المنهج المسلوك في سياسة الملوك

الشيزري

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أثق وعليه أتوكل

الْمنْهَج المسلوك فِي سياسة الْمُلُوك بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه أَثِق وَعَلِيهِ أتوكل مُقَدّمَة الْكتاب وتراجم أبوابه الحمدلله الَّذِي عجزت الْعُقُول عَن معرفَة ذَاته وَقصرت الأفكار عَن الْإِحَاطَة بكنه صِفَاته وتحيرت الْأَبْصَار فِي بَدَائِع مصنوعاته وَشهِدت لَهُ بالوحدانية عجائب أرضه وسماواته أَحْمَده على مِنْهُ الْعِظَام وأياديه الحسان حمد معترف بسوابغ الإنعام وَأشْهد ان لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الها لم يزل منعوتا بالجلال مَوْصُوفا

بالكمال منزها عَن الْحَرَكَة والسكون والإنتقال مقدسا عَن الْجِسْم والشبح والخيال وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ ببرهان لامع الْمنَار وَقُرْآن سَاطِع الْأَنْوَار قَاطع بإعجازه حجج الْكفَّار والطغاة المعاندين أولي الْإِنْكَار وَصلى الله وَسلم عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه الْأَبْرَار صَلَاة دائمة بالْعَشي وَالْإِبْكَار قَالَ عبد الرَّحْمَن بن نصر بن عبد الله لما كَانَ الْمولى الْملك النَّاصِر

صَلَاح الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين أَبُو المظفر

يُوسُف بن أَيُّوب بن شادي محيي

دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله دولته وحرس على الْإِسْلَام مهجته مِمَّن أَتَاهُ الله ملكه الْعَظِيم وهداه صراطه الْمُسْتَقيم وأورثه مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وأوطأه من الْمُلُوك رقابها ومناكبها وَكَانَ مِمَّن يرى الْأَدَب وفضله ويؤثر الْعلم واهله جمعت لخزانة علومه هَذَا الْكتاب وَهُوَ يحتوي على ظرائف من الْحِكْمَة وجواهر من الْأَدَب وأصول

فِي السياسة وتدبير الرّعية وَمَعْرِفَة أَرْكَان المملكة وقواعد التَّدْبِير وَقِسْمَة الْفَيْء وَالْغنيمَة على الأجناد وَمَا يلْزم اهل الْجَيْش من حُقُوق الْجِهَاد ونبهت فِيهِ على الشيم الْكَرِيمَة والأخلاق الذميمة وأشرت فِيهِ إِلَى فضل المشورة والحث عَلَيْهَا وَكَيْفِيَّة مصابرة الْأَعْدَاء وسياسة الْجَيْش وأودعته من الْأَمْثَال مَا يسْبق إِلَى الذِّهْن شَوَاهِد صِحَّتهَا ومعالم أدلتها مَعَ نَوَادِر من الْأَخْبَار وشواهد من الْأَشْعَار وفصلته أبوابا تَتَضَمَّن حكايات لائقة ومواعظ شافية وَحكما بَالِغَة وسلكت فِي ذَلِك كُله طَرِيق الإختصار وَمذهب الإيجاز لِئَلَّا تمجه الخواطر وترفضه الأسماع وسميته الْمنْهَج المسلوك فِي سياسة الْمُلُوك.

وَكنت فِي أيداعه خزانَة علومه كمهدي التَّمْر إِلَى هجر أَو الكافور إِلَى قيصور وَلَكِنِّي قصدت بذلك إِيصَال الْحِكْمَة أَهلهَا وَأَن أضعها محلهَا وَبِاللَّهِ اعْتصمَ وَعَلِيهِ أتوكل وَهُوَ عشرُون بَابا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل. الْبَاب الأول فِي بَيَان افتقار الرّعية إِلَى ملك عَادل الْبَاب الثَّانِي فِي بَيَان فضل الْأَدَب وافتقار الْملك إِلَيْهِ

الْبَاب الثَّالِث فِي معرفَة قَوَاعِد الْأَدَب الْبَاب الرَّابِع فِي معرفَة أَرْكَان المملكة الْبَاب الْخَامِس فِي معرفَة أَوْصَاف الْكَرِيمَة والحث عَلَيْهَا الْبَاب السَّادِس فِي معرفَة الْأَوْصَاف الذميمة وَالنَّهْي عَنْهَا الْبَاب السَّابِع فِي كَيْفيَّة رُتْبَة الْملك مَعَ اوليائه فِي حَال جُلُوسه وركوبه الْبَاب الثَّامِن فِي بَيَان فضل المشورة والحث عَلَيْهَا الْبَاب التَّاسِع فِي بَيَان أَوْصَاف أهل المشورة وحكايات لائقة الْبَاب الْعَاشِر فِي معرفَة أصُول السياسة وَالتَّدْبِير الْبَاب الْحَادِي عشر فِي الْجُلُوس لكشف الْمَظَالِم الْبَاب الثَّانِي عشر فِي ذكر أدب صُحْبَة الْمُلُوك الْبَاب الثَّالِث عشر فِي معرفَة مَا تكَاد بِهِ الْمُلُوك فِي غَالب الْأَحْوَال الْبَاب الرَّابِع عشر فِيمَا يَنْبَغِي للْملك من سياسة الْجَيْش وتدبير الْجنُود الْبَاب الْخَامِس عشر فِيمَا يلْزم أهل الْجَيْش من حُقُوق الْجِهَاد الْبَاب السَّادِس عشر فِي مصابرة الْمُشْركين الْبَاب السَّابِع عشر فِي معرفَة قتال قطاع الطَّرِيق واهل الرِّدَّة وَالْبَغي

الْبَاب الثَّامِن عشر فِي معرفَة قسْمَة الْغَنِيمَة والفيء الْبَاب التَّاسِع عشر فِيمَا يَنْبَغِي للْملك فعله عِنْد قفوله بالجيش الْبَاب الْعشْرُونَ فِي الْحَث على اسْتِمَاع المواعظ وقبولها من النساك الْبَاب الخاتمة

الْبَاب الأول فِي بَيَان إفتقار الرّعية إِلَى ملك عَادل قَالَ عبد الرَّحْمَن لما كَانَت الرّعية ضروبا مُخْتَلفَة وشعوبا مُخْتَلفَة متباينة الْأَغْرَاض والمقاصد مفترقة الْأَوْصَاف والطبائع افْتَقَرت ضَرُورَة إِلَى ملك عَادل يقوم

أودها وَيُقِيم عمدها وَيمْنَع ضررها وَيَأْخُذ حَقّهَا ويذب عَنْهَا مَا أشقها وَمَتى خلت من سياسة تَدْبِير الْملك كَانَت كسفينة فِي الْبَحْر اكتنفتها الرِّيَاح المتواترة والأمواج المتظاهرة قد أسلمها الملاحون واستسلم أَهلهَا إِلَى الْمنون. وَاعْلَم أَن الرّعية تستظمىء إِلَى عدل الْملك وتدبيره استظماء أهل الجدب إِلَى الْغَيْث الوابل وينتعشون بطلعته عَلَيْهِم كانتعاش النبت بِمَا يَنَالهُ من ذَلِك الْقطر بل الرّعية بِالْملكِ أعظم انتفاعا مِنْهَا.

بالغيث لِأَن للغيث وقتا مَعْلُوما وسياسة الْملك دائمة لَا حد لَهَا وَلَا وَقت والرعية فِي تبَاين أوصافها كنبت الأَرْض فَمِنْهُ الطّيب المثمر وَمِنْه الْخَبيث الْقَاتِل فَمن كَانَ مِنْهُ طيبا فَإِنَّهُ لَا تزكي أُصُوله فِي أرضه وَلَا تنمى فروعه إِذا جاوره الْخَبيث فِيهَا لَان الْخَبيث يسْبق إِلَى مَا دونه فِي الْقَرار فَيَشْرَبهَا ويكثف فروعه فِي الفضاء فَلَا يصل إِلَيْهِ حَظه من النسيم فَإِذا أصلحت الأَرْض فأسدها وَأخرج مَا فِيهَا من النبت الْخَبيث انْتَعش نبتها الطّيب وقوى أَصله ونما فَرعه وطاب ثمره وَكَذَلِكَ الرّعية لما جاور الْخَبيث طيبها افْتَقَرت ضَرُورَة إِلَى ملك يصلح فاسدها ويقمع صائلها وَيكسر شَوْكَة أهل التَّعَدِّي عَلَيْهَا لتنتعش أحوالها وتزكي أموالها وَيكثر خَيرهَا وَتصْلح

أمورها وَقد قيل الرّعية بِلَا وَال كالأنعام بِلَا رَاع فَانْظُر سَائِمَة الانعام فِي مراعيها إِذا خلت من راعيها مَا أَشد اختلال حَالهَا وَاخْتِلَاف افعالها بل الرّعية أَشد اختلالا وَأكْثر اخْتِلَافا فَلَا بُد من زعيم يمنعهُم من الْمَظَالِم ويفضل بَينهم فِي التَّنَازُع والتخاصم ولولاه لكانوا فوضى مهملين وهمجا مضاعين قَالَ الأفوه الأودي

(لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا) (وَالْبَيْت لَا يبتنى إِلَّا باعمدة ... وَلَا عماد إِذا لم ترس أوتاد) (فَإِن تجمع أوتاد واعمدة ... وَسَاكن بلغُوا الْأَمر الَّذِي رادوا)

فِي فضل الْأَدَب وافتقار الْملك إِلَيْهِ قَالَ عبد الرَّحْمَن لما افْتَقَرت الرّعية فِي أمورها إِلَى تَدْبِير الْملك وَكَانَ الْأَدَب مَجْمُوع خلال حميدة وخصال جميلَة افْتقر إِلَيْهِ الْملك ضَرُورَة لتصدر عَنهُ تصاريف التَّدْبِير فِي الرّعية على قانون الْعدْل الَّذِي بِهِ دوَام المملكة فقد قيل من حسنت سياسته دَامَت رياسته وَاعْلَم أَن الْأَدَب أحد الْأَوْصَاف الْأَرْبَعَة الَّتِي يشْتَرط قِيَامهَا بِالْملكِ فِي تَدْبِير المملكة على مَا سنوضحه فَإِذا عرى الْملك 170 عَنهُ اختلت سياسة وتدبيره وَقد قيل الْأَدَب صُورَة الْعقل فَمن لَا أدب لَهُ لَا عقل لَهُ وَمن لَا عقل لَهُ لَا سياسة لَهُ وَمن لَا سياسة لَا ملك لَهُ وَقَالَ بَعضهم قَرَأت فِي التورة إِن أحسن الْحِلْية الْحسب وَلَا حسب لمن لَا مُرُوءَة لَهُ وَمن لَا مُرُوءَة لمن لَا عقل لَهُ وَلَا عقل لمن لَا أدب لَهُ. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْأَدَب عصمَة الْمُلُوك لِأَنَّهُ يمنعهُم من الظُّلم ويردهم إِلَى الْحلم ويصدهم عَن الأذية ويعطفهم على الرّعية فَمن حَقهم أَن يعرفوا فَضله ويعظموا أَهله.

عَنهُ اختلت سياسته وتدبيره وَقد قيل الْأَدَب صُورَة الْعقل فَمن لَا أدب لَهُ لَا عقل لَهُ وَمن لَا عقل لَهُ لَا سياسة لَهُ وَمن لَا سياسة لَا ملك لَهُ وَقَالَ بَعضهم قَرَأت فِي التَّوْرَاة إِن أحسن الْحِلْية الْحسب وَلَا حسب لمن لَا مُرُوءَة لَهُ وَلَا مُرُوءَة لمن لَا عقل لَهُ وَلَا عقل لمن لَا أدب لَهُ. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْأَدَب عصمَة الْمُلُوك لِأَنَّهُ يمنعهُم من الظُّلم ويردهم إِلَى الْحلم ويصدهم عَن الأذية ويعطفهم على الرّعية فَمن حَقهم أَن يعرفوا فَضله ويعظموا أَهله.

وَقَالَ بعض الْعلمَاء لَيْسَ للمرء أَن يتبجح بِحَالَة جليلة نالها بِغَيْر عقل أَو منزلَة رفيعة نالها بِغَيْر أدب فَإِن الْجَهْل ينزله مِنْهَا ويزيله عَنْهَا ويحطه إِلَى رتبته وَيَردهُ إِلَى قِيمَته بعد أَن تظهر عيوبه وتكثر ذنُوبه وَيصير مادحه هاجيا ووليه معاديا. وَكَانَ يُقَال عقل الأديب أبدا فِي إرشاد ورأيه أبدا فِي سداد فَقَوله سديد وَفعله حميد. وَقَالَ رجل من قيس لسَيِّد من قُرَيْش يَا أَخا قُرَيْش أطلب الْأَدَب

فَإِنَّهُ زِيَادَة فِي الْعقل وَكَمَال فِي المنصب وَدَلِيل على الْمُرُوءَة وَصَاحب فِي الغربة وصلَة فِي الْمجَالِس وَمَا أحسن قَول الَّذِي يَقُول (أدب الْمَرْء كلحم وَدم ... مَا حواه أحد إِلَّا صلح (لَو وزنا رجلا ذَا أدب ... بألوف من ذَوي الْجَهْل رجح وَكَانَ يُقَال الْأَدَب مَال واستعماله كَمَال وَأوصى ملك وَلَده فَقَالَ يَا بني خصلتان يسود بهما الْمَرْء وَإِن كَانَ غير ذِي مَال الْعلم وَالْأَدب يَا بني جَالس الكبراء وناطق الْعلمَاء فَإِن مؤاخاتهم كَرِيمَة ومجالستهم غنيمَة وصحبتهم سليمَة وَأوصى رجل وَلَده فَقَالَ يَا بني عَلَيْك بالأدب فَإنَّك إِن كنت غَنِيا

كنت شرِيف قَوْمك وَإِن كنت مكتفيا كنت سري قَوْمك وَإِن كنت مُحْتَاجا لم يسْتَغْن عَنْك ويحتاجك رُؤَسَاء الْبِلَاد وأشرافهم وَقيل من قعد بِهِ نسبه نَهَضَ بِهِ أدبه وَقَالَ بزر جمهر مَا أورثت الْآبَاء أبناءها أفضل من الْأَدَب لِأَنَّهَا إِذا أورثتها الْأَدَب اكْتسبت بِهِ الْأَمْوَال ونالت بِهِ أَعلَى الْمَرَاتِب وَإِذا أورثتها الْأَمْوَال أضاعتها وَبقيت عدما من الْأَدَب وَكَانَ يُقَال الْأَدَب خير مِيرَاث وَحسن

الْخلق خير قرين والتوفيق خير قَائِد وَالِاجْتِهَاد أربح تِجَارَة وَلَا مَال أَعُود من الْعقل وَلَا عقل أوثق من المشورة وَلَا فقر أَشد من الْجَهْل وَقيل الْأَدَب ثوب جَدِيد لَا يبْلى / وَالْعلم كنز عَظِيم لَا يفنى وَقيل من أدب ابْنه أرْغم عدوه وَقيل ثَلَاثَة لَيْسَ مَعَهُنَّ غربَة حسن الْأَدَب ومجانبة الريب وكف الأذية وَقَالَ نصر بن سيار كل شَيْء

يَبْدُو صَغِيرا ثمَّ يكبر إِلَّا الْمُصِيبَة فَإِنَّهَا تبدو كَبِيرَة ثمَّ تصغر وكل شَيْء يرخص إِذا كثر إِلَّا الْأَدَب فَإِنَّهُ إِذا كثر غلا وَاعْلَم أَن فضل الْأَدَب أشهر من أَن يسطر وَفِي النَّفس الأبية باعث عَلَيْهِ إِذا كَانَت تأبى ضِدّه وَتكره مُخَالفَته وَله قَوَاعِد تبتنى عَلَيْهِ أَرْكَانه سنذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى

القاعدة الأولى العلم

الْبَاب الثَّالِث فِي معرفَة قَوَاعِد الْأَدَب لما كَانَ الْأَدَب وَصفا مَشْرُوطًا للْملك فِي تَدْبِير المملكة افْتقر فِي ذَلِك إِلَى معرفَة قَوَاعِده الَّتِي لَا يتَحَقَّق بِدُونِهَا وَلَا يبتنى إِلَّا عَلَيْهَا وهما قاعدتان لَا يسع الْملك تَركهمَا إِذْ هما أصلان فِي السياسة وَالتَّدْبِير الْقَاعِدَة الأولى الْعلم إعلم أَن الْعلم بِأَحْكَام الدّين وَضبط أصُول الشَّرِيعَة وَاجِب على كل مُسلم وعَلى الْمُلُوك أَشد وجوبا لافتقارهم إِلَى إِقَامَة الْحُدُود

الشَّرْعِيَّة بِمَا يسْتَحق كل جَان مِنْهُم على الْوَجْه الشَّرْعِيّ وَأخذ الْحُقُوق من وجوهها وصرفها فِي أَرْبَابهَا وجهاتها ليتَحَقَّق مِنْهُم الْعدْل الَّذِي قَامَت بِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَتى كَانَ الْملك جَاهِلا كَانَ تَدْبيره هدما لقواعد

المملكة قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ من عمل بِغَيْر علم كَانَ مَا يهدم أَكثر مِمَّا يَبْنِي قَالَ عبد الرَّحْمَن وَلَا محَالة أَن الْملك إِذا كَانَ خَالِيا من الْعلم ركب هَوَاهُ وتخبط مَا يَلِيهِ إِذْ لَا تحجبه فكرة سليمَة وَلَا تَمنعهُ حجَّة صَحِيحَة وَيكون كالفيل الهائج فِي الْبَلَد القفر لَا يمر بِشَيْء إِلَّا تخبطه وَإِذا كَانَ الْملك عَالما كَانَ لَهُ من علمه وازع يقمع هَوَاهُ ويميل بِهِ إِلَى سنَن الْحق كالفيل الهائج إِذا خرج من الْبَلَد القفر إِلَى الأنيس ذللته السلسلة وقهره الكلوب حَتَّى يحمل عَلَيْهِ الأثقال

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك إِذا لم يوطده علم كَانَ مذلة اجلة وَالْعلم إِذا لم يُؤَيّدهُ عقل كَانَ مضلة عاجلة وَكَانَ يُقَال إِذا أَرَادَ الله بِالنَّاسِ خيرا جعل الْعلم فِي مُلُوكهمْ وَالْملك فِي عُلَمَائهمْ وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْعلم عصمَة الْمُلُوك لِأَنَّهُ يمنعهُم من الظُّلم ويردهم إِلَى الْحلم ويصدهم عَن الأذية ويعطفهم على الرّعية وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام خَيره الله تَعَالَى بَين الْعلم وَالْملك فَاخْتَارَ الْعلم فَأعْطَاهُ الله

تَعَالَى الْعلم وَالْملك جَمِيعًا وَأوصى ملك من مُلُوك الْيمن ولي عَهده فَقَالَ اتَّقِ من فَوْقك يتقيك من تَحْتك وكما تحب أَن يفعل بك فافعل برعيتك وَانْظُر كل حسن فافعله واستكثر من مثله وكل قَبِيح فارفضه وبالنصحاء يستبين لَك ذَلِك وَخَيرهمْ أهل الدّين وَأهل النّظر فِي العواقب واستكثر من الْعلم فَإِنَّهُ أساس التَّدْبِير وَمَا لَيْسَ لَهُ أساس فمهدوم وَإِنَّمَا رَأَيْت الْمُلُوك تولي من ثَلَاثَة أُمُور فاحسم عَنْك وَاحِدًا وَأحكم اثْنَيْنِ وَهِي اتِّبَاع الْهوى وتولية من يسْتَحق وكشف أُمُور الرّعية فَإنَّك إِن ملكت هَوَاك

لم تستأثر وَلم تعْمل إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِن وليت الْمُسْتَحق كَانَ عونا لَك على مَا تحب وَلم تضع على يَدَيْهِ الْأُمُور وَإِذا تناهت إِلَيْك أُمُور رعيتك عَاشَ الوضيع وحذر الرفيع وَأمْسك الظَّالِم وَأمن الْمَظْلُوم وَالسَّلَام وَحكي أَن عبد الله بن صَالح بن

عَليّ دخل بَغْدَاد على بعض شُبَّان بني الْعَبَّاس فحادثه فَوَجَدَهُ على خلاف مَا عهد عَلَيْهِ أسلافه فساءه ذَلِك فَلَمَّا خرج من عِنْده قَالَ إِن الْجَهْل يحط أولى الْمَرَاتِب ويصغر ذَوي المناصب ثمَّ أنْشد متمثلا (تعلم فَلَيْسَ الْمَرْء يُولد عَالما ... وَلَيْسَ أَخُو علم كمن هُوَ جَاهِل) (وَإِن كَبِير الْقَوْم لَا علم عِنْده ... صَغِير إِذا الْتفت عَلَيْهِ المحافل) وَقَالَ بعض الْعلمَاء الْجَهْل مَطِيَّة من ركبهَا زل وَمن صحبها ضل

وأنشدني بعض أهل الْعلم (احفظ الْعلم مَا اسْتَطَعْت ... فَإنَّك إِن كنت خاملا رفعك) (واترك الْجَهْل مَا اسْتَطَعْت ... فَإنَّك إِن كنت عَالِيا وضعك) وَقَالَ بعض الْعلمَاء من غرس الْعلم اجتنى النباهة وَمن غرس الزّهْد اجتنى الْعِزَّة وَمن غرس الْإِحْسَان اجتنى الْمحبَّة وَمن غرس الفكرة اجتنى الْحِكْمَة وَمن غرس الْوَقار اجتنى المهابة وَمن غرس المداراة اجتنى السَّلامَة وَمن غرس الْكبر اجتنى المقت وَمن غرس الْحِرْص اجتنى الذلة وَمن غرس الطمع اجتنى الخزي وَمن غرس الْحَسَد اجتنى الكمد

القاعدة الثانية من قواعد الأدب نهي النفس عن الهوى

الْقَاعِدَة الثَّانِيَة من قَوَاعِد الْأَدَب نهي النَّفس عَن الْهوى وَذَلِكَ لَازم للْملك فِي التَّدْبِير لِأَن صَوَاب الرَّأْي وَخَطأَهُ إِنَّمَا يكون بِحَسب قُوَّة التخيل الفكري وَضَعفه فَمن قوى تخيل فكره كَانَ فِي سُلْطَان الْهوى غَالِبا وَمن ضعف تخيل فكره كَانَ فِي سُلْطَان الْهوى مَغْلُوبًا وَإِنَّمَا يضعف التخيل الفكري إِذا استولت على النَّفس الشَّهَوَات

فيحتجب الْعقل عَن صَوَاب الرَّأْي فَإِذا قهر الْملك نَفسه عَن هَواهَا ومنعها شهواتها الصائرة بهَا ونهاها ظهر لَهُ صَوَاب التَّدْبِير فِي مرْآة الْعقل وَمَتى لم يملك الْملك ضبط نَفسه عَن هَواهَا وَهِي وَاحِدَة لم يملك ضبط حواسه وَهِي خمس وَإِذا لم يملك ضبط حواسه مَعَ قلتهَا وذلتها صَعب عَلَيْهِ ضبط خاصته من أعوانه وعامته مَعَ كَثْرَة جمعهم وخشونة جانبهم وَمن لم يضْبط خاصته من أعوانه وهم نصب عَيْنَيْهِ لم يضْبط عامته من رَعيته فِي أقاصي بِلَاده وأطراف مَمْلَكَته فَلَيْسَ من عَدو بعد قهر النَّفس أَحَق بالقهر من الْحَواس الْخمس لِأَنَّهُنَّ أعوان النَّفس ودليلها إِلَى الشَّهَوَات الموبقة وَقد رَأينَا قُوَّة الحاسة الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ على انفرادها إِذا أَتَت على نفس من النُّفُوس القوية الحذرة ألهتها عَن مصلحتها حَتَّى توردها حِيَاض الْمَوْت فَكيف بهَا إِذا اجْتمعت خمْسا

على نفس وَاحِدَة فَمن ذَلِك أَن الظبي مَعَ شدَّة نفوره إِذا سمع صَوت أواني الصفر مَعَ تَوَاتر النقرات واصطخابها الهاه سَماع ذَلِك عَمَّا يُرَاد بِهِ فيلبث فِي كِنَانَته حَتَّى يَأْتِيهِ الصياد فيقتنصه والفيل مَعَ عظم جِسْمه وَشدَّة قوته يلهيه لين اللَّمْس ويذهله عَن نَفسه حَتَّى تنصب لَهُ المصائد فيصاد ويذل ويركب عُنُقه والفراش الَّذِي يسكن

من حر الشَّمْس إِذا رأى ضوء النَّار أعجبه نورها وَحسن منظرها فيلهيه ذَلِك حَتَّى يلقى نَفسه فِيهَا فتحرقه وذباب الْورْد المتتبع لطيب الأوائح يطْلب مَا يقطر من أصل أذن الْفِيل عِنْد هيجانه فَإِنَّهُ يكون فِي طيب رَائِحَة الْمسك وَلَا يهوله تَحْرِيك أذن الْفِيل بل يلهيه شم ذَلِك القاطر عَن الإحتراس حَتَّى يلج فِي أصل أُذُنه فَيَقَع عَلَيْهِ ضَرْبَة الْأذن فتقتله والسمك فِي الْبَحْر يسليه ذوق الطّعْم ويلهيه ويذهله عَن

الشص الَّذِي فِيهِ اللَّحْم فيبتلعه فَيكون فِيهِ حتفه فَمن ملك هَذِه الْحَواس الْخمس فقد ملك نَفسه وَمن ملك نَفسه حسنت سياسته وَمن حسنت سياسته دَامَت رياسته وَمن أعْطى نَفسه هَواهَا بِاتِّبَاع ملاذ شهواته اشْتغل عَن تَدْبِير مهماته فتختل أُمُور دولته وتنحل عرى مَمْلَكَته وَقد سُئِلَ رجل من بني أُميَّة عَن سَبَب زَوَال

دولتهم فَقَالَ مثله مَا قَالَ بزرجمهر شَغَلَتْنَا لذاتنا عَن مهماتنا وَقل عطاؤنا لجندنا فَقل ناصرنا وجرنا على أهل خراجنا فدعوا علينا وطلبوا الرَّاحَة منا وَأَشد من ذَلِك أَنا استعملنا صغَار الْعمَّال على كبار الْأَعْمَال فآل ملكنا إِلَى مَا آل وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْعقل كالزوج وَالنَّفس كَالزَّوْجَةِ والجسم كالبيت لَهما فَإِذا كَانَ سُلْطَان الْعقل غَالِبا قاهرا للنَّفس اشتغلت النَّفس بمصالح الْجِسْم إِمَّا لمَنْفَعَة تجلبها أَو لمضرة تجتنبها كَمَا تشتغل الزَّوْجَة الَّتِي قهرها زَوجهَا بمصالح بَيتهَا العائدة عَلَيْهَا وعَلى زَوجهَا وَإِن كَانَ سُلْطَان النَّفس على الْعقل غَالِبا كَانَ سعي النَّفس فَاسِدا ونزعاتها مذمومة كَفعل الزَّوْجَة الَّتِي قهرت زَوجهَا وَكَانَ يُقَال لَا يزَال الْملك الحازم يخَاف ظُهُور عدوه عَلَيْهِ حَتَّى يُجَاوز عدوه قضايا الْعقل إِلَى قضايا الْهوى فَحِينَئِذٍ يبشر بالغلب ويثق بِحسن المنقلب

وَكَانَ يُقَال الْهوى كالنار إِذا استحكم إيقادها عسر إخمادها وكالسيل إِذا اتَّصل مده تعذر صده قَالَ الْمَأْمُون الْهوى ينْتج من الْأَخْلَاق قبائحها وَيظْهر من الْأَفْعَال فضائحها أَنْشدني بعض أهل الْعلم (إِذا مَا رَأَيْت الْمَرْء يقتاده الْهوى ... فقد ثكلته عِنْد ذَاك ثواكله) (وَقد أشمت الْأَعْدَاء جهلا بِنَفسِهِ ... وَقد وجدت فِيهِ مقَالا عواذله) (وَمَا يردع النَّفس الحرون عَن الْهوى ... من النَّاس إِلَّا حَازِم الرَّأْي كَامِله)

وَقَالَ أردشير مَا اسْتَعَانَ ملك على عدل فِي رَعيته بِمثل مجانبة الْهوى وَقَالَ أَيْضا الزلل مَعَ اتِّبَاع الْهوى وَأوصى رجل وَلَده فَقَالَ يَا بني أعص هَوَاك وَالنِّسَاء واصنع مَا شِئْت وَكَانَ يُقَال إِذا غلب عَلَيْك عقلك فَهُوَ لَك وَإِذا غلب عَلَيْك هَوَاك فَهُوَ لعدوك وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء أَكثر مُخَالفَة الْهوى فَإِن النَّفس أَمارَة

بالسوء تكره مَا لَهَا وتحب مَا عَلَيْهَا وَلنْ يحور عَن الْقَصْد من ائْتمن عقله واتهم هَوَاهُ واستغش الْعقل وأنشدني بَعضهم (إِذا أَنْت لم تعص الْهوى قادك الْهوى ... إِلَى بعض مَا فِيهِ عَلَيْك مقَال) وَقَالَ سَابق الْبَرْبَرِي (اعص الْهوى حِين لَا ترْضى معاذره ... وَقد تبينت مَا تَأتي وَمَا تذر)

وَأوصى ملك من مُلُوك حمير أَخَاهُ فَقَالَ لَا يكون الإفراط من شَأْنك فِي نكال وَلَا نوال فَإِنَّهُ فِي النوال يجحفك وَفِي النكال يؤثمك ويحنق عَلَيْك وَإِذا أنْكرت نَفسك فامسك وغالب هَوَاك فَإِنَّهُ أضرّ مَا اتبعت واعمل بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ لَا يضيق مَعَه شَيْء وَلَا يتعب فِيهِ عَاقل وَلَا يعقبك فِيهِ تبعة وَليكن خوف بطانتك لَك أَشد من أنسهم بك وَأوصى ملك من الْعَرَب ولي عَهده فَقَالَ كن بِالْحَقِّ عمولا وَعَما جهلت سئولا وَأول شَيْء تؤدب بِهِ نَفسك قمعها عَن شهواتها وردعها عَن هَواهَا فَلَا شَيْء أضرّ بالمملكة من اتِّبَاع الْهوى وافحص عَن الْأُمُور تظهر

لَك حقائقها واستبطن أهل التَّقْوَى وَذَوي الأحساب تزين نَفسك وتحكم أَمرك وَإِيَّاك وَقبُول التَّزْكِيَة فِيمَا لَا تشك أَنَّك مَكْذُوب فِيهِ فَإِنَّهَا خدعة يتبعهَا صرعة وَلَا تحصن سرك إِلَّا عِنْد من يَكْتُمهُ وَلَا تثق بِرَجُل تتهمه وَلَا تعود لسَانك الْخَنَا وَلَا تكلّف نَفسك مَا لَا تقوى عَلَيْهِ وَإِذا هَمَمْت بِخَير فعجله وَإِذا هَمَمْت بِخِلَافِهِ فتأن فِيهِ وَإِيَّاك وَكَثْرَة التألي فَمن تألى على الله أكذبه وأرحم ترحم وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء (قد يدْرك الحازم ذُو الرَّأْي المنى ... بِطَاعَة الحزم وعصيان الْهوى)

الْبَاب الرَّابِع فِي معرفَة أَرْكَان المملكة وقاعدتها إعلم أَن أَرْكَان المملكة تبنى على قَاعِدَة كُلية لَا قوام لَهَا بِدُونِهَا وَلَا تثبت إِلَّا عَلَيْهَا وَهِي مِنْهَا بِمَنْزِلَة الرَّأْس من الْجَسَد فَكَمَا لَا بَقَاء للجسد بعد قطع الرَّأْس كَذَلِك لَا بَقَاء للمملكة بِدُونِ هَذِه الْقَاعِدَة وَهَذِه الْقَاعِدَة يقلها أَرْكَان خَمْسَة بهَا قوام الْقَاعِدَة فَإِذا انْتقض مِنْهَا ركن أوهن الْقَاعِدَة وأفضى إِلَى اضطرابها فتختل المملكة

فَكَمَا أَن النَّفس يقوم بهَا أَرْكَان خَمْسَة وَهِي الْغذَاء والشحم وَالدَّم والمخ والعظم فَإِذا انْتقض مِنْهَا ركن أوهن النَّفس وأفضى إِلَى ذهَاب الْقُوَّة وَكَذَلِكَ دين الْإِسْلَام أَرْكَانه خَمْسَة فَإِذا انْتقض مِنْهَا ركن فِي شخص بَطل عَنهُ الْبَوَاقِي وَخرج عَنهُ الْإِسْلَام وَهَذِه الْقَاعِدَة أَرْكَانهَا الْخَمْسَة يقلها أساس بَاطِن لَا تثبت إِلَّا عَلَيْهِ فَإِذا انشعث هَذَا الأساس اختلت الْأَركان واضطربت الْقَاعِدَة وأفضى الْأَمر إِلَى هدم الْجَمِيع وسنوضح ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى أما الْقَاعِدَة الَّتِي تبتنى عَلَيْهَا المملكة فَهِيَ الْملك المنتصب لتدبير الرّعية وسياسة المملكة ويقيمه أَوْصَاف أَرْبَعَة لَا يَنْفَكّ عَنهُ وَاحِدَة

مِنْهُنَّ وَهِي أدبه وعقله وعدله وإقدامه فَإِذا عرى عَن شَيْء من ذَلِك ذهبت قوته وَضعف عَن حمل المملكة كالطبائع الْأَرْبَع المركبة فِي جَسَد الْإِنْسَان لَا قوام لَهُ إِلَّا بهَا فَإِذا خلا عَن وَاحِد مِنْهُنَّ انحل تركيب الْجَسَد وزهقت مِنْهُ النَّفس فَإِذا استقام الْملك بِهَذِهِ الْأَوْصَاف الْأَرْبَعَة قَامَت بِهِ مَمْلَكَته وَأما الرُّكْن الأول من أَرْكَان المملكة فَهُوَ الوزارة

وَهِي على ضَرْبَيْنِ وزارة تَفْوِيض ووزارة تَنْفِيذ

فَأَما وزارة التَّفْوِيض فَهُوَ أَن يستووزر الْملك من يُفَوض إِلَيْهِ تَدْبِير الْأُمُور بِرَأْيهِ

لِأَن مَا وكل إِلَى الْملك من تَدْبِير الرّعية لَا يقدر على مُبَاشرَة جَمِيعه إِلَّا بالاستنابة وَأما وزارة التَّنْفِيذ فالنظر فِيهَا مَقْصُور على رَأْي الْملك وتدبيره وَهَذَا الْوَزير وَاسِطَة بَين الْملك وَبَين الرّعية يُؤَدِّي عَنهُ مَا أَمر بِهِ

وَينفذ مَا ذكر ويمضي مَا حكم ويخبر عَنهُ بتقليد الْوُلَاة وتجهيز الجيوش ويعرض عَلَيْهِ مَا ورد من أَمر مُهِمّ وَمَا تجدّد من حدث ملم وَلَا مندوحة للْملك عَن نظر الْوَزير وَاسْتِعْمَال رَأْيه فِيمَا يجهله من أُمُور التَّدْبِير

والوقائع الْحَادِثَة وَقد رَوَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم = قَالَ من اسْتعْمل على عمل وَأَرَادَ الله بِهِ خيرا جعل لَهُ وَزِير صدق إِن نسي ذكره وَإِن ذكر أَعَانَهُ وَقد يثب المصروع من الْمُلُوك بِرَأْي وزيره حَتَّى

يَعْلُو من صرعته بِقُوَّة رَأْيه ولطف حيلته وَإِن كَانَ ضَعِيفا والصارع قَوِيا كَالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أقوى من النَّار فَإِنَّهُ يحتال فِيهِ الْمُحْتَال حَتَّى تنفذ مِنْهُ النَّار وَهُوَ فِي الْقدر وَلَا يضر النَّار بل يَنْقَلِب الضَّرَر على المَاء الَّذِي هُوَ أقوى حَتَّى تنفذ من الْقدر بلطف الْحِيلَة وَاعْلَم أَنه لَا بُد أَن يعْتَبر فِي الْوَزير عشرَة أَوْصَاف أَحدهَا الْعلم لِأَن تَدْبِير الْجَاهِل يَقع مُخَالفا للشَّرْع فَيكون وبالا الثَّانِي السن لِأَن الشَّيْخ حنكته التجارب وعركته النوائب وَشَاهد من

اخْتِلَاف الدول ونزول الْحَوَادِث مَا أوضح لعقله صَوَاب الرَّأْي فِي التَّدْبِير الثَّالِث الْأَمَانَة حَتَّى لَا يخون فِيمَا ائْتمن عَلَيْهِ وَلَا يغش فِيمَا استنصح فِيهِ الرَّابِع صدق اللهجة حَتَّى يوثق بِخَبَرِهِ فِيمَا يُؤَدِّيه وَيعْمل بقوله فِيمَا ينهيه الْخَامِس قلَّة الطمع حَتَّى لَا يرتشي وَلَا ينخدع السَّادِس أَن يسلم فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس من عَدَاوَة أَو شحنا لِأَن الْعَدَاوَة تصد عَن التناصف وتمنع من التعاطف

السَّابِع أَن يكون ذُكُورا لما يُؤَدِّيه إِلَى الْملك أَو يَنْقُلهُ عَنهُ لِأَنَّهُ شَاهد لَهُ وَعَلِيهِ الثَّامِن الذكاء والفطنة لِئَلَّا تدلس عَلَيْهِ الْأُمُور فتشتبه وَلَا تموه عَلَيْهِ الْأَحْوَال فتلتبس لِأَن الْأُمُور لَا يَصح مَعَ اشتباهها عزم وَلَا يتم مَعَ التباسها حزم التَّاسِع أَن لَا يكون من أهل الْأَهْوَاء فيخرجه الْهوى من الْحق الْبَاطِل ويتدلس عَلَيْهِ المحق من الْمُبْطل لِأَن الْهوى خَادع الْأَلْبَاب وصارف عَن الصَّوَاب الْعَاشِر أَن يكون من أهل الْكِفَايَة فِيمَا وكل إِلَيْهِ من أَمر

الْحَرْب وَالْخَرَاج خَبِيرا بهما عَارِفًا بتفصيلهما لِأَنَّهُ يكون مباشرا لَهما تَارَة ومستنيبا فيهمَا تَارَة أُخْرَى وعَلى هَذَا الْوَصْف مدَار الوزارة وَبِه يَنْتَظِم أُمُور السياسة وَمَتى لم تَجْتَمِع فِي الْوَزير هَذِه الْأَوْصَاف الْعشْرَة كَانَ تَدْبيره نَاقِصا بِقدر مَا نقض مِنْهَا وَحكي أَن الْمَأْمُون كتب فِي اخْتِيَار وَزِير إِنِّي التمست لنَفْسي

وتدبير أموري رجلا جَامعا لخصال الْخَيْر ذَا عفة فِي خلائقه قد هذبته الْآدَاب وأحكمته التجارب إِن ائْتمن على الْأَسْرَار قَامَ بهَا وَإِن قلد مهمات الْأُمُور نَهَضَ فِيهَا يسكته الْحلم وينطقه الْعلم وَتَكْفِيه اللحظة وتغنيه اللمحة لَهُ صولة الْأُمَرَاء وأناة الْحُكَمَاء وتواضع الْعلمَاء وَفهم الْفُقَهَاء إِن أحسن إِلَيْهِ شكر وَإِن ابْتُلِيَ بالإساءة صَبر لَا يَبِيع نصيب يَوْمه بحرمان غده يسترق قُلُوب الرِّجَال بخلابة لِسَانه وَحسن بَيَانه قَالَ عبد الرحمن وَهَذِه الْأَوْصَاف إِن كملت فِي الْوَزير وَقل مَا تكمل فالصلاح بنظره عَام وبتدبيره تَامّ وَإِن اختلت فالصلاح بِحَسب نَقصهَا مختل وَالتَّدْبِير على قدرهَا معتل وَقد كَانَ الْفضل بن سهل وَزِير الْمَأْمُون يبْعَث أَصْحَابه إِلَى

الْبِلَاد عيُونا ليسمعوا مَا تَقول النَّاس فِيهِ من خير أَو شَرّ فيطالعونه بذلك فَمَا سمع من خير ازْدَادَ مِنْهُ وَمَا سمع من عيب فِيهِ أزاله وَإِن وَفْدًا قدمُوا على الْمَأْمُون من بِلَاد الرّوم فأكرمهم فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بِلَادهمْ قَالَ عقلاؤهم مَا رَأينَا مثل الْمَأْمُون جلالة وعظمة وعقلا وَلَا رَأينَا مثل وزيره فِي حسن سمته وَكَمَال أَوْصَافه لَوْلَا أَنه حَدِيث السن وَمن شَأْن الْمُلُوك أَن يستوزروا الْمَشَايِخ الَّذين اجْتمعت لَهُم الْحِيلَة والرياسة وَالْعلم والتجربة فَأخْبرهُ أَصْحَابه بذلك قَالَ فاحتجب ثَلَاثَة أَيَّام فِي دَاره يعالج لحيته حَتَّى ظهر للنَّاس وَهِي بَيْضَاء وَلَا يجوز أَن يكون الْوَزير امْرَأَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم = مَا أَفْلح قوم أسندوا أَمرهم إِلَى امْرَأَة

الركن الثاني من أركان المملكة

الرُّكْن الثَّانِي من أَرْكَان المملكة الرّعية إعلم أَن الرّعية ركن شَدِيد من أَرْكَان المملكة وَهِي قِسْمَانِ خَاصَّة وَعَامة والخاصة قِسْمَانِ متضع فِي خدمَة الْملك ومطبوع على الإنكماش وَالْقِيَام بِحُقُوق الْخدمَة فليعرف الْملك المتضع مِنْهُم والمطبوع فَإِن العون من الْخَاصَّة المتضع فِي خدمته يكون فِي أول ذَلِك نشيطا مواظبا للْخدمَة ثمَّ يُدْرِكهُ خور الطبيعة وقصور الهمة فيفتر

عَمَّا تعاطاه أَولا وَيذْهب تَصنعهُ والمطبوع على الإنكماش فِي الْخدمَة يكون نشيطا فِي كل وَقت مثل نشاطه فِي أول خدمته وَأما الْعَامَّة فهم ثَلَاث طَبَقَات أخيار وأشرار ومتوسطون بَين ذَلِك وَلكُل طبقَة مِنْهُم سياسة سنذكرها فِي موضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالْمَطْلُوب من الرّعية طَاعَة الْملك وذل الْجَانِب وَعمارَة الْبِلَاد وَأَدَاء الْحُقُوق وَإِنَّمَا يحصل

مِنْهُم ذَلِك بنشر الْعدْل عَلَيْهِم على مَا سَنذكرُهُ فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الركن الثالث من أركان المملكة

الرُّكْن الثَّالِث من أَرْكَان المملكة الْقُوَّة فقوة الْملك تَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحدهَا قُوَّة رتبته فِي النَّاس وهيبته عَلَيْهِم وَمَا يَقع فِي نُفُوسهم من عزه وسطوته واستعلائه وَقدرته الثَّانِي قُوَّة احْتِمَاله بِنَفسِهِ لما يرد عَلَيْهِ من الْأُمُور واستقلاله بذلك الثَّالِث قُوَّة التَّدْبِير لأمور المملكة والنفاذ فِيهَا بِحسن نظر العواقب بالأمور أما الْقُوَّة الأولى فَتحصل بِحسن السياسة على مَا سَنذكرُهُ فِي مَوْضِعه وَالْقُوَّة الثَّانِيَة تحصل بأدب النَّفس كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب الَّذِي قبله الْقُوَّة الثَّالِثَة تَنْقَسِم إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا تَدْبِير وإبرام

الْأُمُور بِلَا احتيال قبل التَّدْبِير بل بِالنّظرِ وَالْقِيَاس من الْمُدبر لَهَا الثَّانِي تَدْبِير وإبرام الْأُمُور بعد الإحتيال فِيهَا وَوضع الْأُصُول لَهَا الثَّالِث تَدْبِير معرفَة الْوُقُوف على الْأَمر الَّذِي لَا يُوجد فِيهِ للتدبير حِيلَة حَتَّى يصير إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ ثمَّ يطْلب الْحِيلَة فِيهِ بعد ذَلِك الرَّابِع تَدْبِير مَا لَا حِيلَة فِيهِ وَاعْلَم أَن أفضل هَذِه القوات قُوَّة التَّدْبِير فَأَما الْأَمر الَّذِي لَا حِيلَة فِيهِ وَلَا رفق فَالْحِيلَةُ فِيهِ الصَّبْر واللين لِأَن متعاطي الشدَّة فِيهِ يَنْقَلِب الضَّرَر عَلَيْهِ إِذا لم يرفق أَلا ترى أَن ذَا الْقُوَّة بقوته لَو حاول سباحة فِي المَاء على لينه لم يقطعهُ بقوته حَتَّى يبهره

فَإِذا رفق بِهِ سهل عَلَيْهِ عبوره وَأمكنهُ قطعه وَكَذَلِكَ من حاول أَن يعْقد بكفه على الْهَوَاء لم يجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا وَلَو أَن الْفِيل بقوته تعاطى ثلم الْجَبَل بنابه انْكَسَرَ نابه وَلم يقْدَح فِي صِفَاته شَيْئا وَالرجل على ضعف بنيته يتَّخذ برفقه من الْجَبَل الصلد مسكنا وَقد يذيب الْحَدِيد الشَّديد برفقه فِي حيلته وَاعْلَم أَن الْملك الْقوي قد ينبو حد قوته إِذا لم يقم رفق التَّدْبِير كَمَا ينبو حد السَّيْف عَن ضَربته وَإِن كَانَ من الْحَدِيد الشَّديد حَتَّى يسقى من المَاء الَّذِي هُوَ لين سيال فيحشد مضاربه حَتَّى إِذا حمل

على الْحَدِيد الَّذِي هُوَ من جنسه قطعه وكل ذَلِك إِنَّمَا يحصل بالرفق دون الْخرق وسنوضح كَيْفيَّة التَّدْبِير فِي موَاضعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الركن الرابع من أركان المملكة

الرُّكْن الرَّابِع من أَرْكَان المملكة المَال إعلم أَن بَيت المَال ركن عَظِيم للمملكة

يتَعَلَّق بِهِ الْمصَالح الْكُلية من أرزاق الْمُقَاتلَة والولاة وأعوانهم

وتجهيز الجيوش وأرزاق الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَأهل الْعلم وسد الثغور وَبِنَاء المعاقل والحصون وَغير ذَلِك مِمَّا يقوم بِهِ مصَالح الرّعية وبقدر زِيَادَته ونقصانه يكون حَال المملكة وناموس الْملك عِنْد نظرائه وخاصته وأعوانه لِأَنَّهُ ذخيرة يرجع إِلَيْهَا الْملك والأعوان والرعية عِنْد نزُول الْحَوَادِث فَإِذا اشْتهر بِكَثْرَة أَنْوَاع الْأَمْوَال وَاخْتِلَاف أَجنَاس الْجَوَاهِر اشْتَدَّ أزر الرّعية وقويت نفوس الْجند وَعظم قدر الْملك عِنْد نظرائه وَإِذا اشْتهر بالنفاد والقلة صغر قدر الْملك واختلت أُمُور المملكة وطمع فِيهِ أعداؤه فَيجب

حفظه وَالِاحْتِيَاط عَلَيْهِ بتولية الثِّقَات وَأهل الْأَمَانَة ويتوقى الْإِسْرَاف فِي بذله وَصَرفه إِلَى غير أَهله وَلَا يمنعهُ أهل الْحُقُوق فَيحصل بذلك الزلل ويتطرق إِلَيْهِ الْخلَل سِيمَا الْجند وَأَعْوَان المملكة فَإِن

تقتير الأرزاق عَلَيْهِم يُفْضِي بِالْملكِ إِلَى المهالك وَقد كَانَ يُقَال المَال ناموس الْملك بِهِ تظهر هيبته وتقوى أبهته حُكيَ أَن سَابُور ملك الْفرس اتخذ أعمدة وقواعد من الذَّهَب وَجعلهَا على بَاب خزانَة مَاله يجلس عَلَيْهَا الخزنة وَغَيرهم فَعظم بذلك عِنْد نظرائه وَأهل مَمْلَكَته فَلَمَّا أفضت المملكة إِلَى ولد وَلَده جعل يغدق

الْأَمْوَال ويسرف فِي العطايا فَلَمَّا نفدت تِلْكَ الْأَمْوَال أَخذ تِلْكَ الأعمدة وسكبها فَوَجَدَهَا مجوفة وَقد ملئت رملا فَذهب حِينَئِذٍ ناموسه وتظاهرت أعداؤه وَقلت هيبته عِنْد أهل مَمْلَكَته حِين علمُوا سر هَذِه الأعمدة وَحكي أَن بعض مُلُوك مصر أَخذ حبابا من الخزف وملأها ذَهَبا ثمَّ سكبه فِيهَا ثمَّ كسر الخزف وأزاله فَبَقيت كَهَيئَةِ الْحباب ثمَّ جعلهَا على بَاب قصره يجلس عَلَيْهَا النَّاس وسماها الحسرات وَإِنَّمَا قصد بذلك أَيْضا لإِقَامَة ناموس مَمْلَكَته وتقوية لنفوس جنده فلهذه الْمعَانِي يجب حفظه وَالِاحْتِيَاط عَلَيْهِ

الركن الخامس من أركان المملكة

الرُّكْن الْخَامِس من أَرْكَان المملكة الْحُصُون اعْلَم أَن الْحُصُون الَّتِي يتحصن بهَا الْمُلُوك وَيمْتَنع بهَا جانبهم تَنْقَسِم إِلَى خَمْسَة أَنْوَاع كل نوع مِنْهَا يحصل بِهِ التحصن وَامْتِنَاع الْجَانِب وَهِي المَاء وَالْجِبَال والمفاوز والقلاع وَالرِّجَال وَأحْصن هَذِه الْحُصُون الرِّجَال ثمَّ القلاع وتحصين القلاع وتحصين القلاع بِالرِّجَالِ وتحصين الرِّجَال بالأموال وَأفضل الْأَمْوَال الْأَطْعِمَة وَجمع الْأَطْعِمَة وتحصيلها إِنَّمَا يتَحَقَّق بِالْعَدْلِ قيل كَانَ مَكْتُوبًا على منْطقَة بعض مُلُوك الْفرس لَا ملك إِلَّا

بِالرِّجَالِ وتحصين الرِّجَال بالأموال وَأفضل الْأَمْوَال الْأَطْعِمَة وَجمع الْأَطْعِمَة وتحصيلها إِنَّمَا يتَحَقَّق بِالْعَدْلِ قيل كَانَ مَكْتُوبًا على منْطقَة بعض مُلُوك الْفرس لَا ملك إِلَّا

بِرِجَال وَلَا رجال إِلَّا بِمَال وَلَا مَال إِلَّا برعية وَلَا رعية إِلَّا بِعدْل وَقَالَت أم جبفويه ملك طبرستان لنصر بن سيار الْملك الحازم من اتخذ لنَفسِهِ سَبْعَة أَشْيَاء حصن يلجأ إِلَيْهِ إِذا تظاهر عَلَيْهِ نظراؤه ووزير صَالح يَثِق بِرَأْيهِ ويفضي بسره إِلَيْهِ وذخيرة خَفِيفَة الْمحمل يرجع إِلَيْهَا عِنْد النوائب وَفرس يَثِق بجريه إِذا دهمته الْأَعْدَاء

وَسيف إِذا نَازل الأقران لم يخف أَن يخونه وَامْرَأَة حسناء إِذا دخل عَلَيْهَا ذهب همه وطباخ إِذا لم يشته الطَّعَام صنع لَهُ مَا يشتهيه وَكتب ملك إِلَى حَكِيم فَقَالَ دلَّنِي على مَا تبقى بِهِ المملكة وَاخْتصرَ فِي ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ بأَرْبعَة أَشْيَاء حصن شَاهِق ووزير حاذق وَمَال وافر وَعدل عَامر وَبلغ بعض الْمُلُوك حسن سياسة ملك فَكتب إِلَيْهِ قد بلغت من السياسة مالم يبلغهُ ملك قبلك فأفدني ذَلِك فَكتب إِلَيْهِ إِنِّي تحصنت بِالرِّجَالِ وحصنت الرِّجَال بالأموال وَلم أهزل فِي أَمر وَلَا نهي وَلَا وعد

وَلَا وَعِيد وأودعت الْقُلُوب هَيْبَة لم يشبها مقت وودا لم يشبه كذب وعممت بالقوت ومنعت الفضول وَسَأَلَ ملك من مُلُوك الْفرس حكيما من حكمائهم فَقَالَ مَا عز الْملك قَالَ الطَّاعَة قَالَ فَمَا سَبَب الطَّاعَة قَالَ التودد إِلَى الْخَاصَّة وَالْعدْل على الْعَامَّة قَالَ فَمَا حصن الْملك قَالَ وزراؤه وأعوانه فَإِنَّهُم إِذا صلحوا صلح الْملك وَإِذا فسدوا فسد الْملك قَالَ فَمَا سَبَب صَلَاحهمْ قَالَ الْبَذْل والإنعام وَالْإِحْسَان الشَّامِل قَالَ فَأَي الْأُمُور أَحْمد للْملك قَالَ الرِّفْق بالرعية وَأخذ الْأَمْوَال مِنْهُم من غير مشقة وأداؤه إِلَيْهِم عِنْد أَوَانه وسد الثغور وَأمن السبل وإنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم وزجر الْقوي عَن الضَّعِيف قَالَ فَأَي خصْلَة تكون فِي الْملك أَنْفَع قَالَ الصدْق فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَأما الأساس للمملكة وأركانها فَهُوَ الدّين

اعْلَم أَن الدّين أساس المملكة لَا قوام لَهَا إِلَّا بِهِ وَلَا تثبت أَرْكَانهَا إِلَّا عَلَيْهِ وَهُوَ إِقَامَة منار الْإِسْلَام وَإِظْهَار شَعَائِر الْحق وَاتِّبَاع أَحْكَام الشَّرْع وَالْعَمَل بالفرائض وَالسّنَن ومندوبات الشَّرِيعَة وَإِقَامَة الْحُدُود وامتثال أَمر الشَّارِع والانتهاء عَن نواهيه وإيصال الْحُقُوق الْوَاجِبَة إِلَى أَرْبَابهَا وَالْعَمَل بِمَا يُرْضِي الله تَعَالَى سرا وَعَلَانِيَة فَإِنَّهُ لَا دوَام للْملك بِغَيْر هَذِه الْأَشْيَاء قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم = من أصلح سَرِيرَته

