المنهج المقترح لفهم المصطلح

حاتم العوني

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن علوم السنة المشرفة من أجل العلوم أو أجلها، وأحقها بالتعلم والتعليم، وأولاها بكل اهتمام وعناية. فهي العوم التي عرفنا بها معاني كتاب الله، وبيان مجمل آياته، وتفسير حكمه وعظاته. وهي العوم التي أدت لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأسمعتنا ... منيرحروفها، وأرتنا مواقع العبر، وبصرتنا معالم الاقتداء، ومثلت لنا في فيها الأسوة الحية في شخصه صلى الله عليه وسلم. وهي العوم التي حرست الدين، وحمت الشريعة، من كذب الكاذبين، وافتراء المبطلين، وجهل المسلمين ‍ وهذه العلوم الشريفة ـ كشرف ما تخدمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ـ قام بإنشائها وبنائها وإبداعها وإتمامها = علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم عبر

العصور، وأئمة المسلمين على مر الدهور. فهم أصحاب تلك المفخرة، وبناة ذلك الصرح الخالد، وملاك مفاتيح قصوره. وكيف لا؟ ‍وهم ورثة الأنبياء، ورسل الرسل، وحملة الشريعة، وأمناء المِلّة، وحرّاس الدين، والموقعين عن رب العالم، والموقعين عن رب العالمين!! فخرجت علوم السنة من عصارة تلك العقول، ومن نتائج تلك الأفكار، علوماً عميقة، بعيدة الغور، دقيقة المسالك، فليس من السهل فهمُها، ولا من المتيسر إدراكها. وعبّر عن ذلك قائلهم، بنوع من الطّرافة، فقال: ((الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم)) (¬1) . وكان قد بدأ مع نشأة هذه العلوم استخدام ألقاب وأوصاف للأحوال المختلفة للراوي والمروي، هي المسماة بمصطلح الحديث. وكانت تلك المصطلحات حية المدلول العرفي بين المحدثين حقبة من الزمن، فلم تكن تغمض عليهم معانيها، ولا يستشكل عليهم مفادها. فلما تناقص العلماء، وتفانى أصحاب الحديث، واجتالت علومهم عوامل الضعف والتغير؛ بدا علم الحديث غريباً بين أهله، بعيداً بين أقربائه. فانبرى لذلك البقية المتبقية من علماء الحديث ونقاده، إلى شرح مصطلحه وبيان أصوله وضوابطه. لكن (وعلى مر الأزمان) تعددت المناهج في فهم مصطلح الحديث، فاختلفت الأقوال في تفسيره؛ وتباعدت الطرائق في دراسة أصوله، فتباينت المذاهب في وضع قواعده وتحديد ضوابطه. وتأثرت كتب علوم الحديث بعقائد مؤلفيها ومذاهبهم، ¬

(¬1) انظر الكامل لابن عدي (1/58ـ 59) ، وترجمة الزهري في تاريخ دمشق لابن عساكر، المطبوعة مفردة (150) .

وبعلوم أجنبية عنها، تشبع بها أولئك المصنفون. فلما بلغ الأمر إلى هذا العصر، وقد قربت الساعة، وقل أهل السنة والجماعة، فكم هم؟ ‍وأين هم؟ ‍ازدادت غربت علوم السنة، وبعدت أفهام كثير من طلبة العلم من أهل عصري عن إدراك معاني مصطلحاتها. وصار كثير منهم إذا ابتغى الحق في مسائل علوم الحديث أخطأ طريقه، ورام غير سبيله، وهو صادق النية في ابتغائه ‍بسبب عدم العم بنشأة العم الذي يبحث فيه، وكيفية تطور مصطلحه عبر العصور، وبأسباب قوته في قرونه الأولى، وعوامل ضعفه بعد ذلك. ثم بسبب الجهل بمناهج المصنفات في علوم الحديث، وبالمؤثرات المؤدية إلى اختلاف تلك المناهج، وبالتعامل المنصف السليم مع كل واحد منها، وإنزال الأقوال والتنظير المبني عليه منزلة أصله ومنبعه. وأخيراً بسبب عدم وضوح الخطة التي يجب السير عليها لفهم المصطلح، وبخطواتها على التفصيل، حتى يمكن اقتفاؤها، وأسباب أخيار هذه الخطة دونما سواها على علوم السنة ‍‍ وبعد إذ حباني الله تعالى ـ له الحمد والمنة ـ بأن كنت من طلبة علم الحديث الشريف، وممن له شغف واشتغال به منذ نعومة أظفاري، وقطفت معه زهرة شبابي، وأنا خلال ذلك ويعلم الله ـ منكب على قراءته ودرسه، منصرف عن غيره به، عازف عن استعجال التصنيف فيه قبل أوان التصنيف، مع ما أراه من أبناء عصري وإخوان جيلي من التسارع إلى ذلك. وكنت أثناء تعلمي ـ ولم أزل في تلك الأثناء، لا خرجت منها ‍ـ قد وقفت على ذلك البحر المتلاطم، واخضم المتلاحم، من تلك الاختلافات في علوم الحديث، وذلك التباين في فهم مصطلحه،

وما جر هذا من تناقض التطبيق مع التقعيد، وتضاد الأقوال والمناهج ‍‍أيضاً ‍‍فهالني الأمر جداً، وبقيت زماناً متحيزاً بين تلك الموارد، متردداً بين تيك المشارب ‍‍ وكم كنت أسمع شيوخنا الأفاضل وأساتذتنا الأماثل عند أخذنا منهم لهذا العم، يرددون عبارة خطيرة المضمون، لكنها كانت تخرج منهم وتمر علينا دون أن نقدرها قدرها ‍فقد كانوا يقولون عند شرحهم لبعض المصطلحات: ((معنى المصطلح: (كذا) ، عند المتأخرين، وليس معناه كذلك عند المتقدمين)) . فكنت أعجب من ذلك غاية العجب، وأستغرب من دواعي هذا الاختلاف، ومن فائدة هذا الفهم المغاير لفهم أصحاب الأصول من أهل الاصطلاح، الذين: منهم، وإليهم، وفيهم، وعنهم: يدور الكلام في علم الحديث ‍‍‍ وما زلت أستغرب ذلك حتى استنكرته، وحين استنكرته وضح لي الطريق، وتبينت المنهج، والله الحمد كله ‍‍ وعندها لاحت لي أخطار جمة تحدق بعلوم السنة، لا يسعني السكوت عنها. فجردت القلم للدفاع عن السنة، وفي بيان (المنهج المقترح لفهم المصطلح) ، وفي التحذير من المناهج ذات النتائج المدمرة لعلم الحديث. وليس يخفى علي أن بعضاً من أهل عصري لن يرضى عن هذا الطرح، ولن يعجبه ذلك المنهج المقترح، لا لشيء، إلا لأن لسان حاله يقول: ((يا ابن أخي ‍لا خير لك فيما لم يبلغه علمي)) ‍‍لله أبوك ... فلاخير إذن في جل الحق ‍‍!!! ‍ لو كان جهل هؤلاء جهل من يدري بأنه لا يدري، لكان الخطب كلا خطب، فإنما شفاء العي السؤال. لكن جهلهم جهل من لا يدري بأنه لا يدري، فقتلوا العلم، قتلهم الله

‍‍وأمثل لك حالهم: هم ممن حدا العجز بهم إلى الرضى بالكسل والخمول، وفرحوا بالشهادات، ورضوا بالألقاب. ثم هداهم جهلهم إلى التشبث بقول من الأقوال، فلم يروا سواه، ((وأجرأ الناس على الفتيا أجهلهم بالخلاف)) . فلا كان الحق والصواب عندهم معيار الاختيار، ولا الباطل والخطأ سبب الرفض! وأنى لهم ذلك؟!! وقد قيدوا أنفسهم بمختصرات في علوم الحديث، إن زادوا زادوا عليها حواشيها وشروحها، فإن توسعوا اكتفوا بفهم خطأ وتأويل بعيدٍ لكلام أهل الاصطلاح. وهم خلال ذلك قد حصنوا أنفسهم بلقاح (إجلال العلماء) ، وسوغوا للناس ذلك بجرعة (عظيم أقدار الأئمة) ، وهي كلمات حق يراد بها باطل!!! فلا أجل العلماء، من قلد أحدهم غير ناظر إلى من عداه من العلماء؛ ولا عرف أقدار الأئمة، من رضي قولاً لواحدٍ منهم دون دليله، من غير اعتبارٍ لما سواه، وكأنه كلام ما قيل! أرأيت وقد قالوا عن الباطل: كيف وقد قيل؟ !! ومع ذلك كله: فوالذي نفسي بيده! لو لم يكن الأمر من أجل السنة، وفي سبيل السنة، وعن منهاج السنة = لخطبت ودهم، ولسعيت إلى رضاهم. فلا رضي أبعدهم إذا كان العلم يسخطه، ولا قرت عينه إذا كان نور الحق يعشيه!! وسوف ألفظ ذكرهم، بعد أن ضقت بهم، وكرهت معناهم ولفظهم! أما بحثي هذا، فقد كان في صورته الأولى مقدمة مختصرة لكتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس: دراسة نظرية وتطبيقية على مرويات الحسن البصري) . جعلتها له مقدمة تأصيلية، أساساً أبني عليها، وقاضياً أحتكم إليها، فيما يعترضني من اختلافات ومذاهب.

ثم شاء الله تعالى، ولأسبابٍ لا أحب ذكرها، أن أفصل هذه المقدمة عن ذلك الكتاب. وكان ذلك خيراً (بحمد الله تعالى) ، حيث توسعت في هذه المعدمة، بما أرجو أن يكون أدعى لوضوحها وقبولها من القارئ الكريم. ولعلي أعود إليها بتوسع أكبر، وخاصة في بعض أبوابها، وفصولها، فيما إذا اضطررت إلى ذلك! ثم إني إذ أكتب هذا البحث ن مسطراً فيه ما أحسبه الحق الصراح؛ إلا أني لا أشك أن الخطأ حليف بني آدم، والنسيان من خلقة الإنسان. لكني أطلب من القارئ الإنصاف، وأسأله أن يجتهد في طلب العدل، كما أطالب نفسي بذلك. فإن وقف أحد على خطأ، أو اتضح له زلل، أو خالفني في شيءٍ من هذا البحث = فالنقد العلمي سبيل التصحيح، والنصيحة الأخوية سبب القبول، والعدل في موازنة الحسنات بالسيئات نهج للحق واضح. إن أحب نشر ذلك: فبها ونعمت، وإن أحب أن يخصني بشيء منه: فهو حسن (¬1) ¬

(¬1) عنواني هو: المملكة العربية السعودية، مكة المكرمة، ص. ب 10768/ العمرة.

الباب الأول: تاريخ نشأة علوم الحديث وتطور مصطلحه

الباب الأول: تاريخ نشأة علوم الحديث وتطور مصطلحه الفصل الأول: في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم. الفصل الثاني: في عصر التابعين. الفصل الثالث: في عصر أتباع التابعين. الفصل الرابع: العصر الذهبي للسنة. الفصل الخامس: في القرن الرابع الهجري.

الفصل الأول: في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم

الفصل الأول: في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لا شك أن نشوء علوم الحديث قديم قدم بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ‍! فأول علم نشأ منها علم الرواية، وأول رواية من هذا العلم سماع ورواية خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها لحديث بدء الوحي وقصة مجيء جبريل عليه السلام بأوائل سورة (أقرأ) إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء (¬1) . هذا أول حديث من وحي السنة، فهو أول ما نشا من علومها. ومن ذلك الحين، حين إنباء النبي صلى الله عليه وسلم وإرساله، وإسلام السابقين الأولين، بزغ نور السنة مع القرآن، وسطعت شمس الإسلام بالآيات والحكمة (¬2) ، وبدأت ملحمة الصلاع بين الحق والباطل. ¬

(¬1) حديث عائشة في بدء الوحي: أخرجه البخاري (رقم 3 ـ وفيه أطرافه ـ) ، ومسلم (رقم 160) . (¬2) ذكر الإمام الشافعي في الرسالة (77- 78 رقم 251- 252) قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً) ] الأحزاب: 34 [، فقال: ((فذكر الله الكتاب، وهو القران، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقران يقول: الحكمة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قال الشافعي:) وهذا يشبه ما قال، والله أعلم)) .

وخلال هذه الفترة، فترة سنوات البعثة المحمدية (على صاحبها أفضل صلاةٍ وأتم تسليم) التي امتدت لثلاثةٍ وعشرين عاماً = كانت السنة النبوية ق أنزلت منزلتها في مصادر التشريع الإلهي. وعلم من ذلك الحين أنه لا سبيل إلى رضى الله عز وجل، وإلى الفوز بسعادة الدارين، إلا بكلام الله تعالى المنزل، وبيانه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم: القولية والفعلية والتقريرية. ولن أطيل في ذكر عظيم حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاقتباس من نور الملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وإصغائهم إليه بالألباب قبل الأسماع، ومد القلوب للنظر قبل الأبصار، واحتفافهم به صلى الله عليه وسلم بالأرواح قبل الأجساد. فما تركوا من أقواله قولاً إلا وفي القلوب نقشوه، ولا فعلاً إلا وضبطوه، ولا تقريراً إلا وأحاطوا به علماً. علموا أنه رسول الله فتتلمذوا عليه، وأيقنوا أنه وحي بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم فاقتدوا به، وأدركوا أنه سيد ولد آدم فلم يفوتوا فرصة حياته (طاب حياً وميتاً بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم) ، وآمنوا أن حبه أحب الأشياء إليهم ـ بعد حب الله تعالى ـ فتفانوا وبذلوا حتى رضي الله عنهم وأرضاهم. فلله درهم ‍‍‍ ولم يزل النور متصلاً بالوحي من السماء حياته صلى الله عليه وسلم ن فلقلوب بالإيمان تزخر، والنفوس بالخير تزكو، والعقول بالعلم تثقف ن والبصيرة بالنور السني تنفذ ن والجوارح بالقدوة تتطهر، والأرواح إلى الجنات ورضى الله تتسابق ز فلما كمل الدين ن وتمت النعمة، ورضي الله لنا الإسلام ديناً، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة،

وجاهد في الله حق جهاده = أتاه اليقين، ولحق بالرفيق الأعلى، وانقطع الوحي ‍‍‍ عندها ختم على السنة بما كان في صدور الصحابة رضي الله عنهم، وفقدت الأسوة إلا بما تمثله الجيل الأول رضي الله عنه. فعلم الصحابة رضي الله عنهم عظم الأمانة التي عليهم للأمة عبر العصور، وأدركوا ثقل هذا الحمل الذي سيسائلهم الله تعالى عنه، ثم رغبوا أيضاً بالأجر العظيم الذي سينالونه إذا أدوا هذه الأمانة، وبالثواب الممتد الجزيل إذا حملوا ذلك الثقل الأجيال من بعدهم كما تحملوها هم، وعقلوا أن عليهم: من واجب نشر الدين، وتبليغ الدعوة ونصرة الإسلام، وانتشال العباد من عبادة العبباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة = من لن يكون إلا بينشر العلوم السنية، وتبليغ الآثار المصطفوية، وتأديب الخلق بالأخلاق المحمدية. لكنهم كانوا يعملون تمام العلم خطورة الأمر، وأنه تشريف وتكليف ـ وأي تكليف؟ ‍‍ـ أن تكون الأمة إلى قيام الساعة، ليس لها طريق إلى العلم بدين الله، إلا عن طريق هذا الجيل، من تلامذة محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. ثم إن الله تعالى قد أدبهم ورسوله صلى الله، على التوثق في الأخبار، والتحري في قبول ناقليها. ومن ذلك قوله تعالى (يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا ... ) ] الحجرات: 6 [وقوله سبحانه: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} . وقال عز وجل {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم

ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً} . (1) ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم ك ((كفى بالمرء كذباً] وفي رواية: إثماً [أن يحدث بكل ما سمع)) (¬1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (¬2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) (¬3) . لذلك فقد اجتمع في هذا الجيل، من دوافع نشر السنة وتعليمها، ومن أسباب التوثق والتورع؛ ما جعله يقوم بأداء الأمانة خير أداء، من غير زيادةٍ ولا نقصان، على الوجه الذي تكفل بتحميل تلك الأمانة للأجيال من بعدهم، وإخلاء المسؤلية عنهم بعد ذلك الكمال والشمول والدقة المتناهية في التبليغ والأداء. وقد جاءت أخبار متكاثرة في بيان توثق الصحابة رضوان ¬

(¬1) جه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (رقم 5) ، وأبو داود (رقم 4993) ، وابن حبان في صحيحه ـ الإحسان (رقم 30) ، والحاكم (1/112) ، وغيرهم. وقد اختلف في هذا الحديث على وصله وإرساله، فرجح الدارقطني في العلل إرسلاله (3/175/أ) ، بينما صححه ابن حبان والحاكم كما رأيت، مع عرض الحاكم للاختلاف فيه. وقد نبهني فضيلة الشيخ سعد الحميد على أنه وقع إقحام (في الطباعة) في أحد طريقي الإمام مسلم، جعل الحديث من وجهيه متصلاً، مع أن الصواب أن الإمام مسلماً أخرجه مبيناً الخلاف في وصله وإرساله. (¬2) هو حديث صحيح ثابت، مما وصف بأنه متواتر: انظر قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي (رقم 1) ، ولقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي (رقم 61) ، ونظم المتناثر في الحديث المتوتر للكتاني (رقم 2) ، وانظر مبحث (المتواتر) هنا= ص (91ـ 132) . (¬3) أخرجه الإمام أحمد (4/252، 255) ، ومسلم في مقدمة صحيحه (1/9) ، والترمذي (رقم 2662) وقال ك ((حسن صحيح)) ، وابن ماجه (رقم 41) ، وغيرهم = من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وهو صحيح عنه، كما قال الرمذي ز وأخرجه الإمام أحمد (4/19ـ 20) ن ومسلم في مقدمة الصحيح (1/9) ، وابن ماجه (رقم 39) ، وابن حبان في صحيحه ت الإحسان ـ (رقم 29) = من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، وهو صحيح عنه، كما ذكر ابن حبان.

الله عليهم في نقل السنة، في حياته صلى الله عليه وسلم، فضلاً عما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. ومن أمثلة توثق الصحابة رضي الله عنهم للسنة في حياته صلى الله عليه وسلم، ما ثبت في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وما شاع حينها بين الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم طلقهن، فجاءه عمر رضي الله عنه يستأذن عليه، ليستثبته عن الخبر، فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أطلقت نساءك؟)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا)) ، فكبر عمر رضي الله عنه، وقال: ((يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال:، عم، إن شئت ... )) (¬1) . ومن ذلك أيضاً حديث أنس رضي الله عنه، في وفود ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، ليتوثق من نقل الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه؛ حيث قال ضمام للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال = آلله أرسلك؟ قال: نعم ... )) الحديث (¬2) . أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد ازداد شعور الصحابة بالضرورة ¬

(¬1) اخرجه البخاري (رقم 89، 2468، 4913، 4914، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263) ، ومسلم (2/1105ـ 1113رقم 1479) ، وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري (رقم 63) ، ومسلم (رقم 12) ، والفظ لمسلم.

القصوى للتوثق للسنة، إذ لم يمكنهم الرجوع إلى معدنها واصلها، بعد أن فقدوا شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وواروه التراب!! ومن ذلك ما وقع للخلفية الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فعن أبي سعيد الخدري، قال: ((كنا في مجلسٍ عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً] وفي رواية: فزعاً أو مذعوراً [حتى وقف، فقال: أنشدكم الله! هل سمع أحدُ منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الا ستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع) ؟ قال أبي: وما ذاك؟ ! قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت. ثم جئت. ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلمت ثلاثاً، ثم انصرفت. قال: قد سمعناك، ونحن حينئذٍ في شغل، فلو استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن شهد لك على هذا (¬1) . فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا صناً! قم يا أبا سعيد. فقمت حتى أتيت عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا)) (¬2) ¬

(¬1) لم يكن هذا من عمر رضي الله عنه، لأنه لم يكن يحتج بخبر الآحاد، كما زعموا!! فإنه لما قبل حديث أبي سعيد، لم يزل الخبر بعدها آحاداً. ولم يكن هذا أيضاً، لأ، هـ لم يكن يثق بأبي موسى، حاشاه، وإنما فعل ذلك زيادة في التثبت، طلباً لاطمئنان القلب، كما جاء صريحاً عن عمر نفسه في بعض الروايات، وكما بينه العلماء أيضاً، فانظر فتح الباري (11/32شرح الحديث رقم 624) . (¬2) أخرجه البخاري (رقم 6245) ، ومسلم (رقم 2153) ، واللفظ لمسلم.

بل لقد كان عمر رضي الله عنه، كما سقول الإمام الذهبي: ((هو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل)) (¬1) . يعني: أنه حرص على إشاعة هذه السنة وتعليهما، وأخذ الرعية على التزامها، والتشديد في ذلك؛ وهي سنة التوثق والتحري للسنة. قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: ((بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري،] وإلى أبي ذر [، فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فحبسهم بالمدينة (¬2) ، حتى استشهد)) (¬3) ¬

(¬1) تذكرة الحافظ (1/6) . (¬2) قال أبو عبد الله ابن بري شيخ الرامهرمزي ـ كما في المحدث الفاصل (553رقم 745) ـ: ((يعني منعهم من الحديث، ولم يكن لعمر حبس)) . قلت تنبيه حسن. ظاهر أن معنى (حبسهم) ، أي: منعهم الخروج من المدينة. (¬3) إسناده صحيح، فإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قد سمع من عمر رضي الله عنه على الصحيح، كما يأتي بيانه. أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 372) ، وابن سعد في الطبقات (2/336) ، وابن أبي شيبه في المصنف (8/756) ، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1479) ، والبلاذري في أنساب الأشراف ـ ترجمة الشيخين: أبي بكر وعمر ـ (151) ، والطحاوي في بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخراج ما فيها من الأحكام ونفي التضاد عنها ـ المطبوع باسم: شرح مشكل الآثار! انظر نماذج المخطوطات في مقدمة تحقيقه (1/105ـ 119) ، وفهرسة أبي بكر الإشبيلي (200) ـ (15/311ـ 312) ، والطبراني في المعجم الأوسط ـ كما في مجمع البحرين للهيثمي (رقم 304) ، والرامهرزي في المحدث الفاصل (رقم 745) ، والحاكم وصححه في المستدرك (1/110) ، وأبو نعيم في الإمامة (رقم 130) ، وابن حزم في الإحكام (2/139) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (87 رقم 190) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ المطبوع ت (39/108) ـ والمخطوط ـ (13/749-750، 750) . وله أسانيد متعددة، تلتقي: في شعبة بن الحجاج أو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف به. والأسانيد بذلك صحيحه، كما سبق. لكن بعض الأئمة أعله بالانقطاع بين إبراهيم وعمر رضي الله عنه، منهم: ابن حزم في الإحكام (2/239-140) ، وشنع في رده. ونحوه الهيثمي في مجمع البحرين (1/263) ، حيث قال: ((هذا باطل، لا يصح عن عمر..)) ، ثم أعله بالانقطاع، ورد قول الواقدي بإثبات سماع إبراهيم من عمر رضي الله عنه. وإليك بسط مسألة سماع إبراهيم بن عبد الرحمن من عمر رضي الله عنه: فنفى السماع ـ كما سبق ـ: ابن حزم، والهيثمي. وقال البيهقي في السنن الكبرى (8/277) : ((لم يثبت له سماع من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما يقال رآه)) . وخالفهم جماعة: فقال الإمام أحمد في العلل (رقم 464) : ((وإبراهيم بن عبد الرحمن لا شك فيه، سمع من عمر)) . وقال يعقوب بن شيبة ـ كما في تاريخ دمشق لابن عساكر المطبوع (2/461) ، وكما في تهذيب التهذيب (1/139) ـ: ((لا نعلم أحداً من ولد عبد الرحمن روى عن عمر سماعاً غيره)) . وأثبت السماع أيضاً: ابن جرير الطبري، كما في التهذيب (1/140) . وأثبته أيضاً الواقدي، فقال ـ كما في طبقات ابن سعد (5/56) ـ: ((لا نعلم أحداً من ولد عبد الرحمن بن عوف روى عن عمر سماعاً ورؤية غير إبراهيم)) . والفصل في ذلك الروايات بأزمتها وخطمها! قال الدولابي في الكنى (1/189) : ((حدثنا محمد بن منصور الجواز، حدثنا عبد الله بن جعفر بن المسور ابن مخرمة، عن سعد بن إبراهيم، (أو حممة) ، وكان جارنا يبيع الخمر)) . وهذا إسناد حسن. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (5/56) ، قال ك ((أخبرنا يزيد بن هارون، ومعن بن عيسى، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديل، قالوا: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: إن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي وكان حانوتاً للشراب، وكان عمر قد نهاه، فلقد رأيته يلتهب كأنه جمرة)) . وهذا إسناد صحيح. وقال سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: ((اشهد على أبي، أنه أخبرني: أن أمه أمرت بشاةٍ فسلخت] وفي رواية: إني لأذكر مسك شاةٍ [، حين جلد عمر أبا بكرة، فألبستها إياه. فهل كان ذلك إلا من جلدٍ شديد؟!)) . ... = أخرجه عبد الرزاق (رقم 13510) ، وابن أبي شيبة (9/524-525، 256، ووقع فيه تحريف ظاهر) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 8/326) . وإسناده صحيح. ومما يدل أيضاً على إدراكه لعمر رضي الله عنه: أنه ولد في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذكره جماعة في الصحابة، كابن مندة، وأبي نعيم، وابن عبد البر، وابن الأثير، وابن حجر. انظر معرفة الصحابة لأبي نعيم (2/159رقم 76) ، والاستيعاب لابن عبد البر (1/61رقم 2) ، وأسد الغابة لابن الأثير (1/53) ، والإصابة لابن حجر (1/98) .

وفي رواية أخرى لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال: ((والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ن فجمعهم جميعاً من الآفاق ك حذيفة، وابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق؟! قالوا: أتتهمنا؟ !!! قال ك لا، ولكن أقيموا عندي، ولا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم بما نأخذ منكم وما نرد عليكم. فما فارقوه حتى مات، فما خرج ابن مسعود إلى الكوفة ببيعة عثمان، إلا من سجن عمر (¬1) . ¬

(¬1) أورده ابن كثير في مسند الفاروق (2/624) ، وقال: ((إسناده جيد)) . قلت: وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس. ثم اطلعت على الأثر: فقد أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ـ المخطوط ـ (11/702) ، وفيه تصريح ابن إسحاق بالسماع.

وهذا قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه، يروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيعه وفداً خارجاً إلى الكوفة، فأوصى عمر الوفد وصية قال فيها: ((إنكم تأتون بلدة ً لها دوي بالقرآن، كدوي النحل. فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] وفي رواية: فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [، وأنا شريككم)) (¬1) ولهذا التشديد في رواية السنة، والتحذير من أي دواعي الخطأ فيها، خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على منبر دمشق قائلاً: ((أيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا حديثاً كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل)) (¬2) . وقد علق الإمام الطحاوي 0 أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المصري ت 321هـ) ، على هذه الآثار عن عمر ¬

(¬1) إسناده صحيح. أخرجه أحمد في العلل (رقم 373) ، وابن ماجه في السنن (رقم 28) ، وأبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي (29ـ 30) ، وابن سعد في الطبقات (6/7) ، وابن أبي شيبة في المصنف ـ مختصراً دون موطن الشاهد ـ (6/7) ، وابن أبي شيبة في المصنف ـ مختصراً دون موطن الشاهد ـ (1/10) (12/535) ، والدارمي في السنن (رقم 285، 286) ، والطحاوي في بيان مشكل الأحاديث (15/316ـ 319) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (553 رقم 744) ، وابن حبان في المجروحين 01/35-36) ، والحاكم وصححه في المستدرك (1/ 102) ، وابن حزم في الإحكام (2/137-138) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 1904ـ 1906) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (88 رقم 192) ، والمزي في تهذيب الكمال (23/565-566) . (¬2) صحيح. أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1478) ، وابن عدي في الكامل (1/5، 19) ، وأبو نعيم في الإمامة (رقم 131) ، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (91 رقم 198) .

رضي الله عنه، في كتابه (بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فقال: ((فقال قائل: فما وجه هذا الذي رويتموه عن عمر، وهو إمام راشد مهدي؟ ! وأنتم تعلمون أنه لا يقف الناس على ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بما يحدثهم به أصحابه عنه، وفيما كان من عمر ما يقطعهم عن ذلك مما كان منه!! (قال الطحاوي:) فكان جوابنا له في ذلك: أن عمر كان مذهبه حياطة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذين رووه عدولاً. إذ كان على الأئمة تأمل ما يشهد به عندهم ممن قد ثبت عدله عندهم، فكان عمر فيما كان يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يحفظه عنه كذلك أيضاً (¬1) . وكذلك فعل بأبي موسى مع عدله عنده فيما حدث به عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما لم يكحن عنده في الارستئذان مما ذكرناه فيما تقدم من كتابنا هذا. وقد وقف على ذلك منه أبي بن كعب ومن سواه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين وقفوا على ذلك منه ولم ينكروه عليه، ولم يخالفوه فيه، فدل ذلك على موافقتهم إياه عليه. ولما كان ذلك كذلك: فعل في أمور الذين كان منه في حبسهم ـ مما كان فعله في ذلك ـ لهذا المعنى، لا لأن يقطعهم عن التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ما قد سمعوه منه. وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه قبله في مثل هذا ... (إلى أن قال:) وقد يحتمل أن يكون ما كان من الذين حبسهم ـ فيما كان حبسهم فيه ـ لتجاوز ما كان ينبغي أن يكون من أمثالهم، حتى خاف أن يقطعوا الناس بذلك، ويشغلوهم به ¬

(¬1) وهذا من (نقد المتون) ، الذي ينكره أعداء السنة على علماء السنة أنهم لم يقوموا به.. هذا عمر قد سبق إليه!! وانظر ما يأتي في (ص 143) وحاشيتها.

عن كتاب الله عز وجل، وتأمله، والاستنباط للأشياء منه، مما فيه تعلو مرتبة المستنبطين على من سواهم ممن يقرؤه، بقوله عز وجل: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (¬1) ، ولذكره سواهم ممن يقرؤونه بما سوى ذلك، بقوله: (لا يعلمون الكتب إلا أماني) (¬2) ، أي: إلا تلاوة، فلم يحمد ذلك منهم كما حمد أهل الاستنباط على الاستنباط)) (¬3) . وقال ابن حبان (محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي: ت 354هـ) ، في كتابه (معرفة المجروحين) : ((لم يكن عمر بن الخطاب ـ] بما [قد فعل ـ يتهم الصحابة بالتقول على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ردهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) (¬4) ، وأنه لا يحل لهم كتمان ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه علم ما يكون بعده من التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام قال: ((إن الله ـ تبارك وتعالى ـ نزل الحق على لسان عمر وقلبه)) (¬5) ، وقال: ((إن ¬

(¬1) سورة النساء: 83. (¬2) سورة البقرة: 78. (¬3) بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، للطحاوي (15/313-316) ، وانظر كلاماً نحو هذا الأخير في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/1004) . (¬4) حديث صحيح. أخرجه البخاري (رقم 104، 1832، 4295) ، ومسلم (رقم 1354) ، من حديث أبي شريح الخزاعي، وأخرجاه وغيرهما من حديث غيره. بل عد هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، لأنه روي من طريق ثمانية عشر صحابياً: انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم 4) . (¬5) حديث صحيح. أخرجه الإمام أحمد (2/401) ، وابنه عبد الله في زياداته على فضائل الصحابة (رقم 415) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 6889) ، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

يكن في هذه الأ/ة محدثون: فعمر منهم)) (¬1) .] فعمد عمر إلى الثقات [المتقنين، الذين شهدوا الوحي والتنزيل، فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من بعدهم، ممن ليس في الإسلام محله كمحلهم، فيكثر الرواية، فيزل فيها، أو يقول متعمداً عليه صلى الله عليه وسلم لنوال الدنيا..)) (¬2) . وقد علق الخطيب البغدادي على هذه الآثار عن عمر رضي الله عنه، بكلام نفيس، حيث قال: ((إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: إنما فعل عمر ذلك احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين. لأنه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار. وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها. فقد يرد الحديث مجملاً، ويستنبط معناه وتفسيره من غيره. فخشي عمر أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم بخلاف ما أخذ به. وكذلك نهى عمر الصحابة أن يكثروا رواية الحديث، وفي تشديد عمر أيضاً على الصحابة في روايتهم = حفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها؛ لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، قد تشدد عليه في الرواية، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، ولما يلقي الشيطان في النفس من تحسين ¬

(¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (رقم 3469، 3689) : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم (رقم 2398) : من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) المجروحين لابن حبان (1/-37) .

الكذب أرهب)) (¬1) فانظر ـ رعاك الله ـ إلى هذا الحرص البالغ في التوقي للسنة، والتأكيد الشديد على وجوب التثبت لها، من عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه! مع أنه ـ رضي الله عنه ـ كان في جيل من أقرانه في الإيمان والعلم والسن، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا بأقل منه شعوراً بعظم الأمانة، وثقل الحمل، وخطورة الأمر!! يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ التابعي الكبير الثقة: ت 83هـ ـ: ((أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم] في المسجد [، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتي إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا)) (¬2) . وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأبيه الزبير رضي الله عنه: ((إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟! فقال: أما إني لم أفارقه] منذ أسلمت [،] ولقد كان لي منه وجه ومنزلة [،] وأخاف أن أزيد أو أنقص [، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)) (¬3) ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (88- 89، 90- 91) ، بتصرف يسير. (¬2) أثر صحيح. أخرجه ابن المبارك في الزهد (رقم 58) ، وأبو خيثمة في العلم (رقم 21) ، وابن سعد في الطبقات (6/110) ، والآجري في أخلاق العلماء (147) ، ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 2199ـ 2202) . (¬3) حديث صحيح من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. أخرجه أحمد (رقم 1413) ، والبخاري (رقم 107) ، وأبو داود (رقم 3651) ، والنسائي في الكبرى (رقم 5912) ، وابن ماجه (رقم 36) ، وغيرهم، منهم: الطبراني في طرق حديث من كذب علي متعمداً (رقم 26ـ 31) .

فهذا يدل على أن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان يرى أن وعيد هذا الحديث ينال المخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ما قال، سواء أكان ذلك عن خطأ أو عن عمد!! وعلى هذا المذهب أيضاً أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: ((لولا أني أخشى أن أخطئ، لحدّثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذاك أني سمعته يقول: ((من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار)) (¬1) . وهذا عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء رضي الله عنهما، وهما ممن حبس عمر رضي الله عنه بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للحديث كما سبق، كانا إذا أراد أحدهما الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتعد فزعاً، واغرورقت عيناه، وقال: ((أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريباً منه، أو شبيهاً بذلك)) (¬2) !! ورعاً ورهبة ¬

(¬1) إسناده بهذا اللفظ حسن. (¬2) أسانيد ذلك ثابتة صحيحة. أخرجه الإمام أحمد (رقم 3670، 4015، 4321) ، وابن ماجه (رقم 23) ، وابن أبي شيبة في المصنف (8/753-754) ، وأبو خيثمة في العلم (رقم 105) ، والدارمي في سننه (رقم 274ـ 277) ، وابن سعد في الطبقات (3/156-157) (7/392) ، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1473، 1474) ، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/547-548-، 548) ، وأبو يعلى في المسند الكبير له: انظر المطالب العالية (رقم 3046) ، وابن الأعرابي في معجمه (رقم 605) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 733-735) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (رقم 459، 460) ، والخطيب في الكفاية (240-241) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق - المطبوع (39/109-114) .

من تبعة الزيادة أو النقصان!!! ثم يتشدد عمر رضي الله عنه مع هؤلاء!!! ومع أمثال هؤلاء!!! هكذا بدأ أول عصر الصحابة رضي الله عنهم، ومن وقت مبكرٍ جداً فيه، وقبل فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، بل قبل مقتل عمر رضي الله عنه = على التشديد البالغ في رواية السنن، والترهيب من دواعي وقوع الخطأ فيها!! فإلى أي حس سوف ينتهي تثبتهم في الرواية، بل هل سيكون لتثبتهم حد؛ فيما إذا ظهرت بوادر الفتنة، وبدت دواعي الكذب؟!!! لاشك أن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ثلمة في حصن الإسلام، فلم تجتمع الأمة بعده على خليفة إلى اليوم. وكان له من الآثار العظيمة، عقب الجريمة مباشرة، وبعدها.. إلى اليوم، ما يكاد يكون بها السبب الأول لما تلاه من نكبات وكبوات في تاريخ هذه الأمة. وكان من أكبر آثار فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، افتراق الأمة، وظهور بعض الأحزاب، لا سياسية فحسب، بل عقدية سياسية. عندها بدأت دواعي التقول على النبي صلى الله عليه وسلم تظهر، نصرة للمذهب الاعتقادي الذي يتحزب له بعض مرضى النفوس والجهلة. لكن جيل الصحابة رضي الله عنهم كانوا ـ كما رأيت سابقاً ـ قد سبقوا ذلك بالتشديد في الرواية، فما أن لاحت بوادر الفتنة، حتى سابقوها أيضاً بالمبالغة في التشدد للرواية، وبتحصين السنة

بحصن آخر قبل مجيء العدو الضعيف. وبذلك اماتوا الكذب في صدور أصحابه، ولم يستشر داؤه، بل لم يوجد اصلاً إلا من آحادٍ هلكوا فهلك معهم. وقد أعلن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما المنهج الذي بدأ يود ذلك العصر في تلقي السنة، عندما قال رضي الله عنه: ((إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 9، ابتدرته أبصارنا، وأغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)) (¬1) لقد كان في ذلك التثبت إنشاء لعلم جديد من علوم الحديث، وهو علم الجرح والعديل، الذي كانت قد وضعت أسسه، وأصلت قواعده، في الأصلين: الكتاب والسنة، كما مر بيانه. فابن عباس رضي الله عنه، يعلن هنا عن بداية حقبةٍ جديدةٍ للرواية، تختلف عن الحقبة السابقة لها. حيث لم يكن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة السابقة، إلا من زكاهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، الذين لم يكن يستلزم قبول ما يروونه إلا سماعه منهم. أما الحقبة التي يتكلم عنها ابن عباس رضي الله عنه، فقد بدأ من لم يكن له لقي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبة، بالحديث عنه صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء لم يلقوه، فحديثهم عنه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون لهم إليه ¬

(¬1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/12-13) ، والدارمي في السنن (رقم 432، 433) وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (رقم 1486) ، وابن حبان في المجروحين (1/112) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ـ المخطوط ـ (3/389) .

فيه واسطة؛ ثم إنهم هم أنفسهم ليس لهم شرف الصحبة، ولا نالهم تعديل من الله تعلى أو رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ثم بعد أن دبت الفتنة، (وركب الناس الصعب والذلول) ، كان لا بد من معرفة الواسطة المحذوفة في مرسل ذلك التابعي، للتوثق من ثقة تلك الواسطة، وذلك ـ بالطبع ـ بعد التوثق من ثقة ذلك التابعي نفسه الذي أرسل الحديث أولاً. فكان هذا أول تطبيق عملي ظاهر لعلم الجرح والتعديل، وأول السؤال عن الإسناد، ورفض المراسيل. وذلك لظهور علتين اقتضت ذلك، هما علتا: رواية المجروح، والإرسال وعدم الإسناد (¬1) وفي الحقيقة، فإن علة الإرسال عائدة إلى العلة الأولى، لأن عدم قبول المرسل إنما كان، لا حتمال كون المحذوف مجروحاً. وقد أرخ بداية نشوء هذين العلمين (علم الإسناد وعلم الجرح والعديل) من علوم الحديث، أحد أئمة التابعين، وهو محمد بن سيرين (ت 110هـ) ، عندما قال: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر على أهل البدع فلا يؤخذ ¬

(¬1) وفي ذلك رد على من زعم أن أول من رد الحديث المرسل الإمام الشافعي، فهذا عبد الله ابن عباس رضي الله عنه قد سبقه إلى ذلك!! وتلاه أيضاً محمد بن سيرين، والزهري، كما يأتي (ص 30-31، 37) . انظر رسالة أبي دواود إلى أهل مكة (24) ، والتمهيد لابن عبد البر (1/4) . ثم انظر جامع التحصيل للعلائي (70) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/567-568) وتهذيب التهذيب (1/471) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/166) ، وتوضيح الأفكار للصنعاني (1/296) ، وإرشاد الفحول للشوكاني (120) .

حديثهم (¬1) . ومن هنا يظهر أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا هم أول من بدأ بإنشاء ما عرف بعد ب (علوم الحديث ومصطلحه) . ولا غرابة في ذلك، فإن الهدف واحد والغاية معلومة، لهذه الأمة عبر العصور، وهو: التوثق للسنة، وتأديتها للأجيال صافية، من غير نقص أو زيادة. فكل وسيلة تؤدي إلى هذا الهدف سيسلكه ذلك الجيل، وأي سبيل يحقق تلك الغاية فستطرقه الأمة، ولن تواجهها عقبة إلا وكان عندها من العلم والعزيمة ما يقتحم بها العقبات، ولا اعترضها عائق إلا واخترعت ما يجاوزها إياه. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 3640) ، ومسلم في مقدمة صحيحه (1/15) ، والدرامي في سننه (رقم 422) ، وابن أ [ي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (2/28) ، والجوزجاني في أحوال الرجال (35ـ 36) ، والعقيلي في الضعفاء (1/10) ، وابن عدي في الكامل (1/121) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/278) ، والخطيب في الكفاية (150، 151) .

الفصل الثاني: في عصر التابعين

الفصل الثاني: في عصر التابعين بدأ عصر التابعين، بعد أن انتهى الجيل الأول، وذهب قرن الصحابة رضي الله عنهم. فتحمل التابعون بإحسان عن الصحابة رضي الله عنهم العلم والإيمان، والشعور العميق بعظم المسؤولية الملقاة عليهم بتبليغ العلم والإيمان للاجيال من بعدهم، كما بلغتهم. لكن زاد الأمر خطورة، وتتابعت الفتن على الأمة، وتعبت الأحزاب، وخرج دعاتها يدعون الناس إلى باطلهم، لاجئين أحياناً إلأى الكذب الصريح، أو إلى أنواع من التلبيس و (التدليس) لإخفاء عيب رواياتهم. ومع ذلك فقد بدأ الإسناد يطول، وأصبحت لا تسمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا بواسطةٍ فأكثر، خاصة بعد أن اخترم غالب جيل الصحابة، فأصبح التابعي يأخذ عن قرينه من التابعين ويروي عنه. وهذه الوسائط ـ حاشا الصحابي ـ يلزم لقبول ما ترويه: العلم من حالها ما يدل على عدالة وحسن نقل أصحابها، أي يلزم تمييز الثقات في النقل، من غير الثقات فيه، من أهل هذه الطبقة فمن بعدهم. وفي هذه الحقبة دوت صرخات من أئمة التابعين، لمواجهة

كل هذه الأخطار المحدقة بالسنة. وتجند لذلك الغرض: (الدفاع عن السنة) ، فئام عظيم من الأمة حينها، حريصون كل الحرص على نشر السنة، لكن بعد التأكد والتثبت والتامين الكاملين من أنها سنة نبوية حقاًَ. ومن هذه الصرخات، كلمة محمد بن سيرين، التي حفظتها الأجيال، وتناقلتها الأعقاب، وهي قوله: ((إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)) (¬1) . لقد أصبحت هذه الكلمة، الدالة على وجوب التثبت في نقل السنة، شعاراً في ذلك العصر، وفيما بعده، إلى يوم الناس هذا، وإلى ما شاء الله، مادام في الناس من يهمه أمر الدين ويسعى لرضى ربه عز وجل. ومع نشوء علم الإسناد، نشأت بعض علومه، الكفيلة بحفظ السنة في هذا الجيل، وبتبليغه للأجيال من بعده. وبدأ حملة الآثار في هذا العصر وأئمة التابعين، بالتعبير عن حال الرواية والراوي، وعن أوصافهما المختلفة، بألفاظٍ.. كثر استخدامهم لها بعد ذلك، حتى أصبحت مصطلحاتٍ ذات دلالة ٍ عرفية بين أهل الحديث. وهكذا أخذت الحاجة إلى حفظ السنة، وإلى أدائها ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 4199) ومسلم في مقدمة صحيحه (1/14) ، والدارمي في سننه (رقم 425) ، والجوزجاني في أحوال الرجال (36) ، وابن أبي حاتم في الجرح والعديل (2/15) ، وابن حبان في المجروحين (1/21) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 437ـ 439) ، وابن شاهين في تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين (40) ، وأبو نعيم في الحلية 0 2/278) ، والخطيب في الكفاية (150) .

للأجيال، في بناء علم جديد، تمز به الإسلام، وتفرد به علماؤه. ألا وهو الإسناد وعلومه، التي أطلق عليها بعد ذلك: علوم الحديث وأصوله. وإن كنا نحن في بحثنا هذا، إنما نقصره على مصطلح الحديث خاصة، إلا أنه لا يسعنا إغفال تاريخ تدوينه ومراحل هذا التدوين. ذلك لأن مصطلح الحديث أخذ بالبروز والتبلور، هي هذا العصر وفي العصور اللاحقة له، مع حركة التدوين، مرافقة لها جنباً إلى جنب. ولا غرابة في ذلك، إذ إن تدوين السنة ذاته: (أصوله وآدابه) = من علوم الحديث، وله مصطلحاته الخاصة به. ولا غرابة في ذلك أيضاً، لأن حركة التدوين إنما كانت تنقل من مرحلةٍ إلى مرحلة ٍ أخرى أكثر ارتقاء، بناء على ما يستجد من دواعي الحفاظ على السنة، وما يظهر من أخطار عليها، تستلزم حماية معينة تجاهها. وحينها لا يعقل أن يرتقي تدوين السنة، دون باقي علومها، ودون نشوء مصطلحات واستقرار أخرى، في مواجهة تلك الدواعي والأخطار. خاصة إذا أدركنا أن من تلك الدواعي: انتشار السنة، وتشعب الأسانيد وطولها؛ وأن من تلك الأخطار: فشو الكذب بعد جيل أتباع التابعين، وافتراق الأمة قبل ذلك بكثير إلى شيع وأحزاب. وهذا الأمر ـ أعني: ترابط مراحل ارتقاء تدوين السنة بمراحل ارتقاء مصطلحاتها ـ من أوضح ما يكون عند المتخصصين في هذا العلم. بل كان يمكن أن نعكس القضية، فنقيس مراحل ارتقاء التدوين بمراحل ارتقاء المصطلح، بدلاً من ضد ذلك مما نزمع القيام به؛ لولا أن تدوين السنة قد درس وخدم تأريخه ومراحل تطوره من علماء الأمة، قديماً وحديثاً، بما

جعله أنفع لأن يكون هو الأصل الذي يقاس عليه، لزيادة وضوح الأمر الذي نريد أن نقيس عليه فيه. وبعد هذا التقرير، سنجعل أي إشارة إلى تطور تدوين السنة إشارة ايضاً إلى تطور مصطلحاتها، إلى أن تدون السنة كلها، ولا يبقى للروايات الشفهية غير المدونة ذكر، إلا الروايات المكذوبة والموهومة. فإذا عدنا إلى عصر التابعين، نقول: إنه كانت السنة قد بدئ تدوينها من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في زمن الصحابة رضي الله عنهم (¬1) ؛ إلا أن تدوينها الرسمي، بأمرٍ عام من الدولة، إنما كان في أواخر عهد الصحابة، وذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) وبأمره (¬2) ، وكانت ¬

(¬1) إن فكرة (السنة قبل التدوين) فكرة أثبتت الدراسات بطلانها، فقد واكب التدوين السنة من البدايات: في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ازدادت حركته في زمن الصحابة رضي الله عنهم. انظر: (دراسات في الحديث النبوي) للدكتور محمد مصطفى الأعظمي (1/84-142) ، و (بحوث في تاريخ السنة المشرفة) للدكتور أكر ضياء العمري (292-301) ، و (صحائف الصحابة وتدوين السنة المشرفة) للأستاذ أحمد عبد الرحمن الصويان. اما إن أريد (بالسنة قبل التدوين) : التدوين الرسمي، كما أراد ذلك الدكتور محمد عجاج الخطيب، في كتابه (السنة قبل التدوين) ، فلا مؤاخذة عليه، وإن كان التقييد للعنوان كان أولى. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في العلل (رقم 50) ، والبخاري في صحيحه موصولاً ـ كتاب العلم، باب (34) : كيف يقض العلم (1/234) ، والبخاري أيضاً في التاريخ الأوسط ـ المطبوع خطأ باسم التاريخ الصغير ـ (1/248-249) ، ومحمد بن الحسن الشيباني في الموطأ عن مالك (رقم 936) ، وابن سعد في الطبقات (8/480) ، والدارمي في سننه (رقم 493، 494) ، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/442) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (رقم 346) ، وأبو نعيم في ذكره أخبار أصبهان (1/312) ، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 782) ، والخطيب في تقييد العلم (105-107) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 438، 439، 443، 1096) ، وابن حجر في تغليق التعليق (2/88-90) .

خلافته سنة (99هـ) إلى سنة (101هـ) حين وفاته (رحمه الله) . وهذا الأمر الخارج من دار الخلافة إلى عمال الأمصار وعلماء الأمة بتدوين السنة، من أكبر الأدلة على أن السنة وعلومها بدأت طوراً جديداً، يقتضي نشوء علوم جديدة، كان منها هذا التدوين الرسمي. وكما ذكرنا آنفاً، إن مصطلحات الحديث كانت في نشوئها وتطورها مواكبة لحركة تدوين السنة. لذلك فإن أي علامةٍ من علامات انتعاش وارتقاء حركة التدوين، يدل ذلك ـ طرداً ـ على ظهور مصطلحات تخدم السنة واستقرار مدلولاتها. وهذا ما وقع بالفعل خلال هذا العصر. فهذا محمد بن سيرين ـ وهو أحد رواد هذا العلم ـ يستخدم مصطلح (الإسناد) (¬1) ، و (المرسل) (¬2) ، ويتكلم في حكم الرواية عن أهل البدع (¬3) ، بل لقد ذكره أهل العلم في الطبقة الأولى من علماء الجرح والتعديل (¬4) ويذكر الإمام محمد بن مسلم الزهري (ت 125هـ) مصطلح (الإسناد) أيضاً، ويتكلم عن حكم الحديث (المرسل) (¬5) ¬

(¬1) تقدم ما يدل على ذلك (ص 30) ، وهو قوله: ((كانوا لا يألون عن الإسناد)) . (¬2) سنن الدارقطني (1/171) . (¬3) انظر ما يدل على ذلك (ص 30- 31) . (¬4) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ك للذهبي (173 رقم 2) . (¬5) انظر المجروحين لابن حبان (1/131-132) ، والكامل لابن عدي (1/327) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (6) ، والكفاية للخطيب (431) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ـ المحطوط ـ (13/769-770) . (1) المحدث الفاصل للزامهرمزي (رقم 465-467) ، والكفاية للخطيب (300-301) .

ويتكل بعض أئمة التابعين عن بعض طرق التحمل، وعن استعمالات صيغ السماع (¬1) . وإذا دققت النظر في هذه العلوم والمصطلحات، التي نشأت في عصر التابعين، علمت أنها أصول علوم الحديث وأسس مصطلحه. ثم إذا دققت النظر فيها أكثر، علمت أنها كفيلة بحفظ السنة لذلك الجيل، الذي لم تظهر فيه العلل الحديثية التي كثرت في الأجيال التي بعده. وذلك لقصر الإسناد، وعدم فشو الكذب. لكن لا بد في هذا الجيل من بيان الوسيلة الصحيحة لتبليغ السنة: (طرق التحمل) ، ومن ذكر الألفاظ التي يعبر بها عن كل طريقة من طرق التحمل: (صيغ الأداء) . ثم إن بعض الرواة، كان قد اعتاد إرسال الحديث، منذ الفترة التي سبقت الفتنة، وكان الإرسال في تلك الفترة المتقدمة مقبولاً، لكن لما (ركب الناس الصعب والذلول) وجب إضهار مستند الراوي ومعتمده في النقل، وهو (الإسناد) . فالإرسال من أوائل العلل الحديثية ظهوراً ن لذلك فإن مصطلحه من أقدم المصطلحات، والكلام عن حكمه من أقدم أحكام أنواع علوم الحديث. و (الإرسال) دعا إلى المطالبة ب (الإسناد) ، والمطالبة ب (الإسناد) إنما كانت للنظر في الرواة (جرحاً وتعديلاً) . هذا، وبصورة سريعة، بعض ملامح نشأة علوم الحديث ومصطلحة وتطورها، في عهد التابعين (رحمهم الله تعالى) . ¬

(¬1) المحدث الفاصل للرامهرمزي (رقم 465- 467) ، ولكفاية للخطيب (300- 301) .

وأريد أن ألفت الانتباه هنا، إلى ملحظٍ مهم بخصوص نشأة المصطلحات، وهو علاقة تلك المصطلحات ومدلولاتها العرفية بالمعنى اللغوي الأصلي للكلمة. إن المنتبه باعتناء إلى هذا الملحظ، سوف يقف على قوة علاقة الدلالات الاصطلاحية للكلمة بالمعنى اللغوي الأصلي لها. وهذه العلاقة القوية، سوف تفسر له سبب اختيار أهل جيل واحد بأجمعهم لذلك اللفظ للتعبير به عن ذلك المعنى، دون اتفاقٍ بين أهل ذلك الجيل على هذه الاختيار، ثم يتداول ذلك اللفظ لذلك المعنى، بل يغلبه عند أهل الفن. ولو قمت بدراسة مصطلحي (الإسناد) و (الإرسال) ، من هذه الجهة، جهة علاقة معناهما الاصطلاحي بالمعنى اللغوي لهما، لاتضح ما ذكرته آنفاً تمام الوضوح. فالإسناد مأخوذ من مادة (سند) ، وهي كما يقول ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) : ((أصل واحد، يدل على انظمام الشيء)) (¬1) ثم قال ابن فارس: ((والسناد: الناقة القوية، كأنها أسندت من ظهرها إلى شيء قوي. والمسند: الدهر، لأن بعضه متضام. وفلان سند، أي: معتمد. والسند: ما أقبل عليك من الجيل، وذلك إذا علا عن السفح. والإسناد في الحديث: أن يسند إلى قائله، وهو ذلك القياس (¬2) وقال الجوهري في (الصحاح) : ((السند: ماقابلك من ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/105) . (¬2) المصدر السابق.

الجبل، وعلا عن السفح. وفلان سند، أي: معتمد ... والإسناد في الحديث: رفعه إلى قائله)) (¬1) . وذكر الزمخشري في (أساس البلاغة) معاني السند الأصلية، ثم ذكر المجازية، فقال فيها: ((وحديث مسند، والأسانيد: قوائم الحديث ن وهو حديث قوي السند)) (¬2) . بل إن الزبيدي في (تاج العروس) اعتبر أن (السند) بمعنى: (معتمد الإنسان) ، اعتبره من المعاني المجازية للكلمة (¬3) . وعلى هذا، فأصل معنى الكلمة له دلالتان، الثانية مبنية على الأولى. الأولى هي التي ذكرها ابن فارس: ((انظمام الشيء إلى الشيء)) ، والثانية: الاعتماد والتقوي بذلك. ثم إذا عرفت السند في اصطلاح المحدثين، بأنه: سلسلة رواة الحديث، أو طريق المتن. ظهر لك قوة علاقة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي، إلى درجة التوافق بين المعنيين إلى حد كبير. فالسند: فيه انظمام الشيء إلى الشيء، أي راوٍ إلى راوٍ ن وهذا الانظمام يقوي موقف الراوي باعتماده على غيره في روايته، ويلقي عهدة الحديث ـ سواء أكان صحيحاً أو غير صحيح ـ على ذلك الراوي الذي أسند الحديث إليه. وبهذا تظهر لك قوة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي، في كلمة (السند) ، وتعلم لم اختار علماء التابعين هذا اللفظ، دون غيره من الألفاظ القريبة في المعنى ¬

(¬1) الصحاح للجوهري (2/489) . (¬2) أساس البلاغة (221) . (¬3) تاج العروس (8/215) .

منه، للتعبير بها عن (سلسلة رواة الحديث) . أما (المرسل) ، فأصل معناه اللغوي، كما يقول ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) : ((أصل واحد مطرد منقاس، يدل على الانبعاث والامتداد)) (¬1) . ويقول الراغب الأصبهاني في (المفردات في غريب القرآن) : ((أصل الرسل: الانبعاث على تؤده)) (¬2) . أما المعاني المشتقة من هذا المعنى الأصلي للكلمة، فقد استوفى الحافظ العلائي منها ما له علاقة بالمعنى الاصطلاحي لكلمة (مرسل) ، وذلك في كتابه (جامع التحصيل) (¬3) . وبعد دراسة المعاني الأربعة التي ذكرها العلائي، يظهر أن (الإرسال) بمعنى: الإطلاق والترك والتخلية وعدم المنع (¬4) .، هو المعنى الملحوظ في اصطلاح (الإرسال) (¬5) . فإذا وازنت بين هذا المعنى اللغوي ك الإطلاق والترك والتخلية، والمعنى الاصطلاحي، وهو كما قال الخطيب في (الكفاية) : ((ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه. إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال، من حيث الاستعمال، ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬6) . إذا وازنت بين هذين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي، ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة (2/392) . (¬2) المفردات في غريب القرآن (195) . (¬3) جامع التحصيل للعلائي (23-24) . (¬4) انظر لسان العرب ـ رسل ـ (11/284) ، وأساس البلاغة (162) . (¬5) انظر المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس ( ... ) . (¬6) الكفاية للخطيب (37) .

