المنهج بين الماضي والحاضر

عبد الله بن أحمد قادري

المنهج بين الماضي والحاضر

مسئولية التعليم المنهج بين الماضي والحاضر بقلم عبد الله قادري عميد كلية اللغة العربية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . أما بعد فإن الله تعالى خلق الإنسان في الأرض ليكون خليفة فيها يقوم بعمارتها وإصلاحها على أساس واحد، وهو عبادة الله تعالى التي تشمل نشاط ابن آدم كله - روحياً أم عقلياً أم جسمياً - كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} والحصر المذكور في الآية حقيقي وليس إضافياً ولا ينافي هذا ما هو واقع من بعض البشر من أنهم لا يعبدون الله العبادة الاختيارية الشرعية كالوثنيين واليهود والنصارى والشيوعيين. كما أنه لا ينافي وجود عصاة من المسلمين يخرجون عن عبادة الله في بعض تصرفاتهم وما يقع من المسلمين من الأعمال التي لا يقصدون بها وجه الله من المباحات، لأن

الله تعالى أراد من عباده - شرعاً - أن يكون نشاطهم كله مبتغي به وجهه، سواء كان فعلاً - كالواجب والمندوب والمباح - أو تركاً- كترك المحرم والمكروه - وهي الأحكام الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه، ولا تخرج أفعال الإنسان وتروكه عن هذه الأحكام. فإذا ابتغى الإنسان بذلك كله وجه الله فقد حقق معنى قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} تحقيقاً كاملاً وإن قصر في شيء من ذلك فقد قصر في شيء خلقه الله من أجله. والتقصير الحاصل من المخلوق لا يؤثر في الحصر الحقيقي الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى من عبده شرعاً. والنصوص الدالة على أن الله أراد من عبده أن يكون عابداً له في كل لحظة لا تحصى كثرة، ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وبدلاً من سوق النصوص في وقت لا يتسع لذكرها أنبه على قاعدة يمكن لمن عرفها - وما أقل العارفين لها - أن يفتح أي صفحة من صفحات كتاب الله ليجد أن الله تعالى يربط أصول الإسلام وفروعه به سبحانه فيقول في العبادة مثلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم} وإذا أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة كما في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} جعل نفسه مع من استجاب لأمره فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وإذا أباح لعباده المؤمنين الطيبات من رزقه أمرهم بشكره كما قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} ورد على مبيحي الربا قياساً على البيع بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ثم قال بعد ذلك: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . وهكذا لا يأمر الله بأمر أو ينهى عن شيء أو يمدح صفة أو يذم أخرى إلى ربط سبحانه ذلك به بأساليب متنوعة، وعلى قارئي القرآن أن يتدبروا ذلك ويتأملوا في كثرة اسم الجلالة، والرب أو غيرهما من أسماء الله ليعلم حق العلم أن كل حركة يتحركها العبد أو سكنة يسكنها في عمره كله ينبغي أن يقصد بها وجه الله تعالى ليحقق العبادة في عمره كله.

ومن الأمثلة الواضحة في ذلك من السنة النبوية إن الكلمة الطيبة صدقة، والابتسام في وجه المؤمن صدقة، وإتيان الرجل زوجته له فيه أجر، وترك المعصية لله بعد الهم بها حسنة، ومنها أنا أمرنا أن نذكر الله في كل حالاتنا.. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله"، وإذا بدأنا تناول الطعام، أو فرغنا من تناوله، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند دخول المرحاض وعند الخروج منه، وعند النوم والاستيقاظ منه، وعند بدء السفر وعند العودة منه، وعند لقاء الكفار في الحرب، وفي إدبار الصلوات، وغير ذلك مما لا يحصيه العد. ولقد فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من سلفنا الصالح هذا المعنى فكانوا يحتسبون عند الله كل أعمالهم، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " والله إني لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى " أي إني أرجو أن يكتب الله لي ثواباً على نومي لأني ابتغي به وجهه، كما أرجو أن يكتب لي الأجر على قيام الليل كذلك. وهذا الفهم الكامل هو ما دعا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يعرف العبادة بقوله:" العبادة اسم جامع لكم ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ". ويرتبط بهذا المعنى ارتباطاً كاملاً أن يسعى العبد- الذي فهم هذا الفهم وطبقه في نفسه- حثيثاً لدعوة غيره إلى ذلك حتى يكون ممن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وليخرج الناس من عبادة المخلوقين إلى عبادة الله وحده. هذا المعنى الذي سبق الكلام عنه باختصار هو المحور الذي يجب أن تدور حوله جميع تصرفات المسلمين ومنها:

التعليم

- التعليم: ولا مجد للأمة الإسلامية إن لم يكن هذا المعنى هو محور أعمالها كلها {وَالْعَصْرِ

إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .

منطلق التعليم

منطلق التعليم إذا عرفنا ما تقدم فإن التعليم يجب أن ينطلق لتحقيق ذلك الهدف العظيم وأن تصطبغ جميع مواده بالعقيدة الإسلامية والخلق الإسلامية، وأن يكون المسؤلون عن التعليم من أكبر موظف إلى أصغر موظف ممن تحقق فيهم معاني: " لا إله إلا الله محمد رسول الله ". ولقد ربط الله أعظم مفتاحين للمعرفة- القراءة أو الكتابة- باسمه الكريم في أول الآيات نزولاً على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بوجوب الالتحام بين المعارف والعلوم التي يستطيع الإنسان أن يبلغها وبين عبادة الله سبحانه، بل وامتن على الإنسان بأن ما يعلمه إنما هو من فضله تعالى وكرمه لا من عند نفسه وذلك يستوجب شكر الله تعالى، قال عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . والحديد الذي ملأ الأرض ببأسه ومنافعه- في هذا العصر بما لم يعهد له نظير في التاريخ – فيما نعلم- ربطه الله بكتبه ورسله ونصر دينه، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وقد كان يمثل لمنافع الحديد عند نزول الآية الكريمة بالقصعة والإبرة والفأس ونحوهما، أما الآن فيصعب حصر أدوات منافعه، كما كان يمثل لبأسه بالسيف والدرع ونحوهما وأين ذلك من بأس الحديد الآن. وفي الآية الكريمة فوق كونها من أصرح الآيات دلالة على ربط العلوم والمؤسسات والمصانع بألوهية الله تعالى فيها فوق ذلك معجزة عظيمة من معجزات القرآن الكريم لهذه الإشارة بكلمات قليلة مشتملة على كل ما يمكن أن يخطر بالبال من منافع الحديد وبأسه.

وقد أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم الأجر لصانع السلاح والممد به كما أثبته لمن يباشر القتال به. ومن هذا يتضح بأنه ينبغي أن تكون مدارس المسلمين ومعاهدهم وجامعاتهم محققة لهذا المعنى منجبة علماء مسلمين هدفهم الأول تحقيق العبودية للإله الواحد في ذات أنفسهم، ثم دعوة غيرهم إلى تحقيقها، لا فرق بين متخصص وغير متخصص كلهم رجال دين وإن لم يكونوا كلهم علماء دين بالمفهوم التخصصي، كل منهم راسخ العقيدة ثابت الإيمان زكي الخلق عالم بما يحب عليه من عمل، عضو عامل مجاهد داع إلى الله، لا فرق- في الأصل- بين مدرس وقاض وطبيب وسياسي واقتصادي وصانع. كل منهم يشعر وهو يؤدي عمله أنه يعبد الله ويحقق مع إخوانه الخلافة التي أراد الله منهم تحقيقها في الأرض. لا انفصام ولا تنافر ولا خلاف بل التحام وتعاون واعتصام يجسدون في الواقع معنى الأخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ومعنى التعاون: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

واقع البشرية قبل المنهج الأقوم

(واقع البشرية قبل المنهج الأقوم) ولقد كانت أمم العالم قل البعثة المحمدية- التي حملت أقوم منهج للبشرية كلها إلى يوم القيامة- في تيه وضياع. كانت كما وصفها الأستاذ الندوي في كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين". بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً فإذا كل شيء فيه في غير محله، نظر إلى العالم فرأى إنساناً هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والنهر وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضرر. رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته فلم تعد تستسيغ البديهيات وتعقل الجليات وفسد نظام فكره فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس. يستريب في موضع الحزم ويؤمن في موضع الشك. وفسد ذوقه فصار يستحلى المر ويستطيب الخبيث ويستمرىء الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ولا يحب الصديق الناصح.