أصلح الله عَلَانِيَته وَمن أصلح فِيمَا بَينه وَبَين الله أصلح الله فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس وَحكي أَن أردشير قَالَ لوَلَده يَا بني إِن الْملك وَالدّين أَخَوان لَا غنى لأَحَدهمَا عَن الآخر وَلَا قوام لَهُ إِلَّا بِهِ الدّين أس وَالْملك حارس فَمَا لم يكن لَهُ أس فمهدوم وَمَا لم يكن لَهُ حارس فضائع يابني اجْعَل مرتبتك مَعَ أهل الْمَرَاتِب وعطيتك لأهل الْجِهَاد وبشرك لأهل الدّين وسرك لمن يعنيه مَا عناك ولتكن من أهل الْعقل

وَقَالَ الْأَحْنَف بن قيس من هدم دينه كَانَ لمجده أهدم وَمن ظلم نَفسه كَانَ لغيره أظلم وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الدولة بِلَا دين كالبناء على الثَّلج

الْبَاب الْخَامِس فِي معرفَة الْأَوْصَاف الْكَرِيمَة وفضلها وحث الْملك عَلَيْهَا يَنْبَغِي للْملك المنتصب لتدبير الرّعية أَن يَتَّصِف بالأوصاف الْكَرِيمَة ويتلبس بهَا ويجعلها لَهُ خلقا مطبوعا وَلَا يهمل مِنْهَا وَصفا وَاحِدًا إِذْ بهَا قوام دولته ودوام مَمْلَكَته وَهِي خَمْسَة عشر وَصفا الْعدْل وَالْعقل والشجاعة والسخاء والرفق وَالْوَفَاء والصدق والرأفة وَالصَّبْر وَالْعَفو وَالشُّكْر والأناة والحلم والعفاف وَالْوَقار وسنشرح فضل هَذِه الْأَوْصَاف وَمَا يتَعَلَّق بهَا من الْمصَالح الْكُلية فِي تَدْبِير المملكة

الوصف الأول العدل

الْوَصْف الأول الْعدْل إعلم أَن الْعدْل أشرف أَوْصَاف الْملك وأقوم لدولته لِأَنَّهُ يبْعَث على الطَّاعَة ويدعوا إِلَى الألفة وَبِه تصلح الْأَعْمَال وتنمو الْأَمْوَال

وتنتعش الرّعية وتكمل المزية وَقد ندب الله عز وَجل الْخلق إِلَيْهِ وحثهم عَلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ قَالَ الْحسن إِن الله تَعَالَى جمع الْخَيْر كُله وَالشَّر كُله فِي إِن الْآيَة وَقَالَ إِن استقامة الْملك بِالثَّلَاثَةِ الْمَأْمُور بهَا فِي الْآيَة واضطرابه بِالثَّلَاثَةِ الْمنْهِي عَنْهَا فِيهَا

وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم = ثَلَاث منجيات وَثَلَاث مهلكات فَأَما المنجيات فالعدل فِي الْغَضَب والرضاء

وخشية الله تَعَالَى فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْقَصْد فِي الْغنى والفقر وَأما المهلكات فشح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَحكي أَن الْإِسْكَنْدَر قَالَ لحكماء الْهِنْد وَقد رأى قلَّة الشَّرَائِع فِي بِلَادهمْ لم صَارَت سنَن بِلَادكُمْ قَليلَة قَالُوا لإعطائنا الْحق من أَنْفُسنَا ولعدل مُلُوكنَا فِينَا فَقَالَ لَهُم أَيّمَا أفضل الْعدْل أم الشجَاعَة قَالُوا إِذا اسْتعْمل الْعدْل استغني عَن الشجَاعَة وَقَالَ أردشير إِذا رغب الْملك عَن الْعدْل رغبت الرّعية عَن الطَّاعَة (وَعُوتِبَ كسْرَى أنوشروان ... على ترك عِقَاب المذنبين)

فَقَالَ هم المرضى فَإِذا لم نداوهم بِالْعَدْلِ فَمن لَهُم وَقَالَ أفلاطون بِالْعَدْلِ ثبات الْأَشْيَاء وبالجوز زَوَالهَا وَقيل لأردشير من الَّذِي لايخاف أحدا قَالَ من عدل فِي حكمه وكف عَن ظلمه نَصره الْحق وأطاعه الْخلق وصفت لَهُ النِّعْمَة وَأَقْبَلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا فهنىء بالعيش وَاسْتغْنى عَن الْجَيْش وَملك الْقُلُوب وَأمن الحروب وَقَالَ بعض الْعلمَاء إِن أَيدي الرّعية تبع لألسنتها فَمَتَى قدرت أَن

تَقول قدرت أَن تصول وَلنْ يملك الْملك ألسنتها حَتَّى يملك جسومها وَلنْ يملك جسومها حَتَّى يملك قلوبها فتحبه وَلنْ تحبه حَتَّى يعدل عَلَيْهَا عدلا يتساوى فِيهِ الْخَاصَّة والعامة

وَقَالَ كسْرَى أنو شرْوَان لبزرجمهر ابْن لي قبَّة واكتب عَلَيْهَا كَلِمَات انْتفع بهَا فِي بَقَاء الدولة فبناها وَكتب فِي طرازها الْعَالم بُسْتَان سياجه الدولة والدولة ولَايَة تحرسها الشَّرِيعَة والشريعة سنة يستنها الْملك وَالْملك رَاع يعضده الْجَيْش والجيش أعوان يكفلهم المَال وَالْمَال رزق تجمعه الرّعية والرعية عبيد يستعبدهم الْعدْل وَالْعدْل مألوف بِهِ قوام الْعَالم وَقَالَ الْوَلِيد بن هِشَام إِن الرّعية لتفسد بِفساد الْملك وَتصْلح بصلاحه

وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ للمنصور إِنِّي لأعرف رجلا إِن صلح صلحت الْأمة قَالَ وَمن هوقال أَنْت وَاعْلَم أَن الْعدْل لايتحقق من الْملك إِلَّا بِلُزُوم عشر خِصَال أَحدهَا إِقَامَة منار الدّين وَحفظ

شعائره والحث على الْعَمَل بِهِ من غير إهمال لَهُ وَلَا تَفْرِيط بحقوقه الثَّانِي حراسة الْبَيْضَة والذب عَن الرّعية من عَدو فِي الدّين أَو بَاغ فِي النَّفس وَالْمَال الثَّالِث عمَارَة الْبلدَانِ باعتماد الْمصَالح وتهذيب السبل

والمسالك الرَّابِع النّظر فِي تعدِي الْوُلَاة وَأهل الْعِزّ من الأعوان على الرّعية لِأَن تعديهم مَنْسُوب إِلَيْهِ قَالَ الشَّاعِر (وَمن يرْبط الْكَلْب الْعَقُور بِبَابِهِ ... فعقر جَمِيع النَّاس من رابط الْكَلْب) (كَذَلِك من ولى ابْنه وَهُوَ ظَالِم ... فظلم جَمِيع النَّاس من قبل الْأَب) الْخَامِس النّظر فِي أَحْوَال الْجند وَغَيرهم من أهل الرزق لِئَلَّا تبخسهم الْعمَّال أَرْزَاقهم أَو يؤخرون الْعَطاء فيجحف الِانْتِظَار بهم

السَّادِس الْجُلُوس لكشف الْمَظَالِم وَالنَّظَر بَين المتشاجرين من الرّعية والفصل بَينهم بالنصفة على وَجه الشَّرْع السَّابِع تَقْدِير مَا يخرج من بَيت المَال على طَبَقَات أربابه من غير إِسْرَاف وَلَا إقتار الثَّامِن إِقَامَة الْحُدُود على أهل الجرائم بِالشَّرْعِ المطهر على قدر الجريمة

التَّاسِع اخْتِيَار خلفائه فِي الْأُمُور وولاته وقضاته وعماله بِأَن يَكُونُوا من أهل الْكِفَايَة وَالْأَمَانَة والحذق والدراية فِيمَا هم بصدده الْعَاشِر تَنْفِيذ مَا وقف من أَحْكَام الْقُضَاة وَأهل الْحِسْبَة وَمَا عجزوا عَن تنفيذه لقُوَّة يَد الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وتعززه فَينفذ الْملك مَا حكموه عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ

فَإِذا فعل الْملك هَذِه الْعشْر خِصَال كَانَ مُؤديا لحق الله تَعَالَى فِي الرّعية بِالْعَدْلِ الَّذِي أَمر الله تَعَالَى بِهِ وَكَانَ مستوجبا لطاعتهم ومستحقا لمناصحتهم وَإِن ترك شَيْئا من ذَلِك كَانَ عَن الْعدْل ناكبا وَفِي الْجور رَاغِبًا

وأنشدني بَعضهم (إختم وطينك رطب إِن قدرت فكم ... قد أمكن الْخَتْم أَقْوَامًا فَمَا ختموا) (ولوا فَمَا عدلوا أَيَّام دولتهم ... حَتَّى إِذا عزلوا ذلوا فَمَا رحموا)

الوصف الثاني العقل

الْوَصْف الثَّانِي الْعقل إعلم أَن الْعقل وصف شرِيف وَخلق عَظِيم لايبطل حَقًا ولايحق بَاطِلا وَهُوَ عبارَة عَمَّا يُسْتَفَاد من التجارب بمجاري الْأَحْوَال وَقيل هُوَ الْعلم بِجَوَاز الجائزات واستحالة المستحيلات وَمن نتائجه

الفكرة السليمة وَالنَّظَر الثاقب فِي حقائق الْأُمُور ومصالح التَّدْبِير وَسُئِلَ بعض الْحُكَمَاء عَن الْعقل فَقَالَ الْإِصَابَة بِالنّظرِ وَمَعْرِفَة مَا لم يكن بِمَا كَانَ وَقَالَ ابْن المعتز الْعقل غريزة تربَتهَا النوائب وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء خير مواهب الْملك الْعقل وَشر مصائبه الْجَهْل وَكَانَ يُقَال الْجَاهِل يعْتَمد على أمله والعاقل يعْتَمد على عمله

وَقيل نظر الْعَاقِل بِقَلْبِه وخاطره وَنظر الْجَاهِل بِعَيْنِه وناظره وَقَالَ ابْن المعتز بأيدي الْعُقُول تمسك أَعِنَّة النُّفُوس عَن اتِّبَاع الْهوى وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْعَاقِل من نَفسه فِي تَعب وَالنَّاس مِنْهُ فِي رَاحَة والأحمق من نَفسه فِي رَاحَة وَالنَّاس مِنْهُ فِي تَعب أَنْشدني بعض أهل الْعَام

(وَأفضل قسم الله للمرء عقله ... وَلَيْسَ من الْأَشْيَاء شَيْء يقادبه) (إِذا أكمل الرَّحْمَن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومناقبه) وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْعلم قَائِد وَالْعقل سائق وَالنَّفس حرون فَإِذا كَانَ قَائِد بِلَا سائق أحجمت النَّفس وَإِذا كَانَ سائق بِلَا قَائِد عدلت يَمِينا وَشمَالًا فَإِذا اجْتمع الْقَائِد والسائق سَارَتْ طَوْعًا أَو كرها وَقَالَ بَعضهم شعرًا (تَأمل بِعَيْنَيْك هَذَا الْأَنَام ... وَكن مثل من صانه عقله) (فحلية كل فَتى فَضله ... وَقِيمَة كل امرىء نبله) (وَلَا تتكل فِي طلاب الْعلَا ... على نسب ثَابت أَصله) (فَهَل من فَتى زانه قَوْله ... بِشَيْء يُخَالِفهُ فعله)

وَقَالَ بَعضهم يعرف الْعَاقِل بِحسن سمته وَطول صمته وَصِحَّة تصرفه وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَيْسَ للمرء أَن يتبجج بِحَالَة جليلة نالها بِغَيْر عقل أَو منزلَة رفيعة حلهَا بِغَيْر فضل فالجهل ينزله مِنْهَا ويزيله عَنْهَا ويحطه إِلَى رتبته وَيَردهُ إِلَى قِيمَته بعد أَن تظهر عيوبه وتكثر ذنُوبه وَيصير مادحه هاجيا ووليه معاديا وَكَانَ يُقَال النَّاس ثَلَاثَة عَاقل واحمق وَفَاجِر فَأَما الْعَاقِل فَإِن الدّين شَرِيعَته والحلم طَبِيعَته والرأي الْحسن سجيته إِن كلم أجَاب وَإِن نطق أصَاب وَإِن سمع الْعلم وعى وَإِن حدث الْفِقْه روى

وَأما الأحمق فَإِن تكلم عجل وَإِن حدث وَهل وَإِن استنزل عَن رَأْيه نزل وَأما الْفَاجِر فَإِن أمنته خانك وَإِن حدثته شانك وَإِن استكتم أمرا لم يكتم وَإِن علم علما لم يعلم وَكَانَ يُقَال لَا عَطِيَّة أعظم من عقل وَلَا دَاء أدوى من جهل وَقَالَ الْمُبَارك الطَّبَرِيّ لَيْسَ الْعَاقِل

الَّذِي يحتال لِلْأَمْرِ الَّذِي غشيه حَتَّى لَا يَقع فِيهِ بل الْعَاقِل الَّذِي يتحذر الشدائد قبل الْوُقُوع فِيهَا حَتَّى لَا يَقع وَقَالَ فَيْرُوز حُصَيْن إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يزِيل عَن عبد نعْمَة كَانَ أول مَا يُغير مِنْهُ عقله أَنْشدني بَعضهم (يعد رفيع الْقَوْم من كَانَ عَاقِلا ... وَإِن لم يكن فِي قومه بحسيب) (إِذا حل أَرضًا عَاشَ فِيهَا بعقله ... وَمَا عَاقل فِي بَلْدَة بغريب)

الوصف الثالث الشجاعة

الْوَصْف الثَّالِث الشجَاعَة إعلم أَن الشجَاعَة من أَحْمد الْأَوْصَاف الَّتِي تلْزم الْملك أَن يَتَّصِف بهَا ضَرُورَة وَإِن لم تكن لَهُ طبعا فيتطبع بهَا ليحسم بهيبته مواد

الأطماع الْمُتَعَلّقَة بقلوب نظرائه وَيحصل مِنْهُ حماية الْبَيْضَة ورعاية المملكة والذب عَن الرّعية وَحَقِيقَة الشجَاعَة ثبات الجأش وَذَهَاب الرعب وَزَوَال هَيْبَة الْخصم أَو استصغاره عِنْد لِقَائِه وَلَا بُد أَن يتَقَدَّم هَذَا رَأْي ثاقب وَنظر صائب وحيلة فِي التَّدْبِير وخداع فِي الممارسة فقد قَالَ ص = الْحَرْب خدعة

قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي (الرَّأْي قبل شجاعة الشجعان ... هُوَ أول وَهِي الْمحل الثَّانِي) (فَإِذا هما اجْتمعَا فِي النَّفس مرّة ... بلغت من العلياء كل مَكَان) (ولربما قتل الْفَتى أقرانه ... بِالرَّأْيِ قبل تطاعن الفرسان) وَاعْلَم أَن ثَمَرَة الشجَاعَة من الْجند الْكر والفر وثمرتها من الْمُلُوك الثَّبَات

حَتَّى يكون قطبا يدورون عَلَيْهِ ومعقلا يلجأون إِلَيْهِ هَذَا إِذا كَانَ بِحَضْرَتِهِ من يذب عَنهُ من أعوانه الَّذين يَثِق بهم فَإِذا لم يكن بِحَضْرَتِهِ من يذب عَنهُ حسن مِنْهُ حِينَئِذٍ أَن يذب عَن نَفسه إِمَّا بالإقدام وَإِمَّا بالانهزام حِيلَة وَلَقَد حُكيَ أَن فيلا اغتلم فَدخل قصر كسْرَى أنوشروان والفيل

إِذا اغتلم أنكر سايسه وَلَا يمر بِشَيْء إِلَّا حطمه وَإِن ذَلِك الْفِيل قصد الإيوان الَّذِي فِيهِ كسْرَى وَعِنْده جمَاعَة من كفاته أَو ثقاته فَلَمَّا نظرُوا إِلَى الْفِيل مُقبلا إِلَيْهِم فروا من حول كسْرَى وَثَبت كسْرَى على سَرِيره وَلم يتَغَيَّر عَن سَرِيره وَلَا عَن هَيئته وَثَبت عِنْده وَاحِد من الرِّجَال بِيَدِهِ طبر فَقَامَ ذَلِك الرجل أما سَرِير كسْرَى وقصده الْفِيل فَثَبت لَهُ فَلَمَّا غشيه ضربه بالطبر على خرطومه فَقده فولى الْفِيل رَاجعا وكسرى فِي هَذَا كُله لم يَتَحَلْحَل عَن سَرِيره وَلَا تغير لَونه وَلَا فارقته أبهته وَهَذِه غَايَة الشجَاعَة الْمَطْلُوبَة من الْمُلُوك وَكَذَلِكَ حكى أَن مُوسَى الْهَادِي كَانَ يَوْمًا فِي بُسْتَان على حمَار لَهُ

وَلَيْسَ مَعَه سلَاح وبحضرته جمَاعَة من أهل بَيته وبطانته فَدخل عَلَيْهِ حَاجِبه وَأخْبرهُ عَن رجل من الْخَوَارِج كَانَ ذَا بَأْس شَدِيد ونكاية فِي النَّاس وَأَنه قد ظفر بِهِ بعض القواد وَهُوَ مَعَه على الْبَاب فَأمر الْهَادِي بإدخاله عَلَيْهِ فَأدْخل بَين رجلَيْنِ قد قبضا على يَدَيْهِ فَلَمَّا نظر الْخَارِجِي إِلَى الْهَادِي جذب يَدَيْهِ من الرجلَيْن وَاخْتَرَطَ سيف أَحدهمَا وَقصد الْهَادِي ففر عَنهُ كل من كَانَ بِحَضْرَتِهِ من اهله وبطانته وَبَقِي الْهَادِي وَحده على حمَار بمكانه ذَلِك حَتَّى قرب الْخَارِجِي مِنْهُ وَرفع يَده بِالسَّيْفِ ليعلوه بِهِ فَقَالَ ياغلام اضْرِب عُنُقه فَالْتَفت الْخَارِجِي ينظر من خَلفه فَوَثَبَ الْهَادِي من سرج حِمَاره فَإِذا هُوَ على الْخَارِجِي فَقبض عَلَيْهِ وانتزع السَّيْف من يَده فذبحه ثمَّ عَاد إِلَى ظهر حِمَاره من فوره وتراجع إِلَيْهِ خاصته يَتَسَلَّلُونَ وَقد ملئوا مِنْهُ رعْبًا وحياء فَمَا خاطبهم بِشَيْء من ذَلِك وَلم يكن بعد ذَلِك يُفَارِقهُ السِّلَاح

وَلم يركب إِلَّا جوادا من الْخَيل وَهَذَا أعجب مَا يكون من الشجَاعَة وثبات الجأش فِي الْمُلُوك

الوصف الرابع السخاء

الْوَصْف الرَّابِع السخاء إعلم ان السخاء عماد الْبر الَّذِي هُوَ سَبَب الألفة لما يُوصل إِلَى الْقُلُوب من الرَّاحَة والألطاف وَلذَلِك ندب الشَّرْع إِلَيْهِ وحث الْخلق عَلَيْهِ لما فِيهِ عُمُوم الْمصلحَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لِأَن فِي السخاء

رضَا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورضا النَّاس جَمِيعًا قَالَ رَسُول الله ص = السخي قريب من الله قريب من النَّاس قريب من الْجنَّة بعيد من النَّار والبخيل بعيد من الله بعيد من النَّاس بعيد من الْجنَّة قريب من النَّار

وَقَالَ رَسُول الله ص = تجافوا عَن ذَنْب الْكَرِيم فَإِن الله يَأْخُذ بِيَدِهِ كلما عتر وَقَالَت السيدة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الْجنَّة دَار الأسخياء وَالنَّار دَار البخلاء

وَقيل اوحى الله إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَلا تقتل السامري فَإِنَّهُ كريم وَحدث أَبُو قَاسم قَالَ حضرت الحكم بن الْمطلب لما

مَاتَ بِمَدِينَة منبج فَلَمَّا أَخذ فِي النزع وأشخص ببصره قَالَ أَبُو معيوف الْحِمصِي اللَّهُمَّ أرْفق بِهِ فقد كَانَ جوادا شجاعا صواما قواما قَالَ فأفاق من غَشيته ثمَّ نظر إِلَيْنَا وَقَالَ من الْمُتَكَلّم فَقَالَ أَبُو معيوف أَنا قَالَ إِن ملك الْمَوْت يسلم وَيَقُول لَك إِن الله تَعَالَى أَمرنِي أَن أرْفق بِقَبض روح كل كريم ثمَّ اضْطجع فَكَأَنَّهُ كَانَ فَتِيلَة طفئت رَحمَه الله وَكَانَ يُقَال سؤدد بِلَا جود كملك بِلَا جنود وَقيل من جاد سَاد وَمن أَضْعَف ازْدَادَ وَكَانَ يُقَال جود الرجل يحببه إِلَى أضداده وبخله يبغضه إِلَى أَوْلَاده

وَاعْلَم أَن السخاء على نَوْعَيْنِ النَّوْع الأول هُوَ أَن يَبْتَدِئ بِهِ الْإِنْسَان من غير سُؤال وَهَذَا أطبع السخاء وأشرف الْعَطاء لِأَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ عَن السخاء فَقَالَ مَا كَانَ مِنْهُ ابْتِدَاء فَأَما مَا كَانَ مِنْهُ عَن مَسْأَلَة فحياء وتكريم وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء أجل النوال مَا كَانَ قبل السُّؤَال وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء

(وفتى خلا من مَاله ... وَمن الْمُرُوءَة غير خَال) (أَعْطَاك قبل سُؤَاله ... وَكَفاك مَكْرُوه السُّؤَال) وَهَذَا النَّوْع من السخاء قد يكون لأسباب ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يكون قد يرى حلَّة يقدر على سدها أَو فاقة يتمكنمن إِزَالَتهَا فَلَا يَدعه الْكَرم وسماحة النَّفس والطبيعة أَن يهمل ذَلِك بل يكون متكفلا بنجازها رَغْبَة فِي الْأجر الثَّانِي أَن يرى فِي مَاله فَضله عَن حَاجته فَيرى انتهاز الفرصة

بهَا فَيَضَعهَا عِنْد من يكون لَهُ ذخْرا الثَّالِث أَن يفعل ذَلِك سجية قد فطر عَلَيْهَا فَلَا يُمَيّز بَين مُسْتَحقّ ومحروم وَلَا يفرق بَين مَحْمُود ومذموم وَهَذَا هُوَ السخي طبعا غير أَن هَذَا لَا يصلح بِالْملكِ لِأَنَّهُ خَارج إِلَى السَّرف والتبذير وَبَيت المَال قد يقل عَن الْحُقُوق وَيقصر عَن الْوَاجِبَات فَإِذا أعْطى غير مُسْتَحقّ فقد يمْنَع مُسْتَحقّا وَحَال الْمُلُوك لَا تَقْتَضِي ذَلِك النَّوْع الثَّانِي من السخاء مَا كَانَ عَن طلب وسؤال وعلامة السخي عِنْد ذَلِك أَن يلقى السَّائِل بالترحيب وطلاقة الْوَجْه وَأَن يَكْتَفِي بالتلويح وَلَا يلجىء السَّائِل إِلَى التَّصْرِيح كَمَا قَالَ الشَّاعِر

(تلقى الْكَرِيم فتستدل ببشره ... وَترى العبوس على اللَّئِيم دَلِيلا) (وَاعْلَم بأنك عَن قريب صائر ... خَبرا فَكُن خَبرا تنَال جزيلا) وَيَنْبَغِي لَهُ عِنْد السُّؤَال أَن يعجل بالوعد قولا ثمَّ يعقبه بالإنجاز فعلا ليَكُون السَّائِل مَسْرُورا بعاجل الْوَعْد ثمَّ بآجل الإنجاز كَمَا حكى أَن الْفضل بن سهل سَأَلَهُ رجل فَقَالَ لَهُ إِنِّي أعدك الْيَوْم وأحبوك غدالتذوق حلاوة الأمل وَلَكِن لَا تطيل الْوَعْد على السَّائِل فَلَا تفي حلاوة الْإِعْطَاء بمرارة الِانْتِظَار وَقَالَ بَعضهم (إِن الْعَطِيَّة لَا تكون هنيَّة ... حَتَّى تكون قَصِيرَة الْأَعْمَار

وَقد قَالَ بَعضهم (إِن الْعَطِيَّة رُبمَا أزرى بهَا ... عِنْد الَّذِي تَقْتَضِي لَهُ تطويلها) (فَإِذا ضمنت لصَاحب لَك حَاجَة ... فَاعْلَم بِأَن تَمامهَا تَعْجِيلهَا) وَقد مَضَت سنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وملوك الْمُسلمين بصلَة المسترفدين على وَجه الشَّرْح من غير إِسْرَاف وَلَا إقتار وَذَلِكَ مَشْهُور فاعرضنا عَن شَرحه

الوصف الخامس الرفق

الْوَصْف الْخَامِس الرِّفْق إعلم أَن الرِّفْق من أفضل أَوْصَاف الْملك وَأحمد خلائقه فِي التَّدْبِير لِأَنَّهُ يبلغ بِهِ جباية الْأَمْوَال من الرّعية مَا لَا يبلغ بالخرق

فَإِن الرّعية قد تعامل بالرفق فتزول أحقادها ويذل مقادها وَقد تعامل بالخرق فتكاشف بِمَا أضمرت وَتقدم على مَا نهيت ثمَّ إِن غلبت كَانَ غلبها دمارا وَإِن غلبت لم يحصل بغلبها افتخار وَقد قَالَ رَسُول الله ص = لَو أَن الرِّفْق رجلا لَكَانَ حسنا وَلَو كَانَ الْخرق رجلا لَكَانَ قبيحا وَقد يبلغ الْملك برفقة وَلينه فِي التَّدْبِير مَا لَا يبلغهُ بخرقه أَلا ترى أَن الرّيح العاصف بقوتها وهول صَوتهَا كَيفَ يتداخل الشّجر وَلَا يقْلع الْمُسْتَخْلف مِنْهُ وَالْمَاء بلينه وسلاسته يبلغ فِي أصل الشّجر فيقلع الْمُسْتَخْلف من أُصُوله

والعلقة تنَال من الدَّم بِغَيْر أَذَى وَلَا سَماع صَوت مَا لَا تنَال الْبَعُوضَة بهول صَوتهَا واليم لسعتها وبالرفق ولين التَّدْبِير يَنْقَلِب الْعَدو صديقا كالسم الْقَاتِل إِذا رفق بِهِ الْمُقدر لَهُ وَأحسن فِي تَقْدِيره ولطف فِي تَدْبيره صَار دَوَاء وانقلب شِفَاء قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن}

وبالخرق يَنْقَلِب الصّديق عدوا كالطعام الَّذِي هُوَ غذَاء الْإِنْسَان وقوام جسده إِذا أَسَاءَ الْمُقدر لَهُ فِي تَقْدِيره وأفرط فِي تنَاوله صَار دَاء وانقلب أَذَى وَحكى أَن كسْرَى أنوشروان سَأَلَ حكيما منى حكمائهم فَقَالَ مَا عز الْملك قَالَ الطَّاعَة قَالَ فَمَا سَبَب الطَّاعَة قَالَ التودد إِلَى الْخَاصَّة وَالْعدْل على الْعَامَّة قَالَ فَمَا صَلَاح الْملك قَالَ الرِّفْق بالرعية وَأخذ الْحق مِنْهُم فِي غير مشقة وأداؤه إِلَيْهِم عِنْد أَوَانه وَحكى شُجَاع للأحمر قَالَ

دخلت على المتَوَكل وَبَين يَدَيْهِ نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي وَهُوَ يحث المتَوَكل على الرِّفْق بالرعية ويرغبه فِيهِ والمتوكل سَاكِت فَلَمَّا فرغ من كَلَامه الْتفت إِلَيْهِ المتَوَكل وَقَالَ حَدثنِي مؤدبي الْفضل قَالَ حَدثنِي أبي عَن جدي وَرَفعه إِلَى عمر بن الْخطاب

رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أفضل عباد الله تَعَالَى عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة إِمَام عَادل وَإِن شَرّ عباد الله عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة إِمَام جَائِر ثمَّ الْتفت إِلَى يحيى بن أَكْثَم فَقَالَ وَأَنت حَدَّثتنِي حَدِيثا ورفعته إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من يحرم الرِّفْق يحرم الْخَيْر ثمَّ سكت

سَاعَة وَأنْشد (الرِّفْق يمن والأناة سَعَادَة ... فاستأن فِي رفق تلاق نجاحا) (لَا خير فِي حزم بِغَيْر روية ... وَالشَّكّ وَهن إِن أردْت سراحا) وَقَالَ بَعضهم دخلت على المتَوَكل فَسَمعته يمدح الرِّفْق فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْشدني الْأَصْمَعِي

(لم أر مثل الرِّفْق فِي لينه ... أخرج للعذراء من خدرها) (من يستعن بالرفق فِي أمره ... يسْتَخْرج الْحَيَّة من جحرها) قَالَ فَدَعَا بداوة وكتبها مني (فَلَا تقطع أَخا لَك عِنْد ذَنْب ... فَإِن الذَّنب يغفره الْكَرِيم) (وَلَا تعجل على أحد بظُلْم ... فَإِن الظُّلم مرتعه وخيم) (وَلَا تخرق عَلَيْهِ وَكن رَفِيقًا ... فقد بالرفق يلتئم الكليم) (فَإِن الرِّفْق فِيمَا قيل يمن ... وَإِن الْخرق فِيمَا قيل شُؤْم) وَاعْلَم أَنه لَا يَنْبَغِي للْملك أَن يسْتَعْمل الرِّفْق واللين فِي جَمِيع المواطن بل يَجْعَل الرّعية ثَلَاث طَبَقَات ويسوسهم بِثَلَاث سياسات طبقَة

هم الْخَواص من الْأَبْرَار فيسوسهم بالرفق واللين وطبقة هم خَواص الأشرار فيسوسهم بالعنف والشدة وطبقة هم الْعَامَّة فيسوسهم باللين تَارَة وبالشدة تَارَة أُخْرَى قَالَ مُسلم بن قُتَيْبَة ملاك السُّلْطَان الشدَّة على الْمُرِيب واللين على المحسن وَسَأَلَ ملك من مُلُوك الْفرس بزرجمهر فَقَالَ مَا أَحْمد سير الْمُلُوك فَقَالَ أَن يعاملوا أَحْرَار النَّاس بمحض الْمَوَدَّة ويعاملوا الْعَامَّة بالرغبة والرهبة ويعاملوا السفلة بالمخافة صراحا أَنْشدني بَعضهم (إِذا كُنْتُم للنَّاس فِي الأَرْض قادة ... فسوسوا كرام النَّاس بالحلم وَالْعدْل) (وسوسوا لئام النَّاس بالذل وَحده ... صَرِيحًا فَإِن الذل أصلح للنذل)

الوصف السادس الوفاء

الْوَصْف السَّادِس الْوَفَاء لما كَانَ الْوَفَاء من الْأَوْصَاف الْعلية والشيم السّنيَّة أَمر الله تَعَالَى الْخلق بِهِ ومدحهم على فعله فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا}

بِالْعُقُودِ) وَقَالَ تَعَالَى {يُوفونَ بِالنذرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} وَالْوَفَاء خليق بِالْملكِ لما فِيهِ من إِيصَال الرَّاحَة واستعطاف الْقُلُوب بإنجاز الْوَعْد أَو دوَام الْعَهْد قَالَ بعض الْحُكَمَاء لملك فِي

زَمَانه أوصيك بِأَرْبَع خِصَال ترضي بِهن رَبك وَتصْلح بِهن رعيتك لَا تعدن وَعدا لَيْسَ فِي يَديك وفاءه وَلَا تتواعدن من لَا تنفذ فِيهِ الْفِعْل فَإِن بِالْأولَى تذْهب عظمتك وَبِالثَّانِي يجتزىء عَلَيْك وَلَا يغرنك ارتقاء السهل إِذا كَانَ المنحدر وعرا ولالا تستغشن ناصحا فتستتر عَنْك أُمُور الرّعية وَكَانَ يُقَال من أحسن الْوَفَاء اسْتوْجبَ الصفاء وَكَانَ يُقَال الْوَفَاء من أَخْلَاق الْكِرَام وَالْخلف من أَخْلَاق اللئام وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ لَا يكَاد

يُوجب حَاجَة تخوفا من الْخلف فَإِذا أوجب وَقَالَ نعم لم يقر لَهُ قَرَار حَتَّى يَفِي بِهِ وَأنْشد رجل من بني تَمِيم فِي الْمَعْنى شعرًا (إِذا قلت فِي شَيْء نعم فأتمه ... فَإِن نعم دين على الْحر وَاجِب) (وَإِلَّا فَقل لَا تسترح وترح بهَا ... لِئَلَّا يَقُول النَّاس إِنَّك كَاذِب) وَأنْشد بَعضهم (لَزِمت نعم حَتَّى كَأَنَّك لم تكن ... عرفت من الْأَشْيَاء شَيْئا سوى نعم) (وَأنْكرت لَا حَتَّى كَأَنَّك لم تكن ... سَمِعت بِلَا فِي سالف الدَّهْر والأمم)

وَكَانَ يُقَال وعد الْكَرِيم نقد وتعجيل ووعد اللَّئِيم مطل وتسويف وَكَانَ يُقَال الْعَاقِل لَا يعد بِمَا لَا يَسْتَطِيع إنجازه وَلَا يسْأَل مَا يخَاف مَنعه أَنْشدني بعض أهل الْعلم (لَا تقولن إِذا لم ترد ... أَن تتمّ فِي شَيْء نعم) (وَإِذا قلت نعم فاصبر لَهَا ... بنجاح الْوَعْد إِن الْخلف ذمّ) (حسن قَول نعم من بعدلا ... وقبيح قَول لَا بعد نعم) (إِن لَا بعد نعم فَاحِشَة ... فبلا فأبدا إِذا خفت النَّدَم)

الوصف السابع الصدق

الْوَصْف السَّابِع الصدْق إعلم أَن الصدْق من أَسْنَى السمات وأشرف الصِّفَات وَأسلم مناهج الصِّفَات يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّرْع الْمُوجب وَالْعقل الْمُؤَكّد لِأَن الشَّرْع ورد بِاتِّبَاع الصدْق وَلَو كَانَت الهلكة فِيهِ

وحظر الْكَذِب وَلَو جر نفعا أَو دفع

ضَرَرا علما من الشَّارِع بِمَا يَنْقَلِب إِلَيْهِ عاقبتهما وَالْعقل يَدْعُو إِلَى فعل مَا كَانَ مستحسنا وَيمْنَع من إتْيَان مَا كَانَ مستقبحا وَالْكذب مستقبح عقلا لَا سِيمَا إِذا كَانَ لَا يجلب نفعا وَلَا يدْفع ضَرَرا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحروا الصدْق وَإِن

رَأَيْتُمْ الهلكة فِيهِ فَإِن النجَاة فِيهِ وتجنبوا الْكَذِب وَإِن رَأَيْتُمْ أَن النجَاة فية فَإِن فية الهلكة وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء دع الْكَذِب حِين ترى أَنه ينفعك فَإِنَّهُ يَضرك وات الصدْق حِين ترى أَنه يَضرك فَإِنَّهُ ينفعك وَكَانَت الْعَرَب تَقول لِسَان صدق مَعَ الْعشْرَة خير من سوء الذّكر مَعَ الميسرة أَنْشدني بَعضهم (عود لسَانك صدق القَوْل تحظ بِهِ ... إِن اللِّسَان لما عودت مُعْتَاد) (مُوكل بتقاضي مَا سننت لَهُ ... فَارْتَد لنَفسك وَانْظُر كَيفَ تزداد) قَالَ الْمُهلب مَا يكون السَّيْف الصارم بيد الْملك الشجاع بِأَعَز لَهُ من الصدْق

وَكَانَ يُقَال يَنْبَغِي للْملك أَن يكون صَدُوقًا ليثق الأعوان بوعده وَأَن يكون شكُورًا فيستوجب الزِّيَادَة وَقَالَ الْأَحْنَف بن قيس كل النَّاس حقيق بِالصّدقِ وأحقهم بِهِ الْمُلُوك لِأَن الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْكَذِب مهانة النَّفس وَالْملك لَا يكون مهينا وَقَالَ بعض أهل الْأَدَب فَكُن صَادِقا فِي كل شَيْء تَقوله وَلَا تكن كذابا فَتُدْعَى منافقا وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء أول سَعَادَة الْملك صدقه وَأول هَلَاكه جوره

الوصف الثامن الرأفة

الْوَصْف الثَّامِن الرأفة إعلم أَن الرأفة حلية كَرِيمَة تقتضيها حَال الْمُلُوك لِأَنَّهَا تبعثهم على حراسة الْأمة وَكَمَال الشَّفَقَة على الرّعية والتحنن على ضعفائهم واصطناع الْمَعْرُوف إِلَيْهِم وكف الأذية عَنْهُم وَقد قَالَ رَسُول الله ص = اطْلُبُوا الْمَعْرُوف عِنْد الرُّحَمَاء من امتي وعيشوا فِي أَكْنَافهم

وَقَالَ ص = إِن الله رَحِيم وَلَا يرحم من عباده إِلَّا الرُّحَمَاء إرحموا من فِي الارض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء وروى مَالك أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ دَعَا رجلا يَسْتَعْمِلهُ على بعض

مَدَائِن الشَّام فجَاء ولد صَغِير لعمر رَضِي الله عَنهُ فَأَخذه عمر إِلَى صَدره ثمَّ قبله فَقَالَ ذَلِك الرجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أتقبله قَالَ نعم فَقَالَ وَالله إِن لي أَوْلَادًا مَا قبلت وَاحِدًا مِنْهُم قطّ فَقَالَ لَهُ عمر أَنْت لَا ترحم أولادك وَلَا تتحنن عَلَيْهِم فَأَنت للنَّاس أقل رَحْمَة وتحننا ثمَّ صرفه وَلم يَسْتَعْمِلهُ ثمَّ قَالَ لَا يصلح وَال لَا رَحْمَة عِنْده لرعيته وروى مَالك أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مر بطرِيق مَكَّة فأبصر رَاعيا يرْعَى غنمه فِي مَكَان جَدب فناداه وَقَالَ انْظُر مَكَانا خصبا

فَالْحق بِهِ ثمَّ قَالَ على إِثْر ذَلِك كل رَاع مسؤول عَن رَعيته وروى أسلم مولى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ طَاف عمر لَيْلَة فِي الْمَدِينَة وَأَنا مَعَه فَإِذا هُوَ بِامْرَأَة فِي جَوف دارها وحولها صبية يَبْكُونَ وَهِي توقد تَحت قدر لَهَا فَأَتَاهَا من الْبَاب وَقَالَ يَا أمة الله مِم بكاء هَؤُلَاءِ الصّبيان فَقَالَت من الْجُوع قَالَ فَمَا فِي هَذَا الْقدر قَالَت إِنِّي جعلت فِيهِ مَاء أوهمهم أَن فِيهَا طَعَاما وأعللهم حَتَّى يَنَامُوا

قَالَ فَجَلَسَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَبكى بكاء شَدِيدا ثمَّ قَامَ وَجَاء إِلَى بَيت الصَّدَقَة فَأخذ غرارة وَجعل فِيهَا دَقِيقًا وشحما وَسمنًا وَتَمْرًا وثيابا ودراهم حَتَّى مَلأ الغرارة ثمَّ قَالَ يَا أسلم إحمل على ظَهْري قَالَ فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا أحملهُ عَنْك فَقَالَ لَا أم لَك يَا أسلم احْمِلْ عَليّ فَأَنا المطالب عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فَحمل الغرارة على صلبه حَتَّى أَتَى بهَا منزل الْمَرْأَة فَأخذ الْقدر وَجعل فِيهَا شَيْئا من دَقِيق وشحم وتمر وَجعل يحركه وينفخ تَحت الْقدر قَالَ أسلم وَكَانَت لَهُ لحية عَظِيمَة فَلَقَد رَأَيْت الدُّخان يخرج من خلالها حَتَّى طبخ لَهُم ثمَّ جعل يغْرف لَهُم بِيَدِهِ ويطعمهم حَتَّى شَبِعُوا قَالَ ثمَّ خرج وربض بحذائهم على الْبَاب كَأَنَّهُ سبع فَخفت مِنْهُ أَن ُأكَلِّمهُ فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى لعب الصّبيان وَضَحِكُوا ثمَّ قَامَ وَقَالَ يَا أسلم هَل تَدْرِي لم ربضت بحذائهم قلت لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ كنت رَأَيْتهمْ يَبْكُونَ فَكرِهت أَن أذهب حَتَّى أَرَاهُم يَضْحَكُونَ فَلَمَّا ضحكوا طابت نَفسِي وَحكى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ لما ولى الْخلَافَة

أحضر عِنْده مُحَمَّد بن كَعْب القرضي وَقَالَ لَهُ دلَّنِي عَن النجَاة فِي سياسة الرّعية فَقَالَ لَهُ إِن أردْت النجَاة من عَذَاب الله فَلْيَكُن كَبِير الْمُسلمين لَك أَبَا وأوسطهم عنْدك أَخا وأصغرهم ولدا فوقر أَبَاك وَارْحَمْ أَخَاك وتحنن على ولدك وَقَالَ نصر بن سيار الْكِنَانِي كَانَ عُظَمَاء التّرْك يَقُولُونَ يَنْبَغِي للْملك

الْعَظِيم أَن يكون فِيهِ عشر خِصَال أَربع من خِصَال الطير وست من خِصَال الْوَحْش وَهِي سماحة الديك وتحنن الدَّجَاجَة وحراسة الكركي وحذر الْغُرَاب وَحَملَة الْخِنْزِير وقلب الْأسد وغارة الذِّئْب وروغان الثَّعْلَب وصبر الْكَلْب وشقاء الضَّب

وَقد نظم هَذَا بعض الشُّعَرَاء فَقَالَ (أَبى الطير لَا يتركن آثَار خَيْلنَا ... لأكل لُحُوم من أعَاد سواغب) (وَمَا ذَاك من حب لنا غير عَادَة ... لَهُنَّ علينا فِي الْبَقَاء الْكَتَائِب) (أرى الْملك الْمِقْدَام من تمّ أمره ... بِعشر خِصَال هن خير المناقب) (سماحة ديك ثمَّ رأف دجَاجَة ... وحراسة كركي وحذرة ناعب) (وَحَملَة خِنْزِير وقلب غضنفر ... وغارة ذِئْب ثمَّ روغ الثعالب) (وصبر بَصِير حِين يقرع بالعصا ... وشقوة ضَب فِي بِلَاد سباسب) (فَمن كَانَ هَذَا وَصفه فَهُوَ كَامِل ... عَظِيم وَإِلَّا فَهُوَ أخيب خائب) وَقَالَ بعض الْعلمَاء خير الْمُلُوك من أشْرب قُلُوب رَعيته محبته كَمَا أشعرها هيبته وَلنْ ينَال ذَلِك مِنْهَا حَتَّى يكون عَاملا بِخمْس خِصَال إكرام شريفها وَرَحْمَة ضعيفها وإغاثة لهيفها وكف عدوان

عاديها وتأمين السبل لرائحها وغاديها وَمَتى أعدم الرّعية شَيْئا من ذَلِك فقد أحقدها بِقدر مَا أفقدها

الوصف التاسع الصبر

الْوَصْف التَّاسِع الصَّبْر إعلم أَن صَبر الْمُلُوك يتنوع أنواعا كَثِيرَة أليقها بكتابي هَذَا صَبر الْمُلُوك وَهُوَ عبارَة عَن ثَلَاث قوى الْقُوَّة الأولى قُوَّة الْحلم وثمرتها الْعَفو الْقُوَّة الثَّانِيَة قُوَّة الكلأة وثمرتها عمَارَة المملكة الثَّالِثَة قُوَّة الشجَاعَة وثمرتها فِي الْمُلُوك الثَّبَات لِأَن إقدامهم فِي المعارك تهور وطيش

وَالصَّبْر سيد الْأَوْصَاف الجليلة وأميرها وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعلم خَلِيل الْمُؤمن والحلم وزيره وَالْعقل دَلِيله وَالْعَمَل قائده والرفق وَالِده وَالْبر أَخُوهُ وَالصَّبْر أَمِير جُنُوده وَلَيْسَ المُرَاد تَفْضِيل الصَّبْر على الْعلم وَالْعقل وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الثَّبَات على هَذِه الخصائص إِنَّمَا يكون بِالصبرِ لِأَن معنى الصَّبْر الثَّبَات وَالْحَبْس والإمساك فَمن اتّصف بِشَيْء من هَذِه الْخِصَال

وَلم يصبر كَانَ عِنْد مزايلته كمن لم يَتَّصِف بِهِ فالصبر ضَابِط للأوصاف الشَّرِيفَة كَمَا يضْبط الْأَمِير جُنُوده وَقيل كَانَ مَكْتُوبًا فِي الصَّحِيفَة الصَّفْرَاء الْمُعَلقَة فِي أعظم هياكل الْفرس كَمَا أَن الْحَدِيد يعشق المغناطيس فَكَذَلِك الظفر يعشق الصَّبْر فاصبر تظفر أَنْشدني بعض أهل الْعلم (إِنِّي وجدت وَخير القَوْل أَحْمَده ... للصبر عَاقِبَة محمودة الْأَثر) (وَقل من جد فِي أَمر يُطَالِبهُ ... واستصحب الصَّبْر إِلَّا فَازَ بالظفر)

وَقَالَ بعض حكماء الْعَرَب مَا ميز الرجل بَين صَبر وجزع إِلَّا وجدهما متفاوتين الصَّبْر حسن الْعَلَانِيَة مَحْمُود الْعَاقِبَة والجزع غير معوض شَيْئا وَلَو كَانَ فِي صُورَة لَكَانَ الصَّبْر أولاهما بالغلبة بِحسن الْخلقَة وكرم الطبيعة وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْحَوَادِث النَّازِلَة نَوْعَانِ أَحدهمَا لَا حِيلَة فِيهِ فَدفعهُ بِالصبرِ الدَّائِم والإعراض عَنهُ الثَّانِي يُمكن فِيهِ الْحِيلَة فَدفعهُ بِالصبرِ عَنهُ إِلَى حِين نُفُوذ الْحِيلَة فِيهِ وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء (من يمتطي الصَّبْر يضع رجله ... فِي ساحة الرَّاحَة واليسر) (الصَّبْر يمن وَبِه للفتى ... صِيَانة النَّفس عَن الْغدر) وَقَالَ آخر (إصبر إِذا تدهيك نائبة ... مَا خَابَ مُنْقَطع إِلَى الصَّبْر) (فالصبر أولى مَا اعتصمت بِهِ ... ولنعم حَشْو جَوَانِب الصَّدْر)

وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ جربنَا وجرب المجربون فَلم نر شَيْئا أَنْفَع من الصَّبْر بِهِ تداوى الْأُمُور وَهُوَ لَا يداوى بِغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنه قَالَ إِنَّا وجدنَا خير عيشنا الصَّبْر وَكَانَ عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول يَا معشر الحواريين إِنَّكُم لَا تدركون مَا تأملون إِلَّا بِالصبرِ على مَا تَكْرَهُونَ وَقَالَ نهشل بن حري

(وَيَوْم كَأَن المصطلين بحرة ... وَإِن لم تكن نَار قيام على الْجَمْر) (صَبرنَا لَهُ حَتَّى يبوخ وَإِنَّمَا ... تفرج ايا الكريهة بِالصبرِ) وَقَالَ آخر (إِنِّي رايت مغبة الصَّبْر ... تُفْضِي بصاحبها إِلَى الْيُسْر) (لابد من عسر وميسرة ... بهما تَدور دوائر الدَّهْر) (فَكَمَا يلذ الْيُسْر صَاحبه ... فكذاك فليصبر على الْعسر وَقَالَ آخر (الصَّبْر أولى بوقار الْفَتى ... من قلق يهتك ستر الْوَقار (من لزم الصَّبْر على حَالَة ... كَانَ على أَيَّامه بِالْخِيَارِ) وَقَالَ آخر

(لَا تيأسن وَإِن طَالَتْ مُطَالبَة ... إِذا استغنت بصبر أَن ترى فرجا) (أخلق بِذِي الصَّبْر أَن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أَن يلجا)

الوصف العاشر العفو

الْوَصْف الْعَاشِر الْعَفو اعْلَم أَن وصف الْعَفو خليق بِالْملكِ لما فِيهِ من المزية وَكَمَال مصلحَة الرّعية لِأَن الْملك مَتى عاقب على الزلة وقابل على الهفوة وَأخذ بالجرم الصَّغِير وَلم يتَجَاوَز عَن الْكَبِير قبحت سي رته وفسدت سَرِيرَته قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أفضل الْقَصْد عِنْد

الحدة وَأفضل الْعَفو عِنْد الْقُدْرَة وَمَا أقبح مجازاة الْقَادِر على سوء صَنِيع الْمَقْدُور عَلَيْهِ وَكَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول إِن أولى النَّاس بِالْعَفو أقدرهم على الْعقُوبَة وَإِن أنقص النَّاس عقلا من ظلم من هُوَ دونه وَقيل إِن عَظِيما من عُظَمَاء قُرَيْش فِي سالف الدَّهْر كَانَ يطْلب

رجلا فَلَمَّا ظفر بِهِ قَالَ لَهُ لَوْلَا أَن الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة لَا نتقمت مِنْك ثمَّ أطلقهُ فحسنت سيرة الرجل بعد ذَلِك وَغَضب سُلَيْمَان بن عبد الْملك على خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة وَإنَّك تجل عَن الْعقُوبَة فَإِن تعف فَأهل ذَلِك أَنْت وَإِن تعاقب فاهل ذَلِك أَنا فَعَفَا عَنهُ وَالله أعلم

وَحكي أَن الْمَأْمُون لما طفر بعم إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أحضر عِنْده جمَاعَة من خواصه ثمَّ قَالَ عَليّ بِهِ فَأدْخل إِلَيْهِ وَهُوَ يحجل فِي قيوده فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لَا سلم الله عَلَيْك وَلَا رعاك فَقَالَ إِبْرَاهِيم على رسلك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ

ثمَّ أنْشد يَقُول

(أَنا المذنب الْخَطَأ وَالْعَفو وَاسع ... وَلَو لم يكن ذَنْب لما عرف الْعَفو) (سكرت فأبدت مني الكأس بعض مَا ... كرهت وَمَا إِن يَسْتَوِي السكر والصحو) (فَإِن تعف عني تلف خطوي وَاسِعًا ... وَإِلَّا تداكرني فقد قصر الخطو) ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ انت ولي ثَأْرِي وَإِن الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة وَإِنِّي قد أَصبَحت فَوق كل ذِي ذَنْب كَمَا أصبح كل ذِي عَفْو دُونك فَإِن تعاقب فبحقك وَإِن تعف فبفضلك قَالَ فاطرق الْمَأْمُون ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ إِن هذَيْن اشارا عَليّ بقتلك يَعْنِي الْعَبَّاس والمعتصم فَقَالَ إنَّهُمَا أشارا بِمَا يُشِير بِهِ مثلهمَا على مثلك إِذْ كَانَ مني الَّذِي كَانَ فَقَالَ الْمَأْمُون يَا ثُمَامَة إِن من الْكَلَام كلَاما كالدر فِي لبات

الغواني وَإِن هَذَا الْكَلَام مِنْهُ يَا غُلَام حل الْقُيُود عَن عمي وَكَانَ الْمَأْمُون يَقُول لَيْسَ عَليّ فِي الْعَفو مُؤنَة وَإِنِّي وددت أَن اهل الجرائم علمُوا حلمي وَرَأى فِي الْعَفو فَيذْهب عَنْهُم الْخَوْف وَكَانَ يُقَال أقبح المجازاة المكافاة بالإساءة وَقيل إِن عبد الْملك بن مَرْوَان اشْتَدَّ غَضَبه على رجل فَلَمَّا صَار

فِي يَده قَالَ لَهُ يَا فَاجر لَأُمَثِّلَن بك أشر مثله فَقَالَ لَهُ رَجَاء بن حَيْوَة إِن الله تَعَالَى قد صنع مَا أَحْبَبْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَاصْنَعْ مَا يُحِبهُ الله من الْعَفو عَنهُ قَالَ فَعَفَا عَنهُ وَأطْلقهُ وَكَانَ الْمَأْمُون يَقُول لَو علم النَّاس رغبتي فِي الْعَفو مَا تقربُوا إِلَيّ إِلَّا بِالذنُوبِ وأنشدني بَعضهم فِي الْمَعْنى (إقبل معاذير من يَأْتِيك معتذرا ... واغفر لَهُ ذَنبه إِن بر أَو فجرا) (فقد أطاعك من يرضيك ظَاهره ... وَقد أَجلك من يعصيك مستترا)

ويحكي أَنه جرى بَين شهرام الْمروزِي وَبَين أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي كَلَام شَدِيد ومنازعة فمازال أَبُو مُسلم يقاوله إِلَى أَن قَالَ لَهُ شهرام يالقيط فَلَمَّا قَالَ ذَلِك سكت أَبُو مُسلم ثمَّ إِن شهرام نَدم فَأقبل على أبي مُسلم معتذرا وخاضعا ومتنصلا فَلَمَّا رأى أَبُو مُسلم ذَلِك مِنْهُ قَالَ لِسَان سبق وَوهم أَخطَأ وَإِنَّمَا الْغَضَب من الشَّيْطَان والعذر يسعك وَقد عَفَوْنَا عَنْك فَقَالَ شهرام أَيهَا الْأَمِير إِن عَفْو مثلك لَا يكون غرُورًا قَالَ أجل فَقَالَ إِن عظم ذَنبي لَا يدع قلبِي يسكن فَقَالَ أَبُو مُسلم يَا عجبا

كنت تسىء وَأَنا أحسن فَإِذا إحسنت أسىء أَنْشدني بَعضهم (تَعْفُو الْمُلُوك عَن الْعَظِيم ... من الْأُمُور لفضلها) (وَلَقَد تعاقب فِي الْيَسِير ... وَلَيْسَ ذَاك لجهلها) (إِلَّا ليعرف فَضلهَا ... وَيخَاف شدَّة نكلها) ويحكي أَن الْمَنْصُور بعث إِلَى جَعْفَر بن مُحَمَّد فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ إِنِّي أُرِيد أَن أستشيرك فِي أَمر قد رَأَيْت أطباق أهل الْمَدِينَة على حَرْبِيّ وَقد نهيتهم مرّة بعد أُخْرَى فَمَا رَأَيْتهمْ ينتهون وَقد رَأَيْت أَن أبْعث إِلَيْهِم من يقطع نخلها ويغور عيونها فَمَا ترى أَنْت فَسكت جَعْفَر فَقَالَ لَهُ مَا لَك لَا تَتَكَلَّم قَالَ أَتكَلّم آمنا قَالَ نعم قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن

سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أعْطى فَشكر وَإِن أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام أبتلى فَصَبر وَإِن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قدر فغفر وَإِن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوذي فَاحْتمل وَقد جعلك الله من نسل الَّذين يغفرون ويعفون ويصفحون فانطفأ غيظه وَأمْسك عَنْهُم أَنْشدني بَعضهم (أَشْكُو إِلَيْك هموما لَيْسَ يكشفها ... إِلَّا رضاك فقوم بِالرِّضَا أودي) (إِن تعف عني فَأهل الْعَفو أَنْت ... وَإِن عاقبتني فبمَا تجني عَليّ يَدي) وَقَالَ آخر (وَلَقَد ناديت عفوك من قريب ... كَمَا سالمت شخصك من بعيد (فَإِن عاقبتني فبسوء فعلي ... وَمَا ظلمت عُقُوبَة مستفيد) (وَإِن تمنن فإحسان جَدِيد ... مننت بِهِ على شكر جَدِيد)

الوصف الحادي عشر

الْوَصْف الْحَادِي عشر = الشُّكْر = إعلم أَن الشُّكْر يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام عقد بالجنان وثناء بِاللِّسَانِ

ومكافاة بالأفعال الحسان أما العقد بالجنان فَهُوَ ان يضمر إعظام الْمُنعم واجلاله والخشية لَهُ والإقبال عَلَيْهِ وَالْعجز عَن الْقيام بحقيقه شكره واستكثار النِّعْمَة مِنْهُ وَإِن قلت واستقلالها فِي غَيره وَإِن جلت وَأما الثَّنَاء بِاللِّسَانِ فَهُوَ إِظْهَار الْحَمد للمنعم وَالثنَاء عَلَيْهِ والتحدث بِمَا خوله من تَوَاتر النعم وبلوغ الْمَقَاصِد وَحُصُول الْأَغْرَاض وَغير ذَلِك مِمَّا خصّه بِهِ الْمُنعم دون كثير من النَّاس واما الْمُكَافَأَة بالأفعال فَهِيَ الإقبال على طَاعَته وَالْوُقُوف عِنْد حُدُوده ومنهياته وان يواسي الضُّعَفَاء من نعْمَته ويعمهم بعدله ويخصهم ببذله سِيمَا لمن نَاصح فِي دولته وأخلص فِي خدمته وَصدق فِي ولائه من أعوانه وخاصته أَو لمن أظهر نكاية فِي عداته أَو لمن

سارع فِي مرضاته وَغير ذَلِك مِمَّا يجلب بِهِ المسرة اَوْ يدْفع عَنهُ بِهِ الْمضرَّة فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك من نِيَّة وَقَول وَعمل سمي شاكرا على الْحَقِيقَة وَكَانَ لمزيد النِّعْمَة مُسْتَحقّا ولتتابع الْإِحْسَان مستوجبا لقَوْله عز وَجل {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء لَا يكون الْملك شاكرا للنعمة حَتَّى يجْتَمع فِيهِ أَرْبَعَة أَشْيَاء الْمُوَاسَاة فِيهَا والاستعانة بهَا على طَاعَة مَوْلَاهَا والإشادة بذكرها وتيقن الْعَجز عَن الْقيام بِحَقِيقَة شكرها

وَكَانَ يُقَال لَا زَوَال للنعمة مَعَ الشُّكْر وَلَا بَقَاء لَهَا مَعَ الْكفْر وَقيل الشُّكْر قيد النِّعْمَة وَقيل الشُّكْر مثمر النعم وعصمة من النقم وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من لم يشْكر على الإنعام فاعدده من الْأَنْعَام وَقَالَ بعض مُلُوك الْهِنْد خير الْمُلُوك الشكُور على حسن الْأَعْمَال والصبور على تحمل الأثقال

وَكَانَ يُقَال من كفر النِّعْمَة اسْتوْجبَ حرمَان الْمَزِيد وَقَالَ عَليّ بن طَالب رَضِي الله عَنهُ (من جاور النِّعْمَة بالشكر لم ... يخْش على النِّعْمَة مَا اغتالها) (لَو شكروا النِّعْمَة زادتهم ... مقَالَة الله الَّتِي قَالَهَا) (لَئِن شكرتم لأزيدنكم ... لكنما كفرهم غالها) (وَالْكفْر بِالنعْمَةِ يَدْعُو إِلَى ... زَوَالهَا وَالشُّكْر ابقى لَهَا) وَقَالَ بعض البلغاء الشُّكْر وَإِن قل ثمن كل نوال وَإِن جلّ وَأنْشد

(لَو كنت أعرف فَوق الشُّكْر منزلَة ... أَعلَى من الشُّكْر عِنْد الله فِي الثّمن) (إِذا منحتكما مني مهذبة ... حذوا على حَذْو مَا واليت من حسن) وَقَالَ آخر (فَلَو كَانَ يَسْتَغْنِي عَن الشُّكْر ماجد ... لرفعة حَال أَو علو مَكَان) (لما أَمر الرَّحْمَن بالشكر خلقه ... فَقَالَ اشكروني أَيهَا الثَّقَلَان)

الوصف الثاني عشر الأناة

الْوَصْف الثَّانِي عشر الأناة إعلم أَن الأناة من أَحْمد أَوْصَاف الْملك وأكمل أخلاقه وعلامة توفيقه لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بهَا صَوَاب الرَّأْي فِي التَّدْبِير واتضاح الْأُمُور فِي السياسة وَلَا يقْتَرن بهَا زلل وَلَا يعقبها ندامة وَلَا فشل فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التوءدة من الرَّحْمَن والعجلة من الشَّيْطَان

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء على الْملك أَن يعْمل بخصال ثَلَاث تَأْخِير الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب وتعجيل مُكَافَأَة المحسن وَالْعَمَل بالأناة فِيمَا يحدث من الْأُمُور فَإِن لَهُ فِي تَأْخِير الْعقُوبَة إِمْكَان الْعَفو وَفِي تَعْجِيل الْمُكَافَأَة بِالْإِحْسَانِ المسارعة إِلَى الطَّاعَة من الرّعية وَفِي الأناة اتضاح الرَّأْي وانفساح الصَّوَاب وَسَأَلَ ملك من الْمُلُوك حكيما فَقَالَ أَي خلائق الْملك أَحْمد العواقب قَالَ الأناة قَالَ فأيها أجلب لمودة الرّعية قَالَ الْكَرم قَالَ فَأَي الْمُلُوك أخرق

قَالَ أنهكهم عُقُوبَة للرعية قَالَ فَأَي الْخلال أجمع للمكارم والمناقب قَالَ الْعدْل قَالَ أوصني وَصِيَّة أنتفع بهَا فِي ملكي قَالَ قد فعلت ويحكى أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ كَبِيرا من كبراء فَارس فَقَالَ أَي ملوككم كَانَ أَحْمد عنْدكُمْ سيرة قَالَ إِن أردشير لَهُ فَضِيلَة السَّبق فِي المملكة غير أَن أحمدهم سيرة أنوشروان قَالَ فَأَي خلاله كَانَ أغلب عَلَيْهِ قَالَ الْحلم والأناة وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن الأناة والحلم توأمان ينتجهما علو الهمة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم

الوصف الثالث عشر الحلم

الْوَصْف الثَّالِث عشر الْحلم إعلم أَن الْحلم ضبط النَّفس عِنْد هيجان الْغَضَب وَهُوَ خليق بالملوك لما فِيهِ من الرَّاحَة واجتلاب الْحَمد وَحسن الْعَاقِبَة ورضا الْخَالِق قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يحب الْحَلِيم

وَيبغض الْفَاحِش وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ من حلم سَاد وَمن تفهم ازْدَادَ وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء كل ملك لَا يجْتَمع فِيهِ ثَلَاث قوى فملكه مسلوب الْقُوَّة الأولى قُوَّة الْحلم وثمرتها الْعَفو الْقُوَّة الثَّانِيَة قُوَّة حفظ الرّعية وثمرتها عمَارَة المملكة الْقُوَّة الثَّالِثَة قُوَّة الشجَاعَة وثمرتها فِي الْمُلُوك الثَّبَات وَفِي الْجند الْإِقْدَام وَكَانَ يُقَال

أوكد أَسبَاب الْحلم رَحْمَة الْجُهَّال وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْحلم حجاب الْآفَات وَقَالَ مُعَاوِيَة إِنِّي لَا رفع نَفسِي أَن يكون لي ذَنْب أوسع من حلم وَكَانَ يُقَال لَيْسَ الْحَلِيم من إِذا ظلم حلم حَتَّى إِذا قدر انتقم وَلَكِن الْحَلِيم من إِذا ظلم حلم حَتَّى إِذا قدر عفى وَمِمَّا حفظ من وَصِيّه أنوشروان لوَلَده يَا بني إِن من أَخْلَاق الْمُلُوك الأنفة وَعزة النَّفس وَإنَّك ستبلى بمدارات أَقوام وَإِن سفه السَّفِيه رُبمَا بلغك فَإِن

رفعت قدري عَنهُ وَإِن كَانَ نظيري تفضلت عَلَيْهِ فَأخذ مَحْمُود الْوراق هَذَا الْكَلَام ونظمه شعرًا (سألزم نَفسِي الصفح عَن كل مذنب ... وَإِن عظمت مِنْهُ عَليّ الجرائم) (وَمَا النَّاس إِلَّا وَاحِد من ثَلَاثَة ... شرِيف ومشروف وَمثل مقاوم) (فَأَما الَّذِي فَوقِي فاعرف قدره ... وأتبع فِيهِ الْحق وَالْحق لَازم) (واما الَّذِي دوني فَإِن قَالَ صنت عَن ... إجَابَته عرضي وَإِن لَام لائم) (وَأما الَّذِي مثلي فَإِن زل اَوْ هفا ... تفضلت إِن الْحلم بِالْفَضْلِ حَاكم)

وأنشدني بعض أهل الْعلم (رجحنا وَقد خفت حلوم كَثِيرَة ... وعدنا على أهل السفاهة بِالْفَضْلِ) (وَجَهل رددناه بِفضل حلومنا ... وَلَو اننا شِئْنَا رددناه بِالْجَهْلِ) وَقَالَ عُبَيْدَة بن غاضرة الْعَنْبَري (إِنَّا وَإِن كُنَّا أسنة قَومنَا ... وَكَانَ لنا فيهم مقَام مقدم) (لنصفح عَن أَشْيَاء مِنْهُم تسؤنا ... ونصدف عَن ذِي الْجَهْل مِنْهُم ونحلم) ( (ونمنح مِنْهُم معشرا يحسدوننا ... هنيء عَطاء لَيْسَ فِيهِ تندم) (وتكلؤهم بِالْغَيْبِ منا حفيظة ... وأكبادنا وجدا عَلَيْهِم تضرم) (وَلَا نسأم النعماء منا عَلَيْهِم ... وَإِن كثرت حَتَّى يملو ويسأموا) (وَلَيْسَ بمحمود لَدَى النَّاس من جزي ... بسيىء مَا يَأْتِي المسبيء الملوم)

(سأحمل عَن قومِي جَمِيع كلومهم ... وأدفع عَنْهُم كل غرم وأغرم) وَاعْلَم أَن كَمَال الْعقل وَشرف النَّفس وعلو الهمة يبْعَث على الْحلم عِنْد هيجان الْغَضَب لأسباب خَمْسَة أَحدهَا الترفع عَن السفية والاستهانة بِهِ وإطراح جَانِبه الثَّانِي أَن يكون السَّفِيه مِمَّن لَهُ خدمَة سالفة وَحُرْمَة لَازِمَة فيراعي مِنْهُ ذَلِك فيحلم عَنهُ لأَجله الثَّالِث الرَّحْمَة لَهُ والرافة بِهِ لضَعْفه عَن الْقُدْرَة عَلَيْهِ الرَّابِع أَن يتألفه بالحلم ويتفضل عَلَيْهِ بِهِ

الْخَامِس الإستحياء من الله تَعَالَى وَمن الْحَاضِرين ان يُجيب السَّفِيه بِسَفَه مثله وَيَنْبَغِي للْملك ان يعرض على نَفسه هَذِه الْأَسْبَاب عِنْد هيجان الْغَضَب ليجلب إِلَيْهِ الْحلم وَاحِدًا مِنْهَا وَاعْلَم أَن الْحلم لَيْسَ بمحمود فِي كل المواطن لِأَنَّهُ قد يطْرَأ على الْملك من الْأُمُور مايكون الْحلم مَعهَا مفْسدَة والتراخي عَنْهَا مضرَّة لِأَن الرّعية على قسمَيْنِ قسم لَا يخْشَى فسادهم وَلَا يضرّهُ مَا صدر عَنْهُم فإطراح الْملك لَهُم والترفع عَن مجازاتهم أليق والاستهانة بهم أصون وَقسم لَا يُمكن للْملك إهمال أَمرهم وإطراح جانبهم إِمَّا لخوف شرهم أَو للُزُوم أَمرهم فردعهم بالأفعال الزاجرة أولى للْملك من الْحلم عَنْهُم حَتَّى لَا يزدادون بالحلم شرا وتمردا

وَقد سَأَلَ يزِيد بن مُعَاوِيَة أَبَاهُ فَقَالَ يَا امير الْمُؤمنِينَ هَل ذممت عَاقِبَة حلم قطّ أَو حمدت عَاقِبَة إقدام قطّ فَقَالَ مَا حلمت من لئيم قطّ وَإِن كَانَ وليا إِلَّا أعقبني ندما وَلَا أقدمت على عُقُوبَة كريم قطّ وَإِن كَانَ عدوا إِلَّا وأعقبني أسفا وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء إِن الْحلم يفْسد من اللَّئِيم بِقدر إِصْلَاحه من الْكَرِيم وَقَالَ بعض أهل الْعلم لَيْسَ الْحلم بمحمود فِي كل المواطن كَمَا أَن الْجَهْل لَيْسَ بمذموم فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَأنْشد (لَئِن كَانَ حلم الْمَرْء عون عَدو ... عَلَيْهِ فَإِن الْجَهْل أعنى وأروح) (وَفِي الْحلم ضعف والعقوبة قُوَّة ... إِذا كنت تخشى كيد من عَنهُ تصفح)

وَقَالَ لَهُم بن الْمهْدي (إِذا كنت بَين الْحلم وَالْجهل ماثلا ... وخيرت أَنِّي شِئْت فالحلم افضل) (وَلَكِن إِذا أنصفت من لَيْسَ منصفا ... وَلم يرض مِنْك الْحلم فالجهل أمثل) وَيَنْبَغِي للْملك ان يتلطف فِي تَدْبِير من هَذِه صفته على وَجه يحصل بِهِ الردع والزجر من غير مُبَالغَة فِي النكاية على مَا تَقْتَضِيه الْمصلحَة فِي تَدْبِير السياسة

الوصف الرابع عشر

العفاف الْوَصْف الرَّابِع عشر غعلم ان العفاف هُوَ ضبط النَّفس عَن الرذائل وكف الْجَوَارِح عَن الْأَذَى والمحارم وَذَلِكَ غَايَة السؤدد وَكَمَال الْمُرُوءَة وختام مَكَارِم الْأَخْلَاق قَالَت السيدة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ الْجَاهِلِيَّة لَا يسودون رجلا حَتَّى يجْتَمع فِيهِ سِتّ خِصَال ثمَّ زَادَت فِي الْإِسْلَام خصْلَة سبعا السماحة والنجدة وَالصَّبْر والحلم

وَالْبَيَان والتواضع وتمامهن فِي الْإِسْلَام العفاف وَكَانَ يُقَال من عف فِي جماله وَعدل فِي سُلْطَانه حشر فِي زمرة الْأَبْرَار وَقد قدمنَا فِي صدر الْكتاب ان من لَا يقدر على ضبط نَفسه من الرذائل لم يقدر على ضبط خاصته وهم نصب عَيْنَيْهِ وَمن لم يقدر على ضبط خاصته من أعوانه لم يقدر على ضبط رَعيته وهم فِي أقاصي بِلَاده فَإِذا عف نَفسه وجوارحه فقد انتظم امْر مَمْلَكَته فِي دُنْيَاهُ وينقلب إِلَى الْملك الدَّائِم فِي عقباه فَأَما أعفاف الْجَوَارِح فَهُوَ أَن يعف بَصَره عَن النّظر إِلَى الْمَحَارِم 348 - وَأَن يتْرك التطلع إِلَى مَا حجب عَنهُ وَنهي لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النظرة سهم مَسْمُوم من سِهَام إِبْلِيس فَمن تَركه من خوف الله آتَاهُ الله تَعَالَى إِيمَانًا يجد حلاوته فِي قلبه وَقَالَ أَبوهُ الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ من غض بَصَره عَن نظر الْحَرَام زوجه الله تَعَالَى من الْحور الْعين حَيْثُ أحب وَمن أطلع فَوق بَيت من بيُوت النَّاس حشر يَوْم الْقِيَامَة أعمى

وَأَن يتْرك التطلع إِلَى مَا حجب عَنهُ وَنهي لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النظرة سهم مَسْمُوم من سِهَام إِبْلِيس فَمن تَركه من خوف الله آتَاهُ الله تَعَالَى إِيمَانًا يجد حلاوته فِي قلبه وَقَالَ أَبوهُ الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ من غض بَصَره عَن نظر الْحَرَام زوجه الله تَعَالَى من الْحور الْعين حَيْثُ أحب وَمن أطلع فَوق بَيت من بيُوت النَّاس حشر يَوْم الْقِيَامَة أعمى

ثمَّ يعف سَمعه عَن سَماع الْكَلَام الْقَبِيح والغيبة والنميمة وَسَمَاع الْمحرم من الملاهي وينزه مَجْلِسه عَن جَمِيع ذَلِك

فقد قَالَ عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا نهينَا عَن الْغَيْبَة

وَالِاسْتِمَاع إِلَيْهَا والنميمة وَالِاسْتِمَاع لَهَا وَقَالَ ص = من اسْتمع إِلَى قينة صب فِي أُذُنَيْهِ الأنك يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يعف لِسَانه عَن قَول الْكَذِب والغيبة والنميمة والسخف من

الْكَلَام فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ضمن لي مَا بَين لحييْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ ضمنت لَهُ على الله الْجنَّة وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ وَهل يكب النَّاس على مناخرهم فِي النَّار إِلَّا حصائد ألسنتهم ثمَّ يعف يَده فَلَا يتَنَاوَل بهَا مَا لايحل لَهُ من أَمْوَال الرّعية

وَلَا يبسطها إِلَى مَحْظُور فِي عُقُوبَة وَلَا نكاية مُحرمَة فِي حد وَلَا تَعْزِير فقد قَالَ رَسُول الله

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حُرْمَة مَال الْمُسلم كَحُرْمَةِ دَمه

وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بئس الزَّاد إِلَى الْمعَاد الْعدوان على الْعباد ثمَّ قَالَ يعف رجلَيْهِ فَلَا يسْعَى بهما إِلَى مَكْرُوه فقد قَالَ مَسْرُوق مَا خطا العَبْد خطْوَة إِلَّا كتب لَهُ بهَا حَسَنَة أوسيئة ثمَّ يعف فرجه عَن مقارفة الزِّنَا وَذَلِكَ اصل العفاف وَتَمام الْمُرُوءَة وحصانة الدّين قَالَ رَسُول الله ص = من ضمن لي مَا بَين لحييْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ ضمنت لَهُ على الله الْجنَّة فَإِذا

فعل جَمِيع ذَلِك كَانَ عفيفا وَكَانَ للسيادة مُسْتَحقّا ولمزيد النِّعْمَة مستوجبا

الوصف الخامس عشر الوقار

الْوَصْف الْخَامِس عشر الْوَقار إعلم أَن وقار الْملك وسكينته من أعظم سياسات المملكة لما يتَعَلَّق بِهِ من إِظْهَار الهيبة وتعظيم الْحُرْمَة وَقيام الأبهة وإرهاب الْعَدو واهل الدعارة وسنوضح ذَلِك فِي الْبَاب السَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذِه أصُول مَكَارِم الخلاق ومحاسنها الَّتِي تقوم بهَا السياسة وتدوم بهَا الرياسة وسنزيدها إيضاحا بِذكر قبائح أضدادها فِي الْبَاب السَّادِس إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الباب السادس في معرفة الأوصاف الذميمة والنهي عنها

الْبَاب السَّادِس فِي معرفَة الْأَوْصَاف الذميمة وَالنَّهْي عَنْهَا لما ذكرنَا من مَكَارِم الْأَخْلَاق أوصافا جميلَة وأخلاقا حميدة يزْدَاد المتصف بهَا إجلالا وتعظيما أحببنا أَن نوضح مَا ذَكرْنَاهُ من محَاسِن بشرح قبائح أضدادها المذمومة الْخَارِجَة بِالنَّفسِ عَن حد الِاعْتِدَال الى مَا يعقبها من الِاضْطِرَاب فِي تَأتي الْحَال ليجتنبها الْملك ونختم هَذَا الْبَاب بِذكر أغراض ردية رُبمَا عرضت الْملك فَأَخْرَجته عَن قانون الِاعْتِدَال وَهِي خَمْسَة عشر وَصفا وَثَلَاثَة أَعْرَاض أما الْأَوْصَاف فَهِيَ الْجور وَالْجهل وَالْبخل والسرف وَالْخلف والكذل والغيبة وَالْغَضَب وَالْعجب وَالْكبر والحسد والعجلة والمزاح والضحك والغدر وَأما الْأَعْرَاض فَهِيَ الْهم وَالْغَم وَالسكر

الوصف الأول الجور

الْوَصْف الأول الْجور إعلم أَن الْجور هُوَ الْعُدُول عَن الْحق واستمراره يخل بنظام الطَّاعَة

من الرّعية ويبعثهم على ترك المناصحة وَعدم النُّصْرَة ويحملهم على نصب الغوائل وتربص الدَّوَائِر وَلَيْسَ شَيْء أسْرع فِي خراب الأَرْض وَلَا أفسد لضمائر الْخلق مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يقف على حد وَلَا يَنْتَهِي إِلَى

غَايَة وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من أشركه الله فِي سُلْطَانه فجار فِي حِكْمَة وَقَالَ ص = لن تهْلك الرّعية وَإِن كَانَت ظالمه اَوْ مسيئة إِذا كَانَت الْوُلَاة هادية مهدية وتهلك الرّعية وَإِن كَانَت هادية مهدية إِذا كَانَت الْوُلَاة ظالمة مسيئة وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى لانتقمن من

الظَّالِم فِي عاجله وآجله ولأنتقمن مِمَّن رأى مَظْلُوما فَقدر على ان ينصره فَلم يفعل وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بئس الزَّاد الى الْمعَاد الْعدوان على الْعباد وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْملك يبْقى على الْكفْر وَلَا يبْقى على الْجور وَقَالَ حَكِيم آخر الْجور مسْلبَةٌ للنعم وَالْبَغي مجلبة النقم

وَقَالَ افلاطون بِالْعَدْلِ ثبات الْأَشْيَاء وبالجور زَوَالهَا وَقَالَ أَيْضا إيَّاكُمْ والجور فَإِنَّهُ أَدَاة العطب وَعلة خراب الْبِلَاد ويحكي ان الرشيد

حبس ابا الْعَتَاهِيَة وَأقسم أَن لَا يُخرجهُ من حَبسه فَبَقيَ فِي السجْن مُدَّة طَوِيلَة فَلَمَّا ضَاقَ بِهِ الْأَمر كتب على حَائِط الْحَبْس هَذِه الأبيات (أما وَالله إِن الظُّلم شُؤْم ... وَمَا زَالَ الْمُسِيء هُوَ الظلوم (تنام وَلم تنم عَنْك المنايا ... تنبه للمنية يَا نَؤُم (إِلَى ديان يَوْم الدّين نمضي ... وَعند الله تَجْتَمِع الْخُصُوم) قَالَ فَأخْبر الرشيد بذلك فَبكى وأحضر أَبَا الْعَتَاهِيَة واستحله ألف دِينَار وَأطْلقهُ وَكفر عَن يَمِينه وأنشدني بَعضهم لأبي الْفَتْح البستي

(عَلَيْك بِالْعَدْلِ إِن وليت مملكة ... وَاحْذَرْ من الْجور فِيهَا غَايَة الحذر) 3 (فالملك يبْقى على الْكفْر البهيم وَلَا ... يبْقى مَعَ الْجور فِي بدور وَلَا حضر) وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء لَيْسَ للجائر جَار وَلَا تعمر لَهُ دَار وَقَالَ حَكِيم آخر اقْربْ الْأَشْيَاء صرعة الظلوم وأنفذ السِّهَام دَعْوَة الْمَظْلُوم وَقَالَ بَعضهم فِي الْمَعْنى شعرًا

(لَا تظلمن إِذا مَا كنت مقتدرا ... فالظلم مرتعة يَدْعُو إِلَى الوخم) (تنام عَيْنك والمظلوم منتبه ... يَدْعُو عَلَيْك وَعين الله لم تنم) ويحكي ان يزدجرد الأثيم لما كثر عسفه لرعيته وَاشْتَدَّ جوره عَلَيْهِم باغتصاب الْأَمْوَال وامتهانهم بِالْعَذَابِ وَطَالَ ذَلِك عَلَيْهِم اجْتمع جمَاعَة من المظلومين فِي بعض الهياكل ثمَّ دعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يريحهم مِنْهُ فَمَكثَ بعد ذَلِك خَمْسَة أَيَّام أَو سَبْعَة فَجَاءَهُ حَاجِبه فَأخْبرهُ أَن فرسا مستوحشا جمع محَاسِن صِفَات الْخَيل قد جَاءَ

يشْتَد عدوا حَتَّى وقف بِبَاب الْملك وَقد تهيبه النَّاس فَلم يجترىء اُحْدُ عَلَيْهِ وَقد نفرت مِنْهُ الْخَيل فَلَا تقرب مِنْهُ فَلَمَّا سمع ذَلِك يزدجرد خرج من قصره فَنظر الى الْفرس قَائِما فَرَأى منْظرًا عجيبا فَدَنَا مِنْهُ فخضع لَهُ الْفرس فخامره الْإِعْجَاب بِنَفسِهِ فمسك بناصيته فَمسح وَجهه ثمَّ أَمر بإسراجه وإلجامه ثمَّ اسْتَدَارَ بِهِ وَمسح كفله فرمحه رمحة خر مِنْهَا مَيتا وَقيل بل رَكبه وحركه فَجمع بِهِ وَسبق الْأَبْصَار عدوا حَتَّى أَتَى الْبَحْر فاقتحمه بِهِ فَكَانَ ذَلِك آخر مَا علم من خَبره وَقد يعلم قبح الْجور وعقلا وَشرعا فَيجب اجتنابه والورع عَنهُ لما فِيهِ من اختلال الرّعية واضطراب الدولة وخراب الْبِلَاد وَعَذَاب الْآخِرَة

الجهل

الْوَصْف الثَّانِي الْجَهْل إعلم أَن الْجَهْل من الْأَوْصَاف الذميمة والأخلاق الردية لَا سِيمَا بالملوك فَإِن صَاحبه لَا يعرى عَن الفضيحة بالأفعال القبيحة ورأيه أبدا فِي ضلال وتدبيره فِي وبال يقْتَرن بِهِ الزلل ويحيط بِهِ الفشل قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْجَهْل مَطِيَّة من ركبهَا زل وَمن صحبها ضل وَقَالَ آخر خير الْمَوَاهِب الْعقل وَشر المصائب الْجَهْل وَقيل الْجَاهِل يعْتَمد على أمله والعاقل يعْتَمد على عمله وَقيل نظر الْجَاهِل بِعَيْنِه وناظره وَنظر الْعَاقِل بِقَلْبِه وخاطره وَاعْلَم أَن للجاهل أوصافا تظهر عَلَيْهِ وخصالا ترشد إِلَيْهِ فَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ للجاهل خِصَال

يعرف بهَا يظلم من خالطه ويعتدي على من دونه ويتطاول على من فَوْقه وَيتَكَلَّم بِغَيْر تَدْبِير إِن عرضت عَلَيْهِ فتْنَة أردته وَإِذا رأى فضيله أعرض عَنْهَا وَقَالَ زِيَاد يعرف الْجَاهِل بِثَلَاث عَلَامَات كَثْرَة الإلتفات وَسُرْعَة الْإِجَابَة وتحريك رَأسه إِذا مَشى وَقَالَ بعض الْعلمَاء سِتّ خِصَال يعرف بهَا الْجَاهِل

الْغَضَب فِي كل شَيْء وَالْكَلَام فِي غير نفع والعطية فِي غير موضعهَا وإفشاء السِّرّ والثقة بِكُل أحد وَأَن لَا يعرف صديقه من عدوه وَحكى صَالح بن حسان قَالَ كَانَ عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ صديقا للوليد بن يزِيد بن عبد الْملك

وَكَانَ عبد الله يَأْتِيهِ فَخلوا يَوْمًا يلعبان الشطرنج فَأَتَاهُ الْحَاجِب فَقَالَ

إِن بِالْبَابِ رجلا سيدا من أخوالك من ثَقِيف قدم غازيا وَقد أحب التَّسْلِيم عَلَيْك قَالَ دَعه سَاعَة حَتَّى نفرغ من دستنا قَالَ عبد الله وَمَا عَلَيْك من ذَلِك إِن حضر ائْذَنْ لَهُ قَالَ لما علمت أَن اللّعب مُتَّجه عَلَيْك أردْت أَن تفسده قَالَ عبد الله فَادع منديلا وَضعه عَلَيْهَا حَتَّى يدْخل الرجل فَيسلم عَلَيْك ونعود إِلَى تَمام الدست فَفعل ذَلِك ثمَّ قَالَ إئذن لَهُ فَدخل رجل مشمر لَهُ هَيْئَة حَسَنَة وَعَلِيهِ عِمَامَة فاخرة وَبَين عَيْنَيْهِ أثر السُّجُود وَقد رجل لحيته بِالْحِنَّاءِ فَقَالَ أصلح الله الْأَمِير قد قدمت غازيا فَكرِهت أَن أجاوزك حَتَّى أَقْْضِي حَقك قَالَ حياك الله وَبَارك فِيك ثمَّ سكت سَاعَة فَلَمَّا أنس بِهِ أقبل عَلَيْهِ الْوَلِيد وَقَالَ يَا خَالِي هَل جمعت الْقُرْآن قَالَ لَا قد كَانَت شَغَلَتْنَا عَنهُ شواغل قَالَ

فَهَل حفظت من سنة رَسُول الله ومغازيه وَأَحَادِيثه شَيْئا قَالَ قد كَانَت أَمْوَالنَا تشغلنا عَن ذَلِك قَالَ فأحاديث الْعَرَب وأيامها وَأَشْعَارهَا قَالَ لَا لِأَنِّي كنت فِي شغل عَن ذَلِك قَالَ فأحاديث الْعَجم وآدابها قَالَ إِن ذَلِك لشَيْء مَا طلبته قَالَ فَهَل عرفت من أَقْوَال الْحُكَمَاء وسير الْمُلُوك مَا تسوس بِهِ قَوْمك قَالَ لَا إِن ذَلِك لشَيْء لم أكن أبحث عَنهُ قَالَ فَاسْتَدَارَ الْوَلِيد وَرفع المنديل وَقَالَ شاهك فَقَالَ عبد الله سُبْحَانَ الله قَالَ الْوَلِيد لَا يستحي مِنْهُ وَالله مَا مَعنا فِي الْبَيْت إِنْسَان فَلَمَّا خرج ذَلِك الرجل قَالَ الْوَلِيد أما علمت أَن الْجُهَّال كالأنعام لَا يستحي مِنْهُم

الوصف الثالث البخل

الْوَصْف الثَّالِث الْبُخْل إعلم أَن الْبُخْل من أَذمّ الْخَلَائق وَأنكر الطرائق نهى عَنهُ الشَّرْع وَقضى بقبحه الْعقل وَحَقِيقَته منع الْحُقُوق الْوَاجِبَة وتقتير النَّفَقَات الْمُسْتَحقَّة وَفِي الْعرف وَالْعَادَة هُوَ خزن المَال وَمنع المسترفدين من فضوله وَاعْلَم أَن الْبَخِيل لَا يزَال مسلوب الهيبه مَفْقُود الرهبة ثقيلا على

النُّفُوس بغيضا إِلَى الْقُلُوب ترمقه الْأَبْصَار بالإحتقار وبقلة الْوَقار وَذَلِكَ أَن الْبُخْل يَدعُوهُ إِلَى شدَّة الكدح وخزن المَال ويمنعه من إِيصَال الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا وَهُوَ يُغطي الْفَضَائِل وَيظْهر الرذائل أَنْشدني بعض أهل الْعلم (وَيظْهر عيب الْمَرْء فِي النَّاس بخله ... ويستره عَنْهُم جَمِيعًا سخاؤه)

(تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب والسخاء غطاؤه) وَقد ينْتج عَن الْبُخْل أَرْبَعَة أَخْلَاق مذمومة كل خلق مِنْهَا فِي نِهَايَة الْقبْح وَهِي الْحِرْص والشره وَسُوء الظَّن بِاللَّه وَمنع الْحُقُوق أما الْحِرْص فَهُوَ شدَّة الكدح والإسراف فِي الكدح والإسراف فِي الطّلب وَالْمُبَالغَة فِي جمع المَال وَهَذَا رُبمَا أفْضى بِصَاحِبِهِ إِلَى اقتحام الْحَرَام وَأخذ الشُّبُهَات فَكَانَ مذموما وَأما الشره فَهُوَ اسْتِقْلَال الْكِفَايَة والاستكثار من المَال لغير حَاجَة وَذَلِكَ مَذْمُوم لنزوعه إِلَى اللؤم

وَأما كَونه يسيء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى فَإِن الْبَخِيل يعْتَقد أَن المَال يذهبه الْإِنْفَاق وَلَيْسَ خلف من الله تَعَالَى وَلَا عوض يرجع إِلَيْهِ فَيحصل على عدم الثِّقَة بِاللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ غَايَة المذمة والقبح وَأما منع الْحُقُوق فَإِن نفس الْبَخِيل لَا تسمح بِفِرَاق المَال إِذْ هُوَ محبوبها وَنِهَايَة مطلوبها فَلَا تنقاد إِلَى إِيصَال الْحق وَلَا تذعن بإنصاف الْخلق وَإِذا كَانَ الْبَخِيل بِهَذِهِ الْأَوْصَاف فَلَيْسَ عِنْده خير مَوْجُود وَلَا صَلَاح مأمول وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السخي قريب من الله قريب من الْجنَّة قريب من النَّاس بعيد من النَّار والبخيل بعيد من الله بعيد من النَّاس بعيد من الْجنَّة قريب من النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام طَعَام الْجواد دَوَاء وَطَعَام الْبَخِيل

دَاء وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام بشر مَال الْبَخِيل بحادث أَو وَارِث أَنْشدني بعض أهل الْعلم (يفني الْبَخِيل بِجمع المَال مدَّته ... وللحوادث والوراث مَا يدع) (كدودة القز مَا تبنيه يهلكها ... وَغَيرهَا بِالَّذِي تبنيه ينْتَفع)

قَالَ بعض الْحُكَمَاء الْبُخْل جِلْبَاب المسكنة وَقَالَ حَكِيم آخر لَا يدْخل الْبُخْل مسكنا إِلَّا أعقبه الْحَسْرَة وَلَا يدْخل الطمع مدخلًا إِلَّا أعقبته المذلة وَلَا يدْخل الشره مدخلًا إِلَّا أعقبه الْحيرَة وَقيل الْبَخِيل لَيْسَ لَهُ خَلِيل وَقيل المَال كَالْمَاءِ فَمن استكثر مِنْهُ وَلم يَجْعَل لَهُ مسربا يتسرب فِيهِ مَا زَاد على الْقدر الْكَافِي غرقه أَنْشدني بَعضهم (أَرَاك تؤمل حسن الثَّنَاء ... وَلم يرْزق الله ذَاك الْبَخِيل) (وَكَيف يسود أَخُو بطنة ... يمن كثيرا وَيُعْطِي قَلِيلا)

الوصف الرابع السرف

الْوَصْف الرَّابِع السَّرف إعلم أَن السَّرف فِي إِنْفَاق المَال وصف خَارج عَن حد السخاء الْمَحْمُود مجانس الْبُخْل فِي الذَّم والقبح لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَاوَى بَين حالتهيما فِي النَّهْي فَقَالَ {وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط فتقعد ملوما محسورا}

فَنهى عَن بسطها سَرفًا كَمَا نهى عَن قبضهَا بخلا فَدلَّ ذَلِك على استوائهما ذما واتفاقهما لوما وَلِأَن المسرف فِي عطائه المبذر فِي سخائه لَا يفرق بَين مَحْمُود ومذموم وَلَا يُمَيّز بَين مُسْتَحقّ ومحروم وَهَذِه الْحَال تدل على خور الطَّبْع وطيش الرَّأْي وقصور التَّدْبِير وَذَلِكَ لَا يَلِيق بالملوك وَلِأَن بَيت المَال يقل عَن الْحُقُوق وَيقصر عَن الْوَاجِبَات فَإِذا أسرف فِي بذله فقد وضع الشَّيْء

بِزِيَادَتِهِ على قدر الْمُسْتَحق وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْخَطَأ فِي إِعْطَاء مَا لَا يَنْبَغِي وَمنع مَا يَنْبَغِي وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحْمَة الله الْحَلَال لَا يحْتَمل السَّرف وَقَالَ بعض الْعلمَاء ثَلَاثَة ترْتَفع عَنْهُم الرَّحْمَة وتنزل بهم الشماتة فِي ثَلَاثَة أَحْوَال أحدهم المبذر لمَاله حِين تنزل بِهِ الْفَاقَة الثَّانِي الشرة النهم حِين تصيبه المصيبه

الثَّالِث الظَّالِم المعتدي حِين تنزل بِهِ الْعقُوبَة أَنْشدني بَعضهم (وَكَانَ المَال بأتينا فَكُنَّا ... نبذره وَلَيْسَ لنا عقول) (فَلَمَّا أَن تولى المَال عَنَّا ... عقلنا حِين لَيْسَ لنا فضول)

الوصف الخامس خلف الميعاد

الْوَصْف الْخَامِس خلف الميعاد إعلم أَن خلف الميعاد بِهِ اللئام وتأباه الْكِرَام لقبح صوري وشناعة سمعته وَهُوَ من أَرْكَان النِّفَاق ومساوىء الْأَخْلَاق قَالَ رَسُول الله ص = عَلامَة الْمُنَافِق ثَلَاث

إِذا حدث كذب وَإِذا وعد اخلف وَإِذا ائْتمن خَان وَقَالَ طَلْحَة الطلحات مَا بَات رجل مني على وعد إِلَّا وَبكر إِلَى الظفر بحاجته وبكرت إِلَى قَضَائهَا تخوفا من عَارض الْخلف وَإِن الْخلف من النِّفَاق وَلَيْسَ من أَخْلَاق الْكِرَام قَالَ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز لَا يكَاد يُوجب حَاجَة توقيا للخلف

وَقَالَ دواد بن عبد الله فِي وَصِيَّة أنْجز إِذا وعدت وَاتَّقِ الْخلف فَإِنَّهُ يزِيل الهيبة وَيذْهب ببهاء الْوَجْه قَالَ بعض الْحُكَمَاء من أخلف وعده فقد صعر خَدّه وجفاه الْقَرِيب وتحاماه الْغَرِيب انشدني بَعضهم (لَا تكسبن عَدَاوَة ومذمة بعد الصفاء ... فببذل وعد مخلف أصل الْعَدَاوَة والجفاء) وَكَانَ يُقَال الْخلف نتيجة اللؤم وأقبح كل خلق مَذْمُوم

وَاعْلَم أَن الْخلف من فروع الْكَذِب وسنذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الوصف السادس الكذب

الْوَصْف السَّادِس الْكَذِب اعْلَم أَن الْكَذِب وصف ذميم وَخلق لئيم لَا يَنْفَكّ صَاحبه عَن الفضيحة لمناقضته كَلَامه بالسهو وَلَا يكَاد متعاطيه تسمو لَهُ رُتْبَة وَلَا تعلو لَهُ منزلَة لاحتقار النَّاس لَهُ واستصغارهم إِيَّاه ونفورهم عَنهُ وَقلة ركونهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِن عَاقد لم يوثق بعقده وَإِن نزل أوعد لم يركن إِلَى وعده وَإِن ذكر شَيْئا تسارعت إِلَيْهِ التُّهْمَة وَإِن نزل بِهِ مَكْرُوه تراجعت عَنهُ الرَّحْمَة كل ذَلِك لما قد عَلمته النُّفُوس

من مهانته وَقلة أَمَانَته وَإِن كَانَ صَادِقا وَفِي الْمَعْنى بَيت مُفْرد (وَمن آفَة الْكذَّاب نِسْيَان كذبه ... وتلقاه ذَا حفظ إِذا كَانَ صَادِقا) وَقد سلب الله تَعَالَى وصف الْكَذِب عَن الْمُؤمنِينَ فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ} وَقَالَ رَسُول الله ص الْكَذِب مُجَانب الْإِيمَان

وَكَانَ يُقَال لايقوم على الْكَذِب دين وَلَا دنيا وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى بعض عماله إياك أَن تستعين بكذوب فِي أَمر تحْتَاج فِيهِ إِلَى الْحِيلَة فَإنَّك إِن تُطِع الكذوب تهْلك وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان اللّحن هجنة الشريف

وَالْعجب آفَة الرَّأْي وَالْكذب فَسَاد كل شَيْء وَحكي أَن قَيْصر كتب إِلَى كسْرَى أَن عرفني بِمَا ضبطت بِهِ ملكك فَكتب إِلَيْهِ بثمان خِصَال لم أكذب فِي جد ولاهزل قطّ وَلم أخلف فِي وعد وَلَا وَعِيد قطّ وَوليت للعنا وركنت لَا للهوى وعاقبت للأدب لَا للغضب وأشربت قُلُوب الرّعية الْمحبَّة من غير جرْأَة وأودعت قلوبها هَيْبَة من غير ضغينة وغمرت بالكفاف ومنعت الفضول وَقيل لعدي بن حَاتِم أَي الْأَشْيَاء أثقل عَلَيْك قَالَ

تجربة الصّديق ورد السَّائِل قيل فَأَي الْأَشْيَاء أوضع للرِّجَال قَالَ كَثْرَة الْكَلَام والثقة بِكُل أحد وَاللِّسَان الكذوب وَقيل الصدْق عز وَالْكذب ذل وَكَانَ يُقَال الْكَذِب من ذهَاب الْمُرُوءَة ومهانة النَّفس وَقلة الْحيَاء أَنْشدني بَعضهم فِي ذَلِك (لايكذب الْمَرْء إِلَّا من مهانته ... أَو عَادَة السوء أَو من قلَّة الْأَدَب)

(فجيفة الْكَلْب عِنْدِي خير رَائِحَة ... من كذبة الْمَرْء فِي جد وَفِي لعب) وَقَالَ آخر (وَمَا شَيْء إِذا فَكرت فِيهِ ... با ذهب للمروءة وَالْجمال) (من الْكَذِب الَّذِي لاخير فِيهِ ... وَأبْعد بالبهاء من الرِّجَال) وَاعْلَم أَن دواعي الْكَذِب ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا أَن يجتلب بِهِ نفعا أَو يدْفع بِهِ ضَرَرا فَيرى أَن الْكَذِب أسلم لَهُ أَو أغنم فيرخص لنَفسِهِ فِيهِ لأجل ذَلِك الثَّانِي أَن يُؤثر أَن يكون حَدِيثه مستعذبا وَكَلَامه مستظرفا وَلَا يجد من الصدْق مَا يزين بِهِ حَدِيثه فيستمد من الْكَذِب الثَّالِث هُوَ أَن يقْصد بِالْكَذِبِ وصمة عدوه فيصمه بالقبائح وينسب إِلَيْهِ الفضائح وَهَذِه الدَّوَاعِي تأباها النُّفُوس الأبية والهمم

الْعلية سِيمَا نفوس الْمُلُوك لشرفها عَن الرذائل وترفعها عَن النقائص إِلَّا أَنه رُبمَا مست الْحَاجة إِلَى اسْتِعْمَال قَلِيل الْكَذِب فِي كيد الْأَعْدَاء وتألف الْبعدَاء فَإِن مثله مثل السمُوم القاتلة تقتل على انفرادها وَتدْخل فِي بعض الْأَدْوِيَة المركبة فَتَصِير دَوَاء شافيا

الوصف السابع الغيبة

الْوَصْف السَّابِع الْغَيْبَة إعلم أَن الْغَيْبَة مَعَ تَحْرِيمهَا شرعا وعقلا هِيَ عين الْعَجز وَنَفس اللؤم وَدَلِيل النَّقْص تأباها الْعُقُول الْكَامِلَة والنفوس الفاضلة لما فِيهَا من انحطاط الرُّتْبَة وانخفاض الْمنزلَة قَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن الْغَيْبَة إدام كلاب النَّاس

وَقَالَ عدي بن حَاتِم الْغَيْبَة مرعى اللئام قَالَ وَسمع قُتَيْبَة بن مُسلم رجلا يغتاب رجلا فَقَالَ أما وَالله لقد تلفظت بمضغة ظَالِما لفظتها الْكِرَام وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من أَكثر من عُيُوب النَّاس سهل عَلَيْهِ الْإِكْثَار لِأَنَّهُ إِنَّمَا يطْلبهَا بِقدر مَا فِيهِ مِنْهَا وَلَقَد أحسن الْقَائِل حَيْثُ يَقُول

(إِذا أَنْت عبت النَّاس عابوا وَأَكْثرُوا ... عَلَيْك وأبدوا مِنْك مَا كنت تستر) (إِذا مَا ذكرت النَّاس فاترك عيوبهم ... فَلَا عيب إِلَّا دون عيبك يذكر) (فَإِن عبت قوما بِالَّذِي فِيك مثله ... فَذَلِك عِنْد الله وَالنَّاس أكبر) (وَإِن عبت قوما بِالَّذِي فِيك مثله ... فَكيف يعيب العور من هُوَ أَعور) وَقَالَ الْوَلِيد بن عتبَة بن أبي سُفْيَان كنت أَسِير مَعَ أبي فِي موكب فلصق إِلَيّ رجل وَجعل يغتاب رجلا غَائِبا فَسَمعهُ أبي فَالْتَفت إِلَيّ وَقَالَ وَيحك أما علمت أَن الْمُلُوك ينزهون أسماعهم عَن الْخَنَا كَمَا ينزهون ألسنتهم عَن الْكَلَام بِهِ فَإِن المستمع شريك الْقَائِل وَقد نظر إِلَى أَخبث مَا فِي وعائه فأفرغه فِي وعائك ويحكى أَن بهْرَام ملك الْعَجم ولى قائدا من قواده

تخوم أرضه مِمَّا يَلِي أَرض التّرْك فَبَلغهُ عَنهُ أَنه يكثر من غيبَة خاقَان فَقَالَ هَذَا دَلِيل عَجزه وَضَعفه عَن مقاومته ثمَّ عَزله وَولى غَيره وَقَالَ أَبُو الْأسود فِي ذَلِك (وَذي حسد يغتابني حَيْثُ لَا يرى ... مَكَاني ويثني صَالحا حَيْثُ أسمع) (تورعت أَن أغتابه من وَرَائه ... بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَهُوَ لَا يتورع)

الوصف الثامن الغضب

الْوَصْف الثَّامِن الْغَضَب إعلم أَن الْغَضَب وصف طبعي رَكبه الله فِي الْحَيَوَان ليَكُون لَهُ بِهِ الانتقام من المؤذي لَهُ وَسَببه هجوم مَا تكرههُ النَّفس مِمَّن هُوَ دونهَا والحادث عَن الْغَضَب السطوة والإنتقام فَإِذا أفرط وَجَاوَزَ حَده سلب الْعقل وحجب عَن صَوَاب الرَّأْي فَيصير

صَاحبه مَقْطُوع الْحجَّة قَلِيل الْحِيلَة وَرُبمَا عَاد ضَرَر الْغَضَب على الغضبان دون المغضوب عَلَيْهِ وَقد يظْهر ذَلِك فِي نَفسه وَجَسَده والعاقل فِي حَال شدَّة غَضَبه لَيْسَ بَينه وَبَين الْمَجْنُون فرق ولهذه الْأَوْصَاف صَار قبيحا مذموما وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَيْسَ الشَّديد بالصرعة إِنَّمَا الشَّديد من ملك نَفسه عِنْد الْغَضَب وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من كظم غيظا وَهُوَ قَادر على إِنْفَاذه مَلأ الله قلبه أمنا وإيمانا

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْغَضَب أَوله جُنُون وَآخره نَدم وَقَالَ آخر الْغَصْب على من لَا تملك عجز وعَلى من تملك لؤم وَكَانَ يُقَال مَا كثر من كثره الْبَغي إياك وَعزة الْغَضَب فَإِنَّهَا تُفْضِي بك إِلَى ذل الْعذر وَكَانَ يُقَال لَيْسَ للْملك أَن يغْضب مَا كثر من كثره الْبَغي وَلَا قوي من قواه الظُّلم وَلَا ملك من ملكه الْغَضَب

وَكَانَ يُقَال لَيْسَ للْملك أَن يغْضب لِأَن الْقُدْرَة من وَرَاء حَاجته وَلَيْسَ لَهُ أَن يكذب لِأَنَّهُ لَا يقدر أحد على استكراهه على غير مَا يُرِيد وَلَيْسَ لَهُ أَن يكون حقودا لِأَن خطره عَظِيم عَن المجازاة وَاعْلَم أَن الَّذين كَانَ مِنْهُم الْفِعْل الْقَبِيح لشدَّة الإنتقام فِي وَقت غيظهم إِنَّمَا كَانَ ذَلِك مِنْهُم لفقد عُقُولهمْ فِي ذَلِك الْوَقْت فَيَنْبَغِي لمن ثار بِهِ عِنْد هجوم مَا يغْضب أَن يكف صورته بحزمه ويطفىء ناره بحلمه ليسلم من النَّدَم فِي العواقب وَالَّذِي يسكن الْغَضَب عِنْد هيجانه خَمْسَة أَسبَاب أَحدهمَا أَن يذكر الله تَعَالَى عِنْد غَضَبه فَإِن ذَلِك يَدعُوهُ إِلَى الْخَوْف مِنْهُ وَالْخَوْف يَبْعَثهُ على الطَّاعَة أَو بِالْعَفو فيزول عَنهُ الْغَضَب فقد ذكر

أَنه مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة يَا بن آدم أذكرني حِين تغْضب أذكرك حِين أغضب وَقيل إِن ملكا من مُلُوك الْفرس كتب كتابا وناوله لوزيره وَقَالَ لَهُ إِذا رَأَيْتنِي قد غضِبت فَاتْرُكْهُ بَين يَدي وَكَانَ فِيهِ مَكْتُوب مَا لَك وَالْغَضَب إِنَّمَا أَنْت شَرّ إرحم من فِي الأَرْض يَرْحَمك من فِي السَّمَاء

قَالَ فَكَانَ إِذا غضب ذَلِك الْملك نَاوَلَهُ الْوَزير الْكتاب فيسكن غَضَبه وَقيل إِن ملكا من مُلُوك الرّوم أَخذ جمجمة ملك كَانَ قبله فوضعها فِي طشت وناولها بعض حجابه وَقَالَ لَهُ إِذا رَأَيْتنِي قد غضِبت على إِنْسَان فضعها بَين يَدي قَالَ فَكَانَ إِذا غضب وَضعهَا الْحَاجِب بَين يَدَيْهِ فيسكن غَضَبه السَّبَب الثَّانِي أَن يتَذَكَّر عِنْد الْغَضَب ثَوَاب الْعَفو وَحسن جَزَاء الصفح فيقهر نَفسه على ردع الْغَضَب رَغْبَة فِي الثَّوَاب وَمَا وعد الله بِهِ العافين عَن النَّاس فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة من لَهُ أجر على الله تَعَالَى فَليقمْ فَيقوم الْعَافُونَ عَن النَّاس

ثمَّ تلى فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله الثَّالِث أَن يتَذَكَّر إنعطاف الْقُلُوب عَلَيْهِ وميل النُّفُوس إِلَيْهِ عِنْد الْعَفو وكظم الغيظ فيمنعه التألف وَجَمِيل الثَّنَاء من إِنْفَاذ الْغَضَب الرَّابِع أَن ينْتَقل من الْحَالة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا إِلَى حَالَة أُخْرَى فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك زَالَ عَنهُ الْغَضَب وَقد كَانَ شعار الْمَأْمُون إِذا غضب الْخَامِس أَن يتَذَكَّر مَا يؤول إِلَيْهِ الْغَضَب من النَّدَم ومذمة الانتقام لَا سِيمَا إِنْفَاذه فِيمَن لَا يَسْتَطِيع الدّفع عَن نَفسه فَهَذِهِ الْأَسْبَاب الْخَمْسَة إِذا تدبرها الْملك وتذكرها فِي أَوْقَات الرِّضَا كَانَ أَحْرَى أَن يتذكرها فِي أَوْقَات الْغَضَب فتصده عَن إِنْفَاذ الْفِعْل والإفراط فِي النكال والانتقام

الوصف التاسع العجب

الْوَصْف التَّاسِع الْعجب اعْلَم أَن الْعجب وصف رَدِيء يسلب الْفَضَائِل ويجلب الرذائل وَيظْهر الْحمل وَيُوجب المقت ويخفي المحاسن ويشهر المساوىء ويفضي إِلَى المهالك قَالَ الله تَعَالَى {وَيَوْم حنين إِذْ}

أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وليتم مُدبرين وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ الْإِعْجَاب ضد الصَّوَاب وَآفَة الْأَلْبَاب وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء إعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ أحد حساد عقله وَقَالَ آخر الْعجب حمق وتيه ينتجه الْكبر وَكَانَ يُقَال مَا أعجب بِنَفسِهِ عَاقل لِأَن الْعجب فضل حمق