علمت مدى قوة العلاقة بينهما. فإن الذي يرسل الحديث،: انه أطلق روايته، فانبعثت دون قيد أو ظابط، فلا يمكن لذلك الوقوف منها على يقين، أو الاحتجاج بها. والذي يجزم بأن معنى 0 الترك والإطلاق والتخلية) هو المعنى الملحوظ في مصطلح (الإرسال) ، عند أئمة التابعين، هذا النقل الآتي عن الزهري. فعن عتبة بن أبي حكيم: ((أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة، وعنده الزهري. قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة! ما أجرأك على الله عز وجل!! ألا تسند حديثك؟! ألا تسند حديثك؟! تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة (¬1) أرأيت قول الزهري: ((ليس لها خطب ولا أزمة)) في وصف (مراسيل) ابن أبي فروة، هذا هو (الإطلاق والتخلية) . وهذا صريح في بيان المعنى اللغوي المراد في مصطلح (الإرسال) ، وفي بيان العلاقة القوية بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي، كما تقدم. وفي الحقيقة، فإن قوة علاقة المعاني اللغوية بالمعاني الاصطلاحي في مصطلحات الحديث، لا يحتاج على كل هذا الاستدلال. إذ يكفي للدلالة على ذلك، شيوع تلك الألفاظ بمعانيها الاصطلاحية، بين نقلة الحديث وعلمائه، دون اجتماع واتفاق سابق بينهم على استخدامها بتلك المعاني الجديدة؛ ودون غيرها منت الألفاظ، التي كان من الممكن أن تؤدي الغرض نفسه أو بعض الغرض. مما يؤكد أن تلك الألفاظ التي اصطلح على استخدامها بتلك المعاني، لها من معناها اللغوي، أقوى علاقة ¬

(¬1) انظر الحاشية رقم (5) ، (ص 37) .

بالمعنى الجديد، لذلك كانت أقرب لفظٍ سبق إلى ألسنة علماء الفن، للتعبير به عن ذلك المعنى الحادث. غير أن التنبة إلى قوة العلاقة بين المعاني اللغوية والاصطلاحية في علم الحديث، له أثر كبير في فهم مدلولات المصطلحات، وفي الترجيح بين الأقوال المختلفة فيها. لذلك أحببت التأكيد عليها، بعد إقرارها والاتفاق عليها. وننتقل الآن إلى تأريخ مصطلح الحديث، في عصر أتباع التابعين.

الفصل الثالث في عصر أتباع التابعين

الفصل الثالث في عصر أتباع التابعين فإذا بلغ بنا الحديث عصر أتباع التابعين، فإننا قد دخلنا في آخر القرون المفضلة، التي لم يفش الكذب إلا بعد هابها. وفي هذا الجيل لم تعد تسمع من يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، بل أعلى ما يقع لهم من الرواية، حديث التابعي عن الصحابي. بل كثير ما كانت تزيد الوسائط عن ذلك، خاصة في طبقة صغار أتباع التابعين. وطول الأسانيد سبب لتشعبها، ولصعوبة حصرها، مع ما ينشأ عن ذلك أيضاً من كثرة العلل، واختلاف الرواة في المتن والإسناد. لذل بدأ تدوين السنة في هذا العهد يدخل مرحلة جديدة، لا بانتشار التدوين أكثر من ذي قبل فحسب، حتى عاد أمراً مألوفاً؛ بل وفي طريقة التصنيف، وذلك مواجهة ً لبداية انتشار أسانيد السنن، وخوفاً من تفلت شيءٍ من متونها. فبدأ لذلك التصنيف المرتب لسنن والآثار. فصنف عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح (ت 150هـ) : كتاب (السنن) ، و (الطهارة) ، (والصلاة) ، و (التفسير) ، و (الجامع) (¬1) . وصنف محمد بن إسحاق بن يسار (ت 153هـ) : (السنن) ، و (المغازي) . وصنف معمر بن راشد (ت 153هـ) : (الجامع) . ¬

(¬1) انظر صحائف الصحابة للأستاذ أحمد عبد الرحمن الصويان (239) ، وكذا فهو مصدر ما سيأتي من تصانيف هذا العصر ومؤلفيها.

وصنف محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة المشهور بابن أبي ذئب (ت 156هـ) : (الموطأ) ، و (السنن) . وصنف سفيان بن سعيد الثوري (ت 161هـ) : (التفسير) ، و (الجامع الكبير) ، و (الجامع الصغير) ، و (الفرائض) ، و (الاعتقاد) . وصنف زائدة بن قدامة (ت 161هـ) : (السنن) ، و (الزهد) ، و (التفسير) ، و (القراءات) ، و (المناقب) . وصنف حماد بن سلمة (ت 168هـ) : (السنن) . وصنف مالك بن أنس (ت 179هـ) : (الموطأ) . وصنف عبد الله بن المبارك (ت 181هـ) : (المسند) ، و (الزهد) , و (الجهاد) وصنف هشيم بن بشير (ت 183هـ) : (السنن في الفقه) ، و (المغازي) . وصنف أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري (ت186هـ) : (السير) (¬1) . وغيرهم كثير، مما بلغنا، وما لم يبلغنا فهو الأكثر. ¬

(¬1) انظر التعليقة في أول مسرد هذه المصنفات.

فإذا كان تدوين السنة قد بلغ هذا المبلغ مت التطور، إلى درجة التدوين المرتب المصنف موضوعياً، فضلاً عن شيوعه بين العامة من أهل العلم حينها = فإن مصطلح الحديث لا بد وأنه واكبه في هذا التطور، ورافقه في هذه المرحلة الزاخرة بالمستجدات. ففي هذا العصر ـ عصر أتباع التابعين ـ يقل أن تجد مصطلحاً من مصطلحات الحديث، إلا وقد تداوله العلماء من أهل هذا العصر، ودار على ألسنتهم، في التعبير عن أحوال الرواية المختلفة، وعن مراتب الرواة قبولاً ورداً. وإذا تذكرنا أن هذا العصر، هو عصر: شعبة بن الحجاج (ت 160هـ) ، ومالك بن أنس (ت167 هـ) ، وسفيان الثوري (ت 161هـ) ، وحماد بن سلمة (ت 167هـ) ، والليث بن سعد (ت 175هـ) ، وعبد الله بن المبارك (ت 181هـ) ، وهشيم بن بشير (ت 183هـ) ، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ) ، وعبد الله بن وهب (ت 197هـ) ، ووكيع بن الجراح (ت 197هـ) ، ومحمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) ، ويزيد بن هارون الواسطي (ت 206هـ) ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ) . بل وفي هذا العصر: الإمامان الجبلان: يحيى بن سعيد القطان (ت 198هـ) ، وعبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ) . إذا تذكرت ذلك (يا من له اطلاع على هذا العلم) علمت المدى الذي بلغته علوم الحديث في هذا العصر. ولا يبقى لديك شك في أن جل أنواع علوم الحديث وأجلها، تكلم عنه علماء هذا العصر، باسمه الذي صار علماً عليه ن ومصطلحاً له دلالته العرفية بين أهل الفن.

فتكلموا ـ مثلاً ـ عن (الصحيح) (¬1) .، و (الضعيف) (¬2) . و (المرفوع) (¬3) . و (الموقوف) (¬4) .، و (المرسل) (¬5) ، و (المنقطع) (¬6) ، و (المتصل) (¬7) و (المنكر) (¬8) ، و (الشاذ) (¬9) ، و (المضطرب) (¬10) ، و (الباطل) (¬11) ، و (ما لا أصل له) (¬12) ، و (التدليس) (¬13) ، و (التلقين) (¬14) , وحكمه، وغير ذلك: من طرق التحمل (¬15) ، وألفاظ الجرح والتعديل ومراتبها (¬16) ، وغيرهما. بل بلغ الأمر إلى درجة التقعيد والتنظير، وذلك في أواخر هذا العصر، على يد الإمام الشافعي، بما سطره في كتابه العظيم (الرسالة) (¬17) ، من قواعد في علوم الحديث. لذلك فقد كان هذا العصر، بما وقع فيه من تطور عظيم ¬

(¬1) تقدمة الجرح والتعديل (14، 79، 141) . (¬2) تقدمة الجرح والتعديل (158، 238) . (¬3) تقدمة الجرح والتعديل (19، 158، 2699. (¬4) تقدمة الجرح والتعديل (240) . (¬5) تقدمة الجرح والتعديل (44) . (¬6) الرسالة للشاعفي (رقم 1184) . (¬7) المصدر السابق. (¬8) تقدمة الجرح والتعديل (70، 71، 72، 82، 242) . (¬9) معرفة علوم الحديث للحاكم (119) . (¬10) تقدمة الجرح والتعديل (237) . (¬11) تقدمة الجرح والتعديل (259) . (¬12) تقدمة الجرح والتعديل (260) . (¬13) تقدمة الجرح والتعديل (173) . (¬14) تقدمة الجرح والتعديل (44) . (¬15) تصفح كتاب الإلماع للقاضي عياض. (¬16) وأقوالهم ملأت كتب الجرح والتعديل. (¬17) انظر فهرس كتاب الرسالة الذي صنعه محققه الإمام العلامة أحمد محمد شاكر (ص 665- 666) .

في علوم الحديث ومصطلحه، إرهاصاً واضحاً للعصر الذي تلاه: العصر الذهبي للسنة، وقاعدة راسخة أمكن عليها أن يتسق بناء هذا العلم بعد ذلك.

الفصل الرابع: العصر الذهبي للسنة

الفصل الرابع: العصر الذهبي للسنة القرن الثالث الهجري (200هـ ـ 300هـ) هو القرن الذي شهدت فيه علوم كثيرة تحولاً عظيماً، على يد علماء عاشوا في هذا القرن، كانوا أئمة العلم والدين، وقدوة في ذلك للأجيال من بعدهم. فإذا خصصت علوم السنة بالحديث، فهذا العصر الذهبي له. الذي ما إن يذكر حتى تتمثل في المخيلات: صورة الآلاف المؤلفة من طلاب الحديث وهم يلتفون حول أحد أعيانه (¬1) ، وازدحام بلدان الإسلام وعواصمه بالمحدثين وهم رائحون غادون من مسجدٍ إلى منزل إلى ساحةٍ، من عالم إلى عالم، معهم المحابر والأقلام والكاغد. وأحسب لو نظرت إلى الصحاري وطرق المسافرين ومنازل السفر، لرأيت الأحمال تحط وترحل، والقوافل متتابع نم إسبيجاب وبخارى، إلى قرطبة وإشبيلية، ومن القوقاز إلى صنعاء وعدن، في حركةٍ دؤوب، وموج تلو أمواج متتابعة ٍ، تحكي عجائب الرحلة في طلب الحديث! أما تدوين السنة، الذي جعلناه مقياساً لتطوير مصطلح ¬

(¬1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح (147 ـ 148) ، وتذكرة الحافظ للذهبي (529 ـ 530) .

الحديث، فهذا العصر هو عصر أصول السنة وأمهات الدين، فهو عصر: مسند الإمام أحمد، والكتب الستة، ومنها الصحيحان!! وما أدراك ما الصحيحان؟!! قمة القمم، وإمام التأليف البشري: في شرف الغاية، وعمق الفكرة، وبعد النظرة، وعبقرية الخطة، وتفوق المنهج، وتكامل القدرات، وبذل الجهد، واسترخاص الدنيا، وروعة الأسلوب، وإتقان التنفيذ ... وغير ذلك /ن: خصائص التميز، ومواهب الإبداع، وتسديد التوفيق، ونفحات الرضى، وقواعد الخلود. بل هذا عصر أصول السنة، من مسانيد، وجوامع، وسنن، وعلل وتواريخ، وأجزاء، وغير ذلك: من وجوه التصنيف الأصلية في السنة، ومن المصنفات التي لا يحويها حصر، ولا يبلغها عد! فهي تكاد تكون بعدد الألوف المؤلفة، من طلبة الحديث، وحفاظه، والرحالين فيه، ممن حواهم هذا القرن! بل تفوق عددهم!! لأنه لا يخلو أن يكون لجمع منهم أكثر من مؤلف، بل ربما عشرات المؤلفات. بل ما انضى هذا القرن، إلا والسنة جميعها مدونة. ولم يبق من الروايات الشفهية غير المدونة في المصنفات ـ بعد هذا العصر ت شيء يذكر، إلا روايات الأفاكين وأحاديث المختلقين، أو أخبار المواهمين المخلطين. ولذلك اعتبر الإمام الذهبي (ت 748هـ) رأس سنة ثلاثمائة الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين (¬1) ، ورأى بذلك أنه من ¬

(¬1) هذا التحديد الفاصل للمتقدمين والمتأخرين هو اصطلاح ل (ميزان الاعتدال) خاصة، من مصنفات الذهبي، وله مسوغاته التي ذكرها الذهبي. فليس اصطلاحاً له في غيره من المصنفات، فضلاً عن غيره من الأئمة. وإلا فالتقدم والتأخر أمر نسبي، يختلف باختلاف الأزمان.

سنة ثلاثمائة: انقرض عهد الرواة الذين يروون ما لا يوجد في الدنيا مكتوباً إلا في محفوظ صدورهم، ولم يبق ـ بعد أولئك ـ إلا المحدثون المقيدون للسماعات على النسخ الحديثة (¬1) وتدوين السنة جميعها بانتهاء القرن الثالث، هو ما جعل الأئمة بعد ذلك يتخففون من شروط الراوي والرواية (أي في العدالة والضبط) ، لأن الغرض من الرواية أصبح الإبقاء على خصيصة الإسناد لهذه الأمة، وليس تقييدها بالكتابة وجمعها خوفاً من ضياع أو تفلت شيءٍ منها، إذ هذا ما ضمن عدم وقوعه بتمام تدوين السنة على رأس سنة ثلاثمائة. ومما يدل على صواب الفترة الزمنية لتمام تدوين السنة التي ذكرها الإمام الذهبي، وهي رأس سنة ثلاثمائة، هو أن أ؛ د حفاظ القرن الرابع الهجري، وهو أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) ، قد نص على ذلك التخفف في شروط العدالة والضبط، لأهل زمانه، بل لم يذكر في الضبط إلا ما يتعلق بضبط الكتاب (¬2) . مما يدل على أن السنة قد تم تدوينها، قبل الجيل الذي عاصره الحاكم، وهو مولود سنة (321هـ) ، ومتوفي سنة (405هـ) . وممن نص على ذلك التخفف في شروط العدالة والضبط ك الإمام البيهقي (ت 458) ، وكلامه في ذلك كلام نفيس يلزم الوقوف عليه لمن أراد معرفة ضوابط ذلك التخفف (¬3) . ويمتاز ¬

(¬1) ميزان الاعتدال ـ المقدمة ـ (1/4) . (¬2) معرفة علوم الحديث للحاكم (15 - 16) ، ووازن بفتح المغيث للسخاوي (2/ 108) . (¬3) انظر معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح ـ المطبوع باسم: علوم الحديث ـ (120 - 121) ، والتبصرة والتذكرة للعراقي (1/ 346 - 349) ، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 106 - 108) ، وتدريب الراوي للسيوطي (1/ 304 - 305) ، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/259 - 261) .

كلامه بميزةٍ أخرى، وهو أنه وجه سبب ذلك التخفف، فنص على أنه: تمام تدوين السنة. ونقل ذلك عنه أبو عمرو ابن الصلاح (ت 643هـ) ، فمن جاء بعده، ووافقوه وأيدوه (¬1) . فقال ابن الصلاح في (معرفة أنواع علم الحديث) (¬2) ، بعد ذكره لذل التخفف من شروط العدالة والضبط، نقلاً عن البيهقي، قال: ((ووجه ذلك بأن الأحاديث التي صحت، أو وقفت بين الصحة والسقم، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث. ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم، لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال ـ يعني البيهقي ـ: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره. والقصد من روايته والسماع منه: أن يصير الحديث مسلسلاً ب (حدثنا و (أخبرنا) ، وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬3) . ¬

(¬1) انظر المصادر السابقة. (¬2) هذا هو الاسم الصحيح لكتاب ابن الصلاح، كما في ديباجة كتابه (ص 6) ، وكما في المخطوطات الموثقة له: انظر مقدمة تحقيق نور الدين عتر لكتاب (41 - 43) ، ومقدمة تحقيق عائشة بنت عبد الرحمن له أيضاً (122 ـ 134) ، وبنحو ذلك سماه ابن الصلاح أيضاً في كتابه: صيانة صحيح مسلم (75) . وعلى هذا فتسميته ب (علوم الحديث) ، أو ب (مقدمة ابن الصلاح) ليست تسمية صحيحة! (¬3) معرفة أنواع علم الحديث لابن الصلاح (121) .

وأنبه إلى أمرٍ لا يخفى على المتخصصين، وهو أن وقوفنا على ما يثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مصنفات من جاؤوا بعد القرن الثالث، وعدم وقوفنا عليها في مصنفات ذلك القرن فما قبله، لا يعني أنه يعارض ما قررناه آنفاً، من تمام تدوين السنة خلال القرن الثالث، ذلك لأن كل المهتمين بالتراث العلمي، يعلم القدر العظيم والكم الهائل الذي فقدناه من نتاج علمائنا، وخاصة علماء القرن الثالث فما قبله. وهذا كله أذكره، تثبيتاً لما ذكرته آنفاً ن من أن السنة جميعها قد اكتمل تدوينها خلال القرن الثالث الهجري، لذلك كان هذا العصر بحق هو العصر الذهبي للسنة. فإذا كان تدوين السنة قد انتهى إلى هذه القمة، في هذا العصر، فكذلك كان شأن بقية علوم الحديث ومصطلحه خاصة. للترابط بين التدوين ومصطلح الحديث، الذي كنا قد قررناه سابقاً (¬1) . ولست أجدني مضطراً إلى ذكر بعض المصطلحات التي تداولها المحدثون في هذا العصر، لأن الأ/ر من السعة والوضوح ـ في آنٍ واحد ـ بما أغناني عن ذلك، واستبدلته بذكر بعض أسماء علماء هذا القرن‍‍ وأنا إذ أنوي سياق أسماء بعض شموس هذا العصر، فلا يعزم لي هذه النية، إلا ثقتي التامة بأن مجرد النظر في تلك الأسماء، سوف يستدعي في الأذهان ما ارتبط بها: من علم جم، وجهدٍ عظيم في خدمة السنة، أثمر ذلك الكلام المبارك النفيس، في: التصحيح والتضعيف، وبيان علل الأسانيد ¬

(¬1) انظر (ص 35 - 36) .

والمتون، والجرح والتعديل؛ حاوياً بين طياته مصطلحات القوم جميعها. لأدلل بذلك على أن هذا العصر كما أنه قد ختم فيه على تدوين السنة، فقد ختم فيه أيضاً على مصطلحاتها، وبلغت قمة تطورها. فقد افتتح هذا العصر بشيوخ الإسلام الثلاثة، وأئمة المحدثين قاطبة: الإمام أحمد بن حنبل (ت 242هـ) ، ويحيى بن معين (ت 233هـ) ، وعلي بن المديني (ت 234هـ) . وانفرط العقد عن انتظام نجوم وبدور وشموس، زينت ـ ولم تزل ـ سماء العلم وأفق المعرفة، من أمثال: الحميدي عبد الله بن الزبير (ت 219هـ) ، وسعيد بن منصور المروزي (ت 227هـ) ، وأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) ، ومحمد بن سعد (ت 230هـ) ، وأبي خيثمة زهير بن حرب (ت 234هـ) ، ومحمد بن عبد الله بن نمير (ت 234هـ) ، وأبي بكر ابن أبي شيبة (ت 235هـ) ، وإسحاق بن راهويه (ت 238هـ) ، وخليفة بن خياط العصفري (ت 240هـ) ، ودحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي (ت 245هـ) ، وأحمد بن صالح المصري (ت 248هـ) ، وعمرو بن علي الفلاس (ت 249هـ) وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255هـ) ، ومحمد بن يحيى الذهلي (ت 258هـ) . ثم قف عند الإمام الكبير، شيخ الصنعة: محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) ، وأبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي (ت 264هـ) ، والعجلي أحمد بن عبد الله بن صالح (ت 261هـ) ، وأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي (ت 277هـ) ، ومسلم بن الحجاج (ت 261هـ) صاحب ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، ويعقوب بن شيبة (ت 262هـ) ،

وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ) ، وأبي عيسى الترمذي: محمد بن عيسى (ت 279هـ) ومحمد بن يزيد ابن ماجه (ت 275هـ) ، ويعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277هـ) ، وأحمد بن زهير بن حرب المعروف بابن أبي خيثمة (ت 279هـ) . فأبي زرعة الدمشقي عبد الرحمن بن عمرو (ت 281هـ) ، وابن أبي عاصم أحمد بن عمر النبيل (ت 287هـ) ، وصالح بن محمد جزرة (ت 293هـ) ، وأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار (ت 292هـ) ، ومحمد بن نصر المروزي (ت 294هـ) ، وأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي (ت 317هـ) فأبي عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الإسفراييني (ت 316هـ) ، وأبي بكر أحمد بن هارون البرديجي (ـ 310هـ) ، ثم إمام العلل أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت 303هـ) ، وأبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي (ت 310هـ) ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) ، ومحمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) ، وأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي (ت 320هـ) . وأختم هذه الطبقة بأبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس: ابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) . فهؤلاء واقرانهم: عمدة الشريعة، الذين حفظ الله بهم الدين!! فهل بعد هذه الحروف المشعة، لأسماء أولئك الشموس، يختلف اثنان في أن علوم الحديث في هذا العصر قد توطد ملكها

وعلا عرشها؟! وأن مصطلحاته قد لهج بها المحدثون، وتحددت معالمها عندهم بما لا مبتغى بعده (¬1) ؟! بل إنها أصبحت في وضوح معناها الاصطلاحي، تغلب المعنى اللغوي لها، حتى يكاد ينسى عند أهل الفن. وهذا ما لا أحسب أحداً يخالفني فيه، إلا أن يكون من غير المتخصصين. وقبل أن أنهي حديثي عن القرن الثالث الهجري، وفي مجال التقرير لما بلغه مصطلح الحديث من قمة التطور فيه، أذكر أنه قد ظهرت في هذا العصر بعض الكتابات التنظيرية، لبعض علوم الحديث ومصطلحاته. ومن أوائل ذلك جزء صغير نفيس لأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (ت 219هـ) ، رواه عنه بشر بن موسى بن صالح الأسدي (ت 288هـ) . ونثره الخطيب البغدادي (ت 463هـ) في كتابه (الكفاية في علم الرواية) ، من روايته عن أبي نعيم الأصبهاني (ت 430هـ) ، عن أبي علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف (ت 359هـ) ، عن بشر بن موسى، عن الحميدي (¬2) . وكتب الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ) مقدمة لـ (الصحيح) ، عرض فيها لبعض قضايا علوم الحديث بقوةٍ ووضح. وكتب أيضاً الإمام أبو داود السجستاني (ت 275هـ) ، ¬

(¬1) وانظر منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر (62) . (¬2) انظر الكفاية للخطيب (40 - 41، 133، 146، 175، 179، 181، 265- 266، 429 - 430) .

(رسالته إلى أهل مكة) ، متعرضاً فيها لمنهجه في كتابه ((السنن)) ، ولمسائل من علوم الحديث ز ثم كتب أيضاً الإمام الترمذي (ت 279هـ) كتاباً سماه بـ (العلل) ، وعرف بعد ذلك بـ (العلل الصغير) . تكلم فيه عن بعض الاصطلاحات المهمة المشكلة، وعن بعض قواعد علوم الحديث، بكلام نفيس. مما حدا بالحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن بن رجب الحنبلي (ت 795هـ) ، أن يعتني بشرحه، عقب شرحه لجامع الترمذي، وأصبح بعد ذلك من أهم مصادر (أصول الحديث) . وهكذا انتهى هذا القرن، وقد بلغت فيه مصطلحات الحديث قمة تطورها، مع باقي علوم الحديث. فم يبق علماء هذا القرن لمن جاء بعدهم، إلا واجب الحفاظ على ما خلفه لهم من سبقهم ‍‍لأنه ما انتهى هذا القرن إلا والسنة نفسها قد تم تدوينها، مع ما واكب ذلك من القواعد والمصطلحات التي تخدمها، ويميز بها صحيحها من سقيمها.

الفصل الخامس: في القرن الرابع الهجري

الفصل الخامس: في القرن الرابع الهجري لقد دخل القرن الرابع الهجري، وهو بالغ الثراء بذلك الإرث العظيم الذي خلفه له القرن الثالث. لا في مجال تدوين السنة وحده، بل في مجال علوم الحديث، واستمرار شيوع مصطلحاته أيضاً. ولئن نوزع في اكتمال تدوين السنة جميعها في القرن الثالث، فلن ينازع في ذلك لهذا القرن ‍ قال ابن المرابط: أبو عمرو محمد بن أبي عمرو عثمان بن يحيى الغرناطي (ت 752هـ) : ((قد دونت الأخبار، وما بقي للتجريح فائدة، بل انقطع على راس أربعمائة)) (¬1) . لكن القول السابق على هذا، وهو أن التدوين كان قد تم على راس سنة ثلاثمائة، هو الأرجح، الذي عليه جماعة من النقاد، والدليل قائم بإثباته، كما سبق. وقد تزين هذا القرن، وهو القرن الرابع الهجري، بأمثال: أبي علي الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري (ت 349هـ) ، وأبي حاتم محمد بن حبان التستي (ت 354هـ) ، وأبي القاسم سليمان ¬

(¬1) فتح المغيث للسخاوي (4/ 363) ، والإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (92، 106) .

ابن أحمد الطبراني (ت 360هـ) ، وأبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (ت 360هـ) ، وأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360هـ) ، وأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني (ت 365هـ) ، وأبي الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر ابن حيان الأصبهاني (ت 369هـ) ، وأبي بكر أحمد بن إبراهيم إسماعيل لإسماعيلي (ت 371هـ) ، وأبي أحمد محمد بن محمد ابن أحمد الحاكم الكبير (ت 378هـ) ، وحافظ الدنيا الناقد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) ، وأبي حفص عمر بن أحمد ابن شاهين (ت 385هـ) ، وأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة (ت 395هـ) ، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله ابن البيع النيسابوري الحاكم (ت 405هـ) ، وعبد الغني بن سعيد الأزدي المصري (ت 409هـ) ، وأختم هذه الطبقة: بأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهانيؤ (ت 430هـ) . ويبدو أن هذا العصر مع وجود أمثال هؤلاء الأئمة الكبار، ومع ازدهاره بالحديث وعلومه، ومع تحمله لتركه القرن السابق له = إلا أنه (وكما يحصل لغالب الموروثات ممن يرثها) بدت فيه بوادر ضعفٍ، يخشى أن تكون بداية ضياع ذلك التراث العظيم: أعني مصطلح الحديث، دون تدوينه. وقد أرخ الإمام الذهبي بداية نقص علوم السنة، وبداية ظهرو العلوم العقلية، وتناقص الاجتهاد، وظهور التقليد، في آخر الطبقة التاسعة من كتابه (تذكرة الحفاظ) . وهي طبقة كانت وفاة آخر من ذكر فيها: سنة (ؤ282هـ) ، وهو أبو محمد الفضل بن محمد بن المسيب الشعراني (¬1) . ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ للذهبي (2/627) .

أي أن هذا الضعف قد بدأ من أواخر القرن الثالث، ولم يزل في زيادة أوائل القرن الرابع، فما بعده. ويصف لنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبي (ت 387هـ) تزايد النقص في طلب العلم وصفاً معبراً، حيث يقول: ((كنا نحضر في مجلس أبي بكر النيسابوري (عبد الله بن محمد بن زياد: ت 324هـ) لنسمع منه (الزيادات) (¬1) ، وكان يحزر أن في المجلس ثلاثين ألف محبرة. ومضى على هذا مدة يسرة، ثم حضرنا مجلسأبي بكر النجاد (أحمد بن سلمان بن الحسن الحنبلي: ت 348هـ) ، وكان يحزر أن في مجلسه عشرة آلاف محبرة. فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: في هذه المدة ذهب ثلثا الناس؟ ‍‍)) (¬2) وهذا الضعف الناشىء في هذا القرن، هو الذي جعل بعض أئمة هذا القرن يسارعون إلى تصنيف كتب جامعةٍ مفردةٍ في علوم الحديث ومصطلحه. وأجل ما كتب في علوم الحديث خلال هذا القرن: كتاب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للرامهرمزي (ت 360هـ) و (معرفة علوم الحديث) للحكم (ت 405هـ) . وكتب غير هذين الإمامين في هذا القرن في علوم الحديث أيضاً، لكنها كتابات غير مقصودة ٍ من كاتبيها بالأصالة، وإنما هي مقدمات لبعض كتبهم، كما سيأ تي بيانه إن شاء الله تعالى (¬3) . ¬

(¬1) هو زيادات على كتاب الزني في االفقه الشافعي: انظر طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي (113) ، ومشيخة أبي عبد الله الرازي (158) . (¬2) المنتظم لابن الجوزي (6/ 287) . (¬3) انظر ما يأتي (ص 184 ـ 185) .

وقد أكد كل من الرامهرمزي والحاكم ما ذكرناه آنفاً، من أن هذا القرن كان قد شهد بداية الضعف في علوم الحديث. حيث ذكرا أن سبب تصنيفهما لكتابيهما هو: ظهور بعض ملامح اختلال في طريقة طلب العلم، ناشىء عن ترفٍ علمي (عهد مثله ممن ورث إرثاً عظمياً) ، أدى إلى بروز بعض القصور في علوم الحديث النبوي ومصطلحه، بين أوساط فئام من طلبة الحديث (¬1) ، خلال هذا العصر، الذي عاش فيه الرامهرمزي والحاكم رحمها الله تعالى. وأنا إذ أستدل بهذه المؤلفات الجامعة الجليلة في علوم الحديث، على بلوغ المصطلح أقصى غايات الشيوع والاستقرار في هذا العصر، إلى درجة التصنيف فيه وتقنينه = إلا أني أعبرها شهادة ـ لا تقبل الرد ـ للقرن الثالث الهجري خاصة = ببلوغ القمة في علوم الحديث ومصطلحه ‍لأن النقطة التي تسبق بداية الانحدار ما هي إلا القمة، ولأن النكوص لا يكون إلا بعد بلوغ الغاية. وقد قررنا آنفاً أن القرن الرابع كان قد شهد أول بوادر الضعف في علوم الحديث، بل كان ذلك هو الداعي للتصنيف في علوم الحديث والتقعيد لها وشرح مصطلحاتها. ثم إني أقف هنا: أولاً: لأن غرضي من هذا العرض، لا التأريخ لمصطلح الحديث التأريخ المجرد، وإنما هو تقرير أمرٍ مقرر، ببيان أن مصطلح الحديث بلغ قمة تطوره خلال القرن الثالث الهجري: العصر الذهبي للسنة. وكان يكفي لتقرير ذلك ¬

(¬1) انظر المحدث الفاصل للرامهرمزي (159 ـ 162) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (1 - 2) .

تذكر هذا الوصف: (العصر الذهبي للسنة) ، لكن عزمي على البناء على هذه القاعدة ن وانطلاقي من هذه المسلمة، الزمني ذكر ذلك كله، والاستدلال له. خوفاً من أن ترد نتيجة هذه المقدمة، بدعوى عدم ثبوت المقدمة، لندخل بعد ذلك في مراءٍ حول المسلمات، وما أثقل ذلك حينها ‍‍‍ واقف هنا: ثانياً: لأن القرون الآتية سيكون الكلام عنها شبيهاً ببعض: بأن كل قرن شهد نقصاً في علوم السنة، أكثر من القرن السابق له، ولم يزل الأمر كذلك، فلله الأمر من قبل ومن بعد ‍‍ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ك ((من أشراط الساعة: أن يظهر الجهل، ويقل العلم)) (¬1) . ثم يقول الإمام الذهبي، معبراً عن تناقص علم الحديث عبر العصور: ((فلقد تفانى أصحاب الحديث، وتلاشوا، وتبدل الناس بطلبة يهزأ بهم أعداء الحديث والسنة ويسخرون منهم. وصار علماء العصر ـ في الغالب ـ عاكفين على التقليد في الفروع، من غير تحرير لها، ومكبين على عقليات من حكمة الأوائل وآراء المتكلمين، من غير أن يتعقلوا أكثرها. فعم البلاء، واستحكمت الأهواء، ولاحت مبادىء رفع العلم وقبضه من الناس)) (¬2) ‍‍‍ وبهذا نكون قد انتهينا من الباب الأول، وأشعرنا بمضمون الباب الثاني، الذي هو: ¬

(¬1) أخرجه البخاري (رقم 80، 81، 5231، 5577، 6808) ، ومسلم (رقم 2671) . (¬2) تذكرة الحفاظ (2/ 530) .

الباب الثاني: تأريخ وبيان لتأثير علوم السنة بالعلوم العقلية

الباب الثاني: تأريخ وبيان لتأثير علوم السنة بالعلوم العقلية الفصل الأول: أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة. الفصل الثاني: أثر أصول الفقه على علوم السنة. المبحث الأول: كتب أصول الفقه ونافذتاها للتأثير على علوم السنة. المبحث الثاني: مثال التأثر من خلال النافذة الأولى. المبحث الثالث: مثال التأثر من خلال النافذة الثانية.

الفصل الأول: أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة.

الفصل الأول: أثر المذاهب العقدية الكلامية على علوم السنة. لقد سبق في حديثنا عن القرن الهجري الرابع، أنه من بداية هذا القرن ظهر تناقص الاهتمام بالعلوم النقلية (الكتاب والسنة) ، وتزايد الاهتمام بالعلوم العقلية (¬1) . ولا يخفى على الدارسين للعلوم الإسلامية، أن بداية الترجمة لعلوم الأوائل (الفلسفة) أقدم من التاريخ المذكور آنفاً. بل إن عصر المأمون الخليفة العباسي (ت 218هـ) ليعبر بحق: أقوى عصور الترجمة، وأكثرها مبالغة في ذلك (¬2) . ولئن أثنى بعض المؤلفين على المأمون العباسي بذلك، واعتبروا قيامه بهذا الأمر أعظم منقبةٍ له، فقد ذمه آخرون بذلك، وعابوا عليه تصرفه هذا!! وهذا إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت 478هـ) ، وهو من أئمة المتكلمين ومن علماء المسلمين بالفلسفة، يصف إقبال المأمون على ترجمة كتب الفلاسفة بـ (الهفوة والزلل والمخطل) ! ويحمله وزر هذه السنة ¬

(¬1) انظر (ص 62 ـ 64) . (¬2) انظر طبقات الأمم لصاعد الأندلسي (132) ، ونقض المنطق لابن تيمية (19 - 20) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (10/273) ، ومقدمة ابن خلدون (481 - 482) ، والوسائل إلى معرفة الأوائل للسيوطي (175) .

السيئة، فيقول: ((ولو قلت إنه مطالب بمغبات البدع واضلالات، في الموقف الأهول في العرصات، لم أكن مجازفاً)) (¬1) ومع أن ذلك الإقبال من الدولة العباسية في عهد المأمون على العلوم العقلية كان على ذلك القدر الكبير المسطور في كتب التاريخ والحضارة الإسلامية، ومع أن أحد آثار ذلك الاهتمام والمبالغة في تقديس علوم الأوائل تلك الفتنة العمياء التي هزت العالم الإسلامي حينها، بإجبار علماء الأمة على اعتناق عقيدةٍ تناقض نصوص الأصلين (الكتاب والسنة) ، والتي لمع فيها اسم الإمام أحمد بن حنبل رمزاً من رموز الدفاع عن السنة، والثبات على المبدأ، والتفاني من أجل الدين = إلا أن هذا كله لم يضعف علوم السنة، ولم يؤثر عليها بشيءٍ!! بل لقد كان هذا القرن (القرن الثالث الهجري) ، الذي افتتحه المأمون العباسي بذلك القهر العقدي ، كان العصر الذهبي للسنة، كما تقدم!!! وما ذالكم إلا لأن علوم السنة كانت ـ خلال هذا القرن ـ أغنى وأقوى وأرسخ في نفوس أهلها من علماء الملة، بل وفي نفوس عوام الناس حينها! من كل علمٍ طارىءٍ دخيل عليها!! وهناك أمر آخر لم يجعل للعلوم العقلية أثراً على العلوم النقلية في القرن الثالث الهجري، وهو وضوح التنافر بين العلمين (¬2) ، من حيث: المصدر، والمبدأ، والأثر لكل من العلمين، والقائمين بكل علمٍ أنفسهم ديناً وخلقاً وقبولاً بين العامة. وهذا التنافر جعل العداء بين العلمين معلناً الهجوم ¬

(¬1) الغياثي للجويني (193 ـ 194) . (¬2) انظر الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي (2/6 -22) .

والحرب بينهما، ولا احتمال لوقوع هدنةٍ تؤدي إلى نوع من التقارب والتأثر! فهذان العائقان (قوة علوم السنة ورسوخها ووضوح التنافر بين علوم السنة والعلوم العقلية) هما بوابة حماية علوم السنة. وبينهما تلازم وتكامل في عوامل بقائهما، فإذا ضعف أحد هذين العائقين، فكلاهما، أمكن أن يلج علم غريب على علوم السنة، وأن يتطفل عليها من لا يحسنها. لكن لما دخل القرن الهجري الرابع، بدأ هذان العائقان بالضعف، مما فتح ثغرةً للعلوم العقلية بالتأثير على العلوم النقلية. ومن ذلك، ما سبق أن ذكرناه (¬1) ، من أن هذا القرن (الرابع) شهد تقهقراً في العلوم النقلية، ونقصاًَ في عدد ونوعية طلابها. مما فتح المجال للعلوم العقلية أن تجلب إليها طاقاتٍ معطلة أو شبه معطلة، ليكون ذلك بداية تقدم العلوم العقلية على تلقي العلوم النقلية. وهذا دوره أقرز تلك الظاهرة الغريبة على الوسط العلمي الإسلامي، وهي ظاهرة التمايز الواضح بين الفقهاء والمحدثين. مع أن الأمة قبل ذلك، لم تكن تعرف هذا التمايز الحاد، إنما كانت تعيش وسطاً علمياً طبعياً سليماً، يعترف باختلاف المواهب والقدرات، لكن مع قدر كبير ٍ من التمازج والشمول في تلقي العلوم الإسلامية. ويصف لنا الإمام الخطابي (أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم، المتوفي سنة 388هـ) هذه الظاهرة، في مقدمة كتابه ¬

(¬1) انظر (ص 62 ـ 64) .

(معالم) السنن) ، فيقول: ((ورأيت أهل العلم في زمننا (وهو القرن الرابع) قد حصلوا حزبين، وانقسموا فرقتين: أصحاب حديثٍ وأثر، وأهل فقهٍ ونظر. وكل واحدةٍ منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغيه والإرادة. (إلى أن قال:) ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه = إخواناً متهاجرين! وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين. فأما هذه الطبقة، الذين هم أهل الحديث والأثر: فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب. لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني ... (إلى أن قال:) وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر: فغن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه ن ولا يعرفون جيده من رديئه ... (إلى أن قال:) ولكن اقواماً استوعروا طريق الحق، واستطالوا المدة في درك الحظ، وأحبوا عجالة النيل، فاختصروا طريق العلم، واقتصروا على نتفٍ منتزعة ٍ عن معاني اصول الفقه، سموها عللاً، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم، وجعلوها جنةً عند لقاء خصومهم، ونصبوها دريئةً للخوض والجدال ... (إلى أن قال:) هذا وقد دس لهم الشيطان حيلةًً لطيفة، وبلغ منهم مكيدة بليغة، فقال لهم: هذا الذي في أيديكم علم قصير، وبضاعة مزجاة، لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية،

فاستعينوا عليه بالكلام، وصلوه بمقطعاتٍ منه، واستظهروا بأصول المتكلمين = يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر. فصدق عليهم ظنه، وأطاعه كثير منهم واتبعوه، إلا فريقاً من المؤمنين. فيا للرجال والعقول! أنى يذهب بهم؟! وأنى يختلهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم؟! والله المستعان)) (¬1) . وهكذا يصف لنا أحد أئمة هذا العصر الحالة العلمية الجديدة، التي بدأت في الظهور خلال القرن الرابع الهجري. وهو يبين أساب تعلق من اتجهوا للفقه دون علم بالسنة إلى علم الكلام، ويوقفنا إلى أن الجهل بالحديث جعل طاقاتٍ كثيرةً في أولئك المتفقهة معطلة، فدس إليهم الشيطان (على حد تعبير الخطابي) أن يفرغوا تلك الطاقات في علم الكلام، طريق التجهم والاعتزال. وذلك مما أمد الاعتزال بمددٍ جديد، وبوجهٍ جديد أيضاً، يظهر المعتزلة في صورة الفقهاء العلماء بالفروع، ثم بالأصول كذلك!! وهكذا بدوره أشعر المحدثين بضرورة مواجهة هذا المد الاعتزالي. فواجهه أئمة السنة، المتحققون بالحديث وعلومه (رواية ودراية) مواجهة قوية، بمثل كتب (السنة) و (التوحيد) و (العقيدة) ، وبالتحذير من علم الكالم وأهله، وبحث الناس على تعلم السنة، وعلى تمام التلقي لها على وجهها، وترك ذلك الترف العلمي في طريقة تلقيها الذي كان قد بدأ ظهوره في هذا القرن (الرابع) . ¬

(¬1) معالم السنن للخطابي (1/5 - 10) .

بل إن أول مصنفٍ جامع مفردٍ في علوم الحديث بلغنا، صنف بغرض مواجهة تلك الطعنات في علوم السنة، كما صرح بذلك مصنفه الرامهرمزي صاحب (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) . ولعل هذه التسمية وحدها كافية للإلماح بموضوع الكتاب، وبالغاية من تصنيفه (¬1) . إلا أن ذلك النقص الذي اعترى قسماً آخر من المحدثين، والذي ذكره الخطابي في كلامه المنقول عنه آنفاً، جعل هؤلاء المحدثين قاصرين عن مواجهة المد الاعتزالي بالسنة، لنقص علمهم بها. مما قادهم إلى إنعاش مذهبٍ كلامي قديم، هو مذهب ابن كلاب (عبد الله بن سعيد القطان البصري، المتوفي سنة 245هـ) ، لأنه مذهب تجرد للرد على الجهمية والمعتزلة بعلم الكلام، في محاولة تقريب علم الكلام والاستفادة منه في تقرير عقيدة السلف. إلا أن مذهب ابن كلاب هذا، كما هي العادة فيمن أراد أن يمزج بين علمين متنافرين (علم الكتاب والسنة، وعلم فلاسفة اليونان!) ، لم يستطع التخلص من أوضار علم الكلام ومضارة‍فلا هو قرر عقيدة السلف، ولا هو قرر عقيدة المعتزلة، لكنه توسط (التوسط المذموم) بين العقيدتين. ولذلك حذر الإمام أحمد من مذهب ابن كلاب، وعابه وذمه (¬2) ولما كانت السنة قوية راسخةً في عهد الإمام أحمد، لم يجد مذهب ابن كلاب هذا فرصةً للانتشار في صفوف علماء الأمة، وخاصة المحدثين. فبقي محصوراً في بعض من مالوا إلى ¬

(¬1) انظر (ص 185) . (¬2) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 555) (12/202، 366 - 369) .

علم الكلام، ولم يتسع وجوده. لكن لما اعترى علوم السنة ما اعترها، مما سبق ذكره، وجد بعض المحدثين في مذهب ابن كلاب ملجأ لهم في مواجهة المعتزلة. وقد أرخ لنا بداية هذا التأثر، حادثة مشهرة، وقعت سنة (309هـ) ، بين ابن خزيمة وبعض تلامذته ممن تأثر بمذهب ابن كلاب (¬1) . وبذلك بدأ العائق الثاني دون تأثير العلوم العقلية على العلوم النقلية بالضعف، وهو وضوح التنافر بين العلمين، بعد أن بدأ أيضاً العائق الأول (وهو قوة علوم السنة) بالضعف كذلك. فدخل علم الكلام على بعض المحدثين من هذا الباب: باب مواجهة المعتزلة (أعداء المحدثين الألداء) . وقد ذكر هذا السبب في دخول بعض المحدثين في علم الكلام، أحد علماء هذا العصر، وهو الإمام الخطابي. حيث قال في كتابه (الغنية عن الكلام وأهله) ، في مقدمته له: ((وقفت على مقالتك، وما وصفته من أمر ناحيتك، وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها، واغترارهم بها، واعتذارهم في ذلك بأن الكالم وقاية السنة، وجنة لها بذب به عنها، ويذاد بسلاحه عن حريمها (¬2) . وفي هذه الأثناء، وفي نفس الفترة التي ظهر فيها تأثر جماعةٍ من المحدثين بابن كلاب، وهي سنة (309هـ) = أعلن أبو ¬

(¬1) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 377 - 381) . (¬2) انظر الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي (1 /371) ، وبيان تلبيس الجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية (1 /251 - 252) .

الحسن الأشعري (علي بن إسماعيل، المولود سنة 260هـ والمتوفي سنة 324هـ) رجوعه عن مذهب الاعتزال، وألف وناظر وجادل في نقضه، وقد كان رأساً في الاعتزال نحو أربعين سنة (¬1) ولئن كان أبو الحسن الأشعري أعلن رجوعه إلى عقيدة السلف، وأنه يتخذ من الإمام أحمد بن حنبل إماماً في باب العقيدة (¬2) ؛ إلا أن نزعته إلى تقرير ذلك بعلم الكلام، لنشأته الفلسفية المغرقة، جعلته يخالف السلف في مسائل كثيرة، كما أنه وافقهم في مسائل كثيرة أيضاً ورد على المعتزلة فيها (¬3) . فهو قد توسط بين مذهب السلف والاعتزال (¬4) ، كما كان قد توسط بينهما ابن كلاب أيضاً. بل إن أبا الحسن الأشعري معدود في أصحاب مذهب ابن كلاب (¬5) ، وهو على طريقتهم ولا شك. وعلى هذا المنهج نفسه الذي سار عليه الأشعري، وفي الوقت ذاته تقريباً أيضاً، ظهر مؤسس الماتريدية: أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمر قندي (ت 333هـ) . وهو داخل في الكلابية أيضاً، وعلى منهجها في محاولة التوسط بين السلف والمعتزلة، باعتماد علم الكلام (¬6) . ¬

(¬1) تبيين كذب المفتري لابن عساكر (38 - 45) . (¬2) الإبانة لأبي الحسن الأشعري (ص 17) . (¬3) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (5 / 556) (12 / 366 -367) . (¬4) مقدمة ابن خلدون (464 - 465) . (¬5) انظر الملل والنحل للشهر ستاني (39 ـ 40) ، والتعليقة قبل السابقة. (¬6) انظر املاتريدية دراسة وتقويماً لأحمد بن عوض الحربي (492 ـ 493) .

فما هو معنى هذا التوجيه المتقارب إلى علم الكلام، وإلى مثل مذهب ابن كلاب خاصة، في أقطار إسلامية مختلقة، وفي وقت واحدٍ، دون سابق اتفاق وتواطؤ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال قد تقدم ذكرها، وهي: ضعف تلقي علوم السنة، الذي أدى على اللجوء إلى علم الكلام للرد على الشبه الاعتزالية. ولا شك أن اكلابية: من أشعرية، وما تريدية، وغيرهم، قد نجحوا بما وافقوا فيه مذهب السلف في الرد على المعتزلة، مما زاد من اتساع مذهبهم، وتكثير عدد متبعيه. وخاصة أبو الحسن الأشعري، الذي كان في دار الخلافة (بغداد) ، وصاحب تآليف كثيرة، مع ما يتمتع به من سعة علمه بالكلام وقدرته على الجدل والمناظرة، ثم بما اشتهر عنه من رجوعه عن الاعتزال وقد كان رأساً فيه؛ كل ذلك ساعد على انتشار مذهبه، مع ما في مذهبه ذاته، وما في عصره من عوامل أخرى، أسهمت في ذلك أيضاً. ويذكر القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي (ت 544هـ) سبب ميل بعض المحدثين إلى عقيدة الأشعري، قائلاً في كتابه (ترتيب المدارك) عن الأشعري: ((فلما كثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحدث والفقه ذبه عن السنن والدين، وتعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه، لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة (¬1) . اما شيخ الإسلام ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم بن عبد ¬

(¬1) ترتيب المدارك للقاضي عياض (5 /25) .

السلام الحراني الدمشقي، المتوفي سنة 728هـ) ، فبين أسباب انتشار مذهب الأشعري وغيره من الكلابية، فقال: ((ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثيراً من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه: أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الأثارة النبوي عندهم. الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية، بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبها ت عليهم، وظنهم أنه لن يمكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم، إلا على هذا الوجه. الثالث: ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، الموضحة لسبيل الهدى عندهم. الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث: تارة يروون ما لا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور)) (¬1) . هذه العوامل وغيرها كانت سبباً في انتشار المذهب الأشعري بين العلماء، وخاصة علماء الشافعية. حتى إنه مامضى على وفاة أبي الحسن الأشعري إلا أقل من ستين سنة حتى انتشر مذهبه في العراق كله، ثم انتقل إلى الشام (¬2) . ومع أن أبا الحسن الأشعري قد مر بمراحل، من اعتزاليته إلى كلابيته إلى أن ألف كتابه (الإبانة) في أواخر حياته، وهو ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (12 /33) . (¬2) انظر الخطط للمقريزي (2 / 358) .

أقرب كتبه إلى مذهب السلف؛ إلا أنه خلال ذلك كله كان إمام المتكلمين، يدافع عن علم الكلام، وله فيه مصنف: (رسالة استحسان الخوض في علم الكلام، والرد على من ظن الاشتغال بالكلام بدعة) (¬1) . غير أن موازنة سريعةً بين: مصنفات الأشعري كـ (الإنابة) و (مقالات الإسلاميين) ، ومصنفات متأخري المتكلمين (أشعرية وغيرهم) كـ (شرح المقاصد) للتفتازاني (سعد الدين مسعود بن عمر، المتوفي سنة 793هـ) ، وقبله مؤلفات إمام الحرمين الجويني كـ (الشامل) و (لمع الأدلة) و (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) = مثل هذه الموازنة تظهر (من خلال النظرة الأولى) فرقاً واضحاً بين مؤسس المذهب وأتباعه من المتأخرين ‍‍لا في المسائل المقررة فحسب، بل وفي منهج الاستدلال أيضاً ‍‍من حيث إن كتب المتأخرين أغرقت بعيداً في علم الكلام، أكثر من الأشعري إمام المتكلمين في عصره ‍‍‍ ولقد كان لذلك من الأثر، أن كان للأشعرية في انسياقها لعلم الكلام اتجاهان؛ الاتجاه الأول: فيه اعتناء بإثبات مسائله بأدلة الكتاب والسنة، مع الاعتناء بعلم الكلام. وهذا يمثله الأشعرية المحدثون كالبيهقي (أحمد بن الحسين ن المتوفي سنة 458هـ) . والاتجاه الثاني: مغرق في علم الكلام، قليل الاعتناء بأدلة الكتاب والسنة. ويمثل هذا الاتجاه الأشعرية الفقهاء، من أمثال أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت 403هـ) ، وإمام الحرمين الجويني قبل رجوعه إلى مذهب السلف قبيل وفاته (¬2) . ¬

(¬1) تاريخ التراث العربي لسزكين (1 /4 /38) . (¬2) انظر المقدمة التي كتبها الدكتور عبد المجيد تركي لكتاب (شرح اللمع) للشيرازي، متكلماً فيها عن عقيدة الشيرازي (73 -88)

إن هذه الصفحة القصيرة في تاريخ الفرق الكلامية (وخاصة الأشعرية) ، إنما ذكرتها لأبين: كيف أثر علم الكلام والعلوم العقلية على علوم السنة؟ وكيف دخلت العلوم العقلية هذه على المحدثين علماً طارئاً دخيلاً عليهم وعلى علومهم؟ وقد تبين ذلك ‍ ومع أننا ـ أساساً ـ إنما نؤرخ لمصطلح الحديث، ومع أن ذلك قد يبدو بعيداً عن مذهب عقدي كالأشعرية؛ إلا أن كلامنا عن بداية تغلغل هذا المهذب العقدي في الوسط العلمي، ذلك المذهب المعروف بمنهجه الكلامي في الاستدلال والمناظرة، وبتأثره الكبير بالفلسفة = يظهر (بالتلازم) بداية تغلغل هذا المنهج والأثر في كثير من الأوساط العلمية، بجميع فنونها وعلومها. وليس أدل على ذلك، من وجود أئمةٍ في الحديث.. أشاعرةٍ في الوقت نفسه ‍‍مع أن ذلك (لولا هذا الواقع الذي أصبح مألوفاً) تناقض، كان من المفروض أن يكون مستحيلاً ‍‍إلا أن تلك العوامل لوقوع مثل هذا التناقض، هي التي فسرت لنا أسباب وقوعه، ومن قبل: جعلت المستحيل غير مستحيل ‍‍ وإذا كان (الشافعية أسعد الناس بالحديث) ، وهي عبارة صادقة تعني أن أكثر المحدثين والمصنفين في الحديث وعلومه من الشافعية = فإن الأشعرية أيضاً (من وجه آخر) أسعد الناس بالشافعية. وهذا يبين لك: مقدار الأثر الذي سوف يكون لهذا المذهب العقدي على الحديث وعلومه. وإن كانا نخص (مصطلح الحديث) بالدراسة، فإنك إذا عرفت أن من أبرز سمات الأشعرية (كما تذكر ذلك دراسة جديدة قيمة) : ضرورة المقدمات المنطقية والعقلية لتحديد (المصطلحات) ، والإحالة عليه عند عرض ما يتعلق بها من

موضوعات العقيدة (¬1) = إذا عرفت هذا عرفت أيضاً: لم كان لهذا المذهب العقدي أثر على أصول الحديث ومصطلحاته ‍وسوف يكون لنا ـ فيما نستقبل من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ـ وقفة مع المعرفات المنطقية، وأثرها في علوم الحديث (¬2) . إلا أنه مما يلزم التنبيه عليه: هو أن تأثير المذهب الأشعري وغيره من المذاهب الكلامية على العلوم الإسلامية، لم يكن على درجات متساوية، فليست (اصول الفقه) مثلاً في تأثرها بالعلوم العقلية مثل (أصول الحديث) . ومن أسباب هذا التفاوت: غلبة الأشعرية وغيرها من المذاهب الكلامية على علماء ذلك الفن أكثر من غيره، ثم طبيعة الفن نفسه في قابليته للتأثر بالعلوم العقلية أكثر من غيره من الفنون. ولا شك أن علماء الحديث وعلم الحديث، بناءً على الملاحظة النظرية لهذين السببين، من المفترض أن يكونا أقل تأثراً بالمذاهب الكلامية من غيرهما. ولا شك أن هذا صحيح، مع كل ما سبق. إلا أن عمق التأثر لم يزل يزداد على العلوم الإسلامية كلها، عبر العصور المتلاحقة، ومن بينها علوم الحديث. لكننا نستفيد من التقرير السابق: أن القرن الرابع الهجري، الذي بدأت فيه المذاهب الكلامية في استجلاب بعض المحدثين إليها (كما تقدم بيانه) ، لم تتعمق فيه آثار تلك المذاهب على علم الحديث ومصطلحه، عند من اتقد بها من محدثي هذا القرن. ¬

(¬1) انظر (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود (2 /6949) . وقد كنت كتبت هذه الدراسة قبل صدور هذا الكتاب القيم، فلما صدر حاولت الاستفادة منه قدر الإمكان. (¬2) انظر (ص 159 - 168) .

ذالك لأنه حتى من اعتقد المذهب الأشعري (مثلاً) من المحدثين في هذا العصر، فهو ـ غالباً إنما اعتقده لظنه أنه المنقذ أمام المد الاعتزالي، ولذلك كان بعضهم يزعم أن مذهبه الكلامي ذاك هو مذهب السلف، جهلاً منه بمذهب السلف. ومثل هذا الصنف من المحدثين، ممن عاش في القرن الرابع، لن يكون لاعتقاده الكلامي أثر ذو بالٍ على علوم السنة ومصطلحها، لأن تأثره في المعتقد، لم يبلغ إلى درجة أن يعمق فيه المنهج الكلامي، ليؤثر عليه ـ بعد ذلك ـ في علم الحديث، العلم السني ذي المناعة الذاتية من تلك العلوم الدخيلة (العوم العقلية) ‍ غير أن أثر تلك المذاهب أخذ في الظهور خلال اقرون اللاحقة، كما ذكرناه سابقاً. فالقرن الخامس زاد فيه أثر تلك المذاهب على علوم السنة عن القرن الرابع، وهو ـ مع ذلك أقل تأثراً من القرن السادس ... وهكذا. أما من لم يتبع مذهباً كلامياً، من علماء الحديث في القرن الرابع، وهم فئام كبير منهم = فهؤلاء بعيدون كل البعد عن التأثر بالعلوم العقلية، وبالمنهج الكلامي لتلك المذاهب، في تقرير قواعد علوم الحديث وشرح مصطلحاته وفي غير ذلك من العلوم الشرعية. وهؤلاء المحدثون في الحقيقة لم يزالوا على إرث سلفهم (علماء القرن الثالث) ، وكأنهم امتداد (وهم كذلك) لذلك الإرث ولألئك العلماء. ومن أمثال هؤلاء: بعض أعلام نقاد الحديث في القرن الرابع، كأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) . الذي كان يقول: ((ما في الدنيا شيء أبغض إلي من الكلام)) (¬1) ، فعلق ¬

(¬1) سؤالات السلمي للدارقطني (رقم 432) .