أرى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعياً، والخصم الجائر قاضياً وأصبح المجرم فيه سعيداً والصالح محروماً شقياً، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر. ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك، رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حد وأد وقتل الأولاد. رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً وعباد الله خولاً، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائفة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح فعادت وبالاً على أصحابها وعلى الإنسانية. فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية والجود تبذيراً وإسرافاً، والأنفة حمية جاهلية والذكاء خديعة، والعقل وسيلة لارتكاب الجنايات والإبداع في إرضاء الشهوات. رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح خشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع. والسياسة كجمل هائج على غاربه، والسلطات كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ويجرح به أولاده واخواته. قلت: وإذا كان الأستاذ الندوي نقل هذه الصورة الصادقة عن المصادر العلمية والتاريخية فإن صورة العالم اليوم لا تختلف عن تلك الصورة إلا في أن صورة عالم اليوم ابتكرت لشره وبلائه وتحطيمه وسائل أكثر هدماً وأسرع فتكاً وأشد بريقاً ولمعاناً تزخرف وتنفذ بسرعة هائلة يصعب على المرء متابعتها حيث ينسى بلاء اليوم محنة الأمس. ومصادرها الحس والمشاهدة، ودليلها النتائج المدمرة..

وأصبحت الذبابة نحلة

وأصبحت الذبابة نحلة هل رأي أحد يوما الذبابة القذرة التي لا تعيش إلا على العفن والأوساخ والتي

تنقل الأمراض المعدية الفتاكة المؤذية، هل رأى أحد تلك الذبابة تحولت بذاتها إلى نحلة تنتقل من زهرة إلى أخرى تقطف من أكثرها طراوة وأحسنها رائحة ما تحوله في معملها العجيب إلى عسل مصفى فيه شفاء للناس. نعم والله لقد تحولت ذبابة قذرة مؤذية، هي الجاهلية الكافرة النتنة إلى نحلة معطاءة إلى أمة إسلامية، عمر بن الخطاب نفسه تحول إلى عمر الفاروق الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره. سمية الضعيفة تحولت إلى جبل أشم يقف أمام أبي جهل. مجتمع قريش الجاهل، بل مجتمع الجزيرة العربية، بل مجتمع العالم كله تحول من مجتمع خرافة إلى مجتمع إيمان، من مجتمع فوضى إلى مجتمع نظام من مجتمع ظلم إلى مجتمع عدل، من مجتمع تائه ضائع بلا غاية إلى مجتمع هدفه رضا الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بذلك السر العجيب منهج الإسلام الخالد: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبتلك القدوة الحسنة التي كان خلقها القرآن. قال الأستاذ الندوي في كتابه السالف الذكر: " بهذا الإيمان الواسع العميق، والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة، وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المتحضرة حياة جديدة. عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة. وبث فيها الروح الجديدة وأثار من دفائنها، وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغراً لم يزل ينتظر ويتطلع إليه، وكأنما كان جماداً فتحول جسماً نامياً وإنساناً متصرفاً، وكأنما كان ميتاً لا يتحرك فعاد حياً يملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائداً بصيراً يقود الأمم {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} .." اهـ. إن السعي لتحقيق هذه القمة الرفيقة فرض على الأمة الإسلامية لتأخذ زمام البشرية مرة أخرى وتقودها إلى شاطىء السلامة والأمان بنور هذا الدين الحنيف ولا يمكن

تحقيق ذلك إلا بالتزام المنهج الذي التزم به الجيل الرائد وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالقدوة المربية المقتدية بذلك الإمام الخاتم عليه الصلاة والسلام.

أنواع العلوم وحكمها من حيث المنهج

أنواع العلوم وحكمها من حيث المنهج تنقسم العلوم كلها إلى قسمين رئيسيين: - علوم إنسانية: تتعلق بالإنسان نفسه- باعتقاده وخلقه ونظام حياته وصلته بخالقه وبالكون من حوله، وبمعاده. وهذا العلم يجب أن ينبثق منهجه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أعلم بخلقه وبالمنهج الذي يصلح لهم فدروب النفس ومنحنياتها لا يعلمها إلا بارئها، إذ الإنسان الذي يفتخر بعلمه المادي في هذا القرن ما زالت معرفته بنفسه بدائية (كما يقول القسيس كاريل أحد علماء الغرب البارزين) . ولعلم الله تعالى بما يصلح للنفس يأمرها بالأقدام على ما تكره ويأمرها بالاستسلام له، لأن ما يأمرها به فيه الخير وإن بدا لها في الظاهر أنه شر مكروه، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وهو المبرأ سبحانه وتعالى من الظلم فلا يخشى أحد أن يظلم بسبب منهجه تعالى بخلاف البشر " يا عبادي إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ". كما يجب ألا يتلقى المسلم هذا العلم إلا من عالم مسلم، والأصل في المسلم أن يكون أميناً مستوعباً لما يلقيه على طلبته خوفاً من المسئولية أمام ربه كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . وينقسم هذا العلم أيضاً إلى قسمين: فرض عين وهو الذي يجب على كل فرد تحصيله ليصح تصوره لما أراد الله منه، كالعلم بالله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبأركان الإسلام، وبتفاصيل العبادات التي يجب أن يتقرب بها إلى الله تعالى، وأمور الحلال والحرام في المعاملات التي يزاولها في أسرته ومع جيرانه ونحو ذلك.