لم يدر صَاحبه أَيْن يذهب بِهِ فيصرفه إِلَى الْكبر وَحكي أَن رجلا نظر إِلَى الْمُهلب بن أبي صفرَة وَعَلِيهِ حلَّة فاخرة يسحبها وَيَمْشي بالخيلاء فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله مَا هَذِه المشية الَّتِي يبغضها الله وَرَسُوله فَقَالَ لَهُ الْمُهلب أَو مَا تعرفنِي قَالَ بلَى أعرفك أَو لَك نُطْفَة مذرة وآخرك جيفة قذرة وحياتك فِيمَا بَين ذَلِك بَوْل وعذرة قَالَ فَخَجِلَ الْمُهلب وأطرق مِنْهُ حَيَاء وَقد نظم هَذَا الْكَلَام مَحْمُود الْوراق فَقَالَ (عجبت من معجب بصورته ... وَكَانَ بالْأَمْس نُطْفَة مذرة)

(وَفِي غَد بعد حسن هَيئته ... يصير فِي اللَّحْد جيفة قذرة) (وَهُوَ على تيهه وتخوته ... مَا بَين جَنْبَيْهِ يحمل الْعذرَة) وَقَالَ بعض البلغاء عجب الْملك بتدبيره مفض بِهِ إِلَى تدميره أَنْشدني بَعضهم (إِذا الْمَرْء لم يرض مَا أمكنه ... وَلم يَأْتِ من أمره أزينه) (وأعجب بالعجب فاقتاده ... وتاه بِهِ التيه فَاسْتَحْسَنَهُ)

(فَدَعْهُ فقد سَاءَ تَدْبيره ... سيضحك يَوْمًا ويبكي سنه) وَاعْلَم أَن من لم يحسم عَنهُ أَسبَاب الْعجب المفضية إِلَيْهِ وَقع فِيهِ فَيهْلك فِي غَالب الْأَحْوَال وَمن أقوى أَسبَابه مدح المتملقين الَّذين يجْعَلُونَ التملق دأبهم والنفاق مسكنهم فَيمْنَع نَفسه من تَصْدِيق الْمَدْح ليسَا فَإِن للنَّفس ميلًا إِلَى سَماع الْمَدْح وَمَتى كثر الْمَدْح وَجَاوَزَ الْحَد صَار كذبا وملقا وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إيَّاكُمْ وَكَثْرَة الْمَدْح فَإِنَّهُ الذّبْح

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من رَضِي أَن يمدح بِمَا لَيْسَ فِيهِ فقد أعَان الساخر مِنْهُ وَقَالَ بعض الْعلمَاء قبح باللبيب أَن يعجب بِنَفسِهِ عِنْد مدح المادح أَو يغْضب عِنْد سَماع قدح القادح قبل أَن يتفقد أَعماله وَيعلم مَا عَلَيْهِ وَمَا لَهُ وَلَا يتْرك النِّسَاء أفضل مِنْهُ فَإِن إِحْدَاهُنَّ إِذا وصف وَجههَا بِمَا تحب أَو تكره امتحنت ذَلِك بالاطلاع فِي الْمرْآة وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للعاقل أَن يمْتَحن أَحْوَاله بِأَن يكل نَفسه إِلَى غَيره من أهل الثِّقَة وَالْأَمَانَة وَالْأَدب والديانة فِي اختبار محاسنه ومساويه وعيوب نَفسه الَّتِي فِيهِ ويستنصحهم فِي ذَلِك فَإِن الْإِنْسَان قد يخفى عَلَيْهِ عيب نَفسه لاستيلاء الْهوى على عقله فَإِذا أزاح عَن نَفسه ذَلِك فقد نَالَ غَايَة الشّرف بانعطاف الْقُلُوب عَلَيْهِ وميلها إِلَيْهِ

الوصف العاشر الكبر

الْوَصْف الْعَاشِر الْكبر اعْلَم أَن الْكبر خَارج بِالنَّفسِ عَن حد الِاعْتِدَال وَحَقِيقَته استعظام النَّفس واحتقار الْغَيْر وَسَببه علو الْيَد والتمييز بالمنصب وَالنّسب أَو الْفضل وَمَتى جَاوز حَده وتعدى طوره

إِلَى الْبَغي والعتو سلب الدّين وأفسد الْإِيمَان وخفض الْمنزلَة وَحط الرُّتْبَة لِأَنَّهُ يطمس من المحاسن مَا انْتَشَر ويسلب من الْفَضَائِل مَا اشْتهر ويوغر الصُّدُور وَيُوجب النفور وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَمِّهِ

الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنهَاك عَن الشّرك بِاللَّه وَعَن الْكبر فَإِن الله تَعَالَى يحتجب عَنْهُمَا وَحكي أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام جلس يَوْمًا على بساطة بجُنُوده من الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير والوحش ثمَّ أَمر الرّيح فَرفعت الْبسَاط نَحوا السَّمَاء حَتَّى سمعُوا زجل اللائكة بالتسبيح وسمعوا صَوت قَائِل يَقُول لَو كَانَ فِي قلب صَاحبكُم مِثْقَال ذرة من كبر لخسفنا بِهِ اكثر مَا رفعناه وَقَالَ بعض الْعلمَاء إِن للدولة أمراضا يخَاف أَن تَمُوت بهَا أخطرها أَرْبَعَة أَشْيَاء أَحدهَا مَا يعرض للْملك من الْكبر الثَّانِي مَا يعرض لَهُ من

الْغَضَب فَإِن دولته فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ تضطرب لِخُرُوجِهِ عَن حُدُود السياسة الثَّالِث مَا يعرض لَهُ من الْحِرْص فَإِنَّهُ إِذا حرص ظلم وعسف الرّعية الرَّابِع هيجان الرّعية فَإِذا عرض لَهُ شَيْء من ذَلِك فليبادر الحسم وَحكى الْمَدَائِنِي قَالَ رَأَيْت رجلا بِعَرَفَات وَهُوَ على بغلة بمركب من ذهب والغلمان والخدم بَين يَدَيْهِ وَالنَّاس حوله وَهُوَ لَا يعبأ بِأحد مِنْهُم فَنَظَرت إِلَيْهِ مُتَعَجِّبا وَقلت لَهُ يَا هَذَا لَيْسَ هَذَا مَوضِع التكبر إِنَّمَا هُوَ مَوضِع التَّعْظِيم والخشوع فَانْزِل عَن بغلتك واصرف الخدم من بَين يَديك فِي هَذَا الْوَقْت وَأَقْبل على الله تَعَالَى بخضوع وخشوع فَإِنَّهُ يقبل عَلَيْك برحمتة ورضوان قَالَ فَلم يلْتَفت إِلَى وَتركته وانصرفت فَلَمَّا كَانَ الْعَام الْمقبل عبرت الجسر بِبَغْدَاد فَوجدت ذَلِك الرجل أعمى يتَصَدَّق من

النَّاس فَقلت لَهُ أَنْت الَّذِي كنت فِي الْعَام الْمَاضِي على بغلة بِعَرَفَات قَالَ نعم قَالَ فَمَا بالك قَالَ لما تكبرت فِي مَوضِع يتواضع النَّاس فِيهِ وضعني الله فِي مَوضِع يتكبر عَن مثله النَّاس أَنْشدني بعض ال الْأَدَب (يَا مظهر الْكبر إعجابا بصورته ... مهلا فَإنَّك بعد الْكبر مسلوب) (لَو فكر النَّاس فِيمَا فِي بطونهم ... مَا استشعر الْكبر شُبَّان وَلَا شيب) (يَا ابْن التُّرَاب ومأكول التُّرَاب غَدا ... أقصر فَإنَّك مَأْكُول ومشروب) وَاعْلَم أَن من قطع أَسبَاب الْكبر عَنهُ وحسم مواده واعتاض بِهِ

تواضعا وتعظيما لله سُبْحَانَهُ وخشوعا وتعظيا وَتَعَالَى فقد أكد أَسبَاب ومواد النعم وأزاح عَنهُ المقت واستعطف إِلَيْهِ الْقُلُوب

الوصف الحادي عشر الحسد

الْوَصْف الْحَادِي عشر الْحَسَد إعلم أَن الْحَسَد دَاء عَظِيم من أدواء النَّفس لَا يشفى سقيمه وَلَا يرقى سليمه مَعَ مَا فِيهِ من إِفْسَاد الدّين وإضرار الْبدن لِأَن الْحَاسِد يَدُوم همه وَيكثر غمَّة ويذوب جِسْمه وَيذْهل عقله عَن صَوَاب الرَّأْي ويشتغل قلبه عَن صَحِيح الْفِكر وَهُوَ أقبح من الْبُخْل لِأَن الْحَاسِد يحب أَن لَا ينَال أحد شَيْئا من مَالا يملكهُ فَكَانَ أعظم

قبحا وَأَشد ذما وَلَيْسَ شَيْء أعظم ضَرَرا من الْحَسَد قَالَ رَسُول الله ص = إِن الْحَسَد يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب قَالَ بعض الْحُكَمَاء يَكْفِيك من الحسود أَنه يغتنم وَقت سرورك وَإِذا رزق الله الْمَحْسُود نعْمَة كَانَت على الْحَاسِد نقمة وَكَانَ يُقَال الْحَسَد نَار فِي الْجَسَد

وَكتب بعض الْحُكَمَاء إِلَى صديق لَهُ وَقد حسدك من لاينام دون الانتقام وطلبك من لَا يقصر دون الظفر بك فَلْيَكُن حذرك بعد الثِّقَة بِاللَّه تَعَالَى على حسب ذَلِك وَقيل كَانَ مَكْتُوبًا على فص خَاتم بعض الْمُلُوك الحسود لَا يسود أبدا وَالَّذِي خبث لَا يخرج إِلَّا نكدا وَقَالَ عَليّ بن ابي طَالب كرم الله وَجهه لن يصل الْحَسَد الى الْمَحْسُود حَتَّى يقتل الْحَاسِد نَفسه بغم دَائِم وعقل هائم وهم لَازم وَمَا رايت ظَالِما يتشبه بالمظلوم إِلَّا الْحَاسِد أَنْشدني بعض أهل الْعلم

(كم من حسود اطال الله حسرته ... فاغتاظ هما على الْأَيَّام من حسده) (وحاسد الْخَيْر طول الدَّهْر فِي تَعب ... يزِيدهُ الْحَسَد المذموم فِي كمده) وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء (إِن الحسود الظلوم فِي كمد ... يخاله من يرَاهُ مَظْلُوما) (ذَا نفس دَائِم على نفس ... يظْهر مِنْهُ مَا كَانَ مكتوما) وَقَالَ آخر 0 - إصبر على كيد الحسود ... فَإِن صبرك قَاتله) (فَالنَّار تَأْكُل بَعْضهَا ... إِن لم تَجِد مَا تَأْكُله) وَاعْلَم أَن أَسبَاب الْحَسَد ثَلَاثَة

أَحدهَا بعض الْمَحْسُود قبل ظُهُور النِّعْمَة عَلَيْهِ فَإِذا ظَهرت عَلَيْهِ نعْمَة أَو اشتهرت عَنهُ فَضِيلَة أثارت الْبغضَاء الْقَدِيمَة لَهُ حسدا على ذَلِك الثَّانِي أَن يظْهر على الْمَحْسُود نعْمَة شَامِلَة أَو فَضِيلَة كَامِلَة يعجز الْحَاسِد عَن تَحْصِيلهَا أَو تقصر همته عَن إِدْرَاكهَا وَيكرهُ تقدمه عَلَيْهِ بذلك واختصاصه بِهِ دونه فَيصير حسدا الثَّالِث أَن يكون بالحاسد شح بالفضائل المكتسبة وبخل بِالنعَم الْمَوْهُوبَة وَلَيْسَ يقدر على منعهَا مِنْهُ وَدفعهَا عَنهُ إِذا هِيَ لَيست فِي يَدَيْهِ وَلَا مفوضة إِلَيْهِ فيحسده على مَا منحه الله تَعَالَى من عطائه العميم وفضله الجسيم وَهَذَا السَّبَب دَاء لَيْسَ لَهُ دَوَاء فَإِن كَانَ الْحَاسِد ذَا قسوة

واقتدار حدث عَن حسده الانتقام من الْمَحْسُود وَإِن كَانَ ذَا عجز وَضعف حدث عَنهُ هم دَائِم وسقم لَازم فَيَنْبَغِي أَن يحسم عَنهُ أَسبَاب الْحَسَد ويأنف من تعاطيه ويستنكف من هجنة مُسَاوِيَة ليدفع ضَرَره ويتوقى شَره وَلَا يغالب قَضَاء الله تَعَالَى فَيرجع مَغْلُوبًا وَلَا يُعَارضهُ فِي أمره فَيصير مسلوبا وَسَنذكر من تَأْثِير الْحَسَد وضرر عواقبه حِكَايَة نختم بهَا هَذَا الْفَصْل ذكر أهل التواريخ أَن بهْرَام بن يزدجرد ملك الْفرس كَانَ صديقا لخاقان ملك التّرْك وَكَانَ بَينهمَا مهادلة وتلطف وَإِن بهْرَام اشْتهر أمره بِالْقُوَّةِ والشجاعة وَالْكَرم وَحسن السِّيرَة وَالْعدْل فِي الرّعية فحسده خاقَان على ذَلِك حسدا شَدِيدا وَكَانَ لَهُ وزيران فَذكر ذَلِك لأفضلهما وَسَأَلَهُ التَّدْبِير فِي هَلَاك بهْرَام فَقَالَ لَهُ الْوَزير إِن كتم الْملك ذَلِك سعيت لَهُ فِيهِ فَقَالَ سأكتمه فَلبث مُدَّة ثمَّ سَأَلَ الْوَزير عَمَّا صنع فِيهِ فاستصبره فَلَمَّا تكَرر ذَلِك مِنْهُمَا قَالَ لَهُ الْوَزير أَيهَا الْملك لَا حِيلَة لي فِيمَا كلفتنيه استصبرتك رَجَاء أَن يَزُول ذَلِك من قَلْبك فَإِنِّي رَأَيْت الْحَامِل لَك عَلَيْهِ

إِنَّمَا هُوَ فرط الْحَسَد وتدبير الْحَاسِد رَاجع عَلَيْهِ بالمضرة وأخاف أَن ينصب الْملك مكيدة فَيَقَع فِيهَا قَالَ فَغَضب خاقَان عَلَيْهِ ثمَّ أطلع وزيره الآخر على ذَلِك وَكَانَ فِيهِ شَرّ وخبث وحسد وحيلة فتكفل لخاقان بنيل مُرَاده ثمَّ ندب لَهُ فاتكا من فتاك التّرْك لم يكن فِي التّرْك أَشد باسا فِي الْحِيلَة مِنْهُ وَلَا أجرأ مِنْهُ فِي ذَلِك وَضمن لَهُ إِن قتل بهْرَام وَنَجَا أعطَاهُ رياسة الْجند وَجعل ذَلِك خَالِدا فِي وَلَده وَإِن هلك دون مرامه شرف وَلَده تَشْرِيفًا يخلد ذكره فِيهِ أبدا وَإِن الفاتك استصحب أَخَاهُ مَعَه وتوجها إِلَى دَار ملك بهْرَام فَلَمَّا وردا قصر بهْرَام قَالَ الفاتك لِأَخِيهِ بِعني من بعض خدمَة قصر بهْرَام فَلم يزل يتلطف الفاتك حَتَّى بَاعه من حَافظ الْقصر الْمُوكل بحراسته لَيْلًا فَجعل ذَلِك الفاتك يتحبب إِلَى مَوْلَاهُ بِحسن الطَّاعَة ونصح الْخدمَة حَتَّى نفق عِنْده واختص بِهِ وَإِن سَيّده

تخلف عَن حراسته لمَرض ناله فاستناب الفاتك فَعمد ذَلِك الفاتك إِلَى خَزَائِن سلَاح بهْرَام وَكَانَت بِإِزَاءِ قصره فَألْقى فِيهَا نَارا وثبط أَصْحَابه عَن الْمُبَادرَة إِلَى إطفائها حَتَّى اشْتَدَّ عَملهَا فارتفعت الضجة فَخرج بهْرَام من قصره على فرس لَهُ وَلَا سلَاح مَعَه فانتهز الفاتك فِيهِ الفرصة ودنا من بهْرَام وَفِي يَده خنجر وَقد أخفاه فِي كمه فَنظر إِلَيْهِ بهْرَام فِي ضوء من النَّار فَرَأى دَلَائِل الرِّيبَة ظَاهِرَة عَلَيْهِ فتفرس فِيهِ الشَّرّ فَجمع رجلَيْهِ ووثب عَن ظهر فرسه فَإِذا هُوَ على الفاتك وَقبض على يَدَيْهِ فَوجدَ الخنجر فأخده مِنْهُ بِيَمِينِهِ وَجمع يَدَيْهِ مَعًا فِي شِمَاله وَانْطَلق بِهِ يَقُودهُ حَتَّى أدخلهُ الْقصر فَخَلا عَنهُ وَسَأَلَهُ عَن أمره فَصدقهُ الحَدِيث فَقَالَ لَهُ بهْرَام أما أَنْت فلك ذمتنا على حفظ نَفسك وَالْإِحْسَان إِلَيْك إِذا كنت إِنَّمَا أتيت الَّذِي أتيت طَاعَة لخاقان ومناصحة لَهُ وبذلت نَفسك فِي مرضاته وَمثلك من يصطنع وَنحن نَحْفَظ عَلَيْك نَفسك الَّتِي ضيعها صَاحبك غير أَنا نُرِيد أَن نحبسك مُدَّة ثمَّ نطلقك ونحسن إِلَيْك لغَرَض نُرِيد أَن نفعله فدلنا على أَخِيك فدله عَلَيْهِ فَأرْسل إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ وحسبهما فِي قصره

مكرمين وَأخذ عَلَيْهِمَا أَن يكتما أَمرهمَا وَكَانَ قد رفع إِلَى بهْرَام أَن رجلا من عتبَة زراعا فِي بعض الرساتيق لَهُ ابْنه لم يسمع بِامْرَأَة خلقت على مثل صورتهَا طولهَا سِتَّة أَذْرع وشعرها يتسحب على مواطىء قدميها وَكَأن جلدهَا فِي لَونه وصفائه كَأَنَّهُ قشور الدّرّ وَهِي متناسبة الْخلق بديعة التَّرْكِيب دقيقة التخطيط لَا يَسْتَطِيع من رأى عضوا من أعضائها ان ينْقل بَصَره عَنهُ إِلَّا بعد مجاهدة النَّفس وَإِذا قابلت عَيناهَا عَيْني ذِي لب اضْطربَ قلبه فَلَا يسكن حَتَّى يضمها إِلَى صَدره ويرشف من رِيقهَا وَكَانَ لَهَا مَعَ ذَلِك الْجمال الباهر أدب وعقل وحزم فشرهت نفس بهْرَام إِلَيْهَا ثمَّ تنزه استنكافا أَن يكون

تَحْتَهُ ابْنة زراع فقمع نَفسه عَنْهَا أَنَفَة ونخوة ثمَّ نهى أَن يذكرهَا لَهُ أحد وَأمر الْعَامِل على الْبَلَد الَّذِي هِيَ فِيهِ أَن يتفقد أمرهَا وَمنع أَبَاهَا من إنكاحها حَتَّى إِذا حدث عَلَيْهِ من خاقَان وَمَا ذَكرْنَاهُ أحضر رجلا من أَصْحَابه ذَا دهاء ومكر وحيلة فندبه للمكيدة من خاقَان وَأمره بِمَا سَنذكرُهُ فِي أثْنَاء الْحِكَايَة وَأَعْطَاهُ من الذَّهَب وَالْفِضَّة ونفائس الْجَوَاهِر وذخائر مَا ظن أَنه يحْتَاج إِلَيْهِ فِي عمل المكيدة وَأمره أَن يسير متنكرا فِي زِيّ تَاجر لى وَالِد تِلْكَ الْجَارِيَة الَّتِي ذَكرنَاهَا فيشتريها مِنْهُ ليستعين بهَا على مَا نَدبه إِلَيْهِ وَأرْسل إِلَى الْعَامِل على بلد أَبِيهَا يَأْمُرهُ بِأَن يضيق على ابيها ويطالبه بِمَا يعجز عَنهُ من المَال فَفعل ذَلِك فجَاء التَّاجِر وَاشْترى مِنْهُ ابْنَته بوزنها ذَهَبا وَهَذَا شَيْء كَانَ يَفْعَله

أهل الْخراج من الْفرس إِذا ضيق السُّلْطَان عَلَيْهِم باعوا أَوْلَادهم

قَالَ ثمَّ إِن التَّاجِر قصد بهَا بِلَاد التّرْك حَتَّى حل بِمَدِينَة خاقَان فقصده إِلَى الْوَزير السَّاعِي إِلَيْهِ فِي المكيدة لبهرام فأهدى إِلَيْهِ هَدَايَا نفيسة وتنفق عِنْده بالتحف إِلَى أَن أنس بِهِ الْوَزير وخف على قلبه فَلبث عِنْده عَاما ثمَّ إِنَّه قَالَ لَهُ إِنَّنِي أحببتك أَيهَا الْوَزير حبا شَدِيدا ولي عَام أنازع نَفسِي فِي إتحافك بتحفة لم يظفر أحد بِمِثْلِهَا وَكَانَت نَفسِي تضن بهَا ثمَّ قد سمحت بإيثارك فَقَالَ وَمَا هَذِه التُّحْفَة قَالَ جَارِيَة طولهَا سِتَّة أَذْرع وشعرها يتسحب على مواطىء قدميها كَأَنَّمَا كسا جلدهَا قشور الدّرّ قَالَ فَلَمَّا سمع الْوَزير الصّفة استفزه الْهوى إِلَيْهَا وَجعل يتقاضاه بإحضارها فَلَمَّا أحضرها وَوَقع بَصَره عَلَيْهَا لم يملك نَفسه أَن وثب عَلَيْهَا فعانقها وَضمّهَا وَقبلهَا ثمَّ الْتفت إِلَى سَيِّدهَا وَقَالَ لَهُ سل مَا سئت واحتكم فَقَالَ حكمي الْقرب مِنْك والحضور عنْدك قَالَ هَذَا لَك وَخذ من المَال مَا شِئْت قَالَ لَا حَاجَة لي فِيهِ ثمَّ خرج من عِنْده

مبادرا إِلَى بَاب قصر الْملك خاقَان فَقَالَ لبَعض ثقاته إِن عِنْدِي نصيحة نَخَاف فَوتهَا فَأدْخلهُ على خاقَان فِي الْحَال فَسَأَلَهُ عَن نصيحته فَقَالَ إِنِّي قصدت الْملك بتحفة لَا تصلح إِلَّا لَهُ فَسَأَلت الْوَزير فلَان أَن يوصلها إِلَى الْملك فاستأثر بهَا واعتدى وبذل مَالا كثيرا على كتمان ذَلِك فَلم أفعل قَالَ مَا هَذِه التُّحْفَة قَالَ هِيَ جَارِيَة صفتهَا كَذَا وَكَذَا فَأرْسل خاقَان من فوره رجَالًا من ذَوي النّسك فِي دينه وَأمرهمْ بالهجوم عَلَيْهِ وَحفظ الْحَال الَّتِي يرونه عَلَيْهَا والإتيان بِهِ وبالجارية محجوبة عَن الْأَبْصَار فَفَعَلُوا ذَلِك وَقَالُوا إِنَّهُم أبصروها بَين يَدَيْهِ جالسة متجردة فَسَأَلَهَا خاقَان عَمَّا نَالَ مِنْهَا فَقَالَت عانقني وقبلني وجردني وَنظر إِلَى سَائِر بدني وهم أَن يفتضني فهجم هَؤُلَاءِ الْقَوْم عَلَيْهِ فَأمر خاقَان أَن تقطع يَدَاهُ وتقلع عَيناهُ وَيقطع لِسَانه وشفتاه فَفَعَلُوا ذَلِك بالوزير ثمَّ إِن خاقَان خلا بالجارية وسألها أبكر هِيَ أم ثيب

فَقَالَت بل بكر فَلم يملك نَفسه أَن افترعها فَلَمَّا نزع مِنْهَا أزالت عَن رَأسهَا قناعا فمسحت بِهِ ذكره فأحس بِهِ من سَاعَته تنملا ثمَّ بعد ذَلِك ظهر فِيهِ نفخ ثمَّ ابْتَدَأَ بِهِ الوجع الشَّديد فَعلم أَنه سم فَتَنَاول موسا فَقطع بِهِ ذكره وَأمر بالجارية فنحيت عَنهُ وحفظت وطلبوا مَوْلَاهَا فَلم يظفروا بِهِ وَإِن خاقَان عالج نَفسه حَتَّى برِئ ثمَّ أحضر الْجَارِيَة فَسَأَلَهَا عَن نَفسهَا وَأَهْلهَا وبلدها فَأَخْبَرته وَأَنَّهَا لم تكن تعلم من أَمر مَوْلَاهَا أَكثر من أَنه رجل تَاجر اشْتَرَاهَا من أَبِيهَا بوزنها ذَهَبا وسألها عَن القناع فَقَالَت كسانيه سَيِّدي وعرفني أَنه يهديني للْملك وَإِن من شَأْن الْمُلُوك إِذا وَقع وَاحِد مِنْهُم على جَارِيَة وَنزع مِنْهَا أَن تسمح ذكره بِمَا على رَأسهَا كَائِنا مَا كَانَ فَإِن لم تفعل ذَلِك سَقَطت من عين الْملك وتعرضت لسخطه فَعلم خاقَان أَنَّهَا مخدوعة فَلم يتَعَرَّض لَهَا بشر وَلما عَاد صَاحب بهْرَام إِلَيْهِ وَأخْبرهُ بِمَا تمّ لَهُ من المكيدة

أَمر بهْرَام بإحضار الفاتك وأخيه وَأحسن إِلَيْهِمَا وَكتب مَعهَا كتابا إِلَى خاقَان يَقُول فِيهِ إِن الْحَسَد وَالْبَغي أورداك وأوردا وزيرك وَزِير السوء موارد النَّدَم وَقد كُنَّا أنزلناك بِمَنْزِلَة الاخ قبل أَن نَعْرِف خبث نيتك فِينَا وحسدك لنا فَلَمَّا علمنَا ذَلِك أردنَا بك مَا أردته بِنَا فَقضى الله لنا عَلَيْك بنجاح السَّعْي لعلمه بصلاح نيتنا وخبث نيتك والآن فَاتق الله على نَفسك فلسنا نعرض لَك بِسوء إِذا لَزِمت حسن النّظر لنَفسك بمسالمتنا قَالَ فَلَمَّا انْتهى الْكتاب إِلَى خاقَان عرف من أَيْن أَتَى ثمَّ إِنَّه داخلته الحمية والأنفة فتجهز لقِتَال بهْرَام فِي أُمَم من التّرْك لَا تحصى وَسَار إِلَى أَرض فَارس فانتخب لَهُ بهْرَام أجنادا من أساورة الْفرس ولقيه فَهَزَمَهُ بهْرَام وَقتل رِجَاله وَنهب أَمْوَاله وَاسْتولى على بِلَاده وَكَانَ سَبَب إثارة هَذِه الْفِتْنَة الْحَسَد وَالْبَغي

الوصف الثاني عشر العجلة

الْوَصْف الثَّانِي عشر العجلة اعْلَم أَن العجلة ردية الساقبة مذومة الْأَثر يتنجها طيش وتهور أَولهَا ملامة واخرها لَا يفارقها الزلل وَلَا يتعداها الفشل وَقد قَالَ رَسُول الله ص = العجلة من الشَّيْطَان وَكَانَ يُقَال لَا يُوجد العجول مَحْمُودًا وَلَا الغضوب مَسْرُورا وَلَا الشره غَنِيا وَقيل اجْتمع أَرْبَعَة مُلُوك من الرّوم عِنْد حَكِيم من حكمائهم

فَقَالُوا أوصنا يها الْحَكِيم وَصِيَّة ننتفع بهَا فِيمَا صَار إِلَيْنَا من أَمر الْملك فَقَالَ من اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يمْنَع نَفسه من أَرْبَعَة أَشْيَاء فَهُوَ حقيق أَن لَا ينزل بِهِ مَكْرُوه وَهِي العجلة واللجاجة وَالْعجب والتواني فثمرة العجلة الندامة وَثَمَرَة اللجاجة الْحيرَة وَثَمَرَة الْعجب البغضة وَثَمَرَة التواني الذلة وَكَانَ يُقَال التثبت فِي النوائب معقل اهل التجارب والعجلة فِي الْأُمُور دَاعِيَة إِلَى كل مَحْذُور وَأوصى ملك من مُلُوك الْيمن من يخلفه من بعده فَقَالَ أوصيك بتقوى الله تَعَالَى فَإنَّك إِن تتقيه يهدك ويكفك ويرض عَنْك وَمَتى رضى الرب عَن عَبده أرضاه وأمرك أَن لَا تعجل فِيمَا تخَاف فِيهِ الْفَوْت فَإِن العجلة ندامة وَإِذا شَككت فِي أَمر فَشَاور وَإِذا اتهمت

فاستبدل وَإِذا استكفيت فاختبر وَإِذا قلت فاصدق وَإِذا وعدت فانجز وَإِذا أوعدت فِي حق فانفذ وَاعْلَم انك إِذا ضبطت حاشيتك ضبطت قاصيتك وَالسَّلَام وَاعْلَم أَن العجلة مذمومة إِلَّا فِي أَفعَال الْبر وصنائع الْمَعْرُوف فَإِنَّهَا حَسَنَة محمودة قَالَ بعض الْحُكَمَاء على الْملك أَن يعْمل بخصال ثَلَاث تَأْخِير الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب وتعجيل مُكَافَأَة المحسن والأناة فِيمَا يحدث فَإِن لَهُ فِي تَأْخِير الْعقُوبَة إِمْكَان الْعَفو وَفِي تَعْجِيل الْمُكَافَأَة بالأحسان المسارعة فِي الطَّاعَة من الرّعية وَفِي الأناة اتضاح الرَّأْي وانفساح الصَّوَاب وَذكر بعض الْمُلُوك فِي وَصِيَّة لَهُ لوَلِيّ عَهده إِذا هَمَمْت بِخَير فعجله وَإِذا هَمَمْت بِخِلَافِهِ فتأن فِيهِ وَارْحَمْ ترحم وَكَانَ يُقَال

العجلة مكروهه قبيحة إِلَّا فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء فِي اصطناع الْمَعْرُوف إِذا أمكن وَفِي تَزْوِيج الْبكر إِذا خطبت وَفِي دفن الْمَيِّت إِذا مَاتَ

الوصف الثالث عشر المزاح

الْوَصْف الثَّالِث عشر المزاح إعلم أَن المزاح شاغل عَن الْأُمُور المهمة مذهل عَن النوائب الملمة يذهب الهيبة وَالْوَقار وَلَيْسَ لمن وسم بِهِ مِقْدَار يزيح عَن الْحُقُوق ويفضي إِلَى العقوق ويوغر صُدُور الْأَصْحَاب ويجانب محَاسِن الْآدَاب وَيذْهب الْبَهَاء ويجرئ السُّفَهَاء أَوله حلاوة وَآخره عَدَاوَة وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ اتَّقوا المزاح فَإِنَّهُ حمقة تورث الضغينة وَقَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي

يذهب بالبهاء والمهابة فَاحْذَرُوهُ وَأوصى مُسلم بن قُتَيْبَة أَوْلَاده فَقَالَ لَا تمازحوا فيستخف بكم نظراؤكم ويجترئ عَلَيْكُم أكفاوكم وَهُوَ مسْلبَةٌ للهيبة مقطعَة للصحبة أَوله فَرح وَآخره ترح وَقيل إِذا مازح السُّلْطَان هان عِنْد رَعيته وَإِذا سفه ذهبت حرمته وَقيل فِي منثور الْحِكْمَة من قل عقله كثر هزله

وَقيل المزاح معضل الدَّاء عَزِيز الدَّوَاء وَقيل خير المزاح لَا ينَال وشره لَا يُقَال وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من كثر من شَيْء عرف بِهِ وَمن مزح استخف بِهِ وَمن كثر ضحكه ذهبت هيبته وَمن عرض نَفسه إِلَى التُّهْمَة فَلَا يَلُومن من أَسَاءَ بِهِ الظَّن وَقَالَ سعيد بن الْعَاصِ لِابْنِهِ يَا بني لَا تمازح الشريف فيحقد عَلَيْك وَلَا الدنيء فيجترىء عَلَيْك وَكَانَ يُقَال لكل شَيْء بذر وبذر الْعَدَاوَة المزاح أَنْشدني بَعضهم

(اترك مزاح الرِّجَال إِن مزحوا ... وَلم أر قوما تمازحوا سلمُوا) (يفنى مزاح الْفَتى مرؤته ... وَرب قَول يسيل مِنْهُ دم) وَقَالَ آخر (فإياك إياك المزاح فَإِنَّهُ ... يجْرِي عَلَيْك الطِّفْل والدنس النذلا) (وَيفْسد مَاء الْوَجْه بعد حيائه ... ويعقبه من بعد عزته ذلا) وَقَالَ آخر (وَلَقَد حبوتك يَا بني وصيتي ... فاسمع مقَال أَب عَلَيْك شفيق) (أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لَا أرضاهما لصديق)

(إِنِّي بلوتهما فَلم أحمدهما ... لمجاور جَار وَلَا لرفيق) (وَالْجهل قد يضع الْفَتى فِي قومه ... وعروقه فِي النَّاس أَي عروق) (مَتى رَآهُ مجانبا ذَا بغضة ... فِي الْحَيّ غير مجنب وموق) وَاعْلَم أَن النُّفُوس مَتى سلك بهَا الْجد والتزمت بِهِ سئمت مِنْهُ وضجرت واستثقلت حمل الْحق وَرُبمَا أفْضى بهَا ذَلِك إِلَى ضيق العطن وَسُوء الْخلق فَيَنْبَغِي أَن يريحها بِقَلِيل المزاح ويسير الرِّعَايَة وَليكن كَمَا قَالَ أَبُو الْفَتْح البستي (أفد طبعك المكدود بالجد رَاحَة ... ترحه وَعلله بِشَيْء من المزح) (وَلَكِن إِذا أَعْطيته المزح فَلْيَكُن ... بِمِقْدَار مَا تُعْطِي الطَّعَام من الْملح)

وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لأمزح وَلَا أَقُول إِلَّا حَقًا وَقَالَ سعيد بن الْعَاصِ لِابْنِهِ يَا بني اقتصد فِي مزاحك فَإِن الإفراط فِيهِ يذهب الْبَهَاء ويجريء عَلَيْك السُّفَهَاء والاقتصاد مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ يبغضك إِلَى أَصْحَابك ومؤنسيك فامزح مَعَهم وَليكن بِمِقْدَار مَا يحصل لَهُم بِهِ الْأنس مِنْك من غير إفراط وليحذر مَعَ هَذِه الشريطة أَن يمازح عدوه فَيصير ذَلِك طَرِيقا لَهُ إِلَى إعلان المساوىء فقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِذا مازحت عَدوك ظَهرت عيوبك

الوصف الرابع عشر الضحك

الْوَصْف الرَّابِع عشر الضحك إعلم أَن كَثْرَة الضحك يضاهي المزح فِي المذمة والقبح وَلَا تَقْتَضِيه حَال الْمُلُوك وأرباب المناصب لما فِيهِ من زَوَال الهيبة وَذَهَاب الْوَقار وَقلة الْأَدَب وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ إياك وَكَثْرَة الضحك فَإِنَّهُ يُمِيت الْقلب وَيذْهب ببهاء الْوَجْه

وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من كثر ضحكه قلت هيبته وَمن أَكثر من شَيْء عرف بِهِ وَلَكِن لَا بُد أَن يرى الْإِنْسَان أَو يسمع مَا يغلب عَلَيْهِ الضحك مِنْهُ أَو تمسه الْحَاجة إِلَيْهِ لَا يناس الجليس فَيَنْبَغِي إِذا طَرَأَ شَيْء من ذَلِك أَن يَجعله تبسما من غير قهقهة واسترسال وليراع فِيهِ الشريطة الَّتِي قدمناها فِي المزح

الوصف الخامس عشر الغدر

الْوَصْف الْخَامِس عشر الْغدر اعْلَم أَن الْغدر بعد عقد الْعَهْد حرَام وعاقبته هَلَاك ودمار وَلَا نقض

حَتَّى يَنْتَهِي أمده وتنفضي مدده

قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} وَقَالَ تَعَالَى {فَمَا استقاموا لكم فاستقيموا لَهُم}

وروى عَن سُلَيْمَان بن عَامر قَالَ كَانَ بَين مُعَاوِيَة وَبَين الرّوم عهد فَسَار مُعَاوِيَة فِي أَرضهم كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يُغير عَلَيْهِم فَقَالَ عَمْرو بن عبسة سَمِعت رَسُول الله ص = يَقُول من كَانَ بَينه وَبَين

قوم عهد فَلَا يحل عقده وَلَا يشدها حَتَّى يمْضِي أمدها أَو ينْبذ إِلَيْهِم على سَوَاء قَالَ فَانْصَرف مُعَاوِيَة ذَلِك الْعَام وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْغدر يسْرع إِلَى الهلك ويفضي إِلَى زَوَال الْملك وَكَانَ يُقَال يَمِين الْغَضَب مهزول ووالي الْغدر مَعْزُول وجيش الْعدوان مفلول وعرنين الطغيان مشلول وَكَانَ يُقَال لكل عاثر رَاحِم إِلَّا الغادر فَإِن الْقُلُوب مجمعة على الشماتة بمصرعه وَقَالَ حَكِيم لبَعض مُلُوك زَمَانه أوصيك بِخمْس خِصَال ترضي بِهن رَبك وَتصْلح بِهن رعيتك لَا يغرنك ارتقاء السهل إِذا كَانَ المنحدر وعرا وَلَا تعدن وَعدا لَيْسَ فِي يدك وفاؤه وَاعْلَم أَن الْأُمُور بغتات فَكُن على حذر وَاعْلَم أَن للأمور جَزَاء ومكافأة فَاتق العواقب وَإِيَّاك والغدر فَإِنَّهُ أقرب الْأَشْيَاء صرعة وأوصي أَبُو مُسلم الخرساني قوما بَعثهمْ إِلَى منازلة قوم عَدو

لَهُم فَقَالَ أشعروا قُلُوبكُمْ الجرأة فَإِنَّهَا سَبَب الظفر وَأَكْثرُوا من ذكر الضغائن فَإِنَّهَا تبْعَث على الْإِقْدَام والزموا الطَّاعَة فَإِنَّهَا حصن الْمُحَارب واحذروا من الْغدر فَإِن الغادر مصروع ويحكى أَن موبذان قَالَ لفيروز ملك الْعَجم لما عزم على نقض الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَينه وَبَين اخشنوار ملك الهياطلة وَخرج إِلَى بِلَاده أَيهَا الْملك إِن الرب تَعَالَى يُمْهل الْمُلُوك على الْجور مالم يشرعوا فِي هدم أَرْكَان الدّين فَإِذا شرعوا فِي ذَلِك لم يمهلهم وَإِن عقد الْمِيثَاق من أَرْكَان الدّين فَلَا تنقضه قَالَ فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ فَيْرُوز وَخرج طَالبا اخشنوار فَهزمَ

جَيْشه وَقَتله وَاسْتولى على بِلَاده وَقد أوضحنا فِي هَذَا الْبَاب من الْأَوْصَاف الذميمة والأخلاق اللئيمة مَا احتمله كتَابنَا هَذَا وسنختمه بِذكر عوارض ردية رُبمَا عرضت للملوك أَو بَعْضهَا فأضرت بهم وأخرجتهم عَن حُدُود الِاعْتِدَال وَهِي ثَلَاثَة اعراض الْعرض الأول وَالثَّانِي الْهم وَالْغَم وَإِن هذَيْن العرضين إِذا طَرَأَ وَاشْتَدَّ إفراطهما فَإِنَّهُمَا يجلبان من الْأَلَم والأذى على النَّفس والجسم أمرا لَا يُمكن تلافيه ويؤديان إِلَى التَّقْصِير فِي المطالب والقصور فِي التَّدْبِير مَعَ مَا يظْهر فِي الْجِسْم من النحول وَفِي الْعقل من الذهول وَهَذَانِ العرضان لَا مندوحة لأحد عَنْهُمَا وَلَا بُد من طرؤهما فِي مُقَابلَة الْحَوَادِث الملمة والنوائب المهمة فالهم هُوَ مَا تتَوَقَّع النَّفس حُدُوثه وطروءه فِي الزَّمن الْمُسْتَقْبل من الْأُمُور المهمة

وَالْغَم هُوَ الكمد للنَّفس وحزنها على فَوَات مَا ذهب فِي الزَّمن الْمَاضِي فَيَنْبَغِي للْملك أَن يرِيح نَفسه وَجَسَده عِنْد طروء أَحدهمَا وينال شَيْئا من اللَّذَّة وَالسُّرُور بالأشياء الْمُبَاحَة فِي الشَّرْع بِقدر مَا يبلغ بِهِ مصْلحَته ويحفظ بِهِ صِحَّته وَيَنْبَغِي أَن يكون مِقْدَار إِصَابَته من ذَلِك مَا يحصل بِهِ الِاعْتِدَال من غير إفراط فِيهِ فَإِن الْإِكْثَار من اللَّهْو يحصل بِهِ من الضَّرَر فَوق مَا يحصل بِهِ من الْهم لِأَنَّهُ يلهيه عَن مصَالح المملكة فَكَانَ الِاعْتِدَال فِي ذَلِك أقسط وَقد كَانَ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله إِذا

طَرَأَ عَلَيْهِ أحد هذَيْن العرضين نزل إِلَى الميدان وَشرع يلْعَب بالكرة والصولجان نَهَاره أجمع فَإِذا جن عَلَيْهِ اللَّيْل بسط رقْعَة الشطرنج وَجعل يلْعَب حَتَّى يغلب عَلَيْهِ النّوم الْعرض الثَّالِث السكر من الشَّرَاب إعلم أَن السكر حرَام فِي جَمِيع الْأَدْيَان

وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي عين الْمُسكر

وَقد أجمع أهل الْعقل على قبح السكر مَعَ تَحْرِيم الشَّرَائِع لَهُ وَهُوَ من الْأَعْرَاض الردية المفضية بصاحبها إِلَى البلايا والأسقام وَقد ذكر أهل الطِّبّ أَن الإفراط من السكر رُبمَا أحدث فِي وقته

على صَاحبه عِلّة السكتة والاختناق وامتلاء بطن الْقلب الجالب للْمَوْت فَجْأَة وَرُبمَا حدث مِنْهُ انفجار الشريانات الدموية والصفراوية وتحدث مِنْهُ الرعشة والفالج وَهَذَا كُله مَعَ مَا يجلب على صَاحبه من فقد الْعقل وهتك السّتْر وإفشاء السِّرّ والاشتغال عَن دَرك المطالب وَلَا يكَاد صَاحبه يسمو لَهُ حَال وَلَا يَسْتَقِيم لَهُ أَمر فِي تَدْبِير وَلَا يزَال منحط الرُّتْبَة عِنْد نظرائه مسلوب الْوَقار فِي أعين النَّاس قَالَ الشَّاعِر (مَتى تبلغ الْخيرَات أَو تستطيعها ... وَلَو كَانَت الْخيرَات مِنْك على شبر) (إِذا بت سكرانا وأصبحت مثخنا ... حمارا وعاودت الشَّرَاب من الْعَصْر) وَأكْثر مَا تنصب الغوائل والمكائد للملوك فِي حَال سكرهم هَذَا كُله مَعَ مَا يؤول السكر بِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَة من الْعَذَاب المهين والنكال الدَّائِم

الْبَاب السَّابِع فِي كَيْفيَّة رُتْبَة الْملك مَعَ أوليائه فِي حَال جُلُوسه وركوبه إعلم أَن مُلُوك الْأُمَم على اخْتِلَاف أجناسهم كَانَت لَهُم سنَن وآداب تميزوا بهَا وَأَقَامُوا أبهتهم بالمواظبة عَلَيْهَا يضيق كتَابنَا هَذَا عَن شرحها وَلَا فَائِدَة فِي ذكرهَا لِأَن الشَّرْع ورد بِالنَّهْي عَن التَّشَبُّه بهَا بل نقتصر فِي ذَلِك على مِثَال مَا رتبه خلفاء بني الْعَبَّاس إِذْ هم قدوة مُلُوك النَّاس لينسج الْمُلُوك على منوالهم ويحذو حَذْو أمثالهم وَسَنذكر من ذَلِك قدر الْحَاجة على سَبِيل الِاخْتِصَار فَنَقُول

يَنْبَغِي للْملك أَن يَجْعَل جُلُوس طَبَقَات أَصْحَابه وأعوانه وأوليائه على ثَلَاث مَرَاتِب الْمرتبَة الأولى يجلس فِيهَا الْجند والغلمان الَّذين لَيست لَهُم مزية على غَيرهم الْمرتبَة الثَّانِيَة يجلس فِيهَا القواد المتوسطون الَّذين قد ولوا الْأَعْمَال من قبل الْأُمَرَاء وَمن يجْرِي مجراهم من الطواشية وَغَيرهم الْمرتبَة الثَّالِثَة يجلس فِيهَا القواد والأمراء والأكابر الَّذين يتولون الْأَعْمَال ويخطب لَهُم على المنابر وكبراء الْحجاب وَالْعُلَمَاء وَهَذِه الْمرتبَة تسمى دهليز الْخَاصَّة وَهُوَ الْقَرِيب من السّتْر فَإِذا

جلس النَّاس لَا يخْتَلط قوم بغيرهم وَلَا يعلوا أحد مِنْهُم فِي الجلسة على من هُوَ فَوْقه وليتطرقهم الْحجاب طول جلوسهم فَإِذا وجدوا أحدا جلس فِي غير مرتبته أقاموه إِلَيْهَا وَيجْلس صَاحب الْحجاب ملاصقا للوزير وَالْبَاب الَّذِي يُوصل مِنْهُ إِلَى الْملك لِأَنَّهُ أول من يصل إِلَيْهِ وَيكون السّتْر مسبلا على الْبَاب يمسِكهُ البوابون الفحول وَلَا يطلقونه لأحد لأجل الِاطِّلَاع مِنْهُ إِلَى صحن الدَّار الَّتِي يجلس فِيهَا الْملك فَإِذا خرج الْملك مَعَ خدمه وَجلسَ على سَرِيره المفروش وقف على رَأسه الْخَادِم صَاحب المذبة وَيكون متميزا لَهُ طلل وَصُورَة حَسَنَة مَقْبُولَة ثمَّ يخرج الْخَادِم الحرمي صَاحب الرسَالَة فيستدعي صَاحب

الْحجاب فَيدْخل وَحده وَلَا يشال السّتْر لَكِن بعضه حَتَّى يقف فِي صحن الدَّار بَين يَدي الْملك ثمَّ يَسْتَدْعِي الْوَزير فيتقدم الْحَاجِب يمشي مَعَه حَتَّى يقرب من السرير فيتقدم وَحده وَيرجع عَنهُ الْحَاجِب إفرادا لَهُ عَمَّا يُعَامل بِهِ سَائِر النَّاس من التَّقْدِير فيخدم الْملك ثمَّ يقف على يمنة السرير على نَحْو خَمْسَة أَذْرع مِنْهُ ثمَّ يدْخل أَمِير الْجَيْش بعده فَيَمْشِي مَعَه الْحَاجِب كَمَا فعل بالوزير فيخدم الْملك ثمَّ يقف على يسرة السرير ثمَّ يدعى بالحجاب فَيدْخلُونَ وبالخدم الرؤساء الأستاذين فَيدْخلُونَ ثمَّ يدعى بالأمراء القواد فيوصلهم الْحجاب ويقفون على مَرَاتِبهمْ يمنة ويسرة على حسب محلهم وموقعهم من الِاخْتِصَاص وَلَا يتَقَدَّم أحد على غَيره ثمَّ يدعى بالعلماء وَالْفُقَهَاء والقضاة فَيَجْلِسُونَ دون الْوَزير على يمنة السرير ثمَّ يَسْتَدْعِي رُؤَسَاء الْأَطِبَّاء فيقفون بارزين فَإِذا احْتِيجَ إِلَى مسائلتهم عَن شَيْء تقدمُوا إِلَى الْملك عِنْد خُرُوج النَّاس ثمَّ يَدعِي بالغلمان والجند وَمن حضر الدَّار ويقفون بارزين صفا

مُفردا خلف النَّاس ثمَّ يخرج النَّاس عَن طبقاتهم بعد وقوفهم سَاعَة وَبعد أَن يلحظهم الْملك ويشاهد حضورهم وَيعرف من تخلف من وُجُوههم وليحذر كل من وقف بَين يَدي الْملك أَن يتسار إثنان أَو يتحدثا مَعَ أحد ثمَّ يتَخَلَّف الْوَزير سَاعَة طَوِيلَة وَقد تنحى صَاحب المذبة الْكَبِيرَة من مَوْضِعه إِلَى أَن يفرغ مَا يحْتَاج إِلَى ذكره وَيَأْخُذ الْوَزير المذبة الصَّغِيرَة فيذب بهَا وَيكون صَاحب الْحجاب وَاقِفًا بالبعد من السرير بِحَيْثُ يَسْتَدْعِي إِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ ثمَّ يخرج بعد ذَلِك الْوَزير وَمَعَهُ الْحَاجِب فيجلسان فِي الدهليز وَينْظرَانِ فِي أَعمال الْملك المهمة وحوائج دَاره وَيرجع النَّاس إِلَى مَرَاتِبهمْ وأعمالهم وَإِذا قدم الْحَاجِب أحدا من الاولياء لتقبيل

الْيَد والخدمة مَشى مِمَّا يَلِي سَيّده وَقدمه بعضده الْأَيْسَر وَتَكون يَد الْحَاجِب الْيُسْرَى على سيف الْمُقدم فَإِذا قبل يَد الْملك أَخّرهُ الْحَاجِب وتسلمه مِنْهُ الْحجاب الْأَقْرَب مِنْهُ فَالْأَقْرَب إِلَى أَن يقيموه فِي مرتبته وَإِذا أَرَادَ الْملك أَن يركب فِي موكبه فسبيل جَمِيع النَّاس أَن يمشوا

بَين يَدَيْهِ وأسلحتهم مَشْهُورَة إِلَى أَن يصلوا إِلَى مَوَاضِع الرّكُوب فيركبون وَقد تقدمهم قِطْعَة من الْحجاب قُدَّام الموكب يطوفون وَيمْنَعُونَ أحدا من سلوك الطرقات وَتَكون الجنائب الْخَاصَّة قُدَّام الموكب ليحضر مِنْهَا مَا أَرَادَ وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الْجَوَارِح وكلاب الصَّيْد والفهود يتقدمون الموكب ثمَّ يسير خلفاء الْحجاب ونوابهم يتصفحون الموكب ويترددون فِيهِ فيمنعون أحدا من الْعَامَّة الْمُرُور فِي خلاله ثمَّ يسير صَاحب الْحجاب قُدَّام الْملك وَبَينه وَبَين الْملك مِقْدَار مَا إِذا ناداه أَو استدعاه سَمعه ويتبعه الْملك وَيكون الْوَزير وَرَاءه فَإِذا استدعى سَار زَائِدا على موكب الْملك ليخاطبه وَلَا يُكَلف الْملك أَن يلْتَفت إِلَيْهِ بعنقه فَإِذا استتم كَلَامه رجعُوا إِلَى وَرَائه وَيكون خلف الْوَزير وُجُوه الخدم والرؤساء وَسَائِر طَبَقَات الْأَوْلِيَاء ثمَّ يتبع ذَلِك بغال الشَّرَاب وَالْمَاء

المزمل وَتَكون بارزة بِحَيْثُ ترى وَلَا يزحمها الموكب وَيكون مَعهَا بغال الْكسْوَة وفيهَا خلع معدة وَيكون مَعهَا بغل عَلَيْهِ صندوقان يعد فيهمَا مَا خف من الْأَطْعِمَة مثل أوساط ولفات وأقراص وَغير ذَلِك وَيكون خلف الخدم خَادِم الجوائز وَالصَّدقَات وَمَعَهُ عليمة فِيهَا صرار من خَمْسَة دَرَاهِم إِلَى مائَة إِلَى ألف دِرْهَم فَإِذا أَمر الْملك بمبلغ عرفه وأرسله إِلَى صَاحبه وَيكون فِي الموكب الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء والقضاة والمؤذنون لتحصل بهم الرَّحْمَة ويسيرون فِي وسط الموكب لِئَلَّا تلحقهم الزحمة وَإِذا وصل الْملك

إِلَى بَاب من أَبْوَاب قصيره أَو منتزهاته الَّتِي يسلكها نزل الْحَاجِب والخدم وَمن فِي الموكب من أَمِير الْجَيْش وَصَاحب الشرطة ووجوه الْحجاب وَمَشوا بَين يَدَيْهِ إِلَى أَن يخرج من ذَلِك الْبَاب ثمَّ يركبون فَإِذا عَاد إِلَى قصره ترجل النَّاس أجمع وَمَشوا إِلَى أَن يصلوا الْموضع الَّذِي يقف فِيهِ الْحجاب وَتَكون البوقات التركية والطبول تضرب عِنْد ركُوبه ونزوله وَلَا يَنْبَغِي للْملك أَن يكثر من الرّكُوب والظهور من قصره فَإِن هَيْبَة الْأسد فِي قُلُوب أهل الْبلدَانِ الَّذين لم يتَكَرَّر مِنْهُم الرُّؤْيَة لَهُ أعظم من هيبته فِي قُلُوب رُعَاة االظأن الَّذين يرونه كل وَقت وَلَا يُطِيل اللّّبْث والاحتباس فِي قصره فَإِن السبَاع الضارية إِذا لم تشاهد الرَّاعِي بلغت مرادها من الظأن

الْبَاب الثَّامِن فِي بَيَان فضل المشورة والحث عَلَيْهَا اعْلَم أَن المشورة عين الْهِدَايَة وسبيل الرشاد إِلَى الْأَمر وإيضاح الْمُبْهم من الرَّأْي ومفتاح المغلق من الصَّوَاب وَقد حث الشَّارِع عَلَيْهَا وَندب الْخلق إِلَيْهَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه مُحَمَّد ص = فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر

قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أمره بالمشاورة ليستقر لَهُ

الرَّأْي الصَّحِيح فَيعْمل بِهِ وَقَالَ الضَّحَّاك أمره بالمشاورة لما علم مَا فِيهَا من الْفضل وَمَا يعود بهَا من النَّفْع وَلِأَن إرْسَال الخواطر الثاقبة وإجالة الأفكار الصادقة لَا يكَاد يخرج عَنْهَا مُمكن وَلَا يخفى جَائِز والمستبد بِرَأْيهِ بعيد من الصَّوَاب قريب من الزلل وَقد قَالَ رَسُول الله ص =