الإمام الذهبي (محمد بن أحمد بن عثمان، المتوفي سنة 748هـ) على هذا بقوله: ((لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام، ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً (¬1) . إذن فالأشعرية وغيرها من المذاهب الكلامية لم تؤثر في علم الحديث، خلال القرن الرابع، إلا على ذكل القدر المشروح آنفاً. من أن أثرها إنما ينحصر في منم اعتقد بأحد المذاهب الكلامية من المحدثين، دون غيرهم، هذا إن كان لاعتقادهم ذاك أثر عليها، كما تقدم ذكره. وكان يمكن أن يستمر أثر المذاهب الكلامية محصوراً، على تلك الصورة المذكورة آنفاًَ، خلال القرون اللاحقة بعد القرن الرابع. إلا أن زيادة تعمق المذاهب الكلامية خلال القرون التالية للقرن الرابع، مع ما رافق ذلك من زيادة ضعف تلقي العلوم النقلية = أدى ذلك إلى ازدياد أثر المهج الكلامي على العلوم النقلية (ومنها علم الحديث) ، ازدياداً متدرجاً على مر القرون. مع ذلك أيضاً، كان من الممكن أن يبقى أثر المذاهب الكلامية خلال القرون اللاحقة للقرن الرابع محصوراً فيمن اعتقد بها، خاصة وأن مسائل العقيدة، والأسماء والصفات بالأخص، ظلت عند علماء السنة وأتباع الأثر مسائل مصيرية، لا يتهاونون في الدفاع عن مذهب السلف فيها، وينابذون كل ما خالفها، عبر العوهد المتلاحقة. أقول: كان من الممكن أن يبقى أثر المذاهب الكلامية على علوم السنة محصوراً في من اعتقد بها، لولا أن العلوم العقلية ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (18 /457) .

والمنهج الكلامي فتح جبهةً جديدة للتأثير على علوم السنة. هذه الجبهة بعيدة كل البعد عن مسائل العقيدة ذا الحساسية البالغة عند المحدثين، إنها جبهة علم أصول الفقه ‍‍‍ وهذا هو الفصل التالي:

الفصل الثاني: أثر أصول الفقه على علوم السنة

الفصل الثاني: أثر أصول الفقه على علوم السنة المبحث الأول: كتب أصول الفقه ونافذتها للتأثير على علوم السنة: وفي هذا المبحث أجد أني مضطر لاستباق نتيجته، بإعلان: إن الباب الذي فتح لعلم الكلام المجال على مصراعيه للتأثير في علوم السنة، هو: علم أصول الفقه ‍‍!! ولتقرير هذا الأمر، ولإثبات هذه التهمة، ألقي بضوء سريع على نشأة أصول الققه، ومنهج التصنيف فيها. فإنه لمن إحدى المسلمات ـ عند المنصفين ـ: أن الإمام الشافعي (ت 204هـ) هو أول من صنف في أصول الفقه، من خلال كتابه (الرسالة) وغيره من مصنفاته الأصولية الأخرى. و (الرسالة) للإمام الشافعي، كما أنه أحد أدلة إمامته وعبقريته في الفقه واصوله، فإنه أيضاً أحد أعظم أدلة إمامته في السنة وعلومها، وأنه علم من أعلامها. وعلى هذا، فلو بقيت كتب أصول الفقه على منهج (الرسالة) ، لما كانت لتؤثر أثراً على علوم السنة ‍أقول: لو ‍‍

فإنه لا خلاف بين المؤرخين لعلم الأصول (¬1) ، أن أصول علم الأصول، وجل اعتماد المصنفات فيه بعد (الرسالة) للشافعي، على المصنفات التالية: 1ـ (العهد) : للقاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني المعتزلي (ت 415هـ) وهو شافعي المذهب في الفروع. 2ـ (المعتمد) : لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436هـ) ، وهو ممن زعم أنه حنفي الفروع، ولا دليل على ذلك. 3ـ (البرهان) : لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت 478هـ) ، وهو من أئمة الشافعية في الفروع، والأشعرية في الأصول غالب حياته. 4ـ (المستصفى) : لإبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505هـ) ، وهو من أئمة الشافعية في الفروع، والأشعرية في الأصول إلى قبيل وفاته. ثم جمع شتات مصنفات الأصول من بعد هؤلاء: فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606هـ) الشافعي الأشعري، في كتابه (المحصول في علم الأصول) . وفعل نحوه أبو الحسن سيف الدين علي بن أبي علي محمد بن سالم الآمدي (ت 631هـ) ، وهو شافعي أشعري، في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) . إن أول ما يستوقفك في هذه الأسماء، أنها لمعتزلةٍ أولأً، ثم لأشاعرة ‍وقف عند هذه الملاحضة طويلاً ¬

(¬1) انظر مقدمة ابن خلدون (455) .

‍‍ولا تظن أن المعتقد لا أثر له على أصول الفقه، فهذا رأي فطير. وقد طبع مؤخراً كتاب بعنوان (آراء المعتزلة الأصولية) للدكتور علي بن سعد الضويحي، هو كفيل بتغير ذلك الرأي. ثم يستوقفك في ذلك السياق أيضاً، أن غالب من ذكروا فيه شافعية. ومع أن الإمام الشافعي هو الذي افتتح علم الأصول كما تقدم، ومع أنه هو القائل: ((حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل ن ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الرأي)) (¬1) = إلا أن منهج من صنف في أصول الفقه، من أتباعه، مخالف لمنهجه فيه كل المخالفة ‍حتى اصطلح على تسمية ذلك المنهج للتصنيف في أصول الفقه بـ (طريقة المتكلمين) . ولهذا الاسم: (طريقة المتكلمين) دلالته الواضحة على اختلاف منهج الشافعي (الذام لعلم الكلام) عن منهج أتباعه ممن سبق ذكرهم وكثير ممن جاء بعدهم ‍‍ بل اشتهر الشافعية خاصة بـ (طريقة المتكلمين) ، في تصانيف أصول الفقه، وكانوا أكثر أصحاب المذاهب الفقهية تنظيراً لها، وإبداعاً فيها، وتصنيفاً عليها؛ حتى ربما سميت (طريقة المتكلمين) هذه بـ (طريقة الشافعية) ، مع أنها طريقة المالكية والحنابلة أيضاً في تآليفهم في أصول الفقه (¬2) ‍وما ذلك إلا لأن الشافعية هم الذين شرعوا باب ¬

(¬1) مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 462) . (¬2) ولا يعني ذلك أن (طريقة الفقهاء الحنفية) غير متأثرة بعلم الكلام، بل هي على نفس الدرجة من التأثر بعلم الكلام. وإنما غاير بين المنهجين أمر آخر معلوم، متعلق باستنباط الأصول من الفروع، أو الفروع من الأصول.

التصنيف في أصول الفقه على تلك الطريقة، وملؤوا المكتبة الإسلامية بالمصنفات الأصولية على ذلك المنهج، فسار أصحاب المذاهب الأخرى في الأصول من بعدهم على ذلك المنهج نفسه. ولست أريد من ذلك كله الاستدلال على أن كتب أصول الفقه، بعد (الرسالة) للشافعي، اعتمدت كثيراً على علم الكلام والمنطق اليوناني في تقرير مسائله وتقنين قواعده؛ فهذا أمر مسلم لا شك فيه = لكني أردت التنبيه على عناوي لذلك، والتذكير بها.. لا غير ‍ ومن هنا أدخل في بيان أثر (أصول الفقه) على (علوم الحديث ومصطلحه) : ولا يخفى أن أصول الفقه تدرس ـ فيما تدرس ـ السنة النبوية وكيراً من علومها، باعتبارها المصدر الثاني للتشريع. وإذا درس (الكلاميون) علوم السنة، على (طريقة المتكلمين) ومنهجهم، وهم أبعد الناس عن الاختصاص وأهله: (المحدثين) = فماذا يتوقع من دارس ليس من أهل الاختصاص، يدرس العلم بمنهج غريب عنه، ويدرسه بقواعد نظرية: لا علاقة لها بالواقع العملي، ولا معرفة لها بالممارسة التطبيقية؟ ‍ وانظر في تلك الكتب التي ذكرناها لك في أصول الفقه، وهي أصول علم الأصول؛ من من مصنفيها من علماء السنة؟ ‍أو عرف بالعناية بها؟ ‍أو ـ حتى ـ حاول أن يدرسها في كتابه على غير (طريقة المتكلمين) ؟ ‍ لست أريد انتقاص أحدٍ من العلماء، وليس في وضع كل ذي فن مع أهل فنه انتقاص له. ولا أريد إهدار جهود أحدٍ من

العلماء أيضاً، لكن كان الواجب ترك الاختصاص لأهله؛ فإذا تكلم فيه غيرهم ـ كما وقع فعلاً ـ أن يقدر هذا الكلام بقدره، فلا ينصب كأنه كلام قرين لأهل الاختصاص؛ فضلاً عن أن يقدم على كلامهم؛ أو أن يأول كلام أهل الاختصاص ليوافق كلام غيرهم إذا خالفهم! وهذا أخطر من الترجيح الصريح، لأنه يوهم أن ذلك الكلام الذي قرره غير أهل الاختصاص هو كلام أهله وتقريرهم أيضاً!! والأخطر من ذلك كله، هو التأثير الذي عم الأوساط العلمية كلها ن ولم ينج منه كبير أحدٍ من العلماء، على تمايزٍ بينهم في درجة ذلك التأثير، بالمنهج الذي كتبت به أصول الفقه (طريقة المتكلمين) . إن علم أصول الفقه لا شك أنه من جليل العلوم الإسلامية، ومن أنفعها. لا يجهل ذلك إلا جاهل به، مغرق في جهله. وكيف لا يكون كذلك؟! وموضوعه وغايته أشرف الموضوعات والغايات، وهو فهم مراد الله ورسوله، ومعرفة أحكام دين الله العظيم. لذلك فقد كان العلماء ـ ومازالوا ـ يرون تعلمه وتعليمه واجباً لا يتم واجب العلم بدين الله تعالى إلا به، وإنه لعمري كذلك! لكن شاء الله تعالى أن تكتب أصول علم الأصول (بعد أصل الأصول: الرسالة للشافعي) بعد النقص الذي اعترى تلقي العلوم النقلية، كما سبق شرحه، وعلى يد متكلمين، من أعرقهم في علم الكلام نسبياً، وأثبتهم بالمنطق اليوناني قدماً، وأكثرهم بالفلسفة تعلقاً!!! فخرجت كتب أصول الفقه واضحة النسب، عتيقة العرق

غير هجينة: بنت المنطق، وحفيدة الفلسفة! وهذا أمر واضح، لا يشكك فيه عارف بالأصول. وليس أدل على ذلك من أن كثيراً من كتب الأصول، غالباً ما تقدم بعلم المنطق (صرفاً) ، لتيسير الاستفادة من أصول الفقه بعده! ومن هنا لم ينج من التأثير بالمنطق كبير أحدٍ، كما قلنا آنفاً. لأن أصول الفقه واجب لا يتم واجب العلم بالشرع إلا بتعلمه، ولذلك لم يرض عامة العلماء (أو قل: كافتهم) عدم التحلي به والانتساب إليه: (الأصولي 9؛ وهذا العلم هو في الحقيقة تطبيق عملي لعلم المنطق، فالمنطق هو الأصل، وأصول الفقه هي الفرع! ولا يظنن أني أعادي علم المنطق، لأنه علم المنطق. لكني سوف أبين قريباً ـ إن شاء الله تعالى ـ الأثر غير المرضي له، على بعض العلوم الإسلامية، خاصة علم الحديث ومصطلحه. وبذلك كان لأصول الفقه أثرها على علوم الحديث ومصطلحه، من خلال نافذتين للتأثير: الأولى (وهي مباشرة) : من خلال دراسة كتب أصول الفقه للسنة وعلومها، بمنهجها الكلامي. وقد بينا سابقاً القدر الذي يجب عليه الاستفادة من هذه الدراسة لعلوم السنة، وأشرنا إلى التفريط الواقع في هذا الصدد. الثانية (وهي غير مباشرة) ك من خلال المنهج الذي بثته في الأوساط العلمية، وأثر المنطق اليوناني الذي شبعت به أساليب التفكير والتأليف لدى العلماء. وسأضرب لك مثالاً كل نافذةٍ من هاتين النافذتين:

المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة:

المبحث الثاني: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الأولى، وهي: ما درسته كتب أصول الفقه من علوم السنة: إن من أول ما يبدأ به الأصولين باب (السنة) ، هو تقسيم الأخبار إلى قسمين: (متواتر) و (آحاد) ، والكلام عن إفادة كل قسم ٍ منها، وحكم العمل بخبرهما. ثم وجدنا هذا التقسيم ذاته، والكلام نفسه، في كتب علوم الحديث. بدءأً بـ (الكفاية) للخطيب البغدادي (ت 463هـ) ، وانتهاءً بالمصنفات المعاصرة في علوم الحديث. والخطيب البغدادي عندما تكلم عن هذا التقسيم وأحكامه لم ينسب ما ذكره من ذلك إلى أهل الحديث، بل كلامه واضح أنه نقل عن كتب أصول الفقه! حتى قال ابن الصلاح (أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، المتوفي سنة 643هـ) في كتابه: (معرفة أنواع علم الحديث) : ((ومن المشهور: المتواتر، الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث. ولعل ذلك لكونه لا

تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم)) (¬1) . بل قال ابن أبي الدم الشافعي (إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم الهمداني الحموي، المتوفي سنة 642هـ) : ((اعلم أن الخبر المتواتر: إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين، خلا الخطيب أبا بكر البغدادي، فإنه ذكره تباعاً للمذكورين. وإنما لم يذكره المحدثون لأنه لا يكاد يوجد في روايتهم، ولا يدخل في صناعتهم)) (¬2) وقد اعترض على ابن الصلاح، بما نقله الحافظ زين الدين العراقي (عبد الرحيم بن الحسين، المتوفى سنة 806هـ) في (التقييد والإيضاح) ، حيث قال: ((وقد اعترض عليه بأنه قد ذكره: أبو عبد الله الحاكم، وأبو محمد ابن حزم، وأبو عمر ابن عبد البر، وغيرهم من أهل الحديث. والجواب عن المصنف: أنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه المشعر بمعناه الخاص، وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم التعبير عنه بما فسره به الأصوليون، وإنما يقع في كلامهم: أنه يتواتر عنه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو أن الحديث الفلاني متواتر، وكقول ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين: إنه استفاض وتواتر (¬3) . وقد يريدون بالتواتر: الاشتهار، لا المعنى الذي فسره به الأصوليون)) (¬4) . وذكر الإمام البلقيني (سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان الكناني المصري الشافعي، المتوفى سنة 805هـ) في كتابه ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (267) . (¬2) لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي (17) . (¬3) انظر التمهيد لابن عبد البر (11 /137) . (¬4) التقييد والإيضاح للعراقي (266) .

(محاسن الاصطلاح) هذا الاعتراض الذي ذكره العراقي، فقال: ((فائدة: لا يقال: فقد ذكره الحاكم وكتابه مشحون به، وابن خحزم في المحلى. لأنا نقول: ليس ما ذكراه على الشرط المذكور، إن صح النقل عنهما. ولكن قد يوجد معنى التواتر في الأمور المقطوع بها، وإن كان الإسناد بالتحديث ونحوه يعسر فيه ذلك)) (¬1) . قلت: ويجاب أيضاً عن هذا الاعتراض: أما عن دعوى ذكر الحاكم لـ (المتواتر) : فدعوى غير صحيحة. فإنه لم يذكره في (معرفة علوم الحديث) في نوع من أنواع علومه، ولم يعرض له ببيانه أو ذكره بالمعنى المتعارف عليه عند الأصوليين. إنما كان يرد في كلامه لفظ (التواتر) واشتقاقات هذا اللفظ على المعنى اللغوي للكلمة، كما يتضح من سياق كلامه الذثي ورد فيه ذلك اللفظ (¬2) . ومثل هذا الاستخدام لكلمة (المتواتر) ، على المعنى اللغوي، يرد أيضاً في كلام من قبل الحاكم؛ كأبي جعفر الطحاوي (أحمد بن محمد بن سلامه المصري الحنفي، المتوفى سنة 321هـ) (¬3) ، وقبلهما وجدته في كلام الإمام البخاري (¬4) ، والإمام مسلم (¬5) ، وغيرهم. ¬

(¬1) محاسن الاصطلاح للبلقيني (453) . (¬2) انظر معرفة علوم الحديث للحاكم (50، 162، 188) ، والمدخل إلى الإكليل له (40) ، والمستدرك له أيضاً (3 / 437) . (¬3) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي (1 /83، 135، 175، 230، 389، 474) (2 /6) ، وبيان مشكل الآثار (3 / 178) (8 / 95) (9/ 37) (12/ 316) . (¬4) القراءة خلف الإمام للبخاري (ص 10) . وقد أشار إلي بمراجعته فضيلة الشيخ سعد الحميد. (¬5) التمييز للإمام مسلم (181) .

وأما ابن حزم وابن عبد البر: فكلاهما من علماء القرن الخامس، مثل الخطيب البغدادي. فلا يصح التعقب بهما على ابن الصلاح، لأنه لا دليل على سبقهما للخطيب في ذلك. وإن سبقاه فلا فائدة من ذلك، لأن مقصود ابن الصلاح أن (المتواتر) ليس من مصطلحات سلف المحدثين. ثم إن ابن حزم إنما ذكر (المتواتر) في (الإحكام في أصول الأحكام) (¬1) ، وهو كتاب في (أصول الفقه) لا في (علوم الحديث) . وابن الصلاح إنما ذكر أن الخطيب أول من أدخل هذا التقسيم في (علوم الحديث) ، فلا تعقب عليه من هذا الوجه أيضاً. ونحوه ابن عبد البر، إذ ليس له كتاب مفرد في (علوم الحديث 9 أصلاً! فثبت بهذا أن من أوائل من أدخل هذا التقسيم في علوم الحديث هو الخطيب البغدادي!! ولا داعي للمشاحة في هذا القدر الثابت. وقد نص الأئمة كما رأيت: أن الخطيب أخذ هذا التقسيم من كتب (أصول الفقه) ، وأنه تبع للأصوليين في ذلك. أما من جاء بعد الخطيب، ممن صنف في علوم الحديث، فلا يكاد يخلو كتاب من ذكر هذا التقسيم (¬2) وزادوا على الخطيب في التأثير بأصول الفقه، كما يأتي بيانه. فهذا أبو عمرو ابن الصلاح، مع أنه نص على أن ¬

(¬1) الإحكام لابن حزم (1 /- 108) . (¬2) من الكتب التي خلت من هذا التقسيم: كتاب (الاقتراح) لابن دقيق العيد، و (الموقظة) للذهبي.

الخطيب أول من ذكر هذا التقسيم في علوم الحديث، إلا أنه أضاف إلى اتباعه الخطيب في ذلك أشياء: أولاً: قال: ((وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص)) ، مما يشعر بأن لفظ (المتواتر) هو الذي لم يذكره أهل الحديث، وإن كان اعتبار معنى هذا اللفظ، بتقسيم الأخبار على أساسه، معروفاً عند المحدثين؛ هذا مفهوم عبارة ابن الصلاح. وعلى هذا المفهوم جاء دفاع العراقي عن كلام ابن الصلاح، حيث قال ـ كما تقدم ـ: ((والجواب عن المصنف: أنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه المشعر بمعناه الخاص)) . وهذا من ابن الصلاح والعراقي زيادة في تعميق أثر أصول الفقه على علوم الحديث، في هذه المسألة. وثانياً: اضطراب عبارة ابن الصلاح في التعبير عن وجود مثالٍ لـ (المتواتر) بشروطه عند الأصوليين، مما يدل على احترامه البالغ لذلك التقسيم، وعدم احتمال رفضه عنده، وإن خرج عن علوم الحديث وصناعة المحدثين! فانظر إليه وهو يقول ـ معبراً عن سبب عدم ذكر المحدثين لـ (المتواتر) ـ: ((ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم)) ، ثم يقول بعد ذكر شروط (المتواتر) : ((ومن سئل عن إبراز مثالٍ لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه)) ، ثم يقول أخيراً: ((نعم، حديث: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) نراه مثالاً لذلك)) (¬1) ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (267 - 269) .

فانظر إلى هذا التردد، واضطراب العبارات، وهي في موطنٍ واحد!! وثالثاً: أن ابن الصلاح بعد ذكره لبعد صورة (المتواتر) عن واقع الروايات الحديثية، حاول أن يضرب لـ (المتواتر) مثالاً! فجاءت عبارته في مطابقة المثل لـ (المتواتر) ضعيفة الثقة بذلك، فانظر إليه وهو يقول: ((نراه مثالاً لذلك)) . أما قول ابن الصلاح بعد ذكره للحديث: ((ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين نفساً من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا هذا الحديث الواحد. وبلغ بهم بعض أهل الحديث أكثر من هذا العدد، وفي بعض ذلك عدد التواتر. ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد، وهلم جراً على التوالي والاستمرار)) (¬1) أما هذه العبارة، فهي أيضاً تشهد على أن ابن الصلاح لا يرى هذا المثل مطابقاً لـ (المتواتر) المعروف عند الأصوليين. فهو إنما طابق بين مثله و (المتواتر) من جهة العدد الكثير المشترط في (المتواتر) فقط، دون باقي شروطه، فهو يقول: ((وفي بعض ذلك عدد التواتر)) . ولم يجزم ولا بعبارة واحدة بأن لـ (المتواتر) مثالاً واقعياً من الأحاديث النبوية، اجتمعت في هذا المثل شروط (المتواتر) جميعها. ولا يخفى أن حديث ((من كذب علي..)) ، ولو رواه مائة من الصحابة، إلا أن الأسانيد إلى كل واحدٍ من ¬

(¬1) المصدر السابق.

هؤلاء الصحابة داخلة في خبر الآحاد، لأنها فقد شرط (استحالة التواطؤ على الكذب) عند الأصوليين ‍‍ ولا يستطيع أحد أن يزعم أن حديث ((من كذب علي..)) : رواه جمع من الصحابة، وعن كل واحد من هؤلاء الصحابة رواه جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب ... وهكذا إلى آخر إسناده وفي جميع طبقاته، وأنه أفاد العلم بذلك؛ لا يستطيع أحد أن يزعم ذلك بدليله أبداً (¬1) ‍‍ وهذه هي صورة (المتواتر) المفيدة للعلم، لا غير. فكيف يكون حديث ((من كذب علي ... )) بعد ذلك مثالاً للحديث (المتواتر) بزعمهم؟ ‍‍‍ ولذلك تردد ابن الصلاح ذلك التردد ‍‍‍ لكنه بهذا المثال، الذي ذكره، فتح المجال لغيره، للتمثيل بنحو مثاله ‍‍وللاعتراض عليه بكثرة (المتواتر) بعد ذلك ‍‍‍ بل بلغ الاعتراض على ابن الصلاح قمة التأثر بأصول الفقه، عندما زعم ذلك المعترض، الذي نقلنا سابقاً رد العراقي والبلقيني عليه، أن (المتواتر) بشروطه ومعناه واسمه عند الأصوليين، من مصطلحات المحدثين أيضاً، ومن استخداماتهم في ألقاب علمهم ‍‍‍ وسوف نعود في موضع لاحق ـ إن شاء الله تعالى (¬2) ـ إلى زيادة بيان تدرج هذا التقسيم (إلى متواتر وآحاد) في كتب علوم الحديث، وكيف أنه أصبح عند المتأخرين من أعظم ملامح أصول الحديث ومن أشهر تقسيماته ‍ فإذا أردنا العودة إلى بدايات نشوء هذا التقسيم، وإلى معرفة موقف أئمة أهل الحديث منه = أقول: أما أول من قسم الأخبار النبوية إلى مفيدٍ للعلم ومفيدٍ ¬

(¬1) انظر لقط اللآلىء المتناثرة لر لزبيدي (ص 22) . (¬2) انظر (ص 123 - 127) .

للظن، فقد وقفت على نص لا حد الائمة، يذكر فيه اول من ابتدع هذا التقسيم فيقول الا ما م النا قد عثمان بن سعيد الدار مي (ت 280هـ) ، في رده على بشير بن غياث المريسي الجهمي (ت 218هـ) : ((وادعيت أيضاً في دفع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحكةً لم يسبقك إلى مثلها عاقل من الأمة ولا جاهل ‍فزعمت أنه لا تقوم الحجة من الآثار الصحيحة التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا كل حديثٍ لو حلف رجل بطلاق امرأته أنه كذل لم تطلق امرأته (¬1) . ثم قلت: ولو حلف رجل بهذه على حديثٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح عنه أنه كذب، ما طلقت امرأته (¬2) . فيقال لهذا المعارض الناقض على نفسه: قد أبطلت بدعواك هذه جميع الآثار التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما احتججت منها لظلالك، وما لم تحتج، ولو كنت ممن يلتفت إلى تأويله. لقد سننت للناس سنةً، وحددت لهم في الأخبار حداً، لم يستفيدوا مثلها من أحدٍ من العالمين قبلك. وأوجبت على كل مختارٍ من الأئمة ـ في دعواك ـ أن لا يختار منها شيئاً حتى يبدأ باليمين بطلاق امرأته، فيحلف أن هذا الحديث صدق أو كذب ألبته. فإن كان شيئاً طلقت به امرأته استعمله، وإن لم تطلق تركه. ويلك ‍إن العلماء لم يزالوا يختارون هذه الآثار ¬

(¬1) كذا العبارة في المصدر، وأحسبها محرفة عن: ((إلا كل حديث لو حلف رجل بطلاق امرأته أنه] غير [كذب ٍ لم تطلق امرأته)) ‍لأن المريسي يتكلم هنا عن الحديث المفيد للعلم عنده. (¬2) كلام المريسي في هذه الجملة عن (خبر الآحاد) المفيد للظن عنده، ولذلك لا تطلق امرأته من حلف على أنه كذب، للشك في ثبوته، ولاحتمال صدق يمينه بأنه كذب، كما يزعم المريسي ‍

ويستعملونها، وهم يعلمون أنه لا يجوز لأحدٍ منهم أن يحلف على أصحها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ألبته، وعلى أضعفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله ألبته (¬1) . ولكنهم كانوا لا يألون الجهد في اختيار الأحفظ منها، والأمثل فالأمثل من رواتها في أنفسهم. ويرون أن الأيمان التي ألزمتهم فيها بطلاق نسائهم مرفوعة عنهم؛ حتى ابتدعتها أنت، من غير أن يسبقك إليها مسلم أو كافر. ففي دعواك يجب على القضاة والحكام أن لا يحكموا بشهادة العدول منهم، إلا بشيءٍ يمكن القاضي أن يحلف عليه بطلاق امرأته أن الشاهد به قد صدق، أو أنه إن حلف عليها بطلاق امرأته أنه كذب لم تطلق امرأته ‍ ويحك‍من سبقك إلى هذا التأويل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، في اتباع الروايات واختيار ما يجب منها؟ ‍إنما يجب على القاضي أن يفحص عن اشهود ويحتاط: فمن عدل منهم حكم بشهادته، وإن كان كاذباً في شهادته في علم الله بعد، ما لم يطلع القاضي منه على ذلك. وترد شهادة المجروح، وإن كان صادقاً في شهادته في علم الله بعد، ما لم يطلع القاضي على صدقه. وكذلك المذهب في استعمال هذه الآثار وقبولها من رواتها، لا ما تأولت فيها، من هذه السخرية بنفسك والضحك (¬2) ‍)) (¬3) ¬

(¬1) عدم جواز الحلف بذلك، لا لعدم الجزم بصدق أصحها أو بكذب اضعفها، ولكن لأن التكليف بهذا اليمين بدعة لم يأمر بها الشرع، ولا عمل بها الصحابة، ولا تابعوهم، ولا أحد أئمة الدين ‍كما صرح بذلك الدارمي فيما يأتي من كلامه. (¬2) ليس منى هذا الكلام للدرامي، أنه يرى بأن (خبر الواحد يوجب العمل، مع إفادته الظن. كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (ص 156 ـ 157) . (¬3) رد الدارمي على بشر المريسي (ص 138 - 139) .

وهكذا يظهر أن هذا التقسيم للأحاديث إلى (متواتر) و (آحاد) ، إنما نشأ من فكرٍ أثيم، وعقليةٍ فاسدة، وبيد البدعة، وعلى عين أعداء السنة، الذين لا يسعون إلا لرفض السنن، واستعباد الناس لفلسفة اليونان، بدلاً من دين الرحمن. ومن هذا يظهر أيضاً: أن هذا التقسيم إنما نشأ في آخر القرن الهجري الثاني وأوائل القرن الثالث، على يد بشر المريسي ومن على شاكلته من جهمية ومعتزلة. وبذلك نفسر عدم استخدام المحدثين لهذا التقسيم وألقابه في القرن الثالث فما قبله، ونعرف سبب ذلك. أما ما قبل القرن الثالث، أعني غالب القرن الثاني فما قبله، فلأن هذا التقسيم لم يكن قد وجد أصلاً، لا عند أهل السنة ولا عند غيرهم. وأما في القرن الثالث، فلأن منشأ هذا التقسيم ومصدره هم الجهمية ومن شابههم، والعداء بين أهل السنة وهؤلاء، وبين علوم السنة وعلوم أولئك = كان بالغاً الغاية، محتدماً، لا مجال خلاله للتأثر بأي شيءٍ من جانب العدو، ولو كان أمراً شكلياً لا علاقة له بالمضمون (اقول: لو كان) ‍‍ وقد سبق شرح هذا التنافر وأثره في الحفاظ على علوم السنة (¬1) . ومن أجل ذلك بدأ الجدال وحميت المناظرات، من أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث إلى ما بعد ذل، حول مسألة حجية (خبر الآحاد) . حيث إن ذلك التقسيم أول ما نشأ كان يصرح بد (خبر الآحاد) بالكلية، وعدم قبول شيءٍ من الأخبار إلا ما اسماه بـ (المتواتر) . ¬

(¬1) انظر (ص 70 - 71) .

ثم إن هذا التقسيم بقي عند أهل الكلام على ما هو عليه، وإن كانت أحكام أقسامه بدأت بالتأثر بأحكام أهل السنة، خلال القرن الثالث، وأوائل الرابع (¬1) . ولو قدر بقاء عوامل قوة علوم السنة، كما كانت عليه، لرجونا زوال ذلك التقسيم بالكلية!! لكن مع ظهور المذاهب الكلابية، من أشعريةٍ وما تريدية، وما كانت تكسبه بالرد على المعتزلة وغيرهم ـ مما سبق شرحه ـ من مؤهلات الاندساس في صفوف المدافعين عن السنة. مع ما انظم إلى ذل، من ضعف تلقي علوم السنة = بدأ ذلك التقسيم بالثبات والرسوخ، بعد أن أخذ مظهراً آخر، اقرب إلى مذهب المحدثين من مذهب اصحابه الحقيقيين الذين كانوا أول من ابتدعه، من جهمية ومعتزلة. ذلك القرب إلى مذهب المحدثين، ينحصر في حكم خبر الواحد، وهو الحكم المشهور: أنه يفيد الظن الموجب للعمل، ولا يحتج به في العقائد. وهذا القرب في هذه الجزئية، كان بذاته أحد عوامل ثبات ورسوخ فكرة ذلك التقسيم مع أحكام أقسامه، عبر العصور التالية للقرن الرابع الهجري. والأعجب من ذلك كله، هو أن تلك المناظرات والمجادلات المشار إليها آنفاً، التي ابتدأت من أواخر القرن الثاني، بين أهل السنة وغيرهم من أصحاب ذلك التقسيم، حول حجية خبر الواحد = أصبحت فيما بعد حجةً من حجج صحة ذلك التقسيم عند القائلين به، معتبرين تلك المناظرات دليلاً على ¬

(¬1) يظهر ذل من مذهب أبي علي الجبائي (محمد بن عبد الوهاب البصري، المتوفى سنة 303هـ) أحد ائمة المعتزلة، الذي ذهب إلى قبول خبر الآحاد، إلا الحديث الفرد الذي لا يرويه إلا واحد، فهذا هو الذي يرده من أخبار الآحاد. انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (2 /138) ، والبرهان للجويني (1 /607) .

أن أهل الحديث كانوا يعترفون بذلك التقسيم، بدليل اعتنائهم بذكر حجية خبر الواحد!!! إذ جعلوا مجرد ذكر (خبر الآحاد) إثباتاً لمقابله عندهم، وهو (الخبر المتواتر) !!! ولذلك فإني مضطر إلى الوقوف وقفةً طويلةً، مع أجل تلك المناظرات وأقدمها، ومع أحد أقوى حجج أولئك فيما ذهبوا إليه. تلكم هي مناظرات الإمام الشافعي حول القضية، في كتبه الأصولية، كـ (الرسالة) و (جماع العلم) (¬1) . فقد عقد الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) فصلاً كبيراً، جاء في أوله سؤال لسائل عن حجية (خبر الواحد) . فبدأ الإمام الشافعي مع هذا السائل مناظرةً طويلةً جداً، عن هذه القضية وما له علاقة بها (¬2) . وأما كتاب (جماع العلم) ، فغالبه يحكي مناظراتٍ للشافعي حول حجية (خبر الواحد) . وسنقف مع كلام الإمام الشافعي في مواطنه المتفرقة، مقسمين وقفنا على قسمين: الأول: إثبات أن الإمام الشافعي لم يقسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، مع بيان التقسيم الذي كان يرضاه الإمام الشافعي. والثاني: حكم (خبر الآحاد) عند أهل الحديث، وفيهم الإمام الشافعي. ولإثبات أن الإمام الشافعي لم يقسم الأخبار تقسيم أهل الكلام إلى (متواتر) و (آحاد) ، ولبيان التقسيم الذي ورد ¬

(¬1) ولا يفوتني هنا التنويه بالكتاب الذي قعده الإمام البخاري في صحيحه حول هذه القضية، وهو (كتاب: أخبار الآحاد) = صحيح البخاري (13 /244 - 246) . (¬2) انظر الرسالة للشافعي (ص 369 - 471من رقم 998 إلى رقم 1308) .

في كلامه على أنه التقسيم الذي يرضاه، هو والمحدثون من أهل القرن الثالث فما قبله = أقول لإثبات وبيان ذلك: أولاً: إن الإمام الشافعي لم يصرح بذلك التقسيم، وعندي أنه لم يلمح إليه أيضاً ولم يرضه، كما سأثبته لك من بعد. أما أنه ذكر خبر الواحد، أو كما يسميه هو بـ (خبر الخاصة) في كتابه (الرسالة) ، لا بلفظه، ولا بمعناه. أما أنه لم يذكره بلفظه، فهذا قد يظنه بعضهم أمراً هيناً. وليس بهين، كما سيأتي بيانه عند كلامنا عما جاء في (جماع العلم) للشافعي (¬1) . وأما أنه لم يذكره بمعناه، فهذا هو التالي: وثانياً: أن افمام الشافعي لم يتفوه بما يذكره الأصوليون في تعريفهم للحديث المتواتر، بذكر شروطه المعلومة عندهم؛ فمن أين لمن نسب للشافعي ذلك التقسيم دليل نسبته إليه بعد ذلك؟! إن كل ما حصل، هو أنهم نزلوا ألفاظاً أخرى للشافعي أطلقها على مايقابل (خبر الواحد) منزلة (المتواتر) عند الأصوليين. وهذا يكون له وجه، لو أن الشافعي بين من معاني تلك الألفاظ ما يوافق معنى (المتواتر) عند الأصوليين؛ لكن الشافعي لم يفعل ذلك! أما استنباط أنه أراد بتلك الألفاظ معنى (المتواتر) من ذكرها في مقابل (خبر الخاصة) ، فلا وجه له، لما تقدم بيانه آنفاً. ¬

(¬1) انظر (ص 106 - 108) .

وثالثاً: أما الألفاظ التي ذكرها الإمام الشافعي فيما يقابل (خبر الواحد) ، فهي: (السنة المجتمع عليها) ، و (خبر العامة عن العامة) (¬1) . وما عبارتان بمعنى واحدٍ، يطلقهما الإمام الشافعي في مقابل (خبر الخاصة) . فهل يلزم من هذه الألفاظ أنها تعني (المتواتر) عند الأصوليين؟! هذه دعوى لا دليل عليها كما سبق. ثم هذان اللفظان، بذاتهما، وبمعناهما اللغوي، يدلان على أن المراد منهما غير (المتواتر) عند الأصوليين. فإن معناهما هو: الأمر الذي أجمعت الأمة على نقله، مما لم يرد في كتاب الله، أمةً بعد أمة، لا يختلف في الإجماع به اثنان؛ مثل: أن صلاة الظهر أربع. وهذا أمر فوق (متواتر الأصوليين) ، أو هو أعلى أنواعه عندهم. لأن من (المتواتر) ما قد يخفى على الخاصة، فضلاً عن العامة؛ يخفى العلم به، فضلاً عن العلم بتواتره. كما تجده في أمثلة (المتواتر) التي يذكرونها، وكما في كتب (الأحاديث المتواترة) (¬2) . والذي نخرج به من هذا، أن ما يقابل (خبر الآحاد) عند الشافعي، من تلك الألفاظ التي استخدمها فيما يقابله = ليس هو (المتواتر) عند الأصوليين بكل ما يحويه معناه عندهم. لأن ـ وانتبه لما بعد لأن ـ الذي يقابل (السنة المجتمع عليها) و (خبر العامة عن العامة) ليس هو (خبر الآحاد) وحده، بل هو (خبر الآحاد) وبعض من (المتواتر) أو (المتواتر) جله!!! ¬

(¬1) انظر الرسالة للشافعي (رقم 1259 -1329) ، وجماع العلم له (رقم 169 - 172، 302) . (¬2) انظر (ص 130، 135) .

نعم.. ولا تعجل بالرد من قبل أن يقضى إليك بالحجة! لكن بعد أن نثبت لك معاني تلك الألفاظ التي ذكرها الشافعي فيما يقابل (خبر الآحاد) ، لا من دلالة الألفاظ نفسها (وهي كافية) كما سبق ذكره، بل من كلام الشافعي نفسه. فقد بوب الإمام الشافعي في كتابه (جماع العلم) باباً بعنوان: (حكاية قول من رد خبر الخاصة) ، قال فيه بعد مقدمةٍ يسيرة، حاكياً مناظرته في ذلك: ((قال ـ يعني الشافعي ـ: فكانت جملة قولهم أن قالوا: لا يسع أحادً من الحكام ولا من المفتين أن يفتي ولا يحكم إلا من جهة (الإحاطة) (¬1) . و (الإحاطة) : كل ما علم أنه حق في الظاهر والباطن، يشهد به على الله. وذلك: الكتاب، والسنة والمجتمع عليها، وكل ما اجتمع الناس ولم يتفرقوا فيه. فالحكم كله واحد، يلزمنا أن لا نقبل منهم إلا ما قلنا؛ مثل: أن الظهر أربع. لن ذلك لا ينازع فيه، ولا دافع له من المسلمين، ولا يسع احداً يشك فيه. (قال الشافعي:) قلت له: لست أحسبه يخفى عليك، ولا على أحدٍ حضرك، أنه لا يوجد في علم الخاصة ما يوجد في علم العامة. قال: وكيف؟ (قال الشافعي:) قلت: علم العامة على ما وصفت، لا ¬

(¬1) يعني بالإحاطة: أعلى درجات العلم واليقين. قال في تاج العروس ـ حوط ـ (19 / 221ـ 222) : ((ومن المجاز: كل من بلغ أقصى شيء، وأحصى علمه، فقد أحاط به علمه، وأحاط به علماً، وهذا مثل قولهم: فتله علماً. ويقال: علمه علم إحاطة، إذا علمه من جميع وجوهه ولم يفته منها شيء ... ))

تلقى أحداً من المسلمين إلا وجدت علمه عنده، ولا يرد أحد شيئاً على أحدٍ فيه، كما وصفت في جمل الفرائض وعدد الصلوات وما أشبهها ... )) (¬1) . فهذا ـ كما ترى كلام صريح، فسر به الإمام الشافعي المقصود من (السنة المجتمع عليها) و (خبر العامة) الذي يقابل (خبر الآحاد) ؛ فإذا به ليس هو (المتواتر) ، بل هو معنى قسيم لمعنى (المتواتر) . قال الإمام الشافعي في (جماع العلم) أيضاً: ((قلت: أفرأيت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأي شيءٍ تثبت؟ قال: أقول القول الأول الذي قاله لك صاحبنا. فقلت له: ما هو؟ قال: زعم أنها تثبت من أحد ثلاثة وجوه. قلت: فاذكر الأول منها؟ قال: (خبر العامة عن العامة) . قلت: أكقولكم الأول، مثل أن الظهر أربع؟ قال: نعم. ¬

(¬1) جماع العلم (ص 36 رقم 168 ـ 172) ن وانظر أيضاً (رقم 178ـ 179) ، وانظر كذلك الرسالة (رقم 1329) .

فقلت: هذا مما لا يخالك فيه أحد علمته. فما الوجه الثاني؟ قال: (تواتر الأخبار) فقلت له: حدد لي (تواتر الأخبار) بأقل مما يثبت الخبر، واجعله له مثالاً، لنعلم ما يقول وتقول؟ قال: نعم، إذا وجدت هؤلاء النفر، للأربعة الذين جعلتهم مثالاً (¬1) ، يروون، فتتفق رواياتهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم شيئاً أو أحل = استدللت على أنهم: بتباين بلدانهم، وأن كل واحدٍ منهم قبل العلم عن غير الذي قبله عنه صاحبه، وقبله عنه من أداه إلينا، ممن لم يقبل عن صاحبه = أن روايتهم إذا كانت هكذا تتفق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالغلط لا يمكن فيها ... )) (¬2) . إذن فهذا هو (المتواتر) بلفظه ومعناه عند الأصوليين، هو غير (خبر العامة) و (السنة المجتمع عليها) ، كما ينص عليه هذا النقل!!! وأيضاً فهذا يعني أن الإمام الشافعي عندما ترك لفظ (المتواتر) أثناء كلامه في كتابه (الرسالة) عن خبر الواحد، لم يكن تركه إياه لأنه لم يكن معروفاً بهذا اللفظ عنده، ولا لأنه استبدله بما يرادف معناه (فهذا ما أبطلناه الآن) ؛ ولكن لأنه قسم لم يرض الإمام الشافعي تقسيم الخبار على اعتباره، كما في كلام خصمه الذي نقلناه هنا. وإلا فلم هجر الإمام الشافعي هذا اللفظ ومعناه: ¬

(¬1) هم: سعيد بن المسيب (المدني) ، وعطاء بن أبي رباح (المكي) ، وعلقمة النخعي (الكوفي) ، والحسن بن أبي الحسن (البصري) . انظر جماع العلم (رقم 282 ـ 285) . (¬2) جامع العلم (ص 55 - 56 رقم 297- 309) .

(المتواتر) ؟! ولم أغلفه تماماً في كتابه (الرسالة) ؟! وزيادة الاستدلال على ذلك، في التالي: وخامساً: ومما يقطع بأن الإمام الشافعي لا يقول بقسم (المتواتر) قسماً من اقسام الأخبار، هو أنه كان يرد على الأصوليين شروطه التي اشترطوها له!! فالإمام الشافعي لا يرى أن في شروط (المتواتر) المذكورة عند الأصوليين ما يفي باستحالة وقوع الغلط وباستحالة التواطؤ على الكذب، على أصولهم وعلى منهجهم في قبول الأخبار وردها. وتنبه هنا غاية التنبه: أنه ليس معنى ذلك أن الشافعي لا يقول بإفادة (المتواتر) للعلم، بلى هو عنده مفيد للعلم!! ككثيرٍ من (أخبار الخاصة) غيره. لكن إفادتها للعلم من جهةٍ غير الجهة التي يزعمها المتكلمون، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (¬1) وهذه قاصمة الظهر!! أن يكون الإمام الشافعي لا يرى شروط الحديث (المتواتر) شروطاً صالحة لإفادة (العلم) ، فكيف يكون بعد ذلك ممن يقول بـ (التواتر) على تلك الشروط؟!!! وهذا كله في بقية مناظرة الإمام الشافعي لخصمه، التي سبق نقل طرفٍ منها آنفاً. حيث أكمل الشافعي مناظرته بقوله لذاك الخصم: ((وقلت له: لا يكون تواتر الأخبار عندك عن أربعةٍ في بلد؟ ولا إن قبل عنهم أهل بلدهم (¬2) !! حتى يكون المدني يروي عن مدني، والمكي يروي عن مكي، والبصري يروي عن بصري، والكوفي يروي عن كوفي، حتى ينتهي كل واحدٍ منهم ¬

(¬1) انظر (ص 149 - 158) . (¬2) انظر (ص 149- 158) .

بحديثه عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير الذي روى عنه صاحبه، ويجمعوا جميعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم = للعلة التي وصفت؟ قال: نعم، لأنهم إذا كانوا في بلدٍ واحدٍ أمكن فيهم التواطؤ على الخبر، ولا يمكن فيهم إذا كانوا في بلدان مختلفة. (قال الشافعي:) فقلت له: لبئس ما نبثت (¬1) به على من جعلته إماماً في دينك، إذا ابتدأت وتعقبت!!)) (¬2) . هذا أول ردود الشافعي على أحد شروط (المتواتر) التي يشترطها الأصوليون، وهو شرط: استحالة التواطؤ على الكذب. فيرى الإمام الشافعي أن اشتراط هذا الشرط، واعتبار أن تحققه يتم بأن يكون كل راوٍ من بلدٍ بعيدٍ عن الآخر= فيه حط شديد على أئمة الدين، وثقات الأمة وعدولها، إذ جعلها ذلك الشرط وكأنهم لا يحول بينهم وبين التواطؤ على الكذب إلا عدم القدرة على التواطؤ، لمثل بعد البلدان!!! سبحانك! هذا بهتان عظيم!! ثم أقول (من عند نفسي) : إن استحالة التواطؤ على الكذب، لا تتم ـ مع ذلك ـ ببعد البلدان بين الرواة، لاحتمال الرحلة واللقاء، ولاحتمال المراسلة! لكن تلك الاستحالة إنما تستفاد مما عرفناه (بالنقل المتواتر) من أحوال أولئك الأئمة، الدالة على: شدة التدين، وتعظيم الحرمات، والدفع عن حياض الشريعة، وجميل صفاتهم، وحسن سيرتهم في كل أمرهم. وهذا ¬

(¬1) النبث: النبش والبحث في الأرض. انظر تاج العروس ـ نبث ـ (5 /366-386) . والمعنى: لبئس ما نبشته على أئمتك من التهمة بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم!! (¬2) جماع العلم (رقم 309 - 311) .

ليس فقط من الأئمة الكبار، بل حتى مع ثقات النقلة وعدول الرواة، لما عرفناه (بالنقل المتواتر أيضاً) من شدة الأئمة في توثيقهم، وبالغ تحريمهم في تعديلهم، واحتياطهم في احتياطهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في كل ذلك!! ثم بين لي الفرق في درجة اليقين بين: رواية عشرة من التابعين من بلدان مختلفة لحديث واحد، ورواية فقهاء المدينة السبعة لحديث واحدٍ أيضاً؟! فإذا رجعنا إلى أن استحالة التواطؤ على الكذب راجعة إلى مافي كل واحدٍ من الرواة من الصفات الداعية إلى قبول خبره، رجعنا ـ إذن إلى أن المعتبر هو وجود هذه الصفات، دون ما سواها من الشروط التي لا معنى لا شتراطها، لأنه لا علاقة لها بإفادة تلك الاستحالة. فإن قال صاحب تلك الشروط: أنا لا أشترط العدالة أصلاً في رواة (المتواتر) . قلنا: ذلك أدعى إلى أن لا يفيد خبرهم العلم عندك! لأنه إذا كان الخبر ـ عندك ـ لا يفيد العلم إلا باستحالة التواطؤ على الكذب ببعد البلدان، وبينا لك أن بعد البلدان ليس هو بالذي يدل على تلك الاستحالة في رواية الثقات العدول؛ فمن (باب أولى) أن لا يدل بعد البلدان على تلك الاستحالة في رواية غير العدول!! فإن قال: إنما ذكرت (بعد البلدان) مثلاً لما يدل على استحالة التواطؤ على الكذب، وإلا فمرادي تحقق هذه الاستحالة، كيفما تحققت. قلت: فبينا لك بطلان ذلك المثل، فهات غيره؟!

فإنه لا مفر لك من أن تزعم: أن استحالة التواطؤ على الكذب لا تتحقق إلا بالخبر الصريح: بأن فلاناً لم ير فلاناً ولا فلان لقي فلاناً، ولا تراسلوا أيضاً!! ومتى تقع على مثل هذا الخبر، وأنى تقف عليه، ليثبت بذلك خبر عندك؟!!! ولا بد بعد ذلك أيضاً ـ على مذهبك في قبول الأخبارـ أن لا تقبل ذلك الخبر بنفي اللقاء والمراسلة، إلا أن يكون خبراً متواتراً على الشروط التي ذكرتها (على ما فيها) ، ليتم عندك اليقين بصدق ذلك الخبر!!! وأقول أخيراً: إن شرط (استحالة التواطؤ على الكذب) بمثل بعد البلدان، دليل على أن مشترطه الأول (ومن على شاكلته) في عزمه رد السنن كلها، حتى ما سماه بـ (المتواتر) ! لأن تلك الاستحالة لا تستفاد مما زعم أنها تستفاد منه، كما قدمنا!!! وذلك هو ما صرح به الإمام الدارمي، من نية وعزم صاحب ذلك التقسيم (إلى متواتر وآحاد) ، كما سبق نقله عنه (¬1) . وهو ما صرح به أيضاً الحافظ ابن حبان البستي، كما سيأتي نقل كلامه (إن شاء الله تعالى) (¬2) . ¬

(¬1) اانظر (ص 98، 117، 123) . (¬2) انظر (ص117، 121) .

أما ثاني ردود الإمام الشافعي على ثاني شروط (المتواتر) ، هو اشترط أن يرويه عدد كثير؛ فأنا أذكر مضمون رد الشافعي، وأحيل عليه. حتى لا أطيل بنقله، ثم بشرحه. فأول ما بدأ الإمام الشافعي مناظرته مع ذلك الخصم، أراد أن يقرره بسبب اشتراط (العدد الكثير) أبين تقرير. فسأله الشافعي عما لو سمع هذا الخصم نفسه حديثاً من رجلٍ من أصحاب بدر، وهم المقدمون ومن أثنى الله تعالى عليهم في كتابه؛ فعلى مذهبه: لا يكون هذا الخبر حجة، لأنه خبر واحدٍ يمكن أن يتطرق إليه الغلط، ويرد عليه احتمال وقوع الخطأ. إذن فـ (احتمال وقوع الغلط) من القوة، إلى درجة أن مشترط (العدد الكثير) لا ينتفي عنده هذا الاحتمال، حتى ولو سمع الخبر من أحد البدريين!! بل الذي يناظره الشافعي لا يحتج بذلك الخبر مطلقاً، لاحتمال وقوع الغلط فيه!!! فبعد أن قرر الشافعي هذه القوة في ملاحظة (احتمال وقوع الغلط) عند خصمه، قال له: أليس من بعد البدريين وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أولى أن لا يكون خبر الواحد منهم مقبولاً، لنقصهم عنهم في كل فضل، وأنه يمكن فيهم الغلط ما أمكن فيمن هو خير منهم، وأكثر منه؟! فقال له خصمه: بلى (¬1) . ثم حصر الإمام الشافعي وخصمه أيضاً صورة (العدد الكثير) في (المتواتر) في صورتين: الأولى: أن يروى الحديث بأسانيد مختلفة عن عددٍ من ¬

(¬1) انظر جماع العلم (رقم 313 - 314) .

الصحابة، كل إسنادٍ منها منفرداً داخل في حد (خبر الواحد) ، وبمجموعها داخلة في حد (المتواتر) عند الخصم. والصورة الثانية: أن يروي أربعة (مثلاً) من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يروي عن كل واحدٍ منهم جماعة، ثم يرويه عن كل واحدٍ من هذه الجماعة جماعة أخرى.. وهكذا إلى أن يصل إلينا. ثم بدأ يرد الشافعي على دعوى خصمه: استفادته العلم من هاتين الصورتين، لعدم احتمال وقوع الغلط فيهما عنده. فبيان بطلان هذه الدعوى في الصورة الأولى هو: أن الإمام الشافعي سأل خصمه: ألا يمكن أن يقع الغلط في أفراد تلك الأسانيد متفرقة، فيهم المدني في نقله عن المدني، والكوفي في نقله عن الكوفي، وهكذا؟ فإن أجاب الخصم باحتمال وقوع الغلط في أفراد تلك الأسانيد، لأنه من المحتمل أن يهم تابع التابعي على التابعي، والتابعي على الصحابي، والصحابي على النبي صلى الله عليه وسلم. إن أجاب بإمكان الغلط في أفراد تلك الأسانيد، لزمه أن يقبل ويستفيد العلم من (خبر الآحاد) ! لأنه استفاد العلم من خبرٍ يمكن في أسانيده أن يغلط كل راوٍ عمن فوقه، ومن فوقه عمن فوقه أيضاً، إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يقبل خبر الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم خير ممن بعدهم. قال الشافعي: فترد الخبر بأن يمكن فيه الغلط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير الناس؟ وتقبله عمن لا يعدلهم في الفضل!! مع إمكان الغلط أيضاً في روايتهم (¬1) ؟!!! ¬

(¬1) انظر جماع العلم (رقم 315 - 320)

فإن قال الخصم: لكن الصورة المجموعة لتلك الأسانيد أبعدت احتمال الغلط. قلت: استبعادك الغلط في تلك الأسانيد المجموعة، إنما جاء لاعتقادك أن الجماعة الذي رووا تلك الأسانيد، لا يمكن أن يتوارد خطؤهم على لفظٍ واحد. فأنت تقصد بـ (المتواتر) هنا (المتواتر اللفظي) ، فهذا الذي تظن أن احتمال الغلط لا يتطرق إليه. لكن أليس من المحتمل أن تكون تلك الأسانيد المتفرقة إسناداً واحداً، أو إسنادين، أو أكثر من ذلك مما لا يبلغ درجة إفادة العلم عندك؟ فإن قلت: لا قلنا: لم؟! ألا يمكن أن يبدل أحد الرواة، راوياً بآخر، أو شيخاً بشيخ غلطاً، أو وصل مرسلاً مآله إلى موصولٍ لآخر، أو أسقط الراوي ـ سهواً أو عمداً (بالتدليس) ـ ضعيفاً، وهذا الضعيف كان قد ركب إسناداً على متن ... أو غير ذلك احتمالات الوهم. ثم هل نسيت أن (استحالة التواطؤ على الكذب) ببعد البلدان: قد بينا لك أنها استحالة لا تستفاد من ذلك. إذن فيمكن في كل إسنادٍ من تلك الأسانيد أن يرد إليه احتمال الكذب المتعمد أيضاً، على مذهبك أنت!! هذا كله فيما لو كان التواتر (لفظياً) ، أما إذا كان (معنوياً) ؛ فترد عليه الاحتمالات السابقة كلها، ويزاد عليها: احتمال الغلط في فهم الحديث، وفي سوء روايته بالمعنى، حتى أوهم توافق الأحاديث، وهي في الحقيقة أحاديث مختلفة، بمعانٍ لا يشهد بعضها لبعض!

فإن قلت: هذه الاحتمالات مع ورودها فهي بعيدة لاتفاق تلك الأسانيد مجموعة على الخبر، ومن ذلك استفدت العلم. قلنا: إذن فاستفدت العلم مع ورود احتمال الغلط!! وإن زعمت بعده. لكن أبعد منه في احتمال الغلط، أن يروي لك الصديق أو الفاروق حديثاً، ثم تقول: لا أستفيد العلم لاحتمال الغلط!!! فإن رجعت، والرجوع بك أحمد، فقلت: أستثني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قلنا فرجعت إلى اعتبار الصفات في الرواة، فاطرد في اعتبار الصفات إذن!! ثم نحن لا نخالف في أن الحديث المتعدد الأسانيد قد يكون أقوى ن الحديث الغريب الذي ليس له إلا إسناد واحد، لكن عدم احتمال الغلط هو الذي جعلك استفدت اليقين بزعمك من الحديث المعدد الأسانيد؛ فها قد بينا لك أن احتمال وقوع الغلط وارد عليك فيما استفدت منه العلم أيضاً. أما الصورة الثانية للمتواتر: وهي أن يروي جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وعن كل واحدٍ من هذا الجمع جمع مثله أيضاً.. وهكذا. قال الإمام الشافعي لخصمه عند ذكره الصورة: ((فهذا يلزمك، أفتقول به؟ قال: إذا نقول به، لا يوجد هذا أبداً. (قال الشافعي:) فقلت: أجل!! (¬1) . نعم هذه الصورة عديمة الوجود!! ¬

(¬1) جماع العلم (رقم 322- 324) .

وهذه الصورة الخيالية هي التي عناها مبتدع (المتواتر) الأول من ابتداعه له، لأنها ـ بزعمه ـ الطريق الوحيد لليقين بصدق الخبر دون النظر في عدالة ناقليه. لكن هذه الصورة خيال عقلي، بعيد كل البعد عن الوقع، وتحكم بحصر طريق اليقين في تلك الصورة، وغض للنظر دون عدالة الناقلين، مع أنها هي الطريق المتيسر الصحيح لليقين بصدق الأخبار. لكن ذلك المبتدع تلقى تلك الصورة الخيالية عن أسياده من فلاسفة اليونان، وترجمها عن أساتذته في معاداة الوحي الإلهي، ثم أراد أن يحكمها في أسانيد السنن النبوية!!! ولم تنته ـ بعد ـ مناظرة الإمام الشافعي مع خصمه، في إبطال شرط (العدد الكثير) من شروط (المتواتر) . وقد كان خصم الشافعي قد ضرب مثلاً لتلك الصورة الخيالية لـ (المتواتر) ، برواية أربعة، وعن كل واحد من هؤلاء الأربعة أربعة آخرون.. وهكذا. فقال له الإمام الشافعي: ((وقلت له: من قال اقبل من أربعة دون ثلاثة؟ أرأيت إن قال لك رجل: لا أقبل إلا من خمسة؟ أو قال آخر: من سبعين! ما حجتك عليه؟ ومن وقت لك الأربعة؟! قال إنما مثلتهم. (قال الشافعي:) قلت: أفتحد من يقبل منه؟ قال: لا (قال الشافعي:) قلت: أو تعرفه فلا تظهره، لما يدخل عليك؟!