وفرض كفاية وهو العلم الذي لا يطلب من جميع أفراد المسلمين بل يجب أن يكون فيهم من يعلمه فإذا وجد العدد الكافي الذي علم هذا العلم سقط عن باقيهم كالقضاء والإفتاء ونحوهما. - النوع الثاني من العلوم: -العلوم الكونية، كالصناعة والزراعة والتجارة والطب والكيمياء والفيزياء وغيرها من المهن المختلفة التي تعتبر ضرورية أو محتاجاً إليها وهذه العلوم فرض كفاية يجب أن يوجد من أفراد المسلمين من يجيدها ليتمكنوا من الاستغناء بهم عن أعدائهم وليعدوا للعدو العدة المأمور بها كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} لأن الحاجة إلى العدو تفتح عليهم أبواباً من الضرر لا تحصى من إفساد عقيدتهم وأخلاقهم وجعلهم أذلاء للأعداء لا يقدرون على تصريف شئونهم الدينية والدنيوية كما هو واقع المسلمين في هذا الزمان، وهذا ما حرص عليه أهل الغرب - أي أن يبقى المسلمين محتاجين إلى علوم الغرب وصناعاتهم، ولذلك أغرقونا بصناعاتهم لا سيما الكمالية منها حتى لا نفكر في اشتغالنا بالصناعة فيكون ذلك هدماً لحضارتهم إذ أن المسلمين يملكون ركيزة الحضارة الحقة وهي الدين الذي لم يبق دين حق سواه، فإذا اجتمع الحديد والكتاب حق على الكفر الذل والدمار وفات عليهم أن يسودوا العالم وإن يستغلوا ثرواته. ولنستمع في هذا المعنى إلى ما قاله أحد الساسة الفرنسيين في منتصف هذا القرن:" إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة ولكنه في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانيات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه، إنه - يعني العالم الإسلامي- في عين التاريخ عملاق مقيد لم يكتشف نفسه بعد اكتشافاً تاماً فهو حائر قلق كاره لماضيه في عصر الانحطاط راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل أو بعبارة أخرى من الفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر. فلنعط هذا العالم ما يشاء ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخلطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور

بعجزه عن مجازاة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق الذريع وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية ". اهـ. والأصل أن يتلقى المسلم العلوم الكونية من مسلم ارتبط علمه بعقيدته، فإذا لم يوجد العالم المسلم الذي يغني المسلمين عن التلقي على أيدي الكافرين فإن أخذ العلم عنهم عندئذ متعين ولكن ليس لكل فرد من أفراد المسلمين أن يكون ذلك المتلقي بل الواجب أن يختار الأفراد الذين لا يخشى عليهم من دسائس الكافرين وشبهاتهم ممن أعدوا إعداداً خاصاً في تصورهم الصحيح للإسلام وربوا تربية إيمانية ثابتة ودربوا على السلوك الإسلامي حتى أصبح يسري في أرواحهم ودمائهم ويجب أن يتلقوا فقط العلوم الكونية البحتة وألا يتلقوا شيئاً من الجوانب الاعتقادية أو الأخلاقية أو التشريعية أو الاجتماعية، وأن يكونوا عالمين أن تلقيهم عن هؤلاء الأعداء إنما هو من باب الاضطرار كأكل الميتة يقدر بقدره فإذا أصبح في استطاعة المسلمين الاستغناء بعلمائهم كان لزاماً عليهم بذل جهودهم لتعليم أبنائهم تعليماً يفوقون به أعداءهم حتى يحققوا أمر الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} . وهذا هو السبيل الذي سلكه المسلمون في العصور الفاضلة عصور الفتح والعلم والقيادة التي كانت أوروبا في حينها في عصورها المظلمة المسماة بالعصور الوسطى التي يخطىء بعض الكتاب من المسلمين بل الراجح أنهم يتعمدون أن يطلقوها على تلك العصور النيرة للمسلمين زوراً وبهتاناً. أقول: لقد سلك السلمون هذا المسلك العظيم فاطلعوا على العلوم الموجودة في عهدهم وكانت مطوية في الكتب التي تدرس نظرياً وتشرح وتترجم وتختصر فقط فحولها المسلمون إلى علوم تجريبية تطبيقية في فترة يسيرة من الزمن فأصبحوا أساتذة العالم وموجهيه يفد إليهم طالبو المعرفة من كل مكان، والسر في ذلك ما سبق من اعتبارهم كل عمل يعملونه عبادة تقربهم إلى الله. ولقد عرف أعداء الإسلام هذا السر الذي قفز بالمسلمين في فترة قصيرة من رعاة إبل حفاة جهال متباغضين إلى قادة للعالم حكماء كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ولنستمع إلى المستشرقة الألمانية زغريد هونكه - إذ تقول في كتابها المشهور (شمس العرب تسطع على الغرب) : " وهكذا فإن لعلم الفلك لدى المسلم معنى دينياً عميقاً فالنجوم ومدارها والشمس وعظمتها والقمر وسيره لبرهان ساطع على عظمة الله وقوته، الخالق الذي جاء باسمه النبي العربي مبشراً به خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور العليم بما في الصدور" اهـ. وقالت في الصفحة التالية: " ولن ننسى في هذا المجال أن نذكر عامل الزمن وتحديد أوقات الصلاة والصوم إذ أن كل مؤذن كان يحكم مهنته عالماً فلكياً صغيراً له معرفة علمية بعلم تحديد الأوقات، فهو مضطر أن يفهم كيف يدير الأشعة ليتمكن من تحديد موعد الأذان خمس مرات يومياُ وهو مسوق أيضاً للقيام بحسابات دقيقة لمعرفة أوقات ظهور القمر أول شهر رمضان وفي نهايته، وعليه كذلك أن يحسب مواعيد غروب الشمس وشروقها لتحديد مدة الصيام وموعد الإفطار وليس هذا كل شيء فحسب بل إن كسوف الشمس وخسوف القمر كان يجري حسابها نظراً لما لهاتين الظاهرتين.. من تأثير خارجي على بعض الفروض الدينية بالإضافة إلى تعيين اتجاه مكة المكرمة حيث القبلة التي يولي المؤمن وجهه قبالتها كلما أراد أن يصلي، إذن فقد كان اهتمام المسلمين بمظاهر السماء ضرورياً للغاية، بل قل أكثر ضرورة من الغذاء اليومي نفسه، لذلك تهافتوا- كالأطفال (هكذا) - إلى كل ما يمكن أن يزيدهم علماً ومعرفة ولم يمض وقت طويل حتى أصبح علم الفلك أقرب حقل علمي إلى نفوسهم" اهـ.

واقع المسلمين اليوم

واقع المسلمين اليوم تلك كانت حالة المسلمين عندما كان المنبع الذي يرتوون منه صافياً لم تشبه شائبة، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعندما كان المسلم يتلقى العلم للعمل والتطبيق لا لمجرد الشهرة أو المباهاة وعندما كان الداخل في الإسلام لا يلج بابه إلا بعد خلع الجاهلية في قوله وفعله واعتقاده فكان المحافظ على الصف الأول في الصلاة هو المحافظ على الصف الأول في المعركة، وكان حامل المصحف ليقرىء الناس هو حامل اللواء ليقود الناس.

ثم ماذا..