رَأس الْعقل بعد الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى التودد إِلَى النَّاس وَمَا اسْتغنى مستبد بِرَأْيهِ وَمَا هلك أحد عَن مشورة وَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد هلكة كَانَ أول مَا يهلكه رَأْيه وَقَالَ رَسُول الله ص = لقحوا عقولكم بالمذاكرة وَاسْتَعِينُوا على أُمُوركُم بالمشاورة وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ الاستشارة عين الْهِدَايَة وَقد خاطر من اسْتغنى بِرَأْيهِ وَقَالَ بعض البلغاء الْخَطَأ مَعَ الاسترشاد أَحْمد من الصَّوَاب مَعَ الاستبداد وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء نصف رَأْيك مَعَ أَخِيك فشاوره ليكمل لَك الرَّأْي

وَكَانَ يُقَال إِذا أشكلت عَلَيْك الْأُمُور فَارْجِع إِلَى رَأْي الْعُقَلَاء وَلَا تأنف من الاسترشاد وَلَا تستنكف من الاستمداد فَإِن تسْأَل وتسلم خير لَك من أَن تستبد وتندم وَقَالَ حكماء اليونان أَضْعَف الْحِيَل خير من أقوى الشدَّة وَأَقل التؤدة خير من أَكثر العجلة والزلة رَسُول الْقَضَاء المبرم وَإِذا استبد الْملك بِرَأْيهِ عميت عَلَيْهِ المراشد وَقَالَ حَكِيم من الْفرس النّظر فِي الْأُمُور من الْعَزْم والعزم فِي الرَّأْي سَلامَة من التَّفْرِيط وداعية إِلَى الظفر وَالتَّدْبِير والفكر يبحثان عَن الفطنة ويكشفان عَن الحزم ومشاورة الْحُكَمَاء ثبات

فِي الْيَقِين وَقُوَّة فِي البصيرة ففكر قبل أَن تعزم واعزم قبل أَن تصرم وتدبر قبل أَن تهجم وشاور قبل أَن تقدم وَكَانَ يُقَال مَا استنبط الصَّوَاب بِمثل الْمُشَاورَة وَلَا حصنت النعم بِمثل الْمُوَاسَاة وَلَا اكْتسبت البغضة بِمثل الْكبر وَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لِأَن أخطىء وَقد استشرت أحب إِلَيّ من أَن أُصِيب وَقد استبددت بِرَأْي وأمضيته من غير مشورة لِأَن على رَأْيه يزرى بِهِ أَمْرَانِ تَصْدِيقه رَأْيه الْوَاجِب عَلَيْهِ تَكْذِيبه وَتَركه من المشورة مَا يزْدَاد بِهِ بَصِيرَة أَنْشدني بَعضهم 482 (إِذا الْأَمر أشكل إنقاذه ... وَلم تَرَ مِنْهُ سَبِيلا فسيحا) (فَشَاور بِأَمْرك فِي ستْرَة ... أَخَاك أَخَاك اللبيب النصيحا) (فَرُبمَا فرج الناصحون ... وأبدوا من الرَّأْي رايا صَحِيحا) (وَلَا يلبث المستشير الرِّجَال ... إِذا هُوَ شاور أَن يستريحا) وَقَالَ مَحْمُود الْوراق فِي الْمَعْنى (إِن البيب إِذا تفرق أمره ... فتق الْأُمُور مناظرا ومشاورا) (وأخو الْجَهَالَة يستبد بِرَأْيهِ ... فتراه يعتسف الْأُمُور مخاطرا) وَقَالَ آخر (شاور صديقك فِي الخفى الْمُشكل ... وَاقْبَلْ نصيحة صَاحب متفضل) (فَالله قد أوصى بذالك نبيه ... فِي قَوْله شاورهم وتوكل)

(إِذا الْأَمر أشكل إِنْفَاذه ... وَلم تَرَ مِنْهُ سَبِيلا فسيحا) (فَشَاور بِأَمْرك فِي ستْرَة ... أَخَاك أَخَاك اللبيب النصيحا) (فَرُبمَا فرج الناصحون ... وأبدوا من الرَّأْي رَأيا صَحِيحا) (وَلَا يلبث المستشير الرِّجَال ... إِذا هُوَ شاور أَن يستريحا) قَالَ مَحْمُود الْوراق فِي الْمَعْنى (إِن اللبيب إِذا تفرق أمره ... فتق الْأُمُور مناظرا ومشاورا) (وأخو الْجَهَالَة يستبد بِرَأْيهِ ... فتراه يعتسف الْأُمُور مخاطرا) وَقَالَ آخر (شاور صديقك فِي الخفى الْمُشكل ... وَاقْبَلْ نصيحة صَاحب متفضل) (فَالله قد أوصى بذالك نبيه ... فِي قَوْله شاورهم وتوكل)

الْبَاب التَّاسِع فِي بَيَان أَوْصَاف أهل الشورى وحكايات لائقة اخْتلف النَّاس فِي أهل الشورى هَل الأولى أَن يجمعهُمْ الْملك على الرَّأْي أَو ينْفَرد بِكُل وَاحِد مِنْهُم فِي المشورة فَذَهَبت الْعَرَب وَالْفرس وملوك الْهِنْد إِلَى أَن الأولى اجْتِمَاعهم فِي ارتياء الرَّأْي وإجالة الْفِكر ليذكر كل وَاحِد مَا قدحه خاطره وينتجه فكره حَتَّى إِذا كَانَ هُنَاكَ قدح فِي الرَّأْي ذَكرُوهُ وَإِن توجه عَلَيْهِ نقض نقضوه فَإِنَّهُ لَا يبْقى فِي الرَّأْي مَعَ اجْتِمَاع القرائح عَلَيْهِ خلل إِلَّا ظهر واشتهر

وَذَهَبت الرّوم وملوك القبط إِلَى أَن الأولى انْفِرَاد كل وَاحِد مِنْهُم بالمشورة ليجيل فكره ويشحذ خاطره طَمَعا فِي الحظوة بصواب الرَّأْي فَإِن القرائح إِذا انْفَرَدت استكدها الْفِكر واستفرغها الْجهد وَإِذا اجْتمعت فَإِن أول من بدا بِالرَّأْيِ متبوع وَيَنْبَغِي أَن يجْتَمع فِي أهل الشورى سَبْعَة شُرُوط عَلَيْهَا مدَار المشورة وَبهَا يَنْتَظِم شَمل الصَّوَاب

أَحدهَا الفطنة والذكاء لِئَلَّا تشتبه عَلَيْهِم الْأُمُور فتلتبس فَلَا يَصح مَعَ اشتباهها عزم وَلَا يتم مَعَ التباسها حزم وَالثَّانِي الْأَمَانَة لِئَلَّا يخونوا فِيمَا ائتمنوا عَلَيْهِ وَلَا يغشوا فِيمَا استنصحوا فِيهِ الثَّالِث صدق اللهجة ليثق الْملك بخبرهم فِيمَا ينهونه إِلَيْهِ

وَيعْمل برأيهم فِيمَا أشاروا بِهِ عَلَيْهِ الرَّابِع أَن يسلمُوا فِيمَا بَينهم من التحاسد والتنافس فَإِن ذَلِك يمنعهُم من الْكَشْف عَن صَوَاب الرَّأْي الْخَامِس أَن يسلمُوا فِيمَا بَينهم وَبَين النَّاس من الْعَدَاوَة والشحناء فَإِن الْعَدَاوَة تصد عَن التناصف وتحجب عَن صَوَاب الرَّأْي السَّادِس أَن لَا يَكُونُوا من أهل الْأَهْوَاء فيخرجهم الْهوى من الْحق إِلَى الْبَاطِل فَإِن الْهوى خَادع الْأَلْبَاب وصارف عَن الصَّوَاب السَّابِع أَن يَكُونُوا من كبار الدولة ومشايخ الأعوان لِأَن

الْمَشَايِخ قد حنكتهم التجارب وعركتهم النوائب وَقد شاهدوا من اخْتِلَاف الدول مَا أوضح لعقولهم صَوَاب الرَّأْي وَقد كَانَت الْعَرَب تَقول الْمَشَايِخ أَشجَار الْوَقار ومنابع الْأَخْبَار لَا يطيش لَهُم فهم وَإِلَّا يسْقط لَهُم وهم وَقد كَانَ يُقَال عَلَيْك بآراء الْمَشَايِخ فَإِنَّهُم إِن فقدوا ذكاء الطَّبْع فقد مرت على عيونهم وُجُوه العبر

وتصدت لأسماعهم آثَار الْغَيْر وَحكى أَن الْمَأْمُون قَالَ لأولاده يَا بني ارْجعُوا فِيمَا اشْتبهَ عَلَيْكُم إِلَى آراء أهل الحزم من أعوانكم المجربين والمشايخ المشفقين فَإِنَّهُم يرونكم مَا لَا ترَوْنَ ويكشفون لكم أغطية مَا لَا تعلمُونَ

فقد صحبوا لكم الدهور ومارسوا لكم الْأُمُور وَعرفُوا حوادث الْأَزْمِنَة وأعراضها وإقبالها وإدبارها فروضوا أَنفسكُم لَهُم وتجرعوا مراراتهم فقد قيل من جرعك مرا لتبرأ أشْفق عَلَيْك من جرعك حلوا لتسقم وَيَنْبَغِي أَن لَا يدْخل فِي مشورته بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا حَرِيصًا وَلَا معجبا وَلَا كذابا لِأَن الْبَخِيل يقصر بعقلك والجبان يخوفك مَالا تخَاف والحريص يعدك مَالا يُرْجَى وَقد كَانَ يُقَال الْجُبْن وَالْبخل والحرص طبيعة وَاحِدَة يجمعها سوء الظَّن وَقَالَ عبد الْملك بن

مَرْوَان لبَعض عماله لَا تستعن فِي أَمر دهمك بِرَأْي كَذَّاب وَلَا معجب فَإِن الْكذَّاب يقرب لَك الْبعيد وَيبعد عَنْك الْقَرِيب وَأما المعجب فَلَيْسَ لَهُ رَأْي صَحِيح وَلَا روية تسلم وَيَنْبَغِي للْملك ذَا أَتَى كل وَاحِد بِمَا عِنْده من الرَّأْي أَن يتصفح أَقْوَالهم ويكشف عَن أُصُولهَا وأسبابها ويبحث عَن نتائجها وعواقبها مَعَ مشاركتهم جَمِيعًا فِي الارتياء وَالِاجْتِهَاد ويتوقف فِي ذَلِك وليحذر مبادرة الْعَمَل بِالرَّأْيِ قبل إمعان النّظر فِيهِ فقد قيل أَضْعَف الرَّأْي مَا سنح للبديهة ابْتِدَاء وَقيل أصوب الرَّأْي مَا تَكَرَّرت الفكرة بعده وأحكمت الروية عقدَة وَكَانَ يُقَال كل رَأْي لم تتمحص بِهِ الفكرة لَيْلَة كَامِلَة

فَهُوَ مَوْلُود لغير تَمام قَالَ عبد الله بن وهب دعوا الرَّأْي ثَلَاثًا فَإِن عيوبه تكشف لكم عَن محضه وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة وَهُوَ يُؤَدب وَلَده لَا تكونن أول مشير وَإِيَّاك والرأي الفطير وَلَا نشر على مستبد بِرَأْيهِ وتجنب ارتجال الْكَلَام أَنْشدني بعض أهل الْعلم (وَإِذا الخطوب عَلَيْك يَوْمًا أشكلت ... فاعمد لرأي أَخ حَكِيم مرشد)

(فَإِذا استشرت فَكُن لنَفسك رائدا ... متثبتا تَجِد الرشاد وتهتدي) قَالَ فَإِذا تقرر الرَّأْي الصَّحِيح بعد الفكرة والروية شرع فِي إمضائه وَالْعَمَل بِهِ وينتهز فِيهِ الفرصة وليحذر مُخَالفَة النصحاء والاستهانة بنصائحهم فقد قيل من عصى ناصحا فقد اسْتَفَادَ عدوه وَكَانَ يُقَال يسْتَدلّ على إدبار أَمر الْملك بِخَمْسَة أَشْيَاء أَحدهمَا أَن يستكفي الْأَحْدَاث الَّذين لَا خبْرَة لَهُم بموارد الْأُمُور ومصادرها الثَّانِي أَن يقْصد أهل مودته بالأذى الثَّالِث أَن ينقص خراجه عَن قدر مُؤنَة ملكه الرَّابِع أَن يكون تقريبه وإبعاده للهوى لَا للرأي الْخَامِس استهانته بنصائح الْعُقَلَاء وآراء ذِي الحفلة قَالَ كسْرَى أنو شرْوَان حزم ذِي الرَّأْي وَمن لَا رَأْي لَهُ أَن يستشير عَالما ويطيعه قَالَ الشَّاعِر

(إِذا مَا أُمُور أعوزت فِي اعتيادها ... فَلَا تعص ذَا لب وَقل مثل قَوْله) وَقَالَ آخر (إِذا الْأُمُور عَلَيْك التوت ... فَشَاور لبيبا وَلَا تعصه) (وَإِن كنت فِي حَاجَة مرسة ... فَأرْسل حكيما وَلَا توصه) وَقَالَ أَبُو الْفَتْح البستي

(لَا تستشر غير ندب حَازِم يقظ ... قد اسْتَوَى فِيهِ أسرار وإعلان) (فللتدابير فرسَان إِذا ركضوا ... فِيهَا أبروا كَمَا للحرب فرسَان) (وللأمور مَوَاقِيت مقدرَة ... وكل أَمر لَهُ حد وميزان) (فَلَا تكن عجلا فِي الْأَمر تطلبه ... فَلَيْسَ يحمد قبل النضج بحران) وسنختم هَذَا الْبَاب بِثَلَاث حكايات مُوضحَة لما شرحناه الْحِكَايَة الأولى قيل إِن كسْرَى أنوشروان وصفت لَهُ أَرض من التخوم الْهِنْدِيَّة تقَارب أقْصَى بِلَاده بِحسن المنظر وَطيب الْهَوَاء وَالْمَاء وَكَثْرَة العمائر وحصانة المعاقل وَوصف لَهُ أهل تِلْكَ الأَرْض بِعظم الجسوم وبلاده الفهوم وشجاعة النُّفُوس وَقُوَّة الْأَبدَان وَالصَّبْر على مُلَازمَة الطَّاعَة لملكهم ولين الانقياد فشرهت نفس كسْرَى إِلَى

تملك تِلْكَ الأَرْض فَسَأَلَ عَن ملكهَا فَأخْبر أَنه عَظِيم الأراكنة وَأَنه شَاب منقاد لشهوته مقبل على لذته غير أَن رَعيته قد أشربت قلوبها وده وانصرفت آمالها إِلَى مَا عِنْده قَالَ فَجمع كسْرَى وزراءه وأعلمهم أَن نَفسه تائقة إِلَى تملك تِلْكَ الأَرْض وعرفهم صِفَات الأركن وإقبال رَعيته على طَاعَته ومحبته فَاجْتمع رَأْيهمْ على أَن ينتدب لاستفساد رعية ذَلِك الأركن رجَالًا يحسنون نصب الدَّعْوَات وقلب الدول قَالَ فَاحْضُرْ رجَالًا من دهاة الْفرس ونساكهم وأمدهم بالأموال وَنصب لَهُم مِثَالا يحذون عَلَيْهِ فنفذوا لما أَمرهم بِهِ وَتَفَرَّقُوا فِي تِلْكَ المملكة وأعمل كل مِنْهُم قوته فِيمَا انتدب فأحكموا أَمرهم عي عَاميْنِ وبثوا الدعْوَة فِي مَدِينَة الأركن وَغَيرهَا من قراه ورساتيقه ومعاقله وثغوره واستمالوا قُلُوب الرّعية ثمَّ كتبُوا بذلك

إِلَى كسْرَى فأحضر الْمَرْزُبَان الَّذِي يَلِي تِلْكَ الأَرْض وَأمره بالتجهيز إِلَيْهَا ثمَّ أَخذ ذَلِك المرزبات فِي الإعداد والحشد وَكَانَ عسكره خمسين ألف فَارس سوى أتباعها فَكتب إِلَى الأركن عيونه يخبرونه بِخُرُوج الْمَرْزُبَان إِلَيْهِ ثمَّ ظهر النِّفَاق ببلاده وهمس النَّاس فِيهِ فانتبه الأركن من غفلته وَبحث عَن الْأَمر فَوقف على حَقِيقَته وَكَانَ امْر مَمْلَكَته يقوم على خَمْسَة رجال أَرْبَعَة مِنْهُم وزراؤه وجلساؤه وسماره وَالْخَامِس رَئِيس الزمارمة الَّذين يَأْخُذُونَ عَنهُ الدّين وَكَانَ حكيما عَالما قَالَ فَجَمعهُمْ الأركن وأطلعهم على مَا انْتهى إِلَيْهِ من فَسَاد الرّعية وتجهيز جيوش أنو شرْوَان إِلَى جهتهم وَأمرهمْ فِي النّظر فِي ذَلِك وإمعان الْفِكر فِيهِ فجلسوا لإدارة الرَّأْي فَقَالَ أحد الوزراء الْأَرْبَعَة الرَّأْي أَن

يستصلح الْملك رَعيته فَيمْلَأ أيديها رغبات وقلوبها آمالا فَإِن الْعَدو إِذا علم كَانَ ذَلِك جَريا عَن الْإِقْدَام وَإِن أقدم لقيناه كلنا بِكَلِمَة مجتمعة وَقُلُوب سليمَة فَقَالَ لَهُ رَئِيس الزمارمة هَذَا لَو كَانَ فَسَاد الرّعية أوجبه جور وعسف سيره فيزال حكم الْفساد بإزاحة علته وَأما فَسَاد هَؤُلَاءِ فَإِنَّمَا أوردهُ عَلَيْهِم الْجَهْل بمواقع الصَّوَاب وَالنَّظَر لترادف النعم وَقد قيل أَرْبَعَة إِذا أفسدهم البطر لم تزدهم التكرمة إِلَّا فَسَادًا الْوَلَد وَالزَّوْجَة وَالْخَادِم والرعية فغن هَذِه الربعة إِذا هاجمت لم تزدهم المداراة والرفق إِلَّا هيجانا وطغيانا وَإِنَّمَا تعان بحسم موادها قَالَ الْملك صدق الْحَكِيم قَالَ الْوَزير الثَّانِي الرَّأْي أَن تضرب بِمن صلح من الرّعية من فسد مِنْهَا حَتَّى ترجع راغمة منقادة ثمَّ نلقي عدونا بِمن لَا نَخَاف

دغله فَقَالَ رَئِيس الزمارمة هَذَا أَنْفَع لعدوك من جَيْشه وأدعى إِلَى طَاعَته من دعاته لأَنا نعلم أَن رعيتنا لَا تَخْلُو من عَاقل محروم لم يمنعهُ من سل سَيْفه إِلَّا الْخَوْف وَإِذا فعل الْملك مَا أَشرت بِهِ فقد أَبَاحَهُ سل سَيْفه وَإِذا سَله لم يَسلهُ لنا بل إِنَّمَا يَسلهُ علينا ويتبعه الْجُمْهُور لما قد طبعوا عَلَيْهِ من حسد الْمُلُوك والتعصب للضعفاء وَقد قيل أَرْبَعَة من اسْتَقْبلهَا بالعنف والردع فِي أَرْبَعَة أَحْوَال هلك بهَا وَهِي الْملك فِي حَال غَضَبه والسيل فِي حَال هجومه والفيل فِي حَال غلمته والرعية فِي حَال هيجها وَقَالَت الْحُكَمَاء أشبه شَيْء يردع الْعَامَّة عِنْد هيجها معاناة الجدري فِي حَال إنبعاثه إِلَى سطح الْجَسَد بالأطلية الرادعة فَقَالَ الْملك صدق الْحَكِيم

وَقَالَ الْوَزير الثَّالِث الراي ان يطْلب الْملك تعْيين من فَسدتْ طَاعَته بالأمناء الثِّقَات من الجواسيس فَإِذا تعينُوا عوملوا بِمَا تَقْتَضِيه أَحْوَالهم من قلَّة أَو كَثْرَة فَقَالَ رَئِيس الزمارمة إِن الْبَحْث الان عَن هَذَا خطر لِأَنَّهُ لابد أَن يفْطن لَهُ وَإِذا فطن لَهُ خَافَ الْمُرِيب فحذر ثمَّ لايخلو أمره بعد ذَلِك من حَالين أما أَن يَتَحَرَّك إِلَى جِهَة عدونا فيعتمده بالنصائح وَالدّلَالَة على العورات ثمَّ يُقَاتل مَعَه بَصِيرَة لَيست لِلْعَدو لِأَنَّهُ يطْلب العودة إِلَى وَطنه وَأَهله وَمَاله وَأما أَن لَا ينْفَصل وَلَا يرهبنا بل يكاشفنا فِي الْعَدَاوَة ويتكثر علينا بإشكاله من الرّعية فينصرونه علينا وَإِن لم يَكُونُوا على مثل رَأْيه إِلَّا أَن فِي الرّعية من أعقده الحرمان وَمن أحقده التَّأْدِيب وَجُمْهُور الرّعية يتعصبون على الأجناد لأَنهم لن يعدموا مِنْهُم أَذَى واستطالة فَإِن سومحوا أفسدوا المملكة وَإِن قصد الْمُسِيء بالعقوبة خَافَ البريء أَن تتعدى الْعقُوبَة إِلَيْهِ فانحاز إِلَى الْمُسِيء لَعَلَّه المشاكلة لَهُ وَلَو كَانَ عدوا لَهُ كَمَا أَن الكلبين إِذا تهارشا

فرأيا ذئبا فَإِنَّهُمَا يتركان تهارشهما ويجتمعان على الذِّئْب وَإِن كَانَ مثلهمَا فِي الْخلقَة لكنهما يعاديانه فيصطلحان عِنْد التعاون عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْعَاميّ لاينظر الى الْملك من حَيْثُ تحَققه فِي الْخلق الإنساني بل ينظر إِلَيْهِ من حَيْثُ تفرده وأنفته وعلو همته وجرأته وشجاعته وَكَثْرَة مَاله فينافره ويألف بالعامي الَّذِي هُوَ يشاكله فِي جَهله وطبعه وَغير ذَلِك من أخلاقه وَلَا تَخْلُو الرّعية من ناسك أَحمَق يظنّ أَنه يغْضب للدّين فيحمله حمقه وجهله على الْخُرُوج من وَاجِب الطَّاعَة فَيكون أمره فِي الرّعية أنفذ من أَمر الْملك فِي الْجند وَقد قيل ثَلَاثَة إِن كاشفتهم فِي امتحان مَا عنْدك فِي ثَلَاثَة أَحْوَال خسرتهم أحدهم الْمُؤَدب لَك إِذا امتحنت ماعنده من الْعلم فِي حَال تأدبك

الثَّانِي صديقك إِذا امتحنت مَا عِنْده من الْبَذْل فِي حَال فاقتك الثَّالِث زَوجتك إِذا امتحنت مَا عِنْدهَا من محبتك فِي حَال كهولتك وامتحان الرّعية فِي هَذِه الْحَال أشبه شَيْء بِمَا ذَكرْنَاهُ وَقد قَالَ الْحُكَمَاء إِن للدولة أمراضا يخَاف أَن تَمُوت بهَا أخطرها أَرْبَعَة أَشْيَاء مايعرض للْملك من الْكبر وَمَا يعرض من لَهُ من الْغَضَب فَإِن دولته فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ تضطرب لِخُرُوجِهِ عَن حد الِاعْتِدَال فِي السياسة وَالثَّالِث مَا يعرض لَهُ من الْحِرْص فَإِنَّهُ إِذا حرص عسف وظلم وَالرَّابِع هيج الرّعية فَقَالَ الْملك صدق الْحَكِيم قَالَ الْوَزير الرَّابِع وَكَانَ أوسعهم علما وأفضلهم رَأيا إِنِّي وأصحابي كأصابع الرَّاحَة فِي حَاجَة بَعْضهَا إِلَى بَعْضهَا وَقوم بَعْضهَا بِبَعْض وكل منا يستمد من نور عقل الْملك ينظره إِلَيْنَا استمداد النُّجُوم الدراري من نور الشَّمْس وَإِنِّي أرى غير رَأْي أَصْحَابِي لَا مترفعا عَلَيْهِم

وَلَا عائبا لآرائهم لِأَن الْقبُول وَالرَّدّ إِلَى الْملك لَا إِلَى غَيره فَإِن أذن الْملك ذكرته فَقَالَ الْملك قل أَيهَا الْوَزير الناصح فلك ولأصحابك عندنَا الثِّقَة بكم والكرامة لأنكم من المناصحة لنا وَالْأَدَاء إِلَيْنَا كالحواس الْخمس للقلب فسجدوا لَهُ ثمَّ رفعوا رؤوسهم فَقَالَ الْوَزير إِن الرّعية قَليلَة النّظر فِي العواقب غير متحفظة من المعاطب وَقد دب فِيهَا اسْم الْفساد ومكاشفتها الْآن خطر وَالظفر بهَا وَهن فِي الْملك والعدو قوي الطمع شَدِيد الْحِرْص مستشعر بالظفر وَلَا يرضيه إِلَّا الغلب فَإِن رأى الْملك أَن يصرف همته أَولا إِلَى الِاسْتِظْهَار باتخاذ معقل حَرِير يَأْمَن فِيهِ على أَهله وخواصه وذخائره وَمن خلصت نِيَّته من رَعيته فَإِنِّي أعرف فِي مَمْلَكَته عقلا شاهقا يطلّ على أهل الأَرْض إطلال زحل على الْكَوَاكِب وَهُوَ مَعَ ذَلِك لذيذ الْهَوَاء فرات المَاء وَقد كَانَ بعض أسلاف الْملك أثر فِيهِ آثارا محكمَة فَإِن رأى الْملك أَن يتم بِهِ سعى سلفه ثمَّ يودعه ذخائره ويجعله للإقامة استظهارا ثمَّ يلق عدوه إِن أقدم على بِلَاده فَإِن ظَهرت

خِيَانَة أنصاره انجاز بأوليائه إِلَى ذَلِك المعقل وألزم نَفسه الصَّبْر وانتظار الْفرج قَالَ فسر الْملك بِرَأْي الْوَزير وَوَقع إِجْمَاعهم على تَرْجِيحه ثمَّ ركب فِي خاصته وحماته حَتَّى أَتَى ذَلِك المعقل فحشد إِلَيْهِ الأعوان وألزمهم الْإِسْرَاع فِي إِكْمَال بنائِهِ وبادر من فوره فَنقل إِلَيْهِ خَاص بيُوت أَمْوَاله ونفائس ذخائره وخزائن سلاحه وشحنه بالأقوات والأطعمة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يسد الثغور وَأَن الْمَرْزُبَان اقتحم أَطْرَاف بِلَاده بالجيوش المتوافرة ونازل الثغور وَظَهَرت دعاة كسْرَى فِي تِلْكَ النَّاحِيَة فِيمَن استمالوه من أَهلهَا فَظهر الْمَرْزُبَان على من نازله ثمَّ جعل يطوي بِلَاد الأركن لَا يمْتَنع عَلَيْهِ مرام حَتَّى وافته جنود الأركن فدافعته بعض المدافعه فَانْهَزَمَ من فَسدتْ نِيَّته فِي الأركن وَانْهَزَمَ المناصحون بإنهزامهم وَاسْتولى الْمَرْزُبَان على تِلْكَ الأَرْض وإنحاز الأركن وَأَتْبَاعه المناصحون إِلَى ذَلِك المعقل فَسَار خَلفه الْمَرْزُبَان حَتَّى أشرف على معقله فَرَآهُ منْظرًا رائعا ومعقلا مَانِعا فَلم يُمكنهُ النُّزُول بساحته فَرجع من فوره إِلَى الْبِلَاد فولي فِيهَا الْوُلَاة والعمال واستقامت المملكة للمرزبان

ثمَّ إِن اغتام الْفرس جعلُوا يعاملون أهل الْهِنْد بالقسوة والفظاظة ويعبثون بهم ويسخرون مِنْهُم فبدت الشحناء فِي النُّفُوس وَرَأى أهل الْهِنْد خراج بِلَادهمْ يحمل وَيصرف إِلَى غَيرهم وَقد دخلُوا تَحت حكم الْأَعَاجِم فداخلتهم الْغيرَة وَالْحمية فعرفوا فضل مَا كَانُوا فِيهِ ومشقة مَا صَارُوا إِلَيْهِ فبسطوا ألسنتهم بالتسخط وَتوقف الْمَرْزُبَان عَن ردعهم لِئَلَّا يوحشهم فَكَانَ أَمرهم إِلَى زِيَادَة وَأما الأركن فَإِن وزرائه أشاروا عَلَيْهِ بِالصبرِ وكف الْأَذَى وَبسط الْعدْل وَالْإِحْسَان وبذل المَال والصفح عَن المجرم وتألف المستوحش فَكَانَت سمعته تزداد حسنا والنفوس إِلَيْهِ ميلًا والألسنة لَهُ شكرا والمرزبان بعكس ذَلِك وَاتفقَ أَن غُلَاما من عُمَّال الْمَرْزُبَان على بعض الثغور أَسَاءَ السِّيرَة فَقَامَ إِلَيْهِ ناسك من نساك الْهِنْد يعظه فَغَضب عَلَيْهِ وَأمر بقتْله فثار أهل الْبَلَد على الْعَامِل فَقَتَلُوهُ فَبلغ الْخَبَر إِلَى الْمَرْزُبَان فَجَاءَهُ بجُنُوده فانحاز أهل تِلْكَ النَّاحِيَة إِلَى حصن الأركن ثمَّ ثارت الهنود فِي الْبِلَاد وَسَار الْمَرْزُبَان رَاجعا إِلَى بِلَاده لما قَامَت الرّعية وَخرج من تِلْكَ المملكة وَعَاد الأركن إِلَى دَار ملكه فَجرى على سنَن الْعدْل قامعا للشهوات باذلا للراحات مُسْتَعْملا مَا أفادته التجارب من الأداب حَتَّى بلغ أَجله

الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل لما عزم الْأمين على انتزاع الْعَهْد بالخلافة عَن أَخِيه الْمَأْمُون وَكَانَ الْمَأْمُون أَمِيرا بخراسان كتب إِلَيْهِ الْأمين يستدعيه

وَيذكر حَاجته إِلَيْهِ وَأَنه يُريدهُ لأمر مُهِمّ تضيق عَنهُ الْكتب وَإِن جواسيس الْمَأْمُون وعيونه بِبَغْدَاد كتبُوا إِلَيْهِ يعرفونه أَن أَخَاهُ الْأمين يُرِيد تَحْويل الْخلَافَة عَنهُ إِلَى وَلَده مُوسَى النَّاطِق فَاطلع الْمَأْمُون خاصته على الْخَبَر واستشارهم فِي أمره فأشاروا عَلَيْهِ أَن يثبت مَكَانَهُ وينتظر الْفرج وَيكْتب إِلَى أَخِيه يعْتَذر إِلَيْهِ ويتعلل بأعلال فَفعل ذَلِك فَعلم الْأمين أَنه قد فطن

لما يُرَاد بِهِ وأيس من نجح مكيدته فَحِينَئِذٍ دَعَا النَّاس إِلَى خلع الْمَأْمُون من عهد الْخلَافَة ثمَّ الْتفت إِلَى عَليّ بن عِيسَى بن ماهان وشاوره فِي أَمر خُرَاسَان وَكَانَ عَليّ بن عِيسَى قد ولى خُرَاسَان قبل ذَلِك واصطنع إِلَى أَهلهَا جلائل الصَّنَائِع وغمرهم بِالْإِحْسَانِ وَالْعدْل

فضمن لَهُ مَا يُريدهُ مِنْهَا فجهزه الْأمين بِأَحْسَن جهاز وولاه خُرَاسَان وجهز مَعَه جُمْهُور جُنُوده فَخرج عَليّ بن عِيسَى بالجيوش طَالبا خُرَاسَان فَبلغ ذَلِك إِلَى الْمَأْمُون فاضطرب أمره وَعلم أَنه يعجز عَن مقاومة عَليّ بن عِيسَى لميل أهل خُرَاسَان إِلَيْهِ ومحبتهم لَهُ فَركب إِلَى متنزه لَهُ ليشاور وزراءه فِي تَدْبِير أمره فعارضه فِي الطَّرِيق شيخ مَجُوسِيّ قد احدودب من هرمه وَكبره فناداه بِالْفَارِسِيَّةِ مستعينا بِهِ من مظْلمَة نالته فَلَمَّا نظر الْمَأْمُون إِلَى هرمه وَكبر سنه رق لَهُ وَأمر أَن يحمل على دَابَّة إِلَى الْموضع الَّذِي هُوَ قاصده وَيدخل عَلَيْهِ بِغَيْر اسْتِئْذَان وَلما اسْتَقر الْمَأْمُون ووزراءه

فِي ذَلِك الْموضع أَدخل عَلَيْهِ ذَلِك الشَّيْخ الْمَجُوسِيّ فَأمره بِالْجُلُوسِ فِي حَاشِيَة الْمجْلس ثمَّ أقبل على خاصته وَأخْبرهمْ بِمَا انْتهى إِلَيْهِ من أَمر عَليّ بن عِيسَى وَأمرهمْ بإدارة الْفِكر فِي الرَّأْي فِي ذَلِك وَهُوَ يظنّ أَن ذَلِك الشَّيْخ لَا يحسن الْعَرَبيَّة إِلَى أَن قَالَ أحد الوزراء الرَّأْي اصطناع أجناد من الأغنام الَّذين لَا يعْرفُونَ عَليّ بن عِيسَى فنلقاه بهم قبل دُخُوله أَرض خُرَاسَان فَقَالَ الْوَزير الثَّانِي الرَّأْي أَن تبادر بِالْإِرْسَال إِلَى أَخِيك معتذرا ومنقادا لما يُريدهُ مِنْك الْيَوْم ومنتظرا نصر الله تَعَالَى فِي غَد فَإنَّك مكره على الْخُرُوج

من عهد الْخلَافَة إِكْرَاها لم يخف على أحد من النَّاس فَهُوَ حق لَك مَتى أمكنك طلبه وَكنت فِيهِ على حجَّة ظَاهِرَة قَالَ الْوَزير الثَّالِث الرَّأْي أَن تجمع من تثق بموالاته من ذِي النجدة والشجاعة فتزيح عللهم وتقصد بهم بعض هَذِه الممالك الْكَافِرَة الْمُجَاورَة لنا فتصدقهم الْقِتَال فَلَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يظفرنا بهم فنصير إِلَى مَمْلَكَته منيعة قَوِيَّة ويفزع إِلَيْنَا من كَانَ على مِثَال أمرنَا ونجاهد حَتَّى يقْضِي الله أمره قَالَ الْوَزير الرَّابِع الرَّأْي أَن تنحاز إِلَى ملك

التّرْك مستجيرا بِهِ ومستيعنا على اخيك الغادر فَهَذَا أَمر لم تزل الْمُلُوك تَفْعَلهُ إِذا دهمها مَالا قبل لَهَا بِهِ فَلَمَّا سمع الْمَأْمُون كَلَامهم جَمِيعًا قَالَ لَهُم قومُوا عني حَتَّى أنظر فِيمَا ذكره كل وَاحِد مِنْكُم ثمَّ إِنَّه الْتفت إِلَى الشَّيْخ فناداه ورفق بِهِ وَسَأَلَهُ عَن حَاجته فَقَالَ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ جِئْت لحَاجَة فَعرض لي مَا هُوَ أوكد مِنْهَا فَقَالَ لَهُ المامون تكلم بِمَا فِي نَفسك قَالَ أَيهَا الْأَمِير لَا تصدنك حقارة قدري فَإِن الدرة النفسية لَا يزري بهَا حقارة الغواص

فَقَالَ الْمَأْمُون مَا بِنَا عَنْك أَيهَا الشَّيْخ رَغْبَة فَتكلم بِمَا عنْدك قَالَ إِنِّي سَمِعت مَا أَشَارَ بِهِ الْقَوْم عَلَيْك وكل مِنْهُم متجهد فِي الْإِصَابَة وَإِنِّي لست أرضي شَيْئا مِمَّا قَالُوهُ وَإِنِّي وجدت فِي الحكم الَّتِي أَخذهَا آبَائِي عَن آبَائِهِم أَنه يَنْبَغِي للعاقل إِذا دهمه مَا لَا قبل لَهُ بِهِ أَن يلْتَزم نَفسه التَّسْلِيم لأحكام الْحَكِيم واهب الْعقل وقاسم الحظوظ وَلَا يتْرك بذلك الدفاع بِحَسب طاقته فَإِنَّهُ إِن لم يحصل على الظفر حصل على الْعذر فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون إِن هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ قاصدنا أملك منا بالبلاد وَلَا يمكننا مقاومته قَالَ الشَّيْخ يَنْبَغِي أَن تمحو هَذَا من نَفسك وَلَا تصغي إِلَى من ينْطق بِهِ فَإِنَّهُ مَا كثر من كَثْرَة الْبَغي وَلَا قوي من قواه الظُّلم وَإِن أَخَاك ظَالِم بَاغ عَلَيْك فَهُوَ هَالك لَا محَالة وَأَنت مَنْصُور عَلَيْهِ ظافر بِهِ

وسأحدثك حَدِيثا إِن حذوت مِثَاله نلْت مناله فَقَالَ الْمَأْمُون هَات يَا شيخ قَالَ إِن اخشنوار ملك الهياطلة لما أسر فَيْرُوز بن يزدجرد ملك الْفرس وَأَرَادَ إِطْلَاقه أَخذ عَلَيْهِ عهدا أَن لَا يَغْزُو بِلَاده وَلَا يَقْصِدهُ بمكروه وَلَا يتَعَرَّض إِلَيْهِ بِسوء وَوضع فِي أقْصَى تخوم أَرض الهياطلة صَخْرَة وواثق فَيْرُوز أَن لَا يتَجَاوَز أحد مِنْهُمَا تِلْكَ الصَّخْرَة بِجَيْش وَلَا مَكْرُوه لصَاحبه ثمَّ أطلقهُ بَعْدَمَا استوثق مِنْهُ الخشنوار بالعهود فَلَمَّا وصل فَيْرُوز إِلَى دَار ملكه داخلته الحمية والأنفة وعزم على غَزْو الخشنوار وعَلى أَخذ بِلَاده وَاسْتِيفَاء ثَأْره فَجمع وزراءه وشاورهم فِي ذَلِك فحذروه النكث وخوفوه عَاقِبَة الْبَغي والغدر فَمَا ردعه ذَلِك عَمَّا عزم عَلَيْهِ فاذكروه أيمانه الَّتِي حَلفهَا لَا خشنوار والصخرة الَّتِي بَين المملكتين فَقَالَ لَهُم إِنِّي عاهدته بِأَن لَا أتجاوزها بجيوشي وَإِذا أَنا بلغتهَا حملتها على

فيل بَين يَدي جيوشي فَلَا يتجاوزها أحد مِنْهُم وَإِذا فعلت ذَلِك فَلَا أكون نَاكِثًا وَلَا غادرا فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك مِنْهُ علمُوا أَن الْهوى قد وقف بِهِ على حد الرِّضَا بِهَذَا القَوْل والتأويل فامسكوا عَنهُ ثمَّ إِن فَيْرُوز جمع مرازبته وهم أَرْبَعَة مَعَ كل مرزبان مِنْهُم خَمْسُونَ ألف فَارس وامرهم بالتجهز لِحَرْب الهياطلة فَلَمَّا فعلوا ذَلِك سَار بهم فَيْرُوز وَظن أَن جيوشه لَا غَالب لَهَا لكثرتها وَشدَّة شوكتها فعارضه موبذان موبذ فِي طَريقَة فَقَالَ أَيهَا الْملك لَا تفعل فَإِن رب الْعِزَّة وخالق الْعَالم يُمْهل الْمُلُوك على الْجور وَلَا يمهلهم إِذا أخذُوا فِي هدم أَرْكَان الدّين وَإِن العهود من أَرْكَان الدّين فَلَا تعرض لَهُ بِسوء فتهلك فَلم يلْتَفت إِلَى كَلَامه وَسَار رَاكِبًا هَوَاهُ فِي مَعْصِيَته ومخالف نصحائه حَتَّى انْتهى إِلَى الصَّخْرَة الَّتِي جعلهَا حاجزا بَين أرضه وَأَرْض اخشنوار فحملها على فيل وسيرها بَين يَدي عسكره وَإِن الخشنوار لما بلغه مسير فَيْرُوز إِلَيْهِ حمل نَفسه على التثبت وفوض أمره إِلَى الرب الْأَعْلَى وَسَأَلَهُ أَن يغْضب لعهوده

ومواثيقه الَّتِي لم يرع حَقّهَا فَيْرُوز وَلَا خَافَ تبعه نكثها وَأخذ فِي ذَلِك بالحزم فِي سد ثغوره وَجمع جنده ثمَّ خرج إِلَى فَيْرُوز بَعْدَمَا توَسط أرضه وعاث فِي بِلَاده ففاجأه الخشنوار وَصدقه الحملة فانكشف فَيْرُوز مُنْهَزِمًا وَأسلم مَا كَانَ بِيَدِهِ فَقتل اخشنوار رِجَاله وغنم أَمْوَاله وأمعن فِي طلب فَيْرُوز فظفر بِهِ وَقَتله وَأسر أهل بَيته وحماة أَصْحَابه وَاسْتولى على بِلَاده كل ذَلِك بِسَبَب الْغدر وَنقص الْمِيثَاق وَكَذَلِكَ سَبَب أَخِيك لغدره بك وَنقض مِيثَاق أَبِيك وَأَنت ظافر بِهِ لَا محَالة فَلَمَّا سمع الْمَأْمُون كَلَام الشَّيْخ تهلل وَجهه وَطَابَتْ نَفسه وَقَالَ قد سَمِعت مَقَالَتك فصادفت منا قبولا وشكرا عَلَيْهَا وسرورا ثمَّ حَيَاة وأكرمه وَعمل بِرَأْيهِ فأنجح الله عمله وبلغه من الْخلَافَة أمله الْحِكَايَة الثَّالِثَة قيل إِن عبد الْملك بن مَرْوَان لما ندب

النَّاس لقِتَال عبد الله بن الزبير وَخرج بالجيش مُتَوَجها إِلَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى وعظمها وَكَانَ قد استصحب مَعَه عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ

وَكَانَ عَمْرو قد اطوى على دغل نِيَّة وَفَسَاد طوية وطماعية فِي نيل الْخلَافَة فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطّرق تمارض عَمْرو بن سعيد وَاسْتَأْذَنَ عبد الْملك بن مَرْوَان فِي الْعود إِلَى دمشق فَأذن لَهُ فَلَمَّا دخل دمشق صعد الْمِنْبَر فَخَطب النَّاس خطْبَة نَالَ فِيهَا من عبد الْملك ودعا النَّاس إِلَى خلعه من الْخلَافَة فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَبَايَعُوهُ

وَاسْتولى على دمشق وحصن سورها وَحمى ثغورها وبذل الرغائب ثمَّ اتَّصل الْخَبَر إِلَى النُّعْمَان بن بشير أميرحمص فَنزع يَده من الطَّاعَة أَيْضا وَكَذَلِكَ صنع زفر بن الْحَارِث أَمِير

قنسرين وَكَذَلِكَ نائل بن قيس أَمِير فلسطين ثمَّ تشوف أهل الثغور للْخلاف فَبلغ ذَلِك عبد الْملك بن مَرْوَان فَخرج على وزرائه وَأهل خاصته فا طلعهم على مَا بلغه وَقَالَ هَذِه دمشق دَار ملكنا قد استولى عَلَيْهَا عَمْرو بن سعيد وَهَذَا عبد الله بن الزبير قد استولى على الْحجاز وَالْعراق واليمن وَهَذَا النُّعْمَان بن بشير أميرحمص وَزفر أَمِير قنسرين ونائل بن قيس أَمِير فلسطين قد نزعوا أَيْديهم من الطَّاعَة وَبَايع النَّاس لِابْنِ سعيد وَقد تشوف أهل الثغور للْخلاف فَمَا عنْدكُمْ من الرَّأْي

قَالَ فَلَمَّا سمعُوا مقَالَته ذهلت عُقُولهمْ ونكسوا رؤوسهم فَقَالَ لَهُم مالكم لَا تنطقون فَهَذَا وَقت الْحَاجة إِلَيْكُم هَل ترَوْنَ الرُّجُوع إِلَى دمشق أصوب أم التَّوَجُّه إِلَى ماخرجنا إِلَيْهِ أحزم أم اللحاق بفلسطين أَجود أم النُّزُول على حمص واستنزال النُّعْمَان مِنْهَا آكِد أم الانحياز فِي هَذَا الْوَقْت إِلَى مصر أغنم كَيفَ ترَوْنَ الرَّأْي فَقَالَ لَهُ أفضلهم لَا أرى عندنَا فِي هَذَا وَالله لقد وددت أَن أكون حرباء

على عود من أَشجَار تهَامَة حَتَّى تَنْقَضِي هَذِه الْفِتْنَة قَالَ فَلَمَّا سمع عبد الْملك كَلَامه علم أَنه لَا غنى لَهُ عِنْدهم فَقَامَ عَنْهُم وَأمرهمْ بِلُزُوم مواضعهم وَركب من فوره مُنْفَردا وَهُوَ يَقُول (تكاثرت الظباء على خرَاش ... فَمَا يدْرِي خرَاش من يصيد) وَأمر جمَاعَة من أَصْحَابه أَن يركبُوا متباعدين مِنْهُ بِحَيْثُ يرَوْنَ إِشَارَته إِذا أَشَارَ إِلَيْهِم وَسَار ثمَّ تبعه الْقَوْم فَلم يزل سائرا مُنْفَردا حَتَّى أَتَى إِلَى شيخ كَبِير السن ضَعِيف الْجِسْم يجتني العفص من الْأَشْجَار

فَسلم عَلَيْهِ عبد الْملك ثمَّ قَالَ لَهُ أَيهَا الشَّيْخ أَلَك علم بمنزل هَذَا الْعَسْكَر فَقَالَ بَلغنِي أَنهم نزلُوا بِأَرْض كَذَا وَكَذَا قَالَ فَهَل بلغك شَيْء مِمَّا يَقُول النَّاس فِي أَمر الْخَلِيفَة قَالَ فَمَا سؤالك عَن ذَلِك قَالَ لِأَنِّي أُرِيد اللحاق بِهِ وَالدُّخُول عَلَيْهِ وَقد سَمِعت أَن عَمْرو بن سعيد قد خَالفه إِلَى دمشق وَاسْتولى عَلَيْهَا فَقَالَ الشَّيْخ إِنِّي أَرَاك أديبا وأحسبك حسيبا فَهَل تحب أَن أنصح لَك قَالَ نعم أَيهَا الشَّيْخ قَالَ يَنْبَغِي لَك أَن تصرف نَفسك عَن هَذَا الْأَمر الَّذِي ترغب إِلَيْهِ فَإِن الْأَمِير الَّذِي أَنْت قاصده قد انْحَلَّت عرى ملكه وَقد نابذه أَتْبَاعه واضطربت أُمُوره وَإِن السُّلْطَان فِي حَال اضْطِرَاب أُمُوره كالبحر فِي حَال هيجه لاينبغي أَن يقرب أحد مِنْهُ فَقَالَ لَهُ عبد الْملك إِن الحنكة لم تبلغ بِي فِي مغالبة نَفسِي فِي كل مَا نزعت إِلَيْهِ وَإِنِّي أَجدهَا تنْزع إِلَى صُحْبَة

هَذَا الْأَمِير نزاعا شَدِيدا وَلَا بُد لي من ذَلِك فَهَل لَك أَن تُخبرنِي بِمَا ترَاهُ من الرَّأْي فِي تَدْبيره لهَذِهِ الخطوب الَّتِي دهمته حَتَّى أعرض ذَلِك الرَّأْي عَلَيْهِ وأتنفق بِهِ عِنْده فَلَعَلَّهُ أَن يكون سَببا لقربي مِنْهُ فَقَالَ الشَّيْخ إِن حِكْمَة الله تَعَالَى وعزته لتقضيان بحجب الْعُقُول والأراء عَن النّفُوذ فِي بعض النَّوَازِل وَإِنِّي لأَظُن أَن هَذِه النَّازِلَة الَّتِي نزلت بالخليفة من النَّوَازِل الَّتِي لَا ينفذ فِيهَا الرَّأْي وَإِنِّي أكره مَعَ ذَلِك أَن أرد مسألتك بالخيبة فها أَنا أَقُول لَك فِيمَا سَأَلتنِي عَنهُ قولا أَقْْضِي بِهِ حَقك وَإِن كَانَ الْخطب عَظِيما قَالَ عبد الْملك إِنِّي لأرجوا أَن يرشدك الله ويرشدني بك فَقَالَ الشَّيْخ إِن عبد الْملك خرج لمحاربة عبد الله بن الزبير فَظهر من مَشِيئَة الله تَعَالَى مَا صده عَن ذَلِك وَإِنِّي مشير عَلَيْك أَن تتفقد حَال عبد الْملك فَإِن رَأَيْته قد قصد عبد الله بن الزبير فَاعْلَم أَنه مخذول لامحالة لِأَنَّهُ لج فِي طلب مَا منع مِنْهُ وَإِن رَأَيْته رَجَعَ من حَيْثُ

جَاءَ فارجوا لَهُ السَّلامَة والنصر لِأَنَّهُ مستقيل فَقَالَ لَهُ عبد الْملك أَيهَا الشَّيْخ أوضح لي مَا ذكرت لينطبع فِي فهمي صورته قَالَ الشَّيْخ إِن عبد الْملك إِذا قصد عبد الله بن الزبير كَانَ فِي صُورَة ظَالِم لَهُ لِأَن ابْن الزبير لم يُعْطه قطّ طَاعَة وَلَا وثب لَهُ على مملكة فَأَما إِذا قصد عَمْرو بن سعيد بِدِمَشْق فَإِنَّهُ يكون فِي صُورَة مظلوم لِأَن عمرا رجل من رَعيته طلب الْخلَافَة لنَفسِهِ واغتصب دَار ملك لم تكن لَهُ وَلَا لِأَبِيهِ بل كَانَت لعبد الْملك ولأبيه ثمَّ إِن عمروا بن سعيد ظَالِم لَهُ من وَجه آخر وَذَلِكَ أَنه ابْن عَم عبد الْملك وَعز عبد الْملك عز لَهُ وَقد كَانَ محسنا إِلَيْهِ فَلَمَّا خرج عبد الْملك لتشييد عز نصب عمروا بن سعيد مِنْهُ أوفر حَظّ غدر بِهِ ونكث عَهده فخذله ثمَّ سعى فِي اجتثاثه من

أَصله وأشمت بِهِ عدوهما فرجوع عبد الْملك إِلَى دمشق استقالة وَهُوَ أشبه بالتفويض وَالتَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى وَلَا شكّ أَنه يظفر بِمن خانه وبغى عَلَيْهِ وَنقض عَهده فَإِن الْبَاغِي مصروع وَإِذا ظفر بِهِ استقال النُّعْمَان وَزفر وَمن عَداهَا من أهل الثغور وَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَة عِنْد مُعَاينَة الظفر بِعَمْرو بن سعيد قَالَ فسر عبد الْملك بمقاله الشَّيْخ وعزم على اتِّبَاع رَأْيه وَقَالَ لَهُ جَزَاك الله خيرا يَا شيخ فقد أَحْسَنت فِيمَا أَشرت فاخبرني بِاسْمِك وَأَيْنَ مَنْزِلك فَقَالَ الشَّيْخ وَمَا تُرِيدُ من ذَلِك قَالَ لأقضي حَقك

فارفع إِلَيّ حوائجك فَإِنِّي أَنا عبد الْملك فَقَالَ الشَّيْخ وَأَنا أَيْضا عبد الْملك فَهَلُمَّ بِنَا نرفع حوائجنا جَمِيعًا إِلَى من أَنا وَأَنت لَهُ عَبْدَانِ ثمَّ تَركه الشَّيْخ وَانْصَرف قَالَ فَذهب عبد الْملك وَعمل بِرَأْي الشَّيْخ فأنجح وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

الْبَاب الْعَاشِر فِي معرفَة أصُول السياسة وَالتَّدْبِير إعلم أَن الْملك الْعَظِيم يحسن بِهِ أَن يكون فِي تصاريف تَدْبيره وسياسة أُمُوره متشبها بطباع ثَمَانِيَة وَهِي الْغَيْث وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالرِّيح وَالنَّار وَالْمَاء وَالْأَرْض وَالْمَوْت أما الْغَيْث فَإِنَّهُ ينزل متواترا فِي أَرْبَعَة أشهر من السّنة فيساوي بَين كل أكمة مشرفة وَمَوْضِع منخفض فتخزن تِلْكَ الْبِقَاع مَا تغذي مِنْهُ نباتها فِي الثَّمَانِية الْأَشْهر الْبَاقِيَة من السّنة وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي

للْملك أَن يُعْطي جنده وعماله فِي أَرْبَعَة أشهر للثمانية أشهر الْبَاقِي حسب مَا يرَاهُ من الْمصلحَة فَيجْعَل رفيعهم ووضيعهم فِي الْحق الَّذِي يستوجبه فِي الْقِسْمَة بَينهم على قدر مَرَاتِبهمْ كَمَا يُسَوِّي الْغَيْث بَين بقاع الأَرْض

وَأما الشَّمْس فَإِنَّهَا تستقض بحرها وحدة وقعها فِي الثَّمَانِية أشهر الْبَاقِيَة من السّنة نداوة الْغَيْث الَّذِي تَوَاتر فِي أَرْبَعَة أشهر كَذَلِك يَنْبَغِي أَن يستقضي قبض مَا حل من خراجه فِي الثَّمَانِية أشهر

الْبَاقِيَة من السّنة وَاسْتِيفَاء جَمِيع حُقُوقه من رَعيته من ثمن غلاتهم وَمَا شيتهم وَغير ذَلِك من الْحُقُوق الْوَاجِبَة لَهُ عَلَيْهِم كَمَا تستقض الشَّمْس نداوة الْغَيْث من الأَرْض وَأما الْقَمَر فَإِنَّهُ إِذا طلع لتمامه انْتَشَر نوره على الْخلق وَأنس النَّاس لضوئة وإشراقه واستوى فِي ذَلِك الْقَرِيب والبعيد وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للْملك أَن يكون فِي بهجته ورتبته وإشراقه فِي مَجْلِسه وإيناس الرّعية بِهِ وعدله مثل الْقَمَر فِي طلوعه وإشراقه فَلَا يخص شريفا دون وضيع بعدله وإيناسه وَلَا يحتجب عَنْهُم فتظلم أَحْوَالهم وَيَزُول أنسهم