(قال الشافعي:) فتبين انكساره)) (¬1) أي لعمري! يتبين انكساره، وانكسار عامة الأصوليين، بل والمحققين منهم، الذين ردحوا أن (العدد الكثير) في (المتواتر) لا يحد بعدد معين، وردوا على كل من اشترط عدداً معيناً! فهذا الإمام الشافعي يرد عليهم أيضاً، فيتبين انكاسرهم!! وهذا ذكرني بعبارةٍ لأحد أئمة الحديث وأئمة الشافعية أيضاً، هو أبو بكر محمد بن موسى الحازمي (ت 584هـ) ، حيث قال في كتابه (شروط الأئمة الخمسة) : ((وإثبات التواتر في الأحاديث عسر جداً، سيما على مذهب من لم يعتبر العدد في تحديده)) (¬2) . وأما قول الإمام الشافعي لخصمه: ((أو تعرفه فلا تظهره، لما يدخل عليك)) ، ففيه إيماء إلى أن (المتواتر) الذي يفيد العلم بتلك الشروط، لا ما رواه أربعة، ولا أربعون! بل ما رواه جيل عن جيل، هذا هو الذي يفيد العلم باستحالة وقوع الكذب ولغلط من نقلته! وهذا هو (خبر العامة عن العامة) الذي زعم قائل (المتواتر) أنه سواه!! ولما كان (المتواتر) بتلك الصورة لا وجود له في الأحاديث النبوية، سكت ذلك الخصم عن إظهار ما يخفيه، لأن مآل مقالته حينها: أنه لا يحتج بشيءٍ من الأحاديث النبوية، لأنه ليس فيها شيء يفيد العلم بزعمه وعلى شروطه!!! وهكذا يرد الإمام الشافعي على القائل بـ (المتواتر) شروطه التي وضعها له، قائلاً له: إنها بين شرطٍ لا فائدة في اشتراطه، ¬

(¬1) جماع العلم (رقم 326 - 331) . (¬2) شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 50) .

وشرطٍ لا وجود لخبرٍ تحقق فيه، فكيف تقسم الأخبار باعبتاره؟! فلا يقال بعد هذا: إن الإمام الشافعي ممن قسم الأ؛ اديث إلى (متواتر و (آحاد) ! أو أنه كان راضياً عن (المتواتر) بشروطه عن الأصوليين!! كيف؟! وهو الهاجر لاسمه، الناقض لشروطه، المجانب لاعتباره!!! وهنا أكون قد انتهيت من ذكر الأدلة القواطع والبراهين السواطع على أن الإمام الشافعي ليس ممن قسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، بل إنه كان يرد هذا التقسيم ويعيبه كما رأيت. وعلى هذا فما جاء في كلام الشافعي، مما سيأتي ذكر بعضه إن شاء الله تعالى (¬1) ، من تقسيم السنن إلى: (خبر عامةٍ عن عامة) أو (سنةٍ مجتمع عليها) ، ويقابل هذا القسم (خبر الخاصة = فإنه لا يعني به التقسيم المشهور عن الأصوليين، يس القسم الأول عنده هو (المتواتر) ، ولا الثاني هو (الآحاد) عندهم. ومن ثم فليس حكم (خبر العامة عن العامة) هو حكم (المواتر) ، ولا حم (خبر الخاصة) هو حكم (خبر الآحاد) نفسه عن الأصوليين! لكن الحكم سوف نعود إليه مستقبلاً بالتفصيل، ويهمنا هنا معرفة التقسيم الذي كان يرد في كلام الشافعي، ما هو؟ لأنه هو التقسيم الذي كان معتبراً عند علماء الأمة في أزهى عصورها وأقواها تمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) انظر (ص 149 - 158) .

لكن تأكيداً لما سبق، من أن تقسم الإمام الشافعي ليس هو تقسيم الأصوليين، ومدخلاً لبيان تقسيم الشافعي وشرحه = أقول: إنه إن بقي من يزعم أن (خبر العامة) عند الشافعي هو (المتواتر) ، بعد هذا كله، فما عليه إن أتم النظر فيما يلي: هذا الإمام أحمد بن أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ) ، الذي نصر المذهب الشافعي بما لم ينصره أحد مثله، حتى قيل: ((ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منه، إلا البيهقي؛ فإنه له على الشافعي منه، لتصانيفه في نصرته لمذهبه واقاويله)) (¬1) . هذا الإمام الذي هو أولى الناس بمعرفة أقوال الشافعي وفهماها، نقل عن إمامه (الشافعي) تقسيمه الأخبار إلى (خبر عامة) و (خبر خاصة) ، وذلك في مقدمة كتابه (دلائل النبوة) (¬2) . وبعد هذال النقل، وفي هذه المقدمة ذاتها، يقول البيهقي: ((ومما يجب معرفته في هذا الباب: أن تعلم أن (الأخبار الخاصة) المروية على ثلاثة أنواع: نوع اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، وهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون مروياً من أوجهٍ كثيرةٍ، وطرق شتى، حتى دخل في حد الاشتهار، وبعد من توهم الخطأ فيه، أو تواطؤ الرواية على الكذب فيه. ¬

(¬1) طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4 / 10- 11) . (¬2) دلائل النبوة للبيهقي (1 / 22) .

فهذا الضرب من الحديث يحصل به العلم المكتسب، وذلك مثل الأحاديث التي رويت في القدر والرؤية والحوض ... (إلى أن قال:) والضرب الثاني: أن يكون مروياً من جهة (الآحاد) ، ويكون مستعملاً في الدعوات والترغيب والترهيب والأحكام..)) (¬1) . فانظر ـ حفظك الله ـ كيف قسم (أخبار الخاصة) : إلى ما يسمى بـ (المتواتر) ، وما سماه هو بـ (الآحاد) ؛ فـ (خبر الخاصة) عنده شامل لكلا القسمين ‍‍‍‍ ولن أدخل في مناقشة هذا التقسيم الآن، وبيان منزعه القائد إليه، فهذا مما سيأتي ـ إن شاء ربي ـ ذكره (¬2) . لكن الغرض من ذكر هذا النقل عن البيهقي، حتى تعلم كيف فهم أئمة الشافعية كلام إمامهم. ولم يتفرد البيهقي دون بقية الشافعية بهذا الفهم لكلام إمامه، بل هو مسبوق إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير ‍ حيث إن تقسيم الشافعي (دون البيهقي) هو التقسيم الحديثي الحقيقي للسنن، وهو التقسيم الذي يوافقه عليه كل من له ممارسة لعلم الحديث، ممن لم يتأثر بذلك التقسيم الغريب على علوم السنة، النابع منت علمٍ دخيل على معارف الأمة وحضارتها. ولذلك تجد حافظاً من كبار أئمة الحديث ونقادهم، وهو شافعي معتز بشافعيته (¬3) أيضاً، وله علم واسع كذلك بـ (علم ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي (1 / 32) . (¬2) انظر (ص 199) . (¬3) انظر لمثل قوله في صحيحه (5 / 497 - 498عقب الحديث رقم 2125) : ((ولا يتوهمن متوهم أن الجمع بين الأخبار على حسب = ما جمعنا بينها في هذا النوع من أنواع السنن = يضاد قول الشافعي رحمه الله ورضوانه عليه، وذلك أن كل أصلٍ تكلمنا عليه في كتبنا، أو فرع استنبطناه من السنن في مصنفاتنا، هي كلها قول الشافعي، وهو راجع عما في كتبه، وإن كان ذلك المشهور من قوله. وذاك أني سمعت ابن خزيمة يقول: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا صح لكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به ودعوا قولي ... )) ـ إلى آخر كلامه وهو مهم.

الكلام) (¬1) ‍وهو ابن حبان (ت 354هـ) = يقول في مقدمة (صحيحه) : ((فأما الأخبار، فإنها كلها أخبار آحاد. لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين، روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما استحال هذا، وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد. وأن من تنكب عن قبول أخبار الأحاد، فقد عمد إلى ترك السنن كلها، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد)) (¬2) . ويوافق ابن حبان على ذلك إمام آخر، هو أيضاً من أئمة الحديث، ومن أئمة الشافعية، وهو أبو بكر محمد بين موسى الحازمي (ت584هـ) . حيث قال عقب نقله لكلام ابن حبان، في كتابه (شروط الأئمة الخمسة) : ((ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب)) (¬3) . ثم قال بعد ذلك: ((ثم الحديث الواحد لا يخلو إما أن يكون من قبيل التواتر، أو من قبيل الآحاد. وإثبات التواتر في الآحاد عسر ¬

(¬1) يقول عنه السيوطي في تدريب الراوي ((1/89) : ((كان عارفاً بالكلام والنحو والفلسفة ... )) . وأنا أشك في كلمة (النحو) ، فما أدخلها بين (اللكلام و (الفلسفة) ؟ ‍وأحسبها (والمنطق) . (¬2) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/156) . (¬3) شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 44) .

جداً، سيما على مذهب من لم يعبر العدد في تحديده. وأما الآحاد: فعند أكثر الفقهاء توجب العمل دون العلم، فلا تعويل على مذهب الكوفيين في ذلك، وقد ذهب بعض أهل الحديث على أنه يوجب العلم. وتفاصيل مذاهب الكل مذكورة في كتب أصول الفقه، وعلى الجملة فقد اتفقوا أنه لا يشترط في قبول الآحاد العدد قل أو كثر، والله أعلم)) (¬1) فانظر إلى هذا الكلام، ولا حظ مشاربه المختلفة، ودقق في ألفاظه لا ستخراج خفايا معانية. ثم وازنه بقول ابن الصلاح من بعد في (معرفة أنواع علم الحديث) عن المتواتر: ((ولا يكاد يوجد في رواياتهم.. ومن سئل عن إبراز مثالٍ لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه ... نعم، حديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) نراه مثالاً لذلك ... )) (¬2) . وهذا من ابن الصلاح بعد تقريره أن (المتواتر) من اصطلاحات أصول الفقه، ومن إضافات الأصوليين على علوم الحديث، كما سبق نقله عنه. بل يقول ابن أبي الدم الشافعي (ت 642هـ) : ((ومن رام من المحدثين وغيرهم ذكر حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم (متواتر) ، وجدت فيه شروط (المتواتر) الآتي ذكرها، فقد رام محالاً ... (ثم قال بعد ذكر شروط المتواتر (ومثل هذا لا يقع في الأحاديث النبوية)) (¬3) . ¬

(¬1) شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 50) . (¬2) انظر (ص 91، 94- 96) . (¬3) لقط اللآلىء المتناثرة للزبيدي (17، 19) ، وقد تحرف في مطبوع الكتاب كلام ابن أبي الدم هذا تحريفاً محيلاً، صوبته من نماذج صورة المخطوطة في مقدمة تحقيق الكتاب ‍‍‍

وقبل هؤلاء كلهم، ذكرنا فيما سبق كلاماً نفيساً للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، منقولاً من كتابه (الرد على بشر بن غياث المريسي) . وكان ذلك الكلام عبارة ً عن مناظرةٍ بين الدارمي والمريسي، حول تقسيم المريسي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى مفيدٍ للعلم وغير مفيدٍ له، وأن المريسي لا يحتج إلا بالقسم الأول: المفيد للعلم، وهو (المتواتر) . فقال الدارمي له أثناء رده عليه: ((قد أبطلت بدعواك هذه جميع الآثار التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما احتججت منها لضلالك، وما لم تحتج)) (¬1) ‍‍ لقد صرح المريسي بأنه يحتج بـ (المتواتر) ، فلم يكون قوله هذا مبطلاً إلا حتجاج بالأحاديث كلها؟ ‍‍ الجواب عن هذا السؤال: هو لأن (المتواتر) صورة خيالية، لا وجود لها في واقع الروايات الحديثية. ومعنى ذلك: أن جميع الأحاديث النبوية ليست إلا (أخبار آحاد) ، وليس فيها (خبر متواتر) . لذلك كان القول بعدم الاحتجاج إلا بـ (المتواتر) مبطلاً الاحتجاج بالأحاديث كلها، لأنه ليس في الأحاديث كلها خبر (متواتر) أصلاً ‍‍‍ ثم بعد هؤلاء كلهم يقول الحافظ ابن حجر (أحمد بن علي بن محمد الكناني، العسقلاني أصلاً المصري، المتوفى سنة 852هـ) في كتابه (نزهة النظر) ، بعد ذكره لكلام ابن الصلاح الآنف الذكر: ((وما ادعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم. لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤوا ¬

(¬1) انظر (ص 98، 111، 117) .

على الكذب أو يحصل منهم اتفاقاً ... )) (¬1) . ثم ذكر الحافظ دليله على إمكان وجود (المتواتر) وجود كثرة، فيما يقوله هو ‍ فما أدري ‍هل يوصف الدارمي وابن حبان والحازمي وابن الصلاح وابن أبي الدم بقلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال؟ ‍‍‍ ولن أدخل بين هؤلاء الإمام الشافعي، الذي رفض (المتواتر) ونقض شروطه ‍‍ بالله عليك أنصف ‍‍ ثم الحافظ ابن حجر هو القائل قبيل كلامه السابق في (نزهة النظر) : ((وإنما أبهمت شروط التواتر في الأصل (يعني النخبة) ، لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد. إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه، ليعمل به أو يترك، من حيث: صفات الرجال، وصيغ الأداء. والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل يجب العمل به من غير بحث)) (¬2) . فأولاً: الحافظ نفسه يعترف أن (المتواتر) ليس من مباحث (علم الإسناد) ، و (علم الإسناد) هو علم الحديث و (مصطلح أهل الأثر) الذي صنف له الحافظ كتابه (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) . فهذا قول جديد لإمام آخر ينص فيه على أن تقسيم الأحاديث إلى (متواتر) و (آحاد) ليس من عمل المحدثين، ولا ألقاب هذا التقسيم من مصطلحاتهم ‍ ¬

(¬1) نزهة النظر (ص 61) . (¬2) نزهة النظر (ص 60) .

وثانياً: ينص الحافظ أيضاً أن (المتواتر) لا علاقة له بالأسانيد ولا بأحوال الرجال، وهو كذلك عند الأصوليين أيضاً ز فهل يصح بعد ذلك تفسيره لسبب قول ابن الصلاح بعزة (المتواتر) ولقول ابن حبان وغيره بعدم وجوده، بأنه ناشئ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم؟ ‍‍ لقد قرر الحافظ فيما سبق أنه لا علاقة لـ (المتواتر) بالطرق وأحوال رواتها، بل قرر قبل ذلك أن ((العلم بالتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر، كالعامي)) (¬1) ، فكيف يكون قول أولئك الأئمة ممن نفى وجود (المتواتر) ناشئاً عن قلة الاطلاع على الطرق وأحوال الرواة؟ ‍‍سلمنا أنهم كذلك ‍فهل ينزلون عن درجة (العامي) ؟ ‍‍‍ ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر أحد تلامذته، وهو قاسم بن قطلوبغا (ت789هـ) في حاشيته على (نخبة الفكر) ، المسماة (القول المبتكر على شرح نخبة الفكر) ، فقال: ((تقدم أن (التواتر) ليس من مباحث علم الإسناد، وأنه لا يبحث عن رجاله؛ وحينئذٍ فلو سلم قلة اطلاع من ذكرهم المصنف على أحوال الرجال وصفاتهم لم يوجب ما ذكره)) (¬2) . ثم لم اطلع السخاوي (محمد بن عبد الرحمن بن محمد القاهري الشافعي، المتوفى سنة 902هـ)) على هذا الانتقاد لكلام شيخه الحافظ ابن حجر، أجاب بجواب ضعيف، يعود بالنقض على شيخه أيضاً، وعلى عامة الأئمة قبله كذلك‍‍‍ قال السخاوي في (فتح المغيث) : ((وقد توقف بعض ¬

(¬1) نزهة النظر (ص 59) . (¬2) ححاشية ابن قطلوبغا (ص 25) ، وااليواقيت والدرر للمناوي (1/145) .

الآخذين عنه من الحنفية، في أول مقالته هذه، مع ما سلف من أنه لا دخل لصفات الخبرين في (المتواتر) . وهو واضح الاليام، فما هنا بالنظر إلى كون أهل هذه الطبقة مثلاً تبعد العادة لجلالتهم تواطؤ ثلاثةٍ منهم على الكذب أو الغلط، وكون غيرها لا نحطاط أهلها عن هؤلاء لا يحصل ذلك إلا بعشرةٍ مثلاً، وغيرها لعدم اتصفاف أهلها بالعدالة وعرفتهم بالفسق ونحوه لا يحصل إلا بمزيد كثيرٍ من العدد. نعم يمكن بالنظر لما أشرت إليه أن يكون المتواتر من مباحثنا)) (¬1) . رأيت؟ ‍عاد به الأمر إلى أن (المتواتر) من مباحث علم الإسناد‍‍‍ مع أن السخاوي نفسه قال قبل ذلك في (فتح المغيث) عن (المتواتر) : ((وليس من مباحث هذا الفن، فإنه لا يبحث عن رجاله، لكونه لا دخل لصفات المخبرين فيه)) (¬2) ‍‍. والسخاوي نفسه أيضاً قال في (الغاية شرح الهداية) : ((إذا علم هذا، فإنما لم يفرد ابن الصلاح لـ (المتواتر) نوعاً خاصاً، لأنه ليس من مباحث الإسناد ... )) (¬3) ‍. وقال السخاوي نفسه أخيراً في كتابه (التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن في علم الأثر) : ((وليس (التواتر) المعروف في الفقه وأصوله من مباحثنا)) (¬4) . فانظر ـ رعاك الله ـ إلى تدرج أثر أصول الفقه على مصنفات علوم الحديث، عبر العصور، وعلى الإمام الواحد أيضاً‍‍‍ ولست أريد الدخول في معمعة التعقبات على الحافظ ابن حجر، والردود عليها، والردود على هذه الردود، الواردة في حواشي (النزهة) وشروحها، وفي كتب علوم الحديث المتأخرة عن الحافظ ابن حجر، حول هذه المسألة. لكني اكتفيت بما يدل على أن (المتواتر) ليس من مباحث علوم الحديث، ولا وجود له في واقع الروايات الحديثية. وذلك قادني إلى ذكر كلام الحافظ ابن حجر الآنف الذكر، وإلى ما نقلته عن كلامه من تعقب ورد. غير أننا استفدنا من ذلك فائدةً بينةً، وهي تعمق أثر أصول الفقه على ¬

(¬1) فتح المغيث للسخاوي (4 / 20) . (¬2) فتح المغيث للسخاوي (4 /14) . (¬3) الغاية شرح الهداية للسخاوي (1/232) . (¬4) التوضيح الأبهر للسخاوي (ص 18) .

مصنفات علوم الحديث، عبر العصور المتلاحقة. ونعود الآن إلى التقسيم الذي وعدنا ببيانه. إذن: ما هو التقسيم الذي ذكره الإمام الشافعي، والذي يرضاه المحدثون ولا يردونه؟ لقد قسم الإمام الشافعي (السنة) إلى قسمين، هما: الأول: السنة المجتمع عليها، وهي نقل العامة عن العامة، جيلاً بعد جيل وأمةً بعد أمة. من أمثال: عدد ركعات الفروض، وأوقات الصلوات إجمالاً، ونحو ذلك من جمل الفرائض وغيرها. فهذا وأمثاله، مما لم يرد في كتاب الله تعالى، هو القسم الأول من السنن. وهو أعلى من (الإجماع) ، إذ (الإجماع) هو: اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمرٍ من أمور الدين بعد وفاته (¬1) . ¬

(¬1) انظر جمع الجوامع لابن السبكي (1/177) .

وأما (خبر العامة عن العامة) فهو إجماع على إجماع ‍ ثم هو أيضاً غير (الإجماع) ، لأنه أعلى منه أولاً، ولأن الإجماع لا يجوز الجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم دائماً (¬1) ، أما (خبر العامة عن العامة) فهو (سنة مجتمع عليها) . ثم أيضاً قد فرق بينهما الإمام الشافعي، وهو صاحب هذا التقسيم (¬2) . وبعبارة أخرى: كل (خبر عامة عن عامة) (إجماع) من وجه، وليس كل (إجماع) (خبر عامة عن عامة) . ثم هذا القسم من السنن ليس هو من عمل المحدثين، ولا من متعلقات علمهم، ولا هو الذي نقله حملة الآثار؛ فهذا تنقله الأمة جيلاً بعد جيل. بل هذا القسم لا يختص به العلماء دون العامة من العقلاء، فيستوي في العلم به جميعهم. كما سبق أن نقلنا عن الشافعي قوله: ((علم العامة: على ما وصفت، لا تلقى أحداً من المسلمين إلا وجدت علمه عنده، ولا يرد منها أحدً شيئاً على أحدٍ فيه..)) (¬3) . لذلك فليس هذا القسم قسماً من أقسام الأحاديث المسندة، ولا يحوز هذا القسم جزءاً من الأحاديث الموجودة في دواوين السنة، ولا يصح أن نقسم الآثار المروية بالأسانيد إلى (خبرعامة) و (خبر خاصة) . (2) ولا تظنن أن الشافعي قسم الأحاديث المسندة إلى (خبر عامة) و (خبر خاصة) ، إنما قسم الحجة الشرعية إلى أقسام، كان منها القسم الأول الذي ذكر فيه: كتاب الله، و (خبر العامة عن ¬

(¬1) ، انظر الرسالة للشافعي (رقم 1309- 1311) . (¬2) انظر الرسالة للشافعي (رقم 1328- 1331) . (¬3) جماع العلم للشافعي (رقم 172) .

العامة) . (¬1) وبذلك يفترق (خبر العامة) عن (المتواتر) عند الأصوليين، بوجه آخر. فـ (المتواتر) عندهم يقتسم مع (خبر الآحاد) الأحاديث المسندة في كتب السنة، وليس كذلك (خبر العامة) ، كما قدمنا ذكره. ومن لازم ذلك: أن لا تقول: ((إن هذا الحديث (خبر عامة) لأنه رواه كذا من الصحابة وأخرجه فلان وفلان)) ؛ لأنه لو لم يروه فلان وفلان، فقد تناقلته الأمة. وأنت بقولك ((رواه فلان وفلان)) على (خبر العامة) ، كمن يثبت البحر أمامه بغرفاتٍ منه ‍‍ ولا أقول إن إخراج الأحاديث التي فيها ما ثبت بـ (خبر العامة) لا فائدة فيه؛ لكنك لا تخالفني في أن عقد باب ـ مثلاً ـ في: إثبات أن صلاة المغرب بين العصر والعشاء = أنه لا فائدة من هذا التبويب ‍لكن الفائدة تحصل بما في الأحاديث التي فيه من الفوائد والأحكام الأخرى. ومن ذلك كله، تعلم لم قال ابن حبان: ((إن الأخبار كلها أخبار آحاد)) ، لأنه لا قسيم لها في الدواوين المسندة ‍‍‍ ومن لازم هذا كله أيضاً: أنه لا يوجد حديث من (خبر العامة) منقول بألفاظه وحروفه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‍‍ نعم.. ولا حديث ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ‍ لكن تحريم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (خبر عامةٍ عن عامة) ، ¬

(¬1) ر الرسالة للشافعي (رقم 1256- 1261-1328- 1330، 961- 971) .

لأنه مما تناقلته الأمة جيلاً بعد جيل، يستوي في العلم بذلك عالمهم وعاميهم. فيقال لي: إذن رجعت إلى أن (المتواتر المعنوي) هو (خبر العامة) عن العامة) . فأقول: كلا، بل بعض (المتواتر المعنوي) من (خبر العامة عن العامة) ، وبعضه ليس منه. فليس (المتواتر المعنوي) هو (خبر العامة عن العامة) ، وإلا لو كان هو لتطابق. والدليل على أن بعض (المتواتر المعنوي) لا يدخل في حد (خبر العامة عن العامة) ، هو: أولاً أنهم يتوسعون في (المتواتر المعنوي) توسعاً يدل على أنه عندهم غير (خبر العامة عن العامة) (¬1) ، بل ربما ذكروا ما اختلف في وضعه وكذبه أنه (متواتر تواتراً معنوياً) (¬2) . ولم يكن هذا عن خطأ منهم في التمثيل، لا يتناول التقعيد. بل هذا هو (المتواتر المعنوي) عندهم، تقعديداً وتأصيلاً، بالدليل التالي: وثانياً: أنهم ذكروا (المتواتر المعنوي) في مقابل (المتواتر اللفظي) ، وذكروا لهما الشروط نفسها والتعريف نفسه. فلو روى أربعة عندهم حديثاً بألفاظٍ مختلفة ومعنى واحدٍ، واستحال تواطؤهم على الكذب، ونقل إلينا خبرهم في جميع الطبقات على ما وصفنا = فهذا عندهم (متواتر المعنى) ؛ وهذا عندنا ليس هو (خبر العامة عن العامة) . ¬

(¬1) من أمثلة: صلاة الضحى والترغيب فيها، والسجود في المفصل، وسجود الشكر، ودخول أطفال المسلمين الجنة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قليلً الكل وأنه كان إذا تغذى لا يتعشى وأنه ربما طوى أياماً = انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم 88، 89، 90، 105، 161) . (¬2) من أمثلته: وجود الأبدال = انظر نظم المتناثر للكتاني (رقم 279) .

فليس (المتواتر المعنوي) هو (خبر العامة عن العامة) ، هذا شيء وذاك شيء آخر. إذن فـ (السنة المجتمع عليها) أو (خبر العامة عن العامة) هو القسم الأول من أقسام (السنن) ؛ كذا بإطلاق (السنة) ، بلا قيد (المسندة) . فإن قيدتها بإنها (السنن المسندة) فليس (خبر العامة) قسماً من أقسامها، كما تقدم. أما القسم الثاني (عند المحدثين كما ذكره الشافعي) : فهو (خبر الخاصة) وهو (الآحاد) ، وهو كل ما سوى (خبر العامة عن العامة) ، وهو ـ أيضاً ـ كل الأ×بار المسندة بألفاظها، وكل الآثار المروية بحروفها. ومن (خبر الخاصة) : ما يرويه الواحد، وما يرويه الاثنان، والثلاثة، والعشرة.. والمائة ‍مثل حديث ((من كذب علي متعمداً..)) ‍فمن (خبر الخاصة) : (الفرد) ، و (الغريب) ، و (العزيز) ، و (المشهور) ، و (المستفيض) ، بل و (المتواتر) عند عامة الأصوليين والمصنفين في علوم الحديث، وكما قدمناه من تفسير البيهقي لـ (خبر الخاصة) (¬1) ‍‍ ولذلك قال ابن حبان عبارته القاطعة: ((إن الأخبار كلها أخبار آحاد)) (¬2) ‍ هذا هو التقسيم الذي ذكره الإمام الشافعي، والذي لا يخالفه عليه المحدثون ولا غيرهم، لأنه مما لا يختلف أحد على اعتباره منطوقاً أو ضمناً ‍‍ وكان يكفي ذكر هذا المبحث الطويل، حول تقسيم ¬

(¬1) انظر (ص 119 - 120) . (¬2) انظر (ص 121) .

الأحاديث إلى (متواتر) و (آحاد) ، لبيان أثر اصول الفقه على علوم الحديث، ولإظهار كيف تدرج هذا التأثير، حتى طغى على كلام أهل الفن (المحدثين) ، فردت أقوال، وتؤولت أخرى، ونزل كلام على غير مراد قائله؛ حتى انطمست ـ أو كادت ـ معالم الحق والصواب ‍‍‍ لكن بعد تقرير التقسيم الآنف الذكر ـ وهو التقسيم الذي رضيه المحدثون ـ تبين أن كل الأحاديث المسندة (أخبار آحاد) . و (خبر الواحد) العدل عند الأصوليين لا يفيد ـ بذاته ـ إلا الظن، فهل هذا الحكم لـ (خبر الواحد) هو نفسه حكم المحدثين عليه أيضاً؟ لذلك كان واجباً علي بيان حكم (خبر الواحد) العدل عند المحدثين. فأقول: أولاً: لست أريد استيعاب كل ما يتعلق بهذه المسألة، فهذا أمر عظيم، لكنه ليس بحثي. لذلك فسأتجوز في هذه المسألة ما استطعت ذلك. وثانياً: أنه مع أن الأحاديث النبوية عند أهل الحديث قسم واحد، فكلها (خبر آحاد) ، كما سبق تقريره = إلا أن المحدثين أعرف الناس بتفاوت مراتبها في الصحة، وأدراهم باختلاف درجاتها في القوة، وألحظهم لدقيق فروق ثبوتها. ولهم في ذلك صولات وجولات، لها في علمهم ساحات مباركات، لا تخفى على من نخاطبه ويدري الخطاب ‍ لكن عدم اعتبار المحدثين لهذا التفاوت ولتلك الفروق في درجات الصحة والقوة مسوغاً لتقسيم الأحاديث على أساسه، يدل دلالةً واضحةً على أن تلك الفروق في درجات الثبوت لم تبلغ درجة التأثير على حجية الأخبار، فجميعها يشملها حكم واحد

يستفاد منها، لكن تتفاوت مراتب هذا الحكم الواحد. وعندها نقول: إذا استفاد اليقين و (العلم) من بعض الأحاديث النبوية المتكلمون والجهلاء بالسنة وبعض من أعدائها وبعض من تأثر بهم ‍في مثل ما أسموه بـ (المتواتر) وهو عند المحدثين من (الآحاد) ، وفي بعض (الآحاد) أيضاً إذا احتفت به القرائن عند المحققين في أصول الفقه (¬1) = إذا استفادوا (العلم) من بعضها، فالمحدثون الذين هم حملة الآثار وأمناء الوحي وورثة النبوة أولى بما يربو على ذلك ويزيد ‍‍ فكل ما يفيد (العلم) عند الأصوليين يفيده عند المحدثين من باب أولى. لكن بقي ما قال الأصوليون إنه يفيد (الظن الموجب للعمل دون العلم) بذاته، وهو (الآحاد) عندهم. غير أن المحققين منهم قالوا بإفادة (الآحاد) لـ (العلم) إذا احتفت به قرائن تقوية، و (العلم) حينها نظري عندهم، كما سبق آنفاً. فنقول لهم: رضينا بهذا القدر منكم، فاثبتوا عليه ‍ والحمد لله أن الأصوليين لم يتدخلوا في تحديق القرائن؛ إنما ضربوا أمثلةً عليها ¬

(¬1) انظر العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الحنبلي (3/900- 901) ، والبرهان لجويني (1/576 - 577، 578 رقم 504، 507) ، وشرح اللمع للشيرازي (رقم 669) ، وإحكام الفصول للباجي (329 - 330رقم 298) ، والإحكام للآمدي (2/48- 49) ، وروضة الناظر لابن قدامة (1/363 - 364) ، وشرح مختصر الروضة للطوفي (2/83- 84، 108) ، والبحر المحيط للزركشي (4/263 - 266) ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (2/ 348 - 352) ، وتيسير التحرير لأمير بادشاه (3/76) ، وإرشاد الفحول للشوكاني (94- 95) ، وغيرها.

‍ قال بدر الدين الزركشي (محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، المتوفى سنة 794هـ) في كتابه (البحر المحيط في أصول الفقه) : ((لم يتعرضوا لضابط القرائن، وقال المازري: لا يمكن أن يشار إليها بعبارة تضبطها. قلت (القائل الزركشي) : ويمكن أن يقال: هي ما لا يبقى معها احتمال، وتسكن النفس عنده، مثل مكونها إلى الخبر المتواتر أو قريباً منه)) (¬1) . قلت: وكل هذا يرضاه المحدثون من الأصوليين ‍ فإن صحح المحدثون حديثاً، مما تفرد بروايته راوٍ واحد، وهم (أعني المحدثين) أهل هذه الصنعة، وأعرف الناس بقواعدها وجزئياتها، وأخبرهم بأصولها وفروعها؛ ثم تصحيحهم ذلك الحديث معناه أنه انتفت عنه كل: العلل الظاهرة (من طعن في الرواة أو سقط في الإسناد) والعلل الباطنة (من شذوذ وتفرد من لا يحتمل التفرد بمثل ما تفرد به) ، وقف عند العلل الباطنة، وقلب وجوهها ومعانيها عند المحدثين؛ لتعلم بعد ذلك كله، أنه إذا صحح المحدثون حديثاً (غريباً) (فرداً) = أنه أفاد العلم عندهم، لأنه استحال عندهم بعد النظر والاستدلال احتمال الكذب والغلط، ولاحت قرائن تفيد اليقين بذلك ‍‍ ولا يعترض على المحدثين: بأن الأصوليين أو الفقهاء (غير المحدثين) لا يستفيدون (العلم) من ذلك الخبر، لأن عدم استفادتهم منه (العلم) لا ينفي أن غيرهم ممن الشأن شأنهم والفن فنهم والعلم علمهم = قد استفاد منه العلم ‍‍ ولئن كان (المتواتر) منه ما هو عام يعرفه العامة، ومنه ما ¬

(¬1) البحر المحيط للزركشي (4/266) .

هو خاص لا يعرفه إلا الخاصة من أهل العلم (¬1) . فكذلك القرائن: منها ماه وعام يعرفها الأصوليون والمحدثون، ومنها ما هو خاص لا يعرفه إلا المحدثون. وما أشبه ذلك بـ (المتواتر) أيضاً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (علم الحديث) : ((وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم، لكونهم سمعوا ما لم يسمع به غيرهم، وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم)) (¬2) . يقول ابن قيم الجوزية في (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) : ((وكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوماً لغيرهم، فضلاً أن يتواتر عندهم= فأهل الحديث: لشدة عنايتهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله، يعلمون من ذلك علماً لا يكون فيه، مما لا شعور لغيرهم به البتة)) (¬3) . وكان قد قال (رحمه الله) قل ذلك: ((وخصومهم ـ يعني خصوم أهل الحديث ـ إما أن ينكروا حصول (العمل) لأنفسهم، أو لأهل الحديث. فإن أنكروا حصوله لأنفسهم، لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم. وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث، كانوا مكابرين لهم على ما يعملونه من نفوسهم، بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه وخوفه وحبه. والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق فيها فائدة، وينبغي العدول إلى ما أمر الله به رسوله من المباهلة)) (¬4) ‍‍ ¬

(¬1) علم الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية (119، 157) . (¬2) علم الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية (158) . (¬3) مختصر الصواعق المرسلة (ص 537) . ... (¬4) مختصر الصواعق المرسلة (ص 525 - 526) .

واسمع الإمام مسلماً وهو يقول في كتابه (التمييز) : ((واعلم ـ رحمك الله ـ أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفون بها دون غيرهم. إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا. فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى: معرفة الحديث، ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار من نقال الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم، حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح)) (¬1) . ثم قف على هذا الفصل النوراني، وسأنقله لك على طوله من كلام الإمام أبي المظفر منصور بن محمد التميمي السمعاني الشافعي (ت 489هـ) . يقول (رحمه الله) في كتابه (الانتصار لأهل السنة) : ((واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن وللتجوز فيه مدخل، ولكن هذا الذي قلناه (يعني من إفادة خبر الواحد للعلم) لا يناله أحد، إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة النقلة والرواة، ليقف على رسوخهم في هذا العلم، وكنه معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر، والبحث عن أحوال الرواة، والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها. ولقد كانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمةٍ واحدةٍ يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم. وكانوا في صدق العناية ¬

(¬1) التمييز لمسلم (ص 218) .

والاهتمام بهذا الشأن: ما يجل عن الوصف، ويقصر دونه الذكر. وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه. والذي يزيد ما قلنا إيضاحاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬1) ، فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، وليس طريق معرفته إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنازعوا الأمر أهله)) (¬2) ، بكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوةً في هذه الأمة إلى أهل الققه، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، وفي النحو إلى أهل النحو= كذا يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل، لأنهم عنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله، ولولاهم لا ندرس علم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أحد على سنته وطريقته! فإن قالوا: فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلط عليهم؟ قلنا: ما اختلط إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير، فيميزون زيوفها، ¬

(¬1) حديث إسناده ضعيف بهذه الزيادة. (¬2) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (رقم 2641) ، وغيره من طريق عبد الرحمن بن زياد الإفريقي: وهو ضعيف. ويغني عنه حديث العرباض بن سارية ـ مرفوعاً ـ: ((وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلافاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ)) . وهو حديث صحيح، أنظر إرواء الغليل للألباني (رقم 2455) .

ويأخذون جيادها. ولئن دخل في أغمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة الحديث ورتوت (¬1) . العلماء، حتى إنهم عدوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون. بل تراهم يعدون على كل واحدٍ منهم في كم حديث غلط، وفي كم حرفٍ حرف، وماذا صحف. (إلى أن قال:) فتدبر ـ رحمك الله ـ أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار النبي صلى الله عليه وسلم شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ؛ واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان موضع التهمة، ولم يحابه في مقال ولا خطاب، غضباً لله، وحميةً لدينه؛ ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين: أسمائهم وأنسابهم، وقدر أعمارهم، وذكر أصارهم، وشمائلهم وأخبارهم؛ وفصل بين الرديء والجيد، والصحيح والسقيم، حباً لله ورسوله، وغيرةً على الإسلام والسنة؛ ثم استعمل آثاره كلها، حتى فيما عدا العبادات، من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه، وجميع سيرته وسننه، حتى في خطواته ولحظاته؛ ثم دعا الناس إلى ذلك، وحثهم عليه، وندبهم إلى استعماله، وحبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه، حتى في بذلك ماله ونفسه = كمن أفنى عمره في أتباع أهوائه وآرائه وخواطره وهواجسه؟!!! (¬2)) . إذن فالأصل في (خبر الآحاد) الذي يصححه المحدثون أنه يفيد (العلم) عندهم، لأن تصحيح الحديث يقتضي عندهم: ادتماع غلبة الظن بصدق الخبر، مع قرائن إثباته. لأن غلبة ¬

(¬1) الرت: الرئيس، وجمعه: رتون. انظر القاموس المحيط ـ رت ـ (194) . (¬2) الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي (2 / 221 - 223، 234- 235) ، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (ص 561- 562) .

الظن تحصل بمجرد صحة السند، أي بانتفاء العلل الظاهرة. أما انتفاء العلل الباطنة، فهو قرائن الإثبات وعلامات مطابقة الخبر لواقع الحال، وهو (العلم) . إذا علمت ذلك، بعد قراءتك كلام أبي المظفر السمعاني الآنف الذكر، فلا بد أنك توافقه وتوافقني في أن المرجع في تمييز الثابت من المشكوك فيه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هم المحدثون، وأنهم القضاة الذين يحتكم إليهم في ذلك، وأنه لا يحق لمن ليس منهم أن ينازعهم شأنهم وأمرهم. فإن قفلت: فما القول فيما لو اختلفوا في تصحيح حديث، فضعفه بعضهم وصححه آخرون؟ قلت: كما لو اختلف الفقهاء! فإن كنت من أهل فنهم، وتفقه أصوله وضوابطه، ومارست علومه ودقائقه؛ فارجع إلى حجة كل، ووازن، فلعلك تخرج بيقين، وترى الشمس كما رآها بعض من سبقك. أما إن لم تكن ممن يفهم هذا العلم، فاتبع، أو قلد، واختر في ذلك أعلمهم علماً وأتقاهم ديناً!! المهم في ذلك، أن لا يكون اختلافهم دليلاً عندك على عدم استفادتهم العلم من صحيح (خبر الآحاد) ، كما لم يكن اختلافهم في تواتر خبر دليلاً على عدم إفادة (المتواتر) للعلم. ((وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا، وجهلنا إن جهلنا، حجة على وجوب ضياع الدين. بل الحق ثابت معروف عند طائفة، وإن جهلته أخرى، والباطل كذلك أيضاً. كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضاً، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)) (¬1) . ولئن كنا آنفاً نقلنا لك كلاماً نورانياً، فسننقل لك الآن ¬

(¬1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1 / 137) .

كلاماً على ضده، لتعلم أنه (من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب) ، وإن كان إماماً في فنه علماً في علمه ‍ يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في (البرهان) : ((ذهبت الحشوية من الحنابلة، وكتبة الحديث: إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم. وهذا خزي، لا يخفى مدركه على ذي لب. فنقول لهؤلاء: أتجوزون أن يزل العدل الذي وصفتموه ويخطىء؟ فإن قالوا: لا، كان ذلك بهتاً، وهتكاً وخرقاً لحجاب الهيبة، ولا حاجة إلى مزيد البيان فيه. والقول القريب فيه: أنه قد زل من الرواة الإثبات جمع لا يعدون كثرةً. ولو لم يكن الغلط متصوراً، لما رجع راوٍ عن روايته، والأمر بخلاف ما تخيلوه. فإذا تبين إمكان الخطأ، فالقطع بالصدق مع ذلك محال. ثم هذا في العدل في علم الله تعالى، ونحن لا نقطع بعدالة واحد، بل يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر. ولا متعلق إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع)) (¬1) . هذا كلام الجويني كاملاً بنصه. ويكفي كلامه هذا ضعفاً، أن مثلي (في ضعفه) يرد على مثله (في إمامته وجلالته في الفقه وأصوله) ‍‍‍ أما نبزة للحنابلة بـ (الحشوية) ، فـ (شنشنة نعرفها من أخزم) ، ¬

(¬1) البرهان للجويني (1/606- 607 رقم 545) .

وما كان لمثله أن نعرفه بها. لكنه تاب (رحمه الله) ، ومن تاب تاب الله عليه ‍‍‍ وأما قوله: ((إن خبر الواحد العدل يوجب العلم)) نقلاً عن المحدثين، فليس هذا قولهم مطلقاً، ومن هنا أتي ودخل عليه الداخل فالمحدثون يستفيدون (العلم) مما صح عندهم من (خبر الواحد العدل) ، كما تقدم. والصحيح عندهم: ما اجتمع فيه أمران: الأول: غلبة الظن بصدق الخبر، بثقة الناقلين واتصال السند بالخبر؛ والثاني: قرائن مفيدة العلم، وهي انتفاء الشذوذ وجميع العلل الخفية القادحة. وقد سبق ذكر ذلك، وأنه أحد خصائص من فقه في علمهم، ووفقه الله تعالى للتقوى والعمل. وقد سبق عن محققي الأصوليين، ومنهم إمام الحرمين: أن خبر الواحد يمكن أن يفيد العلم بالقرائن الشاهدة على صدقه (¬1) فماذا ينكر إمام الحرمين من استفادة المحدثين للعلم من خبر الواحد المحتف بما يقوية؟ ‍‍‍ وعدم استفادة الأصوليين وغير المحدثين للعلم من قرائن استفاد المحدثون منها العلم، ليس دليلاً على عدم استفادة العلم من تلك القرائن مطلقاً. بل ليس أمراً مستنكراً ولا مستغرباً، بل هو المعروف المألوف، أن كل مختص بفن أعرف من غيره به، فـ (صاحب البيت أدرى بما فيه.. فلام النزاع؟ ‍ وقد قرر الأصوليون ذلك (¬2) ¬

(¬1) انظر البرهان للجويني (رقم 405، 507) ، وانظر ما سبق (ص 133) . (¬2) انظر روضة الناظر لابن قدامة ـ وحاشية تحقيقه ـ (1/353- 355) ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار ـ وحاشية تحقيقه (2/335-336) ، وشرح مختصر الروضة للطوفي (2/83-84) وتيسير التحرير لأمير بادشاه (3/35) .

يقول الآمدي في (الإحكام في أصول الأحكام) : ((وبتقدير اتحاد الواقعة وقرائنها، لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر، لتفاوتهم في قوة الإدراك والفهم للقرائن. إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً: حتى إن منهم من له قوة فهم أدق المعاني واغمضها في أدنى دقيقة من غير كذ ولا تعب، ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا يدرك له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع اجد والاجتهاد في ذلك، ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين؛ وهذا أمر واضح لا مراء فيه)) (¬1) . ولعمري! إن مثل المحدثين وأهل الكلام مثل الأول والثاني في مقالة الآمدي المتقدمة!!! وقد كان المحدثون وأئمة النقد منهم دائمي التصريح بأن خفايا علمهم ودقائق فنهم لا تبلغها كثير من الأفهام، ولا تعقلها غالب العقول. يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ) : ((معرفة الحديث إلهام)) (¬2) . ويقول أيضاً: ((إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة)) (¬3) . ويقول أبو داود في (رسالته إلى أهل مكة) : ((وربما أتوقف عن مثل هذه ـ يعني إبراز العلل ـ لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب ¬

(¬1) الإحكام للىمدي (2/42) . (¬2) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (113) . (¬3) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9) .

الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا)) (¬1) . ثم قال ابن مندة (أبو عبد الله محمد بن يحيى بن إبراهيم الأصبهاني الحافظ، المتوفى سنة 301هـ) : ((إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفراً يسيراً من كثيرٍ ممن يدعي علم الحديث، فأما سائر الناس: من يدعي كثرة كتابة الحديث، أو متفقه في علم الشافعي وأبي حنيفة ن أو متبع لكلام الحارث المحاسبي والجنيد وأهل الخواطر = فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحدث، إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته)) (¬2) . فالذي يظهر بعد كل هذا: أن محل النزاع لم يحرر بين الأصوليين والمحدثين! فالأصوليون فهموا أن المحدثين يقولون بإفادة خبر الواحد العدل العلم مطلقاً، ولا يقول ذل المحدثون؛ لكنهم يقولون: إن كل خبر صح عندنا فهو مفيد للعلم، والصحيح عندهم: خبر الواحد العدل المحتف بما يقويه من القرائن. لكن لجهل كثير من الأصوليين بعلم الحديث، ولعدم معرفة غالبهم بدقائق فنه، ظنوا أن المحدثين يكتفون بظاهر الإسناد، دون التدقيق في باطن علله، ودون نقد المتون (¬3) ! وهذا من خصائص علمهم التي لا يعلمها إلا العالمون!! وليس أدل على نفي ما نسبه الأصوليون للمحدثين، من القول بإفادة خبر الواحد العدل العلم مطلقاً: من تغليط المحدثين ¬

(¬1) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (31ـ 32) . (¬2) شرح العلل لابن رجب (1/339- 340) . (¬3) انظر كتاب (مقاييس نقد متون السنة) للدكتور مسفر غرم الله الدميني، وكتاب (اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً) للدكتور محمد لقمان السلفي.

للثاقات، وتوهيمهم العدول، وقولهم بشذوذ ما صح سنده أحياناً، وبتعليل ما ظاهره الثبوت أخرى، وترجح أحج المتعارضين من الأحاديث المقبولة كذلك! كل ذلك يكذب ما نسب إليهم، ويدفع ما ألصق عليهم!!! وهذا كله حق واضح، وقول ناصح، بحمد الله تعالى. لذلك فمن قلة الإنصاف إطلاق الأصوليين القول: ((بعدم إفادة خبر الواحد العدل العلم)) ، وإن جاء بعد ذلك تقييد هذا الأطلاق بصفقة: غير المحف بالقرائن الشاهدة على صدقه! فأولاً: لأن ذلك الحكم يوهم أنه هو الأصل الغالب في صحيح الأخبار، وليس كذلك بحمد الله تعالى. فالغالب في روايات العدول، عند المحدثين، الثبوت والصحة، بالقرائن الشاهدة على صدق خبرهم المشروحة سابقاً. وأخيراً: لأن استثناء الأصوليين من ذلك الحكم العام: ما احتفت به القرائن، جاء وكأنه استثناء منقطع!! بدليل اعراضهم على المحدثين استفادتهم العلم بتلك القرائن من خبر الواحد العدل!!! وثالثاً: حجة في العقائد والأحكام، عند السلف كلهم، وفيهم المحدثون. وخالف في ذلك كثير من الأصوليين، من الأشاعرة والماتريدية، فقالوا: هو حجة في الفروع دون الأصول. فأول ما يقال لهم: ومن فرق بين الأصول والفروع قبلكم؟! ومن إلى هذه البدعة سبقكم؟! وما ضابط الأصول والفروع عندكم؟!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية) على لسان أهل السنة والجماعة: ((قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره. قالوا: والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة = فهي باطلة عقلاً ... )) (¬1) ـ ثم أطال في رد ذلك ونقضه. ولابن قيم الجوزية فصل بديع في هذا المعنى، عقده في كتابه (الصواعق المرسلة) (¬2) ، حتم على كل مبتغٍ للحق في هذه المسألة أن يقرأه ويتدبره. فإذا احتج المخالف للسلف بخبر الواحد العدل غير المفيد للعلم في الأحكام دون العقائد، بناءً على التفريق بينهما، ثم تبين له أن هذا التفريق باطل، فلا فرق أصلاً، ولا ظابط له = استلزم ذلك احتجاجه بخبر الواحد العدل مطلقاً، في الأصول والفروع! خاصةً وأن مآل الأحكام العملية عقائد علمية، بتضمن الحكم خبراً عن الله تعالى: أن هذا الفعل يرضيه، وأن ذلك يسخطه (¬3) . وثاني ما يقال لهم: إن الإجماع من الصحابة والتابعين وتابعيهم منعقد على وجوب الأخذ بخبر الواحد العدل مطلقاً، في العقائد والأحكام، ولم يكونوا يوجبون في أحاديث العقائد إلا ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (5/87- 88 فما بعدها) . (¬2) مختصر الصواعق المرسلة (563 - 570) . (¬3) انظر المصدر السابق.

ما يوجبونه في أحاديث الأحكام من التثبت والتحري. قال ابن عبد البر (أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري الأندلسي، المتوفى سنة 463هـ) في كتابه (التمهيد) : ((والذي نقول به: إنه (يعني: خبر الواحد) يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء. وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جميع أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرنا)) (¬1) . وقال ابن قيم الجوزية في رده على من لم يحتج بخبر الآحاد في العقائد، في كتابه (الصواعق المرسلة) ، قال: ((وأما المقام الثامن: وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث، وإثبات صفات الرب تعالى بها. فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرةٍ بالمنقول؛ فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقها عنهم جميع التابعين، من أولهم إلى آخرهم ... )) (¬2) . إذن: فانعقد الإجماع، وانسد الباب، وقيل الحمد لله رب العالمين! ورابعاً: أن كثيراً من مصطلحات هذا الباب مصطلحات غريبة على علوم الحديث، لا يعرفها سلف المحدثين، ولا يرضاها متقدموهم. كما سبق في التقسيم ذاته إلى (متواتر) و (آحاد) ، من أن أهل الحديث لم يكونوا قائليه ولا قابليه. ¬

(¬1) التمهيد لابن عبد البر (1/8) ، والنظر (ص 202- 203) . (¬2) مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (577) .

فبالأحرى أن يكون ما تفرع عن هذا التقسيم، ن حكم كل قسم ٍ (مثلاً) ، غير داخلٍ في مصطلح القوم، ولا بالذي يرضونه. ومن هذه المصطلحات: (العلم: الضروري، والنظري) ، و (الظن الموجب للعمل دون العلم) = فهي علم غريب وألقاب متطفلة على علوم الحديث ومصطلحه. سال أبو بكر المروذي (أحمد بن محمد بن الحجاج، المتوفى سنة 275هـ) الإمام أحمد، قائلاً: ((ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً؟ قال: فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟!!)) (¬1) . بعدم الرضى الصريح هذا يجيب إمام أهل الحديث ومقدمهم على هذه الألقاب الدخيلة. وقد سبق أن المحدثين لا يجهلون أن (خبر الواحد) العدل بذاته لا يفيد اليقين، المستفاد مما احتفت به قرائن تقويه. لكن لما كان (خبر الواحد) العدل عند المحدثين حجة توجب الالتزام بطلبه وتصديق خبره مطلقاً، لم يروا هناك حاجةً إلى تلك الألقاب والتقسيمات، لأنه لا فائدة منها ولا طائل تحتها! وبعد أن لم يكن لتلك الألقاب وتقسيمها معنى، انظاف إلى ذلك أنها ألقاب سوء وأسماء شؤم على السنة النبوية! فكيف يقال عن الحجة الملزمة: (ظن) ؟! وما العمل الذي يوجبه ما لا يفيد حتى العلم به؟!!! وأضف إلى ذلك أن هذه الألقاب صدرت أول ما صدرت عن موردٍ مسموم، ونبعها مستنقع وخيم. فإنما خرجت (أولاً) ¬

(¬1) العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى الحنبلي (3/899) .

من فم جهمي، أو شفتي فيلسوف دهري. فما هي إلا نفثات ساحرٍ أثيم، أو فحيح ثعبان أرقم، أو وسوسة شيطان مارد= فمن يصغي لهؤلاء؟! أم من يقترب منهم؟!! ومن زعم أن الإمام الشافعي يقول: إن (خبر الواحد) العدل يفيد الظن الموجب للعمل دون العلم، فقد أخطأ عليه خطأ بيناً!! وسوف نقف مع الإمام الشافعي من هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى. أما الإمام أحمد الذي نقلنا عنه إنكاره لتلك الألقاب، فيقول: ((إذا كان الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً ونقله الثقات فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس)) (¬1) . وقال أيضاً: ((خبر الواحد صحيح إذا كان غسناده صحيحاً)) (¬2) . وقال أيضاً: ((من الناس من يحتج في رد خبر الواحد: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنع بقول ذي اليدين، وليس هذا شبيه ذاك، ذو اليدين أخبر بخلاف يقينه (أي: يقين النبي صلى الله عليه وسلم) . ونحن ليس عندنا علم نرده، وإنما هو علم يأتينا به)) (¬3) . انظر إلى أدب العبارة، وتعظيم الأثر، وشدة التسنن؛ في قوله عن (خبر الواحد) العدل: (سنة) ، و (صحيح) ، بل و (علم) ! أين هذا من قولهم: ظن يوجب عملاً ولا يوجب علماً؟!! ¬

(¬1) العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/859) . (¬2) العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/859) . (¬3) العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (3/860) .

ولا تقل: الخلاف لفظي! أولاً: لأنه ليس كل خلاف لفظي أمراً هيناً. فإن كان في هذا الخلاف اللفظي تعظيم للسنة وحفاظ على حرمتها، أو عدم تعظيم لها ولا حفاظ على حرمتها؛ فهل يكون الأمر هيناً؟! وثانياً: أن قولهم بأن (خبر الواحد) العدل ظني الثبوت، مهد لهم هذا اللفظ السيء أن هذا الخبر لا يثبت اليقينيات (العقائد) ! فالخلاف من هذا الوجه ليس لفظياً، بل هو حقيقي معنوي (¬1) !! أما الإمام الشافعي ودعوى قوله بإفادة (خبر الواحد) العدل للظن دون العلم، فغير صحيح عنه، بل هو خطأ بين عليه. وقد تعرض الإمام الشافعي لهذه المسألة في مواطن من كتبه، فسأنقلها لك، لنعرف حكم الشافعي وقوله فيها. قال الإمام الشافعي في (الرسالة) : ((فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك (حجة) ؟ قيل له إن شاء الله: نعم. فإن قال: أبن لي؟ قلنا: أما ما كان نص كتابٍ بين أو سنةٍ مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منها، ومن امتنع من قبوله استتيب. فأما ما كان من سنةٍ من خبر الخاصة، الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من ¬

(¬1) انظر البحر المحيط للزركشي (4/266) .

طريق الانفراد= فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله. ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك ـ إن كنت عالماً ـ أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم)) (¬1) . هذا أول تلك المواطن، وأقواها تمسكاً لمن نسب إلى الشافعي غير مراده. لكني أكمله بنقل آخر، ثم نتبعهما بالبيان. قال الإمام الشافعي في (الرسالة) أيضاً: ((العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر. فالإحاطة منه: ما كان نص حكم الله أو سنةٍ لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يشهد بهما فيما أحل أنه حلال، وفيما حرم أنه حرام. وهذا الذي لا يسع عندنا جهله ولا الشك فيه. وعلم الخاصة سنةً من خبر الخاصة، يعرفها العلماء، ولم يكلفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبر عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر. كما نقتل بشاهدين، وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلط)) (¬2) . ¬

(¬1) الرسالة للشافعي (ص 460- 461 رقم 1256- 1261) . (¬2) الرسالة للشافعي (ص 478- 479 رقم 1328- 1330) .