ثم ماذا.. ثم طرأ بعد ذلك ما طرأ على منهج التلقي، فاقتحمت عقائد اليونان أبواب الدولة الإسلامية في فلسفاتهم التي دخلت على أساليب علماء المسلمين ومصطلحاتهم، وخرافات الهند وفارس وطقوس النصارى التي علقت بعبادة الصوفيين ثم استحكم التقليد المذهبي قي الفقه الإسلامي وركود في مكانه. ودب الخلاف بين المسلمين في الأصول والفروع وتفضيل هذا المذهب على ذاك حتى ابتعد الناس عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانطفأت جذوة العاطفة وخيم الجحود. ومن الجدير بالذكر أن هذا الجمود لم يطرأ على المسلمين إلا عندما توقف الفتح الإسلامي الذي كان قد وصل إلى حدود الصين شرقاً وإلى المحيط الأطلسي غرباً وإلى حدود فرنسا في أوروبا، والذي كان الفقه الإسلامي يتصاعد بتصاعده. وتبع ذلك خلود إلى الأرض وكسل في العمل وقعود عن معالي الأمور فانحط العلم الإسلامي انحطاطاً اختلت به الموازين وتقدم ركب البشرية غير قائده فسلك بها دروب الهلاك وأوقعها في شباك الردى. نقلت أوربا علوم المسلمين في معاهدهم وجامعاتهم بالأندلس، ونقلتها كذلك عندما اصطدمت بهم في الحروب المسماة بالصليبية لمدة قرنين من الزمان، وقد كان أهل أوربا بعيدين كل البعد عن العلوم التجريبية إذ كانوا يدرسون العلوم دراسة نظرية تشككهم في معلوماتهم الكنيسة في كل ما يخالف تعاليمها المنسوبة إلى الله زوراً وبهتاناً ولكنهم بعد أن تتلمذوا على يد المسلمين وجنوا بعض ثمار تلك العلوم لم يعودوا يأبهون بمزاعم الكنيسة أو يقبلونها بل صمدوا ضدها رغم القهر والاعتساف والتهديد حتى هزموها في نهاية المطاف ولم تعد منح الدنيا والآخرة معاً أو منعها من أحد. وبنقل أوربا تلك العلوم من جامعات المسلمين نبتت نواة حضارتها المادية وكانت قبل ذلك تغط في نوم عميق من التأخر والوحشية، ولنستمع إلى شهادة أحد أبنائها من أعداء الإسلام قال: غوستاف لوبون في كتابه- (حضارة العرب) :" ظهر مما تقدم أن تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيماً جداً بفعل الحروب الصليبية وأن

ذلك التأثير كان في الفنون والصناعات والتجارة أشد منه في العلوم والآداب وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية العظيم باطراد بين الغرب والشرق وإلى ما نشأ من تحاك الصليبيين والشرقيين من النمو في الفنون والصناعة تجلى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا من التوحش وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم- العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوربا تعول عليها فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم " اهـ. وبهذا الانبثاق المبني على عداء الكنيسة لتلك العلوم بدأت أوروبا نهضتها على أساس فصل الدين عن العلم، فلا يعمل في المصنع ما يعمل في الكنيسة ولا يفكر المتعبد في الكنيسة بأمور المصنع، أي إما علم بلا دين وإما دين بلا علم؛ فابتعدوا عن الله ابتعاداً سبب الفساد المنتشر في الأرض، وهو ينذر بالدمار والهلاك. قال سيد قطب رحمه الله في كتابه: (في ظلال القرآن) :" والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد زائغ عن مصدره وعن هدفه لا يثمر سعادة لصاحبه، ولا للناس إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار؛ لأنه انقطع عن مصدره وانحرف عن وجهه وضل طريقه إلى الله. ولقد انتهت البشرية اليوم إلى رحلة جيدة من مراحل العلم بتحطيم الذرة واستخدامها، ولكن ماذا جنت البشرية اليوم من مثل هذا العلم الذي لا يذكر أصحابه الله ولا يخشونه ولا يحمدون له: ولا يتوجهون بعلمهم إليه؟ ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي هيروشيما وناجازاكي وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب معاً ويتهددهم بالتحطيم والدمار والفناء". وعلى هذا الأساس جد الغربيون في الاكتشاف والتجربة وظهرت ثمار جدهم المادية بسرعة هائلة أذهلت المسلمين الذين كانوا هم يغطون في نوم عميق هذه المرة، ففتحوا أعينهم على مصانع الأرض وهي توزع على العالم إنتاجها وآلاتها النافعة في السلم والحرب. كما فتحوا أعينهم على أنظمة إدارية متقنة تقل فيها الفوضى، وأنظمة سياسية يتقلص فيها الاستبداد وتجسم فيها الديمقراطية التي فيها نوع من الشبه بالشورى في الإسلام، فانبهروا لما رأوا وندموا على ما أضاعوا من الوقت وانجلى أمام أعينهم ما هم فيه من التأخر عن ركب التقدم المادي الذي أحرزه الغرب فتاقت نفوسهم للحاق بالركب الحضاري المادي فتعالت الصرخات للحث على الأخذ من تلك العلوم التي أحرز الغرب تقدماً فيها. فنادت فئة بأخذ ما عند القوم على علاته ما يتصل