ويقل انتعاشهم كَمَا إِذا احتجب الْقَمَر فِي اللَّيَالِي السود وَأما الرّيح فَإِنَّهَا بلطفها مُحِيطَة بالعالم السفلي وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للْملك أَن يكون بِلُطْفِهِ وحذق جواسيسه وعيونه محيطا بِمَعْرِِفَة أَحْوَال رَعيته وقواده وولاه ثغوره وأعماله وحاشيته وجنده عَارِفًا بأخبار أعدائه

ونظرائه عَالما بِمَا يعْملُونَ وَمَا يأتمرون بالعيون الثقاب والجواسيس المنتقاة

وَأما النَّار فَيكون مثلهَا فِي الحدة على أهل الدعارة وَالْفساد

وَأَصْحَاب الشَّرّ لايبقى أحدا مِنْهُم وَلَا يذر وَلَا يتْرك لَهُم عينا وَلَا أثرا وَأما المَاء فَإِنَّهُ مَعَ لينه وسلاسته يقْلع الْأَشْجَار الْعَظِيمَة ويقهر من قاومه بالسباحة وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للْملك أَن يكون لينًا لمن لاينه شَدِيدا على من خَالفه ينصب لأعدائه الغوائل مَعَ لينه ورفقه حَتَّى يقلعهم

كَمَا يفعل المَاء وَأما الأَرْض فَإِنَّهَا تُوصَف بكتمان السِّرّ وَاحْتِمَال الْأَذَى وَالصَّبْر على المكاره وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للْملك أَن يكون مثلهَا فِي جَمِيع ذَلِك وَأما الْمَوْت فَإِنَّهُ يَأْتِي بَغْتَة ويعافص أهل اللَّذَّات على مَا هم عَلَيْهِ وَلَا يقبل مِمَّن نزل بِهِ رشوة وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للْملك أَن يبغت

عدوة من حَيْثُ لَا يشْعر بِهِ ويعافص أهل الْعَدَاوَة والدعارة فِي غفلاتهم كَمَا يفعل الْمَوْت وَاعْلَم أَن المملكة مثلهَا مثل الْبُسْتَان فَيَنْبَغِي أَن يسوسها الْملك فِي غَالب الْأَحْوَال كَمَا يسوس صَاحب الْبُسْتَان بستانه فَمن ذَلِك أَنه ينتخب أهل الشكيمة من جنده وَذَوي الشَّوْكَة من أعوانه فيجعلهم فِي

أقاصي بِلَاده وأطرف مَمْلَكَته ليحفظ بهم الرّعية كَمَا يفعل صَاحب الْبُسْتَان فَإِنَّهُ يخرج الشّجر ذَوَات الشوك وَمَا فضل من العيدان فيحيط بهَا على الشَّجَرَة المثمرة والزرائع الطّيبَة لقيها من أهل الْفساد وَالدَّوَاب المؤدية ثمَّ يطهر رَعيته من أهل الْفساد والدعارة ويخرجهم من بَينهم أَو يصلحهم بِإِقَامَة الْحُدُود وَإِظْهَار السياسة فَإِنَّهُ إِذا فعل ذَلِك صلحت أَحْوَال الرّعية وانتعشوا وَكثر خَيرهمْ كَمَا يفعل صَاحب الْبُسْتَان فَإِنَّهُ ينقي بستانه من الْحَشِيش الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ وَيخرج مَا فِيهَا من الشوك والنبات الْخَبيث فينتعش زَرعهَا وينموا شَجَرهَا ويطيب ثَمَرهَا وَمَتى حل خراج الْملك أَو تعين لَهُ حق على رَعيته من أَمْوَال الثِّمَار والغلات فَلَا يُؤَخر قَبضه عَن وَقت مَحَله فَيكون معرضًا للهلاك بآفات الزَّمَان كَمَا يفعل صَاحب الْبُسْتَان فَإِنَّهُ لَا يُؤَخر اجتناء مَا نضج من ثمره وَمَا طلع من ورده لِأَنَّهُ إِن لم يُبَادر ألى الْتِقَاطه سقط على الأَرْض

وأحاطت بِهِ الْآفَات وَيَنْبَغِي أَن يتَعَاهَد أَبنَاء جنده وأعوانهم الَّذين مَاتُوا فِي خدمته وطاعته ويرضخ لَهُم من بَيت مَاله رزقا يقوم بكفايتهم فَإِنَّهُم أَرْجَى للْملك عِنْد بلوغهم وَأَشد نصحا فِي خدمته من غَيرهم كَمَا يتَعَاهَد صَاحب الْبُسْتَان خوالف شَجَرَة الهالكة بالسقي والتربية

لما يرجوه من خَيرهَا واستطابة ثَمَرهَا وَمَتى تباغض قائدان من قواده وَكَانَا متجاورين فِي مَوضِع فَيَنْبَغِي أَن يفرق بَينهمَا لِأَن خيرهما لَا يُرْجَى مَا داما متجاورين وَرُبمَا نتج مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا مَا لَا يُمكن تلافيه كَمَا يفرق صَاحب الْبُسْتَان بَين الشجرتين إِذا تداخلت أغصانهما لعلمه أَن خيرهما لَا يُرْجَى مَا دامتا كَذَلِك وَاعْلَم أَن الرّعية وَإِن كَانَت ثمارا مجتناة وذخائر مقتناة وسيوفا منتقاة وأحراسا مرتضاة فَإِن لَهَا نفارا كنفار الوحوش وطغيانا كطغيان السُّيُول وَمَتى قدرت على أَن تَقول قدرت على أَن تصول

وهم ثَلَاثَة أَصْنَاف يَنْبَغِي للْملك أَن يسوسهم بِثَلَاث سياسات صنف من أهل الْعقل والديانة وَالْفضل يعلمُونَ فضل الْملك وَطول عنائه ويرثون لَهُ من ثقل أعبائه فسياسة هَؤُلَاءِ تحصل بالبشر عِنْد لقائهم واستماع أَحَادِيثهم وَحسن الإصغاء إِلَيْهِم وصنف فيهم خير وَشر فسياسة هَؤُلَاءِ تحصل بالترغيب والترهيب

وصنف هم السفلة الرعاع أَتبَاع كل دَاع فسياسة هَؤُلَاءِ بإخافة غير مقنطعة وعقوبة غير مفرطة وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مِنْهُ إِلَّا أَن يكون أغلب أَوْصَافه عَلَيْهِ الرَّحْمَة للرعية لِأَن الْملك إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن السوقة بفضيلتين فَضِيلَة ذَاته وفضيلة آلاته أما فَضِيلَة ذَاته فَخمس خِصَال رَحْمَة تشد رَعيته ويقظة تحوطهم وصولة تذب عَنْهُم وفطنة يكيد بهَا الْأَعْدَاء وحزامه ينتهز بهَا الفرص إِذا أمكنته وَأما فَضِيلَة آلاته فستة وَهِي وفور أَمْوَاله وَكَثْرَة

أجناده وحصانه معاقله واتخاذ المباني الْوَثِيقَة وإعداد الملابس السّنيَّة وَتَحْصِيل الذَّخَائِر النفيسة وَلَا يَنْبَغِي للْملك أَن يعْتَمد على فطنته وَقُوَّة حيلته وَكَثْرَة مَاله وجنده وحصانه معاقلة فَيتْرك الاستعداد للنوازل وَلكُل مَا يجوز وُقُوعه من الْحَوَادِث فَيكون مثله كَمثل خطيب اعْتمد على فصاحة لِسَانه وَقُوَّة بديهته فَترك تزوير القَوْل وترتيبه ثمَّ صعد فيوشك أَن يستولي عَلَيْهِ العي عِنْد الْحَاجة بل يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم فِي الْحِيلَة لِلْأَمْرِ قبل نُزُوله فَإِن الْأُمُور إِذا

نزلت ضَاقَتْ عَنْهَا الْحِيَل فَهُوَ فِي الْمثل كالسكر الَّذِي يسكر على الأَرْض الَّتِي يخَاف غرقها فَإِنَّهُ إِن عمل قبل وُصُول المَاء إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يثبت وَيمْنَع الضَّرَر عَنْهَا وَإِن وصل المَاء إِلَيْهَا فَلَا حِيلَة فِيهِ بالسكر أَنْشدني بعض أهل الْعلم (أقدر بغيرك أَمر نَفسك وَاعْتبر ... وَانْظُر وَأَنت من الْأُمُور بمنظر) (وَإِذا هَمَمْت بورد أَمر فالتمس ... من قبل مورده طَرِيق الْمصدر) وَإِذا عرف الْملك وَجه الكيد الَّذِي يكيد بِهِ عدوه فَيَنْبَغِي أَن

يحترس من مثلهَا لِأَنَّهُ إِذا لم يحترس من مثلهَا كَانَ بِمَنْزِلَة الرَّامِي

الخاسر فِي الْحَرْب الَّذِي لَا تصير مَعَه فَهُوَ إِن أصَاب برمية فَهُوَ مستهدف رمية غَيره وَكَذَلِكَ الْملك إِذا احتال على عدوه بضروب الْحِيَل ثمَّ لم يتحفظ من كل مايظن أَن يبلغهُ من عدوه كَانَ عمله مَعُونَة عَلَيْهِ غير نَافِع لَهُ فِي الْعَاقِبَة وَقد كَانَ يُقَال احترس من تدبيرك على عَدوك كَا حتراسك من تَدْبيره عَلَيْك فَرب هَالك بِمَا دبر وساقط فِي الْبِئْر الَّذِي حفر وجريح بِالسِّلَاحِ الَّذِي شهر وَيَنْبَغِي للْملك أَن يَأْخُذ فِي سَائِر أُمُوره بالحزم وَصدق الْعَزْم وَلَا يتْرك الاحتراس

والحذر فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الحزم سوء الظَّن وَلَا يكون ظَنّه حَقِيقَة بل للحذر وَالِاحْتِيَاط وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء مَا الحزم قَالَ أَن تحذر من كل مَا يُمكن وُقُوعه قيل فَمَا الْعَجز قَالَ أَن تأمن مِمَّا يُمكن وُقُوعه وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء (لاتترك الحزم فِي شَيْء تحاذره ... فَإِن سلمت فَمَا فِي الحزم من بَأْس) (العجزذل وَترك الحزم منقصه ... واحزم الحزم سوء الظَّن بِالنَّاسِ) وَإِذا حاول الْملك أمرا عرض لَهُ فليشمر فِي طلبه عِنْد إِمْكَان

الفرصة وَلَا يتراخ عَنهُ لصغره فَإِن وثبه الْأسد على الأرنب هِيَ الَّتِي يثب بهَا على الْفِيل وَمَتى استهان الْملك بِالْأَمر الصَّغِير عَاد كَبِيرا فَإِن القروح الَّتِي تظهر فِي الْجَسَد إِذا استهان بهَا الْإِنْسَان لصغرها صَارَت إِلَى أعظم العلاج وأكبر المداواة أَنْشدني بَعضهم

(لَا تحقرن عدوا رما ... ك وَإِن كَانَ فِي ساعديه قصر) (فَإِن السيوف تحز الرقا ... ب وتعجز عَمَّا تنَال الابر) وَإِذا وَقع الْملك فِي أَمر من عدوه يخَاف فِيهِ على نَفسه وسلطانه فَيَنْبَغِي أَن يُعْطي بِلِسَانِهِ كل مَا يُرْضِي عدوه مظْهرا للرقة والانقباض وَهُوَ مَعَ ذَلِك يكون متيقظا محترسا مستعدا للوثبة عَلَيْهِ إِذا أمكنته الفرصة كالصقر الَّذِي يظْهر الذلة والانقباض عِنْد صَيْده ثمَّ ينْقض انقضاضة إِذا أمكنته الفرصة ينَال فِيهَا حَاجته وَقد كَانَ يُقَال الحزم الْتِزَام مداجات الْعَدو مَا دَامَت لَهُ ريح هابة ودولة مقبلة كَمَا أَن الْعَجز إِضَاعَة الفرصة فِيهِ إِذا ركدت وأدبرت دولته وأنشدني بَعضهم

فِي هَذَا الْمَعْنى (وَإِذا عجزت عَن الْعَدو فداره ... وامزح لَهُ إِن المزاح وفَاق) (فَالنَّار بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضدها ... تُعْطِي النضاج وطبعها الإحراق) فَإِن دهمه أَمر لَا طَاقَة لَهُ بِهِ فِي أَمر من أُمُور مَمْلَكَته وأشرف مِنْهُ على أَن يذهب كُله وَرَأى أَن يتلطف بالحيلة فِي أَن يرجع إِلَيْهِ بعضه فَلْيفْعَل ذَلِك وَيكون رابحا وَلَا يذهب بِهِ الأسف والأنفة والتمادي حَتَّى يذهب كُله فَيكون مغبونا فَإِن الْعَاقِل إِذا أشرف لَهُ ابْنَانِ على الهلكة وطمع فِي نجاة أَحدهمَا بِمَوْت الآخر فَإِن نَفسه تسمح مَوته لنجاة أَخِيه وَلَا يداخله الإشفاق عَلَيْهِمَا والجزع فيهلكا جَمِيعًا وَإِذا عادى الْملك رجلا فَلَا يعادي كل جنسه فَإِنَّهُ رُبمَا انْتفع

ببعضهم انتفاعه بِأَهْل مودته فَإِن السَّيْف الَّذِي يقتل بحده وَيقطع بمضاوته هُوَ من جنس الدرْع الَّذِي يتحصن بِهِ عَن مضاوة حد السَّيْف وَلَا يَنْبَغِي للْملك أَن يشْتَد جزعه على مَا فَاتَهُ وَذهب عَنهُ فَإِن فعل ذَلِك تعجلت لَهُ المساءة بِمَا لَا يقدر على ارتجاعه ويستسلف الْحَسْرَة على مَا لَا يقدر على استدراكه ثمَّ يشْغلهُ ذَلِك عَن تَدْبِير مُسْتَأْنف أمره وَإِصْلَاح بَاقِي شَأْنه وَرُبمَا أفْضى بِهِ الْحَال إِلَى الْهَلَاك فَإِن شدَّة الْجزع مهلك فقد حُكيَ أَن ملكا من مُلُوك الْفرس جلس على سَرِيره فِي يَوْم نيروز وَجعل النَّاس يهْدُونَ لَهُ أَصْنَاف الْهَدَايَا فَدخل عَلَيْهِ

الموبذ وَمَعَهُ ظرف مغطى فأهداه إِلَيْهِ فَلَمَّا كشف عَنهُ رأى فِيهِ فحمتين فَقَالَ الْملك مَا هَذَا فَقَالَ أَيهَا الْملك إِن إِحْدَاهمَا بازي وَالْآخر دراجة وَإِنِّي رَأَيْت الْبَازِي أرسل على الدراجة فَلم يزل يتبعهَا وَهِي تطير بَين يَدَيْهِ إِلَى أَن أَتَيَا أجمة قد وَقعت فِيهَا نَار فَحمل الْجزع الدراجة على اقتحامها وَحمل الْبَازِي الْحِرْص على إتباعها فاحترقا جَمِيعًا فَرَأَيْت أَن خير الْهَدَايَا هَذِه الموعظة فأهديتها لَك فاجتنب أَيهَا الْملك الإفراط فِي الْجزع والحرص فَإِنَّهُمَا

سائقان إِلَى الهلكة فَقَالَ الْملك مَا أهديت لي هَدِيَّة أَنْفَع من هَذِه الْهَدِيَّة وَمَتى صنع الْملك بخطأ الرَّأْي شَيْئا فَأصَاب فِيهِ فَلَا يعاودنه ثَانِيًا طَمَعا فِيمَا ناله أَولا فَإِن من وطىء حَيَّة فنجا مِنْهَا جدير أَن لَا يتَعَرَّض لَهَا بِالْوَطْءِ مرّة أُخْرَى وَاعْلَم أَن كبار أعوان الْملك مَشَايِخ دولته الَّذين صحبوا أسلافه من الْمُلُوك لأَنهم وَإِن برأهم الزَّمَان بحده فقد بَقِي كرم جوهرهم ومحض مَوَدَّتهمْ فهم يزدادون فِي النصح اجْتِهَادًا وَفِي الْبُؤْس صبرا وجلادا وَمثلهمْ كَمثل دعائم الساج للبيت فَإِنَّهَا كلما مر عَلَيْهَا الزَّمَان ازدادت قُوَّة وصلابة حَتَّى أَن الأرضة لَو حاولت نقب عودهَا لم ينفذ عَملهَا فِيهَا فَيكون الْبَيْت بهَا أقوم وَأثبت وَيَنْبَغِي للْملك أَن لَا يصحب فِي أعوانه كذابا وَلَا مطبوعا على شَرّ لِأَن الْكذَّاب إِذا حدث كذب وَإِذا حَدثهُ الْملك لم يصدقهُ لما يظنّ فِي

نَفسه والمطبوع على الشَّرّ غير تَارِك لطباعه لِأَنَّهَا أملك بِهِ فَيكون الْملك مَعَه على خطر وَلَا يطْمع الْملك فِي استصلاحهما ونقلهما عَن طباعهما فَإِنَّهُمَا بِمَنْزِلَة القرد الَّذِي يطعم الدسم والحلاوة ليسمن جِسْمه وَيحسن وَجهه فَهُوَ وَإِن سمن جِسْمه لَا يزْدَاد وَجهه إِلَّا قبحا وَمَتى كَانَ الْملك يضْبط أُمُوره ويصول على عدوه بِقوم لَيْسَ مِنْهُم على ثِقَة من رأى وَلَا حفاظ فَهُوَ مِنْهُم على أعظم خطر حَتَّى يحملهم إِن اسْتَطَاعَ على الرَّأْي وَالْأَدب الَّذِي بِمثلِهِ تكون الثِّقَة أَو يسْتَبْدل بهم وَلَا يغرنه مِنْهُم قوته بهم على غَيرهم فَإِنَّمَا هُوَ كراكب الْأسد الَّذِي يهابه من ينظر إِلَيْهِ وَهُوَ لمركبه أهيب وَمَتى أسرف الْملك فِي توسعة الأرزاق على جنده أبطرهم وَمَتى ضيق عَلَيْهِم أحقدهم فَيكون فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ معرضًا للهلاك

فَإِن الْأَسْبَاب الَّتِي تجر الهلك إِلَى الْملك ثَلَاثَة أَسبَاب أَحدهَا من جِهَة الْملك وَهُوَ أَن تغلب شهواته على عقله فَلَا تسنح لَهُ لَذَّة إِلَّا افتضها وَلَا رَاحَة إِلَّا افترضها الثَّانِي الوزراء وَهُوَ تحاسدهم الْمُقْتَضِي لتعارض الآراء فَلَا يسْبق أحدهم إِلَى حق إِلَّا فندوه وعارضوه الثَّالِث من جِهَة الْجند وخواص الأعوان وَهُوَ النّكُول عَن الجلاد وَترك المناصحة فِي الْجِهَاد وهم صنفان الصِّنْف الأول وسع الْملك عَلَيْهِم الأرزاق فأبطرهم الترف والتنعم وافتراص اللَّذَّات فضنوا بنفوسهم وخافوا عَلَيْهَا عِنْد لِقَاء الْأَعْدَاء فَمَنعهُمْ ذَلِك من الْإِقْدَام الصِّنْف الثَّانِي قتر الْملك عَلَيْهِم الأرزاق فانطووا مِنْهُ على حقد ونفاق فنصبوا لَهُ الغوائل وأسلموه عِنْد النَّوَازِل وَيَنْبَغِي للْملك أَن يتعرف أَسبَاب الْفِتَن ونتائجها المفضية إِلَى

اخْتِلَاف الْكَلِمَة وَالْخُرُوج عَن الطَّاعَة ليحسم موادها وَيقطع أَسبَابهَا فقد قيل إِن ملكا من مُلُوك الْعَجم كتب إِلَى حَكِيم من حكمائهم يَقُول إِن الْحُكَمَاء قد أَكْثرُوا من وصف أَسبَاب الْفِتَن فَاكْتُبْ إِلَيّ بِمَا ينشئها وَبِمَا يميتها فَكتب إِلَيْهِ يَقُول ينشئها ضغائن وينتجها أطماع لم يقمعها هَيْبَة وجرأة عَامَّة يولدها استخفاف بالخاصة وآكدها انبساط الألسن بضمائر الْقُلُوب وغفلة أَمِير ملتذ ويقظة قوى

محروم ويميتها عز السالب وذل المسلوب ودرك البغية وَمَوْت الأمل وَتمكن الرعب فَكتب إِلَيْهِ إِن الَّذِي وصفت كَمَا وصف فَأَي الْأُمُور أدفَع لما ذكرت فَكتب إِلَيْهِ الْحَكِيم أَخذ الْعدة لكل مَا يخَاف وُقُوعه وإيثار الْجد على الْهزْل وَالْعَمَل بِالْعَدْلِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَب وَكتب عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى الْحجَّاج بن يُوسُف أَن صف لي الْفِتْنَة حَتَّى كَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا فَكتب إِلَيْهِ الْحجَّاج إِن الْفِتْنَة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى وَيقوم بهَا الخطباء وحصارها بِالسَّيْفِ وَحكي أَن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ

قَالَ يَوْمًا لجلسائه وَهُوَ مَحْصُور وددت لَو أَن رجلا صَدُوقًا أَخْبرنِي عَن نَفسِي وَعَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم يَعْنِي الَّذين يحاصرونه فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ أَنا أخْبرك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك تطأطأت لَهُم فركبوك وتغافلت عَنْهُم فصلبوك وَمَا جرأهم على ظلمك إِلَّا إفراط حلمك قَالَ صدقت إجلس ثمَّ قَالَ لَهُ هَل تعلم مَا سَبَب ثيران الْفِتْنَة قَالَ نعم

سَأَلت عَن ذَلِك شَيخا باعقة فِي الْعلم فَقَالَ لي إِن الْفِتْنَة يثيرها أَمْرَانِ أَحدهمَا أَثَرَة تضغن الْخَاصَّة الثَّانِي حلم يجرىء الْعَامَّة قَالَ فَهَل سَأَلته عَمَّا يخمدها قَالَ نعم إِن الَّذِي يخمدها فِي ابتدائها استقالة العثرة وتعميم الْخَاصَّة بالاثرة دون غَيرهم فَأَما إِذا استحكمت الْفِتْنَة فَلَا يخمدها غير الصَّبْر فَقَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ هُوَ ذَاك حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين

الْبَاب الْحَادِي عشر فِي الْجُلُوس لكشف الْمَظَالِم اعْلَم أَن جُلُوس الْملك لكشف قصَص المظلومين والفصل بَين المتنازعين من أعظم قوانين الْعدْل الَّذِي لَا يعم الصّلاح إِلَّا

بمراعاته وَلَا يتم التناصف إِلَّا بِهِ وَقد كَانَت مُلُوك الْفرس يرَوْنَ ذَلِك من قَوَاعِد الْملك

وَأول من أفرد للظلامات يَوْمًا مَعْلُوما يتصفح فِيهِ قصَص المتظلمين من غير مُبَاشرَة للنَّظَر عبد الْملك بن مَرْوَان وَكَانَ إِذا وقف مِنْهَا على مُشكل رده إِلَى قاضية أبي إِدْرِيس الأودي فَينفذ فِيهِ الحكم وَكَانَ أَبُو إِدْرِيس الْمُبَاشر وَعبد الْملك هُوَ الْآمِر ثمَّ زَاد ظلم الْوُلَاة وجور النواب بعد ذَلِك فافتقرت الحاله إِلَى الْمُبَاشرَة فَجَلَسَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ فكشف الْمَظَالِم وَهُوَ أول من بَاشر ذَلِك بِنَفسِهِ وَجعل يُرَاعِي السّنَن العادلة ورد مظالم بني أُميَّة على أَهلهَا

حَتَّى قيل لَهُ وَقد شدد عَلَيْهِم إِنَّا نَخَاف عَلَيْك العواقب من ردهَا فَقَالَ كل يَوْم أخافه وأتقيه غير يَوْم الْقِيَامَة لَا وقيته ثمَّ جلس لكشف الْمَظَالِم من خلفاء بني الْعَبَّاس الْمهْدي حَتَّى عَادَتْ الْأَمْلَاك إِلَى مستحقيها ثمَّ جلس لَهَا من بعده الْهَادِي ثمَّ

الرشيد ثمَّ الْمَأْمُون وَأخر من جلس لَهَا الْمُهْتَدي ثمَّ احتجب الْخُلَفَاء لتظاهر التّرْك وَغَيرهم عَلَيْهِم ودفعوا أَمر الْمَظَالِم إِلَى وزرائهم وَلما أفْضى ملك الشَّام إِلَى الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله ابنتى لَهُ دَارا فِي قلعة دمشق وسماها دَار الْعدْل فَكَانَ يجلس فِيهَا يتصفح قصَص المظلومين ويفصل بَين المتنازعين ولديه الْفُقَهَاء وأئمة الدّين فَيرجع إِلَيْهِم عَمَّا أشكل عَلَيْهِ من أُمُور الشَّرْع ويبت القضايا ويفصل كلما انْتهى إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْيَوْم

وَجعل هَذَا سنة فِي جَمِيع مَدَائِن الشَّام حَدثنِي الْفَقِيه أَبُو طَاهِر إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الحصني الْحَمَوِيّ قَالَ كنت عِنْد الْملك الْعَادِل مَحْمُود بن زنكي فِي دَار الْعدْل بِدِمَشْق وَقد أخرج أَمْلَاك أهل الشَّام فَجعل ينظر فِيهَا فَلَمَّا انْتهى إِلَى ذكر خراج معرة النُّعْمَان قَالَ إِنِّي قد عزمت على انتزاع

أَمْلَاك أهل المعرة من أَيْديهم فقد رفع إِلَيّ أهل الْخَيْر من الثِّقَات أَن جَمِيع أهل المعرة يتقارضون الشَّهَادَة فَيشْهد أحدهم لصَاحبه فِي دَعْوَى ملك حَتَّى يشْهد ذَلِك مَعَه فِي دَعْوَى أُخْرَى وَأَن الْملك الَّذِي فِي أَيْديهم إِنَّمَا حصل لَهُم بِهَذِهِ الطَّرِيقَة قَالَ فَقلت لَهُ أَيهَا الْملك إِن الله تَعَالَى أوجب عَلَيْك الْعدْل فِي رعيتك فَانْظُر واكشف وَتوقف فِي الْأُمُور إِذا رفعت إِلَيْك فَإِن أهل المعرة خلق كثير يَسْتَحِيل تواطؤهم على شَهَادَة الزُّور وانتزاع الْأَمْلَاك من أَرْبَابهَا بِمُجَرَّد هَذَا القَوْل لَا يجوز قَالَ فَأَطْرَقَ سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ إِنِّي أمْسكهَا عَلَيْهِم ثمَّ أكشف عَنْهَا بعد ذَلِك والتفت إِلَى كَاتبه وَقَالَ اكْتُبْ كتابا إِلَى الْوَالِي فِي المعرة وليمسك جَمِيع الْملك الَّذِي فِي أَيدي أَهلهَا حَتَّى يَسْتَدْعِي الْبَيِّنَة

فِي ذَلِك فَكَتبهُ وَوَضعه بَين يَدَيْهِ ليضع علامته عَلَيْهِ وَإِذا صبي على شاطىء بردى يُغني وَيَقُول (اعدلوا مَا دَامَ أَمركُم ... نَافِذا فِي النَّفْع وَالضَّرَر) (واحفظوا أَيَّام دولتكم ... إِنَّكُم مِنْهَا على خطر) (إِنَّمَا الدُّنْيَا وَزينتهَا طيب ... مَا يبْقى من الْأَثر)

فَلَمَّا سَمعه الْملك الْعَادِل تغير لَونه عَيناهُ بالدموع ثمَّ نظر إِلَيّ وَقَالَ {فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى فَلهُ مَا سلف وَأمره إِلَى الله} ثمَّ اسْتَدَارَ نَحْو الْقبْلَة وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي استغفرك وَأَتُوب إِلَيْك مِمَّا عزمت عَلَيْهِ الْآن ثمَّ تنَاول الْكتاب فمزقه وَجعل يسْتَغْفر الله تَعَالَى جَمِيع ذَلِك الْيَوْم وَيَنْبَغِي للْملك إِذا جلس لكشف الْمَظَالِم أَن يستكمل مَجْلِسه بِحُضُور خَمْسَة أَصْنَاف من النَّاس لَا غنى لَهُ عَن حضورهم وَلَا يَنْتَظِم أُمُور نظره إِلَّا بهم الصِّنْف الأول الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء أَصْحَاب الْفَتْوَى ليرْجع إِلَيْهِم فِيمَا أشكل ويسألهم عَمَّا أشتبه عَلَيْهِ وأعضل

الصِّنْف الثَّانِي الْقُضَاة والحكام لاستعلام مَا يثبت من الْحُقُوق وَمَعْرِفَة مَا يجْرِي فِي مجَالِسهمْ بَين الْخُصُوم وتنفيذ القضايا وَالْأَحْكَام الصِّنْف الثَّالِث الْعُدُول ومشايخ الْبَلدة ليشهدهم على مَا أوجبه من الْحُقُوق وأمضاه من الحكم الصِّنْف الرَّابِع الْكتاب ليثبتوا مَا يجْرِي بَين الْخُصُوم وَمَا يُوجِبهُ الشَّرْع المطهر لَهُم أَو عَلَيْهِم من الْحُقُوق الصِّنْف الْخَامِس الْكِبَار من حَملَة دولته وأعوانه وخاصته لتظهر بهم الرهبة وَتحصل بهم الهيبة فيخاف المعتدي فينزجر ويشتد أزر الْمَظْلُوم فينتصر

فَإِذا اسْتكْمل مجْلِس نظره بِمن ذَكرْنَاهُ شرع حِينَئِذٍ فِي تصفح الْقَصَص وتنفيذ الْأُمُور وَالنَّظَر فِي أُمُور الرّعية والولاة والعمال على مَا قدمْنَاهُ

فِي وصف الْعدْل فِي الْبَاب الْخَامِس وَالله الْمُوفق للصَّوَاب

الْبَاب الثَّانِي عشر فِي آدَاب صُحْبَة الْمُلُوك إِذا أخلصك الْأَمِير لخاصته وجعلك من أهل مُجَالَسَته فَالْزَمْ الصمت وَاسْتعْمل الْوَقار وَلَا تحدثه باديا وَلَا تعد حَدِيثك عَلَيْهِ ثَانِيًا وَلَا تصل حَدِيثا بِحَدِيث وَلَا تعَارض أحدا فِي حَدِيث واخفض من

صَوْتك وَاخْتصرَ فِي لفظك وَلَا تَعب أحدا عِنْده وَإِن كثرت عيوبه وعظمت ذنُوبه وَإِذا جالست الْملك فغض عَيْنَيْك وَضم شفتيك وَلَا تقولن فِي غيبته مَا لَا تَقوله فِي حَضرته وَلَا تأمن أَن يكون لَهُ عَلَيْك عُيُون ترفع إِلَيْهِ أخبارك وتورد عَلَيْهِ أسرارك وأنشدني بَعضهم فِي الْمَعْنى يَقُول شعرًا

(إِذا صَحِبت الْمُلُوك فالبس ... من التواقي أجل ملبس) (وادخل إِذا مَا دخلت أعمى ... واخرج إِذا مَا خرجت أخرس) وَإِذا كَانَ لَك إِلَى الْملك حَاجَة فَلَا ترفعها إِلَيْهِ مَا لم يكن وَجهه بسيطا وَقَلبه نشيطا وَليكن على مِقْدَار حَقك لَا على مِقْدَار عزمك وَإِذا طلبتها مِنْهُ فقصر الْمقَال وتوق الملال وَلَا يحملك فرط ميله إِلَيْك على التبسط عَلَيْهِ فِي السُّؤَال فتنحط رتبتك وَتذهب حرمتك وَإِذا تحدث الْملك فاقبل عَلَيْهِ بِوَجْهِك واصغ إِلَيْهِ بسمعك واشغل بحَديثه خاطرك وبمنظره ناظرك واسمعه اسْتِمَاع مستظرف لَهُ مُسْتَبْشِرٍ بِهِ وَاحْذَرْ أَن تعاقب الْملك على تَقْصِير أَو تلومه فِي تَدْبِير فَإِن ذَلِك يُفْضِي إِلَى مَقَتك وبعدك مِنْهُ بعد قربك وَلَا تكاشفه بِالنَّصِيحَةِ فِي الْخلْوَة وَلَا تنبسط عَلَيْهِ فَإِن النصح فِي الْمَلأ تقريع والتبسط عَلَيْهِ تَضْييع

أَنْشدني بعض أهل الْعلم (تعمدني بنصح فِي انْفِرَاد ... وجنبني النَّصِيحَة فِي الْجَمَاعَة) (فَإِن خالفتني لتريد نقصي ... فَلَا تغْضب إِذا لم تعط طَاعَة) (فَإِن النصح بَين النَّاس ضرب ... من التوبيخ لَا أرْضى استماعه) وَإِذا قربك بأنسه وأدناك من مَجْلِسه فَالْزَمْ الاحترام وقابله بالإعظام وَلَا يخْرجك مَا ترَاهُ من أنسه إِلَى الصياح ومكروه المزاح وَإِيَّاك وَإِزَالَة الحشمة وإضاعة الْحُرْمَة والهزل فِي الْكَلَام والشره فِي أكل الطَّعَام فَإِن هَذِه الْأَحْوَال تَدْعُو الْملك إِلَى الملال وَلَا تسارر فِي مَجْلِسه إنْسَانا وَلَا تحدق إِلَى أحد من الغلمان وَإِذا دخلت على الْملك فحيه بِأَحْسَن تَحِيَّة وتواضع لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا تكْثر من الدُّعَاء لَهُ بِحَضْرَتِهِ وَلَا تسأله عَن حَالَته وَلَا عَن مبيته فِي ليلته وَلَا تكْثر مدحه وَتظهر نصحه فِي

حَضرته فَجَمِيع ذَلِك من مساوىء الْأَخْلَاق والتملق والنفاق وَإِذا جَلَست على مَوَائِد الْمُلُوك فَلَا تكن فِي الطَّعَام شَرها وَلَا فِي الْأكل نهما وكل مِمَّا يليك وأطل المضغ فِي فِيك وَاجعَل نظرك إِلَى الطَّعَام الَّذِي بَين يَديك وَلَا تنظر إِلَى من حواليك وَلَا تَأْكُل بِكُل الْأَصَابِع وقم عَن الْمَائِدَة وَأَنت جَائِع وَلَا تحذف ببصرك إِلَى الطَّعَام وَلَا إِلَى مَا حضر من طرائف الألوان بل يكون نظرك إِلَى الْملك عِنْد كَلَامه والإطراق عِنْد مضغه لطعامه وَلَا تنقل من الصحفة إِلَى الرَّغِيف شَيْئا من اللَّحْم وَلَا تتعرض لمشمشة الْعظم وَلَا تحول لقمتك من جَانب فِيك إِلَى الْجَانِب الآخر وَلَا يسمع لمضغك وبلعك صَوت ظَاهر لِأَن الْمَقْصُود من طَعَام الْملك الشّرف بمواكلته والتجمل بلطف كرامته وَمن قَامَ عَن الطَّعَام لغسل يَده فسبيله أَن يبعد عَن حَضرته إِلَى الْموضع الَّذِي خص بمرتبته وَلَا يبصق

فِي الطشت بصاقا يَعْلُو صَوته وَلَا يسْتَعْمل بيدَيْهِ التفرقع وَلَا بِفِيهِ التنخع وَلَا يدلك بالمنديل يَدَيْهِ بل يمسح بِهِ فَمه وشفتيه وَلَا يظْهر فِي يَدَيْهِ شَيْئا من الْخلال على حَال من الْأَحْوَال وسبيل من ساير الْملك أَن لَا يُسَاوِيه فِي محجته وَلَا يدني رَأس دَابَّته من دَابَّته وَلَا يَأْخُذ عَلَيْهِ مهب الرّيح فِي مسايرته وَلَا يركب فرسا شغبا وَلَا حرونا فيقف عَنهُ وَلَا كثير الصهيل وَلَا مَا فِيهِ عيب يضْحك مِنْهُ

وَيَنْبَغِي أَن يكون عَارِفًا بالمنازل والمناهل داريا بِكُل مَا يَقع عَلَيْهِ عين الْملك وَيسْأل عَنهُ من الْمِيَاه والأنهار والنبات وَالْأَشْجَار وَمضى سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار عَارِفًا بالكواكب وانتقالاتها ومنازل الْقَمَر وهيآتها وَأَن لَا يظْهر التَّعَب والكلال وَإِن يخفي العطا والسعال وَليكن متفقد النُّكْتَة ظريفا فِي محادثته صبورا على السهر غير متشاغل بالفكر حَافِظًا للأسرار وَمَا يطلع عَلَيْهِ من الْأَخْبَار ومعتمدا على الصيانة مُؤديا للأمانة فَإِذا لاعب الْملك بالشطرنج فَلَا يظْهر فِي لعبه التحاذق عَلَيْهِ فَأَما فِي حَال الفروسية وَلعب الصولجان

فقد أطلق الْمُلُوك التحاذق عَلَيْهِم فِي الميدان وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اعْلَم بِالصَّوَابِ

الْبَاب الثَّالِث عشر فِي معرفَة مَا تكَاد بِهِ الْمُلُوك فِي غَالب الْأَحْوَال اعْلَم أَن مَكَائِد الْأَعْدَاء وغوائل الحساد وطرق المضار وَأَسْبَاب الدَّوَاهِي كَثِيرَة وَلَا يُحِيط بطرقها علم الْبشر وَلَا يحصرها مَعْقُول ذَوي الْفِكر فَيجب على الْملك الِاحْتِرَاز والتحفظ من كل مَا يتَصَوَّر عمله من المكائد وَيُمكن فعله من نصب الغوائل وَيعْتَبر بِمن سلفه من أَرْبَاب الممالك وَمَا نصب لَهُم من المكائد والمهالك فيحسم عَنهُ موادها وَيقطع أَسبَابهَا ويحذر من مثلهَا وَقد ذكرنَا فِي الْبَاب السَّادِس فِي وصف الْحَسَد من حِكَايَة بهْرَام وخاقان وَمَا نصب كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه من المكائد مَا فِيهِ اعْتِبَار لِذَوي البصائر والأفكار وَأكْثر مَا رَأينَا الْمُلُوك ذهبت فِي غَالب الْأَحْوَال من أُمُور نَحن ذاكروها إِن شَاءَ الله فَمن ذَلِك السمُوم القاتلة الَّتِي يتلطف بهَا الْأَعْدَاء فِي الْحِيلَة بوصولها إِلَى الْمُلُوك على يَد النسوان والغلمان

وَهِي تصنع غَالِبا فِي عشرَة أَشْيَاء فِي السرج والسرير والكرسي

والحلي والآنية وَالطَّعَام وَالشرَاب والفاكهة وَالثيَاب والفراش الَّذِي ينَام عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي للْملك أَن يكون متيقظا لذَلِك محترسا مِنْهُ وَسَنذكر من العلامات الْوَاضِحَة على مصير السم فِي هَذِه الْأَشْيَاء مَا فِيهِ كِفَايَة للفطن بِحَيْثُ إِذا رَآهَا علم أَن ذَلِك الشَّيْء مَسْمُوم فَيَنْبَغِي للْملك أَن يتفقد ثِيَابه فِي كل يَوْم وفراشه أَيْضا وغاشيته الَّذِي على سرج الحصان وكرسيه الَّذِي يجلس عَلَيْهِ فَإِن عَلامَة ذَلِك إِن كَانَ مسموما أَن يظْهر فِي صفاء ألوانها لمع كالوسخ يضْرب إِلَى سَواد من غير وسخ وَيكون هدبها وحواشيها فِي نظر الْعين كَأَنَّهَا بالية وَأما عود السرج والسرير والكرسي إِذا كَانَ

ملطوخا بالسم فَإِنَّهُ يكمد لَونه ويعلوه كالغبرة وَأما الحلى والآنية وَمَا يسْتَخْرج من معادن الأَرْض كالذهب وَالْفِضَّة والنحاس والرصاص وَالْحَدِيد والجواهر فَإِن ذَلِك كُله إِذا كَانَ مسموما يعلوه كالوسخ وَأما أواني الخزف والفخار فَإِنَّهَا إِذا كَانَت مَسْمُومَة تحدث دسومة وزهومة وَرُبمَا أفرط صفاء لَوْنهَا حَتَّى يظْهر فِيهَا بريق لَيْسَ من ذَاتهَا وَرُبمَا ذهب بريقها الَّذِي هُوَ من ذَاتهَا وَأما الطَّعَام المسموم فيستدل عَلَيْهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا بالنَّار فَإِن الطَّعَام المسموم إِذا وضعت مِنْهُ شَيْئا فِي النَّار لم يصعد دخانه مستطيلا إِلَى الْهَوَاء بل يَدُور على ذَلِك الطَّعَام يسمع لَهُ صَوت شرار وَأَيْضًا يكون طرف

مَا ينبعث من النَّار كَأَنَّهُ عنق الطاووس وَأَيْضًا رُبمَا ظهر مِنْهُ إِذا احْتَرَقَ رَائِحَة مُنْتِنَة الْوَجْه الثَّانِي أَن يعرض الطَّعَام على الطير وَالدَّوَاب الَّتِي هِيَ معدة فِي دَار الْملك لمعْرِفَة الطَّعَام المسموم وَأما الطير فَمِنْهَا الْغُرَاب فَإِنَّهُ إِذا أكل من الطَّعَام المسموم انْكَسَرَ صَوته وَمِنْهَا الصرد والقفعا فَإِنَّهُمَا إِذا شما رَائِحَة الطَّعَام المسموم صَوتا بأعلا صوتيهما وَمِنْهَا طَائِر من جنس

الأوز الصيني يُقَال لَهُ الهيس فَإِنَّهُ إِذا رأى الطَّعَام المسموم أَو شم رَائِحَته هرب مِنْهُ وَجعل يعثر فِي مشيته وَمِنْهَا الكركي فَإِنَّهُ إِذا شم رَائِحَة الطَّعَام المسموم وَأكله فَإِنَّهُ يَدُور حَتَّى يظنّ أَنه مغشي عَلَيْهِ وَمِنْهَا الفواخت والعقعق فَإِنَّهُمَا يموتان بِأَكْل الطَّعَام المسموم وَكَذَلِكَ إِذا شما رَائِحَته

أَيْضا وَمِنْهَا الطاووس فَإِنَّهُ إِذا رأى الطَّعَام المسموم تشوف إِلَيْهِ وطفق يَأْكُلهُ ويهواه وَمِنْهَا طَائِر من طيور المَاء أَحْمَر الْعَينَيْنِ يُقَال لَهُ حسون فَإِنَّهُ إِذا نظر إِلَى الطَّعَام المسموم أَو شم رَائِحَته ذهب حمرَة عَيْنَيْهِ وَمِنْهَا طَائِر من طيور المَاء أَيْضا يُقَال لَهُ حوصل فَإِنَّهُ إِذا رأى الطَّعَام المسموم خر إِلَى الأَرْض مغشيا عَلَيْهِ والذباب إِذا سقط على الطَّعَام المسموم مَاتَ من سَاعَته وَأما

الدَّوَابّ الْمعدة لذَلِك فَمِنْهَا السنور فَإِنَّهُ إِذا أكل من الطَّعَام المسموم أَو شم رَائِحَته نفر من مَوْضِعه وَلم يسْتَقرّ فِيهِ وَمِنْهَا القرد فَإِنَّهُ إِذا قدم إِلَيْهِ الطَّعَام المسموم أَيْضا لم يَتَمَالَك حَتَّى يهرب مِنْهُ ويصعد فِي الْأَشْجَار والحيطان فَهَذَا كُله يسْتَدلّ بِهِ على الطَّعَام المسموم فَيَنْبَغِي للخادم الْمُقدم للطعام أَن يمْتَحن بالنَّار ويعرضه على الطير وَالدَّوَاب الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل إِحْضَاره بَين يَدي الْملك وَإِذا كَانَ الطباخ بَصيرًا حاذقا عرف السم إِذا طرح فِي الْقدر بالأمارات الدَّالَّة عَلَيْهِ فَإِن قدر الْأرز إِذا وضع فِيهَا السم أَبْطَأَ نضجها وَإِذا أنزل عَن النَّار انْعَقَد فِيهَا سَرِيعا

وصلب حبها ويفور من الْقدر بخار كلون عنق الطاووس وقدور المرق إِذا وضع فِيهَا السم فَإِن تلبث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى ينشف المرقة مِنْهَا وَيبقى اللَّحْم يَابسا لَا مرقة عَلَيْهِ وَمهما بَقِي مِنْهُ تغير لَونه وكدر وَأما دَلِيل معرفَة الشَّرَاب المسموم فَإِن كل شراب حُلْو إِذا طرح فِيهِ السم يظْهر فِيهِ خطّ مستطيل كلون النّحاس وَيظْهر فِي المخيض خطوط من الخضرة والصفرة والسمرة وَيظْهر فِي مَاء الْعَسَل خطّ كلون شُعَاع الشَّمْس وَيظْهر فِي المَاء والنبيذ خطّ أسود وَأما معرفَة الفواكة المسمومة فَإِن الَّذِي لم يدْرك مِنْهَا يظْهر للعين كَأَنَّهَا مدركة وَالَّتِي قد أدْركْت مِنْهَا تظهر كَأَنَّهَا لم تدْرك لتغيرها وانقباضها وكل رطب مِنْهَا ترَاهُ كَأَنَّهُ منهري وكل يَابِس ترَاهُ منقبضا متسيسا

وَجَمِيع الْفَاكِهَة يذهب صفاء لَوْنهَا ويعلوها غبرة وكدرة واللين مِنْهَا يصلب والصلب مِنْهَا يلين وَاعْلَم أَن من وضع السم فِي بعض هَذِه الْأَشْيَاء أَو صنع مكيدة من مَكَائِد الْأَعْدَاء من النسوان والغلمان والخدام وَغَيرهم لَا بُد أَن يظْهر عَلَيْهِ من الرِّيبَة أَمَارَات لَا يخفى بهَا عَن الفطن اللبيب فَيَنْبَغِي للْملك أَن يتصفح وُجُوه خدمه وغلمانه وجواريه ونسائه فِي كل وَقت فَإِن الْمُرِيب لَا يملك نَفسه أَن يصفر لَونه أَو يخضر أَو يبتلع رِيقه أَو يخْفق فُؤَاده أَو يعَض على شفته السُّفْلى أَو يُدِير عَلَيْهَا لِسَانه أَو يكثر تلفته وترعد فرائصه أَو يعثر فِي مشيته أَو يكثر تثاؤبه ويعرق جَبينه أَو يفتل هدب ثِيَابه وَيبْعَث بهَا أَو ينكش الأَرْض بأبهام رجله أَو يَنْقَطِع عَمَّا يُرِيد أَن يتَكَلَّم بِهِ أَو يكثر الْقيام من الَّذِي بِعِلْمِهِ مثله وَلم يتمه بِغَيْر عذر فَجَمِيع هَذِه أَمَارَات تدل على الرِّيبَة فليراعها الْملك من مُتَوَلِّي

طَعَامه وَشَرَابه ومتولي خزانَة ثِيَابه وفراشه وسورج دوابه وَغَيرهم من خدم دَاره وَأما الاحوال الَّتِي يترصدها أهل المكائد فِي الْغَالِب فَمِنْهَا الْمَوَاضِع الضيقة والطرقات المجهولة فَلَا يَنْبَغِي أَن يسلكها حَتَّى يكون أَمَامه دَلِيل خَبِير بذلك الْموضع ويتقدمه فِي حَال سلوكه جمَاعَة من أعوانه وَمِنْهَا ازدحام الموكب عَلَيْهِ فِي الْمَوَاضِع الضيقة أَو فِي الأعياد والمحافل فَلَا يَأْمَن أَن يلج بَين خواصه من يُرِيد بِهِ شرا وَمِنْهَا الإمعاء فِي طلب الصَّيْد والانفراد فِيهِ عَن الْخَاصَّة وثقات الأعوان فَلَا يَأْمَن أَن يدس عَلَيْهِ أهل الْعَدَاوَة من يُوقع بِهِ الْفِعْل أَو يكمن لَهُ الاعداء على الْخُيُول السريعة فِي الْمَوَاضِع الوعرة أَو يعرض لَهُ أحد السبَاع الضارية عِنْد انْفِرَاده وَمِنْهَا الْوُرُود إِلَى الْأَنْهَار فَإِن اغتيال الْمَرْء صَاحبه فِي المَاء الْجَارِي من أيسر الْحِيَل وأسهلها على المغتال لِأَن المَاء معِين لَهُ على هربه لَا سِيمَا إِذا كَانَ رجال الْملك من وَرَاء ظَهره فَيَنْبَغِي أَن لَا يردهَا حَتَّى يتقدمه من أعوانه من يختبر شطوطها ومشارعها وَمِنْهَا حَالَة شدَّة الْمَطَر وَحَال شدَّة الْحر وَحَال ظلام اللَّيْل لِأَن فِي هَذِه الْأَحْوَال تقل الْحفظَة ويشتغل كل وَاحِد مِنْهُم بمصلحة نَفسه وَمِنْهَا حَال سروره ولهوه وطربه فِي

مَجْلِسه وسكره من شرابه فَإِن الْحفظَة أَيْضا يسكرون أَو ينامون فيتمكن مِنْهُ المغتال وَمِنْهَا الثِّقَة إِلَى النسوان والركون إلَيْهِنَّ فَإِن مكر النِّسَاء وحيلهن أَكثر من أَن تسطر مَعَ ضعفهن ونقصان عقولهن فَلَا يَأْمَن مكرهن وغيرتهن وجرأتهن فقد يقدمن من الْأَهْوَال على مَا يكنع مِنْهُ الرِّجَال فليراعي الْملك جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ وَمَا يخْطر بِبَالِهِ من أشباه ذَلِك أَو أَمْثَاله مَعَ تَسْلِيمه لأمر الله سُبْحَانَهُ وقضائه وَقدره

الْبَاب الرَّابِع عشر فِيمَا يَنْبَغِي للْملك من سياسة الْجَيْش وتدبير الْجنُود إِذا فصل الْملك بجُنُوده مُتَوَجها إِلَى أعدائه فَيَنْبَغِي لَهُ ان يضع فِي تدبيرهم وسياسة أُمُورهم سَبْعَة عشر حَقًا ليتم بذلك مصلحتهم

وينتظم بِهِ الْفَهم أَحدهَا استعراضهم قبل السّير بهم فيتفقد خيلهم الَّتِي يجاهدون عَلَيْهَا فَلَا يدْخل عَلَيْهِم كَبِيرا وَلَا كسيرا وَلَا صَغِيرا وَلَا حطيما كسيرا لِأَن ذَلِك كُله وَهنا فِي الْمُجَاهدين وَإِنَّمَا يستعد للأعداء الْقُوَّة وَمَا يظْهر بِهِ الهيبه والرهبة قَالَ الله تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم}

{مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} وَقَالَ رَسُول الله ص = أرتبطوا الْخَيل فَإِن ظُهُورهَا لكم عز

وبطونها لكم كنز ويتفقد جَمِيع أسلحتهم وَسَائِر آلاتهم وأمتعتهم ويامرهم باتخاذ قويها واستبدال ضعيفها الثَّانِي أَن يرفق بهم فِي السّير الَّذِي يقدر عَلَيْهِ ضعيفهم ويحفظ بِهِ قُوَّة قويهم وَلَا يجد السّير فَيهْلك الضَّعِيف ويستفرغ قُوَّة الْقوي قَالَ رَسُول الله ص = إِن هَذَا الدّين متين فأوغلوا فِيهِ بِرِفْق فَإِن المنبت لَا أَرضًا قطع وَلَا ظهرا أبقى

الثَّالِث أَن يُرَاعِي من مَعَه من الْمُقَاتلَة وهم صنفان مسترزقه ومتطوعة أما المسترزقة فهم أَصْحَاب الدِّيوَان فيفرض لَهُم من الْعَطاء من بَيت المَال من الْفَيْء بِحَسب الْغَنِيّ والكفاية وَأما المتطوعة فهم الخارجون عَن الدِّيوَان الَّذين خَرجُوا فِي النفير فيعطوا من بَيت المَال من

الصَّدقَات دون الْفَيْء من سهم رَسُول الله ص = الْمَذْكُور فِي آيَة الصَّدقَات الرَّابِع أَن يعرف عَلَيْهِم العرفاء وينقلب عَلَيْهِم النُّقَبَاء فَيكون عَارِفًا بِجَمِيعِ أَحْوَالهم من عرفائهم ونقبائهم وَقد فعل ذَلِك رَسُول الله ص =

الْخَامِس أَن يَجْعَل لكل قَائِد من قواده شعارا يتَمَيَّز بِهِ أَصْحَابه ليصيروا بِهِ عَن غَيرهم متميزين وبالاجتماع فِيهِ متظافرين

السَّادِس أَن يتصفح الْجَيْش عِنْد مسيره فَيخرج مِنْهُم من كَانَ بِهِ تخذيل للمجاهدين وإرجاف بِالْمُسْلِمين وَكَانَ عينا للْمُشْرِكين فقد فعل ذَلِك رَسُول الله ص = ورد عبد الله بن أبي بن سلول الْمُنَافِق فِي بعض غَزَوَاته لتخذيله الْمُسلمين

السَّابِع أَن يتَعَرَّض عِنْد اللِّقَاء لمن خَالفه فِي العقيدة وَالْمذهب أَو لمن عَلَيْهِ أَمَارَات الْبغضَاء أَو لمن أَسَاءَ أدبه على الْملك أَو قصر فِي خدمته لِأَن

التَّعَرُّض لهَؤُلَاء فِي مثل هَذَا الْوَقْت يُفْضِي إِلَى افْتِرَاق الْكَلِمَة وَحُصُول الفشل قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} يَعْنِي دولتكم وَقيل مَعْنَاهُ قوتكم

الثَّامِن حراسة الْجَيْش من غرَّة يظفر بهَا الْعَدو فَيَنْبَغِي أَن ينتقي المكامن ويحفظها عَلَيْهِم ويحوط سوادهم بحرس يأمنون بِهِ على أنفسهم واموالهم وليسكنوا فِي وَقت الدعة ويأمنوا من وَرَاءَهُمْ فِي وَقت الْمُحَاربَة

التَّاسِع أَن يتَخَيَّر لَهُم مَوَاضِع نزولهم لمحاربة عدوهم فيقصد أوطأ الأَرْض مَكَانا وأكثرها مرعى وَمَاء واحرسها أطرافا واكنافا وَيكون الْمَوَاضِع قَرِيبا من جبل أَو شجر فَإِن ذَلِك كُله أعون لَهُم على المنازلة واقوى لَهُم على المرابطة