هذا كلام الشافعي، وله كلام في موطن آخر من (الرسالة) هذا يغني عنه (¬1) ، وله كلام في كتبه الأخرى عن هذه المسألة، سوف نذكره لك خلال بياننا لمعاني كلام الشافعي، إن شاء الله تعالى. فأول ما أنبهك عليه في فهمنا لكلام الشافعي، أن تترك إلفك العلمي السابق، وما اعتدته من مباحث هذه المسألة عن أصول الفقه. ورجائي هذا ليس فيه تحكم ولا مصادرة، لكن أنت معي أن أولى ما حمل عليه كلام امرىءٍ هو كلامه نفسه، وما يتضمنه من معاني ألفاظه؛ وأن التحكم الحق والمصادرة الواقعة هي صرف كلام الرجل عن ظاهره ليوافق كلاماً لآخر. كيف إذا كان الحال بين الرجلين متبايناً؟! والجهة بينهما منقطعة؟! وهذا ما بيناه سابقاً (¬2) ، من مفارقة (الرسالة) ومصنفها الإمام الشافعي، في العقيدة ومصادر التلقي والمنهج الفكري، عن كتب أصول الفقه بعده ومصنفيها (غالباً) . ثم نقف مع كلام الشافعي وقفات: الوقفة الأولى: مع النقل الأول عن الشافعي، بما يدل على أنه في غير محل النزاع، ببيان أنه قسم في ذلك النقل تقسيماً يختلف عن التقسيم الذي نبحث فيه. فالإمام الشافعي إنما كان يقسم الحجة، كما صرح بذلك: ((فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك (حجة) ؟)) . أما نحن فنبحث في تقسيم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى (متواتر) و (آحاد) ، وفي حكم هذين القسمين. ¬

(¬1) انظر الرسالة للشافعي (ص 357- 359 رقم 961- 697) . (¬2) انظر (ص 87) .

والفارق بين كل تقسيم وآخر أن الواجب على صاحب كل تقسيم أن يستوعب أقسامه، دون أمثلته، وهذا ما وقع للشافعي. فعندما تكلم عن الحجة، من حيث الحكم المستنبط منها، هل هو قطعي أم ظني؛ استوعب هذين القسمين. فمثل للحجة المفيدة لحكم قطعي: بنص الكتاب ونص السنة المجتمع عليها، لأنهما جمعا قطعية الثبوت والدلالة. ومثل لحجة المفيدة لحكم ظني: بخبر خاصةٍ محتملٍ للتأويل لا يعرف إلا من جهة راوٍ واحد (حديث غريب) ، يشير بذلك إلى أنه ظني الدلالة والثبوت. فواضح من تمثيله أنه ترك: قطعي الثبوت ظني الدلالة، وقطعي الدلالة ظني الثبوت، وهما في الحقيقة مثالاان من أمثلة القسم الثاني عند الشافعي وهو الحجة المفيدة لحكمٍ غير مقطوع به. إذن فلا يعني تقسيم الشافعي ذاك أن كل خبر خاصةٍ (آحادٍ) يفيد عنده (الظن) ، لأنه لم يقل ذلك، ولم يقل ما يدل على ذلك. وقد تعقب ابن قيم الجوزية كلام الشافعي هذا بنحو ما ذكرنا، فقال في (الصواعق المرسلة) : ((فهذا نصه في خبرٍ يحتمل التأويل، ليس معه غير كونه خبر واحد، وهذا لا تنازع فيه، فإنه يحتمل سنداً ومتناً)) (¬1) . الوقفة الثانية: أن (خبر الخاصة) عند الشافعي، كما عند جميع المحدثين، هو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ما سماه الأصوليون بـ (المتواتر) وما سموه بـ (الآحاد) . كما سبق إثباته ¬

(¬1) مختصر الصواعق المرسلة (ص 530) .

بتوسع (¬1) ، وكما نقلناه من تفسير البيهقي أيضاً لكالم الشافعي (¬2) . وإذا كان الأصوليون يستفيدون من بعض (خبر الخاصة) علماً، فأهل الحديث (والشافعي على رأسهم) أولى بذلك وبما فوقه. ولا يعقل أن يكون الشافعي لا يستفيد علماً من كل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويستفيد العلم من كثيرٍ منها الجهلاء بالسنة من أهل الكلام!! الوقفة الثالثة: أن الشافعي لم يطلق على (خبر الخاصة) أنه يفيد (الظن المودب للعمل دون العلم) ، ولم يتلفظ بهذه الألفاظ. أما حكم الشافعي على (خبر الخاصة) ، كما في النقل الثاني عنه، فهو أنه يفيد (الحق في الظاهر) . والحق في اللغة: نقيض الباطل، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره (¬3) . فأين (الحق من (الظن) ؟!! وأما أنه (لا يفيد العلم) ، فيكيف؟! والشافعي يقول في فاتحة كلامه: (( (العلم) من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر)) . ويؤكد الشافعي أن (خبر الواحد) مفيد للعلم في كتابٍ آخر له، هو كتاب (اختلافه ومالك) . حيث ذكر مناظرةً له مع من لم ¬

(¬1) انظر (ص 91- 132) . (¬2) انظر (ص 119- 132) . (¬3) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/15) ، ولسان العرب (10/49) ، والتعريفات للجرجاني (20رقم 590) ، والتعريف على مهمات التعاريف للمناوي (287) .

يقبل خبر الواحد فيما إذا خالفته فتوى بعض الصحابة، فقال الشافعي: ((أرأيت إن قال لك قائل: أتهم جميع ما رويت (يعني ما فتاوى الصحابة) عمن رويته عنه، فأخاف غلط كل محدثٍ منهم عمن حدث عنه، إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه. قال: لا يجوز أن يتهم حديث أهل الثقة. قلت: فهل رواه عن أحدٍ منهم إلا واحد عن واحد؟ قال: نعم. قلت: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد عن واحد؟ قال: نعم. قلت: وعلمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، علمنا بأن من سمينا قاله؟ قال: نعم. قلت: فإذا استوى العلمان من خبر الصادقين، أيهما كان أولى بنا أن نصير إليه؟ آلخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بأن نأخذ به؟ أم الخبر عمن دون؟ قال: بل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ثبت. قلت: ثبوتهما واحد. قال: فالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يصار إليه. وإن أدخلتم على المخبرين عنه أنهم يمكن فيهم الغلط،

دخل عليكم في كل حديثٍ روي مخالفٍ الحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلتم: ثبت بخبر الصادقين، قلنا: فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى عندنا أن يؤخذ أن يؤخذ به)) (¬1) قال ابن قيم الجوزية معلقاًً على كلام الشافعي هذا، في (الصواعق المرسلة) : ((فقد نص ـ كما ترى ـ بأنه إذا رواه واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، بصدق الراوي عندنا. ولا يناقض هذا نصه في (الرسالة) ، فإنه نفى هناك أن يكون العلم المستفاد منه مساوياً للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر التواتر، وهذا حق، فإن العلم يتفاوت في القوة والضعف)) (¬2) . الوقفة الرابعة: أنه على افتراض أن قوله (حق في الظاهر) تساوي (الظن الموجب للعمل دون العلم) عند الأصوليين، فإن هذا يكون حكم (خبر الخاصة) بنفسه دون احتفافه بالقرائن. وهذا هو الواجب أن نصير إليه، فيمالو أطلق الإمام الشافعي على (خبر الخاصة) أنه يفيد (الظن) ، فضلاً عن إطلاقه عليه أنه يفيد (الحق في الظاهر) . لأنه لو أطلق على (خبر الخاصة) غير المحتف بالقرائن، ولا يجوز غير هذا المحمل. لأنه كما قدمنا في الوقفة الثانية: أن من (خبر الخاصة) (المتواتر) و (خبر الواحد) المحتف بالقرائن، وهما عند الأصوليين يفيدان العلم، فأنى لا يفيدانه للشافعي؟! ونرجع حينها إلى الفرق بين العبارتين المتحدتين في ¬

(¬1) اختلاف مالك والشافعي ـ المطبوع أثناء كتاب الأم ـ (7/192ـ 193) . (¬2) مختصر اصواعق المرسلة لابن القيم (ص 530) .

المعنى، في تعظيم السنة، وحياطة حرمتها: (حق في الظاهر) ، و (ظن يوجب العمل دون العلم) !! بل يقول الشافعي عن الخبر المحتمل للتأويل والغريب في إسناده: ((فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين، حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه)) ، كما سبق في النقل الأول عنه. فلاحظ الفرق بين العبارات في الأدب والتعظيم والإجلال للسن!!! الوقفة الخامسة: أن الإمام الشافعي لا يقيس (خبر الواحد العدل) على (شهادة العدلين) عند القضاة. وقد نص الإمام الشافعي على ذلك، عندما بدأ حجاجه في إثبات حجية خبر الواحد، طلب خصم الشافعي منه أن يوضح له حجية (خبر الواحد) بقياسه على أمرٍ معروف عندهما. فقال له الشافعي: ((أتريد أن أخبرك بشيء يكون هذا قياساً عليه؟ قال: نعم! (قال الشافعي:) قلت: هذا أصل في نفسه، فلا يكون قياساً على غيره، لأن القياس أضعف من الأصل)) (¬1) . ثم بعد ذلك بين الشافعي لخصمه ما تختلف فيها الشههادا عن (خبر الواحد) ، وما يتفقان فيه. فقال في باب بيان وجوه الاختلاف: ((ثم يكون بشر كلهم تجوز شهادته، ولا أقبل حديثه، من قبل ما يدخل في الحديث من كثرة الإحالة وإزالة بعض المعاني)) (¬2) . ¬

(¬1) الرسالة (372 رقم 1004- 1006) . (¬2) الرسالة (373 رقم 1013) .

فبين بهذا أنه يحتاط للرواية ما لا يحتاطه في الشهادة. بل وذكر الإمام الشافعي أمثلةً للقرائن التي ترفع إفادة (خبر الواحد) عن (شهادة العدلين) مما لا يتوفر مثلها إلا لـ (خبر الواحد) . فقال في (جماع العلم) : ((فإن كنت أمرت بذلك (يعني: تقديم الحكم الثابت بغير إحاطة على الثابت بإحاطة) على صدق الشاهدين في الظاهر، فقبلتهما على الظاهر، ولا يعلم الغيب إلا الله. وإنا لنظلب من المحدث أكثر مما نطلب من الشاهد، فنجيز شهادة بشرٍ لا نقبل حديث واحدٍ منهم. ونجد الدلالة على صدق المحدث وغلطه ممن شركه من الحفاظ، وبالكتاب والسنة؛ ففي هذا دلالات، ولا يمكن هذا في الشهادات)) (¬1) . بهذا الكلام القاطع، يبين الإمام الشافعي قوة إفادة (خبر الواحد) العدل على إفادة (شهادة العدلين) مطلقاً، أي إفادة (خبر الواحد) نفسه دون القرائن. ثم أشار إلى بعض القرائن التي تحتف بـ (خبر الواحد) ـ ولا يمكن مثلها في (الشهادات) ـ فتقوي خبر الواحد، وتبلغه إلى درجة إفادة (العلم) في كثيرٍ من الأحيان. هذا مع أنه يكن أن تحتف بـ (الشهادة) قرائن ـ يمكن مثلها في (خبر الواحد) ـ فتقوي (الشهادة) لتفيد العلم كذلك! فليس حكم الشهادة أنها تفيد (الظن) مطلقاً أيضاً!! وعلى هذا، فلو قاس الإمام الشافعي ( خبر الواحد) على (الشهادة) ، لكان القياس من هذه الجهة مقبولاً. لكن الشافعي لم يقس، ولم يرض هذا القياس! ولك أن تتفكر في سبب ذلك!!! ¬

(¬1) جماع العلم للشافعي (23- 24 رقم 101) .

الوقفة السادسة: أن الإمام الشافعي نص على أن (خبر الواحد) حق وحجة يلزم العالمين وأهل العلم منهم أن يصيروا إليه، هذا هو حكم (خبر الواحد) مطلقاً عند الشافعي. إذن: فهو حجة عنده في العقائد والأحكام، والأصول والفروع!! أولاً: بدلالة إطلاقه السابق ذكره. ثانياً: لعدم ذكره لهذا التقسيم في كتبه، ولعدم اعتباره في شيءٍ من كلامه الاعتبار الدال على ذلك التفريق: بين الأصول والفروع. ثالثاً: ولأن هذا التقسيم إلى أصول وفروع تقسيم مبتدع وقول باطل مستحدث، كما سبق بيانه (¬1) . فحاشا الشافعي أن يتلفت إليه! وكذب من زعم هذا عليه!! وبهذا ننتهي من وقفاتنا مع كلام الشافعي (رحمه الله) ، بأن خرجنا منها بما دخلنا به، وهو أن الشافعي علم السنة وفقيه الملة!! وهنا ننتهي أيضاً من هذا المثال، الذي إنما سقناه لبيان تأثير (أصول الفقه) بما درسته من (علوم السنة) على (علوم السنة) وقد كان ـ بحمد الله ـ مثالاً حافلاً لما أردت التدليل به عليه، ودليلاً ماثلاً لما كنت ذهبت إليه. ¬

(¬1) انظر (ص 144- 145) .

المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها

المبحث الثالث: مثال تأثر علوم السنة بأصول الفقه من خلال نافذتها الثانية للتأثير عليها وهذا هو المثال الثاني، وهو للنافذة الثانية لأصول الفقه في التأثير على علوم السنة، وهي النافذة غير المباشرة: من خلال المنهج الذي بثته في الأوساط العلمية، ومن خلال أثر المنطق اليوناني شبعت به أساليب التفكير والتأليف لدى العلماء. وتوضيح ذلك: لقد تقدم أن علاقة أصول الفقه بالمنطق علاقة فرع بأصل، وبناءٍ بأساس. إلى درجة أن كثيراً من كتب أصول الفقه تقدم بمقدمة في علم المنطق الخالص، ليساعد على فهم أصول الفقه بعده. وتقدم أيضاً أن علم أصول الفقه، بشرف موضوعه وغايته، فرض نفسه على الساحة العلمية، واحتوى بمسائله ومباحثه عقول عامة أهل العلم، من القرن الرابع، أو أواخره، ولم يزل اتساع ساحته واحتواؤه ونفوذه في ازدياد عبر القرون المتتابعة. وعلم هذه أهميته، وهذا سلطانه، وتلك مملكته، قائم على علم المنطق، ومنبثق منه، ومتشقق عليه؛ هل سيسمح لأحدٍ من أهل العلم أن ينجو من أن يطبع عليه بطابعه؟!

فبكل وضوح: إن غالب من يتعلم أصول الفقه، ويتعمق فيها، فهو إنما يتعمق في علم المنطق معها، ويتشرب منهجه وأسلوبه وتفكيره (وليس منهجه وأسلوبه وتفكيره محذوراً محظوراً دائماً) . وأوضح مثالٍ لتأثير العام لعلم المنطق على الأوساط العلمية، بفنونها المختلفة، تأثيره عليها بصناعة المعرفات المنطقية أو ما يسمى بالأقوال الشارحة: بحدودها ورسومها. فإنك لا تكاد تجد علماً من العلوم الإسلامية: شرعيةً، أو لغوية ً، أو غيرها، إلا ولصناعة الحدود والرسوم فيها أثر بارز، لا تخفى على أحدٍ ملامحه عليها وقسماته. وقد بينت فيما تقدم أني هنا لست أعادي علم المنطق لأنه علم المنطق، لكني هنا أعادي تسليط معاييره الأجنبية على كثيرٍ من العلوم الإسلامية عليها. أما علم المنطق، فقد سئل عنه ابن الصلاح وعن الفلسفة، وعن حكم استعمالها في إثبات الأحكام الشرعية بالاصطلاحات المنطقية؟ فقال ابن الصلاح، كما أنقله لك من (فتاويه) ، بعد أن ذم الفلسفة بمثل قوله عنها: ((رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة)) ؛ فقال عن المنطق: ((وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسف الصالحين، وسائر من يقتدى بهم من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها. وقد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه، وطهرهم من أوضاره. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية: فمن المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحثة. وليست بالأحكام الشرعية ـ بحمد الله ـ افتقار إلى المنطق أصلاً.

وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والرهان: فقايع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية ... )) (¬1) ـ إلى آخر الفتوى. أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فله كتابه (نقض المنطق) ، الذي لو فعلت ما أحب، لنقلته كله! ومن ألطف ما قاله عن المنطق، وصفه له، بأن: ((فيه مواضع كثيرةً هي: لحم جمل غث، على رأس جبل وعرٍ، لا سهلٍ فيرتقى، ولا سمينٍ فينتقل)) (¬2) . ومثله في اللطافة، قوله عنه ـ كما في (مجموع الفتاوى) ـ: ((البليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه)) (¬3) . وقال أيضاً: ((ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله. حتى رأيت للمتأخرين فتيا، فيها خطوط جماعةٍ من أعيان زمانهم، من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله)) (¬4) . وقال أيضاً: ((وما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفاً، وإن كان الفقه وأصوله متصلاً بذلك، فهي أجل وأعظم من أن يظن أن لأهلها التفاتاً إلى علم المنطق. إذ ليس في القرون الثلاثة من ¬

(¬1) فتاوى ابن الصلاح (رقم 55) ، ونقلها الذهبي في سير أعلام النبلاء (23/ 143) . (¬2) نقض المنطق (ص 155) . (¬3) مجموع الفتاوى (9/269) . (¬4) نقض المنطق لابن تيمية (ص 156) . وانظر طائفة من أسماء العلماء الذين حرموا الاشتغال بالمنطق في (القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق) للسيوطي في الحاوي (1/255ـ 256) .

هذه الأمة، التي هي خير أمةٍ أخرجت للناس ـ وافضلها القرون الثلاثة ـ: من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه ... (إلى أن قال:) بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة: يطول العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيداً، واليسير منه عسيراً. ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك، لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق. فعلم أنه من أعظم حشو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام)) (¬1) . ثم عقد شيخ الإسلام فصلاً عن المعرفات (بحدودها ورسومها) ، فأبطل مزاعم المناطقة فيها، في شأن أنهم يفيدون منها تصور الحقائق، وكيفية ذلك، وغير ذلك من المزاعم؛ فأبطلها من ستة عشر وجهاً (¬2) . وقال (رحمه الله) في مقدمة ذلك: ((وكلامهم لا يخلو من تكلف: إما في العلم، وإما في القول. فإما أن يتكلفوا علم ما لا يعلمونه (¬3) ، فيتكلمون بغير علم. أو يكون الشيء معلوماً فيتكلفون من بيانه ما هو زيادة حشوٍ وعناءٍ وتطويل طريق (¬4) ؛ وهذا من المنكر المذموم في الشرع والعقل، قال تعلى: (قل مآ أسئلكم عليه من أجرٍ ومآ أنا من المتكلفين) (¬5)) (¬6) ¬

(¬1) نقض المنطق (ص 169) . (¬2) انظر نقض المنطق (ص 183ـ 200) . (¬3) كما حصل لمن تكلم في علوم الحديث من المتكلمين في كتب أصول الفقه. (¬4) كما حصل لبعض من تكلم في علوم الحديث من المتأخرين. (¬5) ص: (86) . (¬6) نقض المنطق (ص 183) .

وقال في (الوجه الثالث) من وجوه رد مزاعمهم حول المعرفات: ((إن المتكلمين بالحدود طائفة قليلة من بني آدم، لا سيما الصناعة المنطقية ... ومن المعلوم أن علوم بني آدم ـ عامتهم وخاصتهم ـ حاصلة بدون ذلك. فطل قولهم: إن المعرفة متوقفة عليها ... (إلى أن قال:) وكذلك الحدود التي يتكلفها بعض الفقهاء للطهارة والنجاسة، وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم. وكذلك الحدود التي يتكلفها الناظرون في أصول الفقه، لمثل الخبر والقياس والعلم، وغير ذلك = لم يدخل فيها إلا من ليس بإمامٍ في الفن! وإلى الساعة لم يسلم لهم حد!!)) (¬1) . وقال بعد ذلك: ((فأما الأشياء المعلومة، التي ليس في زيادة وصفها إلا: كثرة الكلام، وتفيهق، وتشدق، وتكبر، والإفصاح بذكر الأشياء التي يستقبح ذكرها = فهذا مما نهي عنه، كما جاء في الحديث: ((إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها)) (¬2) ... (إلى أن قال:) وعامة الحدود المنطقية هي في هذا الباب: حشو لكلام كثير، يبينون به الأشياء، وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم. فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان وإتعاب الفكر واللسان، لا توجب إلا العمى والضلال، وتفتح باب المراء والجدال، إذ كل منهم يورد على حد الآخر من الأسئلة ما يفسد به، ويزعم سلامة حده ... )) (¬3) . ¬

(¬1) نقض المنطق (ص 185) . (¬2) حديث إسناده حسن. (¬3) نقض المنطق (ص 198ـ 199) .

ثم ختم شيخ الإسلام كتابه (نقض المنطق) بقوله: ((فإنه كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه، مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه. فهذا كلام من رأى ظاهرة ... وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمورٍ فاسدةٍ، ودعاوى باطلةٍ كثيرةٍ، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين)) (¬1) . فهذا كلام علماء الإسلام في المنطق، وفي صناعة المعرفات المنطقية، وأثرها على العلوم الإسلامية. وهذا ما منه أحذر! فإنه إن كانت صناعة المعرفات المنطقية بذاتها ليست جزماً لا يقترب، إلا أن التنطع والتكليف الذي بنيت عليه، لا يناسب كثيراً اليسر والسليقة العربية التي أنتجت مصطلحات العلوم الإسلامية، مثل مصطلح الحديث. تلك المصطلحات ذات المدلولات الواسعة الفضفاضة، المرتكزة على المعنى اللغوي الأصلي للكلمة، القريبة منه كل القرب، غير المجتثة منه: كما قد يحصل في العلوم المترجمة إلى اللغة العربية من الألسن الأخرى. وقد قرر ذلك أيضاً الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير اليماني (ت 840هـ) في كتابه (تنقيح الأنظار) ، حيث قال في معرض ذكره للاختلاف في تعريف الحديث (الحسن) ، قال: ¬

(¬1) نقض المنطق (ص 209) . وهذا كأنه رد على تقي الدين السبكي ومن تابعه، فانظر فتاوى السبكي (2/644-645) ، وفتاوى زكريا بن محمد

((وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه)) (¬1) . فإذا كانت صناعة المعرفات المنطقية أجنبية عن مصطلح الحديث، وتباينه في نسبها (العربي) وسحنتها (اليسر والبعد عن التكلف) = فلن يكون في تسليط معاييرها عليه ـ في الغالب ـ إلا جور عليها: بتحجير واسعها، أو توسيع ضيقها. وفي أقل الأحوال: أن تطول الطريق إلى معرفة الصواب، بما أشار إليه شيخ الإسلام من كثرة الاعتراضات على المعرفات، وتسويد الصفحة والصفحات في ذلك. مع أنهم يزعمون أنهم يسعون للتعريف المختصر المحرر بالجمع والمنع، وينتقدون التعريف المطول بالشرح والمثل. فلو أنهم كتبوا تعريفاً في نصف صفحة، يقوم بالمقصود، ألم يكن خيراً من تلك الصفحة أو الصفحات من الاعتراضات، التي لا تخرج معها بطائل؟!! وهذا كله أمر خطير، خاصةً ما يقع خطأ دون قصدٍ من بعض المصنفين في بعض العلوم (كعلم الحديث) ، بسبب تأثرهم بصناعة المعرفات المنطقية: من تضييق الواسع من مدلولات المصطلحات، أو توسيع الضيق منها، كما قلناه آنفاً. لأن ذلك سوف ينعكس بتشويش ذلك العلم، الذي يتكون من تلك المصطلحات، تشويشاً قد يؤدي إلى استغلاق فهمه، أو فهمه على غير فهومه، أو ظهور تناقضٍ فيه، أو بانقلاب قواعده وضوابطه.. إلى غير ذلك، مما قد يصعب حله وتجاوزه، إلا بإعادة النظر في معاني تلك المصطلحات. لكن الأخطر من ذلك كله، والكارثة التي قد تدمر ذلك ¬

(¬1) توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار للصنعاني (1/158) .

العلم: فيما لو أصبح ذلك الخطأ في تفسير المصطلحات عمداً، وفيما لو صار المصنفون في ذلك العلم يسعون إلى تغيير مدلولاتها قصداً، ثم إلى اختراع أسماءٍ جديدة (تضاهي المصطلحات) لمدلولاتٍ كانوا قد أخرجوها ـ هم ـ من مصطلحات العلم الأصلية! ليظن بعد ذلك أن تلك الأسماء من مصطلحات ذلك العلم، ولتبعد الشقة ـ بعدها ـ أكثر عن فهم تلك المصطلحات على وجهها، وليكون ـ أخيراً ـ ذلك العلم المركب من تلك المصطلحات لغزاً مستغلقاً، دون حله خنادق وحصون!! وهذا ما قد بدأ بالوقوع فعلاً في مصطلحات الحديث!!! وقد بدأ من قرون لكنه لم يزل ـ بحمد الله ـ في البداية!!! وهذا هو ما سميته ـ اصطلاحاً مني ـ بـ (فكرة تطوير المصطلحات) . وسميتها بهذا الاسم، لأن الساعي إلى ذلك التغيير لمعاني المصطلحات، مع أن سعيه هذا كان مقصوداً معتمداً، إلا أنه كان بنيةٍ حسنةٍ، ولغرضٍ جميلٍ (يحسبه) ! فهو يظن أنه يرقي ذلك العلم، بتطوير مصطلحاته، بجعل مدلولاتها غير متداخلةٍ (مثلاً) ، بإضافة قيودٍ ومحترزات عن بعضها الآخر. وهو ساهٍ أثناء فعله هذا، وغافل كل الغفلة، عن قاعدةٍ عريضة، ومثلٍ سائر، يقول: لا مشاحة في الاصطلاح. وقبل شرح خطر هذه الفكرة: (فكرة تطوير المصطلحات) ،

فأنا أعني بكفرة تطوير المصطلحات: (تغيير معاني المصطلحات عما كانت تعنيه عند أهل الاصطلاح، عمداً، لأي غرضٍ يظنه ذاك المغير حسناً) . و (أهل الاصطلاح) : هم الذين أنشؤوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه، وتواضعوا على أسماءٍ لأفراده (هي المصطلحات) ، وتمموا بناء علمهم. فلم يبق لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخذ معاني مصطلحاته منهم، لفهم علمهم ويعي قولهم. فإذا أقبل هذا الذي جاء بعدهم على علمهم بالتبديل، وبتغيير مدلولات المصطلحات، لا مع إعلان أن تلك المعاني الجديدة من عند نفسه وأنها اصطلاح خاص به، بل على أنها اصطلاح أهل الاصطلاح = فهل سيكون لنا طريق إلى فهم ذلك العلم، باعتماد كلام ذلك المبدل المغير؟! فأعود مؤكداًَ: (فكرة تطوير المصطلحات) متعلقة بتغيير المعاني، مهما كان ذلك التغيير يسيراً، ومهما كان الغرض منه حسناً عند القائل به. هذا الذي منه أحذر! أما (تطوير) حدود المصطلحات ورسومها، تطوير ألفاظٍ لتلك التعاريف، لا يصل إلى تغيير مدلول المصطلح = فليس على هذا محظور، ولا هو من (فكرة تطوير المصطلحات) التي أحذر منها، بل هذا التطوير الذي يقصد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، أمر حسن في حدود ما لم يبلغ بنا إلى درجة التنطع والتكلف الذي يعانيه المناطقة، ونحن عنه في غنى. وحتى إن بلغ درجة التنطع والتكلف، فليس من (فكرة تطوير المصطلحات)

في شيء، مادام أن الأمر لم يصل إلى محاولة تغيير معاني المصطلحات. باختصار: (فكرة تطوير المصطلحات) تختص بتطوير معاني المصطلحات، لا بتطوير ألفاظ تعاريف تلك المصطلحات. أقول هذا وأكرره، ليفهم عني ما أريد. فلا يقال لي بعد ذلك: إن علم (مصطلح الحديث) علم بشري، قابل للتطوير. فأقول: ومن قال إن (مصطلح الحديث) علم إلهي؟! وهل العلم البشري لا حرمة له؟! ومن حقنا أن ندمره؟!! أما أنه قابل للتطوير، فأحسب أنه يعني به تطويراً لا يتناول تغيير معاني المصطلحات، فضلاً عن قواعده وضوابطه. وأنه إنما يعني تطوير التعاريف لتكون أوضح وأصدق في: شرح المصطلحات، وبيان معانيها التي هي عليها، دون تدخل في هذه المعاني. فإن كان هذا هو قصده، فهذا قصد سليم، لكن ذلك يعني أنه لم يفهم مني ما هي (فكرة تطوير المصطلحات) ! وأما إن قصد بقابلية (مصطلح الحديث) للتطوير: تغيير معاني المصطلحات، عما كانت عليه في عصور السنة الزاهية = فهذه هي (فكرة تطوير المصطلحات) . وسوف نرجىء الرد عليه، إلى الفصل الآتي، الذي سنتناول فيه خلاصة ما سبق كله، مع بيان الوسيلة النظرية لتفسير مصطلحات الحديث التفسير الصحيح المبين لمعانيها الحقيقية. أما المثال الواقعي لذلك كله، فسوف يأتي ذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ عند كلامنا على كتب علوم الحديث خلال طورها الثاني

(¬1) . لكننا بهذا نكون قد طرقنا خاتمة هذا الباب، باب: تأريخ تأثر العلوم النقلية (وعلوم السنة وخصوصاً) بالعلوم العقلية. وقد ذكرنا أن بداية هذا التأثر بدأت من أوائل القرن الرابع الهجري، وأن أول باب فتح للعلوم العقلية للتأثير منه على العلوم النقلية هو المذهب الأشعري بمنهجه الكلامي في الاستدلال. ذلك المنهج الذي صنفت عليه كتب أصول الفقه فيما بعد، لتؤثر هي بدورها التأثير الأكبر على علوم السنة، تأثيراً مباشراً بما درسته من علوم السنة في مصنفاتها، وتأثيراً غير مباشر من خلال علم المنطق الذي شبعت به الأوساط العلمية. هذا خلاصة ما سبق في هذا الباب! ونصل الآن إلى باب جديد: ¬

(¬1) انظر (ص 223- 226) .

الباب الثالث: المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث (وبيان بطلان ما يخالفه)

الباب الثالث: المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث (وبيان بطلان ما يخالفه)

المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث وبيان بطلان ما يخالفه

المنهج النظري لفهم مصطلح الحديث وبيان بطلان ما يخالفه إن هذا الباب هو نتيجة واضحة لكل ما سبق، من تأريخ نشوء مصطلح الحديث على مدى القرون، ومن بيان قرون ارتقائه وقرون ضعفه، ومن بيان العوامل المؤثرة على ضعفه. لقد تقدم في عرضنا التاريخي ذاك، أن القرن الثالث الهجري كان هو أزهى قرون السنة، والعصر الذهبي لها. وأن هذا القرن هو الذي اكتمل فيه تدوني السنة تدويناً كاملاً، فلم يبق من الروايات الشفهية غير المدونة لما بعده من القرون غير روايات الكذابين أو الغالطين. وأن هذا القرن أيضاً حوى أئمة الحديث، وأشهر أعيانه، وأساتذة نقاده، وصيارفة أهله عبر القرون. وأخيراً: أن هذا القرن قد صنفت فيه أمهات السنة، وجوامع الحديث، وأصول الآثار، التي هي عمدة أهل الحديث بعدهم، ودستور من لحق بهم، ومرجع من اقتفى أثرهم. هذا مما سبق بسطه وبيانه (¬1) . لقد كان القرن الثالث الهجري القرن الذي فاز بقطف الثمرة، وبقصب السبق، لجهود متواصلة مضنية من علماء الأمة، عبر القرن الأول والثاني، في حياطة السنة وخدمتها. ¬

(¬1) انظر (ص 51- 59) .

ثم ورث القرن الرابع ذلك الإرث العظيم والكبير عن القرن الثالث، فناء به كاهله، وضعف عنه قليلاً، مع بداية عوامل الضعف والمؤثرات الأجنبية على علوم السنة. لكن استثقال ذلك الإرث والضعف عنه لم يكن شاملاً لكل أهل هذا القرن حيث إن عوامل الضعف ومؤثراتها لم تغط الساحة العلمية بد. لذلك بقي أعيان أئمة الحديث في هذا القرن محافظين على ورثهم من القرن الثالث، وكأنهم امتداد لعلماء ذلك القرن المجيد. نعم.. لم يشهد هذا القرن تطوراً وارتقاءً، لكنه استطاع أن يكون وعاءً حافظاً لعطية القرن الثالث. ولا يلام علماء القرن الرابع على ذلك، لأن سلفهم بلغ بعلم الحديث القمة، وما بعد القمة إلا الانحدار أو الثبات. وهذا مما سبق شرحه وتوضيحه (¬1) . لكن الثبات على القمة لا يمكن أن يدوم، ولذلك بدأ الانحدار من القرن الخامس فما بعده. ولا يعني ذلك أن الأمة فقدت ذل الإرث العظيم بالكلية، حاشا وكلا ‍‍‍لأن الانحادر غير الهوي في الهاوية ‍ ولا يعني ذلك أيضاً أن الأمة فرطت في تراثها المكتوب، بل حافظت عليه أعظم حفاظٍ عرفته البشرية عبر دهورها، مع كثرة الحوادث، وتتابع النوائب، وتعاقب الأزمان. أما السنة ذاتها، فهي محفوظة بحفظ القرآن، الذي تهد به منزله سبحانه وتعالى ‍ كل الذي وقع بسبب ذلك الانحدار عن قمة علوم السنة، ¬

(¬1) النظر (61- 65) .

هو أننا غمضت علينا عبارات القوم، وتغبشت علينا مناهج علمهم، فأصبحنا في حاجةٍ إلى معرفة قواعد هذا العلم وضوابطه، وإلى من يرجم لنا معاني مصطلحاته؛ حتى يمكننا الاستفادة من هذا العلم، الذي لا غنى لنا دون الاستفادة منه، لأنه دين الله وملة الإسلام. ولذلك فإن التصنيف في (مصطلح الحديث) و (أصوله) لم يزل يزداد عبر القرون، لأن الشعور بالحاجة إليه لم يزل يزداد عبر القرون أيضاً‍ ولهذا لم يبدأ التصنيف الجامع المفرد في (مصطلح الحديث) و (علومه) إلا في القرن الرابع الهجري، الذي بدأ فيه الضعف المشروح في محله. ثم ازداد في القرون المتتابعة بعده حتى هذا القرن ‍ فإذا سألتك بعد ذلك: من هم (أهل الاصطلاح) الذين إذا أردت فهم علوم الحديث وجب علي فهم اصطلاحهم؟ أو بصورة أوضح: أخبرني (بربك‍) عن هذه البدهية: ما رأس مال المحدث في كل عصر؟ أوليس هو: (العلل) : لابن المديني، وأحمد، وابن معين، و (تواريخهم) ، و (سؤالاتهم) ، و (طبقات) : ابن سعد، وخليفة، ومسلمٍ، و (تواريخ) : البخاري الثلاثة، و (الجرح والتعديل) ، و (العلل) ، و (المراسيل) : لابن أبي حاتم، و (العلل) : للترمذي، والدارقطني، و (المسند المعلل) : للبزار، ويعقوب بن شيبة، و (الكني) : للبخاري، ومسلم، والدولابي، والحاكم الكبير، و (الضعفاء) : للبخاري، والنسائي، وأبي زرعة، والجوزجاني، والعقيلي، وابن عدي، والدارقطني، و (المجروحين) ، و (الثقات) : لابن حبان؟ ‍‍‍ أوليست هذه هي عمدة أهل الحديث في كل عصر؟

فإن استدركت علهيا، فلن تضيف إلا مصنفات تلك القرون ‍ أما دواوين السنة، وخزائن الأثر، فهل تجد أهلها إلا من سبق ذكرهم؟ ‍ فإن زدت عليهم، فلن تزيد إلا أقرانهم ومن عاش في عصرهم ‍ إذن: من هم (أهل الاصطلاح) ؟ الذين لا سبيل إلى فهم علوم السنة، وإلى تمييز صحيحها من سقيمها، إلا بفهم اصطلاحهم، ومعرفة أصول علمهم وقوانينه؟ إنهم أعيان ائمة الحديث من أهل القرن الرابع، وأئمته من أهل القرن الثالث، فمن قبلهم. هؤلاء هم (أهل الاصطلاح) الذين منهم بدأ وإليهم يعود، والذين حفظوا لنا السنن، وميزوا الثابت منها عن غير الثابت، ولم يدعوا سبيلاً يبلغ إلى ذلك إلا سلكوه، ولا طريقاً يسلك بهم إليه إلا عبدوه. ولم يتركوا لمن جاء بعدهم، ممن يريد معرفة مقبول ‍السنة من مردودها، إلا أن يتبع نهجهم، ويقتفي أثرهم. فرضي الله عنهم، وغفر لهم، وجعل الجنة مدخلهم، ومقعد الصدق مقعدهم! لكن يصطدم مع هذه الحقيقة الواضحة (فكرة تطوير المصطلحات) ، السابق شرحها وشرح خلفيتها (¬1) . إذ إن تغيير مدلولات المصطلحات، بغرض (تطويرها) ، مهما كان ذلك التغيير يسيراً في نظر القائل بـ (التطوير) ؛ إلا أن ¬

(¬1) انظر (ص 165- 169) .

نتيجة ذلك النهائية ستكون عدم فهمنا لكلام (أهل الاصطلاح) ! وبالتالي: انقطاعاً عن علوم أئمة السنة وعن علومها في عصورها الزاهية، وانفصاماً رهيباً بيننا وبين تراثنا العظيم!!! وهذا الانقطاع والانفصام سيحول دون الحفاظ على السنة، ودون معرفة صحيحها من سقيمها!!! وإلا.. فلام نعتمد؟ إذا انفصمت عرى التواصل العلمي بيننا وبين نتاج علماء الاختصاص في أزهى عصور علمهم!!! وعلى أي شيءٍ ترتكز أي دراسةٍ مجتثةٍ عن أصولها؟!! وماذا أستفد؟ إذا تمايزت المصطلحات بإضافة قيود ومحترزاتٍ على مدلولاتها الأصلية أو بحذف مثلها، ثم استلغز علي كلام (أهل الاصطلاح) !!! وأي خسارةٍ نخسرها إذا وقعت هذه الكارثة؟!! وأي خطرٍ يهدد السنة إذا حلت بساحتها هذه الفاجعة؟ !! إذن.. فيا لضيعة ذلك العلم!! الذي أفنيت من أجله أعمار أجيالٍ متتابعة، ذات طاقاتٍ بشريةٍ جبارة، ونفوسٍ مؤمنةٍ مطمئنةٍ، وعبقريات فذة، ونظرٍ ثاقبٍ متفرسٍ موفق، وغير ذلك من صفات صناع التاريخ والحضارة! ثم قل لي أيضاً: ماذا أستفيد إذا (طورت المصطلح) ، على حساب فهمي لكلام: أحمد وابن معين وابن مديني.. فخفي علي معناه؟! وماذا عساني أعرف من السنة، إذا ميزت بين المصطلحات غير المتمايزة عند: أبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني؟! ثم كيف أميز صحيح السنة من ضعيفها، إذا لم أتبين معالم

المنهج الذي سار عليه: البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان والحاكم؛ بسبب اختلاف معاني المصطلحات بيني وبينهم؟!! هذا هو خطر (فكرة تطوير المصطلحات) !!! فمن أصر بعد ذلك كله على تصويب (فكرة تطوير المصطلحات) ، فهو أحد رجلين: إما أنه الرجل الذي يريد هدم السنة وتعفية آثار الدين0 اوانه الرجل الذي سيعوضنا عن ذلك التراث العظيم كله، ويكفينا عن تلك المصنفات التي خلفها لنا علما السنة في ازهي عصورها، لذلك فلا علينا ان لم نفهم تلك المصنفات، ولا ناسى على ذلك المنهج، بعدان جاءنا هذا الرجل بالمصنفات والمنهج الكفيل بالغاية نفسها!!! فالرجل الأول: من يصغي له؟! والرجل الثاني: من يصدق أنه سيكون؟! إذن.. فما السبيل إلى فهم مصطلح الحديث؟ فأقول: نصف الجواب على هذا السؤال، أن تعرف من هم أهل هذا المصطلح الذين تسأل عن معنى مصطلحاتهم. وقد سبق أن قلنا: إنهم علماء الحديث في القرن الثالث فما قبله، وأعيان أئمة الحديث في القرن الرابع، هؤلاء هم (أهل الاصطلاح) . أما النصف الثاني من الجواب: فالسبيل إلى فهم اصطلاح (أهل الاصطلاح) هو: الاستقراء التام لإطلاقات (أهل الاصطلاح) ، ثم نصنف هذه الإطلاقات: كل إطلاقٍ منها على حدة. ثم عقد الموازنات بين: كل إطلاق، والمسائل والصور الجزئية التي أطلق عليها، بغرض معرفة الصفة

الجامعة (القاسم المشترك) بين تلك المسائل والصور، لنعرف السبب الذي جعل (أهل الاصطلاح) يخصون تلك المسائل والصور بذلك الإطلاق المعين. مع الاهتمام البالغ بالمعنى اللغوي الأصلي لذلك الإطلاق، وملاحظة وجه علاقة المعنى اللغوي الأصلي بالمعنى الاصطلاحي اللحادث. وإن كان اتضح بعد هذه الدراسة والموازنة أن بين بعض الاصطلاحات تداخل وعدم تمايز، فيجب علي أن أرضى بهذه النتيجة، وأن أفهمها بما فيها من تداخل، لأتمكن من فهم كلام (أهل الاصطلاح) ومن الاستفادة من علومهم. فليس من حقي أن اضع نفسي في غير موضعها، بالتحكم على المصطلحات، بـ (التطوير) والتغيير لمدلولاتها، بعد أن قيل: لا مشاحة في الاصطلاح. والسخرية أن أغير معنى المصطلح، ثم أفهم كلام صاحب هذا المصطلح على تفسيري لمصطلحه، لا على مراده هو منه!! وأنبه هنا: أنه لا غضاضة على من وجد مسائل جزئية، غير داخلةٍ في مصطلح لـ (أهل الاصطلاح) ، وتجمعها صفةً واحدة= أن يختار لها اسماً، لمعناه اللغوي علاقة بتلك الصفة الجامعة. لكن مع إيضاح أن ذلك الاسم ليس من مصطلحات (أهل الاصطلاح) ، حتى لا يظن في يوم من الأيام أنه من مصطلحاتهم؛ فإذا ما ورد ذلك الاسم نفسه بعد ذلك في كلام (أهل الاصطلاح) بمعناه اللغوي، حمله من لا يعلم على المعنى المستنبط من تلك الصفة الجامعة. هذا هو المنهج النظري الصحيح لتفسير مصطلحات الحديث وفهم مدلولاتها، وما سواه إلا ظنون أو تخبط! لكن قد صنفت كتب كثيرة في (علوم الحديث)

و (مصطلحه) ، وللعلماء كلام طويل في شرح مصطلح الحديث. فهل سارت تلك الكتب على هذا المنهج الصحيح في فهم المصطلح؟ وهل ذلك الكلام الطويل للعلماء معتمد على تلك القواعد؟ الجواب عن ذلك في الباب الآتي:

الباب الرابع: كتب علوم الحديث ومناهجها في فهم مصطلحه

الباب الرابع: كتب علوم الحديث ومناهجها في فهم مصطلحه الفصل الأول: الطور الأول لكتب علوم الحديث (طور ما قبل كتاب ابن الصلاح) . الفصل الثاني: الطور الثاني لكتب علوم الحديث (طور كتاب ابن الصلاح فما بعده) .

الفصل الأول: الطور الأول لكتب علوم الحديث

الفصل الأول: الطور الأول لكتب علوم الحديث لقد اعتاد الباحثون في علوم السنة تقسيم كتب علوم الحديث إلى قسمين: هما طور ما قبل كتاب ابن الصلاح، وطور كتابه فما بعده (¬1) . فإذا أردنا أن ندرس كتب علوم الحديث، وهل هي سائرة على المنهج الصحيح في فهم مصطلحات الحديث؟ فلندرسها بناءً على هذا التقسيم. الطور الأول: كتب علوم الحديث قبل كتاب ابن الصلاح: قد قدمنا في عرضنا التاريخي لعلوم الحديث، أن أول من نعلمه تكلم على بعض علومها كلام تقعيد وتأصيل، هو الإمام الشافعي في كتابه العظيم (الرسالة) (¬2) ، ثم تبعه الحميدي في جزءٍ له عن أصول الرواية، ثم مسلم في (مقدمة صحيحه) ، وأبو داود في (رسالته إلى أهل مكة) ، والترمذي في (العلل الصغيرة) (¬3) . ¬

(¬1) انظر مقدمة الحافظ ابن حجر لنزهة النظر (ص 46 - 51) ، ومقدمة تدريب الراوي للسيوطي (1/35 - 36) . (¬2) انظر (ص 48) . (¬3) انظر (ص 58ـ 59) .

وهؤلاء ما بين القرن الثاني والثالث، فهم لب (أهل الاصطلاح) وقلبهم. فلا يقال عن هؤلاء: هل ساروا على المنهج الصحيح في فهم مصطلح الحديث؟ ‍‍‍ ولم نزل في حاجةٍ ماسةٍ إلى دراسة كلامهم، في تلك الرسائل والمقدمات، دراسة تفهم، بعمقٍ كبير، دون أن نسلط على كلامهم فهوم من جاء بعدهم من غير (أهل الاصطلاح) . وقد قدم الحافظ ابن رجب الحنبلي لذلك مثلاً رائعاً في شرحه لعلل الترمذي، غير أن شرحه هذا هو نفسه في حاجةٍ إلى دراسة ‍ ثم في القرن الرابع الهجري: كتب الإمام الناقد ابن حبان البستي مقدمة صحيحه: (التقاسيم والأنواع) ، ومقدمة (المجروحين) ، ومقدمة (الثقات) . وتعد هذه المقدمات ـ وخاصة مقدمة الصحيح والمجروحين ـ من أهم ما كتب في علوم الحديث، لأنها: أولاً لإمام من أعيان علماء السنة في القرن الرابع، فهو لهذا من (أهل الاصطلاح 9. ثم لما حوته من مباحث مهمة، وقواعد لا يستغنى عن العلم بها. وفي القرن الرابع أيضاً: كتب الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 388هـ) مقدمة كتابه (معالم السنن ـ في شرح سنن أبي داود ـ) . ومع أن ما ذكره في تلك المقدمة كان قصيراً جداً، إلا أنه كان بها أول من قسم الحديث (من حيث القبول والرد) إلى ثلاثة أقسام صريحة: صحيح، وحسن، وضعيف. ثم كتب أيضاً الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي (ت 403هـ) مقدمة لكتابه (مختصر الموطأ عن مالك) المعروف بـ (المخلص) ، تناول في هذه المقدمة: مسائل في

الاتصال والانقطاع، وصيغ الأداء، والرفع وأنواعه، ونحوها. أصل في هذه القضايا تأصيلاً مهماً، يزيده أهمية أن صاحبه من (أهل الاصطلاح) . لكننا نقف مع إمامين من أئمة القرن الرابع، هما: الرامهرمزي، وأبو عبد الله الحاكم، لأن لهما كتابين منفردين جامعين رائدين في علم الحديث. أما الكتاب الأول: فهو (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للرامهرمزي (ت 360هـ) . وهو كتاب جليل، عظيم النفع. جمع مادة ضخمةً متنوعة في فنون الرواية وآدابها. غير أن هذا الكتاب في باب أقسام الحديث وشرح مصطلحاته فقير ن حيث لم يكن ذلك من أغراض مصنفه. فقد صنفه الرامهرمزي رداً على من وضع من شأن أهل الحديث، فأراد أن يبين له فضائل علمهم، ومحاسن آداب حملته. وصنفه أيضاً لطلاب الحديث في زمانه. حثاً لهم على التحلي بتلك الآداب، لنيل تيك الفضائل . ثم يذكر محدثي عصره بأن لا يأتوا ما شنع عليهم بسببه، من إفناء الأعماء في تتبع الطرق وتكثير الأسانيد دون فائدة، وتاطلب شواذ المتون، من غير أن يطلبوا أبواب العلم النافعة الأخرى (¬1) . ومع جليل قدر كتاب الرامهرمزي وعظيم نفعه، غلا أننا ونحن نؤرخ لمصطلح الحديث، لن نجد فيه مادةً واسعةً للكلام عنها. غير أن الكتاب في أبوابه الأخرى، معتمد الاعتماد كله على كلام أئمة النقد من أئمة الحديث في القرن الثالث الهجري. ليبين بذلك منهجه في مسائل علوم الحديث، وهو تقريرها على ¬

(¬1) انظر المحدث الفاصل (159ـ 126) .

ما كان عليه (أهل الاصطلاح) . أما الكتاب الثاني: فهو كتاب (معرفة علوم الحديث) لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) . فجاء كتاب الحاكم وكأنه مختص بما كان أهمله كتاب الرامهرمزي، من الاعتناء بمصطلح الحديث وشرح معناه وضرب الأمثلة له. فتناول بـ (نوع ... كذا) ، ذاكراً مصطلحه المسمى به. فتكلم الحاكم عن: (العالي) و (النازل) و (الموقوف) و (المرسل) و (المنقطع) و (المسلسل) و (المعنعن) و (المعضل) و (المدرج) و (الصحيح) و (السقيم) و (الغريب) ... وغير ذلك من الأنواع، التي بلغت عنده اثنين وخمسين نوعاً. وقد بين الحاكم سبب تصنيفه للكتاب في مقدمته، حيث أشار إلى خللٍ أصاب بعض طلال الحديث في طلبهم له، متعلقٍ بأسلوب التلقي وصرف الهمم. قال الحاكم: ((أما بعد فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها، على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف ... )) (¬1) . أما منهج الحاكم في كتابه، في تقرير قواعد علوم الحديث وشرح مصطلحه؛ فلا تنس ـ حفظك الله ـ أن الحاكم داخل في أئمة الحديث من أهل القرن الرابع، فهو من (أهل الاصطلاح) . ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث للحاكم (1- 2) .

ومع ذلك فالكتاب كله صريح بأنه ناقل لما عليه أئمة الحديث، من شيوخ الحاكم فمن قبلهم، وخاصة أئمة القرن الثالث الهجري. وسأضرب لذلك أمثلة: ففي تقريره لمعنى مصطلح (المسند) ، وما يدخل فيه، يستدل على ذلك بقوله: ((وكل ذلك مخرج في المسانيد)) (¬1) . وفي مصطلح (المرسل) يقول: ((فإن مشايخ الحديث لم يختلفوا في أن الحديث المرسل هو ... )) (¬2) . وفي حكم الحديث (المعنعن) ينقل إجماع أئمة (أهل النقل) (¬3) . وفي مصطلح (المعضل) ينقل تعريفه عن علي بن المديني (¬4) . وفي باب (العدالة) ذكر أنه: ((يستشهد بأقاويل الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين)) (¬5) . وفي مصطلح (الشاذ) يسند عن الإمام الشافعي شرحه له (¬6) . وفي باب (التدليس) أسند عن العلماء في بيان حكمه وأمثلته (¬7) . ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث للحاكم (22) . (¬2) معرفة علوم الحديث للحاكم (25) . . (¬3) معرفة علوم الحديث (34) . (¬4) معرفة علوم الحديث (36) . (¬5) معرفة علوم الحديث (56) . (¬6) معرفة علوم الحديث (119) . (¬7) معرفة علوم الحديث (103- 1109) .

وكذا في باب (امعلل) (¬1) . ومثله في حكم الرواية عن المبتدع، ثم قال بعد أن أكثر النقل أذى إليه الاجتهاد في الوقت من مذاهب المتقدمين، ولم يحتمل الاختصار أكثر منه. وفي القلب أن أذكر ـ بمشيئة الله ـ في غير هذا الكتاب، مذاهب المحدثين بعد هذه الطبقة، من شيوخ شيوخي)) (¬2) . تمعن هذا الاختيار، فيمن ذكر مذاهبهم، ومن ينوي ذكر مذاهبهم! وفي نوعي التصحيف في الأسانيد والمتون نقل كامل (¬3) . وفي نوع (معرفة أسامي المحديثين) يقول: ((وقد كفانا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (رحمه الله) هذا النوع، فشفى بتصنيفه، وبين ولخص)) (¬4) . ثم شرع بعد ذلك في أمثلةٍ، ضمنها نقولاً عن أئمة القرن الثالث (¬5) . وفي نوع (الألقاب) نقل مخص، ثم قال: ((فأما الألقاب التي تعرف بها الرواة، فأكثر من أن يمكن ذكرها في هذا الموضع. وأصحاب التواريخ من أئمتنا (رضي الله عنهم) قد ذكروها، فأغنى ذلك عن ذكرها في هذا الموضع)) (¬6) . وفي باب (الكنى) نقول كثيرة عن أئمة الحديث في القرن ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (112- 113) . (¬2) معرفة علوم الحديث للحاكم (140) . (¬3) معرفة علوم الحديث (146- 152) . (¬4) معرفة علوم الحديث (177) . (¬5) معرفة علوم الحديث (178) . (¬6) معرفة علوم الحديث (215) .

الثالث أيضاً (¬1) . وفي نوع (رواية الأقران) يقول: ((منه الذي سماه مشايخنا (المدبج) (¬2)) . وفي آخر أنواع علوم الحديث عنده، وهو نوع مختص بطرق التحمل، وبيان حكمها اعتمد اعتماداً كاملاً على نقوله عن أئمة الحديث في قرونه الأولى (¬3) . وهكذا فالكتاب كله في شرح مصطلح أهل الحديث، على فهم أهل الحديث، على فهم أهل الحديث أنفسهم. لأن الحاكم يعلم أن: ((غير أهل هذا العلم)) و ((غير أهل الصنعة)) ، و ((غير المتبحر في صنعة الحديث)) و ((غير الفرسان نقاد الحديث)) (¬4) = لا يفقه هذا العلم كما كان يعبر الحاكم بذلك كثيراً! وعلى هذا المنهج نفسه ـ في الأغلب ـ صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم) (¬5) . لأن طبيعة المستخرجات تلزم بذلك (¬6) . وهنا ننتهي من الكلام عن مصنفات علوم الحديث في (القرن الرابع) ، لندخل في (القرن الخامس الهجري) . وقد سبق في عرضنا التاريخي لمصطلح الحديث، وفي ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (183- 185) . (¬2) معرفة علوم الحديث للحاكم (215) . (¬3) معرفة علوم الحديث (256- 261) . (¬4) انظر معرفة علوم الحديث للحاكم (18، 19، 21 ... ) . (¬5) ذكر هذا المسترج الحافظ ابن حجر في مقدمة نزهة النظر (ص 47) ، والسيوطي في تدريب الراوي (1/35) . (¬6) ووقفت على مسألةٍ نص الحافظ ابن حجر على متابعة أبي نعيم فيها للحاكم، انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/622) .

تأريخ تأثر العلوم النقلية بالعلوم العقلية، ما ملخصه: أن هذا القرن هو أول القرون التي ظهر فيها أثر العلوم العقلية فيه على مصنفات علوم السنة. وإن كنا قد نبهنا هناك، أن هذا الأثر لم يكن عميقاًَ كما حصل للقرون اللاحقة لهذا القرن. مع ذلك فإن هذا التأثر أخرج محدثي هذا القرن، من أن يكونوا من (أهل الاصطلاح) . وما أن نلج هذا القرن (الخامس) ، حتى نجد أننا انقدنا إلى إمام المحدثين في عصره، ولمن جاء بعد عصره: الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) . الذي قال عنه ابن نقطة الحنبلي (محمد بن عبد الغني البغدادي، المتوفى سنة 463هـ) في كتابيه (التقييد لمعرفة راوة السنن والمسانيد) و (تكملة اٍلإكمال) : ((وله مصنفات في علوم الحديث لم يسبق إلى مثلها. ولا شبهة عند كل لبيب، أن أمتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب)) (¬1) . الخطيب البغدادي الذي ((قل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً)) (¬2) كما يقول الحافظ ابن حجر، بحر من بحور الحديث، لا يستطيع باحث أن يتناوله بدراسةٍ شاملةٍ عميقةٍ لجميع جوانب حباته وعلومه ومصنفاته. بل كل كتابٍ من كتب هذا الإمام حقيق بدراسة مفردة، توقفنا على منهجه فيه. لكن أجل كتبه في قوانين الرواية هو (الكفاية في علم الروية) . ودراسة هذا الكتاب من جميع جوانبه غرض مهم جليل، ¬

(¬1) التقييد لابن نقطة (ص 154) ، وتكملة الإكمال له (1/103) . (¬2) نزهة النظر لابن حجر (ص 48) .

لكن بحثنا في هذا الطرح متجه إلى ناجيةٍ معينة، وباختصار في ذلك أيضاً. لذلك فسوف نتكلم عن (الكفاية) للخطيب، تحت العنوان الذي وضعناه لهذا الفصل. فهل سار الخطيب على المهج السليم في شرح مصطلح الحديث؟ يجيب عن ذلك الخطيب نفسه، في مقدمة كتابه الكفاية، من حين ذكره لسبب تصنيفه له، حيث يقول: ((وقد استفرغت طائفة من أهل زماننا وسعها في كتب الحديث، والمثابرة على جمعه. من غير أن يسلكوا مسلك المتقدمين، وينظروا نظر السلف الماضين، في حال الراوي من المروي، وتمييز سبيل المرذول والمرضي)) (¬1) . فمن هذا السبب الذي صنف الخطيب من أجله الكتاب، يتبين لنا منهج الخطيب النظري الواجب عليه اتباعه في مواجهة ذلك السبب. إنه لا بد أن يكون سالكاً مسلك المتقدمين، وناظراً نظر السلف الماضين. لأن هذا المنهج هو الذي سيبلغ من انقطعت بهم الحبال دون علوم سلف المحدثين، وسيصلهم بإرثهم من المتقدمين. ثم صرح الخطيب بمنهجه في مقدمة كتابه أيضاً، تصريحاً واضحاً، حين قال: ((وأنا أذكر ـ بمشيئة الله تعالى وتوفيقه ـ في هذا الكتاب: ما بطالب الحديث حاجة إلى معرفته، وبالمتفقه فاقة إلى حفظه ودراسته، من: بيان أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب سلف الرواة والنقلة في ذلك ما يكثر نفعه)) (¬2) . ¬

(¬1) الكفاية للخطيب (ص 18) . (¬2) الكفاية (ص 22) .