بالجانب الإنساني من عقيدة وقانون وأخلاق، وما يتصل بالجانب الكوني. وعارضتها فئة أخرى معارضة كاملة تدعو إلى الابتعاد عن الغرب وعلومه خشية من انحراف المسلمين إلى عقائد الكفار وأخلاقهم ونادت فئة أخرى إلى أخذ الصالح النافع الذي لا يعارض الإسلام، وهو الجانب الكوني فقط مع الحذر من عقائدهم وسلوكهم وليت هذه الفئة انتصرت على الفئتين الأخريين إلا أن الأولى متطرفة تدعو إلى فتح الباب على مصراعيه لكل شر وبلاء والثانية- تدعو إلى غلقه مطلقاً، وهو أمر غير ممكن وخير الأمور أوسطها. ولقد أراد الله أن يكون الصوت المسموع هو صوت الداعين إلى التغريب المطلق، لأن العوامل والسنن كانت في جانب هذا الصوت المشئوم، إذ تفشي الجهل في الشرق الإسلامي، وانتشرت الأمراض والأوبئة، وخيم الفقر المدقع وهذا ثالوث خطير لا تطيق البشرية عليه صبراً وأي داع يرفع صوته للقضاء على هذا الثالوث يعتبر منقذاً عند جماهير الناس في مثل هذه الحال خصوصاً إذا كانت ثمار دعوته قد أينعت وقطفت بعض أزهارها وذاق الناس طعمها كما هو الحال في الغرب آنذاك، إذ انتشرت المدارس والمعاهد والجامعات وأسست المستشفيات ودور الأيتام، وطارت أسراب الحديد في السماء تنهب الجو نهباً، ومخرت الفلك العملاقة عباب المحيطات وشقت الطرقات المعبدة التي تعاونت مع السيارات على طي المسافات البعيدة في وقت قصيرة وطاولت القصور الشاهقة السحاب في السماء، وتلألأت الأنوار الكاشفة في المنازل والشوارع فأصبح الليل كالنهار، وغير ذلك مما لا يحصيه العد. فانطلقت جموع أبناء المسلمين إلى مدارس الغرب التي أنشأها المستعمرون في البلاد المستعمرة، كمصر ودول شمال أفريقيا، ولبنان وسوريا والعراق واندونيسيا والهند وغيرها، كما هرعوا إلى جامعات الغرب في أوروبا وأمريكا، وكانت قلوبهم خاوية من عقيدة الإيمان وعقولهم خالية من علوم الإسلام، وصلتهم بالله مبتوتة فتلقتهم تلك المدارس والجامعات بمناهج معدة إعداداً يحقق أهداف الكفر، وهي اقتلاع ما بقي من أثر للعقيدة الإسلامية في قلوبهم بالشبهات وإفساد سلوكهم بالشهوات، كالزنا والخمر والنوادي الفاسدة والمسارح والأفلام السينمائية وغيرها. وملء قلوبهم بالعقائد الفاسدة وعقولهم بالأفكار المنحرفة، ثم شغل أوقاتهم في

غير ما وفدوا من أجله من تعلم العلوم والمعارف حتى يتخرجوا جهالاً بالعلم الذي تخصصوا فيه في صورة علماء به حتى لا تستغني بهم بلادهم بل تبقى دائماً في حاجة إلى المستعمرين فيعود الدارس ممسوخ العقيدة والسلوك والتخصص. وإذا حصل شذوذ في هذه القاعدة فبرز أحدهم في تخصصه أغروه بشتى المغريات ليبقى في بلادهم وما أكثر العقول التي حالوا بينها وبين العودة إلى بلادها وإذا أفلت منهم أحد هؤلاء النوابغ فرجع إلى بلاده لم يجد فيها الإمكانيات المناسبة لاختصاصه فيعود ميمماً شطر المغرب، وقد يجازى في بلاده جزاء سنمار فيودع في المعتقل أو يوضع في وظيفة تعتبر إهانة له ولتخصصه. لهذا بقيت الشعوب الإسلامية مفتقرة لاستيراد الإبرة كالطائرة مع أن كثيراً من أبنائها يحملون أرقى الشهادات الغربية التي يعتبرونها مفخرة من مفاخر التاريخ. والقليل الذي يبذل جهده في اختصاصه حسب الإمكانيات المتاحة يعتبر نفسه من ذوي العلم الذي لا ينبغي أن يمت إلى الدين بصلة كما هي طبيعة أساتذته في الغرب الذين فصلوا العلم المادي عن الدين لأن دينهم المحرف لم يقبل الانسجام مع العلم بل لم يقبل المصالحة معه فسووا بين الدين المسيحي المحرف وبين الدين الإسلامي الذي نزلت أول آياته بأعظم مفتاحين للمعرفة وهما القراءة والكتابة، كما قال تعالى:: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهو تقليد أعمى يفوق تقليد القرود، وظلم عظيم يسوي بين النور والظلام. لذلك ابتليت الأمم الإسلامية بسرطان الغرب في أبنائها الذين رجعوا حرباً على كل قيمة وخلق. ابتليت بمن حارب العقيدة الإسلامية والخلافة الإسلامية ولغة القرآن فأحلوا العقائد الكافرة محل الإيمان والقوميات والشعوبية الممزقة محل الخلافة الجامعة وولي المسلمين ساسة من تلاميذ الغرب جروا شعوبهم بالقوة إلى الإلحاد والكفر وصرح كثير منهم بكفره دون خجل. كما ابتليت الأمم الإسلامية بموجهين وضعوا مناهج للتعليم مشتملة على نظريات الكفر والتحلل منفذين تعاليم أسيادهم من اليهود والنصارى والشيوعيين, وحاربوا