الْعَاشِر إعداد مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجَيْش من زَاد وعلوفة ليغدق ذَلِك عَلَيْهِم فِي أَوْقَات الْحَاجة حَتَّى تسكن نُفُوسهم إِلَى مَادَّة بغيتهم على طلب ليكونوا على الْحَرْب أوفر وعَلى منازلة الْعَدو أقدر الْحَادِي عشر أَن يتعرف أَخْبَار عدوه بالجواسيس الثِّقَات الَّتِي تكون لَهُ عِنْدهم مكانة ليَكُون خَبِيرا بأحوالهم وَيسلم من مَكْرهمْ ويلتمس الْغرَّة فِي الهجوم عَلَيْهِم

الثَّانِي عشر تَرْتِيب الْجَيْش فِي مصَاف الْحَرْب والتعويل فِي كل جِهَة على من يرَاهُ كفرءا لَهَا ويتفقد الصُّفُوف بِنَفسِهِ من حُصُول خلل يَقع فِيهَا ويراعي كل جِهَة يمِيل الْعَدو إِلَيْهَا بمدد من يكون عونا لَهَا 609 الثَّالِث عشر أَن يحرض الْمُجَاهدين على الْقِتَال وَيُقَوِّي نُفُوسهم ويشعرهم الظفر وَيذكر لَهُم أَسبَاب النُّصْرَة ويصفر الْعَدو فِي أَعينهم

الثَّالِث عشر أَن يحرض الْمُجَاهدين على الْقِتَال وَيُقَوِّي نُفُوسهم ويشعرهم الظفر وَيذكر لَهُم أَسبَاب النُّصْرَة ويصغر الْعَدو فِي أَعينهم

ويعدهم الإقطاع وَالزِّيَادَة فِي الرزق إِذا ظَهرت مِنْهُم النكاية فِي الْعَدو الرَّابِع عشر أَن يذكرهم ثَوَاب الله تَعَالَى وَمَا أعد لَهُم فِي الْآخِرَة من

النَّعيم الْمُقِيم وَيذكرهُمْ فضل الشَّهَادَة ويعدهم بإبقاء رزقهم على بعدهمْ الْخَامِس عشر أَن يشاور ذَوي الرَّأْي وَأهل الْخِبْرَة بِالْقِتَالِ والمشايخ من أعوانه وَأهل دولته وَيرجع فِيمَا أعضل وَيسلم الامر إِلَيْهِم فِيمَا أشكل عَلَيْهِ ليأمن الْخَطَأ وَيسلم من الزلل

السَّادِس عشر ان يلْزم جَيْشه بِمَا أوحبه الله تَعَالَى من حُقُوق وَبِمَا أمره الله تَعَالَى من مُرَاعَاة حُدُوده لِأَنَّهُ من جَاهد عَن الدّين كَانَ احق النَّاس بِالْتِزَام أَحْكَامه والفصل بَين حَلَاله وَحَرَامه وَقد قَالَ رَسُول الله ص = انهوا جيوشكم عَن الْفساد فَإِنَّهُ مَا فسد جَيش قطّ إِلَّا قذف الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم الرعب وانهوا جيوشكم عَن الْغلُول فَإِنَّهُ مَا غل جَيش قطّ إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم الرجلة وانهوا جيوشكم عَن الزِّنَا فَإِنَّهُ مَا زنى جَيش قطّ إِلَّا سلط اله عَلَيْهِم الموتان

السَّابِع عشر أَن لَا يتْرك أحدا من جَيْشه يتشاغل بِتِجَارَة أَو زراعة لِأَن ذَلِك يصرف الاهتمام عَن مصابرة الْعَدو وَعَن الصدْق فِي الْجِهَاد وَقد رُوِيَ أَن نَبيا من بني إِسْرَائِيل غزا عدوا لَهُم فَقَالَ لَا يغزون معي رجل بنى بِنَاء لم يكمله وَلَا رجل تزوج امْرَأَة لم يدْخل بهَا

وَلَا رجل زرع زرعا لم يحصده فَإِذا سَار الْملك بالجيش وَدخل أَرض الْعَدو فَيَنْبَغِي أَن يكون طلائع عسكره ومقدمة جَيْشه كالنهر الْجَارِي فَإِن النَّهر فِي أول جريه يَتَخَلَّل بِمَا يمر بِهِ من الأَرْض المستوية فَإِذا بلغ نشزا من الأَرْض وقف عِنْده حَتَّى يقوى بالمدد من وَرَائه ثمَّ يعلوا ذَلِك النشز وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَن يكون طلائع الْجَيْش الَّتِي تتقدم عَلَيْهِ لَا يقتحم عِنْد مَا يرى من الْقُوَّة من الْعَدو أمامها إِلَّا بِأَن تستمد

من وَرَائِهَا فَإِذا أَتَاهَا المدد قويت على من تمر بِهِ وعلته كعلو النَّهر إِذا استمد من وَرَائه وَلَا يَنْبَغِي أَن يُورد مقاتلة النَّاحِيَة المجهولة حَتَّى يقدم إِلَيْهَا من يختبرها من طلائعه فقد كَانَ يُقَال لَا تطَأ أَسْفَل أَرض عَدوك إِلَّا على ترقي احتراس وتوقي افتراس فَإنَّك لَا تأمن أَن يكون قد نصب لَك فِيهَا الِاشْتِرَاك وَدفن الغوائل والشباك

فِيمَا يَنْبَغِي لأهل الْجَيْش ويلزمهم من حُقُوق الْجِهَاد إِذا توجه الْملك بالجيش إِلَى لِقَاء المشتركين لزم أهل الْجَيْش من الْحُقُوق أَمْرَانِ أَحدهمَا مَا يلْزمهُم من حق الله تَعَالَى وَالثَّانِي مَا يلْزمهُم من حق الْملك فَأَما مَا يلْزمهُم من حق الله تَعَالَى فَأَرْبَعَة أَشْيَاء أَحدهمَا مصابرة الْعَدو عِنْد التقاء الصفين وَلَا ينهزمون من مثليهم فَمَا دون لآن الله تَعَالَى كَانَ قد فرض على كل مُسلم أَن يُقَاتل عشرَة من الْمُشْركين فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا} ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعد ذَلِك خفف

عَنْهُم لما شقّ عَلَيْهِم الْأَمر فَأوجب على كل مُسلم أَن يُقَاتل

رجلَيْنِ من الْمُشْركين فَقَالَ عز وَجل {الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله} ثمَّ إِن الله تَعَالَى حرم على كل مُسلم أَن ينهزم من مثلَيْهِ إِلَّا لأحد أَمريْن إِمَّا متحرفا لقِتَال فيأوي للاستراحة أَو لمكيدة وَيعود إِلَى قِتَالهمْ وَإِمَّا أَن يتحيز إِلَى فِئَة أُخْرَى ليتجمع مَعهَا على قِتَالهمْ لقَوْله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من الله} الثَّانِي أَن يقْصد بقتاله نَصره دين الله تَعَالَى وأبطال كلمة من خَالفه من الْأَدْيَان فَيكون بِهَذَا الِاعْتِقَاد حائزا لثواب الله تَعَالَى ومطيعا لَهُ

فِي أمره وَلَا يقْصد بقتاله فَائِدَة تحصل من الْغَنِيمَة فَيصير من المكتسبين لَا من الْمُجَاهدين

الثَّالِث أَن يُؤَدِّي الْأَمَانَة فِيمَا حازه من الْغَنَائِم وَلَا يغل مِنْهَا شَيْئا بل يحمل جَمِيعه إِلَى الْمغنم ليقسم بَين الْغَانِمين الَّذين حَضَرُوا الْوَقْعَة لِأَن لكل وَاحِد فِيهَا حَقًا

الرَّابِع أَن لَا يحابي فِي نَصره دين الله ذَا قرَابَة أَو مَوَدَّة فَإِن حق الله تَعَالَى أوجب ونصرة دينه ألزم قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق}

وَأما مَا يلْزم الْجَيْش من حق الْملك فَأَرْبَعَة أَشْيَاء أَحدهَا الْتِزَام طَاعَته وَالدُّخُول فِي وَلَا يته وَالْقَبُول لنَهْيه وامره مَا لم يَأْمُرهُم بالمعصية فَإِن طاعه الْملك وَاجِبَة فِي غير الْمعْصِيَة لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا}

أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم) قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله

عَنهُ أولُوا الْأَمر هم الْأُمَرَاء قَالَ رَسُول الله ص = {اسمعوا وَأَطيعُوا وَلَو اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي} فَأَما إِذا أَمر بِمَعْصِيَة

فَلَا يجوز طَاعَته لقَوْله ص = لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق الثَّانِي أَن يفوضوا أَمرهم إِلَى رَأْيه ويكلوه إِلَى تَدْبيره حَتَّى لَا تخْتَلف

آراؤهم فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم فَإِن ظهر لَهُم صَوَاب فِي شَيْء خفى على الْملك فَيَنْبَغِي أَن يبينوه لَهُ سرا ليرْجع بِهِ إِلَى الصَّوَاب وَالثَّالِث المسارعة إِلَى امْتِثَال أمره وَنَهْيه فِي غير الْمعْصِيَة الرَّابِع أَن لَا ينازعه فِي شَيْء من قسْمَة الْغَنَائِم إِذا قسمهَا فيهم بل

يرْضوا بِهِ فِي الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يُسَاوِي بَينهم فِيهَا كَمَا سوى الله تَعَالَى فِيهَا بَين الْقوي والضعيف وماثل بَين الدني والشريف وَسَنذكر صفة الْقِسْمَة فِي بَابهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

الْبَاب السَّادِس عشر فِي مصابرة الْمُشْركين إِذا تقَاتل فريق الْمُؤمنِينَ وفريق الْمُشْركين وَجب على الْملك مصابرتهم مَا صَبَرُوا وَإِن طَالَتْ بهم الْمدَّة وَلَا يُولى عَنْهُم وَبِه قُوَّة فقد قَالَ الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابطُوا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} قَالَ الْحسن مَعْنَاهُ اصْبِرُوا على طَاعَة

الله وَصَابِرُوا أَعدَاء الله وَرَابطُوا فِي سَبِيل الله

وَيَنْبَغِي للْملك أَن يرتب جَيْشه وَيجْعَل لكل طبقَة من أعدائه أشباههم من جَيْشه فَإِنَّهُم كَالْمَاءِ فِي الْأذن إِذا دَخلهَا فَلَا حِيلَة أرْفق فِي إِخْرَاجه من المَاء الَّذِي هُوَ من جنسه وَإِذا حمل على أعدائه فَلْيَكُن كالنهر إِذا جرى لَا انثناء لَهُ وَلَا رَجْعَة حَتَّى يبلغ غَايَته ومنتهاه من مغيضة وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَن يشْتَد الْملك فِي حَملته حَتَّى يوغل فِي عدوه ويبلغ غَايَته مِنْهُ وَإِذا دعِي أحد من الْمُشْركين إِلَى البرَاز جَازَ للْمُسلمِ أَن يخرج إِلَيْهِ

لِأَن أبي بن خلف دَعَا رَسُول الله ص = فِي يَوْم أحد إِلَى البرَاز فبرز إِلَيْهِ فَقتله

وَفِي يَوْم بدر برز من الْمُشْركين ثَلَاثَة نفر وهم عتبَة بن ربيعَة وَابْنه الْوَلِيد وَأَخُوهُ شيبَة بن ربيعَة ودعوا إِلَى البرَاز فبرز إِلَيْهِم من الْأَنْصَار

عوذ ومعاذ أَبنَاء عفراء وَعبد الله بن رَوَاحَة فَقَالُوا إِنَّا لَا نعرفكم فليبرز إِلَيْنَا أكفاؤنا من قُرَيْش فبرز إِلَيْهِم ثَلَاثَة من بني هَاشم وهم عَليّ بن أبي طَالب وَحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَعبيدَة بن الْحَارِث بن

الْمطلب فَأَما عَليّ رَضِي الله عَنهُ فبرز إِلَى الْوَلِيد فَقتله وبرز حَمْزَة إِلَى عتبَة فَقتله وبرز عُبَيْدَة إِلَى شيبَة فاختلفا فِي ضربتين أثبت كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه فَمَاتَ شيبَة لوقته وَحمل عُبَيْدَة حَيا فَمَاتَ بعد ذَلِك وَرُوِيَ أَن عَمْرو بن ود العامري دَعَا إِلَى البرَاز يَوْم الخَنْدَق فِي أول يَوْم فَلم يجبهُ أحد ثمَّ دَعَا إِلَى البرَاز فِي الْيَوْم الثَّانِي فَلم يجبهُ أحد ثمَّ دَعَا

فِي الْيَوْم الثَّالِث فَلم يجبهُ أحد فَقَالَ يَا مُحَمَّد ألستم تؤمنون أَن قَتْلَاكُمْ فِي الْجنَّة عِنْد رَبهم يرْزقُونَ وقتلانا فِي النَّار يُعَذبُونَ فَمَا يُبَالِي أحدكُم أَن يقدم على كَرَامَة من ربه وَيقدم عدوه إِلَى النَّار ثمَّ أنْشد (وَلَقَد دَنَوْت إِلَى الندا ... ء لجمعهم هَل من مبارز) (ووقفت إِذْ جبن المشجع ... موقف الْقرن المناجز) (إِنِّي كَذَلِك لم أزل ... متسرعا نَحْو الهزاهز) (إِن الشجَاعَة فِي الْفَتى ... والجود من خير الغرائز) قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَاسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مبارزته فَأذن لَهُ وَقَالَ أخرج إِلَيْهِ فِي حفظ الله وعياذته فَخرج عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يَقُول (إبشر أَتَاك مُجيب صو ... تَكُ فِي الهزاهز غير عَاجز) (ذُو نيه وبصيرة ... يَرْجُو الْغَدَاة نجاة فائز) (إِنِّي لأرجو أَن أق ... يم عَلَيْك نائحة الْجَنَائِز) (من طعنة نجلاء يب ... هر ذكرهَا عِنْد الهزاهز)

قَالَ فتجاولا سَاعَة ثمَّ حمل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه وثارت بَينهمَا عجاجة أخفتهما عَن الْأَبْصَار ثمَّ انجلت عَنْهُمَا وَإِذا عَليّ رَضِي الله عَنهُ يمسح سَيْفه بِثَوْب عَمْرو وَهُوَ قَتِيل وَإِذا أَرَادَ الْمُسلم أَن يَدْعُو إِلَى البرَاز مبتدئا جَازَ لَهُ ذَلِك لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَعَلُوهُ وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن المبارزة بَين الصفين فَقَالَ لَا بَأْس وَيَنْبَغِي

أَن لَا يبارز إِلَّا من اشتهرت قوته وَعلمت شجاعته لِأَن الضَّعِيف إِذا بارز لم يُؤمن أَن يقتل فتضعف قُلُوب الْمُسلمين وَيجوز لآحاد الْجَيْش أَن يحمل مُنْفَردا على جَيش الْمُشْركين وَقد كَانَ يفعل ذَلِك جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَرُوِيَ أَن الخنساء بنت عَمْرو بن الشريد السلمِيَّة حضرت حَرْب الْقَادِسِيَّة وَمَعَهَا بنوها الْأَرْبَعَة فَقَالَت لَهُم يَا بني أسلمتم طائعين

وهاجرتم مختارين وَوَاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنَّكُم لبنوا رجل وَاحِد كَمَا أَنْتُم بنوا امْرَأَة وَاحِدَة مَا خُنْت أَبَاكُم وَلَا فضحت خالكم وَلَا هجنت حسبكم وَلَا غيرت نسبكم وَقد تعلمُونَ مَا أعد الله تَعَالَى من الثَّوَاب للْمُسلمين فِي حَرْب الْكَافرين وَاعْلَمُوا أَن الدَّار الْبَاقِيَة خير من الدَّار الفانية لقَوْل الله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} فَإِذا رَأَيْتُمْ الْحَرْب غَدا قد شمرت عَن

ساعداها واضطرمت لظى على سَاقهَا فَتَيَمَّمُوا وطيسها وجالدوا رئيسها تظفروا بالغنم والكرامة فِي دَار الْخلد والمقامة قَالَ فَخرج بنوها من عِنْدهَا قابلين لنصحها فَلَمَّا كَانَ الصُّبْح باكروا مراكزهم فحين تقَابل الصفان حمل أحدهم على جَيش الْمُشْركين وَهُوَ ينشد وَيَقُول (يَا إخوتا إِن الْعَجُوز الناصحة ... قد نصحتنا إِذْ دعتنا البارحة)

(مقَالَة ذَات بَيَان وَاضِحَة ... فبادروا الْحَرْب الضروس الكالحة) (فَأنْتم بَين حَيَاة صَالِحَة ... وميتة تورث غنما رابحة) فَلم يزل يَضْرِبهُمْ بِسَيْفِهِ ويطعنهم برمحه حَتَّى اسْتشْهد رَحمَه الله تَعَالَى ثمَّ حمل الثَّانِي وَهُوَ يَقُول (قد أمرتنا بالسداد والرشد ... نصيحة مِنْهَا وَبرا بِالْوَلَدِ) (فباكروا الْحَرْب حماة فِي الْعدَد ... إِمَّا بفوز بَارِد على الكبد) (أَو ميتَة تورثكم غنم الْأَبَد ... فِي جنَّة الفردوس والعيش الرغد)

فَلم يزل يَضْرِبهُمْ بِسَيْفِهِ ويطعنهم برمحه حَتَّى اسْتشْهد رَحمَه الله ثمَّ حمل الثَّالِث مِنْهُم وَهُوَ يَقُول (نصحا وَبرا صَادِقا ولطفا ... فبادروا الْحَرْب الْعوَان زحفا) (حَتَّى تكفوا آل كسْرَى كفا ... وتكشفوهم عَن حماكم كشفا) (إِنَّا نرى التَّقْصِير عَنْهُم ضعفا ... وَالْقَتْل فيهم نجدة وَعرفا) فَلم يزل يُقَاتل فيهم حَتَّى اسْتشْهد رَحمَه الله ثمَّ حمل الرَّابِع مِنْهُم وَهُوَ يَقُول (لسنا لخنساء وَلَا للأكرم ... أَعنِي عمرا ذَا السماح الأقدم) (إِن لم أرد فِي الْحَرْب جَيش الْأَعْجَم ... إِمَّا لفوز عَاجل أَو مغنم) (أَو لوفاة فِي السَّبِيل الأكرم ... ) فَلم يزل يطعن فيهم برمحه حَتَّى اسْتشْهد رَحمَه الله تَعَالَى فَلَمَّا بلغ خنساء الْخَبَر قَالَت الْحَمد لله الَّذِي شرفني بِقَتْلِهِم وَأَرْجُو من رَبِّي أَن

يجمعني وإياهم فِي مُسْتَقر رَحمته فَلَمَّا بلغ ذَلِك عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ أعْطوا الخنساء أرزاق أَوْلَادهَا الْأَرْبَعَة وأجروا عَلَيْهَا ذَلِك حَتَّى تقبض قَالَ فَلم تزل تَأْخُذ عَن كل وَاحِد مِنْهُم مِائَتي دِرْهَم فِي كل شهر حَتَّى قبضت رَضِي الله عَنْهَا وَيَنْبَغِي أَن يكون سَواد الْعَسْكَر وَجُمْهُور الموكب كامتداد النَّهر إِذا طمي وزجر لَا يمر بِشَيْء إِلَّا علاهُ وغرقه

الْبَاب السَّابِع عشر فِي معرفَة قتال أهل الرِّدَّة وَأهل الْبَغي وقطاع الطَّرِيق نقتصر فِي هَذَا الْبَاب على ذكر مَا يجوز للْملك فعله ونوضح قَوَاعِد الْمَذْهَب فِي ذَلِك من غير ذكر خلاف وَلَا تَطْوِيل ليَقَع الْفِعْل فِي ممارستهم مُوَافقا للشَّرْع وَهُوَ ثَلَاثَة فُصُول

الفصل الأول في معرفة قتال أهل الردة

الْفَصْل الأول فِي معرفَة قتال أهل الرِّدَّة إِذا حكم بِإِسْلَام قوم ثمَّ ارْتَدُّوا عَن دين

الْإِسْلَام إِلَى أَي دين خَالفه لم يجز إقرارهم عَلَيْهِ لِأَن الْإِقْرَار بِالْحَقِّ يُوجب الْتِزَام أَحْكَامه ثمَّ لم يخل حَال أهل الرِّدَّة من أَمريْن أَحدهمَا أَن يَكُونُوا فِي دَار الْإِسْلَام أفرادا لم يتحيزوا بدار يمتنعون

بهَا ويتميزون عَن الْمُسلمين فِيهَا الثَّانِي أَن يتجاوزوا إِلَى دَار ينفردون بهَا عَن الْمُسلمين حَتَّى يصيروا فِيهَا ممتنعين فَإِن كَانُوا فِي دَار الْإِسْلَام منفردين فَلَا حَاجَة إِلَى قِتَالهمْ لدخولهم تَحت الْقُدْرَة بل يجب أَن يَأْخُذهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا دخلُوا فِيهِ من الْبَاطِل فَإِن تَابُوا قبلت تَوْبَتهمْ وَأجْرِي عَلَيْهِم حكم الْإِسْلَام وَمِمَّنْ أَقَامَ مِنْهُم على

ردته بعد ذَلِك وَجب قَتله رجلا كَانَ أَو امْرَأَة لقَوْله صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ

وَاخْتلف الْعلمَاء فِي كَيْفيَّة قتل الْمُرْتَد وَالْوَقْت الَّذِي يقتل فِيهِ فَمنهمْ من قَالَ يقتل فِي الْحَال لِأَن حق الله تَعَالَى إِذا وَجب لَا يجوز تَأْخِيره وَمِنْهُم من قَالَ يُؤَجل ثَلَاثَة أَيَّام لِأَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أنظر الْمُسْتَوْرد الْعجلِيّ بِالرّدَّةِ ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ قَتله بعد ذَلِك

وَيقتل ضربا بِالسَّيْفِ وَمِنْهُم من قَالَ يقتل ضربا بالخشب وَإِذا قتل لم يغسل وَلم يُكفن وَلم يصل عَلَيْهِ وَلم يدْفن فِي مَقَابِر

الْمُسلمين وَيكون مَاله فَيْئا فِي بَيت مَال الْمُسلمين وَأما إِذا انحاز أهل الرِّدَّة إِلَى دَار ينفردون بهَا عَن الْمُسلمين حَتَّى صَارُوا فِيهَا ممتنعين وَجب قِتَالهمْ على ردتهم وَيجْرِي على قِتَالهمْ حكم قتال أهل الْحَرْب فِي جَوَاز قَتلهمْ غرَّة وبياتا ومقبلين ومدبرين وَمن أسر مِنْهُم جَازَ قَتله وَلَا يجوز استرقاقه وَإِذا

غنمت أَمْوَالهم لم تقسم بَين الْغَانِمين بل يكون مَال من قتل مِنْهُم فَيْئا لبيت المَال وَمَال من لم يقتل مَوْقُوفا على إِسْلَامه فَإِن عَاد إِلَى الْإِسْلَام رد عَلَيْهِ مَاله

الفصل الثاني في معرفة قتال أهل البغي

الْفَصْل الثَّانِي فِي معرفَة قتال أهل الْبَغي وَإِذا خرجت طَائِفَة من الْمُسلمين وخالفوا رَأْي الْجَمَاعَة وانفردوا

عَنْهُم وَخَرجُوا عَن قَبْضَة الإِمَام الْأَعْظَم وتحيزوا بدار وامتنعوا بمنعة وَجب قِتَالهمْ بعد أَن ينذرهم ويسألهم مَا تَنْقِمُونَ لِأَن عليا رَضِي الله عَنهُ

بعث عبد الله بن عَبَّاس إِلَى الْخَوَارِج فَسَأَلَهُمْ مَا تَنْقِمُونَ مِنْهُ ثمَّ

تأخذهم وانذرهم فَإِن رجعُوا إِلَى الطَّاعَة فَكف عَنْهُم فَإِن أَبَوا قَاتلهم لقَوْله تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله}

وَقد قَاتل أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مانعي الزَّكَاة

وَقَاتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ الخوارد بالنهروان وَقَاتل مُعَاوِيَة بصفين

وَاعْلَم أَن قِتَالهمْ يُخَالف قتال الْمُشْركين من تِسْعَة اوجه أَحدهمَا لَا يهجم عَلَيْهِم غرَّة وَلَا بياتا وَيجوز ذَلِك فِي قتال الْمُشْركين الثَّانِي أَن يقْصد بِقَتْلِهِم ردهم وردعهم ورجوعهم إِلَى الْحق وَلَا يعمد إِلَى قَتلهمْ الثَّالِث يقاتلهم مُقْبِلين ويكف عَنْهُم مُدبرين

حذف

الرَّابِع أَن لَا يُجهز على جريحهم الْخَامِس أَن لَا يقتل أَسْرَاهُم

السَّادِس أَن لَا يغنم أَمْوَالهم وَلَا يسبي ذَرَارِيهمْ السَّابِع أَن لَا يَسْتَعِين فِي قِتَالهمْ بمشرك معاهد وَلَا ذمِّي الثَّامِن أَن لَا يهادنهم إِلَى مُدَّة وَلَا يوادعهم على مَال فَإِن هادنهم إِلَى مُدَّة لم تلْزم فَإِن ضعف عَن قِتَالهمْ انْتظر بهم الْقُوَّة عَلَيْهِم وَإِن وادعهم على مَال بطلت الْمُوَادَعَة ثمَّ ينظر فِي المَال فَإِن كَانَ من صَدَقَاتهمْ أَو خراجهم لم يردهُ عَلَيْهِم وَإِن كَانَ من خَالص أَمْوَالهم رده عَلَيْهِم وَلَا يجوز أَن يَتَمَلَّكهُ عَلَيْهِم التَّاسِع أَن لَا ينصب عَلَيْهِم العرادات والمنجنيقات

وَلَا يحرق عَلَيْهِم المساكن وَلَا يقطع أَشْجَارهم لِأَن دَار الْإِسْلَام تمنع مَا فِيهَا كل ذَلِك بِخِلَاف قتال الْمُشْركين فَإِن أحاطوا بِأَهْل الْعدْل وخافوا مِنْهُم الاصطدام جَازَ أَن يدفعوا عَنْهُم مَا اسْتَطَاعُوا من اعْتِمَاد قَتلهمْ وَنصب المنجنيقات عَلَيْهِم وحريقهم وَغير ذَلِك لِأَن الْمُسلم إِذا أريدت نَفسه جَازَ لَهُ الدّفع عَنْهَا بقتل من أرادها إِذا كَانَ لَا ينْدَفع إِلَّا بِالْقَتْلِ وَلَا يجوز أَن ينْتَفع بدوابهم وَلَا أسلحتهم وَلَا يستعان بِهِ فِي قِتَالهمْ وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى يجوز ذَلِك كُله

الْفَصْل الثَّالِث فِي معرفَة قتال قطاع الطّرق وَإِن اجْتمعت طَائِفَة من أهل الْفساد على شهر السِّلَاح وَقطع الطَّرِيق وَأخذ الْأَمْوَال وَقتل النُّفُوس وَمنع السبل فهم المحاربون الَّذين قَالَ

الله تَعَالَى فِي حَقهم {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون}

فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض) قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ من قتل مِنْهُم وَأخذ المَال قتل وصلب بعد قَتله وَمن قتل وَلم يَأْخُذ المَال قتل وَلم يصلب وَمن أَخذ

المَال وَلم يقتل قطعت يَده وَرجله من خلاف وَمن لم يقتل وَلم يَأْخُذ المَال وَلكنه رهب وأخاف السَّبِيل عزّر بِالْحَبْسِ وَهُوَ النَّفْي من الأَرْض وَقَالَ مَالك رَضِي الله عَنهُ من كَانَ مِنْهُم ذَا رَأْي وتدبير قتل وَمن كَانَ ذَا بَطش وَقُوَّة قطع يَده وَرجله من خلاف وَمن لم يكن مِنْهُم ذَا رَأْي وَلَا بَطش عزّر وَحبس

وَاعْلَم أَن قتال قطاع الطَّرِيق كقتال أهل الْبَغي فِي عَامَّة أَحْوَالهم وَيُخَالِفهُ من خَمْسَة أوجه أَحدهَا أَنه يجوز قِتَالهمْ مُقْبِلين ومدبرين الثَّانِي يجوز أَن يعمد إِلَى قتل من قتل مِنْهُم فِي حَال الْحَرْب بِخِلَاف قتال أهل الْبَغي الثَّالِث أَنهم يؤاخذون بِمَا استهلكوه من دم أَو مَال فِي حَال

الْحَرْب وَغَيرهَا بِخِلَاف أهل الْبَغي الرَّابِع أَنه يجوز حبس من أسر مِنْهُم ليعلم بَرَاءَة حَاله من غير خلاف بِخِلَاف أهل الْبَغي الْخَامِس أَن ماجبوه من الْخراج وَالصَّدقَات يكون كالمأخوذ على وَجه الْغَصْب والنهب لَا يسْقط عَن أهل الْخراج وَالصَّدقَات وَيكون غرمه مُسْتَحقّا عَلَيْهِم لمن أَخَذُوهُ مِنْهُم بِخِلَاف أهل الْبَغي

الْبَاب الثَّامِن عشر فِي معرفَة قسم الْغَنِيمَة والأنفال إِذا أَخذ الْمُسلمُونَ من الْكفَّار مَالا

بِإِيجَاف الْخَيل والركاب فَهُوَ غنيمَة يجب على الْملك أَن يقسمهُ بَين الْغَانِمين فَيَجْعَلهُ خَمْسَة أَخْمَاس خمس مِنْهَا لأهل الْخمس الَّذين قَالَ الله عز وَجل فِي حَقهم {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} وَأَرْبَعَة

أَخْمَاس للغانمين

وَيَنْبَغِي أَن يقسم ذَلِك جَمِيعه فِي دَار الْحَرْب لِأَن رَسُول الله صلى

الله عَلَيْهِ وَسلم قسم غَنَائِم بني المصطلق على مِيَاههمْ وَقسم غَنَائِم

حنين بأوطاس وهوواد من حنين وَلَا يدْخل سلب الْمَقْتُول فِي الْقِسْمَة بل يكون للْقَاتِل دون غَيره لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل السَّلب للْقَاتِل

فَإِن كَانَ الْجَيْش كلهم فُرْسَانًا سوي بَينهم فِي الْقِسْمَة وَكَذَلِكَ إِن كَانُوا رجالة وَإِن كَانَ بَعضهم فُرْسَانًا وَبَعْضهمْ رجالة جعل للراجل سَهْما وَاحِدًا وللفارس ثَلَاثَة أسْهم بَينهمَا سَهْما للرجل وسهمين للْفرس وَيجْعَل من قَاتل وَمن لم يُقَاتل فِي الْقِسْمَة

سَوَاء وَكَذَلِكَ من حضر بفرسين أَو أَكثر لم يزدْ سَهْمه على من حضر بفرس وَاحِد وَإِذا بعث الْملك سَرِيَّة من

الْجَيْش إِلَى جِهَة الْكفَّار فَغنِمت السّريَّة شاركهم فِي ذَلِك أهل الْجَيْش وَكَذَلِكَ إِن غنم أهل الْجَيْش شاركهم أهل السّريَّة لِأَن رَسُول الله ص = لما هزم هوزان بحنين أسرى سَرِيَّة قبل أَوْطَاس فَغنِمت فقسم غنائمهم بَين الْجَمِيع وَمن فعل من أهل الْجَيْش

فعلا يُفْضِي إِلَى الظفر بالعدو كالتجسس وَالدّلَالَة على الطَّرِيق أَو قلعة أَو التَّقَدُّم بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الْحَرْب جَازَ للْملك أَن ينفلهُ من الْغَنِيمَة بِزِيَادَة على سَهْمه لِأَن رَسُول الله ص = كَانَ يفعل ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

الْبَاب التَّاسِع عشر فِيمَا يَنْبَغِي للْملك أَن يَفْعَله عِنْد قفوله بالجيش يَنْبَغِي للْملك إِذا قفل بالجيش من غزَاة أَو سفر أَن يفعل كَمَا كَانَ يفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قفوله من غَزَوَاته وأسفاره كَانَ يكبر على كل شرف من الأَرْض ثَلَاث تَكْبِيرَات وَيَقُول لاإله إِلَّا الله وَحده لاشريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيى وَيُمِيت وَهُوَ حى لايموت بيدة الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير آيبون تائبون عَابِدُونَ ساجدون لربنا

حامدون صدق الله وعده وَنصر عَبدة وأعز جندة وَهزمَ الاحزاب وحدة كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه لَهُ الحكم وإلية ترجعون وَيَنْبَغِي إِذا اشرف على مدينته أَن يُحَرك دَابَّته وَيَقُول اللَّهُمَّ اجْعَل لنا بهَا قرارا وَرِزْقًا حسنا ثمَّ يُرْسل إِلَى نوابه وَأهل مدينته فيخبرهم بقدومه ليخرجون إِلَى لِقَائِه لِأَن الرّعية ينتعشون بطلعة الْملك عَلَيْهِم ورجوعه إِلَيْهِم كانتعاش النبت بوابل الْقطر وَإِذا دخل الْبَلَد فليقصد الْمَسْجِد وَليصل فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَذَلِك كَانَ يفعل رَسُول الله ص = وَإِذا دخل منزله وَاسْتقر على سَرِيره فَلْيقل توبا توبا لربنا أوبا لَا يُغَادر خَطِيئَة وَلَا حوبا ثمَّ يرفع حجابه وَيفتح بَابه وَيَأْذَن لوجوه بلدته وَبَيَاض رَعيته بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ لتهنئته بِمَا أَفَاء الله عَلَيْهِ وحققه لَدَيْهِ من شُمُول النِّعْمَة وَحسن المنقلب ثمَّ يكثر من الصَّدَقَة والصلات ويوسع فِي العطايا والهبات وَيرد الغصوب والظلامات ويكشف عَن أَحْوَال من حَبسه من أهل الْجِنَايَات ويستكثر من صنائع الْمَعْرُوف وأفعال الْبر فَإِنَّهُ

إِذا فعل ذَلِك كَانَ شاكرا لله تَعَالَى وَكَانَ لمزيد النِّعْمَة مُسْتَحقّا ولتتابع الْإِحْسَان من الله مستوجبا

الْبَاب الْعشْرُونَ فِي الْحَث على اسْتِمَاع المواعظ وقبولها من النساك اعْلَم أَن اسْتِيلَاء الدُّنْيَا على الْمُلُوك وإقبالها عَلَيْهِم رُبمَا شغلهمْ عَن أَمر الْآخِرَة وأغفلهم عَن مهمات الدّين فيجنحون إِلَى اللَّذَّات ويهملون أَمر الديانَات لِأَن النُّفُوس مطبوعة على الْميل إِلَى الترف وإيثار التنعم وَكَرَاهَة التَّكْلِيف فَلَا يَنْبَغِي أَن تَخْلُو مجَالِسهمْ من عُلَمَاء الدّين وأصالح المتنسكين لينهوهم عِنْد طريان الْغَفْلَة ويذكروهم عِنْد ضراوة الشَّهْوَة ويوضحون لَهُم نهج الْآخِرَة ومعالم الشَّرِيعَة وَقد كَانَ ذَلِك شعار الْمُلُوك الغابرين وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين فِي مجَالِسهمْ الْحُكَمَاء واستماع مواعظ الْعلمَاء وَكَانُوا فِي ذَلِك ثَلَاث طَبَقَات فَمنهمْ طبقَة لما سمعُوا الموعظة والتذكير نبذوا ملك الدُّنْيَا

الَّذِي يفنى ليعتاضوا عَنهُ ملك الْآخِرَة الَّذِي يبْقى وأخرجوا ذَلِك من قُلُوبهم وايديهم واهتموا بِأَمْر الْآخِرَة وَالْعَمَل لَهَا لينالوا الْفَوْز الاكبر وَالنَّعِيم الدَّائِم. وَمِنْهُم طبقَة عِنْد سَماع الموعظة أخرجُوا ملك الدُّنْيَا من قُلُوبهم وَلم يخرجوه من أَيْديهم واهتموا بِأَمْر الْآخِرَة مَعَ بقائهم فِي الْملك وَهَذِه الطَّبَقَة مجاهدتهم عَظِيمَة وَمثلهمْ فِي ذَلِك مثل من ألزم نَفسه الظمأ وبحضرته نهر بَارِد ينظر إِلَيْهِ وَيقدر على تنَاول شربة وَهَذَا كَانَ مقَام الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأمرائهم وعمالهم وَمن سلك سبيلهم وَمِنْهُم طبقَة أصمهم حب الدُّنْيَا ونيل لذاتها عَن اسْتِمَاع المواعظ واعمى أَبْصَارهم عَن كل مُذَكّر وواعظ فآثروا اللَّذَّات على الْمُهِمَّات وقطعتهم الشَّهَوَات عَن أُمُور الديانَات وسأذكر من أَخْبَار هَذِه الطَّبَقَات الثَّلَاث مَا يكون فِيهِ رياض لِذَوي الأفكار ورياضات لأولي الْأَبْصَار وَالله اعْلَم بِالصَّوَابِ

حكايات الطبقة الأولى خمس روضات

حكايات الطَّبَقَة الأولى خمس روضات الرَّوْضَة الأولى مَا حَكَاهُ أَصْحَاب الحَدِيث ان عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ اسْتعْمل عُمَيْر بن سعد الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ على حمص وأعمالها

فَلبث بهَا سنة كَامِلَة فَجَلَسَ يَوْمًا وَعِنْده رجل من أَصْحَاب عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَانَ قد أَتَاهُ يَسْتَدْعِي مِنْهُ مَا اجْتمع عِنْده من المَال فَحَضَرَ عِنْده رجل معاهد فَجعل يتَكَلَّم وَيرْفَع صَوته فَقَالَ لَهُ عُمَيْر اسْكُتْ أخزاك الله فَقَالَ لَهُ الرجل الَّذِي عِنْده من اصحاب عمر يَا عُمَيْر أما سَمِعت رَسُول الله ص = يَقُول أَنا ولي خصم الْمعَاهد واليتيم وَمن خاصمه خصمته يَا عُمَيْر اتَّقِ من فَوْقك يتقك من تَحْتك وكما تحب أَن يصنع الله بك فَاصْنَعْ برعيتك قَالَ فَبكى عُمَيْر بكاء شَدِيدا ثمَّ انثنى إِلَى منزله فَعمد إِلَى جراب زَاده واداته وقصعته فعلقهن على عصاة

وحملهن على عَاتِقه وَخرج من حمص مَاشِيا حَتَّى قدم عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَسلم عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِ السَّلَام متثاقلا ثمَّ قَالَ لَهُ عُمَيْر مَا هَذَا الَّذِي أرى بك من سوء الْحَال أمرضت بعدِي أم بلادك بِلَاد سوء أم هَذِه خديعة مِنْك فَقَالَ لَهُ عُمَيْر يَا امير الْمُؤمنِينَ ألم ينهك الله عز وَجل عَن التَّجَسُّس ثمَّ مَا الَّذِي ترى بِي من سوء الْحَال أَلَسْت تراني صَحِيح الْبدن قد جئْتُك أحمل الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ عمر وَمَا الَّذِي جِئْت بِهِ من الدُّنْيَا قَالَ جرابي فِيهِ زادي وإداتي فِيهَا مائي لشرابي ووضوئي وقصعتي لعجيني وعكازي أذب بهَا عَن نَفسِي قَالَ عمر صدقت رَحِمك الله فَمَا فعل الْمُسلمُونَ قَالَ عُمَيْر تَركتهم يوحدون الله تَعَالَى وَيصلونَ وَلَا تَسْأَلنِي عَمَّا وَرَاء ذَلِك قَالَ فَمَا فعل أهل لذمة قَالَ أَخذنَا مِنْهُم الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون قَالَ فَمَا اجتلبت من المَال قَالَ مَا أَنْت وَذَاكَ إِنِّي لما قدمت حمص اجتهدت رَأْي وجمعت من بهَا من الْمُسلمين فاخترت مِنْهُم رجَالًا فاستعملتهم ثمَّ نظرت فِيمَا اجْتمع من المَال فقسمته فِي أَهله وَلَو كَانَ عندنَا فضل لأتاك فَقَالَ يَا عُمَيْر واين راحلتك قَالَ لم يكن لي رَاحِلَة فَقَالَ أما كَانَ فِي رعيتك من يتَبَرَّع لَك بِدَابَّة تركبها بئس الْمُسلمُونَ وَبئسَ المعاهدون ثمَّ قَالَ لِابْنِهِ عبد الله جئني بِصَحِيفَة لأجدد لعمير عهدا ليرْجع إِلَى عمله فَقَالَ عُمَيْر لَا وَالله لَا أعمل على شَيْء أبدا قَالَ عمر وَلم ذَاك

قَالَ لِأَنِّي مَا نجوت فَإِنِّي قلت يَوْمًا لمعاهد أخزاك الله وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا ولي خصم الْمعَاهد واليتيم وَمن خاصمه خصمته فَنَهَضَ عمر وَأخذ بيد عُمَيْر ثمَّ أَتَى قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله ثمَّ قَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر ثمَّ بكا عمر وَقَالَ مَاذَا لقِيت بعدكما اللَّهُمَّ ألحقني بصاحبي لم أغير وَلم أبدل وبكا مَعَه عُمَيْر طَويلا ثمَّ قَالَ يَا عُمَيْر الْحق بأهلك وَكَانَ أَهله على مسيرَة ثَلَاثَة فراسخ من الْمَدِينَة قَالَ ثمَّ قدم بعد ذَلِك رجل على عمر بِمَال من عِنْد بعض عماله فدعى رجلا من أَصْحَابه اسْمه حبيب فَدفع إِلَيْهِ صرة فِيهَا مائَة دِينَار وَقَالَ انْطلق إِلَى منزل عُمَيْر فأقم عِنْده ثَلَاثًا وتفقد حَاله ثمَّ أعْطه هَذِه الصرة فَأَتَاهُ حبيب فَوَجَدَهُ بِفنَاء بَيته يتفلى فِي الشَّمْس فَسلم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عُمَيْر من أَيْن أَقبلت قَالَ من الْمَدِينَة قَالَ كَيفَ تركت عمر قَالَ صَالحا قَالَ لَعَلَّه جَار فِي الحكم قَالَ لَا قَالَ فَلَعَلَّهُ وضع

السَّوْط فِي أهل الْقبْلَة قَالَ لَا وَلكنه ضرب ابْنا لَهُ الْحَد فَمَاتَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لعمر فَإِنَّهُ يحبك وَيُحب رَسُولك وَيُحب إِقَامَة الْحَد فَنزل عِنْده حبيب ثَلَاثَة أَيَّام يقريه كل يَوْم قرصا مأدوما بِزَيْت فَلَمَّا انْقَضتْ الثَّلَاث قَالَ لَهُ عُمَيْر ارتحل عَنَّا رَحِمك الله فقد أجعتنا وَإنَّك لم تصادف عندنَا فضلا وَلَكِن آثرناك فَقَالَ لَهُ حبيب خُذ هَذِه الصرة فَإِن عمر بعثها إِلَيْك فَلَمَّا صَارَت فِي يَده قَالَ صَحِبت رَسُول الله ص = فَلم نَبْتَل بِشَيْء من الدُّنْيَا وصحبت أَبَا بكر كَذَلِك ثمَّ صَحِبت عمر فشر أيامي يَوْم صَحِبت عمر وَجعل ينتحب ويبكي فَقَالَت لَهُ امْرَأَته لَا تبك رَحِمك الله ضعها حَيْثُ شِئْت قَالَ صدقت فاطرحي إِلَيّ بعض خلقانك فَفعلت فَجعل يصر الدَّنَانِير ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَفَوق ذَلِك حَتَّى قسمهَا فِي فُقَرَاء جِيرَانه وَعَاد حبيب إِلَى عمر فَأخْبرهُ فارتاع لذَلِك ولبث أَيَّامًا واستدعى عُمَيْرًا فَقَالَ لَهُ مَا صنعت بِالدَّنَانِيرِ قَالَ أقرضتها رَبِّي ليَوْم فقري قَالَ هَل عَلَيْك دين

قَالَ لَا فَأمر عمر رَضِي الله عَنهُ لَهُ بوقر بعير تَمرا وبثوبين فَقَالَ أما الثوبان فاقبلهما وَأما التَّمْر فَلَا حَاجَة بِي إِلَيْهِ لِأَنِّي قد تركت عِنْد أَهلِي صَاعا من الشّعير وَهُوَ مبلغهم إِلَى وَقت ثمَّ انْصَرف عُمَيْر إِلَى أَهله فَقَالَ مَا لبث أَن توفّي فجزع عَلَيْهِ عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ لأَصْحَابه تمنوا فتمنوا فَقَالَ لكني أَتَمَنَّى رجَالًا مثل عُمَيْر استعين بهم على أُمُور الْمُسلمين

الروضة الثانية

الرَّوْضَة الثَّانِيَة مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِي قَالَ ركب النُّعْمَان بن أمرئ الْقَيْس بن عَمْرو الْأَكْبَر حَتَّى أشرف على الخورنق وَهُوَ الَّذِي بناه فَلَمَّا نظر

إِلَى مَا حوله وَكَانَ فِي فصل الرّبيع وَقد أخذت الأَرْض زينتها فَرح طرفَة مَلِيًّا فِيمَا حوله وَكَانَ معجبا بالشقائق الَّتِي يُقَال لَهَا شقائق النُّعْمَان وَمن أجل إعجابه بهَا وتتبعه لَهَا فِي الرياض نسبت إِلَيْهِ قَالَ وَكَانَ هُنَاكَ رَوْضَة شقائق فَلَمَّا تأملها وَرَأى حسن تنضد الشَّقِيق فِي منابته وقنو حمرته وخضرة سوقه وميسه وهبوب النسيم عَلَيْهِ وتناثر الْقطر فِي أرجائه ارْتَاحَ قلبه إِلَيْهِ فَأمر أَن يبسط لَهُ بِإِزَاءِ تِلْكَ الرَّوْضَة بِسَاط وشى من الْحَرِير المخمل فَكَانَ الْبسَاط كَأَنَّهُ رَوْضَة مُخْتَلفَة بأصناف النوار وَضربت عَلَيْهِ قبَّة من الديباج الْأَحْمَر منضدة من الحشايا بِمَا يضاهيها ويجانسها فِي

لَوْنهَا وَلبس من ثِيَاب الْحَرِير افضل مَا عِنْده ثمَّ جلس فِي تِلْكَ الْقبَّة مواجها لتِلْك الرَّوْضَة وَعِنْده أكَابِر قواده وخواص مَمْلَكَته ووجوه رَعيته وَفِيهِمْ عدي بن زيد قَالَ فأعجب الْملك بِمَا هُوَ فِيهِ فَقَالَ لجلسائه هَل رَأَيْتُمْ مثل مَا أَنا فِيهِ أَو علمْتُم أَن أحدا أُوتِيَ مثل مَا أُوتيت قَالُوا لَا أَيهَا الْملك مَا رَأينَا مثلك وعدي بن زيد سَاكِت لَا يتَكَلَّم فَنظر إِلَيْهِ الْملك مستدعيا لكَلَامه فَقَالَ عدي أَيهَا الْملك إِن أَذِنت لي تَكَلَّمت فَقَالَ تكلم قَالَ أَرَأَيْت ماجمعت أَشَيْء هُوَ لَك لم يزل أم شَيْء كَانَ لمن كَانَ قبلك زَالَ عَنهُ وَصَارَ إِلَيْك قَالَ بلَى كَانَ لمن كَانَ قبلي ثمَّ صَار إِلَيّ قَالَ أفيزول عَنْك إِلَيّ غَيْرك أم يبْقى إِلَيْك قَالَ بلَى يَزُول

عني وَيصير إِلَيّ غَيْرِي قَالَ فَأَرَاك أَيهَا الْملك سررت بِشَيْء تذْهب عَنْك لذته وَيبقى عَلَيْك تَبعته تكون فِيهِ قَلِيلا وترتهن فِيهِ طَويلا قَالَ فَبكى النُّعْمَان وَقَالَ لَهُ يَا عدي فَأَيْنَ الْمَهْرَب قَالَ أحد أَمريْن الأول أَن تقيم فِي ملكك وتعمل بِطَاعَة رَبك على مَا سرك وساءك وَالثَّانِي أَن تضع تاجك وتخلع أطمارك وتلبس أمساحك ثمَّ تلْحق بِبَعْض الْجبَال وَحدك تعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك أَجلك قَالَ إِذا فعلت ذَلِك فَمَالِي عِنْده قَالَ حَيَاة لاتموت وشباب لايهرم وَصِحَّة لاتسقم وَملك جَدِيد لايبلى قَالَ وكل مَا أرى إِلَى فنَاء وَزَوَال قَالَ نعم قَالَ فَأَي خير فِيمَا يفنى وَيَزُول ثمَّ إِنَّه ركب من مَوْضِعه وَسَار طَالبا قصره وَإِلَى جَانِبه عدي بن زيد فَأتوا على مَقْبرَة فَقَالَ عدي أَتَدْرِي مَا تَقول هَذِه الْمقْبرَة أَيهَا الْملك قَالَ لَا قَالَ إِنَّهَا تَقول (أَيهَا الركب المحثون ... على الأَرْض المجدون) (كَمَا أَنْتُم كَذَا كُنَّا ... كَمَا نَحن تصيرون) قَالَ ثمَّ سَارُوا فَمروا بشجرات متناوحات عِنْد عين جَارِيَة فَقَالَ عدي أَيهَا الْملك أَتَدْرِي مَا تَقول هَذِه الشرجات قَالَ لَا قَالَ إِنَّهَا تَقول

(من رآنا فليحدث نَفسه ... أَنه موف على قرن زَوَال) (وصروف الدَّهْر لايبقى لَهَا ... وَلما تَأتي بِهِ صم الْجبَال) (رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الْخمر بِالْمَاءِ الزلَال) (عمروا دهرا بعيش حسن ... أفن رَبِّي دهرهم غير عِجَال) (ثمَّ أضحوا عصف الدَّهْر بهم ... وكذاك الدَّهْر حَالا بعد حَال) فَلَمَّا انْتهى الْملك إِلَى قصره الْتفت إِلَى عدي وَقَالَ قد علمت أَن الْمقْبرَة والشجرات لَا يتكلمن وَإِنَّمَا قصدت بذلك عظتي وَقد حصلت الموعظة فَإِذا كَانَ السحر أحضر عِنْدِي فَإِن عِنْدِي خيرا حَتَّى أطلعك عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ وَقت السحر حضر عِنْده عدي فَوَجَدَهُ قد لبس مسوح الشّعْر وَأخذ أهبة السياحة فودع عديا ثمَّ ارْتقى إِلَى جبل فَلم يزل هُنَاكَ يعبد ربه حَتَّى لحق بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى

الروضة الثالثة

الرَّوْضَة الثَّالِثَة مَا روى نَافِع عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم قَالَ كَانَ فِيمَن سلف ملك دَان لَهُ النَّاس فَلَمَّا أعجب بِملكه قَالَ لوزرائه وقهارمته ابْنُوا لي دَارا لايكون فِيهَا عيب فَفَعَلُوا ذَلِك قَالَ اتَّخذُوا لي فِيهَا طَعَاما لايكون فِيهِ عيب فَفَعَلُوا ذَلِك وَأمر أَن يدعى النَّاس إِلَى طَعَامه فِي تِلْكَ الدَّار ثمَّ أقعد بِالْبَابِ رجلَيْنِ وَأَمرهمَا أَن يسألا كل من خرج من الدَّار هَل رأى فِيهَا عَيْبا أَو فِي الطَّعَام قَالَ فَمر بهما رجلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب الشّعْر فسألاهما فَقَالَا نعم رَأينَا فِي الدَّار عيبين قبيحين قَالَ وَمَا هما قَالَا رَأينَا دَارا تخرب

وصاحبها يَمُوت فمضيا وَأخْبر الْملك بِمَا قَالَا فأحضرهما وسألهما فذكرا لَهُ ذَلِك فَأَطْرَقَ الْملك سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهما فَهَل تعرفان دَارا لَا تخرب وَلَا يَمُوت صَاحبهَا قَالَ نعم قَالَ وَأَيْنَ هِيَ فَقَالَا هِيَ دَار الله تَعَالَى رَبنَا وَرَبك وَهِي الْجنَّة الَّتِي يَدُوم نعيمها وَلَا يَزُول ملكهَا قَالَ فصفاها لي فوصفاها لَهُ قَالَ وَبِأَيِّ شَيْء تنَال هَذِه الدَّار فَقَالَا بِعبَادة الله تَعَالَى والانقطاع إِلَيْهِ قَالَ وَكَيف تكون الْعِبَادَة فشرحا لَهُ الدّين فَوَقع فِي قلبه أَنه الْحق فَقَالَ لَهما أقيما عِنْدِي هَذِه اللَّيْلَة حَتَّى أنظر فِيمَا ذكرتماه لي فَإِن أَقمت فِي ملكي جعلتكما وزيرين لَا أعصيكما وَإِن خرجت مِنْهُ تبعتكما على أمركما ثمَّ قَامَ فَدخل على ابْنه لَهُ وَكَانَت عَاقِلَة فهمة فَقص مَا ذكرَاهُ لَهُ وأخبرهما أَنه تَارِك لملكه وخارج مَعَهُمَا فَقَالَت يَا أبتي تنجي نَفسك وتتركني أهلك قَالَ يَا بنية أَنْت عَورَة فَكيف أصنع بك فَقَالَت إِنِّي أكف شخصي فَلَا يعلم أحد أذكر أَنا أم أُنْثَى قَالَ فاخلعي ثِيَابك واحترمي فَفعلت ذَلِك وَخرجت مَعَ أَبِيهَا إِلَى الرجلَيْن فَقَالَ لَهما سِيرُوا بِنَا مَا دَامَ علينا ظلام اللَّيْل وَهَذَا وَلَدي معي فَسَارُوا حَتَّى قطعُوا الْمَدِينَة وَخَرجُوا مِنْهَا ثمَّ سَارُوا حَتَّى جاوزوا مملكة ذَلِك الْملك ثمَّ سَارُوا حَتَّى بلغُوا إِلَى دير فَقَالَا لَهُ هَذَا موضعنا الَّذِي نعْبد رَبنَا فِيهِ فَدَخَلُوا إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَقَامَ عِنْدهمَا مُدَّة طَوِيلَة يتَعَلَّم مِنْهُمَا الدّين وَأَحْكَام الشَّرِيعَة ثمَّ تجهز لِلْخُرُوجِ عَنْهُمَا فَقَالَا لَهُ مَا شَأْنك هَل آذَاك أحد منا قَالَ لَا وَلَكِنِّي أراكما تكرماني لما كنت فِيهِ من الْملك فَأُرِيد أَن آتِي موضعا لَا أعرف فِيهِ