فهذا واضح من الكلام، صريح لا لبس فيه، من الخطيب نفسه، بأن غاية عمله في كتابه الكفاية هو: شرح مذاهب سلف الرواة والنقلة! هذا هو منهج الخطيب النظري الذي قرره في أول كتابه، وهو المنهج السليم لفهم مصطلح الحديث. لكن: هل تمسك الخطيب بهذا المنهج في كتابه؟ إن الخطيب البغدادي وهو من أهل القرن الخامس، وإن كان من أواحد عصره في علوم الحديث، إلا أنه لا يستطيع أن ينجو ـ تماماً ـ من أثر العلوم العقلية على علوم الحديث الذي توسع نطاقه في عصره، فهو ابن عصره! وقد كنا ذكرنا في عرضنا اللتاريخي لعوامل التأثير من العلوم العقلية على العلوم النقلية، أن علم (أصول الفقه) كان له نافذتان للتأثير على علوم الحديث. نافذة مباشرة: بما درسته أصول الفقه من مباحث علوم السنة، ونافذة غير مباشرة: بما بثته كتب أصول الفقه ذات المنهج الكلامي المعتمد على المنطق اليواناني من أثر هذا المنهج، الذي تبرز ملالمحه في صناعة المعرفات المنطقية. والخطيب البغدادي عرفناه من خلال كتابه (الفقيه والمتفقه) ، متأثراً بأصول الفقه. بل سائراً في كثيرٍ من مباحثه على خطى شيخه أبي إسحاق الشيرازي (إبراهيم بن علي بن يوسف الفيوزبادي الشافعي، المتوفى سنة 476هـ) في كتابه (شرح اللمع) ، ناقلاً عنه صراحة (¬1) ، أو من غير تصريح ¬

(¬1) انظر مثلاً: الفقيه والمتفقه (1/54) ، مع شرح اللمع (رقم 23- 24) .

(¬1) . إلا أنه لا ئح أيضاً أن تأثرهبأصول الفقه ليس بليغاً، فالخطيب البغدادي المجدتهد في علم الحديث، ما أصدقه أن يكون مقلداً في أصول الفقه. لذلك فإن أثر أصول الفقه على الخطيب البغدادي اقتصر على نافذتها المباشرة: بما درسته كتب الأصول من مباحث علوم السنة. أقول ذلك، لأن (الكفاية) بعيدة كل البعد عن التأثر بصناعة المعرفات المنطقية مثلاً. فالمصطلاحات التي يشرحها الخطيب، يشرحها دون أن يلتزم بقواعد تلك الصناعات (¬2) . أما تأثره بما درسته كتب أصول الفقه من مباحث في علوم السنة، فيظهر من الآتي: أولاً: إدخاله لمباحث أصولية غير معروفة في علوم الحديث قبله: مثل تقسيمه الحديث إلى متواتر وآحاد (¬3) (وهذا سبق ذكره بتوسع) (¬4) ، وما تبع ذلك من حكم خبر الواحد، الواحد، وأنه مفيد للضن الموجب للعمل، وأنه لا يحتج به في العقائد (¬5) ، وما يصح فيه التعارض من الأخبار وما لا يصح (¬6) . ثانياً: نقله وبثه لأقوال بعض الأصوليين، مثل: أبي بكر الباقلاني (¬7) ¬

(¬1) انظر مثلاً ك الفقيه والمتفقه (1/54-55) (1/67) (1/70) مع موازنته بشرح اللمع (رقم 161، 66، 235) . (¬2) انظر الكفاية: باب معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات (ص 37- 39) . (¬3) الكفاية (ص 32- 33) . (¬4) انظر (ص 91- 94) . (¬5) الكفاية (34، 41- 42، 472) . (¬6) الكفاية (473- 478) . (¬7) الكفاية (41- 42، 102- 104، 118، 122، 135، 169، 184، 318، 333، 386، 413، 473) .

وأبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (¬1) . وهذا التأثر من الخطيب بأصول الفقه مع وضوحه، إلا أن إمامته في علم الحديث، وعدم تعمق أثر أصول الفقه عليه، مع وضوح المنهج السليم في دراسة علوم الحديث ومصطلحه عنده تمام الوضوح (كما سبق ذكره عنه) = جعل ذلك الأثر الأصولي على كتابه غير مخوفٍ منه، لأنه أثر مفضوح، لا يشتبه بعلوم الحديث ومسائله عند أهل الاصطلاح التي ملأ الخطيب غالب كتابه بها. وهذا هو الفرق بين: الخطيب وكتابه (الكفاية) ، ومن جاء بعده ممن كتب في علوم الحديث. فالفرق الأول: أن الخطيب لم يتأثر بأصول الفقه إلا من خلال نافذتها المباشرة. والفرق الثاني: أن ما نقله عن أصول الفقه مباحث واضحة وأقوال منسوبة، لا تختلط بكلام أهل الاصطلاح، ولا تذكر على أنها من كلامهم. فلا يفعل الخطيب ما يفعله المتأخرون من ذلك، فضلاً عن أن يفعل فعلهم في تأويل كلام أحد أئمة الحديث على غير ظاهره، وعلى غير مراد ذلك الإمام ليوافق كلام الأصوليين! ولنضرب لذلك مثلاً: (باب الكلام في الأخبار وتقسيمها) (¬2) الذي قسم فيه الأخبار إلى متواتر وآحاد، و (باب الرد على من قال يجب القطع على خبر الواحد بأنه كذب إذا لم ¬

(¬1) الكفاية (ً 146، 362) . (¬2) الكفاية (32- 33) .

يقع العلم بصدقه) (¬1) ، و (باب ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها) (¬2) ؛ هذه الأبواب ليس فيها إسناد واحد، بل كلها من كلام الخطيب نفسه، إلا الباب الأخير الذي نقل الخطيب ما فيه عن أبي بكر الباقلاني! ولذلك قال ابن الصلاح عن كلام الخطيب في (باب تقسيم الأخبار) : ((في كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث)) (¬3) . ثم إن الخطيب وإن تأثر بأصول الفقه، فهو المحدث الناقد بالدرجة الأولى. لذلك نجده يرجح خلاف ما ينقله عن الأصوليين تارة (¬4) ، ويقدم عمل المحدثين على ما ينقله عن بعض المتكلمين تارة أخرى (¬5) ، ويصوب ما يدل عليه حال أهل الحديث على حجج بعض الفقهاء في مسائل الحديث أيضاً (¬6) . هذا إضافةً إلى أهم ما يميز كتاب الخطيب (الكفاية) ، وهو: استيعابه لجل أقوال أئمة الحديث من (أهل الاصطلاح) في أصول علمهم وشرح مصطلحهم، واعتماده على تلك الأقوال في تقرير قواعد العلم وشرح عباراته. إذ هذا هو المنهج النظري الذي كان قد ألزم الخطيب نفسه به، وقد التزم به بالفعل في جل كتابه (¬7) . ¬

(¬1) الكفاية (ص 34- 35) . (¬2) الكفاية (ص 41- 42) . (¬3) انظر (ص 91) . (¬4) الكفاية (ص 386) ووازنه بما في (ص 383) . (¬5) اللكفاية (ص 149ـ 154) . (¬6) الكفاية (ص 442) . (¬7) كنت في أصل هذا البحث، الذي كان في صورته الأولى مقدمة تأصيلية لكتابي المذكور في عنوان بحثنا هذا، وكما تراه مبيناً في مقدمتنا هنا (ص 9- 10) = قد اكتفيت بنقل كلام الخطيب في ديباجة كتابه لبيان منهجه الذي ألزم نفسه به. وهذا كان كافياً في تلك المقدمة المختصرة جداً، لأن مخالفة الخطيب لمنهجه الذي ألزم نفسه به يعتبر خطأ في التطبيق، لا في المهج. والذي يهمني هنا المنهج، كما هو عنوان هذا الباب. وعندما طبع أحد طلبة العلم كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) ، بما فيه من أصل كتابنا هذا، قرأ مقدمة الكتاب التي هي أصل بحثنا هذا فبالغ في الإعجاب بها، وكان هو أول من حثني على إفرادها بالنشر. لكنه كان يقول لي: إن الخطيب هو أول من أدخل المباحث الأصولية في علم الحديث، ويحسب أن هذا يخالف ثنائي على كتاب الخطيب؛ وليس الأمر كما ظن: أولاً: لأن مقالة: إن الخطيب هو أول من أدخل المباحث الأصولية في علوم الحديث، مقالة لا دليل عليها، مع أن البيهقي (وهو أسن من الخطيب) وابن عبد البر (وهو قرين الخطيب) كلاهما قد أدخلا أيضاً المباحث الأصولية في علوم الحديث، كما سيأتي في أصل البحث قريباً. وثانياً: لن المنهج الذي قرره الخطيب في مقدمة كتابه، وألزم نفسه به، وعاب على أهل عصره عدم التزامهم به، منهج سليم، بل هو المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث وحده. ثم إن أثر أصول الفقه على كتاب الخطيب أثر ضئيل، كما بينته في الأصل، فلا يؤثر على ما كنت قد ذكرته في أصل هذا البحث من ثناءٍ على كتاب الخطيب، الذي ما زلت أثني عليه أيضاً. وإنما ذكرت هذا الأمر هنا، من باب الأمانة في ذكر أحد دواعي توسعي في منهج الخطيب من هذه الناحية، عما كان عليه بحثي في أصل هذا الكتاب وصورته الأولى.

لذلك فإن كتاب الخطيب، لغزارة ما فيه من نقول، يبقى أهم مصدرٍ من مصادر علوم الحديث، المساعدة على فهم معاني مصطلحه. أما الأثر الأصولي فيه، فهو أثر في مباحث قليلةٍ أولاً، ثم هو أثر واضحة مواضعه في كتابه (الكفاية) ، لا يصعب تخليص كلام أهل الحديث منها وتمييزه عنها. والخطيب في منهجه المشروح آنفاً، وفي تأثره بأصول الفقه، يصلح مثلاً لأبناء عصره جلهم، من المحدثين الذين كتبوا علوم الحديث.

ولنبدأ الآن بذكر بقية من صنف في علوم الحديث من أهل القرن الخامس: ففي هذا القرن كتب الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي (ت 446هـ) مقدمةً لكتابه (الإرشاد في معرفة علماء الحديث) . وهي مقدمة نفيسة، تعرض الخليلي فيها لمصطلحات مهمة بالشرح والتمثيل لها. وكلامه فيها من معين المحدثين، ومن صافي مشاربهم، ولا أثر فيها لأي علم غريب، فلكأن كاتبها من أهل القرن الرابع! ولعل الخليلي كان محدثاً صرفاً، أو لعل قصر تلك المقدمة لم يساعد على إضهار مشاربه المختلفة فيها. وكتب في هذا القرن الإمام البيهقي (ت 458هـ) كتابه (المدخل إلى السنن الكبرى) . وقد طبع القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو الموجود من مخطوطته، وبقية الكتاب شبه مفقودة. فكان مما فقدنا من هذا الكتاب، القسم الذي خصه البيهقي ـ فيما يظهر ـ لمصطلح الحديث وأصوله! وقد كان الحافظ ابن كثير الدمشقي (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774هـ) ، قد جعل من كتاب البيهقي هذا مرجعه الثاني، بعد كتاب ابن الصلاح، في مؤلفه: (اختصار علوم الحديث) ، كما صرح بذلك ابن كثير نفسه في مقدمة كتابه (¬1) . ومع ذلك، فلم أجد ابن كثير صرح بالنقل عن البيهقي إلا ¬

(¬1) اختصار علوم الحديث (1/ 96) .

في ثلاثة مواضع فقط، من كتابه (اختصار علوم الحديث) (¬1) . غير أن محقق كتاب البيهقي، وهو الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، قد جمع مجموعةً من النقول عن القسم المفقود من (المدخل إلى السنن) ، من كتب علوم الحديث المتأخر مصنفوها عن الإمام البيهقي (¬2) . ولا شك أن تحديد منهج البيهقي من النظر في تلك النقول، بل ومن المتبقي من كتابه، لا يحتاج إلى كثيبر تعب! فهو واضح المنهج، وضوحاً لا يحتاج أكثر من تقليب صفحاتٍ من كتابه. فـ (المدخل إلى السنن الكبرى) عبارة عن كتابٍ لإسناد أقوال ائمة الحديث في القرن الرابع فما قبله ن المتعلقة بأصول الرواية وقواعدها. غير أن فقدان قسم من الكتاب، هو القسم الذي فيه الكلام عن (المصطلح) ، افقدنا الاستفادة من هذا المنهج السليم في شرح المصطلح، المعتمد على النقول عن أئمة الحديث. غير أن البيهقي: من أهل القرن الخامس، الذي ذكرنا المؤثرات التي ظهرت فيه للعلوم العقلية على العلوم النقلية. ثم البيهقي أيضاً: أشعري العقيدة، بل ممن نصر هذه العقيدة، كما سبق ذكرنا له بذلك (¬3) . ثم البيهقي كذلك: ليس فقط ممن تأثر بأصول الفقه، بل له فيها مصنف (¬4) ! ويقول عنه ابن السبكي (عبد الوهاب بن علي بن عبد ¬

(¬1) اختصار علوم الحديث (1/160، 337) (2/ 378) . (¬2) انظر مقدمة محقق المدخل إلى السنن (ص 75- 83) . (¬3) انظر (ص 79) ، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/9) . (¬4) انظر الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للدكتور نجم عبد الرحمن خلف (ص 86) .

الكافي، المتوفى سنة 771هـ) : ((أصولي نحرير)) (¬1) . فهذه المؤثرات لا بد أن تظهر في كتاباته على علوم الحديث، وهي وإن لم نجدها في (المدخل إلى السنن) ، ولعل السبب في ذلك فقدان جزء من الكتاب، إلا أنها ظهرت في مقدمةٍ لأحد كتبه الأخرى! فللبيهقي على كتابه (دلائل النبوة) مقدمة، جعلها مدخلاً له. تعرض فيها لبعض قواعد الحديث، المتعلقة بحجيته في غالبها (¬2) . فكان مما ورد فيها، مما يدل على تأثره بأصول الفقه، وعلى محاولته تثبيت أصول عقيدته الأشعرية: أنه قسم الحديث إلى متواتر وآحاد، وأن المتواتر يفيد العلم، وأن الآحاد ـ كما ألمح إليه ـ لا يحتج بها في العقائد. وقد سبق نقل كلامه هذا، في موطن سابق من هذا البحث (¬3) . وهذا التقسيم واضحة فيه النزعة الأصولية، بل والأشعرية. وعلى كل حال؛ ففي مقدمة (دلائل النبوة) ، وأيضاً في مقدمة (معرفة السنن والآثار) (¬4) للبيهقي = مباحث حديثية، يغلب عليها النقل عن الإمام الشافعي؛ وفيها ايضاً مباحث أصولية. وبعد البيهقي، لم نزل في القرن الخامس الهجري، لكن ننتقل إلى أقصى المغرب الإسلامي حينها! نقف مع الإمام أبي عمر ابن عبد البر الأندلسي (يوسف ¬

(¬1) طبقات الشافعية الكرى (4/8) . (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (1/20ـ 47) . (¬3) انظر (ص 119ـ 120) . (¬4) معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/98ـ 188) .

بن عبد الله محمد النمري، المتوفى سنة 463هـ) ، حيث كتب مقدمةً حافةً لكتابه العظيم (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) ، خصها لعلوم الحديث وشرح مصطلحه. قال ابن عبد البر: ((باب: معرفة (المرسل) و (المسند) و (المنقطع) و (المتصل) و (الموقوف) و (معنى التدليلس) : هذه أسماء اصطلاحية، وألقاب اتفق الجميع عليها. وأنا ذاكر في هذا الباب معانيها، إن شاء الله. (ثم قال:) اعلم ـ وفقك الله ـ أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط (الصحيح) في النقل منهم ومن لم يشترطه ... ) (¬1) . وقال في موطن آخر: ((ومن الدليل على أن (عن) محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال، حتى يتبين الانقطاع فيها: ما حكاه أبو بكر الأثرم، عن أحمد بن حنبل..)) (¬2) . وقال في موطن آخر أيضاً: ((وأما التدليس: فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث ... )) (¬3) . فمثل هذه المواطن، وكثرة نقوله عن أئمة الحديث، خاصة من أهل القرن الثالث فما قبله = تدل على أن ابن عبد البر كان سائراً على المنهج الصحيح في فهم مصطلح الحديث، وأنه كان يعلم من هم (أهل الاصطلاح) الذين يجب عليه أن يعرف معاني كلامهم وألقاب علمهم. وابن عبد البر مع ذلك عالم أثري، سلفي العقيدة، يبدع ¬

(¬1) التمهيد (1/12) . (¬2) التمهيد (1/13) . (¬3) التمهيد (1/ 27) .

أهل الكلام والأشعرية! يقول ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) : ((أجمع أهل الفقه والآثار، من جميع الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم)) (¬1) . ويقول أيضاً: ((أهل الأهواء عند مالكٍ وسائر أصحابها: هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير اشعري. ولا تقبل له شهادة في الإسلام، ويفجر، ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها)) (¬2) . وعلى هذا، فلن يكون للمذاهب الكلامية أثر على ابن عبد البر، من جهة العقيدة. لكن ابن عبد البر ممن استبق جيلهم التأثر بأصول الفقه، وهو ابن جيله، فلا بد أن يكون لأصول الفقه أثر عليه. وأما الأدلة الواقعية من كلام ابن عبد البر على تأثره بالأصول، فمنها ما ذكره في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) من تقسيمه (العلم) إلى قسمين: (ضروري) و (مكتسب) (¬3) . بل لقد صرح في باب تقسيم الحديث إلى متواتر ومقابله بأنه ناقل من كتب الأصول، حيث ذكر أقسام معرفة الدين، ثم قال: ((والقسم الثاني: معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه. وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ... ، ومعرفة أصحابه ... ، ومعرفة الرجال الذين حملوا ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942 عقب رقم 1799) . (¬2) بغية الملتمس للضبي ـ ترجمة أحمد بن محمد بن سعدى ـ (1/200، الترجمة رقم 342) . (¬3) جامع بيان العلم (2/ 788) .

ذلك ... ، ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر يقطع العذر لتواتره وظهوره. وقد وضع العلماء في (كتب الأصول) من تلخيص وجوه الأخبار، ومخارجها، ما يكفي الناظر فيه ويشفيه ... )) (¬1) . إذن فرجعنا إلى مسألة تقسيم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) وأنه حتى ابن عبد البر ممن تأثر بالأصول في هذا التقسيم، كما صرح هو نفسه بنقله لذلك من (كتب الأصول) . وقد تعرض ابن عبد البر لجانب من جوانب هذه المسألة في مقدمة (التمهيد) ، حيث تكلم عن حجية (خبر الواحد) . فنريد أن نقف أيضاً من رأيه في هذه المسألة، لنعلم درجة تأثره بالأصول فقال أولاً: ((أجمع أهل العلم، من أهل الفقه والأثر، في جميع الأمصار، فيما علمت: على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافاً)) (¬2) . وهذا كلام عليه نور الأثر، وأدب السنة مع السنة! لكنه قال في موطنٍ لا حقٍ: ((واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل: هل يوجب العلم والعمل جميعاً، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم: أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر. ولا يوجب ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/796) . (¬2) التمهيد (1/ 2) .

العلم عندهم إلا ما شهد به على الله، وقطع العذر بمجيئه قطعاً، ولا خلاف فيه. وقال قوم كثير من أهل الأثر، وبعض أهل النظر: إنه يوجب العلم الظاهر والعمل (¬1) جميعاً، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر، ابن خويزمنداد أن هذا القول يخرج عل مذهب مالك. (قال ابن عبد البر:) والذي نقول به: إنه يوجب العمل دون العلم، كشهادة الشاهدين والأربعة سواء. وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر ن وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جميع أهل السنة، ولهم في الأحكام ما ذكرنا)) (¬2) . هذا كلام ابن عبد البر، وهو من أفضل الأمثلة على من تأثر بأصول الفقه دون علم الكلام وعقيدة المتكلمين. فهو يقسم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، ويحكم على (الآحاد) أنه يفيد (الظن الموجب للعمل دون العلم) ، وهذا كله من أثر أصول الفقه (¬3) لكنه بعد ذلك ينقل أن (خبر الآحاد) حجة في العقائد والأحكام بالإجماع، وهذا من أثر عقيدته السلفية!! أما التا ثر بالمنطق وصناعة المعرفات، فلم يظهر لها أثر على ابن عبد البر، في شرحه للمصطلحات وتفريها بها. ¬

(¬1) كذا، والظاهر أن الصواب: (والعلم الباطن) ، أو ما في معناها من العبارات. (¬2) التمهيد لا بن عبد البر (1/ 7- 8) . (¬3) انظر (ص 91ـ 127) .

فيقول في شرحه للاسناد المعنعن: ((والإسناد المعنعن: فلان عن فلان عن فلان عن فلان)) (¬1) . ويقول في تعريفه بالتدليس: ((أما التدليس: فهو أن يروي الرجل عن الرجل قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحديث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله، أو لا ترضى على الأغلب في ذلك، إذ لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد لا يكون، إلا أنه استصغره)) (¬2) . ونحو هذه التعريفات البعيدة كل البعد عن صناعة المناطقة. وعلى هذا فمقدمة ابن لكتابه (التمهيد) تمتاز باتباعها المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث، وبندرة الأثر الأصولي عليها. فإذا انتهينا من مقدمة ابن عبد البر، نذكر (تبعاً) قرينه أبا محمد ابن حزم (علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندليسي الظاهري، المتوفى سنة 456هـ) . وإنما قلت تبعاً، لأنه في تعرضه لعلوم الحديث الذي نتحدث عنه، إنما تعرض لها في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) ، وهو كتاب في أصول الفقه، لا في علوم الحديث، ولا مقدمة لكتاب في الحديث. ويكفي في بيان منهج ابن حزم من علوم السنة في كتابه (الإحكم) ، أنه كتاب في أصول الفقه أصلاً! نعم، لابن حزم مذهب خاص، وهو ظاهريته. ونعم، لابن حزم منهج خاص في كتابه، بكثرة استدلاله ¬

(¬1) التمهيد (1/12) . (¬2) التمهيد لابن عبد البر (1/15) .

بأدلة الكتاب والسنة، وبالرد على المتكلمين (وهو منهم!!) . لكن كتابه لم يزل من كتب أصول الفقه!! ويضيق صدري أحياناً من ظاهريته في تقرير قواعد علم الحديث، مما يدل على أنه ليس بفقيه في علله! انظر إليه وهو يقول: ((وقد غلط أيضاً قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من فلان، وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة)) (¬1) . القوم الآخرون هؤلاء هم كافة نقاد الحديث، الذي رتبوا المقبولين على مراتب، ورتبوا أصحاب المرتبة الواحدة في الشيخ الواحد على مراتب أيضاً. ولهم في ذلك نفائس الأقوال، وصنفوا في ذلك غرر الفوائد!!! وتعجب منه وهو يقول أيضاً: ((وقد علل قوم احاديث: بأن رواها ناقلها عن رجل مرة وعن رجلٍ مرة أخرى. وهذا قوة للحديث ن وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك)) (¬2) . كذا بإطالاق؟ !! قاتل الله ظاهرية كهذه!!! وله مثلها في حكم زيادة الثقة (¬3) ! والكتاب بعد ذلك على هذه الشاكلة، يمثل قواعد ابن حزم ومصطلحه، لا قواعد الحديث ومصطلحه عند أهله. ولا أحسب أنني هنا في حاجةٍ على تنبيه القارىء الكريم: ¬

(¬1) الإحكام لابن حزم (1/143) . (¬2) الإحكام لابن حزم (1/149) . (¬3) الإحكام لابن حزم (2/90- 96) .

إلى عظيم إجلالي للعلماء، وجليل إعظامي لهم. وإلى شدة محبتي ـ والله ـ لهم، وتعلقي بسيرهم وأخبارهم وحالهم. وإلى إيماني بأن علمهم يجل عن الوزن، ولا يجوز فيه القياس، من مثلي وأشباهي. ولولا ذلك، لما استفدت فائدة، ولا عرفت الحق (بحمد الله تعالى) ، ولا بدأت سلوك مسالك طلبة العلم. فلست في حاجةٍ بعد هذا التنبيه، إلى تكرير ديباجةٍ طويلة ثقيلة، عند كل نقد علمي موضوعي بناء (ولو كان هذا النقد خطأًَ في حقيقته) . تلك الديباجة التي تثقل البحوث: باملدائح الرنانة في المنتقد، وبالأيمان المغلظة على حسن النوايا. إلى درجة الغو في الممدوح، والإزراء من الناقد لنفسه، وإلى حد الإسفاف (أحياناً) والبعد عن أدب العلم وإنصاف الموضوعية، اللذين إنما قدم بتلك الديباجة الثقية لهما!! وكأن الأصل في الباحث الكذب وسوء الطوية، والأصل في القارىء الشك وسوء النية!!! (فلماذا نخاف من النقد؟!) . لننتقل بعد هذا، إلى عالمٍ مغربي آخر، لكنه من القرن الخامس الهجري، هو القاضي عياض بن موصى بن عياض السبتي المالكي (ت 544هـ) . ولهذا الإمام تعرض واسع لأبوابٍ من علوم الحديث، في كتابين له، هما: ((الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع) ، ومقدمة كتابه (إكمال المعلم بفوائد مسلم، للمازري) . إلا أن كتابه الأول (الإلماع) كتاب مختص: بأصول الرواية (طرق التحمل وحجيتها) ، وتقييد السماع (كألفاظ الأداء) ، وما يتعلق بذلك، وبعض الآداب وما شابهها. فليس في الكتاب

اهتمام بالمصطلحات الحديثية لأقسام الحديث، التي هي مدار حديثنا. لذلك فلن أتكلم عن (الإلماع) ، بغير هذا الذي ذكرته به، وإن كان حقيقاً بغير ذلك في غير هذا الموضع! أما كتابه الآخر: فهو شرح لمقدمة الإمام مسلم لصحيحه، وحيث تعرض الإمام مسلم في مقدمته لصحيحه لبعض القضايا المهمة في علوم الحديث، تناولها القاضي عياض بالشرح. والقاضي عياض فقيه أصولي بالدرجة الأولى، لذلك فقد حشى كتابه (إكمال المعلم) بالنقل عن الفقهاء والأصوليين والمتكلمين، حتى غلب النقل عن المحدثين (¬1) ! بل بلغ تعمق الا ثر الا صولي عند القاضي عيا ض الى درجة فهم كلام الا ما م مسلم على اصطلاحات الا صوليين وا حكا مهم! فعندما قال الا ما م مسلم في مقدمة صحيحة: ((وذلك ان القول الشائع المتفق علية بين اهل العلم بالا خبا ر والروايات قديما وحديثا: ان كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز وممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وان لم يا ت قط انهما اجتمعا ولا تشافها بكلام= فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة000 (ثم قال الا ما م مسلم:) ان خبر الواحد الثقة عن الواحد حجة يلزم العمل به)) (¬2) . فقال القاضي عياض: ((هذا الذي قاله هو مذهب جمهور المسلمين من السلف والفقهاء والمحدثين وا لا صوليين000)) (¬3) . ¬

(¬1) انظر مثلاً في إكمال المعلم (ص 180، 182، 184، 225، 238، 300، 313، 314، 232، 324) . . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) . (¬3) مقدمة اكمال المعلم (ص323-327) .

ثم بين قولهم، فاذا به: ان خبر الواحد (يفيد الظن الموجب العمل دون العلم) . فحمل القاضي عيا ض ان قول مسلم ((حجة يلزم العمل به)) . انه يقول بافادة خبر الواحد للظن الموجب للعمل دون العلم!! ولاـ والله- تلفظ مسلم بذلك المعنى، ولا احسبه خطر له على بال!! ثم بعد القاضي عيا ض، كتب قاضي الحرمين الحافظ ابو حفص الميانشي (¬1) (عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي، نزيل ¬

(¬1) الميانشي: بفتح الميم، وبعدها ياء مثناة تحتية، فألف، ثم نون مكسورة، فشين معجمة مكسورة؛ نسبة إلى ميانش قرية من قرى المهدية بإفريقية هذه هي التي منها الحافظ أبو حفص عمر بن عبد المجيد. انظر: معجم البلدان لياقوت (5/ 239) ، وتاج العروس للزبيدي ـ منش ـ (17/ 392) .

مكة، المتوفى سنة 583هـ) رسالته الصغيرة المسماة بـ (ما لا يسع المحدث بجله) . وهي رسالة مختصرة جداً، وغالبها نقل واختصار من (معرفة علوم الحديث) للحاكم و (الكفاية) للخطيب، ولن تخلو من فائدة. وبقي في هذا الطور مشاركات عدة، مما بلغنا، وما فقد فأكثر! لكن ما بلغنا من هذه المشاركات: إما أنه لم يقصد إلى شرح مصطلحات وإنما اعتنى ببيان بعض القواعد والأصول، أو أنه نقل محض تندر فيه الإضافة المؤثرة. ومن أمثلة تلك المشاركات: كتاب (شروط الأئمة الستة) ، لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ) ومقدمة كتاب (الوجيز في ذكر المجاز والمجيز) ، لأي طاهر أحمد بن محمد السلفي (ت 576هـ) . وكتاب (شروط الأئمة الخمسة) لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي (ت 585هـ) .

ومقدمة كتاب (جامع الأصول في أحاديث الرسول) ، لمجد الدين أبي السعا د ات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606هـ) . ومن هنا ننتقل إلى الطور الثاني من أطوار كتب علوم الحديث.

الفصل الثاني: الطور الثاني لكتب علوم الحديث (كتاب ابن الصلاح فما بعده)

الفصل الثاني: الطور الثاني لكتب علوم الحديث (كتاب ابن الصلاح فما بعده) وكلامنا عن هذا الطور سيختلف في منهجه عن كلامنا في سابقه، لطول زمن هذا الطور، وكثرة المصنفات فيه، ولأن غرضنا الاختصار وضرب الأمثلة فقط، دون استيعاب الكلام عن مناهج المصنفين. لكن لما جعلنا كتاب ابن الصلاح حداً وقاسماً، وجب علينا تمييزه بمزيد إيضاح وبيان. إن (معرفة أنواع علم الحديث) لا بن الصلاح (ت 643هـ) من الكتب النادرة في العلوم الإسلامية، التي ما أن صنفت حتى أصبحت إماماً لأهل فنها، وهماً لطلاب ذلك العلم ولعلمائه، وأصلاً أصيلاً يرجعون إليه، ومورداً لا يصدرون إلا عنه ولا يحومون إلا عليه. يقول الحافظ ابن حجر في وصفه: ((فهذب فنونه، وأملاه شيئا بعد شئ، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب0 واعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم اليها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره0 فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره0 فلا يحصى كم ناظم له

مختصر، مستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر!!)) (¬1) . وقد ذكر الحافظ ابن حجر في وصفه هذا احد أهم مميزات كتاب ابن الصلاح، وهي تعويله واعتماده في جل كتابه على كتب الخطيب البغدادي: (الكفاية) وغيرها من مصنفات الخطيب الكثيرة التي أفردها لأنواع وعلوم من علوم الحديث0 وللدكتور محمود الطحان مبحث خاص في كتابه (الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث) ، يثبت فيه بالموازنة أن ابن الصلاح- كما يقول-: ((كان عالة على كتب الخطيب عامة، وكتابيه (الكفاية) و (الجامع) خاصة)) (¬2) . ونخرج من هذا بنتيجة واضحة، وهي أن كثيرا من آراء الخطيب في تفسير مصطلح الحديث وتقرير قواعده سوف تنتقل الى ابن الصلاح، بما في تلك الآراء من صواب (وهي غالبها) ، ومن خطأ (وهي أقلها) ، من آثار اقتباس الخطيب من الفقة0 والآراء وان اتفقت أحيانا كثيرة، بسبب ذلك التعويل والاعتماد على كتب الخطيب، الا أن منهج تقريرها قد بدا فيه بعض الاختلاف0 وليس اختلاف المنهج أمرا غريبا، بعد تذكر ما سبق تقريره، من ضعف تلقي العلوم النقلية، وقوة تأثير العلوم العقلية على علوم السنة، وازدياد ذلك بالتدريج عبر العصور0 وقد عبر ابن الصلاح نفسه عن حاله عصره وأهله تجاه ¬

(¬1) نزهة النظر لابن حجر (51) . (¬2) الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث للطحان (481-486) .

علوم السنة، مبينا سبب تأليفه لكتابه (معرفة أنواع علم الحديث) ، حيث قال في مقدمته: ((ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيماً، عظيمة جموع طلبته، رفيعة مقادير حفاظه وحملته. وكانت علومه بحياتهم حيةً، وأفنان فنونه ببقائهم غضةًً، ومغانيه بأهله آهلةً. فلم يزالوا في انقراض، ولم يزل في اندراس، حتى آضت به الحال: على أن صار أهله إنما هم شرذمة قليلة العدد ضعيفة العدد. لا تغني على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غفلاً، ولا تتعنى في تقييده بأكثر من كتابته عطلاً، مطر حين علومه التي بها جل قدره، مباعدين معارفه التي بها فخم أمره. فحين كاد الباحث عن مشكله لا يلفي له كاشفاً، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفاً، من الله الكريم تبارك وتعالى وله الحمد أجمع بكتاب (معرفة أنواع علم الحديث) هذا ... )) (¬1) . أما تأثير العلوم العقلية على علوم السنة، فإضافةً إلى أن ابن الصلاح قد نقل بعض ذلك الأثر عن الخطيب البغدادي، فإن ابن الصلاح فوق ذلك جاء بعد الخطيب بما يقارب القرنين من الزمان، فالأثر ازاداد في عصره عن عصر الخطيب، والمرء ابن زمانه، فلا بد أن يزداد الأثر على ابن الصلاح أيضاً. ولئن كان لابن الصلاح تلك الفتوى القوية في ذم علم المنطق والحط منه (¬2) ، فإنه من جهةٍ أخرى اصولي متبحر فيه معدود في (طبقات الأصوليين) (¬3) . يقول محقق كتاب ابن الصلاح، الدكتور نور الدين عتر في مقدمة تحقيقه: ((فأكب ابن الصلاح على هذه الذخائر يفحصها ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (5- 6) . (¬2) انظر (ص 160- 161) . (¬3) الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي (2/63- 64) .

بعين الفقيه المتعمق في الفهم والاستنباط، ويزن عباراتها بميزان الأصول الضابط للحدود والتعاريف، وحسبك به فقيهاً، وأصولياً محققاً)) (¬1) . وبعض النظر عن صحة هذه العبارة، القائلة إن: ابن الصلاح ضبط حدود المصطلحات وتعريفاتها بميزان الأصول، غلا أن هذا الميزان ـ في الحقيقة ـ هو الذي منه نفر (¬2) !! وإن كنت أوافق أن بعض ذلك قد وقع من ابن الصلاح، غلا أنه أقل ممن جاء بعده في ذلك! لكن لما كان كتاب ابن الصلاح إماماً وقدوةً لمن بعده، وسن كتابه هذا المهج، وعمق أثر الأصول فيه، تدافع القوم على الاستنان بمنهجه، والاقتداء بطريقته!! وأدلة ذلك تظهر من نواحي عدة: من كثرة نقوله عن الأصوليين (¬3) . ومن دمجه لآراء المحدثين والفقهاء والأصوليين (¬4) . ومن نقله مع رأي المحدثين الرأي المخالف له للفقهاء والأصوليين، دون ترجيح، ومع وضعه لكلا الرأيين في ميزان واحد (¬5) . بل ربما مال إلى ترجيح رأي الأصوليين على رأي المحدثين! ¬

(¬1) مقدمة تحقيق نور الدين عتر لعلوم الحديث لابن الصلاح (18) . (¬2) انظر (ص 164ـ 165) . (¬3) انظر مثلاً في علوم الحديث (ص 56، 85، 141، 143، 151، 152، 154، 155، 168، 173- 174، 180- 181) . (¬4) انظر علوم الحديث (143، 173- 174) . (¬5) انظر علوم الحديث (168) .

كما فعل في صور المرسل المختلف فيها، حيث قال: ((إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي، فكان فيه رواية واوٍ لم يسمع من المذكور فوقه. فالذي قطع به الحاكم الحافظ أبو عبد الله وغيره من أهل الحديث أن ذلك لا يسمى مرسلاً ... والمعروف في الفقه واصوله أن كل ذلك يسمى مرسلاً، وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به)) (¬1) . وقال أيضا في الموضوع نفسه: ((اذا قيل في الا سنا د: فلان عن رجل أو ن عن شيخ عن فلان، أو نحو ذلك: فالذي ذكر الحاكم في (معرفة علوم الحديث) انه لا يسمى مرسلا، بل منقطعا0 وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع المرسل)) (¬2) . تنبه الى تعبيره: ((والمعروف في الفقه وأصوله..)) و ((وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه)) . وأنبه هنا أيضاً إلى أنه ليس من غرضي تأييد هذه المسائل الجزئية أو معارضتها (¬3) ، إنما غرضي بيان أثر الأصول وعمق هذا الأثر على ابن الصلاح. ثم تابع معي في هذه المسألة الآتية (مسألة تعارض الوصل والإرسال) : لما ذكر الخطيب البغدادي الاختلاف في هذه المسألة، قال: ((ومنهم من قال: الحكم للمسند إذا كان ثابت العدالة ضابطاً للرواية، فيجب قبول خبره ويلزم العمل به، وإن خالفه ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص 51) . (¬2) علوم الحديث لابن الصلاح (ص52) . (¬3) لكن انظر (ص 230- 234) .

غيره، وسواء كان المخالف له واحداً أو جماعةً)) . ثم أيد الخطيب هذا القول، وصححه على غيره. ودلل عليه بتصرفات لبعض المحدثين، منهم الإمام البخاري (¬1) . ففهم ابن الصلاح من كلام الخطيب هذا، أنه يقول بأن وصل الثقة مقدم على إرسال غيره من الثقات مطلقاً. وسوف نعود إلى كلام ابن الصلاح، بعد تقرير مذهب الخطيب من هذه المسألة أولاً. والذي أراه أن الخطيب لم ير ذلك الرأي الذي ظن ابن الصلاح أنه رأيه! فالخطيب قال بتقديم رواية المسند بشرطٍ لا يخالف فيه أحد، وهو (إذا كان (الراوي) ثابت العدالة ضابطاً للرواية)) . فالذي يقدم قوله بالوصل عند الخطيب إذن، هو الراوي الذي ضبط روايته، ولا يضره بعد ضبطه لروايته من خالفه وكم خالفه! فالخطيب لم يقدم الوصل على الإرسال مطلقاً، كيف وقد اشترط شرطاً واضحاً، كما سبق؟! نعم.. هو لم يذكر الميزان الذي نعرف به ضبط الراوي لروايته، لكنه أشار إلى ملامحه في أمثلته التي ساقها بعد ذلك. ويدل على ذلك أيضاً، هو أن الخطيب عارض ذلك الفهم الذي فهمه ابن الصلاح من كلامه، معارضة صارخةً، في كتابه (المزيد في متصل الأسانيد) . حيث قسم كتابه هذا إلى قسمين: الأول: ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد، والثاني: ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها (¬2) . مما يدل دلالة صريحة أن ¬

(¬1) الكفاية للخطيب (451-452) . (¬2) انظر شرح علل التر مذ ي لابن رجب (2/637-638) .

الخطيب لا يقدم الوصل على الإرسل مطلقاً، كما فهم من كلامه. بل وفي (الكفاية) للخطيب ما يدل على عدم صحة نسبة ذلك القول إليه، بتقديم الوصل على الإرسال مطلقاً. إذ بين الخطيب أسباب كتابة المحدثين للمراسيل من الأحاديث، فقال خلال ذلك: ((ومنهم من يكتبها على معنى المعرفة، ليعل المسندات بها. لأن في الرواة من يسند حديثاً يرسله غيره، ويكون الذي أرسله أحفظ وأضبط، فيجعل الحكم له)) (¬1) . وهذا كله كما ترى، واضح من القول، في بيان مذهب الخطيب من هذه المسألة. ثم جاء ابن الصلاح، ونظر في القول الذي رجحه الخطيب، فحمله على غير ظاهره، وبما يناقض به تصرفات الخطيب وأقواله الأخرى، مبيناً سبب اختياره له وموافقته عليه، فقال: ((وما صححه (يعني الخطيب) هو الصحيح في الفقه وأصوله)) ، ثم ذكر ابن الصلاح النقل الذي كان احتج به الخطيب لمذهبه (¬2) . مع أن مذهب الخطيب واستدلاله له مختلف عن المذهب الذي اختاره ابن الصلاح واستدلاله!! وقد بين الحافظ ابن رجب والحافظ ابن حجر وغيرهما أن كلام البخاري، الذي نقله الخطيب وتبعه ابن الصلاح، لا يدل على قبول الزيادة في لإسناد مطلقاً (¬3) . وهذا وحده ينفع أن ¬

(¬1) الكفاية للخطيب (434) . (¬2) علوم الحديث لابن الصلاح (72) . (¬3) انظر شرح العلل لابن رجب (2/ 638) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 607- 608) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/203) .

يكون دليلا جديداً، على عدم صحة فهم كلام الخطيب على ما فهم به، لأن دليله على قوله لا يصلح دليلاً لما فهم من قوله!! ولما فهم ابن الصلاح ذلك الفهم عن الخطيب، عاب تصرفه في كتابه (المزيد في متصل الأسانيد) (¬1) ، لأنه في رأيه ناقض به القول الذي في (الكفاية) ، ذلك القول الذي صححه الأصوليون أيضاً!! ثم لما وقف ابن رجب على ذلك كله، من كلام الخطيب وابن الصلاح، فهم كلام الخطيب على فهم ابن الصلاح، فلم يرض قوليهما. وقال بعد ذكره تصرف الخطيب في كتابه (المزيد في متصل الأسانيد) : ((ثم إن الخطيب على تناقض، فذكر في كتاب (الكفاية) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحد من متقد مي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين. ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً, كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء. وهذا يخالف تصرفه في كتاب (تمييز المزيد) . وقد عاب تصرفه في كتاب (تمييز المزيد) بعض محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب (الكفاية) ..)) (¬2) . ولا أشك أن مراد ابن رجب بـ (بعض محدثي الفقهاء) ابن الصلاح لأنه هو الذي عاب تصرف الخطيب، وطمع في قوله في (الكفاية) ، ولأن ابن الصلاح من (محدثي الفقهاء) !! وأهم ما في كلام ابن رجب هذا، عندي هنا، هو أنه بين منشأ هذا الاختيار الذي رضيه ابن الصلاح، وأنه مذهب ¬

(¬1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح (287) . (¬2) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/638) .

المتكلمين من الأصوليين والفقهاء. أما كلام ابن رجب عن الخطيب، فبينا أن الخطيب على خلاف ما فهم من كلامه. ثم الأقوال التي ذكرها الخطيب في هذه المسألة، وإن كانت مأخوذةً عن كتب المتكلمين كما قال ابن رجب، إلا أن ظواهر أقوال وتصرفات كثير من المحدثين تدل عليها، ولذلك ذكرها الخطيب، ثم رجح الراجح الصواب مما يدل عليه باطن علم المحدثين وحقيقة مذهبهم. ومع هذا التأثر الكبير بالأصول عند ابن الصلاح، إلى درجة ترجيح رأي الأصوليين، على رأي أهل الفن من المحدثين؛ إلا أنه زاد في بيان عمق هذا الأثر، وأنه تعمد مخالفة المحدثين إلى رأي الأصوليين، عندما قال في نوع (العمل) : ((وكثيراً ما يعللون (يعني المحدثين) الموصول بالمرسل، مثل أن يجيء الحديث بإسناد موصول، ويجيء أيضاً بإسناد منقطع أقوى من إسناد الموصول، وهذا اشتملت كتب علل الحديث على جمع طرقه)) (¬1) . إذن فابن الصلاح كان على علم بحقيقة رأي المحدثين من هذه المسألة، وأنهم كانوا كثيراً ما يقدمون المرسل على الموصول، مع ذلك رجح قول الأصوليين على قولهم!!! فهذا المثال وما سبقه يكفي لإثبات عمق أثر أصول الفقه على كتاب ابن الصلاح، ولذلك أمثلة أخرى ليس هذا موطن استقصائها. لكن زاد الأمر خطورةً في كتاب ابن الصلاح، بظهور بوادر (فكرة تطوير المصطلحات) السابق شرحها وبيان خطرها على ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (90) .

السنة وعلومها (¬1) . وهي تتلخص في تغيير مدلولات المصطلحات عما كانت عليه عند (أهل الاصطلاح) من المحدثين، إما بتضييق مدلول المصطلح، أو بتوسيعه! ولذلك مثالان: الأول: في مبحث (الحديث المعَل) ، قال ابن الصلاح في تعريف العلة والحديث المعل، قال: ((وهي (يعني العلة) : عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه. فالحديث المعلل: هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها)) (¬2) . كذا قيد ابن الصلاح (العلة) في الاصطلاح بقيد الخفاء وقيد القدح، مع أن ابن الصلاح نفسه يعلم أن اصطلاح المحدثين أوسع من ذلك بكثير!!! قال ابن الصلاح في آخر مبحث (المعل) أيضاً: ((ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه، من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ (العلة) في الأصل. ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح: بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح. وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث. ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح، من وجوه الخلاف. نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة ¬

(¬1) انظر (ص176-178) . (¬2) علوم الحديث لابن الصلاح (90) .

الضابط، حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول، كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ)) (¬1) . إذن فابن الصلاح كان يعلم أن استخدام المحدثين للفظ (العلة) شامل: للعلة الخفية والظاهرة، والقادحة وغير القادحة؛ فلم قصره ابن الصلاح في (العلة الخفية القادحة) ؟!!! ثم ما هي فائدة هذا التدخل في تفسير المصطلح؟!! ثم كم سيشوش هذا المعنى الذي ذكره ابن الصلاح لـ (العلة) ، في فهم تعليلات الأئمة، فيما لو فهم كلامهم على ذلك المعنى الضيق المخالف لسعة معنى المصطلح عندهم؟!!! ثم انظر: كم قلد ابن الصلاح ممن جاء بعده في هذا التدخل؟!! ولئن ذكر ابن الصلاح أن تفسيره لـ (العلة) في اصطلاح المحدثين يخالفه اصطلاحهم!!! فإن من جاء بعده ألقى بأقوال المحدثين المخالفة لذلك التفسير، واقتصر في تعريف (العلة) على تفسير ابن الصلاح لها (¬2) !! وبذلك تزداد الهوة، ويفدح الخطر!!! أما المثال الثاني: في مبحث (المنكر: فيقول ابن الصلاح في هذا المبحث: ((وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أن النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثيرٍ من أهل الحديث، والصواب فيه التفصيل..)) (¬3) ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (92-93) . (¬2) علوم الحديث لابن الصلاح (81) . (¬3) علوم الحديث لابن الصلاح (81) .

ويكفي هذا! فإذا كان الحكم بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجوداً في كلام كثيرٍ من أهل الحديث، فكيف يكون صواب الاصطلاح خلاف ما عليه أهل الاصطلاح!!! وغاية ما يمكن أن يدعى في الدفاع عن ابن الصلاح (مع أنه ليس في حاجةٍ إلى دفاع، لأنه معذور مأجور إن شاء الله تعالى!) ، أن يقال: إن القول الذي نقل ابن الصلاح أنه قول كثير من أهل الحديث، يخالفه قول الأكثرين من أهل الحديث، ولذلك صوبه ابن الصلاح. فأقول: هذه دعوى! فالبينة البينة؟! وعلى افتراض صحة هذه الدعوى، فلا يحق ـ مع ذلك ـ لأحدٍ أن يخطىء الكثيرين من أهل الحديث، وأن يصوب قول الأكثرين منهم فقط؛ أولاً: لأن أولئك كثيرون، وليسوا قليلين لتكون أقوالهم وإطلاقاتهم شاذةً غير مغتبرة. وثانياً: لأن المصطلح لا مشاحة فيه، فالواجب علي فهمه على ما هو عليه عند: (الكثرين) و (الأكثرين) ، إن صح ذلك الافتراض! كيف إذا علمت أن من أولئك (الكثرين) الذين أطلقوا لفظ (النكارة) على (التفرد) : الإمام أحمد، والنسائي (¬1) ؟!! وهما من هما: إمامةً في السنة، واعتماداً عليهما وعلى أقوالهما في علوم ¬

(¬1) النظر النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (674) .

الحديث المبثوثة المنتشرة في أصول ومصنفات السنة. وبهذا المثال وسابقه نستدل على محاولة ابن الصلاح تطوير المصطلح، وأنه كان معتنقاً لـ (فكرة تطوير المصطلحات) ! ومع هذه المؤخذات على كتاب ابن الصلاح، إلا أن قرب عهد ابن الصلاح من أسلاف المحدثين (بالنسبة إلى من جاء بعده) ، ورأيه المباشر في علم المنطق، واعتماده على كتب الخطيب البغدادي؛ كل ذلك قلص من اتساع الخرق بين معاني المصطلحات الحديثية والمعاني التي ذكرها لها ابن الصلاح. فلم يزل كتابه ـ في غالبه ـ رابطاً حسناً ومهماً بين المتقدمين والمتأخرين، وقائداً أميناً إلى فهم عبارات القوم وألقاب علمهم. أما بعد ابن الصلاح: فقد أصبح كتابه هماً للاحقين: شرحاً، واختصاراً، ونظماً، وانتقاداً، وانتصاراً، متأثرين بمنهجه، سائرين على دربه. ولئن كان تأخر الزمان كافياً للدلالة على زيادة ضعف تلقي العلوم النقلية، وعلى تعمق أثر العلوم العقلية عليها أكثر من ذي قبل = فإن ظهور بعض المؤخذات المنهجية على كتاب ابن الصلاح، جعلها مناهج سليمةً صحيحةً عند من جاء بعده، لإمامة ابن الصلاح وإمامة كتابه في علوم الحديث. مما خطا بعلوم الحديث خطوةً أخرى إضافية إلى التأثر بالعلوم الأجنبية عنها، وبالتوسع في تلك المؤخذات المنهجية خلال تفسير وتقعيد مصطلح الحديث وأصوله. وليس أدل على ذلك من انتقادهم لابن الصلاح وغيره ممن تكلم في علوم الحديث قبله، بعدم انضباط تعريفه على قواعد الأصوليين، وعدم تحريرها على صناعة المناطقة!! فهذا تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري المعروف بابن دقيق العيد (ت 702هـ) ، في كتابه (الاقتراح في

بيان الاصطلاح) ، ينتقد تعريف ابن الصلاح للحديث الصحيح، فيقول: ((وزاد أصحاب الحديث: أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث، لا تجري على أصول الفقهاء.. (إلى أن قال:) لن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً)) (¬1) . وغاب عن ابن دقيق العيد هنا، أن الكلام عن مصطلح الحديث عند أهل الحديث!! ثم لا وزن لغير أهل الحديث إذا خالفوا أهله فيه!!! وانتقد ابن دقيق العيد أيضاً الإمام الخطابي في تعريفه للحديث الحسن، فقال: ((وهذه عبارة ليس فيها كبير تلخيص، ولا هي على صناعة الحدود والتعاريف)) (¬2) . وبالنظر السابق نفسه، بل وباللفظ نفسه أيضاً، انتقد الإمام الذهبي (ت 748هـ) تعريف الخطابي، فقال في (الموقظة) : ((وهذه عبارة ليست على صناعة الحدود والتعريفات، إذ الصحيح ينطبق ذلك عليه)) (¬3) . والغريب أن كلاً من ابن دقيق العيد والذهبي ممن نصر القول بدخول الحسن في الصحيح، وأن كل صحيحٍ حسن، وليس كل حسن صحيح (¬4) . ¬

(¬1) الاقتراح لابن دقيق العيد (153- 155) . (¬2) الاقتراح (163- 164) . (¬3) الموقضة للذهبي (26) . (¬4) انظر الاقتراح (165- 167) ، والموقظة (27- 32) .

وذلك فيه بعض النقاقض، والذي قادهما إليه التزام صناعة الحدود المنطقية!! ويستمر هذا النظر، بالانتقاد نفسه، إلى الحافظ ابن حجر. فعندما ذكر الحافظ تعريف الخطابي للحديث الحسن، وما وجه إليه من انتقاد، ذكر جواباً عن ذلك الانتقاد للحافظ العلائي (خليل بن كيكلدي، الموفى سنة 761هـ) . فقال الحافظ ابن حجر، مشيراً إلى جواب العلائي: ((وعلى تقدير تسليم هذا الجواب، فهذا القدر غير منضبط، فيصح ما قال القشيري (يعني ابن دقيق العيد) : أنه على غير صناعة الحدود والتعريفات)) (¬1) . فالانتقاد المتوجه على تعريف الخطابي للحديث الحسن، عند الحافظ ابن حجر: أنه على غير صناعة الحدود المنطقية! ثم يهاجم علامة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير (ت 1182هـ) الحافظ ابن حجر، فيقول في (توضيح الأفكار) : ((ويقال للحافظ: وكذلك تعريفك (الحسن) في النخبة وشرحها بقولك: (فإن خف: أي قل الضبط، مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح فحسن لذاته) = غير منضبطًٍ أيضاً، فإن خفة الضبط أمر مجهول)) (¬2) . ثم أخذ الأمير في بيان العموم والخصوص المذكور بين (الصحيح) و (الحسن) ، وتوسع غاية التوسع في شرح (العموم) و (الخصوص) عند الأصوليين (¬3) ، حتى إن الناظر في كلامه ليعجب من هذا المبحث الأصولي البحت، ما الذي جاء به إلى مبحث (الحديث الحسن) ؟ ‍‍ ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/404) . (¬2) توضيح الأفكار للأمير الصنعاني (1/ 155) . (¬3) انظر توضيح الأفكار (1/156- 158) .

ثم ينتقل الأمير إلى علم المنطق الخالص: إلى الكلام عن الحدود والرسوم، والفرق بينهما، وعلاقتهما بالمعرفات.. وغير ذلك من علم المنطق الصرف (¬1) ؛ وهذا كله في مبحث (الحديث الحسن) ‍‍‍ وخلال كلام الأمير هذا، جاءت كلمة ابن الوزير الفاصلة، والقول الحق، الذي كنا قد ذكرناه سابقاً، وهو قوله: ((وذكر الحدود المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن، فلا حاجة إلى التطويل فيه)) (¬2) وأكتفي بهذا القدر اليسير في حجمه، العظيم في دلالته، من الكلام عن منهج من جاء بعد ابن الصلاح، لنقف عند تحولٍ جديد وأعمق في هذا العلم. ونحن في هذه الوقفة، عند هذا التحول في منهج التصنيف في علوم الحديث، لنرى (فكرة تطوير المصطلحات) ماثلةً أمام أعيننا، ونمسك أثر علوم المنطق وأصول الفقه متجسداً في أحد تصانيف هذا العلم. أعني بهذا كتاب (نزهة النظر (¬3) في توضيح نخبة الفكر) ، كلاهما للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . و (النخبة) وشرحها هذان، من حين ما صنفا، احتلاً مكان الصدارة في كتب علوم الحديث، (فلا يحصى كم ناظمٍ لها ¬

(¬1) انظر توضيح الأفكار (1/158) . (¬2) المصدر السابق، وانظر (ص 164- 165) . (¬3) يشكك بعض طلبة العلم في أن يكون اسم (شرح النخبة) : (نزهة النظر) ، وقد رد على هذا الظن محقق (النزهة) الشيخ الفاضل علي بن حسن الحلبي في مقدمة تحقيقه (ص 24) .

ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارضٍ لها ومنتصر) (¬1) . لذلك كان للمنهج الذي سار عليه الحافظ فيهما أكبر الأثر فيمن جاء بعده، إلى عصري هذا ‍ وقبل دخولي في بيان المؤخذات على (نزهة النظر) ، أحيل القارىء الكريم إلى كلامٍ سابقٍ لي، اعتذرت فيه عن تكرير ديباجة الاعتذار عند كل نقدٍ علمي موضوعي (¬2) ، فلا تأثم - لا أثمت - بسوء النية قبل الوقوف عليها ‍ أقول هذا لما لـ (تزهة النظر) من قدسيةٍ لا تنال عند أهل عصري، وكأنها كتاب ناطق أو سنة ماضية ‍‍ وليس عندي - بحمد الله - لغير كتاب الله وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه قدسية، فالكتاب وحده الذي اختص بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الثابتة وحدها المعصوم صاحبها صلى الله عليه وسلم، وما أرشدا إليه وحده هو شرع الله العظيم الكامل التام. وليس عندي أيضاً ـ بحمد الله ـ أدنى شك في أهمية كتاب (نزهة النظر) ، وفي كثيرٍ من مباحثه الجليلة العظيمة النفع. كل ما في الأمر أني رأيت لـ (نزهة النظر) في بعض مباحثه منهجاً غريباً على علوم السنة، وغاية أغرب في تفسير مصطلحاتها. وأحسب هذا المنهج والغاية خطيرين على السنة النبوية وعلومها، فلم أر الأمر يسعني بالسكوت عن ذلك. وإياك إياك أن تتفرس الأسطر، وتقرأ ما بينها (بزعمك) ، ¬

(¬1) من كلام الحافظ ابن حجر في (نزهة النظر) عن كتاب ابن الصلاح (ص 51) . (¬2) انظر (ص 205- 206) .

