كلمتان كما مر وفي الرواية تقديم حبيبتان على ما بعدها وفي رواية "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن" (سبحان الله) سبحان اسم مصدر لسبح بالتشديد وقياس مصدر فعل المشدد إذا كان صحيح اللام التفعيل كالتسليم والتكريم وقيل مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي وهو من الأسماء الملازمة للإضافة وقد يفرد فإذا أفرد منع الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون وهو لازم النصب بفعل مقدر ولا يجوز إظهاره وإضافته إلى المفعول أي سبحت الله ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل أي نزه نفسه والأول هو المشهور ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص (وبحمده) قيل الواو زائدة فهو مع سبحان الله جملة واحدة وقيل عاطفة أي وبحمده سبحته فذلك جملتان وقيل للحال أي أسبحه متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه لي للتسبيح ونحوه والباء في قوله "بحمده" للملابسة والحمد مضاف للمفعول أي متلبسا بحمدي له كما تقرر وقيل للاستعانة والحمد مضاف للفاعل أي أسبحه بحمده إذ ليس كل تنزيه محمودا ألا ترى أن تسبيح المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات وقيل للسببية أي أسبح الله وأثني عليه بحمده قال الخطابي المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب على حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي يريد أنه مما أقيم فيه المسبب مقام السبب -[فقه الحديث]- أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" أن قائلهما محبوب

لله تعالى ومحبة الله لعبده إرادته إيصال الخير له والتكريم وخص اسم الرحمن دون غيره من أسماء الله الحسنى لأن كل اسم منها إنما يذكر في المكان اللائق به كقوله تعالى {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} وكذلك هنا ولما كان جزاء من يسبح بحمده تعالى الرحمة ذكر في سياقها الاسم المناسب لذلك وهو الرحمن والكلمتان خفيفتان على اللسان للين حروفهما وسهولة مخارجهما فالنطق بهما سريع وذلك لأنه ليس فيهما من حروف الشدة المعروفة ولا من حروف الاستعلاء أيضا سوى حرفين "الباء والظاء" وقد اجتمعت فيهما حروف اللين الثلاثة "الألف والواو والياء" وبالجملة فالحروف السهلة الخفيفة فيهما أكثر من العكس واختلف في قوله "ثقيلتان في الميزان" فقيل الثقل حقيقة كما هو مذهب أهل السنة لكثرة الأجور المدخرة لقائلهما والحسنات المضاعفة للذاكر بهما فالموزون نفس الكلمات لأن الأعمال تتجسم وقيل الموزون صحائفها لحديث البطاقة المشهور ووصف الكلمتين بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب وفي هذا الوصف إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفوس وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان وقد روي في الآثار أن عيسى عليه الصلاة والسلام سئل ما بال الحسنة تثقل والسيئة تخف فقال لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت عليك فلا يحملنك على فعلها خفتها فإنما بذلك تخف الموازين يوم القيامة "سبحان الله وبحمده" أي أسبح الله تسبيحا يختص به وأنزهه عن كل ما لا يليق به تنزيها متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه لي وقدم التسبيح على التحميد تقديما للتخلية وختم بقوله "سبحان الله العظيم" ليجمع بين مقامي الرجاء والخوف إذ معنى الرحمن يرجع إلى الإنعام والإحسان فيقتضي الرجاء ومعنى العظيم يشعر بالقوة والغلبة فيقتضي الخوف من هيبته تعالى وفي رواية "سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده" وكرر التسبيح دون التحميد اعتناء بشأن التسبيح لكثرة المخالفين فيه قال الحافظ وجاء ترتيب هذا الحديث على إسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال ثم

بين ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - الحث على إدامة الذكر باللفظ المذكور لمحبة الرحمن له وخفته بالنسبة لما يتعلق بالعمل وثقله بالنسبة لإظهار الثواب 2 - أن مثل هذا السجع الوارد فيه جائز فإن المنهي عنه في قوله عليه الصلاة والسلام "سجع كسجع الكهان" ما كان متكلفا أو متضمنا للباطل لا ما جاء عن غير قصد أو تضمن حقا ويؤخذ من ذلك أن السجع ليس يشعر فلا يوزن على أن الممنوع منه صلى الله عليه وسلم ما كان عن قصد كما تقدم 3 - إيراد الحكم المرغوب في فعله بلفظ الخبر لأن المقصود من الحديث الأمر بملازمة الذكر 4 - جواز المقابلة والموازنة في السجع. 5 - فيه إشارة إلى امتثال قوله تعالى {وسبح بحمد ربك}

§1/1