فَأَكُون فِي غمار النَّاس فَتَرَكَاهُ وَمضى حَتَّى أَتَى ديرا كَبِيرا كثير الْأَهْل فِيهِ مسَاكِن كَثِيرَة فَقَالَ هَل من منزل فَقيل لَهُ ادخل فَدخل وَاخْتَارَ مسكنا فَكَانَ هُوَ وَابْنَته يعبدان الله تَعَالَى فِيهِ وَكَانَ لأهل ذَلِك الدَّيْر مزرعة وعَلى كل رجل من سكان الدَّيْر حراستها سنة كَامِلَة فبلغت النّوبَة إِلَى الشَّيْخ وَكَانَ مَرِيضا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ إِن عُذْري وَاضح فَقَالَت لَهُ ابْنَته يَا ابت انا أخرج عَنْك فَخرجت إِلَى المزرعة وَهِي مستترة فَمَا كَانَ يَرَاهَا النَّاس إِلَّا قَائِمَة تصلي أَو فِي أَمر هِيَ بِهِ مغتبطة قَالَ وَكَانَ بقربهم دير صَغِير ينْسب إِلَى رجل بِعَيْنِه وَكَانَت لَهُ أبنة جميلَة فَجَاءَت تِلْكَ الِابْنَة فاتصلت بهَا وَهِي تظن أَنَّهَا غُلَام فَجعلت تعرض عَلَيْهَا نَفسهَا وَجعلت تِلْكَ تعتصم بهَا من شَرها فَلَمَّا رَأَتْ الْجَارِيَة أَنَّهَا لَا تفعل قَالَت وَالله لاهلكنك ولاهلكن أَبَاك ثمَّ أَنَّهَا ذهبت إِلَى راعي فأمكنت نَفسهَا مِنْهُ فَحملت فَلَمَّا عظم بَطنهَا قَالَ لَهَا أَبوهَا مَا هَذَا قَالَت إِنِّي كنت عِنْد ولد الشَّيْخ مطمئنة إِلَيْهِ لما رَأَيْت من كَثْرَة عِبَادَته واجتهاده وَكَانَ هَذَا مِنْهُ فجَاء أَبوهَا واهل ديره فَأخْبرُوا أهل ذَلِك الدَّيْر الْكَبِير بذلك وَقَالُوا لَا يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الشَّيْخ وَولده عنْدكُمْ وهموا بِإِخْرَاجِهِ إِلَّا أَنه لشدَّة مَرضه لم يقدروا على ذَلِك ثمَّ توفى الشَّيْخ مَكَانَهُ فَلم يَأْخُذُوا فِي جهازه فَقَالَ علماؤهم إِنَّه لَا ذَنْب لَهُ فاغسلوه وكفنوه وادفنوه واطردوا ابْنه فَلَا يدْخل ديركم فَفَعَلُوا ذَلِك فَقَالَ دَعونِي ابْني لي بَيْتا فِي الصَّحرَاء أحرس نَفسِي فِيهِ من السبَاع فبنت لَهَا بَيْتا فَكَانَت فِيهِ تعبد الله تَعَالَى وتزور قبر أَبِيهَا حَتَّى كَانَت لَيْلَة من اللَّيَالِي مر بهَا رجل من

أهل الدَّيْر فَإِذا بَاب بَيتهَا مَفْتُوح فناداه يَا فَتى فأجابته بِصَوْت ضَعِيف فَقَالَ أحسبك مَرِيضا قَالَ نعم قَالَ فَهَل لَك حَاجَة قَالَ نعم إِذا انا مت فَلَا تكشفوني وَلَا تنزعوني أثوابي واغسلوني فِيهَا وادفنوني إِلَى قبر ابي فقد حفرت إِلَى جَانِبه قبرا ثمَّ أَصْبحُوا فَإِذا قَائِل يَقُول مَاتَ الْفَتى ولد الشَّيْخ فَقَالَ علماؤهم لَا نغير سنتنا أبعثوا إِلَيْهِ من يغسلهُ مُجَردا من ثِيَابه ثمَّ كفنوه وادفنوه إِلَى جَانب قبر أَبِيه كَمَا اوصى قَالَ فَلَمَّا جَاءَ الرِّجَال فكشفوا عَنْهَا ليغسلوها فوجدوها امْرَأَة فغطوها وتنادوا فِي الدَّيْر إِن الَّذِي طردتموه إِنَّمَا هُوَ امْرَأَة فَابْعَثُوا إِلَيْهَا النِّسَاء فغسلوها فَلَمَّا جهزوها حشدوا إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهَا جَمِيع من فِي تِلْكَ الأَرْض ثمَّ دفنوها إِلَى جَانب قبر أَبِيهَا قَالَ عبد الله بن عمر فَلَقَد كَانَ اهل تِلْكَ النَّاحِيَة إِذا قحطوا جاؤوا إِلَى قبريهما فاستقوا الله تَعَالَى فيسقون وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم

الروضة الرابعة

الرَّوْضَة الرَّابِعَة مَا حُكيَ أَن ملكا من اليونان قَامَ من مَنَامه فِي بعض الغدوات فَأَتَتْهُ الْقيمَة على ملابسه بثيابه فلبسها ثمَّ ناولته الْمرْآة فَنظر فِيهَا وَجهه فَرَأى فِي لحيته شَعْرَة بَيْضَاء فَقَالَ لَهَا هَات المقراض فَأَتَتْهُ بِهِ فَقَصَّهَا فتناولتها الْجَارِيَة وَكَانَت حكيمة لَبِيبَة عَاقِلَة فَوَضَعتهَا فِي كفها وأصغت إِلَيْهَا بأذنها وَالْملك ينظر إِلَيْهَا فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي تصنعين قَالَت اسْتمع مَا تَقول هَذِه الشعرة الَّتِي عظم مصابها بمفارقة الْكَرَامَة لما سخطها الْملك فأقصاها فَقَالَ الْملك وَمَا الَّذِي سَمِعت من قَوْلهَا فَقَالَت زعم

قلبِي أَنه سَمعهَا تَقول كلَاما لَا يجترىء عَلَيْهِ لساني خوفًا من سطوة الْملك فَقَالَ لَهَا الْملك قولي مَا شِئْت آمِنَة إِن لَزِمت قانون الْحِكْمَة فَقَالَت إِنَّهَا تَقول أَيهَا الْمُسَلط إِلَى أمد قصير إِنِّي كنت قد علمت مِنْك الْبَطْش بِي والاعتداء عَليّ إِذا ظَهرت على ظَاهر بشرتك فَلم أظهر فِي وقتي هَذَا حَتَّى عهِدت إِلَى أخواتي من بعدِي فِي الْأَخْذ بِثَأْرِي مِنْك أما باستيصالك وَأما بتنغيص لذتك وتنقيص قوتك حَتَّى تعد الْمَوْت رَاحَة لَك قَالَ فَقَالَ لَهَا الْملك اكتبي كلامك فكتبته لَهُ فِي لوح فَجعل يتدبره سَاعَة ثمَّ نَهَضَ مبادرا فَأتى هيكلا من هياكلهم فَنزع عَنهُ تاجه وَثيَاب الْمُلُوك وتزيا بزِي النساك وَبلغ ذَلِك أهل مَمْلَكَته فبادروا إِلَيْهِ وطالبوه بِأَن يعود إِلَى ملكه وتدبيره فَامْتنعَ عَلَيْهِم وسألهم إقالته وتمليك غَيره فامتنعوا عَلَيْهِ وهموا بِأَخْذِهِ قهرا فَاصْطَلَحَ أهل الهيكل مَعَهم على أَن يَتْرُكُوهُ فِي الهيكل يعبد ربه ويستنيب غَيره فِيمَا يستناب فِي مثله من الْأُمُور ويلي هُوَ غير ذَلِك من الْأُمُور الْعِظَام بِنَفسِهِ مَعَ إِقَامَته فِي الهيكل فَلبث على هَذَا الْأَمر حَتَّى قَبضه الله الله تَعَالَى إِلَيْهِ

الروضة الخامسة

الرَّوْضَة الْخَامِسَة مَا حَكَاهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد بن ظفر الْحِجَازِي رَحمَه الله تَعَالَى أَن ملكا من مُلُوك الْآن كَانَ كَافِرًا عاتيا متكبرا حَدِيث

السن مستحكم الْغرَّة وَكَانَ إِذا ركب لم يرفع أحد صَوته إِلَّا بالثناء عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ وَزِير مُؤمن بِاللَّه تَعَالَى قد أدْرك بعض حوارِي الْمَسِيح وَهُوَ يكتم إيمَانه ويتحين وقتا يُمكن فِيهِ دَعْوَة الْملك إِلَى الله تَعَالَى فَركب الْملك يَوْمًا فَسمع شَيخا رَافعا صَوته لبَعض شَأْنه فَقَالَ لبَعض الأعوان خذوه فَلَمَّا أخذُوا ذَلِك الشَّيْخ قَالَ إِن رَبِّي الله فَقَالَ الْوَزير خلوا عَنهُ فخلى عَنهُ الأعوان فَاشْتَدَّ غضب الْملك على الْوَزير وَلم يُمكنهُ الْإِنْكَار عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْمقَام فَسكت ليوهم النَّاس أَن الْوَزير فعل ذَلِك بأَمْره فَلَمَّا عَاد الْملك إِلَى قصره أحضر الْوَزير وَقَالَ لَهُ مَا دعَاك إِلَى مناقضة أَمْرِي بمشهد من عَبِيدِي فَقَالَ لَهُ الْوَزير إِن لم يعجل الْملك عَليّ أريته وَجه نصحي لَهُ وشفقتي عَلَيْهِ فِيمَا أَتَيْته فَقَالَ الْملك أَرِنِي ذَلِك فَإِنِّي لَا أعجل عَلَيْك فَقَالَ الْوَزير أسأَل الْملك أَن يختبي فِي مَجْلِسه هَذَا خلف حجاب وَيكون بِحَيْثُ يرى وَيسمع مَا يكون مني فَقعدَ الْملك لذَلِك ثمَّ إِن الْوَزير أحضر قوسا جَيِّدَة صنعها للْملك بعض خدمه وَكتب الصَّانِع اسْمه عَلَيْهَا فَأعْطى الْقوس غُلَاما لَهُ وَقَالَ لَهُ إِنِّي سأحضر صانع هَذِه الْقوس فَإِذا حضر وحادثته فاقرأ أَنْت اسْم صَاحبهَا جهلا حَتَّى تعلم أَنه قد سَمعك ثمَّ أكسرها وَهُوَ ينظر إِلَيْك فَحَضَرَ القواس وَفعل الْغُلَام مَا أمره بِهِ الْوَزير فَلَمَّا كسر الْقوس لم يَتَمَالَك صانعها أَن

ضرب الْغُلَام فَشَجَّهُ فَقَالَ الْوَزير أتضرب غلامي بحضرتي قَالَ نعم لِأَنَّهُ كسر الْقوس الَّتِي هِيَ صنعتي وعملي وَهِي فِي نِهَايَة الْجَوْدَة وَالْحسن فلأي شَيْء كسرهَا وَهُوَ يعلم أَنَّهَا صنعتي قَالَ الْوَزير فَلَعَلَّهُ مَا علم أَنَّهَا صنعتك قَالَ بلَى إِن الْقوس قد أخْبرته أَنَّهَا صنعتي قَالَ الْوَزير أَرَأَيْت قوسا تخبر قَالَ نعم إِن اسْمِي كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا وَقد قَرَأَهُ وَأَنا أسمع ثمَّ إِن الْوَزير صرف الصَّانِع والغلام ثمَّ قَالَ للْملك قد أوضحت لَك نصحي وإشفاقي عَلَيْك وَذَلِكَ أَنَّك لما أردْت الْبَطْش بالشيخ أخْبرك أَن الله ربه فَخفت عَلَيْك من ربه أَن يغْضب لَهُ كَمَا غضب هَذَا القواس لقوسه فَقَالَ لَهُ الْملك وَهل للشَّيْخ رب غَيْرِي قَالَ الْوَزير ألم يره الْملك شَيخا وَالْملك شَاب فَهَل كَانَ قبل أَن يُولد الْملك لَا رب لَهُ فَقَالَ الْملك إِن أبي كَانَ ربه قَالَ الْوَزير فَمَا بَال الرب هلك والمربوب بَقِي فَسكت الْملك سَاعَة ثمَّ قَالَ الْآن علمت أَن للْملك والمملوك رَبًّا لَا يَزُول فَهَل تعرفه قَالَ الْوَزير نعم أعرفهُ قَالَ صفه لي ودلني عَلَيْهِ فشرع الْوَزير يشْرَح لَهُ صِفَات الْخَالِق وأوضح لَهُ الدّلَالَة على ذَلِك فانشرح صدر الْملك للْإيمَان فَآمن بِاللَّه تَعَالَى فَلَمَّا رسخ فِي قلبه

التَّوْحِيد قَالَ لَهُ أما لربنا خدمَة نتقرب إِلَيْهِ بهَا قَالَ إِنَّه غَنِي عَن كل شئ قَالَ فَمَا أمرنَا بِشَيْء إِذا فعلنَا حظينا عِنْده قَالَ بلَى إِن لَهُ وظائف أمرنَا بهَا وَرَضي لنا فعلهَا ووعدنا عَلَيْهَا رضوانه والقرب مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَذكر لَهُ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَغَيرهمَا من شرائع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فعرفها الْملك وراض نَفسه بهَا حَتَّى صَارَت لَهُ طبعا ثمَّ قَالَ يَوْمًا للوزير مَالك لَا تَدْعُو النَّاس إِلَى الله تَعَالَى كَمَا دعوتني فَقَالَ لِأَن الْأمة ذَات قُلُوب قسية وفهوم قصية ونفوس عصية وَلست آمنهم على نَفسِي فَقَالَ الْملك أَنا أَفعلهُ إِن لم تَفْعَلهُ أَنْت فَقَالَ الْوَزير ليعلم الْملك أَنهم إِن لم تردهم هيبته عني لم تردهم عَنهُ وسأقيه بنفسي آيسا من النجَاة فليحذرهم الْملك على نَفسه إِن اجترؤا بِالْقَتْلِ ثمَّ إِن الْوَزير أحضر وُجُوه أهل تِلْكَ المملكة وولاة أَحْكَام رعاياه وأفاضلها فَلَمَّا اجْتَمعُوا فِي منزله قَامَ فيهم خَطِيبًا ثمَّ بالدعوة إِلَى التَّوْحِيد فتواثبوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ ثمَّ أَتَوا إِلَى الْملك فأخبروه بِمَا كَانَ من وزيره فأظهره لَهُم الرضى بقتْله فانقلبوا عَنهُ راضين ثمَّ إِن الْملك ضَاقَ صَدره على وزيره فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل لبس مسح الشّعْر والتحق بالرهبان ونبذ مَا كَانَ فِيهِ من الْملك وَلم يزل يعبد الله حَتَّى قضى نحبه

الروضة الأولى

وَهَذِه حكايات الطَّبَقَة الثَّانِيَة من الْمُلُوك وَهِي خمس روضات أَيْضا الرَّوْضَة الأولى مَا حَكَاهُ مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ لما ولي الْخلَافَة دخل عَلَيْهِ مُحَمَّد بن كَعْب عِنْده هِشَام بن مصاد وَقد وعظه فأبكاه فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد مَا الَّذِي أبكاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أبكاني هِشَام حِين ذَكرنِي وُقُوفِي بَين يَدي رَبِّي فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد يَا امير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا الدُّنْيَا سوق من الْأَسْوَاق فَمِنْهَا خرج النَّاس بِمَا نفعهم وَمِنْهَا خَرجُوا بِمَا ضرهم فَلَا تكن من قوم قد غرهم مِنْهَا مثل الَّذِي أَصْبَحْنَا

فِيهِ حَتَّى أَتَاهُم الْمَوْت فاستوعبهم فَخَرجُوا مِنْهَا ملومين لم يَأْخُذُوا لما أحبوه من الْآخِرَة عدَّة وَلَا لما كَرهُوا جنَّة فاقتسم مَا جمعُوا من لَا يحمدهم وصاروا إِلَى من لَا يعذرهم فَانْظُر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَال الَّتِي تغيظهم بهَا فاخلفهم فِيهَا وَإِلَى الْأَعْمَال الَّتِي تتخوف عَلَيْهِم مِنْهَا فَكف عَنْهَا وَانْظُر إِلَى الَّذِي تحب أَن يكون مَعَك إِذا قدمت على رَبك فَاصْنَعْ مِنْهُ وابدل حَيْثُ يُوجد الْبَدَل وَلَا تذهبن إِلَى سلْعَة قد بارت على من كَانَ قبلك ترجو أَن تجوز عَنْك فَاتق الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَافْتَحْ الْبَاب وَسَهل الْحجاب وانصر الْمَظْلُوم واردع الظَّالِم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ثَلَاث من كن فِيهِ اسْتكْمل الْإِيمَان من إِذا رَضِي لم يدْخلهُ رِضَاهُ فِي الْبَاطِل وَإِذا غضب لم يُخرجهُ غَضَبه من الْحق وَإِذا قدر لم يتَنَاوَل مَا لَيْسَ لَهُ قَالَ فَاشْتَدَّ بكاء عمر بن عبد الْعَزِيز وَعلا نحيبه قَالَ

اللَّهُمَّ أَعنِي على مَا ابتليتني بِهِ من أَمر عِبَادك وبلادك وارزقني فيهم الْعَمَل بطاعتك وَاخْتِمْ لي بِخَير مِنْك وعافية مِنْهُ

الروضة الثانية

الرَّوْضَة الثَّانِيَة مَا حُكيَ أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك لما قدم الْمَدِينَة أَقَامَ بهَا ثَلَاثًا فَقَالَ مَا هَا هُنَا رجل مِمَّن أدْرك الصَّحَابَة يحدثنا فَقيل لَهُ إِن هَا هُنَا رجلا عابدا من التَّابِعين اسْمه أَبُو حَازِم أدْرك جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنقل عَنْهُم الْأَحَادِيث فَبعث إِلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَهُ وَاسْتقر بِهِ الْمجْلس قَالَ لَهُ سُلَيْمَان يَا أَبَا حَازِم مَا لنا نكره الْمَوْت

قَالَ لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فَأنْتم تَكْرَهُونَ النقلَة من الْعمرَان إِلَى الخراب قَالَ صدقت يَا أَبَا حَازِم فَكيف الْقدوم على الله تَعَالَى قَالَ أما المحسن فكغائب يقدم على أَهله وَأما الْمُسِيء فكالعبد الْآبِق يقدم على مَوْلَاهُ قَالَ فَبكى سُلَيْمَان وَقَالَ لَيْت شعري مَا لنا عِنْد الله يَا أَبَا حَازِم فَقَالَ إعرض نَفسك على كتاب الله تَعَالَى فَإنَّك تعلم مَالك وَمَا عَلَيْك قَالَ وَأَيْنَ أُصِيب ذَلِك من كتاب الله قَالَ عِنْد قَوْله تَعَالَى {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم} قَالَ يَا أَبَا حَازِم فَأَيْنَ رَحْمَة الله تَعَالَى قَالَ {قريب من الْمُحْسِنِينَ} قَالَ فَبكى سُلَيْمَان وأطرق سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه إِلَيْهِ وَقَالَ يَا أَبَا حَازِم من أَعقل النَّاس قَالَ من تعلم الْحِكْمَة وَعلمهَا النَّاس قَالَ فَمن أَحمَق النَّاس قَالَ من دخل فِي هوى رجل ظَالِم

فَبَاعَ آخرته بدنيا غَيره قَالَ فَمَا تَقول فِيمَا نَحن فِيهِ فَقَالَ أعفني من هَذَا السُّؤَال قَالَ سُلَيْمَان إِنَّمَا هِيَ نصيحة بلغتهَا فَقَالَ إِن نَاسا أخذُوا هَذَا الْأَمر من غير مشورة من الْمُسلمين وَلَا إِجْمَاع من رَأْيهمْ فسفكوا الدِّمَاء على طلب الدُّنْيَا ثمَّ ارتحلوا عَنْهَا فليت شعري مَا قَالُوا وَمَا قيل لَهُم فَقَالَ رجل من جُلَسَائِهِ بئس مَا قلت يَا شيخ قَالَ أَبُو حَازِم كذبت وَالله يَا جليس السوء إِن الله تَعَالَى أَخذ الْمِيثَاق على الْعلمَاء ليبينه للنَّاس وَلَا يكتمونه فَقَالَ سُلَيْمَان يَا أَبَا حَازِم كَيفَ لنا على الصّلاح قَالَ تدع التَّكَلُّف وتتمسك بالنصفة قَالَ فَكيف طَرِيق المأخذ لذَلِك قَالَ تَأْخُذ المَال من حلّه وتضعفه فِي أَهله قَالَ وَمن يقدر على ذَلِك

قَالَ من قَلّدهُ الله تَعَالَى من الأَرْض مَا قلدك قَالَ أصحلبنا يَا أَبَا حَازِم تصيب منا وَنصِيب مِنْك قَالَ أعوذ بِاللَّه من ذَلِك قَالَ وَلم ذَاك قَالَ أَخَاف أَن أركن إِلَيْكُم شَيْئا قَلِيلا فيذقني ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات قَالَ يَا أَبَا حَازِم فدلني على مَا أصنع قَالَ اتَّقِ الله أَن يراك حَيْثُ نهاك أَو يفقدك حَيْثُ أَمرك قَالَ ادْع لنا يَا أَبَا حَازِم قَالَ اللَّهُمَّ إِن كَانَ سُلَيْمَان وليك فيسره لخير الدُّنْيَا والآخره وَإِن كَانَ عَدوك فَخذ بناصيته إِلَى فعل الْخَيْر واصلحه فِي الدُّنْيَا والآخره فَقَالَ سُلَيْمَان يَا غُلَام أعْط أَبَا حَازِم مائَة دِينَار ليقضي بهَا دينه قَالَ لاحاجة بِي إِلَيْهَا فَإِنِّي أَخَاف أَن تكون عوضا عَن كَلَامي فَيكون أكل الْميتَة أحب إِلَيّ من أَخذهَا ثمَّ نَهَضَ فَخرج من عِنْده فَلَمَّا كَانَ من الْغَد بعث إِلَيْهِ

فَأحْضرهُ عِنْده فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ يَا أَبَا حَازِم عظنا عظة ننتفع بهَا قَالَ إِن هَذَا الْأَمر لم يصر إِلَيْك إِلَّا بِمَوْت من كَانَ قبلك وَهُوَ خَارج من يدك بِمثل مَا صَار إِلَيْك فَبكى سُلَيْمَان وَكَانَ يسْقط على جنبه فَلَمَّا أَفَاق قَالَ أَبُو حَازِم إِنَّمَا أَنْت سوق فَمَا نفق عنْدك حمل إِلَيْك من خير أَو شَرّ فاختر لنَفسك أَيهمَا شِئْت قَالَ سُلَيْمَان إرفع إِلَيّ حوائجك يَا أَبَا حَازِم قَالَ هَيْهَات فَإِنِّي قد رفعتها إِلَى من لَا تحتجب دونه الْحَوَائِج فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قنعت وَمَا مَنَعَنِي مِنْهَا رضيت وَذَلِكَ أَنِّي نظرت فِي هَذَا الْأَمر فَإِذا هُوَ على قسمَيْنِ أَحدهمَا لي وَالْآخر لغيري أما مَا كَانَ لي فَلَو أَنِّي احتلت فِيهِ بِكُل

حِيلَة مَا وصلت إِلَيْهِ قبل أَوَانه الَّذِي قدر لي فِيهِ وَأما الَّذِي لغيري فَذَلِك الَّذِي لاتطمع نَفسِي فِيهِ وكما منع غَيْرِي من رِزْقِي كَذَلِك منعت أَنا من رزق غَيْرِي ثمَّ تَركه وَانْصَرف قَالَ فَمَا برح سُلَيْمَان بعد ذَلِك متواضعا حَتَّى مَاتَ

الروضة الثالثة

الرَّوْضَة الثَّالِثَة مَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِم عبد الْعَزِيز بن حسن بِإِسْنَادِهِ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور بعث إِلَى الْأَوْزَاعِيّ وَهُوَ بالسَّاحل فَأحْضرهُ عِنْده فَلَمَّا اسْتَقر

بِهِ الْمجْلس فَالله الْمَنْصُور مَا الَّذِي أَبْطَأَ بك عَنَّا يَا أوزاعي قَالَ وَمَا الَّذِي تُرِيدُ مني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أُرِيد الْأَخْذ عَنْك والاقتباس مِنْك قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تجْهَل شَيْئا مِمَّا أقوله لَك قَالَ وَكَيف لَا أجهله وَأَنا أَسأَلك عَنهُ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تسمعه وَلَا تعْمل بِهِ قَالَ فصاح بِهِ الرّبيع وأهوى إِلَيْهِ بِيَدِهِ إِلَى السَّيْف فانتهره الْمَنْصُور وَقَالَ هَذَا مجْلِس مثوبة لَا مجْلِس عُقُوبَة فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ رَحمَه الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنَا مَكْحُول عَن عَطِيَّة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ

وَسلم أَيّمَا عبد جَاءَتْهُ موعظة من الله فِي دينه فَإِنَّهَا نعْمَة من الله تَعَالَى سيقت إِلَيْهِ فَإِن قبلهَا بشكر وَإِلَّا كَانَت حجَّة من الله عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بهَا إِثْمًا ويزداد الله بهَا عَلَيْهِ سخطا وَقد بَلغنِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَيّمَا وَال بَات غاشا لرعيته حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من كره الْحق فقد كره الله تَعَالَى لِأَن الله هُوَ الْحق الْمُبين

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الَّذِي لين لَك قُلُوب الْأمة حَتَّى ولاك أُمُورهم لقرابتك من نبيه ص = لحقيق أَن يقوم لَهُم فيهم بِالْحَقِّ وَأَن يكون بِالْقِسْطِ فيهم قَائِما ولعوراتهم ساترا فَلَا تغلق عَلَيْك دونهم الْأَبْوَاب وَلَا تقيم عَلَيْك دونهم الْحجاب وابتهج بِالنعْمَةِ عِنْدهم وابتئس لما أَصَابَهُم من مَكْرُوه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لقد كنت فِي شغل شاغل من خَاصَّة نَفسك عَن عَامَّة النَّاس الَّذين أَصبَحت تملك أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم وكل لَهُ عَلَيْك نصيب من الْعدْل فَكيف بك إِذا بَعثك الله يَوْم القيامه وَلَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَهُوَ يشكو بلية أدخلتها عَلَيْهِ أوظلامة سقتها إِلَيْهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي مَكْحُول قَالَ كَانَت بيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَرِيدَة يستاك بهَا ويروع بهَا الْمُنَافِقين فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّد مَا هَذِه الجريدة الَّتِي كسرت بهَا قُلُوب أمتك وملأت قُلُوبهم بهَا رعْبًا فَكيف بِمن شقق أستارهم وَسَفك دِمَاءَهُمْ وَخرب دِيَارهمْ وَأخذ أَمْوَالهم وأجلاهم عَن بِلَادهمْ وأذاقهم الْخَوْف يَا أَمِير

الْمُؤمنِينَ حَدثنِي مَكْحُول عَن زِيَاد بن جَارِيَة عَن حبيب بن مسلمة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا إِلَى الْقصاص من نَفسه من خدشه أَعْرَابِيًا لم يتعمده فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن الله تَعَالَى لم يَبْعَثك جبارا وَلَا متكبرا فدعى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعرَابِي فَقَالَ اقْتصّ مني فَقَالَ الْأَعرَابِي إِنِّي قد أحللتك يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي وَمَا كنت لأَفْعَل ذَلِك أبدا فدعى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِالْخَيرِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رض نَفسك بِنَفْسِك وَخذ لَهَا الْأمان من رَبك وارغب فِي جنَّة السَّمَوَات وَالْأَرْض الَّتِي يَقُول فِيهَا رَسُول الله ص =

لَقَاب قَوس أحدكُم من الْجنَّة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَا امير الْمُؤمنِينَ إِن الْملك لَو بَقِي لمن كَانَ قبلك لم يصل إِلَيْك وَكَذَا لَا يبْقى لَك كَمَا لم يبْق لغيرك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيل قَول الله تَعَالَى {مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} قَالَ رَسُول الله ص = الصَّغِيرَة التبسم والكبيرة الضحك فَكيف بِمَا عملته الْأَيْدِي وحصدته الألسن يَا امير الْمُؤمنِينَ بَلغنِي أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَو مَاتَت سخلة على الشاطئ الْفُرَات ضَيْعَة لَخَشِيت أَن أسأَل عَنْهَا فَكيف بِمن حرم عدلك وَهُوَ على بساطك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيل هَذِه الْآيَة عَن جدك عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس}

بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله) قَالَ يَا دَاوُد إِذا جعلناك خَليفَة وَقعد الخصمان بَين يَديك وَكَانَ لَك فِي احدهما هوى فَلَا تميز أَن يكون الْحق لَهُ فيفلج على صَاحبه فأمحوك من نبوتي يَا دَاوُد إِنَّمَا جعلت رُسُلِي إِلَى عبَادي رُعَاة كرعاة الْإِبِل لعلمهم بالرعية ورفقهم بالسياسة الَّذين يجبرون الكسير ويرعون الهزيل على الْكلأ وَالْمَاء يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك قد بليت بِأَمْر لَو عرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال لأبين أَن يحملنه وأشفقن مِنْهُ وَقد حَدثنِي يزِيد بن جَابر عَن عبد الرَّحْمَن بن عمْرَة الْأنْصَارِيّ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ

اسْتعْمل رجلا من الْأَنْصَار على الصَّدَقَة فَرَآهُ بعد أَيَّام مُقيما فَقَالَ لَهُ مَا مَنعك من الْخُرُوج إِلَى عَمَلك أما علمت أَن لَك فِيهِ مثل أجر الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله قَالَ لَا قَالَ فَكيف ذَاك قَالَ لِأَنَّهُ بَلغنِي أَن رَسُول الله ص = قَالَ مَا من وَال يَلِي شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين إِلَّا اتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولة يَده إِلَى عُنُقه فَيُوقف على جسر من النَّار فينتفض بِهِ الجسر انتفاضة يزِيل بهَا كل عُضْو مِنْهُ عَن مَوْضِعه ثمَّ يُعَاد فيحاسب فَإِن كَانَ محسنا نجا بإحسانه وَإِن كَانَ مسيئا انخرق بِهِ ذَلِك الجسر فهوى فِيهِ فِي النَّار سبعين خَرِيفًا فَقَالَ لَهُ عمر مِمَّن سَمِعت هَذَا قَالَ من أبي ذَر

وسلمان فَأرْسل إِلَيْهِمَا عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَا نعم سمعنَا من رَسُول الله ص = فَبكى عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ واعمراه من يتولاها بِمَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو ذَر من جدع الله أَنفه والصق خَدّه بِالْأَرْضِ قَالَ فَبكى الْمَنْصُور وَأخذ المنديل فَوَضعه على وَجهه وَجعل ينتحب فِي بكائه حَتَّى أبكى الْحَاضِرين فَأمْسك الْأَوْزَاعِيّ سَاعَة ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن جدك الْعَبَّاس سَأَلَ رَسُول الله ص = إِمَارَة على مَكَّة والطائف واليمن فَقَالَ رَسُول الله ص = يَا عَم النَّبِي نفس تحييها خير لَك من إِمَارَة لَا تحصيها وَهَذِه نصيحة مِنْهُ لِعَمِّهِ وشفقة مِنْهُ عَلَيْهِ يَا أَمِير الؤمنين بَلغنِي أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ

الْأُمَرَاء أَرْبَعَة أَمِير ظلف نَفسه وعماله فَذَلِك كمالمجاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى يَد الله باسطة عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ وأمير فِيهِ ضعف ظلف نَفسه وارتع عماله بضعفة فَهُوَ على شفا هَلَاك إِلَّا أَن يرحمه الله تَعَالَى وأمير ظلف عماله وأرتع نَفسه فَذَلِك هُوَ الحطمة الَّذِي قَالَ رَسُول الله ص = شَرّ الرُّعَاة الحطمة الْهَالِك وحدة وأمير أرتع نَفسه وعماله فهلكوا جَمِيعًا وَقد بَلغنِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ

اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم اني أُبَالِي إِذا قعد الخصمان بَين يَدي على من كَانَ الْحق مَعَه من قريب أَو بعيد فَلَا تهملني طرفَة عين يَا امير الْمُؤمنِينَ إِن أَشد الشدَّة الْقيام لله تَعَالَى بِحقِّهِ وَإِن أكْرم الْكَرم عِنْد الله التَّقْوَى وَإنَّهُ من طلب الْعِزّ بِطَاعَة الله رَفعه الله وأعزه وَمن طلبه بِمَعْصِيَة الله وَضعه الله تَعَالَى وأذله وَهَذِه نصيحتي إِلَيْك وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله فَلَمَّا سكن عَن الْمَنْصُور الْبكاء رفع رَأسه إِلَيْهِ وَقَالَ يَا أوزاعي أَنْت المقبول القَوْل غير مُتَّهم فِي النَّصِيحَة وَقد سمعناها مِنْك فصادفت

قبولا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله الْمُوفق للخير والمعين عَلَيْهِ يَا ربيع إدفع إِلَى الْأَوْزَاعِيّ مَا يَسْتَعِين بِهِ على زَمَانه قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي فِي غَنِي عَن ذَلِك مَا كنت أبيع نصيحتي بِشَيْء من عرض الدُّنْيَا ثمَّ إِنَّه ودع الْمَنْصُور وَانْصَرف

الروضة الرابعة

734 - الرَّوْضَة الرَّابِعَة مَا حَكَاهُ ابْن عبد ربه قَالَ قدم أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور مَكَّة حَاجا فَنزل فِي دَار الندوة وَكَانَ يخرج فِي آخر اللَّيْل إِلَى الطّواف فيطوف وَيُصلي وَلَا يعلم بِهِ اُحْدُ من النَّاس فَإِذا طلع الْفجْر رَجَعَ إِلَى دَار الندوة وَجَاء المؤذنون فَسَلمُوا عَلَيْهِ ثمَّ تُقَام الصَّلَاة فَيصَلي بِالنَّاسِ قَالَ فَخرج ذَات لَيْلَة حِين أَسحر فَبَيْنَمَا هُوَ يطوف إِذْ سمع رجلا عِنْد الْمُلْتَزم وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول

بَين الْحق واهله من الظُّلم والطمع قَالَ فأسرع الْمَنْصُور فِي مَشْيه حَتَّى مَلأ مسامعه من قَوْله فَرجع فَجَلَسَ نَاحيَة من الْمَسْجِد وَأرْسل إِلَيْهِ فَدَعَاهُ فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ الْمَنْصُور مَا هَذَا الَّذِي سَمِعتك تَقول من ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق واهله من الطمع فَقَالَ الرجل إِن أمنتني على نَفسِي أَنْبَأتك بالأمور من أَصْلهَا قَالَ لَهُ الْمَنْصُور أَنْت آمن على نَفسك فَقَالَ الرجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله تَعَالَى استرعاك أُمُور الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ فأهملت أُمُورهم واهتممت بِجمع أَمْوَالهم وَجعلت بَيْنك وَبينهمْ حجاجا من الجص والآجر وأبوابا من الْحَدِيد وحجبة مَعَهم السِّلَاح ثمَّ سجنت نَفسك فِيهَا وَبعثت عمالك فِي جمع الْأَمْوَال وجبايتها واتخذت وزراء ظلمَة وأعوانا غشمة إِن

نسيت لم يذكروك وَإِن أَحْسَنت لم يعينوك ثمَّ قويتهم على ظلم النَّاس إِلَّا فلَان وَفُلَان نفر سميتهم وَلم تَأمر بِإِدْخَال الْمَظْلُوم وَلَا الملهوف وَلَا الجائع وَلَا العاري وَلَا الضَّعِيف الْفَقِير وَلَا أحد إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حق فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ النَّفر الَّذين استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك قد صنعت هَذَا كُله قَالُوا هَذَا قد خَان الله فَمَا بالنا لَا نخونه وَقد سَخَّرَهُ الله لنا فائتمروا على أَن لَا يوصلوا من أَخْبَار رعيتك إِلَّا مَا أَرَادوا وَمَتى أخرجت عَاملا فخالفهم فِي أَمر أقصوه وأبعدوه وبلغوك عَنهُ الْمَكْرُوه حَتَّى يسْقط من عَيْنك فَلَمَّا اشْتهر ذَلِك عَنْهُم أعظمهم النَّاس وهابوهم فَكَانَ أول من صانعهم بالهدايا وَالْأَمْوَال عمالك ليتفقوا على ظلم الرّعية ثمَّ فعل ذَلِك أهل الْقُدْرَة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من هودونهم من الرّعية فامتلأت بِلَاد الله بالطمع بغيا وَفَسَادًا وَصَارَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم شركاؤك فِي سلطانك وَأَنت غافل فَإِن جَاءَ متظلم حيل بَينه وَبَين الدُّخُول إِلَيْك وَإِن أَرَادَ قصَّة إِلَيْك عِنْد ظهورك لم يَأْخُذهَا أحد وَإِن أَخذهَا لم يوصلها إِلَيْك وَإِذا اسْتَغَاثَ بك مظلوم بأعلا صَوته ضربوه ضربا شَدِيدا فَمَا بَقَاء الْإِسْلَام بعد ذَلِك وَلَقَد كَانَ بنوا أُميَّة لَا يَنْتَهِي

إِلَيْهِم الْمَظْلُوم إِلَّا رفعت ظلامته وَكَانَ الرجل يَأْتِي من أقْصَى الْبِلَاد حَتَّى يبلغ بَاب سلطانهم فيتنادى بأعلا صَوته يَا أهل الأسلام فيبتدرون إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ مَالك مَالك فيدفعون ظلامته إِلَى سلطانهم فينصف بَينه وَبَين ظالمه وَلَقَد كنت يَا امير الْمُؤمنِينَ أسافر إِلَى بِلَاد الصين وَبهَا ملك قد ذهب سَمعه فَجعل يبكي فَقَالَ لَهُ وزراؤه لابكت عَيْنَاك أَيهَا الْملك مِم بكاؤك فَقَالَ لست أبْكِي على ذهَاب سَمْعِي وأنما أبْكِي لِأَن الْمَظْلُوم يقف بِالْبَابِ يصْرخ فَلَا أسمعهُ ثمَّ قَالَ لَئِن كَانَ ذهب سَمْعِي فَمَا ذهب بَصرِي نادوا فِي النَّاس لَا يلبس ثوبا أَحْمَر إِلَّا مظلوم وَكَانَ يركب فِي كل يَوْم فيله وَيخرج لَعَلَّه يرى مَظْلُوما هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُشْرك بِاللَّه تَعَالَى قد غلبت عَلَيْهِ الرأفه على الْمُشْركين وَأَنت مُؤمن بِاللَّه تَعَالَى وَابْن عَم نبيه لاتغلبنك رأفتك بِالْمُسْلِمين على شح نَفسك فَمَا تَقول إِذا نزع الله مِنْك ملك الدُّنْيَا ودعاك إِلَى الْحساب هَل ينفعك النَّدَم إِذا زلت بك الْقدَم قَالَ فَبكى الْمَنْصُور وأعلن بالنحيب ثمَّ قَالَ يَا لَيْتَني لم أخلق ثمَّ قَالَ كَيفَ احتيالي وَلم أر من النَّاس إِلَّا خائنا فَقَالَ الرجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْك بالأئمة المرشدين قَالَ وَمن هم قَالَ الْعلمَاء قَالَ فقد فروا عني وهربوا مني قَالَ إِنَّمَا فروا عَنْك وهربوا مَخَافَة أَن تحملهم على ماظهر مِنْك من قبل عمالك

وَلَكِن افْتَحْ الْبَاب وَسَهل الْحجاب وانصر الْمَظْلُوم وَخذ االمال من حلّه واقسمه فِي أَهله وَأَنا ضَامِن لَك أَن من هرب مِنْك يَأْتِيك فيعاونك على صَلَاح أَمرك فَقَالَ الْمَنْصُور اللَّهُمَّ وفقني أَن أعمل بِمَا قَالَ هَذَا الرجل ثمَّ جَاءَ المؤذنون فَسَلمُوا عَلَيْهِ وأقيمت الصَّلَاة فَخرج يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَقَالَ للحرس عَلَيْك بِحِفْظ هَذَا الرجل حَتَّى أفرغ من الصَّلَاة فَلَمَّا فرغت الصَّلَاة الْتفت الحرس يطْلب الرجل فِي مَوْضِعه فَلم يره فَأخْبر الْمَنْصُور بذلك فَاشْتَدَّ غَضَبه على الحرس وَقَالَ لَئِن لم يأتني بِهِ لَأَضرِبَن عُنُقك فَخرج الحرس يطوف عَلَيْهِ وَإِذا بِهِ فِي بعض الشعاب قَائِم يُصَلِّي الضُّحَى فَقَالَ لَهُ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لَيْسَ إِلَى ذَلِك من سَبِيل قَالَ لِأَنَّهُ قد زعم ليضربن عنقِي إِن لم آته بك قَالَ إِنَّه لن يقدر على ذَلِك ثمَّ أخرج من جبته رقْعَة مَكْتُوبَة وَقَالَ اجْعَل هَذَا فِي جيبك فَإِن فِيهَا دُعَاء الْفرج

فَإِنَّهُ إِذا رآك ذهب غيظه وخشع قلبه وأوصل إِلَيْك مَا يَسُرك فَقَالَ لَهُ الحرس يَرْحَمك الله فَمَا دُعَاء الْفرج قَالَ من دَعَا بِهِ صباحا وَمَسَاء ذهبت ذنُوبه ودام سروره وَبسط الله فِي رزقه وأعانه على عدوه وَكَانَ امنا من ظلم الجبارين ولايموت إِلَّا شَهِيدا قَالَ الحرس ثمَّ كَأَنَّهُ حَصَاة ملح ذَابَتْ فَلم أر لَهُ أثرا فَرجع الحرس إِلَى الْمَنْصُور فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ نظر إِلَيْهِ وَتَبَسم وَقَالَ وَيلك أتحسن السحر قَالَ لَا وَالله ياأمير الْمُؤمنِينَ وَلَكِنِّي وجدته وَكَانَ من حَدِيثه كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الْمَنْصُور ادْفَعْ إِلَيّ الرقعة فَدَفعهَا إِلَيْهِ فَنظر فينها وَجعل يبكي ثمَّ أَمر بنسخها وَأمر للحرس بِعشْرَة الاف دِرْهَم وَقَالَ أتعرفون من كَانَ الرجل قَالَ الْحَاضِرُونَ لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ ذَاك هُوَ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ دفع الرقعة إِلَى من قَرَأَهَا على الْحَاضِرين فَكَانَ فِيهَا اللَّهُمَّ

كَمَا لطفت بقدرتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وَعلمت مَا تَحت أرجل ارضك كعلمك بِمَا فَوق عرشك وَكَانَت الوساوس كالعلانية عنْدك وَعَلَانِيَة القَوْل كالسر فِي علمك وانقاد كل شَيْء لعظمتك وخضع كل ذِي سُلْطَان لسلطانك وَصَارَ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخر كُله بِيَدِك اجْعَل لي من كل هم أمسيت فِيهِ فرجا ومخرجا اللَّهُمَّ إِن عفوك عَن ذُنُوبِي وتجاوزك عَن خطيئتي وسترك عَن قَبِيح عَمَلي أطمعني أَن أَسأَلك مَالا استوجبه مِمَّا قصرت فِيهِ أَدْعُوك امنا وَأَسْأَلك مستأنسا وَأَنت المحسن إِلَيّ وَأَنا الْمُسِيء إِلَى نَفسِي فِيمَا بيني وَبَيْنك تتودد إِلَيّ وأتبغض إِلَيْك وَلَكِن الثِّقَة بك حَملتنِي على الجرأة عَلَيْك فعد بِفَضْلِك وأحسانك عَليّ وَأَنت التواب الرَّحِيم قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ الْمَنْصُور إِلَى بَغْدَاد استبدل عماله وحجابه ثمَّ إِنَّه فتح الْبَاب وَسَهل الْحجاب وَلم يزل عَاملا بقوله حَتَّى مَاتَ

الروضة الخامسة

الرَّوْضَة الْخَامِسَة مَا حَكَاهُ الْفضل بن الرّبيع قَالَ لما حج الرشيد حججْت مَعَه فَبَيْنَمَا أَنا نَائِم ذَات لية إِذا سَمِعت قرع االباب فَخرجت فَوَجَدته الرشيد فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أرْسلت إِلَى أَتَيْتُك فَقَالَ وَيحك إِنَّه قد حاك فِي صَدْرِي شَيْء فَانْظُر لي رجلا أسأله فَقلت إِن هَهُنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَقَالَ امْضِ بِنَا إِلَيْهِ فَأتيَاهُ فقرعت عَلَيْهِ الْبَاب فَقَالَ من هَذَا فَقلت

أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَخرج مسرعا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أرْسلت إِلَيّ أَتَيْتُك فَقَالَ خُذ لما جئْنَاك بِهِ يَرْحَمك الله فحادثه سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ أعليك دين قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ يَا أَبَا الْعَبَّاس اقْضِ دينه ثمَّ انصرفنا فَقَالَ مَا أغْنى عَنى صَاحبك شَيْئا فَانْظُر لي رجلا أسأله فَقلت هَهُنَا عبد الرازق بن همام قَالَ امْضِ بِنَا إِلَيْهِ فأتيناه فقرعت عَلَيْهِ الْبَاب فَقَالَ من هَذَا قلت أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَخرج مسرعا فَقَالَ يَا أَمِير الم منين لَو أرْسلت إِلَيّ أَتَيْتُك فَقَالَ خُذ لما جئْنَاك لَهُ يَرْحَمك الله فحادثه سَاعَة ثمَّ قَالَ لَهُ أعليك دين قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ يَا أَبَا الْعَبَّاس اقْضِ دينه ثمَّ انصرفنا من عِنْده فَقَالَ مَا أغْنى عني صَاحبك شَيْئا فَانْظُر لي رجلا أسأله قلت هَذَا الفضيل بن عِيَاض فَقَالَ امْضِ بِنَا إِلَيْهِ فأتيناه

فسمعناه يقْرَأ آيَة من كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ يُرَدِّدهَا فقرعت عَلَيْهِ الْبَاب فأوجز فِي صلَاته وَقَالَ من هَذَا قلت أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ مَا لي ولأمير الْمُؤمنِينَ قلت سُبْحَانَ الله أما عَلَيْك طَاعَته فَنزل وَفتح الْبَاب ثمَّ ارْتقى إِلَى الغرفة فأطفأ السراج ثمَّ التجأ إِلَى زَاوِيَة وأخفى حسه فَجعلنَا نجول عَلَيْهِ بأدينا فسبقت كف الرشيد إِلَيْهِ فَقَالَ آه من كف مَا ألينها إِن نجت غَدا من عَذَاب الله تَعَالَى فَقلت فِي نَفسِي ليكلمنه اللَّيْلَة بِكَلَام من قلب تَقِيّ فَقَالَ الرشيد خُذ لما جئْنَاك لَهُ يَرْحَمك الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ لما ولى الْخلَافَة دَعَا سَالم بن عبد الله بن عمر وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ ورجاء بن حَيْوَة وَقَالَ لَهُم إِنِّي قد ابْتليت بِهَذَا الْبلَاء فأشيروا على مَا أصنع فعد الْخلَافَة بلَاء وانت وَأَصْحَابك تعدونها نعْمَة فَقَالَ لَهُ سَالم بن عبد الله إِن أردْت النجَاة من عَذَاب الله عز وَجل فَصم عَن الدُّنْيَا وَليكن إفطارك مِنْهَا الْمَوْت وَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن كَعْب إِن أردْت

النجَاة غَدا من عَذَاب الله تَعَالَى فَلْيَكُن كَبِير الْمُسلمين لَك أَبَا ووسطهم عنْدك أَخا وصغيرهم عنْدك ولدا فوقر أَبَاك وَارْحَمْ أَخَاك وتحنن على ولدك وَقَالَ رَجَاء بن حَيْوَة إِن أردْت النجَاة غَدا من عَذَاب الله تَعَالَى فَأحب للْمُسلمين مَا تحبه لنَفسك وأكره لَهُم مَا تكره لنَفسك ثمَّ مت مَتى شِئْت فَهَل عنْدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مثل هؤلأء الْقَوْم اَوْ من يَأْمُرك بِمثل هَذَا الْأَمر وَإِنِّي لأقول لَك هَذَا وأخاف عَلَيْك أَشد الْخَوْف يَوْم تزل الْأَقْدَام قَالَ فَبكى هَارُون بكاء شَدِيدا حَتَّى غشى عَلَيْهِ فَقلت لَهُ يَرْحَمك الله أرْفق بأمير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ يَا ابْن الرّبيع تقتله أَنْت وَأَصْحَابك وأرفق أَنا بِهِ فَلَمَّا أَفَاق قَالَ زِدْنِي قَالَ يَا امير الْمُؤمنِينَ بَلغنِي أَن عَاملا لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ شكى إِلَيْهِ فَكتب إِلَيْهِ عمر يَا أخي أذكر سهر أهل النَّار فِي النَّار وخلود الْأَبدَان فَإِن ذَلِك يطردك إِلَى رَبك نَائِما ويقظانا وَإِيَّاك أَن تزل بك قدمك عَن هَذِه السَّبِيل فَيكون آخر الْعَهْد بك مُنْقَطع الرَّجَاء مِنْك فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابه طوى الْبِلَاد حَتَّى قدم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَا أقدمك عَليّ فَقَالَ خلعت قلبِي بكتابك فوَاللَّه مَا وليت لَك ولَايَة قطّ حَتَّى

ألْقى الله تَعَالَى قَالَ فَبكى هَارُون بكاء شَدِيدا ثمَّ قَالَ لَهُ زِدْنِي رَحِمك الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْعَبَّاس عَم النَّبِي ص = جَاءَ إِلَيْهِ وَقَالَ يَا رَسُول الله أَمرنِي إِمَارَة فَقَالَ لَهُ رَسُول الله ص = يَا عَبَّاس يَا عَم النَّبِي نفس تحييها خير لَك من إِمَارَة لَا تحصيها إِن الْإِمَارَة حسرة وندامة يَوْم الْقِيَامَة فَإِن اسْتَطَعْت أَن لَا تكون أَمِيرا فافعل قَالَ فَبكى هَارُون ثمَّ قَالَ لَهُ زِدْنِي يَرْحَمك الله قَالَ ياحسن الْوَجْه أَنْت الَّذِي يَسْأَلك الله تَعَالَى عَن هَذَا الْخلق يَوْم الْقِيَامَة فَإِن استعطعت أَن تَقِيّ هَذَا الْوَجْه من النَّار فافعل وَإِيَّاك أَن تصبح وتمسي وَفِي قَلْبك غش لرعيتك فقد قَالَ رَسُول الله ص = من أصبح غاشا لرعيته لم يرح رَائِحَة الْجنَّة قَالَ فَاشْتَدَّ بكاء هَارُون فَأمْسك عَنهُ الفضيل فَلَمَّا أَفَاق قَالَ هَل عَلَيْك دين قَالَ الفضيل نعم دين لرَبي لم يحاسبني عَلَيْهِ فالويل لي إِن حاسبني وَالْوَيْل لي إِن لم يلهمني حجتي فَقَالَ الرشيد إِنَّمَا أردْت دين الْعباد قَالَ لَا فَإِن رَبِّي لم يَأْمُرنِي بذلك بل أَمرنِي

أَن أصدق وعده وَأطِيع أمره قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون مَا أُرِيد مِنْهُم من رزق وَمَا أُرِيد أَن يطْعمُون إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين} فَقَالَ لَهُ هَارُون هَذِه ألف دِينَار خُذْهَا وأنفقها على عِيَالك وتقو بهَا على عبَادَة رَبك فَهِيَ من وَجه الْحل فَقَالَ سُبْحَانَ الله أَنا أدلك على النجَاة وَأَنت تَدعُونِي إِلَى النَّار ثمَّ صمت فَلم يُكَلِّمنَا فخرجنا من عِنْده فَلَمَّا صرنا على الْبَاب سمعنَا امْرَأَة من نِسَائِهِ تَقول يَا هَذَا قد ترى مَا نَحن فِيهِ من الضائقة وَسُوء الْحَال فَلَو قبلت مِنْهُ هَذَا المَال لتقوتنا بِهِ زمننا فَقَالَ لَهَا إِنَّمَا مثلي ومثلكم كقوم لَهُم بعير يَأْكُلُون من كَسبه فَلَمَّا كبر وَعجز عَن الْكسْب نحروه وأكلوا لَحْمه قَالَ فَلَمَّا سمع الرشيد ذَلِك قَالَ يَا ضل ادخل بِنَا إِلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يقبل منا هَذَا المَال فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ثَانِيًا فَمَا أحس بِنَا خرج فَجَلَسَ على السَّطْح على التُّرَاب فَجَلَسَ الرشيد إِلَى جَانِبه وَجعل يكلمهُ فَلم يجبهُ فَخرجت جَارِيَة سَوْدَاء فَقَالَت يَا هَذَا قد آذيت الشَّيْخ مُنْذُ اللَّيْلَة فَانْصَرف عَنهُ يَرْحَمك الله قَالَ فَلَمَّا خرجنَا من عِنْده قَالَ لي الرشيد إِذا دللتني على رجل فدلني على مثل هَذَا الرجل هَذَا الْيَوْم سيد الْمُسلمين وَأما الطَّبَقَة الثَّالِثَة من الْمُلُوك فهم الْأَكْثَرُونَ قُلُوبهم قسية وأنفسهم

عصية يؤثرون اللَّذَّات على أُمُور الديانَات وَفِي الْمُشَاهدَة مِنْهُم بالأبصار كِفَايَة عَن الْأَخْبَار وَقد انتهينا بكتابنا هَذَا إِلَى مَا حاولناه وأوردنا فِيهِ مَا أردناه وأتينا بِمَا ضمناه بعد مَا أوضحناه وَذَلِكَ وسع الطَّاقَة وَجهد الْمقل وعَلى الله أتوكل وَبِه أستعين وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين حمدا كثيرا وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعل آله وَصَحبه وَسَلَامه

§1/1