لتقول علي ما لم أقل، وتنسب 'لي ما لا علاقة لي به. فمرادي هو المنطوق دون المفهوم ‍ولازم مذهبي بلازم ‍‍ والله يعينني وإياك على طريق الحق وقبوله ‍‍ وأقول هذا، لنه قد بلغ الأمر على درجة أن الناظر في (نزهة النظر) يحسب أن الحافظ يصنف في بيان مصطلحه الخاص به، أو أن للحافظ الحق في التحكم بمصطلحات المحدثين، بتصويب هذا وتخطيء ذاك، وباختيار مدلول دون آخر، وبابتداع فروق وقيود جديدة على المصطلحات ومعانيها‍ بل لقد قيل لي مرة، عندما عرضت رأيي من هذه المسألة، وهوجم ـ بالطبع للدفاع عن (النزهة) ، قيل لي: لا مشاحة في الاصطلاح، والحافظ حر فيما يقول ويصطلح ‍ فقلت جواباً عن هذا ـ ولا حاجة لهذا إلى جواب، بعد بيان خطر (فكرة تطوير المصطلحات) وخططها (¬1) ـ: لقد سمى الحافظ كتابه بـ (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) ، ولم يقل: في (مصطلح) ‍‍‍ أما أدلة هذا الهجوم (عند من لا يعرفني مع الحافظ والنزهة) ، والبيان والتوضيح للحق (عند من يعرفني معها) ، فالآتي: حيث يبدأ عمق التأثر بعلم المنطق بالوضوح، من حيث النظر في ترتيب (النزهة) ، الترتيب المغاير لكل الكتب السابقة في علوم الحديث. ¬

(¬1) انظر (ص 176- 178) .

فالكتاب مبني في ترتيبه على أساس (التقسيم العقلي) (¬1) . عند المناطقة، أو ما يشبه (السبر والتقسيم) (¬2) المعروف عند الأصوليين في مسالك العلة من باب القياس. وليس في هذا الترتيب مؤاخذة على الحافظ، لكن ذلك يدل على تغلغل أثر (علم المنطق) وتعمق (الأصول) في فكر الحافظ ومنهجيته،، إلى درجة بناء الكتاب في ترتيبه على أساسها. ثم أول ما يبدأ به الكتاب: تقسيم الأخبار إلى (متواتر) و (آحاد) ، وقد خطا الحافظ في هذا التقسيم خطوةً جديدة، دالةً على مزيد تأثره بأصول الفقه على ابن الصلاح. وقد سبق ذكر بعض ما يتعلق بذلك (¬3) ، وقي أشياء لا أطيل بها ‍ وفي أثناء هذا التقسيم، وعند كلامه عن أقسام (الآحاد) ، حصر الحافظ (العزيز) فيما لم يروه أقل من أثنين عن اثنين (¬4) ، و (المشهور) فيما رواه ثلاثة فصاعداً، ما لم يبلغ حد التواتر (¬5) . مع أن الذي قرره أبو عبد الله ابن منده (ت 301هـ) ، وهو من (أهل الاصطلاح) ، وتابعه ابن الصلاح: أن (العزيز) ما رواه ¬

(¬1) التقسيم العقلي: هو تقسيم المقسم إلى لاشيء ونقيضه، أو إلى الشيء وما يشبه نقيضه. مثاله: في الأول: (الموجود ـ المعدوم) ، وفي الثاني (العدد: زوج ـ فرد) . انظر آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (2/9 - 10) . (¬2) السبر والتقسيم: هو حصر الأوصاف، وإبطال كل علةٍ علل بها الحكم المعلل، إلا واحدة فتتعين. انظر البرهان للجويني (2/815) ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/142) . (¬3) انظر (ص 123-127) . (¬4) نزهة النظر (ص 64) . (¬5) نزهة النظر (ص 62) .

اثنان أو ثلاثة (¬1) . فما حجة الحافظ في ذلك الحصر؟ ‍‍ وفي مخالفة أهل الاصطلاح؟ ‍‍‍ وفي أثناء ذلك المبحث أيضاً، بل في آخره، تعرض الحافظ لمصطلحي (المرسل) و (المنقطع) ، كما أنه تعرض لهذين المصطلحين في موضعهما من بيان أنواع السقط في الإسناد. وخلاصة ما ذهب إليه هو أن: (المرسل) : ما سقط من آخره من بعد التابعي (¬2) . و (المنقطع) : ما سقط من أثنائه واحد، أو أكثر بشرط عدم التوالي (¬3) . وقال: ((أكثر المحدثين على التغاير، لكنه عندإطلاق الاسم. وأما عند استعمل الفعل المشتق فيستعملون الإرسال فقط، فيقولون: أرسله فلان، سواء كان ذلك مرسلاً أو منقطعاً. ومن ثم أطلق غير واحدٍ، ممن لم يلاحظ مواضع استعماله، على كثيرٍ من المحدثين أنهم لا يغايرون بين المرسل والمنقطع. وليس كذلك، لما حررناه)) (¬4) . فالحافظ ـ بدءاً ـ يعترف بأن المغايرة بين (المرسل) و (المنقطع) ، ليس إجماعاً من المحدثين، وإنما ذلك ـ بزعمه ـ عند أكثر المحدثين. فربما قابلهم كثيرون لا يغايرون، أو قليلون ‍ ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (270) ، وانظر فتح المغيث للسخاوي (4/ 8) ، وتدريب الراوي للسيوطي (2/167) . (¬2) نزهة النظر (109) . (¬3) انظر نزهة النظر (112) . (¬4) نزهة النظر (81- 82) .

إذن فحصره المصطلح في أحد معانيه عند بعضهم دون بعضٍ تحكم لا دليل ولا مسوغ له، والواجب علي فهم أن في الاصطلاح اختلافاً في مدلوله بين المحدثين، حتى يمكنني تنزيل كلامهم منزلته وفهمه على وجهه. وأحسب أن الحافظ أراد بنقده (لمن لم يلاحظ مواضع الاستعمال) ـ كما قال ـ الخطيب البغدادي، حيث قال في (الكفاية) : ((أما (المرسل) : فهو ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬1) . وكلام الخطيب هذا هو الصواب في تعريف (المرسل) ، وهو من بديع كلام الخطيب في شرح مصطلح الحديث. والتدلي على صوابه يكون بالرد على الحافظ ابن حجر! فالحافظ يزعم أن المغايرة بين (المرسل) و (المنقطع) تظهر في الاسم، دون الفعل المسشتق، كما سبق نقل كلامه. فأين الحافظ في زعمه هذا عن (المراسيل) لأبي داود؟ ! وفيه من رواية التابعي عمن لم يدركه من الصحابة روايات عدة (¬2) . فهي عند الحافظ من (المنقطع) دون (المرسل) ، مع ذلك ذكرها أبو داود في (المراسيل) ، و (المراسيل) اسم لا فعل!! كلا.. لا (أين) ! فالحافظ كان عالماً برأي أبي داود هذا (¬3) !! لكن يبدو أنه ألغاه من الاعتبار في شرح المصطلح، ¬

(¬1) الكفاية (37) . (¬2) انظر المراسيل لأبي داود (رقم 47، 110، 154، 193، 241) ، وغيرها. (¬3) انظر انكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/544) .

لأنه من الكثيرين الذي خالفوا الأكثرين!!! أم كيف غاب عن الحافظ (المراسيل) لا بن أبي حاتم، وجله في الانقطاع قبل الصحابي؟!!! وفيه أقوال بالغة الكثرة لأئمة كثيرين من أهل الحديث، يعبرون فيها عن عدم سماع راوٍ من راوٍ بأنه (مرسل) ، كذا بالصيغة الاسمية!! ثم أخيراً: أين (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) للعلائي عن الحافظ؟! وهو على نمط سابقه!! وهذا كله في إطلاق (المرسل) بالصيغة الاسمية على (المنقطع) عند الحافظ، فماذا يقول؟!! وأما إطلاق (المنقطع) على (المرسل) ، فوارد في صريح كلام الإمام الشافعي في (الرسالة) ، حيث قال: ((المنقطع مختلف: فمن شاهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي= اعتبر عليه بأمور ... )) (¬1) . ¬

(¬1) الرسالة للشافعي (رقم 1263- 1264) .

هذا هو الكلام الذي نقل عن الحاكم، وفهم منه أن الحاكم يحصر مصطلح (المرسل) في الصورة التي ذكرها، وهي رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل ظاهر كلام الحاكم، أن الإجماع منعقد على ذلك. لكن سبب الخطأ في فهم كلام الحاكم على ذلك أنه حذف منه أوله! حيث ابتدأ الحاكم هذا النوع بقوله: ((النوع الثامن من هذا العلم: معرفة المراسيل المختلف في الاحتجاج بها ... )) (¬1) . فالحاكم إذن لا يتكلم عن (المرسل) بإطلاق، إنما يتكلم عن (المرسل) الذي وقع الاختلاف في الاحتجاج به. هذا ظاهر كلام الحاكم، وصريح عبارته!! ثم يؤده إطلاق الحاكم في غير موطن من كتبه لفظ (المرسل) واشتقاقاته على غير ما حصر فيه. وذلك في مثل قوله عن حديثٍ للحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (25) .

((إسناد صحيح الرواة، مرسل عن علي)) (¬1) ، وكقوله أيضاً على حديث آخر للحسن عن عائشة رضي الله عنها: ((هذا حديث صحيح إسناده، لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة)) (¬2) . ونحو الحاكم في هذه المسألة الحافظ ابن عبد البر، وكلامه عن (المرسل) في كتابه (التمهيد) (¬3) !! وأكتفي بهذه الإشارة والدلالة، عن التطويل في الإيضاح والبيان. وننتقل عن هذه المسألة إلى دليل آخر على تبني الحاغفظ لـ (فكرة تطوير المصطلحات) . ففي تعريف الحافظ لـ (العلة) في اللاصطلاح تغير لمدل المصطلح عند أهله، كما سبق بيانه فيما تقدم من هذا الباب (¬4) . ثم نقف عند مصطلحي (المنكر) و (الشاذ) ، وما يقابلهما (المعروف) و (المحفوظ) . أما (المنكر) و (الشاذ) ، فقد فرق بينهما الحافظ، وقصر مدلوليهما وقده بوقوع مخالفة، فإن كانت مخالفة مقبول فهو (الشاذ) ، وإن كان ضعيفاً فهو (المنكر) (¬5) مع أن ابن الصلاح قبله لم يفرق بين (المنكر) و (الشاذ) (¬6) ! ¬

(¬1) انظر مبحث علي بن أبي طالب في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) . (¬2) المستدرك (4/578) . (¬3) التمهيد (1/19) . (¬4) انظر (ص 220- 221) . (¬5) نزهة النظر (97- 98) . (¬6) علوم الحديث لابن الصلاح (76- 82) .

بل والحافظ نفسه يعترف بعدم انضباط هذا التعريف في استخدامات المحدثين، وأنهم يطلقونهما على مدلولات أوسع مما ضيقها فيها الحافظ (¬1) . ومما سبق ذكره، ويعرفه الحافظ، أن الإمام أحمد والنسائي يطلقان النكارة على مطلق التفرد (¬2) . وقد سبق الكلام عن خطأ إغفال هذا الاستعمال في شرح مصطلح (المنكر) (¬3) ، فضلاً عن غيره من استعمالاته واستعمالات (الشاذ) . ثم إن الحاكم أبا عبد الله، وهو من أهل الاصطلاح، عرف (الشاذ) ، وضرب له أمثلة. فلم لم يلتزم الحافظ تعريفه (¬4) ؟! وأيضاً فقد عرف (المنكر) الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون بن روح الرديجي (ت 301هـ) ، وهو من أهل الاصطلاح. فبأي حق يخالفه الحافظ (¬5) ؟! أما دعوى أن مقابل (الشاذ) (المحفوظ) ، وأن مقابل (المنكر) (المعروف) ، كذا قسمةً باتة= فأجزم أنها من كيس الحافظ، وانه لم يسبق إليها، ولا هناك ما يدل عليها!!! وكتب العلل مليئة بإطلاق (المحفوظ) و (المعروف) دون التفات إلى هذا التقسيم، أو اعتباره (¬6) !! وقد نبه إلى ذلك ابن قطلوبغا في حاشيته على (نزهة) ! ¬

(¬1) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/674- 675) . (¬2) انظر (ص 222) . (¬3) الموضع السابق. (¬4) معرفة علوم الحديث للحاكم (119- 122) . (¬5) علوم الحديث لابن الصلاح (80) . (¬6) انظر مثالاً على ذلك في العلل للدار قطني (2/87رقم 129) .

قال ابن قطلوبغا عند تقسيم الحافظ وتعريفه لـ (المنكر) و (الشاذ) وما يقابلهما: ((وما ذكره في توجيهه ليس على حد ما عند القوم)) (¬1) . وقال ابن قطلوبغا أيضاً معلقاً على قول الحافظ ((وقد غفل من سوى بينهما)) ، قال: ((قد أطلقوا في غير موضع (النكارة) على رواية الثقة مخالفاً لغيره، من ذلك: حديث نزع الخاتم (¬2) ، حيث قال أبو داود: ((هذا حديث منكر)) (¬3) ، مع أنه من رواية همام بن يحيى، وهو ثقة احتج به أهل الصحيح. وفي عبارة النسائي، ما يفيد ـ في هذا الحديث بعينه ـ أنه (أي المنكر) يقابل (المحفوظ) (¬4) . وكأن (المحفوظ) و (المعروف) ليسا بنوعين حقيقيين، تحتهما أفراد مخصوصة عندهم، وإنما هي ألفاظ تستعمل في التضعيف، فجعلها المؤلف أنواعاً، فلم توافق ما وقع عندهم)) (¬5) . فانظر إلى هذا (الجديد) و (التطوير) لمعاني المصطلحات، وتنبه إلى نتائج ذلك وأخطاره!! ثم بعد ذلك في (النزهة) ، عند الكلام عن الأحاديث المقبولة المتعارضة، يقول الحافظ: ((فإن أمكن الجمع، فهو النوع ¬

(¬1) حاشية ابن قطلوبغا (القول المبتكر) = (ص 101) . (¬2) هو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)) . (¬3) سنن أبي داود (رقم 19) . (¬4) حيث قال النسائي عن هذا الحديث الذي وصفه أبو داود بأنه (منكر) : ((غير محفوظ)) كما في السنن الكبرى (5/456رقم 9542) . (¬5) حاشية ابن قطلوبغا (103) ، ووقع فيه تصحيف صوبته من اليواقيت والدرر للمناوي (1/290) ، كما وقع في الثاني تصحيف أيضاً!

المسمى (مختلف الحديث) ... )) (¬1) . فقصر الحافظ (مختلف الحديث) في: (الحديث المقبول الذي عارضه مثله معارضةً ظاهريةً وأمكن الجمع) ، كذا بقيد إمكان الجمع، كما هو واضح في كلامه. أما ابن الصلاح قبله، فذكر في نوع (معرفة مختلف الحديث) : ما أمكن فيه الجمع، وما لم يمكن مما قيل فيه بالنسخ أو بالترجيح؛ وهذا كله في (مختلف الحديث) (¬2) ! وهذا أيضاً هو صريح مقال وفعال الإمام الشافعي في كتابه (اختلاف الحديث) (¬3) . ومثله ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276هـ) ، في كتابه (تأويل مختلف الحديث) (¬4) . أما استاذي الدكتور أسامة بن عبد الله الخياط في كتابه (مختلف الحديث) ، فتوسط بين الحافظ وغيره، حيث مال إلى أن (مختلف الحديث) شامل لما أمكن فيه الجمع أو الترجيح، دون النسخ (¬5) . على أني أعلن أن (مختلف الحديث) ليس من مصطلحات ¬

(¬1) النزهة (103) . (¬2) علوم الحديث لابن الصلاح (284- 286) . (¬3) انظر اختلاف الحديث (39- 40) ، وانظر مثالاً لما صار فيه إلى القول بالنسخ في حديث: ((الماء من الماء)) = (ص 59- 64) ، ولما صار فيه إلى الترجيح، في التيمم (ص 64- 66) . (¬4) انظر مثالاً لما صار فيه ابن قتيبة إلى القول بالنسخ في تأويل مختلف الحديث (ص 194) ، وهو في حد القطع في السرقة. (¬5) مختلف الحديث للدكتور أسامة خياط (32) .

أقسام الحديث، التي كان يعبر بها عن حال المروي كـ (الصحيح) و (الضعيف) ونحوهما. وإنما (مختلف الحديث) اسم لمصنفات في شرح أحاديث شملتها صفة واحدة، هي: وقوع اختلاف أو تناقض بينهما وبين غيرها من كتاب أو سنة أو عقل صحيح، لتزيل إشكال ذلك الاختلاف وحرج ذاك التناقض. ومثل (مختلف الحديث) في ذلك مثل (المتفق والمفترق) و (المؤتلف والمختلف) و (المتشابه في الرسم) والمزيد في متصل الأسانيد) ، وغيرها، من أسماء المصنفات، التي أدخلها ابن الصلاح في أنواع كتابه، فتطور الأمر بعده، فظنت أنها مصطلحات متداولة كـ (الصحيح) و (الضعيف) . ثم ننتقل إلى مسألة أخرى، قد أشبعتها بحثاً في نحو سبع مجلدات! إنها مسألة (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) . وما أريد ذكره هنا أن الحافظ صرح بأن السبب من تفريقه بين: (رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه) بتسميته (إرسالاً خفياً) ، و (رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه) بحصر (التدليس) فيها؛ بين أن سبب هذا التفريق هو: ((لتتميز الأنواع)) (¬1) ، يعني من أجل (تطوير المصطلحات) !!! وفي هذه المسألة يتضح اعتناق الحافظ لـ (فكرة تطوير المصطلحات) ، وأنه كان مؤمناً بها، لا يرى فيها ما يدعو إلى عدم السعي لتحقيقها!! والوقوف على عجائب ذلك وغرائبه، يستلزم منك الوقوف على تلك الدراسة المطولة، المشار إليها آنفاً. ¬

(¬1) انظر تعريف أهل التقديس لابن حجر (25) .

فإذا مضينا مع (النزهة) ، نقف عند أنواع الطعن في الراوي، ومسمى حديث من طعن فيه بأحدها (¬1) ؛ لتلمح (التطوير) والتحكم في ذلك من النظرة الأولى! فإذا فحصت عن ذلك ظهر لك تأكيد تلك الملامح!! فإذا عجلت المضي في (النزهة) ، يستوقفك قول الحافظ: ((فإن كان ذلك (يعني التغيير) بالنسبة إلى النقط: فـ (المصحف، وإن كان بالنسبة إلى الشكل (¬2) : فـ (المحرف) ..)) (¬3) . وهذا التفريق تفريق حادث، واصطلاح خاص بالحافظ، لم يسبقه إليه أحد!! وقد أشار بعض شراح (النزهة) إلى أن هذا التفريق اصطلاح للحافظ دون غيره (¬4) . وقال الإمام العلامة المحدث أحمد بن محمد شاكر بن ¬

(¬1) انظر نزهة النظر (122- 123) . (¬2) المراد بالشكل: الضبط بالحركات والسكنات، كسليم وسليم، وما كنت أحسب أحداً يفهمه على خلاف ذلك، حتى قيل لي مرة: إن مراد الحافظ بـ (الشكل) هيئة الكلمة وصورتها! فقلت: فلا فرق إذن بين (المصحف) و (المحرف) ، لأن (بريداً ويزيداً) و (بشيراً ويسيراً ونسيراً) مع أن التغيير فيها وقع في النقط، فقد تناول هيئة الكلمة وصورتها أيضاً. ولا يتصور تغيير النقط، إلا بتغيير صورة الكلمة أيضاً. وعلى كل حال، فقد اتفقت كلمة شراح (النزهة) على فهم كلام الحافظ ومراده بـ (الشكل) على ما ذكرته. فانظر قفو الأثر لابن الحنبلي ـ وحاشية تحقيقه ـ (77) ، وشرح شرح نخبة الفكر لملا علي القاري (490) ، وبلغة الأريب للزبيدي (195) ، واليواقيت والدرر للمناوي (2/431) ، ولقط الدرر للسمين (95) . (¬3) النزهة (128) . (¬4) انظر إمعان النظر للنصربوري (163) ، وبهجة النظر لأبي الحسن الصغير السندي (164) ، ولقط الدرر للسمين (96) .

أحمد الشريف الحسيني المصري (1377هـ) ، في حاشية تحقيقه لألفية الحديث للسيوطي، بعد ذكره لتفريق الحافظ بين (المصحف) و (المحرف) : ((وهو اصطلاح جديد، وأما المتقدمون فإن عباراتهم يفهم منها أن الكل يسمى بالاسمين، وأن التصحيف مأخوذ من النقل عن الصحف، وهو نفسه تحريف)) (¬1) . وتبعه على ذلك عبد الفتاح أبو غدة في تحقيقه لـ (قفو الأثر) (¬2) . وقد كنت رددت تفريق الحافظ هذا في أصل هذا البحث بالأدلة، ثم طبع حديثاً كتاب (التصحيف وأثره في الحديث والفقه ودجهود المحدثين في مكافحته) للأستاذ أسطيري جمال. وقد أطال في رد هذا التفريق، وفي الاستدلال لنقضه، بما يكفي ويشفي. فاستغنيت عما كنت كتبته، بما أحيل إليه من ذلك الكتاب (¬3) . والأعجب من ذلك كله، هو موقف بعض شراح (النزهة) . فبعد تقريرهم أن تفريق الحافظ اصطلاح خاص به، قالوا: ((ولا مشاحة في الاصطلاح)) !!! فأقول: لكن الذي فعله الحافظ هو (المشاحة) !! لأنه يتكلم عن مصطلح أهل الأثر، كما سمى كتابه، وليس يتكلم عن مصطلحه الخاص به!! وتفريقه ذاك مخالف لاصطلاح أهل الأثر، فيقال له هو: ((لا مشاحة في الاصطلاح)) !!! وهنا أنتهي من كلامي عن (نزهة النظر) ، بما أظهرت به أن ¬

(¬1) ألفية السيوطي ـ الحاشية ـ (203- 204) . (¬2) قفوا الأثر لابن الحنبيلي - الحاشية - (77- 82) . (¬3) التصحيف لأسطيري - جمال (25-41) .

لـ (النزهة) ـ في مواضع منها ـ منهجاً غير سديد في فهم المصطلح، قائماً على (فكرة تطوير المصطلحات) التي كررنا التأكيد على خطرها وأثرها المدمر على علوم الحديث (¬1) . وأرجو ـ بعد ذلك ـ أن يكون مقصودي واضحاً، فلا يفسر على غير ما أردت. إذ إنه ليس غرضاً لي ـ ولم يكن ولن يكون غرضاً لي ـ الحط من كتاب كـ (نزهة النظر) . إنما أردت بيان فضل المنهج السليم في فهم مصطلح الحديث على المناهج الأخرى، وبيان من سار على ذلك المنهج أو تلك المناهج من المصنفين في علوم الحديث. فإذا عدنا إلى سياق كتب علوم الحديث، وتلمس مناهجها، بعد الحافظ ابن حجر، فأقول ـ مختصراً المقال: ـ إن اشهر الكتب في علوم الحديث بعد الحافظ ابن حجر، هي: (فتح المغيث شرح ألفية الحديث) للسخاوي (ت 902هـ) ، و (تدريب الراوي شرح تقريب النواوي) للسيوطي (ت 911هـ) ، و (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الآثار) للأمير الصنعاني (ت 1182هـ) . وقد اتخذت هذه الكتب، وغيرها مما وضع في عصرها أو بعده، من (نزهة النظر) للحافظ ابن حجر= أصلاً أصيلاً، ومصدراً أساسياً، في فهم مصطلح الحديث وتقرير قواعده. فتناقلت الكتب ما جاء في (النزهة) ، ونصرته، غالباً. ولقد كان السخاوي مثالاً للتلميذ المتعصب لشيخه: الحافظ ابن حجر، وحق له ـ والله ـ ذاك!! لكن الحافظ عندي إمام، وابن الصلاح إمام، والخطيب إمام، والحاكم إمام، وغيرهم من ¬

(¬1) النظر (ص 176) .

نقاد الحديث أئمة أيضاً. فلا معنى للتعصب عندي لأحدهم دون الآخر!! لذلك رأيت الحق أولى ما ابتغي وسعي إليه، وأحق ما نصر وتعصب له!! أما السيوطي فأخف من غيره تعصباً للحافظ، خاصةً في (تدريب الراوي) ى. ولعل سبب ذلك أنه يشرح كتاباً للنووي في اختصار كتاب ابن الصلاح، ثم هو لم يتتلمذ على الحافظ ابن حجر. وأما الأمير الصنعاني فأبعدهم عن التعصب، لكنه لا يجري مجرى غيره في ممارسة علم الحديث تطبيقاً وعملاً، ثم يؤخذ عليه كثرة تعويله على كتب أصول الفقه وترجيح آراء اصحابها على آراء أصحاب الفن من المحدثين! غير أنه مما يميز هذه الكتب وأشباهها، أنها كتب موسعة، مليئة بالنقول والأمثلة. إضافةً إلى تحريراتٍ وفوائد وفرائد، لا يستغنى عنها إلا من استغنى عن هذا العلم. وبذلك أكون قد انتهيت من هذا العرض، لمناهج كتب علوم الحديث، وتمييز خصائها ومحاسنها من المؤخذات عليها. وقد حاولت جاهداً الاختصار، وإلا فالمجال واسع فسيح، بدراسة كل كتابٍ على حدة، دراسةً شاملةً وافيةً، من خلال الغاية التي سعيت إليها في هذا العرض. ومن هنا أنتقل إلى الباب الآتي.

الباب الخامس: كيف نفهم مصطلح الحديث؟ (ويتضمن الخطوات العملية لفهم مصطلح الحديث)

الباب الخامس: كيف نفهم مصطلح الحديث؟ (ويتضمن الخطوات العملية لفهم مصطلح الحديث)

كيف نفهم مصطلح الحديث؟

كيف نفهم مصطلح الحديث؟ لقد كاد هذا العنوان (كيف نفهم مصطلح الحديث؟) يكون عنواناًلهذا البحث كله، وهو أهل لذلك، لأنه خاتمة المطاف، وخلاصة بحثنا، ونتيجة دراستنا كلها. وقد سبقت الإجابة عن بعض هذا السؤال، في فصل كلامنا عن المنهج النظري السليم في فهم مصطلح الحديث (¬1) . ونزيد الأمر هنا إيضاحاً، ونكمل الجواب، بما يكفي ـ إن شاء الله تعالى ـ لإيصالنا إلى الغاية المبتغاة والضالة المنشودة، وهي: فهم مصطلح الحديث! وسنسير في جوابنا على سؤالنا هذا على خطوزات: الخطوة الأولى: الاستقراء التام لكتب الحديث ومصنفات السنة، على اختلاف طرائق تصنيفها وأغراضها، وخاصةً كتب أهل الاصطلاح (وهم محدثو القرن الثالث فما قبله، وأئمة المحدثين في القرن الرابع) (¬2) ، أو الكتب التي تعني بنقل كلام أهل الاصطلاح هؤلاء. ونقوم خلال هذا الاستقراء بجمع الألفاظ التي تتكرر على ألسنة أهل الاصطلاح وفي كتبهم، للتغبير بها عن حال الراوي أو ¬

(¬1) انظر (ص 171- 180) . (¬2) انظر (ص 175- 176) .

المروي. مع جمع مسائلهم الجزئية وصورها الفردية، التي استخدمت تلك الألفاظ في التعبير عن حالها وفي الحكم عليها. مثلاً: إن قال أحد الأئمة من أهل الاصطلاح عن حديثٍ ما: ((منكر)) ، قيدت هذا اللفظ، مع الحديث الذي أطلق به عليه أيضاً. ثم لهذا الاستقراء وجهان، لكل واحدٍ منهما دوائر متعددة. فالوجه الأول: استقراء الألفاظ كلها أو بعضها: وأوسع دوائر هذا الاستقراء: استقراء جميع مصطلحات وألقاب علم الحديث في عبارات أهل الاصطلاح. وهذه الدائرة لا يستطيع القيام بها فرد، بل ولا أفراد، ولا بد للقيام بها من تنظيمٍ يتكون من لجان متعددة الوظائف، متفرغة لمثل هذا العمل العظيم، لتقوم به خلال سنوات أو عقود! فمن يقوم بمثل هذا العمل العلمي الجبار؟!! وأضيق هذه الدوائر: استقراء مصطلح واحد في استخدامات أهل الاصطلاح. وهذه الدائرة يمكن لبعض ذوي القدرة العلمية والجلد في البحث والتفرغ لذلك، من القيام بها خلال بعض سنوات في أقل تقدير. وبين هذه وتلك: دوائر أخرى، تتسع وتضيق، بحسب سعة استقراء المصطلحات وضيق استقرائها. الوجه الثاني: استقراء المصطلحات في استخدامات جميع أهل الاصطلاح أو بعضهم: وأضيق دوائر هذا الاستقراء: استقراء مصطلح أو مصطلحات إمام واحدٍ من أهل الاصطلاح. ومن ميزة هذا الاستقراء أنه دقيق النتائج، خاصةً فيما لو كان لذلك الإمام اصطلاحات خاصة به. ومن عيوبه أنه قد لا تتضح فيه الرؤيا، بسبب قلة المسائل الجزئية التي أطلق عليها ذلك الإمام أحد الألقاب أو الأحكام، مما يصعب معه الجزم بمعنى تلك الألقاب أو الأحكام. وأوسع دوائر هذا الاستقراء: استقراء مصطلح أو

مصطلحات جميع أهل الاصطلاح. وهي تقوم في الحقيقة على احتواء أضيق الدوائر جميعها، بجمع مصطلح أو مصطلحات أحد الأئمة من أهل الاصطلاح وحده، وهكذا غيره، إلى أن تجمع الألفاظ المعنية بالدراسة في استخدامات جميع أهل الاصطلاح، مقسمةً على مستخدميها كل واحدٍ منهم وحده. وبعد دراسة ألفاظ كل إمام، نقوم بالجمع بين النتائج، لاستخلاص نتيجةٍ واحدة. وهذه الدائرة في ضخامتها وعظيم ما تحتاجه لتنفيذها، يمكن أن تتحد في مشروع واحدٍ جليلٍ تاريخي، مع الدائرة الأولى من الوجه الأول للاستقراء. وبين هذه الدائرة وتلك: دوائر أخرى، تتسع وتضيق، بحسب سعة الاستقراء للأئمة من أهل الاصطلاح في استخداماتهم، أو ضيقه كذلك. ويمكن أن تضبط هذه الدائرة الوسطى بضابط (الطبقة) ، وإن كانت (الطبقة) أيضاً يمكن أن تتسع وتضيق. لكن الانضباط بالطبقة، مهما كانت، أسلم في المنهج، وأدق في النتيجة. إذ من غير المعقول أن أجمع في دراسةٍ واحدةٍ مثلاً بين محمد بن سيرين من التابعين وابن حبان من علماء القرن الرابع، فما فائدة هذا الجمع حينها؟! وما مدى مصداقية نتائجه؟!

وأذكر هنا ما يقوم به غالب الدارسين في مرحلتي (الماجستير) و (الدكتوراه) ، من موازنة أقوال إمامٍ في الجرح والتعديل من أهل الاصطلاح مثل (شعبة بن الحجاج) ، بأقوال الحافظ ابن حجر في (التقريب) مثلاً. فلا أدري! ولست إخال أدري! كيف انطلى هذا المنهج (الذي لا ينطوي على منهج) على المجالس العلمية والأساتذة الأكادميين في جامعتنا الإسلامية؟!! فهل المنهج بين الإمامين واحد؟! وهل مصطلحهما واحد؟! وهل مصادر العلم وموارد المعرفة بين الإمامين وبين المعصرين واحدة أيضاً؟! ثم هل فهمنا ـ قطعاً ـ كل مصطلحات الحافظ؟ حتى نقيس عليها!! ثم هل يصح أن نجعل اجتهاد الحافظ مقياساً في الخطأ والصواب علم شعبة؟ مع ذلك الفارق الكبير والبون الشاسع بين الرجلين: في العصر، والاصطلاح، بل والعلم أيضاً!!! ولو تنبه القائمون بتلك الدراسات، إلى ميزة الاصتقراء في دائرة (الطبقة) ، لما رضوا عنها بديلاً!! إذ إن (المصطلح) ، غير المترجم عن علم متكامل، وهو النشىء من خلال التواضع والعارف، لا بد أن يمر بمراحل، قبل اكتمال ذلك العلم. وإن كانت هذه المراحل قد يكثر تتابعها وقد يقل، تطول المرحلة الواحة زمناً وقد تصر، وقد تنتهي المراحل من زمنٍ متقدمٍ باستقرار الصمطلح، وقد لا تنتهي إلا مع انتهاء تكامل ذلك العلم كله. ولما كان أهل الطبقة الواحدة (وكلما ضاقت كان ذلك أدق) يعيشون زمناً واحداً، ومرحلة ً معينة ً متفقةً من مراحل علمهم؛ ومصطلحه؛ ولما كان من غير المعقول أن يكون أحمد بن حنبل لا يعرف ابن معين، ومن غير المتصور أن علي بن

المدني لا يفهم تعليل أحمد= لذلك كان لاستقراء مصطلح أهل طبقةٍ واحدة له ميزة عظمى، في قوة الدراسة التالية لذلك الاستقراء، وفي دقة نتائج هذه الدراسة بعد ذلك. وأومأ إلى ذلك إيماءةً لطيفة، الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم، في كتابه (الجرح والعديل) . حيث ذكر روايات مختلفة عن يحيى بن معين في تعديل المبارك بن فضالة وتجريحه، ثم علق على ذلك بقوله: ((اختلفت الرواية عن يحيى بن معين في مبارك بن فضالة والربيع بن صبيح، وأولاهما أن يكون مقبولاً منهما محفوظاً عن يحيى، ما وافق أحمد وسائر نظرائه)) (¬1) !! وعلى كل حال، فإن الاستقراء في دائرة الطبقة له ميزات متعددة كثيرة، خاصةً إذا ضيقت الطبقة. أما إذا وسعت الطبقة، فيجب مراعاة الفروق المؤثرة بين افراد هذه الطبقة الواسعة. وربما بلغت مراعاة الفروق إلى فصل كل إمامٍ على حدة، لبالغ سعة الطبقة، والقيام بدراسة تشبه الدراسة التي ذكرناها في أوسع دوائر هذا الوجه من وجهي الاستقراء! هذه هي الخطوة الأولى. والخطوة الثانية: تفنيد كل لفظٍ على حدة، فيما لو كان استقرائي لأكثر من لفظ، أو تفنيد اللفظ الواحد الذي أقوم بدراسته عن بقية الألفاظ غير الداخلة في الدراسة. بدراسته عن بقية الألفاظ غير الداخلة في الدراسة. ويجب التنبه في خطوة التفنيد هذه، إلى ضرورة تنفيذها بدقة متناهية. فلا أعتبر الألفاظ المختلفة، ذات المعنى المترادف لغةً، ¬

(¬1) الجرح والعديل (8/ 339) .

مجموعة واحدة. فلا أجمع ـ مثلاً ـ مصطلح (الصحيح) بـ (القوي) بـ (الثابت) بـ (الجيد) ، حتى يثبت عندي، بعد نهاية الخطوات في كل واحدٍ منها، أنها بمعنى واحد. ولا اقوم بفصل المصطلح المركب، كل لفظٍ منه مع نظرائه. مثل مصطلح (حسن صحيح) ، فلا أفصل فيه لفظ (حسن) عن (صحيح) ، وأضع كل لفظٍ منهما مع نظرائه المفردين. بل أدرس المصطلح المركب وحده، باعتباره مجموعة منفصلة فإذا اشتبه عندي مصلطح مكون من لفظين، هل هو مركب؟ أو لا؟ مثل (حين غريب) أو (صحيح شاذ) . فيجب علي أولاًُ أن أدرس المصطلحات التي جاءت مفردةً مما تركب منه هذا الإطلاق، فأدرس (الحسن) الذي أطلق مفرداً دون تركيب، وكذا (الغريب) . حتى إذا استقر عندي معناهما مفردين، درست ذلك المصطلح المجموع فيه اللفظان: مثل (حسن غريب) ؛ فإذا ظهر أن مدلول كل لفظٍ وحده لم يتغير بهذا التركيب، علمنا أن هذا المصطلح ليس مركباً، ويصح حينها فك تركيبه، ووضع كل لفظةٍ منه مع نظرائها. أما إن ظهر أن مدلول أحدهما أو كليهما تأثر بهذا التركيب، فحينها نعتبر هذا المصطلح مصطلحاً مركباً، ولا يصح حينها فك تركيبه، ولا دراسة كل لفظة منه مع نظرائها المفردات. ونحو ذلك كثير، خاصةً في ألفاظ الجرح والتعديل. مثل: (ثقة صدوق) ، و (صدوق فيه لين) و (صالح فيه ضعف) ، ونحوها كثير. أما إذا أيقنت إيقاناً تاماً أن المصطلحين ليسا مركبين، غير معتمدٍ في يقينك على إلفٍ سابق أو نشأةٍ علمية، فحينها لا بأس

بفك ذلك التركيب، ووضع كل لفظةٍ منه مع نظرائها. وذلك أمثلة (صحيح مرفوع) ، و (حافظ عابد) . ولا بد أيضاً في هذه الخطوة من أن تقسم المجموعة الواحدة المكونة من لفظٍ واح إلى مجموعات فرعيه، هذه المجموعات الفرعية مبنية في تقسيمها على اختلاف اشتقاق اللفظ الواحد، من أسم، وفعل، ومصدر. إذ قد يختلف معنى المصطلح، لا باختلاف لفظه، لكن باختلاف اشتقاقه؛ كما قالوا في (المنقطع) و (المقطوع) (¬1) ، وكما سبق عن الحافظ ابن حجر في (أرسل) و (مرسل) (¬2) . لكن يجب عليك أن لا تدرس تلك المجموعات الفرعية المبنية على اختلاف الاشتقاق دراسةً منفصلةً لكل واحدةٍ منها، لأن احتمال اختلاف المعنى باختلاف الاشتقاق ليس كبيراً، ولأن ذلك قد يجعل عدد المسائل الجزئية في كل مجموعة ضئيلاً لا نخرج معه بنتيجة، ولأن في ذلك تعسيراً بالغاً لا طائل تحته. ويكفي في دراسة هذه المجموعات، أن تجعل كل اشتقاق تحت نظيره متوالياً، ثم الاشتقاق الآخر كذلك؛ وبعد ذلك تدرس المسائل الجزئية، فإذا ظهر لك أن لمجموعةٍ ما معنى مختلفاً عن غيرها، فصلته، وإلا بقي ضمن مجموعته الأساسية. وأعود أخرى مؤكداً إلى ضرورة الدقة المتناهية في هذه الخطوة: خطوة التفنيد، لأن الخطأ فيها قد يهدم النتيجة قبل الوصول إليها، ولأن الخطأ فيها أضر من التقصير في الاستقراء. فقد أصل إلى النتيجة الصحيحة مع نقص الاستقراء، في حين أنه ¬

(¬1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح (47) . (¬2) انظر (ص 230) .

يبعد أن أصل إلى النتيجة الصحيحة فيما إذا خلطت بين الألفاظ ولم أتقن التفنيد. والخطوة الثالثة: دراسة المسائل الجزئية في المجموعة الواحدة، تحت الإطلاق الواحد. وتتم هذه الدراسة بفحص كل مسألة جزئية فحصاً دقيقاً، ليمكنني ـ فيما بعد ـ إيجاد رابطٍ واضح بين ذلك الإطلاق وتلك المسألة الجزئية التي أطلق عليها. فإن كانت المسألة الجزئية حديثاً: درست إسناده دراسةً وافية، وخرجته تخريجاً كافياً، وتظرت في أحكام الأئمة الأخرى على الحديث. وإن كنت المسألة الجزئية جرحاً أو تعديلاً: اجتهدت غاية الاجتهاد في معرفة المرتبة الدقيقة لذلك الراوي من مراتب الجرح والتعديل، وذلك من خلال دراسةٍ وافية كثيرة التشعبات دقيقة المسالك. وبعد أن أعرف الراجح في ذلك الراوي، أوازن الراجح فيه بالحكم الذي أصدره ذلك الإمام. وإن أضفت إلى ذلك أحكاماً لأئمة آخرين من طبقة الإمام الذي أدرس مصطلحه، كان ذلك أثرى وأوثق وآمن، لكن يجب أن يكونوا أئمةً عينتهم للدراسة كلها، فلا تختار لكل مسألة أئمة سوى من ذكرتهم في سابقتها. فلا أنتهي من هذه الخطوة، إلا وقد أنهيت دراسة المسائل الجزئية كلها، وحاولت إيجاد أوضح رابطٍ بين: كل مسالة ٍ، وكل إطلاق وصفت به أو حكم به عليها. والخطوة الرابعة: إيجاد الرابط العام والصفة الجامعة (القاسم المشترك) بين المسائل الجزئية كلها، التي جعلت الأئمة

يفون تلك المسائل الجزئية كلها ويخصونها بذلك الإطلاق المعين. وهذه الخطوة في الحقيقة تكاد تكون آخر الخطوات والثمرة المبتغاة. لذلك فهي حقيقة بالاهتمام كله، وبذلك الجهد كله، والتأني البالغ، والتفكير العميق. ولا بد في هذه الخطوة من أن تخرج بصفات متعددة، وربما كانت كثيرة، تجتمع كلها في المسائل الجزئية كلها أيضاً. وتأكد أنك كلما كثرت الصفات، ودققت في جمعها والتمييز بينها، كلما كان ذلك دليلاً على قرب فهمك الفهم الدقيق لذلك (المصطلح) . وتنبه بأن لا تستبعد شيئاً من الصفات، لظنك الأولي أنه لا علاقة لها بـ (المصطلح) المراد فهمه. فهذه خطوة أخرى، لا تتعجلها قبل انتهائك من عملك في خطوتك هذه. الخطوة الخامسة: ربط ما يمكن ربطه من الصفات الجامعة بالمعنى اللغوي الأصلي لـ (المصطلح) ، ولو بنوع من المجاز. بل لا بد أن يكون هناك تجوز ما، بين المعنى اللغوي للمصطلح والصفات الجامعة التي أمكن ربطها به. وهذه الخطوة يمكن أن تكون آخر الخطوات الحقيقية إذا لم يكن متاحاً لك سواها، مما يأتي ذكره. وفي هذه الخطوة يبدأ فرز الصفات الجامعة، وتنقيتها مما لا علاقة له بالمصطلح المدروس. وفي هذه الخطوة يظهر ما للمهارة العلمية، ولقدرة الفكرية، بل والثقافة الواسعة، من أثر في فهم المصطلح.

إنها أوان نضج الثمرة، للعمل المجهد الدؤوب، وربما كان أوان قطفها أيضاً. والسير في هذه الخطوة يحتاج إلى بالغ التأني، ونهاية الدقة، ورحابة النظرة، واصطياد الأوقات المناسبة للباحث من ناحية استعداده الجسدي والنفسي والفكري. وحذر كل الحذر، مما قد يلوح لك من خلال الخطوات السابقة، من معنى تحسبه هو معنى المصطلح، فتجعله هدفاً مسبقاً لك في هذه الخطوة. واعلم أنك قد تخرج بصفاتٍ جامعةٍ لها رابط واحد بالمعنى اللغوي للمصطلح، في المسائل الجزئية كلها= وعندها يكون المصطلح له معنى واحد وصورةٌ واحدة. وربما تخرج بأن هناك من المسائل الجزئية مسائل لها صفات جامعة خاصة بها برابطٍ خاص بها كذلك، يربطها بالمعنى اللغوي للمصطلح المدروس. وأن بقية المسائل الجزئية لذلك المصطلح، سوى المسائل السابقة، لها رابط آخر يربطها بالمعنى اللغوي للمصطلح= وعندها يكون للمصطلح معنيان مختلفان، محتملان في كل مرة يطلق فيها ذلك المصطلح، ولا يحدد المراد منهما ـ غالباًـ إلا دراسة المسألة الجزئية نفسها. وربما تعددت المجموعات من المسائل ذانمت نهع هى هرعت خمبملل نتلبهن تب الروابط المختلفة بالمعنى اللغوي، على الوجه المذكور آنفاً= فيكون المصطلح على ذلك متعدد المعاني، بعدد تلك الروابط. لكن تأكد في هذه الحالة من صحة تلك الروابط، بالتأكد من قوة علاقة الصفات الجامعة للمسائل الجزئية بالمعنى اللغوي للمصطلح. وتأكد أيضاً من وجود فروقٍ حقيقية، لا وهمية، بين تلك الروابط، لتبيح لك الفروق أن تدعي اختلاف معاني المصطلح. وأطالب بهذه التأكيدات، لأن دعوى تعدد معاني المصطلح دعوى صعبة القبول، إذ ربما آل الأمر بزعم تعدد معانية، والمبالغة في ذلك، إلى أن يكون المصطلح مستبهم المعنى ليس ذا فائدة، عديم النفع، لن المصطلح ـ بذلك ـ تنازعته معاني مختلفة، لا دليل ـ إلا بشق الأنفس ـ لمعرفة المقصود منها. وربما خرجت أيضاً بحالةٍ وسطٍ بين هذه وتلك! فتجد أن من الصفات الجامعة للمسائل الجزئية كلها ماله رابط واحد بالمعنى اللغوي للمصطلح؛ وتنفصل صفات جامعة أخرى ببعضٍ من المسائل الجزئية تلك، بأن يكون لها رابط آخر بالمعنى اللغوي للمصطلح؛ وتنفصل آخرى بأخرى كذلك، مع اجتماع الكل بأن لها رابطاً واحداً بالمعنى اللغوي، يجعلنا لا نستطيع ادعاء اختلاف معاني

المصطلح= وحينها يكون للمصطلح معنى عام ومعاني خاصة، فالمعنى العام يفهم من ذلك المصطلح بداءةً، أما المعاني الخاصة فلا بد من دلائل تحدد لنا أيها المراد. وهذه الحالة الوسط، من خلال دراستي لعلوم الحديث، أحسبها أكثر الحالات تحققاً في مصطلحها. إن المعنى اللغوي الأصلي لمصطلحات الحديث، الذي جعلته في هذه الخطوة قطب الرحى وخط الانطلاق، حقيق بأن يكون له هذه المكانة في فهم مصطلح الحديث، حقيق بأن يكون له هذه المكانة في فهم مصطلح الحديث، بأن نجعله حكماً في فرز الصفات الجامعة، لنعرف معنى المصطلح بعد ذلك عن طريق تحكيمه. وقد كنا بينا أهمية دراسة المعنى اللغوي للمصطلحات، وقوة علاقته بها القوة التي جعلت له هذه المكانة في دراسة مصطلح الحديث، في سابق بحثنا هذا، فانظرها إن

شئت (¬1) ومما ذكرته في سابق بحثي هناك، ومما عرفته من دراستي لمصطلح الحديث، أستطيع أن اضع قاعدةً عامة ً بهذا الخصوص، يمكن أن تجعلها مرشداً أولياً لك في فهم المصطلح، ووسيلةً سريعةً لتبليغك ذلك، فيما لو لم تستطع أو لم تجد الوقت للقيام بهذه الخطوات كلها. هذه القاعدة تقول: إن اقرب معنى للمصطلح، من المعاني المذكورة أو المظنونة له، إلى المعنى اللغوي الأصلي للفظ= هو أصوب تلك المعاني، أو أقربها للصواب في فهم المصطلح. المهم أن هذه الخطوة يمكن أن تكون الخطوة الأخيرة قبل صياغة معنى المصطلح، فيما لو لم يتح لنا القيام بالخطوات التالية الخطوة السادسة: التلقي التام والقبول المطلق لشرح أهل الاصطلاح لمصطلحهم، فيما لو وجدنا لهم في شرحه كلاماً. فكلهم أبناء بجدتها، وآباء عذرها، يتكلمون عن كلامهم، وترجمون لسانهم بلسانهم، فأنى يعترض عليهم؟! بل أنى ى يسلم لهم؟!! فكل فهم يخالف فهم أهل الاصطلاح لاصطلاحهم مرفوض تمام الرفض، لأنه في وجهه السافر: مشاحة في الاصطلاح، وقد أبيناها جميعاً بحمد الله تعالى! وكل فهم يخالف فهم أهل الاصطلاح لاصطلاحهم، فيه من الأخطار، ويترتب عليه من العواقب الوخيمة، ما قربنا فيه وبعدنا، بياناً لخطئه وخطله وخطره، في شرحنا لـ (فكرة تطوير ¬

(¬1) انظر (ص 39- 43) .

المصطلحات) (¬1) . ونحن في خطواتنا السابقة كلها، الجادة الجاهدة في فهم المصطلح، إنما نستلهم معنى المصطلح من تطبيقات أهل الاصطلاح، إنما نستلهم معنى المصطلح من تطبيقات أهل الاصطلاح ومن جاري عملهم في علمهم، فكيف نفرط بعد ذلك في صريح مقالهم في شرح مصطلحهم؟!!! بل حتى في مجال قواعد العلم، عليك بالمقياس التالي: إن وجدت قاعدةً من قواعد علوم الحديث المنصوص عليها في كتب علومه، تخالف تطبيقات أهل المصطلح، وتناقض صريح تصرفاتهم= فاعلم أن تلك القاعدة منسوفة من أساسها، مقتلعة من أصولها. لن ذاكر تلك القاعدة، إنما يذكرها على أنها مستنبطة من تطبيق الأئمة، فإذا وجدنا تطبيق الأئمة يناقضها، فقد قضي على استنباطه من قاعدة استنباطه! والكارثة حقاً أن تجد القضية عكوسة، كالفطرة المنكوسة حيث نسمع ونقرأ لمن ينتقد مثلاً أحاديث في الصحيحين، لأنها معنعنات بعض مشاهير المدلسين!!! فنقول لهذا المسكين، أو العالم المخطىء: علام اعتمدت في انتقادك لعنعنة المدلس؟ أوليس على قواعد مبثوثةٍ في كتب علوم الحديث؟! ثم أو ليست تلك القواعد إنما استنبطت من تطبيقات أئمة الحديث ونقاده في قرونه السوالف؟! فإذا وجدنا أن تلك القواعد منتقضة، أو منتقض بعضها، بمثل صريح تصرف صاحبي الصحيح= فكيف تنتقد بالمنتقد؟! وتبني على قاعدةٍ منسوفة؟!! إن هذه الخطوة: خطوة الاعتماد على شرح أهل الاصطلاح لاصطلاحهم، هي مقياس نجاح أو عدم نجاح الخطوة السابقة ¬

(¬1) انظر (ص 176- 178) .

ولخطوات السابقة كلها. فإذا ما انتهينا في الخطوة السابقة من تحديد الصفات الجامعة المرتبطة بالمعنى اللغوي للمصطلح، على ما شرحناه آنفاً، فنحن في الحقيقة وضعنا ـ أو كدنا أن نضع ـ عناصر تعريف المصطلح. فإذا ما فزنا بعد ذلك بكلامٍ لأهل الاصطلاح في شرح ذلك المصطلح، نظرنا في كلامهم نظر مستوعبٍ لمعناه (أولاً) ، ثم وزنا به ما توصلنا إليه من تطبيقاتهم العملية. فإن اتفق استنباطنا من تطبيقاتهم مع شرحهم أنفسهم لمصطلحهم، كان هذا دليل الفلاح والنجاح. أما إذا لم يتفق استنباطنا من تطبيقاتهم مع شرحهم لمص طلحهم، فالخطأ قطعاً من استنباطنا، لا من تطبيقاتهم، ولا من شرحهم. والواجب حينها تحديد وجوه الاتفاق ووجوه الافتراق بين استنباطنا وشرحهم لمصطلحهم، لتعيين سبب الخطأ في الاستنباط، ومحاولة استدراكه وإعادة تصويبه. هذا هو منهج العمل في هذه الخطوة إن أتيح لنا القيام بها، لأن أقوال أهل الاصطلاح في شرح مصطلحهم ليست متوفرةً توفراً يغطي جميع مصطلحاتهم، ولا المتوفر منها قريب التناول دائماً، فليس من السهل الوقوف عليه. إلا ما حواه كتاب (معرفة علوم الحديث) للحاكم فإنه ثروة من هذه الناحية، وكذا ما نقله الخطيب البغدادي عن أهل الاصطلاح في كتابه (الكفاية) . لكن تبقى أقوال أخرى لأهل الاصطلاح في كتابه (الكفاية) . لكن تبقى أقوال أخرى لأهل الاصطلاح في غير مظانها، ومنتشرة في كتب (العلل) و (الجرح والتعديل) ، و (السنن) ، وغيرها من مصنفات الحديث النبوي. قد ذكرنا بعضاً من مظان كلام أهل الاصطلاح في شرح مصطلحهم، عندما أرخنا لعلوم الحديث (¬1) ، وعندما تكلمنا عن ¬

(¬1) انظر (ص 48، 58- 59، 63) .

مناهج كتب علوم الحديث (¬1) أيضاً. غير أننا لن نستفيد من كلام أهل الاصطلاح الفائدة المطلوبة المتعينة، إلا إذا أحسنا تفهمه، حتى نستوعب معناه تماماً. ولن يتم ذلك إلا بعدم الغلو في تفسيره، وبعدم الجفاء عن فهمه، فإن الغلو أو الجفاء هما سبب انحراف كثيرٍ من المتأخرين عن فهم مصطلح الحديث، مع وقوفهم على كلامٍ لأهل الاصطلاح في شرحه (¬2) ! حيث إن من وجوه الغلو في فهم كلام أهل الاصطلاح: التعامل معه وكأنه نص كتابٍ أو سنةٍ ثابتة، فيحتج بمفهومه كما يحتج بمنطوقه، ويقاس عليه! ولست أعني أن الاحتجاج بمفوهم كلامهم أو القياس عليه غلط مطلقاً، لكنه ـ أيضاً ـ ليس صواباً مطلقاً. إن عبارات أهل الاصطلاح في شرح مصطلحهم عبارات سهلة غير معقدةٍ، خرجت على السلفية العربية في يسرها وصفائها، وخرجت أيضاً وفق احتياج سائلٍ، أو بناءً على سياقٍ معين، أو تنبيهاً لأهل عصرهم. ولم يكن يخطر على بالهم أنهم يخاطبوننا، في فقرنا العلمي، وبعدنا عن إدراك علمهم، وتعاور المؤثرات على أساليب تفكيرنا والمعوقات دون فهم كلامهم. فربما عرفوا بمصطلحهم: بضرب مثالٍ له، أو بذكر أهم صوره، أو أكثرها وقوعاً وتحققاً، أو أخطرها في تمييز صحيح السنة من سقيمها. وربما جاء ما يفيد في تعريف المصطلح عرضاً في كلامهم، بذكر حكمه، أو بتفريقه عن مصطلح آخر، أو ببيان تفريعاته وأقسامه. ¬

(¬1) انظر (ص 183- 190) . (¬2) انظر مثالاً لذلك فيما سبق (ص 233- 234) .

لذلك فإن من وجوه الغلو في تفسير كلام أهل الاصطلاح أيضاً: تسليط معايير علم المنطق عليه، ومحاسبة شرحهم للمصطلح بصناعة الحدود المنطقية. وكم جار هذا الغو على علم المصطلح! وكم ظلم عبارات أهل الاصطلاح!! إذ إن اعتبار شرح أهل المصطلح لمصطلحهم جارٍ على أصول المنطقيين، سوف يجعلنا نفهم ذلك الشرح ذا السهولة والسليقة العربية البعيدة عن التعقيد، لخوجها من أهل الاصطلاح على ذلك النحو الآنف الذكر= على غير مراد قائليه، وبما لم يخطر على بالهم!! ومثال ذلك: فيما لو قال أحد أهل الاصطلاح: ((الشاذ: أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس)) (¬1) ، فإننا بشرط (الجمع والمنع) المشترط في صناعة المعرفات المنطقية، سوف أفهم أن هذا هو الشاذ كله، ولا شاذ سواه. مع أن ذلك قد لا يكون خطر على بال قائله من أهل الاصطلاح، وإنما أراد التنبيه على أهم أنواع الشذوذ، أو على أشدها أثراً على قبول الحديث، أو على أكثرها وقوعاً، أو أشدها أثراً على قبول الحديث، أو وإن جاز وصف غيرها بذلك أيضاً.. أو غير ذلك من احتمالات معنى الشرح غير الجاري على أصول المناطقة. وليس معنى ذلك أن لا نفهم الكلام على ما يدل عليه ظاهر اللفظ ومنطوقه، بل نحن نطالب بذلك. فإن ظاهر اللفظ ومنطوقه في العبارة السابقة إنما يقول: عن مخالفة الثقة للناس شذوذ، ولم يقل إن كل ما سوى هذه الصورة ليس (شاذاً) ، ولا أن هذا هو الشذوذ وحده. ولا نريد أن نحمل الكلام غير هذا المنى، إلا إذا دل دليل خارجي على غيره. ¬

(¬1) انظر معرفة علوم الحديث للحاكم (ص 119) .

أما الجفاء عن فهم شرح أهل الاصطلاح لاصطلاحهم، فله وجوه متعددة، منها: تسليط فهوم المتأخرين من المحدثين والأصوليين للمصطلح على شرح أهله له!! وعندها يؤول شرح أهل الاصطلاح على غير ظاهره، ويبتسر نقله وفهمه، ويفصل عن دلالة سياقه: سباقة ولحاقة؛ كل ذلك من أجل أن يوافق كلام المتأخرين من المصنفين في علوم الحديث أو غيرهم من الفقهاء والأصوليين. مع أن الواجب عكس ذلك، والسير على ضد هذا المنهج، بتأويل كلام غير أهل الاصطلاح ـ ما أمكن ـ ليوافق كلام أهله، وإلا رفض كلام أولئك الذين عم ليسوا من أهل الاصطلاح لمناقضته كلام أهله!! ومن وجوه الجفاء في ذلك أيضاً: (فكرة تطوير المصطلحات) ، بعدم الرضى عن مدلول المصطلح المشروح بكلام أهله، لسعة ذلك المدلول، وتداخله مع مدلول مصطلح آخر. فيقود ذلك الشعور بعدم الرضى إلى المشاحة في الاصطلاح، السابق بيان أخطارها (¬1) . وعلى كل حال، فإن الخطأ في فهم كلام أهل الاصطلاح، لا بد أن يجتمع في أسبابه غلو وجفاء، وأحدهما قائد للآخر لا محالة!! فربما اجتمع عند المتأخرين من التعصب المذهبي ما يقودهم إلى الغلو في فهم كلام إمامهم ن وهذا الغلو يتجه في النهاية نحو الجفاء عنه ليوافق كلامه ما ظنه ذلك المتعصب صواباً من كلام غيره من الأصوليين والمتأثرين بهم من المحدثين. ومثال ذلك: ميل أتباع الإمام الشافعي إلى نصرة أقواله، ¬

(¬1) انظر (ص 176- 178) .