أي منهج نابع من عقيدة المسلمين، وأقصوا كل من شموا منه رائحة التوجيه إلى هذه العقيدة. كما وضعوا لأجهزة الإعلام مناهج قصد منها مسخ أبناء الإسلام مسخاً يصعب معه تربيتهم على الهدى والخلق الكريم وإن ساعة واحدة من بعض هذه الأجهزة الموجهة ضد العقيدة والأخلاق لجديرة بتحطيم أخلاق شعب بأكمله أو أضعافها لا فرق بين مدني وبدوي لأنها في متناول الجميع. كما ابتلى المسلمون بأفواج من حملة الشهادات القانونية متخرجين في كليات الحقوق من قضاة ومحامين تعلقت قلوبهم بالتشريع البشري وأصبح عندهم أفضل من تشريع الله صاغوا للشعوب قوانين الغرب بل صاغوها في الحقيقة لحماية حكام تلك الشعوب وتحت ضغط توجيههم فكانوا وبالاً على العدل. كما أخرجت لنا المدارس والمعاهد والجامعات طوابير من نوع آخر هم المغنون والمغنيات والراقصون والراقصات والممثلون والممثلات أفسدوا الشعوب إفساداً وكأن تلك الشعوب في حاجة إلى أمثال هؤلاء ليحرروا بهم بلادهم من العدو الدخيل. ومن العجيب حقاً- وعجائب الشاردين عن الله لا تنقضي أن يعلو قدر هؤلاء الساقطين لدى أكثر كبار قادة الشعوب الإسلامية فيغدقون عليهم الجوائز ويسخرون لهم أجهزة الإعلام لبث عارهم وفسادهم في أغلب الأوقات. وإذا مات أحد هؤلاء السفلة جندت لإشهار موته أجهزة الدولة للمشاركة في موكب جنازته الذي يوحي لمن رآه وقد تقدم الموكب كبار رجال الدولة من السياسيين والعسكريين أن هذا موكب بطل من الأبطال الذين سجلوا في صحائف التاريخ طول حياتهم أروع البطولات. مع أنهم كانوا السبب في القضاء على البطولة والجد في الشباب. هذا في حال أنك ترى البطل الشجاع الذي نذر حياته لإنقاذ شعبه من الظلم والمذلة يوارى جثمانه في ظلمة الليل في قطعة من الأرض مجهولة قد لا يراه أقرب المقربين إليه. وإذا ذكر في أجهزة الإعلام فإنما يذكر بصفات منفرة وألقاب قذرة توحي للسامع أو القارىء أنه عدو لشعب يسعى إلى إفساده جرياً على قاعدة فرعون وإخوانه {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} .

وبذلك يعمق في نفوس الشباب حب الهزل والميوعة لأنهما أعلى درجة وأذكر في الناس من الاتصاف بصفات المجاهدين المغمورين المشوهة سمعتهم بين الناس على مستوى الدولة وعلى أوسع نطاق. وعلى هذا المنوال صارت المحاضن التي أشرف على مناهجها المستعمرون في بلاد المسلمين، بله المحاضن الغربية نفسها فإنها لم تخرج في الغالب إلا أعداء للدين الإسلامي على اختلاف تخصصاتهم وأعمالهم الوظيفية. وقليل من نجا منهم. فانقلبت بذلك الموازين والقيم حتى صار الحق باطلاً والباطل حقاً.

§1/1