ذلك الميل الذي تحول مع مرور الزمان تعصباً. وضربت مثلاً بالشافعية، لأن (اسعد الناس بالحديث الشافعية) ، وغالب مصنفات علوم الحديث ومصطلحه لأئمةٍ شافعية: من الحاكم، إلى الخطيب، على ابن الصلاح، إلى النووي، إلى العراقي، على ابن حجر، إلى السخاوي، إلى السيوطي، وقبلهم وبعدهم، كل هؤلاء شافعية! والمثال الواقعي للغلو والجفاء في فهم الشافعية لكلام الإمام الشافعي في مصطلح الحديث: كلامه في مصطلح (الشاذ) ، السابق ذكره. وتفصيل هذا المثال فيه طول، أرجو أن تكون فيه فائدة، ولذلك سأطيل في تفصيله! قال الإمام الحاكم (الشافعي المذهب) في (معرفة علوم الحديث) : ((هذا النوع منه: معرفة (الشاذ) من الروايات. وهو غير (المعلول) ، فإن المعلول ما يوقف على علته: أنه دخل حديث في حديث، أو وهم فيه راوٍ أو أرسله واحد فوصله واهم. فأما الشاذ، فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث اصل متابع لذلك الثقة. سمعت أبا بكر أحمد بن محمد المتكلم الأشقر.. ـ فأسند إلى الشافعي أنه قال: ـ ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس، هذا الشاذ من الحديث)) (¬1) ـ ثم ذكر الحاكم بعد ذلك ثلاثة أمثلة للشاذ عنده. وعبارة الإمام الشافعي هذه جاءت عنه بألفاظٍ أخرى أكثر وضوحاً، فقال في بعضها: ((ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من الحديث: أن يروي ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث للحاكم (119) .

الثقات حديثاً: على نص؛ ثم يرويه ثقة: خلافاً لروايتهم ز فهذا الذي يقال: شذ عنهم)) (¬1) . ثم قال تلميذ الحاكم أبو يعلى الخليلي في (الإرشاد) : ((أما (الشواذ) : فقد قال الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: (الشاذ) عندنا: ما يرويه الثقات على لفظٍ واحدٍ، ويرويه ثقة خلافه، زائداً أو ناقصاً. والذي عليه حفاظ الحديث: (الشاذ) : ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ بذلك ك شيخ ثقة كان، أو غير ثقة؛ فما كان عن غير ثقة: فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة: يتوقف فيه، ولا يحتج به)) (¬2) فواضح من تصرف الخليلي، أنه اعتبر كلام الإمام الشافعي ومن وافقه من أهل الحجاز مذهباً خاصاً بهم واصطلاحاً لهم، فلم يعترض على الاصطلاح بشيء. ولعل الحاكم يكون هذا هو موقفه، فيكون الخليلي قد ترجم لنا موقف شيخه الحاكم بعبارته الصريحة السابقة الذكر. وقبل أن أنتقل إلى مواقف المتأخرين من هذه المسألة، أشرح مذهب الحاكم والخليلي في تفسيرهما للشاذ. فظاهر أنهما اتفقا أن من شروط (الشذوذ) أن يتفرد به راوٍ، دون أن يكون له متابع. ثم قد يظن أنهما اختلفا في أمرين اثنين، هما: ¬

(¬1) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (233- 234) ، والكامل لابن عدي (1/115) ، ومناقب الشافعي للبيهقي (2/ 30) ، ومعرفة السنن والآثار له (1/ 143- 144) ، والكفاية للخطيب (171) . (¬2) منتخب الإرشاد لخليلي، بانتخاب السلفي، المطبوع باسم الإرشاد (1/ 174- 177) .

الأول: أن الحاكم ذكر أن المتفرد بالشاذ ثقة، وأما الخليلي فالشاذ عنده ما تفرد به ثقة أو غير ثقة. وهذا إنما ظنناه اختلافاً بين الحاكم والخليلي (¬1) بتسليط معايير الحدود المنطقية على كلام الحاكم، باعتبار أن ما ذكره من شرحه للشاذ تعريفاً جامعاً منعاً. لكن لو عاملناه على غير ذلك، وأخذنا بمنطوقه دون مفهومه، لعرفنا أن الحاكم إنما ذكر أدق نوعي الشاذ، وأشدهما خفاءً، وأحوجهما إلى البيان. والدليل القاطع بأن الحاكم لا يعارض في تسمية تفرد غير الثقة بالشاذ، هو تصرفه وتطبيقه. ففي (المستدرك) أخرج حديثاً من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي الكوفي (ت 218هـ) ، وهو كذاب (¬2) ، يرويه هذا من طريق جميع بن عمير التيمي الكوفي وهو مختلف فيه (¬3) ، قال عنه الحافظ في (التقريب) : ((صدوق يخطىء ويتشيع)) (¬4) . ثم قال الحاكم عقب هذا الإسناد: ((هذا حديث شاذ، والحمل فيه على جميع بن عمير، وبعده إسحاق بن بشر)) (¬5) . فتعقبه الذهبي بقوله في (تلخيص المستدرك) : ((فلم يورد الموضوع هنا؟!!)) (¬6) . فهذا تصرف قاطع على أن الحاكم يسمي تفرد غير الثقة شاذاً، كما يسميه به الخليلي أيضاً. ¬

(¬1) انظ علوم الحديث لابن الصلاح (76- 77) ، والنكت لابن حجر (2/652- 653) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/231- 232) ، وتدريب الراوي للسيوطي (1/205) . (¬2) انظر لسان الميزان لابن حجر (1/ 355- 358) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (2/111- 112) . (¬4) التقريب (رقم967) . (¬5) المستدرك للحاكم (3/ 5) . (¬6) تلخيص المستدرك للذهبي: في حاشية المستدرك، الموضوع السابق.

وبهذا تعلم جور تسليط معايير الحدود المنطقية على كلام أهل الاصطلاح وشرحهم لمصطلحهم، لأن كلامهم لم يوزن منهم بتلك المعايير! الأمر الثاني الذي يظن أن الحاكم والخليلي اختلفا فيه: هو أن الحاكم لا يرى الوصف بالشذوذ مانعاً من تصحيح الحديث، ويظن أن الخليلي يخالف الحاكم في ذلك، لأنه ذكر تفرد الشيخ الثقة يتوقف فيه ولا يحتج به. أما أن الحاكم لا يرى الوصف بالشذوذ مانعاً من وصفه بالصحة، فذلك قد أخذوه من إطلاق الحاكم على تفرد الثقة بأنه شاذ (¬1) . وأصرح من ذلك كله في أن الحاكم لا يرى الوصف بالشذوذ مناقضاً تصحيح الحديث والاحتجاج به أيضاً، هو أنه في كتابه (المدخل إلى الإكليل) ، ذكر أقسام الحديث الصحيح المتفق عليه (¬2) ، فقال في (القسم الرابع من الصحيح المتفق عليه) : ((هذه الأحاديث الفراد والغرائب ن التي يرويها الثقات العدول، تفرد بها ثقة من الثقات، وليس لها طرق مخرجة في الكتب ... )) (¬3) ، ثم ¬

(¬1) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح لا بن حجر (2/652- 653) . (¬2) الظاهر أن الحاكم يريد بـ (الصحيح المتفق عليه) ، أي على الاحتجاج به، لا أنه الصحيح الذي اتفق على إخراجه الشيخان. ولذلك مكان سوى هذا، لبسطه والتدليل عليه. (¬3) المدخل إلى الإكليل للحاكم (39) .

ضرب لهذا القسم أمثلة، منها حديث اتفق على إخراجه الشيخان، وهو حديث عائشة رضي الله عنها في سحر النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) ، ثم قال الحاكم: ((هذا الحديث مخرج في الصحيح، وهو شاذ بمرة)) (¬2) . فالحاكم موافق على أنه صحيح حجة، لكنه يصفه بالشذوذ باعتبار التفرد فقط. ولذلك أمثلة متعددة من تصرفات الحاكم! فمن ذلك قوله عقب حديث في (المستدرك) : ((ولعل متوهماً يتوهم أن هذا متن شاذ، فلينظر في الكتابين (يعني صحيح البخاري ومسلم) ، ليجد من المتون الشاذ، التي ليس لها إلا إسناد واحد، ما يتعجب منه، ثم ليقس هذا عليها)) (¬3) . وقال عن حديث آخر في (المستدرك) : ((إسناد صحيح، رواته عن آخرهم ثقات، إلا أنه شاذ بمرة)) (¬4) . وقال عن آخر: ((هذا حديث شاذ صحيح الإسناد)) (¬5) . وقال كذلك: ((هذا متن شاذ، وإن كان كذلك، فإن إسحاق الدبري صدوق ... ـ ووثق بقية رجال إسناده قبل الدبري ـ)) (¬6) . وقال الحاكم أيضاً في (سؤالات السجزي له) : ((بهز بن حكيم: من ثقات البصريين، ممن يجمع حديثه. وإنما أسقط من ¬

(¬1) صحيح البخاري (رقم 5766) ، وصحيح مسلم (رقم 2189) . (¬2) المدخل إلى الإكليل للحاكم (39) . (¬3) المستدرك (1/21) . (¬4) المستدرك (1/181) . (¬5) المستدرك (1/ 277) . (¬6) المستدرك (3/160) .

الصحيح: روايته عن أبيه عن جده، لنها شاذة لا متابع لها في الصحيح)) (¬1) . ومع ذلك فقد أكثر الحاكم الإخراج في (المستدرك) لبهز بن حكيم، مصححاً لحديثه عن أبيه عن جده (¬2) . وبذلك لا يبقى عندك شك في أن الشذوذ عن الحاكم ليس وصفاً مناقضاً للصحة، بل هو عبارة عن وصف الحديث بالتفرد بأصلٍ لا متابع له فيه، بغض النظر عن قبوله أو رده. ثم وازن بين كلام الحاكم وتصرفه هذا، وهو من أهل الاصطلاح، بما استقر عند المتأخرين من أن الشذوذ قسم من أقسام الضعيف ‍‍ وما أحسن احتراز ابن الصلاح وإشارته الدقيقة إلى ذلك ن عندما قال: ((الشاذ المردود قسمان..)) ، فقوله (المردود) ، فيه إشارة إلى أن من الشاذ ما هو مقبول غير مردود. وإن كان كلام ابن الصلاح قبل كلامه هذا، في الموطن نفسه: (نوع معرفة الشاذ) ن يوحي إيحاءً يكاد يكون تصريحاً بخلاف ذلك الاحتراز الحسن وبغير تلك الإشارة الدقيقة ‍‍ فانتهينا إذن إلى أن من الشاذ ما هو صحيح محتج به عند الحاكم، فهل الخليلي يخالفه؟ إن ظاهر كلام الخليلي في هذا الموطن: أن الحديث الفرد، سواء كان من رواية ثقة أو غير ثقة، فهو حديث لا يحتج ¬

(¬1) سؤالات السجزي (رقم 150) . (¬2) انظر مثلاً المستدرك (1/46، 125، 397- 398) (4/84، 102، 17

به. لكن هذا الظاهر لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ من له أدنى علمٍ بعلم الحديث، لن رد الغرائب والأفراد كلها لا يقول به أحد من أهل الحديث. وإذا كان هذا الظاهر على هذه الدرجة من ظهور رده ووضوح بطلانه، فلا يمكن أن نظن بأحد حفاظ الحديث ونقاده أنه يقول به ‍وعلى هذا بلا بد من تفسير كلام الخليلي بما لا يخالف البدهيات، وتأويله بما لا يناقض الإجماع ‍‍وهذا أباح للخليلي التعبير بمثل هذا التعبير، وهو الذي رخص له عند نفسه أن لا يعقد عبارته بما البدهي كافٍ فإفهامه والإجماع كفيل بتقييده. وهذا مثال آخر وجديد، على سهولة عبارات أئمة الحديث، وخروجها على سليقة العرب: في صفائها ن ووضوحها، وبعدها عن تطويل العبارة أو تعيدها، بما العقول السليمة تعقله، والأفهام الصحيحة تدركه. ولك أن تعجب بعد ذلك من مواقف بعض المتأخرين من عبارة الخليلي تلك‍والتي جاء أمثلها قول من فهم كلام الخليلي بناءً على تصريح الخليلي في موطن آخر م (الإرشاد) ، بأنه يصحح افراد الحفاظ الثقات. وهذا وإن كان دليلاً صحيحاً على عدم جواز فهم كلام الخليلي السابق على إطلاقه، من أنه يرد الأفراد ولا يحتج بها مطلقاً= إلا أنه استدلال حاجة لنا فيه، بعد أن فهمناه بداهةً، وعلمناه بالإجماع ‍‍ وإذا كان الخليلي لم يشذ عن الإجماع ولم يخالف البدهيات، في أن أفراد الحفاظ صحيحة محتج بها اتفاقاً، فما هو

معنى قوله عن الشاذ: ((يشذ بذلك: شيخ ثقة كان، أو غير ثقة ... وما كان عن يتوقف فيه ولا يحتج به)) ؟ أجاب عن ذلك ابن رجب الحنبلي في (شرح علل الترمذي) ، حيث قال: ((لكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم: عبارة عمن دون الأئمة الحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره ... وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وما ينفرد به إمام أو حافظ؛ فما انفرد به إمام حافظ: قبل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ ن وحكى ذلك عن حفاظ الحديث)) . إذن فالقسم المردود من أفراد الثقات عند الخليلي: هو الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف. وما سوى هذا القسم من أفراد الثقات، فهو مقبول محتج به، وهو انفراد من كان يحتمل التفرد بما تفرد به. وهذا كله في معرفة ما يقبله وما لا يقبله الخليلي من أفراد الثقات، ويحكيه عن أهل الحديث. لكن مسألتنا ك هل الشاذ عند الخليلي هو هو عند الحاكم؟ أما حكم انفراد الثقات، فاتفق عليه الحاكم والخليلي، كما سبق عنهما. بتقسيمه إلى انفراد من يحتمل ذلك التفرد ن ومن لا يحتمله. واتفق والحاكم والخليلي على تسمية ما لا يحتمل من التفرد بـ (الشاذ) ، ونص الحاكم على تسمية ما يحتمل من التفرد بـ (الشاذ)

أيضاً ن ولم ينص الخليلي على هذا في ذلك الموطن. فإذا أردنا وزن كلام الخليلي بمعايير المناطقة، باعتباره أن حده لا بد أن يكون جامعاً مانعاً لصفات (الشاذ) ، بعدما شرحانه من كلامه= يكون تفرد من يحتمل ذلك التفرد ليس بـ (شاذ) عند الخليلي. لكن سبق أن تلك المعايير أجنبية عن علوم الحديث، غريبة على علمائه، فلا يصح أن يوزن كلامهم بها. ويكون الخليلي بذلك الشرح للشاذ، إنما أراد بيان قسمه المردود، لأنه هو القسم الذي كان وصفه بـ (الشذوذ) سبباً لرده وعدم الاحتجاج به. فهو لذلك، وبملاحظة منطوق كلامه وحده، غير مخالفٍ للحاكم، وليس عندنا ـ إلى الآن ـ ما يدل على أنه موافق له أيضاً. وإن كانت موافقته له هي الأقرب والأصل، لأن اصطلاحهما اصطلاح علمٍ واحدٍ، ولأن الحاكم شيخ الخليلي. غير أني وجدت تطبيقاً عملياً للخليلي، يدل على أنه موافق لشيخه الحاكم، على تسيمة تفرد من يحتج بتفرده بـ (الشاذ) ‍ حيث قال في (الإرشاد) عن العلاء بن عبد الرحمن الحرقي: ((وقد أخرج مسلم في (الصحيح) : المشاهير من حديثه، دون هذا (¬1) والشواذ)) (¬2) . فها هو يطلق على مفاريد العلاء بن عبد الرحمن في ¬

(¬1) يعني دون حديث العلاء بين عبد الرحمن الذي أنكره عليه جماعة من العلماء، وهو حديثه عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً في تركه صلى الله عليه وسلم الصيام في النصف الثاني نم شعبان. حيث ذكره الخليلي، وضرب به مثلاً لما لم يتابع عليه العلاء، وكان سبباً في تضعيفه عند من ضعفه. (¬2) الإرشاد (1/219) .

(صحيح مسلم) : أنها شواذ‍ ونخرج من هذا كله، بأن (الشاذ) عند الحاكم والخليلي معناه واحد، وحكمهما على أنواعه واحد، ورأيهما فيه متطابق تماماً ‍‍ فالشاذ عندما: هو الأصل الذي انفرد بروايته راوٍ واحد. فإن كان المنفرد به يحتمل التفرد بمثله لحفظه وإتقانه وإمامته: لم يقدح ذلك في الاحتجاج بخبره ولم يمنع من تصحيحه، وإن كان المتفرد به مقبولاً لكنه ليس يحتمل التفرد به: فهو متوقف فيه لا يحتج به، وإن كان المتفرد به ضعيفاً: كان ذلك الحديث شديد الضعف غير نافعٍ للاعتبار. وبعد هذا الذي استخلصناه من كلام الحاكم والخليلي في تعريفهما لـ (الشاذ) ، نرجع إلى التذكير بموقفهما من كلام الشافعي عنه. أما الخليلي فالظاهر أنه اعتبر كلام الإمام الشافعي ومن وافقه من أهل الحجاز مذهباً لهم، واصطلاحاً خاصاً بهم، في استعمال مصلطح (الشاذ) . ولعل موقف الحاكم من كلام الإمام الشافعي مثل موقف الخليلي منه، حيث ذكر الحاكم كلام الشافعي عقب تعريفه هو للشاذ، دون إشارة إلى قبول أو رد، من ظهور اختلاف كلام الشافعي عن كلامه في تعريف الشاذ. إلا أن موقف الحاكم من كلام الإمام الشافعي يحتمل فيه أيضاً أنه مختلف عن موقف الخيلي، بأن يكون الحاكم فهم كلام الشافعي فهماً لا يعارض شرحه هو لمصطلح الشاذ. وقد يؤيد ذلك: أن الحاكم أورد كلام الشافعي (وهو إمامه) عقب

كلامه دون استدراكٍ أو معارضةٍ أو أي تعقيب، كهيئة المستدل بكلامه المحتج به ‍‍وهذا ظاهر لمن نظر في سياق كلام الحاكم، كما ذكرناه سابقاً (¬1) . فيحتمل أن يكون الحاكم قد فهم من كلام الإمام الشافعي، أن (الشاذ) في كلامه لم يرد بالمعنى الاصطلاحي، وإنما ورد فيه بالمعنى اللغوي. فالشافعي حينها لم يقصد تعريف (الشاذ) اصطلاحاً، وإنما أراد بيان أولى أحوال الرواية وصفاً بالشذوذ لغةً‍‍ ولا شك أن الوصف بـ (الشذوذ) لغةً يقتضي الانفراد عن جماعةٍ، ويوحي أيضاً بذم هذا المنفرد. وهذا المقتضى والموحى به أوضح وأبين في (مخالفة المقبول لمن هو أولى منه) من (انفراد الراوي بأصلٍ لا متابع له عليه) . وإن كان (انفراد الراوي بأصل لا متابع له عليه) فيه انفراد عن جماعة الرواة بنقل ذلك الأصل أيضاً، وفيه إيحاء بذم المنفرد به كذلك، برد أكثر الشواذ، إلا ما تفرد به إمام حافظ يحتمل ذلك التفرد. لكن تحقق ذلك المقتضى والمحى به من معنى (الشاذ) لغةً في الذي ذكره الشافعي أكثر من اصلاح المحدثين فيه، كما سبق. وليس في ذلك مشاحة من الإمام الشافعي لاصطلاح المحدثين في (الشاذ) ، لكنه بيان لأحق أحوال الرواية بذلك الوصف لغةً، وإن كان الاصطلاح عند الشافعي على غير ذلك. وقد يشير على أن مصطلح (الشاذ) عند الشافعي كان معروفاً أنه: (انفراد الراوي باصل لا متابع له عليه) = قوله: ((ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره)) . فنفيه لهذا المعنى ¬

(¬1) انظر (ص 262) .

عن (الشاذ) يدل على علمه به، ويشير إلى إطلاق المحدثين له على هذا المعنى، وأن الشافعي كان يعرف ذلك، ولعله كان يستخدمه على المعنى نفسه أيضاً‍لكنه أراد أن يبين أن الانفراد ليس سبباً للراد مطلقاً، كما يويحي به وصفه بـ (الشذوذ) ، وأن يبين أيضاً أن الشاذ لغةً على الحقيقة، والأولى بهذا الوصف، هو (مخالفة الثقة لمن هو أولى منه) . وأنا أعلم أن من تمذهب بإلفه العلمي، سوف يعبر هذا التفسير لكلام الإمام الشافعي: تمحلاً في الفهم، وتعسفاً في التفسير. ولو أنه أنصف، ونظر النظر المجرد عما ألفه، وتذكر أن أفمام الشافعي من أهل القرن الهجري الثاني، ومن أهل المراحل المتقدمة لنشأة علوم الحديث ومصلحه، وأنه كان يخاطب أهل عصره، بعملهم وفهمهم واصطلاحهم، وأنه لم يكن يخطر على باله الاحتجاج الملح عندنا لشرح مصطلحاتهم؛ من تذكر ذلك كله= علم أن تفسيري لكلام الإمام الشافعي، بأنه أراد بالشذوذ في كلامه المعنى اللغوي له، ليس فيه تمحل ولا تعسف‍ وأنا لا أجزم بأن هذا هو معنى كلام الإمام الشافعي، لكني أورد إلى كلامه هذا المعنى ن على أنه احتمال آخر في فهمه. والجزم بمعنى كلامه، إنما يكون باستقراء مصطلحه التطبيقي، ومصطلح أهل عصره، وأهل الحجاز منهم خاصةً لكلمة الخليلي في نسبة تفسير الشافعي للشاذ إلى أهل الحجاز أيضاً. وما دمنا نتحدث عن كلام أهل الاصطلاح عن (الشاذ) ، والفهوم الجائزة لكالمهم؛ فهذا الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هانىء الأثرم (ت 273هـ) ، لما ذكر (الشاذ) في كلامه. حمل على أنه يريد به (مخالفة الراوي لمن هو أولى منه) ، مع أن كلامه يدل بظاهره على غير ذلك المعنى‍

قال أبو بكر الأثرم: ((والأحاديث إذا كثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ، وقد يهم الحافظ أحياناً)) (¬1) . إن عبارة الأثرم واضحة أنه يتكلم عن (أحاديث) ، لا عن (حديث) خالف فيه راوٍ من هو هو أولى منه. فهو يذكر أن (الأحاديث) إذا دلت على أصل، كان ذلك أثبت من الأصل الذي جاء به الواحد الشاذ، ولم يقل: (كان ذلك أثبت من المخالف الشاذ) ، إنما قال: (الواحد) . فالأثرم ـ بناءً على هذا) ـ يسمي تفرد الراوي بأصلٍ (شاذا) ، فهو على رأي الحاكم والخليلي، وليس على ما استظهر من كلام الإمام الشافعي. والغريب بعد ذلك، كما ذكرنا آنفاً، أن كلام الأثرم هذا فهم على أنه أراد به ما استظهر من كلام الإمام الشافعي، بان الشاذ: مخالفة المقبول لمن هو أولى منه (¬2) . وكلمة أخرى لأحد الأئمة من أهل الاصطلاح، في تفسير معنى (الشاذ) : يقول الحافظ النقاد الإمام صالح (جزرة) بن محمد بن عمرو الأسدي البغدادي (ت294هـ) : ((الحديث الشاذ: الحديث المنكر الذي لا يعرف)) (¬3) . ففهم ظاهر هذه العبارة، يقول: إن الشاذ: هو التفرد المردود. فالتفرد من قوله: ((الذي لا يعرف)) ، والرد من قوله: ((المنكر)) . وليس معنى ذلك أن هذا وحده هو (الشاذ) عند صالح ¬

(¬1) فتح المغيث للسخاوي (1/ 231) . (¬2) المصدر السابق، وشرح علل الرتمذي لابن رجب (2/ 658) . (¬3) الكفاية للخطيب ( ... 171) .

جزرة لنه العبارة خرجت منه غير موزونةٍ بما تقتضيه صناعة الحدود المنطقية، من الجمع والمنع ‍لكن معنى عبارته، بما تقتضيه أساليب العرب: أن الشاذ حقاً، أو الشذوذ المحض لغةً ـ عند صالح جزرة ـ: هو الحديث المنكر الذي لا يعرف. فهو إما أنه أراد الالتفات إلى دلالة المعنى اللغوي لـ (الشاذ) ، كما سبق مع الإمام الشافعي. أو أنه أراد التنبيه إلى أخطر أنواع (الشاذ) ، وأحقها بالاهتمام. كما أن هذه العبارة لا يلزم أنها تعني بأن (الشاذ) هو (المنكر) ، وأنهما مصطلحان متطابقان المعنى، خاصة بعد الشرح المذكور آنفاً لعبارته هذه. إذ مقتضى ذلك الشرح: أن (الشاذ) المردود، هو الذي يقال له (منكر) ، دون غيره من (الشذوذ) ، الذي هو تفرد الثقة الحافظ المحتمل لذلك التفرد. ولعله مما يؤيد هذا الفهم لعلاقة (الشاذ) بـ (المنكر) من كلام صالح جزرة، هذا الحوار الذي دار بين أحد سائلي يحيى بن معين ويحيى، حيث قال ذلك السائل لابن معين: ((ما تقول في الرجل حدث بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع عنها، وقال: ظننتها، فأما إذ أنكرتموها ورددتموها علي، فقد رجعت عنها؟ فقال يحيى: لا يكون صدوقاً أبداً، إنما ذلك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء، فيرجع عنه. فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحدٍ فلا)) (¬1) . ولا أريد الدخول في مسألة علاقة (الشاذ) بـ (المنكر) ، فهذا خصم ليس هذا محله! لكن ما ذكرته إشارات لبعض ما يقال، وأرجو الله أن ييسر لي كل ما يقال مستقبلاً في هذه المسألة. ¬

(¬1) الكفاية للخطيب (146- 147) .

فإذا رجعنا إلى تفسير الشافعي للشاذ، وما ذكرناه فيه، فإن الذي لا محيد لنا من التسليم به حتى الآن، على أقل تقدير، أن نقول مثل الخليلي: إن للشاذ اصطلاحين معتبرين، أحدهما: للشافعي وأهل الحجاز، والآخرة: لغيرهم من حفاظ الحديث. وهذا يشبه (لا كل الشبه) ما خرج به ابن الصلاح في نوع (الشاذ) ، حيث قال: ((فخرج من ذلك، أن الشاذ المردود قسمان، أحدهما: الحديث الفرد المخالف. والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف)) (¬1) . لكن ظهرت المشاحة في الاصطلاح عند ابن الصلاح، وظهرت بوادر الميل إلى نصرة اقوال إمامه الشافعي، عندما اعترض على تعريفي الحاكم والخليلي للشاذ: بالأفراد الصحاح (¬2) !! حتى عبر الحافظ العراقي عن هذا الاعتراض في (ألفيته) وشرحها: (التبصرة والتذكرة) ، بأنه رد من ابن الصلاح لتعريفي الحاكم والخليلي (¬3) !!! ثم ازداد الميل إلى نصرة قول الإمام إلى درجةٍ أبعد، عند الحافظ ابن حجر، عندما أدخل في باب الاصطلاح الترجيح بين الاصطلاحات (¬4) ، مع أنه لا مدخل للترجيح في الاصطلاح، لأن الترجيح مشاحة فيما لا تحق فيه المشاحة!! بل جزم الحافظ بمعنى واحد من معاني الشذوذ في ¬

(¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (79) . (¬2) علوم الحديث لابن الصلاح (77- 79) . (¬3) التبصرة والتذكرة للعراقي (1/192- 194) . (¬4) النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/671) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/ 234) .

(النزهة) ، هو المعنى الذي استظهر من كلام إمامه (وإمام المسلمين مع غيره من أئمة الإسلام) : الشافعي (¬1) !!! ثم تبعه على هذا الانتصار لقول الإمام: السخاوي (¬2) ، والسيوطي (¬3) : الشافعيان!! وأصبح اصطلاح غير الإمام: ((غير جيد)) (¬4) !!! مع أنه قد سبق معنا أن اعتبار ما قله الإمام (الشافعي) اصطلاحاً له، يحتاج إلى مزيد إثبات والاستدلال، فهو غير مقطوع به أنه اصطلاحه أصلاً!!! فانظر كيف تعاون الغلو والجفاء في فهم كلام أهل الاصطلاح، بالتدريج، إلى البعد عن فهم كلامهم!!! وهذا ما أردت التمثيل له! وهو آخر ما أحببت ذكره في هذه الخطوة. الخطوة السابعة: الاستنارة بكلام المصنفين في علوم الحديث، من غير أهل الاصطلاح، بعامة. وخاصةً أصحاب الطور الأول لكتب علوم الحديث: طور ما قبل كتب ابن الصلاح. ولكتاب ابن الصلاح أيضاً ميزة وفضيلة على كتب الطور الثاني كلها، لأسبابٍ وعوامل اختص بها، ذكرناها فيما تقدم من هذا البحث (¬5) . وطريقة العمل في هذه الخطوة: أنك بعد أن قمت ¬

(¬1) النزهة (97- 98) ، والنظر (ص 234- 235) . (¬2) فتح المغيث للسخاوي (1/230- 234) . (¬3) تدريب الراوي للسيوطي (1/ 206- 208) . (¬4) الغاية في شرح الهداية للسخاوي (1/ 322) . (¬5) النظر (ص 223) .

بالخطواط السابقة جميعها، ربما فاتك شيء من الصفات الجامعة مثلاً بين المسائل الجزئية، أو ربما خانك علمك في ربط تلك الصفات الجامعة بالمعنى اللغوي للمصطلح، أو لعل قريحتك في الاستنباط تعثرت، أو يحتمل أنك أبعدت النجعة في فهم كلام، أو أغرقت في تفسير عبارة، أو أوقفتك حيرة= فيجيء كلام أهل العلم في تلك المصنفات هادياً لك من الضلال، ودليلاً لك من الحيرة، وقبساً لك في الظلمات، يرشد ويقود وينير، فيسدد لك الخطى، ويوفق فهمك، ويوصلك إلى الغاية المبتغاة والنهاية المرجوة. فكلام أصحاب هذا الطور خير معين على تحقيق العمل في خطواتنا السابقة كلها، وأفضل مساعد على السير بها إلى فهم مصطلح الحديث. وليس كلامهم معياراً لما توصلنا إليه خلال خطواتنا، ولا دليلاً على صواب نتيجتها من خطئه، ولا يرجع إلى كلامهم في ذلك، إنما يرجع في ذلك إلى كلام أهل الاصطلاح وحدهم دون غيرهم. مع الحذر خلال تلك الاستعانة والاستنارة من مواطن الزلل ومظان الخطأ في كتبهم، المعروفة من مناهجهم، ومن مذاهبهم العقدية والفقهية، ومن العلوم التي أثرت عليهم في أساليب تفكيرهم وطرائق فهمهم ومعايير نقدهم. وقد تكلمنا عن ذلك في باب خاص به (¬1) ، واستعرضنا أشهر كتب الحديث ومناهجها في باب آخر (¬2) ، بما ينفع في ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) انظر (ص69-169) . (¬2) انظر (ص181-242) .

وبذلك نبلغ آخر خطوة بشرية، نخطوها لفهم مصطلح الحديث! الخطوة الثامنة: وهي صياغة معنى المصطلح، وتعريفه. ولست أقصد بذلك كتابة تعريف على أصول المناطقة وصناعتهم، وإن كان ذلك- في حد ذاته- ليس حتماً!! ولربما خرج التعريف واضحاً قائماً بالمطلوب وهو على غير صناعتهم. المهم أن لا تقودنا صناعة الحدود المنطقية إلى تغيير مدلول المصطلح، هذا هو الأهم، وما بسببه عانينا خطواتنا السابقة كلها، لما قادت تلك الصناعة بعض من سبقنا إلى تلك المشاحة في الاصطلاح أحياناً! ومن المهم أيضاً أن لا نعقد العبارة، ونتمحك في انتقاد أخرى، ونعترض على حرف، ونورد احتمالاً بعيداً في فهم تعريف= بناءً على صناعة الحدود المنطقية، فهذا أحد ما فررنا منه! وطريقة العمل في هذه الخطوة: أنك بعد أن ربطت الصفات الجامعة للمسائل الجزئية بالمعنى اللغوي للمصطلح، ولاحظت علاقتها به، وقست ذلك ووزنته وتوثقت منه بما وجدته من كلام أهل الاصطلاح، ثم استعنت بكلام من بعدهم= فصغ صفة جامعة واحدةً، من هذه المعطيات كلها، في عبارة واضحة دقيقة. ولا بأس أن تتمم عبارتك بمثال توضيحي، أو صورة ذهنية لذلك المصطلح، تساعد على فهمه، وعلى استيعاب مرادك من

وهنا تكون قد بذلت وسعك، وسعيت جهدك، وأعذرت في الطلب وأنجزت ما وعدت. وهذا غاية ما يستطاع، إلا من الخطوة التالية! الخطوة التاسعة والأخيرة (وهي الأولى أيضاً!) : طلب العون من الله سبحانه، والتضرع إليه عز وجل في ذلك، وفي إخلاص النية، وتوجيه القصد إليه تعالى وتقدس. فإنه: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده ولك في سير الصالحين قدوة! يقول الإمام البخاري: ((ما وضعت في كتاب (الصحيح) حديثاً، إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين)) (¬1) . الله أكبر!!! لو كان لأحد أن يعتمد على علمه، وأن يعجب بجهده، وأن تكفيه عبقريته= لكان الإمام البخاري!! ومن يكون إذا لم يكنه؟!!! فاتعظ يا مسكين!! ولا أقول (تواضع) ، فإنما يتواضع الرفيع، أما من سواه فيعرف قدر نفسه، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه! فاخشع وتذلل وتضرع، وادع ساجداً وقائماً، ربك الغفور الرحيم، أن يشملك بعفوه، وأن يسبغ عليك نعم توفيقه، ويحوطك عن الخطأ والزلل، ويحميك من الهوى والشيطان. فإن ¬

(¬1) تاريخ بغداد للخطيب (2/9) ، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/274) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (12/402) .

تقبل، فيا فوزك ويا بشراك: فقد فهمت مصطلح الحديث!!! فإذا ما بلغت هذه الغاية، وأدركت فيها مناك وأملك، فقل: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، ملء السماوات وملء الأرض ولء ما بينهما، وملء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما يقول العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. والله أعلم. كتبه: الشريف حاتم بن عارف بن ناصر بن هزاع بن ناصر بن فواز بن عون العبدلي. وتم تبييضه في مكة المعظمة: الأربعاء الموافق 7 / 2 / 21416هـ.

فهرست المصادر والمراجع

فهرست المصادر والمراجع أولاً: المخطوط منها: 1ـ تاريخ دمشق: لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي= ابن عساكر / صورة من نسخة المكتبة الظاهرية، وكمل نقصها من نسخ أخرى بالقاهرة ومراكش وإسانبول / تصوير دار البشر. 2ـ معرفة الصحابة: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني / مكتبة طوب قابو أحمد الثالث، تركيا، رقم (1/ 497) / عندي صورة منه، مأخوذة عن صورة من كتبة فضيلة وصي الله محمد عباس. ثانياً: المطبوعات: 3 ـ آداب البحث ولمناظرة: لمحمد الأمين الشنقيطي / تصوير دار ابن تيمية، القاهرة. 4ـ آداب الشافعي ومناقبه: لابن أبي حاتم / تحقيق عبد الغني عبد الخالق. تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 5 ـ آراء المعتزلة الأصولية (دراسةً وتقويماً) : للدكتور علي بن سعد بن صالح الضويحي / الطبعة الأولى (1415هـ) . كتبة ابن رشد: الرياض. 6ـ الإبانة عن أصول الديانة: لأبي الحسن الأشعري / تحقيق عبد القادر الأرناؤط. الطبعة الأولى (1401هـ) . مكتبة دار البيان:

7ـ الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لعلاء الدين علي بن بلبان الفارسي/ تحقيق شعيب الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1408هـ ـ 1412هـ) . مؤسس الرسالة: بيروت. 8 ـ إحكام الفصول في أحكام الأصول: لأبي الوليد الباجي / تحقيق عبد المجيد تركي. الطبعة الأولى (1407هـ) . دار الغرب الإسلامي: بيروت. 9ـ الإحكام في أصول الأحكام: لابن حزم الأندلسي / طبعة مقابلة على عدة نسخ خطية، وعلى النسخة التي حققها الشيخ أحمد محمد شاكر، فدم لها الدكتور إحسان عباس. الطبعة الأولى (1400هـ) . منشورات دار الآفاق الجديدة: بيروت. 10ـ الإحكام في أصول الأحكام: للآمدي / تحقيق د: سيد الجميلي. الطبعة الثانية (1406هـ) . درا الكتاب العربي: بيروت. 11ـ أحوال الرجال: للجوزجاني / تحقيق السيد صبحي السامرائي. الطبعة الأولى (1405هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 12ـ اختصار علوم الحديث: لابن كثير / مع شرحه (الباعث الحثيث) للعلامة أحمد محمد شاكر / تحقيق علي بن حسن بن علي الحلبي الأثري. الطبعة الأولى (1415هـ) . دار العاصمة: الرياض. 13ـ اختلاف الحديث: للشافعي / تحقيق محمد أحمد عبد العزيز. الطبعة الأولى (1407هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. 14ـ اختلاف مالك والشافعي (ضمن كتاب الأم: للشافعي) / أشرف على طبعه محمد زهري النجار. الطبعة الثانية (1393هـ) . دار المعرفة: بيروت. 15ـ أخلاق العلماء: للآجري / تحقيق د: محمود النقراشي السيد علي. الطبعة الأولى (1407هـ) . مكتبة النهضة: القصيم. 16ـ إرشاد الفحول: للشوكاني / تحقيق محمد سعيد البدري. الأولى (1413هـ) . المكتبة التجارية. *ـ الإرشاد: للخليلي= انتخاب الإرشاد. 17ـ إرواء الغليلي للألباني / الطبعة الأولى (1399هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت

18ـ أساس البلاغة: للزمخشري / تحقيق عبد الرحيم محمود. الطبعة بتاريخ (1402هـ) . دار العرفة: بيروت. 19ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر / تحقيق علي محمد البجاوي. مكتبة نهضة مصر: القاهرة. 20ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة ك لابن الأثير / دار الشعب: القاهرة. 21ـ الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر / المطبعة الشرقية: مصر. سنة (1327هـ) . تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 22ـ الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ: للسخاوي / تحقيق فرانز روثال. ترجم التعليقات والمقدمة: الدكتور صالح العلي. تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 23ـ الاقتراح في بيان الاصطلاح: لابن دقيق العيد / تحقيق قحطان الدوري. طبع سنة (1402هـ) . مطبعة الإرشاد: بغداد. 24ـ إكمال المعلم بفوائد مسلم (المقدمة) : للقاضي عياض/ تحقيق الدكتور الحسين محمد شواط. الطبعة الأولى (1414هـ) . دار ابن عفان: الخبر. 25ـ الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع: للقاضي عياض: / تحقيق السيد أحمد صقر. الطبعة الثانية (1398هـ) . دار التراث: القاهرة، المكتبة العتيقة: تونس. 26ـ الإمامة والرد على الرافضة: لأبي نعيم الصبهاني / تحقيق الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي. الطعبة الأولى (1407هـ) . مكتبة العلوم والحكم: المدينة. 27ـ إمعان النظر شرح شرح نخبة الفكر: لمحمد أكر النصربوري السندي / تحقيق غلام مصطفى القاسمي. طباعة حيدري بريس حيدرآباد. 28ـ الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي / تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين. منشورات المكتبة العصرية: بيروت. 29ـ انتخاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث للخليلي: لأبي طاهر السلفي / تحقيق محمد سعيد بن عمر إدريس. الطعبة الأولى

(1409هـ) . مكتبة الرشد: الرياض. 30ـ أنساب الأشراف: للبلاذري / (الشيخان أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وولدهما) . تحقيق د: إحسان صدقي العمد. الطبعة الأولى (1409هـ) . مؤسسة الشراع العربي: الكويت. 31ـ الأنساب المتفقة / لابن طاهر المقدسي / تصوير مكتبة ابن الجوزي. 32ـ الأنساب: للسمعاني / الطبعة الأولى (1384هـ) . مطبعة دائرة المعارف العثمانية: الهند. 33ـ اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً: الدكتور محمد لقمان السلفي / الطبعة الأولى (1408هـ) . طبعة المؤلف، وعنوانه: الرياض ص ب 21574. 34ـ البحر المحيط في أصول الفقه: للزركشي / تحقيق جماعة. الطبعة الثانية (1413هـ) . دار الصفوة: الغردقة. 35ـ بحوث في تاريخ السنة المشرفة: للدكتور أكرم ضياء العمري / الطبعة الخامسة (1415هـ) . مكتبة العلوم والحكم: المدينة. 36ـ البرهان في أصول الفقه: للجويني / تحقيق عبد العظيم الديب. الطبعة الثانية (1400هـ) . توزيع دار الأنصار: القاهرة 37ـ بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: للضبي/ تحقيق إبراهيم الأبياري. الطبعة الأولى (1410هـ) . دار الكتاب المصري: القاهرة. دار الكتاب اللبناني: بيروت. 38ـ بلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب: للزبيدي/ تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. الطبعة الثانية (1408هـ) . مكتبة المطبوعات الإسلامية: حلب. 39ـ بهجة النظر شرح على شرح نخبة الفكر: لأبي الحسن الصغير بن محمد صادق السند المدني/ تحقيق غلام مصطفى القاسمي. أكاديمية الشاه ولي الله، بحيدر آبادـ السند (باكستان) . 40ـ بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية: لابن تيمية/ تصحيح محمد بن عبد الرحمن بن القاسم. الطبعة والمطبعة (؟) .

41ـ بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخراج ما فيها من الأحكام ونفي الضاد عنها: لأبي جعفر الطحاوي/ تحقيق شعيب الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1415هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 42ـ تاج العروس من جواهر القاموس: للزبيدي (المجلد23) / تحقيق عبد الستار أحمد فراج، وجماعة. الطبعة الأولى (1385هـ ـ1406هـ) . مطبعة حكومة الكويت 43ـ تاريخ أبي زرعة الدمشقي/ تحقيق شكر الله نعمة الله القوجاني. مطبوعات مجمع اللغة العربية: دمشق. 44ـ تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين: لابن شاهين/ تحقيق عبد الرحيم القشقري. الطبعة الأولى (1409هـ) . 45ـ التاريخ الأوسط (المطبوع خطأ باسم: التاريخ الصغير) : للبخاري/ تحقيق محمود إبراهيم زايد. الطبعة الأولى (1406هـ) . دار المعرفة: بيروت. 46ـ تاريخ بغداد: للخطيب / الطبعة الأولى (1931م) . مكتبة الخانجي: القاهرة. 47ـ تاريخ دمشق (طبع منه مجلدات متفرقة) : لابن عساكر/ تحقيق نشاط الغزواي، وسكينة الشهابي، وغزوة بدير، وجماعة. مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. دار الفكر: دمشق. 48ـ تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة/ تحقيق محمد الأصفر. الطبعة الأولى (1409هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت، ودار الإشراق: بيروت. 49ـ التبصرة والتذكرة: للعراقي/ تحقيق محمد بن الحسين العراقي الحسيني. تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 50ـ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: لابن عساكر/ طبعة مصورة عن نسخة السيد عبد الباقي الحسني الجزائري ونسخة الخزانة الفيضية والنسخة النورية والنسخة التيمورية. عني بنشره: القدسي، سنة 1399هـ. 51ـ التصحيف وأثره في الحديث والفقه وجهود المحدثين في مكافحته: لأسطيري جمال/ الطبعة الأولى (1415هـ) . دار طيبة: الرياض.

52ـ تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: للسيوطي/ تحقيق نظر محمد الفاريابي. الطبعة الأولى (1414هـ) . مكتبة الكوثر: الرياض. 53ـ تذكرة الحفاظ: للذهبي/ تصوير دار إحياء التراث العربي: بيروت. 54ـ ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: للقاضي عيا ض/ تحقيق محمد بن تاويت. الطبعة الثانية (1403هـ) . وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: المملكة المغربية. *ـ ترجمة الزهري= الزهري 55ـ تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس: لابن حجر/ تحقيق عبد الغفار البنداري ومحمد أحمد عبد العزيز. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. 56ـ التعريفات: للجر جاني/ تحقيق إبراهيم الأبيا ري. الطبعة الثانية (1413هـ) . دار الكتاب العربي: بيروت. 57ـ تغليق التعليق: لابن حجر/ تحقيق د: سعيد عبد الرحمن القزقي. الطبعة الأولى (1405هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت، دار عمار: الأردن. 58ـ تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم/ تحقيق المعلمي. 59ـ تقريب التهذيب: لابن حجر/ تحقيق محمد عوامه. الطبعة الأولى (1406هـ) . دار البشائر الإسلامية: بيروت. 60ـ تقويم البلدان: لأبي الفداء/ تحقيق ر ينو د، والبارون ما ك كوكين د يسلان. الطبعة الأولى (1840م) . بدار الطباعة السلطانية: باريس. 61ـ تقييد العلم: للخطيب/ تحقيق يوسف العش. الطبعة الثانية (1974م) . دار إحياء السنة النبوية. 62ـ التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: لابن نقطة/ تحقيق كمال يوسف الحوت. الطبعة الأولى (1408هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت.

63ـ التقييد والأيضاح: للعراقي/ تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. الطبعة (1401هـ) . تصوير دار الفكر. 64ـ تكملة الإكمال: لابن نقطة / تحقيق د: عبد القيوم عبد رب النبي. الطبعة الأولى (1408هـ ـ1411هـ) . جامعة أم القرى: مكة المكرمة. 65ـ تلخيص المستدرك: للذهبي/ (بحاشية المستدرك) . تصوير دار المعرفة، بيروت. 66ـ تلخيص الموطأ: للقابسي= مختصر الموطأ عن مالك. 67ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لابن عبد البر/ تحقيق هيئة من العلماء بوزارة الأوقاف، في المملكة المغربية. 68ـ التمييز: لمسلم/ تحقيق د: محمد مصطفى الأعظمي. الطبعة الثانية (1402هـ) . شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة: الرياض *ـ تنقيح الأنظار في علوم الآثار= انظر توضيح الأفكار. 69ـ تهذيب التهذيب: لابن حجر/ الطبعة الأولى (1325هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية: الهند. 70ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للمزي/ تحقيق بشار عواد معروف. الطبعة الأولى. مؤسسة الرسالة. 71ـ توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: للأمير الصنعاني/ تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. الطبعة الأولى (1366هـ) . مكتبة الخانجي: القاهرة. 72ـ التوضيح الأبهر: للسخاوي/ تحقيق حسين بن إسماعيل الجمل. الطبعة الأولى (1411هـ) . مكتبة التربية الإسلامية: القاهرة. 73ـ التوقيف على مهمات التعاريف: للمناوي/ تحقيق د: محمد رضوان الدابة. الطبعة الأولى (1410هـ) . دار الفكر المعاصر: بيروت، ودار الفكر: دمشق. 74ـ تيسير التحرير شرح كتاب التحرير لمحمد أمين المعروف بأمير بادشاه/ تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. *ـ الجامع: للترمذي= الجامع المختصر من السنن.

75ـ جامع بيان العلم وفضله: لابن عبد البر/ تحقيق أبي الأشبال الزهيري. الطبعة الأولى (1414هـ) . دار ابن الجوزي: الدمام. 76ـ جامع التحصيل في أحكام المراسيل: للعلائي/ تحقيق حمدي السلفي. الطبعة الثانية (1407هـ) . عالم الكتب، مكتبة النهضة الحديثة: بيروت. 77ـ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب / تحقيق د: محمد عجاج الخطيب. الطبعة الأولى (1412هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 78ـ الجامع المختصر من السنن ومعرفة ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل: للترمذي / تحقيق أحمد بن محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة. تصوير دار إحياء التراث العربي: بيروت. 79ـ الجرح والعديل، لابن أبي حاتم. 80ـ جامع العلم: للشافعي / تحقيق محمد أحمد عبد العزيز. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. 81ـ جمع الجوامع في أصول الفقه: لابن السبكي / (مع شرحه للمحلي) . الطبعة الأولى (1331هـ) . الطبعة الأزهرية المصرية: القاهرة. *ـ حاشية ابن قطلوبغا= القول المبتكر. 82ـ الحافظ الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث: للدكتور محمود الطحان / الطبعة الأولى (1401هـ) . دار القرآن: بيروت. 83ـ الحاوي للفتاوي: لسيوطي / طبع سنة (1352هـ) . تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 84ـ الحجة في بيان المحجة: لأبي القاسم التيمي. تحقيق محمد بن ربيع المدخلي، ومحمد ابن محمود أبو رحيم. الطبعة الأولى (1411هـ) ـ دار الراية ك الرياض. 85ـ الحديث المرسل حجيته وأثره في الفقه الإسلامي: للدكتور محمد حسن هيتو / الطبعة الأولى (1409هـ) . دار البشائر الإسلامية: بيروت. 86ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني. 87ـ الخطط: للمقريزي.

88ـ دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي / الطبعة الأولى (1405هـ) . المكتب الإسلامي: دمشق، بيروت. 89ـ دلائل النبوة: للبيهقي / تحقيق عبد المعطي قلعجي. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. 90ـ ذكر أخبار أصبهان: لأبي نعيم / نشرة سفن ديدرنغ. يريل، ليدن (1931م ـ 1934م) . تصوير الدار العلمية: الهند. 91ـ ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل: للذهبي (ضمن: أربع رسائل في علوم الحديث) / تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. الطبعة الخامسة (1410هـ) . مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب. 92ـ رد الدارمي على بشر بن غياث المريسي/ تحقيق محمد حامد فقي. تصوير مطبعة الأشرف: لاهور باكستان. 93ـ الرد على سير الأوزاعي: لأبي يوسف القاضي / تحقيق أبو الوفاء الأفغاني. تصوير دار الكتب العلمية. 94ـ الرسالة: للشافعي / تحقيق أحمد محمد شاكر. الطبعة الثانية (1399هـ) . دار التراث: القاهرة. 95ـ روضة الناظر وجنة المناظر: لابن قدامة / تحقيق عبد الكريم النملة. الطبعة الأولى (1413هـ) . مكتبة الرشد: الرياض. 96ـ الزهد: لعبد الله بن المبارك / تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. دار الكتب العلمية: بيروت. 97ـ الزهري: لابن عساكر (ترجمة الزهري من تاريخ دمشق) / تحقيق شكر الله بن نعمة الله قوجاني. الطبعة الأولى (1402هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 98ـ زيادات أبي موسى المديني على الأنساب المتفقة لابن طاهر المقدسي / مطبوع بذيل الأنساب المتفقة. 99ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني / طبعة مكتبة المعارف: الرياض، سنة (1415هـ) . 100ـ السنن: لأبي داود / تحقيق عزت الدعاس وعادل السيد. الطبعة الأولى (1388هـ) . دار الحديث: بيروت.

101ـ السنن: للدار قطني / تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني. 102ـ السنن: للدارمي / تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني. 103ـ السنن: لابن ماجه / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 104ـ السنن الصغرى (المجتبى) : للنسائي: ترقيم عبد الفتاح أبو غدة. 105ـ السنن الكبى: للنسائي / تحقيق عبد الغفار البنداري وسيد كسروي. 106ـ السنن الكبرى: للبيهقي / الطبعة الأولى (1344هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية: الهند. 107ـ سؤالات السجزي للحاكم / تحقيق د: موفق عبد الله عبد القادر. الطبعة الأولى (1408هـ) . دار الغرب الإسلامي: بيروت. 108ـ سؤالات السلمي للدار قطني / تحقيق سليمان آتش. الطبعة الأولى (1408هـ) . دار العلوم الريا ض. 109ـ سير أعلام النبلاء: للذهبي/ تحقيق حسين أسد وجماعة. مؤسسة الرسالة. 110ـ شرح شرح نخبة الفكر: لملا علي القاري/ تحقيق محمد وهيثم ابنا نزار تيم. الطبعة الأولى. شركة الأرقم، بيروت. 111ـ شرح علل الترمذي: لابن رجب/ تحقيق همام عبد الرحيم سعيد 112ـ شرح الكوكب الميز، لابن النجار/ تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد. 113ـ شرح اللمع: للشيرازي/ تحقيق عبد المجيد تركي. الطبعة الأولى (1408هـ) . 114ـ شرح مختصر الروضة: للطوفي/ تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي. 115ـ شرف أصحاب الحديث: للخطيب/ تحقيق محمد سعيد خطيب أوغلي. 116ـ شروط الأئمة الخمسة: للحازمي/ تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 117ـ شروط الأئمة الستة: لابن طاهر/ تصوير دار الكتب العلمية بيروت.

118ـ صحائف الصحابة وتدوين السنة: لأحمد بن عبد الرحمن الصويان/ الطبعة الأولى (1410هـ) . 119ـ الصحاح: للجوهري/ تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. الطبعة الثانية (1399هـ) . *ـ صحيح ابن حبان= الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 120ـ صحيح البخاري (مع شرحه فتح الباري) / ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. 121ـ صحيح مسلم/ ترقيم وتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 122ـ الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للبيهقي: الدكتور نجم عبد الرحمن خلف/ الطبعة الأولى (1413هـ) . دار الوفاء: المنصورة. *ـ الصواعق المرسلة: لابن قيم الجوزية= مختصر الصواعق المرسلة. 123ـ صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط: لابن الصلاح/ تحقيق د: موفق عبد الله عبد القادر. الطبعة الأولى (1404هـ) . دار الغرب الإسلامي: بيروت. 124ـ الضعفاء (الكبير) : للعقيلي/ تحقيق د: عبد المعطي قلعجي. الطبعة الأولى (1404هـ) . 125ـ طبقات الأمم: لصاعد الأندلسي/ تحقيق حياة العيد بوعلوان. الطبعة الأولى (1985م) . دار الطليعة للطباعة والنشر: بيروت. 126ـ طبقات الحنابلة: لابن أبي يعلى الفراء/ تحقيق محمد حامد فقي. 127ـ طبقات الشافعية الكبرى: لابن السبكي/ تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو. الطبعة الأولى (1383هـ) . 128ـ طبقات الفقهاء: للشيرازي/ تحقيق إحسان عباس. الطبعة الثانية (1401هـ) . دار الرائد العربي: بيروت. 129ـ الطبقات الكبرى: لابن سعد/ تحقيق إحسان عباس. 130ـ طرق حديث ((من كذب علي متعمداً)) : للطبراني/ تحقيق علي حسن عبد الحميد، وهشام بن إسماعيل السقا. الطبعة الأولى (1410هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت، دار عمار: الأردن.

131ـ العدة في أصول الفقه: لأبي يعلى الفراء/ تحقيق د: أحمد بن علي المباركي. الطبعة الثانية (1410هـ) . 132ـ العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين: للفاسي/ مطبعة السنة المحمدية (1958م ـ 1969م) . 133ـ العلل: للدارقطني/ تحقيق د: محفوظ الرحمن زين الله السلفي. 134ـ علل الحديث: لابن أبي حاتم/ تحقيق محب الدين الخطيب. 135ـ العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد بن حنبل (برواية ابنه عبد الله) / تحقيق الدكتور وصي الله عباس. الطبعة الأولى (1408هـ) . 136ـ العلم: لأبي خيثمة/ تحقيق الألباني. الطبعة الثانية (1403هـ) . 137ـ علم الحديث: لابن تيمية/ تحقيق موسى محمد علي. الطبعة الثانية (1405هـ) . 138ـ علوم الحديث: لابن الصلاح/ تحقيق د: نور الدين عتر. الطبعة الثالثة (1404هـ) . دار الفكر: دمشق. 139ـ الغاية في شرح الهداية: للسخاوي/ تحقيق محمد سيدي محمد محمد الأمين. الطبعة الأولى (1413هـ) . دار القلم: دمشق، الدار الشامية: بيروت. 140ـ الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم) : للجويني/ تحقيق د: عبد العظيم الديب. الطبعة الثانية (1401هـ) . 141ـ فتاوى ابن الصلاح/ تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي. الطبعة الأولى (1403هـ) . 142ـ فتاوى زكريا بن محمد الأنصاري/ تحقيق أحمد عبيد. الطبعة الثانية (1404هـ) . عالم الكتب: بيروت. 143ـ فتاوى السبكي/ تصوير دار المعرفة: بيروت. 144ـ فتح الباري: لابن حجر/ تحقيق محب الدين الخطيب. الطبعة الأولى (1407هـ) . دار الريان للتراث. 145ـ القراءة خلف الإمام: للبخاري/ الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت.

§1/1